الكتاب: تاريخ النقد الأدبي عند العرب المؤلف: دكتور إحسان عباس (المتوفى: 1424هـ) الطبعة: الرابعة، 1983 الناشر: دار الثقافة، بيروت - لبنان الطبعة الأولى: 1391هـ - 1971م الطبعة الثانية: 1398هـ - 1978م الطبعة الثالثة: 1401هـ - 1981م الطبعة الرابعة: 1404هـ - 1983م   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- تاريخ النقد الأدبي عند العرب إحسان عباس الكتاب: تاريخ النقد الأدبي عند العرب المؤلف: دكتور إحسان عباس (المتوفى: 1424هـ) الطبعة: الرابعة، 1983 الناشر: دار الثقافة، بيروت - لبنان الطبعة الأولى: 1391هـ - 1971م الطبعة الثانية: 1398هـ - 1978م الطبعة الثالثة: 1401هـ - 1981م الطبعة الرابعة: 1404هـ - 1983م   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] الإهداء إلى أبي بكر عباس الذي كان دائما صديقاً مخلصاً وناقداً أميناً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1 بسم الله الرحمن الرحيم تمهيد حاولت في هذه الدراسة أن أقدم صورة عن النقد الأدبي عند العرب منذ أواخر القرن الثاني الهجري حتى القرن الثامن، أو من الفترة الممتدة بين الأصمعي وابن خلدون - في مشرق العالم الإسلامي ومغربه -، وقد اتبعت فيها منهج التدرج الزمني، لأنه يعين على تمثل النقد في صورة حركة متطورة. بين مد وجزر أو ارتفاع وهبوط، على مر السنين. وقد عمدت إلى الوقوف عند القضايا الكبرى، معرضاً عن جزئيات الأمور التي تصرف الدارس عن إبراز الدور " الفكري " للنقاد العرب، وتنشبه في الأخذ والرد حول الأمور الجانبية، وتورطه في شكة معقدة من القواعد البلاغية. وإذ كان همي منصرفاً إلى إقامة كيان للنقد الأدبي عند العرب، كان لابد لي من الاستقصاء في المصادر، المطبوع منها والمخطوط على السواء. والاحتكام إلى أساس شمولي في النظرة الكلية إلى ذلك الكيان، ولهذا السبب لم اقصر الرؤية على من عرفوا بالنقد التطبيقي مثل الآمدي والقاضي الجرحاني وابن الأثير، بل درست من كان لهم نشاط نظري في النقد مثل الفارابي وابن سينا وابن خلدون، محاولاً في كل خطوة ان أوجد - حتى عند النقاد التطبيقيين - الأسس النظرية الفكرية التي كانت توجه النقد لدى كل منهم، وبغير هذا التصور - فيما اعتقد - تظل دراسة النقد الأدبي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 عند العرب وصفاً سطحياً أو تلخيصاً مبتسراً للآثار التي خلفوها. وقد كان يحدوني إلى هذا العمل - الذي استغرق من جهدي سنوات - شعوري بان النقد عند العرب في حاجة إلى استئناف في النظر والتقييم، إذا أنا قرأت ما كتب عنه من مؤلفات حديثة، وإحساسي وأنا اقرأ الكتب النقدية المختلفة التي كتبها الأسلاف أن فيها ما يستحق بذل الجهد ليعرض ذلك النقد بأمانة وإنصاف. واحب أن أقرر هنا، أن النقد لا يقاس دائماً بمقياس الصحة أو الملاءمة للتطبيق، وغنما يقاس بمدى التكامل في منهج صاحبه؛ فمنهج مثل الذي وضعه ابن طباطبا أو قدامة، قد يكون مؤسساً على الخطأ في تقييم الشعر - حسب نظراتنا اليوم - ولكنه جدير بالتقدير لأنه يرسم أبعاد موقف فكري غير مختل، وعن هذا الموقف الفكري يبحث دارس تاريخ النقد، ليدرك الجدية والجدة لدى صاحبه في تاريخ الأفكار. ولهذا تركت هؤلاء النقاد يتحدثون عن مواقفهم بلغتهم في أكثر الأحيان، ولم أحاول ان أترجم ما قالوه إلى لغة نقدية معاصرة، إلا في حالات قليلة جداً حين تستغلق العبارة على القارئ المعاصر، كما هي الحال في نقد حازم القرطاجني. ولست أدعي أنني أتيت على كل ما يمكن أن يقال في هذا الموضوع، ولكني التزمت بحدود المنهج الذي رسمته، وهو منهج يمكن القارئ بعد ان يقرأ مادة هذا البحث من أن يعيد بناء كثير من الجزئيات والقضايا المفردة على نحو جديد - حسبما بينت ذلك في المقدمة؛ فإني غنما جعلتها نموذجاً للبحوث المستقلة في مشكلات بأعيانها مثل: أثر الاعتزال في نشأة النقد الأدبي وتطوره - شخصية الناقد كما تصورنا النقاد العرب - أثر الإحساس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 بالتطور وقيمته لدى كبار النقاد - طبيعة المشكلات التي وجهت النقد - كيفية دراسة القضايا الهامة في تاريخ النقد؛ ولم أحاول فيها الاستقصاء لان ذلك يعني ان أعيد مادة الكتاب في شكل آخر؛ ولهذا أرى أن أنبه إلى قيمة المقدمة - رغم قيامها على الإيجار - ولعل الفائدة منها أن تكون أتم وأوفى إذا عاد غليها القارئ بعد أن ينتهي من قراءة فصول الكتاب. هذا وإني لأرجو مخلصاً أن أكون قد وفقت في بلوغ ما سعيت غليه من غاية لم أدخر جهداً في سبيلها، والله الموفق. بيروت في 30 نيسان (إبريل) 1971 إحسان عباس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 ـ[مقدمة]ـ حدث بعضهم، قال: " تحاكم الزبرقان بن بدر وعمرو بن الأهتم وعبدة بن الطبيب والمخبل السعدي إلى ربيعة بن حذار الأسدي في الشعر، أيهم أشعر؟ فقال للزبرقان: أما أنت فشعرك كلحم اسخن لا هو انضج فأكل ولا ترك نيئاً فينتفع به، وأما أنت يا عمرو فإن شعرك كبرود حبر يتلألأ فيها البصر، فكلما أعيد فيها النظر نقص البصر، وأما أنت يا مخبل فإن شعرك قصر عن شعرهم وارتفع عن شعر غيرهم، وأما أنت يا عبدة فإن شعرك كمزادة احكم خرزها فليس تقطر ولا تمطر " (1) . لعل هذا النموذج من أرقى الأمثلة واشدها دلالة على طبيعة النقد الأدبي، قبل أن يصبح لهذا النقد كيان واضح، فهو نموذج يجمع بين النظرة التركيبية والتعميم والتعبير عن الانطباع الكلي دون لجوء للتعليل، وتصوير ما يجول في النفس بصورة اقرب إلى الشعر نفسه (2) ، وذلك هو شأن أكثر الأحكام التي نجدها منذ الجاهلية حتى قبيل أواخر القرن الثاني   (1) الموشح: 107 - 108. (2) عاد هذا النموذج إلى الحياة في تعليقات كتاب المقامات النقدية وما أشبهها، وسيرد الحديث عنها في مواضعه من هذا الكتاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 الهجري؛ وإذا كان هذا النموذج من أرقاها فإن معظم النماذج الباقية إنما يتحدث عن شئون خارجة عن الشعر نفسه أو جزئية فيه، شئون متصلة بالعرف أو بالمعارف التي يتضمنها الشعر أو بلفظة معجبة هنا ولفظة غير معجبة هنالك أو ببيت محكم المعنى والسبك؟ الخ. ولكن النقد في حقيقته تعبير عن موقف كلي متكامل في النظرة إلى الفن عامة أو إلى الشعر خاصة يبدأ بالتذوق، أي القدرة على التمييز، ويعبر منها إلى التفسير والتعليل والتحليل والتقييم - خطوات لا تغني إحداهما عن الأخرى، وهي متدرجة على هذا النسق؛ كي يتخذ الموقف نهجاً واضحاً، مؤصلاً على قواعد - جزئية أو عامة - مؤيداً بقوة الملكة بعد قوة التمييز؛ ومثل هذا المنهج لا يمكن أن يتحقق حين يكون أكثر تراث الأمة شفوياً، إذ الاتجاه الشفوي لا يمكن من الفحص والتامل، وإن سمح بقسط من التذوق والتأثر، ولهذا تأخر النقد المنظم حتى تأثلت قواعد التأليف الذي يهيئ المجال للفحص والتقليب والنظر. والتأليف يخلق مجالاً للنقد صالحاً، ولكنه لا يستطيع أن يخلق وحده نقداً منظماً، بل لا بد هنالك من عوامل أخرى؛ واهم هذه العوامل جميعاً الإحساس بالتغير والتطور: في الذوق العام او في طبيعة الفن الشعري أو في المقاييس الأخلاقية التي يستند غليها الشعر أو في العادات والتقاليد التي يصورها أو في المستوى الثقافي ونوع الثقافة في فترة إثر أخرى أو في مجموعة من القيم على وجه التعميم؛ ذلك لان هذا الإحساس بالتغير والتطور هو الذي يلفت الذهن - أو ملكة النقد - إلى حدوث " مفارقة " ما، ولابد لهذه المفارقة أول الأمر من أن تكون ساطعة متباعدة الطرفين، حتى تمكن النظر الذي لم يألفها قبلاً من رؤيتها بوضوح. وقد كان سموق النماذج الشعرية الجاهلية ثم حركة الأحياء لتلك النماذج في العصر الأموي وبعض العصر العباسي واتخاذها قبلة للجميل أو الرائع من الشعر سبباً في حجب كل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 حقيقة تطورية عن العيون. ولهذا لم يبدأ الإحساس بالتغير والتطور إلا حين أخذت بعض الأذواق تتحول عن تلك النماذج إلى نماذج جديدة، وحين أخذت المقاييس الأخلاقية والقيم العامة والتقاليد المتبعة تنحني أمام تيارات جديدة أو تصطدم بها، وحين تعددت المنابع الثقافية وتباينت مستوياتها. ومع أن هذه المشكلات جميعاً كانت قد برزت حين عاش الأصمعي فإن التصاقه بالرواية واللغة ذلك الالتصاق الشديد لم يسمح له أن يراها بوضوح أو ان يتمثلها؛ ولكن رغم ذلك كله كان الأصمعي - فيما اعتقد - بداية النقد المنظم لأنه أحس ببعض المفارقة التي أخذت تبدو في أفق الحياة الشعرية، غير انه بدلاً من أن ينظر إلى المشكلة في ضوء تطوري، نظر إليها من خلال موقف " ثابت "، نظر إلى الشاعر - أياً كان - فوجده أحد اثنين، فهو إما فحل وغما غير فحل، ونظر إلى منبع الشعر فوجده أيضاً واحداً من اثنين إما الخير وإما الشر، وليس بسبب تدينه قرن الشعر بالشر، ولكن لأن " الشر " عنده هو صورة النشاط الدنيوي جملة، والشعر ينبع من ذلك النشاط. وقد يكون ابن سلام أشد صلة بالنقد المدروس من الأصمعي، ولكنه يشبهه في انه حصر رؤيته ضمن ذلك " الثبوت " الذي يمثله الشعر الجاهلي والإسلامي؛ هو الأصمعي يرى الشاعر فحلاً أو غير فحل، ولكنه يزيد عليه في أن الفحولة درجات، ومن ثم كانت نظريته في الطبقات. وتقع المشكلة التي تورق ابن سلام ضمن ذلك الإطار الثابت، وهي التمييز بين الأصيل والدخيل من ذلك الشعر القديم، ثم هو لا يعني بشيء آخر، بعد أن مزج بين النقد والتاريخ الأدبي، وأقام الثاني منهما على قاعدة نقدية دون أن يهتم كثيراً بالتعليل في اختياره لتلك القاعدة. وهذا هو الفرق بين كل منهما وبين الجاحظ، فغن الجاحظ الذي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 نفى الأصمعي وسائر الرواة من حيز النقد كان يحس أنهم قصروا عن الوعي بالمفارقات الكبرى التي جدت في حياة الشعر والناس: أما هو فإنه لا يستطيع ان يغض الطرف عن ذلك الصراع بين القديم والمحدث (أي عن التغير الذي طرا على أذواق جيلين) ولا يستطيع أن ينسى كيف انه يعاشر جيلاً يستمد ثقافته من كليلة ودمنة وعهد أردشير ويعرض عن الشعر العربي، بل ربما كان يعرض عن كل ما هو عربي ويؤمن بالثقافة المترجمة معتقداً أنها الزاد الوحيد للمثقف حينئذ، وهو على وعي شديد بان الشعر نفسه أصبح من نتاج غير العرب كما كان من نتاج العرب، وانه أصبح كذلك قسطاً مشتركاً بين الحاضرة والبادية، ولهذا كان موقف الجاحظ النقدي شيئاً جديداً بالنسبة لمن تقدمه، فهو في صراعه ضد الشعوبية يرى في الشعر مادة المعرفة، وهو في موقفه الثقافي الحضاري يحاول أن يرى من الزاوية العقلية - عن استطاع - ذلك التفاوت في الشعر بين العرق العربي وغير العربي وبين البادية والحاضرة، أي ان يلحظ اثر الجنس والبيئة. ولكن نقد الجاحظ - إذا استثنينا كتابه في نظم القرآن - لم يكن سوى مكمل لنشاطه الفكري عامة، أي كان جزءاً صغيراً في مبنى كبير متعدد الجنبات والزوايا، ولهذا جاءت أكثر آرائه النقدية نتفاً لا إشباع فيها. غير ان هذا لا يمنعنا من أن نقول إن النقد الأدبي ولد في حضن الاعتزال (الجاحظ - بشر بن المعتمر - الناشئ الأكبر) والمتأثرين به، سواء أكان ذلك التأثر موجباً أو سالبيا (ابن قتيبة، ابن المعتز) ، وكان الاعتزال حينئذ يعني في أساسه الاحتكام إلى العقل، والعقل يهئ من جموح العاطفة والعصبية، ولهذا قضى بان الزمن لا يصلح أن يكون حماً على الشعر، مما أدى منذ البداية إلى أن يسلك النقد طريقاً وسطاً لا تفضيل فيها لقديم على محدث أو العكس، وغنما هنالك كما يقول العقل الاعتزالي: محض الحسن والقبح، وذلك هو أساس النقد الأدبي؛ والعقل هو المرجع الأخير في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 التذوق، ولهذا كان الصدق في الشعر أصلح لأنه مقبول لدى العقل، ثم كان الاعتزال يعني رداً على الثنوية دفاعاً عن الدين. ومن ضمن ذلك الرد على الثقافة التي تبث الأفكار الثنوية بدعوة مضادة هي العودة إلى ينبوع الثقافة العربية، ومصدر المعرفة العربية، وذلك هو الشعر؛ كذلك فغن الاعتزال يعتمد على الجدل من اجل الإقناع، ولهذا لم يجد ضيراً في أن يجعل الشعر إحدى وسائل الإقناع أي أن يتحول إلى شكل خطابي وان تقترب المسافة بينه وبين النثر؛ وكانت بعض نماذج الشعر القديم تسعف على هذا التصور، وفي مثل هذا الجو نسمع الثناء على قصيدة عبيد بن الأبرص بأنها أحرى أن تسمى " خطبة بليغة "؛ وفي طبيعة هذه النشأة نستطيع أن نلمح السيئات التي علقت بالنقد الأدبي من حيث ارتباطه بالاعتزال؛ فقد أصبح النقد والشعر كلاهما نشاطين عقليين، وتحولت مهمة الشعر مدة طويلة إلى تقديم المعرفة، وأخذ النقاد يقفون وقفات طويلة عند البحث عن المعاني. ومن ثم عن قضية أخذها أو سرقتها، وطغت مشكلة السرقات الشعرية - أو كادت - على سائر المشكلات النقدية وأهدرت في سبيلها جهود كثيرة (وسأعود للحديث عنها في غير هذا الموضع) ، وكاد يمحي الفاصل بين الشعر والخطابة في نظر النقاد، ووضعت مقاييس عامة تصلح للشعر مثلما تصلح للخطابة؛ وكان لابد لهذا الموقف من ان يحدث رد فعل، وجاء هذا الرد على ثلاث صور: الانحياز إلى جانب اللفظ، والتعلق بالصورة الشعرية، والهرب من الأثر الفلسفي للتمييز بين الشعر والخطابة وللوقوف عند مشكلة العلاقة بين الشعر والصدق أو الشعر والكذب؛ ولست اعني أن هذه الصور الثلاث من رد الفل كانت دائماً منفصلة، ولا أنها بقيت على مر الزمن منفصلة عن الوقفة الاعتزالية النقدية، بل أصبح الناقد بعد فترة من الزمن انتقائياً يصنع من هذه التيارات - أو من بعضها - اتجاهه النقدي الخاص. ولكن كيف يمكن ان نتهم الاعتزال بأنه وجه الأنظار إلى البحث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 عن المعنى، ونحن نعلم ان الجاحظ - وهو معتز لي - جعل سر الإعجاز قائماً في " النظم " وانه هو صاحب نظرية " المعاني المطروحة " التي يعرفها البدوي والحضري والعربي والعجمي؟ ألا يوحي هذا بشيء من التناقض؟ لتوضيح ذلك علينا أن نقرر أولا أن كلمة " معنى " مطاطة متعددة الدلالات، فإذا قيل أن الاعتزال لفت الانتباه إلى المعاني فإن ذلك يفيد أنه اهتم بالمعاني العقلية أو كما وضح عبد القاهر من بعد: إلى المعاني التي يشهد العقل بصحتها، فهذه هي التي يؤثرها عبد القاهر - ومن بعده ابن الأثير - على التخييل، أي على الصورة الشعرية التي تداني العقل من طريق التمويه. أما المعاني التي يقصدها الجاحظ فهي مادة المشاهدة والتجربة، في الحياة عامة. وهذه حقاً مطروحة للناس جميعاً، وهم لا يتفاوتون غلا في " نظم) التعبير عنها. وقد أدرك عبد القاهر بنفاذ نظرته ان الجاحظ كان مضطراً للمناداة بذلك الرأي خدمة للإعجاز لأنه كان يرد على من يرون أن معاني القرآن لا تستقل عن المعاني (أي المواد) العامة التي يتحدث عنها الشاعر والخطيب. ولكن رأي الجاحظ أسيء فهمه، فأوجد فئة من النقاد يحاولون التهوين من شان المعنى في سبيل الدفاع عن النظم (الآمدي مثلاً) ؛ أو يدافعون عن الصناعة اللفظية دون أن يحاولوا إدراك مرامي الجاحظ، أو يتبينوا موضع الخطر في منهجهم النقدي. ومن شاء أن يدرس أثر الاعتزال في تاريخ النقد - إيجاباً وسلباً - وجد ذلك في تضاعيف التطور النقدي حسبما عرضته في هذا الكتاب، وسألمح إلى بعضه في سياق هذه المقدمة، ولكن قبل ذلك يتعين علي أن أعود - بعد هذا الاستطراد الضروري - للحديث عن الصلة بين النقد وبين الإحساس بالتغير والتطور. عندما نتعمق المواقف النقدية لدى كبار النقاد - وقد مر بنا الاستشهاد بالجاحظ - في تاريخ النقد العربي سنجد أن الإحساس بالتطور والتغير هو العامل الخفي في شحذ هممهم للنقد، يستوي في ذلك ابن قتيبة وابن طباطبا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 وقدامة الآمدي والقاضي الجرحاني وابن رشيق وعبد القاهر وابن شهيد وحازم القرطاجني وابن الأثير؛ فإنك لا تجد واحداً من هؤلاء إلا وهو يحس أن الشعر في أزمة، وانه يتقدم بآرائه لحلها، وليس من الطبيعي أن نقف عند جميع من ذكرناه من النقاد ومن لم نذكره منهم لتبيان ذلك النوع من الإحساس، وإنما يكفي أن نقف عند أمثلة معينة؛ وأول من نجده عميق الإحساس بالتغير ابن طباطبا. فهو قد شعر أن العادات والمثل العليا العربية التي كان يرتكز إليها الشعر القديم قد تغيرت، ودرست الأساطير التي كانت تغذي الشعر أيضاً. ولهذا أحس ابن طباطبا أن الشاعر المحدث قد وقع في مأزق، وفي محاولته ليخرجه من هذا المأزق، وجد نفسه يستعمل أدوات الناقد ومعداته، وقد تكون دواعي ذلك الإحساس خاطئة، كما قد تكون القواعد النقدية التي طلع بها ابن طباطبا مضللة لاتجاه الشعر، ولكن لا جدال في ابن طباطبا - رغم ذلك كله - ناقد فذ في موقفه النقدي، ولعله متأثر بالمعتزلة لأنه يلح على أن الصدق يجب أن يتوفر في الشعر، ويكاد يمحو الحد الفاصل بين الشعر والنثر، ولعله كان معتزلياً حقاً، فنحن نجهل حقيقة انتمائه المذهبي؛ إلا أن " عقلانيته " الخالصة تصله وصلاً وثيقاً بالمعتزلة. وقد يقال إن قدامة بن جعفر لم يطلع على ما كتبه ابن طباطبا، ولكن موقف قدامة في مجمله رد على موقف ابن طباطبا؛ لقد اعتقد ابن طباطبا أن القاعدة الأخلاقية التي قام عليها الشعر القديم قد تغيرت وان تغير الشعر (المحدث) اصبح أمراً مختوماً، فجاء قدامة ليقول: لا؛ للفضيلة مقياس خلقي ثابت مهما تتغير الأزمنة والبيئات، ولهذا يظل الشعر شعراء ما دام يعبر عن ذلك المقياس الثابت للفضيلة؛ وهكذا رد قدامة الشعر إلى مبدأ " الثبوت " لا إلى مبدأ التغير، وكأنه يقول أن الحقائق لا تتغير. ولكن أين الأزمة التي أحس بها قدامة إن كان محور نقده هو الإيمان بالثبوت؟ لقد أحس بها على عكس ما تصورها ابن طباطبا، لقد أحس بانكسار في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 تيار الشعر. فلم يستطيع أن يخلق مسوغاً لهذا الانكسار كما فعل ابن طباطبا. وإنما حاول أن يجبر ذلك الانكسار بالعودة إلى القاعدة الفلسفية التي ترى وراء التكثر وحدة. ووراء التغير نواة ثابتة، أي أراد قدامة ان يرسم حدوداً لتلك النواة الثابتة، ولابد أن يحس من يقرأ " نقد الشعر " أن مؤلفه ضيق الصدر بالشعر المحدث، لا لان الإقرار به ينقض عليه نظريته بل لأنه يطلب إليه أن يثبت ان التغير الحادث فيه ليس إلا شيئاً عارضاً ظاهرياً. وان وضع معيار ثابت للشعر عامة هو مهمة الناقد. ويجب أن نتذكر أن ابن طباطبا ذو صلة بالفكر الكلامي، وأن قدامة ذو صلة بالفكر الفلسفي اليوناني، فإذا قرن ابن طباطبا الصدق بالشعر ذهب قدامة إلى النقيض، فتحدث عن كذب الشعر لان كلمة " كذب " كانت تطلق في عصره على ما أصبح يعبر عنه بلفظ " تخييل " من بعد، ويبدو أن المتأثرين بالفكر الكلامي مثل ابن طباطبا وعبد القاهر تشبثوا بالصدق وأن الذين تأثروا بالفكر الفلسفي وجدوا في لفظتي " الكذب " و " التخييل " مترادفين. وهو عكس ما قاله حازم القرطاجني من بعد حين اتهم المتكلمين بأنهم هم الذين نسوا الكذب إلى الشعر ليرفعوا القرآن فوقه ويميزوه عنه، وهذه مشكلة سنفردها بالحديث أيضاً. وحين كان الإحساس بالتطور يتصل بأثر فكري - كلامي فلسفي - كان النقد ينال حظاً غير قليل من العمق، لأن ذلك الأثر الفكري كان دائماً كفيلاً بتنظيم الإحساس وتوجيهه في منهج متميز المعالم، فأما مجرد الإحساس وحده فإنه كان يجعل النقد عند أذكى النقاد التماعات ذهنية أو لمحات سريعة، ومن ابرز الأمثلة على ذلك نقاد الأندلس، وهي بيئة كانت - في الغالب - تنفر من الكلام مثلما تنفر من الفلسفة؛ ولا ينكر أن ابن شهيد مثلاً ناقد ذكي أدرك معنى التطور في طبيعة الصناعة الشعرية وأقره (وإن التفت كثيراً إلى نماذج ثابتة القيمة) كما أحس بان الأزمة في الشعر نفسه إنما تنجم عن الصراع بين الروح والجسد، فإذا تغلبت الروح جاء الشعر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 جيدا، والعكس في حال سيطرة الجسد. فذهب إلى القول بروحانية الشعر ولكنه لم يستطع أن يتحول بنقده إلى منهج منظم لأنه كان قليل البضاعة من الثقافة. وكذلك يمكن ان يقال في ابن خيرة المواعيني فإنه وقف عند فكرة التطور وقفة طويلة وسمي صورتها العامة باسم " التدريج " وحاول تطبيقها في ميدان التربية، ولهذا نسمعه يقول " والتدريج مطرد حتى في النبوة وتحمل الرسالة؟.. وإذا اعتبرت معنى التدريج وجدته في كل موجود من الحيوان والنبات على رتب النمو؟ " (1) ، ومع ذلك لم يستطع ان ينقل فكرته عن " التدريج " إلى حيز النقد الأدبي. أو إلى دراسته للشعر، لأنه فصل بين ثقافته العامة والنقد، واعتمد آراء الآخرين، ولم يكن لديه من الشجاعة في الرأي ما يسعفه على الاستقلال برأي ومنهج. ومع ان ابن رشيق أعاد الوقفة التي وقفها ابن طباطبا حين أحسن بأزمة الشاعر المحدث، إلا أنه نقل هذا الإحساس إلى صعيد آخر، وهو مدى الصلة بين الآني والثابت، وإنما أوحى له بهذا الموقف أستاذه عبد الكريم، الذي أحس بالصراع بين النتاج الإقليمي المحلي (الآني القيمة) وبين النتاج العام (الخالد القيمة) وقد أقر كلاهما أن الأول لا غنى عنه، ولكنهما أعطيا قصب السبق لما تجاوز حدود البيئة والزمان، واتسم بالخلود؛ أي أن كلاً من ابن رشيق وعبد الكريم قد اكتشف قيمة " الثبوت " في تيار التطور - إن صح التعبير -. من هذه الأمثلة - وأرى هذا القدر منها كافياً - يمكننا أن نرى أن المشكلة التي أثارت نقداً كانت في أكثر الأحيان مزدوجة الطرفين، وأنها حين نجمت عن طبيعة النقل والرواية في الشعر كانت تسمى مشكلة الأصالة والانتحال، وحين صدرت عن تغير في الذوق والأدوات الشعرية أصبحت   (1) الريحان والريعان، الورقة: 7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 مشكلة زمنية تسمى القدم والحداثة (أو مشكلة القديم والمحدث) ، وقد ماتت المشكلة الأولى من الوجود النقدي بعد ان وقف عندها ابن سلام، كما ماتت الثانية بعد ان ضرب الشعر المحدث في الزمن وتفاوتت درجات الحداثة نفسها، ولكن النقاد لم ينسوا هذه المشكلة التي تحولت عندهم دائماً إلى المشكلة " المتقدم والمتأخر " وظلوا يقفون عندها دون أن يتناولوها بالحماسة التي تناولها بها النقاد في القرن الثالث؛ وحين أصبحت الحداثة متفاوتة أو متنوعة انتقلت الأزمة إلى المفاضلة أو الموازنة بين اثنين اثنين من المحدثين (العباس بن الأحنف والعتابي/ أبو تمام والبحتري) وأصبحت المشكلة المزدوجة هي مشكلة الطريقة الشعرية، ويلمح في أساسها تلك المفاضلة بين مذهب النظم ومذهب المعاني؛ وأحياناً بين ما يسمى الطبع والصنعة في الشعر؛ وظل الحال كذلك حتى ظهر المتنبي، وقامت من حوله معركة شعرية عنيفة دامت طويلاً، ولم تكن القضية هنا ثنائية بطبيعتها، غذ كانت في أكثر من دائرة الشعر جملة، كما فعل النقاد المتأخرون في الأندلس من شيوخ ابن خلدون، إلا إنها كانت تتذرع بدرجة من الإنصاف لا تلبث أن تزول، وإذن فمن الممكن أن نتصور المشكلة مزدوجة وهي وضع التراث كله جملة في ناحية ووضع شعر المتنبي في ناحية أخرى ومحاولة الموازنة بينهما للقضاء على الثاني، وفي سبيل هذه الغاية ضاعت الفروق التي ثارت بين ابي تمام والبحتري، ورضي النقاد بهما معاً - رغم ما كان بينهما من تفاوت - بعد أن تصارعت الأذواق حول طريقتهما ردحاً طويلاً من الزمن. ولكن هل يمثل الشعر العربي كله حتى المتنبي نوعاً من الوحدة التي تلتقي عندها الأذواق المختلفة لقاء ترحيب وتزور عن شعر المتنبي؟ ذلك هو الأساس في الخدعة النقدية التي جرفت في طريقها غثاء كثيراً، وكانت المعركة في الحقيقة قتلاً لحيوية النقد، إذ أصبح على الناقد إما أن يقبل على المتنبي ليسهم في النقد وإنما أن يذهب في إعادة صياغة المشكلات القديمة، فإذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 انتهى الأمر إلى ابن الأثير قبل الشعراء الثلاثة أبا تمام والبحتري والمتنبي - على إدراك للتفاوت بينهم - ليتخلص من الشعر القديم جملة؛ ولكن من يقرا " منهاج البلغاء " لحازم يحس انه يضع قواعده النقدية وضعاً جديداً وفي ذهنه أن " المثل الأعلى " للشعر هو المتنبي؛ ولسنا ندري هل كان من حسن حظ النقد الأدبي عند العرب أو من سوء حظه أن جميع المشكلات الهامة التي أثارت كبريات القضايا النقدية قد انطلقت في دور مبكر قصير المدى، واعني بالمشكلات: مسالة الأصالة والانتحال والقدم والحداثة والخصوصة حول طريقتين في الشعر، ومحاولة حل مسألة الأعجاز؟ الخ حتى أصبحت الإجابة على القضايا مجتمعة (مثل قضية اللفظ والمعنى والمطبوع والمصنوع وقواعد الموازنة؟ الخ) من نصيب النقاد في القرن الثالث، وما كان نصيب القرن الرابع إلا زيادة التمرس بها. بحيث أن القاضي الجرجاني عندما أراد ان يشارك في الميدان النقدي وجد جميع الأدوات جاهزة لديه فلم يكن دوره في الحقيقة سوى أن يحسن استخدامها؛ أقول لا ندري بعد المتنبي لم يعد يستطيع إلا تفسيراً جديداً لجزئيات صغيرة أو وقفة مطولة عند قضية دون أخرى، وكثيراً ما أصبحت حيوية النقد بعد ذلك تعتمد على شخصية الناقد نفسه (وأبرز مثل على ذلك ابن رشيق وابن الأثير) باستثناء حازم الذي عاد يستعمل أدوات متباينة مختلفة في منطلق جديد، إلا انه كما قلنا كان قد جعل من المتنبي محوراً لفهم طبيعة الشعر ولم يستطع معاصروه ولا من جاء بعدهم أن يدركوا خطورة حركته الإصلاحية لتباعد الشقة بين القاعدة والأمثلة التي كانوا يمارسونها. وقد يكون المتنبي رسم فعلاً خطاً فاصلاً في الشعر العربي ووقف وحده وقفة شاهرة. ولكنه في الوقت نفسه اثبت عجز النقد ودورانه حول نفسه لا لان الأدوات النقدية عجزت عن ان تفسر كنه تفوقه، وحسب، بل لان هذا النقد نفسه لم يستطع أن يقيم أية علاقة بينه وبين مختلف المستويات الشعرية بعد المتنبي (قبولاً أو رفضاً) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 كان الشعر في جملته يسير في طريق جديدة عبر عنها ابن وكيع حين أصر على أن الشاعر الحق إنما هو " مطرب لا يطالب بمعرفة الألحان "، وكانت الشقة بين أدب العامة وأدب الخاصة قد أخذت تتسع، وكانت الصلة بين الشاعر والراعي قد أصبحت ظلاً لا حقيقة، ولكن النقد لم يستطع أن ينفض عنه جموده العام. نعم ارتفعت هنا وهناك أصوات لتنصف شعر المتأخرين ولترى في الصورة الشعرية وحدها سر التفوق (ابن سعيد الأندلسي مثلاً) بل لتفضل هذا الشعر المرقص المطرب على شعر القدماء، ولكنها أضافت إلى جمود النقد بدلاً من ان تنعشه، لأنها تعلقت بظاهرة واحدة من ظواهر الشعر ونسيت ما عداها. ويكفي أن نذكر كيف ان ابن رشيق أعاد صياغة القضايا النقدية في العمدة بطريقة سهلة ميسرة جذابة، فإذا الكتاب يصبح حجر الزاوية في النقد الأدبي، في المشرق والمغرب على السواء، وكان الناس رأوا فيه كل ما يحتاجون إليه من آراء وتفسيرات، ولم تعد بهم حاجة إلى الاستقلال في التفسير والحكم. هل نقول إن النقد أصبح شيئا " مدرسياً " ملتبساً بالبلاغة؟ هل نقول إن الإحساس بالتطور وبالأزمة الناشئة عنه قد كاد ينعدم. (فيما خلا مثلين أو ثلاثة) ؟ ذلك قد يكون صحيحاً، وإذا صح فربما كان هو العامل الذي أسلم النقد إلى " مسلمات " أشبه شيء بقواعد البلاغة. في هذا السياق السابق بلغنا الدور الذي أصبح فيه الناقد القادر على الابتكار غير موجود، أو أصبح شخصية ثانوية لا قيمة لها في النشاط الأدبي (أو في الركود الأدبي أيضاً) ؛ ولكنا قطعنا شوطاً طويلاً دون ان نتنبه إلى دور الناقد على مر الزمن، ولهذا كان لابد من ان نعود لنصور هذا الدور فنقول: كان الناقد موجوداً في كل مرحلة، لان ابسط العلاقات بين الإنسان والشعر تحمل في ثناياها حقيقة نقدية، فالنابغة في سوق عكاظ ناقد، وعمر بن الخطاب (رضي الله عنه) في تفضيله زهيراً ناقد، والرواة الذين ميزوا - بتعميم شديد - خصائص جرير والفرزدق والاخطل كانوا نقاداً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 ولكن الحاجة إلى ناقد ذي منهج وقدرة على الفحص إنما أثارها ابن سلام لأول مرة حين اصطدم بقضية الانتحال؛ ويمكن أن نطور فكرة ابن سلام فلا نراها تقف عند حد الشعر القديم، وإنما سيظل الانتحال موجوداً على مر الزمن وستظل الحاجة إلى هذا الناقد ملحة كذلك؛ ولكن ابن سلام كان يرى المشكلة في الشعر القديم دون سواه، لتوثيق ذلك الشعر كي يظل صالحاً أولاً لرسم الفوارق بين شاعر وآخر على أساس من الصحة في نسبة الشعر، وثانياً لان هذا الشعر مصدر هام من مصادر اللغة والثقافة. ولكن " ناقد " ابن سلام لم يميز بشيء سوى البصيرة، وهذه البصيرة تأتي من رواية النماذج الصحيحة وحفظها ومن ثم تتربى ملكة النقد والتمييز لديه، فالناقد لدى ابن سلام ما يزال " راوية " حصيفاً مثل خلف الأحمر. إذن فإن ازدواجية المشكلة هي التي خلقت الحاجة إلى ناقد بصير، أي أن الناقد كان - كما كان من قبل - حكماً ترضى حكومته؛ فلما نشأت مشكلة الترجيح بين أبي تمام والبحتري زادت سلطات هذا الناقد حتى اصبح هو الحكم الوحيد أو هم " المستبد " الذي يقول فيؤمن الآخرون على قوله، دون أن يسألوه: لم؟ وكيف؟ إلا أن شاء هو ان يبين لهم ذلك. لم يعد الناقد " راوية " بصيراً، لان الثقافة وحدها لا تصنع ناقداً، إنما الناقد امرؤ " متخصص " كما هي الحال البناء أو العارف بشئون الخيل أو الخبير في شئون السلاح. فكل منهم يسلم له قوله في صنعته، وكذلك يجب أن يسلم الأمر للناقد، ولا يرد عليه حكمه. والسر في رفع شان الناقد لدى الآمدي هو قضية الموازنة، إذ على الرغم من أن الآمدي حاول أن يقيم موازنته على أسس محسوسة (كأسس البناء وصاحب الخيل وصاحب السلاح) إلا أن الموازنة - كل الموازنة - تبلغ بصاحبها حد الإحالة على عموميات مثل: طريقة العرب. الذوق المألوف؟ الخ؛ وحينئذ يتحول الناقد الذي ظنه الآمدي " عالماً " إلى " كاهن " يحدس بتيارات خفية؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 بل إنه لو جاز للآمدي أن يسمي ناقده " كاهناًً " - واحداً من كهان الجاهلية - يدرك اللا منظور من وراء المنظور لما تردد في ذلك؛ ولو قيل للآمدي: هذا ناقد آخر يخالفك في الحكم ويرى رجحان أبي تمام علي البحتري لكان الجواب الحاضر لديه: لكنه ليس بناقد؛ ولهذا تم التطابق بين الآمدي والناقد " المستبد " حتى أصبح الآمدي عند نفسه رمزاً للناقد الذي استشرفت إليه العصور. وقد لقيت صورة هذا الناقد هذا الناقد الذي لا يعترض على مقراراته وآرائه قبولاً كبيراً وخاصة لدى الباحثين في مشكلة الاعجاز؛ ذلك هذه المشكلة إلا دقيقة لم تعد سؤالاً عن الموازنة بين الجودة وعدم الجودة - كما هي الحال في الشعر الإنساني - وغنما كانت سؤالاً عن الجودة المطلقة في جهة، بالنسبة لكل درجات الجودة في إنشاء الىدميين، أي أنها زادت من درجة الحاجة للاطمئنان إلى شخص يصدع بحكم لا يجوز أن يواجه بأدنى اعتراض؛ وقد وضعت مشكلة الأعجاز النقد الأدبي كله على أبواب " منطقة اللا تعليل " فكبرت الناقد كثيرا وأوقعت النقد في حيرة لم يستطع الفكاك منها؛ ولهذا عاد الباقلاني إلى ناقد الآمدي فمنحه أسمى منزلة، بعد أن استنفد راي الآمدي في روعة التأليف؛ وعاد عبد القاهر يحاول أن يبسط التعليل في مستويات الجودة في الآدميين، شاعراً انه هو الناقد الذي يستطيع أن يحل المشكلة، ورغم براعته الفائقة في التحلي والتعليق فإنه لم يستطع أن يمس فكرة الأعجاز غلا لماماً. ومرة أخرى وجد القاضي الجرحاني ملاذه لدى " ناقد " الآمدي، لأنه حين أقر - شأنه شأن القاضي المنصف - بسيئات المتنبي وأقام بينه وبين الشعراء الآخرين نسبة معقولة من القرابة والمشابه، وقف عند الباب المغلق وهو القدرة على إبراز النواحي الإيجابية أو الكشف عن حقيقة الروعة في شعر المتنبي، فاطمأن إلى حكم الناقد الذي يجب أن يؤخذ قوله بالقبول إذا هو قال إن هنالك روعة لا تحد، وكفى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 وإذا كانت الروعة (أو أقصى درجات الجودة) من الأمور المحيرة للنقد فما أحرى أن يكون الأعجاز فوق مجاله بكثير. وحين عرض حازم لهذه المشكلة سماها " كمال الشعر "، فأقر بأن كل بحث في النقد يعز عليه استقصاء الأمر فيها، أي أن الناقد يجب أن يقف عند ما تمكنه أدواته من الحكم فيه. فأما الكمال فإنه شيء نظري ربما قصرت الأدوات المتوفرة عن التمرس به. وعند الحديث عن صورة الناقد في النقد العربي يجب ألا ننسى أن " الناقد الشاعر " كان هو النموذج الذي تنسب إليه الإجادة في النقد، ولا يشذ عن هذه القاعدة غلا التقدير الخاص الذي لقيه قدامة بن جعفر - ولم يكن شاعراً - ولكن تقديره إنما كان لوضوح منهجه ودقة مصطلحه، لا لخبرته النقدية بجمال الشعر. وحين تحدد دور الناقد وميز بحقوق خاصة به ومجال لابد له من ان يعمل فيه ظهرت الحاجة إلى مصطلح نقدي. وكان ما أداه الخليل في مصطلح العروض دليلاً يهتدي به أوائل النقاد؛ فإن الخليل ربط في ذلك المصطلح ربطاً وثيقاً بين الشعر وبيت الشعر (البيت، الوتد، السبب، الإيطاء؟ الخ) . أي كانت خلاصة موقف الخليل أن الشعر ولد في البداوة ولهذا فأنه صورة للكيان البدوي، ومصطلحه يمكن ان يأخذ من ذلك الكيان - (وهذه الفكرة قد أطنب حازم من بعد في تحليلها والإفادة منها في فهم العلاقة بين الشعر وطبيعة البيت البدوي ومثال ما قاله: " وجعلوا اطراد الحركات فيها الذي يوجد للكلام بين استواء واعتدال بمنزلة أقطار البيوت التي تمتد في استواء. وجعلوا كل قطر به وذلك حيث يفصل بين بعضها وبعض بالسواكن. ركناً؟ وجعلوا الوضع الذي يبنى عليه منتهى شطر البيت وينقسم البيت عنده نصفين بمنزلة عمود البيت الموضوع وسطه. وجعلوا القافية بمنزلة تحصين منتهى الخباء والبيت في آخرهما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 وتحسينه من ظاهر وباطن؟ الخ) (1) ؟ ولهذا التف أوائل النقاد إلى حياة البداوة في اختيار المصطلح، فكان مصطلح " الفحولة " الذي اختاره الأصمعي، وربما لم يكن هو اول من استعمله، مستمدا من طبيعة حيوان الصحراء - وخاصة الحمل - قبل أن يكون مستمدا من حقيقة التماييز بين الرجال في هذه الصفة، واستعار صاحب كتاب " قواعد الشعر " مصطلحه من الخيل حين جعل الأبيات غراء ومحجلة ومرجلة، ومن المدهش أن حازماً رغم اتساع المصطلح لديه عاد - بعد قرون - يستعمل مصطلحين مستمدين من الفرس وهما التسويم والتحجيل، ولم يكف النقاد عن الالتفات للبداوة في اختيار المصطلح، وحسبما أن نذكر مصطلح " عمود الشعر " الذي نلقاه لأول مرة عند الآمدي، فأنه وثيق الصلة بالخباء. غير أن المنبع البدوي لا يستطيع أن يمد الناقد بكل ما يحتاجه من مصطلحات وخاصة حين يخضع الشعر لتفننات الصنعة على مر الزمن أو تقوى فيه التيارات الثقافية، فجمع ابن المعتز عدداً من المصطلحات في كتاب " البديع " من أبرزها " الأثر الكلامي " - وهو مصطلح يدل على أثر الاعتزال في طبيعة التعبير وفي المصطلح النقدي على السواء. غير أن محاولة ابن المعتز تعد أولية ساذجة إذا نحن قارناها بما صنعه قدامة، فغن التفات قدامة إلى قيمة المعنى جعله يحاول إيجاد " منطق " للشعر، منطبق تماماً على أصول المنطق العقلي، ولهذا كان أول من حدد جودة المعنى: بصحة التقسيم وصحة المقابلات وصحة التفسير والتكافؤ؟ الخ؛ وجعل أضدادها دلالة على رداءة المعنى أو فساده؛ ورغم التعديلات الكثيرة التي أجراها النقاد من بعد على مصطلحات قدامة - كالحاتمي مثلاً - فإنها التي ميزته لدى النقاد اللاحقين؛ هذا في المعاني من حيث قيام الشعر بها. أما المعاني من حيث تداولها فقد تطلبت مصطلحاً آخر مثل الأخذ والتوارد   (1) مناهج البلغاء: 250 - 251. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 والسلخ والنسخ والمسخ والاهتدام؟ الخ، وكل مصطلح من هذه يشير إلى درجة من درجات الأخذ والسرقة. وحين التفت النقاد (أو البلاغيون) إلى السياق الشكلي في التأليف وجدوا مصطلحهم جاهزاً في صناعة الصياغة أو الحياكة، ذلك لأننا نمر عبر القرون على ربط الشعر بهذه الصنائع ومحاكاته بها (كذلك قال الجاحظ وعبد القاهر وغيرهما) ولهذا نجد في هذه المصطلحات مثل التفويف والتسهيم والترصيع والتطريز والتوشيع وأشباه ذلك. وتبدو حاجة النقاد إلى المصطلح لتسمية كل جزئية في الشعر من هذا المثال الآتي: ومجمله ان أبا العلاء المعري حين قرا قول المتنبي: يرد يداً عن ثوبها وهو قادر ... ويعصي الهوى في طيفها وهو راقد سمى هذا باسم " الطاعة والعصيان " وفسره بقوله " أن يريد المتكلم معنى من معاني البديع فيستعصي عليه لتعذر دخوله في الوزن الذي هو آخذ فيه، فيأتي موضعه بكلام يتضمن معنى كلامه ويقوم به وزنه ويحصل به معنى من البديع غير المعنى الذي قصده، كهذا البيت الذي ذكرته للمتنبي فإنه أراد ان يكون في البيت مطابقة فيحتاج لأجلها ان يقول " يرد يداً عن ثوبها وهو مستيقظ؟ فلم يطعه الوزن فأتى بقادر مكان مستيقظ لتضمنه معناه، فإن القادر لا يكون إلا مستيقظاً، وزيادة فقد عصاه في البيت الطباق، وأطاعه الجناس لأن بين قادر وراقد تجنيساً عكسياً " (1) ورغم دقة ما يريد المعري أن يتوصل إليه نجده وضع مصطلحاً لشيء جزئي جداً قد لا يتكرر في الشعر، ويحتاج الكشف عنه إلى الفحص الطويل. إن تطور المصطلح واتساعه أمر ملحوظ خلال العصور، ولكنه لم يخدم   (1) تحرير التحبير: 290. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 قضية النقد كثيرا كما خدم مستوى البلاغة وتحولاتها؛ ويجب ألا يغيب عن الذهن ان الصلة بين النقد وكتاب الشعر لارسطو قد أدخلت مصطلحاً من نوع آخر مثل " الأقاويل الشعرية " و " المحاكاة " و " التخييل "، وان محاولة محو الفارق بين الشعر والخطابة قد جعلت المصطلحات المتصلة بالخطابة تنتقل إلى حيز الحديث عن الشعر أيضاً. يستفاد من ذلك كله أن المصطلح النقدي جمع بين مسميات البداوة، وألفاظ المنطق والفلسفة، وتسميات الأزياء الحضارية، في نطاق واحد. ومثلما كانت المشكلات التي أثارت النقد مزدوجة في الغالب ذات حدين، كانت القضايا النقدية قائمة على الازدواج أيضاً - في أغلب الأحيان - وإليك أهم القضايا التي دار حولها النقد: (1) قضية اللفظ والمعنى. (2) قضية المطبوع والمصنوع أو الطبع والصنعة. (3) قضية الوحدة والكثرة في القصيدة. (4) قضية الصدق والكذب في الشعر. (5) قضية المفاضلة أو الموازنة بين شعرين أو شاعرين. (6) قضية السرقات الشعرية. (7) قضية عمود الشعر. (8) قضية العلاقة بين الشعر والأخلاق أو الشعر والدين. وفي أثناء الحديث عن هذه القضايا كان لابد للنقاد من ان يتناولوا قضايا أخرى، ولهذا نجدهم تحدثوا عن تعريف الشعر، ووضعوا تعريفات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 متعددة وقفنا عند أهمها في سياق هذا البحث. كما تحدثوا عن البديهة والروية في طيرقة نظم الشعر؛ وعن بواعث الشعر ومهيئاته، ويبدو أن المشكلة الأخيرة لم تتطور أبداً تطوراً كبيراً عما قاله فيها ابن قتيبة، ومن قبله أبو تمام في وصيته للبحتري، حتى إننا لنجد حازماً على ما لديه من ميل للتجديد والتفرد في التفسير، يعيد ما قاله فيها قدامى النقاد؛ وكذلك تناولوا الكلام عن أغراض الشعر وعن مظهري الغرابة والغموض فيه - وجاءوا في حديثهم عن الغموض بأسباب شكلية خالصة مستمدة من طبيعة العلاقات المعنوية واللفظية لا من طبيعة النفسية العامة أو نوع الموضوع؛ وفي سياق الاعتماد على كتاب الشعر لارسططاليس أشار دارسو الكتاب إلى الفرق بين الشعر العربي واليوناني (ومن بعد أشار ابن الأثير إلى فرق محتمل بين الشعر العربي والفارسي) كما وقفوا مطولاً عند مناظرة تعميمية في تبيان الفروق بين النظم والنثر، بانين مناظرتهم على غير الأصول التي وقف عندها الارسططالسيون. وينفرد حازم من بين النقاد جميعاً بأنه ربما كان أول من ربط بين الشعر والمعاني الجمهورية (1) وتحدث عن التجربة المستمدة من الحياة، وعما يكملها من التجربة الثقافية، وحاول لأول مرة ان يعيد النظر في الأوزان، وينشئ لها فلسفة جديدة، ويتحدث عن العلاقة الوثيقة بين الوزن والموضوع الشعري. ولأول مرة كذلك نجد ناقداً يتناول قضية " القوى " الضرورية للشاعر في مراحل تجربته ونظمه على السواء؛ وكان النقاد قبل حازم قد قصروا قضية الشعر على الألفاظ والمعاني والعلاقة بينهما، فإذا ارتفعوا عن هذه المشكلة تحدثوا عن الائتلاف بينهما فيما سموه النظم، وتوسلوا لتفسير حقيقة النظم بطرق مختلفة، ولكن حازماً تجاوز هذه المرحلة النقدية فميز في الشعر شيئاً سماه " الأسلوب " وآخر سماه " المنزع ".   (1) لابد من الإشارة هنا إلى اهتمام ابن الأثير أيضاً بالتعبيرات التي يتداولها الناس في حياتهم اليومية (انظر الفصل الخاص بهذا الناقد) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 كل هذه القضايا قد جرى الحديث عنها في سياق هذا البحث، بحسب ما اقتضاه المنهج المرسوم له. ولهذا فليس من الطبيعي أن أقف عندها جميعاً في هذه المقدمة، ويكفي أن أعرض لعدد قليل منها، مقدماً نماذج في طريقة دراستها ومعرفة إبعاد كل قضية منها على حدة. 1 - قضية الوحدة في القصيدة: حين نظر النقاد في الموروث الشعري وجدوا القصيدة - أي الطويلة بشكل خاص - معرضاً لتفنن الشاعر، فهو قد يفتتحها بالغزل أو بالوقوف على الأطلال ويتحدث عن مناحي فتوته من حب للصيد وركوب للخيل وانتهاب للذات، ثم يمدح أو يعاتب أو يتحدث عن قضية صلح: وبعبارة أخرى كانت القصيدة تسمح بتعدد الموضوعات في داخلها. فلم يستطع النقاد ان يتنكروا للموروث حتى لنجد ابن طيفور يجعل تعدد الموضوعات التي أجاد الشاعر عرضها في قصيدته علة لاختيارها - وهو تعليل متأخر يشبه إيجاد التسويغ لذلك التعدد؛ ولهذا كان كل حديث للنقاد عن الوحدة إنما يتم من خلال التكثر أي كيف تمثل القصيدة وحدة رغم ذلك التكثر؛ فذهب ابن قتيبة إلى الأخذ بالوحدة النفسية عند المتلقي، أي قدرة الشاعر على جذب انتباه السامع أولاً ليضعه في جو نفسي قابل لتلقي ما يجيء بعد ذلك؛ وهذا لا يثبت للقصيدة نفسها وحدة إذ قد يكون الموضوعان فيها متباعدين حتى في الجو النفسي العام لدى الشاعر. ولكن ابن قتيبة كان يحس بان مثل هذا التعليل لا يحقق وحدة، فلهذا وقف عند وحدة داخلية تتمثل في التكافؤ بين الألفاظ والمعاني، ثم في الترابط بين كل بيت وما يليه، فإذا فقد الترابط المعنوي جاء الشعر متكلفاً. ثم كأن ابن طباطبا شعر أن كل هذا الذي قاله ابن قتيبة لا يحقق الوحدة التي يرغب فيها ولهذا ألح على مبدأين يكفلانها: أولهما مبدأ التناسب - وهذا المبدأ يحقق للقصيدة المستوى المطلوب من الجمال - والثاني هو التدرج المنطقي (وهو يحل الرتابط المعنوي عند ابن قتيبة) فالقصيدة أولاً كيان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 نثري ينسج شعراً في تدرج صناعي خالص، كما ينسج الثوب، مع الحذق في الربط عند الانتقال في داخل القصيدة من موضوع إلى موضوع؛ وتستغرق هذه الوحدة من الشاعر جهداً مضنياً في التصور أولاً، ثم في تأمل الأجزاء، ونقل بعضها هنا وبعضها هناك، وتغيير الألفاظ وتنقيح التعبيرات، واستبعاد ما لا يلتئم في هذا السياق؛ فالوحدة هنا نتاج عمل ذهني منطقي؛ ولعل تصور ابن طباطبا للوحدة هو الذي أخذ به النقاد من بعده لأنهم لجأوا دائماً إلى التمثيل، فشبهوا القصيدة بالنسيج أو شبهوها بعمل الصائغ للخاتم أو السوار (وقد اكثر عبد القاهر من هذه التمثيلات) . ولم يخرج تصور الوحدة لدى النقاد العرب عن صورة التكامل والتناسب معاً؛ وكانت أقصى درجات التعبير عن هذا النوع من الوحدة هي الإشارة إلى انه العلاقة بين اللفظ والمعنى هي علاقة الجسد بالروح؛ وقد نقل الحاتمي هذه الوحدة القائمة على التكامل والتناسب إلى صورة الجسد نفسه: " فإن القصيدة مثلها خلق الإنسان في اتصال بعض أعضائه ببعض فمتى انفصل واحد عن الآخر أو باينه في صحة التركيب غادر بالجسم عاهة تتحيف محاسنه وتعفى معالم جلاله "، وقد استعار ابن رشيق هذه الفكرة من الحاتمي، ورددها من تأثروا بابن رشيق من بعد؛ ولم تتجسد قضية الوحدة في ذهن حازم من غير الطرق الشكلية والحيل الشعرية، لأنه كان مشغول الذهن بالتأثير في نفس السامع حين تحدث عن التنويع في انتقال الشاعر أثناء قصيدته من فصل إلى فصل: " أن الحذاق من الشعراء؟ لما وجدوا النفوس تسأم من التمادي على حال واحدة وتأثر الانتقال من حال إلى حال، ووجدوها تستريح إلى استئناف الأمر بعد الأمر واستجداء الشيء بعد الشيء، ووجدوها تنفر من الشيء الذي لم يتناه في الكثرة إذا أخذ مأخذاً واحداً ساذجاً ولم يتحيل فيما يستجد نشاط النفس بقبوله بتنويعه والافتنان في أنحاء الاعتماد به وتسكن إلى الشيء وغن كان متناهياً في الكثرة إذا أخذ من شيء مأخذه؟. اعتمدوا في القصائد أن يقسموا الكلام فيها إلى فصول ينحى بكل فصل منها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 منحى من المقاصد؟ " (1) ، وليس من الضروري أن تكون " الفصول " التي يتحدث عنها حازم هي الموضوعات المتعددة - وان كان لا ينكر تعدد تلك الموضوعات، وربما كانت " دورات " من النقلات النفسية في موضوع واحد، وعندئذ يكون الحديث عن الفصول لا يعني تجزئتها وإنما يعني تماسك الدورات فيها. لهذا يمكن أن يقال أن نقاد العرب عالجوا قضية الوحدة من خلال التكثر، في كل العصور، خضوعاً للمثال الشعري، ولم يهتموا بأنواع أخرى من الوحدة، كالوحدة النفسية عند الشاعر، أو الوحدة الصورية، أو الوحدة العضوية. 2 - قضية الصدق والكذب في الشعر: تباينت مواقف النقاد كثيراً حول هذه القضية فمنهم من ربط الشعر الحق بالصدق ونفى عنه الكذب، ومنهم من جعل الكذب سبباً لرفض الشعر، ومنهم من وقف حائراً إزاءها لا يدري ماذا يقول، ومنهم من اشتق لنفسه طريقاً وسطاً. وأول من أثار القضية بوضوح حاسم هو ابن طباطبا، فقد ربط الشعر بالصدق من النواحي المختلفة: الصدق في التشبيه، والصدق في الشاعر والصدق في القصيدة؟ الخ: ورأيه يتلاءم وأساس نظريته في التناسب، فالتناسب هو سر الجمال، والصدق صنو للتناسب الجمالي في القصيدة، ثم أن التناسب عمل ذهني يعرض على العقل ليقبله أو يحكم فيه، والعقل لا يطمئن إلا إلى الصدق وهو يستوحش من الكلام الجائر الباطل؛ والصدق أيضاً يعني السلامة من الخطأ في اللفظ والتركيب والمعنى، وهذه أمور لابد   (1) مناهج البلغاء: 296 وانظر كيف يقر حازم تعدد الموضوعات في تسميته القصائد التي تشتمل غير موضوع واحد " القصائد المركبة " (ص: 303) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 أن تتحقق في القصيدة، كذلك على الشاعر أن يكون صادقاً عن ذات نفسه وهو يكشف عما يختلج فيها، ويكون صادقاً في تجربته، صادقاً بالمعنى التاريخي حين يقص خبراً، صادقاً على مستوى أخلاقي فلا ينسب الجبن للشجاع ولا يسمي الكريم بخيلاً؛ ونحن اليوم نرى في صدق الشاعر نموذجاً حسناً لما نسميه الإخلاص أو القضاء على المسافة بينما يقوله وما يفعله، ولكن الصدق عندئذ طباطبا كلمة ذات دلالات مختلفة، وعلى هذا فإنها في القصيدة قد حدت من قوة الخيال كثيراً. ويقترب عبد القاهر في هذا الموقف من ابن طباطبا، فإنه يحب ما يشهد له العقل بالصحة، ولكنه كان أكثر تسامحاً من ابن طباطبا حين أقر بوجود التخييل أو التمويه، وانه هذا ضرب مقبول أيضاً وغن جاء في الدرجة الثانية. وحين نظر قدامة إلى هذه القضية غير من زاوية النظر إذ جعل " الكذب " مرادفاً للغلو، ولما كان هو ممن يرون أن الغلو أفضل للشعر من الاقتصار على الحد الوسط فقد أيد من يقولون " أعذب الشعر أكذبه) ، ويختلف موقف المتأثرين مباشرة بكتاب أرسطو عن موقف قدامة، إذ عادوا أيضاً ينظرون إلى المسألة من زاوية جديدة، وهي إقامة المقارنة بين الأقاويل الشعرية وغيرها من الأقاويل كالبرهانية والخطابية، وبما أن الأقاويل الشعرية قائمة على " التخييل " فليس فيها ما في الأقاويل البرهانية من صدق، ولهذا قرن الفارابي بين الكذب والتخييل حين قال: " أما الأقاويل الشعرية فأنها كاذبة بالكل لا محالة " (1) ولكنه أضاف أن للأقاويل الشعرية قيمة العلم في البرهان، أي كأنه يقول أن الصدق ليس هو العنصر الهام فيها وغنما هو التخييل، او كما نقل عنه حازم " الغرض المقصود للأقاويل المخيلة ان ينهض السامع نحو فعل الشيء الذي خيل له فيه أمر ما، من طلب له أو هرب عنه؟ سواء صدق بما يخيل إليه من ذلك أم لا، كان الأمر في   (1) فن الشعر: 150، 151. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 الحقيقة على ما خيل له أو لم يكن " (1) . وعلى هذا سار ابن سينا أيضاً إلا انه زاد " وليس ينبغي في جميع المخيلات أن تكون كاذبة "، وحاول حازم أن يتجاوز الاثنين وهو يستشهد بآرائهما، فتدرج في معالجته لهذه المسالة في مرحلتين، في المرحلة الأولى: وازن بين حظ الخطابة والشعر من الصدق فنفى الصدق عن الخطابة نفياً تاماً، واثبت انه افضل للشعر، لأنه أقدر على التحريك من الكذب، ولم ينف الكذب عنه تماماً. وفي المرحلة الثانية نفى المشكلة كلها، وقال: إنها مشكلة لا علاقة لها بالشعر لأن الغاية من الشعر " التعجيب " وليس يسأل فيه عن الصدق والكذب، فهاتان صفتان تلحقان المفهومات فحسب، واتهم المتكلمين بأنهم حاولا الغض من شان الشعر فوصفوه بالكذب. والحقيقة أن الذين وصفوا الشعر بالكذب - عن غير طريق قدامة - كانوا يحاولون ان يعيبوه من زاوية أخلاقية، لأنه يقوم على التمويه، ولان الشاعر فيه يتحدث عن أشياء لم تقع وكأنها وقعات، ويهجو فيتزيد، ويمدح فيتزيد وهكذا، وحاول بعضهم أن يتظرف بقوله: أن مما يدل على فضل الشعر أن الناس يرونه جميلاً وهم يعلمون انه كذب، ويقبلون الكذب فيه ولا يقبلونه في غيره، ولما عرض المرزوقي لهذه المشكلة، أضاف إلى الصدق والكذب مقولة ثالثة وهي " الاقتصاد ": " أحسن الشعر أقصده " ولم يرجح واحداً من هذه المواقف وإنما قال: إن لكل موقف أنصاره. وهكذا نرى كيف تعددت زوايا النظر إلى هذه القضية، وكان حازم - رغم تردده - هو الذي حلها حين برهن على إنها قضية خارجة عن طبيعة الشعر، من حيث هو شعر.   (1) منهاج البلغاء: 86. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 3 - العلاقة بين الشعر والأخلاق (أو الشعر والدين) : تبدأ هذه المشكلة مبكرة في تاريخ النقد العربي بالفصل - في الموضوع - بين الشعر والدين، فالشعر عند الأصمعي مجاله الشر. وإذا تناول الموضوعات الأخلاقية والدينية (الخير) ضعف وتهافت، وقد كان هذا المعنى واضحاً عند اشد الأخلاقيين تزمتاً، ولهذا اخرجوا من الشعر ما كان وعظاً أخلاقياً، وعندما استدار النقد إلى ما يشبه الخاتمة عند ابن خلدون ظللنا نسمع أن من يحاول القول في الزهديات والربانيات والنبويات يسقط سقوطاً ذريعاً، ويعلل ذلك بسبب ابتذال معانيها بين الناس، فالالتفاتة صحيحة، ولكن التعليل ربما لم يكن كافياً. ولكن العلاقة بين الشعر والدين (أو الشعر والخلق) اقترنت لدى النقاد بموقف دفاعي عن الشاعر - دون الشعر -، فإذا عيب أبو تمام بأنه قليل التدين لا يؤدي الصلوات في أوقاتها. دافع عنه الصولي بأن الدين ليس مقياساً في الحكم على الشاعر، وإذا عاب بعضهم المتنبي بأنه مستهتر في شعره ببعض الشؤون الدينية دافع عنه القاضي الجرجاني - لا عن شعره - بان الشاعر لا يعاب لدينه، إذ لو كان الأمر كذلك لأطرح الجاهليون وقد كانوا وثنيين أو لأطرح شعر أبي نواس وكان شديد التهتك والاستهتار. فالفصل في الموضوع بين الدين والشعر لم ينضج إلا عند رجل من أشد النقاد تحرجاً - وهو الأصمعي. ولكن السؤال هو: ما هو موقف الناقد إذا كان يقرأ شعراً فيه تهجم على بعض المواضعات الأخلاقية أو المبادئ الدينية؟ هنا يتسع البون بين النظرية والتطبيق، ونجد نقاداً مثل الباقلاني وابن شرف وابن بسام أخلاقيين في معيارهم: فالباقلاني يعيب معلقة أمرئ القيس من زاوية أخلاقية. ولا يكتفي ابن شرف بذلك بل يقول: أن النظرة إلى بعض القصائد من الزاوية الأخلاقية إنما هي من صميم الحكم الفني على الشعر، وتحس لدى ابن بسام تحرجه من الناحية الأخلاقية في مقاييسه النقدية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 وضيقه وتبرمه بكل شعر يشم منه الإلحاد أو استعمال المصطلح الفلسفي. وللعلاقة بين الشعر والأخلاق زاوية أخرى يمثلها المتأثرون بالثقافة اليونانية. فقد تنبه بعضهم من خلال الفهم الخاطئ لغاية المأساة (التراجيديا) إلى أن الشعر اليوناني كان يقصد إما إلى الحث على فعل أو الردع عن فعل (1) (أي أن محوره هو الفضيلة) وكان في ثنايا ذلك اتهام للشعر العربي، لأنه يتحدث عن الظلم والتهتك والإغراء بالرذائل ومحاكاة الدواب أحياناً. ولهذا كان ذلك الإتهام يعني أن الشعر العربي - في جملته - مناقض للأخلاق ويتبدى هذا الاعتقاد على أتمه عند المتأثرين بجمهورية أفلاطون مثل مسكويه وابن رشد، فهذان الفيلسوفان اتخذا كلام أفلاطون في نقد الشعر اليوناني سبيلا إلى تطبيق نظريته على الشعر العربي، ولما كانت الغاية النهائية من هذا تربوية. فان كلاً منهما نصح أن يجنب الناشئة الشعر الذي يتحدث عن النسيب أو مدح الطغاة، لان ذلك ذو أثر رديء في نفوسهم، ويشبههما في هذا الموقف ابن حزم الذي كان خاضعاً لنظرته الفقهية في الحكم على الشعر. فقد نفى منه أكثر أنواعه لاعتقاده أنها تضر بأخلاق الناشئة؛ وحيثما كانت الزاوية في النظر إلى الشعر هي " التربية " نجد الناظرين إليه يستبعدونه، لإقناعهم أنه من العوامل الهدامة أخلاقياً. وخلاصة ذلك كله: (أ) إذا كان الناقد يدافع عن الشاعر أنكر التعارض بين الشعر والأخلاق. (ب) إذا أخذ في النقد التطبيقي تحول بالنقد إلى المقاييس الأخلاقية. (ج) إذا تحدث عن التربية جعل الشعر (ما عدا القليل منه) مسئولاً عن التحول بالنفس نحو الشر.   (1) انظر الشفا - المنطق (قسم الشعر) : 34. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 4 - قضية السرقات الشعرية: يتفاوت النقاد في تناولهم لهذه المشكلة بين التسامح الكثير والتنقير والتعقب المضني، وتتفاوت كذلك درجاتها عندهم، فبينا نجد ناقداً مثل الآمدي أو القاضي الجرجاني أو حازم يتناولها دون حدة، نجد البحث فيها - مصحوباً بالنقمة والغيظ - هو الشغل الشاغل للحاتمي (في بعض حالاته) ولأبن وكيع والعميدي. وقد كان الدافع الأول لنشوء هذه القضية هو اتصال النقد بالثاقفة، ومحاولة الناقد أن يثبت كفايته في ميدان الاطلاع، ثم تطور الشعور بالحاجة إلى البحث في السرقات خضوعاً لنظرية - ربما كانت خاطئة - وهي أن المعاني قد استنفدها الشعراء الأقدمون، وان الشاعر المحدث قد وقع في أزمة، تحد من قدرته على الابتكار، ولهذا فهو إما أن يأخذ معاني من سبقه أو يولد معنى جديداً من معنى سابق، وبهذا يتفاوت المحدثون في قدرتهم من هذه الناحية، فمنهم من يقصر عن المعنى السابق، ومنهم من يحتذيه، ومنهم من يزيد عليه، ومنهم من يولد معنى لم يخطر للأول، ويذلك حل التوليد محل الابتكار. ويسبب هذا التفاوت، تفاوت المصطلح المتصل بالمعاني من هذا الطريق - كما قدمت القول - وبما أن قضية السرقة كانت من نصيب الشاعر المحدث لذلك نجد أكثر الكتب المؤلفة في هذه المشكلة إما أنها تتحدث عن سرقة المعاني عامة، وإما إنها تخصص لهذا أو ذاك من الشعراء المحدثين، فهناك كتاب في سرقات أبي نواس وآخر في سرقات أبي تمام وثالث في سرقات البحتري، حتى إذا وصلنا إلى المتنبي فاض فيض المؤلفات في سرقاته، وإذا وضعنا العداء للمتنبي جانباً وجدنا هذه الظاهرة تمثل شيئين: أولهما الإحساس العميق بان دائرة المعاني قد أقفلت، وأن منتصف القرن الرابع يشهد " الغارة الشعواء " على كل معنى سابق، لمتقدم أو معاصر. وقد أمعن بعض النقاد في الاتهام، فجعلوا المتنبي لصاً كبيراً لا يسرق من أبي تمام وحسب، بل هو يغير على المغمورين من الشعراء، وفي هذا نفسه فضح النقاد أنفسهم في إبراز مدى تحاملهم أولا وتعالمهم ثانياً؛ والشيء الثاني: استقطاب مشكلة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 السرقات لسائر القضايا النقدية واستئثارها بكل الجهود؛ وفي هذا إشارة إلى خروج رحى النقد عن محورها الطبيعي، ولمثل هذا قدمت القول بان النقد الأدبي كان يقدم شهادة عجزه في أواخر القرن الرابع. فأما الذين تحدثوا عن السرقات الشعرية من حيث هي ظاهرة طبيعية - ولم تهجهم إلى ذلك خصومة معينة - فإنهم كانوا ينطلقون من موقفهم ذاك عن اعتقاد راسخ بان معاني الشعر، كالهواء والمرعى والماء. إنما هي في أساس خلق هذا الكون مشاع بين الناس، فلا ضير على الخالف ان يأخذ ميراث السالف، وقد حاول هذا الفريق أن يسوغ الأخذ بجعله أساساً في التراث القديم، فتحدث أصحابه عن اصطراف كثير لمعاني جميل وغيره، وعن استيلاء الفرزدق عنوة على أبيات لذي الرمة وغيره، ولكنهم تجاوزوا هذا العدوان السافر إلى الذكاء والحيلة، فميزوا القدرة على التوليد وجعلوا كل من أخذ معنى وأجاد في ذلك فهو أحق بذلك المعنى من صاحبه الأول، وعند هذا الحد تكون نظرية السرقة قد سوغت - لا الشركة المشاعة وحسب - بل سوغت أيضاً مبدأ الابتزاز القائم على القدرة والحذق. وإننا لنجد نقاداً يتحدثون عن الأخذ، وكأنه المبدأ الوحيد في الإبداع الفني في الشعر، فهم يضعون له القواعد والدرجات، والسر في هذا الموقف ان هذا الفريق من النقاد كانوا شعراء، كابن شهيد مثلاً، او كانوا ناثرين - كابن الأثير - قد وصلوا إلى الإيمان بان الطريقة المثلى في الإنشاء ليست سوى حل للمنظوم، أي تغيير الصورة التي عند غيرهم إلى صورة أخرى ذات إيقاع جديد. والحق أن جواب حازم على هذه القضية كان رصيناً ومقنعاً، وذلك أن اعتماد الشعر على المعاني الجمهورية، يبطل القسم الأعظم من دعاوى السرقة، ولا يبقي في الميدان إلا الصور " العقم " - وهي الصور التي توصل إليها شاعر على نحو من الابتداع وعرفت به (كتشبيه عنترة للروضة " ومثل هذه الصور والمعاني لا يحتاج ثقافة واسعة لدى الناقد، ثم لا يحتاج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 كذلك إلى ان يظل لقضية السرقة هذا المقام الكبير في النقد الأدبي؛ وكان هذا يعني ان " قضية السرقة " ما كان من حقها ان توجد، لأنها استطاعت ان تتحول بالنقد في وجهة غير مثمرة أبداً. هذه أربعة نماذج من القضايا الكبرى التي تناولها النقاد العرب، أحببت أن أرسم خطوطها العريضة للقارئ، عسى ان يجد في ذلك معيناً له على التصور الكلي للقضايا النقدية التي جاء الحديث عنها بحسب المنهج التاريخي مفرقاً في صفحات هذا الكتاب. ولست بحاجة إلى القول بعد ذلك عن كل نقد عند أية أمة فإنه صورة للنماذج الشعرية (أو النثرية) عند تلك الأمة، فإذا لم تتسع آفاق النقاد العرب إلى ما هو أبعد من القضايا التي طرحتها تلك النماذج فليس هذا ذنبهم؛ ولهذا يمكن أن يقال إن الذين درسوا كتاب الشعر لارسططاليس لم يستطيعوا أن يؤثروا إلا تأثيراً ضئيلاً في تاريخ النقد عند العرب، لا لأنهم لم يزاولوا النقد بأنفسهم وحسب، بل لان الكتاب الذي اختاروه، رغم ما له من قيمة بالغة، كان يتحدث عن نماذج لا يعرفها الشعراء العرب، ولا تعرفها جمهرة النقاد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 النقد الأدبي في أواخر القرن الثاني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 نظرة عامة في قواعد النقد حتى أواخر هذا القرن قضي النقد الأدبي العربي مدة طويلة من الزمن، وهو يدور في مجال الأنطباعية الخالصة، والأحكام الجزئية التي تعتمد المفاضلة بين بيت وبيت أو تمييز البيت المفرد أو إرسال حكم عام في الترجيح بين شاعر وشاعر، إلى أن أصبح درس الشعر في أواخر القرن الثاني الهجري جزءاً من جهد علماء اللغة والنحو، فتبلورت لديهم قواعد أولية في النقد بعضها ضمني وبعضها صريح، ولكنها كانت في أكثرها ميراث القرون السابقة: مبدأ اللياقة وفي طليعة تلك القواعد اعتماد النقد مبدأ اللياقة؛ فالشماخ معيب حين يقول مخاطباً ناقته: إذا بلغتني وحملت رحلي ... عرابة فاشرقي بدم الوتين لان قوله " أشرقي بدم الوتين " أسوأ مكافأة لها على ما قدمته له من معروف. وطرفة مقصر عن أصول اللياقة المتعارفة في قوله: فإذا ما شربوها وانتشوا ... وهبوا كل أمون وطمر لأن الكرم عند السكر وحده لا يعد كرماً أصيلاً، وقس على ذلك كثيراً ن أمثلة هذا النقد، التي لا تعد نقداً للشعر نفسه وإنما تلمح العلاقة بين الشعر وبين المواضعات الاجتماعية والأخلاقية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 مبدأ الجودة المثالية وقريب من هذه القاعدة أخرى نشأت عن ملاحظة الجودة المثالية في الشيء الموصوف، فالشاعر قد يصف فرسه بان شعره مسترسل على جبينه، وكذلك هو في واقع حاله، فيعاب بهذا الوصف لان العرب اتفقت على أن الفرس الجيد لا يكون شعره كذلك (1) . الخضوع للعرف في النظر للبيت المفرد إن الخضوع للعرف العام في الخلق الفردي والاجتماعي وفي محاسن الأشياء وعيوبها هو الحكم الذي كان يفيء إليه أولئك النقاد العلماء في دراستهم للشعر. وكانوا ما يزالون يتساءلون عن أمدح بيت وأغزل بيت وأهجى بيت، ولم يكن هذا السؤال؟ على سذاجته - وليد اعتقاد بان البيت هو الوحدة الشعرية، وإنما كان وليد البيئة التي تعتمد على الحفظ وعلى الاستشهاد والتمثل بالأبيات المفردة السائرة، مثلما هو نتاج المفاضلة الساذجة في نطاق الموضوع الواحد، وسيكون النظر إلى " البيت المفرد السائر "؟ أو الأبيات المفردة السائرة - محكاً للجودة ما دام الحفظ لا يسمح بتصور القصيدة جميعاً، ولكنا نرى إلى جانب ذلك اهتماماً بقصائد تؤخذ جملة، ويطلق عليها الحكم ويقرظ صاحبها بها، وبأنه لو اجتمع له عدد من القصائد مثلها لكان عالي الشأن في ميزان النقد. الرواة يستجيبون للتغيير في الشعر وقد جرت القواعد السابقة وأشباهها إلى عمل خطير في نطاق الرواية الأدبية حين استباح الرواة أن يغيروا ما يمكن تغييره إذا هو لم يتفق وتلك القواعد؛ يقول الأصمعي: قرأت على خلف شعر جرير فلما بلغت قوله: فيا لك يوماً خيره قبل شره ... تغيب واشيه وأقصر عاذله   (1) إذا غطت الناصية الوجه لم يكن الفرس كريماً (الموشح: 39) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 فقال: ويليه، ما ينفعه خير يؤول إلى شر؟ قلت له: هكذا قرأته على أبي عمرو؛ فقال لي: صدقت، وكذا قاله جرير، وكان قليل التنقيح مشرد الألفاظ، وما كان أبو عمرو ليقرئك غلا كما سمع، فقلت: فكيف كان يجب أن يقول، قال: الأجود له ولو قال: فيا لك يوماً خيره دون شره ... فاورده هكذا، فقد كان الرواة قديماً تصلح من أشعار القدماء. فقلت: والله لا ارويه بعد هذا إلا هكذا (1) . الخليل ومصطلح العروض البدوي وكان الخليل بن احمد (2) - حين وضع العروض - قد وضع في أيدي هؤلاء العلماء مصطلحاً للعيوب الشكلية، من إقواء وإسناد وإيطاء، ظل هو مفزعهم كلما أرادوا نقد الشعر من تلك الناحية. والشيء اللافت للنظر في مصطلح الخليل انه مستمد من " بيت الشعر " - بفتح الشين - وقد كان عمله من هذه الناحية يمثل وعياً دقيقاً وتكاملاً في النظرة العامة. يقول في وصفه لما صنع: " رتبت البيت من الشعر ترتيب البيت من بيوت الشعر - يريد الخباء - قال: فسميت الإقواء ما جاء من المرفوع في الشعر والمخفوض على قافية واحدة؟. وإنما سميته إقواء لتخالفه، لان العرب تقول: أقوى   (1) الموشح: 198 - 199. (2) للخليل في توجيه النقاد عمل آخر عدا المصطلح العروضي فهو الذي يقول: " الشعراء أمراء الكلام يصرفونه أنى شاءوا، ويجوز لهم ما لا يجوز لغيرهم من إطلاق المعنى وتقييده، ومن تصريف اللفظ وتعقيده؟. فيحتج بهم ولا يحتج عليهم، ويصورون الباطل في صورة حق والحق في صورة الباطل " (منهاج البلغاء: 143) وقد وضع الخليل في هذا القول أسساً كثيرة اعتمدها النقاد من بعد، وتناولوها بالموافقة أو المخالفة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 القائل إذا جاءت قوة من الحبل تخالف سائر القوى؟ (1) ، وستكون هذه السنة التي سنها الخليل في الوصل بين المصطلح الشعري وشئون الخباء البدوي - والحياة البدوية عامة - مرجعاً يستوحي منه هؤلاء العلماء كلما حاولوا مصطلحاً جديداً في النقد، وذلك ما سيتبين لنا بعد قليل. قاعدة الاستواء النفسي ونحن إذا أنعما النظر في أحكام هؤلاء العلماء؟ وكتاب الموشح للمرزباني معرضها - وجدنا ان هناك نواة لحركة نقدية، مهما تكن أسبابها موصولة بالخطا أو الصواب، وإنها قد تتطور في المستقبل إلى نظرات أوفى وأشمل. وفي مقدمة تلك القواعد ما يمكن أن نسميه " قانون الاستواء النفسي "، أي أن يظل الشاعر ملتزماً بمستوى واحد من النظرة إلى الحياة وقيمها، فامرؤ القيس متسق الشعور مع حاله - وهو ابن ملك وطالب مجد - حين يقول (2) : ولو أن ما أسعى لأدنى معيشة ... كفاني ولم أطلب، قليل من المال ولكنما أسعى لمجد مؤثل ... وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي ويتطلب الناقد منه أن يظل ملتزماً بهذا المستوى من الشعور بالذات وبقيمة الغاية، ولذلك فإن الناقد يراه قد هوى من عليائه أو أصبح على حد تعبيره " نذلاً " حين يقول: لنا غنم نسوقها غزار ... كأن قرون جلتها العصي فتملأ بيتنا اقطاً وسمنا ... وحسبك من غنى شبع وروي وهذا القانون الصارم يجهل تقلب الحال النفسية، وينكر أن يكون شعر   (1) الموشح: 15 - 16. (2) الموشح: 26. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 الشاعر متفاوتاً بحسب تلك الحال، وهو من القوانين الخاطئة التي لا تلبث أن تندرس كلما اتسع مجال الفهم النفسي لدى النقاد، ولعل هذا هو الذي دعا بعض النقاد إلى أن يقول: عن كثيراً من شعر امرئ القيس لصعاليك كانوا معه (1) ، يعتذر بذلك عن التفاوت النفسي، بالإضافة إلى التفاوت في مستوى الجودة الشعرية (2) . قانون الشمول الخاطئ وإذا كان القانون السابق يدل على مقدار التصور الخاطئ والإدراك الساذج فإن بعض المقاييس الأخرى يدل على شمول في النظرة ويعتريه الخطأ من ذلك الشمول نفسه؛ ومثاله ما رواه أبو عبيدة عن أبي الخطاب الأخفش، قال أبو الخطاب وكان " اعلم الناس بالشعر وانقدهم له، واحسن الرواة ديناً وثقة " -: " لم يهج جرير الفرزدق إلا بثلاثة أشياء يكررها في شعره، كلها كذب، منها جعثن والزبير والقين؟. " (3) فهذا الحكم قائم على تمثل واضح لشعر جرير الذي يكرر الهجاء بهذه الأشياء، ولكنه حكم ينظر إلى الموضوع نفسه لا إلى الطريقة، ويحتكم إلى قاعدة " الكذب "؟ وهي قاعدة أخلاقية. تميز الأصمعي بين الرواة ومن الطبيعي أن يتفاوت هؤلاء العلماء في طبيعة إسهامهم النقدي، ويقف الأصمعي (- 210) بينهم مثلاً متميزاً، فهو وإن شاركهم في كثير من النظرات الساذجة من مثل الالتفات نحو أغزل بيت وأهجى بيت وما أشبه ذلك من أحكام، قد هداه بصره النافذ إلى مواقف نقدية واضحة، ونكتفي هنا بثلاثة   (1) الموشح: 37. (2) التفاوت في مستوى الجودة الشعرية يدل عليه قول الأصمعي " طفيل الغنوي في بعض شعره أشعر من امرئ القيس ". (3) الموشح: 193. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 مواقف منها: (1) الفصل بين الشعر والأخلاق: من العجيب أن الأصمعي الذي كان يتحرج تديناً من رواية أي شعر فيه ذكر للأنواء (1) ، يقيم حداً فاصلاً بين الشعر والدين، ويراهما عالمين منفصلين لا يتصل أحدهما بالآخر، وفي اتصالهما حيف على الشعر نفسه، ومن ذم نسمعه يقول في لبيد راوياً هذا القول عن أستاذه أبي عمرو بن العلاء: " ما أحد أحب إلي شعراً من لبيد بن ربيعة لذكره الله عز وجل ولإسلامه ولذكره الدين والخير، ولكن شعره رحى بزر "، يريد انه ذو جعجعة وطنين، وليس وراءه كبير شيء؛ ويسند الأصمعي رأي أستاذه بقوله: " شعر لبيد كأنه طيلسان طبري، يعني انه جيد الصنعة وليست له حلاوة " (2) . وأوضح من هذا في تبيان موقفه من العلاقة بين الشعر والدين، قوله الذي لا يزال يقتبس دائماً في هذا المعرض: " طريق العر إذا أدخلته في باب الخير لان، ألا ترى أن حسان بن ثابت كان علا في الجاهلية والإسلام فلما دخل شعره في باب الخير - من مراثي النبي (ص) وحمزة وجعفر رضوان الله عليهما وغيرهم - لان شعره. وطريق الشعر هو طريق شعر الفحول مثل امرئ القيس وزهير والنابغة، من صفات الديار والرحل والهجاء والمديح والتشبيب بالنساء وصفة الحمر والخيل والحروب والافتخار، فإذا أدخلته في باب الخير لأن " (3) . ففي هذا النص القيم الغريب نجد الأصمعي قد قصر مجال الشعر على الشئون الدنيوية التي كانت سائدة في الجاهلية، وحدد موضوعاته التي تصلح له   (1) وذلك أن الأصمعي كان لا ينشد ولا يفسر ما كان فيه ذكر الأنواء لقول رسول الله (ص) : إذا ذكرت النجوم فأمسكوا؛ وكان لا يفسر ولا ينشد شعراً فيه هجاء، وكان لا يفسر شعراً يوافق تفسيره شيئاً من القرآن (الكامل 3: 36) . (2) الموشح: 100. (3) الموشح: 85، 90 وانظر آمالي المرتضى 1: 269. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 ويصلح لها، وجعل صفة " اللين " عالقة بالموضوعات المتصلة بالخير والدين. فلدينا هنا اصطلاحان غامضان بعض الغموض هما " اللين " و " الخير "؛ فأما " اللين " فقد وضع الأصمعي إزاءه " طريقة الفحول " ثم لم يتجاوز حدود الموضوع، ولكن كلمة " اللين " سترد عند بعض النقاد مرادفة لضعف الأسر، يقول ابن سلام: " وأشعار قريش أشعار فيها لين فتشكل بعض الأشكال " (1) ، ولا باس ان نفهمها على النحو نفسه عند الأصمعي. وأما كلمة " الخير " فليس يقابلها لفظة " الشر " وإن روي قول الأصمعي من بعد " الشعر نكد بابه الشر "، وظني أن هذه الرواية غير دقيقة، وإنها ترجمة متأخرة بعض الشيء لمفهوم قول الأصمعي، وإنما الخير عند الأصمعي يعني " طلب الثواب الأخروي " أو ما يتصل اتصالاً وثيقاً بالناحية الدينية ويقابله حينئذ " دنيوية " الشعر واتصاله بالصراع الإنساني في هذه الحياة، فالليونة والانحياز إلى الخير مضادان للفحولة، وهذا هو المبدأ الثاني الذي نميز به الأصمعي: (2) الفحولة: يعود بنا هذا المصطلح إلى طريقة الخليل بن أحمد في انتخاب الألفاظ الدالة على الشعر من طبيعة الحياة البدوية، فالفحل جملاً كان أو فرساً، يتميز بما يناقض صفة " اللين " التي يكرهها الأصمعي في الشاعر، وبالفحولة يتفوق على ما عداه، فقد سال أبو حاتم الأصمعي عن معنى الفحل فقال له: " له مزية على غيره كمزية الفحل على الحقاق " (2) ؛ لهذا انقسم الشعراء لدى الأصمعي في فئتين: فحول وغير فحول: قال أبو حاتم: " سالت الأصمعي عن الأعشى - أعشى بني قيس بن ثعلبة - أفحل هو؟ قال: لا ليس بفحل " (3) ؛ وقال: سالت الأصمعي عن مهلهل، قال:   (1) الطبقات: 204. (2) الموشح: 63، والحقاق: جمع حق، وهو الذي استكمل ثلاث سنوات. (3) المصدر نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 ليس بفحل، ولو قال مثل قوله " أليلتنا بذي حسم أنيري " خمس قصائد لكان أفحلهم (1) . وقال: سالت الأصمعي عن عمرو بن كلثوم، أفحل هو: فقال: ليس بفحل، قلت: فأبو زبيد؟ قال: ليس بفحل، قلت: فعروة بن الورد؟ قال: شاعر كريم وليس بفحل. قلت: فالحويدرة؟ قال: لو كان قال خمس قصائد مثل قصيدته - يعني العينية - كان فحلاً. قلت: فحميد بن ثور؟ قال: ليس بفحل. قلت: فابن مقبل: قال: ليس بفحل؟ قلت: فابن أحمر الباهلي: قال: ليس بفحل؟ قلت: فكعب بن جعيل؟ قال: أظنه من الفحول ولا أستيقنه. قلت: فحاتم الطائي؟ قال: حاتم إنما يعد في من يكرم، ولم يقل إنه فحل في شعره. قلت: فمعقر بن حمار البارقي حليف بني نمير؟ قال: لو أتم خمساً أو ستاً لكان فحلاً؟ قلت: فكعب بن سعد الغنوي؟ قال: ليس من الفحول إلا في المرئية فإنه ليس مثلها في الدنيا؛ قال: وسألته عن خفاف بن ندبة وعنترة والزبرقان بن بدر فقال: هؤلاء اشعر الفرسان؟ ولم يقل إنهم فحول. قلت: فالأسود بن يعفر النهشلي: قال: يشبه الفحول؟ قلت: فأوس بن مغراء الهجيمي، قال: لو كان قال عشرين قصيدة لحق بالفحول، ولكنه قطع به. قلت: فكعب بن زهير بن أبي سلمى؟ قال: ليس بفحل، قلت: فزيد الخيل الطائي؟ قال: هو من الفرسان؟ الخ (2) . يتجلى لنا في هذا النص أن الفحولة صفة عزيزة، تعني التفرد الذي يتطلب: (أ) غلبة الشعر على كل صفات أخرى في المرء، فرجل مثل حاتم قد يقول قصائد ولكنه يعد في الاجواد ولا يسمى فحلاً لان الشعر لا يغلب عليه؛ وكذلك أشباه زيد الخيل وعنترة، فإنهم فرسان يقولون شعراً، وحسب.   (1) الموشح: 106. (2) الموشح 106، 119 - 120. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 (ب) وأن غلبة صفة الشعر تستدعي عدداً معيناً من القصائد التي تكفل لصاحبها التفرد، فالقصيدة الواحدة كما هي مرئية كعب بن سعد الغموي لا تجعل من صاحبها فحلاً. ويتفاوت هذا العدد، على قاعدة لا ندريها، فهو خمس قصائد أو ست أو عشرين. ونقل ابن رشيق نصاً عن الأصمعي يذكر فيه كيف يصبح الشاعر فحلاً، ويبين ذلك النص المجال الثقافي للشاعر ولكنه لا يضيف إليه عنصراً آخر من موهبة أو غيرها، قال الأصمعي: " لا يصير الشاعر في قريض الشعر فحلاً حتى يروي أشعار العرب ويسمع الأخبار ويعرف المعاني وتدور في مسامعه الألفاظ، وأول ذلك ان يعلم العروض ليكون ميزاناً له على قوله، والنحو ليصلح به لسانه وليقيم إعرابه. والنسب وأيام الناس ليستعين بذلك على معرفة المناقب والمثالب وذكرها بمدح أو بذم " (1) . وليس من شك في أن هذه الفحولة تعني طرازاً رفيعاً في السبك وطاقة كبيرة في الشاعرية وسيطرة واثقة على المعاني وإن لم يفصح الأصمعي عن ذلك كله. ومن غريب ان هذه الفحولة لا تلتبس بروح الفروسية لدى الأصمعي، فليست هي وحسب " قوة النفس " على الموت حين يعبر عنها في الشعر، غير أنها اتجهت هذا الاتجاه في المفهوم عند أبي عبيدة فقد كان إذا سمع شعر قطري بن الفجاءة قال: " هذا الشعر! لا ما تعللون به نفوسكم من أشعار المخنثين " (2) . فالفحولة بهذا المعنى ضد " التخنث "، وتلك عودة إلى مقياس خلقي ربما لم يقره الأصمعي، وإن كان هناك شبه ما بين صفتي " التخنث " و " اللين ". وأياً كانت الفروق القائمة بين تصور الأصمعي وأبي عبيدة للفحولة فإن صفة " القوة " هي المقياس المشترك لديهما ولدى سائر هؤلاء العلماء   (1) العمدة 1: 132. (2) أمالي المرتضى 1: 638. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 الرواة؛ غير أن اعتماد مقياس واحد للتمييز بين مختلف ألوان الشعر يعد خطراً على النقد وعلى التذوق معاً، ولابد من أن يضيق به الدارسون ذرعاً، حتى هؤلاء الرواة أنفسهم لن يحسنوا الصبر على لون واحد فيما يرونه. إذ ما أسرع ما يحدث تضييق المقاييس تقلباً في الذوق بين الحين والحين، فكيف إذا كان المعتمد مقياساً واحداً؛ وقد ذكر ابن قتيبة أن الأصمعي نفسه كان يروي قول الشاعر (1) : يا تملك يا تملي ... صليني وذري عذلي ذريني وسلاحي ثم ... شدي الكف بالغزل ويعلل روايته له واختباره " بخفة رويه "، فكيف يكون حال غير الأصمعي وهو لا يملك مقياساً يلزمه الإعجاب بالفحولة وعدم اللين. وقد صور الجاحظ هذا التقلب في الأذواق لدى الرواة أنفسهم فقال: " وقد أدركت رواة المسجديين والمربديين: ومن لم يرو أشعار المجانين ولصوص الأعراب ونسيب الأعراب والأرجاز الأعرابية القصار وأشعار اليهود والأشعار المصنفة، فإنهم كانوا لا يعدونه من الرواة. ثم استبردوا ذلك كله، ووقعوا على قصار الأحاديث والقصائد والفقر والنتف من كل شيء. ولقد شهدتهم وما هم على شيء أحرص منهم على نسيب العباس بن الأحنف، فما هو إلا أن أورد عليهم خلف الأحمر نسيب الأعراب فصار زهدهم في نسيب العباس بقدر رغبتهم في نسيب الأعراب، ثم رأيتهم منذ سنيات وما يروي عندهم نسيب الأعراب إلا حدث السن قد ابتدأ في طلب الشعر أو فتياني متغزل " (2) .   (1) الشعر والشعراء: 29. (2) البيان والتبين 3: 323. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 (3) العناية بالتشبيه: أورد الحاتمي في حلية المحاضرة (1) صورة مجلس في بلاط هارون الرشيد دار الحوار فيه حول أحسن التشبيهات عند الشعراء، ويبدو أن هذا المجلس جمع فعلاً أكثر الأبيات التي ميزها الاستحسان على مر الزمن، لما فيها من جمال التشبيه، ولو فرضنا ان هذا المجلس من نسج الخيال، لما استطعنا أن ننكر أن ذكر الأصمعي فيه غنما كان مبنياً على شهرته في هذه الناحية أيضاً، وقد ميز الأصمعي تشبيهات امرئ القيس مثل: كأن قلوب الطير رطباً ويابساً ... لدى وكرها العناب والحشف البالي كأن عيون الوحش حول خبائنا ... وأرحلنا الجزع الذي لم يثقب ولو عن ثنا غيره جاءني ... وجرح اللسان كجرح اليد وآثر الرشيد والفضل ويحيى تشبيهات أخرى، مثل تشبيه طرفة: يشق حباب الماء حيزومها بها ... كما قسم الترب المفايل باليد وتشبيه عنترة في الذباب وغير ذلك. ومما يدل على أن هذه المجموعة تمثل المختار من التشبيهات لا بالنسبة للأصمعي وحده بل بالنسبة لمن تقدمه من العلماء، قول الأصمعي نفسه (2) " اجمع أبو عمرو بن العلاء وخلف الأحمر و [] وهؤلاء أهل العلم بالشعر أن التشبيهات العقم التي انفرد بها أصحابها ولم يشركهم فيها غيرهم ممن تقدم ولا ممن تأخر أبيات معدودات أحدها قول عنترة   (1) الورقة 11 وما بعدها (النسخة رقم 590) . (2) الورقة: 13 من المصدر السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 في تشبيه حنك الغراب بالجلمين؟ الخ " ثم عد هذه التشبيهات العقم؛ فللأصمعي الفضل في توسيع نطاق هذا الموضوع الذي حام حوله العلماء قبله. قصور النقد عن متابعة التغير في الثقافة والشعر من ثم يمكننا أن نقول إن النقد في مطلع القرن الثالث كان قاصراً عن الوفاء بحاجة دارسي الأدب. لاتساع الآفاق الجديدة، وضيق أفق النقد. فقد ظل النقد حيث هو، بينا كان الشعر يشهد تغيراً كبيراً على يدي أبي نواس وأبي العتاهية وأبي تمام والعباس بن الأحنف وإضرابهم ممن سموا المحدثين، ولم يعد مقياس " القوة " صالحاً لأمثال العباس وأبي العتاهية، كما ان الحكم على شعر أبي تمام المسرف في " البديع " اصبح يتطلب مقياساً جديداً. ونشأت طبقة جديدة ن الكتاب عربية اللغة غير أنها ليست عربية الذوق، لأنها تعتمد في ثافتها على كليلة ودمنة وعهد أدرشير وكتاب مزدك (1) وما شاكل ذلك. وهي تمثل عصب الطبقة المثقفة. وتسللت الثقافة المنطقية الفلسفية إلى نفوس المثقفين - في بطئ - وبدا صراع بين المبنى الشعري والمبنى المنطقي. وكاد ان يتم الانفصال ثمة بين الشعر والنثر، وكثر التساؤل عن المقياس الصالح للمبنى النثري. وكان الجاحظ يمثل هذا الانفصال على نحو عملي، كما كان أمثال أبي تمام ثم ابن الرومي من بعده يحاولون عملياً الجمع بينهما. وزادت حركة الاعتزال من تقديس العقل واستتبع ذلك اللحاح على الوضوح في الفكرة، وكان النثر ارحب صدراً من الشعر لتقبل هذا المنحى. ولكن كان لابد لهذا الاتجاه من أن يتساءل عن منزلة المعنى بالنسبة إلى الشكل شعراً كان الموضوع أم نثرا، لصلة المعنى بالاتجاه العقلي.   (1) رسالة الجاحظ في الكتاب، انظر رسائل الجاحظ 2: 191 - 192. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 تباين الرواة في تصورهم لمهمة الشعر وزاد الأمر حدة اختلاف طبقة الرواة أنفسهم في تصورهم للمهمة التي يروى الشعر من اجلها، فكل فريق منهم يريده أن يخدم غاية محددة، دون الالتفات إلى الغايات الأخرى، وهذا على أنه تحيز في الذوق، يعد تسخيراً للشعر كي يخدم غايات عملية وفؤائد نفعية، لا عن طريق التأثير بل عن طريق المحتوى غير الشعري: (1) فالنحويون من هؤلاء الرواة لا يروون إلا كل شعر فيه أعراب. (2) والذين يجمعون الأشعار لا يهتمون غلا بكل شعر فيه غريب أو معنى صعب يحتاج إلى الاستخراج. (3) ورواة الأخبار لا يقبلون إلا على كل شعر فيه الشاهد والمثل. (4) وعامة الرواة لا يقفون إلا على الألفاظ المتخيرة والمعاني المنتخبة وعلى الألفاظ العذبة والمخارج السهلة والديباجة الكريمة وعلى الطبع المتمكن وعلى السبك الجيد وعلى كل كلام له ماء ورونق، وعلى المعاني التي إذا صارت في الصدور عمرتها وأصلحتها من الفساد القديم، وفتحت للسان باب البلاغة، ودلت الأقلام على مدافن الألفاظ وأشارت إلى حسان المعاني، وهؤلاء أكثرهم من رواة الكتاب (1) . وعلى الرغم من ان الطبقة الأخيرة هي التي تصطلح للنقد، فإنها لا تهتم بالشعر من حيث هو، بل تتخير منه ما يقوي قدرة أفرادها على البيان، وتجعل من الشعر وسيلة إلى إتقان الصياغة النثرية.   (1) البيان والتبيين 3: 323. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 الجاحظ يعيب الرواة في مجال النقد وقد قضى الجاحظ على هؤلاء الرواة - وهم أساتذته الذين درس عليهم - بحكم أخرجهم به من نطاق النقد الأدبي، وترك المكان خالياً ليحتله أي ناقد قدير. فقال: " ولقد رأيت أبا عمرو الشيباني يكتب أشعاراً من أفواه جلسائه ليدخلها في باب التحفظ والتذاكر، وربما خيل إلي ان أبناء أولئك الشعراء لا يستطيعون ان يقولوا شعراً جيداً لمكان أعراقهم في أولئك الآباء؛ ولو أن أكون عياباً ثم للعلماء خاصة لصورت لك في هذا الكتاب بعض ما سمعت من أبي عبيدة ومن هو ابعد في وهمك من أبي عبيدة " (1) . تحكم الذوق المحافظ في الرواة ولكن ما كان الجاحظ ولا غيره ليستطيعوا تغيير الذوق الأدبي في زمن يسير، بل ربما زادت الهجمات التي يوجهوها للرواة من تمسك بعضهم بما نشأوا عليه وألفوه، فوجد أولئك المتشبثون بما عرفوا، الذين تشدهم روح المحافظة إلى الموروث والذوق المألوف، على نحو يوحي بالتعصب المحض أحياناً، وفي طليعة هؤلاء ابن الأعرابي الذي نتخذه نموذجاً لهذا الموقف المحافظ، فقد قرا عليه أحد تلامذته أرجوزة أبي تمام: وعاذل عذلته في عذله ... فظن أني جاهل من جهله وهو لا يعرف نسبتها، فأمر تلميذه بان يكتبها له، قال التلميذ فقلت له: أحسنة هي؟ قال: ما سمعت بأحسن منها. فقلت: أنها لأبي تمام. فقال: خرق خرق (2) . وأمثلة هذه العصبية في طبقة المحافظين ثيرة، وهي ليست قاصرة على رفض شعر أبي تمام بل إنها تتناول كل شعر محدث؛ يقول   (1) البيان والتبيين 3: 324. (2) أخبار أبي تمام: 175 - 176 وتهذيب ابن عساكر 4: 22. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 الصولي في ابن العرابي " وكذلك فعل في النوادر (يعني كتاب النوادر) جاء فيها بكثير من أشعار المحدثين ولعله لو علم بذلك ما فعله " (1) . وينقل المرزباني عمن روى عن ابن الأعرابي قوله في شعر المحدثين عامة: " إنما أشعار هؤلاء المحدثين - مثل أبي نواس وغيره - مثل الريحان يشم يوماً ويذوي فيرمى به، وأشعار القدماء مثل المسك والعنبر كلما حركته أزداد طيباً " (2) . الجو مهيأ لظهور الناقد كان الجو إذن مهيأ للناقد الذي تتكافئ لديه صفتا القدم والحداثة، ويهيديه ذوقه إلى الجيد في كل منهما، فلا يتحيز لإحداهما على الأخرى، فهل وجد هذا الناقد؟ ذلك ما نريد أن نتبينه عند دراسة المحاولات النقدية في القرن الثالث.   (1) أخبار أبي تمام: 177. (2) الموشح: 384. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 المحاولات النقدية في القرن الثالث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 المحاولات النقدية في القرن الثالث قد يذهب الدارس إلى القول: إن النقد الأدبي لم يفز من النقاد بكتاب خاص مستقل في هذا القرن، ولكن يجب أن نتحفظ في إطلاق هذا الحكم فنقول: ذلك هو صورة ما وصلنا، إذ يبدو إننا يجب أن نفسح المجال لآثار قد تنفتح عنها باب المستقبل، وفي طليعة ذلك جهد الناشئ الأكبر في النقد. دور الناشئ الأكبر في النقد الخليل والناشئ الأكبر أبو العباس عبد الله بن محمد المشهور بابن شرشير كان شاعراً متكلماً نحوياً عروضياً، نقض علل النحويين وأدخل على قواعد العوض شبهاً ومثلها بغير أمثلة الخليل (1) ، ونظم قصيدة طويلة في فنون العلم تبلغ أربعة آلاف بيت ونقض المنطق في كتب كثيرة (2) ، وقد عاش فترة من حياته في بغداد ثم هاجر إلى مصر وتوفي فيها (سنة 293) (3) . وما كنا نعلم أن له مشاركة في النقد، لولا أن أبا حيان التوحيدي وصفه في كتاب " البصائر والذخائر " بالتفوق في هذا المضمار فقال: " وما أصبت   (1) ابن خلكان 3: 91. (2) ابن المرتضى: 92 - 93. (3) راجع في ترجمته أيضاً طبقات ابن المعتز: 417 وتاريخ الخطيب 10: 92 وبعض آرائه الكلامية في مقلات الإسلاميين: 184 - 185، 500 - 501 والفصل 4: 194، وقد نشر الأستاذ فان أس قطعتين من آثاره (بيروت 1971) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 أحداً تكلم في نقد الشعر وترصيفه أحسن مما (أتى) به الناشئ المتكلم، وان كلامه ليزيد على كلام قدامة وغيره وله مذهب حلو وشعر بديع واحتفال عجيب " (1) . وهذه شهادة قيمة لما نعرفه من ذوق أبي حيان ونفاذ نظراته وسداد رأيه. ويبدو أن الناشئ قد خص النقد الأدبي بالتأليف المفرد. لقول أبي حيان " وقال الناشئ أبو العباس في نقد الشعر " (2) . ولكن النقول التي اقتبها أبو حيان في القسم المنشور من كتاب البصائر تدل على نزعة أدبية خالصة في الكلام على الشعر، فلعل أبا حيان إنما اعجب فيها بتدفق الأسلوب وبراعة العرض. تعريفه للشعر. فالناشئ يقول في تعريف الشعر ووصفه: " الشعر قيد الكلام وعقال الأدب وسور البلاغة ومحل البراعة ومجال الجنان ومسرح البيان وذريعة المتوسل ووسيلة المترسل وذمام الغريب وحرمة الأديب وعصمة الهارب وعذر الراهب وفرحة المتمثل وحاكم الأعراب وشاهد الصواب " (3) . فهذا التعريف يشير إلى طبيعة الشعر (من حيث أنه مقيد بإيقاع ولذا فهو يتطلب براعة خاصة) وإلى ما يحققه من مهمات، فهو وسيلة الشاعر إلى استفتاح المغلق وعون للكاتب المترسل وسبيل للاعتذار وموطن للتمثل وإيراد الشواهد النحوية واللغوية.   (1) البصائر 2: 117. (2) نفسه: 273، وانظر: 619. (3) المصدر نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 نظرته إلى موضوعات الشعر فإذا تناول الناشئ موضوعات الشعر، تحدث عنها بهذا الأسلوب البياني فقال: " أول الشعر إنما يكون بكاء على دمن، أو تأسفاً على زمن، أو نزوعاً لفراق، أو تلوعاً لاشتياق، أو تطلعاً لتلاق، أو أعذاراً إلى سفيه، أو تغمداً لهفوة، أو تنصلاً من زلة، أو تحضيضاً على أخذ بثار، أو تحريضاً على طلب أوتار، أو تعديداً للمكارم، أو تعظيماً لشريف مقاوم، أو عتاباً على طوية قلب، أو متاباً على مقارفة ذنب، أو تعهداً لمعاهد أحباب، أو تحسراً على مشاهد أطراب، أو ضرباً لامثال سائرة، أو قرعن لقوارع زاجرة، أو نظماً لحكم بالغة، أو تزهيداً في حقير عاجل أو ترغيباً في جليل آجل، أو حفظاً لقديم نسب، أو تدويناً لبارع أدب " (1) . ويبدو أنه بعد أن تناول موضوعات الشعر على هذا النحو العام عاد يقف عند كل موضوع منها على حدة، فمما نقله عن أبو حيان متصلاً بموضوع الغزل والنسيب قوله: " ومخاطبات النساء تحلو في الشعر وتعذب في القريض لاسيما لغانية قد أطر الفتاء شاربها، وزوى الآباء حاجبها، وأشط الجمال قوامها، وأفرد الحسن تمامها، وانجل الهوى عينيها، وامرض الزهو جفنيها، وأرابت الصبابة ألفاظها، وفتر الرنو ألحاظها؟ الخ " (2) ، وهي قطعة طويلة، كان الناشئ يعدد فيها مقاييس الجمال، وما يلتفت إليه الشاعر من شئون الحسن إذا هو اخذ في الغزل، وما قد يصوره من المشاعر أو من الالتفاتات النفسية إذا هو تحدث عن مواقف الغرام وقصص الحب. وهذا منزع غريب في النقد - أن صحة التسمية - وليس في مقدورنا أن نحكم على كتاب الناشئ وجهده عامة، لأنا لا نملك إلا أربعة   (1) البصائر 2: 260 - 261. (2) البصائر 2: 619 - 621. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 اقتباسات، منها هذه الثلاثة، واقتباس رابع أورده ابن رشيق في " العمدة " (1) ، ولم يقطع انه لأبي العباس الناشئ، وقد أورده بالمعنى، للدلالة على تفضيل الشعر قال: العلم عند الفلاسفة على ثلاثة طبقات: أعلى وهو علم ما غاب عن الحواس فأدرك بالعقل أو القياس، وأوسط: وهو علم الآداب النفسية التي أظهرها العقل من الأشياء الطبيعية كالأعداد والمساحات وصناعة التنجيم وصناعة اللحون، وأسفل: وهو العلم بالأشياء الجزئية والأشخاص الجسمية فوجب، إذا كانت العلوم: أفضلها ما لم يشارك فيه الجسوم، ان يكون افضل الصناعات ما لم تشارك فيه الآلات، وإذا كانت اللحون عند الفلاسفة أعظم أركان العمل الذي هو أحد اسمي الفلسفة وجدنا الشعر اقدم من لحنه لا محالة، فكان اعظم من الذي هو اعظم أركان الفلسفة، والفلسفة عندهم علم وعمل ". ولسنا نقول شيئاً في هذه العبارة سوى إنها سفسطة قائمة على المغالطة. ويسمي ابن رشيق كتاب أبي العباس الناشئ " تفضيل الشعر " (2) ، ولا نعلم أهو الكتاب الذي سماه أبو حيان " نقد الشعر " أم هو كتاب آخر. اثر الاعتزال في النقد ومهما تكن طبيعة هذه المحاولة، فأن نسبتها إلى الناشئ الأكبر أمر هام لأنها تؤكد أن الدوائر الاعتزالية كانت من اكثر المجالات اعتصاماً بالنقد سواء منه ما تناول الخطابة وما تناول الشعر، وقد مكننا هذا الكشف من أن لا نقصر الحديث - إذا نحو ذكرنا اثر الاعتزال - على بشر بن المعتمر والجاحظ، بل زاد في أملنا في العثور على جهود اعتزالية أخرى، وقد اندفع المعتزلة نحو استبانة المقاييس البلاغية والنقدية لعاملين كبيرين: (1) أولهما أن البلاغة عنصر هام في الإقناع، والإقناع غاية الجدل   (1) العمدة 1: 8. (2) العمدة1: 134. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 الكلامي، ولهذا كان بعض علماء المعتزلة " معلمي " بلاغة، كما كان سفسطائي يونان، وعلى هذا النحو يجب ان نفهم دور بشر بن المعتمر وغاية صحيفته، بل أن نفهم دور المتكلمين " لان كبار المتكلمين ورؤساء النظارين كانوا فوق أكثر الخطباء وابلغ من كثير من البلغاء " (1) وقد شهد الجاحظ لثمامة بن أشرس المعتزلي بقوله: " وما علمت أنه كان في زمانه قروي ولا بلدي كان بلغ من حسن الإفهام مع قلة عدد الحروف، ولا من سهولة المخرج مع السلامة من التكلف ما قد بلغه. وكان لفظه في وزن إشارته، ومعناه في طبقة لفظه، ولم يكن لفظه إلى سمعك بأسرع من معناه إلى قلبك " (2) . وقد قررت صحيفة بشر أشياء ستصبح مشتركة بين نقد الخطابة ونقد الخطابة ونقد الشعر، منها اعتبار اللحظات التي يسمح فيها القول والابتعاد عن الكد والاستكراه، والملاءمة بين اللفظ والمعنى، فالمعنى الكريم يحتاج لفظاً كريماً؛ وليس ذلك بان يكون المعنى من معاني الخالصة وغنما " مدار الشرف على الصواب وإحراز المنفعة "، والبليغ التام من استطاع ان يفهم العامة معاني الخاصة. ثم لابد من الملاءمة بين المعنى والمستعمين، فلكل طبقة كلام ولكل حالة مقام (3) . وغدا التناسب بين المعاني والمستمعين هو مدار القول في البلاغة الخطابية، ومنه استمد تعريف البلاغة وإنها مطابقة الكلام لمقتضى الحال. وهذا المبدأ نفسه هو مدار الصحيفة الهندية: " لا يكلم سيد الأمة بكلام الأمة ولا الملوك بكلام السوقة؟ ومدار الأمر على إفهام كل قوم بمقدار طاقتهم والحمل عليهم على أقدار منازلهم " (4) وكذلك ألحت الصحيفة الهندية على   (1) البيان 1: 139. (2) البيان 1: 111. (3) انظر صحيفة بشر في البيان 1: 135 - 139. (4) البيان 1: 92 - 93. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 التناسب بين المعاني والألفاظ. فكانت في روحها متفقة مع ما أورده بشر ابن المعتمر. (2) وثانيهما: إيمان المعتزلة - رغم دراستهم للثقافات الأجنبية وتأثرهم بها - أن الشعر العربي مصدر من مصادر المعرفة الكبرى ووعاء لها، أما أنه مصدر من مصادرها فذلك واضح في مقدار ما يتيح لدارسيه من معارف في الحيوان والأنواء والنبات والأشربة وغير ذلك، وأما انه وعاء لها فلأنه يمكن بشر بن المعتمر من أن ينظم قصائد في الحيوان، ويمنح الناشئ وسيلة صالحة - في نظره - ليتحدث عن أنواع المعارف في أربعة آلاف بيت، ويتيح لصفوان الأنصاري شاعر المعتزلة ان يتحدث عن الفلزات وخيرات الأرض (الطين) رداً على بشار. وإلى جانب هذه الميزة الثقافية يضطلع الشعر بمميزات تتصل بحاجات النفس الإنسانية، ولهذا الشرف في منزلته فإنه حقيق بالتمحيص والدرس والنقد. تأثر النقد بالوقفة ضد الشعوبية ويمنح هذا الإيمان أصحابه قوة في وقفتهم ضد الشعوبية لأن الشعر في تصور هؤلاء المدافعين عن العرب تراث عربي خالص، ليس هناك ما يشبهه لدى الأمم الأخرى إلا شبهاً عارضاً، ومن هنا كان إيمان الجاحظ بالصلة بين الشعر والعرق، ثم بين الشعر والغريزة، ومن هنا كان الاتجاه نحو القول بالإعجاز في النظم، لكي يتميز القرآن عن كتب الحكمة الفارسية وأشباهها، وكذلك كان تمسك هؤلاء العلماء بالمصطلح البدوي في النقد، ثم تمسكهم بالطريقة التقليدية في بناء القصيدة - إلى حد ما - لان في كل ذلك دفاعاً عن الموروث العربي ضد الشعوبية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 تأثير الاعتزال في النقاد من غير المعتزلة وقد كانت هذه الموجة الاعتزالية - من جميع أطرافها - اكبر قوة فاعلة في تطور النقد الأدبي أثناء القرن الثالث، لا بأشخاص وحسب بل من خلالا المتأثرين بها، فقد تناول ابن قتيبة مبادئ صحيفة بشر والصحيفة الهندية من حديث حول اللفظ والمعنى، ومراعاة نفسية السامعين، والانقياد إلى اللحظات التي لا يوجد فيها ما يعترض الغريزة أي الحالة النفسية للمنشيء. والتكلف واسماح الطبع. وطبقها جميعاً على الشعر، ولكنه لم يقف منها موقف الناقل بل منحها من التحليل والبسط ما رفعها فوق مستوى النصائح الموجزة. وكذلك أخذ المبرد مفهوماته عن الاستعانة والتشبيه والإيماء من المدرسة الاعتزالية ومبادئها البلاغية. وأقبل ابن المعتز على بيان الجاحظ، فاستخرج منه مبحثه في البديع واستعار مصطلحه عن المذهب الكلامي. وهو نوع من البديع نشأ في جو اعتزالي. فإذا أضفت إلى ذلك جهود الجاحظ والناشئ، استبانت لك حقيقة القوة الدافعة الكبرى في نقد القرن الثالث. في تقرير أبعاده وفي تثبيت مصطلحه. كذلك فإن إلحاح المتأدبين من المعتزلة على اتخاذ الشعر وعاء للمعرفة، كان ذا اثر في توجيه النقد الأدبي، ولكن بطريقة سلبية، إذ صادف ذلك انكساراً في الذوق الأدبي بين الأجيال. وأصبحت الحاجة ماسة إلى نقد يعتمد تبيان الجمال لا المنفعة الثقافية في الشعر. ومن ثم وجدت تلك التلمسات النقدية لتحديد حقيقة الشعر " الجيد ". إذ ليس كل شعر " يعلم " الناس يستحق هذه الصفة، وليس كل شعر " يتعمق " المعاني يصلح أن يسمى شعراً. وأياً كان الأمر فقد تعددت المحاولات النقدية في القرن الثالث. وتدل الآثار التي وصتنا كاملة أو على شكل نقول متناثرة - أو ذكرت لنا أسماؤها دون أن تصلنا - على إنها تقع تحت فئات متباينة، نميز فيها خمساً: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 (1) الاهتمام بإبراز المعاني المشتركة بين الشعراء: وهو اهتمام أدى إلى تتبع السرقات، وسيكون من أكثر النواحي التي شغل بها النقاد على مر الزمن، ووسعوا فيها مجال القول، وتمحلوا لها الأسباب، ثم آل بهم الأمر إلى تصنيف السرقات في أنواع وضروب، وكان العكوف عليها يبرز مدى اطلاع الناقد أكثر مما يبرز إيمان ذلك الناقد بان الأخذ قد تم على النحو الذي يقرره، وسوف نقف عندها وقفات طويلة أو قصيرة ثم ندرس فيها طبيعة الظاهرة العامة. ومن صور الاهتمام بها في القرن الثالث: كتاب سرقات الشعراء وما اتفقوا عليه لابن السكيت (- 243) وكتاب إغارة كثير على الشعراء للزبير بن بكار (- 256) وكتاب سرقات البحتري من أبي تمام وكتاب سرقات الشعراء لأحمد بن أبي طاهر طيفور (- 280) (1) . ولو سألنا أنفسنا ما هي الحاجة التي دفعت إلى هذا اللون من الاهتمام في ذلك القرن لوجدنا أن الانشغال بقضية المعنى، تلك التي أثارها الجو الاعتزالي العقلي، ذو صلة وثيقة بتوجيه النقاد حينئذ إلى رصد المعاني المشتركة بين الشعراء واخذ اللاحق بينهم من السابق، يستوي في ذلك القدماء والمحدثون. (2) النقد الضمني: كادت الشكوى أن تكون عامة من ان شعر المحدثين لا يجد الناقد الذي يبرزه للناس ويقربه إليهم. وأنه لم ينل حظ الشعر القديم الذي شغل به الرواة والعلماء وذللوه على مر الزمن (2) . ولما كنا نقل الشعر يقوم على الرواية عن الشيوخ تعامى العلماء الشعر المحدث لأنهم " لم يجدوا في شعر المحدثين منذ عهد بشار أئمة كأئمتهم ولا رواة كرواتهم " (3) ولذلك   (1) الفهرست: 146. (2) أنظر أخبار أبي تمام: 14. (3) المصدر نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 تهربوا من عجزهم عن الخوض في ذلك الشعر إلى الطعن عليه، وحسبك أن تجد عالماً ناقداً مثل ثعلب في هذا القرن يقول لبني نيبخت: " أنا أعاشر الكتاب كثيراً وخاصة أبا العباس ابن ثوابة واكثر ما يجري في مجالسهم شعر أبي تمام ولست أعلمه فاختاروا لي منه شيئاً "، وكان ينشد البيت من شعره ويقول ما أراد بهذا؟ فيشرح له (1) . ولذلك رأى بعض المشتغلين بالشعر ممن لا يقفون موقف العداء من الشعر المحدث أن يبرزوه للناس بعمل مختارات منه، فكانت من ذلك كتب الاختيار التي ظهرت في ذلك القرن، وهي كتب لا تقوم على أسس نقدية صريحة، بل تعتمد على ذوق صاحبها، وذوقه يرتد إلى " مسبقات " ضمنية توجهه في أخذ ما يثبته وترك ما ينفيه، وليس لدينا من هذه الكتب ما يمكننا من استنباط طبيعتها العامة او طرق أصحابها، فمن ذلك كتاب " البارع " وهو اختيار شعر المحدثين لأبي عبد الله هارون بن علي. وكتاب اختيار الشعراء الكبير له أيضاً وقد أتم منه شعر بشار وأبي العتاهية وأبي نواس (2) . ولأحمد بن أبي طاهر طيفور عدد من كتب الاختيار منها: شعر بكر بن النطاح، ودعبل، ومسلم، والعتابي، ومنصور النمري، وأبي العتاهية، وبشار وغيرهم (3) وللمبرد كتاب " الروضة " أختار فيه شعر المحدثين. وسيتسع باب الاختيار أيضاً على سبيل الاحتذاء أو رغبة في تقريب الفائدة، ولكن دواعيه في القرن الثالث متصلة اتصالا وثيقاً بالحركة النقدية.   (1) المصدر نفسه: 15 - 16. (2) الفهرست: 144. (3) الفهرست: 146 - 147. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 حماسة أبي تمام وقد خالف أبو تمام (- 231) في تأليف كتاب " الحماسة " هذه الروح المتوجهة نحو الشعر المحدث، لأن ما أورده في كتابه من شعر المحدثين قليل، ولا ريب في أن موقفه يثير إعجابنا ودهشتنا معاً، فهو شاعر ذو طريقة خاصة في الشعر يهاجمها كثير من النقاد والمتذوقين حينئذ. فلا يحاول أن يدافع عن هذه الطريقة بالتعصب لما قاربها أو أشبهها من شعر معاصريه وإنما هو يعمد إلى الشعر القديم، فيستخرج منه من المقطعات التي يحتاج إلى إثباتها إلى تذوق أصيل. معرضاً عن القصيدة في الأكثر. وقد دلت مختاراته على أنه يستطيع أن يتجاوز طريقته الشعرية وما فيها من طلب للصور ومن إغراب في توليد المعاني واستغلال للذكاء الواعي إلى شعر مشمول بالبساطة وشيء غير قليل من العفوية والصدق العاطفي المباشر، ثم أن لا يطلب ذلك فيما " ذله " العلماء من شعر المشهورين، وإنما يعمد - في الأغلب - إلى أناس مغمورين من شعراء الجاهلية والإسلام، دون مثال يحتذيه سوى الاعتماد على الذوق الذاتي. فأن المفضل الضبي والأصمعي من قبله إنما عمدا في اختيارهما إلى القصيدة، معتمدين على ما كانت الرواة قد استخرجته ونوهت به من شعر المقلين، فكان أبو تمام بذلك رائداً كثر مقلدوه دون أن يبلغوا شأوه. وقد أتيح له أن يهتدي إلى ابتكار جزئي حين جمع ضروباً من الفنون الشعرية - مثل وصف المعركة، والفخر بالشجاعة. وذكر الفرار من الحرب؟ الخ - تحت فن جديد سماه " الحماسة " وبه سمي الكتاب كله. وقد كان البون بعيداً حقاً بين اختيار أبي تمام وطريقته الشعرية. ولكن بدلاً من أن يلمح بعض النقاد أصالة الذوق المنصف لديه اتهموه بأنه طوى أكثر ما أحسنت فيه الشعراء ولم يدرجه في الحماسة وأبقاه لديه ليسرق معانيه منه فتخفى سرقاته من النقاد (1) .   (1) هذه التهمة وجهها له أبن المعتز (الموشح: 478) ، وقد حاول أبن الأثير من بعد إنصاف أبي تمام فتحدث عن براعته في الاختيار وعن المآخذ القليلة التي وجدها في الحماسة (راجع الفصل الخاص بالنقد في مصر والشام والعراق أثناء القرن السابع) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 حماسة البحتري ولقد حاول البحتري (284) محاكاة صنيعه، فورد مورداً مختلفاً، وأكثر من الأبواب، ولم يتبين الحاجة إلى جمع الفنون المتشابهة في باب، وغلبت عليه النزعة الاخلاقية، بينما كان المحمل الضمني عند أبي تمام " جمالياً ". ولا تمثل حماسة البحتري إزاء طريقته في الشعر " تكامل " التشابه أو التناظر، بينا تكون ماسة أبي تمام وطريقته " تكامل " التوازي بين شعره وأشعار الحماسيين. المنظوم والمنثور لابن طيفور إن الوحدة المعتمدة في اختيار كل من أبي تمام والبحتري، في الغالب، هي المقطوعة، أو عدد أبيات منتخبة من قصيدة طويلة؛ وفي هذا يختلفان عن معاصرهما ابن أبي طاهر طيفور صاحب كتاب " المنظوم والمنثور "، فهو أولاً لم يقصره على الشعر دون النثر، ثم إن القاعدة في اختياره ثانياً هي تمييز النظم والنثر على درجتين: (أ) المفرد في الإحسان. (ب) المشارك بعضه بعضاً في الإحسان؛ وقد شارك صاحب الحماسة في وقوفه عند موضوع " الشجاعة والحرب " كما وافق البحتري في إيراد ما قيل في الأخلاق المذمومة والمحمودة؛ وفي تخصيص فصل للنساء (1) ، ويدل القسم المتبقي من هذا الكتاب على أن ابن طيفور احتذى حذو القصائد الطوال لدى الرواة فأورد في كتابه قصائد طويلة انفردت كل واحدة منها بالموضوع الذي تناولته أو بعدد من الموضوعات، فكتابه يشتمل، على " كل قصيدة ورسالة وصفة لا يوجد لشيء منها مثل ولا اشترك الناس في وصفتها ".   (1) خصص البحتري في حماسته فصلا لمراثي النساء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 ما هي القصائد الطوال؟ وهذا المنهج اضطره إلى أن يقف عند حقيقة القصائد الطوال، فيكشف لنا عن جوانب جديدة تتعلق بها، ومن هذا نفهم انه حتى القرن الثالث لم تكن تلك القصائد تسمى معلقات (1) ، إذ لم ترد هذه اللفظة في كتاب " المنظوم والمنثور " وقد أورد عن الحرمازي ثلاث روايات نسبها الحرمازي إلى غيره في ماهية تلك القصائد، وفي من جمعها، وتقول إحدى تلك الروايات إن الذي جمع القصائد السبع هو عبد الملك بن مروان نفسه " ولم يكن في الجاهلية من جمعها قط " وهي قصيدة عمرو بن كلثوم والحارث بن حلزة وسويد بن أبي كاهل (بسطت رابعة الحبل لنا) وأبي ذؤيب (أمن المنون وريبها تتوجع) وعبيد بن الأبرص (أن تبدلت من أهلها وحوشا) وعنترة (يا دار عبلة بالجواء تكلمي..) ثم أرتج على عبد الملك وهو يختارها فدخل عليه ابنه سليمان وهو يومئذ غلام فانشده قصيدة أوس بن مغراء (محمد خير من يمشي على قدم) ، فقال عبد الملك وتعصب لها " مغروها " أي أدخلوا قصيدة ابن مغراء فيها؛ ويقول الحرمازي أيضاً: إن للعرب أربع قصائد جمعت كل منها موضوعات كثيرة منها النسيب والصفات والمواعظ والأمثال والفخر، ثلاث منهن ربعيات وواحدة مضرية، فالمضرية قصيدة زهير، والربعيات قصيدة طرفة والحارث بن حلزة وسويد؛ أما الرواية الثالثة فتقول إن معاوية هو الذي أمر الرواة بأن ينتخبوا قصائد يرويها ابنه فاختاروا له اثنتي عشرة قصيدة: لامرئ القيس وطرفة وزهير ولبيد وعمرو وعبيد (إن تبدلت من أهلها) وسويد والنابغة وعنترة، قال، وأظن قصيدة الأعشى فيها وقصيدة حسان (أسالت رسم الدار أم لم تسأل) (2) . وقد   (1) بعد سنوات يحدثنا ابن عبد ربه (العقد 5: 269) أن تلك القصائد علقت بين أستار الكعبة ولا ندري من أين جاء ابن عبد ربه بهذه الرواية. (2) لم يعد هنا إلا إحدى عشرة قصيدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 يستنتج من هذه الروايات التي أوردها ابن طيفور أن عملية انتخاب عدد معين من القصائد يتراوح بين 7 - 12 قصيدة قد قام به غير واحد، وان التمحيص قد تناول المختارات فأسقط منها ما أسقط، وأثبت ما اثبت، وأن الإجماع تم حول سبع قصائد طوال لا دخل للجاهليين باختيارها (1) وهي: قصيدة امرئ القيس وزهير وطرفة وعمرو وعنترة ولبيد والحارث ابن حلزة، ثم حاول بعضهم أن يلحق بها قصيدة عبيد (أقفر من أهله ملحوب) وقصيدة الأعشى وقصيدة النابغة. وقد حاول ابن طيفور أن يبين الأسس النقدية في اختيار تلك القصائد (وخاصة السبع التي نالت الإجماع) ، ومما لا ريب فيه ان طول تلك القصائد كان أبين تلك الأسس، ولكن ابن طيفور يورد تعليلات أخرى لا ندري هل كانت قائمة في أذهان الذين اختاروا تلك القصائد أو إنها نتاج تصوره الذاتي، فقد جعل (1) اشتمال القصيدة على معان كثيرة لا مثل لها، مثل قصيدة امرئ القيس وزهير (2) وانفرادها بمحاسن لم تجئ في غيرها وإطلاق خاتمة بليغة فيها كقصيدة طرفة. (3) وانفرادها في الوزن والعروض كقصيدة عبيد - جعل هذه الأمور عناصر في الحكم على الشعر الجيد؛ وإذا كانت هذه العناصر حقاً تفرد قصيدة بالاعتبار، فإنها لا تفردها بالجودة الفنية، فالانفراد في الوزن والعروض بدعة لا تجعل القصيدة شيئاً متفردا في خصائصها الأخرى؛ ومن اللافت للنظر أن يقول ابن طيفور في قصيدة لبيد " إنها عين شعر صاحبها " - وهذا شيء نسبي خالص؛ وحين يحكم على قصيدة الأعشى بأنها " ليست إلى القصائد الأولى ولا منها في شيء " فإنه لا يعلل لم كان ذلك كذلك. " المفرد " قصيدة كان أو مقطوعة أو بيتاً هو هدف ابن طيفور في   (1) رغم هذا أورد الحرمازي في بعض رواياته عمن قال إن تلك المطولات كان يصلي بهن في الجاهلية، وهي من شطحات الخيال فيما يبدو. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 اختياره، ولهذا أخذ يورد المفردات، مثل قصيدة جراد العون النميري التي مطلها: ذكرت الصبا فانهلت العين تذرف ... وراجعك الشوق الذي كنت تعرف فإنها " من الشعر المقدم في الغزل الذي لا نعرف له مثلاً في جاهلية ولا إسلام " وقصيدة عبد نبي الحسحاس: عميرة ودع إن تجهزت غاديا ... كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا " فهي من النسيب الذي لا لأحد مثله ولا مثل ما جمع من المعاقبة فيه "؛ كما أن قصيدة عمر بن أبي ربيعة " آمن آل نعم أنت غاد فمبكر " من القصائد التي لا نظير لها في النسيب والمعاني المستظرفة؟ وهكذا مضى ابن طيفور ينظر في اختياره إلى ما يعز نظيره أو ينعدم دون ان يكون لديه معيار واضح إلا ذوقه الخاص، أو ما حام حوله ذوق النقاد القدماء، كقصيدة لقيط بن يعمر ولامية العرب للشنفري. موقف ضد الاختيار إن الاختيار مظهر طبيعي لأنه يعتمد على قاعدة " التفاوت " في القصيدة أو في شعر الشاعر الواحد أو مجموعة من الشعراء، ولكن حين يبلغ التقدير لشاعر ما درجة تشبه التقديس، يصبح شعره غير قابل للأختيار، أي يصبح جميع ما قاله مختاراً، ولكن مثل هذا الأمر نادر الوقوع؛ ولعل حادثة واحدة نموذجية تشير إلى ندرته، فإن ابن أبي طاهر طيفور كان يحاول صنع اختيار لشعر امرئ القيس، وبسبب انشغاله في تحقيق تلك الغاية انقطع أياماً عن مجلس أبي الحسن علي بن هارون المنجم، فلما عاد إليه عاتبه على غيابه فكر له انه كان متشاغلاً باختيار شعر امرئ القيس، فأنكر أبو الحسن ابن المنجم عليه لك وقال له: " أما تستحي من هذا القول؟ وأي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 مرذول في شعر امرئ القيس حتى تحتاج إلى اختياره " (1) ؟ وهذا الغضب من ابن المنجم قد يكون له ما يسوغه لو أن كل اختيار فإنما يتم بالمفاضلة بين المقبول والمرذول، غير أن الاختيار يكون بين أشعار متفاوتة في درجات الجودة نفسها أيضا، وإذ أدرك ابن المنجم ذلك، كف عن اعتراضه (2) . 3 - إعادة صياغة النظريات القديمة: قد رأينا كيف أن جهد العلماء والرواة وقف أحياناً عند حدود البيت المفرد، أو تعداه إلى استبانة صفة عامة في طبيعة الشعر كاللين أو الفحولة، وما من ريب في أن تلك الأحكام كانت قاصرة عن ان تفي بحاجة النقد، فهي لا تستطيع أن تفسر القصيدة ولا تستطيع أن تمايز بين المستويات المختلفة في ضروب الفنون الشعرية من غزل ومدح وهجاء؟ الخ، وهي إلى ذلك كله تغفل جوانب كثيرة في الشعر يمكن للنقد أن يقف عندها وقفات طويلة. غير أن بعض نقاد القرن الثالث كانوا مخلصين للموروث الذي تلقوه عن أساتذتهم، وكانوا يرون أن الحل للمشكلات الأدبية هو تطوير النظريات التي لقنوها عن أولئك الأساتذة وإعادة صياغتها بحيث ينفتح صدرها للشمول جميع أنواع الاعتراضات الحادثة أو شمول أكثرها، متجاوزين بذلك تزمت ابن الأعرابي وإضرابه، لكن دون ان يبارحوا دائرة الشعر القديم، وفي طبيعة هؤلاء النقاد محمد بن سلام الجمحي وأبو العباس ثعلب.   (1) الموشح: 43. (2) انظر الفصل الخاص بابن سناء الملك حيث يعرض عن اختيار شعر ابن الرومي، لسبب آخر غير الذي أثاره ابن المنجم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 محمد بن سلام الجمحي (- 232) ابن سلام يهتم بدور الناقد كان ابن سلام من أول من نص على استقلال النقد الأدبي فأفرد الناقد بدور خاص، حين جعل للشعر - أي بنقده والحكم عليه - " صناعة " يتقنها " أهل العلم بها "، مثلما أن ناقد الدرهم والدينار يعرف صحيحهما من زائفهما بالمعاينة والنظر؛ ولعله كان يرد بهذا على من يتطاولون إلى الحديث في نقد الشعر من معاصريه وهم لا يملكون ما يسعفهم على ذلك، ولكنه بدلا من أن يصرح بالهجوم عليه وجه نقده إلى ابن إسحاق كاتب السيرة " الذي افسد الشعر وهجنه وحمل كل غثاء منه " (1) ، وشمل بحملته جميع " الصحفيين " الذين يأخذون علمهم من الدفاتر " ولو كان الشعر مثل ما وضع لابن إسحاق ومثل ما رواه الصحفييون ما كانت غليه حاجة ولا فيه دليل على علم " (2) . وفي هذا نقل ابن سلام ميدان الخصومة بين الشعر القديم والمحدث وجعلها حول الناقد البصير وغير البصير، إذ لم تكن المشكلة في نظره مشكلة قدم وحداثة، وإنما كانت تربية القدرة على الحكم لفرز الأصيل من الدخيل في هذا الميدان، ومتى تحقق وجود " الناقد " سهل بعدئذ أن نصل إلى الصواب. ولكن ابن سلام يمنح الناقد البصير " سلطاناً مطلقاً " فمتى قال رأيه في أمر وجد على الآخرين ان يأخذوا بحكمه لانه لا يحسنون ما يحسنه.   (1) الطبقات: 8. (2) نفسه: 11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 الناقد وقصة الانتحال ولهذا تصدى ابن سلام في مقدمته إلى ضروب الانتحال وأسبابه فدون في ذلك نظرات لم يطورها من جاء بعده من النقاد ومؤرخي الأدب العربي، فمن ذلك قوله: " فلما راجعت العرب رواية الشعر (بعد تشاغل العرب عنه بالجهاد والفتوحات) استقل بعض العشائر شعر شعرائهم، وما ذهب من ذكر وقائعهم، وكان قوم قلة وقائعهم وأشعارهم وأرادوا أن يلحقوا بمن له الوقائع والأشعار، فقالوا على السن شعائرهم. ثم كانت الرواة بعد فزادوا في الأشعار التي قيلت؛ وليس يشكل على أهل العلم زيادة الرواة ولا ما وضعوا ولا ما وضع المولودون، وإنما عضل بهم أن يقول الرجل من أهل بادية من ولد الشعراء أو الرجل ليس من ولدهم فيشكل ذلك بعض الأشكال " (1) واتهم حماداً الراوية بأنه " كان ينحل شعر الرجل غيره وينحله غير شعره ويزيد في الأشعار " (2) . فكرة الطبقات وقد بنى ابن سلام كتابه، كما يدل عنوانه على فكرة " الطبقات "، فذكر من شعراء الجاهلية عشر طبقات في كل طبقة أربعة شعراء، ثم اتبعهم بذكر ثلاث طبقات أخرى هي: طبقة أصحاب المراثي، وطبقة شعراء القرى العربية، وطبقة شعراء اليهود؛ ثم جعل شعراء الإسلام في عشر طبقات أخرى، منتهياً بذلك إلى أواخر العصر الأموي، ولم يلق بالا إلى من نشأ بعدهم من شعراء حتى عصره.   (1) الطبقات 39 - 40. (2) الطبقات: 41. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 الأساس في قسمة الشعراء إلى طبقات ولابد لمن يطالع هذه القسمة من أن يتساءل: على أي الأسس أقام ابن سلام هذا التمييز والتدريج؟ يبدو أن " الفحولة " هي الأساس الأول في ذلك، فكل من ذكرهم في كتابه شعراء فحول، صرح بذلك لدى ذكره شعراء الجاهلية " فأقصرنا من الفحول المشهورين على أربعين شاعراً " ولم يصرح به عندما ذكر طبقات الإسلاميين، لكنه قد يستنتج من طبيعة عمله في الكتاب. وهنا يتجلى لنا كيف أن ابن سلام وسع من حدود فكرة الأصمعي وأعاد صياغتها، فقد كان الأصمعي يقسم الشعراء إلى فحول وغير فحول، فجاء ابن سلام وقال: هم فحول إلا أن الفحولة تتفاوت - كان الأصمعي لا يعد الأعشى وكعببن زهير في الفحول، فجاء ابن سلام ووضع الأعشى في الطبقة الأولى من فحول الجاهلية وكعباً في الثانية، وكان الأصمعي يقول في الأسود بن يعفر أنه يشبه الفحول، ولكن ابن سلام يقول: " وكان الأسود شاعراً فحلاً؟ " (1) . أما الأساس الثاني فهو تقارب كل أصحاب طبقة في أشعارهم: " فألفنا من تشابه شعره منهم إلى نظرائه "، وهذه قاعدة هامة، ولكنا اليوم إذا احتكما إلى مقاييسنا النقدية لم نجد بين شعر الأعشى وشعر زهير أو النابغة شبهاً كبيراً، وترددنا في ان نضع أبا ذؤيب الهذلي مع النابغة الجعدي في طبقة واحدة، كما فعل ابن سلام، للتباين بين الشاعرين وأشعارهما. وأحياناً يكون هذا التشابه الذي اعتمده ابن سلام تشابههاً في الموضوع كأنه يجمع أصحاب المراثي في طبقة واحدة، وان يضع ابن قيس الروقيات والاحوص وجميل بثينة ونصيباً معاً لأنه يشتركون في الغزل، وان يجمع بين الرجاز في فئة. لك وجه من التشابه محتمل، كما أن حشد شعراء كل قرية ينظر إلى صلتهم ببيئة واحدة ولك مقياس لا ضرر منه، وجمع شعراء جنس   (1) الطبقات: 123. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 واحد معاً ينظر إلى صلات مشتركة كثيرة. ٍ ولكن سائر التقسيمات مبهمة لا نستهدي فيها إلى أسس واضحة أو متينة. ويبدو التصنيف الرباعي قائماً على نوع من التحكم في العدد. بل ان ابن سلام يصرح بلك حين يحدثنا انه وضع أوس بن حجر في الطبقة الثانية مع انه يستحق أن يكون في الأولى غير أن اقتصاره على أربعة في كل طبقة هو الذي اضطره إلى ذلك (1) . وهناك مبدأ اعتمده الأصمعي من قبل فجعله ابن سلام أحد الأسس في التدريج الطبقي، فقد كان الأصمعي يرى أن الفحول لا تتحقق بقصيدة أو عدد قليل من القصائد، ولابد من اعتبار " الكم " في إلحاق الشاعر بالفحول، وهذا مبدأ اعتمده ابن سلام حين تحدث الطبقة السابعة من فحول الجاهلية فقال: " أربعة رهط محكمون مقلون وفي أشعارهم قلة فذاك الذي أخرهم " (2) ، وإذا سأل ابن سلام كيف تقدم طرفة وعبيد ابن الأبرص ولم يصح لهما إلا عشر قصائد قال: " وإن لم يكن لهما غيرهن فليس موضعهما حيث وضعا من الشهرة والتقدمة " ولكن يفترض ابن سلام هنا أن شهرتهما وتقدمهما يوجبان أن يكون لهما شعر كثير إلا أن أكثره ضاع، وضياعه لا يحرمهما التقديم. وبقي من مقاييس الأصمعي مقياس " اللين "، وقد كان هذا المقياس حاضراً في ذهن ابن سلام غير أنه لم يقرنه بالخير، بل أنه تحدث عن تعهر الشعراء دون ان نحس أنه يربط هذا التعهر بقوة الشعر أو ضعفه، ولكنه اتخذ " اللين " أداة للتوقف في أخذ الشعر والاسترابة فيه، ذلك شانه عندما تحدث عن شعراء قريش فقال: " واشعار قريش أشعار فيها لين فتشكل بعض الأشكال " (3) ، وبدلاً من أن يقول في شعر حسان ما قاله الأصمعي   (1) انظر الطبقات: 81. (2) الطبقات: 134. (3) الطبقات: 204. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 من أن شعره لان بسبب الخير، أوحى إلينا أن هذا اللين إنما هو سمة تدل على الانتحال فقال له حسان: " وهو كثير الشعر جيده وقد حمل عليه ما لم يحمل على أحد؟ وضعوا عليه أشعاراً كثيرة لا تنقى " (1) ، وكأنه يقول: ان اللين ليس من قبل الخير وإنما هو من قبل الوضع. تلك صورة موجزة لما أداه ابن سلام في تاريخ النظيرة القديمة، ومنها يتضح لنا كيف عاد إلى المبادئ القديمة فمنحها شكلاً جديداً ووسع منها أو غير بعض التغيير في مدلولها. وحاول أن يخلق نظاماً جديداً لدراسة الشعراء، كانت بذوره موجودة في الصراع حول الأربعة الكبار من شعراء الجاهلية، والثلاثة الكبار (جرير والفرزدق والأخطل) من شعراء الإسلام، ولكن ابن سلام لم يتجاوز التصنيف العام وبعض الأحكام الموجزة على كل شاعر. أن نظرية الطبقات جليلة حقاً ولكنها تظل قوالب إذا هي لم تعتمد الدراسة التحليلية وتبيان الأسس المشتركة والسمات الغالبة، ومن ثم كانت نظرية صعبة، آثر النقاد ومؤرخو الأدب من بعد تحاشيها فراراً من تلك الصعوبة. ثعلب (- 291) وكتاب " قواعد الشعر " موقع ثعلب في القرن الثالث لم يضرب ابن سلام بعيداً في حياة القرن الثالث سناً أو ثقافة، بل كان تلميذاً لكبار طبقة الرواة أمثال الأصمعي وأبو زيد الأنصاري وأبي عبيدة وخلف الأحمر وغيرهم (2) ، ولو سأل كيف كان يتصور الناقد البصير الذي يجب أن يأخذ الناس أحكامه مأخذ التسليم لأشار إلى خلف الأحمر. ولكن الأمر لم يكن كذلك في حال ثعلب، فقد توفي سنة 291هـ؟، وعاشر طبقات   (1) الطبقات: 179. (2) راجع أسماء شيوخه في مقدمة الأستاذ محمود محمد شاكر علي الطبقات ص: 12. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 سوى طبقة العلماء الذين أخذ عنهم، واتسعت الثقافات في أيامه، وكثر الجدل حول الشعر المحدث، وشهد جانباً من عصبية أستاذه ابن الأعرابي للقديم، ومع ذلك فان كتاب " قواعد الشعر " الذي يحمل اسمه لا يعدو أن يكون عودة إلى الأحكام التي سبقت ابن سلام والأصمعي، وليس فيه أي صدى لذلك الجيشان الذي حفل به القرن الثالث. وتفسير ذلك أن ثعلباً كان عالماً في النحو واللغة، وأنه كان يعرف حده فيقف عنده، ولا يدعي ما لا يعرف، وقد شهد له تلميذه الصولي كما شهد للمبرد بأنهما ما " ادعيا التقدم في علم شعر المحدثين؟ وتمييز نادره ووسطه وما كان دوناً منه؟ ومعرفة استراقات الشعراء وأخذ بعضهم من بعض، والمحسن منه في ذلك والمسيء " (1) . وبينا يثني الصولي عليهما بالعلم والتواضع ينفي عنهما ما يؤهلهما أن يكونا ناقدين، في مفهوم ذلك العصر. الشك في نسبة قواعد الشعر إلى ثعلب ولولا القول بان " قواعد الشعر " قد يكون من تأليف ثعلب لما صح أن ندرجه بين النقاد، بل ان نسبة الكتاب إليه محل شك - فيما أرى - إذ لم تشر المصادر القديمة إلى كتاب له بهذا الاسم، وقد كانت غاية جهده في رواية الشعر أن يفسر ما فيه من غريب، وليس له في " مجالسه " تعليق نقدي واحد، وإذا تحدث عن الشعراء أورد تعليقات مجملة سريعة مثل قوله: " الفرزدق وجرير أشعر من ذي الرمة، وذو الرمة اشعر من كثير، وكثير أشعر من جميل " وقوله: " زهير أشعر شعراء الجاهلية والحطيئة بعده، وجرير أشعر شعراء الإسلام وبعده المرار الأسدس، وجرير في صدر الإسلام كزهير في صدر الجاهلية " (2) .   (1) أخبار أبي تمام: 9. (2) طبقات الزبيدي: 162 - 165. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 وسواء أصبحت نسبة الكتاب إلى ثعلب أم لم تصح فإنه يغلب على الظن أنه لمؤلف من القرن الثالث، لك لان اضطراب الأنواع والتقسيمات وعدم وضوح منهج معين في تبويب الكتاب يدل على أن مؤلفاته لم يدرك القرن الرابع، ولا قرأ لابن طباطبا أو لقدامة بل ولم يعرف " بديع " ابن المعتز، في أواخر القرن الثالث. غير أن مما يلفت النظر اشتراكه مع قدامة في عد " التشبيه " أحد فنون الشعر، ففنون الشعر في كتاب " القواعد " هي: المدح والهجاء والمراثي والاعتذار والتشبيب والتشبيه واقتصاص الأخبار (1) ؛ وعند قدامة: المديح والهجاء والمراثي والتشبيه والوصف والنسيب (2) . ونحن نعلم ان الصلة بين ثعلب وقدامة صلة وثيقة، ولو كان الكتاب من تأليف فلعلنا لم نكن لنجد هذا التباين الشديد بينهما في المصطلحات. الطابع العام لكتاب قواعد الشعر ويتسم كتاب قواعد الشعر بغرابة المنحى وشذاجته معاً، وبالتفرد في كثير من المصطلح النقدي. فلن تجد ناقداً سوى مؤلف هذا الكتاب يجعل قواعد الشعر هي: الأمر والنهي والخبر والاستخبار، وأن فنون الشعر من مدح ورثاء واعتذار. وغيرها إنما تتبع من هذه القواعد، ثم يجمع إلى هذا كله حديثاً عن لطاقة المعنى وعن حسن الخروج ومجاورة الأضداد والمطابقة ثم عن جزالة اللفظ واتساق النظم، كل ذلك في سطور وبانتقال مفاجئ من موضوع إلى آخر.   (1) قواعد الشعر: 27. (2) نقد الشعر: 23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 عودة إلى المصطلح البدوي وإذا كان ابن سلام قد تناول مقاييس الأصمعي بالصياغة الجديدة فإن مؤلف " قواعد الشعر " قد عاد إلى الخليل بن أحمد، فتحدث عما يخل باتساق النظم من سناد وإقواء وأكفاء وإجازة وايطاء، وذلك شيء قد وقف عنده ابن سلام نفسه وسيقف عنده ابن قتيبة وقدامة وغيرهما. ولو اقتصر كتاب " قواعد الشعر " على هذا لما كانت عودته إلى الخليل ذات شأن، ولكن عدة الخبر والاستخبار والأمر والنهي قواعد للشعر إنما هو عودة إلى الأصول النحوية التي وضعها الخليل. واهم من ذلك كله أنه حاول أن يستوحي روح الخليل في صياغة مصطلح مبتكر، فإذا كان الفراهيدي قد نظر إلى الخباء في وضع مصطلح العروض، ووقف الأصمعي عند الفحل من الجمال في تصور الشاعرية فما أجراه هو أن يقف عند الفرس، ولاول مرة نجد مصطلحاً نقدياً غريباً لم يعش إلا في كتاب " قواعد الشعر "؛ وربما استوحى واضعه قول ابن الأعرابي من قبل في وصف القافية: " استجيدوا القوافي فأنها حوافز الشعر " أي أنها أشرف ما في البيت لان حوافز الفرس هي أوثق ما فيه وبها نهوضه وعليها اعتماده (1) . فوسع صاحب قواعد الشعر في هذه اللمحة وأوجده مصطلحاً مستمداً من الفرس يدور حول وصف البيت المفرد؛ فالبيت إما معدل أو أغر أو محجل أو مرجل. أما الأغر والمحجل فهما واضحا العلاقة بالفرس، وأما المعدل فلعلها صفة تومئ إلى اعتدال جانبي الجواد، وأما المرجل فلعله يعني البياض في رجل واحدة. وصورة الفرس واضحة في شرحه لكل مصطلح: فالمعدل يبز سائر الأبيات " سابقاً " والأغر يجيء في المكانة بعده " مصلياً " والأبيات المحجلة " ما نتج قافية البيت عن عروضه، وأبان عجزه بغية قائلة، وكان   (1) المحتسب 2: 209 - 210. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 كتحجيل الخيل والنور بعقب الليل (1) " - وهي تجيء للنوع الثاني " تالية ". فالمعدل: ما اعتدل شطراه وتكافأت حاشيتاه، وهو أقرب الأشعار من البلاغة وأشبهها بالأمثال السائرة كقول طرفة: " أرى الدهر كنزاً ناقصاً كل ليلة " ... " وما تنقص الأيام والدهر ينفد " والأغر: ما نجم من صدر البيت بتمام معناه دون عجزه كقول الخنساء: وان صخراً لتأتم الهداة به ... كأنه علم في رأسه نار وقد مر تعريف الأبيات المحجلة، ومثالها: فتملأ بيتنا أقطاً وسمناً ... وحسبك من غنى شبع وري والأبيات المرجلة هي التي لا ينتهي معناها إلا بانتهاء القافية كقول زهير: فان الحق مقطعه ثلاث: ... يمين أو نفار أو جلاء فالأول يستقل فيه كل شطر بحكمة أو بقول مكتمل، والثاني يأتي بالقول المكتمل في الشطر الأول ويجعل الشطر الثاني تفسيراً، وينعكس الحال في النوع الثالث، أما الرابع فلا استقلال فيه بين الشطرين. ومن هذا يتضح أن جهد المؤلف لا يتعدى ابتكار المصطلح أو توسيع دلالته وأن الحديث عن البيت المفرد على هذا النحو لا يقدم النقد الأدبي خطوة واحدة، وانه إمعان في التجزئة، وتناس تام للقصيدة، وعودة إلى فكرة " أحسن بيت " بانتحال لبوس جديد، وإذا كانت طبقات ابن سلام قد شدت وثاقاً ضيقاً حول الشعراء، فغن مصطلح " قواعد الشعر " قد ربط بالسلاسل القوية جسم البيت الواحد وشده كتافاً.   (1) قواعد الشعر: 80. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 4 - المفاضلة بين شاعرين: كانت المفاضلة بين شاعرين وأكثر محوراً يدور حول كثير من النقد القديم، ولكن أصولها كانت بسيطة ساذجة، تلخص الإعجاب العام لدى أحد المتذوقين بشاعر دون آخر، أما في هذا العصر، فقد اتسع باب القول في المفاضلة وألفت فيها رسائل: وكانت تلك خطوة في الاتجاه الذي اعتمده الآمدي من بعد في كتاب " الموازنة ". رسالة أبي احمد المنجم في المفاضلة بين العباس والعتابي من ذلك رسالة كتبها أبو احمد يحيى بن علي المنجم (241 - 300) يفاضل فيها بين العباس بن الأحنف والعتابي، ويفضل الأول منهما على الثاني؛ وابن المنجم هذا كان متكلماً معتزلي المذهب ينادم معاصريه من خلفاء بني العباس (1) ؛ وقد بنيت الرسالة على أصول مناظرة قامت بينه وبين رجل يدعى المتفقه الموصلي في مجلس علي بن عيسى الوزير، فلما انقض المجلس، كتب ابن المنجم رسالة في هذا الموضوع وأنفذها إلى الوزير المذكور. وليست لدينا صورة من هذه الرسالة، وغنما احتفظ ببعض ما جرى في المناظرة الصولي، ونقل المرزباني ما أورده في كتاب الموشح (2) . ولا ريب في أن الرسالة اكثر ترتيباً وتعمقاً وتفصيلاً ولكن ما جاء في المناظرة قد يعطي بعض صورة عنها. قال ابن المنجم: " ما أهل نفسه العتابي قط لتقديمها على العباس بن الأحنف في الشعر، ولو خاطبه بذلك مخاطب لدفعه وأنكره لأنه كان عالماً لا يؤتي من معرفة بالشعر، ولم أر أحداً من العلماء بالشعر قط مثل بين العباس والعتابي فضلاً عن تقديم العتابي عليه لتباينهما في المذهب، وذلك أن العتابي متكلف والعباس يتدفق طبعاً، وكلام هذا   (1) انظر الفهرست: 143. (2) انظر الموشح: 449 - 451. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 سهل عذب وكلام ذاك متعقد كز، ولشعر هذا ماء ورقة وحلاوة، وفي شعر ذاك غلظ وجساوة؛ وشعر هذا في فن واحد - وهو الغزل - فأكثر فيه وأحسن، وقد افتن العتابي فلم يخرج في شيء عما وصفناه به ". فابن المنجم يريد في هذا النص أن ينكر جواز المفاضلة بين الرجلين، لأنه لا صلة مشتركة تجمع بين العالم والشاعر؛ ولكن هب أن ما نظمه العتابي يدرجه مع الشعراء. فالفرق بينه وبين العباس كالفرق بين الشاعر المتكلف والشاعر المطبوع (وهذه تفرقة سنجدها واضحة عند أبن قتيبة) ، فإذا سئل ابن المنجم عن إمارات الطبع أورد صفات مثل: السهولة والعذوبة والمائية والرقة والحلاوة؛ وأضداد هذه تكون سمة للتكلف؛ ولأول مرة نجد ناقداً يميز شاعراً بأنه اقتصر على فن واحد فاحسن فيه، لان النقد من قبل كان يتطلب من الشاعر أن يجيد في أكثر الفنون؛ وبعد هذه المقارنة في الكليات تطرق ابن المنجم إلى الجزئيات، فاختار قصيدة عدها الناس من أشعر شعر العتابي، وهو قصيدته: يا ليلة لي بحوارين ساهرة حتى تكلم في الصبح العصافير فانتقده بأنه سرق فيها معنى من بشار ولم يحسن أخذه وإنما " مسخه " " وحق من أخذ معنى وقد سبق إليه أن يصنعه أجود من صنعة السابق غليه أو يزيد فيه عليه حتى يستحقه، فأما إذا قصر عنه فإنه مسيء معيب بالسرة مذموم ثم في التقصير "، وبأنه غلبه في العجاء شاعر ثانوي المنزلة، واستخرج من قصيدته ألفاظاً نابية غير موسيقية أو خفيفة على السمع. " وما شيء أملك بالشعر بعد صحة المعنى من حسن اللفظ ". وهنا انتهت هذه المناظرة، ولكن الآراء التي وردت فيها تجعلنا نعرف إلى أي فئة من النقاد ينتمي ابن المنجم، فهو يحسن بعض القواعد العامة مثلما يقف عند جزئيات النص ويؤمن بالفرق الواسع بين الطبع والتكلف، ويقيم للسرقة مبدأ عاماً، ويقدم المعنى على اللفظ، ولكنه يتوقع اجتماعهما معاً حتى يكون الشعر جميلاً، فصحة المعنى وحسن اللفظ ضروريان في الشعر الجيد، ذلك هو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 مجمل موقف ابن المنجم الناقد ولو وصلتنا رسالته لكان لها - فيما نقدر - أثر في توضيح منهجه النقدي من جوانب أخرى. 5 - النظرة التوفيقية: كانت هذه النظرة ثمرة الصراع الذي نشأ بين القديم والمحدث من الشعر؛ وهو صراع لم يكن حاداً كما قد يتبادر إلى الأذهان، وكان للنقاد التوفيقيين ولغلبة ذوق العصر أثرهما في تخفيف حدته وتقصير مدته؛ ويجب أن نسارع إلى القول بأنه وجد في المحافظين أناس تنكروا للشعر المحدث وحطوا من قيمته، ولكن لم يوجد بين متذوقي الشعر المحدث من طوى كشحاً دون الشعر القديم أو صرح بالغض منه، ذلك لأن المحدثين من الشعراء ومن دارسي الأدب كانوا هم تلامذة القديم، وهم يرون في نتاج العصر حينئذ امتداداً له، ومن ثم فإن النظرة التوفيقية لم تكلف أصحابها كثيراً من الشجاعة ولا اضطرتهم إلى خوض معارك حامية، كالتي ستدور في الخلاف حول ألوان من الشعر المحدث نفسه من بعد؛ وقد التقى حول هذه النظرة أناس ذوو مشارب متباينة، فيهم اللغوي المشبع بروح القديم كابي العباس المبرد، والمتكلم المتأثر بشتى ألوان الثقافات كالجاحظ، وذوو الثقافة الإسلامية الخالصة كابن قتيبة والشاعر المحدث كابن المعتز. وسواء صرح هؤلاء بالتعبير عن موقفهم التوفيقي أو لم يصرحوا فغن ميدان اهتمامهم الشعري يجعل عدهم معاً في نطاق هذا الاتجاه لا يحتاج جدلاً. غير أن دور كل منهم في النقد تجاوز هذا الموقف العام إلى آراء ونظرات نقدية هامة، ولهذا صح ان نفرد لكل منهم حديثاً مستقلاً: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 أبو العباس المبرد (210 - 286) لم يدرج المبرد في النقاد؟ لو تابعنا الصولي في حديثه عن ثعلب والمبرد معاً وانهما لم " يدعيا التقدم في علم شعر المحدثين؟. وتمييز نادره ووسطه؟ ومعرفة استراقات الشعراء " لما جاز أن ندخل المبرد في عداد النقاد؛ ولكن المبرد يتميز عن ثعلب (حتى أن صحت نسبة " قواعد الشعر " له) بشيء كثير، فقد كان أسرع من معاصره اللغوي إلى تبني الشعر المحدث ومنحه شيئاً كثير، فقد كان أسرع من معاصره اللغوي إلى تبني الشعر المحدث ومنحه شيئاً كثيراً من عطفه، واعتماده أصلاً من أصوله في تدريسه لطلابه (1) ، وأفراده بالاختيار، فهو لم يكتف بإيراد نماذج منه في كتبه العامة كالكامل والفاضل، وإنما خصص كتاب " الروضة " لأشعار المحدثين؛ هذه ناحية؛ وناحية أخرى أن المبرد كان أستاذاً لكثير من الأجيال في القرن الثالث، ولذا أصبح رأيه فيما يقبله وما يدفعه عمدة لدى النقاد في أواخر ذلك القرن أو في مطلع الرابع؛ فالذين كانوا ينكرون طريقة أبي تمام لجأوا إلى الاستشهاد بموقفه فقالوا: " وهذا أبو العباس محمد بن يزيد المبرد كان معرضاً عنه، ما علمناه دون له كبير شيء، فهذه كتبه وأماليه وإنشاداته تدل على ذلك؟ " وهؤلاء أيضاً يستأنسون بقوله في البحتري: " ما رأيت أشعر من هذا الرجل؟ لولا أنه ينشدكم كما أنشدني لملأت كتبي من أمالي شعره " (2) .   (1) راجع طبقات ابن المعتز: 197 لترى كيف أن المبرد يدرس تلميذه أبن المعتز قصيدة لأبي نواس ويشرحها له. (2) الموازنة 1: 21 قلت: أنظر ص 65، 71 من " الفاضل " حيث يورد شعراً لأبي تمام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 خضوعه لروح العصر غير أن هذه الصلة بين المبرد والشعر المحدث لا تتجاوز مجال العطف، ويحس من يقرأ المبرد أنه كان مغلوباً بروح العصر منساقاً بقوتها، وأنه لم يعتمد ذوقاً متميزاً في الاختيار، وإنما كان يتستر وراء الموضوع (1) ، فما استدعاه الموضوع من شعر لشاعر قديم أو محدث أورده؛ غير أنه صريح في موقفه التوفيقي إذ يقول: " وليس لقدم العهد يفضل القائل، ولا لحدثان عهد يهتضم المصيب، ولكن يعطي كل ما يستحق " (2) . وقد حاول المبرد أن يطبق هذا المبدأ، سواء أكان نابعاً من أعماقه أم كان أثراً من أثر تلك الموجة السائدة؛ ولابد أن نعذر المبرد إذا هو مال - لا شعورياً - نحو القديم، لأنه صلب ثقافة نحوي لغوي من طرازه. محاولته الكشف عن سرقات الشعراء وقد كاد المبرد في اختياره لاشعار المحدثين يلبي حاجة العصر أيضاً، يقول في الكامل: " هذه أشعار اخترناها من أشعار المولدين حكيمة مستحسنة يحتاج إليها للتمثل - لأنها أشكل بالدهر - ويستعار من ألفاظها في المخاطبات والخطب والكتب " (3) ، فهو يهدف إلى غاية عملية، يهدف إلى أن يخدم طبقة المتعلمين وخاصة من يهيئون أنفسهم لمستوى بلاغي من فئة الكتاب، وتجاوز المبرد مرحلة هذا الاختيار، ودل على أن الصولي كان مغالياً حين وصفه بأنه لا يعرف " استراقات الشعراء " فأخذ يدل على المعاني المسروقة، لا بين الشعر والشعر وحسب، بل بين الشعر والنثر، فقول أبي العتاهية: يا عجباً للناس لو فكروا ... وحاسبوا أنفسهم ابصروا   (1) هذا الذي نقوله هنا عن انقياد المبرد لروح العصر في الإقبال على شعر المحدثين قد لمحه أبن عبد ربه في القديم فقال متحدثاً عن كتاب الروضة: فلم يختر لكل شاعر إلا أبرد ما وجد له؟ الخ (العقد 3: 268) . (2) الكامل 1: 29. (3) الكامل 2: 1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 مأخوذ من قولهم " الفكر مرآة تريك حسنك من قبيحك ". وقول ابن أبي عيينة: إن الليالي والأيام أنفسها ... عن غير أنفسها لم تكتم الخبرا أخذه أبو تمام فقال: عمري لقد نصح الزمان وانه ... لمن العجائب ناصح لا يشفق " فزاد بقوله: ناصح لا يشفق على قول ابن أبي عيينة شيئاً طريفاً، وهكذا يفعل الحاذق بالكلام " (1) وحسبنا هذا للدلالة على أن المبرد قد شارك في جوانب من الاتجاهات النقدية في عصره، وكان الوقوف عند السرقات من أهم الاتجاهات الناشئة حينئذ. خلطه بين الشعر والخطابة غير أنه يبدو لنا أن المبرد كان قد تمثل قواعد " الخطابة " اكثر من تمثله لمبادئ نقد الشعر، فمزج بين الفنين في نقده - كما فعل في رد معاني الشعر إلى أصول من النثر عند حديثه عن السرقة. ومع أن المبرد لن يكون الناقد الوحيد الذي يمزج بين قواعد الصناعتين، فإن وجهته النقدية تدل على انه كان أميل إلى إدراك المفهومات البلاغية، فتراه يتحدث في الشعر عن " الاستعانة "، وأصل الاستعانة أن يعمد المتحدث إلى ألفاظ يتكئ عليها ليتذكر ما بعدها؛ " كنحو ما تسمعه في كثير من كلام العامة قولهم الست تسمع؟ أفهمت؟ أين أنت؟ وما أشبه هذا، وربما تشاغل العيي بفتل إصبعه ومس لحيته " (2) ويطبق المبرد هذا   (1) الكامل 2: 12، 14. (2) الكامل 1: 30 - 31 وقد أورد الجاحظ لفظ " الاستعانة " في تعريف العتابي للبلاغة (البيان 1: 113) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 على الشعر فيقول إن الاستعانة هي: أن يدخل في الكلام ما لا حاجة بالمستمع إليه ليصبح به نظماً أو وزناً ". كذلك تحدث عن التشبيه حديثاً طويلاً - ولعله من أسبق من أولى التشبيه مثل هذه الغاية التفصيلية (1) -، وبين أقسامه وجعلها أربعة: المفرط والمصيب والمقارب والبعيد الذي يحتاج إلى تفسير، واهتم بتشبيهات المحدثين خاصة فأورد منها طرائف، وميز أبا نواس باتساع المذهب في هذا الباب (2) . وقد يلحق بمفهوماته البلاغية حديثه عن الإيماء وتدل أمثلته عليه أنه يعني به الإشارات (3) ؛ ولكنه ذو رأي نقدي طريف في العيب الذي يستطيع الحسن من حوله أن يغطي عليه: " وقد يضطر الشاعر المفلق والخطيب المصقع والكاتب البليغ فيقع في كلام أحدهم المعنى المستغلق واللفظ المستكره، فإن انعطفت عليه جنبتنا الكلام غطتا على عواره وسترتا من شينه " (4) ، وهذا رأي لم يحسن صاحبه نفسه استغلاله، لان الكشف عن العيوب كان إحدى مهمات النقد الكبرى، وقد أدرك المبرد ما في رأيه هذا من ضعف فرد على نفسه بأنه يسلم أن الكلام القبيح يبدو أشد قبحاً إذا وقع بين الكلام الجميل من حوله، فليست المسالة مسالة خفاء، وإنما مردها إلى اغتفار القبح من أجل الجمال (5) .   (1) الكامل 3: 32 - 57، 128 - 154. (2) الكامل 3: 134. (3) الكامل 1: 27، 28. (4) الكامل 1: 27. (5) المصدر نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 نظرته إلى قضية اللفظ والمعنى وقد ألمح المبرد أثناء اختياره للأشعار إلى موقفه من قضية اللفظ والمعنى، غير أنه لم يتناول تلك القضية بشيء من التفسير، فالشعر لديه مستحسن أحياناً لصحة معناه وجزالة لفظه وكثرة ورود معناه بين الناس أو لقرب مأخذه أو لسهولته وحسنه أو لغرابة معناه وجودة لفظه أو لخلوصه من التكلف وسلامته من التزيد. أما الضرورات اللفظية والالتواء في المعاني واستعمال الكلمات الهجينة فذلك هو ما ينكره ويمقته. وواضح من هذا أن المبرد يدور في الفلك النقدي العام في عصره، دون أن يكون ذا بصر نافذ يميزه بين النقاد، ولكنه ابن العصر ومصطلحه هو مصطلح عصره. عمرو بن بحر الجاحظ (- 255) الشعر مصدر للمعرفة من الغريب أن الجاحظ وهو يعد أصناف الرواة واستغلالهم للشعر في خدمة أهدافهم من نحو وغريب وشاهد ومثل (1) ، لم يحس أنه وقع في مثل ما وقعوا فيه فاستغل الشعر مصدراً لمعارفه العامة، إذ استمد منه تصوره للخطابة وبعض معلوماته عن الحيوان، بل إنه جاء بأشعار وشرحها لان شرحها يعينه على استخراج ما فيها من معرة علمية، وهو إذا روى الشعر بمعزل هم الاستشهاد فإنما يريده للمذاكرة أو للترويح عن النفس كغيره من نقاد عصره؛ ومع ذلك كله يتميز الجاحظ عن جميع الرواة بل يتميز عن جميع من ألموا بالنقد في القرن الثالث، ومرد هذا إلى طبيعته الذاتية وملكاته وسعة ثقافته. ويأسف الدارس لان الجاحظ لم يفرد للنقد كتاباً خاصاً أو رسائل، وانه أورد ما أورده من نظرات عرضاً في تضاعيف كتبه كالحيوان والبيان والتبيين؛   (1) انظر ما سبق ص: 57. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 ويمثل كتابه في " نظم القرآن " حلقة ما تزال مفقودة إذ نتوقع ان يكون للجاحظ فيه وبه نظرات نافذة في مجال النقد، حسبما تعودنا ان نجد في كتبه التي وصلتنا. لقد كان الجاحظ بما أوتى من علم وذكاء وشخصية متفردة من خير من يحسنون تأسيس النقد على أصول نظرية وتطبيقية، ولكنه شغل عنه بشئون أخرى كثيرة، واقتصر في الميدان النقدي على وقفات قصيرة معدودة تناولها الدارسون المعاصرون بالنظر والتحليل، وحاولوا أن يصوروا من خلالها مدى ما اسهم به في ذلك الميدان، فالعودة إليها - في هذا المقام - تشبه أن تكون تأكيداً لدور الجاحظ في النقد، مع محاولة لربط آرائه بالتيارات المعاصرة وإبرازها على نحو متكامل قدر المستطاع. موقفه من الصراع بين القديم والحديث لقد تقدم القول بان الجاحظ كان توفيقي النظرة لا يعتقد بتفضيل قديم على محدث، وهذا الرأي له نجده صريحاً في قوله: " وقد رأيت أناساً (منهم) يبهرجون أشعار المولدين ويستسقطون من رواها؛ ولم ار ذلك قط إلا في راوية للشعر غير بصير بجوهر ما يروي، ولو كان له بصر لعرف موضع الجيد ممن كان، وفي أي زمن كان " (1) . وعندما تحدث عن أبي نواس قال: " وغن تأملت شعره فضلته إلا أن تعترض عليك فيه العصبية أو ترى أن أهل البدو أبداً اشعر وأن المولدين لا يقاربونهم في شيء، فإن اعتراض هذا الباب عليك فإنك لا تبصر الحق من الباطل ما دمت مغلوباً " (2) ؛ بل إن الجاحظ كان أشجع التوفيقيين عامة حين ذهب يفضل قصيدة لأبي نواس على قصيدة لمهلهل في الشاعرية (3) . فإذا تقدمنا بعد هذا إلى دراسة آراء الجاحظ النقدية، وجدنا اكثر   (1) الحيوان 3: 130. (2) الحيوان 2: 27. (3) الحيوان 3: 129. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 ما لديه أصول نظريات لم يمنحها ما تستحقه من شرح وتفسير وتمثيل، وظلت مغلقة على الذين جاءوا بعده، فلم يتقدموا بها شوطاً، أو تناولوا بعضها وانتزعوه من ملابساته الواقعية فأخطأوا تأويله والانتفاع به. نظريته في الغريزة والبيئة والعرق فأول ذلك ان الشعر في الجماعات إنما يعتمد على ثلاثة عناصر: الغزيرة (أي الطبع العام المواتي للشعر) والبلد (أي البيئة) والعرق (أي الصلة الدموية) يقول: وإنما ذلك (أي قول الشعر) عن قدر ما قسم الله لهم من الحظوظ والغرائز والبلاد والأعراق " (1) ومبدأ الأخذ بهذه النظرية يكاد يمثل رداً على ابن سلام؛ فقد ذهب صاحب الطبقات إلى أن الشعر إنما كان يكثر بالحروب فقال " وبالطائف شعر وليس بالكثير وغنما كان يكثر الشعر بالحروب التي تكون بين الأحياء؟ والذي قلل شعر قريش أنه لم يكن بينهم نائرة ولم يحاربوا، وذلك الذي قلل شعر عمان " (2) ، فوجد الجاحظ أن هذا الرأي لا يطرد فقال " وبنو حنيفة مع كثرة عددهم وشدة بأسهم وكثرة وقائعهم وحسد العرب لهم على دارهم وتخومهم وسط أعدائهم؟ ومع ذلك لم نر قبيلة قط أقل شعراً منهم " (3) ، إذن ليس لكثرة الحرب والوقائع دخل في كثرة الشعر، ولا لخصب المكان علاقة بكثرته، فعبد القيس من أخصب الناس مواطن وشعرها قليل، وثقيف من أخصب الناس كذلك داراً وشعرهم قليل حقاً، ولكن ذلك الشعر يدل واعتبر قبيلة الحارث بن كعب في زمانين مختلفين هما الجاهلية والإسلام تجد انهم كانوا قليلي الحظ من الشعر في الجاهلية ثم اصبح لهم في الإسلام   (1) الحيوان 4: 381 واقترح أن تقرأ " الحظوظ في الغرائز؟ الخ ". (2) طبقات ابن سلام: 217. (3) الحيوان 4: 380. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 شعراء مفلقون. إذن ما التفسير؟ هل نقول إن الجاحظ نفسه قد غلبته الحيرة على الاهتداء إلى تعليل أو انه لابد من اجتماع العناصر الثلاثة التي وضعها وهي الغريزة والبلد والعرق؟ إننا إذا قلنا بالرأي الثاني سنظل نتساءل: ما الخصائص التي تميز البلد؟ وما هي العناصر التي تميز العرق؟ هذا إلى ما في اصطلاح " الغريزة " من غموض. وإلى أن تمثيله بقبيلة الحارث بن كعب يهدم تصوره لان تكون الغريزة خاصية مستمرة في " العرق " الواحد. غير أن الجاحظ تناول نظرية العرق بشيء من التطوير والتفسير، ولم يتقيد بالبيئة كثيراً، حين ذهب إلى ان العرق العربي (سواء أكان المرء عربياً في الحاضرة أو أعرابياً في البادية) أشعر من العرق المولد الذي يعيش في مدينة أو قرية - هذا حكم على عامة الفريقين، وهو أيضاً يسمح بالاستثناء (1) . ثم يجمل الفرق بين الأعرابي والمولد، بأن المولد قد يجيء بأبيات تلحق بشعر أهل البدو إذا استعد " بنشاطه وجمع باله " ولكنه إذا استرسل في القول " انحلت قوته واضطرب كلامه " (2) . ولم يفسر الجاحظ لم يكون ذلك وغنما هو يرى ظاهرة تستحق التسجيل، وكأنه يفترض أن قوة " الغريزة " هي التي تتفاوت بين العرقين، فقوة " الغريزة " لدى البدوي أو العربي عامة تمده بمقدار قوتها وغزارتها، فأما " غريزة " المولد فإنها قصيرة الرشاء، تنفد طاقتها بسرعة.   (1) والقضية التي لا احتشم منها ولا أهاب الخصومة فيها أن عامة العرب والأعراب والبدو والحضر من سائر العرب أشعر من (عامة) شعراء الأمصار والرقى من المولدة والنابتة، وليس ذلك بواجب لهم في كل ما قالوه (الحيوان 3: 130) . (2) المصدر نفسه: 132. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 العلاقة بين الشعر والرسم وبدأ الجاحظ نظرية أخرى كان من الممكن أن تفتح أمامه آفاقاً واسعة حين قال " فإنما الشعر صناعة وضرب من الصبغ (1) وجنس من التصوير " فلو تخطى الجاحظ حدود التعريف لوجد نفسه في مجال المقارنة بين فنين: الشعر والرسم - بل إن تعريفه لا يخرج عن قول هوراس: " الشعر والرسم ". وإذن فربما هداه ذكاؤه إلى استبانة الفروق وضروب التشابه، ولكان لنا في هذا الباب حديث عن المحاكاة وتمايزها بين الفنون؟ الخ؛ ولكن كل ما أراده الجاحظ من هذا القول تأكيد نظريته في الشكل، وان المعول في الشعر إنما يقع على " إقامة الوزن وتخير اللفظ وسهولة المخرج وكثرة الماء وفي صحة الطبع وجودة السبك " (2) ، وبهذا التحيز للشكل قلل الجاحظ من قيمة المحتوى وقال قولته التي طال تردادها: " والمعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي والبدوي والقروي " (3) . نظرية المعاني المطروحة لماذا اتجه الجاحظ هذا الاتجاه مع انه لم يكن من الشكليين في التطبيق؟ لهذا أسباب كثيرة منها أن الجاحظ لم يتابع أستاذه النظام في قوله بالصرفة تفسيراً للأعجاز، وإنما وجد ان الأعجاز لا يفسر إلا عن طريق النظم، ومن آمن بان النظم حقيق برفع البيان إلى مستوى الأعجاز لم يعد قادراً على أن يتبنى تقديم المعنى على اللفظ، ومنها ان عصر الجاحظ كان يشهد بوادر حملة عنيفة يقوم بها النقاد لتبيان السرقة في المعاني بين الشعراء، ولا   (1) في المتن: من النسيج؛ والصبغ أكثر انسجاماً، وهو ثابت في إحدى النسج، ولعل تغييره إنما تم لصعوبة المقارنة بين الشعر والصبغ، وكان ذلك من عمل النساخ من بعد فيما اقدر. (2) الحيوان 3: 131 - 132. (3) المصدر نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 نستبعد أن يكون الجاحظ قد حاول الرد على هذا التيار مرتين: مرة بان لا يشغل نفسه بموضوع السرقات كما فعل معاصروه (1) ، ومرة بان يقرر أن الأفضلية للشكل لان المعاني قدر مشترك بين الناس جميعاً. وسبب ثالث قائم في طبيعة الجاحظ نفسه، فقد كان رجلاً خصب القريحة لا يعييه الموضوع ولا يثقل عليه المحتوى أياً كان لونه، ولذا فإنه كان يحس أن المعنى موجود في كل مكان، وما على الأديب إلا أن يتناوله ويصوغه صياغة متفردة. ولم يكن الجاحظ يتصور ان نظريته التي لم تكن تمثل خطراً عليه ستصبح في أيدي رجال البيان خطراً على المقاييس البلاغية والنقدية لأنها ستجعل العناية بالشكل شغلهم الشاغل. وحسبما أن نقرا العسكري الذي ورث هذه النظرية الجاحظية يقول: " ومن الدليل على ان مدار البلاغة على تحسين اللفظ أن الخطب الرائعة والأشعار الرائقة ما عملت لإفهام المعاني فقط، لان الرديء من الألفاظ يقوم مقام الجيد منها في الإفهام، وإنما يدل حسن الكلام وأحكام صنعته ورونق ألفاظه وجودة مطالعه وحسن مقاطعته وبديع مباديه وغريب مبانيه على فضل قائله وفهم منشئه. واكثر هذه الأوصاف ترجع إلى الألفاظ ولهذا تأنق الكاتب في الرسالة والخطيب في الخطبة والشاعر في القصيدة، يبالغون في تجويدها ويغلون في ترتيبها ليدلوا على راعتهم وحذقهم بصناعتهم، ولو كان الأمر في المعاني لطرحوا اكثر ذلك فربحوا كذاً كثيراً واسقطوا عن أنفسهم تعباً طويلاً " (2) .   (1) أقرأ الجاحظ أن كل تشبيه ومعنى مصيب أو غريب عجيب أو بديع مخترع فإن من جاء من الشعراء بعد صاحبه يستعينون به أو ببعضه " ولا يكون أحدهم أحق بذلك المعنى من صاحبه " ولكنه لم يكثر من البحث عن المعاني المسروقة. (2) الصناعتين: 58 - 59؛ وسيرد عند الحديث عن عبد القاهر مزيد بيان حول نظرية الجاحظ في المعنى، وسبب اعتماده لها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 تناقض الجاحظ في موقفه من الشكل ثم وقف الجاحظ من نظريته في الشكل موقفين آخرين أحدهما يؤيدها والثاني ينقضها، فأما الأول فهو إصراره على أن الشعر لا يترجم " ومتى حول تقطع نظمه وبطل وزنه وذهب حسنه وسقط موضع التعجب " (1) ، واستعصاؤه على الترجمة إنما هو سر من أسرار الشكل. وأما الثاني فهو قوله إن هناك معاني لا يمكن ان تسرق كوصف عنترة للذباب " فإنه وصفه فأجاد صفته فتحامي معناه جميع الشعراء فلم يعرض له أحد منهم، ولقد عرض له بعض المحدثين ممن كان يحسن القول فبلغ من استكراهه لذلك المعنى ومن اضطرابه فيه أنه صار دليلاً على سواء طبعه في الشعر. قال عنترة: جادت عليها كل عين ثرة ... فتركن كل حديقة كالدرهم فترى الذباب بها يغني وحده ... هزجاً كفعل الشارب المترنم غرداً يحك ذراعه بذراعه ... فعل المكب على الزناد الاجذم (2) فقوله إنه لا يسرق دليل على أن " السر في المعنى " قبل اللفظ، ولكن الجاحظ لم ينتبه لهذا التناقض. موقفه من الصحيح والمتحول ويكمل الجاحظ منهج ابن سلام في التمييز بين الصحيح والمنحول في الشعر، فيستخدم شهادة الرواة، ويتخذ تفاوت الشعر - كما اتخذه ابن سلام - وسيلة يثبت بها الانتحال، فيروي بيتاً منسوباً لأوس بن حجر: فانقض كالدري يتبعه ... نقع يثور تخاله طنبا ويقول في التعليق عليه: " وهذا الشعر ليس يرويه لاوس إلا من لا يفصل   (1) الحيوان 1: 75 ويرى الجاحظ أن الشعر العربي يمتاز بشيء معجز فيه هو الوزن، فإذا ترجم ضاع. (2) الحيوان 3: 311 - 312. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 بين شعر أوس بن حجر وشريح بن أوس "، ويضيف إلى ذلك دليلاً داخلياً، فإذا روى قول الافوه الاودي: كشهاب القذف يرميكم به ... فارس في كفه للحرب نار قال: " وبعد فمن أين علم الأفوه أن الشهب التي يراها إنما هي قذف ورجم وهو جاهلي، ولم يدع هذا أحد قط إلا المسلمون " (1) . حدته في الحكم وتدل التعليقات التي يقيدها الجاحظ حول بعض ما يرويه من الأشعار على أنه كان حاداً أحياناً في نقده، ولكن هذه الحدة نجيء مرات مشفوعة بالسخرية، تلك الميزة التي قل أن نجدها لدى معاصريه من النقاد، وأظن أن الجاحظ لو استرسل مع طبعه الساخر لكان ناقداً انطباعياً، ولكنه آثر في أغلب الأحوال ان يكف من لذعاته، فمن نقداته الساخرة قوله: " وأنا أزعم أن صاحب هذين البيتين لا يقول شعراً أبداً ولولا أن أدخل في (الحكم) بعض الفتك لزعمت أن ابنه لا يقول شعراً أبداً " (2) .   (1) المصدر نفسه: 280 - 281. (2) الحيوان 3: 131 والبيتان هما: لا تحسبن الموت موت البلى ... فإنما الموت سؤال الرجال كلاهما موت ولكن ذا ... افظع من ذاك لذل السؤال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 أحكام عامة وتدفعه حماسته أحياناً إلى إرسال أحكام كبيرة لا نستطيع اليوم أن نستوثق من صحتها، كقوله في شعر الفرزدق: " وإن أحببت أن تروي من قصار القصائد شعراً لم يسمع بمثله، فالنمس ذلك في قصار قصائد الفرزدق، فإنك لم تر شاعراً قط يجمع التجويد في القصار والطوال غيره " (1) ؛ وليست كذلك تخطئة الكميت في مدحه للرسول (2) فإن سمو الرمز الكبير فوق مستوى الممدوحين العاديين الذين قد يقال فيهم مثل: لج بتفضيلك اللسان ولو ... أكثر فيك الضجاج واللجب أنت المصفى المحض المهذب في النسبة إن نص قومك النسب ... يجعل مثل هذا المدح مقصراً في نظرنا اليوم إذا توجه به الشاعر إلى الرسول الكريم، كما كان مقصراً في نظر الجاحظ. هل تأثر الجاحظ بالثقافة اليونانية ولا نختم هذه الفقرة عن الجاحظ الناقد قبل أن نقف عند نص غامض في كتاب الحيوان جاء عن الشعر أنه " إن هو حول تهافت، ونفعه مقصور على أهله، وهو يعد من الأدب المقصور وليس بالمبسوط، ومن المنافع الاصطلاحية وليست (منفعته) (3) بحقيقة بينة " (4) . ومن أجل أن نفك على لسان أصحاب الكتب المترجمة عن اليونانية وكيف يقع فيها الخطأ والفساد، ثم يظل الناس يقبلون عليها، ويثير سؤالاً على لسان فريق آخر يحاورهم قائلاً: " فكيف تكون هذه الكتب أنفع لأهلها من الشعر   (1) لعل الثناء على قصار قصائد الفرزدق ينظر إلى قول الفرزدق نفسه وقد قيل له ما صيرك إلى القصار بعد الطوال؟ قال: لأني رأيتها في الصدور أولج وفي المحافل أبلج (البصائر 2: 301) . (2) الحيوان 5، 169 - 171. (3) زدت هذه الكلمة وليست في الأصل. (4) الحيوان 1: 81. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 المقفى؟ " فيرد الفريق الأول بأنه رغم النقص تظل تلك الكتب عظيمة الفائدة لأنها تحوي الطب والفلك والحساب والهندسة والفلاحة وضروب الصناعات.. الخ، فالمقارنة تدور بين كتب هذه العلوم وبين الشعر، وليس هذا الرأي في الشعر رأياً خاصاً بالجاحظ، وإنما هو رأي جاء في معرض الجدل. وقد ذهب الدكتور سلوم إلى أن " الأدب المقصور " يعني هنا الأدب الذي يبغي منه المتعة والجمال، وقرن النص برأي أرسططاليس في المأساة التي تمنح القارئ اللذة الخاصة بها (لذة مقصورة عليها) (1) . وأعود فاقرر أن هذا الرأي ليس مما يعتقده الجاحظ، أما ربطه بأرسططاليس فإنه يدل على التفات جيد، ولكنه يتصل بنظريته الكبرى في أنواع ثلاثة: علوم نظرية كالرياضيات والطبيعيات والإلهيات، وعلوم عملية كالأخلاق والسياسة، وعلوم إنتاجية كالخطابة والشعر والصناعات، فالنوعان الأولان والصناعات من النوع الثالث ذات منافع واضحة، وللخطابة نفع (بينه أرسططاليس) عن طريق الإقناع، وبقي الشعر الذي صرف أرسططاليس جهداً كبيراً في أن يبين له منفعة عن طريق المتعة (أو التطهير؟ الخ) . فالنص الذي بين أيدينا يقوم على المفاضلة بين ما هو محقق النفع (نفعه حقيقة بينة) وبين ما هو (اصطلاحي) المنفعة - ولو وضعنا موضع اصطلاحي لفظة " تقديري " لصح المعنى ووضح؛ ثم إن نفعه - في رأي أولئك القوم - مقصور على أهله (أي هم ينكرون أن تنتقل المنفعة من المنشئ إلى المتلقي) ولذلك فإنه أدب مقصور (في منفعته وفي تعبيره عن حقائق الحياة بطريق الصور) وليس مبسوطاً (كما تبسط العلوم وتتحمل البرهان والتجربة) . وما دام الشعر لا يتحمل التجربة والبرهان فإنه إذا حول (عن سياق الإيقاعي أو الصوري إلى سياق عملي) تهافت ذلك هو ما أراه في تفسير هذه العبارة، فأما قوله بعد ذلك " وكل شيء في العالم من الصناعات والأرفاق والآلات فهي   (1) النقد المنهجي عند الجاحظ: 34 - 35. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 موجودات في هذه الكتب دون الأشعار " فليس معناه ما توهمه الدكتور سلوم (1) وإنما هو تقرير بأن هذه الكتب المذكورة هي التي تحوي العلوم النافعة بينا لا يحوي الشعر شيئاً من تلك العلوم. ولا يخفى أن هذا الموقف يقابله قول المتعصبين للثقافة العربية (والشعر أحد أركانها) : إن الشعر يحوي " الحكم المضارعة لحكم الفلاسفة والعلوم في الخيل والنجوم وأنوائها؟ الخ " (2) فالنص الذي أورده الجاحظ لا يمكن أن يمثل موقفه لأنه حاول في كتاب الحيوان أن يتخذ الشعر مصدراً كبيراً من مصادره في ذلك العلم، وذلك رد ضمني على أصحاب ذلك الرأي، أما رده المباشر على جماعتهم فقوله في الكتاب نفسه " وأكثر من كتبهم نفعاً وأشرف منها خطراً وأحسن موقعاً كتب الله تعالى؟ الخ " (3) . أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة (213 - 276) منهج أبن قتيبة في مؤلفاته المختلفة توفيقي تدل مؤلفات أبن قتيبة على تعدد مناحي اهتمامه، فبعضها يمثل العناية بغريب اللغة وبعضها يتناول النحو، كما أن صنفاً ثالثاً منها مستلهم من عصبيته لأصحاب الحديث ومن عدائه للمعتزلة، ويمثل الشعر ميداناً رابعاً من تلك الميادين التي استأثرت بجهده. وعلى الرغم من تعدد ضروب هذا النشاط، فإننا نستطيع أن نستبين من وراء هذا الجهد حوافز وغايات معينة. فأبن قتيبة يكمل دور الجاحظ في الدفاع عن العرب والرد على الشعوبية. ويتخذ هذا الرد صورة مباشرة في مثل " كتاب العرب وعلومها "   (1) قرنه بقول أرسطو: " يجب أن نتذكر أيضاً بأنه ليس هناك نفس الدقة في الشعر كما هي الحال في السياسة أو في أي فن آخر ". (ص 35) . (2) أنظر الشعر والشعراء: 11. (3) الحيوان 1: 86. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 وصورة غير مباشرة في مؤلفات يراد بها إبراز ما لدى العرب من مآثر، ولهذا ينحو أبن قتيبة منحى الجاحظ في اتخاذ الشعر العربي مصدراً للمعرفة، فيكتب كتاباً في " الأنواء " وآخر في " الأشربة " وثالثاً في " الخيل " ليثبت لأنصار الكتب المترجمة أن في الشعر العربي ما يضاهي حكم الفلاسفة وعلوم العلماء. ولما كان أكثر الشعوبيين أثراً وأبعدهم صوتاً من طبقة الكتاب فقد حاول أبن قتيبة أن يؤلف لهم كتباً، يقرب إليهم بها المعرفة ويسهل عليهم تناولها، ويجنبهم بها صعوبة الكتب المتخصصة؛ ولا بأس أن يضع لهم في هذه الكتب شيئاً من حكمة الفرس فذلك أدعى إلى تألفهم، وأقوى أثراً في صرفهم عن الكتب الفارسية الخالصة، فكان من ذلك تلك الموجزات من أمثال " أدب الكاتب " و " عيون الأخبار " و " المعارف " و " الشعر والشعراء "؛ ولذلك نسمعه يقول في كتاب (عيون الأخبار) : " وإني كنت تكلفت لمغفل التأدب من الكتاب كتاباً في المعرفة وفي تقويم اللسان واليد حين تبينت شمول النقص ودروس العلم وشغل السلطان عن إقامة سوق الأدب حتى عفا ودرس " (1) ، وفي تبيان هذه الناحية يرى الأستاذ جب أن الكتاب " اضطروا في النهاية إلى الاعتراف بأن العلوم الإنسانية العربية قد انتصرت وأن وظائفهم من ثم تتطلب منهم على الأقل معرفة عابرة بالتراث العربي " وينوه بفضل أبن قتيبة في هذا الصدد لأنه استطاع أن يمزج بالمقتطفات والمختارات العربية شيئاً من مآثر الفرس وحكمتهم (2) . ولهذا الموقف كان لابد لأبن قتيبة من أن يتأثر بالجاحظ فيروي كتبه، وينقل منها، ويتبنى بعض آرائه مثل رأيه في أن النادرة يجب أن تورد بلفظ أصحابها ولو كانت ملحونة، ورأيه في استباحة ذكور الغورات في الكتب   (1) عيون الأخبار 1: الصفحة: (ز - ح) . (2) حضارة الإسلام: 94 (الترجمة العربية) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 دون تحرج (1) ، وغير ذلك من آراء، هذا على الرغم من أن يحمل بشدة على الجاحظ لأنه ينتصر للشيء وضده، ويصفه بأنه من " أكذب الأمة وأوضعهم لحديث وأنصرهم لباطل " (2) ، ولكن هجومه هذا مقصور على الناحية المذهبية دون سواها. نظرته التوفيقية في النقد فإذا استثنينا هذه الناحية وجدنا أن التوفيق والتسوية صفتان تمثلان جهد أبن قتيبة في مختلف الميادين، ومنها النقد الأدبي، ذلك الميدان الذي لم يتضح في مؤلفاته كما اتضح في مقدمة كتاب " الشعر والشعراء "، فهي " بيان " بموقفه النقدي عامة، ودستور مستقل بمواده وأحكامه، وبينها وبين طبيعة الكتاب نفسه تباين واضح، فبينا تهدف هي إلى تصوير موقف المؤلف من الشعر يجيء الكتاب " دليلاً " موجزاً ليستعمله المتأدبون من طبقة الكتاب كي يتعرفوا إلى أهم الشعراء القدماء والمحدثين ويستظهروا الجيد من أشعارهم، وبين الغايتين فرق واسع لا يبيح لنا أن نتهم أبن قتيبة بأنه وضع مبادئ عجز عن تطبيقها. كذلك فإن غاية الكتاب وهي غاية تستدعي التبسط قد صرفت أبن قتيبة عن أن يصنع صنيع أبن سلام في تصور الشعراء على طبقات، زد على ذلك أن أبن قتيبة سيترجم لشعراء كثيرين لم يصنفهم أبن سلام في طبقاته، وابتكار تصنيف جديد لهم يتطلب دراسة شاملة لآثارهم، وهو أمر لا يدعيه أبن قتيبة ولا يزعم أنه في طوقه. ولكن أبن قتيبة جرى في التبسيط مجرى بعيداً حين قيد التراجم كيفما اتفق دون أن يهتم كثيراً بالناحية الزمنية، مما قد يومئ إلى أنه لم يكن يحفل أيضاً بدراسة الشعراء حسب العصور الأدبية. وكانت فكرة التسوية أبعد تسلطاً على مفهومات أبن قتيبة مما هي لدى   (1) أنظر مقدمة عيون الأخبار. (2) تأويل مختلف الأحاديث: 71 - 73. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 الجاحظ، فالناقدان يشتركان في المذهب التوفيقي الذي يريد أن يجعل الجودة مقياساً للشعر دون اعتبار للقدم والحداثة، وفي هذا الصدد يقول أبن قتيبة (1) : " ولا نظرت إلى المتقدم منهم بعين الجلالة لتقمه، وإلى المتأخر منهم بعين الاحتقار لتأخره، بل نظرت بعين العدل على الفريقين وأعطيت كلاً حظه، ووفرت عليه حقه. فإني رأيت من علمائنا من يستجيد الشعر السخيف لتقدم قائله ويضعه في متخيره ويرذل الشعر الرصين ولا عيب له عنده إلا أنه قيل في زمانه أو أنه رأى قائله، ولم يقصر الله العلم والشعر والبلاغة على زمن دون زمن ولا خص به قوماً دون قوم، بل جعل ذلك مشتركاً مقسوماً بين عباده في كل دهر، وجعل كل قديم حديثاً في عصره وكل شرف خارجية في أوله، فقد كان جرير والفرزدق والأخطل وأمثالهم يعدون محدثين وكان أبو عمرو بن العلاء يقول: لقد كثر هذا المحدث وحسن، حتى لقد هممت بروايته، ثم صار هؤلاء قدماء عندنا ببعد العهد عنهم، وكذلك يكون من بعدهم لمن بعدنا كالخريمي والعتابي والحسن بن هانئ وأشباههم. فكل من أتى بحسم من قول أو فعل ذكرناه له وأثنينا به عليه. ولم يضعه عندنا تأخر قائله أو فاعله أو حداثة سنه، كما أن الرديء إذا ورد علينا للمتقدم أو الشريف لم يرفعه عندنا شرف صاحبه ولا تقدمه ". أ. هـ. أقول: يتفق الناقدان - أبن قتيبة والجاحظ - في هذا الموقف، وأبن قتيبة أبين في التعبير عنه وأكثر إسهاباً، ثم يفترقان في مواقف أخرى، لأن الاعتدال عند أبن قتيبة قد بسط ظله على نظرته عامة، ومن أبين الفروق بينهما اختلافهما في النظر إلى مشكلة اللفظ والمعنى، فبينا انحاز الجاحظ إلى جانب اللفظ، ذهب أبن قتيبة مذهب التسوية.   (1) الشعر والشعراء: 10 - 11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 مشكلة اللفظ والمعنى ولهذه القضية ركنان (اللفظ - المعنى) ومميزان (الجودة - الرداءة) ولا بأس أن يتجه أبن قتيبة في هذا نحو المنطق - وإن يكرهه علماً - فيجد أن الشعر أربعة أضرب، لا تسمح العلاقة المنطقية - في نظره - بأكثر منها: (أ) لفظ جيد ومعنى جيد (ب) لفظ جيد ومعنى رديء (ج) لفظ رديء ومعنى جيد (د) لفظ رديء ومعنى رديء. وقد استعملنا هنا لفظتي " الجودة والرداءة " وإن كان أبن قتيبة لم يستعملهما وإنما استعمل أحياناً: " ضرب حسن لفظه فإذا أنت فتشته لم تجد هناك فائدة في المعنى " أو " ضرب منه جاد معناه وقصرت ألفاظه "، ولم يستعمل لفظتين حاسمتين في دلالتهما؛ وإنما فعل ذلك ليكون أبعد عن الحدة التي قد تستشف من قولنا " جيد ورديء " وآثرنا إلزامه بلفظتين لكي لا تضطرب عليه القسمة المنطقية، فالمسألة إذن مسألة صلة بين المعنى واللفظ، وعلاقة الجودة في كليهما معاً هي المفضلة، وهذا يعني أن المعاني نفسها تتفاوت، وإنها ليست كما زعم الجاحظ " مطروحة في الطريق "، ويستشف من أمثلة أبن قتيبة أن المعنى عنده قد يعني الصورة الشعرية مثلما يعني الحكمة. ولكن هذه الأمثلة نفسها تشير إلى أنه يستمد حكمه من بيت واحد أو بيتين أو ثلاثة في الأكثر. إن قضية " اللفظ والمعنى " لم تتناول العمل الأدبي كله بحيث تتطور إلى ما نسميه " الشكل والمضمون "، ولا هي استطاعت أن تقترب مما قد يسمى " الصلة الداخلية " بين هذين، ولعلها كانت ذات أثر بعيد في صرف النقد عن تبين وحدة الأثر الفني في مبناه الكلي، غير أنها رغم ذلك، أسلم من الانحياز السافر إلى جانب اللفظ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 ثنائية الطبع والتكلف إلى جانب معادلة اللفظ والمعنى وقف أبن قتيبة عند قسمة ثنائية في النظرية الشعرية، فقد كثر الحديث في عصره عن الطبع والتكلف، دون تحديد لهذين المصطلحين، فتناولهما أبن قتيبة بالتفسير والتمثيل. وقد خفي على الدارسين المحدثين أن قلة " المصطلح النقدي " لدى أبن قتيبة جعلته يستعمل اللفظتين بمدلولات مختلفة، فالتكلف حين يكون وصفاً للشاعر مختلف عن " التكلف " حين يكون وصفاً للشعر، تقول شاعر " متكلف " - بكسر اللام - وتعني ما نعنيه حين نقول إنه " صانع " ولهذا يقول أبن قتيبة: " فالمتكلف (من الشعراء) هو الذي قوم شعره بالثقاف ونفحه بطول التفتيش وأعاد فيه النظر بعد النظر كزهير والحطيئة؟ " (1) . ولا نظن أن أبن قتيبة يستر ذل شعر زهير والحطيئة أو يراهما دون من يسميهم " الشعراء المطبوعين "، وتقول " شاعر مطبوع " وتعني في ذلك ما نعنيه اليوم بعفوية القول وتدفقه - يقول أبن قتيبة " والمطبوع من الشعراء من سمح بالشعر واقتدر على القوافي، وأراك في صدر بيته عجزه وفي فاتحته قافيته، وتبينت على شعره رونق الطبع ووشي الغريزة وإذا أمتحن لم يتلعثم ولم يتزحر " (2) ؛ وهذا يعني أن الطبع يشمل القول على البداهة مثلما يشمل " الصنعة الخفية " التي لا تظهر على وجه الأثر الفني. فإذا قلت " شعر متكلف " - بفتح اللام المشددة - عنيت ظهور " التفكر وشدة العناء ورشح الجبين وكثرة الضرورات وحذف ما بالمعاني إليه حاجة وزيادة ما بالمعاني غنى عنه " (3) ، وهذا يقابل ما نسميه " رداءة الصنعة " وليس كذلك شعر المنقحين أمثال زهير والحطيئة، على أن بعض المتكلف من الشعر قد يكون جيداً محكماً - في رأي أبن قتيبة - ولكن لا أظنه يعني: ما تكثر   (1) الشعر والشعراء: 22. (2) نفسه: 34. (3) نفسه: 32. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 فيه الضرورات وما فيه حذف للضروري وإثبات لما يمكن الاستغناء عنه، وكيف يكون في هذا الجيد المحكم، وهو مخل بابسط مقتضيات البلاغة؟ ويذكر أبن قتيبة سمة أخرى للتكلف في الشعر - سوى رداءة الصنعة - وتلك السمة " أن ترى البيت مقروناً بغير جاره ومضموماً إلى غير لفقه " وهذا مقياس هام لأنه أول الطريق إلى الوحدة الكلية في القصيدة عامة، وفقدان " القران " بين الأبيات ليس من صفات شعر المنقحين، ومن ثم يتضح لنا تماماً أن لفظة المتكلف إذا اقترنت بالشاعر عنت شيئاً متميزاً عن معناها حين يوصف بها نوع من الشعر، ولذلك قال أبن قتيبة في وصف أبيات للخليل " وهذا الشعر بين التكلف رديء الصنعة ". وتقابل لفظة " الطبع " عند أبن قتيبة ما سماه الجاحظ " الغريزة "، وهذه الثانية ترد عند أبن قتيبة أيضاً إذ يقول في تعليله عسر قول الشعر: إنه قد ينشأ، " من عارض يعترض على الغريزة " أي يؤثر في " الطبع " فالطبع كلمة تتعدد دلالتها فهي قد تعني قوة الشاعرية أو الطاقة الشعرية وذلك في مثل قوله: " والشعراء أيضاً في الطبع مختلفون، منهم من يسهل عليه المديح ويعسر عليه الهجاء ومنهم من يتيسر له المراثي ويتعذر عليه الغزل " (1) ، وقد تعني أيضاً " المزاج " حين يتحدث عن تعسر القول على الشاعر في وقت دون وقت وفي مكان دون مكان، ثم هي تختلف اختلافاً دقيقاً عنها عندما تصبح بصيغة المفعول " مطبوع " - إلا أن نتخذ لفظة " مطبوع " لتعني من كان مزاجه يسمح للنظم في كل حين، وهذا شيء ينكره أبن قتيبة نفسه.   (1) الشعر والشعراء: 37. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 الحالات النفسية وعلاقتها بالشعر ولما وقع أبن قتيبة في نطاق الحديث عن " الطبع " بمعنى " المزاج "، كان لابد له من أن يلتفت إلى الحالات النفسية وعلاقتها بالشعر، وقد تناولها من ثلاثة جوانب: (أ) من جانب الحوافز النفسية الدافعة لقول الشعر، كالطمع والشوق والطرب والغضب، وما يثير بعض هذه الحوافز كالشراب، والمناظر الطبيعية الجميلة. (ب) من جانب العلاقة بين الشاعر والزمن، لأن بعض الأوقات ذو تأثير خاص في المزاج الشعري، كأول الليل قبل تفشي الكرى وصدر النهار قبل الغداء. ولهذين الجانبين أثر في التفاوت بين الشاعر الواحد، فبعض الحالات النفسية والجسدية كالغم وسوء الغذاء تمنع من قول الشعر، واختيار وقت من غير الأوقات المشار إليها لا يصلح كذلك، ولكن الشاعر قد يضطر إلى التغاضي عن الحالة الصالحة والوقت الصالح فيكون ما ينظمه حينئذ مختلفاً متفاوتاً، وهنا يعود بنا التذكر إلى أن الأصمعي عندما علل التفاوت في شعر حسان نسب ذلك إلى الموضوع، ولما عرض له أبن سلام نسب ذلك إلى اختلاف القائلين (أي الانتحال) ، أما أبن قتيبة فإنه ذهب إلى التعليل النفسي في ذلك، ولعله كان في هذا أدق فهماً للطبيعة الإنسانية من صاحبيه، فالشاعر الذي يقول بحافز الرجاء والوفاء، يعتمد التفاوت في شعره على تفاوت قوة الحافزين لديه: " وهذه عندي قصة الكميت في مدحه بني أمية وآل أبي طالب فإنه كان يتشيع وينحرف عن بني أمية بالرأي والهوى، وشعره في بني أمية أجود منه في الطالبيين، ولا أرى علة ذلك إلا قوة أسباب الطمع وإيثار النفس لعاجل الدنيا على آجل الآخرة " (1) .   (1) الشعر والشعراء: 22. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 (ج) مراعاة الحالة النفسية في السامعين (أي في الجمهور) ، ومن هذه الناحية علل أبن قتيبة بناء القصيدة العربية: من استهلالها بالبكاء على الأطلال ثم الانتقال إلى وصف الرحلة والنسيب: " ليميل نحوه القلوب ويصرف إليه الوجوه وليستدعي إصغاء الأسماع لأن التشبيب قريب من النفوس لائط بالقلوب لما جعل الله في تركيب العباد من محبة الغزل وإلف النساء، فليس يكاد أحد يخلو من أن يكون متعلقاً منه بسبب وضارباً فيه بسهم حلال أو حرام؛ فإذا استوثق من الإصغاء إليه والاستماع له عقب بإيجاب الحقوق.. " (1) فأبن قتيبة يؤمن أن بناء القصيدة على هذه المقدمات إنما كانت تستدعيه الرغبة في لفت الانتباه، وإشراك السامعين في عاطفة الشاعر، وهي عاطفة تسهل المشاركة فيها لأنها قريبة إلى القلوب جميعاً؛ كما يرى أن مبنى القصيدة لابد أن يظل متناسب الأجزاء معتدل الأقسام فلا يطيل في قسم منها فيمل السامعين، ولا يقطع وبالنفوس ظمأ إلى مزيد؛ ومع أبن قتيبة يقر بأن أجزاء القصيدة قد تتكون من مقدمة طللية ومن نسيب ثم من وصف الرحلة للممدوح ثم المدح، فإنه في وقفته عند مبدأ التناسب يرينا أنه يحس إحساساً دقيقاً بالطول المعين الذي لابد للقصيدة أن تحافظ عليه. هل أبن قتيبة اتباعي يعارض الخروج عن طريقة القدماء وقد فهم بعض الدارسين أن أبن قتيبة يصر على أن يظل هذا الشكل نظاماً صارماً لكل شاعر جاهلياً كان أو إسلامياً أو محدثاً، وأنه حرم على المتأخرين التحلل من ربقة هذا النظام، وهذا الوهم منشؤه قول أبن قتيبة " فالشاعر المجيد من سلك هذه الأساليب وعدل بين هذه الأقسام " - وما أرى أبن قتيبة هنا يؤكد شيئاً سوى التناسب، أما قوله بعد ذلك " وليس لمتأخر الشعراء أن يخرج عن مذهب المتقدمين في هذه الأقسام فيقف على منزل عامر أو يبكي عند مشيد البنيان لأن المتقدمين وقفوا على المنزل الدائر   (1) الشعر والشعراء: 20. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 والرسم العافي، أو يرحل على حمار أو بغل ويصفهما لأن المتقدمين رحلوا على الناقة والبعير، أو يرد على المياه العذاب الجواري لأن المتقدمين وردوا الأواجن والطوامي، أو يقطع إلى الممدوح منابت النرجس والآس والورد لأن المتقدمين جروا على منابت الشيح والحنوة والعرارة " (1) فليس ثمة أوضح منه في الدلالة على تحريم التقليد الشكلي المضحك، وإحلال مواد الحضارة محل مواد البداوة في الشعر. ومن ذا الذي ينكر أن استعمال الحصان أو الحمار بدل الجمل وذكر الأجاص والتفاح بدل الشيح والعرار لا يكون تقليداً مستهجناً مضحكاً؟ للشاعر أن يجدد بما يناسب عصره - دون حكاية قياسية تدل على ضعف الخيال أو أن يعيد كر الرحلة ووصف الطلل - وإن لم يوجدا في عصره - لأنهما قد أصبحا لديه رمزاً لا حقيقة، والرمز ذو محل مقبول، فأما المحاكاة القاصرة فإنها سيئة الوقع تستثير الاهتزاء، وكان أبن قتيبة يومئ من طرف خفي إلى أن أبا نواس لم يصنع شيئاً فنياً في دعوته، وإن كان ألبق من غيره من المأخوذين بمواد الحضارة، لأن الوقوف على الحانات بدل الوقوف على الأطلال تغيير في الموضوع لا في الطريقة الفنية. اهتمام أبن قتيبة بالشاعر يفوق اهتمامه بالشعر مما تقدم نرى أن اهتمام أبن قتيبة متجه في أكثره نحو الشاعر (دون إغفال للشعر والجمهور) فهو إما متكلف أو مطبوع، ولحالته النفسية أثر بين في الشعر، وللغرائز عند الشعراء أثر في تبيانهم في الفنون الشعرية المختلفة. ومن التفت إلى الشاعر واهتم به هذا الاهتمام بين الأركان الثلاثة (الشاعر - الشعر - الجمهور) كان لابد له من أن يعرج على ما يحتاجه الشاعر من ثقافة، ولهذا نجد أبن قتيبة يخص الثقافة السماعية بالاهتمام، فالشعر بعد علم الدين أحوج " العلوم " إلى ذلك   (1) الشعر والشعراء: 22. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 " لما فيه من الألفاظ الغريبة واللغات المختلفة والكلام الوحشي وأسماء الشجر والنبات والمواضع والمياه " (1) فأما الثقافة التي تستمد من الدفاتر والصحف فإنها توقع أهلها في التصحيف والتحريف. وقد يسأل الدارس الحديث: إذا كان أبن قتيبة مهتماً بالشاعر كل هذا الاهتمام، فأين حديثه عن الخيال؟ وهذا سؤال لا يعرض للقدماء، لأن الحديث عن " الطبع " عندهم يتضمن الجواب عليه. فالطبع يتضمن - فيما يتضمنه - تلك القوة التخيلية التي تستثار بالحوافز أو بالطواف في " الرباع المخلية والرياض المعشبة " أو بالوقوف عند الماء الجاري والمكان الخضر الخالي، وقوة الخيال هي قوة " الغريزة " نفسها، وهي قوة متفاوتة بمقدار اختلاف المؤثرات فيها، وهي بحاجة إلى دربة عن طريق الثقافة. ويورد أبن قتيبة ملاحظ جزئية، فيعود للاستثناء على قاعدة (جودة اللفظ وصحة المعنى) فيقول إن بعض الشعر يروى لخصائص أخرى كالإصابة في التصوير أو جمال النغمة أو طرافة المعنى المستغرب أو لأسباب خارجية أخرى كأن يكون صاحبه مقلاً أو عظيماً في الموقع الاجتماعي، وهذه أشياء لا تحدد الشعر وإنما تحدد أسباب الرواية أو الاستحسان لبعض ضروبه. ثم يتحدث أبن قتيبة عن عيوب الإعراب، وعن بعض الضرورات التي يرتكبها الشعراء، ولكنه ينصح الشاعر بأن لا يعتمد وزناً مضطرباً ويختم مقدمته بقوله " أسير الشعر والكلام المطمع.. الذي يطمع في مثله من سمعه وهو مكان النجم من يد المتناول " (2) .   (1) الشعر والشعراء: 26. (2) الشعر والشعراء: 46 - 47. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 خلاصة في مميزات أبن قتيبة في النقد وعلى الرغم من فقر المصطلح النقدي لدى أبن قتيبة فقد تمرس في مقدمته بأكبر المشكلات النقدية التي سيكثر حولها الحديث من بعده، فتحدث عن الشعر من خلال قضية اللفظ والمعنى، والتكلف وجودة الصنعة، وعن ضرورة التناسب بين الموضوعات في القصيدة الواحدة وتلاحقها في سياق، واعتمادها على وحدة معنوية تقيم التلاحم و " القران " بين أبياتها، وعن أسباب خارجة عن الشعر أحياناً تمنحه في نفوس الناس منعزلة وقيمة، وعن العيوب الشكلية التي تعتري العلاقات الإعرابية والنغمات الموسيقية والقوافي. وألمح إلى أهمية التأثير في نفسيات الجماهير بالتناسب والمشاركة العاطفية، وتحدث عن الشاعر متكلفاً ومطبوعاً، وعن المؤثرات والحوافز التي تفعل فعلها في نفسه، وعن علاقة الشاعرية بالأزمنة والأمكنة وعن ثقافة الشاعر، وتفاوت الشعراء في " الطاقة الشعرية "؛ وبذلك كان من أوائل النقاد اللذين لم يتهيبوا الوقوف عند القضايا النقدية الكبرى، كما كان من أبرزهم التفاتاً إلى العوامل النفسية والمبنى الفني الكلي؛ وبينا ذهب الجاحظ إلى وضع نظريات لم ينضجها البحث والدرس، وضع أبن قتيبة استنتاجات تدل على خاطر ذوقي نقدي أصيل، كانت كفاءً بنقل النقد إلى مرحلة جديدة. أبو العباس عبد الله بن المعتز (- 296) ناقد انطباعي لعل ابن المعتز خير مثل الناقد الذي كان يؤمن بقول القائل " أشعر الناس من أنت في شعره حتى تفرغ منه " (1) ، وهو قول كان يعجب ابن قتيبة، لأنه يريح الناقد من المفاضلة أو البحث عن تداول المعنى، ويعبر عن لحظات التحول والتردد في أذواق الناس، ونشوء الميل الآني إلى الشيء، وتجربة صدمة الإعجاب الأول لدى الكشف المفاجئ. " أشعر الناس من   (1) الشعر والشعراء: 26. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 أنت في شعره حتى تفرغ منه " - قاعدة قد ينفر منها النقد الموضوعي الخالص، ولكن نقاد العرب لم يوردوا قوله توجز معنى النقد التأثري مثلها. وحسبك أن تقرأ هذه الأقوال لابن المعتز كي تدرك ما اعنيه: بشار: ومما يستحسن من شعره وغن كان كله حسناً (1) أبو الهندي: ومما يستحسن له وان كان شعره كله حسناً جيداً (2) . ربيعة الرقي: ومما يستملح له، وإن كان شعره كله مليحاً عذباً مطبوعاً جيداً هنيئاً (3) . مسلم بن الوليد: ومما يستحسن له، على أن شعره كله ديباج حسن لا يدفعه عن ذلك أحد (4) . الحارثي: ومن جيد شعره وغن كان كل شعره جيداً (5) . أبو تمام: ومما يستملح من شعره كله حسن (6) . العتابي: وأشعار العتابي كلها عيون، ليس فيها بيت ساقط (7) . وهذه أمثلة تجد لها نظائر كثيرة في كتابه، إذا هو تحدث عن الشعر كله بحكم واحد، ومثلها أحكام على القصيدة الواحدة، " فهذه سارت مسير الشمس والريح " (8) وتلك " أشهر من الشمس " (9) وثالثة " صارت   (1) طبقات ابن المعتز: 28. (2) نفسه: 140. (3) نفسه: 163. (4) نفسه: 235. (5) نفسه: 279. (6) نفسه: 284. (7) نفسه: 264. (8) نفسه: 178. (9) نفسه: 268. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 مثلاً سائراً في الناس " (1) ؛ ورابعة " أشهر من الفرس الأبلق " (2) . ثم أحكام أخرى على البيت الواحد؛ " هذا البيت أقرت الشعراء قاطبة انه لا يكون وراءه حسن ولا جودة معنى " (3) وذلك " سجدة للشعراء " (4) وغير ذلك مما تجده مبثوثاً في كتابه " طبقات الشعراء ". وربما أدهشنا هذا اللون الجارف من الأحكام النقدية. ولكن سرعان ما تزول دهشتنا إذا تذكرنا أن ابن المعتز كان في منزلته الاجتماعية يمثل دور " الرعاية " والعطف على الحركة الأدبية، وليس من خلق " الراعي " ذي اليد العليا ان يتجاوز حدود المجاملة الاجتماعية اللائقة، كذلك فغن ابن المعتز كان ذا مذهب شعري ذي سمات ذاتية خاصة قد تحول بينه وبين تذوق الأشعار التي تباين مذهبه، فلجوءه إلى هذه التأثرية يسبغ عليه صفة " سعة الصدر " في النقد، ويحميه من الاتهام بالتحيز لطريقته؛ وفي ظل هذه التأثرية وحدها يستطيع ان يترجم لشعراء من هجائي أسرته ومداحي العلوية من أمثال السيد الحميري ودعبل. ولا ريب في أن الظهور بهذا المظهر التاثري يحقق له صفة الناقد العادل أكثر مما تحققه الموضوعية، وذلك شيء غريب حقاً. شخص واحد لم يستطع ابن المعتز ان يوسع له مكاناً في كتابه، وذلك هو ابن الرومي لان هذا الشاعر كان قد هجا المعتز أباه، غير إن إغفاله له كان تحاشياً من التورط في الخروج عن خطة التقريظ الانطباعي، وهو أسلم من إدراجه في الكتاب.   (1) طبقات ابن المعتز: 225. (2) نفسه: 284. (3) نفسه: 225. (4) نفسه: 280. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 رسالته في أبي تمام والتطور في رأيه النقدي إلا ان ابن المعتز لم يكن دائماً ذلك الناقد التأثري الذي تتملكه صيحات الإعجاب أمام الأثر الادبي، وإنما نعتقد أن كتاب " طبقات الشعراء " يمثل مرحلة متأخرة في حياته، ودليلنا على ذلك موقفه النقدي من أبي تمام، إذ يبدو أن هذا الموقف مر بمرحلتين: مرحلة تمثلها رسالة مستقلة كتبها في نقد أبي تمام (1) ومرحلة يمثلها كتاب الطبقات. وقد احتفظ لنا التوحيدي بمقدمة تلك الرسالة (2) ، وهي مقدمة تدل على موقف ابن المعتز ومنهجه في نقده، يقول فيها " سهل الله عليكم سبيل الطلب، ووقاكم مكاره الزلل فيما رأيت من تقديم بعضكم الطائي على غيره من الشعراء أمراً ظاهراً، وهو أوكد أسباب تأخير بعضكم إياه عن منزلته في الشعر لما يدعو إليه اللجاج؛ فأما قوله فيه فإنه بلغ غايات الإساءة والإحسان، فكأن شعره قوله: إن كان وجهك لي تترى محاسنه ... فغن فعلك بي تترى مساويه وقد جمعنا محاسن شعره ومساوئه في رسالتنا هذه، فرجونا بذلك ابتداع (؟) المسهب في امتداحه، ورد الراغب عنه إلى إنصافه، واختصرنا الكلام إيثاراً (3) لقصد ما نزعنا إليه وتوقياً لإطالة ما يكتفي بالإيجاز فيه؟ الخ ". فخلاصة رأي الناقد في أبي تمام في هذه الرسالة " أنه بلغ غايات الإساءة والإحسان " أما في الطبقات فقد أصاب رأيه بعض التغير حيث قال: " واكثر ماله جيد والرديء الذي له إنما هو شيء يستغلق لفظه فقط، فأما أن يكون   (1) اقتبس المرزباني كثيراً منها في الموشح: 470 وما بعدها. (2) انظر البصائر 2: 698. (3) في المطبوع: إشارة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 في شعره شيء يخلو من المعاني اللطيفة والمحاسن والبدع الكثيرة فلا " (1) . غير أن نقده في الرسالة تطرق إلى أشياء أخرى من عيوب أبي تمام مثل رداءة المعنى وإخفاق المطابقة وسرقة المعنى دون أن يحسن أخذه والاستعمال الغريب والإغراق في المدح، وتعليقاته في أثناء ذلك قاسية حادة مثل قوله: " وهذا من الكلام الي يستعاذ بالصمت من أمثاله ". وقال عندما أورد لأبي تمام استعارة " شيب الفؤاد ": فيا سبحان الله ما أقبح مشيب الفؤاد. وما كان اجرأه على الأسماع في هذا وأمثاله " (2) . أما في الناحية اللفظية فقد عابه باستعمال الألفاظ الغريبة مثل " الدفقي " و " القاصعاء " و " النفقاء " ثم قال: " إنها من الغريب المصدود عنه وليس يحسن من المحدثين استعمالها لأنها لا تجاوز بأمثالها ولا تتبع اشكالها، فكانها تشكو الغربة في كلامهم " (3) . وبين موقفه من قضية السرقة، وهو يشبه آراء نقاد آخرين من معاصريه فقال: " ولا يعذر الشاعر في سرقته حتى يزيد في إضاءة المعنى أو يأتي بأجزل من الكلام الأول، أو يسنح له بذلك معنى بفضح به ما تقدمه ولا يفتضح به وينظر إلى ما قصده نظر مستغن عنه ولا فقير إليه " (4) ، ثم بين أن العيوب التي عدها وأورد شواهدها من شعره لم تكن إلا نماذج وأنه أسقط ذكر عيوب أخرى ولم يثبتها في رسالته. ومع أن تعليقات ابن المعتز في رسالته هذه ما تزال تأثرية فإنها تبين أن وقوفه إلى جانب المحاسن والمساوئ يهدف إلى شيء من الموضوعية، غير أن القطعة التي بقيت من   (1) طبقات ابن المعتز: 286. (2) الموشح: 483. (3) نفسه: 472. (4) نفسه: 476. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 الرسالة لا تتضمن سوى ذكر المساوئ، التي ترتفع إلى حد الاتهام المتحامل أحياناً. كان يقال إن أبا تمام أخفى الشعر الذي يشبه شعره حين صنع مختاراته لتخفي سرقاته، وذلك ما أشرنا إليه فيما سبق عند الحديث عن حماسة أبي تمام. أبو تمام ومذهبه سبب في تأليف كتاب البديع ويصح لنا أن نقول إن أبا تمام كان يمثل " مشكلة فنية " لدى ابن المعتز، وان هذه المشكلة بدأت مبكرة في تصوره لها، وكانت سبباً من الأسباب التي وجهته إلى تأليف كتاب البديع، ليدل على أن هذا الفن موجود عند العرب وفي القرآن والحديث وكلام الصحابة، وان المحدثين لم يكونوا مبتكرين له وان " حبيب بن أوس من بعدهم شغف به حتى غلب عليه وتفرغ فيه واكثر منه فأحسن في بعض ذلك وأساء في بعض وتلك عقبى الإفراط وثمرة الإسراف " (1) . وقد كان ابن المعتز على وعي بأن هذا الفن لم يعرفه العلماء باللغة والشعر القديم ولا يدرون ما هو وما هي الأنواع التي تقع تحته، وانه مبتدع في استقصائه لصوره وأنواعه غير مسبوق إلى ذلك؛ وقد ألف كتابه سنة 274 وكان أول من نسخه منه هارون بن يحيى بن أبي المنصور المنجم (2) . وفنون البديع عنده خمسة وهي: الاستعارة والتجنيس والمطابقة ورد إعجاز الكلام على ما تقدمها والمذهب الكلامي؛ وقد كان الجاحظ ذكر البديع وأورد أمثلة منه في البيان والتبين، وهو صاحب مصطلح " المذهب الكلامي " بغقرار ابن المعتز نفسه، وبعض المصطلحات الأخرى إنما هي مما استعمله الناس قبل ابن المعتز، فالاستعارة مثلاً مصطلح قديم. كذلك   (1) البديع: 1. (2) نفسه: 58. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 يفهم من خبر مروي عن أبي الحسن علي بن الحسن الأخفش أن الخليل والأصمعي كانا يعرفان " الطباق " (1) ويروي أحدهم عن الأصمعي حديثاً في المطابقة، وانه كان يمثل عليها بقول زهير: ليث بعثر يصطاد الرجال إذا ... ما كذب الليث عن أقرانه صدقا وقول الفرزدق: لعن الإله بني كليب إنهم ... لا يغدرون ولا يفون لجار (2) (يريد التطابق بين كذب وصدق؛ وبين لا يغدرون ولا يفون) . ولكن فضله إنما يتمثل في حشد الشواهد لها من النثر والشعر في القديم والحديث. ومع أن الكتاب قد سمي باسم " البديع "، وهو موضوعه الرئيس، فإن ابن المعتز أضاف إليه " بعض محاسن الكلام والشعر " لتكثر فائدة كتابه، فتحدث في الالتفات والاعتراض والرجوع وحسن الخروج وتأكيد المدح بما يشبه الذم وتجاهل العارف والهزل الذي يراد به الجد والتضمين والتعويض والكتابة والإفراط في الصنعة وحسن التشبيه، فكأنه كان يضع كتاباً في البلاغة، مصراً على أن لفظة " البديع " لا تتناول إلا الخمسة الأولى. والكتاب يمثل مع " البيان والتبين " النواة لعلم البلاغة العربية، ولا يمس النقد الأدبي إلا بطريقة عارضة، من حيث أن النقاد من بعد شغلوا أنفسهم ببعض هذا المصطلح البلاغي في تقويمهم للشعر. غير ان الروح التي أملت الكتاب كانت تمثل جانباً من الحركة النقدية في القرن الثالث، على نحو طريف معكوس، فبدلاً من إنصاف الشعر المحدث، ذهب ابن المعتز ينصف القديم، وعن   (1) حلية المحاضرة، الورقة: 9 (مخطوطة القرويين رقم: 590) . (2) المصدر السابق، الورقة: 10. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 هذه الطريق أكد أن البديع لم يكن بدعاً مستحدثاً، وغنما كان الفضل فيه للقدماء، فالبديع إذن جزء من الموروث الكبير، وهو بهذا ذو أصول راسخة، وليس العيب فيه وإنما العيب في الإفراط في استخدامه، والإفراط مذموم في كل الأمور. لهج ابن المعتز بالبديع في مجالسه الخاصة وقد عرف ابن المعتز بين أبناء عصره باللهج بالبديع والإحساس الدقيق في استكشاف نماذجه وبحثه عنها في الأدب العربي القديم، حتى كانوا يسلمون له السبق في هذا الميدان؛ قال فيه الصولي أنه " كان يتحقق بعلم البديع تحققاً ينصر دعواه فيه لسان مذاكراته " (1) . ويروي الحاتمي عن الصولي أن ابن المعتز سال بعض المجتمعين في مجلسه من فرسان الشعر: ما احسن استعارة للعرب اشتمل عليها بيت من الشعر؟ فقال الأسدي، قول لبيد: وغداة ريح قد وزعت وقرة ... إذ أصبحت بيد الشمال زمامها فجعل للشمال يداً وزماناً؛ قال أبو العباس (أي ابن المعتز) : هذا حسن وغيره أحسن منه، وقد أخذه من قول ثعلبة بن صعير المازني: فتذكرت ثقلاً رثيداً بعدما ألقت ذكاء يمينها في كافر قال: وقول ذي الرمة اعجب إلي منه وغن تأخر زمانه: ألا طرقت مي هيوماً بذكرها ... وأيدي الثريا جنح للمغارب وقال بعضهم: بل قول لبيد:   (1) حلية المحاضرة: الورقة 7 (رقم 590) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 ولقد حميت الحي تحمل شكتي ... فرط وشاحي إذ غدوت لجامها فقال أبو العباس: هذا حسن، ولكن يعدل عنه إلى قول لبيد (الأول) ؛ وقال آخر: قول الهذلي: ولو أنني استودعته الشمس لارتقت ... إليه المنايا عينها ورسولها قال أبو العباس: هذا بديع، وأبدع منه في استعارة لطيفة الاسبيداع قول الحصين بن الحمام المري لأنه جمع الاستعارة والمقابلة في قوله: نطاردهم نستودع البيض هامهم ... ويستودعون السمهري المقوما فقال بعضنا: بل قول ذي الرمة: أقامت به حتى ذوي العود في الثرى ... ولف الثريا في ملاءته الفجر فقال أبو العباس: هذا لعمري نهاية الخيرة، وذو الرمة أبدع الناس استعارة، إلا أن الصواب " حتى ذوي العود والثرى - بواو النسق - لان العود لا يذوي ما دام في الثرى " (1) ؟؟ وهكذا استمر حضور ذلك المجلس يوردون استعارة بعد أخرى وابن المعتز في كل تعليقاته ينبئ عن ذوق فني دقيق في الحكم على أنواعها، وهو أمر يشير إلى الوجهة الفنية التي حفزت ابن المعتز إلى تأليف كتاب في البديع.   (1) حلية المحاضرة، الورقة 7 - 8 (رقم 590) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 الاتجاهات النقدية في القرن الرابع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 الاتجاهات النقدية في القرن الرابع أبو تمام - المتنبي - أرسطو، وأثرهم في نقد القرن الرابع لولا ثلاثة أشخاص كانوا قوى دافعة في توجيه النظرية الشعرية في نقد القرن الرابع، لقدرنا أن يكون حظ ذلك النقد في الاتساع أقل مما أتيح له، ولكن أولئك الأشخاص الثلاثة جعلوا للنقد محوراً ومجالاً، سواء أكان ذلك في الحدود النظرية أو التطبيقية، واضطروا النقاد إلى أن يتعمقوا سبر غور العلاقة بين النظر والتطبيق فيحققوا للنقد شخصية متميزة بعض التميز. أما تلك القوى التي نشير إليها فهي أبو تمام وأرسطو والمتنبي. ولذلك يمكن أن يدرس معظم النقد في القرن الرابع في ثلاثة فصول هي: الصراع النقدي حول أبي تمام، والنقد في علاقته بالثقافة اليونانية، ومعركة النقد التي دارت حول المتنبي. وقد استعمل النقد في هذه المجالات جميع الوسائل التي ورثها من العصر السابق، ومما قبله من عصور، ولم يطرح منها إلا ما كانت تفرضه مناسبة دون أخرى، ومن الطبيعي أن نجد أبا تمام يشغل النصف الأول من القرن الرابع وأن يقابله المتنبي في النصف الثاني، وأن يظل التمرس بالثقافة اليونانية مستمراً طوال القرن، بل أن يتعداه إلى ما بعده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 محاولات أخرى، وكتب نقدية لم تصلنا غير أن هذه الصور النقدية الثلاث - وهي أوسع مجالات النقد في القرن الرابع - يجب إلا تحجب عن أنظارنا الجهود النقدية الأخرى: فهناك محاولة أبن طباطبا في " عيار الشعر "، وأكبرها عمقاً، ولكنها تكاد تعتمد اعتماداً كلياً على صفاء الذوق الفني؛ كذلك فإن المبادئ النقدية استخدمت في دراسة الإعجاز القرآني على يد جماعة من غير النقاد فيهم الخطابي والرماني والباقلاني، وذلك مجال آخر حقيق بالدرس والنظر، وكل صورة من هذه الصور النقدية وغيرها تضيق أو تتسع بحسب ما وصلنا من مصادر؛ ولذا فإن البحث في نقد القرن الرابع قد يحظى بمزيد من الخصب حين تستكشف كتب ألفت في الشعر، ولا نعرف عنها شيئاً سوى الأسماء: ذلك من كتاب " المدخل إلى علم الشعر " لمحمد بن الحسن بن يعقوب العطار (- 355) وكتاب " الترجمان في الشعر " للمفجع البصري (- 327) (1) و " كتاب الشعر " لمحمد بن الحسين بن محمد الفارسي أبن أخت أبي علي الفارسي (- 421) وكتاب " خضارة " في نعت الشعر لأبي الحسين أبن فارس (- 295) . النقد في كتاب الصاحبي أما ما أورده أبن فارس في كتاب الصاحبي عن الشعر فإنه كرر فيه تعريف قدامة بن جعفر للشعر بأنه " كلام موزون مقفى دال على معنى " ثم زاد على ذلك قوله " ويكون أكثر من بيت " حتى ينفي من الشعر ما جاء موزوناً اتفاقاً؛ ثم ذكر الأسباب التي جعلت النبي منزهاً عن الشعر وفي جملتها أن الشعر يقوم على الكذب، تلك النظرية التي دافع عنها قدامة بقوة. وتحدث   (1) ياقوت 17: 194، ويبدو أن هذا الكتاب يتناول الموضوعات، فقد جاء على حدود وهي: حد الأعراب، حد المديح، حد البخل، حد الحلم والرأي، حد الغزل، حد المال، حد الاغتراب، حد المطايا، حد الخطوب، حد النبات، حد الحيوان، حد الهجاء، حد اللغز وهو آخر الكتاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 عن ركوب الشعراء للضرورات والجوازات، ومن ملاحظاته التي تستحق التنويه قوله في تفاوت الشعراء " وقد يكون شاعر أشعر وشعر أحلى وأظرف فأما أن تتفاوت الأشعار القديمة حتى يتباعد ما بينها في الجودة فلا " (1) ، وهو يرى أن الاختيار الذي يزاوله الناس إنما هو شهوات، كل يستحسن شيئاً حسب شهوته (2) ؛ والتعبير عن اختلاف الأذواق بالشهوات أمر طريف حقاً، قد يومئ إلى أن أبن فارس - وهو اللغوي الذي يهمه الشعر للاستشهاد - لم يكن يرى أن هناك أشياء تجمع عليها الأذواق المتباينة. النقد في اختيار الخالدين المسمى الأشباه والنظائر وقد ذهبت بعض الجهود النقدية في اتجاه عملي، يمثل النقد فيه ناحية ضمنية أو شبه ضمنية وخاصة في كتب الاختيار؛ ومن أهم المختارات العامة حماسة الخالديين التي تسمى " الأشباه والنظائر "، ويمثل هذا الكتاب عودة إلى إبراز روائع الشعر الجاهلي وشعر المخضرمين حين وجد المؤلفان أن إقبال الناس على المحدثين قد طغى على كل ما عداه، وقد رسما لهما منهجاً هو العدول عن شعر المشاهير لكثرتها في أيدي الناس، على أنهما لم يخليا كتابهما من بعض الشعر المحدث، وكان من أهم الشئون النقدية التي وقفا عندها التنبيه إلى المعاني المخترعة والمتبعة، وذكر النظائر والأشباه وتبيان المعنى المسروق (3) ؛ وتعليقات الخالديين تتفاوت بين شرح للمعنى أو التنويه بحسن التشبيه أو حسن التقسيم أو جودة المعنى وأشباه ذلك؛ وهما لا ينتقصان الشعر المحدث، بل يريان أن أشعار المحدثين وتدقيقهم في المعاني أضعاف ما للمتقدمين إلا أن المتقدمين لهم الاختراع وللمحدثين   (1) الصاحبي 275. (2) المصدر نفسه. (3) الأشباه والنظائر 3: 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 الاتباع " (1) ويوردان قطعة لمسلم بن الوليد يصف فيها مشي امرأة ثم يعلقان على ذلك بقولهما " لولا أن شرطنا ألا نقدم في هذا الكتاب إلا أشعار المتقدمين ثم نأتي بعد ذلك بالنظائر للمحدثين والمتقدمين لكان سبيلنا أن نجعل هذه الأبيات الأمام في هذا المعنى لجودة ألفاظها وصحة معانيها وإنها واسطة القلادة في هذا المعنى " (2) . ومع إن " الأشباه والنظائر " تشبه " المفضليات " من حيث اعتمادها شعر غير المشاهير، فإنها تختلف عنها وعن حماسة أبي تمام وعن كثير من كتب الاختيارات بوضوح كثير من الأسس النقدية فيها من خلال المفاضلة والمقارنة وإرسال الأحكام والتعليقات، هذا إلى إنها حافلة بتوضيح الجو العام في كثير من القصائد وذلك بإيراد المناسبة التي استدعتها؛ ونظرية السرقات فيها تمثل ما شاع حول هذه النظرية في نقد القرن الرابع وهي أن من أخذ المعنى وزاد فيه وحسن في لفظه كان أحق به من السابق إليه (3) . النقد في تشبيهات أبن أبي عون وهناك اختيارات اعتمدت قاعدة صورية لا موضوعية أو جمعت بين الاثنتين جاعلة الأولى هي الأساس المقدم، واعني بذلك كتب التشبيهات وفي طليعتها كتاب أبن أبي عون في هذا الموضوع. ومن الطريف أن أبن أبي عون يرى الشعر قائماً على ثلاثة أنحاء: المثل السائر والاستعارة الغريبة والتشبيه الواقع النادر (4) وإنما خرج عن هذه الأقسام الثلاثة فكلام وسط أو دون طائل فيه ولا فائدة معه، وإن أجل هذه الأنحاء وأصعبها على صانعها التشبيه وذلك أنه لا يقع إلا لمن طال تأمله ولطف حسنه وميز بين   (1) الأشباه والنظائر 1: 171. (2) نفسه 1: 206. (3) أنظر ج 2: 282. (4) التشبيهات: ص 1 - 2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 الأشياء بلطيف فكره (1) ؛ وقد وعد أبن أبي عون أن يتبع كتابه في التشبيهات بكتاب في الاستعارة وكتاب في الأمثال؛ وهذه قسمة للشعر عجيبة، كما أن قول أبن أبي عون أن التشبيه أصعب من الاستعارة أو من المثل السائر، ربما لم يقره الذين يمارسون صنعة الشعر. وقد كثرت العناية بالتشبيه في القرن الرابع وأفردت فيه مؤلفات، منها كتاب لحمزة بن الحسن، وكتاب " روائع التوجيهات في بدائع التشبيهات " لنصر بن يعقوب، الذي ألف أيضاً كتاب " ثمار الأنس في تشبيهات الفرس " (2) ؛ وإن التوفر على التشبيهات في المشرق والمغرب، يدل على أن الاهتمام بالصورة الأدبية، هو الذي أخذ يسيطر على الذوق العام، إلى أن تتضاءل القصيدة في نظر النقاد بحيث تصبح عدداً من الصور المختارة لروعتها. السرقات في نقد القرن الرابع وقد شغل النقد في القرن الرابع كثيراً بالكشف عن السرقات؛ وسوف يتضح هذا في النقد الذي دار حول أبي تمام والبحتري والمتنبي؛ غير أن هناك شعراء آخرين ألفت كتب في الحديث عن سرقاتها، ومما وصلنا في هذا الموضوع " سرقات أبي نواس " لمهلهل بن يموت بن المزرع (- 334) ؛ وتذكر المصادر كتاباً عاماً في السرقات لجعفر بن محمد أبن حمدان الموصلي (- 323) ، يقول أبن النديم؛ ولم يتمه، ولو أتمه لاستغنى الناس عن كل كتاب في معناه (3) . ولعل التأليف في السرقات يربو على المؤلفات في أي موضوع آخر. وسنتحدث في الصفحات التالية عن أهم الظواهر النقدية في القرن الرابع،   (1) التشبيهات: 2. (2) اليتيمة 4: 389 - 390. (3) الفهرست. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 مع ملاحظة الناحية الزمنية في كل مبحث على حدة، بقدر المستطاع، على أن نذكر أن النقد المتأثر بالثقافة اليونانية كان من أقل التيارات ظهوراً في مجال التطبيق لأمور تتبين أثناء العرض المسهب لذلك الاتجاه، في موضوعه من هذه الدراسة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 اعتماد الذوق الفني في إنشاء نظرية شعرية (عيار الشعر لابن طباطبا - 322) لمحة عن ابن طباطبا عاش الشاعر أبو الحسن محمد بن احمد بن طباطبا (1) بأصبهان وتوفي فيها، وله كتب ألفها في الأشعار والآداب أشهرها " عيار الشعر "، وهو من الكتب التي لفتت إليها التوحيدي فأكثر من النقل عنه في البصائر وفي " المنتزع "، كما تأثر به آخرون من بعد، وفي الرد عليه ألف الآمدي: " نقض عيار الشعر " (2) ، وقد نعده في تاريخ النقد الأدبي حلقة متممة لما جاء به ابن قتيبة. إذ يبدو انه أطلع على مقدمة " الشعر والشعراء " وأفاد من الأحكام والنظرات التي وردت فيها، وكانت لديه أثارة من ثقافة فلسفية أو اعتزالية أفادته في تعميق نظرته عامة وإن لم تلهمه أحكاماً بعينها، كما أنها لم تمنح كتابه أتساقاً في التبويب والتأليف، ولذلك جاء مقالة استطرادية في النقد معتمدة على صفاء الذوق الفني دون سواه.   (1) انظر ترجمته في ياقوت 17: 143 والوافي 2: 79 ومعجم الشعراء للمرزباني: 427 والفهرست: 136. (2) أشار محققا الكتاب إلى تأثره بابن قتيبة (انظر المقدمة: ط) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 تعريف الشعر عند أبن طباطبا يعرف ابن طباطبا الشعر بأنه " كلام منظوم " وإن الفرق بينه وبين النثر إنما يكمن في النظم، وإن نظمه معلوم محدود، ويجب أن نقر بأن هذا التعرف على قصوره لم يتعرض لذكر التقفية التي سيتعرض لها قدامة بقوة، ولكنه يشارك تعريف قدامة في النص على أن الشاعر مستغن عن العروض، إذا كان صحيح الطبع والذوق. ثم يتناول - كما تناول ابن قتيبة قبله - ثقافة الشاعر فينص على ضرورة " التوسع في علم اللغة والبراعة في فهم الأعراب والرواية لفنون الآداب والمعرفة بأيام الناس وأنسابهم ومناقبهم ومثالبهم والوقوف على مذاهب العرب في تأسيس الشعر والتصرف في معانيه، في كل فن قالته العرب فيه؟ الخ " (1) . اتباع السنة العربية في الشعر اتباع " السنة " أو الموروث هو معتمد ابن طباطبا في النقد، وهو على تضييقه في هذه الاتباعية ينفذ إلى أغوار عميقة توضح انه لا يرى الشعر شيئاً منفصلاً عن البيئة والمثل الأخلاقية وإن لم يستطع أن يطبق على معاصريه قانون " تغير البيئات والأزمنة ". فللعرب طريقة في التشبيه مستمدة من بيئتهم لان " صحونهم البوادي وسقوفهم السماء، فليست تعدو على أوصافهم ما رواه منها وفيها. وفي كل واحدة منها في فصول الزمان على اختلافها من شتاء وربيع وصيف وخريف؛ من ماء وهواء ونار وجبل ونبات وحيوان وجماد وناطق وصامت ومتحرك وساكن. وكل متولد من وقت نشوئه وفي حال نموه إلى حال انتهاءه " (2) . وقبل أن يسرع الشاعر إلى رد بعض تشبيهاتهم، عليه ان يتفحصها مفتشاً عن معناها " فأنهم أدق طبعاً من أن   (1) عيار الشعر: 4. (2) نفسه: 10. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 يلفظوا بكلام لا معنى تحته " فإذا استبان ذلك لطف موقعه لديه (1) . وللعرب مثل عليا هي متكأهم في المدح والهجاء " منها في الحلق: الجمال والبسطة، ومنها في الخلق: السخاء والشجاعة والحلم والحزم والعزم والوفاء والعفاف والبر والعقل والأمانة؟.. " (2) فهذه مما يمدح به كما إن أضدادها تصبح موضوعاً للهجاء. على ان هناك حالات تؤكد هذه المثل، فالجود في حال العسر أهم من مجرد الجود، والبخل من الواجد القانع أشنع، وهكذا تتخذ هذه المثل نفسها مراتب متفاوتة تتشعب منها فنون من القول وصنوف من التشبيهات، وما من شك في أننا هنا نقترب اقتراباً شديداً من نظرية قدامة في هذا الصدد. كما سنبين ذلك في موضعه، ولكن يبدو أن كلاً من الناقدين كان يعمل على حدة دون أن يتأثر أحدهما برأي الآخر أو يسمع به. للعرب إذن طريقة خاصة في التشبيه من وحي بيئتهم ولهم مقاييس يعتمدونها في المدح والذم؛ ولهم أيضاً سنن من معتقدات لا تفهم معانيها إلا بالتحصيل، وهي أشبه بالمنجم الأسطوري الذي لا بد للشاعر أن يغترف منه عند الحاجة، كسقيهم العاشق للماء على خرزة تسمى السلوان، وكضربهم الثور إذا امتنعت البقر عن الماء، وكحذف الصبي منهم سنه إذا سقطت في عين الشمس، وغير ذلك (3) ، وكل ذلك يمثل " السنة " الكبرى التي يجدر بالشاعر ان يثقفها ليجيء شعره كأشعارهم.   (1) عيار الشعر: 11. (2) نفسه: 12. (3) انظر عيار الشعر 32 - 40. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 الشعر نتاج الوعي المطلق غير أن هذا الالتزام بالسنة - لدى ابن طباطبا - لا يعدو مرحلة الاستعداد والتثقيف والدرس والتحصيل، لأنه لا يلبث عند الخوض في طريقة بناء الشعر أن يقضي قضاء مبرماً على ما سماه النقاد بشعر الطبع عند العرب، وان يعتمد صنعة جديدة المضمون والطريقة في النظم، وتعد نظرته هذه ابتعادا صارخاً عن مفهوم " الغريزة " إذ يصبح الشعر لديه " جيشان فكر " - قائماً على الوعي التام المطلق، خاضعاً للتفقد في اللفظة بعد اللفظة والشطر بعد الشطر والبيت أثر البيت، فهو لا يعترف بطاقة تنظم السياق أو انفعال يبعث تدافع القول، وإنما القصيدة لديه كالرسالة تقوم على معنى في الفكر، فإذا أراد الشاعر نظماً وضع المعنى في فكره نثراً ثم أخذ في صياغته بألفاظ مطابقة، وقد تأتيه أبيات غير متناسقة فيأخذ في تنسيها حتى تطرد وتنتظم، فإذا وجد موضعاً يحتاج بيتاً لاستكمال السياق نظمه وأدرجه في موضعه، فإذا انتهت القصيدة عاد عليها يحاكم ألفاظها فاستغنى عن كل لفظة مستكرهة ووضع بدلها لفظة سهلة نقية، " وغن اتفقت له قافية قد شغلها في معنى من المعاني واتفق له معنى آخر مضاد للمعنى الأول وكانت تلك القافية أوقع في المعنى الثاني منها في المعنى الأول، نقلها إلى المعنى المختار الذي هو احسن، وأبطل ذلك البيت أو نقض بعضه وطلب لمعناه قافية تشاكله " (1) ، ويقول أيضاً في موضع آخر من كتابه: " وينبغي للشاعر أن يتأمل شعره وتنسيق أبياته ويقف على حسن تجاورها أو قبحه، فيلائم بينها لتنتظم معانيها له ويتصل كلامه فيها ولا يجعل ما قد ابتدأ وصفه أو بين تمامه فصلاً من حشو ليس من جنس ما هو فيه؟ كما انه يحترز من ذلك في كل بيت. فلا يباعد كلمة عن أختها ولا يحجز بينها وبين تمامها بحشو يشينها. ويتفقد كل مصراع. هل يشاكل ما قبله؟ " (2) .   (1) عيار الشعر: 5. (2) عيار الشعر: 124. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 تضاؤل المسافة بين القصيدة والرسالة لقد كان من الممكن لدى بعض النقاد السابقين أن تتخذ بعض قواعد البلاغة الخطابية مقاييس للشعر، أما ابن طباطبا فمحا الفروق بين القصيدة والرسالة النثرية في البناء والتدرج واتصال " الأفكار ": " إن للشعر فصولاً فصول الرسائل فيحتاج الشاعر إلى ان يصل كلامه على تصرفه في فنونه صلة لطيفة فيتخلص من الغزل إلى المديح، ومن المديح إلى الشكوى، ومن الشكوى إلى الاستماحة؟ بلا انفصال للمعنى الثاني عما قبله " (1) . وقطع القول الفصل ان: " الشعر رسائل معقودة والرسائل شعر محلول " (2) ، ولكن يظل هناك فرق بين القصيدة والرسالة: فقد يجوز في الرسالة ان يبنى فيها كل فصل قائماً بنفسه، أما القصيدة فلا يجوز فيها ذلك بل يجب أن تكون كلها " ككلمة واحدة، في انتباه أولها بآخرها نسجاً وحسناً وفصاحة وجزالة ألفاظ ودقة معان وصواب تأليف " (3) . غير أن هذا ليس فرقاً بين كل قصيدة وكل رسالة وغنما هو فرق بين القصيدة ونوع معين من الرسائل لا تعتمد فيه وحدة البناء. ومن ثم يضع ابن طباطبا معياراً للشعر المحكم المتقن وذلك انه إذا نقض بناؤه وجعل نثراً لم تبطل فيه جودة المعنى ولم تفقد جزالة اللفظ (4) .   (1) عيار الشعر: 6. (2) نفسه: 78. (3) نفسه: 126. (4) نفسه: 7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 الوحدة في القصيدة وحدة بناء ومن هذا يتضح ان القصيدة قد تتعدد موضوعاتها، وان الوحدة فيها قد تكون وحدة بناء وحسب، فتلك هي الغاية الكبرى من هذا التدقيق في التوالي والتدرج وإقامة العلاقات بين الاجزاء. والصورة الصناعية لا تفارق خيال ابن طباطبا في عمل الشعر، فالشاعر تارة كالنساج الحاذق (1) ، وتارة كالنقاش الرقيق الذي " يضع الأصباغ في أحسن تقاسيم نقشه، ويشبع كل صبغ منها حتى يتضاعف حسنه في العيان " وتارة هو كناظم الجوهر يؤلف بين النفيس الرائق ولا يشين عقوده برص الجواهر المتفاوتة نظماً وتنسيقاً (2) . ومن ثم تصور ابن طباطبا الوحدة في العمل الفني كالسبيكة المفرغة من جميع أصناف المعادن (3) ، حتى تخرج القصيدة كأنها مفرغة إفراغاً؟ لا تناقض في معانيها ولا وهي في مبانيها ولا تكلف في نسجها (4) - صنعة خالصة لا تنبعث فيها حركة من نمو ولا تمازجها حياة عضوية، تلك هي صورة " الوحدة " عند هذا الناقد الذي لا يعرف إلا التأني العقلي الواعي في التقدير والرصف. مأزق الشعر المحدث، هو السر في اختيار هذه الطريق هل كان هذا وليد طريقة ذاتية في الشعر؟ هل كان فهماً خاصاً لما أثر عن " عبيد الشعر " امثال زهير والخطيئة من تفضيل الحولي المحكك؟ أكبر الظن انه كان تعبيراً عن أزمة الشاعر المحدث، الذي كان في رأي ابن طباطبا في محنة: " والمحنة على شعراء زماننا في أشعارهم أشد منها على من كان قبلهم لأنهم قد سبقوا إلى كل معنى بديع ولفظ فصيح وحيلة لطيفة وخلابة ساحرة، فإن أتوا بما قصر عن معاني   (1) عيار الشعر: 5. (2) نفسه: 5 - 6. (3) نفسه: 10. (4) نفسه: 126 - 127. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 أولئك ولا يربي عليها لم يتلق بالقبول وكان كالمطروح المملول " (1) ، فإذا شاء هذا الشاعر المحدث أن يأتي بما يحظى بالقبول كان لابد له من التدقيق في الصنعة أضعاف ما كان يمارسه منها الشاعر القديم. قلة المعاني لدى الشاعر المحدث وطريقته في تحصيلها ومن ىمن بان مجال المعاني قد ضاق على الشاعر المحدث فلا بد له من قانون للأخذ والسرقة، وقانون ابن طباطبا شبيه بما ذكرنا عن غيره من النقاد في القرن الثالث: " وإذا تناول الشاعر المعاني التي قد سبق إليها فأبرزها في أحسن من الكسوة التي عليها لم يعب بل وجب له فضل لطفه وإحسانه فيه " (2) . كيف يمكن للشاعر أن يأخذ المعنى من غيره بحيث يخفى أخذه على النقاد؟ إن من يعلم الشاعر كيف يصنع قصيدته بيتاً بيتاً بل كلمة كلمة لابد له من ان يعلمه طريقة من السرقة لا يناله فيها الحد: على الشاعر ان يستعمل " المعاني المأخوذة في غير الجنس الذي تناولها منه، فإذا وجد معنى لطيفاً في تشبيب أو غزل استعمله في المديح، وغن وجده في المديح استعمله في الهجاء، وغن وجده في وصف ناقة او فرس استعمله في وصف الإنسان، وغن وجده في وصف الإنسان استعمله في وصف بهيمة، فإن عكس المعاني على اختلاف وجوهها غير متعذر على من احسن عكسها واستعمالها في الأبواب التي لا يحتاج إليها، وإن وجد المعنى اللطيف في المنثور من الكلام أو في الخطب والرسائل فتناوله وجعله شعراً كان أخفى واحسن " (3) . وتعود صورة الجوهري الصائغ إلى ذهن ابن طباطبا فيشبه هذا الأخذ بعمل الصائغ الذي يذيب الحجر الكريم ويعيد صياغته بأحسن مما كان عليه " فإذا أبرز الصائغ ما صاغه في غير الهيئة   (1) عيار الشعر: 9. (2) نفسه: 76. (3) نفسه: 77 - 78. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 التي عهد عليها واظهر الصباغ ما صبغه على غير الذي عهد قبل، التبس الأمر في المصوغ وفي المصبوغ.. " (1) . صورة العلاقة بين اللفظ والمعنى وقد يقف النقد المعاصر موقف المخالفة الصريحة والمباينة التامة لرأي ابن طباطبا هذا، ولكنه لابد ان يكبر فيه - من هذه الناحية - شيئين: أولهما هذا التصور الذي لا يختل أبداً لصورة القصيدة في نفسه، وثانيهما هذا الإلحاح الشديد على نوع من الوحدة لا نجده كثيراً عند غيره من النقاد. وحين قلنا إنها وحدة لا تنبعث فيها حركة من نمو كنا نشير إلى هذا المجاز " المعدني " أو " الصباغي " الذي قد استولى على خياله، حتى اضعف لديه صورة مجاز آخر قائم على الحياة النابضة. وذلك هو تصوره للعلاقة بين المعنى واللفظ في القصيدة على نحو العلاقة بين الروح والجسد، وهو ينسب هذا الرأي لبعض الحكماء: " والكلام الذي لا معنى له كالجسد الذي لا روح فيه كما قال بعض الحكماء: الكلام جسد وروح، فجسده النطق وروحه معناه " (2) وذلك تصور يجعل الصلة بين اللفظ والمعنى عند ابن طباطبا أوضح مما رسمه ابن قتيبة، على أنه ربما لم يقتصر في العلاقة بينهما على الوجوه الأربعة التي عدها القتبي، لأنه لا يريد ان يلتزم بقسمة منطقية. فهناك أشعار مستوفاة المعاني سلسلة الألفاظ، وأشعار غثة الألفاظ باردة المعنى، وأشعار حسنة الألفاظ واهية تحصيلاً ومعنى، وأشعار صحيحة المعنى رثة الصياغة، وأشعار بارعة المعنى قد أبرزت في أحسن معرض وأبهى كسوة وارق لفظ، وأشعار مستكرهة الألفاظ قلقة القوافي رديئة النسج (دون إشارة ما تتضمنه من المعاني) ، مما يشير إلى أن ابن طباطبا يصدر في حديثه عن مستويات مختلفة، وعن تذوق خالص لا علاقة له بالتقسيم المنطقي.   (1) عيار الشعر: 78. (2) نفسه: 11، 121. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 تأثير الشعر - كنظمه - عميل عقلي خالص عن طريق جمال " الاعتدال " ولما كان ينظم الشعر في رأي ابن طباطبا عملاً عقلياً خالصاً، كان تأثير الشعر عقلياً كذلك، لأنه مقصود بمخاطبة الفهم، ووسيلته إلى هذه المخاطبة هي " الجمال " أو الحسن، والسر في كل جمال الاعتدال كما أن علة القبح هي الاضطراب، ولذلك لا يتحقق جمال الشعر إلا بالاعتدال - أي الانسجام - القائم بين صحة الوزن وصحة المعنى وعذوبة اللفظ، فإذا تم له ذلك كان قبول الفهم له كاملاً، فإذا نقص من اعتداله شيء أنكر الفهم منه بقدر ذلك النقصان، والفهم هو القوة التي تجد في الشعر " لذة "، مثلما ان كل حاسة تلتذ بما يليها وتتقبل ما يتصل بها: " فالعين تالف المرأى الحسن وتقذى بالمرأى القبيح الكريه، والأنف يقبل المشم الطيب ويتأذى بالمنتن الخبيث، والفم يلتذ بالمذاق الحلو ويمج البشع المر؟ الخ " (1) ؛ ها هنا موقف لابد من ان يستوقفنا في تاريخ النقل العربي، وهو الإلحاح على فكرة المتعة المترتبة على الجمال في الشعر، وتعريف العلة الجمالية بأنها " الاعتدال " دون أي عامل آخر، حتى لقد نعد ابن طباطبا واحداً من النقاد الجماليين في هذا الموقف، ولكن سرعان ما تصبح هذه المتعة نفسها وسيلة أخلاقية لان الحالة اللذية التي يقع فيها المتلقي تتجاوز فادتها حد الاستمتاع بالجمال، إذ تصبح في نفاذها إلى " الفهم " كقوة السحر، ويكون اثر الشعر الجميل عندئذ أن يسل السخائم ويحلل العقد ويسخي الشحيح ويشجع الجبان (2) ، ومع ان الناقد يربط بين الغايتين اللذية والأخلاقية فانه اكثر جنوحاً إلى تأكيد المتعة الجمالية الخالصة، لأنها هي التي تتحقق في " الفهم " أولاً (3) .   (1) عيار الشعر:14 وانظر أيضاً الصفحة التالية. (2) عيار الشعر: 16. (3) قد يقال أن " الفهم " مصطلح يتحمل التوجيه بحسب رأي الأقدمين لأنه قوة من قوى " النفس " ولكن ابن طباطبا واضح في هذا الموقف، إذ يشبه حال الفهم أمام الشعر بحال من يستمع إلى الغناء، فالمستمع الذي يفهم المعنى واللف مع اللحن طرباً من الذي يقتصر على طيب اللحن وحده (عيار الشعر: 15) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 الصدق - يسبب الاتجاه العقلي - أساس الشعر وما دام الفهم هو منبع الشعر ومصبه، فلا غرابة أن يجعل ابن طباطبا عنصر " الصدق " أهم عناصر الشعر وأكبر مزاياه؛ لان هذا الصدق صنو للاعتدال الجمالي في حرم الفهم: " والفهم يأنس من الكلام بالعدل الصواب الحق؟. ويستوحش من الكلام الجائر الخطأ الباطل " (1) ، فالجمال والحق (أو الصدق) مترادفان هنا في الدلالة، فهذا الصدق يعني السلامة التامة من " الخطأ " في اللفظ و " الجور " في التركيب و " البطلان " في المعنى، أي هو أن يتمتع الشعر بالاعتدال بين هذه العناصر جميعاً، فإذا هو بسبب هذا الصدق شيء جميل، لان " ميزان الصواب " قبل ما فيه من لفظ ومعنى وتركيب. ضروب الصدق ومواطنه في الشعر وأزمة الشاعر المحدث بالنسبة للصدق ذلك هو الصدق في محمله العام، ولكنه لابد من أن يتحقق أيضاً في الفنان نفسه وفي بعض عناصر العمل الفني، ولهذا كانت لفظة الصدق متفاوتة الدلالة عند ابن طباطبا: (1) فهناك الصدق عن ذات النفس بكشف المعاني المختلجة فيها والتصريح بما يكتم منها والاعتراف بالحق في جميعها (2) ، وهذا يشبه ما نسميه " الصدق الفني " أو " إخلاص " الفنان في التعبير عن تجربته الذاتية. (2) وهناك صدق التجربة الإنسانية عامة وهذا يتمثل في قبول الفهم للحكمة " لصدق القول فيها وما أتت به التجارب منها " (3)   (1) عيار الشعر: 14. (2) عيار الشعر: 15 - 16. (3) نفسه: 120. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 (3) وهناك الصدق التاريخي، وذلك يتمثل عند " اقتصاص خبر أو حكاية كلام "، وهنا يجيز ابن طباطبا للشاعر إذا اضطر ان يزيد أو ينقص على شرط أن تكون " الزيادة والنقصان يسيرين غير مخدجين لما يستعان بهما وتكون الألفاظ المزيدة غير خارجة من جنس ما يقتضيه، بل تكون مؤيدة له وزائدة في رونقه وحسنه " (1) . (4) ونوع رابع من الصدق قد ندعوه " الصدق الأخلاقي " وهو ما لا مدخل فيه للكذب بنسبة الكرم إلى البخيل او نسبة الجبن إلى الشجاع، وإنما هو نقل للحقيقة الأخلاقية على حالها، وهذا يتبين في المدح والهجاء كما يتبين في غيرهما من الفنون، وهو موقف يذكرنا بثناء عمر (رض) على زهير وانه كان يمدح الرجل بما فيه، ولكن من المدهش أن نجد سذاجة ابن طباطبا او مثاليته ترى في كل الشعر قبل عصر المحدثين ما رآه عمر في زهير: " ومع هذا فان من كان قبلنا في الجاهلية الجهلاء وفي صدر الإسلام من الشعراء كانوا يؤسسون أشعارهم في المعاني التي ركبوها على القصد للصدق فيها مديحاً وهجاء وافتخاراً ووصفاً وترغيباً وترهيباً إلا ما قد احتمل الكذب فيه في حكم الشعر من الإغراق في الوصف والإفراط في التشبيه وكان مجرى ما يوردونه مجرى القصص الحق والمخاطبات بالصدق ... " (2) . أما المحدثون فلم يعودوا يستطيعون هذا النوع من الصدق، ولذلك أصبح تقدير شعرهم إنما ينصرف إلى معانيهم المبتكرة وألفاظهم المنتظمة ونوادرهم المضحكة. والأناقة العامة التي تمازج أشعارهم " دون حقائق ما يشتمل عليه المديح والهجاء وسائر الفنون التي يصرفون القول فيها " (3) . ومثل   (1) عيار الشعر: 43. (2) عيار الشعر: 9. (3) المصدر نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 هذا التصور يفسر لنا لم كانت " السنة " العربية في الشعر تملك لب ابن طباطبا، ذلك لأنه لم يكن يرى المثل الأعلى الفني في تلك السنة وحسب، بل لأنها كانت في تصوره مثالاً أخلاقياً كذلك. (5) أما النوع الخامس من الصدق فهو الصدق التصويري أو ما يسميه ابن طباطبا " صدق التشبيه " وهو ينص عليه في غير موطن من كتابه؛ على الشاعر أن " يتعمد الصدق والوفق في تشبيهاته " (1) ، وأحسن التشبيهات ما إذا عكس لم ينتقض بل يكون كل شبه بصاحبه مثل صاحبه ويكون صاحبه مثله مشتبهاً به صورة ومعنى (2) ، وللتشابه أنحاء: منها الصورة والهيئة والمعنى والحركة واللون والصوت، فكلما زاد عدد هذه الأنحاء في التشبيه " قوي التشبيه وتأكد الصدق فيه " (3) ومن التشبيهات التي أجمعت فيها الصورة واللون والحركة والهيئة قول ذي الرمة: ما بال عينك منها الدمع ينسكب ... كأنه من كلى مفرية سرب وفراء غرفية أثاى خوارزها ... مشلشل ضيعته بينها الكتب فما كان من التشبيه صادقاً قلت في وصفه " كأنه " أو قلت " ككذا " وما قارب الصدق قلت فيه: تراه أو تخاله أو يكاد (4) ، فإذا خرج الشاعر عن الصدق انتقل إلى الغلو والإفراط، وذلك عيب. ومتى تضمن الشعر صفات صادقة وتشبيهات موافقة وأمثالاً مطابقة تصاب حقائقها ارتاحت غليه النفس وقبله الفهم (5) . فإذا توفرت للشعر   (1) عيار الشعر: 6. (2) نفسه: 7. (3) نفسه: 17. (4) نفسه: 23. (5) نفسه: 120 - 121. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 أنواع الصدق، وتوفر للشاعر صدق التجربة جاء شعراً جميلاً معتدلاً مؤثراً، هكذا يجب ان " ينسق الكلام صدقاً لا كذب فيه وحقيقة لا مجاز معها فلسفياً " (1) . جور مذهب ابن طباطبا على قوة الخيال والتشخيص في الشعر ولا يتضح لنا كم كان التزام ابن طباطبا بالحقيقة شديد الجناية على النقد إلا إذا نحن قرأنا بعض الشواهد التطبيقية لديه. فهو يعيب قول المثقب العبدي على لسان ناقته: تقول وقد درأت لها وضيني ... أهذا دينه أبداً وديني أكل الدهر حل وارتحال ... أما يبقي علي ولا يقيني لأن الحكاية عن ناقته من المجاز المباعد للحقيقة. ثم يعد من الإيماء المشكل قول الشاعر: أومت بكفيها من الهودج ... لولاك هذا العام لم أحجج أنت إلى مكة أخرجتني ... حباً ولولا أنت لم اخرج فهذا إفراط لان " الإيماء " لا يتحمل كل هذه المعاني التي قالتها. تلخيص عام لموقفه النقدي ولكن ذلك هو ابن طباطبا في نقده، يرى اتباع السنة حيث أمكن ذلك أمراً لازماً. وينفي الفرق بين القصيدة والرسالة إلا في النظم ويتصور الوحدة في القصيدة وحدة مبنى قائم على تسلسل المعاني والموضوعات. بحيث تكون " العملية " الشعرية عملاً عقلياً واعياً تمام الوعي. ويعتبر التأثير الآتي من قبل الجمال - وهو الاعتدال - تأثيراً في الفهم على شكل   (1) عيار الشعر: 128. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 لذة كاللذة التي تجدها الحواس المختلفة في مدركاتها، وإذا كان الاعتدال ميزة للجمال في الكيان الكلي، فان الصدق - على اختلاف مفهوماته - هو الذي يهيئ الفهم لقبول المحتوى والتجربة؛ ذلك موقف نقدي فيه شذوذ حتى على بعض مفهومات النقد المعاصرة حينئذ. إلا أنه موقف متكامل، وفي تكامله سر انفراده، بين سائر المحاولات النقدية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 2 - الصراع النقدي حول أبي تمام أبو تمام لدى نقاد القرن السابق كانت الظاهرة التي يمثلها أبو تمام في الشعر قد شغلت النقاد والمتذوقين في القرن الثالث، ثم ورثها نقاد القرن الرابع وأمعنوا فيها، وقد مر بنا كيف ألف فيه أبن المعتز (- 296) رسالة مستقلة، ويتضح مما جاء فيها انقسام الناس إزاءه - في دور مبكر - في فريقين، حتى جعل أبن المعتز أسباب التحامل عليه لجاجاً في الخصومة التي اضطلع بها من ينفرون من طريقته، لأفراط الذين يقدمونه ويتعصبون له (1) . ومن قبله كشف أحمد بن أبي طاهر (- 280) بعض المعاني التي سرقها أبو تمام من غيره (2) ؛ هذا في باب التأليف، أما الخصومة الشفوية حوله فقد كانت واسعة النطاق، ولم تسكن نائرتها في القرن الرابع، بل لعلها ازدادت في النصف الأول منه حدة، كما أن حركة التأليف في الانتصار له أو في تبيان عيوبه قد اتسعت؛ وكان الجانب الأكبر من جهد نقاد القرن الثالث في مجالسهم وفي ما كتبوه عنه يميل إلى إبراز عيوبه؛ وقد تحددت تلك العيوب في سرقته لبعض المعاني   (1) الموشح: 470. (2) راجع الموازنة 1: 110 - 129. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 وفي تعسفه للاستعارة وبعض وجوه البديع الأخرى وفي الابتداءات البشعة وفي استعماله لألفاظ وحشية غريبة وفي استغلاق بعض معانيه، وهذه هي أهم المظاهر التي تناولها بالتفصيل أيضاً نقاد القرن الرابع. رسالة أبن عمار القطريلي في أخطاء أبي تمام فكتب أحمد بن عبيد الله بن عمار القطريلي (- 319) (1) رسالة يبين فيها أخطاءه في الألفاظ والمعاني، وأبن عمار هو صديق أبن الرومي، وكان هذا الشاعر يلقبه " العزير " لكثرة تسخطه على ما تجيء به الأقدار، إذ كان محارفاً في الرزق، ويقول أبن النديم أنه توكل للقاسم بن عبيد الله ولوالده وصحب أبا عبد الله محمد بن الجراح؛ وله عدة مؤلفات منها مما يتصل بالنقد كتاب في تفضيل أبن الرومي وكتاب في مثالب أبي نواس، وأنفرد الآمدي بذكر مؤلفه في أبي تمام (2) ، ووصفه بالتحامل على أبي تمام وأنه طعن فيما لا يطعن عليه، وأحتج بما لا تقوم به حجة؛ ويؤخذ من بعض الأمثلة التي أوردها الآمدي أن أبن عمار كان يورد البيت من شعر أبي تمام دون أن يدل على وجه العيب فيه، فقد أورد قوله: رقيق حواشي الحلم لو أن حلمه ... بكفيك ما مريت في أنه برد ثم اكتفى بأن علق على البيت بقوله: هذا الذي أضحك الناس منذ سمعوه إلى هذا الوقت (3) ؛ وإذا كان الآمدي قد وصف أبن عمار بالإسراف   (1) أنظر ترجمته في الفهرست: 148 وتاريخ بغداد 4: 252 ومعجم الأدباء 3: 232 والوافي ج 7 الورقة: 83 وقد اختلف في وفاته فذكر الخطيب وياقوت أنه توفي سنة 314، ونقل عن معجم المرزباني أنه توفي سنة 310، وأثبتنا ما أورده صاحب الفهرست. (2) الموازنة 1: 135. (3) الموازنة: 1: 138. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 فحسبنا هذا، لأن الآمدي نفسه لم يكن ممن يقدمون أبا تمام أو يتعصبون له، وموقف أبن عمار هذا مرده إلى الاحتكام للهوى، فقد كان على صداقته لأبن الرومي يعيب شعره ويحمل عليه بشدة، فلما مات أبن الرومي ألف كتاباً في تفضيله وبيان محاسن شعره؛ ومثل هذا الناقد لا يصاب في رأيه من قبل المقدرة على الحكم المصيب وإنما يصاب من قبل العناد والذهاب مع حب المخالفة، وإلا فإن الآراء النقدية التي وصلتنا لأبن عمار - في غير أبي تمام - تدل على قوة النفس ونفاذ في البصر ووضع للحسنة إلى جانب السيئة كقوله في بشار: " بشار أستاذ المحدثين الذي عنه أخذوا ومن بحره اغترفوا وأثره اقتفوا، يأتي من الخطأ والإحالة بما يفوت الإحصاء مع براعته في الشعر والخطب؟ " (1) ؛ وقوله في أبي العتاهية: " كان أبو العتاهية من سوقة الناس وعامتهم، وكان طبعه وقريحته أكثر من أضعاف ما أكتسبه من أدبه واقتناه من علمه، إذ كان في شبيبته بألف أهل التواضع حتى عوتب في ذلك، وقيل أنه كان يحتمل زاملة المخنثين، فقيل له: مثلك يضع نفسه هذا الموضع؟ فقال: أريد أن أتعلم كيادهم وأتحفظ كلامهم، وذلك بين في شعره سيما في النسيب؟ " (2) ، فإن من يضع حسنات بشار إلى جانب سيئاته ومن يلمح أثر الطبقة الاجتماعية في شعر أحد الناس، لا يعد ناقداً سطحياً، يذهب مع التأثر الأول والانطباع السريع. انتصار الصولي لأبي تمام وكان موقف بي بكر محمد بن يحيى الصولي (- 335) رداً على أمثال أبن عمار ممن حاولوا أن يغمطوا أبا تمام حسناته، فكتب أخبار أبي تمام، وصدره برسالة إلى مزاحم بن فاتك بين الأسباب التي دعته إلى ذلك، وهو يشكو في رسالته تسور المثقفين من أبناء عصره على ما لا يحسنون، بأدنى طلب وقل حظ من ثقافة، ويعتذر عن العلماء الذين يستشهد أحياناً   (1) الموشح: 390. (2) الموشح: 403. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 بصدوفهم عن الشعر المحدث بقوله إن هذا الشعر لم يذلله النقد والرواية، أما الصنف الآخر الذي يعيب أبا تمام فإنهم يفعلون ذلك طلباً للشهرة، أتباعاً لقول من قال: " خالف تذكر " (1) ، وقدم أمثلة مما يعيبونه عليه، ومن ذلك قوله في قصيدة فتح عمورية: تسعون ألفاً كآساد الشرى نضجت ... أعمارهم قبل نضج التين والعنب وهو مما عابه أيضاً أبن المعتز من قبل فقال: " وقد سبق الناس إلى عيب هذا البيت قبلي وهو خسيس الكلام " (2) ، فدافع عن هذا البيت بأنه إن كان ذكر التين والعنب مما لا يرد في الشعر فقد ورد في شعر أبن قيس الرقيات وغيره، وإن لهذا البيت صلة بما قاله الروم: " أن هؤلاء (يعني جيش المعتصم) إن أقاموا إلى زمان التين والعنب لا يفلت منهم أحد " (3) ، ثم عقب على ذلك بقوله: " ولو وهم أبو تمام في بعض شعره أو قصر في شيء لما كان ذلك مستحقاً أن يبطل إحسانه، كما أنه قد عاب العلماء على امرئ القيس ومن دونه من الشعراء القدماء والمحدثين أشياء كثيرة أخطأوا الوصف فيها؟ فما سقطت بذلك مراتبهم، فكيف خص أبو تمام وحده بذلك لولا شدة التعصب وغلبة الجهل؟ " (4) . الصولي يستنكر إبراز العيوب وإغفال الحسنات ومجمل رأي الصولي أن النقد لا يكون بإبراز بعض العيوب والتشهير بالشاعر من أجلها وإغفال ما له من حسنات كثيرة إزاءها؛ فكيف إذا كانت تلك العيوب مجتبلة، ونسبة التقصير إلى الشاعر مفتعلة؛ أبو تمام - في رأي الصولي - مؤسس مذهب سلكه كل محسن بعده فعائبه يكشف عن جهله وحقارة منزله: " وقد كان الشعراء قبل أبي تمام يبدعون في البيت   (1) أخبار أبي تمام: 28. (2) الموشح: 472، هذا وأبن المعتز ممن يروي عنهم الصولي شيئاً من أخبار أبي تمام. (3) أخبار أبي تمام: 30 - 31. (4) المصدر نفسه: 32. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 والبيتين من القصيدة فيعتد بذلك لهم من أجل الإحسان، وأبو تمام أخذ نفسه وسام طبعه أن يبدع في أكثر شعره، فلعمري لقد فعل وأحسن، ولو قصر في قليل - وما قصر - لغرق ذلك في بحور إحسانه، ومن الكامل في شيء حتى لا يجوز عليه خطأ فيه، إلا ما يتوهمه من لا عقل له؟؟ " (1) . موقف الصولي من العلاقة بين الشعر والدين وقد نبه الصولي إلى ناحية لم يشر إليها أحد قبله - فيما أقدر - وهي ناحية كان بعض الناقدين يتخذ منها منفذاً للطعن في أبي تمام، وتلك هي المعتقد الديني، فقد أتهم أبو تمام بأنه كان يخل بفروضه، ونسب إليه بعضهم قوله وقد دخل عليه وبين يديه شعر أبي نواس ومسلم حين سأله الداخل عنهما: هما اللات والعزى وأنا أعبدهما من دون الله مذ ثلاثون سنة، وقد دافع الصولي عن هذه الناحية من زاوية صحة الخبر ومن زاوية النقد الأدبي فقال مصوراً موقفه النقدي: " وقد أدعى قوم عليه الكفر بل حققوه، وجعلوا ذلك سبباً للطعن على شعره وتقبيح حسنه، وما ظننت أن كفراً ينقص من شعر ولا أن إيماناً يزيد فيه " ثم حاول أن ينفي عنه التهمة جملة بقوله: " فكيف يصح الكفر عند هؤلاء على رجل، شعره كله يشهد بضد ما اتهموه به؟ " (2) ؛ وهذه قضية خطيرة في النقد، ومن استقلال النظرة النقدية في تاريخ النقد العربي أن نجد هذا الفصل التام فيها عند الصولي ثم عند الجرجاني - كما سنرى من بعد. الحق أن كتاب الصولي - رغم موقفه الدفاعي - يعد في كتب السيرة أكثر مما يعد في كتب النقد، ولذلك أعرضنا عما فيه من شهادات   (1) أخبار أبي تمام: 38. (2) أخبار أبي تمام: 172، 173. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 العلماء التي أوردها المؤلف ليؤيد بها رأيه في الشاعر المفضل لديه، واكتفينا بما فيه من عناصر نقدية؛ غير أن كل من تعرض لأبي تمام كان في الغالب مضطراً للوقوف عند البحتري لأن الذين كانوا يغضون من شأن الأول كانوا؟ في الأكثر - يكبرون من الثاني. ولذلك لم يكتف الصولي بشهادة البحتري لأبي تمام بل وقف عند بعض المعاني التي أخذها البحتري إما أخذاً جزئياً وإما نقلاً للمعاني والألفاظ، واعتذر عن عدم الإكثار من ذكر الأمثلة بان بعض أهل الأدب ألف في أخذ البحتري من أبي تمام كتاباً، وانه من ثم يكره إعادة ما ألف (1) . بشر بن يحيى النصيبي وجهوده في الكشف عن سرقات البحتري ترى هل يشير الصولي بذلك إلى أبي الضياء بشر بن يحيى النصيبي؟ لقد ترجم ابن النديم للنصيبي هذا ترجمة موجزة (2) . نقلها ياقوت في معجم الأدباء (3) . وقد جاء فيها أنه كان شاعراً قليل الشعر، وذكر له مما يتصل بالنقد كتابه في سرقات البحتري من أبي تمام، وكتاباً آخر سماه " كتاب السرقات الكبير " إلا أنه لم يتممه. ولكنا لا نعرف متى توفي أبو الضياء وغنما يغلب على الظن انه يعد من نقاد القرن الرابع، فإذا كانت إشارة الصولي تتوجه إليه فمعنى ذلك ان كتابه كان - ولابد - معروفاً قبل عام 335. وقد وطأ أبو الضياء لبحث السرقات بقوله: " ينبغي لمن ينظر في هذا الكتاب أن لا يعجل بان يقول: هذا مأخوذ من هذا حتى يتأمل المعنى دون اللفظ ويعمل الفكر فيما خفي، وغنما المسروق في الشعر ما نقل معناه دون   (1) أخبار أبي تمام: 79. (2) الفهرست: 149. (3) معجم الأدباء 7: 75. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 لفظه، وأبعد آخذه في أخذه " (1) ، وقد عد الآمدي مما أورده أبو الضياء أربعة وستين بيتاً واقر ان البحتري قد أخذ معناها من أبي تمام، من مثل: وإذا أراد الله نشر فضيلة ... طويت أتاح لها لسان حسود أخذه البحتري فقال: ولن تستبين الدهر موضع نعمة ... (2) إذا أنت تدلل عليها بحاسد ثم قسم الآمدي بعد ذلك ما أورده أبو الضياء في ثلاثة أنواع: (1) معان جارية في عادات الناس معروفة لديهم يهتدي غليها البحتري مثلما يهتدي أبو تمام، ولا يقال فيها إن شاعراً سرقها من الآخر. فالناس يقولون: " العير إذا رأى السبع اقبل إليه من شدة خوفه منه " ومن هنا استطاع أبو تمام ان يقول: " قد يقدم العبر من ذعر على الأسد " وتمكن البحتري من ان يستغل هذا المعنى المتعارف فقال: فجاء مجيء العبر قادته حيرة ... إلى أهرت الشدقين تدمى أظافره (2) معان قال أبو الضياء إنها مسروقة إلا انه اخطأ لأنه ليس بين كل معنيين منها أي تناسب، وذلك مثل قول أبى تمام: واقسم اللحظ بيننا إن في اللحظ لعنوان ما يجن الضمير ... وقول البحتري: سلام وإن كان السلام تحية ... فوجهك دون الرد يكفي المسلما   (1) الموازنة 1: 325. (2) انظر الموازنة 1: 304 - 324. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 وليس بين المعنيين أدنى صلة. (3) معان زعم أبو الضياء أنها مسروقة، ولكن الاتفاق فيها في الألفاظ وهذا غير محضور على الشاعر، كقول أبي تمام: لا يدهمنك من دهمائهم عدد ... فان أكثرهم أو كلهم بقر وقول البحتري: علي نحت القوافي من معادنها ... (1) وما علي إذا لم يفهم البقر ومجموع هذه الأبيات في الأنواع الثلاثة واحد وأربعون بيتاً، فيكون مقدار ما عرفناه من كتاب أبي الضياء يشمل مائة بيت وخمسة أبيات. وقد أخبرنا الآمدي أنه بتكثير الشواهد قد " بلغ غرضه في توفير الورق وتعظيم حجم الكتاب " (2) ؛ وهو تهكم من الآمدي، ولكن يبدو ان أبا الضياء قد اعتمد الاستقصاء، ولذلك وقع في بعض المآخذ التي تعقبه فيها الآمدي بحق، فكتابه في النقد لا يتناول إلا موضوعاً واحداً هو الحديث عن السرقات الشعرية. الآمدي ومؤلفاته في النقد فإذا بلغنا أبا القاسم الحسن بن بشر الآمدي (- 370) (3) ، نكون قد وصلنا إلى أول ناقد متخصص، جعل النقد أهم ميدان لجهوده، وفيه كتب اكثر مؤلفاته، فمن ذلك: كتاب معاني الشعر للبحتري، كتاب الرد على ابن عمار فيما خطا فيه أبا تمام (ولعله دخل في كتاب الموازنة) ، كتاب في ان الشاعرين لا تتفق خواطرهما، كتاب في إصلاح ما في عيار   (1) الموازنة1: 326 - 350. (2) الموازنة 1: 326. (3) أنظر ترجمته في الفهرست: 155 ومعجم الأدباء 8: 75. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 الشعر لابن طباطبا، كتاب في تبيين غلط قدامة في نقد الشعر، كتاب في تفضيل شعر امرئ القيس على الجاهليين، كتاب في (نثر) ما بين الخاص والمشترك في المعاني: " تكلم فيه على الفرق بين الألفاظ والمعاني التي تشترك فيها العرب ولا ينسب مستعملها إلى السرقة، وإن كان قد سبق إليها، وبين الخاص الذي ابتدعه الشعراء وتفردوا به ومن اتبعهم؟ " (1) ؛ فالآمدي سيطر على التراث النقدي حتى عصره. وتصدى بالتعقب لأهم اثرين نقديين ظهرا في أوائل القرن الرابع وهما عيار الشعر، ونقد الشعر؛ ولم يعتمد طرقة المناقشة لأخطاء من سبقوه وحسب، بل كان ناقداً بناء، وكان منهجه واضحاً في اكبر اثر نقدي وصل إلينا من آثاره وذلك هو " كتاب الموازنة بين الطائيين ". ان الصورة الكاملة للآمدي الناقد لا يمكن ان يتحقق اكتمالها دون اطلاعنا على مجموع آثاره النقدية، ولكن لا سبيل لنا في هذا الصدد، غلا الاعتماد على " الموازنة " ما دامت المؤلفات الأخرى ما تزال محجوبة. الآمدي يحس أنه الناقد الحق الذي صوره ابن سلام وقد كان الآمدي صورة ذلك الإحساس الذي عبر عن ابن سلام بإيجاز حين ميز دور الناقد، وعبر عنه الجاحظ بالثورة على النوع الموجود من النقد والنقاد في عصره الأول؛ فكأن الآمدي كان يحس أنه الناقد الذي اجتمعت له الآلات الضرورية للنقد، وانه قد آن الأوان لتصبح لهذا الناقد شخصيته المميزة، وحكمه الذي يؤخذ بالتسليم؛ أن النقد " علم " يعرف به الشعر، وليست تكفي فيه الوسائل الثقافية مهما تنوعت، لأن حفظ الأشعار أو دراسة المنطق أو معرفة الجدل أو الاطلاع على اللغة أو الفقه ليست هي الطريق التي تكفل لصاحبها إحراز " علم الشعر "؛ يقول الآمدي: " وبعد فلما لا تصدق نفسك أيها المدعي وتعرفنا من أين طرأ   (1) معجم الأدباء 8: 89. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 لك الشعر؟ أمن اجل أن عندك خزانة كتب تشتمل على عدة من دواوين الشعراء وانك ربما قلبت ذلك وتصفحته أو حفظت القصيدة والخمسين منه؟ فان كان ذلك هو الذي قوى ظنك، ومكن ثقتك بمعرفتك فلما لا تدعي المعرفة بثياب بدنك ورحل بيتك ونفقتك، فإنك دائماً تستعمل ذلك وتستمتع به، ولا تخلو من ملابسته كما تخلو في كثير من الأوقات من ملابسة الشعر ودراسته وإنشاده؟. ثم أني أقول بعد ذلك: لعلك - أكرمك الله - اغتررت بان شارفت شيئاً من تقسيمات المنطق أو جمل من الكلام والجدل، أو علمت أبواباً من الحلال والحرام، أو حفظت صدراً من اللغة، أو أطلعت على بعض مقاييس العربية، وإنك لما أخذت بطرف نوع من هذه الأنواع بمعانات ومزاولة ومتصل عناية فتوجهت فيه وسهرت. ظننت ان كل ما لم تلابسه من العلوم ولم تزاوله يجري ذلك المجرى؟. " (1) ولذلك يشكو الآمدي - كما شكا الصولي - من كثرة المدعين للمعرفة بعلم الشعر؛ وان الناس في العادة يرجعون في شئون الخيل والنقد والسلاح وما أشبه إلى العالمين بهذه الأمور، إلا في الشعر فانهم يبادرون إلى القول فيه وهم لا يحسنون، مع أن التمييز بين بيت وبيت - وكلاهما جميل الموقع - يحتاج إلى عالم بالصناعة، مثلما يحتاج من يميز بين فرسين فيهما علامات العتق والنجابة أو بين جاريتين متقاربتين في الوصف سليمتين من كل عيب. وإذا كان الناس يسلمون الحكم في كل صناعة لأهلها فمن الواجب ألا ينازعوا الناقد في حكم أصدره. ذلك لأنه مهيأ لذلك بالطبيعة أولاً وبكثرة النظر في الشعر والأرتياض له وطول الملابسة فيه. ولكن كيف يعرف المرء أنه قد اصبح ناقداً يحق له إصدار أحكام نقدية؟ هنا يحدد الآمدي هذا اللون من الامتحان: " وبعد فأني أدلك على ما ينتهي بك إلى البصيرة والعلم بأمر نفسك في معرفتك بهذه الصناعة او الجهل بها، وهو ان تنظر ما أجمع عليه الأئمة في علم الشعر من تفضيل بعض الشعراء على بعض، فان عرفت علة   (1) الموازنة: 395 - 396. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 ذلك فقد علمت، وان لم تعرفها فقد جهلت، وذلك بان تتأمل شعر أوس ابن حجر والنابغة الجعدي فتنظر من أين فضلوا أوساً. وتنظر في شعري بشر بن أبي خازم وتميم بن أبي بن مقبل فتنظر من أين فضلوا بشراً؟. فإن علمت من ذلك ما علموه ولاح لك الطريق التي بها قدموا من قدموا وأخروا من أخروه. فثق حينئذ بنفسك واحكم يسمع حكمك؟ فأن قلت: انه قد انتهى بك التأمل إلى علم ما علموه لم يقبل ذلك منك حتى تذكر العلل والأسباب؟ " (1) . طريق الناقد الحق هي الموازنة المعللة الموازنة المعللة هي الطريقة التي يثبت بها المرء انه قد أصبح ناقداً، فليكن الآمدي ذلك الناقد، وليقم الموازنة المعللة، لا بين اثنين حكم في أمرهما قدامى العلماء، بل بين اثنين من المحدثين، هما أبو تمام والبحتري، فالموازنة - أي الكتاب - ثمرة هذا التحدي. ليثبت الآمدي أن ناقداً من طرازه يقف في مستوى العلماء القدامى، عن لم يكن بقدرته على التعليل والتحليل أوضح مقاما. منزلة كتاب الموازنة في تاريخ النقد، ومنهج المؤلف فيه فكتاب " الموازنة " وثبة في تاريخ النقد العربي، بما اجتمع له من خصائص لا بما حققه من نتائج. ذلك لانه ارتفع عن سذاجة النقد القائم على المفاضلة بوحي من " الطبيعة " وحدها دون تعليل واضح، فكان موازنة مدروسة مؤيدة بالتفصيلات التي تلم بالمعاني والألفاظ والموضوعات الشعرية بفروعها المختلفة، وكان تعبيراً عن المعانات التي لا تعرف الكلل في استقصاء موضوع الدراسة من جميع أطرافه، ولهذا جاء بحثاً في النقد واضح المنهج، ليس فيه إلا اليسير من الاستطرادات الجزئية، وقد   (1) الموازنة1: 394 - 396. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 بين المؤلف منهجه بقوله: " وأنا أبتدئ بذكر مساوئ هذين الشاعرين لأختم محاسنهما، وأذكر طرفاً من سرقات أبي تمام وغير ذلك من غلطه في بعض معانيه، ثم أوازن من شعريهما بين قصيدة وقصيدة إذا اتفقنا في الوزن والقافية وإعراب القافية ثم بين معنى ومعنى فإن محاسنهما تظهر في تضاعيف ذلك وتنكشف، ثم أذكر ما أنفرد به كل واحد منهما فجوده من معنى سلكه ولم يسلكه صاحبه، وأفرد باباً لما وقع في شعريهما من التشبيه وباباً للأمثال أختم بهما الرسالة، ثم أتبع ذلك بالاختيار المجرد من شعريهما وأجعله مؤلفاً على حروف المعجم ليقرب تناوله ويسهل حفظه وتقع الإحاطة به إن شاء الله تعالى " (1) ، ونحن إذا استثنينا التلاحم المنهجي الذي قام عليه " نقد الشعر " لقدامة لا نجد بعده ما يقاربه في انتحال صفة " الرسالة " العلمية مثل كتاب الموازنة، أضف إلى ذلك أن كتاب الآمدي قد استغل جميع وسائل النقد التي عرفت في عصره: من تبيان للمعاني المسروقة ومن سلوك سبيل القراءة الدقيقة والفحص الشديد، ومن الاحتكام إلى الذوق الفردي حيناً وإلى الثقافة حيناً آخر، مما سنقف عنده في سياق هذا البحث. واحتفل الآمدي كما يحتفل كاتب الدراسة العلمية، بكل ما كتب في الموضوع نفسه، وناقش مؤلفات من تقدموه برأ] هـ وذكائه وإنصافه. لم الموازنة؟ ولكن لم الموازنة لو كانت لتفضيل أحد الشاعرين - تصريحاً - على الأخر، لكانت محدودة الهدف واضحة الغرض، ولكن الآمدي يصرح بأنه لن يطلق القول في أيهما أشعر " لتباين الناس في العلم واختلاف مذاهبهم في الشعر، ولا أرى لأحد أن يفعل ذلك فيستهدف لذم أحد الفريقين، لان الناس لم يتفقوا على أي الأربعة اشعر في امرئ القيس والنابغة وزهير   (1) الموازنة 1: 54. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 والأعشى ولا في جرير والفرزدق والأخطل ولا في بشار ومروان والسيد ولا في أبي نواس وأبي العتاهية ومسلم والعباس بن الأحنف لاختلاف آراء الناس في الشعر وتباين مذاهبهم فيه " (1) . وإذا لم يكن التفضيل ممكناً فهل التسوية بينهما ممكنة؟ الآمدي لا يرى ذلك، مخالفاً لكثير من الناس عدوا الطائيين طبقة ذهبوا إلى المساواة بينهما، فهما في رأيه مختلفان: " لأن البحتري أعرابي الشعر مطبوع وعلى مذهب الأوائل وما فارق عمود الشعر المعروف، وكان يتجنب التعقيد ومستكره الألفاظ ووحشي الكلام، فهو بأن يقاس بأشجع السلمي ومنصور النمري وأبي يعقوب الخريمي المكفوف وأمثالهم من المطبوعين أولى، ولأن أبا تمام شديد التكلف صاحب صنعة ويستكره الألفاظ والمعاني وشعره لا يشبه شعر الأوائل ولا على طريقتهم لما فيه من الاستعارات البعيدة والمعاني المولدة، فهو بأن يكون في حيز مسلم أبن الوليد ومن حذا حذوه أحق وأشبه، وعلى أني لا أجد من أقرنه به لأنه ينحط عن درجة مسلم، لسلامة شعر مسلم وحسن سبكه وصحة معانيه، ويرتفع عن سائر من ذهب هذا المذهب وسلك هذا الأسلوب لكثرة محاسنه وبدائعه واختراعاته " (2) . وأحب أن تقف عند قوله " وما فارق عمود الشعر المعروف " فإن هذا التعبير يواجهنا هنا لأول مرة، وأن تتأمل قوله في أبي تمام " وعلى أني لا أجد من قرنه به " وتتساءل: إذا كان أبو تمام لا يقترن بأحد من أبناء مذهبه وطبقته فهل من الممكن أجراء الموازنة بين شاعرين متباعدين في الطريقة؟ أليست هذه الموازنة كوضع حديد في كفة ميزان ووضع نحاس في كفة أخرى، ولا يكون الحكم بعد ذلك إلا حول أيهما يرجح بالآخر من حيث الكم لا من حيث النوع؟ وعلى هذا يظل السؤال الأول " لم الموازنة؟ " وارداً دون جواب.   (1) الموازنة 1: 6 - 7. (2) الموازنة 1: 6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 الموازنة ذات مظهر علمي موهم باستغلال الإحصاء اكبر الظن أن الموازنة كانت في حينها تلبية " علمية المظهر " والمنهج لحاجة ذلك الصراع الدائر بين المتطرفين من الفريقين؛ وكان هذا التطرف يرى الحسنات عند واحد ويقرن غليها السيئات عند آخر، ثم يعمى كل منهما عن سيئات صاحبه. فمن حق الموازنة ان تكون قائمة على الحساب: هذه حسنة يقابلها حسنة وهذه خمس سيئات يقابلها أربع، فإن شئت بعد ذلك أن تقوم بعملية جمع وطرح، استطعت ان تصل إلى نوع من الحكم قائم على الدقة الإحصائية، وهو على أية حال أسلم من الحكم المرسل، الذي يأخذ الأمور بالجملة دون التفصيل. ومن السذاجة أن تقول إن هذا أشعر من ذاك، وإن شئت قلت غير حافل بتهمة السذاجة، ولكنك عندئذ تعلن عن انتمائك إلى فريق من النقاد والمتذوقين بأكثر مما تدين الشاعر الذي لا تحب شعره. الموازنة نظرياً نقطة التقاء المنصفين وعملياً توقع الآمدي في التناقض وتلك غاية أخرى تكفل الموازنة تحقيقها وهي ان تكون نقطة الالتقاء بين المنصفين من كلا الفريقين: وبها ينكشف الغطاء عن مذهبين متوازيين عاشا جنباً إلى جنب في تاريخ الشعر العربي وتاريخ الذوق العربي. وأنا لنعجب من الآمدي كيف يزعم أن هناك ما يسمى " عمود الشعر القديم " وهو أدق الناس إحساساً بتعايش هذين المذهبين: الأول مذهب الشعراء المبتكرين للمعاني ويصح أن نسميه مذهب امرئ القيس كان خارجاً على " عمود الشعر القديم "؟ أستمع إلى الآمدي يصور المنصفين من أصحاب البحتري: " ووجدت أهل النصفة من أصحاب البحتري ومن يقدم مطبوع الشعر دون متكلفه لا يدفعون أبا تمام عن لطيف المعاني ودقيقها والإبداع والإغراب فيها؟. وإذا كان هذا هكذا مسلكه فقد سلموا له الشيء الذي هو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 ضالة الشعراء وطلبتهم وهو لطيف المعاني. وبهذه الحالة دون ما سواها فضل امرؤ القيس، لأن الذي في شعره من دقيق المعاني وبديع الوصف ولطيف التشبيه وبديع الحكمة فوق ما في أشعار سائر الشعراء من الجاهلية والإسلام، حتى أهن لا تكاد تخلو له قصيدة واحدة من أن تشتمل من ذلك على نوع أو أنواع، ولولا لطيف المعاني واجتهاد امرئ القيس فيها وإقباله عليها لما تقدم على غيره. ولكن كسائر الشعراء من أهل زمانه. إذ ليست له فصاحة توصف بالزيادة على فصاحتهم ولا لألفاظه من الجزالة والقوة ما ليس لألفاظهم " (1) . ثم أستمع إليه يصور موقف المنصفين من أصحاب أبي تمام: " ووجدت أكثر أصحاب أبي تمام لا يدفعون البحتري عن حلو اللفظ وجودة الرصف وحسن الديباجة وكثرة الماء وإنه أقرب مأخذاً وأسلم طريقاً من أبي تمام ويحكمون مع هذا بأن أبا تمام أشعر منه؟ وهذا مذهب من جل ما يراعيه من أمر الشعر دقيق المعاني " (2) ، أيحق للآمدي بعد ذلك أن يقول - كأنه يردد رأي الجاحظ - " ودقيق المعاني موجود في كل أمة وفي كل لفة، وليس الشعر عند أهل العلم به إلا حسن التأتي وقرب المأخذ واختيار الكلام ووضع الألفاظ في مواضعها وأن يورد المعنى باللفظ المعتاد فيه المستعمل في مثله وأن تكون الاستعارات والتمثيلات لائقة بما استعيرت له وغير منافرة لمعناه " (3) وهل " أهل العلم بالشعر " على من يفضلون قرب المأخذ واختيار الألفاظ وقرب الاستعارات؟ الخ؟ إنك ترى التناقض واضحاً هنا في تصور الآمدي لتياري النقد، بسبب من ميله الذاتي إلى الفريق الثاني، وأكبر الظن أنه انقاد لهذا الميل الذاتي نفسه، وأنه استوحى هذا الميل حين هجن طريقة أبي تمام وفسرها على غير وجهها بقوله: " وإذا كانت طريقة الشاعر غير هذه الطريقة وكانت عبارته مقصرة   (1) الموازنة 1: 397 - 398. (2) الموازنة 1: 400. (3) الموازنة 1: 400. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 عنها ولسانه غير مدرك لها حتى يعتمد دقيق المعاني من فلسفة يونان أو حكمة الهند أو أدب الفرس ويكون أكثر ما يورده منها بألفاظ متعسفة ونسج مضطرب، وإن أتفق في تضاعيف ذلك شيء من صحيح الوصف وسليم النظر - قلنا له: قد جئت بحكمة وفلسفة ومعان لطيفة حسنة فإن شئت دعوناك حكيماً أو سميناك فيلسوفاً، ولكن لا نسميك شاعراً ولا ندعوك بليغاً، لأن طريقتك ليست على طريقة العرب ولا على مذهبهم، فإن سميناك بذلك لم نلحقك بدرجة البلغاء ولا المحسنين الفصحاء؟ " (1) ؛ فهذا التصوير لا ينطبق على شعر أبي تمام، والمتعسف منه في اللفظ والمعنى لا يشمل إلا أبياتاً معدودة بشهادة الآمدي نفسه، ولو صح أن أبا تمام كان فيلسوفاً أو حكيماً لما جازت الموازنة بينه وبين البحتري، ولكانت محاولة الآمدي من أساسها منقوضة لأنها مبنية على الموازنة بين شاعر وفيلسوف. عمود الشعر نظرية خدمة للبحتري وأنصاره فأبعدت الموازنة عن الإنصاف وليس من شك في أن الآمدي كان يؤثر طريقة البحتري ويميل إليها. ومن اجل ذلك جعلها " عمود الشعر " ونسبها إلى الأوائل وصرح بأنه من هذا الفريق دون مواربة: " والمطبوعون وأهل البلاغة لا يكون الفضل عندهم من جهة استقصاء المعاني والإغراق في الوصف، وغنما يكون الفضل عندهم في الإلمام بالمعاني واخذ العفو منها كما كانت الأوائل تفعل مع جودة السبك وقرب الماتى، والقول في هذا قولهم وإليه أذهب " (2) ، وهذا يستتبع أن نسأل: هل يستطيع الموازنة المنصفة من كان لديه مثل هذا الميل ابتداءً؟ لقد أتهم الآمدي في القديم بأنه تحامل على أبي تمام، قال أبو الفرج منصور بن بشر النصراني الكاتب: " كان الآمدي النحوي صاحب كتاب الموازنة يدعي (هذه) المبالغات على أبي تمام   (1) الموازنة 1: 401 - 402. (2) الموازنة 1: 496. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 ويجعلها استطراداً لعيبه إذا ضاق عليه المجال في ذمه " (1) ، وقال ياقوت في تقييم الموازنة: " وهو كتاب حسن وإن كان قد عيب عليه في مواضع منه. ونسب إلى الميل مع البحتري فيما أورده والتعصب على أبي تمام فيما ذكره، والناس بعده فريقين: فرقة قالت برأيه حسب رأيهم في البحتري وغلبة حبهم لشعره، وطائفة أسرفت في التقبيح لتعصبه، فإنه جد وأجتهد في طمس محاسن أبي تمام وتزيين مرذول البحتري. ولعمري أن الأمر كذلك. وحسبك أنه بلغ في كتابه إلى قول أبي تمام " أصم بك الناعي وإن كان أسمعا " وشرع في إقامة البراهين على تزييف هذا الجوهر الثمين فتارة يقول: هو مسروق، وتارة يقول هو مرذول، ولا يحتاج المتعصب إلى أكثر من ذلك، إلى غير ذلك من تعصباته، ولو أنصف وقال في كل واحد بقدر فضائله لكان في محاسن البحتري كفاية عن التعصب بالوضع من أبي تمام " (2) . وتعقب الشريف المرتضى بعض تعسفه في التخريج فمن ذلك: " ورأيت الآمدي يطعن على قوله - عمرت مجلسي من العواد - ويقول: لا حقيقة لذلك ولا معنى لأنا ما رأينا ولا سمعنا أحداً جاءه عواد يعودونه من المشيب ولا أن أحداً أمرضه الشيب ولا عزاه المعزون عن الشباب، وهذا من الآمدي قلة نقد للشعر وضعف بصيرة بدقيق معانيه التي يغوص عليها حذاق الشعراء ولم يرد أبو تمام بقوله - عمرت مجلسي من العواد - العيادة الحقيقية التي يغشى فيها العواد مجالس المرضى وذوي الأوجاع، وإنما هذه استعارة وتشبيه وإشارة إلى الغرض خفية، فكأنه أراد أن شخص المشيب لما زارني كثر المتوجعون لي والمتأسفون على شبابي والمتوحشون من مفارقته، فكأنهم في مجلس عواد لي، لأن من شأن العائد للمريض أن يتوجع ويتفجع " (3) .   (1) معجم الأدباء 8: 84. (2) معجم الأدباء 8: 87 - 88. (3) أمالي المرتضى 1: 613 وأنظر تعقبه له ووصفه بالتهافت في الخطأ 1: 626 وعن ظلمه للبحتري 2: 91. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 وليس يخلو الذين اتهموه بالتعصب على أبي تمام من أن يكونوا بعض الفريق الذي يحب أبي تمام ويستقل ما يقال في مدحه ويستثقل كل شيء يعاب به. أو أن يكون الآمدي قد ظلم أبا تمام فعلاً. فأما تعقب المرتضى له فليس هو اتهاماً له بالتعصب، وغنما هو اتهام بالجهل وعدم الإدراك للنقد الصحيح. ونحن نقول أن من كان يميل إلى طريقة البحتري ثم يتكلف الموازنة بينها وبين طريقة أبي تمام فإنه قادر على أن يظلم أبا تمام ويتعصب عليه. ولا ريب في أن الآمدي حاول أن يكون منصفاً، وظهر بمظهر المنصف في مواطن عديدة، ولكن ميله كثيراً ما كان يوجهه رغماً عنه، كما كان يحدد مجال الرؤية عنده بالنسبة لأبي تمام، ويوسع من حدودها بالنسبة للبحتري. فقد عرض لسرقات أبي تمام من جميع الشعراء على نحو تفصيلي. فلما وصل إلى البحتري، اكتفى بكر ما سرقه البحتري من أبي تمام وحسب، زاعماً أنه إنما يفعل لك " لان أصحاب البحتري ما ادعوا ما ادعاه أصحاب أبي تمام لأبي تمام " (1) . ثم يقول بعد لك: " فأما مساوئ البحتري من غير السرقات - فقد حرصت واجتهدت أن اظفر له بشيء يكون بازاء ما أخرجته من مساوئ أبي تمام في سائر الأنواع التي ذكرتها، فلم أجد في شعره - لشدة تحرزه وجودة طبعه وتهذيب ألفاظه - من ذلك إلا أبياتاً يسيرة؟ " (2) ؛ وقد يكون الآمدي مخلصاً فيما قال - بحسب مدى الرؤية - ولكن وجود الميل الكمين يجعلنا نظن أن هناك قوة توجهه لكي لا يرى ما يمكن ان يعده آخرون من عيوب البحتري. وليس في الإنصاف أن يقال: ما دام أصحاب أبي تمام يدعون له ابتكار المعاني فلا بد من إبراز ما أخذه من معاني غيره، ذلك أن الآمدي يعترف بان أبا تمام شاعر يحسن الغوص على المعاني، ومع ذلك فإنه لم يفرد في كتابه فصلاً لبيان بدائعه، واكتفى بالمقارنة في الموضوعات بينه وبين البحتري. كذلك فإن التعليقات الجارحة   (1) الموازنة 1: 292. (2) المصدر نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 التي يصدرها أحياناً في التعقيب على شعر ابي تمام تشير إلى ان ميله كان يستبد به ويخرجه إلى تسجيل تأثراته الانفعالية في نزق وضيق. كقوله: " وقوله (ان من عق والديه لملعون - البيت) من أحمق المعاني وأسخفها وأقبحها، وقد زاد في الحمق بهذا المعنى على معنى البيت الذي قبله. وطم عليه وعلى كل جهالاته في معانيه؟ وما المستحق والله للعن غيره إذ رضي لنفسه بمثل هذا السخف " (1) . ومثل هذا الانفعال يرد في مواطن أخرى من كتابه كقوله في التعليق على أحد الأبيات: " فيا معشر الشعراء والبلغاء ويا أهل اللغة العربية. خبرونا كيف يجاري البين وصلها وكيف تماشي هي مطلها. ألا تسمعون ألا تضحكون "؟ (2) . المهم أن اطمئنان القارئ في عدالة الآمدي لا يستبعد أن يهتز ويضطرب. وان تثور في نفسه أسئلة موشحة بالتشكك: أترى الآمدي لا يتعسف هنا في التأويل؟ أتراه لم يبالغ هناك في الاعتماد على ذوقه الخاص؟ الست تراه يدافع عن موقف واضح الضعف عند البحتري؟ ألا تعتقد انه لا يمكن - بقوة ميله - أن يضع على لسان أصحاب أبي تمام حججاً أقوى مما يضعه على لسان صاحب البحتري في تلك المقدمة التي نسجها على مثال المناظرات الكلامية بين الفريقين بحيث يذكرنا بما صنعه الجاحظ من إجراء المناظرة بين صاحب الكلب وصاحب الديك (3) ؟ أليس هو الذي يدين أبا تمام بأشد تهم يوجهها إليه أعداؤه محيلاً أحياناً على غيره. ناسباً الرأي   (1) الموازنة 1: 517. (2) الموازنة 1: 264 والبيت المشار إليه هو: جارى إليه البين وصل خريدة ... ماشت إليه المطل مشي الأكبد وانظر 2: 49 حيث علق على استعارة لأبي تمام بقوله: " وما أظن أحداً انتهى في اللكنة وضيق الحيلة في الاستعارة إلى أن جعل لصروف النوى قدن وأفئدة مصروعة غير أبي تمام ". (3) انظر الموازنة1: 8 - 53، وفيها يورد بعض آراء الصولي في أبي تمام، فكأنه يتخذه نموذجاً لأصحاب هذا الشاعر، كما انه أحياناً يجعلنا نحس بأنه يتحدث بالنيابة عن أصحاب البحتري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 لسواه مع أنه قد يكون هو صاحب ذلك الرأي في مثل قوله: " وأنا اذكر في هذا الجزء الرذل من ألفاظه والساقط من معانيه والقبيح من استعاراته والمستكره المتعقد من نسجه ونظمه على ما رأيت المتذاكرين بأشعار المتأخرين يتذاكرونه وينعونه عليه ويعيبونه به؟ فأن الشاعر قد يعاب اشد العيب إذا قصد بالصنعة سائر شعره وبالإبداع جميع فنونه، فان مجاهدة الطبع ومغالبة القريحة مخرجة سهل التأليف إلى سوء التكلف وشدة التعمل، كما عيب صالح بن عبد القدوس وغيره ممن سلك هذه السبيل حتى سقط شعره، لان لكل شيء حداً إذا تجاوزه المتجاوز سمي مفرطاً، وما وقع الإفراط في شيء إلا شانه وإحالة إلى الفساد صحته وإلى القبح حسنه وبهائه، فكيف إذا تتبع الشاعر ما لا طائلة تحته من لفظة مستغثة لمتقدم أو معنى وحشي، فجعله إماماً واستكثر من أشباهه ووشح بنظائره. أن هذا لعين الخطأ وغاية في سوء الاختيار " (1) . وأصحاب البحتري لا يقولون في أبي تمام أسوأ من هذا التعليق. عمود الذوق (أو سنة العرب) مرتكز آخر إلى جانب عمود الشعر ويأوي الآمدي في نقده إلى ركن شديد، يجعله أساساً لنظرته النقدية وهو الرجوع في كل أمر يختلف فيه المتذوقون والنقاد إلى ما تعارفته العرب وأقرته وأثر عنها، فكما ان على الشاعر ان يلتزم عمود الشعر، فغن على الناقد ان يلتزم (عمود الذوق " وغلا فلا معنى للدربة والتمرس وطول النظر في آثار السابقين، فمن هذه الدربة يتكون ذوق الناقد، ومنها يستدل على ما جرت به العادة، فيتمكن من الحكم على إحسان الشاعر أو إساءته بالنظر إلى ما جرت عليه العرب في طريقها؛ ولا يقف هذا الأمر عند حدود اللفظ وما يجوز في الاستعمال وما لا يجوز بل يتجاوزه إلى دقائق المعاني والصور والاخيلة، فغذا قال أبو تمام:   (1) الموازنة1: 243 - 244. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 أجدر بجمرة لوعة إطفاؤها ... بالدمع ان تزداد طول وقود قيل له: " هذا خلاف ما عليه العرب وضد ما يعرف من معانيها لان المعلوم من شان الدمع ان يطفئ الغليل ويبرد حرارة الحزن ويزيل شدة الوجد ويعقب الراحة، وهو في أشعارهم كثير موجود ينحى به هذا النحو من المعنى " (1) ولسنا نريد أن نقول إن هذا القانون يقتل الإبداع ويهمل اعتبار الطبيعة الإنسانية التي تؤمن بتغير الأذواق وتبدلها، فذلك تحكيم لقواعدنا فيما كان يظنه النقاد القدماء منهجاً صائباً في عصرهم. ولكنا نقول ان هذا القانون متعسف لأنه يفترض اللجوء إلى قاعدة لا يمكن تحديدها. فمن هو الذي يستطيع أن يزعم لنفسه وللناس أنه قد أحاط بما يسمى " طريقة العرب " في الاستعمالات اللغوية والتصويرية. ولماذا يعمد الآمدي نفسه كلما رأى أثراً قديماً مشبهاً بطريقة أبي تمام إلى الاعتذار عنه وعده من النادر أو الشاذ؟ أليس هذا النادر صادراً عن عربي، تقبله ذوقه واقره خياله - وهو خيال عربي - ولم نسمع أنه طواه استهجاناً أو قابله الناس حينئذ بالاستغراب. قانون " عمود الذوق " يقتل الاستعارة وإذا كان الآمدي - خدمة لقانونه هذا - قد تناول القواعد القديمة من اعتماد كل أصول اللياقة وعلى قانون منتهى الجودة وعلى ما أشبه هذين من أصول نقدية قديمة وجعلها مقياساً كبيراً يكثر اللجوء إليه عندما يجد الناس مخالفين له في ذوقه، فإنه قد تجاوز حدود تلك القواعد التي كانت تقف عند المواصفات الشكلية إلى صميم العملية الشعرية. وبيان ذلك أن الشعر لا يتأثر كثيراً إذا أخطأ الشاعر فجعل ذيل فرسه طويلاً،   (1) الموازنة 1: 199 ثم يقول الآمدي (1: 200) فلو كان اقتصر على هذا المعنى الذي جرت العادة به في وصف الدمع لكان المذهب الصحيح المستقيم ولكنه استعمل الإغراب فخرج إلى ما لا يعرف في كلام العرب ولا مذاهب سائر الأمم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 أو استعمل السوط في حثه على الجري. أو خيل إليه أن الفستق من البقول، أو ظن أن صاحب الفيل لابد أن يكون قوياً كالفيل؛ ومن السهل أن تحاكم المبالغة لديه إلى مقياسك الفني إذا قال: فلولا الريح أسمع من بحجر ... صليل البيض تقرع بالذكور أو قال: وأخفت أهل الشرك حتى إنه ... لتخافك النطف التي لم تخلق كل هذه أخطاء جزئية؛ ولكن الشعر يصاب في الصميم إذا قلنا للشاعر: إنك لا تستطيع ان تقول: " وضربت الشتاء في أخدعيه " لان العرب لا تستعمل مثل هذه الاستعارة. فإذا قيل لنا، ولكن أحد شعراء عبد القيس يقول: ولما رأيت الدهر وعراً سبيله ... وأبدى لنا ظهراً أجب مسلعا ومعرفة حصاء غير مفاضلة ... عليه ولوناً ذا عثانين أجدعا وجبهة قرد كالشراك ضئيلة ... وصعر خديه وأنفاً مجدعا فإنه لا يغني عنا كثيراً أن نقول له: " هذا الإعرابي إنما تملح بهذه الاستعارات في هجائه للدهر وجاء بها هازلاً؟ " (1) . حملة الآمدي على استعارات أبي تمام بعبارة أخرى: إن اخطر ما في هذا الاحتكام إلى طريقة العرب هو ما يصيب الاستعارة، لان تعقب الاستعارة يعني التدخل في التشخيص والقدرة الخيالية لدى الشاعر. ولذلك تجد الآمدي قد عد بعض استعارات أبي تمام ثم قال معلقاً عليها: " فجعل كما ترى - مع غثاثة هذه الألفاظ - للدهر اخدعاً ويداً تقطع من الزند، وكأنه يصرع، وجعله يشرق بالكرام ويفكر ويبتسم وان   (1) الموازنة 1: 258 - 259. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 الأيام بنون له، والزمان ابلق، وجعل للمدح يداً ولقصائده مزامر إلا أنها لا تنفخ ولا تزمر، وجعل المعروف مسلماً تارة ومرتداً أخرى والحادث وغداً؟ وظن ان الغيث كان دهراً حائكاً وجعل للأيام ظهراً يركب، والليالي كأنها عوارك والزمان كأنه صب عليه ماء، والفرس كأنه ابن الصباح الأبلق، وهذه استعارات في غاية القباحة والهجانة والغثاثة والبعد من الصواب " (1) . ثم أراد أن يفهمنا بان هذه الاستعارات خارجة عما نهجه العرب: " وإنما استعارت العرب المعنى لما ليس هو له إذا كان يقاربه أو يناسبه أو يشبهه في بعض أحواله أو كان سبباً من أسبابه "، ودافع عن صورة الليل في قول امرئ القيس: فقلت له لما تمطى بصلبه ... وأردف إعجازاً وناء بكلكل وعن قول زهير: وعري أفراس الصبا ورواحله ... وقد يتحدث الآمدي لفريق من أبناء عصره بهذا فيدركون أن استعارة امرئ القيس صحيحة النسبة للخيال العربي (وإن كان قد عاب امرأ القيس بهذا البيت من لم يعرف موضوعات المعاني والاستعارات في رأي الآمدي) وان استعارة زهير كذلك مقبولة سائغة، ولكن من الصعب علينا اليوم ان نميز ذلك تمييزه، بعد أن اختلطت علينا استعاراتنا بالاستعارات المستمدة من الخيال الأجنبي حتى ألفنا هذا الخليط العجيب، وربما لم يكن من الجفاء أن أصرح باني لم أقف مرة عند قول زهير " وعري أفراس الصبا " إلا وجدت فيه من الغرابة ما يعمي علي وجه تصوره، وان لا أجد فرقاً بين تصوير   (1) الموازنة 1: 249 - 250. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 الشتاء " مشخصاً " ذا أخدعين وبين قول ذي الرمة " تيممن يافوخ الدجى فصد عنه ". ولست بسبيل الدفاع عن استعارات أبي تمام ولكني أقول إن تعقب الآمدي لهذه الاستعارات، قد أصاب الطريقة الشعرية نفسها؛ وإذا كان النقد ذا أثر في تربية الذوق، فإن نقد الآمدي وأشباهه قد حال دون تكثير الطبقة التي تتذوق الجدة في الاستعارة، وتقبل على ما يكمن في طبيعة الخيال الخلاق من إبراز الحياة في صور جديدة. وغني لأحس أن وراء بعض أحكام الآمدي أثراً دينياً، فاكثر استعارات أبي تمام التي يجدها الآمدي غثة إنما تتعلق بالدهر والزمان وربما ارتبط هذا - ارتباطاً شعورياً أو لا شعورياً - بما يروى في الأثر " لا تسبوا الدهر؟ ". الصلة بين ابن طباطبا والآمدي في الاتباعية وهذا الذي ذهب إليه الآمدي من الاحتكام إلى طريقة العرب، يذكرنا أيضاً بالمنهج الذي اختاره ابن طباطبا في " عيار الشعر "، حين حدد طريقة العرب في التشبيه، إلا أن الآمدي أربى عليه وكمل عمله، حين اهتم بالاستعارة، وبذلك التقت جهود ناقدين كبيرين على ضرورة مقاربة الحقيقة أو ما سماه ابن طباطبا الصدق في التشبيه، ولهذا نفسه اتفق الناقدان على رفض قول من قال: " أعذب الشعر أكذبه " فقال الآمدي معلقاً على أبيات للبحتري: وقد كان قوم من الرواة يقولون أجود الشعر أكذبه، ولا والله ما أجوده إلا اصدقه إذا كان له من يخلصه هذا التخليص ويورده هذا الإيراد على حقيقة الباب " (1) .   (1) الموازنة 2: 58. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 خضوع الآمدي الذي يحتكم إلى طريقة العرب لمؤثرات أجنبية دون أن يفهمها ومن غريب أمر الآمدي الذي يبني أكثر نقده على الاحتكام إلى طريقة العرب يستأنس أحياناً بثقافة فلسفية في الحديث عن صناعة الشعر، وهو إنما يعتمد ذلك ليسند مذهبه في إيثار حسن التأليف، قال: " وأنا أجمع لك معاني هذا الباب في كلمات سمعتها من شيوخ أهل العلم بالشعر: زعموا أن صناعة الشعر وغيرها من سائر الصناعات لا تجود وتستحكم إلا بأربعة أشياء وهي: جودة الآلة وإصابة الغرض المقصود وصحة التأليف، والانتهاء إلى تمام الصنعة من غير نقص فيها ولا زيادة عليها، وهذه الخلال الأربع ليست في الصناعات وحدها بل هي موجودة في جميع الحيوان والنبات " (1) ؛ ثم يذكر أن كل محدث مصنوع يحتاج إلى أربع علل: علة هيولانية وعلة صورية وعلة فاعلة وعلة تمامية، فإذا طبقنا هذا على الشعر: كانت العلة الهيولانية هي الآلة أو المادة (أي الألفاظ) ثم تكون إصابة الغرض هي العلة الصورية، ثم تكون صحة التأليف مقابلة للعلة الفاعلة، فإذا انتهى الصانع إلى تمام صحته من غير نقص منها ولا زيادة عليها فتلك علة تمامية، وعلى هذا " فصحة التأليف في الشعر وفي كل صناعة هي أقوى دعائمه (بعد صحة المعنى) ، فكل من كان أصح تأليفاً كان أقوم بتلك الصناعة ممن أضطرب تأليفه " (2) ، وغير خاف أننا لا نستطيع مناقشة الآمدي في هذا التشبيه الذي استمده من الفلسفة، لأنه لم يفهمه، فالعلتان الأولى والثانية (الهيولانية والصورية) تقابلان في الشعر ما أطلق عليه نقاد العرب أسمي (اللفظ والمعنى) أما العلة الفاعلة فهي " قوة الخلق " التي تجعل من الاتصال بين الهيولي والصورة تفرداً يميز بين قوام وقوام، وأما العلة التمامية، فهي إن صدقنا الآمدي في استعمال المصطلح تساوي العلة الغائية.   (1) الموازنة 1: 402. (2) الموازنة 1: 405. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 فكيف توصل الآمدي إلى القول بأن صحة التأليف هي أقوى الدعائم بعد صحة المعنى؟ ومم يكون التأليف إذا لم يكن المعنى (الصورة) أحد ركنيه الكبيرين؟ وقد أدرك الآمدي أن العلة الفاعلة هي " تأليف الباري جل جلاله لتلك الصورة " ثم نسي أن هذا التأليف هو الخلق - أو الصنع - حين تحدث عن الشاعر، ولو كان أدرك أبعاد هذا التمثيل لما تمسك بقوله إن ما خرج عن طريقة العرب فإنه غير مقبول، ذلك لأن " الخلق " أو " الصنع " يحتاج حرية لم يدركها الآمدي، وما نلومه لأنه لم يدركها. والحق أن الآمدي لو تعمق الثقافة الفلسفية لتنازل عن أشياء كثير من قواعده، ولكنه كان فيما قد يدل عليه كتابه سطحياً في هذه الناحية. الذوق الخاص والأحكام التأثرية، ومعاداة العمق في المعنى ولا نستبعد أن يكون الآمدي قد درس علم الكلام، غير أنه لم يتأثر به في النقد إلا تأثراً شكلياً. كما رأينا في صياغته للمقدمة على شكل حوار كلامي جدلي بين صاحب أبي تمام وصاحب البحتري، وكما نرى في سائر كتابه من قوة عارضته في الجدل، وقدرته على المماحكة. وقد كان ذا قدرة على التأويل والتخريج، اتضحت في معالجته لقراءة الشعر واستنباط الوجوه المحتملة فيه، ولكنه إذا تعدى هذه القراءة الدقيقة نبا ذوقه عن ضروب العمق، وخاصة إذا كان عمقاً معنوياً، وسمى ما يجيء به أبو تمام أحياناً " فلسفة " هرباً من تسميته بالشعر، وهو مخلص في هذا لذوقه، يكاد لا يحيد عنه، ولذلك يمكن أن نقول إن نقده يحمل سمات " أهل الظاهر "، فهو لا يستطيع أن يتقبل ذوقياً إلا المعنى القريب الذي يسلم للقارئ نفسه في صياغة جميلة إسلاماً مباشراً، دون إعمال خيال أو إجهاد فكر، ولا يجد لذة في التعمية والإنبهام وما يمكن أن يجيء في شكل أحجية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 الشعر لديه عالم مستقل من النغمة العذبة واللفظة المألوفة والمعنى المألوف، لا دخل له بالأفكار المتفردة والصياغة المتعملة والإشارات البعيدة، وهو في هذا شبيه بابن طباطبا، إلا أنه لا يهتم اهتمام أبن طباطبا بكيفية الصياغة، ولا يعرف كثيراً عن العلاقة الصناعية بين القصيدة والرسالة، وإنما يتذوق الصياغة الجميلة إذ رآها دون أن يبحث كثيراً عما يمنحها صفة الجمال، ولذلك تجده في أحكامه يسرع إلى القول بأن هذا " ما لا غاية وراءه في الحسن والصحة والبراعة " أو " حسبك بهذا حسناً وحلاوة " إلى عشرات من هذه الوقفات الذوقية الخالصة التي لا تعتمد شيئاً مما قرره في نظريته من تعليل. وتتملكه صيحات الإعجاب. كأن يقول بعد رواية أبيات للبحتري: " هذا والله هو الشعر لا تعليلات أبي تمام بطباقه وتجنيسه وفرط تقعره وكثرة إحالاته " (1) ، أو يقول: " وهذا والله الكلام العربي والمذهب الذي يبعد على غيره أن يأتي بمثله " (2) ، أو يقول: " وهذا إحسان البحتري الذي لا يفي ببراعة معناه شيء " (3) ، أو يقول: " وهذا هو الذي يأخذ بمجامع القلب ويستولي على النفس " (4) ، وقد ينال أبو تمام إعجابه فيقول: " وهذا ما لا مدفع لجودته وحسنه، وكأنه صفوة خاطر أبي تمام " (5) ، أو يقول: " وقال أبو تمام في النائل النزر القليل ما هو فوق كل حسن وحلاوة " (6)   (1) الموازنة 2: 118. (2) نفسه: 177. (3) نفسه: 232. (4) نفسه: 199. (5) نفسه: 118. (6) نفسه: 132. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 نشأة الآمدي التأثرية وأثرها في نقده وليس السبب في هذا صعوبة التعليل واعتماد الآمدي على حكم " الطبيعة " الذي يبيح للناقد أن يبدي رأيه فيما لا يمكن تعليله، ولا هو وليد ضحالة بسبب ضعف الثقافة الفلسفية، وإنما هو نتيجة النشأة التأثرية، فيما أقدر، فقد بدأ الآمدي منذ سنة 317 يحاول اختيار الجيد من شعر الطائيين، وكان ذوقه قد حدد وجهته في أخذ ما يأخذه وطرح ما لا يستسيغه، وفي هذه المرحلة يكون الإعجاب شيئاً لا يعلل، ويظل هذا الإعجاب هو المحرك الكبير دون أن يهتدي الناقد إلى إدراك الأسس الجمالية في الشيء الجميل، وقد عاشت هذه التأثرية مع الآمدي، حين شاء أن يكون ناقداً موضوعياً، وظلت تلاحقه بآثارها القديمة، ولذلك كان كثيراً ما يضيق ذرعاً بالموضوعية المتزمتة ويثور ذوقه عليها، ويستسلم إلى تعليقات تأثرية فيها الكثير من الإسراف في الحمل على المشاهد وفيها التجني وفيها إلى ذلك طرافة ساخرة، وإليك أمثلة منها: 1 - قال أبو تمام: " مهاة النقا لولا الشوى والمآبض "، فقال الآمدي: يقول: أنت مهاة النقا لولا قوائمها فإنها ليست كقوائمك وكذلك المآبض. وفي البقر أشياء أخر ليست في الناس منها القرون والأذناب وسائر خلقها؟ الخ (1) . 2 - وقال أبو تمام في الغزل: " ملطومة بالورد " يريد حمرة خدها: فلم لم يقل مصفوعة بالقار ويريد سواد شعرها، ومخبوطة بالشحم يريد امتلاء جسمها، ومضروبة بالقطن يريد بياضها؛ إن هذا لأحمق ما يكون من اللفظ وأسخفه وأوسخه (2) .   (1) الموازنة 2: 10. (2) الموازنة 2: 94. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 3 - وقال أبو تمام: يقول أناس في حبيناء عاينوا ... عمارة رحلي من طريف وتالد أأظهرت كنزاً أم صبحت بغارة ... ذوي غرة حاميهم غير شاهد فقلت لهم لا ذا ولا ذاك ديدني ... ولكني أقبلت من عند خالد وهذا من معاني العوام أن يقولوا لمن رأوا حاله قد حسنت: على من أغرت أو أي كنز وجدت؟ وما ظننت مثل هذا ينظم في شعره. وقوله: " أقبلت من عند خالد " كلام فارغ. وإنما كان ينبغي لمن ابتلاه الله بهذا المعنى أن يقول في جوابهم: نعم كنز خالد. وأغار على ندى خالد، ولكنه لعمري بين المعنى في البيت الثاني وعرفهم عمارة رحله بأن قال: جذبت نداه غدوة السبت جذبة ... فخر صريعاً بين أيدي القصائد وهذا وأبيه معنى متناه في برده وغثاثته وركاكته، ولشتيمة الممدوح عندي بالزنا أحسن وأجمل من جذب نداه حتى يخر صريعاً؟ ولو لم يعلمنا أن ذلك كان غدوة السبت كيف كان يتم برد المعنى (1) !! 4 - وقال أبو تمام: شكوت إلى الزمان نحول جسمي ... فأرشدني إلى عبد الحميد لو كان عبد الحميد طبيباً كان يمون معنى البيت مستقيماً لأن الرجل المعتر الطالب الجدوى لا يشكو نحول جسمه إلى ممدوحه الذي يلتمس الفضل منه، وإنما يشكو إليه اختلال الحال وقصور اليد، فأما أن يشكو إليه نحول الجسم فإن ذلك غاية الخناعة والنذالة والانحطاط في المسألة، إنه يخبره بشدة جوعه وأن ذلك هو أذاب لحمه، وهذا لا يقوله شاعر على هذا الوجه (2) .   (1) الموازنة 2: 325. (2) الموازنة 2: 327. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 5 - وقال أبو تمام: فلاذت بحقويه الخلافة والتقت ... على خدرها أرماحه ومناصله أتته معداً قد أتاها كأنها ... ولا شك كانت قبل ذاك تراسله فالبيت الأول جيد بالغ، والبيت الثاني في غاية السخف والرداءة لأنه جعل الخلافة قد أتته وجعله قد أتاها، وكان ينبغي أن يقتصر على إتيانه إياها أو إتيانها إياه وهو أجود، فأما أن يجمع بين الحالين فما وجهه؟ وكان ينبغي أن يعلمنا لما توجه كل واحد إلى صاحبه: أين التقيا؟ أفي منتصف الطريق؟ وقصد هذا الرجل الأغراب في الألفاظ والمعاني، ومن هاهنا فسد أكثر شعره (1) . وشبيه بهذه التأثرية في الذوق، نوع من العناد في الرأي، فإذا استثنيت أشخاصاً يحترم الآمدي آراءهم كأبن الجراح وأبن المعتز وبعض العلماء الآخرين، تجد الآمدي لا يطيق رأياً سابقاً، بل يثيره هذا الرأي إلى المخالفة والمعارضة. ومن حسن حظ أبي تمام أن يكون قد عاب معنى من معانيه ناقد سابق، ليجيء الآمدي فيدافع عما عابه غيره، إلا أن هذا ليس كثيراً في الكتاب. الأركان النقدية في كتاب الموازنة بعد ذلك كله يمكن أن نقول إن كتاب الموازنة يعتمد على ثلاثة أركان نقدية كبرى وهي: 1 - الكشف عن السرقات: فقد عد لأبي تمام 120 بيتاً أخذ معانيها عن الشعراء، ثم ناقش أبن أبي طاهر في ما عده من سرقات أبي تمام فصحح له 31 بيتاً أيده في أنها مسروقة، ورد مما عده أبن أبي طاهر خمسة عشر بيتاً فكأن كل ما   (1) الموازنة 2: 332. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 أخذه أبو تمام من غيره 151 معنى، على حسب هذا الإحصاء، ثم عد للبحتري ثمانية وعشرين بيتاً أخذها من غير أبي تمام وأربعة وستين موضعاً أخذ معانيها من أبي تمام. وناقش أبا الضياء فيما خرجه من سرقات البحتري ورد عليه ودافع عن البحتري. هذا مع تصريح الآمدي بأنه لم يستقص سرقات البحتري كما استقصى سرقات أبي تمام. ولو فعل لكانت المعاني التي أخذها البحتري أكثر. إذ كان ما أخذه من شاعر واحد قد بلغ أربعة وستين معنى. وللآمدي موقف خاص من قضية السرقة، فهو على تتبعه لها، يحس أنها ليست من العيوب الكبيرة بقوله " وكان ينبغي آلا أذكر السرقات فيما أخرجه من مساوئ هذين الشاعرين لأنني قدمت القول في أن من أدركته من أهل العلم بالشعر لم يكونوا يرون سرقات المعاني من كبير مساوئ الشعراء، وخاصة المتأخرين إذ كان هذا باباً ما تعرى منه متقدم ولا متأخر " (1) . ترى من هم هؤلاء العلماء الذين يعتمد الآمدي حكمهم في هذا المجال، ونحن قد رأينا أن الكشف عن السرقة قد أصبح في القرن الثالث غاية كبيرة من غايات النقد وانه ظل كذلك فيما تلا من عصور. أتراه يعتذر بهذا عن صاحبه البحتري، لأنه لا يريد أن يعني نفسه باستقصاء سرقاته؟ مهما يكن من أمر فغن لدى الآمدي مقياساً للسرقة وهو أن ما جرى على الألسن وشاع من المعاني أو اصبح كالمثل السائر بين الناس فإنه لا يعد سرقة إذا اشترك فيه الشاعران (2) ، كذلك فغن ما كان اتفاقاً بين ألفاظ معينة لا يعد سرقاً (3) . وبهذا دافع عن البحتري في أكثر ما اتهم به من سرقة، وهذا مقياس جيد ولكن الصعوبة فيه إنما تكون في تحديد مدى الشيوع والسيرورة والجريان على الألسنة، ومن شاء مال بهذا المقياس في حال الدفاع أو الهجوم، ولكنه رغم ذلك، مقياس لا باس به، ولو   (1) الموازنة 1: 291. (2) انظر الموازنة 120 - 123، 329، 331. (3) الموازنة 1: 326، 343. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 أخذ به النقاد بعد الآمدي لوفروا على أنفسهم كثيراً من الجهد الذي بذلوه في تتبع السرقات. 2 - القراءة الدقيقة: والغاية منها الكشف عن الخطأ في استعمال الألفاظ، وفي المعاني، فمن ذلك تخطئته لأبي تمام في قوله: حلت محل البكر من معطى وقد ... زفت من المعطي زفاف الايم إذ قال إن استعمال أبي تمام للأيم بمعنى الثيب خطا (في مقابل البكر) ، قال " وقد غلط في الايم بعض كبار الفقهاء فجعلها مكان الثيب، وذلك لحديث روي عن النبي صلى الله عليه وسلم (1) وهو خطا قد وقع البحتري في مثله (2) . ومن ذلك استعمال أبي تمام للفظة " العنس " بمعنى " العانس " ولم ترد في اللغة إذ العنس من أسماء الناقة. ومن أخطائه قوله: الود للقربى ولكن عرفه ... للأبعد الأوطان دون الأقرب فقد أخرج الأقارب من " العرف " مع انهم من أولى الناس به. وقد سار الآمدي في هذا التدقيق إلى أبعد الحدود، وكان يعلم أن القراءة الدقيقة لابد لها من الوقوف على الرواية الأصلية، ولذلك اعتمد الرجوع إلى الأصول من ديوان أبي تمام؛ فعندما قرأ بيت أبي تمام: دار أجل الهوى ان لم ألم بها ... في الركب ألا وحيي من منائحها   (1) الفقيه المشار إليه هو الشافعي، والحديث " الايم أحق بنفسها من وليها والبكر تستأذن في نفسها " وما دامت الأيم غير البكر فالثيب داخلة في معناها (الموازنة 1: 161 والتعليق رقم: 8) . (2) الموازنة 1: 355 - 356. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 فأنكر استعمال " إلا " ورأى إن وجه الكلام أن يقول الشاعر: " دار أجل الهوى عن أن ألم بها وليس عيني من منائحها "، ومن اجل أن يتأكد إن الرواية صحيحة عاد إلى أصل معتمد، قال: " وقد كنت أظن إن أبا تمام على هذا نظم الشعر، وإن غلطاً وقع في نقل البيت، حتى رجعت إلى النسخة العتيقة التي لم تقع في يد الصولي وأضرابه فوجدت البيت في غير نسخة مثبتاً على هذا الخطأ " (1) . ومثل هذا التحري من أهم واجبات الناقد الذي يتعقب الشعر بالقراءة، ولكنه في ثنايا ذلك يفصح عن قلة ثقته بالصولي (وأضرابه) ممن صنعوا ديوان أبي تمام، وينسب إليهم بعض ما وقع في رواياته من خطا، وقد اعتمد الآمدي من ديوان أبي تمام على عدة نسخ منها نسخة أبي سعيد السكري وأبي العلاء محمد بن العلاء (2) . على إن الآمدي لا يخلو في تدقيقه من التحكم، فلفظة " الأيم " التي مرت مثلاً قد تقبل دون ذلك الجدل الطويل الذي وضعه الىمدي، والماخذ الكبير على الذاهبين مذهب الدقة هذا انهم يتقيدون بوجهة نظر واحدة ولا يصححون ما عداها، فإذا روى أحد علماء اللغة تفسيراً للفظة لا يوافق المشهور لم يقبلوه، وليس كذلك موقف الشاعر، ثم أن الألفاظ تنزلق أحياناً انزلاقاً يسيراً عما وضعت له، بمرور الزمن، وهذا مبدأ لا يحترم أمثال الآمدي القائلون بالتدقيق، كذلك فان للكلام وجوهاً من التأويل يحتمل معها تخريجه على غير ما رآه الآمدي؛ فكيف إذا صدقنا ابن المستوفي بان الآمدي كان يغير رواية الشعر عمداً ليحدث ثغرة في شعر أبي تمام (3) ؟ أن هذه تهمة تعصف بالدقة التي يدعيها حين يزعم انه يرجع إلى أمهات النسخ. وثمة أمر تنبه له أبو العلاء المعري، وخلاصة رأيه إننا يجب ألا نسرع   (1) الموازنة 1: 205. (2) الموازنة 2: 257، وانظر ص: 46 أيضاً. (3) مقدمة ديوان أبي تمام 1: 26. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 إلى تخطئة شاعر مثل أبي تمام كان كثير الإطلاع على الشعر، وكل ما نظن خطا عنده فلابد ان يكون سمعه في شعر قديم لتبحره في الرواية (1) . على ان هذا المنحى في النقد قد فتح باب الاجتهاد في تفسير أشعار أبي تمام، وجعل كل شارح من بعد يحاول توجيه المعنى؛ وفي بعض أبياته من الغموض ما يسمح بتطوير هذا اللون من النقد، كما يسمح بتعقب الآمدي والرد عليه في مواطن أساء تأويلها غفلة أو تعسفاً. وذلك شيء سيكون جانباً من مادة الحديث في نقد القرن التالي. 3 - الموازنة: وهي أهم الأركان وأكبرها ومن أجلها في المقام الأول ألف الكتاب. وقد وضح الآمدي منهجه في هذه الناحية بقوله: " وأنا أذكر بإذن الله الآن في هذا الجزء أنواع المعاني التي يتفق فيها الطائيان وأوزان بين معنى ومعنى: وأقول أيهما أشعر في ذلك المعنى بعينه، فلا تطلبني أن أتعدى هذا إلى أن افصح لك بأيهما اشعر عندي على الإطلاق فأني غير فاعل ذلك؟.. فأني أوقع الكلام؟ على سائر أغراضهما ومعانيهما في الأشعار التي أرتبها في الأبواب، وأنص على الجيد وأفضله، وعلى الرديء وأرذله، وأذكر من علل الجميع ما ينتهي إليه التخليص وتحيط به العبارة. ويبقى ما لا يمكن إخراجه إلى البيان ولا إظهاره إلى الاحتجاج وهو علة ما لا يعرف إلا بالدربة ودائم التجربة وطول الملابسة، وبهذا يفضل أهل الحداقة بكل علم وصناعة من سواهم ممن نقصت قريحته وقلة دربته " (2) فالموازنة في رأي الآمدي تتم على هذا النحو: 1 - اخذ معنيين في موضعين متشابهين. 2 - تبيان الجيد والرديء مع إيراد العلة.   (1) المصدر السابق: 29. (2) الموازنة 1: 388 - 389. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 3 - تبيان الجيد والرديء دون إيراد علة لان بعض الجودة والرداءة لا يعلل. 4 - إصدار الحكم بان هذا اشعر من ذاك في هذا المعنى، دون إطلاق الحكم النهائي العام وهو " أيهما اشعر على الإطلاق ". وكان الآمدي يؤثر لو استطاع أن يوازن بين البيتين أو القطعتين إذا اتفقتا في الوزن والقافية وحركة الروي، ولكن ليس كل شعرين اتفقا هذا الاتفاق يدوران حول معنى واحد، فالاتفاق في المعنى هو المنطقة الصحيحة للموازنة. وحين تقدم إلى الموازنة التطبيقية قسم الشعر في موضوعات: كالوقوف على الديار، والغزل والمواعظ والآداب والمدح والوصف والفخر والعتاب والرثاء. واليأس والنجدة؟ الخ؛ وتحت كل باب كبير من هذه تندرج أقسام كثيرة، فتحت باب الرثاء مثلاً يجيء: عموم الفجيعة وجلال الرزء. البكاء على الفقيد، زوال الصبر على المفجوع، ذم الدهر والأيام لإخترامها الفقيد، تولي العيش وذهابه وتغير الأشياء لفقده، تخطي المنايا إلى الأشرف فالأشرف والأفضل فالأفضل؟ الخ. وتحت باب البأس والنجدة تقع فصول كثيرة مثل: وصف الجيش وكثافته. الرأي والتدبير في الحرب. وصف الحرب، وصف رجال الحرب، تشبيه الأبطال بالسباع. وصف الدروع. وصف القوانس والبيض، وصف الرايات، وصف الخيل في الحرب؟. الخ؛ ولكل موضوع إبتداءات، لذا فأن الآمدي يعمد إلى الموازنة أولاً بين تلك الإبتداءات. فلو أخذنا الابتداء بذكر الوقوف على الديار لوجدناه قد أورد فيه لأبي تمام خمسة وللبحتري سبعة ثم ختم ذلك بحكم قال فيه. " فهذا ما أبتدأ به من ذكر الوقوف. واجعلهما فيه متكافئين من أجل براعة بيتي البحتري الأولين. وانهما أجود من سائر أبيات أبي تمام، ولان للبحتري في الباب التقصير الذي ذكرته وليس لأبي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 تمام مثله " (1) ، وفي البكاء على الديار كان حكمه أن البحتري أشعر (2) ، ثم تكون الموازنة في غير أبيات الابتداء، وهكذا في كل الكتاب باباً بعد باب. ومن الملاحظ أن الأحكام أن الأحكام التي لا تعتمد على تعليل كثيرة جداً في هذه الموازنة؛ كما أن الآمدي أحياناً لا يصدر حكماً نهائياً، ويخرج أحياناً عن الحديث في شعر الطائيين - في موضوع ما - إلى الاستشهاد بما جاء في الموضوع لشعراء آخرين؛ وتتخلل أحكامه توجيهات للمعاني، ونقدات لاذعة لأبي تمام كالتي تعرضنا لها من قبل. وموطن الضعف في هذه الموازنة أنها تقوم على تجزئة القصائد، وهي بالعملية الاحصائية أشبه، كما أنها تتحدد بما لمحه الآمدي من مهان وردت في الشعر، وقد تجيء هناك معان لا شركة فيها، وقد يشترك اثنان في موضوع واحد. ثم يكون تناولها له على وجهين شديدي التباعد، فهي عمل لا ينتهي إلى غاية واضحة، كما أنه - حسبما ألمحنا من قبل - مفتعل باجراء موازنة بين شاعرين متباعدين في تصورهما لطبيعة الشعر، ولذلك تبدو أحياناً من قبيل العناء الباطل، فلو فرضنا - وهذا الفرض مستمد من إحصاءات الآمدي - أن للبحتري ابتداءات في ذم الزمان وليس لأبي تمام ابتداء في هذا الموضوع أبداً فما حصيلة ذلك؟ ماذا يمكن أن نقول وراء هذا التقرير؟ وإذا عرفنا أن الموضوعات التي تكافأ فيها الشاعران خمسون، وأن الموضوعات التي رجح فيها ميزان البحتري مائة، فهل معنى ذلك أن البحتري أشعر من أبي تمام؟ إن قضية الموازنة قد اقتضت من الآمدي جهداً في غير طائل، وردته إلى سذاجة المفاضلة مرة أخرى على الرغم من تذرعه بالعلل، ومن احتفاله بالتبويب والتقسيمز إنها إخضاع شيء لا يخضع للإحصاء، ظاهرها منطقي، وأصولها غير معتمدة على منطق، ومن الخير أنها لم تظل كذلك في تاريخ النقد العربي.   (1) الموازنة 1: 416. (2) المصدر نفسه: 428. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 موقف الحاتمي من ابي تمام وقد كان الآمدي يصلح أن يكون ختاماً لهذا النقد الذي ايستثارته الخصومة حول أبي تمام والبحتري، في القرن الرابع، ولكنا نلتقي بناقد آخر يعد فيما يبدو من أنصار أبي تمام ذلك هو الحاتمي الذي سنقف عند وقفة طويلة حين نتحدث عن المعركة الدائرة حول المتنبي؛ وقد كانت فكرة " الصراع " حول أحد الشعراء خير ما يوجه الطاقة النقدية لدى الحاتمي، ومع أن كتابه " حلية المحاضرة " يمثل إرساء للقواعد النقدية القديمة مع استكثار من الأمثلة، فإنه تعرض فيه لأبي تمام، ذهاباً مع ميله إلى مقارعة الآخرين حول ما يحملونه من آراء. قال الحاتمي: " وجمعني ورجلاً من مشايخ البصرة، ومن يومى إلى مجلسه بالشعر بعض الرؤساء، وكان خبر ذلك الشيخ سبق إلي في عصبيته للبحتري، وتفضيله إياه على أبي تمام، ووجدت صاحب المجلس يؤثر استماع كلامنا في هذا المعنى، فأنشدت قولاً أنحيت فيه على البحتري إنحاء أسرفت فيه واقتدحت زناد الشيخ به، فتكلم وتكلمت، وخضنا في أفانين من التفضيل والمماثلة، فعلوته في جميعها علواً شهده من حضر المجلس، وكانوا جلة ... وأعيان أهل الأدب بالبصرة، فاضطر إلى أن قال: ما يحسن أبو تمام يبتدئ ولا يخرج ولا يختم، فلو لم يكن للبحتري من الفضل عليه إلا حسن ابتدائه ولطف خروجه وبراعة انتهائه لوجب أن يقع التسليم له، فكيف بأوابده التي تزداد على التكرار حلاوة وجدة، ثم أقبل علي وقال: أين يذهب عنك حسن ابتدائه ... " (1) وأورد هذا الشيخ للبحتري مثلاً على حسن ابتدائه وخروجه وانتهائه؛ " قال ابو علي: وكنت ساكناً إلى أن استتم كلامه، فكأن جماعة أعجبهم ذلك عصبية على أبي تمام، فإني كنت كالشجا معترضاً في لهواتهم، وأسر كل واحد منهم إلى صاحبه   (1) حلية المحاضرة: الورقة: 22 من المخطوطة رقم: 4334. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 سراً يومئ إليه باستيلاء الرجل علي. فلما استتم كلامه وبرقت له بارقة طمع..؟.؟ ابتدأت فقلت: لست ممن يقعقع له بالحصى ولا تقرع له العصا. لا إله إلا الله، استنت الفصال حتى القرعى؛ يا سبحان الله! هل هذه المعاني إلا عون مفترعة قد تقدم أبو تمام إلى سبك نظارها، وأفتضاض ابكارها. وجرى البحتري على وتيرته في انتزاع أقفالها واتباعها؟.. " ثم رد الحاتمي معاني البحتري إلى أبي تمام؟ " قال أبو علي: فقلت له هذه حال صاحبك. فيما عددته من محاسنه التي هتكت بها ستر عواره، ونشرت مطاوي أسراره، حتى استوضحت الجماعة إن إحسانه فيها عارية مرتجعة ووديعة منتزعة. فاسمع ما قال أبو تمام في نحو أبياتك التي أوجبت الفضل في أساليبها لصاحبك. حين قال مبتدئاً: لا أنت أنت ولا الديار ديار ... خف الهوى وتولت الاوطار؟ وهل يستطيع أحد أن يبتدئ بمثل ابتدائه: طلل الجميع لقد عفوت حميدا ... (1) . . . . . . . " ثم أورد أمثلة أخرى من إبتداءاته الجيدة ومن حسن تخلصه وغير ذلك من محاسنه. وإذا تجاوزنا عن غرور الحاتمي. وعن ميله الدائم إلى كسب الفلج في كل مناظرة. وعن طريقته التمثيلية في تصوير الحوار، وجدنا ان هذا الذي أورده يشبه لمحة صغيرة من جهد الآمدي. في الموازنة في الإبتداءات وحسن التخلص والخروج. ولا نستبعد أن يكون خصم الحاتمي في هذه المناظرة بالبصرة هو الآمدي نفسه. أن الحاتمي لم يأت بجديد في هذا الموقف،   (1) المصدر السابق: 22 - 23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 ولكن هذا الفصل من كتابه يؤكد طبيعة المعركة التي أثارت كل ذلك النقد (1) .   (1) أورد الخفاجي في ريحانة الألباء صورة مقامة تدور حول أبي تمام وتذمره من سرقة الآخرين لشعره ونسبها لمن يدعى الخالدي، ومن المستبعد أن تكون لأحد الخالديين صاحبي الأشباه والنظائر الذي تقدم الكلام عنه (كما ظن محقق الكتاب) وان حط فيها الكاتب على من سماه الواعظ الموصلي، الذي يمكن أن يلتبس في هذا المقام بالسري الرفاء، عدو الخالديين. إذ نحو نعلم أن المقامات في القرن الرابع - الذي عاش فيه الخالديان) لم تصدر إلا عن بديع الزمان، ولم تكن فناً يحتذى حينئذ. كذلك فأن فيها شواهد داخلية متعددة تنفي نسبتها إلى أحد الخالديين منها ذكر شعراء عاشوا بعد عصرهما هما الشريف الرضي ومهيار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 النقد والأثر اليوناني مقدمة في حركة الترجمة وكتاب الشعر كانت حركة الترجمة في القرنين الثاني والثالث، قد قربت بين الثقافات المختلفة من هندية وفارسية ويونانية وعربية، وفتحت عيون المثقفين على مصادر علمية وفكرية جديدة، ولكنا إذا استثنينا الجاحظ في القرن الثالث، وجدنا ان هذه الثقافات المختلفة لم تترك آثاراً عميقة في البلاغة والنقد، حتى الجاحظ نفسه لم يمس الشعر من الزاوية الفلسفية إلا مساً رفيقاً؛ وكان من أسباب ذلك، الفصل الحاسم الذي أقامه النقاد والشعراء بين الشعر والمنطق، والموقف الدفاعي الذي اتخذوه من الشعر حين جعلوه موازياً أحياناً للعلوم المترجمة وبديلاً لها في أحيان أخرى. هذا على ان في المترجمات أموراً تتصل بالخطابة والشعر اتصالاً وثيقاً، كالصحيفة الهندية التي أشرنا إليها من قبل، وككتاب الخطابة وكتاب الشعر للأرسططاليس، فالأول كما حدثنا ابن النديم (1) يصاب بنقل قديم، إذ نقله إبراهيم بن عبد الله، وقيل أن إسحاق بن حنين نقله، ورآه ابن النديم نفسه بخط احمد بن الطيب السرخسي بنقل قديم، وكل هذا يشير إلى ان كتاب الخطابة كان موجوداً مترجماً في القرن الثالث؛ وأما الثاني فيبدو انه ترجم أيضاً في دور مبكر،   (1) الفهرست: 250. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 إذ اختصره الكندي (1) (المتوفى حوالي252) ، وليس بثابت أن الكندي كان يعرف اليونانية، وإذا نفينا عنه معرفتها قدرنا انه اطلع على ترجمة قديمة؛ هذا ويذكر ابن النديم أيضاً للكندي " رسالة في صناعة الشعر " (2) . فإذا كانت هي شيئاً آخر غير مختصر للبويطيقيا، فمن المرجح ان تحمل آثار ثقافته اليونانية. ترجمة أبي بشر متي بن يونس لكتاب الشعر وعادت جهود المترجمين تتناول كتاب الشعر من جديد في القرن الرابع، إذ يبدو ان الترجمة الأولى كانت غير موفقة، فترجمه أبو بشر متي بن يونس القنائي (- 328) من السرياني إلى العربي، ثم أفاد منه الفارابي، ثم عاد تلميذه يحيى بن عدي (- 364) فنقله نقلاً جديداً إلى العربية (3) . تقييم لترجمة متي وقد وصلتنا ترجمة أبي بشر (4) ، ولدى المطالعة الأولى يستطيع القارئ أن يحكم بأنها ترجمة رديئة، تدل على ان بين المترجم والنص حجاباً من عدم الفهم، لان النماذج الشعرية عند العرب لا تسعف عليه، ولان المصطلح من ثم قاصر عن أداء الأصل. ومع ذلك فان في هذه الترجمة نفسها مستويات متفاوتة: فبعضها مغلق لا يفهم ابداً، لقصور التعبير عن أداء الفكرة قصوراً تاماً، سواء أكان هذا من اضطراب الترجمة أم من تصحيف النساخ؛ وبعضها ذو دلالة واضحة في المعنى ولكنه عسير على التطبيق، ففكرة المحاكاة واضحة في قول المترجم " وكما ان الناس قد يشبهون بألوان   (1) الفهرست: 250. (2) الفهرست: 257. (3) الفهرست: 250. (4) انظر فن الشعر ص: 85 - 145، ونشره الدكتور شكري عياد أيضاً (القاهرة: 1967) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 وأشكال كثيرة أو يحاكون، وذلك من حيث أن بعضهم يشبه بالصناعات ويحاكيها، وبعضهم بالعادات، وقوم آخر منهم بالأصوات - كذلك الصناعات التي وصفنا (يعني الشعر والديثرامب؟ الخ) جميعها تأتي بالتشبيه والحكاية باللحن والقول والنظم " (1) . غير أن هذا الوضوح لا يعني ان تطبيق فكرة المحاكاة على الشعر العربي كان أمراً في حيز التصور أو الإمكان. وقل مثل ذلك في التعبير عن فكرة التطهير (كآثارسيس) " وتعد الانفعالات والتأثيرات بالرحمة والخوف. وتنقي وتنظف الذين ينفعلون " (2) ، ولكن أصولها التي يتأتى عنها التطهير غامضة مغلقة لا يفهمها المترجم للكتاب أو قارئه أو المزاول للنقد، ولهذا فأنها تظل فكرة غير ذات جذور. ومن هذه الفكر الواضحة أيضاً الفرق بين الشاعر والمؤرخ: " ولذلك صارت صناعة الشعر هي أكثر فلسفية واكثر في باب ماهية حريصة (3) من أسطوريا (الأمور) ، من قبل أن صناعة الشعر هي كلية أكثر، فأما أيسطوريا فإنما تقول وتخبر بالجزئيات " (4) . وبعض مستويات هذه الترجمة واضح في الدلالة ميسر في التطبيق إلا انه معتمد على خطا في التصور والفهم، وذلك كترجمة التراجيديا بالمدح والكوميديا بالهجاء، فان التطبيق المترتب على هذا الفهم سهل. ولكن الأسس خاطئة، ويمكننا أن نقول إن الخطأ في هذين المصطلحين لم يجر فحسب إلى تطبيقات خاطئة من بعد، بل جعل سائر الكتاب غير واضح للقارئ العربي، لان أكثر كتاب الشعر يدور على مفهومين المأساة والملهاة (وتمثل الملحمة جزءاً صغيراً منه) ، وحسبك أن تقرا قول أرسطو في العقد   (1) فن الشعر: 86. (2) نفسه: 96. (3) يريد في منحاها من الدقة. (4) المصدر السابق: 103. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 والحل في المأساة على النحو الآتي: " وكل مديح فشيء منها حل وشيء منها رباط؟ فالرباطات التي من الابتداء إلى هذا الجزء؟ ومنها يكون العبور إما إلى النجاح والفلاح وإما لا نجاح ولا فلاح؛ وإما الانحلال (الحل) فهو ما كان من أول العبور إلى آخره " (1) حتى تعجب كيف يمكن لأي ناقد أن يتناول هذا المبدأ فيطبقه على شعر المديح. ولكن هذه الترجمة على سوءها. أو شيئاً شبيهاً بها. كان ذا أثر في النقد الأدبي. سيأتي بيانه في موضعه؛ وقبل ذلك يجب أن نتنبه إلى أننا حين نتحدث هنا عن الأثر اليوناني فلسنا نقصره على كتاب الشعر (أو كتاب الخطابة) . وإنما نعني به أثر الثقافة اليونانية جملة. قدامة بن جعفر ونقد الشعر علاقة قدامة بالثقافة اليونانية لا ريب في أن الثقافة اليونانية كانت من ابرز المؤثرات في قدامة بن جعفر. فقد كان ممن يشار إليه في علم المنطق وعد من الفلاسفة الفضلاء (2) . وله تفسير بعض المقالة الأولى من السماع الطبيعي (سمع الكيان) لأرسطو (3) وله كتاب في صناعة الجدل (4) ، ويدل كتابه في الخراج على ثقافة حسابية دقيقة مثلما يدل - بشهادة أبي حيان التوحيدي - على أنه تناهى فيه   (1) فن الشعر: 112 وهذه العبارة تقابل قوله: " كل مأساة تتكون من جزئين: العقد والحل، ويتكون العقد من أحداث تقع قبل المنظر الأول ومن بعض الأحداث التي تتخلل الرواية، وما يبقى فهو الحل، وأنا اسمي عقداً كلما كان من مدخل القصة إلى حيث يبدأ تغير الحظ في حياة البطل، وأسمي حلا كلما كان بين بداية هذا التغير والخاتمة: (كتاب الشعر: 71) . (2) الفهرست: 130 وياقوت 17: 12. (3) الفهرست: 250. (4) الفهرست: 130 وياقوت 17: 13. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 بوصف النثر في المنزلة الثالثة من الكتاب (1) ، روى أبو حيان عن علي بن عيسى الوزير أنه قال: " عرض على قدامة كتابه سنة عشرين وثلاثمائة، واختبرته فوجدته قد بالغ وأحسن وتفرد في وصف فنون البلاغة في المنزلة الثالثة بما لم يشركه فيه أحد من طريق اللفظ والمعنى، مما يدل على المختار المجتبى والمعيب المجتنب، ولقد شاكه فيه الخليل بن أحمد في وضع العروض، ولكني وجدته هجين اللفظ ركيك البلاغة في وصف البلاغة حتى كأن ما يصفه ليس ما يعرفه، وكأن ما يدل به غير ما يدل عليه " (2) وهذه الثقافة نفسها هي التي جعلته يشارك في النقد الأدبي، إذ لا تكاد تشك في أن المنزلة الثالثة من كتاب الخراج إنما كتاب صدىً لكتاب أرسطو في الخطابة، وإن استكماله لمراحل المنطق الأرسططاليسي (وكتاب الشعر مرحلة أخيرة فيه) هو الذي جعله يقوم بتأليف كتابه " نقد الشعر "، وأنه بحكم هذه الثقافة نفسها كان منحازاً إلى تقدير " المعنى "، ولذا ألف كتابه " الرد على ابن المعتز فيما عاب به أبا تمام " (3) ؛ ولكن يجب ألا ننسى أن صلته بثعلب وأمثاله من علماء القرن الثالث، هي التي وضعت في يديه المادة الأدبية الصالحة لسند آرائه النظرية. عدم إطلاع قدامة على نقد القرن الثالث ويبدو أن قدامة لم يعرف شيئاً عن كتاب " نقد الشعر " للناشئ، ولم يطلع على كتاب " عيار الشعر " لأبن طباطبا، لأنه يصرح بأنه لم يجد " أحداً وضع في نقد الشعر وتخليص جيده من رديئه كتاباً " (4) ثم يقول: " فأما علم جيد الشعر من رديئه فإن الناس يخبطون في ذلك منذ تفقهوا في العلم، فقليلاً ما يصيبون؛ ولما وجدت الأمر على ذلك وتبينت أن الكلام في هذا   (1) الإمتاع 2: 145. (2) المصدر نفسه. (3) ياقوت 17: 13. (4) نقد الشعر: الصفحة الأولى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 الأمر أخص بالشعر من سائر الأسباب الأخر، وأن الناس قد قصروا في وضع متاب فيه، رأيت أن أتكلم في ذلك بما يبلغه الوسع " (1) ؛ فالنقد لدى قدامة " علم " ومجاله تخليص الجيد من الرديء في الشعر، أما سائر ما يتعلق بالشعر من علوم العروض والوزن والقوافي والغريب واللغة والمعاني، فليس مما يدخل في باب النقد إلا على نحو عارض، وقد أكثر الناس في التأليف في تلك العلوم وقصروا في علم النقد. حد الشعر عند قدامة ومنذ البداية يبدو قدامة متأثراً بالمنطق الأرسططاليسي، متجاوزاً المفهوم اليوناني للشعر، في آن معاً. فهو في حده للشعر، وفي حرصه على أن يكون ذلك الحد مكوناً من جنس وفصل يدل على أنه يترسم ثقافته المنطقية، " الشعر قول موزون مقفى يدل على معنى " فكلمة قول: بمنزلة الجنس، وموزون فصل له عما ليس بموزون، ومقفى فصل عما هو موزون ولا قوافي له، ودال على معنى فصل له عما يكون موزوناً مقفى ولا يدل على معنى. غير أن وضعه " المقفى " صفة فاصلة للشعر تدل على أنه يؤثر أن يستقل بحديثه عن الشعر العربي، وأنه لا يحتاط كما أحتاط الفارابي من بعد بقوله " إن للعرب من العناية بنهايات الأدبيات التي في الشعر أكثر مما لكثير من الأمم التي عرفنا أشعارهم " (2) ، ولا يحتاط شأن أبن سينا حين قال: " الشعر هو كلام مخيل مؤلف من أقوال موزونة متساوية وعند العرب مقفاة " (3) . وقد كان هذا التعريف مورطاً لقدامة على الصعيد المنطقي، لأن القافية لا تعدو أن تكون لفظة فهي جزء من " القول " أو ركن " اللفظ " أي هي داخلة في " اللفظ " وفي " المعنى " وفي " الوزن "، فإفرادها خروج   (1) نقد الشعر ص: 2. (2) مجلة شعر عدد 12 (1959) : 91. (3) فن الشعر: 161. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 على المنطق. ولذا فإن قدامة وقع حيرة من أمرها. حين أراد أن يستكشف ائتلافها مع هذه العناصر. لأنها ليست وحدة قائمة بذاتها، ثم وجد - على سبيل التسامح - إنها يمكن أن تقع مؤتلفة مع المعنى. ومن ثم يتجه الحديث في الشعر إلى عناصره البسيطة (اللفظ - المعنى - الوزن - القافية) - ثم ينجه إلى المركبات (اللفظ والمعنى - اللفظ والوزن - المعنى والوزن - المعنى والقافية) فهذه ثماني وحدات: قسمة منطقية (أسعف فيها شيء من التساهل في أمر القافية) إلا أنها يجب أن تعتمد أساساً ثنائياً، لأن كلاً من العناصر البسيطة والمركبة قد يكون جيداً وقد يكون رديئاً، ولهذا كانت هذه الوحدات في حالتي الإيجاب والسلب ست عشرة. صورة موجزة لكتاب نقد الشعر ويظل الحديث عن عناصر: اللفظ، والوزن، والقافية، وعن ائتلاف اللفظ والوزن وائتلاف المعنى والقافية (وهو مفتعل) أمراً سهلاً ليس فيه تعقيد في حلي الوجوب والسلب أو الجودة والرداءة. 1 - فاللفظ يجب أن يكون سمحاً سهل مخارج الحروف من مواضعها. عليه رونق الفصاحة مع الخلو من البشاعة (1) وعيوبه أن يكون ملحوناً وجارياً على غير سبيل الإعراب واللغة وحشياً قائماً على المعاظلة. 2 - والوزن يكون سهل العروض. فيه ترصيع. وعيوبه الخروج عن العروض والتخليع. 3 - والقافية تكون عذبة الحرف سلسة المخرج فيها ترصيع، وعيوبها هي العيوب القديمة من إقواء وتخميع وإبطاء وسناد. 4 - وائتلاف اللفظ والوزن أن تكون الأسماء والأفعال في الشعر   (1) نقد الشعر: 10. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 تامة مستقيمة كما بنيت، لم يضطر الأمر في الوزن إلى نقضها عن البنية بالزيادة عليها والنقصان منها، وهذا يرجع إلى صناعتي المنطق والنحو، وعيب ائتلاف اللفظ والوزن: الحشو والتثليم والتذنيب والتغيير والتفصيل. 5 - وائتلاف القافية مع المعنى أن تكون متعلقة بما تقدمها تعلق ملاءمة ونظم، بالتوشيح أو الإيغال، وعيبها في هذا الصدد أن تكون مستدعاة متكلفة يتعمد فيها السجع دون فائدة للمعنى. ولكن الصعوبة تجيء من المعنى؛ وهذا هو الباب الذي يشغل الجزء الأكبر من كتاب قدامة، إذ ما دام المنطق هو الأساس المعتمد فلابد من حصر المعاني (على قدر الإمكان) ثم حصر الصفات الموجبة والسالبة التي قد تلحقها. ولهذا يحدد قدامة المعاني بستة أنواع - كل منها ذو حدين: جيد ورديء، ولها سبع صفات: كل صفة موجبة ونقيضتها، وأنواع المعاني تقع في الأغراب الآتية: المديح - الهجاء - المراثي - التشبيه - الوصف - النسيب، ولكل غرض حسنات في المعاني وعيوب، ويكفي أن يقال إن العيوب نقض للحسنات. وتتوفر في المعاني الجيدة الصفات الآتية: صحة التقسيم - صحة المقابلات - صحة التفسير - التتميم - المبالغة - التكافؤ - الالتفات، وأضدادها المعيبة هي: فساد التقسيم - فساد المقابلات - فساد التفسير - الاستحالة والتناقض - إيقاع الممتنع - مخالفة العرف - نسبة الشيء إلى ما ليس له. هذه حال المعاني في وضعها البسيط، فإذا تركبت مع اللفظ كان ائتلافها يقتضي أن تتوفر المساواة والإشارة والإرداف والتمثيل والمطابقة والمجانسة ويقابل هذه الحسنات عيبان: الإخلال (النقص الذي يفسد المعنى) والزيادة التي تفسد المعنى، فإذا ائتلفت المعاني مع الوزن توفر: التمام والاستيفاء والصحة، وإذا أختل ذلك الائتلاف نتج عن ذلك القلب والبتر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 مصطلح قدامة تلك هي الصورة الخارجية لكتاب " نقد الشعر " أردنا وضعها على هذا النحو لتدل على أن الكتاب قد رسم حسب خطة دقيقة، لا تختل، لأن فكرة المؤلف واضحة تمام الوضوح في ذهنه، فهو مقتصد في الكلام، لا يخرج عن حدود موضوعه، ثم إن هذه الصورة تدلنا على أن قدامة قد حشد مصطلحاً كبيراً أصبح مادة، هامة في نقد الشعر وفي البلاغة على السواء، ودارسو المصطلح البلاغي يجدر بهم أن يعالجوا هذا الذي جاء به قدامة، فيردوه إلى أصوله: عربية كانت أو منطقية أو بلاغية يونانية، ويتتبعوا دورانه في الكتب البلاغية من بعد، واعتراض المعترضين عليه، واستبدال غيره به أو إقراره أو تحويره، ذلك ما لا أحاوله بإسهاب في هذا المقام لأنه هامشي في الجهد النقدي. غير أن هذا المصطلح نفسه يدل على انشغال قدامة بالتحديد والتقعيد، كان الرجل يحس بما انتشر في مجال النقد من فوضى ذوقية، وكان حريصاً على أن يعلم النقد، مثلما كان حريصاً على أن يكون علمه قائماً على منطق لا يختل، ولذلك حول النقد - مخلصاً في محاولته - إلى منطقية ذهنية وقواعد مدرسية ووضع له مصطلحاً، وليس بمستغرب أن يرى فيه معاصروه " أفرس الناس ببيت شعر " وأن يسألوه تحديد المصطلح البلاغي النقدي إذا أشكل عليهم منه شيء، فقد سأله عيسى أبن عبد العزيز الطاهري مرة عن الإشارة فقال: " هي اشتمال اللفظ القليل على المعاني الكثيرة باللمحة الدالة " فلما سأله مثلاً عليها قال: مثل قول زهير: فإني لو لقيتك واتجهنا ... لكان لكل منكرة كفاء (1) وهذا وارد أيضاً في " نقد الشعر " (2) ؛ وكذلك نجد أبا الفرج الأصفهاني   (1) حلية المحاضرة، الورقة: 9 (مخطوطة رقم: 590) . (2) نقد الشعر: 85 - 86. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 يسأله عن المقابلة فيورد عليه تعريفها والمثل عليها كما هو في كتابه دون إخلال (1) ، مما يدل على أن الكتاب أصبح جزءاً من محفوظه حاضراً لديه، وقد أثار هذا المصطلح بعض الاعتراضات، وتعرض للتغييرات، ولنأخذ مثلاً على ذلك " المطابق " فإن قدامة مثل عليه بقول الشاعر: ونبئتهم يستنصرون بكاهل ... وللؤم فيهم كاهل وسنام فكاهل أسم القبيلة، وكاهل عضو، فاعترض الأخفش علي بن الحسن وقال: إن هذا يسمى التجنيس لا المطابقة، وزعم أن قدامة خالف في هذا الخليل والأصمعي (2) ؛ وكذلك جرى الآمدي وغيره على تعقب قدامة في هذا المصطلح وهو أمر يطول تتبعه. ثم إن هذه الصورة الخارجية السريعة التي رسمناها لكتابة تنبئ عما كلفته المعاني في حالتها البسيطة والمركبة من جهد، وتدل على ان عنايته بها (وذلك أمر طبيعي) فاقت كل شيء آخر، وفي سبيل رسم الحدود لها، كان لابد أن ينطلق من تصور نظري محدد، تصور قائم على وحدة تشبه ساق الشجرة، ثم يكون كل من بعده تفرعات تالية. رأى قدامة أن أغراض الشعر إما أن يكون موضوعها الإنسان (الممدوح - المهجو - المرثي - المتغزل فيه - الموصوف) (3) وإما يكون موضوعها الشيء (الموصوف) ، وقد يجيء موضوع سادس يجمع بين هذين بالرابطة الصورية (التشبيه) ، وفكر قدامة أننا إذا استثنينا الوصف، وهو موضوع مشترك بين الناس والأشياء فإن الأربعة الأولى ليست إلا منحاً للصفات أو سلباً لها،   (1) حلية المحاضرة، الورقة: 7 (رقم 4334) . (2) حلية المحاضرة، الورقة: 9، وأنظر نقد الشعر: 92 - 93. (3) هو موضوع واحد كما ترى، غذ يقول قدامة: 28 " غرض الشعراء في الأكثر إنما هو مدحهم للرجال " وهذا يعني المدح والرثاء وبعض الوصف، فأما الهجاء فإنه سلب للصفات (وهو مدح معكوس) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 فالمدح يتطلب صفات إيجابية تسلب في الهجاء. وتحول إلى المضي في حال الرثاء. وتحور عن قاعدتها الأصلية في الحديث عن النساء. فما هي هذه الصفات الإيجابية؟ تحديد الصفات الإيجابية حسب نظرية الفضيلة الأفلاطونية هنا لجأ إلى ثقافته الفلسفية، فوجد أن أفلاطون يجعل الفضائل الكبرى أربعاً: العقل والشجاعة والعدل والعفة. وبما أن مدح الرجال معناه ذكر فضائلهم. فمن أتى في مدحه بهذه الأربع كان مصيباً ومن مدح بغيرها كان مخطئاً (1) ؛ وهذه الفضائل أمهات ذات فروع، ولا باس ان يمدح الشاعر بكل ما يتفرع عن كل فضيلة منها: ففضيلة العقل تتفرع إلى ثقابة المعرفة والحياء والبيان والسياسة والكفاية والصدع بالحجة والعلم والحلم عن سفاهة الجهلة وغير ذلك مما يجري هذا المجرى، ومن أقسام العفة: القناعة وقلة الشره وطهارة الإزار وغير ذلك مما يجري مجراه، ومن أقسام الشجاعة: الحماية والدفاع والأخذ بالثار والنكاية في العدو والمهابة وقتل الأقران والسير في المهامه الموحشة وما أشبه ذلك، ومن أقسام العدل السماحة والإنظلام والتبرع بالنائل وإجابة السائل وقراء الأضياف وما جانس ذلك (2) . وليست هذه الفضائل دائماً بسيطة بل يتركب منها فضائل أخرى تبلغ ستاً، فمن العقل مع الشجاعة يتولد الصبر على الملمات ونوازل الخطوب والوفاء بالأبعاد؟. (3) ؛ وليس الهجاء إلا سلب هذه الفضائل عن المهجو، كما ان الرثاء (والصواب التأبين) ليس إلا تحويل الفعل إلى صيغة الماضي. ومن هذا يتبين ان شعر الإنساني في نظر قدامة يقوم (إذا   (1) نقد الشعر: 29. (2) نفسه: 30. (3) نفسه: 31. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 نحن استثنينا الغزل) على قاعدة أخلاقية ركينة. فلما كان الهجاء إنكاراً لإنسانية المهجو صح حينئذ أن نعيره بفقدان هذه القاعدة. لكي نحقره إلى نفسه فيتعظ بحاله غيره. تتبع العلاقة بين قدامة وكتاب الشعر لارسطو وفي هذا الصدد يثور أمامنا سؤالان كبيران: أولهما كيف اهتدى قدامة إلى هذا التفسير؟ والثاني كيف نوفق بين هذه القاعدة الأخلاقية وبين إقرار قدامة بالغلو لدى الشاعر والفحش والتناقض؟ ففي الإجابة عن هذين السؤالين يتضح جانب كبير من جهد قدامة الناقد. والسؤال الأول من هذين وهو: كيف اهتدى قدامة إلى هذا التفسير، يردنا إلى كتاب الشعر لأرسطو، لقد ذكر الأستاذ بونيبكر في مقدمته على كتاب قدامة (1) أنه لم يجد صلة بين هذا الكتاب وبين بويطيقا أرسطاطاليس، ولكن التدقيق في ترجمة متي - التي اطلع قدامة على ترجمة شبيهة بها فيما يبدو - قد يشير إلى رأي مخالف. لقد قدمنا القول بأن الترجمة العربية بكتاب الشعر قد سمت التراجيديا والكوميديا باسم المديح والهجاء. ويبدو أن هذه التسمية الخاطئة قد رسخت في ذهن قدامة أن العرب واليونان يشتركون في هذين الفنين. وان اليونان قد سهلوا له الطريق حين وضعوا لهما قواعد نقدية، وبحسب ما تستطيع أن تؤديه الترجمة العربية يدور المديح على أعمال الأفاضل والهجاء على أعمال الأراذل: " فقد يجب أن يكون هؤلاء إما افاضل، وإما أراذل، وذلك ان عاداتهم واخلاقهم بأجمعهم إنما الخلاف بينها بالرذيلة والفضيلة؟ وبهذا الفصل بعينه الخلاف الذي للمديح عن الهجاء " (2) ؛ وما دام المديح   (1) انظر المقدمة الإنجليزية: 41. (2) فن الشعر: 88، 89. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 يدور حول الفضائل، وما دامت الفضائل الكبرى أربعاً، فلماذا لا يوفق قدامة بين النظريتين، لاسيما وأنه يقرأ في الترجمة المشوهة: " وأنواع المدائح أربعة أنواع (1) ؛ ثم يقرا في موضع آخر: (وقد يجد ضرورة أن تكون جميع أجزاء صناعة المديح ستة أجزاء بحسب أي شيء كانت هذه الصناعات "، وتختلط هذه الأمور في ذهنه فيحاول ان يحلها، ويسعفه عقله المنطقي على الاهتداء إلى حل. هي أربع بالنسبة للفضائل الكبرى، وهي ست بما تركب عنها. ثم لا يستطيع أن يفهم من التقسيمات الأصلية شيئاً لأنها تتصل في حقيقتها بالمأساة لا بالمديح، ولكنه يحس انه خرج من المأزق منتصراً. وقد كان الأمر كذلك لان بوادي الأمور الخاطئة قد تكونت لديه في صورة نظرية جديدة. وهو غير متردد في أن ما خرج به من استنتاج موافق لرأي المعلم الأول، لان المعلم الأول يقول أيضاً: " والتشبيه والمحاكاة هي مدائح الأشياء التي هي في غاية الفضيلة " (2) . كيف تم التلاءم بين القاعدة الأخلاقية والغلو في الشعر و" غاية الفضيلة " تمثل جانباً من الجواب على السؤال الثاني، فقد قال أرسططاليس ان الفضيلة وسط بين طرفين، فهل يجوز للشاعر أن يصف قوماً بالإفراط في هذه الفضائل؟ وجواب قدامة على ذلك بالإيجاب لان هذا من باب الغلو في الشعر وليس يراد منه غلا المبالغة والتمثيل لا حقيقة الشيء (3) ؛ لقد اختلف الناس في النظر إلى الشعر وانقسموا في مذهبين: ناس يرون الغلو في المعنى، وناس يرون الاقتصار وانقسموا على الحد الأوسط، بل إن بعضهم يستجيد الغلو في شعر وينكره في آخر، ويقول قدامة معلقاً على ذلك: " عن الغلو عندي أجود المذهبين وهو ما ذهب إليه أهل الفهم بالشعر والشعراء قديماً. وقد بلغني عن بعضهم أنه قال: أحسن الشعر   (1) فن الشعر: 132. (2) نفسه: 117. (3) نقد الشعر: 31. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 أكذبه، وكذا يرى فلاسفة اليونانيين في الشعر على مذهب لغتهم " (1) . وفي هذا يقف قدامة مناقضاً لمبدأ الصدق الذي دافع عنه ابن طباطبا والآمدي، معتمداً في رأيه على نقاد قدماء من العرب وعلى فلاسفة يونان، وإن كنا لا ندري يقيناً إلى أي الفلاسفة يشير. ويستمر قدامة في تأييده للغلو حتى ولو أفرط فيه الشاعر وجاء بما يخرج عن الموجود (2) ، ولكن من الطبيعي أن نسأل: أليس لهذا الغلو حد يقف عنده، أو بعبارة أخرى هل يبلغ الغلو مرحلة لا يكون فيها مقبولاً؟ لقد تنبه قدامة لهذه المسالة عند حديثه عن عيب من عيوب المعاني سماه " إيقاع الممتنع فيها في حال ما يجوز وقوعه "، وتحديد الممتنع أنه " لا يكون، ويجوز أن يتصور في الوهم " وهو في هذا يختلف عن المتناقض، لان المتناقض لا يكون أبداً. ومن أمثلة هذا الممتنع الذي وضع فيما يجوز وقوعه قول أبي نواس: يا أمين الله عش أبداً ... دم على الأيام والزمن " فليس يخلو هذا الشاعر من أن يكون تفاءل لهذا الممدوح بقوله: عش أبداً أو دعا له وكلا الأمرين مما لا يجوز، مستقبح " (3) ؛ أقول تنبه قدامة إلى أن حكمه هذا قد يوهم التعارض مع ما سمح به من قبل إفراط في الغلو، فقال: " ونحن نقول إن هذا وما أشبهه ليس غلواً ولا إفراطاً بل خروجاً عن حد الغلو الذي يجوز أن يقع، إلى حد الممتنع الذي لا يجوز أن يقع، لان الغلو إنما هو تجاوز في نعت ما، للشيء أن يكون عليه وليس خارجاً عن طباعه إلى ما لا يجوز أن يقع له، لان الذي كنا كما قلنا إنه جائز مثل قول النمر بن تولب:   (1) نقد الشعر: 26. (2) نفسه: 28. (3) نقد الشعر: 132. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 تظل تحفر عنه عن ضربت به ... بعد الذراعين والساقين والهادي فليس خارجاً عن طباع السيف أن يقطع الذراعين والساقين والهادي وان يؤثر بعد ذلك ويغوص في الارض، ولكنه مما لا يكاد أن يكون؟ وليس في طباع الإنسان أن يعيش أبداً؛ وأيضاً فأنا كنا قد قدمنا أن مخارج الغلو إنما هو على " يكاد " وليس في قول أبي نواس: عش أبداً موضع يحسن فيه، لأنه لا يحسن على مذهب الدعاء أن يقال: يا أمين الله تكاد تعيش أبداً (1) . وهذه قضية تتطلب توضيحاً، فقد أقرا قدامة أن الغلو يخرج " عن باب الموجود ويدخل في باب المعدوم " وأجاز ذلك على سبيل المثل وبلوغ النهاية (2) ، إلا أنه وإن كان معدوماً، فإن وقوعه أمر ممكن، أما الممتنع فإن وقوعه أمر غير ممكن، ولامتحان الفرق بين هذين نضع كلمة " يكاد " فحيث صلحت فذلك غلو جائز الوقوع، وحيث لم تصلح فذلك " ممتنع " لا يكون أبداً (وإن جاز أن يتصور في الوهم) . وهذا يجعل الغلو واسع المدى بحيث لو سمعنا قول الشاعر: ولو قلم ألقيت في شق رأسه ... خفيت وما غيرت من خط كاتب لقلنا على مذهب قدامة " أكاد أخفى؟ " وإذن يكون هذا من الغلو الذي لا يمنعه قدامة، وأمثال ذلك كثيرة، وواضح ان الوقوف عند حد " الممتنع " الذي لا يكون أبداً غير دقيق في التمييز بين أنواع الغلو. وقد كان قدامة في هذا الموقف يستوحي أيضاً فكرة وردت عند ارسططاليس وهي: " أما فيما يتصل بالصدق الشعري فإن المستحيل المحتمل   (1) نفسه: 132 - 133. (2) نفسه: 27. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 مفضل على شيء غير محتمل إلا انه ممكن " (1) ؟.؛ وإذا أخذنا بقانون " الاحتمال " الأرسططاليسي وجدنا ان بعض أنواع الغلو غير محتملة لكنها ممكنة وهي ما يؤثر ارسطو أن يبعده من حيز الشعر، وأن بعض ما سماه قدامة " الممتنع " يقع تحت " المستحيل المحتمل " وأن ارسطو يفضله على النوع السابق؛ هل نقول هنا إن قدامة لم يستطع أن يفهم ما عناه الفيلسوف؟ عن المثل الذي أورده قدامة لأبي نواس " يا أمين الله عش أبداً " يدخل في غير المعقول (لا في الممتنع) وهو شيء أنكره ارسططاليس في الشعر لأنه يحطم منطق الأشياء وقانون السبية، فالمثل صحيح، ولكن القاعدة العامة التي وضعها قدامة لا تتقيد برأي ارسطو. ذلك هو الموقف فيما يتصل بالغلو، فلنأخذ في الحديث عن إقرار قدامة بجواز الفحش والرفث في الشعر، فنقول: هل يجوز الفحش والرفث في الشعر مع قيامه على اساس افلاطوني إذا كان الشعر يعتمد على أساس أخلاقي كهذا الذي وصفه قدامة فكيف يجيز للشاعر أن يتحدث في شئون متصلة بالرفث والضعة وما أشبه من المعاني الذميمة؟ وجواب قدامة على هذا أن المعاني كلها معروضة للشاعر يتكلم منها فيما أحب دون أن يحظر عليه معنى من المعاني، إذ كانت المعاني للشعر بمنزلة المادة الموضوعة، والشعر فيها كالصورة، وعليه إذا شرع في معنى أن يتوخى البلوغ إلى النهاية المطلوبة من التجويد (2) . إذ الأساس الأخلاقي إنما يتناول تصوير الجوانب الموجبة، وليس هناك من يستطيع أن يحظر عليه تصوير الجوانب السالبة، وإلا لم يكن الهجاء فناً من فنون الشعر على هذا الاعتبار.   (1) اعتمدنا ترجمة بتشر: 99 وفي ترجمتنا " إن المستحيل المقنع اقرب إلى غاية الشعر من الممكن غير المقنع " (ص: 105) . (2) نقد الشعر: 4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 هل يبقى الشاعر على مستوى نفسي واحد؟ وهل يقبل منه التضاد وما دامت هذه الحرية مكفولة للشاعر، فليس ينتظر منه ان يظل على مستوى نفسي واحد، ولهذا يرد قدامة على من عاب أمرا القيس لأنه صور نفسه " ساعياً لمجد مؤثل " مرة وقانعاً " بالشبع والري " مرة أخرى - في موقف أشرنا إليه فيما سبق - وكان رده ذا وجهين، الأول: أن امرأ القيس لم يناقض نفسه، فإنه أكد في الأولى انه لو شاء لقنع ولكنه لا يريد، وفي الثانية انه قانع، وليس في هذا تناقض وإنما في الموقف الأول زيادة على الثاني، والشعران يحتويان على اكتفاء الإنسان باليسير، والرد الثاني: أنه لو كان امرؤ القيس متناقضاً لم يكن في نظر قدامة مخطئاً، إذ أن الشاعر لا يوصف بان يكون صادقاً، غنما يراد منه إذا أخذ في معنى من المعاني - أياً كان ذلك المعنى - أن يجيده في وقته الحاضر وحسب (1) . التناقض في موقفين ليس عيباً على الشاعر، ولكنه عيب كبير حين يكون في المعنى الواحد، وهنا يلجا قدامة أيضاً إلى أرسططاليس، غلا انه يعتمد كتاباً آخر هو المقولات (2) ليفسر معنى التقابل ومنش التناقض. يقول أرسطو ويتابعه قدامة: إن الأشياء تتقابل على أربع جهات (3) . 1 - جهة أل إضافة: كالأب والابن، والعبد والمولى. 2 - جهة التضاد: كالخير والشرير والحار والبارد.   (1) انظر نقد الشعر: 5 - 6. (2) المقولات (ترجمة إسحاق بن حنين: 94) على هامش تلخيص كتاب المقولات لابن رشد (تحقيق بويجيه) ، وقد أشار الأستاذ بونيبكر إلى هذا الأخذ عن أرسطو في مقدمته ص: 41. (3) انظر نقد الشعر: 124 - 125. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 3 - جهة العدم والقنية كالعمى والبصر. 4 - جهة النفي والإثبات: مثل زيد جالس، زيد غير جالس. فمن أمثلة التناقض من جهة التضاد قول أبي نواس يصف الخمر: كان بقايا ما عفا من حبالها ... تفاريق شيب في سواد عذار تردت به ثم انفري عن أديمها ... تفري ليل عن بياض نهار فالحباب في البيت الأول ابيض، يشبه الشيب، وهو في الثاني أسود ينجاب عن سطح الكأس انجياب الليل. ومن التناقض من جهة الإضافة قول عبد الرحمن القس: فغني إذا ما الموت حيل بنفسها ... يزال بنفسي قبل ذاك فأقبر فقد شرط أن يحل الموت بها حتى يموت هو، قم قال " قبل " - وقدمه على " بعد " ولا يكون ذلك في المعقول. هذان نموذجان للتناقض الذي ينكره قدامة، وهو متصل بالامعقولية؛ موافق لما أنكره ارسطو من أمر غير المعقول في الشعر. بهذا يكون قدامة قد أجاب على السؤال الثاني في عناصره الثلاثة (الغلو - الفحش - التناقض) ، ومع أن أمثلته معظمها إنما هي مما عالجه نقاد العرب من قبل - كقصة امرئ القيس في موقفين، ومبالغات أشار إليها النقاد مثل مبالغة مهلهل والنمر بن تولب، وقصة حسان مع النابغة حول الجفنات الغر اللواتي يلمعن بالضحى، واعتراض عبد الملك على كثير لوصفه إياه بلبس الدرع في الحرب) فإن تفسيره لهذه الأمثلة متصلاُ بالأصول النظرية التي وضعها، يدل على إحسانه الجمع بين الأصول اليونانية والنماذج العربية، وقدرته الفائقة على التطبيق، وحضور الشواهد الضرورية في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 ذهنه. غير انك تجده حين يتحدث عن شئون الغلو والفضيلة وأخلاقية المنبع الشعري، ولا أخلاقية بعض النماذج الشعرية، غنما همه ان يوافق بين ما حشده من روافد مختلفة تأدت إليه من ثقافته اليونانية، وسواء أكان فهمه للآراء دقيقاً أو خاطئاً، وسواء أكانت أجوبته على المشكلات موفقة أو غير موفقة، فغن هذا الموقف يصور ما كان يشغل باله من شئون المزاوجة بين الشعر والفكر، وابتداع " علم " نقدي. وليس من الضروري أن نتتبع دينه إلى يونان في جزئيات الأمور (1) ، وإنما يكفي أن نقول من قدامة ليضع ما يمكن أن نسميه " منطق الشعر ". وليس هذا واضحاً وحسب في بناء الكتاب وتقسيماته، وحدوده، واقتباس بعض الآراء اليونانية فيه، بل هو واضح على أشده في الحديث عن خصائص المعاني وعيوبها كذلك. منطق الشعر فإن " منطق الشعر " يقتضي صحة التقسيم وصحة المقابلات وصحة التفسير والتكافؤ، وهو أيضاً ينر فساد التقسيم وفساد التقابل وفساد التفسير والتناقض؛ غير أن الفضائل المذكورة تمثل طبيعة الفكر الإنساني السليم، كما أن العيوب تمثل ما ينكره هذا الفكر، فتلك فضائل لا يستقل بها الشعر، وهذه عيوب تنطبق على كل شئون القول؛ ولبيان هذا الموقف بمزيد من الوضوح أقول: إننا حقاً قد نستبين العيب من جهة فساد التقسيم أو فساد التقابل أو التناقض في الشعر، وننفر منه من أجل واحد أو غير واحد من هذه العيوب، فالمقياس السالب هنا، أدق في تفسير عدم التأثير الذي نرجوه في الشعر، ولكن المقاييس الإيجابية لا تصنع شعراً،   (1) قد أشار الأستاذ بونيبكر إلى بعض الأمثلة، وصرح بأنه يأخذ جملة من كتاب أخلاق النفس لجالينوس (ص:45) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 فقد يتم للبيت من الشعر صحة التقسيم، أو صحة المقابلات أو صحة التفسير، ثم لا تميزه إحدى هذه الخصائص عن مستوى الكلام العادي الذي نتطلب فيه أيضاً مثل هذه الفضائل دون تسمح فيها. ولهذا يمكن أن نقول أن الصفات الإيجابية التي وضعها قدامة للمعاني لا تميز الشعر بشيء، وبقي هذا الشعر بحاجة إلى استنباط خصائص أخرى، وإلى بناء " منطق شعري " غير المنطق العام الذي بناه قدامة. وليس من المعاياة ان نفترض بان شعراً قد يخلو من كل هذه الخصائص الإيجابية يظل مع ذلك في نظرنا شعراً جميلاً مؤثراً، أما العيوب المنطقية فغنها إن وجدت فيما نسميه شعراً جميلاً مؤثراً شانت صفحته، وجعلتنا ننفر منه مما خرج على حد المعقولية؛ وليس معنى ذلك أن " صحة التقسيم " مثلاً لا تكون سبباً من أسباب جمال الشعر، وإنما الذي أقوله هنا: أن صحة التقسيم حقيقة مفترضة ضرورة، لا ينكشف أثرها، إلا إذا كانت غاية في ذاتها، كان تكون العامل المشترك في المبنى الكلي أو أشبه ذلك، لنقل إذن إن الشعر يجب أن يخلو من العيوب التي يحد بعضها بكذا وكيت، فأما أن نحصر الخصائص الإيجابية فيه فذلك شيء ليس في طوق أحد على النحو الجزئي الذي أراده قدامة، ولعل هذا هو أكبر عيب في محاولته، وخلاصة هذا العيب انه أنه أراد ان يحكم الخصائص المنطقية في مجال لا منطقي، فلم يفرد الشعر عن غيره بشيء، وبهذا ورط البلاغيين العرب من بعده حين تصوروا أن صحة المقابلة والإيغال والتتميم وما أشبه قد تكون سمات لتمييز القول البليغ من غيره. إحساس قدامة بان " منطق الشعر " لا يمكن أن يكون كلياً ولست أظن أن قدامة كان غافلاً تماماً عن قصور هذه المحاولة، فغن إحساسه أحياناً بان الشعر لا ينضبط بالقاعد الصارمة موجود في كتابه. ها أنت تراه بعد ان يضع قاعدته الكبرى في المدح وهي جمع الفضائل الأربع أو ما يترتب منها، قد عاد يقول " وقد أومأ أبو السمط مروان بن أبي حفصة في مدحه شراحيل بن معن بن زائدة إيماء موجزاً ظريفاً أتى على كثير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 من المدح اختصار وإشارة بديعة حيث قال: رأيت ابن معن انطق الناس جوده ... فكلف قول الشعر من كان مفحما وارخص بالعدل السلاح بأرضنا ... (1) فما يبلغ السيف المهند درهما " فالتفاته إلى هذا الإيجاز أو الإيماء في أغراض الشعر إشارة إلى انه يدرك ان هناك أموراً ربما لم تندرج بسهولة تحت القاعدة العامة. وأزيد بان ما خرج عن القاعدة العامة اكثر بكثير مما انضوى تحتها، واحسبنا لو دمنا لقدامة ضروباً من أمثلة الشعر تتجاوز النماذج التي جاء بها كمية وأنواعاً (كالفرار في الحرب، والهجاء القائم على السخرية، والرثاء الوجداني الخالص دون تعداد للمناقب، والتحسر على الشباب و؟ إلى عشرات من أمثالها) لوسع من حدود النظرية والمصطلح، أو لاضطر ان يقيم الاستثناءات مقام القاعدة. الفرق بين منطق قدامة وعقلانية ابن طباطبا ولست أقول إن نقد قدامة - لذلك - كله عقلي محض، فإن النقد العقلي (أو الذهني) قد يستكشف العلاقات الجمالية كما هو عند ابن طباطبا، وغنما نقد قدامة لا يستطيع أن يتناول إلا " الواقع " الشعري دون غيره من المستويات، ومثل هذا النقد يستطيع ان يتمرس بالحقائق التي يقبلها العقل في الشعر ويؤثر التقرير والوضوح والحسم الفاصل والصحة المتميزة. والفرق بين قدامة وابن طباطبا أن الأول يريد أن يضع للشعر مخططاً منطقياً بقطع النظر عن السعة والشمول وحكم الذوق، والثاني يحاول ان يحد من طغيان الذوق بشيء من القواعد والأسس. ولكن بينهما من الشركة ما يتضح في   (1) نقد الشعر: 37 - 38. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 موقف كل منهما من التشبيه. فقد اشترط ابن طباطبا أن يقوم التشبيه على " الصدق " - لأنه المبدأ الكبير في نظرته النقدية. وما كنا ننتظر من قدامة وهو المؤمن بمبدأ الكذب في الشعر فيه أن يحدد التشبيه بقوله: " فاحسن التشبيه هو ما وقع بين الشيئين اشتراكهما في الصفات أكثر من انفرادهما فيها حتى يدنى بهما إلى حال الاتحاد " (1) ويورد على ذلك أمثلة مواقفة لهذه القاعدة كتشبيه صوت جرع اللبن بصوت المطر الواقع على خباء الادم، وتشبيه شخب العنز عند الحلب بصوت الكير إذا نفخ؛ وسر ذلك ان قدامة غنما يتسامح في الغو إذا كان في المعاني لا في الصور، وحين يأخذ التشبيه في الإفراط، فقد يتحول إلى استعارة، وهي - على أنها سر الشعر - يضيق بها قدامة ذرعاً، ولا يستطيع أن يتقلبها إلا إذا حملها محمل التشبيه، فقول امرئ القيس: فقلت له لما تمطى بصلبه ... وأردف أعجازاً وناء بكلكل معناه أن هذا الليل في تطاوله " كالذي يتمطى بصلبه لا أن له صلباً " وهذا في حقيقته إنكار لطبيعة الاستعارة، وقيمة ما فيها من تشخيص، ولذلك يتخلص منها قدامة تخلص المستثقل البرم بأمرها حين يقول: " فما جرى هذا المجرى مما له مجاز كان أخف واسهل مما فحش ولم يعرف له مجاز، وكان منافراً للعادة بعيداً عما يستعمل الناس مثله " (2) .   (1) نقد الشعر: 55. (2) نقد الشعر: 105. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 لماذا يهون قدامة من شان الاستعارة كما استبعد الآمدي الاستعارات البعيدة؟ وهذا التهوين الضمني من شان الاستعارة يشير إلى شيئين: أولهما أن المنهج العقلي لا يستلطف مثل هذا التصور الجامح الذي لا يخضع لتحديدات منطقية، فالاستعارة تحطم كثيراً مما بناه قدامة بصبر وتؤدة، والثاني ان قدامة لو لم يخضع لمنطقه الصارم لقدرنا أيضاً أن يقف مثل هذا الموقف نفسه في بيئة كانت ثائرة على ما يسميه قدامة " ما فحش ولم يعرف له مجاز " من أمثال استعارات أبي تمام التي انصب عليه من أجلها اشد هجوم. ولهذا رأينا قدامة هنا يحتكم للعادة، أي الذوق العام، في قبول الاستعارة. وليس احتكامه إلى العادة قاصراً على هذا الجانب من الشعر، بل أنه يتناول شئوناً أخرى في المعاني، حتى ليعد مخالفة العرف عيباً فيقول: " ومن عيوب المعاني مخالفة العرف والإتيان بما ليس في العادة والطبع مثل قول المرار: وخال على خديك يبدو كأنه ... سنا البدر في دعجاء باد دجونها فالمتعارف المعلوم أن الخيلان سود أو ما قاربها في اللون، والخدود الحسان غنما هي البيض وبذلك تنعت، فأتى هذا الشاعر بقلب المعنى " (1) . انعدام الاهتمام بالحالة النفسية في نقد قدامة ثم أن الاهتمام بالاستعارة يعني من بعض جوانبه الاهتمام بقوة الخلق عند الشاعر، ولن تجد ناقداً مثل قدامة، قصر حديثه كله على الشعر نفسه دون أن يلتفت للشاعر أو للمتلقي. فليس يدخل في نقد قدامة أي حديث عن الحالات النفسية بالمعنى الدقيق ولا عن الطبع وما أشبه من هذه الأمور التي تعرض لها ابن قتيبة، وليس يهتم كثيراً بالسامعين وحالتهم النفسية عند تلقي الشعر.   (1) نفسه: 132 - 134. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 لم لم يهتم بالسرقات رغم احتفاله بالمعنى وهذا التركيز الشديد جعله يصدر حكماً على السرقات الشعرية دون أن يسميها، وبذلك أهمل موضوعاً كبيراً أستأثر باهتمام غيره من النقاد، فبذلوا فيه جهوداً مضنية قليلة الثمرات. وكان الذي أثاره إلى هذا الموضوع حديثه عن الاستغراب والطرافة. وهو أن يكون المعنى مما لم يسبق إليه. غير أن وصف المعنى بأنه غريب وطريف لا علاقة له بكونه جيداً أو غير جيد، فقد يكون الجيد غير طريف أو غريب. وقد يكون الغريب الطريف غير جيد. والسبق إلى المعنى ليس صفة للمعنى نفسه بل هو صفة للشاعر إذ انه هو السابق في الاهتداء إليه. أما المعنى فإنه عن كان قبيحاً في ذاته لم يحسنه هذا السبق، والعكس كذلك: " واحسب انه اختلط على كثير من الناس وصف الشعر بوصف الشاعر فلم يكادوا يفرقون بينهما، وإذا تأملوا هذا الأمر نعماً علموا أن الشاعر موصوف بالسبق إلى المعاني واستخراج ما لم يتقدمه أحد إلى استخراجه لا الشعر " (1) . أرأيت إلى هذا الفصل الدقيق بين الشعر والشاعر؟ كان قدامة يقول: أنا في حديثي عن الشعر لا اهتم إلا بصفاته الذاتية وحدها، فأما ما كان متعلقاً بالشاعر نفسه فلا شان لي به. ولكن اين الحديث عن السرقات في هذا الذي عرضنا له؟ هو حديث يشبه الإيماء إذ ان قدامة يتقد أن الشعراء لو تعاوروا مثلاً تشبيه الدروع بحباب الماء الذي تسوقه الرياح، ظل التشبيه في ذاته جميلاً، ولم تخلق جدته بسبب تداول الشعراء له: ومن ثم فليس لنا أن نبحث من هو أول من سبق إلى هذا التشبيه أو ذاك المعنى، وليس لنا ان نقف عند ننظر إلى حسن الأداء وحده دون أي شيء آخر. وكأن قدامة يومئ من طرف خفي غى ان المعاني شركة للجميع، مطروحة في الطريق، فإن لم تكن كذلك واهتدى شاعر إلى معنى غريب طريف، فحقه ان يوصف هو بالسبق، أما معناه   (1) نقد الشعر: 83. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 فإن غرابته أو طرافته لا تميزه بشيء في ميزان النقد. وقد امتلأت الدنيا بالغريب الطريف البارد في آن معاً " مثل أشعار قوم من المحدثين سبقوا إلى البرد فيها " (1) . ومن حق قدامة علينا أن نقدر له هذا الموقف من تداول المعاني، ولكننا نخشى أن يكون قد فاته التنبيه إلى ما في التكرار من أثر في النفس عكسي، مثلما فاته ان الطرافة والغرابة تعبير عن تأثر القارئ، فقول القارئ إن هذا المعنى طريف يمثل هزة خاصة وجدها في نفسه نحو الجدة النسبية، وهذا شيء طبيعي يكسب المعنى صفة جمالية، إذ ليست كل صفة في المعنى يجب أن تكون قائمة فيه. فأنت ترى أن قدامة لا يعبر الحالة النفسية أدنى اهتمام، فالتكرار الذي يبلغ حد الابتذال لا يقلل من جودة التشبيه ما دام جيداً في ذاته، والطرافة لا تزيد شيئاً إلى المعنى لأنها ليست من خصائصه. وإذا تقدمنا خطوة اخرى لمحنا ان قدامة الذي لا يعرف التأثر الانفعالي في حكمه قد خرج على خطته فاتهم المحدثين بسبقهم إلى إشعار باردة، وهذا يومئ إلى ذوق متمكن في القديم، أو إن شئت الدقة فقل إن قدامة كان ضيق النفس بكل ما خرج على أصول الكلاسيكية اليونانية والعربية في آن معاً. لم تحفظ قدامة في حال النسيب وما أشبهه؟ ولهذا لا يستطيع في بروده المنطقي واقتصاده الذهني ان ينقل إلينا تأثره بموضوع قائم على الانفعال القوي مثل النسيب، (أو الرثاء الوجداني) فأما إذا كان الحديث في المدح والهجاء فذلك أمر سهل ميسور، لان المقاييس تستطيع أن تتسع هنالك لما تتسع له في أمر النسيب، استمع إلى لون من تذوقه لشعر غزلي: " وأما قول الشاعر: يود بان يمسي سقيماً لعلها ... إذا سمعت عنه بشكوى تراسله   (1) نقد الشعر: 83. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 ويهتز للمعروف في طلب العلا ... لتحمد يوماً عند ليلى شمائله فهو من احسن القول في الغزل، وذلك ان هذا الشاعر قد أبان في البيت الأول عن اعظم وجد وجده محب، حيث جعل السقم ايسر مما يجد من الشوق، فإنه اختاره ليكون سبيلاً إلى أن يشفى بالمراسلة. فهو ايسر ما يتعلق به الوامق وأدنى فوائد العاشق. وأبان في البيت الثاني عن إعظام منه شديد لهذه المرأة حيث لم يرض نفسه لها عن سجيته الأولى حتى احتاج إلى أن يتكلف سجايا مكتسبة يتزين بها عندها، وهذه غاية المحبة " (1) . وما أظن أن القارئ الحديث لو طلب إليه أن يختار من محاسن الغزل، يختار هذين البيتين، إلا أن قدامة يرى أن الشعر قد أدى معنى " غاية المحبة " وهذا يكفي، ثم لا يسال الشاعر بعد ذلك، لا عن صدق التجربة، ولا عن قوة الانفعال، ولا عن النقل التصويري؟ لا يسأل عن شيء من ذلك: " إذ كان الشعر إنما هو قول فإذا أجاد فيه القائل لم يطالب بالاعتقاد لأنه قد يجوز أن يكون المحبون معتقدين لاضعاف ما في هذا الشاعر من الوجد، فحيث لم يذكروه وإنما اعتقدوه فقط لم يدخلوا في باب من يوصف بالشعر " (2) وليس الأمر هنا تفاوتاً بين حال من يعبر عن وجد، وحال من يبقى الوجد كامناً في نفسه لا يحسن التعبير عنه، كما يقول قدامة. وإنما الفرق بين قدرتين على التعبير لا يحسن التعبير عنه، كما يقول قدامة. وإنما الفرق بين قدرتين على التعبير عن حالة واحدة من الوجد، وهذا ما ينفر قدامة من الوقوف عنده. الست تراه يجمع في نطاق واحد بين قول الشاعر المتقدم وبين قول أبي الصخر الهذلي: أما والذي أبكى واضحك والذي ... أمات وأحيا والذي أمره الأمر لقد كنت آتيها وفي النفس هجرها ... بتاتاً لأخرى الدهر ما طلع الفجر   (1) نقد الشعر 68 - 69. (2) نفسه: 69. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 فما هو إلا أن أراها فجاءه ... فأبهت لا عرف لدي ولا نكر؟ الخ الأبيات. ثم لا يستطيع - أو لعله لا يرى - أن يدل على الفرق الواضح بين الشعرين في طبيعة الانفعال، وما يتصل به من عناصر شعرية. وأن المسالة ليست مطالبة الشاعر بالاعتقاد - اي بصدق الحادث من الزاوية التاريخية - وإنما بمقدار ما هنالك من الصدق في نقل التجربة، وإن كانت متخيلة، وإلا فما معنى قول قدامة في النسيب: " ومما اختم به القول أن المحسن من الشعراء فيه هو الذي يصف من أحوال ما يجده ما يعلم به كل ذي وجد حاضر أو داثر انه يجد أو قد وجد مثله " (1) ؟ - مرة أخرى يقف قدامة عند المشاركة الشعورية، ثم يتهرب من التفضيل، ليلجا إلى محض الأداء المستوي لمعنى من المعاني، إن النسيب من حيث وجوده قد يمثل مشكلة بالنسبة لقدامة، لأنه ليس كالمدح أو الهجاء أو الرثاء وليد قاعدة أخلاقية، ولكنه يحاول أن يتجاهل هذا الوضع ويجعل له صلة بالأخلاق فيقول في تعريفه: " إن النسيب ذكر الشاعر خلق النساء وأخلاقهم وتصرف أحوال الهوى به معهن " (2) ؛ ولكن وصف الخلقة ليس ذا صلة بالأخلاق، ووصف المواجد الذاتية (أحوال الهوى وتصرفها) ليس أيضاً من باب الأخلاق. كذلك فغن ذكر الشاعر " أخلاق " النساء لا يتصل بالفضائل الأربع ولا بما تركب عنها، ومن هنا صح أن نعد النسيب مشكلة فلسفية بالنسبة لقدامة - مشكلة محيزة يريدها ان تخضع للكيان الأخلاقي العام ويتحيل لها من كل وجه، فيرى أن الذي يميل النساء إلى الرجل " الشمائل الحلوة " من ضمن السمات الأخرى (كالمعاطف الظريفة والحركات اللطيفة والكلام المستعذب؟) وتحس ان قدامة مغلوب على أمره، فحيثما أراد مسحة أخلاقية للغزل وجد الصفات الأخرى اغلب وأقوى، ولعله لم يخف عليك الأساس الأخلاقي   (1) نقد الشعر: 67. (2) نفسه: 65. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 في إعجابه بالبيتين المتقدمين اللذين عدهما من احسن الغزل، وذلك قول الشاعر: ويهتز للمعروف في طلب العلا ... لتحمد يوماً عند ليلى شمائله فإن في البيت ما يرضي إحساس قدامة العميق بالربط بين الحب " والمعروف " وان " ليلى " امرأة تحب (الشمائل الحلوة " التي تدفع صاحبها إلى طلب العلا - إلى مستوى أخلاقي رفع. ثم إن مما يزيد حال النسيب إشكالاً عند قدامة ان أستاذه أرسططاليس لا يذكر شيئاً عنه عند الحديث عن الشعر، وغنما يكتفي بذكر المدح والهجاء (أو هكذا فهم قدامة) فأما الرثاء فمن السهل قياسه على المدح وان لم يتحدث ارسططاليس عنه. مقياس الجودة من كل ذلك يتبين لنا ان قدامة لا يملك مقياساً في النقد إلا الجودة (ويقابلها الرداءة) وفي الطرف الأعلى منتهى الجودة (وفي الادنى منتهى الرداءة) وبين المرحلتين مواقف هي وسائط بين المدح والذم " تشتمل على صفات محمودة وصفات مذمومة. فما كان فيه من النعوت اكثر كان إلى الجودة أميل، وما كان فيه من العيوب أكثر كان إلى الرداءة أرب، وما تكأفات فيه النعوت والعيوب كان وسطاً بين المدح والذم " (1) ؛ فالحكم يتحقق بان تعود إلى ما حدده قدامة من نعوت للبسائط والمركبات، وخاصة نعوت المعاني وعيوبها، في حالتي الأفراد والتركيب، وتعد ما في القصيدة من فضائل، وما فيها من عيوب، وتقرر إلى أي الطرفين تميل، ليكون حكمك نقدياً، ولتكون أنت ممن يعلم النقد، أي تخليص الجيد من الرديء.   (1) نقد الشعر: 9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 نظرة إجمالية ذلك هو قدامة في النقد، يقف موقف العالم، يصنف كل شيء بمنتهى الدقة والوضوح، ويسيء الظن بالقارئ، فيضع له الأنموذج ليقيس عليه، ولا ريب في أنه بنى أسساً نقدية متكاملة. وغاص بذكائه الفذ على أمور دقيقة في المعاني، وآمن بان النقد يقوم على نظرية محددة؛ وقدامة في كل ذلك نسيج وحده. وغن خالفناه في اكثر ما يريده من الشعر والنقد؛ لقد أراد أن يكون " معلم " النقد في تاريخ الأدب العربي، كما كان أرسططاليس في تاريخ " المنطق " وفي " كتاب الشعر "، ولكن حيث كان كتاب الشعر عاملاً حافزاً. كان كتاب قدامة كالمعلم المتزمت، أو سرير بروكست، من كان طويلاً فلا بد أن يقص جزء منه كي يستطيع ان ينام فيه. وإذا كان كتابه قد لقي من المهاجمين أكثر مما لقي من المؤيدين - كما سنوضح في هذا السياق التاريخي - فإنه يمثل اجتهاداً ذاتياً مدهشاً. وقد كان موضع الرضى لدى أولئك الذين آمنوا بقيمة الفكر والثقافة الفلسفية. أبو نصر الفارابي (- 339) سبب اهتمام الفارابي بالخطابة والشعر كان اهتمام الفارابي بالخطابة والشعر جزءاً من منهجه الفلسفي العام، ولذا فإنه فسر ريطوريقا (كتاب الخطابة) ، ولعل هذا التفسير هو الذي قال فيه ابن أبي أصبعية " كتاب في الخطابة كبير، عشرون مجلداً " (1) ؛ وذكر له القفطي أيضاً " صدر كتاب الخطابة " وكتاباً " في صناعة الكتابة " (2) ؛ أما في الشعر فإن ابن أبي أصبيعة لم يذكر له سوى " كلام له في الشعر والقوافي "، ولا ندري إن كان هذا الكتاب هو إحدى الرسالتين اللتين   (1) عيون الأنباء 2ك 139. (2) تاريخ الحكماء: 279 وانظر ابن أبي أصيبعة: 138. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 وصلتا له في الشعر وهما: " رسالة في قوانين صناعة الشعراء " (1) ثم " كتاب الشعر " وهو " رسالة صغيرة (2) ، ويضاف إلى هذين الأثرين ما جاء عن الشعر في كتاب " إحصاء العلوم ". رسالة في صناعة ويبدو أن " رسالة في قوانين صناعة الشعراء " تلخيص لجزئيات من كتاب الشعر مع الإفادة من شرح لثامسطيوس على ذلك الكتاب، إذ أن الفارابي يقول بعد ان يعد أصناف الشعر اليوناني: " فهذه هي أصناف أشعار اليونانيين ومعانيها على ما تناهي إلينا من العارفين بأشعارهم وعلى ما وجدناه في الأقاويل المنسوبة إلى الحكيم ارسطو في صناعة الشعر وغلى ثامسطيوس وغيرهما من القدماء والمفسرين لكتبهم " (3) . والرسالة - كما لاحظ الدكتور بدوي - " لم تتناول كتاب ارسطو في الشعر إلا لماماً ولم تمسه إلا مساً خفيفاً جداً " (4) . وفي فاتحتها اعتذار عن استيفاء الموضوع لان " الحكيم " نفسه لم يكمل القول في صناعة الشعر " ولو رمنا إتمام الصناعة التي لم يرم الحكيم إتمامها - مع فضلة وبراعته - لكان ذلك مما لا يليق بنا، فالأولى بنا أن نومئ إلى ما يحضرنا في هذا الوقت من القوانين والأمثلة والأقاويل التي ينتفع بها في هذه الصناعة " (5) ؛ وحين يخبرنا الفارابي أن الحكيم لم يكمل القول في صناعة الشعر أتراه بعني النقص الذي لا يزال إلى اليوم شاهداً على ضياع قسم من الكتاب أم ترى الفارابي كان يتوقع من الحكيم إشباع القول في   (1) نشرها الأستاذ آربري أول مرة في RSO مجلد 17 (ص 267 - 272) وأعاد نشرها الدكتور عبد الرحمن بدوي في كتاب " فن الشعر " ص 149 - 158. (2) وجدت في المخطوط رقم: 812 في المكتبة الحميدية باستانبول، ونشرها الدكتور محسن مهدي بمجلة شعر (عدد 12/ 1959) ص 91 - 95. (3) فن الشعر: 155. (4) مقدمة فن الشعر: 53. (5) فن الشعر: 150. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 جوانب أخرى من الشعر، كالشعر الغنائي وفنونه المختلفة؟ أياً كان الامر، ومهما تكن الصلة بين رسالة الفارابي وكتاب ارسطو خفيفة فإن الفارابي - في مجموع ما وصلنا من حديث له عن الشعر - كان على معروفة بكتاب ارسطو، ولكنه لم يفد منه الإفادة المستوفاة لأسباب عديدة: منها انغلاق بعض أجزاء الكتاب دونه، ومنها أنه غير منصرف - على الحقيقة - للشعر والنقد، أو كما اعتذر في آخر القوانين بقوله: " إلا أن الاستقصاء في مثل هذه الصناعة يذهب بالإنسان في نوع واحد من الصناعة وفي وجهة واحدة، ويشغله عن الأنواع والجهات الأخرى " (1) ، وأنت إذا قرأت قوله في وصف الكتاب الثامن " أي كتاب الشعر " من الكتب المنطقية: " والثامن فيه القوانين التي تسير بها الأشعار وأصناف الأقاويل الشعرية المعمولة والتي تعمل في فن من الامور، ويحصي أيضاً جميع الأمور التي تلتئم بها صناعة الشعر، وكم أصنافها وأصناف الأشعار والأقاويل الشعرية، وكيف صنعة كل منها، ومن أي الأشياء يعمل وبأي الأشياء يلتئم ويصير أجود وأفخم وأبهى وألذ، وبأي أحوال ينبغي ان يكون حتى يصير أبلغ وأنفذ " (2) ، ذكرت ما جاء في العبارة الأولى من كتاب الشعر (3) ، وغن انتحى الفارابي منحى البسط والإسهاب. كذلك فإن حديث الفارابي عن المحاكاة في مواضع مختلفة يشير إلى أنه استطاع استيعاب هذه النظرية على وجه مقبول. وهو لا يسمى المأساة والملهاة ما سماها متى مدحاً وهجاء بل يحتفظ باسميهما اليونانيين " طراغوذيا وقوموذيا " وإن كان في تعريفه لهما بعيداً عن إدراك   (1) نفسه: 158. (2) إحصاء العلوم: 72. (3) جاء فيها: " لما كان موضوعنا هو الشعر فإني لا انوي أن أتحدث في الفن الشعري عامة فحسب، ولكني سأبحث في فنونه المختلفة وأتلمس التأثير الصحيح لكل منها وأتعرف البناء أو النهج الذي يعد أساسياً في القصيدة الجيدة وعدد الأجزاء التي يتكون منها كل فن وطبيعة كل جزء فيها وما أشبه ذلك مما يجري هذا المجرى ويتسق مع وجهة البحث (كتاب الشعر: 18) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 مهمة كل منهما وطبيعتها. ولابد لدراسة ما جاء به الفارابي حول الشعر من ترتيبه على نحو ما، على أن نذكر ان جانباً من رسالته الصغيرة (التي نشرها الدكتور مهدي) يرد في كتاب إحصاء العلوم ويكاد يكون الشبه بينهما حرفياً. أنواع العلوم التي تتناول الشعر تنقسم العلوم التي تتناول الشعر في أقسام فبعضها لإحصاء الأوزان والأسباب والأوتاد (أي المقاطع والأرجل) باليونانية) وبعضها يتناول نهايات الابيات، وبعضها للفحص عما يصلح ان يستعمل في الشعر من ألفاظ، ولكن هناك علماً اسمه " علم الأقاويل الشعرية " وهو الذي يحدد طبيعة الأقاويل وغايتها على النحو الذي أورده ارسططاليس في كتاب الشعر (1) . وهذه البداية تذكرنا بما قاله قدامة في مقدمة كتابه " نقد الشعر ". موضع الأقاويل الشعرية بين سائر الأقاويل وليست الأقاويل الشعرية إلا ضرباً واحداً من ضروب الأقاويل: فهناك الأقاويل البرهانية والجدلية والخطابية والسوفسطائية والشعرية، وتتفاوت هذه في حظوظها من الجزم والقياس، فبعضها جازم مطلقاً كالأقاويل البرهانية، وبعضها غير جازم، ومن ثم تتفاوت في حظوظها من الصدق والكذب: فالأقاويل البرهانية صادقة بالكل لا محالة، والجدلية صادقة بالبعض على الأكثر، أما الأقاويل الشعرية فإنها كاذبة بالكل لا محالة (2) ، لأنها قائمة على التخييل، ومن هنا نفهم من ابن سند قدامة القول العربي " أعذب الشعر أكذبه " بسند من الفلسفة اليونانية؛ على ان لفظة " الكذب " موهمة هنا، فهي ليست غضاً من قيمة الشعر، وإنما هي لتمييز الأقاويل الشعرية عما   (1) انظر إحصاء العلوم: 51 - 52، 72. (2) فن الشعر: 150، 151. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 يعتمد إطلاقاً على البرهان ويكون صدقاً كله، ومع ذلك فغن الأقاويل الشعرية ترجع إلى نوع من أنواع السولوجسموس (القياس) أو ما يتبعه من استقراء ومثال وفراسة (1) . ولهذا كان للتخييل في الشعر قيمة العلم في البرهان، والظن في الجدل، والإقناع في الخطابة، لأنه ذو قيمة - سنتبين طبيعتها - في الفعل الإنساني (2) ، لهذا يكون من الخطأ الفادح أن نجعل كلمة " كذب " تهويناً من شأن الشعر. عنصر المحاكاة أو التخييل وهذا التخييل هو الذي يسمى المحاكاة " والأقاويل الشعرية هي التي شانها أن تؤلف من أشياء محاكية للأمر الذي فيه القول؛ فإن محاكاة الأمور قد تكون بفعل، وقد تكون بقول، فالذي يفعل ضربان: أحدهما أن يحاكي الإنسان به إنساناً بعينه أو شيئاً غير ذلك - أو يفعل فعلاً يحاكي به إنساناً ما أو غير ذلك. والمحاكاة بقول هو: أن يؤلف القول الذي يضعه أو يخاطب به من أمور تحاكي الشيء الذي فيه القول، وهو أن يجعل القول دالاً على أمور تحاكي ذلك الشيء، ويلتمس بالقول المؤلف مما يحاكي الشيء تخييل ذلك الشيء: أما تخييله في نفسه وإما تخييله في شيء آخر، فيكون القول المحاكي ضربين: ضرب يخيل الشيء نفسه، وضرب يخيل وجود الشيء في شيء آخر " (3) .   (1) نفسه: 151. (2) مجلة شعر: 93 - 94. (3) مجلة شعر: 93. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 بين الشعر والرسم في المحاكاة إذن فالشعر (القول الشعري) يقوم على المحاكاة، وهو في ذلك يشبه الرسم (صناعة التزويق) وليس من اختلاف بينهما إلا في مادة الصناعة. ولكنهما متفقان في صورتها وافعالها وأغراضها، " وذلك أن موضع هذه الصناعة الأقاويل، وموضع تلك الصناعة الأصباغ؟ إلا ان فعليهما جميعاً التشبيه (التمثيل) وغرضيهما إيقاع المحاكيات في أوهام الناس وحواسهم " (1) . أهمية المحاكاة في الشعر وما دام الشعر يعتمد على المحاكاة فغن المحاكاة والأشياء التي تتم بها تعد أهم عنصر في الشعر، ولو طلبنا تعريف الشعر عند القدماء لكان كما يلي: " وان يكون قولاً مؤلفاً مما يحاكي الأمر وان يكون مقسوماً بأجزاء ينطق بها في أزمنة متساوية "، ففيه أذن عنصران كبيران: المحاكاة ومادتها، والوزن، والثاني اصغر العنصرين، وكل ما قد يضاف من عناصر إلى الشعر بعد ذلك فإنه تحسين فيه يجعله افضل، ولكن تلك العناصر الإضافية لا تعد من صميم ما يتطلبه الشعر (2) . قيمة الوزن في الشعر غير أن الشعر إذا خلا من الوزن بطل ان يكون شعراً والأصح أن يسمى عند ذلك " قولاً شعرياً " (3) ؛ على انه قد شاع بين الناس تقديم الوزن، حتى لم يعد بعض الشعراء يبالون ان يكون الشعر مؤلفاً مما يحاكي الشيء (4) ، وكان الفارابي هنا يومئ إلى فقدان فكرة " المحاكاة " عند شعراء العرب وجماهير المثقفين منهم، ويزيد بان العرب اهتموا بنهايات الأبيات أكثر من اهتمام الأمم   (1) فن الشعر: 157 - 158. (2) مجلة شعر: 92 (3) نفسه. (4) نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 الأخرى التي عرفت اشعارها، وهم يرون أن الشعر يصير أكمل وأفضل بألفاظ محددة تقع في النهايات (1) . ولكن هذا الشرط غير موجود عند " القدماء ". أقسام الشعر على أساس الوزن والموضوع وعلى أساس الوزن ينقسم الشعر في أنواع، مثلما ينقسم على أساس المعاني، وقد اختار العرب القسمة الموضوعية حين ميزوا الاهاجي والمدائح والمفاخرات والألغاز والمضحكات والزليات والوصفيات (2) . ولم يجعلوا لكل موضوع وزناً خاصاً به، وكذلك فعلت أكثر الأمم ما عدا اليونانيين فإنهم جعلوا لكل نوع من أنواع الشعر نوعاً من الوزن، فأوزان المدائح عندهم غير أوزان الاهاجي وهذه غير أوزان المضحكات. ولهذا كان لكل من الطراغوذيا والقوموذيا والديثرامبي وسائر الأنواع الشعرية (3) موضوع خاص ووزن خاص: " أما طراغوديا فهو نوع من الشعر له وزن معلوم يلتذ به كل من سمعه من الناس أو تلاه، يذكر فيه الخير والأمور المحمودة المحروص عليها ويمدح بها مدبرو المدن، وكان الموسيقاريون يغنون بها بين يدي الملوك، فإذا مات الملك زادوا في أجزائها نغمات أخرى وناحوا بها على أولئك الملوك.. وأما ديثرمبي فهو نوع من الشعر له وزن ضعف وزن طراغوذيا يذكر فيه الخير والأخلاق الكلية المحمودة والفضائل الإنسانية ولا يقصد به مدح ملك معلوم ولا إنسان معلوم، لكن تذكر فيه الخيرات الكلية. وأما قوموذيا فهو نوع من الشعر له وزن معلوم تذكر فيه الشرور وأهاجي الناس وأخلاقهم المذمومة وسيرهم الغير المرضية، وربما زادوا في أجزائه نغمات وذكروا فيها الأخلاق المذمومة التي يشترك فيها الناس والبهائم والصور المشتركة   (1) نفسه: 91. (2) لاحظ أن هذه القسمة تتجاوز الأنواع التي عدها قدامة. (3) عد منها الفارابي ثلاثة عشر نوعاً وقال عن الحكيم عددها في أقاويله عن صناعة الشعر (ص 152 من فن الشعر) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 القبيحة أيضاً " (1) . الخلاف بين الشعر العربي وغيره في العلاقة بين الشعر واللحن وقد نشأت عند بعض الأمم علاقة وثيقة بين اللحن والوزن، إذ يجعلون النغم التي يلحنون بها الشعر أجزاء للشعر، فإذا نطقوا الشعر دون لحن بطل وزنه، وليس كذلك العرب، فإنهم يجعلون " القول بحروفه وحدها "، فإذا حن الشعر العربي فقد ينشا تباين بين إيقاع اللحن وإيقاع القول (2) . غاية المحاكاة أما المحاكاة - وهي أهم العنصرين - فإن من شانها أن تخيل الأمر على حال افضل أو احسن " وذلك إما جمالاً أو قبحاً أو جلالة أو هواناً أو غير ذلك مما يشاكل هذه " (3) . وبما أن أفعال الإنسان كثيراً ما تتبع تخيلاته (مثلما أنها كثيراً ما تتبع ظنه وعلمه) صارت الأقاويل الشعرية تستعمل: " وفي مخاطبة إنسان يستنهض لفعل شيء باستفزازه إليه واستدراجه نحوه، وذلك إما بان يكون الإنسان المستدرج لا روية له ترشده، فينهض نحو الفعل الذي يلتمس منه بالتخييل، فيقوم له التخييل مقام الروية، وغما ان يكون إنساناً له روية في الذي يلتمس منه، ولا يؤمن إذا روى فيه أن يمتنع، فيعاجل بالأقاويل الشعرية لتسبق بالتخييل رويته حتى يبادر إلى ذلك الفعل؟ الخ " (4) فغاية المحاكاة أو التخييل هي الإثارة والحفز والاستفزاز إلى الفعل " سواء صدق ما يخيل إليه من ذلك أم لا، كان الأمر في الحقيقة على ما خيل أو لم يكن " (5) .   (1) فن الشعر 151، 152 - 153. (2) مجلة شعر: 91 - 92. (3) إحصاء العلوم: 67. (4) إحصاء العلوم: 68 - 69. (5) مجلة شعر: 94. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 السبب في قدرة المحاكاة على التأثير والسبب في قوة المحاكاة ان ما يعرض لنا لدى التخييل شبيه بما يعرض لنا عند النظر إلى الشيء نفسه، فلو كان هناك شيء نعافه ولكنه ليس يخيل إلينا انه مما يعاف فتنفر أنفسنا منه فنتجنبه، وإن انه ليس في الحقيقة كما خيل لنا " (1) . محاكاة المحاكاة وقد تنتقل المحاكاة خطوة أخرى فتصبح محاكاة المحاكاة كالذي يضع تمثالاً لزيد، ثم يضع مرآة يرى فيها التمثال، فصورة التمثال في المرآة محاكاة لمحاكاة وهذا بعد عن حقيقة زيد برتبتين؛ وكذلك الشعر فإنه قد يحاكي الأشياء التي تحاكي الأمر نفسه، وقد تكثر المتوسطات، " وكثير من الناس يجعلون محاكاة الشيء بالأمر الأبعد أتم وافضل من محاكاته بالأمر الاقرب، ويجعلون الصانع للأقاويل التي بهذه الحال أحق بالمحاكاة وادخل في الصناعة وأجرى على مذهبها " (2) . وليس واضحاً كيف تكون محاكاة المحاكاة " في الشعر، إذ لا نظن ان الفارابي يعني هنا محاكاة نماذج شعرية معتمدة، ولعله إنما يعني الرمز والإيماء والكتابة. تلبس الشعر بالخطابة والخطابة بالشعر هذه المحاكاة قوام الشعر - كما تقدم القول - ولكنها ليست عنصراً في الخطابة (وهذا فرق أساسي بين الفنين من القول) إلا في أمر يسير منها إذ يختلف الضربان أيضاً في الغاية " فالأقاويل الخطبية هي التي شانها أن تلتمس بها إقناع الإنسان في أي رأي كان، وان يميل ذهنه إلى أن يسكن إلى ما يقال له ويصدق به تصديقاً ما " (3) والأقاويل الخطابية صادقة بالمساواة   (1) إحصاء العلوم: 67 ومجلة شعر: 94. (2) مجلة شعر: 95. (3) إحصاء العلوم: 66. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 (يعني أن حظها من الصدق مساو لحظها من الكذب) بينا الأقاويل الشعرية تخييل والتخييل كذب كله. ولكن كثيراً من الخطباء يغلطون إذ يكونون ذوي قدرة على الأقاويل الشعرية فيستعملون من المحاكاة في الخطابة أزيد مما تستلزمه، فيقول الناس: هذه خطبة بليغة وحقيقة الأمر أنها قول شعري، وكذلك فإن كثيراً من الشعراء ذوي القدرة الإقناعية يضعون في شعرهم الأقاويل المقنعة ويجعلونها موزونة ويسمونها شعراً، وحقيقة الحال أن ذلك قول خطبي عدل به عن منهاج الخطابة، وكثير من الخطباء يجمعون بين الضربين كما يفعل كثير من الشعراء " وعلى هذا يوجد أكثر الشعر " (1) . وهذا من أدق ما نقرؤه في نقد الشعر، ولكنه - فيما يبدو - لم يترك أثراً ما، إذ كانت المقاييس البلاغية قد مزجت الصناعتين وسوت بينهما - على وجه التقريب - ولم يتنبه كثير من الشعراء إلى الأساس الذي ينبني عليه الفرق بين الخطابة والشعر. ويتفاوت الشعراء في قدرتهم على المحاكاة، وهم بذلك ينقسمون في ثلاث طبقات: طبقات الشعراء بالنسبة للقدرة على المحاكاة 1 - طبقة تسعفهم حيلتهم وطبيعتهم المهيأة للمحاكاة والتمثيل، إما لنوع واحد من أنواع الشعر وأما لأكثر أنواعه. 2 - طبقة يعرفون الصناعة حق المعرفة حتى لا يند عنهم شيء من خواصها وقوانينها فإذا أخذوا في أي نوع من أنواع الشعر جودوا المحاكاة. 3 - طبقة تقلد هاتين الطبقتين، وتحتذي حذوهما في المحاكاة دون طبع شعري ودون دربة ناعية، وهم اكثر الفئات خطأ وزللاً.   (1) مجلة شعر 92 - 93. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 ولكل شاعر من هذه الفئات الثلاث وجهة يتميز فيها بحيث يصدر فيها عن طبع، فمن جبل على المدح صدر منه ذلك عن طبع ولكن ربما اضطر في بعض الأحوال إلى قول الهجاء، فيكون قوله له عن قهر، والاحمد أن يكون صدور الشعر عن طبع (1) . العوائق النفسية تحول دون قول الشعر وقد تعترض الشاعر عوائق عن قول الشعر: يرجع بعضها إلى " الكيفيات النفسية " وترددها بين القوة والفتور، كما ان بعض العوائق تكون في الشيء المحكي أي الأمر نفسه، لان علاقة المحاكاة قد تكون خافية. وكثيراً ما يجيء المتخلف في الصناعة بشيء فائق يعسر على العالم بالصناعة الإتيان بمثله وذلك أمر يحدث اتفاقاً (2) . الأخطار ببال السامع وفائدته في الشعر وتتفاوت جودة التشبيه، فقد تكون بين أمرين قريبين، وربما أوحد الحاذق المشابهة بين شيئين متباينين، فإذا كان إليه قريباً بين أوب وقريباً أيضاً بين ب وج فغن الحاذق يستطيع ان يخطر ببال السامع أن هناك شبهاً بين أوج (3) . والأخطار ببال السامع ذو فائدة عظيمة في صناعة الشعر (لأنه من قبيل تهيئة النفس) " مثلما يفعله بعض الشعراء في زماننا من انهم إذا أرادوا ان يضعوا كلمة في قافية البيت ذكروا لازماً من لوازمها أو وصفاً من أوصافها في أول البيت فيكون لذلك رونق عجيب " (4) . تلك هي الآراء التي جاء بها الفارابي مقتبساً أو مفسراً أو مجتهداً، وهو لم يحاول - فيما نعرف - أن يبذل جهوداً تطبيقية في   (1) فن الشعر: 155 - 156. (2) فن الشعر: 156 - 157. (3) نفسه: 157. (4) نفسه: 157. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 دراسة الشعر. واكتفى بهذا الموقف النظري، وقد جاء بنظرات تصلح أسساً للفهم العميق، كالتفرقة الارسططاليسية بين الشعر والخطابة، والمفاضلة بين المحاكاة والوزن في الشعر. تعريف الطراغوذيا والقوموذيا أما تعريفه لطراغوذيا وقوموذيا ففيه شيء يسير من حديث أرسططاليس وأكثره يدل على اختلاط المفهومات في ذهن الفارابي. فقوله في الطراغوذيا إنه نوع من الشعر له وزن معلوم. كلام صحيح؛ وقوله: " يلتذ به كل من سمعه من الناس أو تلاه " فإنه ينظر إلى قول ارسطو في المأساة " وإذ ليس لنا أن نتطلب في المأساة كل نوع من اللذة ولكن لنا أن نتطلب فيها كل لذة واقعة في نطاق الفن التراجيدي " (1) وأما إشارته إلى اللذة عن طريق التلاوة فقد ذكره ارسطو في قوله: " وبان المأساة قادرة على أن تبلغ غايتها دون حركة أو تمثيل؟. فنحن نستطيع أن نحكم على الرواية ونتبين خصائصها بالقراءة " (2) وقوله: " يذكر فيه الخير والأمور المحمودة " فإنه ترجمة لفكرة ارسططاليس عن أن الشخصية يجب ان تكون خيرة (3) . وأما قوله " يمدح بها مدبرو المدن " فهو ينظر إلى نشأة المأساة على شكل مدائح وترانيم إلهية. وأما غناء الموسيقاريين بها بين يدي الملوك فلعله يشير إلى هذه النشأة أو لعله إشارة إلى الجوق. ومن هذا يتضح لنا أن الفارابي لم يخطئ الفهم ولكن قصر به التصور عن الطبيعة الدقيقة للمأساة.   (1) كتاب الشعر: 56. (2) نفسه: 109. (3) نفسه: 61. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 مواطن الأخذ من أرسطو والخطأ في ذلك وفي حديثه عن المحاكاة وأهميتها طرف غير قليل من آراء ارسطو، ولكن بعضه خاطئ أو محرف.. فقوله " ويعرض لنا عند استماعنا الأقاويل الشعرية عن التخييل الذي يقع عنها في أنفسنا شبيه بما يعرض عند نظرنا إلى الشيء الذي يشبه ما نعاف فإنه من ساعتنا يخيل علينا في ذلك الشيء انه مما يعاف، فتنفر أنفسنا منه فنتجنبه " (1) وهو تحريف لقول أرسطو: " والناس يجدون لذة في المحاكاة، وتؤيد التجربة صدق هذه المسألة، فقد تقع أعيننا على أشياء يؤلمنا أن نراها كجثث الموتى وأشكال أحط الحيوانات وأشدها إثارة للتقزز، ومع ذلك فنحن نسر حين نراها محكية حكاية صادقة في الفن وتزداد متعتنا بها حين تتوفر الإصابة في المحاكاة " (2) وأما تباين الشعراء في قدرتهم على المحاكاة، فإنه مأخوذ من قول ارسطو: " وعلى ذلك انقسم هذا الشعر قسمين مختلفين لتباين شخصيات أصحابه الشعراء، فمن كانت نفوسهم وقورة شامخة اختاروا للمحاكاة أعمال الشخصيات السامية ومغامراتها، بينا صور الشعراء الفكهون شخصيات الأراذل والمحتقرين، ونظم هؤلاء في البدء شعراً هجائياً ساخراً، كما نظم الأولون المدائح والترانيم الإلهية " (3) ولكن ليس في كتاب الشعر أي قسمة للشعراء كالتي جاء بها الفارابي، وليس فيه حديث عن الموانع التي تعوق عمل الشعر، مما تصدى ابن قتيبة لشيء منه في مقدمته على " الشعر والشعراء " وكلمة " طبع " مضطربة الدلالة عند الفارابي، ولكن التفرقة بين جبل على المدح ومن جبل على الهجاء تشير إى اختلاف " شخصيات الشعراء " في العبارة السابقة آنفاً.   (1) إحصاء العلوم: 67. (2) كتاب الشعر: 26. (3) كتاب الشعر 27 - 28. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 اكتفاء الفارابي بالنظر دون التطبيق ومن الغريب أن الفارابي (وهو يعيش في عصر النهضة الشعرية) لم يلابس الشعر العربي كثيراً، ولا ألف فيه كما ألف في صنعة الكتابة؛ إلا أن تكون رسالته في الشعر والقوافي، ذات صلة بالشعر العربي؛ وكم كنا أسعد حظاً لو أن شخصاً عميقاً حاد الذكاء مثل الفارابي لم يمنعه إجلاله لأرسطو من إتمام القول في الصناعة الشعرية. إذ كانت المقارنة بين أدبين - أو على الأقل بين التقاليد العامة والمقاييس المعتمدة في كل منهما - كفيلة بأن توفر له من المجال ما لم يتوفر لأرسططاليس نفسه، إذ كان الحكيم يستمد أحكامه من تصور مقصور على الأدب اليوناني دون غيره. وقد رأينا كيف كانت هذه المقارنة جليلة الفائدة لدى الفارابي في الأمور العامة؛ فهي التي جعلته يتنبه إلى ما غفل عنه قدامه من أمر القافية، وأنها شيء يجد اهتماماً خاصاً من العرب دون كثر الأمم الأخرى، وهي التي حمته من أن يتورط تورط الجاحظ الذي كان يظن أن " الوزن " هو السر المعجز في الشعر العربي؛ وهي التي جعلته يدرك كيف خلط الخطباء والشعراء في الأدب العربي بين الشعر والخطابة أحياناً، ويرى الفرق بين الشعر العربي على التلحين، وعدم دخول اللحن في الإيقاع الشعري - نظرات أصيلة مفيدة إذا أضفتها إلى ما اقتبسه من المعلم الأول، كانت حقيقة بتوسيع آفاق النقد، لو كانت لدى الفارابي شجاعة قدامه في وضع منهج نقدي متكامل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 أبو حيان التوحيدي وأصحابه من مفكري القرن الرابع ذوق أبي حيان وثقافته وصلتهما بالنقد الأدبي كان أبو حيان يجمع إلى ذوقه الدقيق في إدراك الجمال في النثر والشعر اطلاعاً على ما كتب في النقد الأدبي، فقد قرأ نقد الشعر للناشئ وعيار الشعر لابن طباطبا ونقد الشعر والكلام الخالص بالنثر في كتاب الخراج لقدامه، وعرف الكتب التي تتصل بعض مادتها بالنقد الأدبي ككتب الجاحظ والمرد وابن قتيبة وابن المعتز، وكان مهيأ بحكم ذلك الذوق النافذ والإطلاع الواسع ليكون في طليعة النقاد، ولكنه، لأمر ما، كان يتهيب النقد أو كما يسميه علم " الكلام على الكلام " ويحس بصعوبته: لان " الكلام على الكلام؟ يدور على نفسه، ويلتبس بعضه ببعض، ولهذا شق النحو وما أشبه النحو من المنطق، وكذلك النثر والشعر " (1) ؛ وهو يحكم إمعانه في النثر كان يحب الشعر محبة المتذوق له. ولذلك فإنه أعتذر عن نقد الشعراء المعاصرين حين سأله الوزير أبن سعدان أن يصف له ما تميز به كل واحد منهم فقال: " لست من الشعر والشعراء في شيء، وأكره أن أخطو على دحض وأحتسي غير محض " (2) ، إلا أنه من خلال هذا التواضع لم يكن يهدف إلا إلى تقديم العذر وحده، فأما معرفته بالشعر والشعراء فقد تجاوزت حدود ذلك التواضع بكثير، وهو رغم صعوبة الكلام على الكلام أيضاً كان يزمع أن يكتب رسالة مستقلة في هذا الموضوع (3) ، ولكنا لا ندري هل وفى بوعده أو لم يف.   (1) الإمتاع 2: 131. (2) الإمتاع 1: 134. (3) المقابسات: 246. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 مجالات جهود أبي حيان في النقد وإذا استثنينا هذه الرسالة وجدنا جهد التوحيدي في النقد، رغم انه جهد عارض، قد تناول ثلاثة مظاهر: (أ) إرسال أحكام الموجزة حول الشعراء والكتاب المعاصرين. (ب) تقرير أصول البلاغة نظرياً وتطبيقها عملياً. (ج) استثارة المعاصرين إلى الإجابة عما يتعلق بالمشكلات النقدية. (أ) إرسال الأحكام الموجزة حول الشعراء والكتاب المعاصرين: تناولت أحكام التوحيدي عدداً من أدباء عصره، فمن الشعراء: السلامي والحاتمي وابن جلبات والخالع ومسكويه وابن نباتة وابن حجاج. وإنما خص هؤلاء لأن المقام كان يستدعي الحديث عن شعراء بغداد دون غيرهم، وكانت ملاحظاته مجملة، تنبني عما كونه من رأي في كل واحد منهم بعد أن عرف شعره، ومن ذلك قوله: " أما السلامي فهو حلو الكلام متسق النظام كأنما يبسم عن ثغر الغمام، خفي السرقة لطيف الأخذ واسع المذهب لطيف المغارس، جميل الملابس، لكلامه ليطة بالقلب وعبث بالروح وبرد على الكبد، وأما الحاتمي فغليظ اللفظ كثير العقد، يحب أن يكون يدوياً قحاً وهو لم يتم حضرياً، غزير المحفوظ، جامع بين النظم والنثر، على تشابه بينهما في الجفوة وقلة السلامة، والبعد عن المسلوك، بادي العورة فيما يقول: لكأنما يبرز ما يخفي ويكدر ما يصفي، له سكرة في القول إذا أفاق منها خمر وإذا خمر سدر، يتطاول شاخصاً فيتضاءل متقاعساً، إذا صدق فهو مهين، وإذا كذب فهو مشين " (1) ؛ وقد يبدو هذا الكلام مرسلاً لأنه غير مؤيد بالشواهد، مثلما يتحمل الخلط بين تقدير أبي حيان   (1) الإمتاع 1: 134 - 135. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 للشاعر وتقديره للشعر في آن معاً، وإذا كانت المعاصرة تتحمل الوجه الثاني، فإن التدقيق في هذه العبارات قد ينفي القول بأن كلام أبي حيان تعميمي، لأن كل حكم يرسله يدل على تعمق في الدراسة، مع انتحاء الناحية التصويرية أحياناً في هذه الأحكام. وحسبك أن تقرأ قوله مثلاً " وأما أبن جلبات فمجنون الشعر " حتى تحس أن جملة مثل هذه تستوعب كثيراً مما لو أخذ بالتحليل لأفردت له دراسة كاملة، ولكن هل كانت هذه الأحكام تنطبق على هؤلاء الشعراء تماماً؟ ذلك أمر يعز اليوم القطع به، وحسبنا أن أبا حيان فذ في هذه " الطريقة التصويرية " في النقد؛ تلك الطريقة التي استخدمها أيضاً في الحديث عن الناثرين فقال في الصابي مثلاً: " لا يثب ولا يرسب، ولا يكل ولا يكهم، ولا يلتفت وهو متوجه، ولا يتوجه وهو ملتفت " (1) . وقد حاول من كتبوا " المقامات النقدية " من بعد - كما سنوضح ذلك في موضعه - أن يحتذوا هذه الطريقة، فلم يكن لهم ذكاء أبي حيان ولا جمال تصوره وتصويره. (ب) تقرير أصول البلاغة وتطبيقها عملياً: تقرير مفهوم البلاغة أورد أبو حيان قول إبراهيم الإمام " يكفي من خط البلاغة أن لا يؤتى السامع من سوء إفهام الناطق، ولا يؤتى الناطق من سوء فهم السامع " ثم علق عليه بقوله: " وهذا الحكم من إبراهيم مبتور لان الإفهام قد يقع من الناطق ولا يكون بما أفهم بليغاً، والفهم قد يقع للسامع ممن ليس ببليغ ولا يكون بليغاً، وليس اشتراكهما في التفاهم بلاغة " (2) . وذهب التوحيدي يحدد البلاغة بأنها تعتمد على الطبع أو على الصناعة أو على الاثنين معاً، وعلى هذا تجيء البلاغة في ثلاثة مستويات؛ بلاغة المطبوع ولا يخلو   (1) الإمتاع 1: 67. (2) البصائر 1: 362 - 363 وقول إبراهيم في البيان 1: 87. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 من صناعة، وبلاغة المصنوع ولا يخلو من طبع، وفن ثالث مسلسل يبتدر في أثناء هذين المهذبين، والسر كله " أن تكون ملاطفاً لطبعك الجيد ومسترسلا في يد العقل البارع ومعتمداً على رقيق الألفاظ وشريف الأغراض مع جزولة في معرض سهولة، ورقة في حلاوة بيان، مع مجانبة المجتلب وكراهة المستكره " (1) ويقف التوحيدي في هذا الصدد، موقفاً خاصاً من السجع الذي أكثر منه كتاب القرن الرابع، فيرى ألا يشتط الكاتب في اعتماده، فأنه أن فعل لحق كلامه بكلام الكهان والنسأة أو كلام المستعربين من العجم؛ وليس للكاتب أيضاً أن يهجر السجع البتة، وإنما أن يكون في إنشاءه كالطراز من الثوب، والعلم من المطرف، والخال من الوجه " وقد يسلس السجع في مكان دون مكان، والاسترسال أدل على الطبع، والطبع أعفى، والتكلف مكروه والمتكلف معنى " (2) . كيف يكون المرء كاتباً ويجيب التوحيدي على السؤال العملي: " كيف يكون المرء كاتباً " فينص في ذلك على الإخلاص والاستهانة بالجهد وعدم الانقياد لسحر اللفظ قبل الوثوق من حدود المعنى، وعلى العناية بالجمال في التأليف، وعلى التوفيق بين الشكل والمحتوى توفيقاً متلاحماً لا انفصال فيه، ومما جاء في وصيته هذه: " فمن أوائل تلك العناية جمع بدد الكلام، ثم الصبر على دراسة محاسنه، ثم الرياضة بتأليف ما شاكله كثيراً أو وقع قريباً إليه، وتنزيل ذلك على شرح الحال: ان لا يقتصر على معرفة التأليف دون معرفة حسن التأليف، ثم لا يقف مع اللفظ وأن كان نازعاً شيقاً حتى يفلي المعنى فلياً، ويتصفح المغزى صفحاً، ويقضي من حقه ما يلزم في حكم العقل، ليبرأ من عارض سقم، ويسلم من ظاهر استحالة، ويعمد حقيقته أولاً ثم يؤسسه ثانياً، ليترقرق   (1) البصائر 1: 365. (2) البصائر 1: 366. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 عليه ماء الصدق ويدنو من لآلاء الحقيقة " (1) ؛ وقد نقول أن أبا حيان يتحدث هنا عن تجربته الذاتية، ولكن قد يكون أيضاً متأثراً بما قاله ابن طباطبا في كيفية نظم الشعر، فالكلامان في طبيعة المعاناة متشابهان. (ج) استثارة المعاصرين إلى الإجابة عما يتعلق بالمشكلات النقدية: المفاضلة بين النظم والنثر ويتميز أبو حيان بذلك الظمأ العقلي الذي كان يحفزه إلى التساؤل الذاتي وإلى إلقاء الأسئلة عما يعتلج في ذهنه ونفسه من مشكلات، ومن أهم المشكلات التي كانت تجول في ذهنه واذهان المفكرين من حوله مشكلة العلاقة بين النظم والنثر. ثم إمكان المفاضلة بينهما، ومنشأ هذه المشكلة فلسفي الطابع، فقد عرف هؤلاء المفكرون ما حام حوله الفكر الفلسفي من أمر التفاوت بين الخطابة والشعر في حظهما من الصدق والكذب وان الخطابة - وهي اقناعية - متساوية الصدق والكذب، أو صادقة بالمساواة - كما قال الفارابي (2) - وان القول الشعري كاذب بالكل (3) ؛ وعلى هذا الأساس فيما أتصور - كتب أبو زيد البلخي كتابه " أقسام العلوم " وجعل العلوم مراتب يفضل بعضها بعضاً (4) ، ونقدر أن في هذا الكتاب حديثاً عن علم الشعر، يلحق بهذا الباب الذي نتحدث فيه؛ وكتب أبو إسحاق الصابي رسالة في تفضيل النثر والنظم (5) ، ولكن الأمر تعدى هذا الحد الفلسفي (الذي قد يساء فيه فهم معنى الصدق والكذب) إلى المناظرات الجدلية، وذهب كل فريق من المتجادلين يستعين في تفضيل الشعر أو النثر بأمور   (1) البصائر 3: 7 وما بعدها (وانظر: ابو حيان التوحيدي: 136) . (2) فن الشعر: 151. (3) المصدر نفسه. (4) المقابسات: 148. (5) المقابسات: 261. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 خارجة عن طبيعتهما أحياناً، فكان أبو سليمان المنطقي وأبو عابد الكرخي صالح بن علي وعيسى الوزير وابن طراراة الجريري وابن هندو الكاتب ممن يفضلون النثر، وتتفاوت حججهم بين السطحية والعمق: فمن حجج أبي عابد الكرخي أن النثر أصل الكلام والنظم فرعه والأصل اشرف من الفرع وبالنثر نزلت الكتب السماوية والوحدة فيه أظهر، وهو طبيعي في البدأة لان الناس يتكلمون فيه ابتداءً، وهو غير محتاج إلى الضرورات كالشعر (1) ، وكرر أبو سليمان المنطقي أمر ظهور الوحدة في النثر: " النثر اشرف جوهراً والنظم اشرف عرضاً؟ لأن الوحدة في النثر أكثر، والنثر إلى الوحدة اقرب، فمرتبة النظم دون مرتبة النثر، ولان الواحد أول والتابع له ثان " (2) . وذهب عيسى الوزير إلى أن النثر من قبل العقل، والنظم من قبل الحس (3) ، وكأنه يكرر بهذا ما قيل حول حظ الشعر من التخييل وحظ الخطابة من الإقناع؛ ونضرب صفحاً عن حجج الآخرين الذين يفضلون النثر، لأنها قليلة القيمة في ميدان الجدل. أما الذين يفضلون الشعر فهم في الغالب من طبقة الشعراء: وهم يرون ان الشعر صناعة قائمة بذاتها، بينما النثر (أي الكلام) يستطيعه كل إنسان، وكذلك ذهب هؤلاء إلى ذكر أمور عارضة تبين فضل الشعر كاحتوائه الحكم والشواهد، ونيل الشعراء الجوائز من الممدوحين؟ الخ (4) . وواضح ان هذه الخصومة ما كانت لتصل إلى هذا المستوى لولا تعصب كل فريق لما يحسنه، ومع ذلك فان أبا حيان كان يرى أن الأكثرية يقدمون النظم على النثر، دون ان يحتجوا فيه بظاهر القول، وان الاقلين قدموا النثر   (1) الإمتاع 2: 132 - 134. (2) المقابسات: 261. (3) الإمتاع 2: 134. (4) الإمتاع 2: 138 - 139. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 وحاولوا الحجاج فيه، ولذلك سال صيقه مسكويه عن مرتبة كل منهما فكان مجمل جوابه: أن النظم يزيد على النثر بالوزن فهو أفضل من هذه الجهة، أما إذا اعتبرت المعاني فأنها مشتركة بينهما " وليس من هذه الجهة تميز أحدهما من الآخر، بل يكون كل واحد منهما صدقاً مرة وكذباً مرة وصحيحاً مرة وسقيماً أخرى " (1) . أيهما أشد تأثيراً في النفس الشعر أم النثر وسبب تفاوتهما في الإطراب ثم حدد أبو حيان هذا السؤال على نحو ادق، فبدلاً من أن يسال عن أفضلية أحدهما على الآخر ألقى على أستاذه أبي سليمان سؤالاً حول أشدهما تأثيراً في النفس، فكان جواب أبي سليمان شبيهاً بما قاله عيسى الوزير، حين قال: " النظم أدل على الطبيعة لان النظم من حيز التركيب، والنثر أدل على العقل لان النثر من حيز البساطة وإنما تقلبنا المنظوم بأكثر مما تقبلنا المنثور لانا للطبيعة أكثر منا بالعقل، والوزن معشوق للطبيعة والحس، ولذلك يفتقر له عندما يعرض استكراه في اللفظ، والعقل يطلب المعنى، فلذلك لاحظ للفظ عنده وإن كان متشوقاً معشوقاً " (2) . وكان مفهوم التركيب والبساطة، أو التكثر والوحدة مفزع أبي سليمان المنطقي كلما سئل عن تصوره لأثر الشعر والنثر، ولذلك نجده يلجأ إلى هذا المفهوم عندما أعاد عليه التوحيدي السؤال في صيغة أخرى وقال: " لم لا يطرب النثر كما يطرب النظم؟ " فقال في الجواب " لأننا منتظمون (أي ذوو تركيب) فما لاءمنا أطربنا، وصورة الواحد (أي الوحدة) فينا ضعيفة ونسبتنا إليه بعيدة " (3) ، وخلص المنطقي من هذا إلى تعليل الأعجاز في القرآن بان صاحب الرسالة " غلبت عليه الوحدة فلم ينظم من   (1) الهوامل والشوامل: 309. (2) المقابسات: 245. (3) المقابسات: 261. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 تلقاء نفسه، ولم يقتطعه، ولا ألقى إلى الناس عن القوة الإلهية شيئاً على ذلك النهج المعروف، بل ترفع عن كل ذلك، وخص في عرض ما كانوا يعتادونه ويألفونه بأسلوب حير كل سامع؟ " (1) . أثر اختلاف الألفاظ واتفاق المعاني في النفس واشتق التوحيدي من صلة جرس اللفظ بالحس وصلة المعنى بالعقل سؤالاً جديداً، فسال ابا بكر القومسي - أحد تلامذة يحيى بن عدي، وكان أبو بكر هذا كبير الطبقة في الفلسفة - " ما معنى قول بعض الحكماء: الألفاظ تقع في السمع فكلما اختلفت كانت أحلى، والمعاني تقع في النفس فكلما اتفقت كانت أحلى " فكان جواب القومسي يدور على مفهوم التبدد (التكثر) والتوحد، فالحس من صفاته التبدد وهو تابع للطبيعة، فاختلاف الألفاظ يوافق خاصة التكثر في الحس؛ والنفس متقبلة للعقل، فكلما ائتلفت حقائق المعاني عند ورودها على العقل وافقت نزعة التوحد، وكانت انصع وأبهر (2) . جواب أبي سليمان عن ماهية البلاغة ويبدو ان أبا حيان لم يقرأ كتاب الخطابة لارسططاليس وإن كان يعلم انه أحد كتاب الفيلسوف، وأراه حين سال أستاذه أبا سليمان عن ماهية البلاغة كان يعتقد ان أبا سليمان سيجيبه مستمداً من اطلاعه على ما قاله اليونان إذ " بحثوا عن مراتب اللفظ واللفظ وطبائع الكلمة والكلمة موصلة ومفصلة وخواتيم (هي) أحق ما اعتمد " ولكن أبا سليمان اكتفى بقوله " هي الصدق في المعاني مع ائتلاف الأسماء والأفعال والحروف وإصابة اللغة، وتحري الملاحة والمشاكلة، برفض الاستكراه ومجانبة التعسف " (3) . ولو   (1) نفسه: 262. (2) المقابسات: 144 - 145. (3) المقابسات: 293. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 كان أبو حيان يعرف كتاب الخطابة، لاحس أن أستاذه ذا المقام الكبير في نفسه قد خيب ظنه، في هذا المقام. ويسال أبو زكريا الصميري وهو حاضر ذلك المجلس: " وقد يكذب البليغ قد البس لباس الصدق وأعير عليه حل الحق، فالصدق حاكم، وغنما رجع معناه إلى الكذب الذي هو مخالف لصورة العقل الناظم للحقائق ". هل بلاغته أحسن من بلاغة العرب؟ وعند هذا الكلام يندفع أبو حيان بقوة حبه للغة العربية إلى أن يسال: " هل بلاغة احسن من بلاغة العرب؟ فيجيبه أستاذه، وهو في هذا الموقف علمي الدقة: " هذا لا يبين لنا إلا بان نتكلم بجميع اللغات على مهارة وحذق، ثم نضع القسطاس على واحدة واحدة منها حتى نأتي على آخرها واقصاها، ثم نحكم حكماً بريئاً من الهوى والتقليد والعصبية والمين، وهذا ما لا يطمع فيه إلا ذو عاهة " (1) . غير أن أبا سليمان يهون الأمر على تلميذه، أو يهونه أبو حيان نفسه على نفسه بان ما عرف من اللغات يدل على ان اللغة العربية " أوسع مناهج وألطف مخارج وأعلى مدارج وحروفها أتم وأسماؤها اعظم ومعانيها أوغل ومعارفها أشمل؟ ". صنوف من مستويات البلاغة ولم يكتف أبو حيان بتحديد ماهية البلاغة تحديداً كلياً، بل كان يسال أحياناً بعض النقاد رأيهم في بلاغة هذا الكاتب أو ذاك؟ ولم يكن الباعث لسؤاله عن كتابة خصمه اللدود الصاحب بن عباد ومنزلتها من البلاغة، هو محض الرغبة في الفهم، بل كان أبو حيان يحاول كما يعبها هو، فقد سال ابن عبيد الكاتب النصراني (وكان سهل البلاغة حلو اللفظ حسن الاقتضاب غريب   (1) المقابسات: 293 - 294. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 الإشارة مليح الوصل والفصل) : كيف ترى كتابة ابن عباد؟ فكان جواب ابن عبيد مطابقاً لما ذكره أبو حيان نفسه في مستويات البلاغة إذ عابه ابن عبيد باللهج في السجع وقال إن " السجع يجب أن يكون كالطراز في الثوب؟ والخال في الوجه " ثم ذكر ما يسمى " المسلسل " الذي توجد منه أمثلة في كلام الجاحظ ثم قال: " والذي ينبغي أن يهجر رأساً ويرغب عنه جملة التكلف والإغلاق واستعمال الغريب والعويص وما يستهلك المعنى أو يفسده أو يحيله، ويجب ان يكون الغرض الأول في صحة المعنى، والغرض الثاني في تخير اللفظ، والغرض الثالث في تسهيل النظم وحلاوة التأليف واحتلاب الرونق "؟ ثم قال: " فخير الكلام - على هذا التصفح والتحصيل - ما أيده العقل بالحقيقة، وساعده اللفظ بالرقة، وكان له سهولة في السمع، ووقع في النفس، وعذوبة في القلب، وروح في الصدر؟ يجمع لك بين الصحة والبهجة والتمام؛ فأما صحته فمن جهة شهادة العقل بالصواب، وأما بهجته فمن جهة جوهر اللفظ واعتدال القسمة، وأما تمامه فمن جهة النظر الذي يستعير من النفس شغفها ويستثير من الروح كلفها " (1) ، فهذا كله يعبر عن رأي التوحيدي نفسه، على وجه يكاد يكون طابقاً. ويجب ألا ننخدع بثناء أبي حيان على ابن عبيد هنا، فإنه إنما مدحه ليجعل لرأيه مكانه مقبولة وإلا فإنه قد أنحى عليه في موضع آخر بقوله جاعلاً هذا القول على لسان ابن سعدان: " وأما ابن عبيد فكلفه بالخطابة والبلاغة والرسائل والفصاحة قد طرحه في عمق لج لا مطمع في انتقاده منه. ولا طريق إلى صرفه عنه، هذا مع حركات غير متناسبة وشمائل غير دمثة " (2) ؛ غير أن هذا الكلف بقواعد الخطابة والبلاغة يجعل سؤاله إياه عن رأيه في بلاغة أحد الكتاب أمراً طبيعياً.   (1) أخلاق الوزيرين 133 - 136. (2) الصداقة والصديق: 65 - 66. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 لم يكون شعر العروضي رديئاً وكذلك كان أبو حيان مشغول الخاطر بأمور مستمدة من التجربة العميقة تتصل بالشعر، فمن ذلك ما لاحظه من أن " العروضي " يكون شعره في الغالب ردئياً، مع أن العروض ميزان؛ وكأني بابي حيان أيضاً ينظر هنا إلى رأي الفلاسفة من حوله بأن " علم " المنطق ميزان الفكر، فمن عري منه لم يبن له وجه الخطأ في أقيسته وفكره. ولذلك يتوجه إلى مسكويه بهذا السؤال: " لم صار العروضي رديء الشعر قليل الماء والمطبوع على خلافه؟ ألم تبن العروض على الطبع؟ أليست هي ميزان الطبع؟ فما بالها تخون؟ قد رأينا بعض من يتذوق وله طبع يخطئ ويخرج من وزن إلى وزن، وما رأينا عروضياً له ذلك، فلم كان هذا - مع هذا الفضل - انقض ممن هو افضل منه " (1) ؟ وخلاصة رد مسكويه أن العروض صناعة، وصاحب الصناعة لا يجري ذي الطبع الجيد الفائق. أما المطبوع من المولدين فإنه أحياناً يكسر العروض لأنه لا يعرف الزحافات، فيخلق بها المنكسر، ويتحقق للشاعر المولد أن يلزم وزناً لا يحيد عنه، فيتجنب بذلك الخروج على قواعد العروض. وقد نفد مسكويه من هذا إلى الفرق بين الشعر الجاهلي والشعر المولد، فزعم أن بعض الأوزان الجاهلية لم تعد تقبلها الأذواق، مع إنها كانت موزونة عند أصحابها، إلا أن طباع المولدين نفرت منها، كقصيدة المرقش: لابنة عجلان بالطف رسوم ... لم يتعفين والعهد قديم ويعلل ذلك بان الشعر الجاهلي كان مصحوباً بالنغمات، فكانت الألحان تجبر ما فيه من زخارف، غير أن الشعر المولد أصبح يقرأ ولذا فلا بد ان يكون خالياً من الحافات حتى تستسيغه الأذواق (2) .   (1) الهوامل والشوامل: 282. (2) الهوامل والشوامل: 282 - 284. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 تعريف العامري الفيلسوف للشعر، وتحديد المنطقي لأنواع البلاغة ولهؤلاء المفكرين الذين اتصل بهم التوحيدي، حدود وآراء في بعض ما يتصل بالنقد، كتعريف أبي الحسن العامري للشعر بأنه " كلام مركب من حروف ساكنة ومتحركة. بقواف متواترة، ومعاني معادة، ومقاطع موزونة، ومتون معروفة " (1) وهو تعريف لايزيد شيئاً على ما تقدم من تعرفيات ولأبي سليمان المنطقي تحديد لأنواع البلاغة يجعلها سبعة أضرب وهي: بلاغة الشعر وبلاغة الخطابة وبلاغة النثر وبلاغة المثل وبلاغة العقل وبلاغة البديهة وبلاغة التأويل: " فأما بلاغة الشعر فأن يكون نحوه مقبولاً، والمعنى من كل ناحية مكشوفاً، واللفظ من الغريب بريئاً. والكناية لطيفة، والتصريح احتجاجاً، والمؤاخاة موجودة، والمواءمة ظاهرة؛ وأما بلاغة الخطابة فأن يكون اللفظ قريباً والإشارة فيها غالبة، والسجع عليها مستوياً، والوهم في أضغافها سابحاً، وتكون فقرها قصاراً، ويكون ركابها شوارد ابل؛ وأما بلاغة النثر فأن يكون اللفظ متناولاً والمعنى مشهوراً والتهذيب مستعملاً والتأليف سهلاً والمراد سليماً والرونق عالياً والحواشي رقيقة والصفائح مصقولة والأمثلة خفيفة المأخذ والهوادي متصلة والإعجاز مفصلة؛ وأما بلاغة المثل فان يكون اللفظ مقتضباً والحذف محتملاً والصورة محفوظة والمرمى لطيفاً، والتلويح كافياً والإشارة مغنية والعبارة سائرة؛ وأما بلاغة العقل فأن يكون نصيب المفهوم من الكلام أسبق إلى النفس من مسموعه إلى الأذن، وتكون الفائدة من طريق المعنى أبلغ من ترضيع اللفظ وتقفية الحروف، وتكون البساطة فيه اغلب من التركيب، ويكون المقصود ملحوظاً في عرض السنن، والمرمى يتلقى بالوهم لحسن التركيب؛ وأما بلاغة البديهة فان يكون انحياش اللفظ للفظ في وزن انحياش المعنى للمعنى، وهناك يقع التعجب للسامع، لأنه يهجم بفهمه على ما   (1) المقابسات: 310. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 لا يظن أنه يظفر به كمن يعثر بمألوفه على غفلة من تأميله، والبديهة قدرة روحانية في جبلة بشرية. كما أن الروية صورة بشرية في جبلة روحانية؛ وأما بلاغة التأويل فهي التي تحوج لغموضها إلى التدبر والتصفح وهذان يفيدان من المسموع وجوهاً مختلفة كثيرة نافعة. وبهذه البلاغة يتسع في أسرار معاني الدين والدنيا وهي التي تأولها العلماء بالاستنباط من كلام الله عز وجل وكلام رسوله؟ ولقد فقدت هذه البلاغة لفقد الروح كله، وبطل الاستنباط أوله وآخره، وجولان النفس واعتصار الفكر إنما يكونان بهذا النمط في أعماق هذا الفن، وها هنا تنثال الفوائد وتكثر العجائب. وتتلاقح الخواطر، وتتلاحق الهمم، ومن أجلها يستعان بقوى البلاغات المتقدمة بالصفات الممثلة حتى تكون معينة ورافدة في إثارة المعنى المدفون وإنارة المراد المخزون " (1) . نقد لرأي أبي سليمان وواضح أن أبا سليمان المنطقي غير منطقي في هذه القسمة، لأنه ينظر من زوايا مختلفة، فحيناً ينظر إلى النوع فيقسم الكلام إلى شعر ونثر. ثم ينظر إلى النثر نفسه بحسب اختلاف وجوهه فيقسمه إلى خطابة ونثر ومثل. ثم يتحدث عن المحتوى المعنوي ويسميه بلاغة العقل، ثم ينظر إلى طبيعة الإبداع نفسه فيعد شيئاً يسميه " بلاغة البديهة "، ثم يقف وقفة طويلة عند نوع من النثر يتحمل أوجههاً من التأويل، ويفرده بالأهمية. ويرى ان سائر فنون البلاغة إنما تكون في خدمته. وتكاد بلاغة الشعر والخطابة والنثر تتفق في اللفظ عنده. ثم تختلف في بعض الجزئيات، فالوضوح في المبنى الشعري يقابله الإشارة واللمح في الخطابة والإيجاز الشديد في المثل، والسهولة في المبنى النثري. فأما الحديث عن بلاغة العقل والبديهة والتأويل، فليس حديثاً عن الشكل وإنما هو حديث عن المضمون، والمضمون شركة بين فنون القول؛ ولكن من تدبر ما قاله المنطقي وجده يحوم حول تفضيل المعنى، الذي يتطلب   (1) الإمتاع 2: 140 - 143. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 من الفكر غوصاً. حتى البديهة تعجب بالعمق نفسه لان عنصر الاجتذاب فيها يقوم على المفاجأة التي لم يكن القارئ يتصور إمكانها. ومهما يكن من شيء فتلك أحكام نظرية متداخلة، لم يحاول المنطقي أن يجعلها موضعاً للتطبيق والتأييد بالشواهد، معتذراً عن ذلك بان مثلتها موجودة في الكتب وهو لا يحب التكرار، وبان الناس قد زهدوا في هذه الأمور لان طلب القوت قد شغلهم عنها، ويأسف على العهود الذهبية أيام عز الخلافة ورونق الديانة وشيوع الخير ونفاق سوق الأدب والعلم. تقارب النثر والنظم في الإيقاع وعلى الرغم من أن المشكلة الكبرى التي شغلت أذهان هؤلاء المفكرين هي التمييز بين الشعر أو التفضيل بينهما، فإن أبا حيان يخلص إلى القول بان خير الكلام " ما قامت صورته بين نظم كأنه نثر ونثر كأنه نظم، يطمع مشهوده بالسمع، ويمتنع مقصوده على الطبع " (1) ؛ ولم يكن هذا التقارب بين الفنين جيداً، فقد رأيناه عند ابن طباطبا، ولكن أبا حيان يلمح إلى شيء من التقارب في الايقاع؛ وهو شيء كفله نثر القرن الرابع، فإن النغمة الموسيقية فيه ارتفعت حتى قاربت نغمة الشعر، وغلبت قوة المحاكاة على الخطابة واختلط الفنان، كما قال الفارابي، ولكن أبا حيان لم يكن يعني الاقتراب بينهما في التصوير؛ غير أنه وجد في القرن الرابع، من يعيب الجاحظ بقلة التشبيهات والاستعارات، بل من يعيبه بأنه بعيد عن " معتاص الكلام " وغريبه (2) ؛ مع أن أبا حيان وأصحابه قد شددوا كثيراً على خلو الشعر والنثر من الغريب وما أشبهه، ولكن نثر القرن الرابع لم يحفل كثيراً بهذا المقياس.   (1) الإمتاع 2: 145. (2) انظر المقامة الجاحظية من مقامات بديع الزمان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 مسكويه وأثر أفلاطون إن انشغال هؤلاء المفكرين بالإجابة عن أسئلة تتعلق بمستوى البلاغة - نظرياً وعملياً - وبالعلاقة والفروق بين النظم والنثر قد أبعدهم من التساؤل عن صلة الشعر بالأخلاق، ذلك لأنهم في أكثر تصوراتهم كانوا يفيئون إلى أرسطو أو إلى القياس على آرائه؛ وينفرد مسكويه من بينهم بأنه وقع - إلى جانب تأثره بأرسطو - تحت تأثير أفلاطون، فإذا هو يتبنى رأيه في ما يجره الشعر من ضرر في تربية الناشئين، وخاصة ذلك اللون من الشعر الفاحش المليء بالأكاذيب المشجع على اللذات كبعض شعر امرئ القيس والنابغة وأشباههما، يقول مسكويه بعد أن يثني على من أتفق له أن يرد على أدب الشريعة وكتب الأخلاق والحساب والهندسة ويتدرج إلى صدق القرن وصحة البرهان " ومن لم يتفق له ذلك في مبدأ نشوئه ثم أبتلي بأنه يربيه والدال على رواية الشعر الفاحش وقبول أكاذيبه واستحسان ما يوجد فيه من ذكر القبائح ونيل اللذات كما يوجد في شعر امرئ القيس والنابغة وأشباههما، ثم صار بعد ذلك إلى رؤساء يقربونه على روايتها وقول مثلها ويجزلون له العطية؟ واشتغل بها عن السعادة التي أهل لها فليعد جميع ذلك إلى شقاء لا نعيماً، وخسراناً لا ربحاً " (1) . ولكن مسكويه لا ينفي الشعر جملة وإنما يستبقي منه في منهاجه التربوي ما يتلاءم والصحة النفسية والجسمانية: " ثم يطالب بحفظ محاسن الأخبار والأشعار التي تجري مجرى ما تعوده بالأدب، حتى يتأكد عنده بروايتها وحفظها والمذاكرة بها جميع ما قدمناه، ويحذر النظر في الأشعار السخيفة وما فيها من ذكر العشق وأهله وما يوهمه أصحابها أنه ضرب من الظرف ورقة الطبع، فإن هذا الباب مفسدة للأحداث جداً " (2) وسنصادف هذه النظرة إلى الشعر أو ما يشبهها كلما جرى الحديث عن العلاقة بينه وبين التربية.   (1) تهذيب الأخلاق: 49 - 50. (2) تهذيب الأخلاق: 57. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 وقد رأينا فيما عرضناه من آراء هؤلاء المفكرين أن الناحية التطبيقية ضعيفة لديهم باستثناء قدامه بن جعفر؛ وقد كان أبو حيان أصلح بحكم موقفه ليؤدي دوراً في الربط بين الثقافتين، ولكن نظرته إلى الشعر كانت تركيبية، أي كان يدرس ثم يجمل دراسته في كلمات يسيرة. الحاتمي والعلاقة بين الفلسفة والشعر وقد حاول الحاتمي - وهو أيضاً ممن عرفهم أبو حيان - أن يقيم صلة بين الشعر والفلسفة لا بين الفلسفة وطرائق النقد، فدل بذلك على نوع جديد من ثقافة الناقد الأدبي في عصره، وإنما أشير في هذا الموطن مثلما تصلح أن تدرس بين الجهود النقدية التي دارت حول المتنبي، وأول ما يثور في النفس إزاء هذه الرسالة نسبتها إلى الحاتمي، لأمرين أولهما: إثبات صلة الحاتمي بالثقافة الفلسفية نفسها، والثاني روح الإنصاف التي تتجلى فيها بالنسبة لما قاله عن المتنبي في غيرها، فأما عن الأمر الأول فنحن نعلم أنه كانت للحاتمي صلة بأبي حيان التوحيدي وببعض المتفلسفين الذين كان يضمهم مجلس الوزير أبن سعدان، ولكن هذه الصلة مهجنة بالأنحاء على الحاتمي ووصفه بثقل الروح والمغالاة بالنفس " وكأنه لا علم إلا عنده ولا فائدة إلا هي معه " (1) ، وكأنه يقول كلما جاء بفائدة لغوية " تنح فقد جاء الأسد وغلب الطوفان وخرج الدجال وطلعت الشمس من المغرب ". وأبو حيان يعلل هذه الخيلاء فيه بغلبة حفظ اللفظ والتصريف عليه، وأنه بعد عن المعاني ومن بعد عنها قل نصيبه من العقل (2) ، ولكن هذا الموقف لا ينفي صلته بالفكر الفلسفي حينئذ، وهاهو في رسالة غير الرسالة موضوع البحث، يقول للمتنبي: أن الناجم إنما نظم أحد المعاني من قول أرسططاليس   (1) الإمتاع 3: 126. (2) نفسه: 127. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 " وقد تكلمت بكلام لو مدحت به الدهر لما دارت صروفه " (1) ، كذلك يشير إلى أرسطو في كتاب حلية المحاضرة في باب " نظم المنثور " وانه ندب الاسكندر عند موته، ونظم معناه صالح بن عبد القدوس " (2) وذكر إن أرسططاليس يذهب إلى أن " من البلاغة حسن الاستعارة " (3) ، ومن الغريب أن الحاتمي ظن إن حسن الاستعارة تعني هنا إجازة اخذ الشاعر معاني من تقدمه. وهذا فهم في غاية الغرابة. فمن الممكن أن يكون هذا الملمح المبكر هو الذي هداه إلى أن يتتبع التشابه بين معاني المتنبي ومعاني أرسطو. وأما الإنصاف فإنه يتجلى في قوله في مقدمة رسالته: " والذي بعثني على تصنيف هذه الألفاظ المنطقية والآراء الفلسفية التي أخذها أبو الطيب أحمد بن الحسين المتنبي منافرة خصومي فيه، لما رأيت من نفور عقولهم عنه وتصغيرهم لقدره؟. ووجدنا أبو الطيب؟ قد أتى في شعره بأغراض فلسفية ومعان منطقية، فإن كان ذلك منه عن فحص ونظر وبحث فقد أغرق في درس العلوم، وإن يك ذلك منه على سبيل الاتفاق فقد زاد على الفلاسفة بالإيجاز والبلاغة والألفاظ الغريبة، وهو في الحالتين على غاية من الفضل وسبيل نهاية من النبل. وقد أوردت من ذلك ما يستدل على فضله في نفسه وفضل علمه وأدبه وإغراقه في طلب الحكمة؟ " (4) ، ومن عرف هجوم الحاتمي على المتنبي في مواقف أخرى استكثر منه هذا الإنصاف. حتى ليشك في نسبة هذه الرسالة إليه، ولكنا يجب أن نتذكر أن الحاتمي كان مدفوعاً إلى التهجم على المتنبي في بعض الفترات بدوافع ذاتية وأخرى خارجية، وإنه ربما هدأت ثائرته، فأحب   (1) معجم الأدباء 18: 168. (2) حلية المحاضرة، الورقة: 99: (مخطوط رقم 4334) . (3) نفسه: الورقة81. (4) الخاتمية: 22 - 23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 أن يظهر جانباً من تميز المتنبي. كذلك فإن كل من تأمل الرسالة الموضحة وهي أشد هجوم وجهه الحاتمي إلى المتنبي سيرى أن ذلك الناقد لم يكن غافلاً عن حسنات أبي الطيب. وإن كان مغيظاً منه، أضف إلى ذلك أن الحاتمي عرف بالثلب والشتم (1) . كما عرف به أبو حيان، ولكن ساعات الرضى كانت توجهه وجهة الإنصاف؛ على أنه ليس بمستبعد أن يساء الظن حتى في انتحال الحاتمي للإنصاف؛ فيقرأ الباحث في رسالته خبثاً كميناً. كان يدفعه لفضح المتنبي. في نطاق الحكمة نفسها، وهي ميزته التي كفلت له التفوق على الشعراء. ونحن إن لم نستطع أن نجد جواباً حاسماً في نسبة هذه الرسالة، لا نستكثر أن تكون للحاتمي، لأنها لا تتطلب من منشئها ثقافة فلسفية واسعة. إذ كل ما تتضمنه أقوالاً حكمية لأرسطو. كانت أمثالها معروفة بين الدارسين في القرن الرابع، ولا تحتوي نظرات فلسفية دقيقة ومثلها منثور في كتب أبي حيان والعامري. وجاويدان خرد لمسكويه، والكلم الروحانية في الحكم اليونانية لأبي الفرج ابن هندو (- 420) ثم تمثلت على نحو أتم في القرن الخامس في كتاب " مختار الحكم ومحاسن الكلم " للمبشر بن فاتك. على أن إثبات نسبة هذه الأقوال لأرسطو ليس بأسهل من إثبات الرسالة للحاتمي، لا نستثني من ذلك الرسائل المنحولة لأرسطو، إذ مدار الأمر هنا أن نثبت اعتقاد الحاتمي بان ما كان يورده من أقوال إنما كان متصلاً بالمعلم الأول في نظر المثقفين في القرن الرابع. وقد حاولت جاهداً أن أرد هذه الأقوال إلى مظانها فوجدت هذا القول: " روم نقل الطباع عن ذوي   (1) أخلاق الوزيرين: 20 - 21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 الأطماع شديد الامتناع " (1) يشبه قول أرسطو: " وكل شيء يستطاع نقله إلا الطباع " (2) والقول: " من لم يقدر على فعل الفضائل فلتكن فضائله ترك الرذائل " (3) يشبه قول أرسطو: " من لم يقدر على فعل فضيلة فليكن همه ترك رذيلة " (4) ؛ فالتشابه في هذين الموضعين يكاد يكون كاملاً. أما قول أرسطو فيما نقله أفلاطون: " إن من التوقي ترك الإفراط في التوقي " (5) ؛ وأورد الحاتمي لأرسطو أيضاً: " الفرق بين الحلم والعجز أن الحلم لا يكون إلا عن قدرة، والعجز لا يكون إلا عن ضعف؟ " (6) ، وهذا لا يشابه قول أفلاطون: " الحلم لا ينسب إلا من قدر على السطوة، والزهد لا ينسب إلا من ترك بعد القدرة " (7) . ومن أقوال أفلاطون: " ليس الحكيم التام من فرح بشيء من هذا العالم أو جزع بشيء من مصيباته واغتم له " (8) وقريب من هذا ما نسبه الحاتمي لأرسطو وهو: " من علم الكون والفساد يتعاقبان الأشياء لم يحزن لورود الفجائع لعلمه أنه من كونها؟ " (9) . ومما أورده الحاتمي لأرسطو وهو أشبه بنظرات ذيوجانس الكلبي: " قال الحكيم وقد نظر إلى غلام حسن الوجه فاستلطفه فلم يجد عنده علماً: نعم الدار لو كان فيها ساكن " (10)   (1) الخاتمية وبديع أسامة: 264. (2) المبشر بن فاتك: 200. (3) الخاتمية وبديع أسامة: 281. (4) المبشر: 198. (5) المبشر: 174. (6) الحاتمية: 49. (7) المبشر: 165، 157. (8) المبشر: 141. (9) الخاتمية وبديع أسامة: 265. (10) الخاتمية: 36 وبديع أسامة: 268. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 فمن أقوال ذيوجانس بذلك قوله حين رأى رجلاً شريراً حسن الوجه: " نعم البيت وبئس الساكن " (1) . إذن فإن نسبة الأقوال إلى أرسطو تعتمد على نوع من التجوز، وهو شيء لا نعد الحاتمي مسئولاً عنه، لأن أقوال أولئك الحكماء اختلطت إذ كان المقصود منها محتواها، لا مدى الصحة في نسبتها؛ بل إن بعض الأقوال التي أوردها الحاتمي لا يمكن أن يصدر عن أرسطو مثل " الظلم من طبع النفوس " أو " ثلاثة إن لم تظلمهم ظلموك: ولدك وزوجك ومملوكك، فسبب صلاحهم التعدي عليهم ". ولكن الرسالة على وجه الإجمال تضعنا في جو حكمي فلسفي إذ إنها تتناول شئون الطباع والنفس والشهوة والعقل والزمان والأخلاق، من جبن وغلبة وظلم وحلم وعجز وفضل وحكمة ومحبة وعشق وحرص على المال. وبعضها واضح الصلة بالفلسفية الأفلاطونية مثل: " إذا تجوهرت النفوس الفلسفية لحقت بالعالم العلوي " ومثل: " موت النفوس حياتها وعدمها وجودها لأنها تلحق بعالمها العلوي " كما ان بعضها قد يصوغه المرء المجرب اعتماداً على خبرته في الحياة، دون حاجة إلى أن يعتمد فيه على أفلاطون أو أرسطو، مثل: " إذ كان البناء على غير قواعد كان الفساد أقرب إليه من الصلاح ". ومثل: " إذا لم ترفع عن قدر الجاهل، رفع الجاهل قدره عليك " ولولا أن الحاتمي كان مشغولاً بالاستكثار من التشابه بين شعر المتنبي والفلسفة لأرجع كثيراً من تلك الأقوال - وهو امرؤ كثير المحفوظ - إلى ما عرفه من حكمة العرب. وهذا الاستكثار جعل الحاتمي يفرق الأقوال المتصلة بموضوع واحد، على تقاربها أحياناً، وحسبك أن تقرأ ما أورده حول الفناء وفعل الزمان لتجد هذا التقارب والتشابه في مثل: تعاقب أيام الزمان مفسد لحال الحيوان - الزمان ينشئ ويلاشي -   (1) المبشر: 760. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 الكون والفساد يتعاقبان الأشياء - ترداد حركات الفلك يحل الكائنات؛ وكذلك قل في حديثه عن الشهوة وعلاقتها بأنواع النفوس. والرسالة - في باب النقد - قد تقع في نطاق السرقات، وتجيء تتمة لذلك الموضوع الذي شغف به الحاتمي، ولكنه خفف هنا من وقع السرقة في المقدمة حين قدر ان يكون المتنبي قد اهتدى غليها من خلال نظراته الخاصة وتجربته. ثم هي تشير إلى العلاقة بين المعاني التي ترد في النثر ويستطيع ان يجعلها الشاعر منظومة، وتخص من تلك المعاني المتنبي، كما جعلتها ثقافة منشئها صورة من صور اللقاء بين الفكرة والشعر. ولما حملت الأفكار فيها اسم أرسطو كانت صورة للقاء بين الفكر اليوناني والشعر العربي، ومن هذا استمدت قيمتها فوق المباحث في باب الأخذ والسرقة. وقد يكون التوافق بين الحكمة النثرية وبيت الشعر توافقاً واضحاً تاماً فمن ذلك: " إذا كانت الشهوة فوق القدرة كان هلاك الجسم دون بلوغها ". وإذا كانت النفوس كباراً ... تعبت في مرادها الأجسام ومن ذلك أيضاً: روم نقل الطباع؟ شديد الامتناع: يراد من القلب نسيانكم ... وتأبى الطباع على الناقل (1) وأحياناً يجيء التشابه تعسف من الناقد، فقول ارسطو: " الذي لا تعلم علته لا يوصل إلى برئه " لا يشبهه قول المتنبي: ومن جاهل بي وهو يجهل جهله ... (2) ويجهل علمي انه بي جاهل   (1) الحاتمية: 24. (2) الحاتمية: 58. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 وقوله: " من كان همه الأكل والشرب والنكاح فهو بطبع البهائم؟ الخ " لا صلة تربطه بقول المتنبي: أرى أناساً ومحصولي على غنم ... وذكر جود ومحصولي على الكلم (1) وقد بلغت الأقوال التي أوردها الحاتمي مائة، وهي على تفاوتها وتكرار بعضها تفيد شيئاً واحداً يعد تحصيل حاصل في حقيقة الأمر. اعني أن أبا العلمية أو من ثقافته؛ ومن شاء أن يزيد عدد تلك الأقوال فعل: ففي قول أفلاطون: " الفقير إذا تشبه بالغني في الهيئة كان مثل الوارم الذي يوهم الناس أنه سمين؟ " (2) قد يوحي للقارئ أن يقرنه بقول المتنبي: أعيذها نظرات منك صادقة ... أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورم وتعريف أرسطو للصديق: " الصديق هو أنت إلا أنه بالشخص غيرك " يشير إلى ان المتنبي تلاعب بالتعريف في يأسه من الأصدقاء حين قال: صديقك أنت: (لا من قلت خلي ... وإن كثر التجمل والكلام) والمصطلح الفلسفي الشائع في القرن الرابع كان معروفاً تماماً للمتنبي، فحديث المفكرين عن اللذة والأذى بهذا الشكل (دون أن يقال: اللذة والألم) هو الذي يوحي بهذه المطابقة: (تلذ له المروءة وهي تؤذي) ؛ وكذلك قل في أشعاره ذات الصلة الواضحة بنزعات فلسفية مما عده القدماء في مؤلفاتهم. وقد كان أثر هذه الفلسفة في شعره يتطلب ناقداً ذا ثقافة فلسفية، وسنجد   (1) الحاتمية: 59. (2) المبشر: 175. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 عند الحديث عن النقد الذي دار حوله، ان هذا الجانب لم ينل عناية كبيرة من النقاد، وان أثره لم يدرس إلا في مواضع قليلة، منها رسالة الحاتمي التي وقفنا عندها في هذا الفصل. الحاتمي والمفاضلة بين النظم والنثر وقد شارك الحاتمي أيضاً في الإجابة عن تلك المسالة التي دار الجدل كثيراً حولها في حلقات أولئك المفكرين واعني بها قضية المفاضلة بين النظم والنثر، فكان من القائلين بتفضيل الأول على الثاني، إذ نسمعه يقول: " وأولى هذين بالمزية والقدم المتقدمة، المنظوم، فإنه أبدع مطالع وأنصع مقاطع وأطول عناناً، وأفصح لساناً، وأنور انجماً، وانفذ أسهماً، وأشرد مثلاً، وأسير لفظاً ومعنى " (1) . ويتحدث الحاتمي أيضاً عن المنظوم فيميزه برشاقة في الانسجام وبالخلود وبأنه اجمع للبديع، وانه أبلغ أثراً في النفس من المنثور؛ غير أن النثر خير منه إذا جاء الشعر " غير معتدل النظم ولا متناسب القسمة ولا مقبول العبارة وكانت معانيه بعيدة وألفاظه شريدة " (2) بل أن المنثور " مطلق من عقال القوافي فإذا صفا جوهره، وطاب عنصره، ولطفت استعارته ورشقت عبارته كاد يساوي المنظوم " (3) . الحاتمي وقضية الصدق والكذب في الشعر ولم يكن الحاتمي موقف حاسم من قضية " أعذب الشعر أكذبه " تلك القضية التي رأينا صلتها بالفكر الفلسفي، فحين تحدث عن الإغراق (وبعضهم يسميه الغلو) قرر ان العلماء في هذا مختلفون، فبعضهم يرون أبيات الغلو من إبداع الشعر الذي يوجب له الفضيلة اعتماداً على ما قيل " أحسن الشعر أكذبه "، وهذا الفريق يقول: إذا أتى الشاعر من الغلو بما يخرج به   (1) حلية المحاضرة: 3 (مخطوطة رقم 590) . (2) نفسه، الورقة: 4. (3) نفسه، الورقة: 50. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 عن الموجود ويدخل في باب المعدوم، فإنما يراد به المثل وبلوغ الغاية " وهذا نص كلام قدامة نفسه؛ وفريق آخر يعيب هذا المذهب لمنافاته الحقيقة. أما الحاتمي فلا يرى باساً من إيراد نماذج من الغلو في كتابه يسمى كل بيت منها " أبدع بيت قيل في الإغراق " (1) ، دون أن يكون منتمياً إلى أحد الفريقين بجرأة ووضوح.   (1) حلية المحاضرة، الورقة: 16 (مخطوط رقم 4334) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 - 4 - المعركة النقدية حول المتنبي المتنبي في طريقته وشخصه يمثل مشكلة كبرى للنقاد حوالي منتصف القرن الرابع. ركدت ريح الخصومة حول أبي تمام أو المحدث. ويقبل أبا تمام مثلما يتقبل البحتري، ولكن الظاهرة الجديدة، اعني ظهور المتنبي، كانت مصدر حيرة كبيرة للذوق والنقد معاً. فها هو شاعر يجمع بين القديم والحديث، يجيء بالجزالة والقوة والبيان على خير ما كان يجيء به القدماء، ويغوص على معاني الحياة الإنسانية غوصاً بعيداً، ويضمن شعره فلسفة حياة وثقافة. تنتمي إلى القرن الرابع؛ كذبت المقاييس: أين ما كان يتحدث به الناد عن الصراع بين القديم والمحدث؟ بل أين ما كانوا يتحدثون به من ميل إلى أبي تمام أو نزوع إلى طريقة البحتري؟ إنهم أمام طريقة جديدة قديمة لا ينفع فيها ما اعتمدوه من مقاييس " عمود الشعر ". وصدم المتنبي الذوق مرتين: مرة بشخصه المتعالي المتعاظم، ومرة بجرأته في الشعر: جرأته التي تركب المبالغة حتى تمس العقيدة الدينية، وتنتحل آراء فلسفية غريبة، وتستخف بأصول اللياقة والعرف في مخاطبة الممدوحين ورثاء النساء. وتتصرف باللغة تصرف المالك المستبد،؟ الخ، ونشبت المعركة بين الأنصار والخصوم، ولكن حصادها كان قليل الغناء، لأن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 الخصوم أرادوا تحطيم شعر المتنبي انتقاماً من شخصه وتعاظمه وتعاليه، ولذلك كان اكثر همهم منصرفاً إلى التأكيد على أن شعره " مرقعة " مصنوعة من معاني الآخرين؛ ولم تكن الوسائل النقدية عند الأنصار قد تطورت بما يناسب الجدة التي طلع بها المتنبي على الناس، فاكتفوا إما بتصوير الإعجاب المشدوه أو تفسير المعاني أو الدوران حول حسن الابتداء وحسن التخلص وما أشبه من الأمور الشكلية؛ ولكن الأنصار والخصوم كانوا متفقين على أن المتنبي ليس شاعراً صغيراً. ولذلك يمكن أن يقال إن النقد الذي دار حول المتنبي كان في أكثره هجوماً على المتنبي الإنسان من خلال الشعر؛ وحين شاء هذا النقد أن يحتكم إلى الإنصاف استعار الوسائل القديمة لدراسة ظاهرة جديدة. ولكن لا مجال للإنكار بان النقد في القرن الرابع وما بعده لم ينشغل بشيء انشغاله بالمتنبي وشعره. ولولا إحساس النقاد بكبر الظاهرة. لما وجدت في نفوسهم ذلك الصدى البعيد. فلنتقدم لدراسة هذا النقد في القرن الرابع، في هذا المقام، على أن نولي ما ظهر بهد هذا القرن ما يستحقه من العناية اللازمة حين يرد في موضعه من هذا السياق التاريخي. محمد بن الحسن بن المظفر الحاتمي (- 388) نظرة عامة إلى جهد الحاتمي في النقد كان النقد ميدانه الاكبر، ومعقد جهده الأعظم، فلم يكن جهده فيه قاصراً على المتنبي، ولكن ظهور المتنبي في العراق بعد مغادرته مصر، أثار لديه نحيزته الهجومية، إذ كان طبعه النقدي ينقدح الاحتكاك والصراع، ولذلك جاءت آثاره في النقد متفاوتة تتراوح بين تقرير القواعد ووضع الأصول وبين الحدة الثائرة في تعقب السقطات؛ وفي كلا الطرفين يبدو الحاتمي متفرداً بين النقاد بكثرة الحفظ وتوفر الشواهد، على نحو لا يجاريه فيه معاصروه أو من بعدهم، ولذا كانت نظراته أساساً صالحاً يتعلم منه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 الدارسون؛ ومن مؤلفاته التي تتصل بالنقد (1) : 1 - كتاب المعيار والموازنة (لم يتممه) . 2 - كتاب المجاز في الشعر. 3 - كتاب الهلباجة في صنعة الشعر، كتبه للوزير ابن سعدان في رجل ذمه بمجلس وسمى الرجل الهلباجة من غير ان يصرح باسمه. 4 - كتاب سر الصناعة في الشعر أيضاً. 5 - كتاب الحالي العاطل في صنعة الشعر: ويستفاد من إشاراته إليه في كتبه الأخرى أنه عرض فيه لأصناف البديع كالتجنيس والتطبيق والاستعارة والإشارة والوحي والتشبيه والتبليغ والتصدير والتسهيم والتقسيم والتقريب والرتصيع والتوشيح والموازنة والمقابلة والاستطراد والمماثلة والمكافأة والمبالغة والالتفات والمساواة؟ الخ (2) مع قسط من التفصيل والإطناب. 6 - كتاب حلية المحاضرة: وقد عاد فيه إلى الموضوعات التي عرضها في الكتاب السابق، مع مراعاة الإيجاز، ليكون كتاباً صالحاً للمحاضرة والمذاكرة لدى من يطالعه، فهو يقول في فاتحة هذا الكتاب: " وقد رأيت أن اخترع كتاباً أشرع فيه لمحاسن الشعر شريعة ترد الفرائح قراح مائها، وترود منها قطر اندائها، وتشيم بروق أنوائها، وتستهدي بنجوم سمائها، وأقصره على فقره النادرة، وغرر معانيه السافرة، ولمعه البارعة، وكواكبه الصادعة، وأقسامه المختارة وهي ثلاثة؛ مثل شرود وتشبيه رائع واستعارة واقعة، وأودعه من ذلك ما وقع إجماع نقاد الكلام والعلماء بسرائر الشعر   (1) انظر معجم الأدباء 18: 156. (2) حلية المحاضرة: الورقة 3 (المخطوطة 590) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 على أنه أشعر ما قيل في معناه من كل نوع تتناوله المحاضرة وتتهادى جواهره المذاكرة؟ " (1) . ويبدو أنه كتب هذا الكتاب قبل منتصف القرن إذ لا تعثر فيه على أية إشارة للمتنبي، وإنما هو محاولة لإرساء القواعد والمصطلحات السابقة في الشعر بأمثلة كثيرة، ولدى الاطلاع على ما وصلنا من هذا الكتاب تجد المؤلف قد أثبت فيه بعد المقدمة، مادة غزيرة تتناول الأمور الآتية: (أ) فصول في المصطلح الشعري البلاغي مثل الاستعارة والتقسيم والمجانسة والمقابلة والتتميم والاستطراد والتشبيه والحشو والإغراق والابتداء والتخلص، وفيها يتضح أن الحاتمي أطلع على مصطلح قدامة وأفاد منه وأورد أمثلته ولكنه زاد عليه في المصطلح والأمثلة معاً. (ب) فصول في الأبيات التي تمثل الحكمة والأمثال الشاردة واحسن بيت وأصدق بيت وأكذب بيت وانصف بيت وأهجى بيت؟ وهلم جرا، ثم أشعر بيت في السودد، والاستحقار؟. وأوجز شعر تضمن قصصاً، وأوجز ما ورد في التعريض، وما جرى هذا المجرى في استقصاء لشتى الموضوعات الشعرية. وكما كانت الفصول الأولى ذات سمة شكلية كانت هذه الفصول متصلة بالموضوع. (ج) باب في مجاز الشعر ومعرض الكلام على أنواع السرقات ومراتبها مما تتناوله المحاضرة وتتعلق به المذاكرة، وهنا يتحدث المؤلف عن الاستعارة المستكرهة والكناية والانتحال والإغارة وألوان من السرقة ودرجاتها المتفاوتة. (د) أبيات المعاني في موضوعات شتى، وهو يعتمد فيها على مثل كتاب المعاني الكبير لابن قتيبة.   (1) حلية المحاضرة: الورقة 6 - 7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 (هـ) عود إلى أحسن ما قيل في موضوعات مختلفة. (و) فصل يسميه المؤلف " الفصل التاسع في السابق والمصلي " وهو عود إلى قضية تداول المعاني وبيان ما سبق إليه الشعراء، واخذ اللاحق عن السابق. ومن هذا يتبين أن حلية المحاضرة قد جمع جهود قدامة وابن المعتز في المصطلح، وجهود ثعلب والنقاد السابقين في تبيان أشعر بيت واغزل بيت؟ الخ، وجهود ابن قتيبة في حصر أبيات المعاني، ثم أضاف الحاتمي باباً كان شديد الشغف به وهو الحديث عن السرقات، ذلك الموضوع الذي عالجه كثيرون من قبله، إلا أنه ميز حدوده بمصطلح جديد. 7 - الرسالة الموضحة في ذكر سرقات المتنبي وساقط شعره. 8 - رسالة فيما وافق ارسطو من شعر المتنبي، وقد عرضنا لها في الفصل السابق. موقفه النقدي قائم على العموميات ومن الطبيعي أن نكرر القول هنا بان صورة الحاتمي الناقد لا يكتمل قبل العثور على سائر آثاره النقدية، فأما ما وصلنا من كتبه فإنه لا يومئ إلى موقف نقدي متفرد كالذي رأيناه عند ابن طباطبا أو قدامة، أو حتى الآمدي نفسه؛ وإذا نحن طالعنا تصوره لطبيعة الإجادة في فن القول وجدنا ما يلتزمه هنالك غير خارج عما قاله النقاد السابقون، وذلك حيث يقول: " فإذا كان اللفظ فصيحاً والمعنى صريحاً، واللسان بالبيان مطرداً، والصواب مجيداً، والآلة مسعدة، والبديهة مسعفة، والألفاظ لائحة غير مفتقرة إلى تاويل، والمعاني متعاقبة غير مضطرة إلى دليل، والحجج عند الحاجة ماثلة والأسماع قابلة، والقلوب نحو الكلام منعطفة، والإفهام للمخاطب على قدر فهمه واقعاً، والذهن مجتمعاً، والبصيرة قادحة، والقائل موجزاً في موضع الإيجاز مطيلاً إذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 صحت الإطالة. واقفاً عند الكفاية. وكان اللبس ماموناً، وشمائل القول حلوة. والقدرة على التصرف عاضدة، والطبع الذي هو دعامة المنطق شريفاً، والفصول ملتحمة. والفضول محذوفة والفصول مقسومة، وموارد الكلام عذبة ومصادره؟ خارجة عن الشركة، نقية من تكلف الصنعة، فتلك هي البلاغة وهنالك انتظام شمل الإبانة " (1) . مبدأ التناسب في الشعر وصورة الجسد وهو يتابع ابن طباطبا في أن القصيدة يجب أن تكون في تناسب صدورها وأعجازها وانتظام نسيبها بمديحها كالرسالة البليغة. غير أنه لا يفيض إفاضته في هذا الربط بين القصيدة والرسالة. إلا أنه بنفذ من ذلك إلى تصور عجيب لا نجده من سبقه من النقاد، وهو أول تصور من نوعه لوحدة قد تعد عضوية: " فإن القصيدة مثلها خلق الإنسان في اتصال بعض أعضائه ببعض، فمتى انفصل واحد عن الآخر أو باينه في صحة التركيب غادر بالجسم عاهة تتحيف (2) محاسنه وتعفي معالم جلاله " (3) ، إلا أنها وحدة عضوية لا تؤدي معنى النمو، وإنما تؤدي معنى التكامل والاعتدال والانسجام، ومن الطريف أن الحاتمي إنما يهتدي إلى هذه الصورة لينادي بوحدة المختلفة لا إلى اشتراكها في طبيعة واحدة، وهو يميز المحدثين بهذه الميزة لأنهم يحسنون الربط الصناعي بين أجزاء القصيدة، ومرة أخرى تتعثر فكرة الوحدة عند النقاد القدماء، وتقتصر على التناسب الخارجي.   (1) حلية المحاضرة، الورقة 2 - 3. (2) في الأصل: تتحرق، ووضع الناسخ فوقها لفظة " كذا ". (3) حلية المحاضرة، الورقة: 20 (مخطوطة رقم 2334) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 جهد الحاتمي منصرف إلى الاستكثار الأمثلة وتبيان السرقات ولا نجد لدى الحاتمي مقاييس كبرى في مجال نقده التطبيقي. أو لنقل إن مقاييسه في الأغلب ضمنية أو تعميمية، فإذا تجاوز وضع المصطلحات وإيراد الأمثلة، والقطع الحاسم - دون تعليل - بما هو جيد وما هو رديء. لم يكن شغله الشاغل إلا الحديث في الأخذ والسرقة وما يتصل بهذا الموضوع من شئون، والحق أن الحاتمي رتب أصول هذا الباب وميز مصطلحه، وكان هو يحس بذلك، فلذا نسمعه يقول: " وفرقت بين أصناف ذلك فروقاً لم أسبق إليها ولا علمت أن أحداً من علماء الشعر سبقني في جمعها " (1) ، وقبل أن نمضي في تبيان ما حققه الحاتمي في هذا الموضوع علينا أن نتذكر أنه أستعمل هذا المصطلح نفسه في صدر كتابه بالمعنى البياني المتعارف الذي جرى عليه أبن المعتز وغيره، وهو ينكر على قوم ذهبوا إلى أنه ليس في الشعر " اجتلاب أو استعارة ". أبواب السرقة وهذه هي الأبواب التي وضعها الحاتمي في تعداد أنواع الأخذ: 1 - باب الانتحال؛ وهو أن يأخذ الشاعر أبياتاً لشاعر آخر كما فعل جرير حين أخذ قول المعلوط: إن الذين غدوا بلبك غادروا ... وشلاً بعينك ما يزال معينا غيضن من عبراتهن وقلن لي ... ماذا لقيت من الهوى ولقينا 2 - باب الأنحال: وهو أن يقول شاعر أو رواية قصيدة ثم ينحلها شاعراً آخر، وقد أعاد الحاتمي هنا حديث أبن سلام عما كان يفعله حماد الراوية؛ وتحدث عن خلف الأحمر وعن نحله الشعر لتأبط شراً والشنقري   (1) حلية المحاضرة، الورقة: 80. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 3 - باب الإغارة: وهو أن يسمع الشاعر المفلق والفحل المتقدم الأبيات الرائعة بدرت من شاعر في عصره وباينت مذاهبه في أمثالها من شعره، وتكون الأبيات بالشاعر المغير وطريقته أليق، فيستنزل قائلها عنها، ومن أمثلتها ما فعله الفرزدق مع ذي الرمة حين سمعه ينشد: أحين أعاذت بي تميم نساءها ... وجردت تجريد الحسام من الغمد 4 - باب المعاني العقم: وهي الأبكار المبتدعة، ومن أمثالها قول امرئ القيس: إذا ما استحمت كان فضل حميمها ... على متنتيها كالجمان على الحالي 5 - باب المواردة: وهو التقاء الشاعرين يتفقان في المعنى ويتواردان في اللفظ ولم يلق واحد منهما صاحبه ولا سمع بشعره. 6 - باب المرافدة: وهو أن يتنازل الشاعر عن بعض أبيات له يرفد بها شاعراً آخر ليغلب خصماً له في الهجاء. 7 - باب الاجتلاب والاستلحاق: وهو أن يجتذب الشعر بيتاً لشاعر آخر لا على طريق السرق، بل على طريق التمثل به. 8 - باب الاصطراف: وهو أن يصرف الشاعر بيتاً أو أبياتاً إلى إحدى قصائده من شاعر آخر لحسن موقع ذلك البيت أو تلك الأبيات في سياق تلك القصيدة. 9 - باب الأهتدام - بوزن افتعال من الهدم - وهو أن يأخذ شاعر بيتاً لآخر فيغير فيه تغييراً جزئياً، فقول الشاعر: أريد لأنسى ذكرها فكأنما ... تعرض ليلى بكل سبيل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 مهتدم من قول جميل: أريد لأنسى ذكرها فكأنما ... تعرض لي ليلى على كل مرقب 10 - باب الاشتراك في اللفظ: وهو أن يشترك الشاعران في شطر بيت، ويتخالفا في الشطر الثاني، فيقول الشاعر مثلاً: وخيل قد دلفت لها بخيل ... عليها الأسد تهتصر اهتصارا فيجيء آخر ويقول: وخيل قد دلفت لها بخيل ... ترى فرسانها مثل الأسود 11 - باب إحسان الأخذ: وهنا يذكر الحاتمي عن العلماء بالشعر أن الشاعرين إذا تعاورا معنى أو لفظاً أو جمعاهما. وكان الآخذ منهما قد أحسن العبارة عنه وأختار الوزن الرشيق حتى يكون في النفوس ألطف مسلكاً، كان أحق به وخاصة إذا أخفى الأخذ ونقله من موضوع إلى آخر. 12 - باب تكافؤ المتبع والمبتدع في إحسانهما: ومن أمثلته قول امرئ القيس: فلو أنها نفس تموت احتسبتها ... ولكنها نفس تساقط أنفسا يكافئه في الإحسان قول عبدة بن الطيب: وما كان قيس هلكه هلك واحد ... ولكنه بنيان قوم تهدما 13 - باب تقصير المتبع عن إحسان المبتدع: ومنه قول امرئ القيس: كأن قلوب الطير رطباً ويابساً ... لدى وكرها العناب والحشف البالي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 أخذه الشاعر الهذلي، فقصر عنه حين قال: كأن قلوب الطير عند مبيتها ... نوى القسب باق يلقى بعض المآدب 14 - باب نقل المعنى إلى غيره: وهو أن ينقل المعنى عن وجهه الذي وجه له واللفظ عن طريقته التي سلك فيها إلى غيره وذلك صنعة راضة الكلام وصاغة المعاني وحذاق السراق، إخفاء للسرق والاحتذاء وتورية عن الاتباع والاقتفاء؟ وأكثر ما يطوع النقل في المعاني خاصة للمحدثين لأنهم فتحوا من نوار الكلام ما كان هاجداً: وأيقظوا من عيونه ما كان راقداً. 15 - باب تكافؤ السابق والسارق في الإساءة والتقصير، كقول الفرزدق: فيا ليتنا كنا بعيرين لا نرى ... على منهل إلا نشل ونقذف وهو سيئ أخذه كثير عزة، فجاء به كذلك: ألا ليتنا يا عز كنا لذي غنى ... بعيرين نرعى في الفلاة ونعزب 16 - باب من لطيف النظر في إخفاء السرقة: قال أوس بن حجر: ألم تكسف الشمس والبدر ... والكواكب للقمر الواجب فنظر إلى هذا المعنى وأخفاه كل إخفاء النابغة الذبياني فقال: يقولون حصن ثم تأبى نفوسهم ... وكيف يحصن والجبال جنوح 17 - باب كشف المعنى وإبرازه بزيادة، ومنه قول امرئ القيس: كبكر المقاناة البياض بصفرة ... غذاه نمير الماء غير المحلل أخذه ذو الرمة فقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 كحلاء في برج صفراء في نعج ... كأنها فضة قد مسها ذهب 18 - باب الالتقاط والتلفيق: وهو ترقيع الألفاظ وتلفيقها واجتذاب الكلام من أبيات لنظم بيت واحد فمن ذلك قول أبن هرمة: كأنك لم تسر بجنوب خلص ... ولم تلمم على الطفل المحيل التقطه من بيتين أحدهما لجرير: كأنك لم تسر ببلاد نعم ... ولم تنظر بناظرة الجميل والثاني للكميت: ألم تلمم على الطلل المحيل ... يفيد وما بكاؤك بالطلول 19 - باب في منظوم المنثور: وهو نقل المعنى من النثر إلى الشعر؛ قال مؤبن الاسكندر: " حركنا سكونه " فقال أبو العتاهية: قد لعمري حكيت لي غصص الموت وحركت كل من سكنا ... هذه تسعة عشر باباً، كان يمكن للحاتمي أن يختزلها فيما هو أقل من ذلك، ولكنه شاء التفريع الكثير لإظهار اهتمامه بالموضوع وسبقه إلى تمييز أصنافه، ولا ريب في أن العشرة الأولى من تلك الأبواب تصلح أن تكون أمثلة تاريخية، وأن ما يتعلق بسرق الشعراء على الوجه الذي يعنيه النقاد إنما يشمل الأبواب (10 - 19) ، وقد يمكن اعتبار بعض الأبواب السابقة كالأهتدام مثلاً مما قد يطل موجوداً متداولاً، ولكن النقاد في عصر الحاتمي وبعده قد كفوا عن عد الانتحال والنحل والإغارة والمرافدة وتوارد الخواطر أنواعاً تندرج تحت باب الأخذ والسرقة، وتصلح رسالته في المقارنة بين بعض معاني أرسطو وبعض أبيات المتنبي مثالاً تطبيقياً كاملاً على الباب التاسع عشر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 في نطاق الأفكار الفلسفية، كما تصلح الرسالة " الموضحة " أن تكون تطبيقاً على سائر ضروب السرقة والأخذ، التي تورط فيها المتنبي. الرسالة الموضحة وسبب تأليفها والرسالة الموضحة أو " جبهة الأدب " أو " الحاتمية " تعتبر أول رسالة وافية صنفت في نقد شعر أبي الطيب (1) . وهي وليدة لقاء حدث بين الحاتمي والمتنبي تعمده الحاتمي، إثر عودة المتنبي من مصر إلى العراق. وكان الحاتمي حينئذ دون الثلاثين، فهو يذكر في الرسالة أن سن الصبا كان من محاسنه (2) ، وهو يصرح بان الوزير المهلبي هو الذي حرضه على مهاجمة المتنبي " سامي هتك حريمه وتمزيق أديمه ووكلني بتتبع عواره وتصفح أشعاره وإحواجه إلى مفارقة العراق " (3) . فالرسالة - أو المجالس التي كانت صورتها الشفوية - لم تكن خالصة لوجه النقد. وإنما اجتمع فيها غرور الشباب وإرضاء صاحب الدولة. ولم تكن الجولة الأولى التي أرضت المهلبي إلا مجلساً واحداً امتد من " رأد الضحى؟ (حتى) نفضت الشمس صبغها وطفلت على الظلام بطفلها "؛ وهذا هو الشكل الأول الذي وقعت فيه المفاوضة وتضمنته الرسالة، كما جاء بها ياقوت - وهي التي وسمها باسم " جبهة الأدب "، فقد حمل ما قيده الكتبة في اللقاء الأول وعاد به إلى البيت وظل ثلاث ليال لا يطعم فيها الكرى حتى صاغ تلك الرسالة، أي (جبهة الأدب) ونالت رضى الوزير المهلبي (4) . غير أن الحاتمي يزعم انه نازع المتنبي في مجالس أخرى، ثم وقف بالمطالعة على مواضع من اجتلاباته وسرقاته وسقطات أسقطها في شعره، فضم كل ذلك وألف منه رسالة   (1) مقدمة الدكتور محمد نجم على رسالة الموضحة، الصفحة (و) . (2) الموضحة: 2. (3) الموضحة: 3. (4) الموضحة: 96. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 كبيرة قدمها إلى الوزير ابي الفرج محمد بن العباس الشيرازي (- 370) ووسمها باسم " الموضحة ". فقد كتبت الموضحة في شكلها الكامل بعد وفاة المتنبي، لان الحاتمي يتحدث في آخرها عن انتجاع المتنبي حمى عضد الدولة وابن العميد وعن عودته إلى العراق " فاخترم دون ذلك وكان آخر العهد به " (1) وقد وعد بان يؤلف رسالة أخرى تتبع فيها عواره وسرقاته وسقط لفظه وسخيف معانيه مع محاسن شعره وعيون مدائحه - منصفاً ومنتصفاًً - ولكنا لا ندري من أمر هذه الرسالة شيئاً. اعتماد الموضحة على أربعة مجالس درامية فالموضحة في شكلها النهائي تتألف من أربعة مجالس: كان أولها في منزل المتنبي، وكان الحاتمي زائراً متعمداً للمماحكة، غاضباً لان المتنبي أهمله ولم يحتفل بمقدمه. مع أنه جاءه في موكب من غلمانه وفي هيئة لافتة وزي معجب وشارة واضحة وعطر فائح؛ وكان شهود هذه الجلسة جماعة من الغلمان الذين يدرسون على المتنبي، وليس لهم باع في الأدب " وإنما غاية أحدهم مطالعة شعر أبي تمام. وتعاطي الكلام على نبذ من معانيه وعلى ما يعلقه الرواة مما تجوز فيه " (2) ؛ وكان المجلس الثاني في حضرة الوزير المهلبي وقد حضره جماعة من أهل العلم منهم أبو علي الحسين ابن محمد الأنباري وهو ممن يقف في صف المتنبي؛ وقد خرج الحاتمي فيه منتصراً وانتهى المجلس بتطيب المهلبي لخاطر المتنبي إذ يقول له: " ومكانك يا أبا الطيب غير مجهول " (3) ؛ وقد حرص أبو علي الأنباري على عقد المجلس الثالث لأنه ذهب مغيظاً من الثاني، مزمعاً أن ينتصر لصاحبه وان ينتصف من الحاتمي الذي لم يكن يسيغ ابن الأنباري ريقه؛ ولذلك ذهب ابن   (1) الموضحة: 196. (2) نفسه: 8. (3) نفسه: 119. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 الأنباري فجمع أبياتاً اختارها من شعر أبي الطيب واقترح عقد جلسة ثالثة، حضرها - فيما زعم الحاتمي - السيرافي والرماني وأبو الفتح المراغي وأبو الحسن الأنصاري المتكلم وغيرهم من أعلام أهل العلم والأدب، وكان علي بن هارون فيهم من أنصار الحاتمي. ثم كان المجلس الرابع باقتراح المهلبي نفسه ليتم التفاوض بين الحاتمي وأبي الطيب في شعر الطائيين. التفاوت بين المجالس الأربعة ومع أن الكشف عن السرقات هو الظاهرة المشتركة بين جميع المجالس، فإن هناك تفاوتاً واضحاً فيما بينها، يدل على تصميم مدروس تقتضيه طبيعة التأليف، وتبعد عن الواقعية التاريخية؛ حتى الجلسة العفوية الأولى لم تظل كذلك، بل عاد عليها الحاتمي بالترتيب والتنسيق، والتقديم والتأخير، وحشد الآراء في تضاعيف الهجوم، ومما يدل على هذا، ذلك الاختلاف بين نص الموضحة في شكلها الأخير وبين النص الذي أورده ياقوت، وهو قد نقله كما وجده. ويتميز المجلس الأول بوضع القواعد النقدية وشرحها وإيراد الأمثلة عليها ومدى مباينة أبي الطيب في بعض شعره لها. هنالك يضع الحاتمي حد الشعر: " حدود الشعر أربعة وهي اللفظ والمعنى والوزن والتقفيه. ويجب أن يكون ألفاظه عذبة مصطحبة ومعانيه لطيفة واستعاراته واقعة وتشبيهاته سليمة وأن يكون سهل العروض رشيق الوزير متخير القافية، رائع الابتداء بديع الانتهاء " (1) . ويوضح الحاتمي ان التفاوت بين الأبيات عيب كبير يشبه ما عابه النقاد القدامى من انعدام القران؛ فهو يقر لأبي الطيب بأنه يحسن في الصياغة والمعاني إحساناً لا يجهله نقاد الكلام وأرباب البيان " إيجازاً في عبارته وإبداعاً في نظمه وصواباً في معناه وسلامة في لفظه " ولكنه يشفع ذلك بأبيات   (1) الموضحة: 25. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 يسرق معانيها فتاتي القصيدة على غير شاكلة ولا اتساق ولا اقتران (1) ؛ ويعلمه كيف تكون عناية الشاعر بالقافية: " وسبيل الشاعر أن يعنى بتهذيب القافية فإنها مركز البيت حمداً كان ذلك الشعر أو ذماً وتشبيهاً كان أو نسيباً. ووصفاً كان أو تشبيهاً؟ " (2) ، ويوضح له مصطلح العيوب الشعرية كالاخلاف والإخلاء والأعذار والهلهلة والبيت الأجوف والبيت المعتل (أي الفاسد الحشو وما اعتل طرفاه) (3) ، ويشرح له الاستعارة حين يحتج المتنبي بأنه يجري في استعارته على طريقة العرب فينبئه ان " الاستعارة إذا لم يكن موقعها في البيان موقع الحقيقة لم تكن استعارة لطيفة، وحقيقة الاستعارة أنه نقل كلمة من شيء قد جعلت له إلى شيء لم تجعل له " (4) ، ويدله على أنواعها؛ ويفهمه أن قوله " فغن ظنوني في معاليك تظلع " استعارة قبيحة. من أجل أنه ليس للظن فعل حقيقي يستعار الظلع موضعه وانه لو قال: ظن عازب أو كاذب أو المعي أو مصيب لكان ذلك استعارة واقعة " ولم يسمع من شاعر فصيح ولا عربي صريح ظن ظالع، واستعارة الظلع للريح وإن كانت بعيدة أولى واقرب من اجل انه يقال ريح حسرى وريح مريضة؟ " (5) . وافاض الحاتمي في الحديث عن الاستعارة ومواضع جمالها المقبول، وسمى نوعاً منها الأرداف وهو " أن يريد الشاعر الدلالة على معنى من المعاني، فلا يأتي اللفظ الذي يدل على ذلك المعنى، بل بلفظ يدل على معنى هو ردفه وتابع له " (6) ، ومن ذلك قول امرئ القيس: وقد اغتدي والطير في وكناتها ... بمنجرد قيد الأوابد هيكل   (1) الموضحة: 21 - 22. (2) نفسه: 42. (3) نفسه: 25. (4) نفسه: 69. (5) نفسه: 72. (6) نفسه: 92. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 (والشاهد في قيد الأوابد) . ومن اللافت للنظر أن الحاتمي يحاول دائماً أن يكسب رسالته ثوب الواقعية، لا يذكر الأشخاص المعروفين وحسب. بل بأنه يسمح للمتنبي أن يرد عليه وأن يطيل الرد أحياناً. ففي المجلس الأول يورد المتنبي أمثلة من عيوب كبار الشعراء ثم يعتذر عن خطأه بقوله: " فهؤلاء المبرزين في حلبات الشعر السابقون إلى حلو القول ومره والذين وقع الإجماع على تقدمهم في ضروبه وفتحهم ما استغلق من أبوابه ليس منهم غلا من قد طعن في شعره ومن قد أخل بالإحسان مع تناصر إحسانه، والكلام كله لا يجري على سنن واحد ولا يأتي متناصفاً ولا متكافئاً، ولابد من سقطة يهفو بها خاطر وعثرة يزل بها لسان، ومن هذا الذي تناسب كلامه أو سلم من التتبع شعره؟ وما أنا ببدع منهم، وإذا أنصفت من نفسك ألفيتها محجوجة " (1) ، وفي مثل هذا القول من الأنصاف ما يثير الحاتمي إلى الإمعان في تبيان العيوب، لأنه لا يرى من حق المتنبي أن يضع نفسه في مصاف من تقبل منه الهفوة بعد الهفوة لكثرة حسناته، ولأنه يريد أن يلقن المتنبي دروساً، فكلما وضع على لسانه حجة، جعل فيها وهناً لينفذ منه؛ وقد اتهمه المتنبي بأنه يحب الإغراق والمبالغة في الشعر وينكر ما عداه، فاتخذ هذا ذريعة لإفهامه أن الإغراق شيء والمبالغة شيء آخر، ويورد عليه المثال الذي أورده ابن طباطبا من قبل، فمن المبالغة قول عنترة: لو كان يدري ما المحاورة اشتكى ... ولكان لو علم الكلام مكلمي أما الغلو البعيد عن الحقيقة فهو قول المثقب: تقول إذا درأت لها وضيني ... أهذا دينه أبداً وديني   (1) الموضحة: 84 - 85. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 أكل الدهر حل وارتحال ... أما يبقي علي ولا يقيني (1) أما المجلس الثاني - وهو قصير نسبياً - فقد تضمن إلى جانب الحديث في السرقة حديثاً عن الخطأ في المعاني، ومن المضحك أن يقول الحاتمي على لسان أبي الطيب: " من أبو تمام والبحتري؟ ما اعلم أني سمعت بذكرهما إلا من هذه الحاضرة " فيكون المجلس الرابع محاولة لإثبات مدى اعتماده في السرقات على شعر هذين الشاعرين. أما الثالث فيثبت قدرة الحاتمي على تزييف ما يعده أصحاب المتنبي من أبكار معانيه وعلى رده إلى المصادر التي سرق منها؛ وهنا يبلغ الحذق في تبيان السرقة ذروته، ولذا اقتضى المقام شرح نظرية الحاتمي في السرقات ومن ثم جعل المتنبي يحتج عليه بان " كلام العرب آخذ بعضه برقاب بعض. وآخذ بعضه من بعض والمعاني تعتلج في الصدور وتخطر للمتقدم تارة وللمتأخر تارة أخرى. والألفاظ مشتركة مباحة. وهذا أبو عمرو ابن العلاء سئل عن الشاعرين يتفقان في اللفظ والمعنى مع تباين ما بينهما وتقاذف المسافة بين بلادهما فقال: تلك عقول رجال توافت على ألسنتها، وبعد فمن هذا الذي تعرى من الاتباع، وتفرد بالاختراع والابتداع " (2) فيرد عليه الحاتمي بقوله: " أما قولك عن المعنى يعتلج في الصدر فيخطر للمتقدم تارة وللمتأخر أخرى وان الألفاظ مشتركة فليس الأمر كما تخيلته ولا الكلام كله مشترك، ولا أن الأول ليس بأولى به من الآخر، ولو كان كذلك لسقطت فضيلة السابق ولبطلت مهلة المتقدم ولما قدمت شعراء الجاهلية على شعراء الإسلام، وقدم الصدر الأول من الإسلاميين على الصدر الأول من المحدثين؛ وإنما حكم لهم بالفضل وسلم إليهم خصله من اجل ما ابتدعوه من المعاني وسبقوا إليه من الاستعارات وابتكروه من التشبيهات الواقعة والأمثال الشاردة. وذللوه من طرق الشعر   (1) الموضحة 94 - 95. (2) نفسه: 143. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 الحزنة؟ وأما قولك من هذا الذي تعرى من الاتباع والاحتذاء وسلوك الطريق التي تقدم إليها غيره من الشعراء فلعمري إن الأمر على ما ذكرته. إلا أنه لا يحمد من الكلام ما كان غاباً ولا من المعاني ما كان مردداً مكرراً. فلا يتسمح الشاعر بان يكون جمهور شعره عند التصفح مسترقاً ملصقاً ومجموعاً ملفقاً، ولا أن يكثر الاعتماد في شعره ويتناصر السرق في كلامه " (1) العيب إذن ليس في السرقة وإنما في طغيانها أولاً، وفي تقصير السارق عن مرتبة المسروق. ومع أن المتنبي حسبما زعم الحاتمي أنكر أن تكون له معرفة بابي تمام والبحتري، نراه في المجلس الخامس، يورد نماذج من استعمارات أبي تمام وينحي عليها بالذم ويتهمه بالإحالة، وكأنه يردد أقوال خصوم أبي تمام، فيرد عليه الحاتمي بان يورد عيون شعر حبيب، ويدافع عن بعض استعاراته، ويتهم المتنبي بأنه تأثر حتى بالمعيب من أشعار أبي تمام واحتذاها، ثم يضع على لسان المتنبي السؤال الآتي: " هل تجد لأبي تمامكم هذا لو بحتريكم معنى اخترعاه " (2) لتكون الإجابة على ذلك إيراد المعاني التي اخترعاها، وكأن هذا المجلس لم يقصد به المتنبي، وإنما قصد به إظهار تفوق الطائيين على كل شاعر، وتفوق أبي تمام على الجميع، وهذا داخل في ما رأيناه قبلاً من تحمس الحاتمي للدفاع عن أبي تمام. نظرة إجمالية في الموضحة تلك هي الموضحة: وضحت موقف الحاتمي من قضايا النقد الأدبي، فأظهرت رأيه في حدود الشعر، وفي الاستعارة وفي عيوب المبنى الشعري وفي السرقة، وفي المفاضلة (أو الموازنة) بين المعاني المبتكرة لدى المتنبي من ناحية والطائيين من ناحية أخرى، ودلت على مدى اطلاع الحاتمي وعلى احتفاله الشديد بإبراز قدرته على الحفظ للأشعار واللغة، واستغلال هذه   (1) الموضحة: 149 - 150، 151. (2) نفسه: 186. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 القدرة في دراسة السرقات؛ ولكنها رسالة موسومة بالانفعال في أكثر مراحلها، ودواعي التحامل فيها مفضوحة، غير إنها كانت الأساس الأول الذي وضع أبيات المتنبي المعيبة أمام أنظار النقاد الآخرين، فكان كثير مما استخرجوه من الأبيات المستهجنة لدى المتنبي هو ما استخرجه الحاتمي. عن هذا لا يدل على وحدة في الذوق العام لدى نقاد القرن الرابع بمقدار ما يدل على وحدة في ذوق الناقمين على المتنبي. وستكون حجج المؤيدين له منتزعة من الحجج التي وضعها الحاتمي على لسانه، كما ان شواهد خصومه هي الشواهد التي استخرجها الحاتمي من شعره، هذا رغم إحساس الفريقين؟ كما أحس الحاتمي نفسه - أن أفنان المتنبي في الشعر " كانت رطبة ومجانيه عذبة " (1) . أبو العباس النامي (- 371 أو 399) والصاحب بن عباد (- 385) رسالة للنامي في عيوب المتنبي قبل أن يفد المتنبي على بلاط سيف الدولة كان أبو العباس أحمد بن محمد الدارمي المصيصي المعروف بالنامي هو شاعره المقدم (2) ، فلما استأثر المتنبي بالمقام الأول اغتاظ النامي حتى قيل إنه عاتب سيف الدولة في ذلك، ولذا فليس بغريب أن يكتب في المتنبي رسالة يتعقب فيها أخطاءه، وهي رسالة لم تشر إليها المصادر، ولولا ابن وكيع لما عرفنا خبرها، فإنه يشير إليها وينقل عنها في مواضع من كتابه " المنصف " وهذه النقول هي التي جعلتنا نتصور أنها في تبيان مساوئ المتنبي، فهو يقف مثلاً عند قول المتنبي: إني على شغفي بما في خمرها ... لاعف عما في سراويلاتها   (1) الموضحة: 7. (2) انظر الصبح المنبي: 80 وترجمة النامي في ابن خلكان 1: 125 واليتيمة 1: 124. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 فيعد استعماله لفظة " سراويلاتها " في عيوبه، لان اشتهاءه هذه اللفظة يدل على اشتهائه ما تضمه مع تصريحه بعكس ذلك (1) ، وهو ملمح نفسي جيد. كذلك وقف عند قوله: ريان لو قذف الذي أسقيته ... لجرى من المهجات بحر مزبد وذكر انه مسروق من قول البحتري: صديان من ظمأ الحقود لو انه ... (2) يسقى جميع دمائهم لم ينقع وربما كانت هذه الرسالة مما كتبه النامي في حياة أبي الطيب لانا نراه يوجه إليه الكلام فيها توجيه مخاطبة: " فأين ذهبت، وفي أي ضلالة همت، ومن أي قليب جهالة اغترفت، هذا النوع الذي أكثرت العجب به هو الذي أكثر التعجب منك " (3) ، يورد هذا كله في التعليق على قول المتنبي: أني يكون أبا البرية آدم ... وأبوك والثقلان أنت محمد وهذا النقد لم يعجب ابن وكيع فقال: " فلم يزد على سب أبي الطيب سباً من غير إيضاح العيب من قوله ". فإذا صح أن مخاطبة النامي في هذه الفقرة ليست نوعاً من الالتفات، فإن رسالته تعد من اقدم ما كتب في الكشف عما كان يعد خطأ في شعر المتنبي - من حيث سوء اللفظ أو تعمد السرقة أو الغموض في التعبير.   (1) انظر المنصف، الورقة: 149. (2) المنصف: الورقة: 59 ب. (3) المنصف، الورقة 60/ أ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 رسالة الصاحب في الكشف عن مساوئ المتنبي أما ما بين المتنبي والصاحب فيمثل مشكلة من نوع آخر، إذ يقال إن الصاحب كان يتمنى أن يزوره المتنبي باصفهان، عند توجهه إلى فارس، ولكن المتنبي أعرض عنه: " فصيره الصاحب غرضاً يرشقه بسهام الوقيعة، يتتبع عليه سقطاته في شعره وهفواته، وينعى عليه سيئاته.. " (1) وإذا كان الصاحب كما وصفه بعض معاصريه بأن " حسده لغيره على فصل حسن ولفظ حر بقدر إعجابه بما يقوله ويكتبه " (2) . فمن السهل أن نفهم لم كتب رسالته " الكشف عن مساوئ المتنبي " (3) ؛ من الطريف أن الصاحب يفتتحها بذم الهوى والحمية، لأن تغليب الهوى يطمس أعين الآراء، والميل معه ببهم سبيل الصدق (4) ، ويجعل سبب إنشائه الرسالة لجاج واحد من المعجبين بالمتنبي في الدفاع عن صاحبه (سيصبح هذا الجدل وسيلة تقليدية للتأليف في عيوب المتنبي) ، وينعى على العصر كثرة المتسورين على حمى النقد الأدبي: " وقد بلينا بزمن زمن يكاد المنسم فيه يعلو الغارب، ومنينا بأغبياء أغمار قد اغتروا بممادح الجهال لا يضرعون لمن حلب الأدب أشطره، ولا سيما علم الشعر، فهو فوق الثريا، وهم تحت الثرى، وهم يوهمون أنهم يعرفون، فإذا تكلموا رأيت بهائم مرسنة وأنعاماً مجفلة " (5) .   (1) الصبح المنبي: 145 - 146. (2) أخلاق الوزيرين: 219. (3) طبعت بالمطبعة السلفية سنة 1349، وهي مجزأة في الصبح المنبي، ثم نشرها الأستاذ البساطي مع الإبانة (دار المعارف 1961) في كتاب 1. (4) الكشف (في طبعة الإبانة) : 222. (5) الكشف: 222. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 ثناء الصاحب على مقدرة ابن العميد في النقد ولا ندري ما الذي حدا بالصاحب إلى أن يستطرد في مقدمة رسالته متملقاً ابن العميد بالثناء على مقدرته في النقد، فكل ما أورده هنالك لا يدل على مقدرة نقدية البتة، فابن العميد ينص على سلامة الحروف من الثقل ويكره السناد، ويستطيع أن يدرك في الشعر الكسر واللحن والإحالة (ولو كان لشاعر يعجبه كالبحتري) ويغير اللفظة في بيت يرويه لأنها لا تعجبه، ويرى أن يطابق الشاعر بين غرضه وما يصلح له من وزن وقافية، ويؤمن بحسن المطالع والمقاطع؟ وكل هذا لا يصنع ناقداً. وإذا كانت هذه هي المقاييس التي تعلمها الصاحب فقد كان جديراً أيضاً بالتخلي عن النقد لأربابه. وأحسب أن الصاحب أستطرد للثناء على أبن العميد كأنه يطلب إلى بن العميد إقراره على ما سيقوله في المتنبي، وكأنما يومئ إلى أنه لا يتعمد أن يعيب الشاعر الذي مدحه سيده، إلا لأن ذلك السيد نفسه لا ترضيه طريقته، فأبن العميد مم يكلف بالبحتري، ولا يقدم عليه أحداً من الشعراء؛ والصاحب أيضاً مسرور من نباهة الجاحظ لأنه لم يجد النقد إلا " عند أدباء الكتاب "، والصاحب كاتب أديب، فكأن الجاحظ سلمه راية النقد أيضاً: " فلله أبو عثمان فقد غاص على سر الشعر فاستخرج ما هو أدق من الشعر " (1) . مساوئ المتنبي كما ذكرها الصاحب ونريد أن نحمل رسالة الصاحب على محمل جاد - إذا استطعنا ذلك - لنتبين فيها المساوئ التي عدها على المتنبي، فمنها: 1 - استعمال الألفاظ الحوشية والنابية مثل " التوراب " و " مسبطر ". 2 - الإبهام على طريقة الصوفية في كلام كأنه رقية العقرب (استعمل أبن وكيع أيضاً هذا الوصف " مثل: " سبوح لها منها عليها شواهد ".   (1) الكشف: 224. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 3 - رداءة المطالع، مثل: أراع كذا كل الأنام همام ... وسح له رسل الملوك غمام 4 - المبالغ المسرفة مثل: يا من يقتل من أراد بسيفه ... أصبحت من قتلاك بالإحسان 5 - قلة الذوق في عدم مراعاة المناسبة، كقوله في رثاء أم سيف الدولة: ولا من في جنازتها تجار ... يكون وداعهم خفق النعال 6 - هجنت الاستعارة في مثل: في الخد إن عزم الخليط رحيلا ... مطر تزيد به الخدود محولا 7 - الخطأ في العروض، مثل: تفكره علم ومنطقه حكم ... وباطنه دين وظاهره ظرف 8 - رداءة التشبيه، مثل: وشوق كالتوقد في فؤاد ... كجمر في جوانح كالمحاش 9 - ركوب القوافي الصعبة مثل: كفرندي فرند سيفي الجراز ... لذت العين عدة للبراز طريقته التهكمية هذا مجمل ما جاء به، ولكن الأمر في الرسالة ليس في عدد العيوب، وإنما في طريقة إبرازها؛ لقد أفتتح الصاحب رسالته بما يوهم سعة الصدر وانفساح الأفق متذرعاً بمقاييس أبن العميد أستاذه في النقد، فلما حاول النقد لم يعد واسع الصدر، ولم يتقيد حتى بمقاييس أستاذه على قصورها ومحدودية أفقها، وإنما ذهب في التهكم كل مذهب، واستعمل السباب الجارح، وكد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 قريحته ليتفنن في التعليق الساخر، فكان نسيج وحده في هذا المضمار لم يبلغ مبلغه الحاتمي في حدة الانفعال، ولا شأى شأوه العميدي في التعليقات التهكمية؛ فمن أمثلة ذلك: " وهذا التحاذق منه كتغزل الشيوخ قبحاً ودلال العجائز السماجة " (1) وفي استعمال لفظة " جبرين " يقول: " وقلب هذه اللام إلى النون أبغض من وجه المنون، ولا أحسب جبريل عليه السلام يرضى منه بهذه المجازاة " (2) وقوله في لفظة " المتديريها ": " لو وقعت في بحر صاف لكدرته، أو ألقي ثقلها على جبل سام لهدته، وليس للمقت غاية ولا للبرد نهاية " إلى غير ذلك من التعليقات. نقد وتعقيب لرسالة الصاحب وقد تكون أكثر ما عابه صحيحاً، ولكن يجب أن ننتبه إلى أمور: أولها أن هذا القسم المعيب ليس مما استكشفه الصاحب يبالغ حذقه، وإنما هو ما كان يدور على الألسنة من مستغرب ما جاء به المتنبي؛ والثاني أنه كان باستطاعته الكشف عنه دون لجوء إلى ما يشعر بالتحامل فكأنه ليس له في الرسالة إلا هذه التعليقات اللاذعة؛ والثالث أن هذه العيوب جميعاً لا تسقط شاعراً، ورابعها أن النقد ليس محض تعداد للسيئات؛ وخامسها: أن رسالته نفسها معيبة للاضطراب القائم بين طبيعة مقدمتها ومتنها، ثم لعدم بنائها على أصول واضحة، فهي بالخواطر المرسلة أشبه.   (1) الكشف: 238. (2) الكشف: 241. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 رأي الصاحب في السرقات الشعرية يتخلص الصاحب من التعريج على سرقات المتنبي بتصريح كبير يقول فيه أن السرقة ليست عيباً، ويردد هنا ما شاع كذباً عن المتنبي من أنه كان ينكر معرفة أبي تمام: " وبلغني أنه كان إذا أنشد شعر أبي تمام قال: هذا نسج مهلهل وشعر مولد ولا أعرف طائيكم هذا، وهو دائب يسرق منه ويأخذ عنه ثم يخرج ما يسرقه في أقبح معرض كخريدة ألبست عباءة، وعروس جليت في مسوح، لو آتي على أفراد سرقاته لأطلت في هذا الباب، لكنه عارض في هذا المكان " (1) . هل الأمانة متوفرة في الرواية وتثير رسالة الصاحب مشكلة خطيرة تتصلب الأمانة في الرواية، فقد قال في نقد لفظة " سراويلاتها ": كانت الشعراء تصف المآزر تنزيهاً لألفاظها عما يستشنع ذكره حتى تخطى هذا الشاعر المطبوع إلى التصريح، وكثير من العهر أحسن من هذا العفاف؛ قال الواحدي: وسمعت أبا الفضل العروضي يقول: سمعت أبا بكر الشعراني يقول: هذا مما غير عليه الصاحب، وكان المتنبي قد قال: لأعف عما في سرابيلاتها، جمع سربال وهو القميص، وكذا رواه الخوارزمي (2) . وأبو بكر الشعراني المذكور كان خادماً للمتنبي ثم قرأ عليه أبو الفضل العروضي شعر أبي الطيب، ويقول الشعراني في موضع آخر - رواه الصاحب - " رواق العز فوقك مسبطر " منكراً لفظة " مسبطر ": قرأنا على أبي الطيب: " رواق العز فوقك مستظل " قال العروضي: وإنما غيره عليه الصاحب ثم عابه به؛ أترانا نصدق هذا، اعني أن الصاحب تعمد تغيير بعض الألفاظ ليتوصل إلى عيبها والتنقص من المتنبي بسببها؟ أم أن هذه   (1) الكشف: 243. (2) شرح الواحدي: 278. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 الروايات تشير إلى محاولة بذلها بعض أصدقاء المتنبي والمعجبين به ليخففوا من تيار النقد المتوجه ضده؟ لا نستطيع أن نقطع بذلك ولكنا نميل إلى القول بان رواية الصاحب لو كانت هي المغيرة، لكانت أضعف الروايتين، ولما أثبتت في نسخ الديوان إلا على سبيل الاستعانة. وهذا ابن جني قد جاء بعدة روايات لم يأخذ بها شراح الديوان من بعد، مما قد يشير إلى أن رواية ديوان المتنبي تتطلب دراسة مقارنة مستقلة. وقد أثارت رسالة الصاحب حنق أنصار المتنبي وهجومهم عليها، فلا نستبعد أن تكون من الأسباب التي حفزت إلى تأليف كتاب الوساطة كما كانت محطاً لهجوم ابن فورجة من بعد، وهذا ما سنعرض له في موضعه. شرح ابن جني (- 392) وما أناره من ردود أين هم المتعصبون للمتنبي؟ اشتد خصوم المتنبي في الحملة عليه، دون أن تكون دوافعهم خفية أو مأخوذة بشيء من الامداراة، وقد كانوا دائماً يحاولون أن يسوغوا مواقفهم بما يجدونه لدى أنصاره من مغالاة في التعصب له. ومن غريب الأمر أن لا نسمع أصوات أولئك الأنصار ولا نتعرف إلى أشخاصهم ولا نجد لهم آثاراً مكتوبة في الدفاع عن صاحبهم، أثناء القرن الرابع؛ ثم أن نجد المؤلفات تتلاحق في العراق وفارس ومصر للرد على أولئك الأنصار الذين اكتفوا بالموقف الشفوي؛ وليس في الحالين تكافؤ: فأنصار المتنبي يضيعون جهودهم في أحاديث المجالس والحلقات، بينا يخلد خصومه مذمته في الكتب والرسائل. وإذا تحدثنا عن الأنصار هنا فإنما يعني أولئك الذين كانوا - كما زعم الخصوم - يرون في المتنبي شاعراً فاق كل من قبله من الشعراء، وأنه لم يأخذ شيئاً من معاني غيره وإنما كان مبتكراً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 مبتدعاً في كل ما قال، فإذا سلموا ببعض الأخذ قالوا: ولكنه زاد فيما أخذ واحسن الأداء؛ فذلك هو الفريق الذي لم نسمع له صوتاً ولم نجد له مؤلفاً. فأما الأنصار المعتدلون الذين يضعون الحسنة إلى جانب السيئة، ويتوسلون بأسباب الموضوعية في النقد، فإن موقفهم واضح بعض الوضوح من خلال ما وصلنا من آثارهم أو ما ذكر منها دون أن يصلنا. لم ألف ابن جني شرحه للديوان وفي طليعة هذه الجهود الإيجابية ما قام به أبو الفتح عثمان بن جني فقد كان يرى ان كثيراً من الذين يحملون على المتنبي غنما يفعلون ذلك انه يدق عليهم إدراك معانيه ومراميه، ولذلك اضطلع بشرح ديوانه في ما ينيف على ألف ورقة (1) ، ثم يستخرج أبيات المعاني منه وأفرادها في كتاب " ليقرب تناولها " (2) وكتب كتاباً ثالثاً في النقض على ابن وكيع في شعر المتنبي وتخطئته (3) . أثر صلته بالمتنبي وقد كان ابن جني صديقاً لأبي الطيب وثيق الصلة به معجباً بشعره أو إن شئت فقل: معجباً بسمته الشعري لأنه جاد في ما يعانيه، يلزم طريق أهل العلم في ما يقوله ويحكيه، ويحمله إعجابه على تجاوز الاعتدال في الأنحاء على الخصوم حتى لنسمعه يقول: " وما لهذا الرجل الفاضل من عيب عند هؤلاء السقطة الجهال وذوي النذالة والسفال إلا انه متأخر محدث، وهل هذا   (1) ورد اسم هذا الشرح في المصادر على صور مختلفة فهو " الصبر " في أنباء الرواة 2: 337 ومطبوعة ابن خلكان (2: 411 بعناية الشيخ محيي الدين عبد الحميد) وقد رجعت إلى بعض النسخ الخطية من الوفيات فإذا الاسم في نسخة كوبرللي (رقم 1192) هو " الفسر " وفي الظاهرية (رقم 5418) ومطبوعة وستنفليد هو " القشر " ولم يعين الاسم في مخطوطة احمد الثالث (رقم: 2919) أو في الإجازة التي كتبها ابن جني ونقلها ياقوت (12: 110) حيث قال: " وكتابي في تفسير ديوان المتنبي الكبير وهو ألف ورقة ونيف ". (2) الواضح في مشكلات شعر المتنبي (الورقة الأولى ب) وياقوت 12: 113. (3) معجم الأدباء 12: 113. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 لو عقلوا إلا فضيلة له ومنبهة عليه، لأنه جاد في زمان يعقم الخواطر ويصدئ الاذهان، فلم يزل فيه وحده بلا مضاه يساميه ولا نظير يعاليه، فكان كالقارح الجواد يتمطر في المهامه الشداد، لا يواضح نفسه إلا نفسه ولا يتوجس إلا جرسه " (1) . ولكن هذا الإعجاب لم يكن ليحجب عن عيني ابن جني أن في شعر المتنبي صعوبتين: إحداهما تعسف في بعض ألفاظه خرج بها عن القصد في صناعة الأعراب، إذ جاء بالشاذ وحمل على النادر، والثانية عمق في معانيه يتطلب إعمال الفكر وطول البحث وتكرار التأمل لأنه شاعر يخترع المعاني ويتغلغل فيها ويستوفيها. وهاتان الصعوبتان لا يذل لهما إلا شرح الديوان، لان المتنبي لم يتورط فيهما عن جهالة أو غفلة، بل كان عالماً عارفاً بما يصنع، وابن جني نفسه خير من يفي بمتطلبات هذا العمل لا لانه، وحسب، دقيق المعرفة بالنحو واللغة، بل لأن ملازمته لأبي الطيب وقراءته لشعره وسؤاله له عن بعض الدقائق فيه والمحاورة الطويلة بينهما حول كل ما يعرض من شئون في ذلك الشعر، كل ذلك جعله مهيأ لإنجاز تلك المهمة على نحو لم يتح لسواه، يقول ابن جني في توضيح هذا الموقف: " لأننا لم نكن نتجاوز شيئاً من شعره وفيه نظر إلا ويطول القول فيه جداً حتى ينقطع فيه الريب؛ ولقد كان يستدعي تنكيتي عليه ويبعثني على البحث لما كان ينتج بيننا ولما كنت أورده عليه مما لم يكن عنده ان مثله يسأل عنه لينظر فيه ويتأمله قبل أن يضطر إلى الجواب عنه في وقت ضيق أو محفل كبير فلا يكون قدم الروية والنظر فيه فيلحقه خجل وانقطاع لكثرة خصومه وتوفر حساده " (2) .   (1) الشرح ج 1، الورقة: 1. (2) الشرح ج 2 الورقة 21 - 22 (نسخة قونية) ، ومن الغريب بعد ذلك أن نسمع أبا الحسن الطرائفي يقول " كان أبو الفتح عثمان بن جني في حلب يحضر عند المتنبي الكثير ويناظره في شيء من النحو من غير أن يقرا عليه ديوان شعره إكباراً لنفسه عن ذلك ". (ياقوت 12: 101 - 102) ، مع أن ابن جني يصرح في غير موطن بقوله: " سالت المتنبي وقت القراءة ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 ماذا حقق ابن جني في شرحه ود استطاع ابن جني أن يحقق كثيراً مما رسمه لنفسه في هذا الشرح فجلا غوامض المعاني، ووجه النواحي اللغوية والنحوية التي أخذت على المتنبي، وزود شرحه بشواهد كثيرة ليدل على الشبه بين طريقة المتنبي وطريقة الأقدمين في التعبير، واستجاز الاستشهاد بشعر المحدثين لأنه يستشهد به في المعاني مثلما يستشهد بشعر الأقدمين في الألفاظ، وكانت جوانب من شرحه وثيقة هامة لأنه أثبت فيه ما دار بينه وبين الشاعر من اخذ ورد حول بعض الأمور؛ من ذلك مثلاً: " سألته يوماً عن قوله: وقد عادت الأجفان قرحاً من البكا ... وعاد بهاراً في الخدود الشقائق فقلت له: أقرحاً منون جمع قرحة أم قرحى - ممال - فقال: قرحاً منون؛ ثم قال: ألا ترى بعده وعاد بهاراً في الخدود الشقائق - يقول - فكما أن بهاراً جمع بهارة. وإنما بينهما الهاء، فكذلك قرحاً جمع قرحة ". ثم يعلق ابن جني على ذلك قائلاً: " فليت شعري هل يصدر هذا عن فكر مدخول أو روية مشتركة! " (1) . اعتذار ابن جني عن الضعف في بعض الأمور اللغوية غير أن هذه المفاوضات بين الرجلين تنبئ عن أن موقف المتنبي في بعض الأمور اللغوية لم يكن دائماً موقف القوي، وأن خصومه كانوا يستندون إلى أسباب قوية في نقده من تلك الناحية، ولهذا يبدو ابن جني هنا متشبثاً بالعذر - وهو اضعف الموقفين. من ذلك وقفته عند قول المتنبي " ومصبوحة لبن السائل " فقد قال: " سألت أبا الطيب وقت القراءة عليه فقلت له عن الشائل لا لبن لها، وإنما التي لها بقية من لبنها هي التي يقال لها الشائلة، فقال:   (1) الشرح، الورقة الأولى (نسخة قونية، وكذلك 2: 149) والورقة الثانية (نسخة دار الكتب) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 أردت الهاء وحذفتها "؛ ويتعذر عنه ابن جني بان مثل هذا يجوز للشاعر فقد قال كثير عزة: " وأخلت بخيمات العذيب ظلالها " أراد " اليبة " فحذف الهاء (1) . ومن ذلك أيضاً: " وكلمته في (يتزيا) فقلت: هل تعرفه في شعر قديم أو كتاب من كتب اللغة؟ فقال: لا، فقلت له: كيف استعملته وأقدمت عليه؟ قال: لأنه جرت به عادة الاستعمال، فقلت له: أترضي بشيء تورده باستعمال العامة ومن لا حجة في قوله؟ فقال: فما عندك فيه؟ فقلت: قياسه يتزوى، فقال: من أين لك؟ فقلت: لأنه من الزي، والزي ينبغي ان تكون عينه واواً وأصله زوي؟ ثم قال: لم يرد الاستعمال إلا بتزيا، فقلت له: عن العامة ليست ألفاظها حججاً؟ " (2) ومع أن ابن جني شديد الاعتراض صلب الموقف إلا انه في نهاية هذا الحوار لجأ إلى الاعتذار فقال: " على انه قد ذكر هذا الحرف صاحب العين، فقال: تزيا فلان بزي حسن "، وكان ابن جني يقول في هذا الموقف: أن " يتزيا " خطأ وهي لفظة عامية، ولكن عن شاء الخصوم أن يلجوا في النقد والهجوم فما عليك إلا أن تستشهد بما ورد في " العين ". إثارة ابن جني لموضوع الهجاء المبطن في مدائح كافور ويعد ابن جني أول من فتح باب القول في أن مدائح المتنبي في كافور مبطنة بالهجاء، وأن الازدواج فيها كان مقصوراً، وقد استمد ذلك من قراءته لقول المتنبي: وشعر مدحت به الكركدن ... بين القريض وبين الرقى كما استمده من إقرار المتنبي عندما قرأ عليه قوله: وما طربي لما رأيتك بدعة ... لقد كنت أرجو أن أراك فأطرب   (1) نسخة قونية 2: 195 أ. (2) المصدر السابق 3: 106 ب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 فإن ابن جني قال له: أجعلت الرجل أبا زنة (أي قرداً) فضحك المتنبي، وفهم ابن جني من هذا الضحك أن الشاعر كان يريمي إلى ما وراء المدح من معنى، ولهذا خرج بهذا الاستنتاج: " وهذا مذهبه في أكثر شعره لأنه يطوي المديح على هجاء حذقاً منه بصنعة الشعر وتداهياً في القول " (1) . اهتداء ابن جني إلى الجرأة النفسية لدى المتنبي كذلك تنبه ابن جني إلى ظاهرة نفسية هامة تفسر شيئاً كثيراً مما أنكره خصوم المتنبي، ولو درس شعر المتنبي على مستواها لكشف الدرس عن مظاهر متميزة فيه، فقد وقف عند قوله: يعلمن حين تحيا حسن مبسمها ... وليس يعلم إلا الله بالشنب فقال معلقاً: " وكان المتنبي يتجاسر في ألفاظه جداً؛ ألا تراه يقول لفاتك يمدحه: وقد يلقبه المجنون حاسده ... إذا اختلطن وبعض العقل عقال أفلا ترى كيف ذكر لقبه على قبحه، وتلقاه وسلم أحسن سلامة، ولولا جودة طبعه وصحة صنعته لما تعرض لمثل هذا؛ وكذلك ذكره مبسمها وحسنه وشنبه، ومفرقها في البيت الذي يتلوه. ومن ذا الذي كان يجسر على تلقي سيف الدولة بذكر مثل هذا من أخته؛ وآل حمدان أهل الأنفة والإباء وذوو الحمية والامتعاض؛ وأكثر شعره يجري هذا المجرى من إقدامه وتعاطيه، فإذا تفطنت له وجدته على ما ذكرت لك " (2) ؛ فهذا ملمح   (1) نسخة قونية 1: 107، 183، وقد اكتملت هذه النظرية عند شيخ الإسلام؟ عبد الرحمن الرومي بن حسام الدين مفتي الدولة العثمانية فإنه ألف كتاباً رد فيه مدائح المتنبي في كافور إلى هجاء، وهو كتاب طريف قام بتحقيقه الصديق الدكتور محمد نجم، وسيظهر قريباً (وانظر ترجمة المؤلف في المحبي 1: 351. (2) الشرح، الورقة: 39 (دار الكتب) ؛ ومثل ذلك إلحاح المتنبي على ذكر السواد حين يمدح كافوراً وهو الذي قال لابن جني " كان موته أن يذكر له إنسان السواد ". (الشرح، الورقة 29 من الجزء الأول، نسخة قونية) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 يعز نظيره، وهو أحرى أن يتخذ مفتاحاً لنقد جانب من شعر المتنبي لا ما علل النقاد به أنفسهم من بحث عن الأخطاء والسرقات. موقفه من العلاقة بين الدين والشعر ومن التفاوت في الأحوال النفسية وكان ابن جني يحور إلى بعض القواعد العامة المتوارثة في مواقفه النقدية كقوله أن الآراء والاعتقادات في الدين لا تقدح في جودة الشعر (1) وإيمانه أن شعر الشاعر يجب أن لا يتناقض بحسب اختلاف الأحوال النفسية، ولهذا ذهب يوفق بين قول المتنبي: إن كنت ظاعنة فإن مدامعي ... تكفي مزادكم وتروي العيسا وقوله: ولا سقيت الثرى والمزن مخلفه ... (2) دمعاً ينشفه من لوعة نفسي ولكنه يتجاوز هذا الموقف إلى الإعجاب بالمبالغة في موضعها وإلى التسامح في طبيعة الألفاظ التي يستعملها الشاعر، فهو يمتدح المتنبي لأنه أدخل في شعره بعض ألفاظه المتصوفة، ويقول: " وقد افتن في ألفاظه كما فاتن في معانيه " (3) . اعتزازه بتحبيب شعر المتنبي إلى أستاذه الفارسي ولكن ربما كان أهم ما حققه ابن جني في نظر نفسه هو انه استطاع أن يحبب شعر المتنبي إلى أستاذه أبي علي الفارسي لما كان لهذا الأستاذ من مكانة في نفسه، قال: " ولقد ذاكرت شيخنا أبا علي الحسن بن أحمد الفارسي بمدينة السلام ليلاً وقد أخلينا، فاخذ يقرظه ويفضله، وأنشدته من حفظي " وأحر قلباه؟ " فجعل يستحسنها، فلما وصلت إلى قوله:   (1) الشرح، قونية 1: 69. (2) الشرح، قونية 2: 65. (3) الشرح، قونية 3: 51. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 وشر ما قنصته راحتي قنص ... شهب البزاة سواء فيه والرخم لم يزل يستعيده مني إلى أن حفظه وقال: ما رأيت رجلاً في معناه مثله، فلو لم يكن له من الفضيلة إلا قول أبي علي هذا فيه لكفاه، لان أبا علي مع جلالة قدره في العلم ونباهة محله وإقتدائه سنة ذوي الفضل من قبله لم يكن ليطلق هذا القول عليه إلا وهو مستحق له عنده، فماذا يتعلق من غض أهل النقص من فضله وهذا حاله في نظر فرد الزمان في علمه والمجتمع على أصالة حكمه " (1) . وهو يستأنس برأي أستاذه في ما يجيء به الشاعر المحدث من ضرورات قياساً على الضرورات التي كان يركبها القدماء فيقول له: " نعم لان هذا شعر كما أن ذلك شعر، وكما يجوز أن يؤتى في النثر بما أتوا به فكذلك يجوز في النظم أيضاً " (2) . الردود على ابن جني في التفسير وقد أصبح شرح ابن جني أساساً لكثير من الشروح والدراسات التي ظهرت حول المتنبي من بعد (3) ، ولكن أكثر الذين تناولوه من بعد وقفوا عند النقاط الضعيفة فيه أو في الكتاب الصغير الذي اشتمل على أبيات المعاني، وهذه النقاط تنقسم في قسمين: فيعضها تفسيري وبعضها نقدي، فأما العيب في الجانب التفسيري، فهو يشمل لجوء أبن جني إلى الاعتذار عن صاحبه في بعض المآخذ، كما يشمل هجوم خاطره على أشياء تنأى به عن المعنى المقصود في السياق وذلك ناشئ من حبه للدقيق والنادر (4) ، ولذلك كثرت الردود على شرحه من الزاوية التفسيرية، بحيث تكون هذه الردود مجتمعة محاولات   (1) الشرح، الورقة 3 (دار الكتب ونسخة قونية) مع اختلاف يسير في بعض العبارة. (2) الشرح 2: 166 (قونية) . (3) بلاشير: 18. (4) بلاشير: 19. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 لقراءة شعر المتنبي، من زوايا مختلفة، على مر الزمن (1) . وأكتفي هنا بإيراد مثلين على ذلك: يقول أبن جني في شرح البيت الثاني من هذين البيتين: (فحب الجبان النفس أورده التقى ... وحب الشجاع النفس أورده الحربا) ويختلف الرزقان والفعل واحد ... إلى أن ترى إحسان هذا لذا ذنبا " إن الرجلين ليفعلان فعلاً واحداً فيرزق أحدهما ويحرم الآخر، فكأن الإحسان الذي رزق به هذا هو الذنب الذي حرم به هذا؟ " (2) فيتعقبه أبو العباس أحمد بن علي الأزدي المهلبي بقوله: " وأقول: إنه لم يفهم معنى البيتين، ولا ترتيب الآخر منهما على الأول، ومعنى البيت الأول أن الجبان يحب نفسه فيحجم طلباً للبقاء، والشجاع يحب نفسه فيقدم طلباً للثناء، والبيت الثاني مفسر للأول يقول: فالجبان يرزق بحبه نفسه الذم لإحجاءه، والشجاع يرزق بحبه نفسه المدح لإقدامه، فكلاهما محسن إلى نفسه بحبه لها، فاتفقا في الفعل الذي هو حب النفس واختلفا في الرزقين اللذين هما الذم والمدح، حتى إن الشجاع لو أحسن إلى نفسه بترك الإقدام كفعل الجبان لعد ذلك له ذنباً، فهذا هو المعنى، وهذا في غاية الإحكام، بل في غاية الإعجاز، لا ما فسره " (3) ، ومن تأمل الشرحين وجد حقاً أن أبن جني لم يدرك ما أراده أبو الطيب.   (1) رد عليه الربعي تلميذ المتنبي في شيراز بكتابه " التنبيه على خطأ ابن جني " ويقال أن للتوحيدي كتاباً بعنوان " الرد على ابن جني في شعر المتنبي " ولأبن فورجة كتابان " التجني على ابن جني " و " الفتح على أبي الفتح "، ولأبي القاسم عبد الله بن عبد الرحمن الأصفهاني " الموضح في مشكلات شعر المتنبي " تسميه المصادر: الإيضاح) وهو رد على ابن جني في شرحه لأبيات المعاني؛ ويرد الواحدي على ابن جني أثناء شرحه للديوان، ولأحمد بن علي الأزدي كتاب " المآخذ على شراح ديوان أبي الطيب " والفصل الأول فيه رد على ابن جني، (وأنظر الصبح المنبي: 269 وبلاشير: 19 وما بعدها) . (2) شرح ابن جني (الورقة: 30) نسخة دار الكتب. (3) المآخذ على شراح ديوان أبي الطيب (الورقة 8 - 9) نسخة فيض الله رقم 1748. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 وقال ابن جني في شرح البيت: وترى الفضيلة لا ترد فضيلة ... الشمس تشرق والسحاب كنهورا " أي إذا رأتك هذه المرأة رأت منك الفضيلة مقبولة غير مردودة، كالشمس إذا كانت مشرقة والسحاب إذا كان كنهورا، وهي القطع من السحاب العظام، يرد وضوح أمره وسعة جوده " (1) . ويرد عليه أبو القاسم الأصفهاني صاحب كتاب " الواضح في مشكلات شعر المتنبي " بقوله: " وأية أبي الفتح بضم التاء ولا يصح للبيت معنى على هذا، وإنما الرواية الصحيحة التي قالها المتنبي " لا ترد " - بفتح التاء - ومعنى البيت: أن فضيلتك في علوم العرب لا ترد فضلك في علوم العجم لتناسب الفضائل كما أن الشمس تشرق في أفق من السماء والسحاب في أفق آخر؟ " (2) ، وهو تفسير أنسب للسياق من تفسير أبن جني، وكما أخذ الشراح على أبن جني انصرافه عن إدراك بعض المعاني أخذوا عليه أيضاً إسرافه أحياناً في إيراده مسائل نحوية يستهلك فيها جهده ويغفل عن شرح اللفظ والمعنى، وكذلك شكوا في قوله عند بعض المسائل المحيرة " بهذا أجابني المتنبي عند الاجتماع (به) " (3) .   (1) لم يرد هذا الشرح كذلك في الفسر الموجز وإنما فيه " وترى فضائل مثل الشمس والسحاب أي نيرة مشرقة بارزة؟ الخ " وإنما النقل هنا عن شرح ابن جني لأبيات المعاني. (2) الواضح في مشكلات شعر المتنبي، الورقة: 16؛ (ص: 53) وخلاصة رأي أبي القاسم عبد الله بن عبد الرحمن الأصفهاني في المتنبي انه " سريع الهجوم على المعاني، ونعت الخيل والحرب من خصائصه، وما كان يراد طبعه في شيء مما يسمح به، يقبل الساقط الرد كما يقبل النادر البدع، وفي متن شعره وهي وفي ألفاظه تعقيد وتعويص (ص: 27 - 28) وهو يقيم نظرته إلى الشعر عامة على إيمانه بان (المعاني مطروحة نصب العين وتجاه الخاطر يعرفها نازلة الوبر وساكنة المدر " مردداً فكرة الجاحظ. (3) الواضح، الورقة: 11 (ص: 36 - 37) وأنظر أيضاً ص: 78. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 رد الوحيد على ابن جني في المنهج النقدي وأما العيب في الجانب النقدي فإن إبرازه أمر سهل لان ابن جني لم يكتف بالشرح بل تجاوزه في كثير من المواضع إلى التقييم؛ وعلى الرغم من الاجتهادات الطبية التي توصل إليها أحياناً فإنه على وجه العموم لم يكن ناقداً، ولهذا تورط في أحكام كان من السهل تزييفها أو رفضها، ولعل وقفة الوحيد في معارضة تلك الأحكام تكفي لتصور ذلك الصراع النقدي بين أحد أنصار المتنبي وأحد خصومه. تعريف بالوحيد والوحيد هو أبو طالب سعد بن محمد الازدي البغدادي، ويقول فيه ياقوت أنه " كان عالماً بالنحو واللغة والعروض بارعاً في الأدب " (1) ويذكر أن له مؤلفاً في شرح ديوان المتنبي، ولا نعرف شيئاً عن هذا الشرح، وإنما نعتمد على تعليقات الوحيد المضمنة في شرح ابن جني مميزة عن الأصل بالحرف (ح) (2) . ويؤخذ من هذه التعليقات أن الوحيد لم يكن معاصراً للمتنبي وحسبن بل أنه كان بمصر حين كان فيها أبو الطيب (346 - 350) ، وانه كانت له علاقة بابن حنزانة أحد خصوم المتنبي، وانه كان مطلعاً على ما يحاك حول المتنبي بمصر، قال: " فوقفت من أمره على شفا الهلاك، ودعتني نفسي - لحب أهل الأدب - إلى استحثاثه على الخروج فخشيت على نفسي أن ينهى ذلك عني " (3) ، بل هو قد شهد المتنبي " ورجل يقرأ عليه شعره فيسأله عن أشياء قريبة، فما كان جوابه إياه جواب متقن، وصاحب   (1) معجم الأدباء 11: 197 - 198. (2) موجودة في نسخة قونية لا في نسخة دار الكتب. (3) الشرح 1: 31 (قونية) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 الكتاب نحوي متقن " (1) ، وحيناً نراه بحلب في مجلس سيف الدولة (2) ، وربما كان ذلك بعد فراق المتنبي لحضرته، كما عرف أبا فراس بمنبج وخاض معه في حديث حول المتنبي (3) ، وهو قد لقي ناساً ممن عرف المتنبي في مراحل مختلفة من حياته، وسمع أخباره منهم وعارض ببعضها ما عده خطا عند ابن جني (4) . كلمة في منهجه عامة تجاه المتنبي وقبل أن نأخذ في توضيح ردود الوحيد على ابن جني علينا أن نذكر أن موقفه من الشاعر والشارح كليهما ينطوي على تنقيص، وان الغضب كثيراً ما يخرجه عن طوره فيكون منهجاً فاقداً لكل أناة الناقد الموضوعي، مع انه يحاول في البداية أن يرتفع إلى مستوى العدالة في الحكم: فابن جني عالم بالصناعة ذو محل منها، فالطعن عليه في محله من الصناعة ظلم، وإنما الذي ساقه إلى هذا الموقف عناد الخصوم، والمتنبي شاعر ذو فضائل وعيوب، فأما فضائله فهي طول النفس وجزالة الكلام والمبالغة في المعاني، وأما عيوبه فعدم التنقيح للكلام واستعمال الرذل من اللغة والغريب الحوشي وتكرار المعاني وإغماضها إغماضاً يحوج إلى الشرح الطويل ونقل معاني الناس والخطأ في اللغة واللحن في الأعراب، بل هو يذهب إلى ابن جني قد ظلم المتنبي وأنه سيحاول أن ينصفه (5) . ولكن الإنصاف بعيد عنه - أن لم يكن محالاً - لأنه غير راض عن أعراض المتنبي عن ابن حنزابة وتركه مدحه مع انه من " بيت شريف أهل وزارة ورياسة، ورجل من العلم والأدب بموضع جليل " (6)   (1) الشرح 2: 22 (قونية) . (2) الشرح: 2: 169. (3) الشرح 3: 124. (4) يذكر ياقوت انه توفي سنة 385 وانظر بغية الوعاة: 253 وبلاشير: 18 والحاشية: 2. (5) الشرح، الورقة الثانية. (6) الشرح 1: 31. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 وهو يرى أن المتنبي كان " رجلاً زراقاً شديد الحيلة للمعيشة وكان يصنع الأحاديث لنفسه ويعمل لها الأشعار ليري الناس أن فيه همة تسمو لذلك " (1) وأنه أيضاً كان " نفاخاً بذاخاً يري مخاطبه انه يحسن أضعاف ما يظنه به " (2) وفي الجملة لا يرضى طريقة المتنبي في عدم المجاملة للرؤساء ومن يجالسهم ولذلك يقول في تعليقه على قصيدة " وأحر قلباه ": " تعتب وتظلم وكان هو الظالم لنفسه؛ كان المتنبي في طبعه استدعاء عداوات الناس لأنه كان عريضاً كثير التعريض والتصريح لندماء سيف الدولة، شديد الزهو والافتخار عليهم، فإذا جاء بمثل هذه المواضع عارضوه وخاضوا فيها؟ وكانوا عصبة، وآل الأمر إلى أن غلبوه وأزعجوه عن حضرة سيف الدولة وأخرجوه من نعمته " (3) ؛ ثم يقول في موضع آخر: " لو كان موفقاً للزم سيف الدولة، فإنه كان واحد الزمان، ولكن سوء الرأي شبه له وأطعمه في خلف منه، وقد كان كافور كريماً، ولا قياس على سيف الدولة، ولكنه أفسده على نفسه من حيث ظن انه يصلحه " (4) . هجومه الشديد على ابن جني فأما ابن جني فإنه في رأي الوحيد قد تصدى لشيء لا يحسنه، حتى ليقول له في بعض المواطن: " لو كان لنقد الشعر والحكم فيه محتسب لمنعك أيها الشيخ من ذلك لأنه ليس من عملك " (5) ، وينصحه بعنف وزجر أن يظل معلماً للصبيان: " عليك أيها الشيخ بنفض اللحية وتبريق العينين للصبيان ورفع السير عليهم؟ ولا يحل لك التعرض للشعر " (6) ، وينسى انه يريد   (1) الشرح 1: 164. (2) الشرح 2: 22. (3) الشرح 3: 121. (4) نفسه 3: 194. (5) نفسه 2: 174. (6) نفسه 2: 67. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 أن ينصف المتنبي من ابن جني فإذا هو يحط عليهما معاً قائلاً: " وما قرأت ديوان شاعر من المحدثين فيه من العيوب ما في شعره، فهلا اقتصدت في هواك وتجملت ولم تودع كتابك من ألفاظك ما يشينك ولا يزينك؟! " (1) وكل هذا يدل على أن المنطلق النقدي لدى الوحيد سواء في رده على ابن جنى أو في محاكمته لشعر المتنبي لم يكن سليماً من الهوى والعصبية؛ ويمكن أن يقال إن الوحيد في منحاه العام ينتمي إلى صف ابن وكيع، حتى لنلمح لديه قضية يشارك فيها ابن وكيع نفسه، فقد اخذ هذا الناقد على المتنبي كراهته للخمر لأنها تذهب باللب " وذو اللب يكره أنفاقه " وإلى هذا ذهب الوحيد أيضاً حين قال: " فإنما العقلاء احتالوا في إنفاق العقل وقتاً ما ليزول عن النفس صقله، فإنه كالحافظ والرقيب يعترض على متبع الهوى، فيثقل على النفس، فاحتالوا في الراحة منه وقتاً ما تخفيفاً عن النفس " (2) . بعض الإصابة فيما تعقب به ابن جني ولكن الوحيد قد يحسن شيئاً من الرؤية الصحيحة من خلال هذا الضباب الكثيف، يعينه على ذلك بعض المواضع الواهنة في نقد ابن جني، فعندما امتدح ابن جني خلق المتنبي عارضه الوحيد بقوله: " ليس لذكر الأخلاق ها هنا معنى " (3) ولما ذهب ابن جني يشيد بثناء أستاذه أبي علي الفارسي على المتنبي قال له الوحيد: " النقد لا يحتاج إلى تقليد ولا تساوي الحكايات عند النقد شروري قبيل، فأربع على ظلعك، وأبق إن شئت على نفسك " (4) وعندما حاول ابن جني التوفيق بين بيتين للمتنبي ظنهما متناقضين رد عليه الوحيد بقوله: " هذا يدل على اعتقاده صاحب الكتاب أن على الشاعر أن يساوي   (1) الشرح 3: 218. (2) الشرح 2: 154. (3) الشرح، الورقة الأولى من الجزء الأول، وانظر عن ابن وكيع ما يلي: 294. (4) الشرح 1: 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 بين معانيه في جميع قصائده، وهذا باطل، فإن الشاعر قد يحمد الشيء ويصفه بالحسن بكلام حسن مقبول ثم يذمه في قصيدة أخرى؟ ولا سمعت عن أحد من نقاد الشعر أخذ على شاعر مثل هذا، وإنما يؤخذ عليه تناقض كلامه في حال واحدة في بيت واحد، فأما في شعر آخر قد رمى فيه إلى غرض سوى الأول فلا؟ " (1) . وفي هذا الموقف نجد الوحيد يردد ما قال به قدامة بن جعفر من قبل. المبادئ النقدية العامة التي يعتمدها وأما المبادئ النقدية العامة التي يحتكم إليها الوحيد فيمكن أن نجملها فيما يلي: 1 - أن الشعر ليس هو الغلو في المعاني، ولو كان الأمر كذلك لكان المحدثون أشعر من الاوئل، وكلما غالى الشاعر في المعاني وعمق بعد من القلوب، ولهذا كان ابن جني مخطئاً حين تناول نقد الشعر من زاوية المعاني وحدها. وهنا يعود الوحيد إلى نظرية الجاحظ القديمة فيقول: " والمعاني يقدر عليها الزنج والترك والنبط فيعبرونها كل بلغته " (2) ، ولذا كان عيباً على الشعراء المحدثين إيراد ما يتطلب تفسيراً، بل إن تصدي الشارح لتفسير شعر محدث هو في حقيقته طعن على صاحب ذلك الشعر " (3) . 2 - أخطأ ابن جني في الثناء على المبالغة المفرطة عند المتنبي إذ المبالغة المفرطة ليست من أفخر الكلام، لأنها لا تقع موقع القبول كما يقع الاقتصاد وما قاربه؛ والتشكك بين الشبهين كقول الشاعر: أيا ظبية الوعساء بين جلاجل ... وبين النقا آأنت أم أم سالم   (1) الشرح 2: 65. (2) الشرح 1: 25، 2: 174. (3) الشرح 1: 6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 خير من المبالغة، ولو قال الشاعر " أنت أم سالم " لما حل قوله من القلوب محل التشكك (1) . 3 - إيراد ألفاظ الصوفية وألفاظ الطب والفلسفة والكلام يشين الشعر ويعيبه في رأي نقاد الشعر، وإنما دخل هذا العيب إلى شعر المتنبي من انه صحب الصوفية بالشام، وأغلاهم طائفة يقال لهم أهل عين الجمع وهم يرون أن الحركات على اختلافها في الحواس حركة واحدة، وإنما تختلف على قدر الآلة التي تظهر منها الحركة، والفيل عندهم والنملة حركتهما واحدة من الأصل ثم يرمون مرمى لا تجوز حكايته، وكان المتنبي اغرق في قولهم فصحبته ألفاظهم بعد فراقهم، وهو عيب في صناعة الشعر (2) . 4 - فرض مواد البادية على عالم حضري غير مستساغ، كالحديث عن الجفان (وعندهم الجفان مكللات) ، فقد ترك شعراء المحدثين هذه الأمور لان ذلك يدل على الجفاء، وكذلك ذكر الطعام، ولكن المتنبي كان يحاول أن يكون بدوياً بين أهل الحاضرة حتى في زيه، وقد عرفه بعض أهل الشام يوم كان في قباء كرابيس وعمامة زرقاء خشنة وزربولين في رجليه متنكباً قوساً عربية وكان يكثر ذكر هذا، ويستعمل التصغير والألفاظ البدوية، وذلك وضع للشيء في غير موضعه (3) . 5 - لا يجوز لشاعر يعرف أقدار الناس أن يمدح الملوك بمدح السوق والسوق بمدح الملوك ويحيل في المعاني ويخطئ في اللغة، ويستبيح لنفسه سرقة معاني الآخرين " حتى لا تكاد تسمع له بيتاً إلا وهو مأخوذ من موضع مشهور " (4) ؛ أما ما عده ابن جني جسارة في ذكر جنون فاتك أو سواد   (1) الشرح 2: 158. (2) الشرح 3: 51، 217. (3) الشرح 2: 94، 3: 168. (4) الشرح 3: 218 - 219. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 كافور فلا يراه الوحيد إلا جفاء بلغ به حد الاستخفاف، فإذا قرا قوله في ذكر الله سبحانه وتعالى: وعرف أنك من همه ... وانك في نصره ترفل قال: أحسب ان المتنبي كان محتاجاً إلى أن يدرس شيئاً في التوحيد فينقبض عن مثل هذه الألفاظ ويعلم ما يجب أن يذكر الله سبحانه وتعالى به (1) . 6 - مجمل القول أن الشعر ثلاثة أقسام: مطرب وهو قليل في شعر المتنبي، ومعجب وله فيه كثير، ومضحك؛ وعند المتنبي قسم يخرج عن هذه جميعاً فلا هو مضحك ولا معجب ولا مطرب مثل قوله: ولمثل وصلك أن يكون ممنعاً ... ولمثل نيلك أن يكون خسيسا ومن تدبر هذه الأحكام عرف أن الوحيد لم يأت فيها بجديد وغنما كان منساقاً مع المقاييس النقدية " الحضرية " في رفض التعمق في المعنى والألفاظ البدوية والألفاظ التي قد تجيء من مصطلحات العلوم والمذاهب، والتعلق بأصول اللياقة الاجتماعية، واعتبار الشعر موسيقى جميلة، وكأنه في كل ذلك يحتذي مذهب ابن وكيع.   (1) الشرح 2: 215 وانظر من أمثلة الجفاء عنده 2: 185. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 أبو محمد الحسن بن علي بن وكيع التنيسي (- 393) (1) تعريف موجز بابن وكيع شاعر ولد بمصر ونشأ فيها، غير أن الأخبار التي وصلتنا عن حياته لا تكاد تعرف بشيء من أحواله؛ وهو صاحب كتاب " المنصف للسارق والمسروق في إظهار سرقات أبي الطيب المتنبي "، وفيه يخبرنا أن أبا الحسن المهلبي كان أحد شيوخه وأبو الحسن هذا هو الحسين بن احمد المهلبي صاحب، كتاب في المسالك والمماليك، شهر باسم " العزيزي " لأنه ألفه للعزيز بالله الفاطمي (2) ، وهو ممن اجتمع بالمتنبي أثناء إقامته بمصر، وتوفي سنة 380؛ كذلك كانت له صلة بأبي القاسم علي بن حمزة البصري رواية المتنبي، ومضيفه في بغداد، ولعله لقيه بمصر، إذ أن علي بن حمزة رحل من بغداد وتوفي بصقلية (375) (3) ؛ فابن وكيع قد اتصل بمن عرفوا المتنبي، ولكنا لا نعلم له صلة مباشرة به؛ وهو - فيما يبدو - قد كتب المنصف بعد عام 380 لأنه يترحم فيه على شيخه المهلبي. لم ألف المنصف؟ ويذهب بلاشير إلى أنه ألف ذلك الكتاب انتصاراً لابن حنزابة الذي كان مستاء من المتنبي لترفعه عن مدحه (4) ؛ وقد عاش ابن حنزابة حتى حدود سنة 390، ومعاصرته لابن وكيع قد تبيح شيئاً من هذا التقدير، غير انه ليس فيما وصلنا من كتابه ما يلمح إلى ذلك، وأقوى من هذا أن يقال إن الكتاب كان رد شاعر مغيظ على طبقة من المتعصبين لأبي الطيب، إذ كانت   (1) ترجمته في وفيات الأعيان 2: 104 واليتيمة 1: 372. (2) انظر كشف الظنون: 1665 وينقل ياقوت عنه كثيراً في معجم البلدان. (3) معجم الأدباء 13: 208 - 211. (4) ديوان المتنبي في العالم العربي وعند المستشرقين: 31. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 إقامة المتنبي في مصر قد أوجدت حوله عدداً من الأنصار والمعجبين، وكان لهؤلاء أنفسهم تلامذة يدرسون شعر أبي الطيب، ويذهبون في الإعجاب به مذهباً بعيداً، حتى فضلوه على ما تقدم من الشعراء، وحتى قالوا " ليس له معنى نادر ولا مثل سائر إلا هو من نتائج فكره وأبو عذره، وكان بجميع ذلك مبتدعاً ولم يكن متبعاً، ولا كان لشيء من معانيه سارقاً، ل كان إلى جميعها سابقاً " (1) ، وليس من الضروري أن يقول المعجبون هذا كله، وغنما هم خلقوا من حول ابن وكيع جواً لا يستريح غليه، ولا يلائم ما يرجوه لنسفه من شهرة في الشعر. موقف المعجبين بابي الطيب ذو شقين وتنقسم القضية التي أثارها المعجبون حول أبي الطيب في شقين: أولهما أنه افضل من كل من تقدمه؛ والثاني أن معانيه مخترعة؛ ومع ان ابن وكيع لا يسلم بالشق الأول، فانه يرى أن الرد على الثاني أولى: " فكيف بالإغضاء عن نفيهم عنه ما لا يسلم منه بدوي أو حضري، جاهلي أو إسلامي من استعارة الألفاظ النادرة، أو الأمثال السائرة؟ وهذه دعوى لابد من كشف أسرارها وإظهارها، وهي بالعناية أولى من الأولى " إذ لو سلم بها ابن وكيع، لكانت معجزة أو شبيهة بها، وكان من حق أبي الطيب، لو تيقن صدقها، إن يتخذها آية تصحح ما ادعاه من النبوة (2) ؛ وكأنما كان ابن وكيع يعتقد أن إثبات كثرة المسروق في شعر المتنبي هو رد ضمني على الشق الأول من القضية، لان إثبات الاتكاء الكثير على معاني الآخرين سيفقد أنصاره حماستهم لتقديمه على كل شاعر سابق.   (1) المنصف، الورقة 2 أ. (2) نفسه، 2أ - 2 ب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 أقسام السرقات وقبل أن يأخذ ابن وكيع في الكشف عن سرقات المتنبي، يوطئ لذلك بمقدمتين: أولاهما تتناول البحث في السرقات الشعرية عامة، والثانية تتناول فنون البديع. وهو يقسم السرقات في عشرة أنواع، ثم يجعل لهذه العشرة أضداداً تساويها، فيكون التصنيف شاملاً لعشرين نوعاً، وهذه هي الأنواع العشرة الحسنة: 1 - استفاء اللفظ الطويل في الموجز القليل. 2 - نقل اللفظ الرذل إلى الرصين الجزل. 3 - نقل ما قبح دون معناه إلى ما حسن مبناه ومعناه. 4 - عكس ما يصير بالعكس ثناء بعد أن كان هجاء (1) . 5 - استخراج معنى من معنى احتذي عليه وان فارق ما قصد به إليه. 6 - توليد معان مستحسنات في ألفاظ مختلفات. 7 - مساواة الآخذ من المأخوذ منه في الكلام، حتى لا يزيد نظام على نظام، وإن كان الأول أحق به لأنه ابتدع والثاني اتبع. 8 - مماثلة السارق المسروق منه في كلامه، بزيادة في المعنى ما هو من تمامه. 9 - رجحان السارق على المسروق منه بزيادة لفظه على لفظ من اخذ عنه. وما عليك في تبين الأضداد إلا أن تعكس فتقول في النوع الثالث مثلاً " نقل ما حسن مبناه ومعناه إلى ما قبح مبناه ومعناه " وتقول في النوع العاشر:   (1) وقع خطأ هنا في الاصل، ولكن المقارنة مع النوع الرابع من الأنواع المضادة يبين أن ما أثبتناه هو الصواب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 " اخذ اللفظ المدعى ومعناه معاً ". ويقول ابن وكيع: إن هذا القسم الأخير هو أقبح أقسام السرقات، كقول امرئ القيس: وقوفاً بها صحبي علي مطيهم ... يقولون لا تهلك أسى وتجمل أخذه طرفة فقال: وقوفاً بها صحبي علي مطيهم ... يقولون لا تهلك أسى وتجلد " وقد زعم قوم أن هذا من اتفاق الخواطر وتساوي الضمائر، وبازاء هذه الدعوى ان يقال بل سمع فاتبع، والأمران سائغان، والأولى أن يكون ذلك مسروقاً " (1) . وخلاصة هذه المقدمة أن في السرقة ما يوصف بالجودة وما يوصف بالرداءة، وأنها شيء عام في الشعر قديماً وحديثاً يكاد لا يعرى منها شاعر، وأن تلك هي حال المتنبي حين يجيء دوره للحديث عن سرقاته. ومصادر أبن وكيع في هذا القسم مصادر عامة، أعني أنه ينقل مما تردد في كتب الأدب والنقد السابقة من أمثلة السرقات، غير أنه مطلع بوجه خاص على أبن قتيبة والصولي، وكتاب السرقات لأبن أبي طاهر. فنون البديع ومتابعة قدامة والحاتمي وأما المقدمة الثانية التي تتناول فنون البديع، فهي إقرار صريح بان الناقد الأدبي محتاج إلى أن يعرف هذه الفنون كي يحكم على جمال الاستعارة وصحة المقابلة ويميز الإشارة وغير ذلك؛ وهذه سنة أوجدها قدامة، وسار عليها الحاتمي في الحلية وفي الحالي العاطل وفي الموضحة، وتعلق بها النقاد تعلقاً ضيق الشقة الفاصلة بين النقد وعلم البلاغة، ولكن حاجة ابن وكيع إليها أثناء التطبيق كانت ضئيلة. وقد صرح ابن وكيع عن غايته من الحديث في أنواع البديع بقوله: " وقد قدمت لك من هذه الأقسام ما تقوى به معرفتك بنقد   (1) المنصف، الورقة: 8 ب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 الشعر، فائقه ومقصره، وأطلعتك على سرائر رذله ومتخيره، لتفاضل بين الشعر الأصيل وتنطق بعدل " (1) . ومن الطريف أن نجد أبن وكيع يتعلق هنا بتحديد أبن أبي عون لأقسام الشعر " أما أقسام الشعر فهي أما مثل سائر أو تشبيه باهر أو استعارة لفظها فاخر " (2) ، فإذا تجاوزنا هذه اللفتة وجدنا فصله عن البديع مستمداً من ثلاثة مصادر: كتاب البديع لأبن المعتز وكتاب نقد الشعر لقدامة، فهو يورد أولاً مصطلحات أبن المعتز ثم يشفعها بما جاء به قدامة ويخلط ذلك بنقل عن مصدر ثالث لا يسميه وإنما يقول " ذكر ذلك بعض المحدثين " - والمعني هنا هو الحاتمي وكتابه " حلية المحاضرة " إذ ينقل في هذا الموطن قصة الأخفش حول مصطلح المطابقة، وهي ما أشرنا إليه فيما سبق؛ ولا يعجبه المصطلح أحياناً فيحاول أن يبتكر مرادفاً له، فلفظ التسهيم في نظره غير دال، ولذا فهو يسميه " المطمع " (3) وينتقد " التتبيع " ويقول أنه أدخل في باب الإشارة، ويورد الاستثناء ثم يعلق على ذلك بأن أبن المعتز سماه تأكيد المدح بما يشبه الذم (4) . صلته بالحاتمي رغم تجاهله له وموقفه من قضية الكذب في الشعر ولا ندري لم لا يصرح بذكر الحاتمي في كتابه، فإن صورة الحاتمي واضحة في " المنصف "؛ فقد ضلله الحاتمي بمفهوم " الاستعارة " عند ارسطو حين جعلها تعني " الأخذ " (5) لا الفن التصويري، كما أن كثيراً من تعريفاته للفنون البديعية منقول عنه، وكشفه عن المعاني المسروقة في شعر أبي الطيب يلتقي فيه، في كثير من الأمثلة، مع الحاتمي. بل أن تقسيماته لضروب السرقة ينظر إلى ما صنعه الحاتمي، مما   (1) المنصف، الورقة: 18ب. (2) المنصف، الورقة: 11 وأنظر التشبيهات لأبن أبي عون ص 1 - 2. (3) نفسه: 15ب. (4) نفسه: 15 - 16. (5) نفسه: 3أ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 أوردناه قبلاً. غير أنه يخالف الحاتمي في قضية " عذب الشعر أكذبه " فلا يتردد إزاءها، وإنما يقف منها بصراحة موقف قدامة، إذ يقول في الغلو أو الإغراق: " وطائفة من الأدباء يستحسنونه ويقولون أحسن الشعر أكذبه، والغلو يراد به المبالغة؟ بما يدخل في المعدوم ويخرج عن الموجود (وهذا قول قدامة) . وقد أبت طائفة من العلماء استحسان هذا الجنس لما كان خلاف الحقائق وخروجه عن اللفظ الصادق، قال أبو محمد: ما أتوا بشيء لأن الشعراء لا يلتمس من الخيار الصالحين وشهود المسلمين " (1) ؛ وقد كان في مقدوره اعتماداً على هذه القاعدة أن يقبل كثيراً من مبالغات أبي الطيب، وهي كثيرة حقاً في شعره، ولكنه وجد نفسه إزاءها مضطراً إلى إيجاد مقياس جديد: " وللشعراء مبالغتان: ممكنة ومستحيلة، والممكن أحسن عند كثير من الأدباء من المستحيل " (2) مع أنه قبل رأي قدامة قبلاً في أن الغلو خروج عن الموجود إلى المعدوم. الجهد المضني في البحث عن سرقات المتنبي وما الحديث عن السرقات عامة وعن فنون البديع إلا توطئة، فأما غاية " المنصف " الأولى فهي إبراز سرقات المتنبي، وتلك غاية يريد ابن وكيع أن يلتزم بتحقيقها التزاماً دقيقاً لولا انه يخشى إذا هو تغاضى عن عيوب أخرى في شعر المتنبي كالغثاثة واللحن والإحالة أن يقال إنه غفل عنها لقلة تمييزه ولذلك فإنه سينبه إلى تلك العيوب، لئلا تلحق به تلك التهمة؛ ويرسم لنسفه منهجاً في الكشف عن السرقات: 1 - فهو لا يقف عند الأبيات الفارغات والمعاني المكررات المرددات إلا قليلاً لكي لا تظن به الغفلة عنها.   (1) نفسه، الورقة 17أ. (2) نفسه؛ 19ب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 2 - لا يذكر المعاني التي أكثرت الشعراء استعمالها كتشبيه الوجه بالبدر والريق بالخمر. 3 - سيحكم عند كل سرقة ان كان المتنبي قصر في الأخذ أو ساوى فيها المأخوذ عنه او استحق المعنى المسروق دون قائله الاول، منبهاً على علة التقصير أو المساواة أو الزيادة. وفي سبيل الوصول إلى هذه الغاية اتبع لدى التطبيق خطة منظمة، لا تشبه خطة الحاتمي القائمة على التذكر وتداعي الخواطر، وإنما تناول ديوان أبي الطيب قصيدة إثر قصيدة حسب الترتيب التاريخي لنسخة ديوانه المروية؛ وفي هذه الناحية لا يمثل " المنصف " كتاباً نقدياً وحسب، بل هو يفيدنا فائدة جليلة في تحقيق الترتيب الذي رآه للديوان، وهو مختلف عن الصورة التي نشرها الدكتور عبد الوهاب عزام في مواضع؛ يقول ابن وكيع: " أول شعر قاله أبو الطيب: بأبي من وددته فافترقنا ... وقضى الله بعد ذاك اجتماعا وافترقنا حولاً فلما التقينا ... كان تسليمه علي وداعا " وبعد ان ينقد البيتين، يقولك " يتلو هذين البيتين ثلاثة أبيات وهي: أبلى الهوى أسفاً يوم النوى بدني ... (1) . . . . . (الأبيات) وهكذا يستمر في إيراد القصائد على تواليها في النسخة التي كانت بين يديه؛ ولكن النسخة التي وصلتنا من المنصف مضطربة الأوراق، ومع أن إعادة ترتيبها ممكنة فإنها لا تزال تشكو نقصاً آخر، إذ إنها لا تمثل إلا شعر المتنبي حتى جزء من مرحلة السيفيات؛ فكأن هذه النسخة ليست إلا قسماً صغيراً من الكتاب؛ وعلى الورقة 147 ب إشارة إلى أن الجزء الأول قد كمل وبدا   (1) المنصف، الورقة 19أ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 الجزء الثاني، ولا ندري أهذه تجزئة أصيلة أم إنها من عمل النساخ، ولم يبق مما يمثل هذا الجزء الثاني إلا ورقات قليلة، كذلك نلاحظ أن ابن وكيع بعد بلوغه السيفيات، لم يعد يقف عند كل قصيدة على حدة بل أخذ يستخرج من كل واحدة أبياتاً وينقدها بسرعة، دون أن يشير إلى نقلته لقصيدة تالية. وعلى الرغم من ذلك كله فإن ما تبقى من الكتاب يستطيع أن يقنعنا بان ابن وكيع قام بجهد مضن وعمل منظم، واستطاع أن يعرض علينا مبلغ محفوظه من الشعر، وهو كثير، ومبلغ اهتدائه إلى المعاني المتشابهة على نحو يفوق به الحاتمي، وكل من تمرسوا بدراسة السرقات الشعرية على نحو يفوق به الحاتيم، وكل من تمرسوا بدراسة السرقات الشعرية حتى عصره، ولكن بعد هذا الجهد المضني يصل القارئ إلى نتيجة محزنة: وهي أن شعر المتنبي (وربما كل شاعر في الكون) نوعان: شعر فارغ لا يوقف عنده، وشعر غير فارغ وهو يمثل المعاني المشتركة بينه وبين غيره من الشعراء، وأن هذا الاشتراك هو الذي يسمى سرقه، وهي ذات مستويات متفاوتة، فبعضها قائم على التقصير وبعضها على المساواة وبعضها على التفوق. قصور المنهج القائم على تبيان السرقات عن خدمة النقد ولسنا نقول إلى ابن وكيع وإضرابه قد أسرفوا في الميل إلى إظهار محصولهم من الحفظ لدى الكشف عن الشرقات، ولا أنهم تعسفوا في نسبة السرقة إلى الشعراء، إذ لو قلنا هذا القول لكنا نقر هذا المنهج النقدي، ونقتصر في تعقبه على بعض نتائجه؛ ولكنا نقول أن انتحاء هذا المنهج كان ضلالاً بعيداً في تاريخ النقد الادبي، واستهلاكاً لجهود كان من الممكن أن تثمر فيما هو أجدى واجدر. ذلك أن الانهماك في تبيان السرقة قد حجب عن أعين النقاد أموراً هامة؛ كيف يستطيع ابن وكيع أن يرى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 مثلاً قيمة السخرية في قول أبي الطيب يصف رجلين قتلا جرذاً (1) ، وهو يفتش عن المعاني المسروقة فإذا لم يجدها قال " وبعد ذلك أبيات في جرذ قتله رجلان لو كان طرحها من ديوانه لاستغنى عنها، ولا يلتمس لمثلها استخراج سرقة لفراغها " (2) ، وهل من الممكن أن نبحث من أين جاء المتنبي بقوله: لا افتخار إلا لمن لا يضام ... مدرك أو محارب لا ينام ونحن نرى أن هذا تعبير عن مذهب في الحياة، مستقر في نفسه شاغل للبه فهو يملك عليه وجدانه، ذلك إننا إذا ذهبنا نبحث عن مصدر هذا المعنى فكأننا نقول أن نفس الشاعر لا تصلح أن تكون منبعه الطبيعي، وكأننا نحرم تجربته من أن تتجسد طواعية واختياراً في لون من ألوان التعبير دون إلمام بما قاله الآخرون؛ وإذا سلمنا بان اتساع دائرة المشاركة في المعاني قد جعل معاني الشعر الحقيقة بالنظر - كما يزعم ابن وكيع - هي التي تداولها الشعراء فيما بينهم في ألوان من الصياغة، فإن انصراف الجهد إلى تعقبها هو قصر النقد على البيت والبيتين، أي على جزئيات بأعيانها، وهو نزع للمعنى من سياق القصيدة، وصرف النظر عن قيمته في ذلك السياق، وإبعاد للنقد عن كل ما من شانه ان يقربه من تصور أي وحدة في الأثر الشعري الكامل، وليس عمل الناقد في هذا المقام إلا كعمل من يتناول أوراق الزهرة فيأخذ ينزعها واحدة إثر واحدة قائلاً على سبيل التفاؤل " نعم - لا، نعم لا " - أو (فارغ - مسروق، فارغ - مسروق) ، ولكنه لا يستطيع أن يدرك شيئاً من جمال الزهرة حال تناسق أوراقها، ولا تقع جريرة هذا   (1) المنصف، 19 ب. (2) يقول ابن وكيع إن المتنبي أخذه من قول ابن دريد: ولا فخر إلا من فخر من لم يكن له ... أمير عليه في الأمور مقدم كريم حمته نعمة السيف أن يرى ... يمن عليه بالصنيعة ضيغم ولكن أبا الطيب جمع اللفظ الطويل في الموجز القليل (المنصف 36/أ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 الاتجاه على ابن وكيع، غير أن النقاد قبله كانوا يجمعون عدداً من أبيات الشاعر، أما هو فإنه وقف عند كل قصيدة، فكأنه لم يحكم على معان متناثرة عند الشاعر، بل حكم على القصيدة بمقياس واحد لا غير هو السرقة، وجعل القارئ يظن أن هذا المقياس هو مدخله الوحيد لنقد أي عمل فني. قبول أبي تمام والبحتري معاً لرفض المتنبي وحين تناول ابن وكيع شعر المتنبي بالنقد، كان النقد الأدبي قد نقل دائرة اهتمامه الكبرى، وكانت هذه النقلة في أكثرها على يد الحاتمي؛ وبيان ذلك أن نقول: ان الصراع في النقد قبل الحاتمي كان قائماً حول المفاضلة بين أبي تمام والبحتري يتعصب لهذا فريق ولذاك فريق، فلما جاء الحاتمي، ووجد شخصية أدبية كشخصية المتنبي تستحق الهجوم في الأقل (مع التسليم بأنه شاعر كبير) ، قبل أبا تمام والبحتري قبول توفيق، وعدهما شاعرين كبيرين يلتقي تقديره عندهما دون تفرقة كبيرة بينهما، ووضع المتنبي إزاءهما ليقول إنه عالة عليهما فيما أحسن فيه، ولم يكن الناقد يحس حينئذ: لا بغرابة الجمع بين أبي تمام والبحتري ولا بمدى الزيف في موقعه من المتنبي لو ظهر على أثر المتنبي شاعر رابع كبير يستقل بطرقة لم يألفها ذوقه كثيراً من قبل، وإذن لكان - قياساً على ما سبق - يضم المتنبي إلى صف أبي تمام والبحتري ليتفرغ لمنازعة الشاعر الرابع المفترض، وهكذا يظل النقد يعبر عن ضيق صدره بكل مظهر جديد يرى فيه أي تزحزح عن مستوى الذوق المألوف مثلما ضاق صدر الآمدي بابي تمام عندما كان النقد يدور حول اثنين لا اكثر. ولقد علل ابن وكيع مغالاة المعجبين بابي الطيب في تفضيله بقوله: " والنفوس مولعة بالاستبدال والنقل، لهجة بالاستطراف والملل، ولكل جديد لذة، فلما كان شعره أجد فيهم عهداً، كانوا له أشد وداً " (1) ، ونسي أن هذا التعليل ذو حدين، وان النفرة من المذهب الجدي   (1) المنصف، الورقة 2 ب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 أيضاً تعني الخوف من توسيع دائرة الذوق أو الإحجام عنه تمسكاً بالمألوف المعروف، وذلك لا يكلف صاحبه شيئاً، لأنه لا يضطره إلى جهد جديد. غير أن ابن وكيع رضي أن يقع في أسر الحاتمي، أو في ذلك المجال الذي تحول فيه الذوق إلى أخذ أبي تمام والبحتري معاً، جملة لا تفصيلاً، ليقول أنهما أشعر من المتنبي: (لكنه بعد هذا لا يستحق التقديم على من هو أقدم منه عصراً وأحسن شعراً كابي تمام والبحتري واشباهما " هذا مع الإقرار - كما أقر الحاتمي - بأنه شاعر كبير: " عن القوم لم يصفوا من أبي الطيب إلا فاضلاً، ولم يشهروا بالتقريظ منه خاملا، بل فضلوا شاعراً مجيداً، وبليغاً سديداً ليس شعره بالصعب المتكلف ولا اللين المستضعف، بل هو بين الرقة والجزالة، وفوق التقصير ودون الإطالة، كثير الفصول، قليل الفضول " (1) ؛ وفي سبيل أن يثبت تدني منزلة المتنبي عن الطائيين أكثر - مثلما أكثر الحاتمي في المجلس الرابع من الرسالة الموضحة - من تبيان المعاني التي رسقها منهما بخاصة، وإذا كان البحتري وهو غزير الشعر لم يتجاوز ما سرقه من أبي تمام أربعمائة بيت حسب إحصاء ابن أبي طاهر، فإن المتنبي أربى على هذا العدد أو ساواه فيما أخذه من معاني أبي تمام وحده، فما ظنك بما أخذه من البحتري ومن غيره، هذا المتنبي ليس من المكثرين إكثار البحتري. بيان إسفاف المتنبي بسرقة معاني المغمورين ويمعن ابن وكيع خطوة أخرى وراء ما صنعه الحاتمي حين شاء عامداً أن يورد سرقات لأبي الطيب من شعراء مغمورين لا يدانون أبا تمام (والبحتري) أبداً، ليدل على ان هذا الشاعر كان يتخذ حطبه من أية غابة صادفها في طريقه، فليسمع أصحاب المتنبي الذين يجلون قدر صاحبهم عن السرقة من أبي تمام كيف أنه سرق معاني نصر الخبز أرزي " وأنا اعلم أن الإنكار يقع بي في سرقته من نصر لأنهم إذا كانوا يرغبون به عن السرقة ممن تقدم عصره   (1) المصدر نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 وعظم في النفوس قدره، كانوا ممن قارب عصره ولم يتناقل الأدباء شعره ارغب؛ وهذه الطائفة السامية بقدره، المفرطة في تعظيم أمره، عرفته بعد حظوته وارتفاع صيته ورتبته، ولم تعرفه وهو دقيق الخمول، وهو بمنزلة المجهول، وقد كان زمانه في هذه الحال أطول مسافة من زمانه في ارتفاع الحال ووجود المال الذي شهر اسمه، وأبان لهم فضله وعلمه " (1) . محاولة الربط تاريخياً بين المتنبي والخبزرزي ويخشى ابن وكيع أن يتهم هنا بالافتئات، فيسند إلى علي بن حمزة البصري رواية تدل على أن المتنبي كان في الدور الأول عالة على معاني الخبزرزي، وانه كان يحاكي قصائده، فيقول: " وأنا أورد عليك من خبره ما خبرني به أبو القاسم علي بن حمزة البصري - وكان من المجردين في صحبته والمغرقين في صنعته - ذكر انه حضر عند أبي الطيب وقت وصوله من مصر إلى الكوفة، وشيخ بحضرته فيه دعابة لا تقتضيها منزلة أبي الطيب في ذلك، قال: فرأيت أبا الطيب محتملاً لما سمعه، فقال له فيما قال: يا أبا الطيب، خرجت من عندنا ولك ثلاثمائة قصيدة، وعدت بعد ثلاثين سنة ولك مائة قصيدة ونيف من القصائد، أفكنت تفرقها على المنقطعتين من أبناء السبيل؟ فقال له: ألا تدع هزلك؟ قال: فأخبرني عن قصيدتك الشاطرية التي خرجت من أجلها إلى البصرة، حتى أظهرت فيها معارضتك الخبزرزي لم أسقطتها؟ فقال: تلك هفوات الصبا؛ قال: فسألت الشيخ: أتحفظ منها شيئاً؟ قال: فأنشدني أبياتاً عدة، قال أبو القاسم: فأمهلت أبا الطيب مدة حسن معها السؤال وخفي المقصد، فقلت له: أدخلت البصرة قط؟ قال: نعم، قلت: فأين كنت تسكن؟ فخبرني عن منزل أعرفه، كان الخبزرزي منه على أدوار يسيرة، أربع أو   (1) المنصف، 29 ب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 خمس، فعلمت بان الشيخ قد صدق " (1) . ولا يضر المتنبي ان نتقبل هذه الرواية كاملة دون تشكيك في شيء منها، فإن دلالتها الهامة في نظرنا هي أن المتنبي ربما مشى في صغره وراء أضواء كاذبة، ولكنه لما نضج وعرف معنى الشعر الصحيح الحقيق بالخلود لم يتورع عن أن يسقط من شعره أكثره. غير أن الأرقام العددية فيها، لو شئنا أن نعدها صحيحة لا يقصد منها المبالغة لما أسعفنا على ذلك حقيقة القصائد الثابتة في ديوان المتنبي، فنحن نجد من شعره منذ ارتحل إلى ديار الشام حتى عودته من مصر إلى العراق ما يبلغ 260 قصيدة ومقطعة، أو شيئاً قريباً من ذلك، فإذا كان قد قال ثلاثمائة قصيدة قبل أن يرتحل إلى الشام فمعنى ذلك أن ما قاله بعد رحلته مقارب لما قاله إقامته في الشام ومصر - وكلها سنوات مهيأة لقول الشعر - امتدت قرابة ثلاثين سنة، بينا لا تتجاوز سنوات الشعر في العراق قبل رحيله خمس سنوات، فهل يعقل أن يكون ما طرأ على المتنبي من تغير مفترض جعله يقول في ثلاثين سنة قدر ما قاله في خمس سنوات؟ ذلك أمر مستبعد. متابعة الحاتمي في إثبات ضعف المتنبي في اللغة ويقع ابن وكيع في مجال الحاتمي حين يحاول ان يقتفي خطواته في إثبات ضعف المتنبي في اللغة؛ فيعلق على قول المتنبي " أذهب للغيظ " بان افعل التفضيل لا يجوز من " أذهب " وإنما يجوز " اشد إذهاباً للغيظ " ويدلل على ضعفه في العربية برواية يسندها إلى شيخه أبي الحسن المهلبي، قال المهلبي: " حضرته في مجلس لبعض الرؤساء، وجرت مسألة في المذكر والمؤنث فقلت: قد يؤنث المذكر إذا نسبت لمؤنث (مثل: كما سرقت صدر القناة من الدم) فقال: من قال هذا؟ قلت: سيبويه؟. فقال: لا اعرف هذا ولعله مذهب البصريين ولا اعمل على قولهم، قال: فقلت: هذا في كتاب   (1) المصدر نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 ابن السكيت في المذكر والمؤنث، فقال: ليس ذلك فيه، فأخرجته من خزانة الرئيس الذي كنا عنده، فلما قرأه قال: ليس هذا بخط جيد، أنا اكتب خيراً منه، فقلت: ما جلسنا للتخاير بالخطوط، فانقطع في يدي " (1) . ويريد ابن وكيع ان يسوغ انصرافه إلى الكشف عن أخطائه في اللغة مع انه ليس أمراً داخلاً في منهجه العام، ولهذا يحدثنا أن موقفه ذلك كان أيضاً رداً على المتعصبين الذين ينكرون الخطأ اللغوي على المتنبي، يقول: " وأنا اعرف رجلاً تزيد محبته أبا الطيب على محبته أمه وأباه وقد ذكره فقال: أما اللغة فكان إماماً لم تضرب العرب بعصاً إلا وعنده منها خبر، وأما الشعر فإنه لسان الزمان لا ينطق أو يستأذنه، وأما النحو فهو فيه على مذهبه في النحو نحوي؟ " (2) . إيهامه بالموضوعية واختلافه في ذلك عن الحاتمي غير انه يخالف الحاتمي في انه اقل منه اندفاعاً وانفعالاً، يتناول الأمور في هدوء يوهم بالموضوعية ويحاول أن يقصر حديثه على السرقة، ولذا تجده حين يروي قول المتنبي " وإن ظنوني في معاليك تظلع " يكتفي بأن يشير إلى موضع الأخذ من بيت لأبي تمام (3) ، ولكنه لا يوضح موقفه من هذه الاستعارة، كما وضحها الحاتمي.   (1) أورد ابن وكيع هذه القصة في الورقة 32 - 33، ثم باختلاف يسير في الورقة 160 - 161 وفي الموضع الثاني يذكر أن المجلس كان عند الروذباري، ويزيد تفصيلا يبين أن في الرواية حذفاً يشوه موقف المتنبي، ذلك لأنه يقول في الموضع الثاني: " فأحضرنا الكتاب بخط بعض العلماء المعروفين وسمينا له كاتباً " فكأن المتنبي حين قال: " ليس هذا بخط جيد " كان ينكر أن يكون للكاتب الذي سموه، وأما قوله " أنا لا أكتب خبراً منه " فكلمة يبدو عليها الوضع لمجرد الإضحاك، من سوء الإحراج الذي زعموا تورطه فيه. (2) المنصف، الورقة 160 ب - 161/ أ. (3) المنصف، الورقة: 43/ أ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 تشدده في فهم بعض الشعر ثم هو يتشدد اكثر من الحاتمي في التضييق من حدود الفهم للمعنى، ومن أبرز الأمثلة على ذلك تعليقه على قول المتنبي: ورد إذا ورد البحتري شارباً ... بلغ الفرات زئيره والنيلا يقول: " وتعظيم زئيره جيد، وليس لصوت زئيره في الماء إلا ما له في البر مع عدم الماء، فكيف اقتصر على ذكر البحيرة والفرات والنيل، أتراه لا يسمع إلا في ماء " (1) ، وهذا تضييق في الفهم، فإن وحدة الصورة المائية على جمالها في البيت لا تعني أن زئير الأسد لا يسمع إلا في الماء، ولكنه إذا زأر عند بحيرة طبرية وصل صوت زئيره - في البر - حد الفرات شمالاً والنيل جنوباً. ضيقه بالمغالاة التي تمس الناحية الدينية وهذا الضيق يتملك ابن وكيع أيضاً إزاء الأبيات التي يلمح فيها شيئاً من المغالاة يمس الناحية الدينية مثل قول المتنبي: يا أيها الملك المصفى جوهراً ... من ذات ذي الملكوت أسمى من سما نور تظاهر فيك لاهويته ... فتكاد تعلم علم ما لن يعلمنا يقول في التعليق عليه " هذا مدح متجاوز، وفيه قلة ورع وترك للتحفظ لأنه جعله ذات الباري وذكر انه قد حل فيه نور إلهي " ولكن ابن وكيع نفذ إلى نقد دقيق للبيتين، فإن الألوهية التي حلت في الممدوح تجعل قوله " فتكاد لهم " - باستعمال لفظ المقاربة - قد ضيعت قيمة البيت الاول، والشعراء يبلغون بممدوحيهم عن طريق نسبة الحدس اللطيف إليهم أكثر مما بلغه المتنبي عن طريق إحلال الألوهية في ممدوحه (2) . ويقف وقفة مشابهة   (1) الورقة 27/ أ. (2) انظر الورقة 26/ ب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 عند قول المتنبي: أي محل ارتقي ... أي عظيم اتقي وكل ما قد خلق الله وما لم يخلق ... محتقر في همتي ... كشعرة في مفرقي فيقول: " هذه أبيات فيها قلة ورع؛ احتقر ما خلق الله - عز وجل - وقد خلق الأنبياء والملائكة والصالحين، وخلق الجن والملوك والجبارين، وهذا يجاوز في العجب الغاية، ويزيد على النهاية؛ وقد تهاون بما خلق الله وما لم يخلق فكأنه لا يستعظم شيئاً مما خلق الله، وهو من خلق الله عز وجل الذي جميعه عنده كشعرة في مفرقة، وهذا مما لا احب إثباته في ديوانه لخروجه عن وجه الكبر إلى حد الكفر " (1) . نقده للمتنبي لأنه عاب الخمر، ونقضه لروح التدين التي اصطنعها قبلا ومن الطريف أن نجد هذا الناقد المتحرج يهاجم المتنبي دفاعاً عن الخمر، فالمتنبي أكره على الشرب ذات مرة، ثم لما عاد إلى بدر بن عمار في الصباح أراده على الصبوح فاعتذر وقال (2) : وجدت المدامة غلابة ... تهيج للقلب أشواقه تسيء من المرء تأديبه ... ولكن تحسن أخلاقه وانفس مال الفتى لبه ... وذو اللب يكره إنفاقه وقد مت أمس بها موته ... وما يشتهي الموت من ذاقه فهو يعبر عن مذهب خاص في نظرته إلى الشراب، ولكن ابن وكيع، وكان مولعاً بالخمر، لا يعجبه هذا الموقف، فهو يعلق على البيت الثالث بقوله:   (1) الورقة 48/ ب. (2) ديوانه: 145 (نشر الدكتور عزام) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 " ولا اعرف شيئاً دعا الناس إلى محبة الشراب إلا ما نعلمه من إنفاق العقل الذي إذا ذهب الليلة عاد غداً، وقد أوجد ربحاً من السرور تنتهز فرصته وتحلو لذته، فقد كره أبو الطيب ما احبه الناس، هذا مع فضائل يكثر عددها، وتتواتر مددها، منها ما يفعله الفرح في الجسم من زيادة اللحم والدم؟. وربما بلغ السكر بالشارب العاقل إلى غاية لا ترضى لصغار الغلمان وخساس العبدان، ولكن لها ساعة تقل هذه البلايا في جنبها، وتحمل على معاودة شربها، وهي الحان التي كرهها أبو الطيب " (1) . وحسبك أن يبلغ النقد الأدبي حد التدخل في هذه الشئون، التي ينكر الناقد فيها على الشاعر تجربته الذاتية، ويحاول أن يضع هو تجربته الخاصة موضعها لتكون مقياساً للآخرين. الشاعر مطرب ولا يعيبه عدم معرفة اللحن ومن كانت هذه حاله لا نستكثر عليه أن يضيق أيضاً غاية الشعر جملة فيقول: " وأيضاً فإن أشعار المحدثين لا يراد منها استفادة علم، وغنما تروي لعذوبة ألفاظها ورقتها وحلاوة معانيها وقرب مأخذها؟ وغنما تكتب أشعارهم لقربها من الإفهام، وأن الخواص في معرفتها كالعوام، فقد صار صاحبها بمنزلة صاحب الصوت المطرب يستميل أمة من الناس لاستماعه، وان جهل اللالحان وكسر للأوزان، وقائل الشعر الحوشي بمنزلة المغنى الحاذق بالنغم غير المطرب الصوت، يعرض عنه إلا من عرف فضله، على انه إذا وقف على فضل صنعته لم يصلح لمجالس اللذات إنما يجعل معلماً للمطربات من الفتيات يقومهن بحذقه؟ " (2) ؛ وهذا حكم يدل على نزول الشاعر على روح العصر، فما دام الناس لا يمكن أن يفقهوا الغوص على المعاني، والأساليب التي تنتحل جزالة البداوة (وينتقصها ابن وكيع بتسميتها الشعر الحوشي) فليقدم لهم الشاعر شيئاً سهلاً بسيطاً فيه عذوبة   (1) الورقة 134 - 135. (2) الورقة: 39/ ب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 في اللفظ ورقة وحلاوة وقرب مأخذ؛ ومن الغريب أن يكون صاحب هذا الموقف ممن يقدمون أبا تمام. على أن التشبيه الذي استغله ابن وكيع هنا ذو دلالة قيمة: فالشاعر الذي يريده جمهور النصف الثاني من القرن الرابع المطرب الذي لا يعرف قواعد الألحان، ولكن صوته جميل، والشاعر الآخر كالملحن الذي لا يجمع مع معرفته بالألحان صوتاً جميلاً، وقد قلت حاجة الجمهور إلى الملحن وأصبحت مستغنية بالمطرب، " ولا سيما مع زهد الناس في الأدب في هذا العصر " (1) ، ولأول مرة نجد النقد يتطلب من الشاعر ان يلبي الذوق العام، لا ما أقره العرب - كما فعل الآمدي - ولا ما تريده الطبقة المثقفة - كما نلمح عند قدامة وابن طباطبا والحاتمي. ما ابعد " المنصف " من الإنصاف ذلك هو ابن وكيع في مجمل مذهبه النقدي، ونحن إذا استثنينا سلطان الحاتمي على تصوره للسرقات وجدنا مصادره في هذا القسم من كتابه تضم روايته عن ابيه، وما قراه في رسالة ابي العباس النامي، ومروياته عن شيخه المهلبي، وبعض قراءاته لشروح ديوان المتنبي، ومن بينها شرح يرى في تفسيرات صاحبه عقلية نحوية (2) ، ولعله يشير هنا إلى ابن جني. أما فيما عدا ذلك فإن أكثر نقده دراسة مستأنية لكل قصيدة في نسخة خاصة من ديوان أبي الطيب. ولكل ما سبق لسنا نستغرب ان يقول ابن رشيق في المنصف: " ما أبعد الإنصاف منه " (3) وان نجد ابن جني يؤلف " النقض على ابن وكيع في شعر المتنبي وتخطئته " (4) ؛ وأن يصفه ابن القارح بأنه " حاف على المتنبي " (5) .   (1) الورقة 40/ أ. (2) انظر مثلا الورقة 113/ ب. (3) العمدة 2: 216. (4) معجم الأدباء 12: 113. (5) الصبح المنبي: 265. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 ولسنا نقول إن ابن وكيع لم يدفع بالنقد الأدبي إلى الامام، ولكنا نقول إنه كان محكوماً في نقده بمماحكات المعجبين والأنصار، مقيداً بكونه شاعراً ذا مذهب في الشعر والحياة مخالف لمذهب أبي الطيب، مغيظاً بسبب عدم التوازي في الشهرة، ولذلك أقام مقاييسه على نظرة متفاوتة، فهو مثلاً يعذر أبا نواس إذا اخطأ؟ لأنه مطبوع لا يطيل في شعره تكرير نظره ولا يكد فكره، إلا انه لا يعذر من لا تظهر له قصيدة إلا في الزمان الطويل (1) ؛ ولكن من ذا الذي منع ابا نواس من أن يكرر النظر ويصلح الخطأ؟ وكيف يكون موقف ناقد يبذر التسامح هنا ويحرمه هناك، والخطأ موجود في الحالين؟ ان ابن وكيع بحاجة إلى من يسامحه في انتحائه هذا المذهب النقدي. القاضي علي بن عبد العزيز الجرجاني (- 392) اشتداد المعركة حول المتنبي لم تهدا العاصفة النقدية حول المتنبي، فقد رأينا ما أثاره شرح ابن جني من نقد وردود، ثم ما أثاره " المنصف " لابن وكيع من معاودة ابن جني للكتابة في الموضوع نفسه، ومضى النقاد في ذلك شوطاً آخر فكتب أبو الحسن احمد بن محمد الأفريقي المعروف بالمتيم (2) كتابه " الانتصار المنبي على فضل المتنبي " وبقية الانتصار وكتاباً ثالثاً سماه " التنبيه على رذائل المتنبي " (3) وهذا الموقف ربما أشار إلى محاولة في التوسط والإنصاف. وكتب حمزة بن محمد الاصفهاني رسالة في " كشف عيون (4) المتنبي ". وهذه الكتب المذكورة   (1) انظر المنصف الورقة 27/ أ. (2) لم تذكر المصادر سنة وفاته، رآه الثعالبي ببخاري (انظر معجم الأدباء 4: 244 والفوات 1: 133 والوافي 8 الورقة: 70) . (3) الصبح المنبي: 269. (4) كذا وإذا قرئت " عيوب " كان اسم الكتاب ذا دلالة عكسية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 لا تزال في صدر الغيب وغنما نذكرها استكمالاً للصورة العامة، دون أن نستطيع الحكم على ما فيها (1) . ظهور الوساطة في المعركة وعلاقتها بما ألف حول المتنبي وقد توحي هذه المؤلفات بان الجو كان صالحاً لظهور كتاب " الوساطة " ليكون بمثابة التوفيق بين الطريفين، والاصطلاح بين الخصمين، ولكنا لسنا على يقين من أن هذه المؤلفات جميعاً سبقت " الوساطة " في الظهور؛ كل ما يمكن ان نرجحه أن رسالة النامي وجبهة الأدب للحاتمي ثم الموضحة، ظهرت قبل كتاب القاضي الجرجاني، وقد نضيف إلى هذه الرسائل رسالة الصاحب بن عباد، لان الجرجاني حين اخذ يعد ما أورده خصوم المتنبي من عيوب ادرج جميع ما أورده الصاحب على نحو يوحي بأنه أطلع على تلك الرسالة؛ كذلك نستطيع ان نرجح بان الجرجاني اطلع على شرح ابن جني لديوان المتنبي، فهو يستشهد بما قاله أبو الطيب حول استعماله " سداس "، وهذا مما كان ابن جني يسأل المتنبي عنه؛ كذلك فإنه حين يقف عند لفظة " مخشلب " يعتذر عنها باعتذار يشبه ما جاء به ابن جني (2) ؛ وإذا صحت نسبة " رسالة في كشف العيون " لحمزة الأصفهاني المؤرخ المعروف فلابد من ان تكون قد ألفت قبل الوساطة لان حمزة توفي سنة 360؛ أما كتب المغربي فلا ندري متى كتبت، وأما رد أبي القاسم الاصفهاني على ابن جني فمن الواضح أن الجرجاني لم يطلع عليه، وأنه مما ألف بعد الوساطة. وأما   (1) لعل من أواخر الكتب التي تحمل اسم " الانتصار " كتاب لابن عبد الغفور الكلاعي الأندلسي من أدباء القرن السابع (انظر إحكام صنعة الكلام: 50 وغيرها) . (2) يقول ابن جني: والمخشلب (والمخشلب) هو الخرز المعروف وليست عربية ولا فصيحة فاستعملها على ما جرت عادة الاستعمال (شرح ابن جني، الورقة: 46) ؛ ويقول القاضي: " غير أني أرى استعمالها وأمثالها غير محظور، لأني أجد العرب تستعمل كثيراً من ألفاظ العجم إذا احتاجت غليه لإقامة الوزن وإتمام القافية، وقد تتجاوز ذلك إلى استعماله مع الاستغناء عنه (الوساطة: 461) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 كتاب المنصف لابن وكيع فقد رجحنا أن يكون مما ألف بعد سنة 380 وإذا كان الجرجاني قد أطلع عليه، فيكون تاريخ الوساطة مما تأخر تأليفه، وهنا قد يجوز لنا أن نفترض أنه ألف بعد وفاة الصاحب، ولدينا في المنصف نص يكاد يتكرر في الوساطة، ففي المنصف عند قول المتنبي: جللاً كما بي فليك التبريح ... أغذاء ذا الرشأ الأغن الشيح " هذا بيت فيه عيوب منها: حذف النون من يكن لأنها قوية بالحركة اللازمة لالتقاء الساكنين، وعيب آخر أنه حذفها مع الإدغام وهذا غير معروف، لأنه قيل في بني الحارث بلحارث ولم يقل في بني النجار بلنجار، وها هو قد قال: فليك التبريح فحذف مع الإدغام، ولم يكن علمه بالعربية طائلاً؟ وفي البيت عيب ثالث: وهو تباعد نصفه من نصفه حتى لا جوار بينهما فضلاً عن المناسبة ولا تعلق لهما بشيء غير المقارنة " (1) وقال الجرجاني: " فمما أنكره عليه أهل العلم واستضعفوه قوله (جللاً كما بي؟ البيت) فقال أهل الإعراب: حذف النون من تكن إذا استقبلها اللام خطأ؟ وأنكر أصحاب المعاني قطع المصراع الثاني عن الأول في اللفظ والمعنى؟ " (2) فإذا لم يكن هذا محصولاً عاماً للنقد الذي دار حول المتنبي في دور مبكر ثم أخذه الجرجاني وأبن وكيع، كل على حدة، فإن أحد الرجلين قد أخذ من الآخر، وليس القول بأسبقية المنصف أحق بالقبول من القول بأسبقية الوساطة في الزمن.   (1) المنصف: 160/ب - 161 كى أ. (2) الوساطة: 441. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 الحاجة ملحة إلى الناقد المعتدل غير أن الكتب التي ألفت قبل الوساطة، إذا لم تستطع أن توحي بأن الجو كان مهيأً للتوفيق والمصالحة، فإنها لا تنفي أن الجو العام - وعلى الأخص جو المجادلات الشفوية - كان خير تربة صالحة لنمو الناقد المعتدل؛ ونحن نستأنس هنا بشهادة القاضي الجرجاني نفسه، فهو رجل مصدق لأنه يحب أن يأخذ بأسباب النزاهة؛ فالجرجاني يحدثنا أنه منذ أن خالط أهل الأدب وجد الناس في المتنبي فريقين، يكاد التوفيق بينهما يعد صيحة في واد: " من مطنب في تقريضه منقطع إليه بجملته منحط في هواه بلسانه وقلبه يلتقي مناقبه إذا ذكرت بالتعظيم، ويشيع محاسنه إذا حكيت بالتفخيم، ويعجب ويعيد ويكرر ويميل على من عابه بالزراية والتقصير، ويتناول من ينقصه بالإستحقار والتجهيل؟ وعائب يروم إزالته عن رتبته فلم يسلم له فضله، ويحاول حطه عن منزلة بوأه إياها أدبه، فهو يجتهد في إخفاء فضائله وإظهار معايبه وتتبع سقطاته وإذاعة غفلاته " (1) . أهل الاعتذار كلا الفريقين كان يحمل للمتنبي اتهاماً، فأهل الانتصار يرفعون المتنبي إلى منصة العصمة، ويخرجونه من نطاق الإنسان الذي يجوز عليه الخطأ، وأهل الإستحقار ينفونه من نطاق الأديب الذي يجوز له الفضل؛ فالموقف يتطلب فريقاً ثالثاً يسمى " أهل الاعتذار "، يردون الشاعر إلى القطيع الإنساني ويعودون به إلى الحظيرة. وقد كان ذلك سهلاً على الناقد إذا كان قاضياً عادلاً، وسهلاً على القاضي إذا كان ناقداً ضليعاً. وكان التوفيق عودة إلى ظلال الهدوء، وإيماناً بالوسط الذهبي في الفضيلة، وإحقاقاً للطبيعة الإنسانية في أرتفاق المحاسن والمساوئ، وعودة إلى مبدأ " ي الرجال المهذب؟ ". ولكن التوفيق يبدأ بالقول: " أي الشعراء لم يغلظ " ويتدرج منه إلى التسليم   (1) الوساطة: 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 بكل الأخطاء التي يوردها الخصوم؛ وبما هو أكثر منها، في سبيل أن يعود هذا الفريق - في حالة من مراجعة الضمير - إلى تقبل ما يسميه فريق الأصدقاء فضائل، دون محاولة إحصائية كالتي حاولها الآمدي، وإنما لإقرار الحق، تكافؤاً كانت النتيجة أو رجحاناً للحسنات أو رجحاناً للسيئات؛ لا فرق، ما دمنا قد وصلنا إلى أن نعترف بكفتي الميزان قائمتين على نحو من التقارب دون انتفاء إحداهما. لماذا نجح الجرجاني في التوسط حيث أخفق الآمدي وقد كان المتنبي نفسه - كما صوره الحاتمي - هو الذي فتح هذا الباب ليدخل منه القاضي الجرجاني، فهو يقول للحاتمي: " فهؤلاء المبرزون في حلبات الشعر السابقون إلى حلو القول ومره والذين وقع الإجماع على تقدمهم في ضروبه وفتحهم ما استغلق من أبوابه ليس منهم إلا من قد طعن على شعره ومن قد أخل بالإحسان مع تناصر إحسانه؟ الخ " (1) ؛ ويقول له في موضع آخر: " من هذا الذي تعرى من الاتباع والاحتذاء " (2) ، ولو لم يكن الحاتمي مأخوذاً بحدة الانفعال لتنبه إلى هذا الذي تنبه له القاضي الجرجاني، وهو موقف نساني ليس من الصعب أن يتنبه المرء له، ولكن ربما كان من الصعب تطبيقه. ولهذا نستطيع أن نقول إن الجرجاني أبدى قدرة فائقة في الموقف النقدي، فكان بذلك جديداً في تاريخ النقد، وبيان ذلك أننا حيث وجدنا النزاع النقدي قائماً حول أديب واحد، أو دائراً في نطاق المفاضلة بين أديبين، فقد طالعنا دائماً العجز عن التوسط بسبب الميل المتأصل في طبيعة الذوق، وقد حاول الآمدي أن يكون منصفاً في الحكومة بين البحتري وأبي تمام فعجز عن ذلك رغماً عنه، وما كان الآمدي إلا معلماً للجرجاني، فنجح الآمدي نظرياً فقط بينا نجح تلميذه في منهجه نظرياً   (1) الموضحة: 84. (2) الموضحة: 143. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 وعملياً. أما في الآراء والنظرات النقدية فإن الجرجاني لم يأت بشيء جديد، وإنما التقت عنده أكثر الآراء والنظرات السابقة فأحسن استغلالها في التطبيق والعرض. المقايسة هي المنهج المفضل لا الموازنة ومثلما كانت " الموازنة " هي مهمة الناقد الكبرى عند الآمدي، كانت " المقايسة " هي المبدأ الكبير في نقد الجرجاني؛ فالناقد الذي يتحرى الإنصاف قبل أن يفرد عيوب شاعر أو حسناته بالتمييز عليه أن يقيسه على ما كان في تاريخ الشعر والشعراء، فلا يستهجن خطأه في اللفظ لأنه قلما تجد شاعراً سلم من هذا الخطأ، ولا يستنكر خطأه في المعنى فكم عدد العلماء من صنوف هذا الخطأ في شعر الأقدمين (1) ، ولا يسقطه بسبب التفاوت في شعره، ولينظر إلى أكابر الشعراء مثل أبي نواس وأبي تمام، وليحكم هل خلا شعرهم من تفاوت (2) . موقف الجرجاني من العلاقة بين الدين والشعر وعلى الناقد أن لا يعيبه بسبب العقيدة الدينية " فلو كانت الديانة عاراً على الشعر، وكان سوء الاعتقاد سبباً لتأخر الشاعر لوجب أن يمحي اسم أبي نواس من الدواوين ويحذف ذكره إذا عدت الطبقات، ولكان أولاهم بذلك أهل الجاهلية ومن تشهد الأمة عليه بالكفر، ولوجب أن يكون كعب بن زهير وأبن الزبعري وأظرابهما ممن تناول الرسول صلى الله عليه وسلم بالهجاء وعاب من أصحابه بكماً خرساً وبكاء مفجمين، ولكن الأمرين متباينان، والدين بمعزل عن الشعر " (3) ، وهذا الفصل بين الدين والشعر موجود من عهد بعيد في تاريخ النقد العربي، ولكن الجرجاني قد وضعه بشكل واضح لا يتحمل لبساً.   (1) الوساطة: 4 - 15. (2) الوساطة: 55 - 81. (3) الوساطة: 64. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 موقف الناقد من الإفراط كذلك ليس للناقد أن يعيب إقبال المحدثين على الإفراط، لا لأن له وحسب رسوماً إذا لم يتجاوزها الشاعر جمع بين القصد والاستيفاء بل لأن المحدثين يقاسون على ما فعله الأقدمون، فقد رويت عنهم أشعار فيها الإفراط والغلو لو تصدى أحد لجمعها لوصفت بالكثرة ثم " وجد من بعدهم سبيلاً مسلوكاً وطريقاً موطأ فقصدوا وجاروا واقتصدوا وأسرفوا، وطلب المتأخر الزيادة واشتاق إلى الفضل فتجاوز غاية الأول؟ " (1) . ولا يغيبن عن البال أن هذه المقايسة لا تعني قبول الخطأ، وإنما يراد منها التوصل إلى الإقرار بان ذلك الخطأ ظاهرة مشتركة موجودة في كل العصور وعند كل الشعراء: " ولسنا نذهب بما نذكره في هذا الباب مذهب الاحتجاج والتحسين، ولا نقصد به قصد العذر والتسويغ، وإنما نقول إنه عيب مشترك وذنب مقتسم فإن احتمل فللكل وإن رد فعلي الجميع؛ وإنما حظ أبي الطيب فيه حظ واحد من عرض الشعراء، وموقعه منه موقع رجل من المحدثين " (2) . مزالق المقايسة وأخطارها وقد تكون المقايسة ذات غناء كبير في الوصول إلى الحق وإنصاف شاعر مظلوم، اعني أنها قد تنفع في استنزال المتطرفين عن تطرفهم، ولكنها تنطوي على مزالق وأخطار، منها التعميم: فإن امرأ القيس إذا قال " فاليوم اشرب " - بتسكين الباء - لم يكن قوله في زمنه ليعد خطأ، وإنما هو خطا بنسبة ما اقتضاه وضع قواعد النحو بحسب الأغلب من بعد، وكذلك قل في جميع الأمثلة التي أوردها الجرجاني في باب الخطأ اللفظي؛ أما المتنبي فإنه يتعلم اللغة التي حددتها القواعد بعد هذه المرحلة التاريخية، فخطوه   (1) الوساطة: 433 وانظر ص 420 - 428. (2) الوساطة: 428. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 ليس من جنس ما عد كذلك في حال امرئ القيس أو ذي الخرق الطهوي أو الفرزدق. وعد " اشرب " وأمثالها يدل على ان القاضي الجرجاني لم تكن لديه أية فكرة عن اختلاف اللهجات وتطور الاستعمال اللغوي. كذلك فإن كثيراً من الأخطاء المعنوية تشير إلى مرحلة حضارية خاصة: مثل " لو يقوم الفيل أو فياله " فنسبة القوة إلى الفيال توهم خالص ممن لم ير فيالاً أو فيلاً؛ ومثل " ولم تذق من البقول الفستقا "، قول لا يصدر إلا عمن سمع بشيء اسمه الفستق ولم يره، وهذا كثير، لا يقاس عليه حال الشاعر الذي اتسعت لديه مجالات الحضارة. ومن أخطار القياس أيضاً الإيهام المنطقي: كقياس حال العقيدة وعلاقتها بالشعر، فلو أن ناقداً قال للجرجاني من موقف مخالف له: أنا لا أطالب الجاهلين بمقاييس دينية إسلامية وهم قد عاشوا قبل الإسلام ولكني أنكر على المتنبي مثلما أنكر على أبي نواس أن يصدمني أحدهما أو كلاهما في شعوري الديني، لكان موقفه طبيعياً منسجماً تمام الانسجام مع مشاعره، ولما صح للجرجاني قياس المتنبي على الجاهليين. كذلك فإن قياسه على أبي نواس غير مقنع، لان ما يصدم المشاعر الدينية أو الوطنية أو العقائدية إجمالاً ليس من قبيل الخطأ في الاستعارة أو الإفراط في الشعر، إذ الأول يتطلب من الناقد جهداً بالغاً للفصل بين مجالين والثاني يتطلب منه لباقة في التوجيه والتفسير. وقل في الناس من يستطيع أن يتجرد من علاقاته المبدأية ليباشر الحكم على الشعر من زاوية فنية خالصة. فالصدمة في هذا المجال لا تعالج بالمقايسة. انتهاء المقايسة عند الباب المسدود وقد تنتهي المقايسة كما انتهت الموازنة عند الحاجز الذي يفصل بين الواقع والغيب، أو بين ما يعلل وما لا يعلل، بل لقد انتهت كلتاهما إلى ذلك حقاً، فوقف الجرجاني، كما وقف الآمدي من قبل - بعد أن أقر يالعيوب في شعر المتنبي وعدد أنواعها من غلط ولحن واختلال وإحالة وتعسف وغثاثة وركاكة وإفراط في الاستعارة وإكثار لذا الإشارية وتعقيد في التركيب؟ الخ؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 وقف وتساءل: كيف يمكن الاتفاق على الجيد من شعر المتنبي؟ أليس في مقدور الخصم أن يلحق بعض ما أعده جيداً بالرديء؟ هذا باب " يضيق مجال الحجة فيه، ويصعب وصول البرهان إليه، وإنما مداره على استشهاد القرائح الصافية والطبائع السليمة التي طالت مارستها للشعر فحذفت نقده وأثبتت عياره وقويت على تميزه وعرفت خلاصه " (1) وهذا عين ما قاله الآمدي أيضاً حين وجد أن بعض الجيد يدق دون تعليل ما فيه من جودة، وقال بأن الناقد هو الذي يرضى قوله في مثل هذا دون أخذ ورد. ولكن الجرجاني اكثر تواضعاً من الآمدي، رجاء البلوغ إلى غايته الكبرى وهي اكتساب ثقة الخصم، ولذلك تراه يعقب على هذه اللفتة الآمدية بقوله: " وما أنكر أن يكون كثير مما عددته من هذه الأبيات ساقطة عن الاختيار غير لاحقة بالإحسان، وان منها ما غلب عليه الضعف، ومنها ما اثر فيه التعسف، ومنها ما خانه السبك فساء ترتيبه وأخل نظمه؟ ولكن الذي أطالبك به وألزمك إياه ألا تستعجل بالسيئة قبل الحسنة، ولا تقدم السخط على الرحمة، وغن فعلت فلا تهمل الإنصاف جملة وتخرج عن العدل صفرا " (2) ؛ ومن هذا يتضح لنا أن مبدأ " المقايسة " يصلح إلى حد لا يتجاوزه، فإذا جاء الدور الإيجابي في فحص الشعر رجاء استكشاف خواصه ومميزاته الفارقة بطلت المقايسة واضمحلت، وهذا ما كان الجرجاني على وعي تام به حين قال: " والشعر لا يحبب إلى النفوس بالنظر والمحاجة، ولا يحلى في الصدور بالجدال والمقايسة، وإنما يعطفها عليه القبول والطلاوة ويقربه منها الرونق والحلاوة؛ وقد يكون الشيء متقناً محكماً ولا يكون حلواً مقبولاً، ويكون وثيقاً وإن لم يكن لطيفاً رشيقاً " (3) ؛ وقد كرر الجرجاني هذا بعبارة أخرى فقال: " وأنت قد ترى الصورة تستكمل شرائط الحسن وتستوفي أوصاف الكمال وتذهب في الأنفس   (1) الوساطة 99 - 100. (2) الوساطة: 100. (3) المصدر نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 كل مذهب، وتقف من التمام بكل طريق، ثم تجد أخرى دونها في انتظام المحاسن والتئام الخلقة وتناصف الأجزاء وتقابل الأقسام وهي أحظى بالحلاوة وأدنى إلى القبول واعلق بالنفس وأسرع ممازجة للقلب، ثم لا تعلم - وان قايست واعتبرت ونظرت وفكرت - لهذه المزية سبباً ولما خصت به مقتضياً (1) ". الناقد البصير هو الذي تحدث عنه الآمدي ليس الجمال في الاعتدال الذي نص عليه ابن طباطبا، وإنما هو شيء وراء متطلب التعليل، لا يدركه إلا الناقد البصير، وليس من الحق أن نسأله إيراد العلة في كل شيء، وهذا هو الناقد الذي أرادنا الآمدي أن نطمئن إلى حكمه، كما نطمئن في كل صناعة إلى حكم أهلها. ويحتاج هذا الناقد عند الجرجاني - كما احتاج عند الآمدي - إلى الرواية (الثقافة) والدراية (المران والدربة) والفطنة ولطف الفكر (الموهبة) ، أو يحتاج بإيجاز إلى " صحة الطبع وإدمان الرياضة " (2) . وبهذا يرتفع الناقد على مستوى الرجل العادي الذي يسهل عليه أن يدرك الوزن والأعراب واللغة، والجناس والمطابقة والبديع والمعنى الغامض؟ الخ، ويكون قميناً بالفصل في شيئين (1) العيب الخفي (2) والجمال الخفي؛ فيهتم " باختلاف الترتيب واضطراب النظم وسوء التأليف وهلهلة النسج " ويقابل بين الألفاظ والمعاني ويسبر النسبة فيها (3) ؛ ولكنه لن يستطيع ذلك إذا استنام إلى دواعي العصبية، فهي تحجب عن بصيرته مجال الرؤية الصحيحة وتحسن له الميل مع الهوى. فالناقد عند الجرجاني هو الناقد نفسه عند الآمدي، ومنطقة ما لا يعلل ويتحاكم فيه إلى الطبع النقدي مشتركة عند كليهما، إلا إنها أوسع لدى الجرجاني مما هي لدى الآمدي، وسبب ذلك هو الفرق بين المقايسة والموازنة،   (1) الوساطة: 412. (2) الوساطة: 413. (3) نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 فالمقايسة تمهيد للحكم أما الموازنة فإنها تدخل في طبيعة الحكم نفسه، أو كذلك شاء لها الآمدي. وليس للاختلاف في الطريقة اختلفت النتائج، وإنما لاختلاف طبيعة الرجلين، واختلاف طبيعة الموقفين، فإن حذر الجرجاني وتوفيه ومحاولته التسامح الكثير ونفوره من التعليق الساخر، ومن الاعتداد بالميل الذاتي، هو الذي جعل " الوساطة " تفترق عن " الموازنة ". كذلك فإن طبيعة الوساطة نفسها - رغم احتوائها على عناصر المفاضلة - ليست كالموازنة الخالصة في طبيعتها. لان الموازنة هي قسمة النظر بالتساوي بين شاعرين، أما الوساطة فلا تتطلب ذلك دائماً لان خصوم المتنبي ليسوا دائماً شعراء. الجرجاني يحدد عناصر عمود الشعر ومع ذلك فإن دين الجرجاني للآمدي كبير، لأنه قد تمثل آراءه بحذق وذكاء، دون أن يذكر الآمدي مرة واحدة: فقد رأينا كيف حام الآمدي حول ما أسماه " عمود الشعر " وحدده في الأغلب بالصفات السلبية، اعني انه ما جانب كثيراً مما تورط فيه أبو تمام: كالتعقيد ومستكره الألفاظ ووحشي الكلام واستنكراه المعاني والأبعاد في الاستعارة، مما لو عكسته لأصبح صفات للبحتري، فتناول الجرجاني هذا كله ووضعه في صورة إيجابية فإذا عمود الشعر ذو أركان محددة، وهي: 1 - شرف المعنى وصحته. 2 - جزالة اللفظ واستقامته. 3 - إصابة الوصف. 4 - المقاربة في التشبيه. 5 - الغزارة في البديهة. 6 - كثرة الأمثال السائرة والأبيات الشاردة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 قال: " ولم تكن تعبأ بالتجنيس والمطابقة، ولا تحفل بالإبداع والاستعارة إذا حصل لها عمود الشعر ونظام القريض " (1) ؛ وقد كان الآمدي صريحاً في موقفه حين وجد أبا تمام قد خرج في محاولته على عمود الشعر، أما الجرجاني فلم يصرح عن رأيه في صلة المتنبي بعمود الشعر، غير انك تلمح من طرف خفي أن الشروط الستة التي وضعها تنطبق على المتنبي تماماً، فإذا طالعته بمعنى مستكره أو وصف غير مصيب أو استعارة مفرطة، دعاك إلى أن لا تحكم ببيت على أبيات، وبشاذ مفرد على مستو غالب. على أن الآمدي رفض اعتبار توليد المعاني أساساً في الشعر (2) ، ولو أخذنا رأيه ذاك على علاته، لوجدنا أبا الطيب أربى على أبي تمام وعلى كل شاعر آخر في هذا الباب، ومع ذلك فإن الجرجاني خرج من هذا المأزق بقوله: " شرف المعنى وصحته "، فلم يعد من فرق بين أبي تمام والمتنبي إلا في التزام الأول منهما - في إسراف - كثرة التجنيس والمطابقة والاستعارة المفرطة، وعلى هذا فغن الجرجاني كان يتصور أن الصنعة البديعية هي الفارق الوحيد بين ما يسمى " عمود الشعر " وما هو خارج عنه، أما عند الآمدي فقد كان الفرق بينهما أكبر من ذلك بكثير، إذ لو سلمنا بحكم الآمدي، لكان المتنبي في هذا الموقف كأبي تمام. اعتماد الجرجاني على الآمدي في قضية السرقات كذلك اعتمد الجرجاني آراء الآمدي في مشكلة السرقات ولكنه طورها وأمعن في التدقيق والتحليل. وفي سبيل أن نتذكر ما قاله صاحب الموازنة نعيد مجمل رأيه في هذه القضية: فهو قد ذهب إلى أن المعاني المشتركة التي شاعت بين الناس لا يعد تداولها سرقاً، وأن التشابه في الألفاظ ليس من الشرقة في شيء، على أساس هذين المبدأين رد الآمدي كثيراً من السرقات التي   (1) الوساطة: 34. (2) قد بينا شيئاً من تناقض الآمدي في هذا حين جعل ميزة امرئ القيس الكبرى في المعاني المبتكرة (انظر ص: 161) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 حشدها ابن عمار وابن أبي طاهر وغيرهما. وقد صنع الجرجاني صنيعه فتعقب ما أخرجه أحمد بن أبي طاهر وابن عمار من سرقات أبي تمام وما تتبعه بشر بن يحيى على البحتري ومهلهل بن يموت على أبي نواس، واستخرج من دعاواهم أشياء مضحكة حقاً، لان الشبه فيها عارض أو لفظي أو لأنه لا شبه بين السارق والمسروق إطلاقا (1) ، وقرر ما قرره الآمدي نفسه وما قرره غير الآمدي من أن " السرق - أيدل الله - داء قديم وعيب عتيق وما زال الشاعر يستعين بخاطر الآخر ويستمد من قريحته ويعتمد على معناه ولفظه، وكان أكثره ظاهراً كالتوارد الذي صدرنا بذكره الكلام وإن تجاوز ذلك قليلاً في الغموض لم يكن فيه غير اختلاف الألفاظ، ثم تسبب المحدثون إلى إخفائه بالنقل والقلب وتغيير المنهاج والترتيب؟ " (2) ويميل الجرجاني إلى الاعتذار عن المتأخرين لأن المتقدمين استغرقوا المعاني: " ومتى أجهد أحدنا نفسه وأعمل فكره وأتعب خاطره وذهنه في تحصيل معنى يظنه غريباً مبتدعاً ونظم بيت يحسبه فرداً مخترعاً ثم تصفح عنه الدواوين لم يخطئه ان يجده بعينه أو يجد له مثالاً يغض من حسنه. ولهذا السبب اخطر على نفسي ولا أرى لغيري بت الحكم على الشاعر بالسرقة " (3) . وقد تعرض الجرجاني لهذه القضية في موضع آخر وهو يدافع عن الشاعر المحدث: " فإن وافق بعض ما قيل أو أجتاز منه بأبعد طرف قيل: سرق بيت فلان، وأغار على قول فلان، ولعل ذلك البيت لم يقرع قط سمعه، ولا مر بخلده، كأن التوارد عندهم ممتنع، واتفاق الهواجس غير ممكن! " (4) . لقد أوحى الآمدي بأنه يكره الحديث في السرقة لأنه لا يراها - وكذلك من قبله من العلماء - عيباً كبيراً على الشاعر؛ وها هو الجرجاني يرقى إلى القول   (1) الوساطة 209 - 215. (2) الوساطة: 214. (3) الوساطة: 215. (4) الوساطة: 52. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 بأنه لا يسمح لنفسه ولا لغيره البت في الحكم بالسرقة، فربما قيل إن هذا الشاعر أخذ هذا المعنى من فلان، ولم يكن سمع بفلان هذا ولا معناه؛ وكان حقيقاً بهذين الناقدين الكبيرين ان يطرحا هذا الموضوع من أبواب النقد، ولكنهما انساقا وراء العرف الجاري، وما كانا يدركان أن السرقة ستصبح على يد ابن وكيع والعميدي وأضرابهما هي المحك الأكبر الذي يرتفع به الشاعر أو يسقط. ولهذا الانسياق وراء العرف وجدنا القاضي الجرجاني يجعل الاهتداء إلى السرقة وتمييز صنوفها من عمل جهابذة الكلام ونقاد الشعر الذين يستطيعون (أن يميزوا بين السرق والغصب والإغارة والاختلاس والإلمام والملاحظة، والمشترك الذي لا يجوز ادعاء السرق فيه، والمبتذل الذي ليس أحد أولى به، وبين المختص الذي حازه المبتدئ فملكه، وأحياه السابق فاقتطعه، فصار المعتدي مختلساً سارقاً والمشارك له محتذياً تابعاً؟ " (1) . فأما المعاني المشتركة التي لا تجوز نسبة السرق إلى صاحبها فمثل التشبيهات المتداولة المبتذلة كتشبيه الجواد بالغيث والبحر والبليد البطيء بالحجر والحمار، ومثل ما كثر تداول من تشبيهات القدماء كتشبيه الطلل المحيل بالخط الدارس. والظعن المتحملة بالنخل، وعلى هذا فالمشترك نوعان: (1) نوع عام يعرفه كل إنسان معرفة بديهة (2) ونوع عم بعد تخصيص، سبق إليه شاعر قديم (كتشبيه آثار الدار بالخط الدارس) ثم كثر تداوله نفسه بلفظ أعذب من لفظ، وترتيب احسن من ترتيب، وزيادة اهتدى إليها واحد دون الآخر، فيقع التفاضل حتى في هذه المعاني. وقد يكون السرق باجتماع اللفظ والمعنى ونقل البيت أو المصراع وهذا   (1) الوساطة: 183. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 قد يسمى غصباً، وليس البحث عنه مما يميز الناقد، كما انه لا يميزه اقتصاره على رؤية السرقة الواضحة مثل قول لبيد: وما المال والأهلون إلا ودائع ... ولا بد يوماً أن ترد الودائع وقول الافوه: إنما نعمة قوم متعة ... وحياة المرء ثوب مستعار وإنما يحتاج الناقد إلى الفطنة إذا تفنن الشاعر في السرقة فنقل معنى من النسيب إلى الفخر وعدل عن الوزن والقافية إلى وزن آخر وقافية أخرى، كقول بشار: خلقت على ما في غير مخير ... هواي ولو خيرت كنت المهذبا وقول أبي تمام: فلو صورت نفسك لم تردها ... على ما فيك من كرم الطباع والناقد البصير هو الذي يردك حيلة الشاعر في قلب المعنى ونقضه " هذا باب يحتاج إلى إنعام الفكر وشدة البحث وحسن النظر والتحرز من الإقدام قبل التبين والحكم غلا بعد الثقة، وقد يذهب منه الواضح الجلي على من لم يكن مرتاضاً بالصناعة متدرباً بالنقد " (1) ؛ فإذا كان الكشف عن السرق الخفي جزءاً هاماً من عمل الناقد البصير فلم حظر الجرجاني على نفسه وغيره البت في امره؟ ليس في موقفه تناقض، ولكنه يستبشع نسبة السرقة إلى شخص - من الناحية الأخلاقية - فهو قاض متحرج لا يستطيع أن يصدر الحكم إلا إذا تواترت الأدلة وترادفت؛ ولذلك يرى أن يكتفي بالقول: " قال فلان كذا وقد سبقه إليه فلان فقال كذا، فأغتنم به فضيلة الصدق   (1) الوساطة: 208؛ وانظر البحث في السرقة 183 - 208. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 أوسلم من اقتحام التهور "، فبهذا يدل الناقد على تنبهه دون ان يتهم الشاعر اتهاماً لا دليل عليه سوى المشابهة؛ ولا ريب في أن هذا المبدأ لم يأخذ به من جاء بعد الجرجاني، وأكثر ما يشكك القارئ الحديث فيما يوردونه تعسفهم في سوق السرقة، حتى ليعود المرء دائماً إلى قول الجرجاني السابق: " سرق بيت فلان؟ ولعل ذلك البيت لم يقرع سمعه قط ". وقد أحسن الجرجاني صنعاً حين وضح مدى اتساع باب المعاني المشتركة وحين وضحه توضيحاً دقيقاً مؤيداً بالأمثلة، وكان في مقدور النقد العربي من بعده ان يزيد في معنى المشاركة بسبب اتساع كل من التجربة الواقعية والثقافة. ولكن النقاد قلما أفادوا من هذا الذي وضع أسسه القاضي الجرجاني. ترتيب الجرجاني لأفكار النقاد السابين واستخدامها وقد دلنا ما تقدم من قول على أن الجرجاني اعتمد بعض الآراء التي وضعت قبل زمنه وحاول ترسيخها بالتوضيح والشرح والتوسعة والتدقيق في التفصيلات فرأينا كيف اخذ موقف الآمدي من الناقد ومن المنطقة التي يقف فيها النقد عاجزاً عن التعليل (وهي سر وجود الناقد نفسه) ومن عمود الشعر ومن مشكلة السرقات؛ ورأينا كيف استمد من الصولي وغيره موقفه من قضية الفصل بين الدين والشعر. ولم يكن اعتماده على الآمدي والصولي بأقل من اعتماده على غيرهما، فقد عاد إلى قضية القديم والمحدث، تلك التي استنفدت جهود أهل التسوية في القرن الثالث من أمثال الجاحظ والمبرد وابن قتيبة وابن المعتز؛؟ صيحة بعيدة في الزمان كدنا ننساها. لولا أن عاد القاضي الجرجاني إلى إحيائها للدفاع عن أبي الطيب، فقد كاد يذهب بها انقسام النقاد حول المحدثين أنفسهم ونسيانهم للصراع بين قديم ومحدث، ولكن يبدو إنها عادت إلى الحياة في النصف الثاني من القرن الرابع إذ اصبح بعض المحدث ذا قدم نسبي (كالبحتري وأبي تمام) وأصبح أمثال المتنبي من متأخري المحدثين؛ فهي قضية لا ينفرد الجرجاني بالإحساس بها، إذ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 نجدها لدى ابن جني في مقدمته على شرح الديوان: " وما لهذا الرجل الفاضل من عيب عند هؤلاء السقط الجهال؟. إلا أنه متأخر محدث " ولذلك ذهب ابن جني يعرض في المقدمة نماذج من عصبية العلماء السابقين ضد كل جديد متأخر الزمن، كما فعل القاضي الجرجاني. عود إلى مشكلة المطبوع والمتكلف وعاد الجرجاني إلى ذلك الموضوع القديم الذي وضحه ابن قتيبة حين تحدث عن الطبع والتكلف في الشعر، والمطبوع والمتكلف من الشعراء: " الشعر علم من علوم العرب يشترك فيه الطبع والرواية والذكاء ثم تكون الدربة مادة له وقوة لكل واحد من أسبابه " (1) وهو يعني بالطبع هنا ما يسمى " الموهبة الشعرية "، فالموهبة وحدها لا تجدي إلا إذا انضافت غليها الرواية؛ وحاجة المحدث إلى الرواية أشد من حاجة غيره " فإذا استكشفت هذه الحالة وجدت سببها والعلة فيها أن المطبوع الذكي لا يمكنه تناول ألفاظ العرب إلا رواية ولا طريق للرواية إلا السمع، وملاك الرواية الحفظ " (2) ؛ على أن الرواية وحدها لا تفعل شيئاً فكم من راوية لشاعر جاهلي أو إسلامي لم يقل بيتاً. ويعزز الجرجاني تفاوت الشعر إلى اختلاف الطبائع (ويعني بها هنا الأمزجة) " فإن سلامة اللفظ تتبع سلامة الطبع ودماثة الكلام بقدر دماثة الخلقة، وأنت تجد ذلك ظاهراً في أهل عصرك وأبناء زمانك، وترى الجافي الجلف منهم كز الألفاظ معقد الكلام، وعر الخطاب، حتى أنك ربما وجدت ألفاظه في صوته ونغمته، وجرسه ولهجته " (3) فالطبع (بمعنى الموهبة) هو الذي يجعل هذا شاعراً وأخاه لا صلة له بالشعر. ويقيم التفاوت بين شاعر وشاعر في القبيلة الواحدة. والطبع (بمعنى المزاج   (1) الوساطة:15. (2) الوساطة: 16. (3) الوساطة: 18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 أو تركيب الخلقة) هو سر التفاوت في الأسلوب والأداء؛ ثم يستعير الجرجاني من ثلاثية الجاحظ (البيئة - العرق - الغريزة) وحدة البيئة ويجعلها مسئولية أيضاً عن التفاوت في الشاعر، والبيئة إما بدوية وإما حضرية ولذلك كان عدي بن زيد وهو ابن الحاضرة، على جاهلية، أرق من الفرزدق، ابن البادية، وهو في الإسلام (1) ؛ ولكنه ينكر أن تكون الغريزة (أو الطبع) سبباً للفصل بين قديم ومحدث وجاهلي ومخضرم وأعرابي ومولد، مخالفاً الجاحظ في ذلك، لان الجاحظ عد الأعرابي في أي زمان ومكان اشعر من المولد في أي زمان ومكان (2) . ويرى الجرجاني أن الجزالة كانت اغلب على القدماء لعاملين هما " العادة والطبيعة " وأضيف إليهما التعمل والصنعة، وقد توجد الجزالة عند المحدثين في أفراد قلائل (3) . فلما تحضر العرب طرحوا الألفاظ الخشنة واقتصروا على الألفاظ السلسة " وأعانهم على ذلك لين الحضارة وسهولة طباع الأخلاق فانتقلت العادة وتغير الرسم " فرقعوا أشعارهم، فصار ما فيها من اللبن يظن ضعفاً، فإذا رام أحدهم العودة إلى المذهب القديم ظهر على شعره التكلف (4) . فمقياس تغير الشعر عند الجرجاني هو حدوث التغير في الطبيعة والعادة، ولكن هذا لا يفسر إلا الانتقال من خشونة البداوة إلى رقة الحضارة، فكيف يمكن أن يعلل لتطور الشعر المحدث نفسه في ظل الحياة الحضرية؟ ويتخذ القاضي الجرجاني من أبي تمام مثالاً للحضري الذي عاد يحتذي طريقة أهل البداوة " فحصل منه على توعير اللفظ فقبح في غير موضع من شعره؟. فتعسف ما أمكن وتغلغل في التصعب كيف قدر، قم لم يرض بذلك حتى أضاف إليه طلب البديع فتمحله من كل وجه، وتوصل إليه بكل سبب، ولم يرض بهاتين الخلتين حتى اجتلب المعاني   (1) الوساطة: 18. (2) مع بعض الاستثناء. (3) الوساطة: 17. (4) الوساطة 18 - 19. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 الغامضة وقصد الأغراض الخفية فاحتمل فيها كل غث ثقيل؟ " (1) . وهذا لا يصيب شعر أبي تمام كله ولا يسقطه جملة، ولذلك يعتذر الجرجاني فوراً إثر هذا الكلام مخافة أن يساء الظن بنده فيقول: " ولست أقول هذا غضاً من أبي تمام ولا تهجيناً لشعره ولا عصبية عليه لغيره، وكيف وأنا أدين بتفضيله وتقديمه وانتحل موالاته وتعظيمه وأراه قبلة أصحاب المعاني وقدرة أهل البديع " (2) . سبب التفاوت في أبيات القصيدة، وفي القصيدة وهذا المذهب من أبي تمام وأمثاله هو الذي جعل أبيات القصيدة الواحدة لديهم متفاوتة، فالشاعر منهم إذا جرى على الطبع الحضري في تضاعيف قصيدة مسبوكة على الطريقة البدوية رق شعره حتى بدا خنثاً بنسبة ما يجاوره من أبيات، فإذا انساق مع طبعه الحضري إلى غاية جاء بأحسن نظام، حتى إذا أدركه الميل إلى البداوة تسنم اوعر طريق فطمس ما قدمه من محاسن ومحا طلاوتها (3) . وليست السهولة هي الضعيف والركاكة وغنما هي النمط الأوسط المرتفع عن السوقي، النازل عن البدوي الوحشي (4) . على أن التفاوت لدى الشاعر الواحد يقتضيه اختلاف الموضوعات، فليس أسلوب الغزل - في ألفاظه وتراكيبه - كأسلوب الفخر، ولا المدح كالوعيد، ولا الهزل كالجد، بل لابد أن تقسم الألفاظ على رتب المعاني في الشعر والنثر على السواء (5) . وهذا التفاوت لا يقضي على الاستواء المستمر في الموضوع الواحد فذلك يتحقق " برفض التعمل والاسترسال للطبع وتجنب الحمل عليه والعنف به، ولست اعني بهذا كل طبع، بل المهذب الذي قد   (1) الوساطة: 19. (2) الوساطة 19 - 20. (3) الوساطة: 22. (4) الوساطة: 24. (5) نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 صقله الأدب وشحذته الرواية وجلته الفطنة وألهم الفصل بين الرديء والجيد وتصور أمثلة الحسن والقبح " (1) وأبرز الأمثلة على ذلك تجدها في شعر البحتري وجرير والغزلين من شعراء الأعراب وشعراء الحجاز. وقد نحس هنا ان الجرجاني أصبح كالآمدي شديد الارتياح إلى هذا الشعر الذي يأتي عفو الخاطر مسمحاً منقاداً، وقد استخفه الطرب له، لسهولة مأخذه وقرب متناوله، مؤثراً للبساطة العفوية في مثل: أقول لصاحبي والعيس تهوي ... بنا بين المنيفة فالضمار على مثل قول أبي تمام: دعني وشرب الهوى يا شارب الكأس ... فإنني للذي حسيته حساس (وهي قصيدة لم يخل بيت منها من معنى بديع وصنعة لطيفة وقد أتيح لها الأحكام والمتانة والقوة) (2) ؛ ولكنه واسع الصدر سمح النفس لا يأخذ شيئاً بديلاً عن شيء، فلكل ذلك في نفسه قبول على تفاوت الشعرين في موقعهما من نفسه، لان لكل منهما جمالاً خاصاً به. تقدير القاضي لازمة الشاعر المحدث دون حمله على القديم ولولا شدة تحرز القاضي وتوقيه، لظن قارئ " الوساطة " أنها تحمل راية الدفاع عن الشعر المحدث بل تتضمن شيئاً من الميل غليه وإيثاره على الشعر القديم؛ وخلاصة قول الجرجاني ان الشعر المحدث أقرب إلى طباع أهل العصر " والنفس تألف ما جانسها وتقبل الأقرب فالأقرب إليها " (3) ، والشاعر المحدث مظلوم إذ ضاق عليه مجال اللفظ (بقدر ما أسقطته الحضارة من   (1) الوساطة: 25. (2) الوساطة: 32 - 33. (3) الوساطة: 29. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 ألفاظ) كما ضاق عليه مجال بعد أن سبقه المتقدمون إليها، فغن هو حاول التجديد عن طريق البديع والاستعارة اتهم بالتكلف، وإن استسلم إلى عفو الخاطر قيل: ان شعره فارغ غسيل " ولو أنصف أصحابنا هؤلاء لوجد يسيرهم أحق بالاستكثار وصغيرهم أولى بالإكبار " (1) ؛ والشاعر المحدث يتهم بالسرقة ولكن الإنصاف يقتضي أن نعذره في ذلك: " ومتى أنصفت علمت أن هل عصرنا، ثم العصر بعدنا أقرب فيه إلى المعذرة وابعد من المذمة " (2) لأن المعاني قد استغرقها المتقدمون. وهو مبغض إلى بعض الناس أحياناً لشدة طلبه المعنى ولكن كيف غاب عن هؤلاء أن أبيات المعاني التي للأقدمين - وهي غامضة تشبه الألغاز - تؤلف فيها الكتب، ويشتغل بحلها من فرغوا لذلك (3) ؛ وكذلك يقال في المحدث إنه مفرط ذاهب في الغلو، ولكن الغلو كثير في شعر الأوائل. صحيح عن المحدث قد زاد في ذلك على الاقمدين ولكن من أي وجه يطلب الجدة، إذا لم يطلبها بمزيد من القياس على ما فعله الأسلاف (4) ؟ وقد كان الجرجاني يحس أن موقفه هذا قد يساء تأويله ولذلك بادر إلى إزالة هذه الشبهة بقوله: " وليس يجب إذا رأيتني امدح محدثاً أو اذكر محاسن حضري أن تظن بي الانحراف عن متقدم أو تنسبني إلى الغض من بدوي، بل أن تنظر مغزاي فيه وان تكشف عن مقصدي منه ثم تحكم علي حكم المنصف المتثبت، وتقضي قضاء المقسط المتوقف " (5) .   (1) الوساطة: 52. (2) الوساطة: 214. (3) الوساطة: 417. (4) الوساطة 420 - 428. (5) الوساطة: 15. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 التعاطف مع المحدث تمهيد لإنصاف المتنبي وهذا حق، فليس في إمكان أحد أن يتهم الجرجاني في حرصه على العدالة ولكن هذا الذي يبدو وكأنه دفاع عن الشعر المحدث والشعراء المحدثين إنما هو تمهيد لإنصاف أبي الطيب. إذ ليست المسألة أن تحاول إقناع من يعم بالنقص كل محدث ولا يرى الشعر إلا القديم الجاهلي، فذلك امرؤ لا يؤمن بأبي الطيب مثلما أنه لا يؤمن بابي نواس وأبي تمام والبحتري؛ وإنما الخصم الذي لا بد من إقناعه هو الذي يقدم أبا تمام ومسلم بن الوليد والبحتري وابن الرومي " حتى إذا ذكرت أبا الطيب ببعض فضائله وأسميته في عداد من يقصر عن رتبته امتعض امتعاض الموتور، ونفر نفار المضيم، فغض طرفه، وثنى عطفه، وصعر خده، وأخذته العزة بالإثم وكأنما زوى بين عينيه عليك المحاجم) (1) ؛ ومثل هذا الراوي أو الناقد لا يمكن إقناعه إلا أن رضي أن يرى أبا الطيب واحداً من المحدثين، فإذا استطاع أن يحتل مركزه بينهم فلا باس من أن نستجلب عاطفة الناقد النافر عنه، بان نسلم له كل ما يورده من عيوب في شعر المتنبي (مقيسة إلى عيوب غيره) لنخرج في النهاية متفقين على أن المتنبي محدث يصيب ويخطئ وفي شعره ما يستحق الإعجاب. فإذا تجاوز الجرجاني هذه المرحلة للدفاع عن أبي الطيب لم يكد يفارق طريقته: كذلك وقف من إفراطه ومن غلوه في استعارته، ثم ناقش من يعيبونه في بعض الأخطاء النحوية وأخطاء المعاني مناقشة هادئة. القاضي الجرجاني ونظرته إلى الاستعارة ويستحق موقفه من الاستعارة بعض بيان، فهو يرى أن الشعراء كانت مقتصدة فيها حتى جاء أبو تمام فخرج إلى التجاوز وقلده أكثر المحدثين؛ وقد تجارى الجرجاني مع صديق له الحديث حول بعض استعارات أبي الطيب ومنها:   (1) الوساطة، 53. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 مسرة في قلوب الطيب مفرقها ... وحسرة في قلوب البيض واليلب فعابه صديق الجرجاني بأنه جعل للطيب والبيض واليلب قلوباً، وهذه استعارة لم تجر على شبه قريب أو بعيد، فاستشهد الجرجاني بابن أحمر وقد جعل للريح لباً، وبتصوير الكميت للدهر متمعكاً متقلباً وأورد أبيات شاتم الدهر؛ وأخيراً مال إلى رأي صديقه لأن استعارة المتنبي ليس فيها أدنى علاقة بين الطيب والقلب، وعد أبيات شاتم الدهر - كما عدها الآمدي - نوعاً من الهزل. ولكنه غير يائس من تأويل كلام المتنبي بحيث يصبح المعنى: أن مباشرة مفرقها شرف، ومجاورته زين، والتحاسد يقع فيه فلو كان الطيب ذا قلب لسر به (1) ؛ وكأن موقفه من الاستعارة هنا شبيه بموقف قدامة. دفاعه عما في معاني أبي الطيب ومن أمثلة دفاعه عنه في عيوب المعنى تعليقه على البيت الذي عابه الصاحب، وهو: بليت بلى الأطلال إن لم أقف بها ... وقوف شحيح ضاع في الترب خاتمه فقد قال فيه الصاحب " هذا كلام من أرذل ما يقع لصبيان الشعراء وولدان الأدباء، واعجب من هذا هجومه على باب قد تداولته الألسنة وتناولته القرائح واعتورته الطباع بإساءة لا إساءة بعدها، سقوط لفظ وتهافت معنى، فليت شعري ما الذي أعجبه من هذا النظم وراقه من هذا السبك لولا اضطراب في النقد وإعجاب بالنفس " (2) . أما القاضي فقد حكى قول المنتقدين: " قالوا أراد التناهي في إطالة الوقوف فبالغ في تقصيره، وكم عسى هذا الشحيح بالغاً ما بلغ من الشح،   (1) انظر الوساطة 429 - 432. (2) انظر الوساطة 429 - 432. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 وواقعاً حيث وقع من البخل، أن يقف على طلب خاتمه، والخاتم أيضاً ليس مما يخفى في الترب إذا طلب ولا يعسر وجوده إذا فتش " ثم قال: " وقد ذهب المحتجون عنه في الاعتذار له مذاهب لا أرضى أكثرها، وأقرب ما يقال في الإنصاف ما أقوله عن شاء الله تعالى: أقول عن التشبيه والتمثيل قد يقع تارة بالصورة وتارة بالصفة وأخرى بالحال والطريقة، فإذا قال الشاعر - وهو يريد إطالة وقوفه - إني اقف وقوف شحيح ضاع خاتمه لم يرد التسوية بين الوقوفين في القدر والزمان والصورة، وإنما يريد لأقفن وقوفاً زائداً على القدر المعتاد خارجاً عن حد الاعتدال، كما ان وقوف الشحيح يزيد على ما يعرف من أمثاله، وعلى ما جرت به العادة في إضرابه " (1) . كتاب الوساطة يرمز إلى اكتمال القضايا النقدية ذلك هو " الوساطة " مثل فذ على نزاهة الحكم، وقد أصبح لاعتداله مصدراً جامعاً لعيوب المتنبي ومحاسنه؛ ويبدو من حشد المؤلف لأهم الآراء النقدية السابقة أن القضايا النقدية الكبرى قد استدارت واكتملت؛ صحيح عن الجرجاني لم يتعرض لبعض القضايا الهامة مثل العلاقة بين اللفظ والمعنى، ولا استطاع أن يضع مقاييس إيجابية للجودة كالتي وضعها ابن طباطبا وقدامة، ولكن وقفته أمام القضايا التي عرض لها تدل على أن النقد العربي أصبح بحاجة إلى منافذ جديدة، فغن لم يستطع الاهتداء إليها أخذ يدور على نفسه. لماذا لم يحل كتاب الوساطة المشكلات حول المتنبي ومع أن الموازنة استطاعت - على نحو تقريبي - أن يختم الصراع حول أبي تمام والبحتري، فإن الوساطة عجزت عن أن تكون الجواب الشافي في موقف الخصوم والأنصار من المتنبي، وليس السر في الكتابين وإنما هو في الظروف، فبعد ظهور كتاب الآمدي ظهر المتنبي فشغل الناس عن المعركة الأولى وحول أنظار النقاد إلى معركة جديدة، ولكن لم يظهر بعد   (1) الوساطة: 471. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 المتنبي من ينقل رحى المعركة إلى ميدان آخر. وأكبر الظن ان وساطة الجرجاني نالت احترام النقاد، ولكنها لم تقنعهم كثيراً، فأما الأنصار فكانوا يؤثرون للمتنبي أن يظل خارج القطيع، لتكون هذه " الغربة " تفسيراً لتفرده، إذ لم يزد الجرجاني على أن طلب من الخصوم أن يكفوا من غلوئهم فيحسبوه واحداً من المحدثين، وينصفوه كما انصفوا غيره، ولكن الأنصار لم يكن يرضيهم هذا النوع من الإنصاف. فأما الخصوم فكانوا أيضاً عاجزين عن أن يربوا لأنفسهم هذا الذوق الرحب الذي واجههم به الجرجاني، الذوق الذي يحتضن البحتري وجريراً بنفس الحماسة التي يلاقي بها أبا تمام والمتنبي ومسلم بن الوليد. وسيكثر انشغال الناس بالمتنبي بعد عصر الجرجاني، وكأنهم ما سمعوا حديثه عن السرقات ولا قرأوا كتابه، وسيتصدون من جديد للحط منه بالكشف عن سرقاته، وسيكمل آخرون عمل ابن جني في العكوف على ديوانه، متخذين إبراز معانيه وسيلة من وسائل تقريبه إلى الناس، وذلك حتماً من كتابة نقد أدبي يتناول شعره، وكيف يفعلون وهم قد رأوا ناقداً كبيراً مثل الجرجاني يحجم عن تفسير أية ظاهرة من ظواهر تفوقه وامتيازه على الشعراء. وبين الحين والحين سنجد أناساً أجراً من الجرجاني على التعليل، وإن كانوا أقل قدرة منه على تمثل المبادئ النقدية ونزاهة الموقف النقدي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 - 5 - النقد وفكرة الإعجاز لماذا وجد الباحثون في الأعجاز متكأهم لدى الجاحظ والآمدي لم يكن النقد في مساقه العام موجهاً - كما أصبحت البلاغة موجهة - إلى خدمة فكرة الاعجاز، على نحو عامد، ولكن عدم انفصاله عن البلاغة كان من الطبيعي أن يقف به عند تلك الفكرة ذات يوم، أو يجعل وسائله صالحة للوقوف عندها. فقد أثار قدامة - دون أن يشير إلى القرآن - مسألة " نهاية الجودة " على نحو نظري، دون أن يستطيع الخوض في مراحل الجودة لدى التطبيق. ووضع ابن طباطبا نظرية " الصدق الذي يحقق الجمل " مستغلاً مختلف مدلولات الصدق في بناء نظريته، ولكنه لم يتنبه إلى " منتهى الصدق " المؤدي إلى " غاية الجمل "، لان تفكيره كان عالقاً بمصير الشعر المحدث، وكان من الممكن أن يتطور النقد حتى كان عالقاً بمصير الشعر المحدث. وكان من الممكن أن يتطور النقد حتى يتمرس بمشكلة الإعجاز، من هاتين الطريقين، فلم يفعل، لان الجاحظ كان قد سبق جميع النقاد إلى اعتبار النظم سر الإعجاز. ولهذا كانت أقرب النظريات النقدية التي يمكن أن تخدم البحث في الإعجاز هي نظرية الآمدي، ذلك أن هذا الناقد حين احتكم إلى ما سماه طريقة العرب، كان يهتدي بذوقه إلى أن حسن التأليف في شعر البحتري هو التزام بهذه الطريقة، فكأنه التقى مع الجاحظ في جعل جمال النظم مقياساً للشعر الجميل. وصادف أن كان في اتجاه الآمدي ثورة صريحة وخفية على الاتجاه إلى الفكر اليوناني في استنباط مقاييس نقدية تعرف بها مستويات الجودة، وكان الحزام العلمي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 الضيق الذي شد قدامة به النقد (لا نستثني إلا جهده في ابتكار مصطلح جديد) مما باعد الأذواق عن طريقته، فأبعد تلك الأذواق بالتالي عن الاطمئنان إلى النظريات المستمدة من الفلسفة اليونانية والمنطق اليوناني، ولم يكن في مقدور نظرية المحاكاة التي شرحها الفارابي - حتى لو فهمت على وجهها الصحيح - أن تخدم فكرة الاعجاز؛ وقد كان أبو سليمان المنطقي وهو يتحدث عن نوع من البلاغة سماه " بلاغة التأويل " يشير إلى القرآن، ولكن أبا سليمان وزمرة الفلاسفة من حوله لم يكونوا ذوي " شعبية " كبيرة في أوساط المثقفين، وكانت " بلاغة التأويل " تتجه نحو طبقات المعانين فانهزمت أمام " صفحة التأليف " التي نادى بها الآمدي. الآمدي أوصل النقد إلى منطقة " اللا تعليل " وكانت نظرية الآمدي النقدية تعتمد على ركنين كبيرين: أولهما إمكان الموازنة بين أثرين أدبيين متفقين في الموضوع - مهما تتباعد الطريقتان فيهما - وإبراز دور الناقد الكفؤ الذي يجب أن يصغي الآخرون إلى حكمه سواء استطاع التعليل أو لم يستطع. وهذا ما جر إلى القول بان في الشعر مجالاً يدركه الناقد بالطبيعة التي وهبها دون غيره، وبهذه الطبيعة يحكم على ما لا يستطيع أن يورد فيه علة واضحة، وذلك يعني أن هناك دائرة في الشعر يحس فيها الجمال ولا يستطاع التعبير عنها بلم وكيف؛ وهي وقفة أمام اثر " يعجز " الناقد وغيره في كلام البشر، فلم لا تكون تلك الوقفة أمام القرآن؛ وقد رأينا كيف ألح القاضي الجرجاني على هذه الفكرة غير مرة في كتاب الوساطة، فكأن نظرية الآمدي رسخت في النصف الثاني من القرن الرابع وتمكنت عناصرها المختلفة في النفوس، ولهذا نجد لدى بلاغيي القرن التالي ونقاد نظرة إكبار للآمدي لأن ذوقه وطريقته انتصرا في السياق البلاغي والنقدي في تاريخ الأدب العربي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 الوقفة المعهودة أمام الرائع في أدب المخلوقين يمكن أن تتكرر أمام المعجز وإذا كانت منطقة " اللاتعليل " هي التي تقبل فيها شهادة الناقد العدل فمن الطبيعي أن يؤدي ذلك إلى نتيجتين: أولاً أن يقال لكل من يتصدى لإنكار الجمال في أثر ما - بعد ورود شهادة الناقد - إنه جاهل لا يطمئن أحد إلى ذوقه وحكمه على المستوى النقدي؛ وثانياً أن يلح النقد إلحاحاً كلياً على التأثير الذي يتلقاه القارئ أو السامع من الأثر الفني، ويوضح فعل القول الجميل في النفوس. وهذا شيء طبيعي في كل محاولة لتعليل جمال ما يكسب الخلود في الأدب، وهي الوقفة التي وقفها لونجينوس مما سماه " الرائع " Sublime فإنه تحدث عن الهزة ekstasis التي يولدها هذا الأدب في النفوس، وذهب إلى أن الروعة إنما هي صدى روح عظيمة، وقد حاول لونجينوس - رغم ذلك - أن يضع للروعة مصادر خمسة هي: (1) القدرة على تكوين فكر عظيمة (2) العاطفة الجياشة (3) استخدام ضروب المجاز (4) استخدام الألفاظ الرفيعة (5) التأليف السامي الجليل (1) . وواضح من هذه العناصر الخمسة أن الاثنين الأولين منها يتصلان اتصلاً وثيقاً بنفسية الشاعر بينا تتعلق الثلاثة الأخرى بالأثر الأدبي نفسه؛ فإذا نقلنا فكرة " الرائع " خطوة ابعد وسميناه " المعجز " - وخصصنا به القرآن - سقط العنصران الاولان، ولم يبق في مجال البحث إلا الثلاثة الأخرى؛ فإذا كشفنا عن مواطن الإعجاز فيها بي أن نتحدث عما يحدثه اجتماعها معاً في نفس القارئ أو السامع، فننتقل من مرحلة التعليل إلى مرحلة يتساوى فيها الناس في عجزهم عن التعليل. وعلى هذا المنهج - في خطوتيه المتعاقبتين - تمرس النقد الأدبي بفكرة الإعجاز.   (1) 1 - A. H. Gilbert، Lilerary Critieism، Plato to Dryden pp. 146 - 198 (1940) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 الرماني والإعجاز ويبدو ان الرماني (- 386) الذي كان شديد التأثر بالمنطق اليوناني (1) - اطلاعاً عليه أو تشبهاً بطريقة المناطقة - قد عرق شيئاً من قسمة بعض الباحثين اليونانيين للأسلوب في ثلاثة أنواع: رفيع ومتوسط وعادي، فنقل هذه القسمة إلى البلاغة فقال: " فأما البلاغة فهي على ثلاث طبقات: منها ما هو في أعلى طبقة ومنها ما هو في أدنى طبقة، ومنها ما هو في الوسائط بين أعلى طبقة وأدنى طبقة، فما كان في أعلاها طبقة فهو معجز، وهو بلاغة القرآن، وما كان منها دون ذلك فهو ممكن كبلاغة البلغاء من الناس " (2) ثم يعرف البلاغة بأنها " إيصال المعنى إلى القلب في أحسن صورة من اللفظ " (3) فمنذ الخطوة الأولى نجد الرماني قد لمح الأثر النفسي للبلاغة لكي يجعل المعجز منها اشدها تأثيراً. ثم قسم البلاغة في عشرة أقسام هي: الإيجاز والتشبيه والاستعارة والتلاؤم والفواصل والتجانس والتصريف والتضمين والمبالغة وحسن البيان (4) ، وأفرد لكل نوع فصلاً على حدة. ومن الواضح ان هذه القسمة لأنواع البلاغة تنتمي إلى مصادر مختلفة فبعضها في الصورة وبعضها في النظم وبعضها في المعنى، ومنها ما يتصل باللفظة الواحدة (كالفواصل) ، ولاختلاف مصادرها كانت قسمة متداخلة غير منطقية؛ ويكثر الرماني من الحدود والتعريفات الجزئية معتمداً أيضاً أسساً مختلفة في التقسيم: فالإيجار عنده على وجهين: حذف وقصر؛ والإيجاز على وجهين: أحدهما إظهار النكتة بعد الفهم لشرح الجملة، والثاني إحصار المعنى بأقل   (1) عرف الرماني ب " صاحب الحدود " وكان الشاعر البديهي يتحامل عليه فيما يبدو إذ قال انه راجع العلماء في أمره فقال المتكلمون: ليس فنه من الكلام فننا، وقال النحويون: ليس شانه في النحو شأننا؛ وقال المنطقيون: ليس ما يزعم أنه منطق منطقاً عندنا. (البصائر 1: 170) . (2) ثلاث رسائل: 69. (3) نفسه. (4) نفسه: 70. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 ما يمكن من العبارة؛ والإيجاز أيضاً على ثلاثة أوجه: إيجاز بسلوك الطريق الأقرب دون الأبعد وإيجاز باعتماد الغرض دون ما تشعب، وإيجاز بإظهار الفائدة بما يستحسن دون ما يستقبح؟ فهذه قسمة أولى وثانية وثالثة للإيجاز مع تغيير زاوية النظر في كل مرة. ويتفاوت شرح الرماني لهذه الأرقام العشرة، كما تتفاوت قدرته في تطبيقها على القرآن، فبينا نجده على خير أحواله عند الحديث عن الإيجاز والتشبيه والاستعارة. واثقاً من نفسه مكثراً من الامثلة، نجد حديثه في التلاؤم عاماً لا تطبيق فيه، وكذلك هو حديثه في التضمين والتصريف. أما حديثه عن المبالغة فإنه يدل على انه جعل ضمنها التشكيك والتهويل. ولم يأت بما يدل على المبالغة حسب المفهوم المتعارف للبلاغيين. وفي غير موطن من كتاب النكت نجد الرماني يقف عند الأثر النفسي للكلام البليغ، فإيجاز الحذف مثلاً جميل بليغ " لان النفس تذهب فيه كل مذهب " - أو كما نقول اليوم إنه يفسح المجال لخيال المتلقي. كذلك يدرك ما في التشبيه من مؤثرات نفسية كالتخويف والتشويق وما إلى ذلك، أما التلاؤم فغايته " تقبل المعنى في النفس لما يرد عليها من حسن الصورة وطريق الدلالة " (1) . غير أن للرماني آراء يخالف بها المفهومات العامة في سبيل الوصول إلى فكرته، منها: إسقاطه الإطناب من أنواع البلاغة، فإذا سئل عن ذلك قال: " إذا كان الإطناب لا منزلة غلا ويحسن اكثر منها فالإطناب حينئذ إيجاز " (2) . ومن ذلك إطلاقه الحكم على أن السجع غيب، وقصره الاستشهاد عليه بسجع الكهان إمعاناً في تقرير عيبه، وذلك ليثبت أن الفواصل هي   (1) ثلاث رسائل: 88. (2) نفسه: 74. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 البلاغة، لأنها تابعة للمعاني، أما الأسجاع فالمعاني تابعة لها " (1) . ولا ينكر الرماني أن بعض العبارات - من غير القرآن - تبلغ حداً بعيداً من البلاغة، ولكن حكم الإعجاز لا يجري عليها غلا حتى ينتظم الكلام بحيث يكون كأقصر سورة او أطول آية، وعند ذلك يظهر حكم الإعجاز (2) . وإذا كان الرماني قد استطاع إجراء المقارنة بين بعض صور الإيجاز في كل من القرآن وكلام البلغاء وبين فضل الإيجاز في القرآن على غيره فإنه لم يفعل ذلك عندما درس بقية الأقسام البلاغية، فلم يبين مثلاً لماذا كانت هذه الاستعارة القرآنية خيراً من تلك في كلام شاعر أو خطيب، ولم يتحدث عن فضل التشبيه القرآني على غيره. واكثر التشبيهات التي أوردها تمثيلات. وإنما اكتفى بشرح كل استعارة أو تشبيه وبيان بلاغته درجة أو درجات فوق التعبير الحقيق. ولجأ إلى التعليل العام في قوله: " وظهور الإعجاز في الوجوه التي نبينها يكون باجتماع أمور يظهر بها للنفس أن الكلام من البلاغة في أعلى طبقة " (3) ، وكأنه فاء إلى القول بان ليس هناك من تعليل واضح المعالم والسمات. إن محاولة الرماني لم تتعد الاستعانة بالمصطلح البلاغي شيئاً كثيراً إلا في جانب التأثير النفسي ولذلك وقف عند الباب المغلق بقوله: " فأما دلالة التأليف فليس لها نهاية ولهذا صح التحدي فيها بالمعارضة لتظهر المعجزة، ولو قال قائل: قد انتهى تأليف الشعر حتى لا يمكن أحداً أن يأتي بقصيدة إلا وقد قيلت فيما قيل، لكان ذلك باطلاً، لأن دلالة التأليف ليس لها نهاية " (4) ، وهذا أمر منوط بالتصور، وهو خطا كما يرى، إذ لابد من   (1) نفسه: 89. (2) نفسه: 73. (3) ص 72. (4) ص 99. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 نهاية منطقية ليكون المعجز نفسه هو " نهاية الحسن ". وقد اختلف تقبل الناس لكتاب النكت، فاعترض كثيرون على الحدود فيه، وتأثر بعض البلاغيين به ونقلوا آراءه وأمثلته، ووقف الباقلاني من تعليله لإعجاز القرآن عن طريق أنواع البديع موقف الحذر، ورفض ابن سنان الخفاجي أن يقبل حكمه على السجع ورد على قوله " أن القرآن من المتلائم في الطبقة العليا وغيره في الطبقة الوسطى " فقال: ليس الأمر على ذلك، ولا فرق بين القرآن وبين فصيح الكلام المختار في هذه القضية، ومتى رجع الإنسان إلى نفسه وكان معه أدنى معرفة بالتأليف المختار وجد أن في كلام العرب ما يضاهي القرآن في تأليفه، ولعل أبا الحسن يتخيل أن الإعجاز في القرآن لا يتم إلا بمثل هذه الدعوى الفاسدة، والأمر بحمد الله أظهر من أن بعضه بمثل هذه الدعوى الفاسدة، والأمر بحمد الله أظهر من أن يعضده بمثل هذا القول الذي ينفر عنه كل من علق من الأدب بشيء أو عرف من نقد الكلام طرفاً " (1) . الخطابي والإعجاز وهب أبو سليمان الخطابي (- 388) في " بيان أعجاز القرآن " مذهب الرماني في قسمة أجناس الكلام في ثلاث مراتب: فمنها البليغ الرصين الجزل ومنها الفصيح القريب السهل، ومنها الحائز المطلق الرسل؟ فالقسم الأول أعلى طبقات الكلام وأرفعه والثاني أوسطه وأقصده والثالث أدناه وأقربه (2) . غير أن الخطابي لم يقل كما قال الرماني أن بلاغة القرآن تقتصر على النوع الأول وحده، بل ذهب إلى أنها أخذت حصة من كل نوع من الأنواع الثلاثة، فكان من امتزاج تلك الأنماط نمط جديد بين صفتي الفخامة والعذوبة - الفخامة تنتج عن الجزالة والعذوبة تنتج عن السهولة، وهما صفتان كالمتضادتين، فالتوفيق بينهما على نحو لا يحدث نبوة لا يتيسر إلا في القرآن.   (1) سر الفصاحة: 91. (2) ثلاث رسائل: 23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 كذلك فإن الكلام يقوم بثلاثة أشياء: لفظ حامل ومعنى به قائم ورباط لهما ناظم، وقد حاز القرآن في هذه الثلاثة معاً غاية الشرف والفضيلة: ففيه أفصح الألفاظ وأعذبها وأجزلها، واحسن التأليف وخير المعاني. " وقد توجد هذه الفضائل الثلاث على التفرق في أنواع الكلام، فأما أن توجد مجموعة في نوع واحد منه فلم توجد إلا في كلام العليم القدير؟ " (1) وبعد أن يبين الخطابي كيف تفنن القرآن في تنويع المعاني مدرجة في أحسن نظوم التأليف وقف عند الألفاظ وقفة دل بها على أن كلاً من التأليف والمعنى يعتمد على اللفظ، أو بعبارة أدق على وضع كل نوع من الألفاظ موضعه الأخص الأشكل به (2) ؛ ولهذا عرج على بعض الألفاظ المتشابهة في المعنى (مثل الشح والبخل.. الخ) ودل على أن اللفظة الواحدة تصلح في موضع لا تصلح فيه الأخرى، فإذا تغيرت أو انتقلت عن موضعها اختل التأليف وتفاوت المعنى. واعتمد الخطابي على تفاوت الشاعرين إذا هما تنازعا معنى واحداً، وعلى تميز كل شاعر في ناحية كالأعشى والاخطل في وصف الخمر وذي الرمة في صفة الأطلال والدمن؛ إلا انه استغل هذه المسألة لدحض المعارضة للقرآن وبيان قصورها، ولم يستغلها على طريقة الباقلاني، كما سنرى من بعد. ولجأ الخطابي كما لجأ الرماني من قبله إلى الأثر النفسي فقال: " في إعجاز القرآن وجه آخر ذهب عنه الناس فلا يكاد يعرفه غلا الشاذ من آحادهم، وذلك صنيعه بالقلوب وتأثيره في النفوس، فانك لا تسمع كلاماً غير القرآن منظوماً ولا منثوراً إذا قرع السمع خلص له القلب من اللذة والحلاوة في حال، ومن الروعة والمهابة في أخرى، ما يخلص منه إليه،   (1) ثلاث رسائل: 24. (2) نفسه: 26. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 تستبشر به النفوس وتنشرح له الصدور حتى إذا أخذت حظها منه عادت مرتاعة قد عراها من الوجيب والقلق وتغشاها الخوف والفرق، تقشعر منه الجلود وتنزعج له القلوب، يحول بين النفس وبين مضمراتها وعقائدها الراسخة فيها؟ " (1) ؛ إلا ان الخطابي يلمح تنوع هذا الأثر وتردده بين إثارة البهجة وإثارة الخوف والفزع عن طريق الائتلاف بين الثلاثة: المعنى واللفظ والرباط الناظم، وليس هو تأثيراً مستمداً من التشبيه أو الاستعارة أو ما أشبه من نكت بلاغية. الباقلاني والإعجاز وتعد جهود الرماني والخطابي على هامش النقد الأدبي إذا هي قيست بجهد الباقلاني (- 403) لأنه الوحيد الذي استطاع أن يفيد إفادة تفصيلية من جهود النقاد السابقين، وأن يطور أثناء بحثه لقضية الإعجاز بعض النواحي النقدية. فبعد أن أطلع على الجاحظ وابن قتيبة وابن المعتز وقدامة والآمدي اتضح لديه أن فكرة الإعجاز لدى نقاد الأدب قد سارت في طريقين (وتعددت تعليلات الإعجاز من طرق أخرى غير الطريقة الأدبية) : إحداهما الطريق التي سار فيها ابن المعتز وقدامة وتبعهما فيها الرماني وهي تعليل الإعجاز عن طريق البديع، أو دراسة الصور البيانية في القرآن، وكان ابن قتيبة قد ألم بأطراف هذه الطريقة في كتابه " مشكل القرآن "، وأما الطريقة النقدية الثانية فهي مذهب القائلين بالنظم والتأليف وهي طريقة الجاحظ والآمدي وفيها سار الخطابي عندما تحدث عن الإعجاز، وكان الجاحظ قد ألف في فكرة الإعجاز كتاباً سماه " نظم القرآن ".   (1) ثلاث رسائل: 64. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 ليس الإعجاز من جهة البديع وتساءل الباقلاني: هل يمكن أن يعرف إعجاز القرآن من جهة ما تصمنه من البديع (1) ؛ وبعد أن سرد أنواع البديع - كما أوردها ابن المعتز وقدامة وربما ما عداه الحاتمي أيضاً - قال: " وقد قدر مقدرون انه يمكن استفادة إعجاز القرآن من هذه الأبواب التي نقلناها، وأن ذلك مما يمكن الاستدلال به عليه، وليس كذلك عندنا، لان هذه الوجوه إذا وقع التنبيه عليها أمكن التوصل إليها بالتدريب والتعود والتصنع لها، وذلك كالشعر الذي إذا عرف الإنسان طريقه صح منه التعمل له وأمكنه نظمه؛ والوجوه التي نقول عن إعجاز القرآن يمكن أن يعلم منها فليس مما يقدر البشر على التصنع له والتوصل إليه بحال " (2) . فالباقلاني لا يرى هذا الفن طريقاً لإثبات الإعجاز لأنه ليس فيه ما يخرق العادة ويخرج عن العرف بل انه شيء يمكن أن يحذقه المرء بالتعلم. ولكن ربما قيل أن أنواع البديع تمثل نوعاً من البراعة، وبهذا المعنى قد توجد في القرآن (3) . رد على الرماني وكان أهم من استغل هذه الطريقة لابراز مدى الإعجاز في بلاغة القرآن هو الرماني، ولذلك عاد إليها الباقلاني قائلاً: " ذكر بعض أهل الأدب والكلام أن البلاغة على عشرة أقسام: الإيجاز والتشبيه والاستعارة؟ الخ " (4) ولخص كتاب النكت؛ ثم رجع إلى رأيه الذي لا يحيد عنه وهو ان الإعجاز لا يثبت من هذه الطريق: " وإنما ننكر أن يقول قائل إن بعض هذه الوجوه بانفرادها قد حصل فيه الإعجاز من غير أن يقارنه ما يتصل به من الكلام ويفضي إليه مثل ما يقول: عن ما أقسم به وحده بنفسه معجز   (1) إعجاز القرآن: 101. (2) نفسه: 161 - 162. (3) نفسه: 168، 170. (4) نفسه: 396. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 وإن التشبيه معجز، وإن التجنيس معجز والمطابقة بنفسها معجزة؛ فأما الآية التي فيها ذكر التشبيه فإن ادعى إعجازها لألفاظها ونظمها وتأليفها فإني لا أدفع ذلك وأصححه ولكن لا ادعي إعجازها لموضع التشبيه، وصاحب المقالة التي حكيناها (يعني الرماني) أضاف ذلك إلى موضع التشبيه وما قرن به من الوجوه؟ " (1) . تقصير الجاحظ في استقلال فكرة النظم، وإيثار موقف ابن قتيبة والآمدي وأما الطريقة النقدية الثانية التي تتحدث عن حسن التأليف فقد رأى الباقلاني أن الجاحظ قصر في استغلالها: " وقد صنف الجاحظ في نظم القرآن كتاباً لم يزد فيه على ما قاله المتكلمون قبله ولم يكشف عما يلتبس في أكثر هذا المعنى " (2) ، ولذلك فغن الباقلاني وجد الوسائل التي تسعفه على إثبات فكرة الإعجاز لدى ابن قتيبة والآمدي، وربما لدى الخطابي نفسه. الانتقال من التفاوت في الشعر إلى القول بعدم التفاوت في القرآن فإما ابن قتيبة فإنه كان قد شرح فكرة التفاوت بين قصائد الشاعر الواحد، كما شرح التفاوت بين الشعراء، فكانت هذه الفكرة مدخل الباقلاني إلى القول بان عدم التفاوت في نظم القرآن يرتفع به عن مستوى أي شعر أو نثر، لأنه لا بد من أن يخضع هذان عند البشر للتفاوت. " إن عجيب نظمه وبديع تأليفه لا يتفاوت ولا يتباين على ما يتصرف إليه من الوجوه التي يتصرف فيها من ذكر قصص ومواعظ واحتجاج وحكم وأحكام؟ ونجد كلام البليغ الكامل والشاعر المفلق والخطيب المصقع يختلف على حسب اختلاف هذه الأمور: فمن الشعراء من يجود في المدح دون الهجو، ومنهم من يبرز في الهجو دون المدح، ومنهم من يسبق في التقريظ دون التأبين؟.   (1) إعجاز القرآن: 418. (2) نفسه: 7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 ومتى تأملت شعر الشاعر البليغ رأيت التفاوت في شعره على حسب الأحوال التي يتصرف فيها، فيأتي بالغاية في البراعة في معنى، فإذا جاء إلى غيره قصر عنه؟ ثم نجد من الشعراء من يجود في الرجز ولا يمكنه نظم القصيد أصلاً ومنهم من ينظم القصيد؟ ولا ينظم الرجز؟ الخ " (1) . وأعجبت الباقلاني فكرة التفاوت هذه فشقق منها ضروباً جديدة إذ رأى أيضاً إن كلام الفصحاء يتفاوت في الفصل والوصل والعلو والنزول والتقريب والتبعيد، وقد يحسن الشاعر النظم ويقصر في الخروج من معنى إلى غيره أو يختلف انتقاله أحياناً إذا اختلف الموضوع (2) . ناقد الآمدي والتفاوت وهذا التفاوت نفسه منحك الناقد البارع لأنه لا يخفى عليه شيء من أمره، فهو يميز طرائق الشعراء بحيث لا تخفى عليه صنعة أبي نواس من سبك مسلم ولا نسج ابن الرومي من نسج البحتري، بل يستطيع ان يميز طرائق الكتاب، غلا حيث يغمض ذلك جداً في حال الشعر والنثر، وهذا الناقد هو الذي تقبل كلمته ولا يرد حكمه في النقد، - هو الناقد الذي وصفه الآمدي - وسبيل ذلك في إعجاز القرآن كالحال في الشعر والنثر، فإذا اشتبهت على الناشئ أو المتشاعر بلاغة القرآن فليس هو ممن يصار إلى رأيه فالبليغ يعرف علو شأن القرآن وعجيب نظمه وبديع تأليفه، ولا غنى لمن قصر في هذا عن التسليم للناقد العارف كذلك (3) .   (1) إعجاز القرآن: 54 - 55. (2) نفسه. (3) أنظر إعجاز القرآن: 182 - 192. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 الإعجاز في النظم بعد إدراك عدم التفاوت النظم إذن هو الطريق التي اختارها الباقلاني لإثبات الإعجاز، وليس انعدام التفاوت هو المظهر الوحيد الدال على إعجاز ذلك النظم، بل هناك عنصران آخران: أحدهما الطول الذي استوعبه ذلك النظم دون تفاوت، مع إن المعروف في حال الشعر والنثر إن الشاعر لا يجيد إلا في أبيات أو قصائد وأن الحكيم ليست له إلا كلمات معدودة (1) ؛ وثانيهما أن هذا النظم قد ورد على غير المعهود من نظم الكلام جميعه عند العرب، وذلك أن كلام العرب يقع تحت النماذج الآتية: 1 - أعاريض الشعر على اختلاف أنواعه. 2 - أنواع الكلام الموزون غير المقفى. 3 - أصناف الكلام المعدل المسجع. 4 - أصناف الكلام المعدل الموزون غير المسجع. 5 - أنواع الكلام المرسل (2) . فإذا تدبرنا نظم القرآن وجدنا أنه لا يسير على واحد من هذه النماذج، ولذلك ذهب الباقلاني ينفي أن يكون فيه شعر أو سجع، دونما حاجة إلى نفي الإرسال لأن ذلك واضح في أسلوبه لا يتطلب نفياً.   (1) أنظر الإعجاز ص 53، وص 169. (2) أنظر ص: 52. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 عرض نماذج من نثر البلغاء وشعر الشعراء لأدراك التفاوت ولإثبات ذلك - اعني تميز نظم القرآن - عرض الباقلاني نماذج من النثر فيها خطب للنبي والصحابة وغيرهم من مشهوري الخطباء دون أن يستثير أحكاماً على تلك الخطب وإنما اقتصر على أن يطلب إلى القارئ أن " يحس " مدى التفاوت بين ما يعد بليغاً من كلام البشر وبين نظم القرآن؛ وكان هذا العمل يقتضيه أن يتقدم خطوة أخرى فيعرض نماذج من الشعر ويبين ما فيها من عيوب ليدل على أن ما استأثر بتفضيل النقاد في الشعر لا يبلغ شيئاً بجانب بلاغة القرآن. وقد وقع اختياره على معلقة امرئ القيس وعلى قصيدة للبحتري، وأدته هذه اللفتة إلى القيام بدراسة كل من القصيدتين فكان من أول من تنبهوا إلى إجراء نقد تطبيقي على قصيدة كاملة، اعتماداً على التحليل المتدرج لأبياتها، وإزاء ذلك وقف عند سورة من سور القرآن فيبين ما فيها من وجوه البراعة المعجزة. تفاوت قصيدة امرئ القيس نتيجة مفروضة ابتداء وقد اتعب القاضي نفسه في تحليل القصيدتين ليصل إلى نتيجة كان قد فرضها ابتداء وهي تفاوت أبيات القصيدة الواحدة ولذلك انتهى في قصيدة امرئ القيس إلى وله: " اعلم أن هذه القصيدة قد ترددت بين أبيات سوقية مبتذلة وأبيات متوسطة وأبيات ضعيفة مرذولة وأبيات وحشية غامضة مستكرهة وأبيات معدودة بديعة؟ ولا سواء كلام ينحت من الصخر تارة ويذوب تارة ويتلون تلون الحرباء ويختلف اختلاف الأهواء ويكثر في تصرفه اضطرابه وتتقاذف به أسبابه، وبين قول يجري في سبكه على نظام وفي رصفه على منهاج، وفي وضعه على حد، وفي صفائه على باب، وفي بهجته ورونقه على طريق " (1) .   (1) الإعجاز: 273، 277. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 طريقة الباقلاني في نقد قصيدة امرئ القيس وفي سبيل الوصول إلى هذه النتيجة الواضحة منذ استغل الباقلاني طرائق نقدية من تحليل ومقارنة وغير ذلك، وتمحل تمحلاً كثيراً وركب ضروباً من التعسف، دون أن يضطره إلى ذلك شيء لإثبات بديهة من بدائه القدرة الإنسانية في فن الشعر. وإليك أمثلة من تعليقاته ونقده: 1 - قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ... بسقط اللوى بين الدخول فحومل فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها ... لما نسجتها من جنوب وشمأل أنت تعلم انه ليس في البيتين شيء قد سبق في ميدانه شاعراً، ولا تقدم به صانعاً، وفي لفظه ومعناه خلل، فأول ذلك: انه استوقف من يبكي لذكر الحبيب، وذكراه لا تقتضي بكاء الخلي وإنما يصح طلب الإسعاد في مثل هذا على أن يبكي لبكائه ويرق لصديقه في شدة برحائه فأما أن يبكي على حبيب صديقه وعشيق رفيقه فأمر محال؟ وفسد المعنى من وجه آخر: لأنه من السخف أن لا يغار على حبيبه وأن يدعو غيره إلى التغازل عليه والتواجد معه فيه. ثم في البيتين ما لا يفيد من ذكر هذه المواضع وتسمية هذه الأماكن؟. وقوله " لما نسجتها " كان ينبغي ان يقول: " لما نسجها " ولكنه تعسف فجعل (ما " في تأويل تأنيث؟ وقوله " لم يعف رسمها " كان الأولى أن يقول: " لم يعف رسمه " لأنه ذكر المنزل؟ ولو سلم من هذا كله ومما نكره ذكره كراهية التطويل، لم نشك في أن شعر أهل زماننا لا يقصر عن البيتين بل يزيد عليهما ويفضلهما. 2 - كدأبك من أم الحويرث قبلها ... وجارتها أم الرباب بمأسل إذا قامتا تضوع المسك منهما ... نسيم الصبا جاءت بريا القرنفل أنت لا تشك بان البيت الأول قليل الفائدة ليس له مع ذلك بهجة، فقد يكون الكلام مصنوع اللفظ وإن كان منزوع المعنى، وأما البيت الثاني فوجه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 التكلف فيه قوله " إذا قامتا تضوع المسك منهما " ولو أراد أن يجود أفاد ان بهما طيباً على كل حال، فأما في حال القيام فقط فذلك تقصير. ثم فيه خلل آخر لأنه بعد أن شبه عرفها بالمسك شبه ذلك بنسيم القرنفل، وذكر ذلك بعد ذكر المسك نقص. 3 - ويوم دخلت الخدر خدر عنيزة ... فقالت لك الويلات إنك مرجلي تقول وقد مال الغبيط بنا معاً ... عرت بعيري يا امرؤ القيس فأنزل قوله " دخلت الخدر خدر عنيزة " ذكره تكيرياً لإقامة الوزن لا فائدة فيه غيره ولا ملاحة له ولا رونق. وقوله " فقالت لك الويلات؟ " كلام مؤنث من كلام النساء، نقله من جهته إلى شعره وليس فيه غير هذا؟ وفي مصراع الثاني أيضاً تأنيث من كلامهن. 4 - فمثلك حبلى قد طرقت ومرضع ... فألهيتها عن ذي تمائم محول إذا ما بكى من خلفها انصرفت له ... بشق وتحتي شقها لم يحول (الأول) فيه من الفحش والتفحش ما يستنكف الكريم من مثله ويأنف من ذكر (والثاني) غاية في الفحش ونهاية في السخف وأي فائدة لذكره لعشيقه كيف كان يركب هذه القبائح ويذهب هذه المذاهب ويرد هذه الموارد، عن هذه ليبغضه إلى كل من سمع كلامه ويوجب له المقت؛ وهو؟ لو صدق - لكان قبيحاً، فكيف ويجوز أن يكون كاذباً؟ ثم ليس في البيت لفظ بديع ولا معنى حسن " (1) . وهكذا يظل الباقلاني متنقلاً في الكشف عن عيوب امرئ القيس، فبعض كلامه غير بديع وبعضه حشو؛ وفيه تناقض، وركاكة، وتأنث في التعبير ولكن أكثر ما يهيج غضبه خروج الشاعر عن الجادة الخلقي إلى ما يأنف منه الكريم.   (1) انظر الإعجاز 243 - 250 وقد اخترنا الأمثلة والتعليقات عليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 خطورة المنهج منهج الباقلاني على فكرة الإعجاز وهذا المنهج الذي سار فيه الباقلاني اعني تحليله للقصيدة الواحدة وبيان مبلغ التفاوت فيها غير سليم النتائج لأنه يوحي بالموازنة بين شيئين متباعدين رغم ان الباقلاني حاول جاهداً ان ينفي الموازنة بقوله: (عن الكلام في الشعر لا يجوز أن يوازن به القرآن " (1) ؛ وإنما تأتي خطورة هذا المنهج من محاولة بسط حديث إيجابي عن حقيقة الاعجاز؛ وقد قلنا في غير هذا الموطن أن تبين النواحي السلبية أمر سهل فأما تقرير الصفات الإيجابية فإنه شيء بالغ الصعوبة؛ ولهذا لا أرى الباقلاني جاء بشيء ذي بال وهو يحاول أن يبين خصائص الآيات القرآنية التي درسها. هل كل تفاوت معيب؟ وهناك أمر لم يتنبه له الباقلاني حين عاب جميع أنواع التفاوت، وذلك إن بعض التفاوت في طبيعة النظم نفسه مما يقتضيه اختلاف الأحوال النفسية، بين موقف وموقف؛ وهذا هو الذي لم يمكن الباقلاني مثلاً من فهم " قيمة التأنث " فيما ينقله امرؤ القيس من حدي النساء، هذا إذا لم يكن ناقماً عليه من الزاوية الأخلاقية. رجوع إلى منطقة اللاتعليل إن طبيعة هذا النقد تصل دائماً إلى مجال " اللاتعليل " بسهولة ويسر، وذلك هو ما وقف إزاءه العقد عند الآمدي والجرجاني حتى أمام بعض الآثار الشعرية التي لا يمكن ان ينسب لها الإعجاز، ولذلك بقيت لدى الباقلاني خطوة أخرى هي التمييز بين " المعجز " من كلام الخالق، وبين " الرائع " من كلام المخلوق، إذ يبدو أن الإحالة فيهما على الناقد البارع والاطمئنان إلى حكمه لا يبين الفرق بينهما.   (1) ص 328. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 ناقد الآمدي مرة أخرى واللجوء إلى حمى التأثير النفسي وأخيراً فلابد لهذا النقد ان يلجا في النهاية إلى التأثير النفسي، مجملاً دون تفصيل أو توجيه، فيقول كما قال الباقلاني: " فالقرآن أعلى منازل البيان، وأعلى مراتبه ما جمع وجوه الحسن وأسبابه وطرفه وأبوابه من تعديل النظم وسلامته وحسنه وبهجته وحسن موقعه في السمع وسهولة اللسان ووقوعه في النفس موقع القبول؟. وإذا علا الكلام في نفسه كان له من الوقع في القلوب والتمكن في النفوس ما يذهل ويبهج ويقلق ويؤنس ويطمع ويؤيس ويضحك ويبكي ويحزن ويفرح ويسكن ويزعج ويشجي ويطرب؟. وله مسالك في النفوس لطيفة ومداخل إلى القلوب دقيقة " (1) ، وفي هذا تلتقي الطريقان، طريق أهل البديع وطريق أنصار التأليف والنظم ويكون الباقلاني قد ربط بين نتائج الرماني والخطابي، وجمع إلى ذلك كله صنوفاً من المواقف النقدية. رعي الباقلاني بقضايا النقد على عصره كان الباقلاني على وعي دقيق بقضايا النقد الأدبي حسبما بلغت في تصورها حتى عصره، وقد مس كثيراً من القضايا عابراً دون توقف، من ذلك مثلاً فكرة العلاقة بين التصوير والشعر، وكيف ان الشعر هو " تصوير ما في النفس للغير " (2) ؛ ومن ذلك لمحه أن " الشاعر المفلق إذا جاء إلى الزهد قصر " (3) . وأمثال هذا من لمحات؛ ولكنا لم نعرض لما ألمح إليه مسرعاً، كما لم نعرض للمشكلات الكلامية التي ناقشها حول فكرة الإعجاز وإنما قصرنا الحديث على المسائل النقدية الكبرى التي استخدمها في كتابه.   (1) الإعجاز: 419. (2) ص، 181. (3) ص: 305. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 كتاب الصناعتين نموذج للكتاب المدرسي الذي لم يأتي بجديد إطلاقاً ومع أن كتاب الصناعتين لأبي هلال العسكري (- 395) لم يؤلف لإثبات الإعجاز، فإن هذه الفكرة كانت من العوامل الكبيرة التي وجهت المؤلف إلى تصنيف ذلك الكتاب، فهو في نهاية المطاف بلاغي الطابع، وإن لم يفصل كثيراً بين البلاغة والنقد مثلما مزج شواهده وقواعده كي تكون صالحة لقياس الصناعتين معاً، أي الشعر والنثر؛ وفي المقدمة يتحدث المؤلف حديثاً عن العلاقة بين البلاغة والإعجاز حين يقول: " إن أحق العلوم بالتعلم وأولاها بالتحفظ - بعد المعرفة بالله جل ثناؤه - علم البلاغة ومعرفة الفصاحة الذي به يعرف إعجاز كتاب الله تعالى؟ " وهو على مذهب القائلين بان الإعجاز إنما يكمن في حسن التأليف وبراعة التركيب، ولكنه ليس كالباقلاني في الفصل بين الحديث عن نظام التأليف وعن صور البديع، وإنما يرى أن الكشف عن وجوه البديع وصور البيان وسيلة لإدراك حسن النظم والتأليف، أي انه يريد ان يتعلم الناس البلاغة ليتكون لديهم الذوق والفهم المسعفان على إدراك الإعجاز " وقبيح لعمري بالفقيه المؤتم به والقارئ المهتدي بهديه والمتكلم المشار غليه في حسن مناظرته وتمام آلته في مجادلته، وشدة شكيمته في حجاجه، وبالعربي الصليب والقرشي الصريح ألا يعرف إعجاز كتاب الله تعالى إلا من الجهة التي يعرفه منها الزنجي والنبطي أو من يستدل عليه بما استدل بها الجاهل الغبي " (1) . وكتاب الصناعتين حسن التبويب حافل بالأمثلة، سهل المأخذ للدارس، ويحتل البديع فيه أكثر من ثلثه؛ ولكنه صورة عجيبة لعدم الاستقلال بأي رأي ذاتي؛ وليس لأبي هلال فيه إلا تنسيق المادة وترتيبها في فصول والاستكثار من الأمثلة؛ ولقد ينخدع القارئ بالكتاب لأول وهلة لأن المؤلف لم   (1) الصناعتين: 1 - 2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 يشر من مصادره في المقدمة إلا إلى البيان والتبيين للجاحظ، ولا يذكر في درج الفصول سوى قدامة؛ ولكن من يعرف مصادر النقد الأدبي معرفة وثيقة يستطيع أن يرد كل راي في هذا الكتاب إلى مصدر سابق. ولست أشير إلى ما نقله من البيان والتبيين ولكن حسبي أن أذكر أمثلة أخرى: ص 98 - 104 نظرية قدامة في قيام المدح على الفضائل ونظريته في الهجاء، والأمثلة نفسها مستمدة من قدامة. 119 - 127 حديث عن عيوب أبي تمام في المعاني وأمثلة ذلك، وكله مستمد من الموازنة للآمدي 128 - 131 عودة إلى كتاب " نقد الشعر " لقدامة. 139 - 142 نقل من عيار الشعر لأبن طباطبا، وهناك نقول أخرى منه (مثلاً ص 57، 147، 245، 250) . 142 - عودة إلى النقل من قدامة. 148 - نقل من رسالة الصاحب في الكشف عن مساوئ المتنبي. 148 - 152 نقل عن ابن قتيبة. 163 - 164 شرح المعاظلة، ونقل رد الآمدي على قدامة في تحديدها. 196 - سائر الحديث عن السرقات وأمثلتها مستمد من مصادر متعددة. 197 - رأي قدامة في الاستطراف. 243 - نقل عن " الوساطة " للجرجاني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 ص 303 الاستعارات الرديئة عند أبي تمام منقولة عن الموازنة. وهذه أمثلة وحسب، ولو كنا نتصدى لتحقيق كتاب الصناعتين في هذا المقام لرددنا كل ما فيه إلى مصادره، ولهذا السبب لا نرى لهذا الكتاب في تاريخ النقد أية قيمة جديدة، لان صاحبه لم يضف إلى الآراء السابقة أي شيء من لدنه، وكتابه علامة على أن ترتيب الآراء وتنسيقها أصبح حاجة ملحة لدى طلاب النقد والبلاغة في أواخر القرن الرابع، وما أمتع أن تكون فائدته هي ترسيخ الآراء النقدية التي جاء بها نقاد القرنين الثالث والرابع في نفوس الدارسين على نحو واضح مبسوط مزود بكثير من الأمثلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 النقد الأدبي في القرن الخامس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 النقد الأدبي في القرن الخامس طريق الشعر في القرن الخامس حين شبه ابن وكيع الشاعر الذي يتطلبه العصر (أواخر القرن الرابع) بالمطرب ذي الصوت الجميل دون الحجة به إلى معرفة الألحان، وعلل ذلك بزهد الناس في الأدب " في هذا العصر "، كان يشير إلى حقيقتين: إحداهما أن التيار الذي يراد للشعر أن يسير فيه - عن شاء أن يجد قبولاً - هو المضي في طريق السهولة والسطحية والعفوية والملاحة الموسيقية ومباشرة الموضوعات القريبة إلى النفوس والافهام، والثانية أن الذوق الأدبي في أواخر القرن الرابع كان يعاني أزمة تحول، وان هذه الأزمة ستشتد في القرن الخامس؛ ولن تكون هذه الأزمة في معظمها حول هذا الشاعر أو ذاك بل ستكون حول مجموع الخصائص التي تمثل حقيقة الشعر. لماذا خلق المتنبي أزمة في الشعر والنقد وكان المتنبي نفسه هو سر تلك الأزمة: فقد كان المنتظر حسب طبيعة الأشياء أن يكون شعراء القرن الرابع - أو المتميزون منهم - (بالإضافة إلى من قبلهم من شعراء العصور السابقة) هم محور النقد الذي سيدور في القرن الخامس؛ ولكن حقيقة النقد في هذا القرن تشير إلى ان ذلك الحشد الكبير الذي جمعه الثعالبي في اليتيمة لم ينل من النقاد إلا إشارات عابرة، تصلح أحياناً للتمثيل أو المقارنة السريعة، ولكن لم يصب أحداً منهم دراسة، ولا قامت أية موازنة بين اثنين منهم، ولا استكشف لهم شيء من المحاسن؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 وظل المتنبي يسيطر على تصور النقاد: إما وحده وإما مقترناً بابي تمام والبحتري، وغما مقترناً بقدامى الفحول من جاهليين وإسلاميين. وإذا كان ابن وكيع صادقاً في تصوره لأزمة عصره، فأن هذه الظاهرة نفسها تقول إن القرن الخامس سيشهد انفصالاً أوسع من ذي قبل بين الشعر والجماهير، وأن الجمهور الذي سيظل اهتمامه بالأدب حياً يمثل قلة من طبقة المثقفين بالثقافة الأدبية، وأن الذوق العام سيتطلب بعد ذلك غذاءه الأدبي في تيار شعري آخر (أو تيارات أخرى) ؛ فأما تقلص الجمهور فيكفي في تصويره أن نتذكر أن أبا العلاء المعري كان يمثل القطب الأدبي في النصف الأول من القرن وان الحريري كان هو القطب في النصف الثاني منه؛ وأما غذاء الذوق العام في تيارات شعرية أخرى فيقتضي النظر لا في القرن الخامس وحده بل في القرن التالي وما بعده؛ حيث يطالعنا ناقد يلمس بإحساسه العميق أن الشعر قد فقد محوره منذ قرنين، ذلك هو حازم القرطاجي الذي يقول: "؟ هو الذي ران على قلوب شعراء المشرق المتأخرين وأعمى بصائرهم عن حقيقة الشعر منذ مائتي سنة، فلم يوجد فيهم على طول هذه المدة من نحا الفحول ولا من ذهب مذاهبهم في تأصيل مبادئ الكلام وإحكام وضعه وانتقاء مواده التي يجب نحته منها، فخرجوا بذلك عن مهيع الشعر ودخلوا في محض التكلم " (1) . وحين نقول إن المتنبي سر تلك الأزمة لا نعني انه صنعها عامداً، ولكنها حدثت بسببه من ناحيتين، اولاهما انه لم يأت بعده من يخلفه في وقفته الأدبية الشاهرة، صحيح إن المعري كان عبقري خلاقة برى، ولكن طبيعة أدبه باعدت بينه وبين الكثيرين، فعمقت الأزمة بدلاً من أن تحلها، وكانت الغرابة سوراً بينه وبين المثقف الوسط، كما كانت تهمة الزندقة - وهي تهمة باطلة - حجازاً بينه وبين نفسية الجماهير، فإذا قلنا إن موقف المعري كان   (1) منهاج البلغاء: 10. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 تمسكاً مجدداً بالمتنبي أدركنا لماذا لم يستطع أن يساعد على حل الأزمة في القرن الخامس؛ وأما الناحية الثانية: فهي أن ما حققه المتنبي كان خطير النتائج، يشبه الورطة المنطقية، ولبيان ذلك أقول إنه حقق - في أقل تقدير - ثلاثة أمور: 1 - عودة إلى النزعة البدوية في الروح وإلى البداوة في الأسلوب (وكانت هذه إحدى طرقه لليقظة العربية) . 2 - تمثيل منتهى ما بلغه عصره من عمق فكري (تجريبي أو فلسفي تجريدي) . 3 - محو الفارق بين الشعر والخطابة بتساو عجيب دون تغليب أحدهما على الآخر. وتتفاوت هذه العناصر في ظهورها في قصائده، ولكنك حين تقرا مثل قوله يستعطف سيف الدولة عل بني كلاب تحس بها مجتمعة في تساند لا يختل. ترفق أيها المولى عليهم ... فإن الرفق بالجاني عتاب وكم ذنب مولده دلال ... وكم بعد مولده اقتراب وجرم جره سفهاء قوم ... وحل بغير جارمه العذاب وكان هذا يجتمع إلى إحساس داخلي بان الشعر لا يمكن ان يتفوق على ذاته بعدها، ولو كنا نضع على ألسنة متذوقي شعره مصطلحنا النقدي لقلنا إن الإحساس بالوحدة والتكامل الذي كان يحسه قارئ قصيدته، كان يدفع إعجاب القارئ إلى منطقة الحيرة والذهول، وما لنا نبعد في تصوير هذه الحقيقة وهي التي ملكت على المعري وجدانه حتى سمى ديوان المتنبي " معجز احمد ". وقد حاول كل من الشريف الرضي والمعري أن يقتفي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 آثاره في نزعته البدوية، وحاول المعري أن يحاكيه في نقل فلسفته من خلال الشعر، فنجح نجاحاً اقل، لضيق نطاق التجربة " الحياتية ". ولهذا لا نستغرب أن يظل النقد في مطالع القرن الخامس يتخذ المتنبي محوراً، فيكتب محمد بن جعفر القزاز القيرواني (- 412) كتابه " ما اخذ على المتنبي "، ويدرسه الثعالبي ويهاجمه العميدي، ويشرح ابن فورجة والمعري لنشوء النظرية والتبريزي وابن الافليلي وابن القطاع ديوانه؛ ثم أن يكون الموجه لنشوء النظرية النقدية الجديدية في القرن الخامس هو طبيعة شعره؛ اعني مقياس " البداوة " الذي نجده عند الشريف المرتضى، فأبيات أبي نواس " كان الشباب مطية الجهل " يقال فيها: " وعلى هذا الكلام طلاوة ومسحة من أعرابية ليست لغيره " (1) ؛ وما نظن أبا نواس الذي كان يمقت الأعراب يرضى عن هذا المقياس لو سمع به. أو يقول المرتضى في أبيات لأخيه: " هذه أبيات ناصعة رائقة عليها مسحة من أعرابية وعبقة من بدوية " منهاج البلغاء: 10. (2) . نمو التضايق من غلبة الذوق المحدث وتحت وطأة هذا الاتجاه غلب الإحساس الذي أحسه الخالديان ذات يوم في أواخر القرن الرابع بالضيق من طغيان الذوق المحدث، والدعوة للعودة إلى القدماء، وكان للمعري أثره في هذا النطاق، فاقبل الناس على تدارس الشعر الجاهلي والمخضرم، وتصدى الشراح لشرحه، فقام المرزوقي بشرح الحماسة وقام التبريزي بشرح الحماسة والمعلقات والمفضليات، وشرح الزوزني المعلقات السبع؛ ووصلت هذه الموجة إلى الأندلس، فقام علماؤها بشرح الحماسة والأشعار الستة، وألف الأعلم حماسة جديدة تمثل الشعر القديم. وعبر المعري الناقد - من خلال انشغاله باللغة والنحو والعروض - عن بعض ضيقه بالشعر المحدث: " وقد سمعت في أشعار المحدثين إلي وعلي وهو دليل   (1) أمالي المرتضى 1: 607. (2) طيف الخيال: 97. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 على ضعف المنة وركاكة الغريزة " (1) ؛ وعندما رأى كلمة " نودي " بتسكين الياء قال: لا احب ذلك وإن كان جائزاً، وإنما يوجد في أشعار الضعفة من المحدثين (2) ؛ بل إنه عندما تحدث عن العروض فرق في ذلك بين الفحول وشعراء المدن فذهب إلى أن البسيط والطويل اشرف الأوزان وعليهما جمهور شعراء العرب؛ وان المديد وزن ضعيف لا يوجد في اكثر دواوين الفحول؟ وإن الأوزان القصار إنما توجد في أشعار المكيين والمدنيين كعمر بن أبي ربيعة ومن جرى مجراه كوضاح اليمن والعرجي ويشاكلهم في ذلك عدي بن زيد لأنه كان من سكان المدر بالحيرة (3) . إحساس الناقد بأزمة في الابتكار والتوليد وعلى ضوء هذا التاريخ الأدبي الذي ينتهي بأبي الطيب ولا يعدوه إلا قليلاً أحس بعض النقاد بان القرن الخامس يعاني فقراً في الابتكار والتوليد (والمعري خارج هذه الصورة) ؛ قال ابن رشيق: " وان قال قائل ما بالكم يا معشر المتأخرين كلما تمادى بكم الزمان قلت في أيديكم المعاني وضاق بكم المضطرب؛ قلنا: أما المعاني فما قلت، غير أن العلوم والآلات ضعفت، وليس يدفع أحد أن الزمان كل يوم في نقص وان الدنيا على آخرها، ولم يبق من العلم إلا رمقه، معلقاً بالقدرة، ما يمسكها إلا الذي يمسك السماء أن تقع إلى الأرض غلا بإذنه " (4) . فبان رشيق يرى أن ضعف الطلب (أي قلة إقبال الناس على الثقافة، وضعف الآلة (أي تخلي الطبع والدربة والذكاء عن أصحابها) هما السبب في ندرة التجديد في المعاني. ويحتج ابن رشيق لرأيه هذا بأن المعاني ظلت تتوسع على مر الزمن، فكانت معاني الإسلاميين زائدة على معاني القدماء والمخضرمين حتى كثرت الابتداعات والتوليدات   (1) رسالة الغفران: 448. (2) المصدر نفسه: 574. (3) الفصول والغايات: 212. (4) العمدة 2: 184 - 185. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 في شعر جرير والفرزدق، ثم جاء بشار وأصحابه فزادوا معاني لم تخطر ببال جاهلين ثم كان ابن الرومي وشانه في المعاني شأنه، ويعقب على ذلك بقوله: "؟ إنني ذممت إلى المحدثين أنفسهم في أماكن من هذا الكتاب وكشفت لهم عوارهم ونعيت لهم أشعارهم، ليس هذا جهلاً بالح ولا ميلاً إلى بنيات الطريق، لكن غضاً من الجاهل المتعاطي والمتحامل الجافي الذي إذا أعطى حقه تعاطى فوقه، وادعى على الناس الحسد، وقال: أنا ولا أحد، وإلى كم أعيش لكم. وأي علم بين جنبي لو وجدت له مستودعاً، فإذا عورض في شعره بسؤال عن معنى فاسد، أو طولب بحجة في لجنة أو شاذ، أو نوظر في كلمة من ألفاظ العرب مصحفة أو نادرة. قال: هكذا اعرف، وكأنما أعطى جوامع الكلم؛ حاش لله، واستغفر الله، بل هو العمى الأكبر والموت الأصغر، وبأي إمام يرضى، أو إلى أي كتاب يرجع وعنده أن الناس أجمعين بضعة منه، بل فضلة عنه " (1) . القلق من الربط بين الشعر والتكسب وازداد إحساس الناقد الشاعر في القرن الخامس، بمشكلة طال بها الغناء، أهدرت كثيراً من الجهد في تاريخ الشعر العربي، وأعني بها العلاقة بين الشعر والتكسب؛ حتى أصبحت عنصراً من العناصر التي يسوقها من يهجنون الشعر ويفضلون عليه النثر، في حجاجهم؛ وقد كان النظر إليها من الزاوية المثالية سهلاً على شاعر ناقد كالمعري، لم يبتذل شعره من اجل الكسب، والتزم الزهد والتعفف مبدأ صارماً، ولذلك تجده يسخر من هذا الموقف في حياة الشعر، فيدفع بطل رسالة الغفران (الشيخ ابن القارح) إلى ممارسة المدح على مختلف القوافي ليكون شعره شفيعاً له لدى رضوان وزفر الواقفين على بابين من أبواب الجنة، فإذا سئل الشيخ: ما الشعر - بلهجة الاستغراب - قال: " كان أهل العاجلة يتقربون به إلى الملوك والسادات " (2) ؛   (1) العمدة 2: 185. (2) رسالة الغفران: 242 - 243. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 أما الناظر إلى تلك المشكلة من الزاوية الواقعية فكان لابد أن يتذرع لمواجهتها بشيء من الحيلة، إذ غدا أمراً مستعصياً؛ ولهذا نرى ابن رشيق يتناولها على مستويات مختلفة: فإذا استطاع الشاعر أن يقول الشعر بدوافع ذاتية ولم بقله رغبة أو رهبة أو مدحاً أو هجاء فذلك زائد في أدبه شاهد بفضله؛ ولكنه إذا لم يستطع ذلك وكان ضئيل المنزلة فاحب أن يرتفع فيها فنال بشعره الرتب واتصل بالملوك فليس ذلك بدعاً مستغرباً منه؛ أما المعيب فهو أن يكون الرجل سرياً شريفاً فيصنع الشعر ليتكسب به المال دون غيره وهو يعلم أن الشعر " أبقى من المال وانفس ذخائر الرجال " فذلك إذا مدح من فوقه سمي ضارعاً، وإذا مدح مساويه نزل عن درجة المساواة، وإذا هجا من دونه ضل ضلالة وتم خزيه (1) ؛ ويقرر ابن رشيق مبدأ للتكسب - وهو عارف بفضل التعفف الذي مارسه كثير من الشعراء ممن " وقر نفسه وقارها وعرف لها مقدارها حتى قبض نقي العرض مصون الوجه ما لم يكن به اضطرار تحل به الميتة فأما من وجد البلغة والكفاف فلا وجه لسؤاله بالشعر " (2) - ويعتمد هذا المبدأ على التساهل في أخذ الشعراء من الملوك والرؤساء الجلة (كما فعل النابغة وزهير) ، والشعراء في ذلك معذورون أكثر من أهل الورع والفتيا، فأما الذميم فهو مسلك الحطيئة (فقبح الله همته الساقطة - على جلالة شعره وشرف بيته - وقد كانت الشعراء ترى الأخذ ممن دون الملوك عاراً فضلاً عن العامة وأطراف الناس " (3) . وقد كانت هذه الوقفة، سواء في نهكم المعري أو في تسويغ ابن رشيق، يقظة قصيرة المدى على الحال الزرية التي بلغها ارتباط الشعر بعطف السادة والكبراء وكل من يستطيع أن يمد يد الإحسان للشعراء؛ ولذا كانت اضعف من أن تكسر القيود المستحكمة، التي طال عليها الامد، وأصبح الخلاص منها - بحكم الأوضاع الاقتصادية -   (1) العمدة 1: 21. (2) العمدة 1: 51. (3) العمدة 1: 52، وانظر 21 أيضاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 شيئاً يشبه المستحيل؛ وإذا كان أثرها في الشعر أوضح فإن أثرها في النقد غير معدوم، وحسبك أن تسمع ناقداً مثل ابن رشيق نفسه ما يزال يبني كثيراً من قواعده النقدية على آداب اللياقة في مجالس الممدوحين، ولو انه آمن بان انكسار الحلقة السحرية ممكن لما كان بحاجة إلى تكرار تلك القواعد؛ كذلك فإنه يوجه آراءه في النقد بوحي من ذلك الموقف الاجتماعي، فينقل عن أستاذه عبد الكريم النهشلي قوله: " قالوا: حسن البلاغة ان يصور الحق في صورة الباطل والباطل في صورة الحق، ومنهم من يعيب ذلك المعنى ويعده إسهاباً وآخر يعده نفاقاً " ويرد على الجزء الأخير من هذا الحكم بقوله: " والذي أراه أنا أن هذا النوع من البيان غير معيب بأنه نفاق لأنه لم يجعل الباطل حقاً على الحقيقة ولا الحق باطلاً وإنما وصف محاسن كل شيء مرة ثم وصف مساويه مرة أخرى " (1) ؛ وكان ابن رشيق يدرك ان الحرية التي ينالها الشاعر ذات مسئوليات كبيرة ولذلك نجده يسرع إلى إنكار مسئولية الشاعر تجاه ما يؤمن به من مبادئ: " وما للشاعر والتعرض للحتوف، وإنما هو طالب فضل " (2) فقوله " طالب فضل " يفسر أن الاستمرار في العبودية الاقتصادية مأمنه من كل ثورة على الأخطاء " وكل شيء يحتمل إلا الطعن على الدول " (3) ؛ وهذا هو التيار النقدي الشعري الذي كتبت له الغلبة في عصر كان أبو العلاء يقول فيه: مل المقام فكم أعاشر أمة ... أمرت بغير صلاحها امراؤها ظلموا الرعية واستجازوا كيدها ... وعدوا مصالحها وهم إجراؤها   (1) العمدة 1: 165. (2) العمدة 1: 45. (3) نفس المصدر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 عودة إلى التمرس بالقضايا المقدسة القديمة وحين اخفق الشعر في أن يجد طريقه الصحيحة وغايته أخفق النقد في التطور إلى مستويات جديدة، ولذلك كرر الحديث عن عمود الشعر - مع تطوير جزئي فيه - وعن المفاضلة بين النثر والشعر، وعن السرقات - في مجال القواعد والتطبيق - وعن المطبوع والمصنوع، ومبدأ " الكذب والصدق " في الشعر وعن انقسام النقاد في عصبيتهم للفظ أو المعنى وعن شئون البديع وعلاقتها بالمستوى البلاغي، وعن عناصر أخرى شكلية في طبيعة العمل الفني، وبدا ان الوصول إلى نتائج جديدة لا يتعدى أموراً جزئية. انشطار النقاد في قسمين إزاء المشكلات النقدية ومما يلفت النظر هذا التباين الواضح الذي استمر مريره بين النقاد، على شكل يوحي بوجود تيارين متوازيين متباعدين على الدوام، فبينا يقف المرزوق ليبين فضل النثر على الشعر، يقف ابن رشيق ينادي بأفضلية الشعر، فكأنهما يعيدان طبيعة الموقف في القرن الرابع دون أن يحسا بقلة جدوى ما يفعلان؛ وبينا يمعن العميدي في الكشف عن سرقات المتنبي سائراً في خط الحاتمي وابن وكيع، تجد الشريف المرتضي يذهب الجرجاني في تحريم القول بالأخذ والسرقة: " ليس ينبغي لأحد أن يقدم على أن يقول أخذ فلان الشاعر هذا المعنى من فلان، وإن كان أحدهما متقدماً والآخر متاخراً، لانهما ربما تواردا من غير قصد ولا وقوف من أحدهما على ما تقدمه الآخر إليه، وإنما الإنصاف أن يقال: هذا المعنى نظير هذا المعنى ويشبهه ويوافقه، فأما أخذه وسرقه فما لا سبيل إلى العلم به، لأنهما قد يتواردان على ما ذكرناه، ولم يسمع أحدهما بكلام الآخر، وربما سمعه فنسيه وذهب عنه ثم اتفق له مثله من غير قصد، ولا يقال أيضاً أخذه وسرقه إذا لم يقصد إلى ذلك " (1) ؛ وكذلك أشبه المرتضى الجرجاني والآمدي في قوله عن هناك معاني متداولة مألوفة لا تؤخذ ولا   (1) الشهاب: 7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 تسرق، وزاد قوله إنه يجب ألا يحكم الناقد لمعنى من المعاني بالسبق والتفرد لأنه لا يأمن أن يكون هذا المعنى قد ورد في شعر لم يبلغه " فإن الخواطر لا تضبط ولا تحصر، ومن ذا الذي يحيط علماً بكل ما قيل وسط وذكر " (1) . وإذ نجد نقاداً مثل ابن شرف يلتمسون كل وسيلة لإلصاق الخطأ بالشاعر نجد الشريف المرتضى ميالاً إلى التساهل لان الشاعر لا يبني كلامه على التحقيق والتحديد " وكلام القوم مبني على التجوز والتوسع والإشارات الخفية والإيماء على المعاني تارة من بعد وتارة من قرب، لأنهم لم يخاطبوا بشعرهم الفلاسفة وأصحاب المنطق، وإنما خاطبوا من يعرف أوضاعهم ويفهم أغراضهم " (2) . الاختلاف حول مشكلة اللفظ والمعنى ومع أن اكثر نقاد القرن الخامس يميلون إلى التوفيق بين اللفظ والمعنى فإنك تجدهم في حيرة شديدة من أمرهم لأنهم لم يهتدوا إلى قاعدة صحيحة تنجيهم من التردد، فالمرتضى يقول: " وحظ اللفظ في الشعر أقوى من حظ المعنى " (3) ، وأخوه الرضي يقول: " إن الألفاظ خدم للمعاني لأنها تعمل في تحسين معارضها وتنميق مطالعها " (4) ، والمرزوقي ينادي بائتلافهما، وابن رشيق يدرك انقسام الناس حولهما، ثم تجده يقول: " وأما ابن الرومي فأولى الناس باسم شاعر لكثرة اختراعه وحسن افتنانه " (5) ، حتى إذا أخذ في النقد كان ميله إلى ناحية الشكل أظهر؛ ويمثل ابن الرومي مشكلة يتباين حولها الرأي، فبينا يعتبر ابن رشيق من المعجبين به لكثرة اختراعه   (1) طيف الخيال: 89. (2) أمالي المرتضى 2: 95. (3) الشهاب: 79. (4) التلخيص: 244. (5) العمدة 1: 194. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 نجد المرتضى يعد أن طريقته مخالفة للطريقة الصحيحة لأنه " يورد المعنى ثم يأخذ في شرحه في بيت آخر وإيضاحه وتشعيبه وتفريعه، فربما اخفق واكدى وربما أصاب فأصمى، لأن الشعر إنما تحمد فيه الإشارة والاختصار والإيماء إلى الأغراض وحذف فضول القول " (1) ، ويمكن القول بأن نقاد القرن الخامس قد أكدوا استكشاف ابن الرومي بعد أن نسيه الناس لانشغالهم بالحديث عن البحتري وأبي تمام والمتنبي (2) . وعلى الجملة تغلب أنصار نظرية الائتلاف بين اللفظ والمعنى، وفي ظل فكرة الإعجاز دفع عبد القاهر بنظرية الائتلاف إلى نهايتها تحت اسم " النظم ". استقواء التيار الأخلاقي ونجم عن اللامسئولية العابثة في ميدان الشعر استقواء تيار أخلاقي في النقد، وبخاصة حيث اقترن الشعر بالفقه أو اقترن بالفلسفة الأفلاطونية في الأندلس. وفي مثل هذا الجو النقدي يتجلى لنا أن محاولة ابن سينا في توضيح " كتاب الشعر " لأرسطو، ما كان في إمكانها أن تثير شيئاً جديداً، حتى ولو فهمت آراء ارسطو فهماً مقارباً للأصل؛ لقد كان يمكن لابن حزم الأندلسي أن يفيد من هذا الكتاب، لو وصله أو لم فهمه، ولكن يبدو انه لم ير هذا الكتاب، أو انه رآه فاستبعد انطباقه على الشعر العربي. اتساع المجال الجغرافي في نقد القرن الخامس وأياً كان الأمر فإن الناظر إلى النقد الأدبي في القرن الخامس يجد ان المجال الجغرافي أمامه قد اتسع، غذ شاركت فيه الأندلس والقيروان بنصيب؛ وأنه شهد قالباً قد نعده جديداً - إذا استثنينا المقامة الجاحظية للبديع - وهذا هو " المقامة النقدية " - وهي شكل يدل على الضيق بالتحليل ويحاول إيجاز النظرات العامة وترسيخها في نفوس الدارسين؛ ولا ريب في أن بعض   (1) الشهاب: 39. (2) قد اعتنى الخالديان بشعر ابن الرومي واختيراه في القرن الرابع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 جوانب النقد في هذا القرن تتمتع بقسط من الحيوية غير إنها حيوية نابعة من شخصيات الناقدين أمثال المرزوقي وعبد الكريم النهشلي وابن رشيق وابن شهيد، لا من الجدة في الآراء والنظرات النقدية. منهجنا في دراسة النقد في ذلك القرن وقد كان من الممكن أن نقسم دراستنا لهذا المحصول النقدي تحت مناهج مختلفة ولكن إيثاراً للتبسيط ندرسها حسب الأقاليم، فنتناول النقد في مصر والمشرق وهو يشمل: (1) استمرار المعركة النقدية حول المتنبي. (2) نظرية عمود الشعر في صورتها المكتملة. (3) النقد العربي وكتاب الشعر. (4) النقد وفكرة الإعجاز. فإذا انتهينا من دراسة هذه المظاهر، توجهنا لدرس النقد في كل من الأندلس والقيروان، وبذلك تكتمل صورة النقد في القرن الخامس، إلا أن يجد في مصادرنا شيء جديد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 - 1 - استمرار المعركة النقدية حول المتنبي طبيعة الجهد الذي دار حول المتنبي قد ذكرنا في مقدمة الحديث عن نقد القرن الخامس أن المتنبي ظل محور جهود نقدية متباينة في البيئات الثلاث: البيئة المشرقية (ومنها مصر) ، والأندلس، والقيروان. ولكن المعركة في القرن الرابع كانت قد استغرقت أكثر الأمور الريسية التي أثيرت حوله، فلم يكن جهد النقاد في مطلع القرن الخامس سوى تقرير ما سبق على نحو من التنسيق - كما فعل الثعالبي - أو على نحو من التعميق لمجال سرقاته - كما فعل العميدي -. غير أن ظاهرة الشرح لديوانه هي إبراز الظواهر في هذا القرن فقد تعاقب على شرحه سبعة من أكابر الشراح. وهذه الشروح - بطبيعة الحال - تتعمد توضيح المعاني، ويتفاوت اهتمام أصحابها في توجيه الأعراب والاتيان بالشواهد؛ وأكثرها يتخذ من شرح ابن جني أساساً للرد عليه أو لاستخراج رأي آخر مخالف لرأيه - وخاصة شرحا ابن فورجة فإنهما رد مباشر على ابن جني - ولذا فهي تصلح بعد الدراسة المقارنة للكشف عن طبقات القراءة المتفاوتة لشعر المتنبي. ولكن قل أن نجد فيها أحكاماً نقدية تتعدى النص على جمال استعارة أو خطأ تشبيه أو نقد لغوي أو نحوي. وسنكتفي هنا بدراسة ما يمثل هذه الصورة العامة بين النقاد المتفاوتين الذين اتخذوا المتنبي محوراً لدراستهم: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 أبو منصور الثعالبي (- 429) أين يقف الثعالبي في النقد؟ لا يعد الثعالبي في النقاد، لأن كتبه التي تتصل بالشعر لا تتصور إلا ذوقاً فردياً خالصاً، من العسير تبين أساس نقدي له، سوى إعجابه باللون الحضري في أشعار معاصريه، على تباين تلك الأشعار في موضوعاتها وصياغتها -؛ وعلى الرغم من انه ذكر شعراء عصره في اليتيمة - وهي أوضح كتبه من حيث الأسس النقدية على حسب الاقاليم، فمن الكثير عليه أن يقال: إنه فعل ذلك إدراكاً منه لاختلاف الشعراء باختلاف بيئاتهم. صحيح أنه ميز شعراء الشام بأنهم أشعر من شعراء عرب العراق وما يجاورها في الجاهلية والإسلام وعلل ذلك بقربهم من خطط العرب، ولا سيما أهل الحجاز، وبعدهم عن بلاد العجمة وسلامة ألسنتهم من الفساد العارض لألسنة أهل العراق لمجاورة الفرس والنبط، وبجمعهم بين الفصاحة البداوة وحلاوة الخضارة، وبوجود أمراء شغوفين بالأدب يحبون الشعر وينتقدونه (1) . ولكن هذا (حتى لو أقررنا بصحته) لم يكن هو الأساس الذي جعله يفرد باباً لشعراء الحبال وفارس وجرجان وطبرستان، وآخر لأهل خراسان وما وراء النهر؛ وإنما وجد ان التأليف بحسب القسمة الإقليمية اسهل في حصر أسماء المعاصرين فاعتمده. ولو كان اختلاف البيئة مقياسه في النظرة النقدية لما خلط بين شعراء مصر والمغرب والأندلس وترجم لهم في نطاق واحد. وقد شرط على نفسه ألا يورد - في الصورة الأخيرة من اليتيمة (2) - إلا " لب اللباب وحبة القلب وناظر العين ونكتة القلب وواسطة العقد " (3)   (1) اليتيمة 1: 24 - 25. (2) بدأ الثعالبي تأليف اليتيمة سنة 384 ثم كثرت لديه المادة فغير ترتيب الكتاب، ووضعه في هذا الشكل الذي نطالعه اليوم. (3) اليتيمة 1: 20. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 إلا أن تكون أبياتاً لا يمكن حذفها لاعتماد المعنى عليها، أو تكون لأحد الكبراء فهي تشرف بالانتساب إليه؛ ومع ذلك فإما أن يكون الثعالبي قد أخل بالشرط، أو تكون الأذواق قد تغيرت، منذ عهده حتى هذا العصر، فلم تعد واسطة العقد كما كانت، بل أصبحت حبة من الخرز الرخيص. إعجابه بالمتنبي ولكنا نتحدث عن الثعالبي - في هذا المقام - لأنه عقد في كتابه فصلاً عن المتنبي، يعد كتاباً قائماً بنفسه، وهو مختلف عن بقية فصول الكتاب، بما جوى من مادة نقدية؛ فالثعالبي معجب بالمتنبي " نادرة الفلك وواسطة عقد الدهر في صناعة الشعر " (1) ، ولكنه كان قد قرا عنه رسالة الصاحب بن عباد، وكتاب الوساطة للجرجاني، وشرح ابن جني للديوان، ولعله قرا كتباً أخرى أيضاً وسمع أخباراً شفوية عنه من الخوارزمي الذي عاش مدة من الزمن في بلاط سيف الدولة. الجديد في دراسة الثعالبي للمتنبي وتمتاز دراسة الثعالبي بأشياء جديدة لم نجدها فيما ألف عن المتنبي من قبل، منها: (1) معانيه التي حلها الكتاب في رسائلهم، مثل الصاحب والصابي والضبي والخوارزمي. (2) نماذج من المعاني التي سرقها منه الشعراء. (3) المعاني التي كررها في شعره. (4) التوسع في ضروب محاسنه، وفي هذه الناحية لم يقف عند حدود حسن المطالع والخروج والتخلص بل لمح أشياء في الموضوع أجاد فيها المتنبي   (1) اليتيمة 1: 126. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 كالغزل في الأعرابيات، وحسن التصرف في أنواع الغزل، والإبداع في التشبيه والتمثيل والمدح الموجه، ومخاطبة الممدوح مخاطبة المحبوب أو الصديق، واستعمال ألفاظ الغزل في أوصاف الحرب. والمعاني المبتكرة، هذا إلى كثرة الأمثال السائرة والحكم وغير ذلك من مميزات. عيوب المتنبي كما عدها النقاد السابقون أما حديثه عن عيوبه فأكثر اعتماده فيه على رسالة الصاحب ولذا تجده عد من عيوبه: قبح المطالع وإتباع الفقرة الغراء بالكلمة العوراء: " والإفصاح بذلك في شعره عن كثرة التفاوت وقلة التناسب وتنافر الأطراف وتخالف الأبيات وما أكثر ما يحوم حول هذه الطريقة ويعود لهذه العادة السيئة ويجمع بين البديع النادر والضعيف الساقط؟ " (1) ؛ كذلك عد من عيوبه استكراه اللفظ وتعقيد المعنى والخروج عن الوزن واستعمال الغريب الوحشي والإفراط في الاستعارة، والاستكثار من " ذا " الإشارية والإفراط في المبالغة إلى غير ذلك من عيوب استمد تحديدها وأمثلتها من الصاحب والقاضي الجرجاني. هل ضعف العقيدة عيب في الشاعر؟ ولما عد من عيوبه أن في شعره ما بفصح عن ضعف العقيدة ورقة الدين، كرر قول القاضي: " على أن الديانة ليست عياراً على الشعراء، ولا سوء الاعتقاد سبباً لتأخر الشاعر " إلا انه عدل في هذا الحكم الذي كان القاضي قد أطلقه دون تحديد، فدل بذلك على انه يحاول أن يجعل للدين تدخلاً في المقياس الأدبي حين قال: " ولكن للإسلام حقه من الإجلال الذي لا يسوغ الإخلال به قولاً وفعلاً ونظماً ونثراً، ومن استهان بأمره ولم يضع ذكره وذكر ما يتعلق به في موضع استحقاقه فقد باء بغضب من الله تعالى وتعرض لمقته في وقته " (2) .   (1) اليتيمة 1: 163 - 164. (2) اليتيمة 1: 184. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 عيوب أخرى وهناك عيوب أخرى عدها الثعالبي مثل: الغلط بوضع الكلام في غير موضعه، وامتثال ألفاظ المتصرفة، والخروج عن طريق الشعر إلى الفلسفة واستكراه التخلص وقبح المقاطع، وكلها مما تردد عند الصاحب والقاضي الجرجاني. غير أن الثعالبي حين عقد فصلاً لسرقات المتنبي ذكر انه يتحاشى ما جاء به القاضي في الوساطة، وأنه يحاول أن يدل على سرقات أخرى، وربما اعتمد في ذلك على مصدر آخر. من كل ما تقدم نستطيع ان ننصف الثعالبي حين نقول انه ليس يعد في النقاد، ولا حتى في مؤرخي الأدب، ولولا فصله عن المتنبي، لكان أدراجه في باب النقد تزيداً لا يجد له مسوغاً. أبو سعد محمد بن احمد العميدي (- 433) (1) لمحة عن جهود العميدي في الأدب والنقد شهر العميدي بالنحو واللغة ولكن توليه ديوان الإنشاء بمصر في أيام المستنصر، وأسماء مؤلفاته كل ذلك يدل على درجة في الكتابة والأدب عامة، فمن كتبه " كتاب تنقيح البلاغة " رآه ياقوت وذكر انه في عشر مجلدات، وكتاب " الإرشاد إلى حل المنظوم والهداية إلى نظم المنثور "؛ كذلك اهتم بالعروض والقوافي وله فيهما مؤلفان؛ وقد انفرد القفطي بذكر كتابه في " سرقات المتنبي " وقال: وهو كتاب حسن يدل فيه على اطلاع كثير.   (1) ترجمته في معجم الأدباء 17: 212 والوفي 2: 75 (رقم: 382) وبغية الوعاة: 19 وأنباء الرواة 3: 46 وفيه انه توفي سنة 443. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 ما معنى كتابة الإبانة بعد تأليف " المنصف "؟ وهذا الذي ذكره القفطي هو رسالته التي تسمى " الإبانة عن سرقات المتنبي " (1) وهي تجري مجرى " المنصف " في دواعيها وغايتها، فإما أن مؤلفها لم يطلع على كتاب ابن وكيع، وغما أنه اطلع عليه ووحد لدى نفسه زيادة استقصاء في تبيان سرقات المتنبي أحب إثباتها في رسالة؛ وتبرهن هذه الرسالة على أن الإعجاب بابي الطيب في البيئة المصرية لم يؤثر فيه كتاب " المنصف " شيئاً وأنه استمر بعد ابن وكيع سنوات كثيرة، ظل المعجبون بالمتنبي في خلالها مثار نقمة كبيرة لدى خصومهم: " ولقد جرى يوماً حديث المتنبي في بعض مجالس أحد الرؤساء، فقال أحد حاملي عرشه: سبحان من ختم بهذا الفاضل الفحول من الشعراء وأكرمه، وجمع له من المحاسن ما بعثره في كل من تقدمه، ولو أنصف لعلق شعره كالسبع المعلقات من الكعبة، ولقدم على جميع شعراء الجاهلية في الرتبة، ولكن حرفة الأدب لحقته، وقلة الإنصاف محت اسمه من جرائد المتقدمين ومحقته " (2) ؛ كانت المشكلة التي يريد إقرارها المعجبون بابي الطيب انه " أشعر شاعر " عرفته العربية، فيفزع العميدي - كما فزع ابن وكيع - إلى حكم الذوق المألوف حينئذ فيحطه عن درجة أبي تمام والبحتري، ويزيد على صاحبه بتفضيل مسلم بن الوليد وابن الرومي عليه. هذا مع أنه كصنوه ابن وكيع لا ينكر أنه شاعر قدير: " ولست - يعلم الله - اجحد فضل المتنبي وجودة شعره وصفاء طبعه وحلاوة كلامه وعذوبة ألفاظه ورشاقة نظمه، ولا أنكر استكماله لشروط الأخذ إذا لحظ المعنى البديع لحظاً، واستيفاءه حدود الحذق إذا سلخ المعنى فكساه من عنده لفظاً، ولا أشك في معرفته بحفظ التقسيم الذي يعلق بالقلب موقعه، وإيراد التجنيس الذي يملك النفس مسمعه،   (1) نقلها البديعي في الصبح المنبي، ونشرت منفردة (في طبعة غير مؤرخة) ثم نشرت ثانية بتحقيق إبراهيم الدسوقي (دار المعارف بمصر 1961) . (2) الإبانة: 21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 ولحاقه في إحكام الصنعة ببعض من سبقه، وغوصه على ما يستصفي ماءه ورونقه، وسلامة كثير من أشعاره من الخطل والزلل والدخل والنظام الفاحش الفاسد والكلام الجامد البارد والزحاف القبيح المستشنع، واللحن الظاهر المستبشع، وأشهد انه على درجة أمثاله غير نازل ولا واقع، وأعرف انه مليح الشعر غير مدافع " (1) . كل ما يريد العميدي أن ينكره ادعاه المدعين أن معانيه مخترعة لم يسبقه إليها شاعر، وهذا ادعاء واه، لان الذي يأتي به مطالب أن يعرف ما لدى الشعراء الآخرين من المعاني ويحيط علماً بدواوين الشعراء، وهو شيء لم يحاوله أنصار أبي الطيب ولا يستطيعونه لو حاولوه. أليس هذا هو المدخل نفسه الذي اعتمده ابن وكيع سبباً لكتابة " المنصف "؟ من هنا نرى أن البواعث تتكرر وان المحاولة تعاد مرة ثانية في مدة ربما لم تتجاوز ربع قرن من الزمان. الحاتمي مسئول عن تهمة يتولى العميدي إثباتها وجانب من هذا الموقف يعود دون ريب إلى الحاتمي، فهو مسئول عن ترويج قالة على المتنبي مؤداها أن المتنبي قال له في الرد عليه: " من أبو تمام والبحتري؟ ما اعلم أني سمعت بذكرهما إلا من هذه الحاضرة " (2) ثم قال له في مجلس آخر - وهو ينقض القول الأول - " تنكب عن هذا، فهل تجد لأبي تمامكم هذا أو بحتريكم معنى اخترعاه " (3) وهذا ما أثار ابن وكيع، اعني تهجم المتنبي على الطائيين، وذلك هو ما جعل العميدي يحاول توهينه عند نفسه وعند أصحابه: " ولولا أنه كان يجحد فضائل من تقدمه من الشعراء، وينكر حتى أسماءهم   (1) الإبانة: 23 - 24. (2) الموضحة: 106. (3) الموضحة: 186. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 في محافل الرؤساء (1) ، ويزعم أنه لا يعرف الطائيين، وهو على ديوانيهما يغير، ولم يسمع بابن الرومي وهو من بعض أشعاره يمير؟. لكان الناس يغضون عن معايبه، ويغطون على مساويه ومثالبه " (2) ، لهذا كان لابد أن يتصدى العميدي له فيفضح سرقاته، وخاصة من ابن الرومي ومن الطائيين كما فعل ابن وكيع من قبله. الخالدين على تهمة الحاتمي وتهمة الحاتمي قد وجدت عليها الرد الطبيعي لخروجها عن حدود المعقول، قال الخالديان: " كان أبو الطيب المتنبي كثير الرواية جيد النقد، ولقد حكى بعض من كان يحسده انه كان يضع من الشعراء المحدثين، ويغض من البلغاء المفلقين، وربما قال: أنشدوني لأبي تمامكم شيئاً حتى اعرف منزلته من الشعر، فتذاكرنا ليلة في مجلس سيف الدولة بميافارقين وهو معنا، لأنشد أحدنا لمولانا أيده الله شعراً له قد ألم فيه بمعنى لأبي تمام؟ فقال أبو الطيب: هذا يشبه قول أبي تمام، فقال: أو يجوز للأديب ألا يعرف شعر أبي تمام وهو أستاذ كل من قال الشعر بعده، فقلنا: قد قيل إنك تقول كيت وكيت، فأنكر ذلك، وما زال بعد ذلك إذا التقينا ينشدنا بدائع أبي تمام وكان يروي جميع شعره " (3) . فهذه القالة كانت معروفة عن أبي الطيب قل وروده العراق، فما كان من الحاتمي إلا أن زادها رواجاً بحديث خيالي - فيما نقدر - أجراه على لسان المتنبي؛ وظلت هذه الشائعة تفعل فعلها، أو يوهم الناقمون على موجة الإعجاب بالمتنبي أنها كذلك، حتى جاء دور العميدي فجعلها سبباً أكيداً في تبيان عيوب أبي الطيب، وخاصة   (1) لاحظ الشارة هنا إلى رواية الحاتمي السابقة. (2) الإبانة: 24. (3) الصبح المنبي: 124 - 143. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 في السرقات: " وأنا بمشية الله تعالى وإذنه أورد ما عندي من أبيات أخذ ألفاظها ومعانيها وادعى الإعجاز لنفسه فيها، لتشهد بلؤم طبعه في إنكاره فضيلة السابقين وتسمه فيما نهبه من أشعارهم بسمة السارقين " (1) . اضطراب العميدي في الحملة على المتنبي ولم يبين العميدي رأيه في السرقات بمقدمة كالتي جاء بها ابن وكيع ولا احتاج أن يقف عند صنوف البديع، وإنما دخل في الموضوع دون تمهيد (سوى المقدمة العامة) ولم يتتبع قصائد المتنبي حسب ترتيبها كذلك، بل كان يورد معنى لشاعر من الشعراء ثم يتبعه بمعنى سرقه المتنبي، ولا تدل قسمة الكتاب في ثلاثة أجزاء على شيء من القسمة الموضوعية وغنما هي تجزئة قد تشير إلى عدد الكراسات وحسب؛ غير أنه بعد ان انتهى من الرسالة، أضاف إليها فصلاً جديدياً في سرقات عثر عليها بعد تمام الجزء الثالث فقال معتذراً " قد كنت اقتصرت على ذكر أبيات وجدتها للشعراء في دواوينهم عند قراءتي لها واشتغالي بالبحث عما أخذ المتنبي بعض ألفاظها ومعانيها وأنكر أسماءهم وفضائلهم فيها، ثم وجدت بعدها أبياتاً أخر لهم ولغيرهم من المتقدمين، فلم أستجز إسقاطها من جملة ما كنت دللت عليه وأوضحت الطريق غليه من أبياته التي ادعى أصحابه انه ابتدعها واقتضبها واخترعها من ذات نفسه وما اغتصبها " (2) . ولا يزال العميدي عند هذا الحد مضطرب النفس بين أن يقر بشيء من الفضل للمتنبي - كما فعل في مقدمة الرسالة - وبين أن يفضل عليه جميع طبقات المتقدمين، ويثبت سقوطه عن منازل أكثر المحدثين (دع) المخضرمين (3) ، فإذا كانت الخصائص الحسنة والفضائل التي وجدها العميدي لأبي الطيب (في المقدمة) لا تنسبه إلى طبقة متميزة في المحدثين   (1) الإبانة: 25. (2) الإبانة: 149. (3) الإبانة: 150. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 بل يظل معها ساقطاً على منازل أكثرهم، فإن العميدي قد أوقع نفسه في ورطة أكيدة، لأنه حين قبل أنصار المتنبي أن يسلموا بأخذه للمعاني إلا أنه يزيد فيها ما " يحلو سماعه وتعذب أنواعه ويلطف موقعه ويخف على القلوب موضعه؟ " (1) أنكر عليهم ذلك، وما أراه إلا منكراً على نفسه ما قرره في البداية، وسبب هذا التناقض هو زيف القاعدة التي بنى عليها النقد، ومتى كان المدخل إلى النقد هو التحامل المورى بالإنصاف المنتحل، فإن مصير هذا التحامل إلى الانكشاف والافتضاح لان الإنصاف حينئذ لا يكون إلا دعوى مزورة ومظهراً كاذباً. منهجه في الغمز العنيف لهذا كان العميدي أشد سخطاً، واظهر نقمة من ابن وكيع، لاذع التعليقات كقوله: " لقد تصبب عرقاً وتقلب أرقاً حتى استنبط هذا المعنى البديع " (2) لا يكاد يسلم له بحق الإجادة، حيث يجيد، إلا مكرهاً، عنيفاً إذا وجد أدنى مغمز مثل: " وهذا الكلام لا يخرج إلا من سوء أدب وقلة معرفة بخدمة الملوك؟ " (3) أو كقوله: " بكم الخرس أحسن من هذا الكلام العامي الغث والنظام الفاسد الرث " (4) . وهو سيئ الظن بالمتنبي، يعتقد - ويبني على اعتقاده نقده - ان المتنبي اطلع على دواوين الشعراء المكثرين فأخذ منها كل معنى جيد، وغنما اعتمد المكثرين لان اشعاره المقلين تعرف وتشتهر بسهولة لقلتها، فإذا أخذ من المكثرين خفيت سرقاته (5) ، ولو فاء العميدي إلى الإنصاف لحظة لأدراك ان هذا كله لا يصنع قصيدة، فكيف يخلق شاعراً؟   (1) الإبانة: 149. (2) الإبانة: 33. (3) الإبانة: 39. (4) نفسه: 63. (5) انظر الإبانة: 125. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 نماذج من السرقات القائمة على التطابق ومن باب الإنصاف أن نقول أن العميدي ربما كان أوسع اطلاعاً من ابن وكيع، واعرق في القدرة على الكيد، فهو يمعن في بيان ما أخذه المتنبي لا من الخبزرزي في المغمورين وحسب، بل من شعراء ربما لم يسمع بهم المتنبي نفسه، أو لم يكن لديه الوقت لتصفح دواوينهم، فضلاً عن الإمعان في قراءتها وسرقة معانيها، وهو يؤثر أن يأتي بسرقات تكاد تكون مطابقة في اللفظ وفي ترتيب أجزاء المعنى الواحد، بينا كان اكثر ما جاء به ابن وكيع يقوم على مشابه قد تكون جزئية، وهذا موقف يستحق أن نمثل عليه: 1 - لمروان بن سعيد غلام الخيل: إن الجياد عرفن معهد دارها ... فصلهن باكية على سكانها للمتنبي: مررت على دار الحبيب فحمحمت ... جوادي وهل تشجو الجياد المعاهد 2 - للمعوج الرقي: لبث دموعي وقد دعتها ... طلول ربع وهن خرس للمتنبي: أجاب دمعي وما الداعي سوى طلل ... (1) دعا فلباه قبل الركب والإبل 3 - لمطيع بن اياس: لو كان للسيف عقل أو محافظة ... لما فرى جيد جاليه وصاقله للمتنبي: ولو حيز الحفاظ بغير عقل ... (2) تجنب عنق صيقله الحسام   (1) الإبانة: 154. (2) الإبانة: 151. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 4 - للناشئ: وتجس بالرفق التراب إذا مشت ... جس الطبيب يد العليل المدنف للمتنبي: يطأ الثرى مترفقاً من تيهه ... فكأنه آس يجس عليلا 5 - لناقد بن عطارد (؟) : ذر الخمر تسلم من عيوب كثيرة ... وإياك أن ترتاد ما يورث الجهلا فما عاقل يرضى بإنفاق عقله ... على الخمر إن الخمر تستلب العقلا للمتنبي: وانفس ما في الفتى لبه ... (1) وذو اللب يكره إنفاقه 6 - لمروان بن أبي حفصة: قاسيت شدة أيامي فما ظفرت ... يداي منها بصاب لا ولا عسل للمتنبي: قد ذقت شدة أيامي ولذتها ... فما حصلت على صاب ولا عسل (2) 7 - لبشار بن برد: حظي من الخير منحوس واعجب ما ... أراه أني على الحرمان محسود أغدو وأمسي وآمال قطعت بها ... عمري تخيب وأموال المواعيد واكرم الناس من تأتي مواهبه ... من غير وعد وفيه الجود موجود   (1) الإبانة: 135. (2) الإبانة: 154. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 للمتنبي: ماذا لقيت من الدنيا وأعجبها ... أني بما أنا باك منه محسود أمسيت أروح مثر خازناً ويداً ... أنا الغني واموالي المواعيد جود الرجال من الأيدي وجودهم ... من اللسان فلا كانوا ولا الجود ويعلق العميدي على الأبيات الأخيرة بقوله: " من قال أن هذه غير مأخوذة من كلام بشار فقد عدم الفطنة والتمييز وحرم الرشاد والتوفيق وجعل مواضع الأخذ، واحتاج أن يسقي شربة تشحذ فهمه وتجلو طبعه وتزيل العمى والغمة عنه " (1) . وهب الدارس أقر بالتشابه نجاة بنفسه من هذه الويلات التي يرسلها العميدي ضد العميان والبلداء الأغنياء شواظاً من نار غضبه. فأن الأمر في نظر الناقد الحديث أيسر مما تصوره العميدي؛ فإذا لم نقل عن كثيراً من التشابه مرده إلى أن هذه الأمور مما يشترك الناس في الإحساس به، قلنا أن شاعراً حافظاً للشعر لا يستطيع أن يكف انسكاب شيء من محفوظه على سن قلمه، وهذا شيء طبيعي لا محل فيه للعجب، لانا لا نتصور أن المتنبي كان - وهو يتحرق ألماً من معاملة كافور له - يفتش أين يجد في ديوان بشار (أو في محفوظه منه) ما يعبر به عما يحسه من موجدة، وهذا لا يمنعنا من ان نقر للعميدي بالبراعة في اقتفاء المعاني، دون أن نتهمه بأنه حرف أو زاد (ودواوين الشعراء أكثرها قد ضاع ولم يصلنا) فيما أورده من شعر منسوب إلى قائلين، بعضهم لم يستحق أن يذكر اسمه في سجل الشعر، فمات دون أن يستطيع العميدي بعث الحياة في جثته الهامدة، اعني شعره.   (1) الابانة: 154. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 عيوب المتنبي ويستعمل العميدي بعض المصطلح لبيان أنواع من السرقة، فبعضها يسميه " نسجاً " وبعضها " سلخاً " (1) ؛ ويتهم المتنبي - كما اتهمه الحاتمي وابن وكيع بالضعف في اللغة (لاستعماله: " اسود " في عيني من الظلم) وتسميه المستيقظ في النهار ساهداً " ويخشى ان يراه في السهاد "؟ الخ) ، ويتهمه بالغموض في بعض المعاني، فيعلق على بيته: وفاؤكما كالربع أشجاه طاسمه ... بان تسعدا والدمع أشفاه ساجمه بقوله: " والله لو أوقد الإنسان ألف شمعة ليستضيء بنورها إلى اتنباط غوامض هذا البيت مع قلة الفائدة فيه لصعب عليه " (2) : ويرى انه يعمد إلى استعمال لغة الصوفية، وهو أمر لم ينفرد العميدي بنسبته إلى أبي الطيب، وقد استنكره الصاحب وابن وكيع وغيرهما ولم يحاول أحد منهم أن يدرس أسبابه. والعميدي أيضاً لا يفسح صدره لأي معنى يشتم فيه قلة ورع، شأنه في ذلك شأن ابن وكيع (3) ، وكأنه في كل محاولته لم يضف شيئاً إلى " المنصف " إلا الإمعان في إظهار مدى الاطلاع، وإلا نقمة ذاتية ثائرة، تجعله أقل من صاحبه تحرياً للأنصاف.   (1) الإبانة: 99 وانظر ص: 166، " وسيسلخ " ابن الأثير في " المثل السائر " هذين المصطلحين دون الإشارة إلى العميدي. (2) الإبانة: 96 وانظر الإشارة إلى العميدي. (3) انظر ص: 163. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 أبو العلاء المعري (- 449) تعريفه للشعر من الممكن أن نستشف بعض المفهومات النقدية التي كانت لدى أبي العلاء من " رسالة الغفران " حيث عرف الشعر بأنه " كلام موزون تقبله الغريزة على شرائط، عن زاد أو نقص أبانه الحس " (1) ؛ فاهتمامه بالوزن وتقديمه على كل عنصر آخر مشابه لما وجدناه عند الفارابي؛ ويفهم اعتماده على الغزيرة من قوله في بيت لأبي الطيب " إن فيه زحافاً تنكره الغزيرة "؛ فالغزيرة عنده هي قوة الإحساس التي تميز الزيادة والنقصان، وتتبين قيمة الغزيرة مع توفر الوزن في تمييز أبي العلاء في الشعر بين ما هو " نظم " وحسب لأنه موزون وبين ما هو شعر حقيق بهذا الاسم لتقبل الغريزة له (2) . ومن الغريب أن لا يذكر صاحب اللزوم في التقفية أمر القافية في هذا التعريف، مع انه مشغول الخاطر بها وبأنواعها وعيوبها حتى ألف فيها كتاباً مستقلاً (3) . كذلك فإن قوله " على شرائط " هو كما قال الأستاذ محمد سليم الجندي: " إحالة على مجهول لا تمكن الإحاطة به إلا بعد بيانه " (4) . قرآن إبليس وقد نفى أبو العلاء معرفة الملائكة للشعر وجعله " قرآن إبليس " (5) ، مشيراً إلى تلك الفكرة العربية القديمة في أن لكل شاعر شيطاناً ينفث على لسانه؛ وقسم البديه في ثلاثة أقسام هي: القبل والتمليط والاعنات (6) .   (1) رسالة الغفران: 242. (2) نضرة الاغريض، الورقة: 3 نقلا عن التبريزي " كنت أسال المعري عن شعر أقرؤه عليه فيقول هذا نظم، فإذا مر به بيت جيد قال: يا أبا زكريا هذا هو الشعر ". (3) تعريف القدماء: 540. (4) الجامع في أخبار أبي العلاء 2: 910. (5) رسالة الغفران: 244. (6) رسالة الغفران: 539 - 540. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 حطه على الرجز وكلما تعرض للرجز أزرى منه فقال: والرجز اخفض طبقة من الشعر (1) ، فكأنه لم يجعله شعراً، ثم قال فيه مرة أخرى: والرجز من أضعف الشعر (2) . فجعله شعراً داني المقام، ويجعل للرجاز في الجنة بيوتاً منخفضة ليس لها سموق أبيات الجنة. لأن الرجز " من سفساف القريض " (3) ؛ وإذا لقي رؤية في جنته قال له: " ما كان أكلفك بقواف ليست بالمعجبة،؟ لو شبك رجزك ورجز أبيك لم تخرج منه قصيدة مستحسنة، وقد كنت تأخذ جوائز الملوك بغير استحقاق " (4) . حملته على التكسب بالشعر وفي خطبة الفصيح عاد إلى الإزراء على من يجعلون الشعر وسيلة للتكسب، ودافع عن الشعر فقال: " الشعر إذا جعل مكسباً، لم يترك للشاعر حسباً، وإذا كان لغير مكسب، حسن في الصفات والنسب، ما لم تسب المحصنة، وتعد للعار العصينة (؟) ، فاتق ربك، وإذا رأيت الشاعر فلا تقل (والشعراء يتبعهم الغاوون) فإن الآية وصلت باستثناء وجنى السيئة شر الجني؛ لا تجهلوا فضيلة الشعر فإنه يذكر الناسي ويحل عزمة الفاتك، ويعطف مودة الكاشح، ويشجع الجبان؟ " (5) . ولا نستخلص مما وصلنا من كتبه آراء نقدية كثيرة، وغنما نراه كثير الانشغال بالنواحي اللغوية والعروضية؛ ولكنا نعلم إن إعجابه بالمتنبي لم   (1) الفصول والغايات: 319. (2) رسالة الغفران: 382. (3) رسالة الغفران: 366 - 367. (4) رسالة الغفران: 367 - 368. (5) إحكام صنعة الكلام: 38. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 يدفعه وحسب إى حفظ ديوانه في الصغر ومحاكاته. بل جعله يتوفر على شرح ديوانه مرة واختصاره مرة، فكتب اللامع العزيزي ومعجز احمد، كما دافع عنه في شأن الديانة وفي الإكثار من التصغير وذلك في رسالة الغفران (1) ، غير أن شرح اللامع العزيزي (2) ليس كله انتصاراً لأبي الطيب إذ كثيراً ما نراه يتعقب المتنبي بالنقد ولا يحاول الاعتذار عنه. وهذا جهد في محاولة الإنصاف جميل. إحصاؤه لأوزان أبي الطيب وقد قام المعري بدراسة إحصائية لأوزان الديوان وقوافيه فوجد أن البحور عنده أحد عشر بحراً، ثم ذكر الزحافات والعلل، ووجد انه نظم من أقسام القافية ثلاثة ولم ينظم من المتكاوس شيئاً (3) . لا يمكن تغيير أية لفظة في شعر أبي الطيب وكانت للمعري في شعر المتنبي وجهة نظر ثابتة لا يحيد عنها؛ تدل عليها الرواية التالية التي تتعلق بانتقاد ابن جني عليه استعمال لفظة " سواك " في قوله: قد شرف الله أرضاً أنت ساكنها ... وشرف الناس إذ سواك إنساناً ويفضل ابن جني عليها " انشاك " فيتعقبه العروضي وابن فورجة ثم المعري وإليك ما جاء فيها: " قال أبو الفضل العروضي فيما املأه علي: سبحان الله أتليق هذه اللفظة بشرف القرآن ولا تليق بلفظ المتنبي؟ يقول الله تعالى (الذي خلق فسوى) وقال: (بشراً سوياً) ثم قال: (فسواك فعدلك)   (1) رسالة الغفران: 409 - 411. (2) قد اطلعت على اللامع العزيزي ولكن ما أوردته هنا مستمد من مآخذ الأزدي فهو قبل اطلاعي على شرح أبي العلاء نفسه. (3) الجامع 2: 739. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 وقال: 0ثم سواك رجلاً) . وقال ابن فروجة: نهاية ما يقدر عليه الفصيح أن يأتي بألفاظ القرآن وألفاظ الرسول أو ألفاظ الصحابة بعده؟ قال: وعند أبي الفتح انه يقدر على تبديل ألفاظ هذا الشعر مما هو خير منه؛ وقرأت على أبي العلاء المعري - ومنزلته في الشعر ما قد علمه من كان ذا أدب - فقلت له يوماً في كلمة: ما ضر أبا الطيب لو قال مكان هذه الكلمة كلمة أخرى أوردتها، فأبان لي عوار الكلمة التي ظننتها ثم قال لي: لا تظنن انك تقدر على إبدال كلمة واحدة من شعره بما هو خير منها فجرب إن كنت مرتاباً؟ " (1) . تعقب المتنبي في بعض عيوبه وأحياناً يتعقبه المعري في الغلو، في مثل قوله: هابك الليل والنهار فلو تنسها هما لم تجر بك أيام فقال في تعليق: " يرحم الله أبا الطيب لقد اجتهد في قول الباطل؟؟؟ ولو ان هذا البيت في صفة الله عز سلطانه، لجاز ان ينال بذلك رضوانه " (2) . وأنكر عليه رداءة الزحاف في قوله: " رب نجيع بسيف الدولة انسفكا " فقال: " لم يزاحف أبو الطيب زحافاً تنكره الغزيزة إلا في هذا الموضع، ولا ريب انه قاله على البديهة، ولو أن لي حكماً في البيت لجعلته " كم من " لان رب تدل على القلة " (3) . انعكاسه صورة المعري الفيلسوف على شعر المتنبي وأوضح ما في اللامع العزيزي أن الشارح يحمل أبيات أبي الطيب طرفاً من آرائه ونظراته في الكون والناس؛ أو يعترض على أبي الطيب من هذه الزاوية نفسها، ومن ذلك قوله في التعليق على بيت المتنبي:   (1) شرح الواحدي: 277. (2) المآخذ، الورقة: 166. (3) المصدر السابق: 142. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 وجائزة دعوى المحبة والهوى ... وإن كان لا يخفى كلام المنافق " المرأة أن عادة بني آدم ان يظهروا المودة وفي النفوس غيرها، إلا أن ذلك جائز لان العادة جرت به، وادعى أن كلام المنافق غير خاف، وإنما يظهر نفاقه في بعض الأوقات، ورب منافق اتخذ (التقية) وحسب انه الصديق المخلص " (1) . ومن ذلك إيمانه بحتمية القدر، فهو يرى أن أبا الطيب لا يغير الطبائع حين يحض على الشجاعة في قوله: وإذا لم يكن من الموت بد ... فمن العجز أن تموت جباناً قال: " إنما يكون الإنسان كما خلق، فإن كان شجاعاً لم يكن موصوفاً بالجبن، وإن خلق جباناً فليس له إلى الشجاعة سبيل " (2) . ويعجبه قول أبي الطيب: ولو حيز الحفاظ بغير عقل ... تجنب عنق صيقله الحسام لأنه يفهم منه أن " الناس لا عقول لهم، وغنما يؤدي إلى حفظ المودة عقل الإنسان، ولو جاء الحفاظ من غير ذي عقل لوجب أن يتجنب السيف عنق صيقله، وابن آدم كالسيف لا عقل له صحيح، فكيف يعتمد جميل الأفعال " فقد أخرج المعنى إلى التعميم الكلي، وأبو الطيب لم يرد إلا فقدان الحفاظ حيث لا يكون عقل في بعض الناس. ولكن المعري أشد شيء إعجاباً بما يتصل بالفكر الفلسفي العميق،   (1) المآخذ: 137. (2) المصدر السابق: 173. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 ولذا نجده يهتز طرباً لقول المتنبي: ألف هذا الهواء أوقع في الأنفس أن الحمام مر المذاق فيقول: " هذا البيت والذي بعده يفضلان كتاباً من كتب الفلاسفة لأنهما عيار في الصدق وحسن النظام ولو لم يقل شاعر سواهما لكان له فيهما جمال وشرف " (1) . وهذا كله يدل على أن المعري والشراح الآخرين كانوا يتناولون الشعر، كل حسب ميله ونزعته؛ فإذا قلنا إن المعري ميال إلى التفلسف مؤمن بالحبر سيئ الظن بالناس. فلابد ان تنعكس هذه الخصائص في رحه، مثلما تتجلى فيه مقدرته اللغوية والنحوية والعروضية. ولا نعدم أن نجد في أثناء هذا كله موقفاً نقدياً ضمنياً أو صريحاً، إلا انه يتعلق ببيت دون بيت وفكرة دون فكرة. فأما إيمان المعري بان أحداً لا يستطيع أن يغير لفظة في شعر أبي الطيب بلفظة أخرى خير منها. فذلك يدل على موقف نقدي كلي. يبلغ بكلام المتنبي حداً من حدود الإعجاز. ابن فورجة محمد بن حمد البروجردي (- حوالي 455) جمهوره في شعر المتنبي ومصادره كان تلميذاً لأبي العلاء وقد أفاد من آرائه وتوجيهاته في دراسته عامة وفي دراسة شعر المتنبي خاصة؛ وقد قرا ديوان المتنبي تصحيحاً ورواية بالعراق على العلماء عدة ورواة ذات كثرة (2) ؛ ووقعت إليه من الديوان نسخ غير واحدة شاميات (3) . مكنته من تحقيق الرواية للديوان؛ واطل على الفسر لأبي الفتح ابن جني فكتب حوله كتابين هما " التجني على ابن جني "؛   (1) المآخذ: 139. (2) شرح مشكلات ديوان شعر أبي الطيب، الورقة: 10 ب (نسخة الاسكوريال: 307) . (3) المصدر نفسه 23 ب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 و " الفتح على أبي الفتح " وفي الأسكوريال مخطوطة عنوانها " شرح مشكلات ديوان شعر أبي الطيب رداً على شرح أبي الفتح عثمان بن جني فيما واخذ به المتنبي " وهو يشير فيها إلى كتابه " التجني " ولعلها أن تكون هي " الفتح على أبي الفتح "؛ وفيها يفسر أبياتاً أشكلت على أبن جني أو أهملها أو أخطأ تفسيرها ويصوب بعض شروحه ويحاول الزيادة عليها، دون أن ينقص أبن جني حقه وقدره، ولذلك تجده يقول في ختام هذه النسخة: " وما توخينا دعوى الفضل على أبي الفتح أبن جني ولا سمت هممنا إلى مباراته وبودنا لو أدركنا القراءة عليه والاستفادة منه " (1) . ويدل هذا الكتاب على أنه أطلع - إلى جانب القمر - على الوساطة للجرجاني وناقشه في بعض المسائل (2) ، وعلى رسالة الحاتمي التي دون فيها ما أخذه المتنبي من معاني أرسططاليس (3) ، وعرف رسالة الكشف عن مساوئ المتنبي للصاحب بن عباد. أسباب الغموض في الشعر ولأبن فروجة متكأ نقدي عام، فهو يرى أن الشعر قد يصيبه الغموض من ثلاثة أوجه: (1) فهناك الشعر الذي يصدك جهل غريبه عن تصور غرضه (2) والشعر الذي يعميه إغرابه لمجاز فيه وحذف في اللفظ أو تقديم وتأخير سوغه الإعراب (وسقط الثالث لسقوط أوراق في المخطوطة) . وشعر أبي الطيب يعتريه الإبهام للأسباب الثلاثة جميعاً؛ ولكن أبن فروجة كأستاذه أبي العلاء يحب شعر أبي الطيب، فهو أميل إلى الدفاع عنه، وعمدته إلى ذلك أحياناً الاحتكام إلى الروايات الصحيحة مثلما يعتمد في الأكثر على الذوق، فإذا وقف عند قول المتنبي:   (1) المصدر نفسه: 55ب. (2) أنظر الورقة 9/أ، 10/أ، 38. (3) أنظر الورقة 7/أ، 8ب، 9/أ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 وأنت أبو الهيجا أبن حمدان يا أبنه ... تشابه مولود كريم ووالد فحمدان حمدون وحمدون حارث ... وحارث لقمان ولقمان راشد والبيت الثاني مما عيب على المتنبي، قال: " هذا المعنى من أحسن معاني هذه القصيدة والبيتان من خيار أبياتها وما لأحد من الشعراء قصيدة على هذا الوزن إلا وهذه أحسن منها وأجود فليعلم ذلك " (1) ؛ ولكن هذه الحماسة لا تجعله يغفل عن بعض سيئات المتنبي أو يعتذر عنها، فهو يقول في قصيدته العينية " ملث القطر أعطشها ربوعاً " -: هذه القصيدة كلها من الشعر الرذل الذي لا ينتفع به ولا بتفسيره (2) . تدقيقه في نسخ الديوان وأثره في نقده وقد إعانته إحاطته الدقيقة بالديوان على توضيح أمور لم يتنبه لها غيره، فالمتنبي مثلاً يقول: " وأني لمن قوم كأن نفوسنا " وكان يجب أن يقول " كان نفوسهم " ويقول " وأنت الذي ربيت ذا الملك " وكان الحق أن يقول " وأنت الذي ربى " ويقول ابن جني: " كلمته غير مرة في هذا فاعتصم بأنه إذا أعاد الذكر على لفظ الخطاب كان ابلغ وامدح من ان يرده على لفظ الغيبة؟ ولعمري انه لكما ذكر، ولكن الحمل على المعنى عندنا لا يسوغ في كل موضع ولا يحسن "؛ فيذهب ابن فورجة ويتقرئ كل شعر المتنبي فإذا به يجده متمسكاً بهذا المذهب في المدح، أما في الذم فإنه يرد الكلام إلى حال الغائب " وهذا من أدق ما شعره من الخبث وأدله على حكمته واستيلائه على قصب السبق في شعره " (3) .   (1) الورقة 12ب. (2) الورقة 25ب. (3) الورقة 16 ب - 17/ أ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 مزيد من تحريه في سبيل فهم شعر المتنبي ويعييه قول المتنبي " أمط عنك تشبيهي بما وكأنه " ولا يجد تفسيراً للتشبيه بما، فيورد ما قاله ابن جني نقلاً عن المتنبي ثم يورد ما حكاه الجرجاني نفسه نقلاً عن المتنبي فيجد النقلين متضاربين " فهذا قاض من قضاة المسلمين يحكي هذه الحكاية عن أبي الطيب، فأي الحكايتين نجعلها الصحيحة وننفي أختها " ثم لا يجد له من ملجأ سوى أستاذه أبي العلاء فيقول له أبو العلاء إنها ما التي تصحب كان إذا قلت كأنما زيد الأسد " وما عندي أن أبا الطيب أراد غيرها والله تعالى اعلم بالغيب " (1) وهذا التحري الشديد يدل على دقة علمية مثلما يلمح إلى حرص ابن فورجة ليجد تفسيراً لبعض ما انتقده العلماء على المتنبي. نموذج من رده على الصاحب ابن عباد ولا ريب في أن هذا الحرص نفسه هو الذي جعله يتعقب الصاحب بن عباد بشده حتى قال في رسالته: " قد ارتكب فيها شيئاً من المزح عجباً، ليس من طريقة العلم ولا مما أفاد غير خيلاء الوزارة وبذخ الولاية، ولعمري إنه لو لم يرد عنه هذا الكتاب لكان، اجمل بمثله أو كان لم يتعد فيه التهزؤ افارغ والكلام اللغو حتى أنه لو ما يكاد ينتقص شيئاً من الأبيات التي نقمها على أبي الطيب بما يفيد معرفة، مخطئاً فيه أو مصيباً، إلا مواضيع يسيرة كأنها عثار منه بالجد لا عمد، فخلط فيها ودل على انه لم يفهم ما رده ولم يحط علماً بما كرهه، وهذه الرسالة عملها في صباه، والنزق حداه على إظهارها وما أجدر مريد الخير له بكتمانها عليه " (2) ؛ وإليك نماذج من مناقشة ابن فورجة لرسالة الصاحب: 1 - قال الصاحب: ومن أساليبه العجيبة في التسلية عن المصيبة قوله: لا يحزن الله الأمير فإنني ... لآخذ من حالاته بنصيب   (1) الورقة 38. (2) الورقة 7 ب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 ولا أدري لم لا يحزن سيف الدولة إذا أخذ أبو الطيب بنصيب من القلق، أترى هذه التسلية احسن عند الشعراء أم قول أوي: أيتها النفس أجملي جزعاً ... إن الذي تحذرين قد وقعا رد ابن فورجة: أخطأ في موضعين أحدهما انه ظن انه يقول: كلما حزن الأمير حزنت فقط فظن أن يحزن رفع لأنه إخبار. ولولا ظنه ذلك لما استفهم فقال: لم لا يحزن الله سيف الدولة إذا أخذ أبو الطيب بنصيب من القلق، وهذا خطأ، ويحزن جزم والنون مكسورة لالتقاء الساكنين وهو دعاء؟. الثاني انه قال: أترى هذه التسلية احسن أم قول أوس، وأن هذا البيت ليس بتسلية وإنما هو دعاء للمدوح (1) ؟. 2 - قال الصاحب: ومن تعقيده الذي لا يشق غباره ولا تدرك آثاره قوله: وللترك للإحسان خير لمحسن ... إذا جعل الإحسان غير ربيب وما اشك أن هذا البيت أوقع عند حملة عرشه من قول حبيب: فقلت للحادثات استنبطي نفقاً ... فقد أزلك إحسان ابن حسان رد ابن فورجة: ما أدري أمن قوله تعقيده الذي لا يشق غباره أتعجب أم من تشبيه هذا البيت ببيت أبي تمام، وكلا الأمرين عجيب. أما زعمه انه قد عقد، فوجه التعقيد ما لا نعلمه، فإنه لم يقدم لفظة ولا آخر أخرى عن موضعها ولا غرب في المعنى ولا في اللفظ وغنما قال: ترك الإحسان خير لمحسن إذا لم يرب إحسانه؛ ألا ترانا حين فككنا النظم وجعلناه نثراً أتينا بمثل لفظه سواء، من غير زيادة ولا نقصان ولا تقديم ولا تأخير؟ فليت   (1) الورقة 7ب - 8/ أ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 شعري أين التعقيد؟ وأما قوله ما أشك ان هذا البيت أوقع عند حملة عرشه من بيت حبيب، فلا اعلم ما التجاوز بينهما والتشارك. ولعله رأى اشتراكهما في لفظة الإحسان تشابهاً؟ (1) . 3 - قال المتنبي: كأنك ناظر في كل قلب ... فما يخفى عليك مل غاش هذا البيت فضح الصاحب أبو القاسم به نفسه في رسالته التي ذم فيها أبا الطيب؛ يقول فيها: " ومن مخازيه التي خلقها خلقاً متفاوتاً تخفيفه الغاش، وهذا ما لا اعلم سامعاً باسم الأدب يسوغه أو يفسح فيه وبجوزه؟. فغن جاز هذا جاز ان يقال عباس بن عبد المطلب وشماخ بن ضرار فلا تشدد الميم ولا الباء، على أن ما أورده أشنع من هذا الذي مثلناه به إذ كان لفظ فاعل بني على لفظ فعل مشدداً ". ورد ابن فورجة بان أبا الطيب لم يرد غاشاً وإنما أراد محل من يغشاك من صنوف الناس (2) . وهكذا قام ابن فورجة بتزييف كثير من المآخذ التي قيدها الصاحب في رسالته، وقد رأينا من قبل حين تحدثنا عنها إنها رسالة معورة يستطيع الناقد لها أن يصيب منها مقتلاً، لان التحامل أعمى صاحبها عن الرؤية الصحيحة وجعله يتورط في أخطاء فاضحة، وإذا صدقنا خادم المتنبي قلنا عن الصاحب قد اخترع اخطاه ليرد عليها، فزاد موقفه ضعفاً وتحامله انفضاحاً.   (1) الورقة: 8 ب. (2) الورقة: 23 ب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 - 2 - نظرية عمود الشعر في صورتها المكتملة حين كتب المرزوقي (- 421) مقدمة على شرحه لحماسة أبي تمام كانت القضايا التي يود أن يعالجها واضحة تمام الوضوح أمام عينيه، مثلما كان تمثله للنظريات النقدية التي تصدى لها نقاد القرن الثالث والرابع تمثيلاً دقيقاً سليماً، ولذلك كتب في النقد الأدبي مقالة عن نظيرها، تنم عن ذكاء فذ وفكر منظم. المشكلات النقدية الكبرى لقد رأى المرزوقي أن المشكلات التي تسمح له بالخوض فيها مقدمة موجزة على شرح مجموعة من الشعر لا تتعدى ثلاثاً كبرى، تتفرع عن كل منها فروع: الأولى: مشكلة اللفظ والمعنى وأنصار كل منهما، والثانية: مشكلة الاختيار، والثالثة: مشكلة العلاقة بين النظم والنثر. وكان قد أطلع على مشكلة العلاقة بين النظم والنثر. وكان قد اطلع على آراء ابن قتيبة وابن طباطبا وقدامة والجرجاني (وربما الآمدي) ، ولا استبعد ان يكون قد قرا الصاحبي لابن فارس، ولكنه لم يأخذ من آرائهم إلا ما تفرضه حدود موضوعه، وتجنب كثيراً من آرائهم القيمة لأنه لا يريد أن يتجاوز ما رسمه لنفسه. وربما بدا لأول وهلة أن المرزوقي عاد يكرر الثنائيات السابقة: من مثل اللفظ والمعنى والصدق والكذب والطبع والتكلف، وما اشبه، ولكن هذه الثنائيات كانت تقتضيها طبيعة مقدمته أولاً، ثم إنه لم يمض عنها حيث تركها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 أصحابها، بل أضاف إليها ما أسعفه به فهمه وتصوره. حتى عن مقدمته لتعد أنموذجاً جيداً في البناء الجديد على أسس قديمة. المشكلة الثالثة، العلاقة بين النظم والنثر وأضعف المشكلات الثلاث في مقدمته هي المشكلة الثالثة؛ لأنها محاولة لتفسير ظاهرة عملية تتفرع في ثلاثة فروع: (أ) المفاضلة بين الشعر والنثر (ب) السبب في قلة البلغاء وكثرة المفلقين (ج) السبب في قلة البلغاء وكثرة الشعراء؛ وقد عاد المرزوقي إلى تلك الخصومة التي عرضها المتفلسفون من نقاد القرن الرابع في المفاضلة بين الشعر والنثر، فذهب إلى ان النثر افضل، مستدلاً على ذلك بان الخطابة كانت لدى الجاهلين أهم من الشعر وانهم كانوا يأنفون من الاشتهار بالشعر ويعده ملوكهم دناءة (وهي قضية سيتصدى لها ابن رشيق بالرد) ، كذلك فإن الشعراء حطوا من قيمة الشعر بتعريضهم للسوقة حتى قيل " الشعر أدنى مروءة السري وأسرى مروءة الدني " (وهو موقف سينقضه ابن رشيق أيضاً) ، وثالث الأدلة على شرف النثر إن الإعجاز بالقرآن لم يقع بالنظم، ولهذه الأسباب كان النثر ارفع شأناً من الشعر ومن ثم تأخرت رتبة الشعراء عن الكتاب (1) ، وقد شهدنا نظائر لهذه التعليلات عند نقاد القرن الرابع، وهي محاولة لتفسير ما كان سائداً في المجتمع من رفعة الكاتب وانخفاض شأن الشاعر، ولكنها لا تتصل عند المرزوقي بالفكرة الفلسفية المحرفة عن صدق الخطابة وكذب الشعر. ويعلل المرزوقي قلة المترسلين وكثرة المفلقين بالفرق بين مبنى الترسل ومبنى الشعر: وخلاصة رأيه في هذه المسألة الدقيقة إن مبنى الترسل فيه " استرسال " لابد من تحقيقه بحيث تصبح القطعة النثرية وحدة كاملة تقبلها الأفهام جميعاً على اختلافها وتباينها، أما الشعر فإنه لا يكلف صاحبه هذا   (1) شرح الحماسة 1: 16 - 18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 الجهد لأنه يعمل قصيدته بيتاً بيتاً فلا يتسع في التوضيح وإنما يكتفي بالإشارة واللمح في بيان المعنى (فكل ما يحمد في الترسل ويختار يذم في الشعر ويرفض ". وهذا أول رد على نظرية ابن طباطبا الذي أقام القصيدة على نموذج الرسالة. وبسبب اختلاف المبنيين اختلفت الإصابة فيهما لتباين طرفيهما. وأصبح من الصعب على المرء أن يكون شاعراً كاتباً، حتى الرجز والقصيد ربما لم يتمكن الواحد أن يحسنهما بالتساوي، فكيف بالنثر والشعر وبينهما من التباعد أكثر مما بين الرجز والقصيد (1) . ثم إن ما يطالب به الكاتب أشد صعوبة مما يطالب به الشاعر: فالكاتب مطالب بمراعاة حال من يكتب عنه ومنزلته الاجتماعية وأحوال الزمان ومواضع الإيجاز والإطناب وأحكام الشريعة؛ ومجال ترسله يتناول العهود والإصلاح والتحريض على الجهاد والاحتجاج والمجادلة والنهي عن الفرقة والتهنئة والتعزية؟ ولذلك عز من يستطيع ضبط هذه الأمور، فكانوا قلة ونالت تلك أرفع المناصب لضخامة ما يضطلعون به، أما الشاعر فغير مكلف بشيء من ذلك وغنما هو يصف الديار ويشبب ويمدح ويهجو؟ أي أكثر موضوعاته تنبعث من ذاته ومشاعره، دون أن يطلب غليه ذلك، ولهذا تفاوت حال الكاتب والشاعر. ولا ريب في أن وراء هذا التعمق الذي ينتحيه المرزوقي أشياء تحس انه كان يريد أن يقولها فلم يقلها، ونحن اليوم ربما كنا أقدر منه على تصورها: فالتفرقة بين المبنى النثري والمبنى الشعري وبين موضوعات النثر وموضوعات الشعر، وطريقة معالجة كل منهما هي التفرقة القائمة بين منطقتي التفكير والشعور، ودرجة كل منهما؛ غير أن المرزوقي يقصر حديثه على كاتب الديوان - دون سواه - ويحاول ان يجد تفسيراً فكرياً لما هو قائم حينئذ على نحو عملي.   (1) المصدر نفسه: 19. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 المشكلة الثانية في التفاوت بين اختيار أبي تمام وشعره وتجيء المشكلة الثانية تالية لهذه في المجال النقدي، وهي تبدأ من منطلق جزئي هو: " لماذا كان اختيار أبي تمام من نسيج مختلف عن شعره؟ " وجواب المرزوقي على هذه المشكلة قد يترجم في لغتنا الحديثة إلى ان الاختلاف بين مختارات أبي تمام وبين شعره ناجم عن التباين بين أبي تمام الناقد وأبي تمام الشاعر: فأبو تمام الناقد " كان يختار ما يختار لجودته " واما أبو تمام الشاعر " فكان يقول ما يقول من الشعر بشهوته " (1) - الإستجادة من عمل القوة الناقدة أما الشهوة فإنها من عمل القوة الشاعرة (ذات الشعور) ، وقد كان أبو تمام حين يختار الشعر يسلط القوة الأولى " وطرق الإحسان والاستحسان لم تستتر عنه " فإذا نظم لجأ إلى القوة الثانية؛ وهذا ما قد يثير سؤالاً آخر: هل من الضروري ان يكون الناقد شاعراً؟ وجواب المرزوقي على هذا لابد أن يكون بالنفي " ولو أن نقد الشاعر كان يدرك بقوله لكان من يقول الشعر من العلماء (يعني النقاد) أشعر الناس. ويكشف هذا أنه قد يميز الشعر من لا يقوله، ويقول الشعر الجيد من لا يعرف نقده " (2) . وبهذا الفصل الحاسم قضى المرزوقي على قول من قد يقول: الشعراء اعرف الناس بنقد الشعر، ولم يلتفت إلى ما حدث في تاريخ النقد العربي، لم يلتفت إلى ان ابن المعتز وابن طباطبا والآمدي والجرجاني وغيرهم كانوا شعراء.   (1) شرح الحماسة 1: 13. (2) شرح الحماسة 1: 14. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 رد على ابن فارس في قوله: الاختيار موقوف على الشهوات ولكن ابن فارس كان قد قال من قبل: أن اختيار الشعر موقوف على الشهوات (1) ، فيتصدى المرزوقي للرد دون أن يسميه، وذلك بلجوئه إلى القول بوجود مقاييس نقدية عامة يشترك فيها زيد وعمرو وأن من أتقن تلك المقاييس وتدرب على استعمالها " لا ينظر إلا بعين البصيرة ولا يسمع إلا بأذن النصفة ولا ينتقد إلا بيد المعدلة " (2) ، ولابد لهذا الناقد من معرفة الجيد والرديء، فأما معرفة الجيد وحده فإنها لا تصنع ناقداً، وإذا شئت أن تعرف النواحي السلبية فارجع إلى ما ذكره قدامة (دون أن يذكر المرزوقي اسمه) حول اللفظ الوحشي وقلق القافية وفساد القسمة والتقابل والتفسير والتناقض في المعنى، وارجع إلى ما قاله كل من قدامة والجرجاني (دون أن يذكر المرزوقي اسميهما) حول الخزرج عن العادة والطبع، وحول الحشو؟. وما إلى ذلك. نعم إن الناقد الحاذق قد يحيل أحياناً على طبعه فيقول: " هكذا قضية طبعي " (ويكون ناقداً كالذي وصفه الآمدي والجرجاني) ، ولكن هذا لا يحدث إلا حين نطالبه بالخصائص الإيجابية للشيء المفقود، فأما الخصائص السلبية فإن التنبيه عليها ممكن، وإقامة البرهان فيها مستطاع، وكان المرزوقي يرى ان الكشف عن صنوف الرداءة، سيبقي في مجال الاستحسان كل ما لم يوصم بشيء من الرداءة، فإظهار مساوئ قصيدة كفيل أيضاً بالإبانة عما لا مساوئ فيه، وهذا يعد في باب الجيد فيقبله الذوق السليم، وإن لم يستطع إبراز ما فيه من صفات إيجابية.   (1) انظر ما سبق ص 129. (2) شرح الحماسة: 15. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 المشكلة الأولى: الشكل والمضمون ونقف بعد ذلك عند القضية الأولى وهي أهم القضايا النقدية لأنها ليست في تفسير ظاهرة عملية كالقضية الثالثة، ولا هي في مشكلة جزئية كمسألة الاختيار، وإنما هي تتناول صميم النقد الأدبي حين تتحدث عن أكبر المشكلات وهي ما قد يرقى إلى أن يسمى مشكلة الشكل والمضمون، أو مشكلة أصحاب الشكل وأصحاب المعنى، وما يتفرع عنها من مسائل. أنصار الشكل ثلاث فئات وقد كان المرزوقي هو الناقد الذي ينظر بعين البصيرة ولذلك استطاع أن يرى إن أنصار النظم حتى عصره لم يظلوا فئة واحدة بل أصبحوا على ثلاث درجات متتالية: 1 - فريق يرى أن تحسين نظم الألفاظ وجعلها سليمة من اللحن والخطأ ومما قد يعتري التأليف من جنف، وإيرادها صافية التراكيب، هو المطلوب. 2 - فريق يتجاوز الحد الأول ويرى أن يضيف إلى ما سبق شيئاً آخر من التحسين مثل تتميم المقاطع وتلطيف المطالع وعطف الأول على الآخر وتناسب الوصل والفصل وتعادل الأقسام والأوزان. 3 - فريق يتجاوز الحد الثاني ويرى ان كل ذلك يجب أن يضاف إليه أنواع البديع من ترصيع وتجنيس واستعارة وتطبيق وغير ذلك من الصور البديعية (1) .   (1) شرح الحماسة 1: 5 - 6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 أنصار المعنى أما أصحاب المعاني فهم الذين يفضلون أن ينقلوا آثار عقولهم أكثر من اهتمامهم بالشكل، ليستفيد المتأمل، ولذلك " طلبوا المعاني المعجمة من خواص أماكنها، وانتزعوها جزلة عذبة حكيمة ظريفة أو رائقة بارعة فاضلة كاملة لطيفة شريفة زاهرة فاخرة، وجعلوا رسومها ان تكون قريبة التشبيه لائقة الاستعارة صادقة الأوصاف لائحة الأوضاع خلابة في الاستعطاف عطافة لدى الاستنفار مستوفية لحظوظها عند الإسهام من أبواب التصريح والتعريض والإطناب والتقصير والجد والهزل والخشونة والليان والإباء والإسماح، من غير تفاوت يظهر في خلال أطباقها ولا قصور ينبع من أثناء أعماقها؟ الخ " (1) ؛ ومحصل موقف المرزوقي انه لا بد من الائتلاف بين اللفظ والمعنى ائتلافاً تاماً. ولكن الشعر - دون النثر - ليس معنى ولفظاً وحسب، بل هو كما قال قدامة " لفظ موزون مقفى يدل على معنى " وإذن ففيه عنصران آخران يجعلان الكلف فيه أشد ولابد من مراعاتهما عند النقد كما يراعى جانب اللفظ والمعنى. وواضح من هذا التصوير لجانبي اللفظ والمعنى ان المرزوقي في قسمته لمراتب النظم لم ينتبه إلى أن كل معنى قد يمكن التعبير عنه في ثلاثة أنواع من المبنى، وأنه لو سئل هذه المباني أشد وفاء بالمعنى لم يستطع الإجابة أو لتهرب منها باللجوء إلى اختلاف الأذواق. عمود الشعر وإذا كان الحال كذلك رأيناه يسرع إلى تحديد عمود الشعر " ليتميز تليد الصنعة من الطريف "، وقديم نظام القريض من الحديث؟ ويعلم فرق ما بين المصنوع والمطبوع " (2) ؛ وقد عاد إلى العناصر التي عدها الآمدي   (1) شرح الحماسة 1: 7. (2) شرح الحماسة1: 8 - 9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 ووضحها الجرجاني (1) من قبل وهي: (1) شرف المعنى وصحته. (2) جزالة اللفظ واستقامته. (3) الإصابة في الوصف. (4) المقاربة في التشبيه. وزاد عليها: (5) التحام أجزاء النظم والتئامها على تخير من لذيذ الوزن. (6) مناسبة المستعار منه للمستعار له. (7) مشاكلة اللفظ وشدة اقتضائهما للقافية حتى لا منافرة بينهما. واستغنى عن " الغزارة في البديهة " وعن (كثرة الأمثال السائرة والأبيات الشاردة " وعد هذا العنصر الثاني متولداً عن اجتماع العناصر الثلاثة الأولى وقد استخلص ما زاده من نقد قدامة؛ كما انه استخلص عيار كل عنصر منها من الحصول العام المجتمع من آراء الآمدي وقدامة والجرجاني وابن طباطبا، وردد قول ابن أبي عون " أقسام الشعر ثلاثة: مثل سائر وتشبيه نادر واستعارة قريبة " فكانت صياغته لعمود الشعر هي خلاصة الآراء النقدية في القرن الرابع، على نحو لم يسبق إليه ولا تجاوزه أحد من بعده، فلو لم يكن عمود الشعر هو الصيغة التي اختارها شعراء العربية، لكان في أقل تقدير هو الصورة التي اتفق عليها النقاد.   (1) انظر ما سبق ص: 322. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 المعايير المعتمدة في عمود الشعر وإليك المعايير التي وضعها للعناصر السبعة: " فعيار المعنى أن يعرض على العقل الصحيح والفهم الثاقب، فإذا انعطف عليه جنبتا القبول والاصطفاء، مستأنساً بقرائنه، خرج وافياً، وإلا انتقص بمقدار شوبه ووحشته. وعيار اللفظ الطبع والرواية والاستعمال، فما سلم مما يهجنه عند العرض عليها فهو المختار المستقيم وهذا في مفرداته وجملته مراعى، لان اللفظة نستكرم بانفرادها، فإذا ضامها ما لا يوافقها عادت الجملة هجيناً، وعيار الإصابة في الوصف الذكاء وحسن التمييز، فما وجداه صادقاً في العلوق ممازجاً في اللصوق، يتعسر الخروج عنه والتبرو منه، فذاك سيماء الإصابة فيه. ويروى عن عمر رضي الله عنه انه قال في زهير: " كان لا يمدح الرجل إلا بما يكون للرجال "، فتأمل هذا الكلام فإن تفسيره ما ذكرناه. وعيار المقاربة في التشبيه الطنة وحسن التقدير. فاصدقه ما لا ينتقض عند العكس، وأحسنه ما أوقع بين شيئين اشتراكهما في الصفات أكثر من انفرادهما ليبين وجه التشبيه بلا كلفة، إلا أن يكون المطلوب من التشبيه أشهر صفات المشبه به وأملكها له، لأنه حينئذ يدل على نفسه ويحميه من الغموض والالتباس. وقد قيل: " أقسام الشعر ثلاثة: مثل سائر، وتشبيه نادر، واستعارة قريبة ". وعيار التحام أجزاء النظم والتئامه على تخير من لذيذ الوزن، الطبع واللسان، فما لم يتعثر الطبع بأبنيته وعقوده، ولم يتحبس اللسان في فصوله ووصوله، بل استمراً فيه واستسهلاه، بلا ملال ولا كلال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 فذاك يوشك ان يكون القصيدة منه كالبيت. والبيت كالكلمة تسالماً لأجزائه وتقارناً. وألا يكون كما قيل فيه: وشعر كبعر الكبش فرق بينه ... لسان دعي في القريض دخيل وكما قال خلف: وبعض قريض الشعر أولاد علة ... يكد لسان الناطق المتحفظ وكما قال رؤبة لابنه عقبة وقد عرض عليه شيئاً مما قاله، فقال: قد قلت لو كان له قران ... وغنما قلنا " على تخير من لذيذ الوزن " لأن لذيذة يطرب الطبع لإيقاعه، ويمازجه بصفاته، كما يطرب الفهم لصواب تركيبه، واعتدال نظومه. ولذلك قال حسام: تغن في كل شعر أنت قائله ... عن الغناء لهذا الشعر مضمار وعيار الاستعارة الذهن والفطنة، وملاك الأمر تقريب التشبيه في الأصل حتى يتناسب المشبه والمشبه به، ثم يكتفى فيه بالاسم المستعار لأنه المنقول عما كان له في الوضع إلى المستعار له. وعيار مشاكلة اللفظ للمعنى وشدة اقتضائهما للقافية، طول الدربة ودوام المدارسة، فإذا حكما بحسن التباس بعضها ببعض، لا جفاء في خلالها ولا نبو، ولا زيادة فيها ولا قصور، وكان اللفظ مقسوماً على رتب المعاني: قد جعل الأخص للأخص، والاخس للاخس، فهو البرئ من العيب. وأما القافية فيجب أن تكون كالموعود المنتظر، يتشوفها المعنى بحقه واللفظ بقسطه، وإلا كانت قلقلة في مقرها، مجتلبة لمستغن عنها ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 ولا بد من تعليق على هذا الذي قاله المرزوقي: فكل عنصر عنده له عيار وحدود يقبلها العيار؛ فأما الحدود فنستطيع أن نردها إلى ما قاله قدامة في الأغلب، وأما أنواع العيار فإنها تمثل ما جاء به الجرجاني حين تحدث عن العناصر الأربعة اللازمة للشاعر، وما قاله ابن طباطبا حول قبول " الفهم "، وهذه هي العيارات التي استعملها المرزوقي: 1 - العقل الصحيح والفهم الثابت. 2 - الطبع. 3 - الرواية. 4 - الاستعمال. 5 - الذكاء وحسن التمييز. 6 - الفطنة وحسن التقدير. 7 - الذهن والفطنة. 8 - طول الدربة ودوام المدارسة. ولا ريب في أن العقل والفهم والذكاء والفطنة والذهن تعبير عن حقيقة واحدة كما أن الاستعمال وطول الدربة شيء واحد؛ وإذن فإن معايير المرزوقي هي الطبع - الرواية - الذكاء - الدربة. وهي ليست شيئاً سوى ما جاء به الجرجاني (1) ؛ إلا أن الجرجاني افترض وجود هذه العناصر في الشاعر، أما المرزوقي فإنه يتحدث عن توفرها في المتلقي أو المتذوق أو الناقد. ولو سئل المرزوقي: أين يضع أبا تمام مثلاً أو المتنبي؟ هل أحدهما أو   (1) أنظر ما سبق ص: 328. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 كلاهما خارج عن عمود الشعر أو ملتزم به؟ لما كان الجواب عن ذلك قاطعاً حاسماً: فأبو تمام في المبنى من الفريق الثالث، وفي المعنى من أصحاب المعاني، ولكن استعارته أحياناً لا تناسب فيها بين المستعار والمستعار له، وفي بعض ألفاظه إذا عرضت على الطبع والرواية والاستعمال هجنة، وكثير من العناصر الأخرى المشترطة في عمود الشعر متوفر لديه، ولذا فلا يمكننا أن نقول إن أبا تمام خرج عن عمود الشعر إطلاقاً، وإنما يمكننا أن نقول إنه في بعض أبياته فعل ذلك، ومثل ذلك قد يقال في أبي نواس وفي مسلم والبحتري والمتنبي، لا خلاف في ذلك، إذ أن المرزوقي لم يقل لنا: إن العرب يشترطون اجتماع هذه العناصر كلها معاً دون هوادة، بل قال " ومن لم يجمعها كلها فبقدر سهمته منها يكون نصيبه من التقدم والإحسان " (1) فإذا اجتمعت كلها - وهذا أمر عسير - كان الشاعر محسناً مقدماً. وعلى هذا الأساس نستطيع أن نقول إن نظرية " عمود الشعر " رحبة الأكناف واسعة الجنبات، وأنه لا يخرج من نطاقها شاعر عربي أبداً، وإنما تخرج قصيدة لشاعر أو أبيات في كل قصيدة، وقد أساء الناس فهم هذه النظرية وحملوها من السيئات الشيء الكثير، ولكنها أساس " كلاسيكي " رصين، فالثورة عليها لا تكون إلا على أساس رفض الشعر العربي جملة. بل أن المرزوقي زاد من أتساع هذه النظرية حين جعلها ذات وسط وطرفين، فإما أن يعمد الشاعر إلى تحقيق هذه العناصر عن طريق الصدق، وإما أن يذهب مذهب الغلو، وإما أن يكون مقتصداً بين بين، ولكل جانب أنصاره الذين يؤثرونه، وإذا كان النقاد قبل المرزوقي قد انقسموا في فئتين: فئة تقول: أحسن الشعر أكذبه، وفئة تقول: أحسن الشعر أصدقه، فإنه قد زاد فئة ثالثة تقول: " أحسن الشعر أقصده ".   (1) شرح الحماسة 1: 11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 فهم جديد للمطبوع والمصنوع وقد عدل المرزوقي عن قسمة أبن قتيبة للشعر في مطبوع ومتكلف فسمى القسمين " المطبوع والمصنوع ". فالمطبوع: هو ما كان وليد جيشان في النفس وحركة في القريحة، فإذا نقل ذلك بصورة تعبير خلي الطبع المهذب بالرواية المدرب بالدراسة كي يضع ذلك الجيشان وتلك الحركة في ما يختاره من قوالب وألفاظ. والمصنوع: هو ما كان وليد جيشان في النفس وحركة في القريحة، فإذا شاء الشاعر نقل ذلك بصورة تعبير نحي الطبع المهذب بالرواية والدربة عن العمل وحل محله الفكر، فأخذ (ذهنياً) يقبل ما يقبل ويرد ما يرد فتجاوز المألوف إلى البدعة وتلذذ بالأغراب فخرج الكلام مصنوعاً. والقدامى أقرب إلى الطبع، أما المحدثون فحظهم من الطبع متفاوت: فيعضهم يقوى لديه ويحكمه في الإبداع، فيجيء كلامه أقرب إلى طرائق الأعراب؛ وبعضهم يحب الإغراب وإظهار الاقتدار لأنه يدل على كمال البراعة، ولذلك يلجأ إلى الفكر لا إلى الطبع فيحمله على الإكثار من البديع. ولسنا بحاجة إلى التعليق على هذه التفرقة بين المطبوع والمصنوع فإنها رغم غموض كل ما يتصل بفكرة الإبداع الفني - حتى اليوم - من أدق ما جاء به النقد العربي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 - 3 - النقد العربي في كتاب الشعر في القرن الخامس لا نجد لكتاب الشعر - أو للأثر اليوناني عامة - أي صدى بين نقاد القرن الخامس (إذا استثنينا إشارة طفيفة لأبن حزم الأندلسي) ، ويعود هذا إلى طبيعة النقاد وطبيعة الشعر، وكلتاهما أصبحت تنأى عن الأثر لدى الآمدي والجرجاني، دون أن يخلق التيار الشعري - المتجه نحو الشكلية العامة أو الصورة الجزئية - أية مشكلة جديدة تتطلب تعمقاً في النظر وتأنياً في الحل. دراسة كتاب الشعر جزء من دراسة المنطق ولذلك اقتصرت الصلة بكتاب الشعر على إعادة وضعه في موضعه بين كتب المعلم الأول وفاء باستكمال المنهج الفلسفي؛ وكان من الطبيعي لهذا أن لا يحدث تلخيص أبن سينا لكتاب الشعر أي أثر في النقد الأدبي حينئذ، ومن الكثير أن نحمله جل المسئولية في هذا التقصير (1) ، مهما تكن حماستنا للأثر المفترض الذي كان متوقعاً لهذا الكتاب، ومهما يكن رجاؤنا كبيراً في مقدرة أبن سينا.   (1) أنظر مقال " ابن سينا وفن الشعر " للدكتور عبد الرحمن البدوي في كتاب " المهرجان الألفي لذكرى ابن سينا (1952) ص 105 - 116 ومقدمته على الشفا - المنطق (9 - الشعر) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 نص ابن سينا ظهر حين ابتعد النقد عن الثقافة اليونانية وقد يكون ابن سينا قام بتخليص هذا الكتاب في أواخر القرن الرابع أو أوائل الخامس، وتلك حقيقة أخرى جعلتنا نتحدث عنه في نقد القرن الخامس، أعني أن الكتاب تأخر عن موعده - إذا صح هذا القول - فجاء بعد ذلك الازدهار في حياة النقد الأدبي، ولم يجد قدامة ثانياً ليفيد منه، بعد إذ أصبح الوضوح فيه أشمل واقرب منالاً. ولكن لم تكن محاولة ابن سينا هي الوحيدة، إذ يذكر ابن أبي أصيبعة أن ابن الهيثم (حوالي - 432) لف " رسالة في صناعة الشعر ممتزجة من اليوناني والعربي " (1) ، إلا أن هذه الرسالة لا تزال محجوبة لم تنلها يد الكشف بعد. الميزة العامة لغرض ابن سينا ويمثل كتاب الشعر كما أورده ابن سينا أوضح صورة - فيما نعرفه حتى اليوم - من صور هذا الكتاب، فهو يرتفع عن غموض ترجمة ابي بشر متى بن يونس وركاكتها ورداءتها، وهو أوسع نطاقاً من اللمحات الخاطفة التي جاء بها الفارابي، وهو أسلم من محاولة ابن رشد من بعد، لان ابن سينا لم يتورط كثيراً في تطبيقات خاطئة؛ ومن الحق ان نفترض انه اعتمد على ترجمة جيدة قام بها يحيى بن عدي أو غيره (2) . تعريفه للشعر ويبدأ ابن سينا بمقدمة ليست من أصل كتاب الشعر يتحدث فيها عن تعريف الشعر وأنه " كلام مخيل مؤلف من أقوال موزونة متساوية، وعند العرب مقفاة ". ثم يشرح هذا التعريف ويدل على أن المنطقي لا يهمه منه إلا الحديث عن التخييل، فالكلام المخيل (هو الكلام الذي تذعن له النفس فتنبسط عن أمور وتنقبض عن أمور من غير روية وفكر واختيار وبالجملة تنفعل له   (1) طبقات الأطباء 2: 94 وفن الشعر (المقدمة: 55) . (2) فن الشعر (المقدمة: 53) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 انفعالاً نفسانياً غير فكري سواء كان القول مصدقاً به أو غير مصدق " (1) . ويقارن بين أثر المحاكاة - وهو التخييل - وبين التصديق، فيرى أن كليهما إذعان، إلا أن التخييل إذعان للتعجب والالتذاذ بنفس القول، والتصديق إذعان لقبول أن الشيء على ما قيل فيه (2) ، ويمضي في تبيان المحاكاة وضروبها، وكيف يكون إحداث التعجب صادراً عن حيلة في اللفظ أو المعنى، ويفرع أنواع الحيل التي بها تتعدد الصيغات الشعرية، ثم يعرج على أنواع الشعر عند اليونان معتمداً - في اغلب الظن - على ما أورده الفارابي من قبل. صورة كتاب الشعر في نفسه حتى إذا انتهى من هذه المقدمة بدأ النظر في كتاب الشعر نفسه فلم يدع انه يفهم كل شيء فيه وإنما حدد غايته بالتعبير عن القدر الذي فهمه من المعلم الأول: " إذا أكثر ما فيه اقتصاص أشعار ورسوم كانت خاصة بهم ومتعارفة بينهم يغنيهم تعارفهم إياها عن شرحها وبسطها " (3) . إدراكه الفرق بين الشعر اليوناني والعربي وحين يقف ابن سينا عند قول أرسطو: " واعمال الناس هي موضوعات المحاكاة " (4) أو كما يقول في تلخيصه: " والشعر اليوناني إنما كان يقصد فيه في أكثر الأمر محاكاة الأفعال والأحوال لا غير " (5) يلمح الفرق بين الشعر اليوناني والعربي على نحو يدل على انه يعي طبيعة كل منهما دون غموض، فالشعر العربي يحاكي الذوات، لا الأفعال: " وكانت (العرب)   (1) فن الشعر: 161 والشفا: 24 (2) فن الشعر: 162 والشفا: 24. (3) فن الشعر: 167 والشفا: 31. (4) كتاب الشعر: 22. (5) فن الشعر: 169 - 170 والشفا: 34. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 تقول الشعر لوجهين: أحدهما ليؤثر في النفس أمراً من الأمور تعد به نحو فعل أو انفعال، والثاني للعجب فقط فكانت تشبه كل شيء لتعجب بحسن التشبيه، وأما اليونانيون فكانوا يقصدون أن يحثوا بالقول على فعل أو يردعوا بالقول عن فعل، وتارة كانوا يفعلون ذلك على سبيل الخطابة وتارة على سبيل الشعر، فلذلك كانت المحاكاة الشعرية عندهم مقصورة على الأفاعيل والأحوال والذوات من حيث لها تلك الأفاعيل والأحوال " (1) . لقد أدرك ابن سينا تخالف طبيعتي الشعر اليوناني والشعر العربي، ولكنه حين حاول التفسير أخطأ، فنقل معنى المحاكاة في عملية الخلق إلى أثرها في النفوس وبهذا لم يعد من فرق بين الشعر الذاتي القائم على المحاكاة لان كليهما يتوسل الإثارة عن طريق الانفعال النفسي، وهو شيء قاله ابن سينا قبل قليل ثم نسيه. سبب الانتقاد بالمحاكاة وندهش أحياناً لهذا الوضوح في ذهن ابن سينا وهو يتحدث عن سبب التذاذنا بالمحاكاة فهو هنا لا يخطئ كما اخطأ الفارابي بل يقول " والدليل على فرحهم بالمحاكاة انهم يسرون بتأمل الصور المنقوشة للحيوانات الكريهة والمتقذر منها، ولو شاهدوها أنفسها لتنكبوا عنها " (2) ؛ ونعجب بحديثه كيف صار التعليم - لأنه متولد عن المحاكاة - لذيذاً لا للفلاسفة فقط بل للجمهور، إلى غير ذلك من مواضع لا يتفوق تعبيرنا فيها - حين نريد ان ننقل كلام أرسطو - عن تعبير ابن سينا، فإذا جئنا إلى تعريف الطراغوذيا وجدناه أيضاً سليماً في جملته: " عن الطراغوذية هي محاكاة فعل كامل الفضيلة عالي المرتبة بقول ملائم جداً، لا يختص بفضيلة فضيلة جزئية، تؤثر في الجزئيات لا من جهة الملكة بل من جهة الفعل - محاكاة تنفعل لها   (1) فن الشعر: 170 والشفا: 32. (2) فن الشعر: 171 والشفا: 37. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 الأنفس برحمة وتقوى " (1) . مصطلح ابن سينا في كتاب الشعر ويختلف مصطلح ابن سينا عن المصطلح الذي نؤثره اليوم، فيضع " الاشتمال " مكان ما قد نسميه " الانقلاب أو التحول " و " الاستدلال " مكان ما قد يسمى " الانكشاف أو التعرف " ولكنه دقيق في استعمال مصطلحي " الحل والربط " وفي كثير من المصطلحات الأخرى. تضليل المصطلح عند التطبيق والمقارنة غير إننا نقرأ قوله: " وأجزاء الخرافة جزءان: الاشتمال وهو الانتقال من ضد إلى ضد، وهو قريب من الذي يسمى في زماننا " مطابقة " ولكنه كان يستعمل في طراغوذياتهم في أن ينتقلوا من حالة غير جميلة إلى حالة جميلة بالتدرج، بان تقبح الحالة الغير جميلة وتحسن بعدها الجميلة، وهذا مثل الخلف والتوبيخ والتقرير، والجزء الثاني الدلالة وهو أن يقصد الحالة الجميلة بالتحسين لا من جهة تقبيح مقابلها " (2) ؟ أقول: حين نقرأ مثل هذا ندرك أن ابن سينا قد وقع في متاهة مضلة، لأنه ليست لديه أدنى فكرة عما يسمى (بطل الطراغوذيا) لظنه ان كل ما يتحدث به ارسطو هنا ينصرف إلى الشاعر نفسه، ونستبعد أن تكون لفظة " المنافق " التي يستعملها للدلالة على " الممثل " ولفظة " المسكن " التي تقابل لفظة " المسرح " قادرتين على هدايته إلى مدلولهما الصحيح. وهذا هو الجانب الذي يتصل بالعمل المسرحي نفسه، ومن هنا أنبهم الأمر على ابن سينا وغيره، فأما إذا كان الحديث عن كيان المأساة نفسها مثل كونها تتألف من فاتحة ووسط وخاتمة، وما أشبه ذلك فهذا لا يغمض على ابن سينا، أو على الأقل، يجيء تعبيره عنه واضحاً لأنه متصل بفكرة فلسفية أو منطقية. ولهذا كانت معرفة العمل المسرحي وحدها   (1) فن الشعر: 176 والشفا: 44. (2) فن الشعر: 179 والشفا: 47. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 هي القادرة على أن تجعل كتاب الشعر واضحاً وأن تخلق له أثراً في البيئة العربية، ولعل الدكتور بدوي حين استبعد هذه الحقيقة (1) وشبه حال الشرق بحال أوروبة في العصور الوسطى قد نسي أن أوروبة من خلال مسرحيات الأسرار، كانت تعرف شكلاً مسرحياً ما، وإن كان هذا الشكل مخالفاً للقواعد التي جاء بها أرسطو (2) . إذ الأمر هنا غير داخل في مدى صلاحية النظرية أو عدم صلاحيتها بل هو ادخل في باب الفهم، وهذا الفهم لا يتأتى إلا من تصور الأنموذج، فما دام الأنموذج مفقوداً فالفهم غير متيسر. وأما استشهاده بخيال الظل عند ابن دانيال وانه أرقى من مسرحيات الأسرار فإنه استشهاد من يدري تماماً أن أرسطو كان في عصر ابن دانيال قد أصبح شبه منسي، إلا أثرات من هجوم ابن تيمية على منطقه. عن ابن سينا حين كان يحاول أن يبسط كلام ارسطو، لاجئاً إلى ما يعرف من نماذج، كان يبذل كل جهده للإفهام والتوضيح، ولكن نماذجه كانت تخونه في أكثر الأحيان: فالمقابلة التي أقامها ارسطو بين الشاعر والمؤرخ لا يستطيع أن يقيمها ابن سينا غلا بين الشعر والقصص والامثال، لانه لم يتعود ان يقارن بين الشعر والتاريخ، لذلك تجده يستشهد على ما يوازي الشعر بقصص " كلية ودمنة " وبينا يقول أرسطو: " يتضح إذن - مما تقدم - انه ليس يقع في دائرة الشاعر أن يقص الأشياء التي وقعت فعلاً ولكن عليه أن يصف تلك التي كان من الممكن أن تقع، أي يذكر ما هو ممكن على انه محتمل أو ضروري. إذ ليس بالتأليف   (1) المهرجان الألفي: 107 - 108. (2) قال الدكتور بدوي في معرض حملته على ابن سينا وفقدان المسرح عند العرب: " وما يسمونه بالأسرار وهي التمثيليات - عن صح هذا التعبير - الدينية الأولية ليست هي المسرحيات بالمعنى الفني المعروض في كتاب " فن الشعر " لأرسطو (المقدمة ص: 60) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 نظماً أو نثراًً يفترق الشاعر والمؤرخ، فكتاب هيرودوت قد يصاغ نظماً، ولكنه مع ذلك يظل ضرباً من التاريخ، بيد أنهما يفترقان في أن أحدهما يروي ما حدث والآخر يروي ما يحتمل أن يحدث، وعلى هذا الاعتبار كان الشعر شيئاً أكثر فلسفة وأبدع من التاريخ وأكبر منه قيمة لان الشعر يضطلع بالحقيقة العامة بينما يضطلع التاريخ بالخاصة؛ وأنا اعني بالحقيقة العامة ما يمكن ان يقوله أو يفعله نوع من الناس يتمتع بهذه الصفات أو بتلك - على وجه الاحتمال أو الضرورة - ذلك شيء عام وهو موضوع الشعر حتى حين يطلق أسماء خاصة على من يقولون الحقائق العامة، أما ما فعله الكبيادس أو ما حدث له فذلك حقيقة خاصة " (1) - بينا يقول أرسطو هذا القول على هذا النحو من الوضوح نجد ابن سينا قد حوره فجعل الفرق بين الشعر وبين المحاكاة التي تكون بالأمثال والقصص، ككتاب كليلة ودمنة؛ صحيح إنه فهم أن الوزن - لو نظم كليلة ودمنة - لا يصنع من ذلك الكتاب ما يسمى شعراً، ولكنه عاد إلى ان الشعر يراد به التخييل، وأمثال كليلة ودمنة يراد بها إفادة الآراء، دون ان يقصر حديثه كما قصره أرسطو في هذا المقام على الفرق بين شيء يتناول الأحداث الجزئية " فأحد هذين يتكلم فيما وجد ويوجد والآخر يتكلم فيما وجوده في القول فقط " (2) . أما لماذا اختار ابن سينا كتاب كليلة ودمنة ولم يجر المقارنة بين الشعر والتاريخ فلهذا أسباب: أولها أن كلمة historia نفسها قد ذهبت به إلى معناها الاشتقاقي (أسطورة) ، وثانيها أنه لم يتعود في المفهومات المشرقية إيراد صلة بين الشعر والتاريخ، وثالثها وهو الأهم: أن كتاب كليلة ودمنة كان قد نظمه ابن الهبارية، فهو يريد ان يثبت ان الوزن وحده لا يصنع منه شعراً، كما يقول أرسطو، فهو أوضح " نموذج " متوفر لديه، مما يحكي " قصة " في شكل شعري؛ وفي هذا دلالة أخرى على قيمة الأنموذج نفسه.   (1) كتاب الشعر: 44. (2) فن الشعر: 183 والشفا: 54. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 وليس حديثه عن الشعر البطولي الملحمي (الأفي Epic) أوضح من حديثه عن الطراغوذيا، فقد لخصه تلخيصاً سريعاً مخلاً، وحذف الأمثلة لانعدام دلالتها في نفسه. خاتمة الكتاب ووعد لم يتحقق وختم الكتاب بقوله: " هذا هو تلخيص القدر الذي وجد في هذه البلاد من كتاب الشعر للمعلم الأول، وقد بقي منه شطر صالح، ولا يبعد أن نجتهد نحن فنبتدع في علم الشعر المطلق وفي علم الشعر بحسب عادة هذا الزمان كلاماً شديد التحصيل والتفصيل " (1) . وهذه الخاتمة تؤكد أن ابن سينا كان يحس أن هناك بقية لكتاب الشعر لم تصل؛ فأما ما لخصه منه فإنه يشمل كل ما لدينا اليوم من هذا الكتاب؛ وأما ما وعد به فإنه يتناول شيئين: الكتابة في النظرية الشعرية عامة، والكتابة في نقد الشعر كما يعرفه العرب، وليس هناك شيء مما وعد به ابن سينا في ما وصلنا من مؤلفاته.   (1) فن الشعر: 198 والشفا: 75. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 - 4 - النقد وفكرة الإعجاز الانطلاق من فكرة الإعجاز إلى إقرار قواعد النقد والبلاغة كان النقد والبلاغة لدى المحدثين عن الإعجاز في القرن الرابع مركبتين اتخذوهما للوصول إلى " منطقة " الإعجاز، ثم إفراد تلك المنطقة عما حولها، ولكن عبد القاهر الجرجاني (- 471) (1) - أكبر متحدث منطلقه فكرة الإعجاز نفسها، وعن هذه الطريق أسهم في توضيح مفهوم البلاغة - على نحو لم يسبق له مثيل - كما أسهم في معالجة كثير من النظريات النقدية بمعدات جديدة من الفحص الدقيق والتغلغل النافذ إلى بواطن الأمور. الإعجاز في النظم فلقد قرر عبد القاهر في نفسه منذ البداية ان القرآن معجز، وحاول أن يستكشف فيه مواطن الإعجاز، هل هو في الالفاظ؟ فرد هذا القول رداً حاسماً لان الألفاظ المفردة موجودة في الاستعمال قبل نزول القرآن، ولا يجوز   (1) هو عبد القار بن عبد الرحمن الجرجاني: فارسي الأصل جرجاني الدار كان ذا ثقافة نحوية عميقة، وله في النحو مؤلفات، ولثقافته أثر في نظرته إلى النقد والبلاغة، ويقول القفطي إنه كان ضيق العطن لا يستوفي الكلام على ما يذكره مع قدرته على ذلك (انظر ترجمته في أنباه الرواة 2: 188 وبغية الوعاة: 310 وطبقات الشافعية 3: 242 وفي حاشية الانباه ذكر لعدد من المصادر الأخرى) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 أن يكون الإعجاز في ترتيب الحركات والسكنات، أي في طبيعة الإيقاع لان ذلك قد ينطبق على مثل حماقات مسيلمة في قوله " إنا أعطيناك الجماهير فصل لربك وجاهر "، ولا يتحقق الإعجاز بالفواصل لان الفواصل في الآي كالقوافي في الشعر، وذلك أمر كان العرب قد أتقنوه فلم يعد معجزاً لهم. فإذا بطل ان يكون الإعجاز متأنياً من هذه الأمور، فهل الإعجاز آت من الاستعارة؟ ذلك أيضاً ممتنع " لأن ذلك يؤدي أن يكون الإعجاز في آي معدودة في مواضع من السور الطوال مخصوصة " (1) ، وإذا كانت كل هذه الأمور مجتمعة أو منفردة لا تحقق الإعجاز " فلم يبق إلا أن يكون (الإعجاز) في النظم والتأليف " (2) . تحديد معنى النظم بالتزام الأوضاع النحوية ما المقصود بالنظم والتأليف - وهما مترادفان في رأي عبد القاهر -؟: يقرر الجرجاني أولاً أنه ليس للفظة في ذاتها، لا في جرسها ولا دلالتها، ميزة أو فضل أولي، وليس بين أية لفظة وأخرى في حال انفراد كل منهما عن أختها من تفاضل؛ لا يحكم على اللفظة بأي حكم قبل دخولها في " سياق " معين، لأنها حينئذ وحسب ترى في نطاق من التلاؤم أو عدم التلاؤم؛ وهذا السياق هو الذي يحدث " تناسق الدلالة " ويبرر فيه " معنى " على وجه يقتضيه العقل ويرتضيه. وربط الألفاظ في سياق يكون وليد الفكر لا محالة، والفكر لا يضع لفظة إزاء أخرى لأنه يرى في اللفظة نفسها ميزة فارقة، وإنما يحكم بوضعها لان لها معنى ودلالة بحسب السياق نفسه، ولهذاكانت " المعاني " لا الألفاظ هي المقصودة في إحداث النظم والتاليف، فلا نظم في الكلم ولا تأليف حتى يعلق بعضها ببعض ويبنى بعضها على بعض، وبهذا يكون اللفظ تابعاً للمعنى، بحسب ما يتم ترتب المعنى في النفس (3) .   (1) دلائل الإعجاز: 271 - 274. (2) المصدر نفسه: 274. (3) دلائل الإعجاز: 38 - 47 وانظر أيضاً ص: 64 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 ويخلص عبد القاهر من هذا إلى وضع نظريته التي لا يسأم من تردادها في تحديد المراد من النظم فيقول: " وعلم أن ليس النظم إلا أن تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه علم النحو وتعمل على قوانينه وأصوله وتعرف مناهجه التي نهجت فلا تزيغ عنها " (1) ، ويؤكد ما تقدم بقوله: " فلست بواجد شيئاً يرجع صوابه - إن كان صواباً - وخطوه - عن كان خطأ - إلى النظر ويدخل تحت الاسم إلا وهو معنى من معاني النحو قد أصيب به موضعه ووضع في حقه أو عوامل بخلاف هذه المعاملة، فأزيل عن موضعه واستعمل في غير ما ينبغي له " (2) ، أي أن من شاء أن يحكم على مدى الصواب والخطأ في النظم فلابد له من أن يعالج قضايا التقديم والتأخير والفصل والوصل والإظهار والإضمار والاستفهام والنفي أو ما أصبح من بعد عبد القاهر يسمى " علم المعاني ". وعند هذا الحد انتهى نظر عبد القاهر في " قضية الإعجاز " لان هذا " النظم " هو أساس الجمال أيضاً في الشعر والنثر، ولم يقل لنا عبد القاهر إلى أي حد سما " نظم القرآن " - كماً وكيفاً - على ما عداه من صور " النظم " الجميل في الفنون الأدبية؛ وبهذه النظرة اتجه عبد القاهر إلى النقد والبلاغة يضع فيهما أحكاماً، دون التفات كثير إلى أن " قضية الإعجاز " تتطلب شيئاً أبعد من حد المشاركة في الجمال المشاع بين صور التعبيرات الأدبية المختلفة. ولما كانت الآراء النقدية هي ما يهمنا في هذا الفصل فإننا سنتجاوز الأحكام البلاغية الخالصة، لنرى دور عبد القاهر في النقد الأدبي وحده:   (1) المصدر السابق: 63. (2) المصدر السابق: 64. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 حملته على المنحازين إلى اللفظ كانت الرواقد النقدية التي التقت في ذهن الجرجاني متعددة ولعلها كانت تبدو له متضاربة، كما تعددت وتضاربت الآراء حول فكرة الإعجاز نفسها، فقد أزعجه أولاً أن يرى ذلك التقدير للألفاظ وتقديمها على المعاني عند من سبقه من النقاد، حتى إنهم جعلوا للفظة المفردة مميزات وصفات لم يستطع أن يتقبلها ذهنه المتمرس بتفاوت الدلالات، وقيمة التعبير عن ذلك التفاوت، وكان يحس بوعي نقدي فذ أن ثنائية اللفظ والمعنى التي تبلورت عند ابن قتيبة قد أصبحت خطراً على النقد والبلاغة معاً: أما على المستوى النقدي فإن الانحياز إلى اللفظ قتل " الفكر " الذي يعتقد الجرجاني انه وراء عملية أدق من الوقوف عند ميزة لفظة دون أخرى؛ وأما على المستوى البلاغي فإن الجرجاني لم يستطع أن يتصور الفصاحة في اللفظة وإنما هي في تلك العملية الفكرية التي تصنع تركيباً من عدة ألفاظ (1) ؛ وقد يجد الجرجاني عذراً للقدماء الذين أقاموا تلك الثنائية ففخموا شأن اللفظ وعظموه وتبعهم في ذلك من بعدهم حتى قالوا: المعاني لا تتزايد وغنما تتزايد الالفاظ، وعذرهم في ذلك أن المعاني تتبين بالألفاظ ولا سبيل لمن يرتبها إلى أن يدلنا على ما صنع في ترتيبها إلا بترتيب الألفاظ، لهذا تجوز القدماء فكنوا عن ترتيب المعاني بترتيب الألفاظ نفسها، ثم تحدثوا عن الألفاظ وحذفوا كلمة " ترتيب " ثم اسبغوا على الألفاظ صفات فارقة فقالوا: لفظ متمكن ولفظ قلق؟ الخ وإنما مقصودهم المعنى (2) ؛ ورغم هذا العذر الذي يجده للأقدمين فإنه يرى ان النقاد قد تورطوا في الجهل الفاحش حين لجأوا إلى هذه القسمة أو حين احتموا بذلك التصور، وأصبح اقتلاعه من نفوسهم أمراً عسيراً، وعاب ابن قتيبة - دون أن يسميه - لأنه قسم الشعر في أنواع: منه ما حسن لفظه ومعناه ومنه ما حسن لفظه دون معناه ومنه ما حسن معناه دون لفظه،   (1) دلائل الأعجاز: 42 - 53. (2) المصدر نفسه: 52. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 فإذا لم يكن ابن قتيبة - وهو أحد القدماء - معيباً فيما صنع، فإن من جاء بعده قد ضل ضلالاً بعيداً حين اخذ هذه القسمة على ظاهرها (1) ، واعتقد باستقلال اللفظة ومنحها صفات خاصة بها. حملته على المنحازين إلى جانب المعنى من جهة ثانية نجد عبد القاهر قد خطأ المنحازين إلى جانب المعنى بشدة لا تقل عن شدته في تخطئته من ذهبوا إلى إبراز مميزات اللفظة المفردة فقال: " واعلم أن الداء الدوي والذي اعيا أمره في هذا الباب غلط من قدم الشعر بمعناه وأقل الاحتفال باللفظ وجعل لا يعطيه من المزية إن هو أعطى إلا ما فضل عن المعنى، فيقول: ما في اللفظ لولا المعنى؟ وهل الكلام إلا بمعناه؟ فأنت تراه لا يقدم شعراً حتى يكون قد أودع حكمة وأدباً واشتمل على تشبيه غريب ومعنى نادر " (2) . وظاهر الأمر دون تمعن كبير، قد يكون في جانب من يذهب هذا المذهب، ولكن عند البحث عن الحقائق نجد أن جميع البلاغيين المتفهمين قد عابوا هذا المذهب، حتى قال الجاحظ قولته المشهورة " المعاني مطروحة في الطريق؟ ". تفسير لفكرة المعاني المطروحة ما معنى قول الجاحظ " المعاني مطروحة في الطريق "؟ أترى هذا حطاً من قيمة المعنى الذي يجعل له الجرجاني المقام الأول؟ هنا ينفذ الجرجاني بفهم دقيق إلى سر مشكلة طال حولها الأخذ والرد، فوجه رأي الجاحظ توجيهاً ملائماً لما نعتقد أن الجاحظ رمى إليه: فمصطلح " معنى " كما استعمله الجاحظ ذو دلالة دقيقة، وهو في رأي الجرجاني إنما يتحدث به عن " الأدوات الأولية "، وتفسيراً لذلك يقارن الجاحظ بين الكلام ومادة الصائغ، فهو يصنع من الذهب أو الفضة خاتماً، فإذا أردت الحكم على   (1) دلائل الإعجاز: 256. (2) دلائل: 178. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 صنعته وجودتها نظرت إلى الخاتم من حيث انه خاتم، ولم تنظر إلى الفضة أو الذهب الذي صنع منه، فهذه المادة الأولية تشبه المعنى المطروح وليس فيها تفاضل عن شئت أن تحكم على جودة الصنعة نفسها، ولهذا قال الجاحظ بعد أن أورد رأيه في شيوع المعاني (وإنما الشأن في إقامة الوزن وتخير اللفظ وسهولة المخرج وصحة الطبع وكثرة الماء وجودة السبك، وإنما الشعر صياغة وضرب من التصوير " (1) ؛ وإنما الذي دعا الجاحظ وإضرابه إلى تبني هذا المذهب خوفهم على فكرة الإعجاز: فلو أن الفضل كان قاصراً على تلك " المادة الأولية " التي سميت " معنى " بطل أن يكون " لنظم " فضل تتفاوت به المنازل " وإذا بطل ذلك فقد بطل أن يكون في الكلام معجز وصار الأمر إلى ما يقوله اليهود " (2) . أي أصبح الإعجاز أن يحتوي الكلام على حكمة وأدب واستخراج معنى غريب أو تشبيه نادر، وفي هذا تسوية بين القرآن وأية مهارة ذهنية إنسانية. وعلى أساس هذا التفسير يكون الناس الذين ظنوا أن " المعنى " في نظرية الجاحظ يشير إلى عدم التفاوت في " العملية الفكرية " القائمة وراء البناء الفني، قوماً مخطئين في تصورهم، فهم قد أساءوا فهم ما رمى إليه الجاحظ، لانهلم يتجاوز بما يعنيه " المادة الاولية " التي تتولاها " الروية " بالصياغة، فخلطوا - بذلك - بين تلك المادة الضرورية المشاعة وبين " الروية " الفكرية التي تؤسس " وحدة كاملة " من اللفظ والمعنى تأسيساً متفاوتاً في القدرة على التأثير، فرجعوا الفضيلة إلى اللفظ وحده " ولما أقروا هذا في نفوسهم حملوا كلام العلماء في كل ما نسبوا فيه الفضيلة إلى اللفظ على ظاهره، وأبوا ان ينظروا في الأوصاف التي اتبعوها نسبتهم الفضيلة إلى اللفظ؟.. ولكن جعلوا كالمواصفة بينهم ان يقولوا اللفظ وهم يريدون   (1) دلائل الإعجاز: 181. (2) المصدر نفسه: 182. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 الصورة التي تحدث في المعنى والخاصة التي حدثت فيه، ويعنون الذي عناه الجاحظ حيث قال: وذهب الشيخ إلى استحسان المعاني والمعاني مطروحة وسط الطريق؟ الخ " (1) فالذي يعنيه الجاحظ وأمثاله هو تلك " الصورة " لا مجرد اللفظ نفسه. إلى أي مدى يصح تصور الشعر كالصياغة أو إلا برسيم لقد لجا عبد القاهر كثيراً، وهو يشرح هذه الفكرة حول " الصورة " المجتمعة من اللفظ والمعنى، إلى التمثيل عليها ومقايستها بعملية الصياغة أو بالوشي والابرسيم ولكنه كان في كل مرة متنبهاً إلى ما تجره هذه المقايسة من تضليل، فالذي يتصور الشعر صياغة قد يرستم في ذهنه أن الصائغين يصنعان سوارين لا يكون الفرق بينهما واضحاً، فهل يمكن أن يحدث مثل ذلك في " النظم "؟ ويجيب عبد القاهر على هذا التساؤل بتقرير مبدأ التفاوت دائماً، ولكن الناس درجوا على ان يقولوا هذا شاعر قد أتى بالمعنى بعينه، على طريق التساهل والتجوز، ولا يمكن لشاعر آخر أن يأتي بالمعنى بعينه، إلا كان ذلك تكراراً تاماً لعبارات الشاعر الأول، وفي هذا نفسه ما يدل على ميزة النظم لأنها هي التي تحقق ذلك التفاوت (2) . أما التشبيه بالابريسم فإنه أيضاً قاصر لأنه قد يوحي أن " النظم " ضم للكلمات بعضها إلى بعض كما يحدث في ضم الألفاظ يتبع نسقاً قرره النحو، فإذا ضمت الألفاظ إلى بعضها البعض دون ان تتوخى فيها معاني النحو لم يكن ذلك نظماً، فالفرق إذن بين النظم والابريسم هو فرق في " العامل العمدي " في إنشاء سياق ما (3) .   (1) دلائل الإعجاز: 338. (2) انظر الدلائل: 184 - 185 وكذلك ص: 252. (3) انظر الدلائل: 259 - 260. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 التفاوت بين الصور رغم تشابه المعاني وقد أمعن عبد القاهر في تمييز التفاوت بين صورتين يظنهما الناس ممثلتين لمعنى واحد حين أورد مزدوجات من الأبيات، كل اثنين منهما لشاعرين، والصورة في أحد البيتين أدنى بكثير من الصورة في البيت الثاني، ثم شفع ذلك بنماذج أخرى من المعاني المتحدة، إلا أن الصورة - أو الصياغة - فيها قد بلغت في كل بيتين مستوى فائقاً، ومع ذلك ظل التفاوت موجوداً (1) ؛ ثم وضح لم أختار مصطلح الصورة بقوله: " وأعلم أن قولنا الصورة إنما هو تمثيل وقياس لما نعلمه بعقولنا على الذي نراه بأبصارنا، فلما رأينا البينونة بين آحاد الأجناس تكون من جهة الصورة فكان بين إنسان من إنسان وفرس من فرس بخصوصية تكون في صورة هذا لا تكون في صورة ذاك، وكذلك كان الأمر في المصنوعات فكان بين خاتم من خاتم وسوار من سوار بذلك، ثم وجدنا بين المعنى في أحد البيتين وبينه في الآخر بينونة في عقولنا وفرقاً، عبرنا عن ذلك الفرق وتلك البينونة بأن قلنا للمعنى في هذا صورة غير صورته في ذلك، وليس العبارة عن ذلك بالصورة شيئاً نحن ابتدأناه فينكره منكر، بل هو مستعمل مشهور في كلام العلماء ويكفيك قول الجاحظ: وإنما الشعر صياغة وضرب من التصوير " (2) . التفاوت في الصور هو الطريق لإثبات الإعجاز كما كان عند الآمدي والقاضي ويتجلى من هذا كيف حاول عبد القاهر أن يظل في بحثه عن " الصورة " منسجماً مع محاولته في تبيان حقيقة الغعجاز، فالتفاوت في الصور - مهما تتقارب - شيء لا يكاد يقف عند حد، فإذا بلغ الأثر الأدبي درجة من التمييز لا يلحقه فيها أي اثر آخر صح أن يسمى معجزاً، ومثل هذا التفاوت   (1) الدلائل: 342 - 354. (2) الدلائل: 355. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 يتحقق في المعنى، أي القضايا الخارجية مهما يكن حظها من الجد والسمو، كأن تكون مما أيد العقل صحته المطلقة، ثم أن التركيز على الصورة وحدها يبعد عبد القاهر من الخوض في العلاقة بينها وبين " الفاعل " لها أو " القوة الفاعلة "، إذ أن تلك العلاقة لا يمكن بحثها في إطار الإعجاز القرآني، وما دام هم الناقد أن يستكشف الجمال الفني (أيا كانت درجته) في الصورة، فإن درجة ذلك الجمال - بالنسبة لغيره - هي التي تشير إلى طبيعة القدرة التي تمكنت من إبراز تلك الصورة - أي أن النتيجة تتخذ دليلاً على الفاعل دون أن تربط به، أو تفضي إلى التحدث عن مدى العلاقة بينها وبينه. الوحدة في مقياس عبد القاهر لذلك كانت نظرية النظم (أو التأليف) عند عبد القاهر إنكاراً لتلك الثنائية المضللة وعودة إلى الوحدة، أي ان يعنى الناقد برؤية الصورة مجتمعة من الطرفين معاً دون فصل بينهما؛ وتلك هي فيما يبدو نظرية الجاحظ، حتى حين يمثل عبد القاهر بين الشعر والصياغة والتصوير. وقد كان عبد القاهر يحس أن أخذه بتلك النظرية يخدم فكرة الإعجاز، ويقلل من الانحياز إلى اللفظة المفردة، ويمنح المعنى - من داخل الصورة المركبة - قيمة كبرى، غير إن مصطلح " المعنى " لديه لم يبق كما كان عند الجاحظ بل أصبح يعني " الدلالة " الكلية المستمدة من الوحدة، لا " المادة الأولية " أو الحقائق الخارجية التي تحدث الجاحظ عنها، ولا ندري إلى أي حد استغل عبد القاهر كتاب الجاحظ في نظم القرآن، لترسيخ نظريته، ولكنا نجده يفيء إلى كتاب آخر للجاحظ هو كتاب " النبوة " فينقل عنه قوله: " ولو أن رجلاً قرأ على رجل من خطبائهم وبلغائهم سورة واحدة لتبين له في نظامها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 ومخرجها من لفظها وطابعها أنه عاجز عن مثلها، ولو تحدى بها أبلغ العرب لأظهر عجزه عنها لغة ولفظاً " (1) ، فالذي يريده الجاحظ هنا هو مبدأ " النظم " وإن عبر عن موقفه بالحديث عن اللغة واللفظ. وإذا كان عبد القاهر قد استمد نظرية " النظم " من الجاحظ في خطوطها العريضة، فربما كان تفسيره للنظم بأنه " إذا رفع معاني النحو وأحكامه مما بين الكلم حتى لا تراد فيها في جملة ولا تفصيل خرجت الكلم المنطوق ببعضها في أثر بعض، في البيت من الشعر والفصل من النثر من غير أن يكون لكونها في مواضعها التي وضعت فيها موجب ومقتض " (2) - أقول: ربما كان هذا التفسير هو مما اهتدى إليه عبد القاهر نفسه في نطاق تلك النظرية العامة. الانتقال من المعنى إلى معنى المعنى وليس من همنا هنا أن نناقش عبد القاهر في نظريته هذه، فذلك يتطلب عرضاً مفصلاً لدقائق كتابيه - الدلائل والأسرار - ولكنا نعتقد إن اتخاذه لهذه الفكرة منطلقاً هو الذي نقله بعد قليل إلى أدق ما نفذ إليه في سياق تلك النظرية، فقد انتقل من تفاوت الدلالات إلى مرحلة لم ينتبه إليها أحد قبله من النقاد؛ وقد أسعفته نظرية الجاحظ في " المعاني المطروحة " على ذلك؛ فقد خيل إليه أن الناس حين أساءوا فهم نظرية الجاحظ، لم يلحظوا تفاوت الدلالات الناجم عن طريق الصياغة، فقولك، خرج زيد، قول تصل منه إلى المقصود بدلالة اللفظ وحده، ولكنك حين تقول: هو كثير رماد القدر، أو: رأيت أسداً، وأنت تريد رجلاً شجاعاً، أو: بلغني أنك تقدم رجلاً وتؤخر أخرى، فإنك في مثل هذه الأقوال تطرح أولاً دلالة أولية   (1) دلائل الإعجاز: 366. (2) دلائل الإعجاز: 186. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 تنتقل منها إلى دلالة ثانية تصل بها إلى غرض جديد: " وإذ قد عرفت هذه الجملة فهاهنا عبارة مختصرة وهي أن تقول المعنى ومعنى المعنى، تعني بالمعنى المفهوم من ظاهر اللفظ والذي تصل إليه بغير واسطة، وبمعنى المعنى أن تعقل من اللفظ معنى ثم بفضي بك ذلك المعنى إلى معنى آخر " (1) ، فمرحلة " معنى المعنى " هي المستوى الفني من الكتابة والاستعارة والتشبيه، وفي هذه المرحلة يكون التفاوت أيضاً في الصورة أو الصياغة، لأنه تفاوت في الدلالة المعنوية أيضاً، مثلما يحدث أيضاً تفاوت في الدلالة في المرحلة الأولى بين قولك: قام زيد، زيد قام، قائم زيد؟ الخ؟ ومن مرحلة المعنى يتكون " علم المعاني " ومن مرحلة " معنى المعنى " يجيء علم البيان، ولهذا نستطيع أن نقول إن عبد القاهر بعد أن انتهى من كتابه دلائل الإعجاز الذي تحدث فيه حول المعنى، حاول " أن يخصص كتاباً لدراسة " معنى المعنى " فكان من ذلك كتابه " أسرار البلاغة ". التحليل للنماذج من الزاوية الجمالية ميزة متفردة عند عبد القاهر وهذا الكتاب الثاني ربما كان أدق كتاب باللغة العربية في الحديث عن ضروب البيان، وفيه من التفسيرات الجمالية ما يدل على ذوق نقدي أصيل، وربما كان عيب الكتب التي اعتمدت عليه في البلاغة من بعد أنها جردته من تلك المسحة الجمالية، وجعلت قواعده أحكاماً صارمة، ليس فيها إحساس الناقد الأصيل، ولا قوة التعليل الذوقي أو الكري، فهنا يدرس الجرجاني التشبيه والتمثيل والاستعارة وهو يلمح دائماً أن " معنى المعنى " يقوم على مستويات متفاوتة في الدلالة والتأثير معاً، بنظرة عميقة شاملة تدل على عمق نفسي فكري في آن، وحسبنا أمثلة منه ذات صلة وثيقة بالمنهج النقدي.   (1) أسرار البلاغة: 102. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 وقفته عند التناوب بين المكنى والصريح وقيمة التمثيل في ذلك يقرر عبد القاهر - مثلاً - ان التمثيل إذا جاء في أعقاب المعاني كساها أبهة ورفع من أقدارها وشب من نارها وزادها قوة في التأثير النفسي (فإن كان مدحاً كان أبهى وأفخم؟ وإن كان ذماً كان مسه اوجع وميسه ألذع؟ وغن كان حجاجاً كان برهانه أنور وسلطانه أقهر؟ " ثم يتساءل عن السر في ذلك فيجد العلة فيه أن النفوس تأنس إذا هي خرجت من خفي إلى جلي ومكني إلى صريح لأنها حينئذ تنتهي إلى حال تكون بها أكثر وثوقاً، كأنما تنتقل من العقل إلى الإحساس، ومما يعلم بالفكر إلى ما هو معلوم بالطبع، وهذا التمثيل قد يكون إزالة للريبة بعد مقدمة غريبة كما في قول المتنبي: فإن تفق الأنام وأنت منهم ... فإن المسك بعض دم الغزال أو قد يكون مبيناً للمقدار وإيراد قياس من غيره يكشف عن حده، كما في قول الشاعر: فأصبحت من ليلى الغداة كقابض ... على الماء خانته فروج الأصابع ومعلوم أن قوة التمثيل في الأول تزيل الغرابة، وان قوته في الثاني تكشف عن مقدار الحال. قوة التمثيل من الزاوية العقلية وقد نذهب إلى الظن بان الجرجاني حين قرن التمثيل بقوة إيراد الشاهد الحي بعد وضع الحكم العقلي إنما يرى أن هذه هي السبيل الضرورية أمام الشاعر، ولكن هذا الظن ما يلبث أن يزول حين نعود فنجد الجرجاني هو ذلك الناقد " العقلاني " الذي يرفع دائماً من قيمة " الفكرة " ويرى الاهتداء إليها من أهم ضروب اللذة النفسية في تتبع صور الجمال؛ فالتمثيل الذي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 يحوج القارئ إلى طلب معناه بالفكرة ويحرك الهمة والخاطر لطلبه لا يقل إمتاعاً عن التمثيل الذي ينتقل بالقارئ من منطقة العقل إلى منطقة الحس: " ومن المركوز في الطبع ان الشيء إذا نيل بعد الطلب له أو الاشتياق إليه ومعاناة الحنين نحوه كان نيله أحلى وبالمزية أولى فكان موقعه من النفس أجل والطف " (1) هل هذه دعوة إلى التعقيد والتعمية وتعمد ما يكسب المعنى غموضاً؟ نعم إنها كذلك من وجه واحد، أعني إنها تعمية فنية وتعقيد فني، وليست تعقيداً ناشئاً عن اختلاف في النظم، فهي تكلف القارئ مشقة، غلا أنها مشقة الغائص الذي يبحث عن اللؤلؤة في جوف الصدفة، أما التعقيد المؤرق الذي لا يخرج الإنسان منه بجدوى فذلك هو الشيء المذموم (2) ، ويرى عبد القاهر أن البحتري هو فارس حلبة التعمية الجميلة لأنه يكد في سبيلها ويضع المعاني الدقيقة في صور مقربة: " وإنك لا تكاد تجد شاعراً يعطيك في المعاني الدقيقة من التسهيل والتقريب ورد البعيد الغريب إلى المألوف القريب ما يعطي البحتري ويبلغ في هذا الباب مبلغه فإنه ليروض لك المهر الارن رياضة الماهر حتى يعنق تحتك أعناق القارح المذلل، وينزع من شماس الصعب الجامح حتى يليين لك لين المنقاد الطيع " (3) ولذة النفس كبيرة إذا انقادت لها الفكرة الدقيقة، فالدقة في الشعر ليست بأي حال تعقيداً سيئاً: " وهل شيء أحلى من الفكرة إذا استمرت وصادفت نهجاً مستقيماً ومذهباً قويماً وطريقة تنقاد في الفكرة لها الغاية فيما ترتاد؟؟ قال الجاحظ في أثناء فصل يذكر فيه ما في الفكرة والنظر من الفضيلة: " وأين تقع لذة البهيمة بالعلوفة ولذة السبع بلطع الدم واكل اللحم من سرور الظفر بالأعداء ومن انفتاح باب العلم بعد إدمان قرعه، وبعد فإذا مدت الحلبات لجري الجياد ونصبت الأهداف لتعرف فضل الرماة في الإنفاذ والسداد فرهان العقول التي تستبق ونضالها   (1) أسرار البلاغة: 126. (2) المصدر نفسه 127 - 130. (3) أسرار البلاغة: 134. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 الذي يمتحن قواها في تعاطيه هو الفكر والروية والقياس والاستنباط " (1) ، وإيراد هذا الرأي للجاحظ رد ضمني على من أساءوا فهم نظرته في المعاني، حين خيل إليهم انه يعني بالمعاني " المستوى الفكري " في حقائق الحياة. الجرجاني " عقلاني " في نظريته إلى الجمال وتتغلب هذه النظرة " العقلانية " على الجرجاني الناقد، فهو من خلالها ينظر إلى الجمال ويزن مقدار التأثير في الفن الأدبي، فأعلى صور التشبيه عنده " أن تجمع أعناق المتنافرات والمتباينات في ربقة وتعقد بين الأجنبيات معاقد نسب وشبكة " (2) لأن ذلك يستدعي من المتفنن دقة الفكر ولطف النظر، والفنان الأصيل هو الذي يتجاوز ما يحضر العين إلى ما يستحضر العقل، ولا يعني بما تنال الرؤية بل يعني بما تعلق بالروية (3) ، وإذا تذكرنا أن لفظة الخيال غير مألوفة في النقد الفكري وحسب، بل ما يتصل بقوة على " الروية " لا ما يتصل بالعمل الفكري وحسب، بل ما يتصل بقوة الحدس وقوة التخيل أو الطاقة التي تجمع بين " غير المتشابهات " أو التي ترى بين شيئين، مشابهة خفية تدق على الروية المجردة وتنأى عنها، ولهذا كان حكمه على التشبيه " أن كل شبه رجع إلى وصف أو صورة أو هيئة من شانها ان ترى وتبصر أبداً، فالتشبيه المعقود عليه نازل مبتذل، وما كان بالضد من هذا وفي الغاية القصوى من مخالفته فالتشبيه المردود غليه غريب نادر بديع، ثم تتفاضل التشبيهات التي تجيء واسطة لهذين الطرفين بحسب حالها منهما، فما كان منها إلى الطرف الأول اقرب فهو أدنى وانزل، وما كان إلى الطرف الثاني أذهب فهو أعلى وافضل، وبوصف الغريب أجدر " (4) .   (1) أسرار البلاغة: 135 - 136. (2) نفسه: 136. (3) نفسه: 138. (4) أسرار البلاغة: 151. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 الاهتمام بغرابة التشبيه هنا تصبح " غرابة " التشبيه مقياساً فنياً لجماله ولو وقف الجرجاني عند هذا الحد لكان قول ابن المعتز في تشبيه البنفسج: كأنها فوق قامات ضعفن بها ... أوائل النار في أطراف كبريت وقوله في البرق: وكان البرق بصحف قار ... فانطباقاً مرة وانفتاحا صنوين لأنهما ينتحيان الغرابة. اقتران الصور بالحركة ولكن الجرجاني يدرك ان الغرابة نفسها تتفاوت في التصوير، فهذان التشبيهان لا يبلغان شأو قول ابن المعتز نفسه: كانا وضوء الصبح يستعجل الدجى ... نطير غراباً ذا قوادم جون والسر في ذلك هذا الذي تمثله لفظة " نطير " في الدلالة، ومن هذا التدرج يستمد الجرجاني حكماً جديداً في التشبيه وهو أن سحره يزداد إذا جاء " في الهيئات التي تقع عليها الحركات "، (1) فاقتران الصورة بالحركة أو بتحريك الساكن من الوسائل التي ترفع من تأثيرها في النفس؛ ولكن الجرجاني لا يجعل الحركة قاعدة فريدة، وإنما هو يلمح ما يناقضها في أحداث الغرابة وذلك بتسكين المتحرك كما في قول المتنبي في صفة الكلب: يقعي جلوس البدوي المصطلي ... أو قول آخر في مصلوب: " مواصل لتمطيه من الكسل ". وأرى أن   (1) أسرار البلاغة: 164 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 الجرجاني هنا لم يلمح أن التسكين أيضاً قائم على الحركة، فجلسة البدوي تصور السكون المتحفز - إن صح التعبير، وهيئة المصلوب الساكنة قد تحركت حركة منسجمة حين أصبحت في رأي البصيرة " تمطياً مستمراً "، كذلك فات الجرجاني أن يبين أن الصورتين: المتحركة من سكون أو الساكنة بعد تحرك هي أعمق أثراً في النفس، ومهما يكن من شيء فإن ما لحظه الجرجاني من قيمة الحركة في الصورة يجعل منه ناقداً حصيفاً دقيق الملاحظة قريباً إلى النقد الجمالي الحديث في نظراته. الغرابة ليست خاصة أزلية ومما يقوي هذا الحكم أن الجرجاني يؤمن بتجدد الصور وبان الغرابة ليست خاصة أزلية، وإنما هي لون يبوخ مع الزمن ويعتوره الابتذال، يرى الجرجاني ذلك، دون أن يزايله الإيمان بان الصورة هي أساس الشعر بل هي الشعر نفسه، مستشهداً على ذلك بحادثة حسان وابنه، فقد قال ابن حسان لأبيه " لسعني طائر " فقال حسان: صفه يا بني، فقال: " كأنه ملتف في بردي حبرة " فقال حسان: " قال ابني الشعر ورب الكعبة "، فجعل الصورة - أو التشبيه - مقياساً لقوة الطبع وعياراً في الفرق بين " الذهن " المستعد للشعر وغير المستعد له (1) . كيف يكون الناقد الجمالي عقلانياً؟ وليس من تناقض بين وصف الجرجاني بالعقلانية وانه ناقد جمالي، فهو يتخذ منهجاً عقلياً في إدراك " أسرار " القول البليغ، ولكن منهجه العقلي يختلف عن ناقد عقلاني آخر هو قدامة، ذلك أن قدامة اهتم بالشكل المنطقي في تركيب منهجه وتقسيماته، وليس الأمر دائماً كذلك عند الجرجاني، فان هذا اعتمد فكره في النفاذ إلى بواطن الأمور، فكانت " عقلانيته نوعاً   (1) أسرار البلاغة: 175. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 من الذكاء الخصب المقترن بإحساس فني دقيق بمواطن الجمال في فن القول، ولم يهتم كثيراً بالمبنى المنطقي الذي وضعه قدامة. ومن هذا الموقف استطاع الجرجاني أن يصحح كثيراً من الآراء النقدية التي سبقت عصره، بل لعله لم يقصد عامداً إلى إقامة نظرة نقدية جديدة وإنما كان موقفه من محاكمة الآراء السابقة هو الشيء الجديد في منهجه النقدي، وهو بذلك يختلف عن القاضي الجرجاني الذي جعل النظرات السابقة متكأً له، ويشابه المرزوقي الذي لجا في نقده إلى إعادة تفسير النظرات السابقة، مع فرق أصيل بين الرجلين، وهو ان المواقف النقدية لدى عبد القاهر إنما جاءت صدى لنظراته البلاغية، لا غاية في نفسها. علاقة الشعر بالصدق والكذب وعلى أساس ذلك المنهج العقلاني الجمالي تناول الجرجاني مشكلة من مشكلات النقد القديمة، استغرقت كثيراً من جهد النقاد من قبله ومن بعده، أعني بذلك علاقة الشعر بالصدق والكذب، فنفى ان يكون كل من الصدق والكذب عند الحديث عن الشعر متعلقين بالصدق أو الكذب في الخبر أو واردين بالمعنى الأخلاقي، فمن قال كما قال البحتري: " في الشعر يغني عن صدقه كذبه " أو قال " خير الشعر أكذبه " فإنه لا يعني منح الممدوح صفات ليست فيه، أو وصف الجواد بالبخل والطائش بالحلم والسداد؛ ومن قال خير الشعر أصدقه فإنما يعني انه يميل إلى ترك الإغراق والمبالغة فيه. الاحتكام إلى العقل أيضاً في المشكلة والقول الفصل عند الجرجاني في هذه المشكلة أن المعاني - وحقه أن يقول " الحقائق " (وهنا نراه زحزح كلمة " معنى " مرة جديدة عن مدلولها العام في نظرته) - تنقسم قسمين فهناك معان يشهد العقل بصحتها كقول المتنبي: لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى ... حتى يراق على جوانبه الدم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 ومعان يتوصل إليها الشاعر بطريقتين: بالاحتجاج أو التعليل القائمين على التخييل، وهذا النوع الثاني من المعاني هو الأكثر وروداً في الشعر، وفيه يخيل الشاعر للسامع انه يورد حكماً ينطبق على العقل، ولكنه لا يمثل معرفة يقينية، وفي هذا يشترك الشعر والخطابة " ولا يؤخذ الشاعر بان يصحح كون ما جعله أصلاً وعلة كما ادعاه فيما يبرم أو ينقض من قضية، وان يأتي على ما صيره قاعدة وأساساً بينة عقلية بل تسلم مقدمته التي اعتمدها بلا بينة " (1) ، ولهذا انقسم الناس ذوقياً في إيثار ما يؤثرون من الشعر، فبضعهم يريد من الشعر ما حفل بالمعاني التي يشهد بصحتها العقل، وبعضهم يريد منه ما عملت فيه الصنعة ونشرت عليه من شعاعها فأقيم على التخييل والتقريب والتمثيل، وهذا الفريق لا يبدي نفوراً من المبالغة والإغراق واختراع الصور، لأنه يرى أن الشعر لا يطلب فيه صدق الخبر أو يقين العقل. فإذا سئل الجرجاني: ماذا تعني بالتخييل قال: " ما يثبت فيه الشاعر أمراً هو غير ثابت أصلاً ويدعي دعوى لا طريق إلى تحصيلها ويقول قولاً يخدع فيه نفسه ويريها ما لا ترى " (2) ، وذلك ضرب من التزويق لا ينصره العقل، لان العقل يؤثر ما يمكن تلقيه باليقين. وقد جعلنا الجرجاني نعتقد أن " عقلانيته " تقدر هذا النوع العقلي الخالص تقديراً خاصاً حين قال " والعقل بعد على تفضيل القبيل الأول وتقديمه وتفخيم قدره وتعظيمه، وما كان العقل ناصره والتحقيق شاهده فهو العزيز جانبه " (3) ، ولكنه لم يطرح ما قام على التخييل لأنه أدل على القدرة الفنية؛ وإنما اختار من التخييل النوع الشبيه بالحقيقة، وهو الذي تبلغ فيه قوة التعليل درجة عالية، أي يسمح لقوة الاستدلال العقلي أن تستكشف درجة التمويه فيه، أي يمثل لذة عقلية في التدقيق والغوص والاستنتاج، وبذلك رد اللونين من الشعر: اللون القائم على   (1) أسرار البلاغة: 248. (2) نفسه: 253. (3) نفسه: 251. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 حكم العقل واللون التخييلي إلى نطاق العقلانية وما يستتبع ذلك لذة الكشف، ومن اجل هذا يشبه التخييل في الشعر من حيث قوة تأثيره بالرسوم الجميلة، " والتخييلات التي تهز الممدوحين وتحركهم تفعل فعلاً شبيهاً بما يقع في نفس الناظر إلى التصاوير التي يشكلها الحذاق بالتخطيط والنقش أو النحت والنقر " (1) . أثر الشعر وأثر الدين في النفوس وبعد أن يوحد الجرجاني بين الشعر والرسم في القدرة على التأثير، ينقل الشعر إلى حيز الدين والرموز الدينية، فيماثل بين أثره في النفوس وأثر الأصنام في عبادها: (فقد عرفت قضية الأصنام وما عليه أصحابها من الافتتان بها والإعظام لها، كذلك حكم الشعر فيما يصنعه من الصور ويشكله من البدع ويوقعه في النفوس من المعاني التي يتوهم بها الجماد الصامت في صورة الحي الناطق؟ " (2) ؛ وقد عرف عبد القاهر حين مثل الشعر بالرسم كيف ينقل رأي الجاحظ من ميدان التشابه في الخلق الفني إلى التشابه في التأثير، أما وصله بين الشعر والرموز الدينية عند الوثنيين فإنه خطوة جرئية؛ غير أن مفهومه للتخييل - رغم المقارنة بالرسم - يدل على انه لم يفهم منه سوى درجة من " الحيل " العقلية في التمويه. موقفه من السرقات الشعرية وآخر المشكلات النقدية التي تصدى لها عبد القاهر هي مشكلة الآخذ والسرقة (3) . وتوضيحاً لهذه المشكلة وجدناه يحدد مواطن الاتفاق فيحصرها في ثلاثة: (1) اتفاق الشاعرين في عموم الغرض، كأن يصف كل منهما ممدوحه   (1) أسرار البلاغة: 317. (2) المصدر نفسه. (3) أسرار البلاغة: 313 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 بالشجاعة والسخاء وحسن الوجه والبهاء وهذا لا يدخل في الأخذ والسرقة إطلاقاً. (2) اتفاق الشاعرين في تشبيهات معروفة كتشبيه الشجاع بالأسد والجواد بالبحر، وهذا قد مشترك بين الناس، قد استقر في العقول والعادات وليس فيه شيء من الخصوصية، وليس في هذا سرقة أو أخذ. (3) اتفاق الشاعرين في ما لا يدرك إلا بالروية والاستنباط والتامل، وفي هذا تجوز دعوى السرقة أو الأخذ. ولم يجيء عبد القاهر بجديد في هذا الباب، فهو يردد رأي المعتدلين من النقاد السابقين، ولكن عدم وقوفه طويلاً عند " السرقة " يدلنا على انه لم يكن يعد تلك الظاهرة أمراً أساسياً في النقد الأدبي. استنكاره للعبث في الأمور الدينية ولابد في ختام هذا الفصل من أن نقف وقفة قصيرة عند نظرة عبد القاهر إلى العلاقة بين الشعر والدين، لا من حيث اشتراكهما في التأثير بل من حيث تعمد الشاعر الاستهانة بالمعتقد الديني، ففي هذا المقام نجد عبد القاهر يمر بهذه المسالة مروراً سريعاً فيقول: " وأبعد ما يكون الشاعر من التوفيق إذا دعته شهوة الأغراب إلى أن يستعير للهزل والعبث من الجد (يعني الدين) " (1) ، ومع أن عبد القاهر قد خالف كثيراً من النقاد السابقين الذين رأوا أن لا يحكم على الشعر والشاعر من الزاوية الدينية، فإنه كان أصرح منهم موقفاً لأن أولئك النقاد وضعوا نظرية دفاعية خالفوها عند التطبيق، أما هو فإنه قد تحرج من إطلاق العنان لنفسه في خوض هذا الموضوع.   (1) أسرار البلاغة: 215، ويستشهد على ذلك بمثل قول المتنبي: يترشفن من فمي رشفات ... هن فيه أحلى من التوحيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 - 5 - النقد الأدبي في القيروان في القرن الخامس في زمن باديس الصنهاجي وابنه المعز بلغت القيروان ذروة النهضة في الحياتين العلمية والأدبية، ويكفي أن نذكر أمثال الرقيق المؤرخ وابن رشيق وابن شرف والحصري صاحب زهر الآداب، هذا إذا لم نعد كثيرين غيرهم. حتى نتصور طرفاً من تلك النهضة التي لم تلبث أن انهارت بانهيار القيروان نفسها على يد قبائل سليم وهلال حوالي منتصف القرن الخامس. لكن قبل النكبة التي حلت بها وجدت الحياة الأدبية والعلمية فيها تشجيعاً كبيراً من باديس وابنه، وأصبحت القيروان ملتقى المهاجرين والرحالة والكتب المهاجرة من المشرق والأندلس، ويكفي أن يرصد الدارس مصادر ابن رشيق في كتاب العمدة حتى يستكشف ان الثقافة المشرقية كانت سريعة الانتقال إلى افريقية، هذا مع أن كتاب العمدة لا يمثل إلا جانباً صغيراً من تلك الثقافة. انتقال الطرائق الشعرية والنقدية من المشرق وكانت هذه النهضة الثقافية ذات أثر في نمو حركة النقد الأدبي، كما أن التنافس الشديد بين الأدباء في حاضرة بني زيري قد زاد من نموها؛ وزاد الأمر حدة أن القوم كانت قد وصلتهم من خلال الثقافة المشرقية مذاهب شعرية متعددة، فهذا يحب طريقة ابن أبي ربيعة، وذاك يميل إلى طريقة في التشبيه تشبه طريقة ابن المعتز، وثالث ينحو منحى جاهلياً، ورابع يغرم بطلب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 الاستعارة، وتجمعهم المجالس فيتناقشون ويتماحكون، وينقسم الشهود كل على حسب هواه بين كل متحاورين منهم. وكانت الثقافة المشرقية قد نقلت إليهم طرقاً متفاوتة في النقد أيضاً. فعرفوا ابن قتيبة وقدامة وابن وكيع والجرجاني والرماني وكثيرين غيرهم. وهكذا كانت جميع العوامل مسعفة على ظهور حركة نقدية في القيروان؛ فكان من أعلامها أبو عبد الله القزاز الذي ألف كتاباً في ما أخذ على أبي الطيب، وابن ميخائيل محمد بن الحسين القرشي الذي كان شديد الانتقاد على مذهب قدامة (1) ، إلا أنا لا نعرف له مؤلفاً نقدياً؛ وعبد الكريم بن إبراهيم النهشلي صاحب كتاب " الممتع "، وابن رشيق مؤلف العمدة وقراضة الذهب والأنموذج في شعراء القيروان؛ وابن شرف الذي هاجر إلى الأندلس بعد خراب القيروان، وهنالك كتب " رسالة الانتقاد ". عبد الكريم النهشلي صاحب الممتع ويمكن أن يعد عبد الكريم النهشلي أستاذاً لابن رشيق ومن ابعد الشخصيات تأثيراً فيه، فكتاب العمدة ينطق بما يكنه له ابن رشيق من تقدير وإجلال؛ وكان إبراهيم كاتباً للمعز بن باديس، يذهب في شعره مذهب التروية والإطالة. ويبدو انه كان طيب القلب لا يفقه شيئاً كثيراً في أمور الدنيا حتى وصفه بعض الناس بالبله، ولما قيل له في ذلك أجاب: هل أنا ابله في صناعتي؟ قيل: لا، فقال: فما على الصائغ أن يكون نساجاً (2) .   (1) مسالك الأبصار 11: 337 - 340. (2) مسالك الأبصار 11: 292. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 440 تأثير عبد الكريم في ابن رشيق ويدل ما تبقى من كتابه " الممتع في علم الشعر وعمله " (1) على أن بعض أبواب العمدة إنما رسمت على مثاله مثل: السؤال بالشعر، في من نوه به المدح وحطه الهجاء، النهي عن التعرض للشعراء، الحديث عن أغراض الشعر من مدح وهجاء؟ الخ ومع أن عبد الكريم كان كاتباً فإنه يقف في صف من يؤثرون الشعر ويرونه " خير بيان العرب " إلا انه يتحدث بشيء من سذاجة عن أسبقية النثر للشعر وكيف أن العرب حين رأت النثر مما لا يستطاع حفظه - وهم ليسوا أهل كتابة - " تدبروا الأوزان والاعاريض فاخرجوا الكلام احسن مخرج بأساليب الغناء فجاءهم مستوياً ورأوا باقياً على مر الأيام فألفوا ذلك وسموه شعراً، والشعر عندهم اللفظة، ومعنى قولهم: ليت شعري أي ليث فطني ". قسمة الشعر على أساس الفضيلة يتحول به عبد الكريم وقد لمح عبد الكريم قسمة قدامة للشعر على أساس الفضيلة وضدها فقسم الشعر في " شعر هو خير كله وذلك ما كان في باب الزهد والمواعظ الحسنة والمثل العاد على من تمثل به بالخير وما اشبه، وشعر هو ظرف كله وذلك القول في الأوصاف والنعوت والتشبيه وما يفتن به من المعاني والآداب. وشعر هو شر كله وذلك الهجاء وما تسرع الشاعر به إلى أغراض الناس. وشعر يتكسب به وذلك ان يحمل إلى كل سوق ما ينفق فيها، ويخاطب كل إنسان من حيث هو ويأتي غليه من جهة فهمه ". وفي موضع آخر يقول في أقسام الشعر: " أصناف الشعر أربعة: المديح والهجاء والحكمة واللهو، ثم يتفرع من كل صنف من ذلك فنون فيكون في المديح: المراثي والافتخار والشكر، ثم يكون من الهجاء الذم والعتاب والاستبطاء، ومن الحكمة الأمثال والتزهيد والمواعظ، ويكون من اللهو الغزل والطرب وصفة الخمر   (1) منه اختبار الممتع بدار الكتب المصرية، رقم: 54 (أدب) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 والمخمور "؛ ويبدو أيضاً تأثر عبد الكريم بالآمدي في مواضع من كتابه إلى جانب تأثره بقدامة. أيهما المقدم؟ اللفظ أم المعنى؟ وكان عبد الكريم في طريقته الشعرية ممن يقدمون اللفظ على المعنى ولذلك يقول في الممتع: " الكلام الجزل أغنى عن المعاني اللطيفة من المعاني اللطيفة عن الكلام الجزل "، وروى قول بعض الحذاق: " المعنى مثال واللفظ حذو، والحذو يتبع المثال فيتغير بتغيره ويثبت بثباته " وفي هذين القولين دلالة على اضطراب الناقد حول هذه القضية. موقفه من السرقات وقد كرر في موقفه من السرق آراء النقاد السابقين فذهب إلى أن المتفق عليه هو أن السرق ما نقل معناه دون لفظه وكان مبعداً في الأخذ. المؤثرات المسعفة على الشعر وكان عبد الكريم يؤمن بان استجاشة الخاطر على نحو عملي أمر هام في استدعاء الشعر، وقد ذكر ابن رشيق عن من اخبره أنه رأى عبد الكريم في موضع يقال له الكدية قريب من المهدية وهو نزه طيب الهواء، فإذا عبد الكريم على سطح برج هنالك مشرف على ما حوله، فلما سئل عما يصنع قال: ألقح خاطري واجلو ناظري (1) . الفرق بين الغزل عند العرب والعجم وقد أثار هذا الناقد بعض الملامح الدقيقة معتمداً على ذكائه: فمن ذلك رأيه في أن عادة العرب في الغزل أن يكون الشاعر متماوتاً مفتوناً، وعادة العجم أن تكون المرأة طالبة راغبة، ولست ادري كيف غاب عن عبد   (1) العمدة 1: 138. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 442 الكريم غزل عمر بن أبي ربيعة وإضرابه، فإن ملمحه هذا على ما فيه من جدة غنما يعتمد أساساً اخلاقياً، وذلك ليتخذ من هذا دليلاً على " كرم النحيزة في العرب وغيرتها على الحرم " (1) . أثر البيئة في الشعر ولكن اعمق ملمح آثاره عبد الكريم هو أثر اختلاف البيئات عامة في الشعر والذوق: " وقد تختلف المقامات والأزمنة والبلاد، فيحسن في وقت ما لا يحسن في آخر، ويستحسن عند أهل بلد ما لا يستحسن عند أهل غيره، ونجد الشعراء الحذاق تقابل كل زمان بما استجيد فيه وكثر استعماله عند أهله بد أن لا تخرج من حسن الاستواء وحد الاعتدال وجودة الصنعة، وربما استعملت في بلد ألفاظ لا تستعمل كثيراً في غيره كاستعمال أهل البصرة بعض كلام أهل فارس في أشعارهم ونوادر حكاياتهم؟ والذي اختاره أنا التجويد والتحسين الذي يختاره علماء الناس بالشعر ويبقى غابره على الدهر " (2) . وأصل هذا الرأي موجود عند الجاحظ الذي تحدث عن اختلاف البيئة، كما تحدث في البيان والتبيين عن تباين اللهجات في الأمصار. ولكن عبد الكريم قد نقل هذا إلى مستوى جديد حين تحدث - في أفريقية - عن اختلاف إقليمي يترك أثره في الشعر، وبدلاً من أن يذهب إلى اعتناق هذا الاتجاه الإقليمي يترك أثره في الشعر، وبدلاً من ان يذهب إلى اعتناق هذا الاتجاه الإقليمي رأى ان الشعر الخالد " الذي يبقى غابره على الدهر " ليس هو الذي يتشبث بملاءمة البيئة الاقليمية، وإنما هو الذي ينبني على " التجويد والتحسين " ويستضيء بضوء الأحكام النقدية العامة. وسترى كيف أن ابن رشيق اعتنق مذهب أستاذه ودافع عنه، ولكن قبل أن نمضي عن هذا الرأي   (1) أورد ابن رشيق هذا في العمدة 2: 100 ولم يقطع بأن صاحب الرأي هو عبد الكريم غذ قال: قال بعضهم وأظنه عبد الكريم. (2) انظر العمدة 1: 58. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 علينا أن نسجل أن اعتماد المقاييس النقدية الكبرى التي وضعها المشارقة قد كان عاملاً - إلى جانب عوامل أخرى كثيرة - في محاربة الإخلاد إلى النزعات الإقليمية الضيقة. مؤلفات ابن رشيق في النقد ويمكن أن نعد عمل ابن رشيق في كتبه الثلاثة متكاملاً فقد حاول في دراسته لشعراء القيروان في كتاب " الأنموذج " ان يطبق بعض القواعد النقدية التي حشدها في كتاب " العمدة "، وعرض في أحد الفصول الأخيرة من " العمدة " لقضية السرقة في الشعر مورداً فيها آراء العلماء وبعض أمثلتهم، حتى إذا تعرض هو نفسه لتهمة السرقة عمل رسالة " قراضة الذهب " ليدل على اطلاعه ومقدرته في هذه الناحية، بما يضعه في مصاف من تعرضوا لهذا الموضوع من النقاد. كتاب العمدة ولكن كتاب العمدة أهلها وأبعدها أثراً، فهو كتاب جامع من حيث انه معرض للآراء النقدية التي ظهرت في المشرق حتى عصر ابن رشيق، ألفه لأبي الحسن علي بن أبي الرجال الذي كان يعد هو وأهل بيته برامكة أفريقية (1) ، وقد ذكر في مقدمة الكتاب انه رأى الناس قد بوبوا الكلام في الشعر أبواباً مبهمة وضرب كل واحد في جهة، فجمع احسن ما قاله كل واحد منهم في كتابه: قال: " وعولت في أثره على قريحة نفسي ونتيجة خاطري، خوف التكرار ورجاء الاختصار، إلا ما تعلق بالخبر وضبطته الرواية فإنه لا سبيل إلى تغيير شيء من لفظه ولا معناه؟ فكل ما لم أسنده إلى رجل معروف باسمه ولا أخلت فيه على كتاب بعينه فهو من ذلك؟ " (2) ؛ ويجب أن نفهم أن تعويله على نتيجة خاطره وقريحة نفسه لا يعني الابتكار، وغنما   (1) أعتاب الكتاب: 214. (2) العمدة 1: 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 444 يعني التصرف في النقل فيما يجوز فيه التصرف، فإذا لم يكن المنقول كذلك من خير أو رواية فعندئذ يورده بنصه، وقد كانت هذه الطريقة أحياناً موهمة لأنها جعلت بعض الدارسين يظن أن الآراء التي لا تسند إلى مصدر فهي من ابتكار ابن رشيق؛ وذلك خطأ لا يتبين إلا بعرض كتابه على ما سبق من كتب وآراء، وقد دلت هذه المعارضة على أن حظ ابن رشيق من الأصالة النقدية ضئيل. صهر ابن رشيق لآراء الآخرين يخفي أخذه لها ودارس العمدة معذور إذا هو لم يستطع رد كل رأي إلى صاحبه لأن ابن رشيق ساق الكلام متصلاً أحياناً، بحيث يخفى على القارئ أن خيوط النسج مأخوذة من مواضع مختلفة؛ ولأضرب هنا مثلاً واحداً، قد تجيء له أمثلة في سياق هذا البحث، يقول ابن رشيق: " وأهل صناعة الشعر أبصر به من العلماء بآلته من نحو وغريب ومثل وخبر وما أشبه ذلك؟ وقد يميز الشعر من لا يقوله، كالبزاز يميز من الثياب ما لم ينسجه؟ " (1) هذه العبارة توحي ان الأحكام فيها لابن رشيق؛ ولكنك تقرا في مواضع متباعدة بعض الشيء من مقدمة المرزوقي على شرح الحماسة قوله: (1) ولو أن نقد الشعر كان يدرك بقوله لكان من يقول الشعر من العلماء أشعر الناس. (2) ويكشف هذا أنه قد يميز الشعر من لا يقوله. (3) والفرق بين ما يشتهي وما يستجاد ظاهر بدلالة ان العارف بالبز يشتهي لبس ما ليس يستجيده (2) . فانظر كيف صهر ابن رشيق هذه الأقوال، فنقض الأول منها،   (1) العمدة 1: 75. (2) شرح الحماسة 1: 14، 13. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 واقتبس الثاني على حاله، وتصرف باستخراج حكم جديد مستمد من القولة الثالثة، وجمعها معاً في نطاق واحد. ولكن ابن رشيق رغم ذلك ناقد قدير، لم تضع شخصيته بين آراء عبد الكريم والجمحي والمبرد والجاحظ وابن وكيع والرماني ودعبل والجرجاني والمرزوقي وابن قتيبة وقدامة والحمار السرقسطي وكثير غيرهم - سواء صرح بأسمائهم أو لم يصرح - ولعل ابن رشيق أبرز مثل على الناقد الذي يملك الإعجاب عن طريق شخصيته لا عن طريق الجدة في الرأي، ولو قارنا بينه وبين العسكري صاحب الصناعتين وهما متشابهان في بناء مؤلفيهما من كتب الآخرين وآرائهم لوجدنا العسكري مصنفاً وحسب، باهت الشخصية لا سبيل إلى عده ناقداً، بينا يقف ابن رشيق بحيويته وقفة بارزة بين نقاد القرن الخامس، هذا على الرغم من أن كتاب الصناعتين أدق تبويباً من كتاب العمدة، غير أن العمدة يمتاز بين كتب النقد الأدبي بأنه احتوى ما يريده المتأدب من حديث عن الشعر ومن حديث في الشعر نفسه، فكل فصل فيه مستغن بنفسه حسن الإيراد والاقتصاص للخبر والرأي معاً، ولهذا فيما اعتقد نال الكتاب حظوة واسعة بعد القرن الخامس، وأصبح مثالاً يحتذيه من يكتبون في علم الشعر، ومنهلاً لطلاب النقد الأدبي يدرسه الدراسون ويلخصه الملخصون، حتى نال ثناء عريضاً من ابن خلدون؛ لان المثقف الذي كان يحرص على شيء من المعرفة النقدية لم يعد إذا قراه بحاجة إلى ان يقرأ قدامة والآمدي والحاتمي والجرجاني، إذ استخرج ابن رشيق خير ما عندهم وأودعه كتابه، وهؤلاء هم أئمة النقد، فما ظنك إذا وجد فيه القارئ خلاصة لخير ما عند غيرهم أيضاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 الانتصار للشعر على النثر ويطالعنا ابن رشيق بأنه من أنصار الشعر، ولذلك نجده بيداً المفاضلة بين الشعر والنثر، كأن الخوض فيها يعد أمراً لازباً، وما هي إلا مسألة نقدية تجريدية، وفي أثناء تبيانه لفضل الشعر يقول: وكان الكلام كله منثوراً فاحتاجت العرب إلى الغناء بمكارم أخلاقها وطيب أعراقها؟ فتوهموا اعاريض جعلوها موازين الكلام فلما تم لهم وزنه سموه شعراً لأنهم شعروا به أي فطنوا " (1) ، (وإنما أوردت هذه العبارة لاشير إلى أن ورودها في تضاعيف الكلام يوهم إنها لابن رشيق، وإنما هي عبارة عبد الكريم التي قدمنا ذكرها قبل قليل، وأمثلة هذا كثيرة في الكتاب) . ثم هو يرد على المحتجين للنثر بان القرآن لم يجيء منظوماً، وكأنه يضع نصب عينه حديث المرزوقي، ورده عليه غاية في الدقة: إذ يرى أن مجيء القرآن منثوراً أظهر في الأعجاز لقوم شعراء، وهو ليس بشعر، كما أنه اعجز الخطباء وليس بخطبة والمترسلين وليس بترسيل، غير ان العرب حين حاروا في أمره سموه شعراً لما في قلوبهم من هيبة الشعر وفخامته، فإذا عرض لحجة المرزوقي بان الشعراء وضعوا من الشعر بمدح السوقة، ذكر أن للسوقة كتاباً " وللتجار الباعة في زمننا هذا وقبله ". الكذب في الشعر وأضاف إلى هذا حججاً من عنده في فضل الشعر حين حور معنى الكذب فيه وقال: اجتمع الناس على قبح الكذب ولكنهم وجدوا الكذب في الشعر حسناً، وهذه مغالطة لا تخفى ولكن الموقف الجدلي اضطر ابن رشيق إليها. وتعرض لقول المرزوقي: " الشعر أسنى مروءة الدني وأدنى مروءة السري " فذهب إلى أن بعض الناس غاب عنه معنى هذه الملة، وغنما الشعر لجلالته يرفع من قدر الخامل إذا مدح به، مثلما يضع من قدر   (1) العمدة 1: 5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 الشريف إذا اتخذه مكسياً؟، " وقد حكي أن امرأ القيس نفاه أبوه لما قال الشعر، وغفل أكثر الناس عن السبب، وذلك انه كان خليعاً متهتكأ شبب بنساء أبيه؟ فهذه العلة قد جاوزت كثيراً عن الناس ومرت عليهم صفحاً " (1) وبهذه الحيوية في المناقشة والدفاع عن الشعر اثبت ابن رشيق قدرته الفذة، وفند كل ما جاء به المرزوقي على مراحل، مع إيراد للأمثلة الموضحة هذا دون أن يذكر اسم المرزوقي مرة واحدة. مقارنة مكرورة بين القدماء والمحدثين ولم يأت ابن رشيق بشيء جديد في قضية المقارنة بين القدماء والمحدثين بل أورد أمثلة لمن كانوا يتعصبون للقديم كابي عمرو بن العلاء وابن الأعرابي ومن آمنوا بالتسوية والحكم للجودة كابن قتيبة، واقتبي رأي ابن وكيع في التفرقة بين القدامى والمحدثين وتشبيه الشاعر المحدث بالمغني ذي الصوت الجميل (وهذا التمثيل الذي مثله ابن وكيع من احسن ما وقع) ؛ ثم عرض لرأي عبد الكريم المتقدم في تفاوت الأزمنة والبيئات، واعتز بإيراد هذا الفصل المحكم ثم علق عليه قائلاً " فليس من أتى بلفظ محصور يعرفه طائفة من الناس دون طائفة، لا يخرج من بلده ولا يتصرف من مكانه، كالذي لفظه سائر في كل الأرض، معروف بكل مكان " (2) ، وبذلك أيد أستاذه في رفض الإقليمية الضيقة، ورأى الصواب في السيرورة والشيوع. حد الشعر والشاعر وكذلك هو حاله في حديثه عن حد الشعر (اللفظ والوزن والمعنى والقافية) فإنه شغل بالاقتباس عن الرماني وعبد الكريم والجرجاني وغيرهم، وليس له في هذا المجال إلا طرافة في القول، مثل قوله: " والبيت من الشعر كالبيت من الأبنية،   (1) العمدة 1: 20 - 21. (2) العمدة 1: 59. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 448 قراره الطبع. وسمكه الرواية، ودعائمه العلم، وبابه الدربة، وساكنه المعنى، ولا خير في بيت غير مسكون " (1) . وهذه الصورة تحوير تصويري لرأي الجرجاني، ومن صنفها قوله في الشاعر: " وغنما سمي الشاعر شاعراً لأنه يشعر بما لا يشعر به غيره فإذا لم يكن عند الشاعر توليد معنى ولا اختراعه، أو استظراف لفظ وابتداعه، أو زيادة فيما أجحف فيه غيره من المعاني، أو نقص مما أطاله سواه من الألفاظ. أو صرف معنى إلى وجه عن وجه آخر كان اسم الشاعر عليه مجازاً لا حقيقة، ولم يكن له إلا فضل الوزن وليس بفضل عندي مع التقصير " (2) ؛ وليس في القول من جدة فكرية، ولكنه جامع للآراء السابقة في عبارة موجزة، ولست على يقين من ان هذه العبارة نفسها لابن رشيق. ثنائية اللفظ والمعنى فإذا تناول ثنائية اللفظ والمعنى أورد بارة ابن طباطبا " اللفظ جسم وروحه المعنى " وبسطها على طريقة الحاتمي - دون أن يذكر الحاتمي في هذا الموضع غير انه سيعيد قولته في موضع آخر مقترنة بذكر اسمه (3) - ثم زاد على الحاتمي شيئاً جديداً تفصيلياً في تحليل الفكرة: فمرض اللفظ كالتشويه في الجسم أما اختلال المعنى كله (وهو الروح) فإنه يبقي اللفظ مواتاً لا فائدة فيه، ثم يمثل على الاحتفال باللفظ وحده بقعاقع ابن هانئ الأندلسي ويعلق عليها بقوله: " وليس تحت هذا كله إلا الفساد وخلاف المراد " (4) ، ومع هذا فإن موقفه غير واضح، وإن كان قد يستشف من تفضيله لابن الرومي وإيثاره له باسم (الشاعر " انه أتميل إلى جانب المعنى؛ وقد توصل في هذا المبحث من كتابه إلى القول بوجود ألفاظ شعرية لا ينبغي للشاعر أن يعدوها   (1) العمدة 1: 78. (2) العمدة 1: 74. (3) العمدة 2: 94. (4) العمدة 1: 81. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 وأجاز للشاعر التظرف ببعض الألفاظ الأعجمية. ولكنه فصل بين الشعر من ناحية، والفلسفة وجر الأخبار من ناحية أخرى. فلم يسمح لهما بدخول الشعر إلا بقدر يسير: " وإنما الشعر ما اطرب وهز النفوس وحرك الطباع. فهذا هو باب الشعر الذي وضع له وبني عليه لا ما سواه " (1) . المطبوع والمصنوع وعندما تحدث عن ثنائية المطبوع والمصنوع لم يعرفهما وإنما قدر انهما قد أصبحا معروفين لكثرة ما دار حولهما من حديث نقدي، ثم اكتفى بالحديث عن بعض المطبوعين والصناع وختم الباب بشعر مطبوع لابن أبي الرجال يشبه شعر الأعراب، وفي أثناء ذلك يستوقفنا رأيه في ابن المعتز: " وما اعلم شاعراً أكمل ولا اعجب تصنعاً من عبد الله بن المعتز فإن صنعته خفية لطيفة لا تكاد تظهر في بعض المواضع غلا للبصير بدقائق الشعر، وهو عندي الطف أصحابه شعراً وأكثرهم بديعاً وافتناناً، وأقربهم قوافي وأوزاناً، ولا أرى وراءه غاية لطالبها في هذا الباب، غير أنا لا نجد المبتدئ في طلب التصنيع ومزاولة الكلام أكثر انتفاعاً منه بمطالعة شعر حبيب وشعر مسلم ابن الوليد لما فيهما من الفضيلة لمبتغيها، ولأنهما طرقا إلى الصنعة ومعرفتها طريقاً سابلة، واكثرا منها في أشعارهما تكثيراً سهلها عند الناس وجسرهم عليها " (2) . الاستعداد النفسي ضروري لقول الشعر وعاد إلى الموضوع القديم الذي أثاره بشر بن المعتمر في صحيفته ووضحه ابن قتيبة وهو الاستعداد النفسي لقول الشعر، والأمور المسعفة على إنعاش القريحة، وبعد ان عرض لنا طرق الشعراء في استجلاب الشعر، طالعنا برأي لعله هو رأيه الخاص إذ قال: " ومما يجمع الفكرة من طريق الفلسفة استلقاء الرجل على ظهره؛ وعلى كل حال فليس يفتح مقفل بحار   (1) العمدة 1: 83. (2) العمدة 1: 85. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 450 الخواطر مثل مباكرة العمل بالأسحار عند الهبوب من النوم، لكون النفس مجتمعة لم يتفرق حسها في أسباب اللهو أو المعيشة أو غير ذلك مما يعييها؟ " (1) وهو إنما يردد في الشق الثاني من هذا الرأي نصيحة أبي تمام للبحتري، ويحاول تعليل ذلك. وينقسم ما تبقى من كتابه في ثلاثة أقسام أكبرها فصول في أنواع البديع ثم في أغراض الشعر، ثم تجيء فصول نافعة في ثقافة الشاعر مثل الحديث عن الأنساب والوقائع والأيام وملوك العرب ومنازل القمر مع بعض فصول في الشعر نفسه كالمعاني المحدثة والسرقات وغير ذلك؛ وليس لبعض فصول القسم الثالث علاقة بالنقد. أما القسمان الأولان فقد كان دوران الحديث عنهما في كتب النقد السابقة قد سهل من مهمة ابن رشيق ولذلك فغن حديثه عن أنواع البديع لا يعدو الترتيب والتمثيل وإيراد ما اختلف فيه النقاد في المصطلح، وهو يتكئ هنا على الحاتمي (في العاطل وفي حليه المحاضرة) وعلى الرماني وقدامة. وفي موضوعات الشعر نجده لجا إلى نظرية قدامة في قيام المدح على الفضائل ثم على ما يتفرع عن ذلك عن تلك النظرية. مميزات ابن رشيق ولكن ابن رشيق يظل - رغم ذلك - متميزاً يستثير القارئ ويجذبه إليه، دون ملل، وسر هذا التمييز كامن في: (1) طرافة التجربة: فهو يقترب من قلب القارئ بان يقص عليه تجاربه في الصنعة الشعرية، فمن ذلك قوله في كيفية عمل القصيدة: " والصواب أن لا يضع الشاعر بيتاً لا يعرف قافيته، غير أني لا أجد ذلك في طبعي جملة ولا اقدر عليه، بل أصنع القسيم الأول على ما أريده ثم التمس في نفسي ما يليق به من القوافي بعد ذلك فابني عليه   (1) العمدة 1: 139. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 451 القسيم الثاني، أفعل ذلك فيه كما يفعل من يبني البيت كله على القافية، ولم أر ذلك بمخل علي ولا يزيحني عن مرادي، ولا يغير علي شيئاً من لفظ القسيم الأول إلا في الندرة التي لا يعتد بها أو على جهة التنقيح المفرط " (1) . (2) الجرأة: وهذه تتمثل في مخالفته للآراء المألوفة المروية عن كبار النقاد. كما تتمثل في أحكام له لا يخاف من الجهر بها. فمن النوع الأول: " ومن الناس من يستحسن الشعر مبنياً بعضه على بعض وأنا استحسن أن يكون كل بيت قائماً بنفسه لا يحتاج إلى ما قبله ولا إلى ما بعده. وما سوى ذلك فهو عندي تقصير إلا في مواضع معروفة مثل الحكايات وما شاكلها فإن بناء اللفظ على اللفظ أجود هنالك من جهة السرد " (2) ؛ ومع أن هذا الرأي قد يفضي في النهاية إلى ضياع الوحدة الظاهرية في القصيدة فإن الذي يريده ابن رشيق هو استقلال كل بيت مع وجود الوحدة العامة، أي الاستقلال الظاهري والوحدة الداخلية، - وغن لم يستعمل هذا المصطلح -. ومن النوع الثاني تفضيله الصورة الحضرية لتشبيه البنان بقضبان من الدر على تشبيه البنان بالأساريع: " وكأني أرى بعض من لا يحسن إلا الاعتراض بلا حجة قد نعى علي هذا المذهب وقال: رد على امرئ القيس، ولم أفعل، ولكني بينت أن طريق العرب القدماء في كثير من الشعر قد خولفت إلى ما هو أليق بالوقت وأشكل بأهله " (3) . ولهذا نجده ينصح المعاصرين بان يختاروا للوصف الموضوعات الحضرية الموجودة في بيئتهم كصفات الخمر والقيان وما شاكلها ثم صفات البرك والقصور وصفات الجيوش وما اتصل بها؟ الخ (4) .   (1) العمدة 1: 140. (2) العمدة 1: 175. (3) العمدة 1: 205. (4) العمدة 2: 227. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 452 (3) طرافة الرأي: كحديثه عن الصلة بين الفقر والشعر: " والفقر آفة الشعر. وإنما ذلك لان الشاعر إذا صنع القصيدة وهو في غنى وسعة نقحها وانعم النظر فيها على مهل، فإذا كان مع ذلك طمع غنى قوي انبعاثها من ينبوعها وجاءت الرغبة بها في نهايتها محكمة. وإذا كان فقيراً مضطراً رضي بعفو كلامه وأخذ ما أمكنه من نتيجة خاطره ولم يتسع في بلوغ مراده ولا بلوغ مجهوده نيته؟. ومنهم من تحمي الحاجة خاطره وتبعث قريحته فيجود فإذا أوسع انف وصعب عليه عمل الأبيات اليسيرة فضلاً عن الكثيرة. وللعادة في هذه الأشياء فعل عظيم، وهي طبيعة خامسة كما قيل فيها " (1) . (4) تأثره بالإقليمية رغم ثورته عليها: قد رأينا في تكرهه لصورة أوردها أمرؤ القيس كيف أن ذوقه كان حضرياً. ولذا كان يحاول أن يخضع النقد لما تتطلبه الحاضرة التي يعيش فيها. فبعد أن بين اثر الحاضرة والبادية في النسيب واختلاف كل منهما عن الأخرى. استنكر أن يذكر ابن الحاضرة ركوب الناقة إلى الممدوح " وليس في زماننا هذا ولا من شرط بلدنا خاصة شيء من هذا كله؟ لا سيما إذا كان المادح من سكان بلد الممدوح يراه في أكثر أوقاته، فما أقبح ذكر الناقة والفلاة حينئذ " (2) . غير أنه من ناحية أخرى ثائر على بعض المقاييس النقدية السائدة في بلده: " ورأيت من علماء بلدنا من لا يحكم للشاعر بالتقدم ولا يقضي له بالعلم إلا أن يكون في شعره التقديم والتأخير. وأنا استثقل ذلك من جهة ما قدمت " (3) كذلك هو ثائر على كثرة الأدعياء في الميدان الأدبي: (وكم في بلدنا هذا من الخفاث قد صاروا ثعابين. ومن هذا البغاث قد صاروا شواهين: أن البغاث بأرضنا يستنسر، ولولا أن يعرفوا بعد اليوم بتخليد ذكرهم في هذا   (1) العمدة 1: 143. (2) العمدة 1: 153. (3) العمدة 1: 174. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 453 الكتاب ويدخلوا في جملة من يعد خطله ويحصى زلله لذكرت من لحن كل واحد منهم وتصحيفه وفساد معانيه وركاكة لفظه ما يدلك على مرتبته من هذه الصناعة التي أدعوها باطلاً وانتسبوا إليها انتحالاً " (1) . ثورته على بعض أنواع البدع المستخدمة في الشعر وعلى الرغم من تحضر الذوق عنده فإنه لم يستطع ان يستسيغ ألواناً جديدة من الشعر مثل المسمطات والمخمسات: " وقد رأيت جماعة يركبون المخمسات والمسمطات ويكثرون منها، ولم أر متقدماً حاذقاً صنع شيئاً منها لأنها دالة على عجز الشاعر وقلة قوافيه وضيق عطنه " (2) ، وقياساً على ذلك لو أن الموشح بلغ القيروان في زمانه لأنكره ولعده كما عد هذه الألوان ألهية عروضية يتلهى بها أهل الفراغ وأصحاب الرخص. (5) اتساع نطاق الفهم النفسي لوظيفة الشعر: فهو لا يكتفي بذكر ما ذكره السباقون من أثر نفسي لمقدمة القصيدة وغنما يشير إلى أن هذا الأثر لابد من أن يبلغ بالنفس منزلة الارتياح والسكنة بإيراد الخاتمة الصالحة: " ومن العرب من يختم القصيدة فيقطعها والنفس بها متعلقة وفيها راغبة مشتهية. ويبقي الكلام مبتوراً كأنه لم يتعمد جعله خاتمة " ثم يعرج على الخواتم المفتعلة من مثل الدعاء " لأنه من عمل أهل الضعف إلا للملوك " (3) ، كذلك فغن تمييزه التريض على التصريح في الهجاء يشير إلى فهم نفسي دقيق: " وأنا أرى به والبحث عن معرفته وطلب حقيقته، فإذا كان الهجاء تصريحاً أحاطت به النفس علماً وقبلته يقيناً في أول وهلة فكان كل يوم في نقصان   (1) العمدة 1: 186. (2) العمدة 1: 120 - 121. (3) العمدة 1: 160. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 454 لنسيان أو ملل يعرض " (1) ؛ كذلك فأنه في الحديث عن التطويل في الشعر يؤثره على المقطعات لان " المطيل من الشعراء أهيب في النفوس من الموجز " (2) . (6) إيمانه بقيمة التجربة الحسية: وهذا جعله يرى أن التشبيه اصعب شيء في الشعر؛ " واشد ما تكلفه الشاعر صعوبة التشبيه لما يحتاج إليه من شاهد العقل واقتضاء العيان " (3) ، ويقول في موضع آخر: " وإنما خصصت التشبيه لأنه أصعب أنواع الشعر وأبعدها متعاطى؟ وصفة الإنسان ما رأى يكون لاشك أصوب من صفته ما لم ير، وتشبيهه ما عاين بما عاين افضل من تشبيهه ما ابصر بما لم يبصر " (4) . إيمانه بسياسة القول تلك مميزات إذا أضيفت إلى طريقته السهلة اليسيرة المشوقة في عرض الآراء والموضوعات تفسر سر القبول الذي حظي به كتاب العمدة. ورغم أن بعض تلك المميزات قد تجعل من ابن رشيق ناقداً متفرداً فإنه لم يستطع إلا أن ينزل على حكم العصر. وان يؤمن بمبدأ " سياسة القول " فبينا يريد للشاعر عدم الازدواج - أي يطالبه بان يحوز كل مكرمة ويتخلق بما يطالب به الناس ويكون جاداً " إذا الجد هو الغاية " تجده يفرق غير مرضية منه بين شعر الذات وشعر المناسبات: فهو يرى أن شعر الذات قد يقبل فيه عفو الكلام، أما شعر المناسبات فلابد أن يكون منقحاً محككاً لأنه يواجه به أصحاب المناصب، وعليه أن يميز كل ذي منصب بما يلائمه من القول. وما ذلك إلا لأن ابن رشيق يتحدث هنا عن واقع الشاعر الذي لا تغتفر له الابتداءات التي يتطير منها وما أشبه مما يوجبه التأدب للملوك وحسن   (1) العمدة 2: 140. (2) العمدة 1: 125. (3) العمدة 1: 194. (4) العمدة 2: 183. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 455 السياسة (1) ؛ وما يلام ابن رشيق على ذلك. فقد كان هذا أمراً متصلاً بحياة الناس وقواعد معاملاتهم. ولكن ناقداً مثله. ما كان يجدر به أن يتسامح في شعر الذات. فان النوعين أمام الناقد شيء واحد. رسالة قراضة الذهب والقول في السرقات ولابد في ختام حديثنا عن كتاب " العمدة " من وقفة عند باب السرقات فضي بنا إلى دراسة رسالة " قراضة الذهب ": ففي هذا الباب اعتد ابن رشيق على حيلة المحاضرة للحاتمي في تبيان أنواع السرقة، وشرحها كما شرحها الحاتمي وجاء بأمثلته وان انتقد مصطلحاته بأنها " ليس لها محصول إذا حققت " (2) ؛ وأورد رأيي الجرجاني وعبد الكريم في السرقات، وانتقد ابن وكيع بشدة " فقد قدم في صدر كتابه على أبي الطيب مقدمة لا يصح لأحد معها شعر إلا الصدر الأول " (3) . وليس لابن رشيق في الباب كله رأي ذاتي أو تمثيل جديد. والظن قوي بان لابن رشيق لم يعر مبحث السرقات اهتماماً، لإيمانه بأن السرقة قد أصبحت قاعدة عامة في الحياة الشعرية لعصره، فلما اتهم بأنه في قوله. إذا ضربت فيه الطبول تتابعا ... به عذب يحكي ارتعاد الأصابع تجاوب نوح بات بندب شجوه ... وأيدي ثكالى فوجئت بالفواجع سرق المعنى من قول عبد الكريم بن إبراهيم النهشلي: قد صاغ فيه الغمام ادمعه ... دراً ورواه جدول غمر تجيش فيه كأنما رعشت ... إليك منه أنامل عشر كتب رسالته " قراضة الذهب " إلى أبي الحسن علي بن القاسم اللواتي، ليحدد   (1) انظر العمدة 1: 133. (2) العمدة 2: 215. (3) العمدة 2: 216. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456 المقصود بالسرقة في الشعر، وليبين أن اشتراكه مع عبد الكريم في ذكر ارتعاد الأصابع او ارتعاشها لا يعد سرقاً؛ ولهذا ذهب يستشهد بتكرر هذه الصورة في الشعر منذ امرئ القيس " كلمع اليدين في حبي مكلل " حتى عصره هو: " ولما كثر هذه الكثرة وتصرف الناس فيه هذا التصرف لم يسم آخذه سارقاً، لأن المعنى يكون قليلاً فينحصر ويدعى صاحبه سارقاً مبتدعاً، فإذا شاع وتداولته الألسن بعضها من بعض، تساوي فيه الشعراء إلا المجيد، فإن له فضله، أو المقصر، فإن عليه درك تقصيره، إلا أن يزيد فيه شاعر زيادة بارعة مستحسنة يستوجبه بها ويستحقه على مبتدعه ومخترعه " (1) . إعلاء شأن امرئ القيس لابتكاره المعاني هذا هو القسم الأول من الرسالة، فأما في القسم الثاني منا فإن ابن رشيق ابتع طريقة جديدة أفادت استخراج المعاني المبتكرة عن امرئ القيس " لأنه المقدم لا محالة؟. فالمميز الحاذق بطرق البلاغة يجد لكلامه من الفضيلة في نفسه ما لا يجد لغيره من كلام الشعراء " (2) - وكيف أخذ الشعراء من بعده يتداولونها، فكان هذا القسم دراسة لشعر امرئ القيس وإظهار فضله في الابتكار إلى جانب الكشف عن تداول المعاني، وبذلك أظهر تفوقه في الاستعارة والتشبيه والمبالغة والتتميم والاحتراس وانه الذي اهتدى إلى هذه الأمور أولا وفتق للشعراء هذه الفنون وكان هذا تطبيقاً لما قاله فيه في العمدة: " وله اختراعات كثيرة يضيق عنها الموضع، وهو أول الناس اختراعاً في الشعر وأكثرهم توليداً " (3) .   (1) قراضة الذهب: 14. (2) نفسه: 15. (3) العمدة 1: 175. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 457 المعاني المخترعة عند شعراء آخرين فإذا انتهى من الحديث عن امرئ القيس انتقل إلى ضروب من المعاني المخترعة عند غيره من الشعراء، والمعاني التي أخذت حقها من اللفظ فلم يبق فيها فضلة تلتمس (1) ؛ والتحيل على السرقة بالزيادة أو الإيجاز أو العكس أو النقل من موضوع إلى موضوع؛ ثم وجد ان الشاعرين يتفقان أحياناً في قسم من قسمي البيت وأحياناً في البيت كله وهذا أقل؛ ثم بين رأيه في هذه الناحية بقوله: " والذي اعتقده وأقول به أنه لم يخف على حاذق بالصنعة أن الصانع إذا صنع شعراً ما وقافية ما، وكان لمن قبله من الشعراء شعر في ذلك الوزن وذلك الروي وأراد المتأخر معنى به فأخذ في نظمه، أن الوزن يحضره والقافية تضطره وسياق الألفاظ يحدوه حتى يورده نفس كلام الأول ومعناه حتى كأنه سمعه وقصد سرقته وإن لم يكن سمعه قط " (2) فابن رشيق هنا يحيل على الحفظ، فالشاعر الذي يحفظ قصائد كثيرة، ثم يحاول أن يضع قصيدة على وزن ما وروي ما، فلابد ان تضطره طبيعة التركيب والإيقاع من أن يكرر ما عند غيره تكريراً لفظياً أحياناً؛ وهذا نوع مختلف عما يسمى توارد الخواطر، يشبه ان يكون شيئاً محتوماً في طبيعة الوزن والقافية في اللغة العربية. شاهد على التوارد في تجربته الذاتية ويحدثنا ابن رشيق في هذه الرسالة عن بعض تجاربه الخاصة، إذ يرى إن بعض ما يقع اتفاقاً لا يعد سرقة، فهو قد نظم قصيدة في رثاء السيدة الجليلة، فذكر حلق الشعور ولبس المسوح ورثى آخر فذكر الكسوف، وهذا لا يعد سرقاً. ولا أدري ما الفرق بين هذا الذي يقوله ابن رشيق وبين ما سماه النقاد المعاني المتداولة. كذلك حدثنا انه صنع ذات يوم وقد   (1) قراضة الذهب: 30. (2) قراضة الذهب: 43. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 458 خرج الناس للاستسقاء فرجعوا وقد طغت رجل من جراد، هذين البيتين: بينما نرتجي سحابة مزن ... غشيتنا سحابة من جراد ليس من قلة ولا بخل رب ... إنما ذاك من ذنوب العباد وهو يشير إلى ان هذا المعنى عند أبي الحسن التهامي ثم يعجب من كثرة مواردته لأبي الحسن " حتى اتهم نفسي فيما أعلم ويعلم الناس إني سبقته علم ضرورة وبحضرة التاريخ " (1) . التلفيق الذي يشبه الاختراع وآخر مظهر من السرقات تحدث عنه ابن رشيق هو ما سماه " التلفيق "، وهو أن يأخذ الشاعر المعاني المتقاربة ويستخرج منها معنى مؤكداً يكون له كالاختراع، وينظر به جميعها فيكون وحده مقام جماعة من الشعراء وهو مما يدل على حذق الشاعر وفطنته " ولم أر ذلك أكثر منه في شعر أبي الطيب وأبي العلاء المعري فإنهما بلغا فيه كل غاية " (2) ؛ وتقدم رسالة " قراضة الذهب " أول دراسة نقدية لشعر المعري وطريقته في تلفيق المعنى الواحد من عدة أبيات لشعراء مختلفين، وهو ملمح عن صح دل على ذكاء ابن رشيق، وبهذا النوع الذي سماه الملفق تفوق على كل من بحث أمر السرقات من قبل. والمعري في نظر ابن رشيق " شاعر العصر بلا مدافعة " (3) ، وهذا دليل على أن هذا الناقد كان أصيل الذوق عمي النظرة؛ وانه سبق جميع النقاد إلى رؤية ميزة أبي العلاء في الشعر بين جميع شعراء عصره.   (1) قراضة الذهب: 50. (2) قراضة الذهب: 52. (3) قراضة الذهب: 57. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 459 ابن شرف القيرواني وثالث هؤلاء النقاد القيروانيين أبو عبد الله محمد ابن شرف (1) ، الذي كانت بينه وبين ابن رشيق ملاحاة ومنافسة ومهاجاة، ثم طوحت به الغربة بعد خراب القيروان إلى الأندلس فتردد على ملوك الطوائف شاكياً الزمان حتى استقر أخيراً عند المأمون بن ذي النون صاحب طليطلة؛ وقد كتب رسالته " أبكار الأفكار " أولاً لباديس بن حبوس صاحب غرناطة، ثم طرزها باسم عباد صاحب إشبيلية، وهي رسالة تحتوي على منثور مسجوع وقصائد وتشتمل على مائة نوع من مواعظ وأمثال وحكايات قصار كلها من تأليفه. مؤلفاته ذات الصلة بالنقد ولابن شرف رسالة نقدية نشرت باسم " أعلام الكلام " (2) كما نشرت باسم " رسائل الانتقاد " (3) أو " مسائل الانتقاد "؛ وقد ذكر ابن بسام كتابه المسمى " أعلام الكلام " وأورد شيئاً من مقدمته، وهذه المقدمة غير موجودة في الرسالة التي نشرت تحمل هذا الاسم، وليس ثمة ما يمنع أن يكون " أعلام الكلام " رسالة في النقد ولكن هل هي نفس الرسالة التي تدعى " مسائل (أو رسائل) الانتقاد "؛ ذلك ما لا نستطيع القطع به اعتماداً على المقدمة التي أوردها ابن بسام (4) ؛ كذلك فإن صاحب الذخيرة لم يورد اسم " رسائل (أو مسائل) الانتقاد " وإنما قال: " ولابن شرف مقامات عارض بها البديع في بابه وصب فيها على قالبه، منها مقامة فيها بعض طول لكنه غير مملول   (1) انظر ترجمته في الذخيرة 4/ 1: 133. (2) نشرها الخانجي بهذا الاسم سنة 1926. (3) هذا هو اسمها في مخطوطة الاسكوريال رقم 356 وقد نشرها الأستاذ حسن حسني عبد الوهاب بتونس (ونقلها كذلك الأستاذ محمد كرد علي في رسائل البلغاء 300 - 343) ثم نشرها الأستاذ شارل بلا باسم " مسائل الانتقاد " مع ترجمة إلى الفرنسية (الجزائر 1953) . (4) خلطت طبعة الخانجي في الخاتمة بين الاسمين إذ جاء فيها " نجزت مسائل الانتقاد بلطف الفهم والانتقاد وهو أعلام الكلام؟ الخ " (انظر ص 46 من هذه الطبعة) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 460 آخذة بطرف مستطرف من أخبار الأدباء وذكر الشعر والشعراء " فدل على أن ما سمي باسم مستقل ليس إلا مقامة واحدة من عدد من المقامات (1) .لا نظن إنها دارت جميعاً حول الموضوعات النقدية. قصور المقامة عن النقد فإذا استثنينا المقامة الجاحظية لبديع الزمان وهي التي يدور قسم منها على نقد الجاحظ عددنا رسالة أبن شرف أول قالب نقدي في صورة مقامة طويلة. بطلها أسمه أبو الريان الصلت بن السكن بن سلامان؛ وقد كانت هذه النقلة إلى هذا القالب غير موفقة لأن المقامة في أساس مبناها تعتمد السجع، ولأنها - مهما تطل - سيقتصر النقد فيها على اللمح السريع، وخصوصاً إذا تذكرنا أن مقامة أبن شرف قد تعرضت بالنقد لما لا يقل عن أربعة وأربعين شاعراً (عدا شعر الغزل العذري الذين تحدث عنهم مجتمعين) . وربما لم يزد حديثه فيها عن بعض الشعراء على كلمات، وقد تكون هذه الكلمات غير ذات جدوى في باب النقد كقوله في الراعي " وأما الراعي عبيد فجيل على وصف الإبل، وشغله هواها عن الشعر في سواها، سوى التعلل بالنزر القليل فصار بالراعي يعرف ونسي ما له من الشرف " (2) . نقده لأبي نواس غير أن أبن شرف لم يلتزم أسلوب المقامة في جميع رسالته، بل وسع من أعطاف القول، فجاءت رسالته في قسمين واضحين: أولهما المقامة نفسها التي تحدث فيها عن الشعراء، والثاني: بيان سقطات عدد من الشعراء وبعض العيوب في الشعر، وعني في القسم الأول بإبراز أهم ما يتميز به كل شاعر في الشعر وفي غيره، على نحو تعميمي يتضمن الحكم والخبر على السواء؛ وقد أطال الوقوف في هذا القسم عند أبي نواس نسبياً فأبان أنه " ترك السيرة   (1) الذخيرة 4/ 1: 154. (2) مسائل الانتقاد: 20. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 461 الأولى ونكب عن الطريقة المثلى وجعل الجد هزلاً والصعب سهلاً " وتعليل ذلك عنده أن أبا نواس وظهر وقد انحلت أسباب العربية وملت الفصاحة، فنزل بالشعر إلى مستوى الإفهام في عصره فرغب الناس في شعره " وشغفوا بأسخفه وكلفوا بأضعفه " وهو قادر على الشعر القوي، ولكنه عني بما يتفق في سوق الجماهير يومئذ " فشعر أبي نواس نافق عند هذه الأجناس، كاسد عند أنقد الناس "، وقد فطن أبو نواس نفسه إلى ذلك فحاول أن يستدرك ما فاته بالطرديات؛ وعلى الجملة فإن من شاء نقده بحق، وجد الناس ضده لأنهم يتعلقون بخفة روحه وسهولة كلامه الملحون (1) . وهذا حكم جديد على أبي نواس، يخالف ما عهدناه من آراء النقاد، ولا أحد ينكر أن في شعر أبي نواس شيئاً كثيراً من السخف والمجون واعتماد الأسلوب السهل الذي يبلغ في سهولته حد الركاكة أحياناً، ولكن شتان بين ما يقوله أبن شرف وبين قول القاضي الجرجاني بأن في شعره تفاوتاً؛ ذلك أن أبن شرف ينكر - من طرف خفي - أكثر شعره، سوى الطرديات، ويراه مسئولاً عن النزول بالشعر إلى مستوى العامة. الاهتمام بشعراء المغرب والأندلس ويتميز هذا القسم الأول بظهور شعراء المغرب فيه إلى جانب المشارقة، حين تحدث أبن شرف عن أبن عبد ربه وأبن هانئ وأبن دراج القسطلي وعلي التونسي؛ كما يتميز بالوقوف عند الصنوبري والخبزأرزي في سياق يضم أبا تمام والبحتري وأبن الرومي والمتنبي، بل ألمح إلى التهمة التي رددها أبن وكيع حين زعم أن المتنبي سرق معاني الخبزأرزي: " حتى أن بعض كبراء الشعراء أهتدم شيئاً من مبانيه، وأهتضم طرفاً من معانيه، وهو من معاصريه، فقل من فطن لمراميه " (2) . وتومئ أحكامه على أبن هانئ   (1) أنظر مسائل الانتقاد: 29 - 30. (2) مسائل الانتقاد: 36. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 462 إلى أن الأساس الديني هام لديه في الحكم ولذلك تجده يقول فيه: " من رجل يستعين على صلاح دنياه بفساد أخراه، لرداءة عقله ورقة دينه وضعف يقينه. ولو عقل لم تضق عليه معاني الشعر حتى يستعين عليها بالكفر " (1) . وهذه النظرة الدينية ستتضح في القسم الثاني من رسالته، ويتألف هذا القسم من مقدمة تحتوي على توجيهات عامة في النقد يشفعها ببيان عيوب شاعرين من كبار الجاهليين هما أمرؤ القيس وزهير، ثم بيان أنواع من العيوب تقع في الشعر: توجيهات عامة في النقد فمن توجيهاته العامة أن الناقد بحاجة إلى التأني الشديد قبل إصدار الحكم، أي أن هذا تحذير له من الاستسلام للتأثير الأول المباشر، فقد يسمع شعراً يملأ لفظه المسامع، ولكن عليه أن يتريث مفتشاً عما وراء ذلك من معنى: " فإن كان في البيت ساكن فتلك المحاسن " وقد يسمع أبياتاً ذات ألفاظ مبتذلة فعليه ألا يعجل باستضعافها فكم من معنى عجيب في لفظ مألوف مبتذل " والمعاني هي الأرواح والألفاظ هي الأشباح " فالقبح في المعنى أشد منه في اللفظ. كذلك على الناقد أن يحترز من الإعجاب بالقديم دون تمييز للجيد فيه من الرديء، وأن ينأى عن إصغار المعاصر، بل يحاول أن يضعف في نفسه التشبث بالقدم رجاء إنصاف المعاصرين، فإن التشبث بالقديم يكاد يكون صفة ملازمة للناس ذكرها القرآن الكريم في عده مواضع (2) . سقوط امرئ القيس وليس الحديث في هذه التوجيهات إلا مقدمة للكشف عن سقطات شاعر يعد رأس القدماء، يقدمه النقاد لقدمه ولحسناته حتى يخيل للمرء أنه لم يجئ في الشعر بسيئة؛ إن المماحكة بين أبن شرف وأبن رشيق تعود في هذا الموقف   (1) نفسه: 40 - 41. (2) مسائل الانتقاد: 44 - 48. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 463 إلى الظهور من خلال شعر امرئ القيس، فابن رشيق اتخذه في قراضة الذهب مثلاً أعلى للشاعر المبتكر المبتدع، وها هو ابن شرف يتناوله من ناحية عيوبه. اعتماده في عيب امرئ القيس على موقف أخلاقي ويذكرنا نقد ابن شرف لشعر امرئ القيس بموقف الباقلاني منه، فهو يعتمد على النظرة الأخلاقية قبل كل شيء؛ من ذلك انه يورد قوله: ويوم دخلت الخدر خدر عنيزة ... فقالت لك الويلات إنك مرجلي ويقول في نقده له: " فما كان أغناه عن الإقرار بهذا، وما أشد غفلته عما أدركه من الوصمة به، وذلك أن فيه أعداداً كثيرة من النقص والنجس: منها دخوله متطفلاً على من كره دخوله عليه، ومنها قول عنيزة له: لك الويلات، وهي قولة لا تقال إلا لخسيس ولا يقابل بها رئيس؟ " (1) ؛ وفي هذه الأثناء يطرح الناقد جانباً كل ما يمكن أن يتم خارج نطاق العلاقات الأخلاقية، فيذهب إلى أن امرئ القيس لم يكن عاشقاً للمرأة حتى يقبل منها قولها " لك الويلات " لأنها كانت امرأة رجل آخر، والعاشق الصحيح لا يقبل المشاركة في حبه، وقد وصفها بأنها حبلى، والحبل علة تشبه الاستسقاء، فلم يزهد في امرأة هذه حالها، مع ان الحيوانات تزهد في إنائثها أيام الحمل " ومع الحبل كمود اللون وسوء الغذاء وفساد النكهة سوء الخلق وغير ذلك، ولا يميل إلى هذا من له نفس سوقي دع نفس ملوكي "، ثم ذكر أنها كانت أيضاً في بعض أحوالها مرضعاً " وفيها من التلويث بأوضار رضيعها ومن اهتزالها واشتغالها عن أحكام اغتسالها "، ومن كانت مرضعاً ليس لديها من ترضع ابنها بالنيابة عنها فهي فقيرة حقيرة، وفي أبيات أخرى يقول: سموت إليها بعدما نام أهلها ... سمو حباب الماء حالاً على حال   (1) مسائل الانتقاد: 50. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 464 فقالت لحاك الله إنك فاضحي ... ألست ترى السمار والناس أحوالي وهذه استقبلته بقولها " لحاك الله " فهو إذن هين القدر عند النساء، يطردنه ويكرهنه، هذا إلى انه خبر عن نفسه الرضي بالفجور " وهذه أخلاق لا خلاق لها " (1) ؛ وليس هذا الموقف جديداً، ولكن زيفه شديد الوضوح؛ ونحن نلمح إلى جانب المقياس الخلقي محاولة أخرى من ابن شرف، وهي تشبثه بأن الشعر الصحيح لابد أن يعبر عن نفسية صاحبه، وما دام صاحب هذا الشعر ملكاً فلابد أن تكون للملك نفسية ترفعه عن مثل هذه الأقوال، والشق الأول من هذا الفرض صحيح، فأما الثاني يدل على جهل بأحوال النفوس. إخفاق امرئ القيس مع المرأة جعله يبالغ في التعبير عن الاستهتار نقول هذا مع أن ابن شرف قد استغل بعض المفهومات النفسية لتفسير ظواهر شعرية على نحو طريف. فقد اعتمد على الأخبار التي تقول إن ارمأ القيس كان مفركاً لدى النساء، وإذن فإنه كان محروماً من وصلهن وتعشقهن؛ وفي سبيل إشباع هذا الحرمان لجا إلى اختلاف القصص، وجعل هذه القصص صريحة مكشوفة تعطية لما كان يحسه من نقص، وذلك شيء تجده كالقانون العام، وإن شئت أمثلة أخرى استشهد ابن شرف بالفرزدق وسحيم عبد بني الحسحاس، وقصة الأول في افتخاره بالفتك والزنا معروفة، فأما الثاني " صاحب الثوب الدنس القمل الذي لا يؤاكله الغرثان تقززاً "، فإنه يقول: توسدني كفا وتحنو بمعصم ... علي وترمي رجلها من ورائيا ولو خلت الأرض من الرجال " لم يكن هذا العبد زلمة عند أرذال السودان إلا كبعرة بعير في معرس عير "، ولكن الحرمان هو المحرك له على هذا   (1) مسائل الانتقاد: 50 - 54. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 465 التصريح " والممنوع من الشيء حريص عليه مدع فيه " (1) ؛ ولو وقف ابن شرف عند ظاهرة الحرمان أو الإخفاق أساساً لتعليله التصريح بالفجور، لكان خير من استغل هذا الموقف النفسي في فهم لون من ألوان الأدب أو ظاهرة من ظواهره، ولكنه تخطى ذلك إلى الحكم على النفسيات المختلفة بمقياس واحد، فزعم أن كل النساء لابد ان يكن من بابة واحدة في الطبيعة النفسية، حين خيل إليه أن عبداً مثل عبد نبي الحسحاس لا يجد امرأة تعشقه أو تتشهاه، مثلما ظن ان الملوك لابد أن يكون لهم مستوى نفسي خاص، وحديث ابن شرف في هذه الناحية يسخر من نفسه، ولا حاجة به إلى مزيد من النقد والتعليق. مرقش يمثل النقيض وإمعاناً منه في إثبات نظريته استشهد بالأضداد، فذكر ان مرقشاً كان من اجمل الرجال وكانت للنساء فيه رغبة، ولم يكن محروماً من وصالهن، ولهذا تجده مستغنياً عن التظاهر بالإفصاح عما كان يجري له معهن. اعتقاد ابن شرف ان الحديث الأخلاقي هنا جزء هام من تقييم الشعر فدافع عن ذلك بقوله: عن امرؤ القيس إنما أراد أن يفخر بما صنع، فضل الطريق شعرياً، حين ابرز ما ينقض الغاية التي وجه إليها شعره، ولهذا فإن الحكم يقع على التناقض بين ما رسمه من غاية وبين ما استطاع شعره تصويره؛ وكان ابن شرف يريد أن يقول إن حديثي عن أخلاقه ليس مقياساً أخلاقياً وإنما هو طريق إلى التقدير الفني؛ ولكنه لم يتنبه إلى أن مقياساً أخلاقياً وغنما هو طريق إلى التقدير الفني؛ ولكنه لم يتنبه إلى أن افتراض " الفخر " إنما هو من وضعه، ولو قلنا له أن امرؤ القيس تغزل وحسب، وساق صورة من تجربة - واقعية أو متخيلة - لضاق ذرعاً بذلك   (1) مسائل الانتقاد: 56 - 57. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 466 لأنه لا يكف عن النظر إلى غاية أخرى وراء الغاية الفنية، والفخر غاية اجتماعية - في بعض الأحوال. حطه من شاعرية زهير رد على النقاد الأقدمين فإذا تحدث عن عيوب زهير عمد إلى كثير مما عده النقاد السابقون نموذجاً في شعره وكشف عما فيه من نقائص، متحدياً بذلك عدداً كبيراً من النقاد، لا ابن رشيق وحده. ونقده لزهير - وإن كانت القاعدة الأخلاقية لم تنتف فيه جملة - يدل على نفاذ بصره إلى مستويات أخرى. فهو ينتقده لأنه عبر عن إصابة المنية للناس بقوله " خبط عشواء " ويقول: لسنا نطالبه هنا بحكم ديني، بل نطالبه بحكم العقل، إذ لو كان ضرب المنية خبط عشواء لمات بعض الناس ونجا بعض، وإنما وقع زهير في الخطأ لأنه رأى بعض الناس يموتون في حال الهرم وبعضهم في حال الشباب فدعا ذلك خبط عشواء، ولكن المنية لا تبقي أحداً إلا وتصيده حين تريد ذلك " ولو أن الرماة تهتدي كاهتدائها لملئت أيديهم بأقصى رجائهم " (1) ؛ ثم أن زهير خالف العادة حين قال: " ومن لا يظلم الناس يظلم " وقد ينقم الضعيف المظلوم من الظالم بالحيلة، وقد يأتي من يغلبه في ظلمه - بظلم اكبر - فيكون سبب هلاكه؛ والنقاد يستحسنون له قوله: تراه إذا ما جئته متهللاً ... كأنك تعطيه الذي أنت سائله وهل يكون الممدوح ذا نفس سامية إذا كان يتهلل لان يعطى؟ لقد تعارف الناس على إن إظهار التهلل في مثل هذا الموطن سقوط همة وصغر نفس. ثم عمد ابن شرف إلى بيت لزهير جعله قدامة نموذجاً من نماذج المدح الموفق، وهو قوله: على مكثريهم حق من يعتريهم ... وعند المقلين السماحة والبذل   (1) مسائل الانتقاد: 66. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 467 فعابه بان الشاعر قد ذم هؤلاء الناس حين أخبر أن فيهم مكثرين ومقلين، " ولو كان مكثروهم كرماء ليذلوا لمقليهم الأموال حتى يستووا في الحال " (1) ، ثم هم ضيعوا القريب واعتنوا بالغرباء وصلة الرحم أولى، ثم إن البيت يدل على أن المقلين أسخى نفوساً من المكثرين لان البذل مع الإقلال مثل أعلى في الكرم (2) ؛ ورغم هذا التدقيق الذي يطالعنا به ابن شرف، فإن نقده ينتحي منحى مثالياً، لم يخرج به عن طبيعة النقد القديم الذي سادت مقاييسه في العصر الإسلامي والأموي وظلت آثاره ملموسة في النقد على مر الزمن؛ فالإقرار بوجود مكثرين ومقلين في مجتمع ما أمر واقعي، ولكن ابن شرف يرى أن هذا مخل بالمدح؛ والاعتناء بالغرباء لا ينفي صلة الرحم، ولكن الناقد يريد النص هناك من تفوق للمقلين على المكثرين؛ وهكذا يمكننا أن ننسب هذا اللون من التدقيق للتعنت، ولكنا لا نؤاخذ ابن شرف من هذه الزاوية، لان هذا اللون من التمحك بالأقاويل كان شائعاً في النقد، وإنما نأخذ عليه أنه وهو الذي كان في مقدوره أن يسلك الطريق النفسي لاعتناق الواقعية، أخطأ مرتين: أولاهما انه لم يحاول توسيع مفهوماته النفسية فوقع في التناقض في هذا المجال، والثانية انه عاد فخضع للتيار المثالي الذي ينكر كل الاحتمالات ما عدا واحداً في تصرفات الناس وفي مقاييسهم المختلفة. عيوب عامة وليس في القسم الأخير من هذه الرسالة شيء جديد: هنالك ذكر الناقد عدداً من العيوب مثل اللحن وخشونة الكلمات وتعقيد وكسر الوزن ومجاورة الكلمة ما لا يناسبها والافتتاحات الثقيلة والمتطير بها، وقلق القافية، والجفاء في النسيب، والسرقة، واتى بأمثلة طال ترديد النقاد لها. وقد قسم السرقات في أنواع: منها سرقة ألفاظ وسرقة معان (وهي أكثر) ومن النوع الثاني سرقة   (1) مسائل الانتقاد: 70. (2) انظر ص 72 - 74. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 468 بعض المعنى أو كله أو سرقته باختصاره أو بزيادة فيه، أو سرقته دون زيادة أو اختصار، وكان في ذلك كله يعبد تقسيمات من سبقوه. عيوب في شعر المتنبي وقد خصصت خاتمة الرسالة للحديث عن بعض عيوب المتنبي، وهي شبيهة بما أثاره غيره من قبل مع تدقيقات خاصة ينفرد بها. وعند هذا الحد أحس ابن شرف أنه استطاع ان يضع قواعد لتبيان ما هو سيئ في الشعر، شأنه في ذلك شأن كل من ألف في النقد قبله. فانتهى إلى النهاية التي بلغها المرزوقي وهي " أن ما مسلم من جميع ما أوردناه فهو في حيز السالم " (1) على ان يذكر المتأدب أن الجودة ليست مرتبة واحدة وغنما هي مراتب متفاوتة. تقييم لنقد ابن شرف ويمكن أن يقال إن ابن شرف في نقده دوم قليلاً ثم وقع. فقد مد أجنحة من النقد النفسي لم تستطع حمله إلا إلى آفاق قريبة، ثم عاد من جديد يلحق بالقافلة النقدية ماشياً؛ كان زاده من النظر الدقيق مضيعاً في مماحكات لا علاقة لها بالشعر، ولكنه كان يعي انه يحاول ان يشذ حتى عن ما اجمع عليه النقاد، وانه يريد أن يضع تفسيرات جديدة، ولكن الوعي وحده لا يكفي إذ قد يكون قوة لتسويغ المخالفة الخاطئة. مجمل لمميزات مدرسة القيروان ومرة ثالثة - بعد الوقفة عند عبد الكريم وابن رشيق - نرى أن ما حققته مدرسة القيروان يتميز بحيوية أشخاصها الذين منحتهم النهضة الأدبية في إقليمهم بعض السمات الإقليمية. ومكنت من القول بأثر البيئة والدعوة لتجاوز ذلك الأثر في سبيل الخلود، كما اشتملت محاولاتهم على تعليل المؤثرات النفسية، بعد إذ كانت هذه المؤثرات تؤخذ جملة كأنها قضية تقبل بالتسليم.   (1) رسائل الانتقاد: 102. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 469 - 6 - النقد الأدبي في الأندلس في القرن الخامس ابتداء الشعر الأندلسي بمحاكاة المحدث أولا تربى الذوق الأندلسي مدة طويلة على الشعر المحدث، شعر أبي تمام والبحتري وابن الرومي وابن المعتز وأبي العتاهية، وعلى الشعر الأندلسي نفسه الذي كان يترسم خطى الشعر المحدث المشرقي؛ ولكنا لا نسمع أن المعركة النقدية حول أبي تمام والبحتري انتقلت إلى الأندلسيين، إلا ما يقال من ان أبا حفص عمر بن يوسف الخيطي (- 338) أحد أهل العلم بمعاني الشعر كان يتعصب للبحتري (1) ؛ فأما العصبية لهذا أو ذاك من شعراء المشرق كانت موجودة فأمر واضح من أخبار عن إعجاب هذا بابي تمام وإعجاب ذاك بأبي نواس. وعن احتذاء بعض الشعراء الأندلسي لطريقة مشرقية دون أخرى، وأما ان هذه العصبية أثمرت مواقف نقدية فشيء قد ضنت المصادر بالحديث عنه إن كان له وجود. القالي وتلامذته والعودة إلى الشعر القديم وقد ظل الذوق الأندلسي مأخوذاً بالشعر حتى دخل القالي إلى قرطبة سنة 330 جالباً معه دواوين الجاهلين والإسلاميين مقروءة مصححة على الأئمة، وأخذ الطلاب يتتلمذون عليه في دراستها، فوجد نهج القدامى ونهج المحدثين   (1) طبقات الزبيدي: 330. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 470 وعاشا معاً جنباً إلى جنب، ولكن الذوق العام كان أميل إلى الاتجاه المحدث. ولما رثى الرباحي أحمد بن موسى بن حدير بقصيدة بناها على " مذاهب العرب " وخرج فيها عن " مذاهب المحدثين ". لم يرضها العامة (1) . بدايات نقدية ساذجة ولم يستطع النقد الأدبي في الأندلس قبل القرن الخامس ان يرتفع إلى مستوى المشكلات الكبرى التي دارت في النقد المشرقي من حديث عن الطبع والصنعة، واللفظ والمعنى، والنظم، والصدق والكذب، وما أشبه، بل ظل بسيطاً في مجالي المستوى والتطبيق، لا ينفك عن التمرس ببعض الأخطاء اللغوية والنحوية، إذ كان القائمون على تدريس الشعر من طبقات المؤدبين لا يتجاوزون - في أحسن حال - التوفر على علم معاني الشعر، وبعض الدراسات اللغوية والنحوية. ابن عبد ربه ينقل في العقد حصيلة آراء المشارقة في عصر الرواة وقد نجد وقفات نقدية عند ابن ربه في العقد، ولكنها جميعاً مقتبسة مما عرفه عند المشارقة من حديث عن عيوب الشعر وعدم تفضيل القدماء على المحدثين وتوفر الملكة والدربة، وهو يقول للشاعر انه لا يفيده أخذ ألفاظ الناس وكلامهم " فإن ذلك غير مثمر لك ولا مجد عليك ما لم تكن الصناعة ممازجة لذهنك وملقحة بطبعك " ويسمي السرقة باسم " الاستعارة " ويرى أن أخفاها وأدقها ما كان ينقل المنثور إلى المنظوم أو العكس (2) . وكل هذه الأمور قد مرت بنا عند الحديث عن النقد المشرقي وتكاد تكون منقولة دون تصرف أو تحوير.   (1) طبقات الزبيدي: 339. (2) محاضرات الموسم الثقافي (الكويت) 5: 176. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 471 أسباب ساعدت على استقواء النقد ولكن كان لابد للطاقات النقدية أن تقوى في الاندلس، على مر الزمن، لأسباب عديدة منها: (1) الحركة الثقافية التي أوجدها الحكم المستنصر (350 - 366) ، فهذه الحركة بعثت في الأندلسيين شعوراً بالثقة، حين ميزت بين التبعية الكاملة للمشرق والاستقلال الذاتي، وأعانت على النظرة إلى ما يمكن أن يسمى " شعر الأندلسيين " مستقلاً أو متصلاً بالحركة الشعرية عامة في البلاد الإسلامية، مثلما أن الثقافات التي انتشرت بجهود الحكم قد ساعدت على إيجاد الوعي العميق عن طريق المفارقة والمقارنة، وهي أول حوافز النقد. (2) إنشاء ديوان للشعراء لا يقيد فيه اسم الشاعر لينال عطاء إلا بعد أن يثبت تفوقه، ونحن وإن كنا نجهل الكثير عن المقاييس النقدية التي كان يستخدمها المحكمون، ولا نستطيع تبرئتهم من الانسياق مع الذوق الذاتي، فإننا نقدر أن المنافسة وحدها كانت كفيلة - عن طريق الأخذ والرد - بإثارة الأذهان للنقد وأحياناً للتجريح أو التهكم. وفي كل ذلك تكمن تربة صالحة لنمو نقد سليم (1) . (3) الانهيار الذي أصاب قرطبة (أم الأندلس) بسبب الفتنة البربرية (399) ، فقضى على العمران وعلى الوحدة السياسية وأشاع القلق والاختلال في المقاييس، ورمى الشعر - مؤقتاً - في الكساد، وخلق طبقة من أدعياء الثقافة فأدى إلى نقمة الشعراء على أوضاعهم وعلى دعاوى المدعين وإلى محاولة المقارنة بين الماضي والحاضر، وإلى استرداد القيم التي أخذت تتحطم، وكان النقد الأدبي من نتائج ذلك كله.   (1) كان عبد الله بن محمد بن مسلمة رئيس هذا الديوان في الأيام العاميرة، وقد وصفه الحميدي (الجذوة: 239) بأنه كان ناقداً من نقاد الشعر، وعلى يديه كانت تخرج صلات الشعراء ورسومهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 472 (4) انفتاح العقول المثقفة على شيء من المنطق والفلسفة بعد توفر قسط من الحرية النسبية في هذا المجال، ومن اثر ذلك ان تعمق النظرة إلى الظواهر الإنسانية ومن بينها الشعر، والأدب بعامة. (5) الأثر المشرقي: فالقرن الخامس في الأندلس جاء بعد النهضة النقدية في المشرق على يد ابن طباطبا والآمدي والحاتمي والجرجاني، وقد وصلت كتبهم إلى أيدي الأندلسيين ففتحت أمامهم مجال القول في النقد. الوضع الأندلسي والشعر الأندلسي يوجهان النقد الأدبي فمن طبيعة الوضع الأندلسي وطبيعة الشعر الأندلسي نفسه اتخذ النقد الأدبي وجودة وسماته: أما طبيعة الوضع الأندلسي فكانت تتمثل في احتذاء المشرق، فلما تنبهت الأندلس إلى شخصيتها في المجال العلمي والأدبي، كان النقد الأدبي دفاعاً عن هذه الشخصية ضد الظلم أو التجاهل أو الاتهام بان الأندلس ليس فيها أدباء وشعراء؛ ومن طبيعة الوضع الأندلسي ان يكون الرابط فيها فقيهاً، وأن تكون الصبغة الخارجية للحياة دينية، ولذلك لم يستطع النقد أن يتخلص من الأحكام الأخلاقية؛ وكان مما يزيد الأندلسيين شعوراً بذلك، تلك الفرقة التي نجمت في القرن الخامس، فقسمت الأندلس إلى دول متناحرة يذكى الشعر تناحرها، ويزين لكل أمير فيها أنه وحده ظل الله على الأرض، وكان لابد أن يكون الناقد انفذ بصراً من الشاعر الذي توجهه الحاجة وتحمله المبالغة إلى أقصاها؛ كان يبدو للناظر المتأمل أن الشعر إذن يقترن من ناحية بالضعة والتكسب، مثلما يقترن من ناحية أخرى بترسيخ جذور الانقسامات السياسية والضعف الناشئ عنها، ومن ثم فهو شيء غير أخلاقي إذا نظرنا إليه من زاوية مثالية؛ وقد يقال ألم تكن الحال كذلك في المشرق؟ والجواب على ذلك أن المشارقة نظروا إلى الظاهرة الشعرية - من حيث هي ظاهرة إنسانية -، وفصلوا بين الشعر والحياة نفسها، فاخذوا يتجادلون حول المشكلة - أو المشكلات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 473 التي تمثلها هذه الظاهرة، أو يتناظرون حول شاعر ما بعد أن يفصلوا شعره من ملابسات الأوضاع التي عاشها، ولكن الأندلسيين نظروا إلى حياة الشعر، إلى الشعر في الحياة، ولذلك لم تهمهم المشكلات النقدية الكبرى التي أثارها المشارقة، من زاوية التجريد، ولسنا نقول ان كل ناقد أندلسي فلابد أن يكون اخلاقياً، ولكن يكفي ان نلحظ قوة هذا التيار في النقد الأندلسي. ومن طبيعة الشعر الأندلسي أول الأمر انه تربى على الذوق المحدث، ونما فيه هذا الاتجاه بقوة، وأسعفت الحضارة الأندلسية على استقوائه، فاهتم بوصف الجمال في الطبيعة والانسان، - كما حدث في شعر المشارقة المحدثين - عن طريق الصورة أو قل الإكثار من التشبيهات، ولذلك كان من أبرز العناصر التي التفت إليها الناقد المتذوق عنصر التشبيه، وحسبنا أن نجد كتابين في أوائل القرن الخامس يكتبان في التشبيهات أحدهما كتاب أبي الحسن علي ابن محمد بن أبي الحسين الكاتب (1) والثاني كتاب ابن الكتاني الطبيب (2) . وكلاهما مقصور على تشبيهات الأندلسيين دون سواها؛ وكلما تحضر الذوق زاد التفنن في طلب الصورة، وسوف تكون المحاولة في المستقبل قاعدة هامة في الذوق النقدي أثناء القرن الخامس والقرون التالية. ومن طبيعة الشعر الأندلسي أيضاً أن التيار الذي سمي طريقة العرب. حين جاور مذهب المحدثين، عايشه في هدوء، وسار التياران متوازيين دون صراع، حتى لتجدهما معاً في شعر الشاعر الواحد، وقد كانت حيوية الصراع بين التيار القديم والمحدث سبباً في خصب النقد المشرقي، ولذا فقدت هذه الحيوية في النقد الأندلسي، وأسعف على فقدانها غياب ضروب أخرى من الصراع شهدها المشرق، كالمعركة الخفية حول الشعر والمنطق، أو حول شاعرين متباعدين الطريقة، أو حول شاعر يشذ عما حوله. وليس أدل   (1) الجذوة: 290. (2) كتاب التشبيهات من أشعار أهل الأندلس، تحقيق إحسان عباس (بيروت 1966) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 474 على قيمة الصراع في خلق الحركة النقدية من الأندلس نفسها، فإن أبرز النقد الذي تكون فيها غنما كان صراعاً بين الشاعر والمعلم أو بين ابن شهيد وطبقة اللغويين. وإذا كان الشعر المشرقي بحاجة إلى مقاييس نقدية تنظم الأخذ، فإن الشعر الأندلسي أشد حاجة إلى ذلك، لأن عملية النمو فيه، في كل عصر، كانت تعتمد على الدفقات الجديدة التي تنساب في عروقه آتية من المشرق. المجالات الكبرى للنقد في الأندلس فإذا كان النقد الأندلسي نتاج هذا كله، فلا غرابة ان نجده يدور في مجالات: الدفاع عن الأندلس وأدبها، اللجوء إلى حمى الأخلاق، التشبث بالصورة، قوانين الأخذ والسرقة، وأن يكون بعد هذا ولأجل هذا نفسه باهتاً، حتى انه إذا تجاوزنا دنيا الأمثلة الجزئية لم يجد إلا القواعد النظرية المشرقية، متخلياً عن العمق لأنه يكره الفلسفة، قليل التشكل بصورة متكاملة تستدعي تأليفاً مستقلاً. ابن شهيد وابن حزم طليعة الحركة النقدية ولعل اعظم اثنين تمرسا بالنقد في القرن الخامس، وربما ظلاً اعظم من نلقاهما في تاريخ النقد هنالك، هما ابن شهيد وابن حزم، وكانا صديقين يلتقيان على بعض شئون الحياة ثم يفترقان كل في سبيل: كلاهما أرستقراطي المنبت، ذهبت الفتنة البربرية بمجد أبيه واهله، فهما يحبان قرطبة ويحنان إلى ماضيها، ويتراءى لهما هذا الماضي بأخيلة العصور الذهبية ومرابع الصبا فيكتب كل منهما ترجمته الذاتية، وكل منهما معجب بما لدى صاحبه من ملكات، شاعران افترقت بهما الطريق: فأما ابن حزم فغاص في لجة الصراع المذهبي متوجهاً إلى الآخرة متنقلاً في البلدان الأندلسية، يجمع حوله التلامذة لينفرهم من التقليد والقياس ويدرس ويناقش ويحتد في المناقشة، ويدعو إلى الفلسفة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 475 والمنطق بحماسة تشبه حماسته المذهبية؛ وأما ابن شهيد فإنه لا يطبق فراق معشوقته العجوز (قرطبة) مقبلاً على لذاته الدنيوية، خائضاً غمرة الصراع الادبي، قانعاً من المعرفة بأطراف يسيرة، مؤمناً أن الاطلاع الواسع ربما خدد وجه القريحة الطبيعية. ابن شهيد وصلته بالنقد وابن شهيد أقرب إلى عالم النقد من صاحبه لان إعجابه الذاتي بنفسه وضعه موضع التفرد - في نظر نفسه - إزاء الآخرين، فاحب أن يثبت تفوقه، وكان إعجابه بذاته قد وضعه موضع من ينظر إلى اللغويين من عل، وكانت الخصومة بينه وبينهم تدور حول دعاواهم بأنهم يستطيعون تعليم البيان، فأحب أن يثبت لهم بعد ما بين الموهبة والاكتساب. ولهذا كان العامل الموجه في مذهبه النقدي هو إيمانه بطريقته في الشعر والنثر؛ ومن خلال هذا الأيمان كان يقيس شعر غيره من الشعراء. مؤلفاته التي يمكن أن تتوفر فيها أحكام نقدية ومن مؤلفاته ذات الطابع النقدي: كتاب حانوت عطار، ورسالة التوابع والزوابع، ورسائل متفرقة تحدث فيها عن البيان. فأما الكتاب الأول فإنه لم يصلنا ولكن الحميدي نقل عنه في " جذوة المقتبس "، وتدل نقوله على أن الكتاب تراجم لشعراء الأندلس، فهو سابق لكتاب " الأنموذج " في هذا المضمار، وفيه أحكام نقدية عامة ونماذج مما اختاره بحسب تلك الأحكام؛ فمن ذلك قوله في ابن دراج: " والفرق بين أبي عمر وغيره أن أبا عمر مطبوع النظام شديد أسر الكلام، ثم زاد بما في أشعاره ومن الدليل على المعلم بالخبر واللغة والنسب وما تراه من حوكة للكلام وملكه لأحرار الألفاظ، وسعة صدره وجيشه بحره، وصحة مقدرته على البديع، وطول طلقه في الوصف، وبغيته للمعنى وترديده، وتلاعبه به الجزء: 1 ¦ الصفحة: 476 وتكريره، وراحته بما يتعب الناس، وسعة نفسه فيما يضيق الأنفاس " (1) . المعارضة غير معيبة بل هي أساس التفوق ولأول مرة نرى ناقداً يقر مبدأ المعارضة معياراً للتفوق، فنجد ابن شهيد ناقماً على النقاد الذين كانوا يتولون ديوان الشعراء لأنهم أخروا عبد الرحمن بن أبي الفهد وقدموا عليه عبادة بن ماء السماء مع ان عبد الرحمن " غزير المادة واسع الصدر حتى انه لم يكد يبقى شعراً جاهلياً ولا إسلامياً إلا عارضه وناقضه، وفي كل ذلك تراه مثل الجواد إذا استولى على الأمد، لا يني ولا يقصر، وكان مرتبته في الشعراء أيام بني أبي عامر دون مرتبة عبادة في الزمام، فاعجب " (2) . وقد فوت ضياع هذا الكتاب كثيراً من أحكام أبي عامر ابن شهيد النقدية، كما حرمنا التعرف إلى أخبار هامة عن حياة الأدباء الأندلسيين. قضية الأخذ والتوليد وأما التوابع والزوابع أو " شجرة الفكاهة " فإنها رسالة كتبها ابن شهيد لصديقه أبي بكر يحيى بن حزم، وهو من بيت آخر غير بيت الفقيه ابن حزم (3) ، ليعرض فيها أروع نتاجه ويتهكم بمن كان يكايده من أهل قرطبة، وقد احتفظ لنا ابن بسام في الذخيرة بقطع منها؛ وهي تعتمد الفكرة القديمة في أن لكل شاعر تابعاً من الجن يلهمه الشعر؛ ولكن ابن شهيد قد أبطل المعتقد السائد الذي وضحه المرزوقي في إن النثر والشعر لا يتفقان على درجة واحدة في الجودة لشخص واحد، ولذا عرض ابن شهيد شعره على قدامى الفحول حين زار ديار الجن مثل امرئ القيس وطرفة وقيس بن الخطيم وكبار المحدثين مثل أبي نواس وأبي الطيب، فكل أجازه وشهد له بالإجادة؛   (1) الذخيرة 1/ 1: 45. (2) الجذوة: 258 - 259. (3) الجذوة: 351. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 477 ثم عرض نثره على تابعي الجاحظ وعبد الحميد فأجازه كذلك، فاستوت له التقدمة في الصناعتين، وهرب منه تابع بديع الزمان حسداً وكمداً، وقال له صاحبا عبد الحميد والجاحظ: " اذهب فإنك شاعر خطيب " (1) . وفي قطعة من الرسالة إن أبا عامر تذاكر في مجلس من مجالس الجن اخذ الشعراء للمعاني وتداولهم لها فأنشد بعضهم المعنى الذي جاء به النابغة وغيره: إذا ما غزوا بالجيش حلق فوقهم ... عصائب طير تهتدي بعصائب وهو معنى تردده في كتب النقد المشرقية، وتعاوره أبو نواس ومسلم وأبو تمام والمتنبي، فاخذ القوم يتجادلون ليقرروا أيهم يفوز بقصب السبق (وهي طريقة من القدرة على تتبع المعنى الواحد المسروق) . ثم تذاكروا المعاني العقم فكان منها قول امرئ القيس: سموت إليها بعد ما نام أهلها ... سمو حباب الماء حالاً على حال وكيف أخذه عمر بن أبي ربيعة فأساء؛ وكيف أن ابن شهيد مر بشيخ يعلم بنياً له صناعة الشعر وهو ينصحه بقوله: " إذا اعتمدت معنى قد سبقك إليه غيرك فأحسن تركيبه وارق حاشيته فأضرب عنه جملة، وإن لم يكن بد ففي غير العروض التي تقدم غليها ذلك المحسن لتنشط طبيعتك وتقوى منتك " (2) ، (وهي نصيحة عرفها المشارقة) فحاول ابن شهيد أخذ ذلك المنى متعظاً بنصيحة الشيخ. وهذا يدل على انشغال بال ابن شهيد بوضع قاعدة مقبولة للأخذ.   (1) الذخيرة 1/ 1: 238. (2) الذخيرة 1/ 1: 244. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 478 الروحانية وأثرها في التناسب الذي يعد سر الجمال في الشعر وقد بنى سائر ما تبقى من رسالة التوابع والزوابع على صور تهكمية فيها من شأن علماء اللغة وبخاصة ابن الافليلي شارح ديوان المتنبي. فأما في رسائله البيانية الأخرى فإنه واجههم بالهجوم السافر، وعنفهم لاعتقادهم أن بضاعتهم وسيلة لتعليم البيان فقال: " وإصابة البيان لا يقوم بها حفظ كثير الغريب واستيفاء مسائل النحو بل بالطبع مع وزنه من هذين؛ ومقدار طبع الإنسان إنما يكون على مقدار تركيب نفسه مع جسمه " (1) ، ويشرح ابن سعيد هذه الفلسفة الجديدة فيبين أن من تغلبت نفسه على جسمه كان مطبوعاً روحانياً فتجيء الصور عنه في أجمل هيأة، وأما الآخر الذي يستولي جسمه على روحه فإن صور الكلام تتكون لديه ناقصة. وأصحاب الروحانية قد يأتون بكلام جميل مؤثر في النفوس دون أن يكون للكلام في ذاته جمال خاص، وهذا هو الغريب وهو أن يتركب الحسن من غير الحسن؛ كقول امرئ القيس: تنورتها من اذرعات وأهلها ... بيثرب أدنى دارها نظر عالي (2) وهذه نظرية طريفة في الجمال " تركب الحسن من غير حسن "، تعد من ابتكار أبي عامر، ولعله يعني بها أن كل جزء على حدة ليس فيه جمال، فإذا تم تركب الأجزاء شعت بجمال ناجم عن التركيب المنسجم. ونظرية أبي عامر في الطبع المؤيد بالثقافة (اللغوية والنحوية) ليست جديدة علينا، ولكن تفسير الطبع بأنه غلبة النفس على الجسم لم يرد عند المشارقة؛ أتراه من تأثير ابن حزم نفسه في تفسير قضية الحب كما عرضها في " طوق الحمامة "؟ وهذا الجمال ناشئ عن الانسجام هو الذي جعل ابن شهيد يمعن في الإلحاح على ان " للحروف انساباً وقرابات تبدو في الكلمات، فإذا جاور   (1) الذخيرة 1/ 1: 197. (2) المصدر نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 479 النسيب النسيب ومازج القريب القريب طابت الألفة وحسنت الصحبة " (1) . ويخلص أبو عامر إلى أن البيان قد يعلم ولكن ليس الذي يقوم بتعليمه طبقة معلمي اللغة، لأنهم في رأي أبي عامر " يرجعون إلى فطن حمئة وأذهان صدئة، لا منفذ لها في شعاع الرقة ولا مدب لها في أنوار البيان " (2) ، وهم يدركون بالطبيعة ويقصرون بالآلة: أي كأنهم يعرفون بالقوة لا بالفعل، ويعني ابن شهيد بالآلة المقصرة التركيب الفسيولوجي الذي فسد فلم يعد قادراً على تقبل الروحانية لغلظ أعصاب الدماغ وفرطحة الرأس وتسفيطه والتواء الشدق؟ (وخرج هنا إلى التصوير العابث وكأنه يرسم صورة ابن الافليلي) (3) ، وإنما الذي يستطيع تعليم البيان امرؤ قادر " على تفجير صفاة غيره "، إذا كان المتعلم ذا استعداد نفسي لذلك. طبقات أصحاب صنعة البيان وينقسم أصحاب صنعة الكلام في رأيه إلى ثلاثة أقسام: (1) قسم يخترع المعاني ويعرف جيد الألفاظ ولكن توفيقه بينهما يعتمد على كد القريحة وقد يجيد في المقطعات والقصار، ولكنه يعجز عن " بهاء البهجة " وشرف المنزلة، إذا سمته الاستمرار. (2) قسم ماهر في التلفيق والحيلة، فهو يغطي بذلك على نقص الكرة، ويستجلب الرضى الموقت من معاصريه. (3) قسم هم أصحاب الحدة البيانية الذين يبنون الكلام على الاندفاع والانصباب مع التوفيق التام بين الفكرة الصعبة ومائية الشكل، والواحد   (1) الذخيرة 1/ 1: 199. (2) الذخيرة 1/ 1: 205. (3) الذخيرة 1/ 1: 205 - 206. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 480 منهم " كالقوة في المرقب (1) ، سام نظره قد ضم جناحيه ووقف على مخلبه، لا تتاح له جارحة إلا اقتصها ولا تنازله طائرة إلا اختطفها، جرأته كشفرته وبديهته كفكرته " (2) . ومن خرج عن هذه الفئات الثلاث فلا يدخل في صناعة الكلام. وهذه القسمة تنظر إلى " القطعة الفنية " وتحكم على الشاعر من خلالها. فالقطعة الفنية الرائعة في نظر ابن شهيد هي التي تتمتع بقوة الانصباب. وتوفق في انسجام تام بين الفكرة والشكل، وتلبك معاني الآخرين في مزيج خفي، وتقتنص كل ما يتاح لها، وتتساوى جودتها في حالتي البديهة والفكرة. تمجيد ابن شهيد للبديهة وكان ابن شهيد يرى البديهة محكاً للجودة، ولذلك نسمعه يقول: " إنما يتبين تقصير المقصر وفضل السابق المبرز إذا اصطكت الركب وتزاحمت الحلق واستعجل المقال، ولم توجد فسحة لفكرة ولا امكنت نظرة لروية؟ فترى الجواد السابق إذ ذاك متشوفاً بأذنه، باحثاً لكيدي الإحسان بيده، طامح النظر، صهصلق الصهيل، وأهل الصنعة خرس لا يسمع لهم جرس؟ " (3) . ومن العجيب أن يطلب ناقد التسوية بين نتاج البديهة ونتاج الروية، ولكن ابن شهيد كان يحس بقدرته على الاثنتين مثلما يحس يتميزه في الصناعتين، ومن هنا وضع المقياس الذي يلائمه، وان عز تطبيقه حين يحاول ناقد أن يوازي بين بديهة ابن شهيد ورويته. الناقد الحق هو الذي يدرك سر التناسب وإذا كانت أروع صور البيان هي التي تم فيها التوفيق بين الفكرة الصعبة ومائية الشكل فغن مهمة الناقد الأدبي هي الكشف عن هذا التلاؤم وتمييزه من سائر مراتب الصناعة، ونجد ابن شهيد يصور مهمة الناقد وطبيعة   (1) القوة: العقاب. (2) الذخيرة 1/ 1: 204. (3) الذخيرة 1/ 1: 209. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 481 الشعر صوراً مستمدة حيناً من طبيعة المباني الأندلسية وحيناً من جوها فينص على أن الناقد يجب ألا يستهويه الشكل وينسيه التفتيش عن المعنى: " فقد ترى الشعر فضي البشرة وهو رصاصي المكسر، ذا ثوب معضد أو مهلهل، وهو مشتمل على بهق أو برص. مبنياً بلبن التماثيل وصفوان التهاويل، وهو لا يجن صاحبه عن النسيم فضلاً عن الحرجف، ولا يقيه رقيق الندى فضلاً عن شؤبوب الكنهور " (1) . الناقد الحق لا ينخدع بالتمويه العاطفي ولعل أهم خداع تنبه له ابن شهيد هو الخداع العاطفي حيث تضطرم نيران الجوى ويلمع البرق ويستن الودق وتسفح الدموع، والكلام في حقيقته كسراب بقيعة. إذ الفنان الحق في رأيه هو الذي " يتصرف تصرف الملح ويتلون تلون أبي براقش " (2) ، وهذا الكلام موهم، ولكن ابن شهيد يعني القدرة على القريض رغم تنوع الموضوع، فيبقى كلام الشاعر في الناس على مر الادهار ويتخذونه اتخاذ الملح، ويفسرونه بما يلائم تغير الأزمنة. أثر تغير الزمن في الشعر والأذواق وقد أقر ابن شهيد بتغير العادة حسب تغير الأزمنة وبان ما يصلح في عصره ربما لم يبق صالحاً في عصر آخر، كذلك هي الحال في الصناعتين النثر والشعر: " ألا ترى ان الزمان لما دار كيف أحال بعض الرسم الأول في هذا الفن إلى طريقة عبد الحميد وابن المقفع وسهل بن هارون وغيرهم من أهل البيان؟ فالصنعة معهم أفسح باعاً وأشد ذراعاً وأنور شعاعاً، لرجحان تلك العقول واتساع تلك القرائح في العلوم؛ ثم دار الزمان دوراناً، فكانت إحالة أخرى إلى طريقة إبراهيم ابن العباس ومحمد بن الزيات وابني وهب ونظرائهم، فرقت الطباع وخف   (1) الذخيرة 1/ 1: 266 والجرحف: الريح الشديدة؛ والكنهور: السحاب. (2) المصدر نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 482 ثقل النفوس، ثم دار الزمان فاعترى أهله باللطائف صلف، وبرقة الكلام كلف، فكانت إحالة أخرى إلى طريقة البديع وشمس المعالي وأصحابهما؛ وكذلك الشعراء انتقلوا عن العادة في الصنعة بانتقال الزمان وطلب كل ذي عصر ما يجوز فيه وتهش له قلوب أهله فكان من صريع الغواني وبشار وأبي نواس وأصحابهم في البديع ما كان، من استعمال أفانينه والزيادة في تفريع فنونه، ثم جاء أبو تمام فأسرف في التجنيس وخرج عن العادة وطاب ذلك منه وامتثله الناس، فكل شعر اليوم لا يكون تجنيساً أو ما يشبهه تمجه الآذان، والتوسط في الأمر أعدل؛ ولذلك فضل أهل البصرة صريع الغواني على أبي تمام لأنه لبس ديباجة المحدثين على لأمة العرب، فتركب له من الحسن بينهما ما تركب " (1) . فها هو ابن شهيد يرصد تطور الذوق، ولكنه يدعو إلى الاعتدال في التجنيس، وإلى التوفيق بين طريقة العرب وطريقة المحدثين، هذا على أنه يؤمن بانتقال العادة مع الزمن، وفي هذا طرف من التناقض إذ ما دامت الأذواق هي التي تأخذ وتدع فكيف يمكن توجيه الذوق الذي اخذ يفتن بالإكثار من التجنيس إلى التوسط والاعتدال؟ موجز فيما حققه ابن شهيد في النقد وقد يتجاوز إعجاب ابن شهيد بذاته وبشعره وبنثره كل حد، ومع ذلك فإن هذا الطريق المضلل قد بلغ به إلى نتائج قيمة، فكان ثانياً لابن طباطبا في وضع مفهوم للجمال الفني، وكان متفرداً في تفسير الطبع على أساس روحاني، وفي اعتبار الطاقة الشعرية واحدة في حالي البديهة والروية، وكان تلميذاً للمشارقة في نظرية الأخذ، وفي تحديد واجب النقاد، وربما كان متأثراً بالجرحاني في النص على تقلب العادات حسب تقلب العصور. أما في إصابة الحكم على من درسهم من الشعراء   (1) الذخيرة 1/ 1: 203. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 483 فإنه ربما تفوق على ابن رشيق وابن شرف. وربما لم يبلغ أي ناقد أندلسي آخر مبلغه في إرهاف الذوق والإحساس بالجمال الفني، وقد اتخذ من شاعريته وسيلة للتعبير عن آرائه النقدية بطريق التصوير. ابن حزم والمعوقات دون النقد وأما ابن حزم فقد كانت مداخله إلى النقد الأدبي كثيرة مثلما كانت الحواجز والسدود دونه كثيرة أيضاً: كانت مداخله إليه سعة اطلاعه وحفظه لتراث الأندلس الشعري وذكاؤه الذاتي وذوقه المرهف ودراسته للفلسفة والمنطق وشعوره بالأندلس وحبه لها ودفاعه دونها، وعدالته إذا شاء الإنصاف وتخلى عن الموقف الدفاعي، واطلاعه على طرائق النقد عند المشارقة؛ وكانت السدود والحواجز دونه انشغاله الكثير بالفقه والمجادلات، وانبهام غاية الشعر دون نظره فهو صالح لكل شيء حتى لشرح المذهب الفقهي والتعاليم الأخلاقية، وإخفاقه في تجاربه الدنيوية، ونبذه كل شيء لا يقرب إلى الله، (والشعر من أشد الظواهر الإنسانية تعلقاً بالدنيا) ، ولهذا اختلط الحال عليه في النقد الأدبي: وقفته الدفاعية عن الأندلس فإذا كان المدخل شعوره بالأندلس ودفاعه عنها هو الموجه قرأت له رسالة في فضل الأندلس وضع فيها بعض شعراء بلده في مصاف مشاهير المشارقة: " ونحن إذا ذكرنا أبا الأجرب جعونة بن الصمة الكلابي في الشعر لم نباه به إلا جريراً والفرزدق لكونه في عصرهما، ولو انصف لاستشهد بشعره، فهو جار على مذهب الأوائل لا على طريقة المحدثين؟ ولو لم يكن لنا من فحول الشعراء إلا احمد بن دراج القسطلي لما تأخر عن شأو بشار وحبيب والمتنبي، فكيف ولنا معه جعفر بن عثمان الحاجب واحمد ابن عبد الملك بن مروان واغلب بن شعيب ومحمد بن شخيص وأحمد بن فرج وعبد الملك بن سعيد المرادي وكل هؤلاء فحل يهاب جانبه، وحصان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 484 ممسوح الغرة " (1) - مباهاة عريضة كما ترى، لعل ابن حزم كان أول من يدرك حقيقتها، ولكن الموقف الذي استدعاها لم يكن يسمح بالتواضع. الخطابة والشعر تتمة للمنهج القديم وإذا كان المدخل دراسته المنطقية، كان لابد له من استكمال المنطق الارسططاليسي بفصلين (سابع وثامن) في الخطابة وفي الشعر. ولكن يبدو انه لم يتح له الاطلاع على كتابي أرسطو في هذين العلمين، ولذلك اكتفى بالاتكاء فيهما على نفسه حين كتب " التقريب لحد المنطق " فأوجز القول ولم يشف الغلة؛ فقال في باب البلاغة: " قد تكلم أرسططاليس في هذا الباب وتكلم الناس فيه كثيراً وقد أحكم فيه قدامة بن جعفر الكاتب كتاباً حسناً، وبلغنا حين تأليفنا هذا أن صديقنا أحمد بن عبد الملك بن شهيد ألف في ذلك كتاباً. وهو من المتمكنين من علم البلاغة الأقوياء جداً. ود كتب إلينا يخبرنا بذلك إلا أننا لم نر الكتاب بعد. فغنينا بالكتب التي ذكرنا عن الإيغال في الكلام في هذا الشان، ولكنا نتكلم بإيجاز جامع " (2) . تعريف البلاغة وتعريف ابن حزم للبلاغة لا يخلو من طرافة إذ يقول: " البلاغة ما فهمه العامي كفهم الخاصي، وكان بلفظ يتنبه له العامي لأنه لا عهد له بمثل نظمه ومعناه. واستوعب المراد كله، ولم يزد فيه ما ليس منه، ولا حذف ما يحتاج من ذلك المطلوب شيئاً، وقرب على المخاطب به فهمه، لوضوحه وتقريبه ما بعد، وكثر من المعاني وسهل عليه حفظه لقصره وسهولة ألفاظه " (3) .   (1) تاريخ الأدب الأندلسي - عصر سيادة قرطبة: 312، 313. (2) التقريب: 204. (3) المصدر نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 485 مراتب البلاغة أربع وينص ابن حزم على الحاجة إلى الطبع والتوسع في العلوم لمن شاء إحراز البلاغة؛ ويضع للبلاغة أربع مراتب: (1) بلاغة تتكون من الألفاظ المألوفة عند العامة، كبلاغة الجاحظ. (2) بلاغة تتكون من الألفاظ غير المألوفة عند العامة كبلاغة الحسن البصري وسهل بن هارون. (3) بلاغة تتركب من المرتبة الأولى والثانية كبلاغة ابن المقفع (وربما تركبت من بلاغة الخطب ممتزجة ببلاغة الرسائل كما فعل ابن دراج) . (4) بلاغة عادية - (لعلها النثر العادي الذي يراد به الإفهام وحسب) . أقسام الشعر وقد تعودنا قسمة الشعر في نوعين مطبوع ومصنوع ولكن ابن حزم جعله أقساماً ثلاثة، فزاد على الاثنين السابقين: شعر البراعة. (1) فالصناعة هي الجمع بين الاستعارة والتحليق على المعاني. (كشعر زهير وأبي تمام) . (2) والطبع ما أشبه المنثور في تأليفه وسهولته ولم يقع فيه تكلف (كشعر جرير وأبي نواس) . (3) والبراعة هي التصرف في المعاني الدقيقة البعيدة والإكثار مما لا عهد للناس بالقول فيه وإصابة التشبيه وتحسين المعنى اللطيف (كشعر امرئ القيس وابن الرومي) . وقد تتركب هذه الأنواع فيخرج منها أقسام جديدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 486 أحسن الشعر أكذبه وابن حزم يأخذ برأي من يقولك أحسن الشعر أكذبه، ولذلك فهو مبني على الإغراق. فإذا أخذ الشاعر في الصدق فقال " الليل ليل والنهار نهار " أصبح محطاً للهزء والسخرية؛ وهذا الإغراق تصدقه الآية القرآنية في الشعراء. ولذلك نهى النبي عن الإكثار منه إلا ما خرج عن حد الشعر، فكان مواعظ وحكماً ومدحاً للنبي صلى الله عليه وسلم (1) . المواعظ والحكم والنبويات خارجة عن حد الشعر فابن حزم يعتقد ان المواعظ والحكم والمدائح النبوية خارجة عن حد الشعر لأنها تقوم على الصدق، بينا الشعر يقوم على الكذب. استبعاد الشعر في المنهج التربوي ولهذا فإنه حين اتخذ مدخله إلى الشعر تربية الشبان تربية خلقية، نهى عن كل نوع من الشعر، ولم يبق إلا المواعظ والحكم وما فيه ذكر الخير: نهى عن الأغزال والرقيق لأنها تحث على الصبابة وتدعو إلى الفتنة وتحض على الفتوة وتصرف النفس إلى الخلاعة واللذات وتسهل الانهماك في الشطارة والفسق؛ ونهى عن الأشعار المقولة في التصعلك وذكر الحروب لأنها تثير النفوس وتهيج الطبيعة وتسهل على المرء موارد التلف في غير حق وقد تؤدي إلى هلاك النفس وخسران الآخرة؛ ونهى عن أشعار التغرب وصفات المفاوز والبيد لأنها تسهل التحول والتغرب؛ ونهى عن الهجاء فهو أفسد أنواع الشعر لأنه يهون على المرء كونه في حالة السفلة. أما المدح والرثاء فهما من المباح المكروه، من المباح لأنه قد تذكر فيهما الفضائل ويتم التذكير بالموت، ومن المكروه لان الكذب يلفهما بردائه، ولا خير في الكذب (2) .   (1) التقريب: 206 - 207. (2) رسائل ابن حزم: 65 - 67. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 487 وقد عاد ابن حزم إلى شيء من هذا الموقف نفسه عندما سأله بعض تلامذته عن القدر الصالح للمرء من العلوم، فحين تحدث عن الشعر قال: وأما علم الشعر فإنه على ثلاثة أقسام: أحدها أن لا يكون للإنسان علم غيره فهذا حرام. يبين ذلك قوله عليه السلام " لان يملأ - أو يمتلئ - جوف أحدكم قبحاً حتى يريه خير له من ان يمتلئ شعراً "؛ والثاني الاستكثار منه، فلسنا حبه وليس بحرام، ولا يأثم المستكثر منه إذا ضرب في علم دينه بنصيب. ولكن الاشتغال بغيره أفضل. والثالث: الأخذ منه بنصيب فهذا نحبه ونحض عليه لان النبي عليه السلام قد استنشد الشعر، وانشد حسان على منبره عليه السلام، وقال عليه السلام، " عن من الشعر لحكماً "، وفيه عون على الاستشهاد في النحو واللغة، فهذا المقدار هو الذي يجب الاقتصار عليه من رواية الشعر، وفي هذا كفاية وحسبنا الله ونعم الوكيل. وأما من قال الشعر في الحكمة والزهد فقد أحسن وأجر، وأما من قال معاتباً لصديقه ومراسلاً له وراثياً من مات من إخوانه بما ليس باطلاً ومادحاً لمن استحق الحمد بالحق فليس بآثم ولا يكره ذلك، وأما من قال هاجياً لمسلم ومادحاً بالكذب ومشبباً بحرم المسلمين فهو فاسق، وقد بين الله هذا كله بقوله " والشعراء يتبعهم الغاوون " (1) (الشعراء: 224) . وهنا يتجلى لنا ابن حزم الذي يقر الشعر ما دام يحث على الفضيلة، وينكره ما دام مبايناً للقواعد الدينية والخلقية. ترى هل نعد ابن حزم ناقداً في هذا الموقف؟ إنه أقرب إلى المصلح الاجتماعي ذي النزعة الأفلاطونية، الذي يتحدث عن الفرد الصالح في المجتمع؛ ولله أن يكون قد تأثر بمسكويه أو بأفلاطون مباشرة فطرد اكثر ضروب الشعر من منهجه التعليمي. عن الهجوم على الشعر من حيث أثره السيئ في نفسية الأفراد والجماعات، سيظل دائماً ملاذ المتبررين، ولكنا لا نجد في تاريخ النقد الأدبي عند العرب موقفاً واضحاً من هذه القضية وضوح موقف ابن حزم وصراحته وتناوله المشكلة   (1) الرد على ابن النغريلة: 162. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 488 بالتفصيل؛ ولقد رأينا النقاد المشارقة يفصلون في النظر بين الشعر والأخلاق، حتى إذا جاءوا إلى التطبيق تملكتهم المقاييس الخلقية وتحكمت في أذواقهم واحكامهم، وما ذلك إلا لأنهم اتخذوا الفصل بين الأمرين حجة للدفاع عن هذا الشاعر أو ذاك، فإذا انتهى الموقف الدفاعي، لم يعد الفصل ممكناً أو ضرورياً. ابن حزم وفكرة الإعجاز وقد أخبرنا ابن حزم أن صديقه ابن شهيد كان أثناء تأليفه لكتاب التقريب يكتب كتاباً في البلاغة، لم يره ابن حزم ولم تشر إليه المصادر ولم يصلنا؛ كذلك فغن ابن حزم نفسه كتب رسالة في إعجاز القرآن، ثم ضمها - أو بعضها - إلى كتابه " الفصل في الملل والنحل " (1) ، إلا أن اعتقاد ابن حزم بان الله حال بين العرب وبين معارضة القرآن (وهو رأي النظام بالصرفة) لم يجعل لهذه الرسالة قيمة من الزاوية النقدية؛ وبينا نجد ابن حزم يوافق القائلين بان القرآن معجز بنظمه وبما فيه من إخبار بالغيب، نجده يرد بشدة على من يقول إن إعجاز القرآن إنما هو لكونه في أعلى درج البلاغة " لأن هذا يكون في كل من كان في أعلى طبقة) (2) ؛ ويعتقد ابن حزم أن لآية مثل " وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وأتينا داود زبورا " لا يمكن أن تكون في أعلى درجات البلاغة لأنه ليس فيها إلا عد الأسماء، ويقول: " فلو كان إعجاز القرآن لأنه في أعلى درج البلاغة لكان بمنزلة كلام الحسن البصري   (1) الفصل 3: 15 وما بعدها. (2) الفصل 3: 17. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 489 وسهل بن هارون وشعر امرئ القيس، ومعاذ الله من هذا لان كل من يسبق في طبقته لم يؤمن أن يأتي من يماثله، ضرورة " (1) ؛ وإنما ينفي ابن حزم أن يكون القرآن في أعلى درجات البلاغة في كلام المخلوقين، لأنه يعتقد انه ليس من جنس كلام المخلوقين، لا من أعلاه ولا من أدناه ولا من أوسطه، ومن ثم بطلت المقايسة - حتى في درجات الجودة - بين القرآن وبلاغة المخلوقين.   (1) الفصل 3: 18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 490 النقد الأدبي في القرنين السادس والسابع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 491 النقد في الأندلس في القرنين السادس والسابع شيوع المؤلفات الأدبية القائمة على أساس جغرافي قد رأينا أول التفاتة عارضة إلى الأثر الإقليمي في الأدب إنما وردت عند الثعالبي في اليتيمة، ثم توضحت وأصبحت موضع تساؤل عند كل من عبد الكريم النهشلي وابن رشيق؛ ولا بد ان يكون الموقف الدفاعي عند أدباء الأندلس قد غذى ذلك الاتجاه وساعد على تبلوره في النفوس؛ فوجد الإحساس العميق بالتاريخ الأدبي لكل إقليم على حدة، وأصبحت العناية بالمعاصرين لدى مؤرخي الأدب في المشرق والمغرب ظاهرة كبيرة؛ وسلك المؤرخون للأدب في تواليفهم إحدى طريقين: فإما ساروا على طريقة الثعالبي في تأليف موسوعي يضم اشهر شعراء كل إقليم وأدبائه كما فعل العماد الأصفهاني في الخريدة، وابن سعيد في كتابه المغرب والمشرق، وإما اقتصروا على شعراء إقليم واحد، كما هي الحال في " الجنان " لابن الزبير وهو في شعراء مصر، و " زاد المسافر " لصفوان بن إدريس في معاصريه من الأندلسيين و " تحفة القادم " لابن الابار في شعراء الأندلس بعد فترة صفوان، إلى أشباه هذه المؤلفات - وهي كثيرة العدد - خلال القرنين السادس والسابع. ولكن القاعدة النقدية في هذه الكتب ضعيفة، فهي لا تتجاوز القسمة الجغرافية إلا إلى شيء من التعليقات السريعة؛ فأما أن يدرس العماد الأصفهاني أو صفوان بن إدريس بين النقاد فذلك ما لا يحقق شيئاً واضحاً في تاريخ النقد سوى المسئولية التي قد يتحملها هؤلاء المؤرخون للأدب في إثبات ما أثبتوه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 493 ورفض ما رفضوه، ومدى تأثيرهم في توجيه الذوق المعاصر حينئذ أو في توجههم بقوة ذلك الذوق. فترة الخوف من الضياع وقد نسمي هذين العصرين في تاريخ الأدب المشرقي والمغربي فترة الخوف من الضياع، إذا تذكرنا الحروب الصليبية في المشرق، وسقوط كثير من المدن الأندلسية واحدة إثر أخرى في القرن السابع، ثم الموجة المغولية التي ظلت تتدحرج في طريقها حتى أبواب سيناء؛ وفي فترات الخوف من الضياع يكثر التسجيل والتقييد ويقل النقد أو يضعف صوته، وتخمد المعارك الأدبية لالتهاء الناس بمعارك تحدد البقاء أو الفناء. فإذا حدث أن ثارت النزعة الإقليمية في قطر ما واستدعت الجدل والمماحكة ضد نزعة أخرى كان اكبر جهد للنقد إبراز المفاخر، وعلاء شان الحسنات. أثر الخوف من الضياع في كل من الشعر والنقد ونجم عن الخوف من الضياع ظواهر أخرى في طبيعة الشعر نفسه: منها الميل إلى الإطالة في مبنى القصيدة والإكثار من الشعر؛ وهذا يقد يفسر باسم الرغبة نفسها في التخليد والبقاء، ولكن له في نظري معنى آخر: وذلك أن شقة البعد بين الشاعر وحماة الشعر ورعاته قد زادت، فأصبح الشاعر يتلذذ من ناحية ويملأ وقت فراغه من ناحية أخرى بمطولات شعرية، وهو يعرف ما قاله ابن رشيق من قبل بان المطولات أكثر إثارة للهيبة في النفوس؛ وكانت التفننات البلاغية التي تكاثرت على مر الزمن قد جعلت تسوق القصيدة في طريقها، بدلاً من أن يظل الشاعر هو الذي يتحكم في بناء قصيدته، فكم من أبيات لم تأت إلا لأن الجناس قد خلقها ومثلها أمام عيني الشاعر جميلة، وزاد القصيدة طولاً انحلال صفة الجزالة، وعجز الشاعر تحت وطأة التلاعب أن يوفر لأبياته الاكتناز والامتلاء؛ أقول هذا في الجملة وأنا أعلم أن استثناءات قد تقع هنا وهناك. وزاد من صفة الجزالة ذوباناً انتشار التصوف ومحاولة الشعر أن يعبر عنه وعن تجارب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 494 أصحابه، والشعر الصوفي يمثل استسلام الكلمة لمدلولات جديدة، واتجاه التركيب إلى عدم الدقة لأن التأويل فيه ممكن ميسور، والانسياق المسترسل في المبنى دون حدود صارمة، والحاجة إلى النغمة العذبة، لأن كثيراً من ذلك الشعر كان يغنى في الحلقات. كساد الشعر في الجملة وقد كان الشعراء كثيراً ما يذكرون في العصور السابقة " حرفة الأدب "، ويعدون أنفسهم محارفين محدودين؛ وفي القرن الخامس تحدث ابن رشيق عن التكسب بالشعر حديثاً يتصل بعصره؛ ولكن الظاهرة في هذين القرنين تجعل للكساد الذي يشكوه الشعراء معنى فنياً إلى جانب المعنى الاجتماعي؛ ولسنا نقلل من أثر المعنى الثاني فإنه يتصل بصميم الأوضاع الاقتصادية التي واجهها الشعراء على مر الزمن، ولكن يبدو ان وراء هذا العامل عاملاً آخر هو ضعف أثر الشعر في النفوس، وشعور الشاعر بالهزيمة إذا قاس نفسه إلى غيره من المثقفين: وهذا الإعلان بالكساد نسمعه من أقصى المشرق إلى أقصى المغرب، فعنه عبر أبو إسحاق الغزي (- 524) (1) حين قال: قالوا هجرت الشعر قلت ضرورة ... باب الدواعي والبواعث مغلق خلت الديار فلا كريم يرتجى ... منه النوال ولا مليح يعشق ومن العجائب أنه لا يشتري ... ويخان فيه مع الكساد ويشرق وعنه عبر الأعمى التطيلي (- 252) وشاح الأندلس بقوله يصور سيادة الفقه واندحار الشعر: أيا رحمتا للشعر أقوت ربوعه ... على انه للمكرمات مناسك وللشعراء اليوم ثلث عروشهم ... فلا الفخر مختال ولا العز تامك فيا دولة الضيم اجملي أو تجاهلي ... فقد أصبحت تلك العرى والعرائك ويا " قام زيد " اعرضي أو تعارضي ... فقد حال من دون المنى " قال مالك "   (1) له ترجمة مطولة في الخريدة (قسم الشام) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 495 الانصراف الجماهيري نحو الأشعار العامية وزيادة آمة الشعر الفصيح فإذا كان هذا حال الشعر بسبب الخوف من الضياع وضعف الصلة بين الشاعر والممدوحين، فإن مما يزيد حاله وهناً اكتفاء الجماهير في المشرق والمغرب بشعرها العامي - اعني بألوان الزجل التي وجدت فيها غذاءها الطبيعي، وبهذا يتضح ان أزمة الشعر ازدادت عما رأينا في القرن الخامس؛ وزاد من وضوحها عدم ظهور الشاعر الذي ينتهج مذهباً يثير من حوله حركة نقدية، فكانت حال الشعر سبباً في ضعف النقد عامة. نعم وجد الوشاح الكبير الذي يستطيع أن يمد برزخاً فوق الهوة القائمة بين طبقات المثقفين وجماهير الشعب، ولكن هذا الوشاح لم يستطع أن يستثير حوله مدرسة نقدية معارضة، لأن الناس استقبلوا الخفة الغنائية في مبتكراته وهم بحاجة إليها - دون ثورة امتعاض أو مغالاة في إعجاب. الاهتمام بالمصطلح البلاغي الشكلي واعتباره نقداً وكان الانحراف نحو الشكل قد وصل إلى النتيجة الحتمية وهي الاهتمام في الشعر بالشئون البلاغية التي كانت تسير من قبل في معونة الحركة النقدية، فلما ضعف النقد، انفصلت عنه البلاغة واستقلت واستأثرت بالاهتمام الكلي، وأصبحت جهود أصحابها مقصورة على التفنن في التقسيم والتفريع؛ وتجولت كلمة " نقد " عن معناها الأصلي، فإذا قرأت عنوان كتاب لأسامة ابن منقذ " البديع في نقد الشعر " فقدر أنه تحديد لمصطلحات البديع ليس غير، وانه لا يتعلق من النقد بسبب قوي، وكان ذلك أشد وضوحاً في المشرق، فأنت إذا استثنيت بلاغياً مترسلاً كابن الأثير كانت شخصيته نفسها ذات أثر في تكوين بعض المفهومات النقدية، وجدت أن أكثر جهود المشارقة اتجهت نحو البلاغة؛ وصادف ذلك اشتداد الذوق الفارسي على أثر اليقظة على الشعر الفارسي نفسه، فكان أن وجد ذلك الذوق طلبته الكبرى في مصطلح البديع، وحين تقرأ كتباً مثل ترجمان البلاغة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 496 ودقائق السحر للرشيد الوطواط (- 573) تجد ان مفهوم النقد الأدبي لم يعد كما كان عند أبن طباطبا وقدامة والآمدي والجرجاني. دور الأندلس وتقاعسها عن أداء دورها ولذلك اضطلعت الأندلس بكثير من مهمة النقد في هذين القرنين؛ مثلما اضطلعت بتطوير فني الموشح والزجل اللذين كانا يتطلبان مقاييس نقدية جديدة ملائمة. ولكن الأندلس لم تكن تعي أنها مهيأة لدور خطير في النقد: نعم إن محاولات ابن بسام وابن خفاجة وابن سعيد وصالح بن شريف الرندي قد تدخل في سياق نقدي، وقد تكون عودة كل من ابن رشد وحازم القرطاجني إلى " كتاب الشعر " عودة إلى منبع أصيل، ولكن الأندلس كانت تعاني احساسات الخوف من الضياع ثم الضياع المحقق، فلما جاء دورها في النقد الأدبي، وجدت اكثر زادها في عمدة ابن رشيق (1) ، وربما قلنا إنها لم تسطع أن تضع المقاييس النقدية التي يتطلبها منها كل من الموشح والزجل، وفات العهد الذي كان يمكنها من الالتفات إلى المشكلات الكبرى. فإذا تجاوزنا الأندلس لم نجد حيوية نقدية نسبية إلا في مصر. وهي متأثرة بالأدب الأندلسي مثلما هي متأثرة بالتيار البلاغي المشرقي. ابن خفاجة ومثله الشعرية العليا وابن خفاجة (- 533) شاعر الطبيعة أول من يطالعنا من نقاد الأندلس في القرن السادس؛ وهو يمثل الشاعر الذي وجد طريقته أول الأمر في مثل شعر الرضي ومهيار وعبد المحسن الصوري، ثم ألمت به في الحياة فترة من الانقطاع عن قول الشعر، استمرت حتى دخول المرابطين إلى الأندلس وقدوم الأمير أبي إسحاق إبراهيم بن يوسف بن تاشفين أميراً على   (1) قام محمد بن عبد الملك الشنتريني (- 545) بتخليص العمدة (انظر التكملة: 472) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 497 المنطقة الشرقية؛ فعندئذ استأنف قول الشعر؛ غير انه حريص على أن يؤكد انه ظل يقوله متعففاً به عن التكسب، كما كان شأنه في عصر الشباب: " فعطفت هنالك على نظم القوافي عناني؟. مطنعاً لا منتجعاً ومستميلاً لا مستنيلاً، اكتفاء بما في يدي من عطايا منان، وعوارف جواد وهاب " (1) . الشعر مركب ذو طول ولابد أن يعتوره لذلك القوة والضعف وتبدو قيمة المقدمة التي كتبها ابن خفاجة على ديوانه في أنه تحدث فيها عن جوانب من تجربته الفنية، فهو يعتقد ان الشعر لا يمكن ان يجيء كله مستوي الجودة وغنما ينقسم إلى طرفين ووسط، وفي الطرف الثاني تكل الأذهان وتقل المادة من لفظ وقافية (2) ؛ ثم إن الشعر يلحق بالأشياء المركبة لأنه يتألف من معنى ولفظ ووزن وروي؛ وكل تركيب فلابد أن يصيب بعض أجزائه اضطراب إذ قد يتعسر إيراد شيء من هذه الأربعة يكون انسجاماً كاملاً مطلقاً، ولذلك تجد التفاوت في الأبيات فبعضها منظومة أي متسقة وبعضها منثورة أي ضعيفة الإيقاع (3) . التخييل يساوي الكذب وليس عيباً. مطلب الجوالة عسير لأنه لا يصلح لكل فنون الشعر وابن خفاجة في ضيق من النقاد الذين يؤاخذون الشاعر بكل ما يقوله، ويحاسبونه من خلال القول على فعله، وهؤلاء في رأيه يغفلون عن طبيعة الشعر الذي يقصد فيه التخييل وليس القصد فيه الصدق ولا يعاب فيه الكذب (4) . وهو يقسم النقاد إلى فئات: فمنهم من ينتقد نقداً صحيحاً معتمداً على الفهم ومنهم من يحكم خبثه ومنهم من يقصر به ضعف بصيرته. وهذان الأخيران (الخبثاء وضعفاء البصيرة) قد حجروا واسعاً، واقتصروا في مقاييسهم النقدية على مقياس   (1) ديوان ابن خفاجة: 8. (2) ديوانه: 9. (3) نفسه. (وربما عني ابن خفاجة أن الشاعر قد يجيء بأبيات ثم يشفعها بقطعة منثورة في نطاق واحد) . (4) ديوانه: 10 - 11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 498 واحد هو " الجزالة " سواء أكان الموضوع مدحاً أو تغزلاً. جداً أو هزلاً، مع ان فناً كالغزل إنما تصلح له الرقة التي يمثلها شعر عبد المحسن الصوري والرضي ومهيار، أو ان يكون في طريقة أبي الطيب الذي يلف الغزل بالحماسة (1) . ولا ندري إلى أي النقاد يشير ابن خفاجة حين يقول ان بعضهم اتخذ الجزالة مقياساً لكل شيء، ولعله إنما يتحدث عن بعض معاصريه ممن كان يتعقب شعره بالنقد؛ إذ لا نجد بين من تحدثنا عنهم من نقاد الأندلس من اقتصر على الجزالة وتطلبها في كل موقف؛ ولكن هذا الخبر هام لانه على ان الصراع بين طريقة العرب (وهي تقوم على الجزالة) وطريقة المحدثين (وقد تطورت حتى أصبحت محاكاة لشعر عبد المحسن والشريف ومهيار) كان ما يزال قائماً في القرن السادس. لماذا لجأ ابن خفاجة إلى مصطلح " التخييل " كذلك فإن لفظة " التخييل " التي استعملها ابن خفاجة إنما صدرت عن دوائر النقد المتصل بالفلسفة أو المتأثر بها فرأيناها عند الفارابي وابن سينا وعبد القاهر؛ وقد قرنها الشاعر بفكرة الكذب، وحدد هذا الكذب بالخلف بين القول والفعل، ولم يلمح أن فكرة الكذب كانت تتصل عند بعض النقاد (قدامة مثلاً) بالغلو، وهو قد يكون في الصورة أو في الوصف ولا يكون الكذب قاصراً على الفعل وحده، وإنما لجأ غليها الشاعر ليرد على الاتجاه الأخلاقي الذي كان يؤاخذ الشاعر بقوله في شعره " إني فعلت " و " إني صنعت "، إصراراً على ان الشعر بذلك يصور واقع الحياة.   (1) ديوانه: 11 - 16. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 499 الاشتركويي ومقاماته اللرومية واتخذ محمد بن عبد الله بن يوسف الاشتركويي (- 538) (1) صاحب " المقامات اللزومية " في مقامتين من مقاماته، الشكل الذي جرى عليه ابن شرف من قبل في " رسائل الانتقاد " إلا أن السرقسطي لم يتصد لنقد الاندلسيين، وكان اقل احتفالاً من ابن شرف بالتحليل وذكر العيوب واستقصائها ولا يتعدى ما يورده في المقامة أبرز ما عرف عن الشاعر، أو ما قاله حوله النقاد الأقدمون من أحكام مجملة. فالفرزدق " بنحت من صخر " وجرير " يعرف من بحر " وذو الرمة ماهر في الوصف مقصر في المدح والهجاء: " إذا وصف المنازل والمراحل والظعائن والرواحل، والأوانس والحبائب، والسباسب والركائب، والأحياء والحلال، والافياء والظلال، وطرحته الطوارح، وتعرضته السوانح والبوارح، ثم شبب بمي ونسب، فقد كفى وأحسب، فخذه وصافاً وصداحاً، ولا ترده هجاء ولا مداحاً " (2) ؛ وتعد وقفته عند ذي الرمة من الوقفات الطويلة في مقامته وإن كان من الممكن إيجاز حكمه في كلمات، وإذا حكمنا بطول الجمل المسجوعة على مدى اهتمامه بالشاعر وجدنا انه أطال الوقوف نسبياً عند عمر بن أبي ربيعة (26 سجعة) وجميل (16 سجعة) وكثير (10 سجعات) وهؤلاء هم شعراء غزلون، وذو الرمة أحدهم؛ ولا يداني هؤلاء عدداً إلا أبو فراس (21 سجعة) وقد يتضح من هذه المقارنة مدى اتساع القول لديه في من يؤثرهم من الشعراء إذا تذكرنا أن أبا نواس لم يفز منه إلا بثماني سجعات؛ غير انه لا يزال يعد الفحولة مقياساً هاماً، ولهذا يعيب عمر ابن أبي ربيعة بأنه " قصر عن مدى الفحول " ولكنه حط كثيراً على بشار " حرم فصاحة الأعراب ولم يفطر على الإعراب " ومزج المدح بالذم حين ذكر أبا تمام " بئس ما أفصح عن المعاني وعبر " وحين ذكر ابن الرومي   (1) انظر ترجمته في الصلة: 556. (2) من المقامة الموفية ثلاثين، الورقة: 72 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 500 " كثيراً ما أقول هو الشاعر ثم أرى أنه الصادح الناعر؟ حاطب ليل وزاعب سيل "؛ وقد ختم حديثه عن الشعراء بمهيار الديلمي. وكانت مقامته مقصورة على تقييم المشارقة حتى عصر مهيار (القرن الخامس) . عودة مكرورة إلى المفاضلة بين الشعر والنثر ولما عقد مفاضلة بين الشعر والنثر في المقامة الخمسين، لم يقل شيئاً يستحق أن نتوقف عنده، وغنما كان قوله ترديداً للعموميات التي جاء بها من سبقوه. إن هاتين المقامتين اللتين اتخذتا النقد موضوعاً لهما، زادتا من يقيننا بان شكل المقامة لم يكن صالحاً للنقد، لا لأنها موجزة وحسب. بل لأن بناءها على السجع كان يزيد في صدرها ضيقاً عن الخروج بآراء دقيقة؛ وبهذا تكون المقامة - فيما عدا استثناءات يسيرة - ارتداداً عن النقد التحليلي وعودة إلى النشاط النقدي الذي كان سائداً في النقد العربي قبل مطلع القرن الثالث. ابن بسام الشنتريني والعودة إلى ابن حزم ولعل ابن بسام الشنتريني (- 542) صاحب " الذخيرة " هو أكثر النقاد بالأندلس - في القرن السادس - احتفالاً بقواعد النقد وتطبيقها. وهذا ما نلمحه في الأساس النقدي الذي يقوم عليه كتاب الذخيرة، لأن ابن بسام لم يكتب في النقد الأدبي شيئاً مستقلاً. ويمكن ان نقول إن مذهب ابن بسام في النقد يقوم على ركيزتين كلتاهما تتصل بابي محمد ابن حزم: إحداهما ركيزة الدفاع عن تراث الأندلس الأدبي عامة. والثانية: النظرة الأخلاقية في الحكم على بعض الفنون الشعرية؛ وقد شفع ابن بسام هذه الفلسفة بمواقف تطبيقية تناول فيها بعض الشئون الأدبية وخاصة قضية السرقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 501 الموقف الدفاعي ولقد كانت الغاية الأولى من تأليف " الذخيرة " هي جذب الأندلسيين إلى تخليد تراثهم والاعتزاز به، ولهذا ندد بهم ابن بسام في مقدمته لأنهم يهملون ما لديهم من أدب ويقبلون بالتقليد على أدب المشارقة، ويكبرون كل شيء ورد من جهة المشرق: " إلا أن أهل هذا الأفق أبوا إلا متابعة أهل المشرق، يرجعون إلى أخبارهم المعتادة، رجوع الحديث إلى قتادة، حتى لو نعق بتلك الآفاق غراب، أو طن بأقصى الشام والعراق ذباب، لجثوا على هذا صنماً، وتلوا ذلك كتاباً محكماً. وأخبارهم الباهرة وأشعارهم السائرة مرمى القضية ومناخ الرذية، لا يعمر بها جنان ولا خلد، ولا يصرف فيها لسان ولا يد، فغاظني منهم ذلك وأنفت مما هنالك، وأخذت نفسي بجمع ما وجدت من حسنات دهري وتتبع محاسن أهل بلدي وعصري، غيرة لهذا الأفق الغريب أن تعود بدوره أهلة، وتصبح بحاره ثماداً مضمحلة " (1) ؛ غير أن ابن بسام - رغم هذه الحماسة لوطنه وما فيه من شعر ونثر - كان من أكثر الناس التفاتاً إلى المشرق، فهو يبني كتابه أولاً وفي ذهنه نموذج اليتيمة للثعالبي، وهو إذا وقف عند كثير من أشعار أهل بلده لم يقف عندها إلا ليبين كيف أن معانيها مأخوذة من أشعار المشارقة. وقد يغتفر هذا الموقف لديه، لأنه كان يريد ان يظهر مبلغ ثقافته، ويربط بين الشعر المشرقي والمغربي على وجه من الدراسة المقبولة في عصره (دراسة السرقة والأخذ) ولكنه لا يعذر في أمر آخر وهو تصديه لتخليد الشعر دون إيمان عميق به، ولا ندري لماذا شاء ان يعلن عن هذه الناحية: أكان حقاً لا يؤمن بالشعر أم كان يداري نظرة سائدة في زمانه إلى الشعر حين قال: " جدة تمويه وتخيل، وهزله تدليه وتضليل، وحقائق العلوم أولى بنا من أباطيل المنثور والمنظوم " (2) .   (1) الذخيرة 1/ 1: 2. (2) الذخيرة 1/ 1: 7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 502 الوقفة إلى جانب الأخلاق أما وقفته إلى جانب الدعوة الأخلاقية التي صرح بها ابن حزم فإنها تتجلى في تجافيه عن فن الهجاء " ولما وصنت كتابي هذا عن شين الهجاء وأكبرته أن يكون ميداناً للسفهاء أجريت هاهنا طرفاً من ملح التعريض ". والهجاء عنده قسمان: هجو الاشراف، وهو ما لم يبلغ أن يكون سباباً مقذعاً، ولا هجراً مستبشعاً، والسباب الذي أمعن فيه جرير ومن حذا حذوه. ولهذا اقتصر ابن بسام على إيراد نماذج من النوع الأول؛ ذلك هو ما قرره ابن بسام من حيث المبدأ. ولكن الأمر لم يكن كذلك دائماً لأنه كثيراً ما تورط في إيراد حكايات وأشعار هجائية متصلة بها؛ وربما كان ابن بسام خاضعاً للوازع الأخلاقي الديني في رفضه للهجاء، غير أنا يجب أن نضيف إلى هذا العامل عاملاً اجتماعياً، فقد كان ابن بسام يؤرخ العلاقات بين الأحياء - في الغالب - ولذلك كان حريصاً على ان ينفي من كتابه ما قد يؤذي مشاعرهم رعاية للعلاقات الاجتماعية. نقمة على الفلسفة والإلحاد غير أن هذا لا يضعف ما قررناه سابقاً وهو أن العامل الأخلاقي الديني كان قوياً في توجيه النقد لدى ابن بسام، وذلك يتجلى في نفوره من التفلسف في الشعر، ومن إيراد المعاني الإلحادية فيه؛ أورد قصيدة للسميسر يقول فيها: يا ليتنا لم نك من آدم ... أورطنا في شبه الأسر عن كان قد أخرجه ذنبه ... فما لنا نشرك في الأمر فحمل عليه بشدة قائلاً: " والسميسر في هذا الكلام ممن اخذ الغلو بالتقليد، ونادى الحكمة من مكان بعيد، صرح عن ضيق بصيرته، ونشر مطوي سريرته، في غير معنى بديع، ولا لفظ مطبوع، ولعله أراد أن يتبع أبا العلاء، فيما كان ينظمه من سخيف الآراء، وهبه ساواه في قصر باعه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 503 وضيق ذراعه، أين هو من حسن إبداعه ولطف اختراعه " (1) . وأورد أبياتاً فلسفية لأبي عامر ابن نوار الشنتريني، يقول فيها: يا لقومي دفنوني ومضوا ... وبنوا في الطين فوقي ما بنوا ليت شعري إذ رأوني ميتاً ... وبكوني أي جزاي بكوا ما أراهم ندبوا في سوى ... " فرقة التأليف " إن كانوا دروا وعلق عليها بقوله: " وهذا معنى فلسفي قلما عرج عليه عربي، وإنما فزع إليه المحدثون من الشعراء حين ضاق عنهم منهج الصواب، وعدموا رونق كلام الأعراب. فاستراحوا إلى هذا الهذيان استراحة الجبان إلى تنقص أقرانه. واستجادة سيفه وسنانه، وقد قال بعض أهل النقد إنه عيب في الشعر والنثر أن يأتي الشاعر أو الكاتب بكلمة من كلام الأطباء أو بألفاظ الفلاسفة القدماء. وإني لأعجب من أبي الطيب على سعة نفسه وذكاء قبسه، فإنه أطال قرع هذا الباب، والتمرس بهذه الأسباب، وكذلك المعري كثر به انتزاعه. وطال إليه ايضاعه، حتى قال فيه أعداؤه وأشياعه، وحسبك من شر سماعه، وإلى الله مأله، وعليه سؤاله " (2) . وخلاصة موقف ابن بسام هنا كراهيته لإدخال الأفكار والألفاظ الفلسفية في الشعر، وإيمانه أن المعاني ضاقت بالمحدثين، فلهذا لجاوا إلى مثل هذه الامور، وخرجوا عن " رونق كلام الأعراب "؛ وهو معجب بابي الطيب وأبي العلاء وخاصة بما يخترعه أبو العلاء، وبسعة النفس لدى أبي الطيب، ولكنه في الوقت نفسه متعجب من إقدامهما على ألفاظ الفلاسفة وأفكارهم،   (1) الذخيرة 1/ 2: 378. (2) الذخيرة (القسم الثاني - المخطوط) : 195 - 196. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 504 ويبدو من هذا الموقف ان أبن بسام الناقد النافذ النظر، وابن بسام المتدين في صراع لا يجد له صاحبه حلاً. الصدق الواقعي مطلب أخلاقي ابن بسام إذن - رغم سمو ذوقه الأدبي - ناقد محافظ، عن صح التعبير، ولهذه الروح يرفض ان يضمن مؤلفه أي موشح، خضوعاً لما جرت به العادة في المؤلفات المخلدات، وغن كانت الموشحات مطربة إلى حد " أن تشق على سماعها مصونات الجيوب بل القلوب " (1) ؛ وتمشياً مع هذه الروح ومع حقيقة أندلسية واقعية يمقت الشعر حين يبتعد عن الصدق الواقعي، فإذا سمع أبا بكر الداني يقول لممدوحه ما معناه: إنك تدفع الجزية للروم لأنك تعطيهم نقمة في لبوس نعمة، تعود ضرراً عليهم (2) ثارت ثائرته لهذه الدعوى الفاجرة، وصرخ احتجاجاً على هذا الزور، ولم يعد لديه حلم الناقد الرحب الصدر: " وهذا مدح غرور وشاهد زور، وملق معتف سائل، وخديعة طالب نائل، وهيهات! بل حلت القاهرة بعد بجماعتهم؟ الخ " (3) وقد عرض ابن بسام هنا لقضية شائكه، طالما تمرس النقد العربي حولها بمثل قول النقاد: عن الشعر يحسن الباطل ويلبسه ثوب الحق ثم لا يضيره ذلك شيئاً؛ وهذا هو ابن بسام يجد الباطل مزوقاً بتسويغات كاذبة فلا تطاوعه نفسه على السكوت؛ عن الناقد - وإن يكن محافظاً في روحه - يقاس بالإخلاص، وقد كان ابن بسام مخلصاً للحقيقة في وطنه، دون ان يستطيع التمويه الشعري مخادعة نظرة عما يحس. عن هذه الوقفة وحدها من ابن بسام تصحيح لكثير من الأحكام النقدية الخاطئة التي لم تستطع أن تخفي الزيف تحت شعارات " التخييل ".   (1) الذخيرة1/ 2: 2. (2) في نصرة الدين لا أعدمت نصرته ... تلقى النصارى بما تلقى فتنخدع تنيلها نعماً في طيها نقم ... سيستضر بها من كان ينتفع (3) الذخيرة (القسم الثاني - المخطوط) : 102. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 505 ثورة على الاستعارات المبتدعة ومما يؤكد هذه المحافظة ومبدأ الالتزام بالذوق العربي العام الذي يمثله عمود الشعر ثورته على الاستعارات البعيدة لدى بعض شعراء عصره: " كقول ابن الطلاء: بقراط حسنك لا يرثي على عللي " وقول ابن المصيصي: إذا كانت جفانك من لجين ... فلا شك فيها ثريد وقد قدح أهل النقد في المتنبي بخروجه في الاستعارة إلى حيز البعد، كقوله: مسرة في قلوب الطيب مفرقها ... وحسرة في قلوب البيض واليلب " (1) حب المألوف من الطريقة الشعرية وهو ناقد لا ينفك يذكرنا بحيه للمألوف الذي جرت به العادة، ولهذا فإنه يكره الجمع بين التعزية والمدح الكثير للمعزى، " وليس من عادة أئمة الشعراء المقتدى بها الإكثار من مدح المعزي في تأبين حميمه المتوفي، وإنما يلمون به إلماماً بعد التوفر على ندبة ميته والإشباع في ذكر ما فقد من خصاله ثم الكر على تسكين جأشه وحضه على التعزي اتقاء لربه - هذه طريقة قدماء الشعراء " (2) . مؤرخ أدبي ناقد في قراءة الشعر وله منهج نقدي ويستشف من تعليقاته على بعض ما يورده من أشعار انه معجب بالاستعارة الموفقة والعبارة الرشيقة، والإتيان بالتشبيه دون أداة (3) وهو ماهر في استكشاف الأخذ والسرقة، يدل بذلك على سعة اطلاع، ولهذا فهو محب للتوليد في المعاني (4) ، وله تعليقات على بعض الأشعار تدل على نفاذ بصر بالنقد، كقوله في التعليق على هذين البيتين:   (1) الذخيرة 1/ 2: 335 - 336. (2) الذخيرة 1/ 2: 318. (3) المصدر السابق: 320 - 321. (4) الذخيرة (القسم الثاني) : 76؛ هذا وقد نشر الأستاذ ابن عاشور كتاباً في سرقات أبي الطيب من تأليف ابن بسام النحوي، واعتبر ابن بسام صاحب الذخيرة مؤلفاً له، ولكن ليس في الكتاب أية قرينة تدل على انه من تأليفه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 506 عليك أبا عبد الله خلعتها ... لها البدر طوق والنجوم غلائل وما هي إلا الدهر في طول عمرها ... وغن لم يكن فيها الضحى والأصائل " فيا لهذا البيت ما احسن مذهبه، وأبدع مثواه ومنقلبه، إلا انه بالدهر مسلوب الضحى والأصائل، فلم يزد على ان جلاه في زي عاطل، وأبرزه في مسوح شوهاء ثاكل، وليت شعري أي شيء أبقى للدهر المظلوم، بعد ضحاه الناصعة الأديم، وآصاله المعتلة النسيم، هل بقي إلا ليله الأسود الجلباب، وهجيره السائل اللعاب، ولو قال لممدوحه وتلك العلى فيها الضحى والاصائل، لأبرز قصيدته رفاقه البرود، شفافة العقود " (1) . إننا قد نجده تعليقات مثل هذه لدى المتعقبين للشعر بوحي من روح التدقيق، ولكن ابن بسام رغم ذلك يبدو من خير مؤرخي الأدب الذين كان لهم منهج نقدي واضح المعالم، بحيث لا يساميه في هذه المنزلة مرخون كثيرون، إلا أنه كان ابن عصره وقطره: يكره الفلسفة كما كرهتها الاندلس، ويعتقد بان العنصر الأخلاقي ابد ان يكون أساساً في كل نشاط إنساني حتى في الفنون، لان وجوده من علائم التماسك في البيئة الأندلسية، وهو يعيش في عصر يقبل على الزخرف بقدر - في شتى مجالات الحياة - ولذلك نراه يحب البديع في الشعر.   (1) الذخيرة (القسم الثاني) : 253. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 507 ابن قزمان وقواعد الزجل أول اعتراف نقدي بشعر عامي وقد استعار ابن قزمان (- 555) إمام الزجالين بالأندلس بعض القواعد النقدية التي أجريت على القصيد، فطبقها على الزجل، إما بطريق المقايسة أو القلب: فقد كان يشعر - كما شعر ابن خفاجة - بأن مقياس الجزالة لا يصلح لبعض أنواع الشعر، وهو من ثم أقل صلاحية للزجل؛ وكان من قبله من الزجالين - أو بعضهم في الأقل - ينتحي منحى القوة والمتانة، ومن أشهرهم في ذلك ابن راشد الزجال؛ ولذلك تهكم به بقوله: زجلك يا ابن راشد قوي متين ... وإن كان هُ للقوة فالحمالين (يعني إن كان مرجع الأمور إلى القوة، فإن الحمالين أقوياء، ولكن هل هذه القوة تعلي من شأنهم؟) ؛ ولذلك دعا ابن قزمان إلى اعتماد الزجل على " انسياب الطبع وسهولة الألفاظ " أي إلى اكتساء الزجل عامة بالرقة. وعاب متقدمي الزجالين بأنهم يأتون بمعان باردة وأغراض شاردة: وأثنى من بينهم على ابن نمارة " فإنه نهج الطريق، وطرق فأحسن التطريق، وجاء بالمعنى المضيء والغرض الشريق: طبع سيال، ومعان لا يصحبه بها جهل الجهال، ويتصرف بأقسامه وقافيه تصرف البازي بخوافيه، ويتخلص من التغزل إلى المديح، بغرض سهل وكلام مليح " (1) . وأكثر ما أعجبه في ابن نمارة طريقته في حكاية التصوير بألفاظ صوتية كقوله " طاق في خدي وبف في القنديل " فلفظة " طاق " صوت القبلة، ولفظة " بف " صوت النفخ لإطفاء الشعلة، وكان ابن قزمان يعني أن هذا اللون من التعبير يجعل الزجل أدق في نقل الحياة الواقعية الشعبية؛ ولكنه أثنى عليه أيضاً لاستخدامه الصور المجسمة من مثل " وجا الليل وامتد مثل القتيل "؛ فدل بذلك على امتيازه في قوة التخيل.   (1) اللوحة الثانية من مقدمة الديوان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 508 ولما رأى ابن قزمان أن اللحن عيب مستبشع في القصيد عكس القاعدة، فذهب إلى ان الأعراب يشين الزجل. ولذلك افتخر بأنه جعل ديوانه خالياً من الأعراب: " وعريته من الأعراب؟ تجريد السيف عن القراب " وقال: " والأعراب هو أقبح ما يكون في الزجل وأثقل من إقبال الأجل " (1) وقال أيضاً: " ليس اللحن في الكلام المعرب المقيد أو الموضح بأقبح من الأعراب في الزجل " (2) . وعلى الجملة نستطيع ان نقول إن إحكام ابن قزمان النقدية مستمدة من طريقته، فإذا اعتبرنا أن ابن قزمان أصبح إمام الزجالين في المشرق والمغرب من بعد عرفنا أن أحكامه هذه أصبحت قاعدة عامة، وهو يعتقد لنه بطريقته قد حقق للزجل أن يكون " قريباً بعيداً وبلدياً غريباً، وصعباً هيناً وغامضاً بينا، إذا سمع السامع سباطة أقسامه ومصارعه، همت فترة ان تكون بمشارعه " فإذا حاول أحد أن يحاكيه وجده لا يدرك ولا يلحق وهذه ترجمة لما سماه النقاد في الشعر باسم " السهل الممتنع ". ابن عبد الغفور ونشاطه النقدي ويمثل أبو القاسم محمد بن عبد الغفور الكلاعي وعياً نقدياً بارزاً بين أقرانه لتوفره على التأليف في النقد، فمن كتبه المتصلة بهذا الموضوع كتاب " ثمرة الأدب " وكتاب (الانتصار لأبي الطيب " ورسالته في " إحكام صنعة الكلام "، وهي التي وصلتنا من مؤلفاته؛ وتدل جهود ابن عبد الغفور على أن أبا الطيب وأبا العلاء قد أصبحا مناط أحلام المنادين بمبدأ الجزالة، وان أبا العلاء في مؤلفاته النثرية " لا يضاهي فيها ولا يجازى، ولا يعارض في واحد منها ولا يباري " (3) ، وأن النقاد قد حكموا بأنه لم يكن في صنعة النظم والنثر مثله لا قبله ولا بعده، إلا ما كان من أبي الطيب في الشعر وحده " (4)   (1) اللوحة الأولى. (2) اللوحة الثانية. (3) إحكام صنعة الكلام: 26. (4) المصدر السابق: 131. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 509 أبو الطيب يجد نصيراً في الأندلس وعنوان كتاب " الانتصار " يدل على إن المؤلف وقف فيه موقف الدفاع عن أبي الطيب ويؤخذ من إشاراته إليه انه تحدث فيه كيف كان أبو الطيب ينحو في غزل قصائده إلى غرض مقاصده (1) ، فيوحد بذلك بين موضوع القصيدة وفاتحتها؛ وإنه دافع عنه فيما تعقبه فيه النقاد من مثل قوله: بليت بلى الإطلال إن لم أقف بها ... وقوف شحيح ضاع في التراب خاتمه (2) واتصل حديثه بالكشف عن بعض عيوب أبي تمام، وبإيراد أخبار سيف الدولة، ومن المحقق انه اطلع على شرح ابن جني وما حوته يتيمة الدهر للثعالبي، ولكنا نقدر انه استخدم مصادر أخرى، وبعضها أندلسي؛ وهو يرد على ابن شهيد الذي أشار في " حانوت عطار " إلى أن الاكتفاء بما لا يتجاوز الأربعين بيتاً في القصيدة يعد ضيق عطن، ودافع عن ابي تمام والجعفي (المتنبي) وذهب إلى أن الطول مملول، مخالفاً في ذلك ما تقدم منقول لابن رشيق (3) . إحكام صنعة الكلام وابتكار مصطلح جديد وأما رسالة " إحكام صنعة الكالم " فإنها تتناول النثر بالقواعد والأمثلة، فبعد مقدمات قسم الرسالة في بابين: الباب الأول في الكتابة وآدابها، والباب الثاني في ضروب الكلام وهي: الترسيل والتوقيع والخطبة والحكم والأمثال والمقامة والحكاية والتوثيق والتأليف (وقد أدرج مع هذه التي تعد أنواعاً على الحقيقة فصلاً في المورى والمعمى) ثم انصرف إلى الأسلوب نفسه فاختار السجع وقسمه إلى المنقاد والمستجلب والمضارع والمشكل. ومن هذه   (1) إحكام صنعة الكلام: 67. (2) المصدر السابق: 187. (3) المصدر السابق: 47. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 510 القسمة يتجلى لنا أن وقفة ابن عبد الغفور عند أنواع النثر تعد هامة في تاريخ النثر العربي، لأنه استطاع من موقفه في الزمان أن يحدد الأنواع بدقة ووضوح، وأن ينصرف عن التحدث في أنواع البديع لان غيره قد أشبعها بحثاً؛ وانصرف هو إلى ابتكار مصطلح جديد لضروب النثر: فالترسيل في نظره أقسام منها: (1) العاطل: لقلة تحيته بالأسجاع والفواصل، وهو أصل النثر، إذ التجمل بكثرة السجع طارئ. (2) الحالي: وهو ما حلي بحسن العبارة ولطف الإشارة وبدائع التمثيل والاستعارة وزادت العناية فيه بالسجع دون غلبة لهذا السجع عليه. (3) المصنوع: وهو ما نمق بالتصنيع ووشح بأنواع البديع وحلي بكثرة الفواصل والأسجاع. (4) المرصع: وهو ما رصع بالأخبار والأمثال والأشعار والآيات والأحاديث وجرى فيه حل أبيات القريض. (5) المغصن: وهو ما كان ذا فروع وأغصان بحيث تتم المقابلة فيه متوازية، فمن مقابلة أربع بأربع (ومن السلام سلام وغن لاح جوهراً، ومن الكلام كلام وإن فاح عنبرا) . (6) المفصل: وهو ما تراوح فيه المنثور والمنظوم على التوالي. (7) المبتدع: وهو ما يقرأ فيه كلمات من جهتين وثلاث وربما أربع. وبيننا نجد ابن عبد الغفور يضع قواعد لبعض الأنواع النثرية (كالتوثيق مثلاً) نراه في بعض الأبواب الأخرى يورد مثلة وحسب، كما فعل عندما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 511 عرض للمقامة فهو لم يدرسها، ولم يبين قواعدها ولم يعطنا رأيه فيها. ونصائحه في طريقة الكتابة تشير إلى اهتمام بآدابها وقوانينها الشكلية، وليست ذات قيمة نقدية كبيرة، وأقيم ما في الكتاب من هذه الزاوية مصطلح ابن عبد الغفور في أنواع النثر وألوان السجع، ولكنه لم يتنبه في بعض هذا المصطلح إلى الاضطراب الذي قد ينجم عن استعمال شيء من مصطلحاته في غير ما استعملها. عودة إلى المفاضلة بين الشعر والنثر وقد عاد ابن عبد الغفور إلى القضية التي تمرس بها النقد العربي مدة طويلة اعني المفاضلة بين الشعر والنثر، فانحاز إلى جانب النثر، لان النظم لا يعدو أن يكون فرعاً من المنثور، والنثر أسلم جانباً وأكرم حاملاً وطالباً، وقد ذم الرسول الشعر لان الشعر داع لسوء الأدب وفساد المنقلب، فهو يحمل الشاعر على الغلو والكذب، وهو مطية للتكسب، يحمل صاحبه على خطاب الممدوح بالكاف. ومن الغريب أن يتوصل ابن عبد الغفور إلى عيب الشعر بسب الوزن. فالوزن داع للترنم، والترنم من الغناء، والغناء رقية الزنا، يقضي هذا الناقد في النهاية بان الشعر والنثر متنافران لتنافر طبائع أهلهما، ومع انه يقر بان للشعر الفضل نجده يقول: ذلك قد كان فيما مضى " ولكن القوم غير هؤلاء القوم واليوم غير هذا اليوم " (1) . ولا باس أن نلمح في نقد ابن عبد الغفور قاعدة أخلاقية في النظرة إلى الشعر.   (1) انظر إحكام صنعة الكلام: 36 - 39. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 512 المواعيني والريحان والريعان وممن يمكن التوقف عند بعض محاولاتهم النقدية من رجال القرن السادس (1) أبو القاسم محمد بن إبراهيم ابن خيرة المواعيني (- 564) (2) ، وهو قرطبي سكن اشبيلية وكتب عن أميرها أبي حفص، وله من المؤلفات: كتاب الأمثال، وكتاب الوشاح المفصل، وكتاب ريحان الألباب وريعان الشباب، وهذا الأخير جمع فيه الفنون التي يستمدها من عني بمزاولة المنثور والموزون وجعله في سبع مراتب: في كل مرتبة مراقب وثنايا، فالمرتبة تساوي الكتاب، والمراقبة بمثابة الباب، والثنية بمنزلة الفصل. المرتبة الرابعة في الريحان والريعان ومن مراتبه التي تهمنا هنا المرتبة الرابعة. وهي " مرتبة الفصاحة والبلاغة وجامع في لوازم إنشاء الصناعة ". وقد كان المؤلف درس كتاب البيان والتبيين للجاحظ واعجب به وخطر له أن يختصره، ثم عدل عن ذلك، وألف كتابه هذا لمنفعة المتأدب، وظل اثر البيان والتبين فيه واضحاً؛ إلا انه مطلع على كثير من المصادر المشرقية.   (1) كان من الممكن ان نتصدى لجهود المؤرخ ابي عامر محمد بن احمد السالمي (انظر ترجمته في التكملة: 495 والذيل والتكملة، الورقة: 3 نسخة باريس، وتوفي سنة 559) ، ولكن مؤلفاته لم تصلنا، ومنها: (1) حلية الكاتب وبغية الطالب في الأمثال السائرة والأشعار النادرة. (2) حلية اللسان وبغية الإنسان في الأوصاف والتشبيهات والأشعار السائرات. (3) طبقات الشعراء الإعلام في الجاهلية والإسلام مرتباً على حروف الهجاء إلى عصر المؤلف. (4) منهاج الكتاب. (2) انظر ترجمته في التكملة. 515، وفيها انه توفي في نحو السبعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 513 تباين الألوان أوقع من تقاربها في النفس وقد شرح أولاً نقد الألفاظ المفردة (أي الفصاحة) فوضع لها سبعة شروط منها " أن يكون تأليف اللفظ من حروف متباعدة المخارج متباينة في الأسماع، وعلة ذلك أن الحروف التي هي أصوات تجري من السمع مجرى الألوان التي هي أصوات تجري من السمع مجرى الألوان من البصر، ولا شك ان الألوان المتباينة إذا جمعت كانت في النظر أحسن من الألوان المتقاربة؟ ولا ريب أن الأزهار الربيعية المتفننة الألوان، وصناعة الديباج أجمل من البساط الأغبر أو الأخضر أو من الثوب الناصع المصمت، وهذه علة يقع لكل أحد فهمها وحجة لا يمكن منازعاً جحدها " (1) والشرط الذي ذكره المواعيني قد أورده البلاغيون المشارقة، ولكن التمثيل عله هو الشيء الجديد عنده. ومن الشروط (في فصاحة اللفظة أيضاً) " أن تجد لتأليف اللفظة في السمع حسناً ومزية على غيرها وإن تساويا في التأليف من الحروف المتاعدة، كما انك تجد لبعض النغم والالوام حسناً يتصور في النفس ويدرك بالبصر والسمع والحس، مثال ذلك من الحروف ع ذ ب فغن قدمت بعض هذه الحروف على بعض ذهبت حلاوة الكلمة ولم تجد حسنها على الصفة؛ فإن قالوا فاتونا بكلام يتبين موقع حسنه بلفظ يشف رونقه على غيره، فمثال ذلك مما يختار قول أبي القاسم ابن المغربي من رسالة: فرعوا جميعاً قد تأنفت روضته ورادوا مسرحاً مسحوا عن أعطاف نباته قطر نداه، ونشروا من لباته عقد طله، ف " تأنفت " كلمة لاخفاء بموقعها وحسن موضعها؟ " (2) ويؤكد المواعيني هنا التلاؤم بين اللفظ والمعنى، ولكنك تجده يخرج إلى استطرادات لافتة مثل قوله في أعقاب ذلك: " ولما لم تجد الصوفية كلاماً أهز للنفوس البشرية وأبعث لإطرابها وأبث لأشواقها من أشعار في النسيب ووصف   (1) الريحان والريعان، الورقة 47 - 48. (2) الورقة: 48/ أ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 514 المحبوب، تناشدتها وتفانت على أعراضها وهامت بظواهر ألفاظها، لكنهم يعنون المحبوب الذي لا يوجد منه الاضطراب، ولا الصدود إذا صد الأحباب " (1) . الإجماع لا الشذوذ معاذ الشاعر المولد ويؤمن المواعيني أن الشاعر المولد يجب ألا يشذ عن الإجماع والجماعة، وليس له ان يكسر الشعر ويحتج بأشعار عبيد بن الأبرص ولا أن يزاحف ولا أن يخرم ولا ان يخزم، ويقول: " وأنت ترى أن أهل البديع تحذقوا حتى التزموا لزوم ما لا يلزم، فاوكد عليهم ان لا يتجنبوا الضرائر؛ والكلام النقي الصافي الناصع؟. هو الذي يؤدي المعنى المقصود من غير زيادة ولا إخلال ولا حشو ولا فصول؛ وثم لطيفة هي روح التحبير وهي ان يكون اللام كثير الرونق والمائية والنعمة " (2) . لقد كان الشعر آخذاً بالتشدد وعدم التسامح في شئون الزحاف، كما كان ينتحل قيوداً جديدة من البديع، ولذلك أدرك المواعيني أن التساهل ناب عن طبع العصر، ولم يعد الناس يقبلونه. تمثيل الكلام بالصنائع فإذا توصل إلى الحديث عن الكلام المؤلف، جاء بتمثيل من الصنائع فذكر أن كل صنعة تحتوي على خمسة أشياء: الموشوع - كالخشب، والصانع - النجار، والصورة - وهي الشكل المخصوص إن كان المصنوع كرسياً، والآلة - المنشار والقدوم، والغرض - وهو المقصود من الكرسي: فإذا كان تأليف الكلام صناعة وحب اعتبار الأقسام الخمسة فيه، فالموضوع هو الكلام، والصانع هو المؤلف ناثراً كان أن ناظماً، والصورة كالفصل من كتاب والبيت من الشعر، والآلة: هي طبع المؤلف للكلام، والعلوم   (1) الورقة: 48/ ب. (2) الورقة: 51 ب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 515 المؤدية لطبعه، وأما الغرض فبحسب الكلام المؤلف، فإن كان مدحاً جاء الحديث عن جلالة الممدوح ورفعه إلى مصاف النجوم. وغن كان هجواً فبالضد؛ ومن الدليل على أن المواعيني لم يدرك من التمثيل إلا صورته الخارجية أنه لم يستغله - على نحو منطقي واضح - في دراسة كل عنصر منه على حدة، فهو لم يدرس الشاعر أو الناثر ولم يدرس كيف تجتمع الآلة من طبع المؤلف، ومن العلوم المؤيدة لذلك الطبع، واخطأ في فهم الغرض الكلي للشعر أو دراسة مهمته من جميع النواحي. أطيب الشعر أكذبه، والفرق بين الخطابة والشعر ويردد المواعيني رأي أهل المذهب القائل بان " أطيب الشعر أكذبه " (ويضيف: في غالب الأمر) ؛ أما الخطابة فإنها تختلف عن الشعر فهي أكثر اقتصاداً وأذهب في سبيل التحقيق، وإن كانت لا تخلو من الفخامة وإبراز الصورة. عيوب الكلام التي يجب اجتنابها وفي تأليف الكلام لابد من تجنب المعاظلة، وان يضع الأديب الألفاظ في مواضعها دون تقديم وتأخير يؤديان إلى فساد الكلام أو اضطراب إعرابه، كقول المتنبي: وفاوكما كالربع أشجاه طاسمه ... بان تسعدا والدمع أشفاه ساجمه وان لا يكون الكلام مقلوباً كقول الفرزدق " رفعت لناري " يريد " رفعت له ناري ". وأن يتجنب الحشو، وألا يستعمل في المدح ألفاظاً تستعمل في الذم كقول أبي تمام " ما زال يهذي بالمكارم ... "؟ إلى أن تبلغ شروط التأليف سبعة، وهو عدد الشروط في اللفظة المفردة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 516 وليست تهمنا هنا تلك الفصول التي استوعبت نماذج كثيرة من الخطب وحديثاً عن أدوات الكاتب وصفاته وأحكام صنعته. وأسماء المشهورين من الكتاب. ووصف الخط والأقلام والدواة والحبر مما يشغل حيزاً كبيراً في المرتبة الرابعة يعود بعده إلى الحديث عن مرتبة نظام القريض. فيورد أقوال المتقدمين في قيمته وأهميته ويقف عند قوله تعالى " وما علمناه الشعر وما ينبغي له ". وعند قوله: " وانهم يقولون ما لا يفعلون "، فيعلق بقوله: " ومثل هذه المبالغات المحالية والدعاوى الانتخالية مثل قولهم: قالت لي وقلت لها فيمن لم يكن رآها قط أو كلمها، فمن صدق هذا واتبعه فقد غوى " (1) . التأثير يتم بالتلازم بين الموضوع ونفسية السامع وتأثير الشعر في رأي المواعيني إنما يتم بسبب التلاؤم بين الموشوع ونفسية السامع. كالمدح في حال المفاخرة والمنافرة، والهجاء في حال المنابذة. والنسيب في حال شكوى العاشق واهتياج شوقه ولوعته، " فإذا واقعت هذه المعاني هذه الحالات تضاعف حسن موقعها عند مستمعها؛ ومن ثم يكون الشعر سبباً في تحريك المشاعر المتشابهة وإثارتها، فيحترق العاشق ويشرف الجواد ويمرح المسرور ويترح الحزين (2) . ولا جديد عنده في قسمة الشعراء إلى مطبوع ومثقف متكلف أو في الحديث عن البديهة والروية، أو عن الجزالة الأعرابية والليونة الحضرية. وهو يرى الجمع المتوسط بين الجزالة والرقة (3) ، كأنه كان يرجو التوفيق بين المذهبين المتباعدين في الأندلس.   (1) الريحان والريعان: 112/ أ. (2) انظر الورقة: 120. (3) انظر الورقة: 122. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 517 شعر لا يربطه بالشعر إلا الوزن ونقف عند تمييزه لنوع أخرجه ابن حزم من حد الشعر، إذ يقول المواعيني: " ومن الشعر نظم خبر أو تقرير حجة أو ذهاب مع مقاصد الشريعة أو تخليد كلمات حكمة، وغنما سمي شعراً بالوزن وإلا فالخطبة أولى الأسماء به " (1) وهذا حكم جميل، يدل على أن النقاد كانوا أشد وعياً لمعنى الشعر مما نظن. أقسام الشعر - قسمة غريبة وقسمته للشعر لا تتناول أغراضه وفنونه بل تتناول طبيعة التعبير فيه، فمن أقسام الشعر: 1 - الشعر المتين الصلب. 2 - الشعر الغامض كشعر العتابي وابن نباتة والهذليين. 3 - الشعر الرطب السهل كشعر البحتري وأبي العتاهية وعمر، وهو المطمع الممتنع. وينفذ المواعيني إلى إفراد أبي نواس وابن الرومي بشيء يتفوقان فيه على كل شاعر سواهما، فالطبع للحسن (أبي نواس) والبراعة لابن الرومي (راجع ابن حزم) يجعلان أشعارهما " إذا قيسا بالشعراء كما قيل في عقل إياس والحجاج في العقلاء " (2) . غثاثة الشعر الرطب وخاصة عند الزجالين ويرى المواعيني - ورأيه غريب - ان الشعر السهل الرطب قد ينزل عن حده فيصبح غثاً " مثل أشعار كثرت في زماننا هذا من أقوال للبطليين (؟) والاميين على طريقة التوسع (؟) الذي يسمى الازجال، وهي معان شعرية   (1) انظر الورقة: 123. (2) الورقة: 127/ أ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 518 بألفاظ عامية لإفهام الجهال؛ ولقد أنشد بعض علية الكتاب شعر زجال، ويعد في شعراء الخواص، وهو قوله: يمسك الفارس رمحاً بيد ... وأنا أمسك فيها قصبه فكلانا بطل في حربه ... عن الأقلام رماح الكتبه فقال: وإلى الآن إنما نحن من شعره في زجل " (1) (يريد صوتاً لا يفهم) . وهذا النص هام لأنه يظهر جانباً آخر من الذوق الأندلسي غير الذي عرفناه عندما تحدثنا عن ابن قزمان؛ ولا ريب في أن اعتبار الزجل من الشعر الذي نزل من السهولة إلى الغثاثة إنما يعد خطأ في التصور والحكم؛ ولكن السهولة التي توخاها ابن قزمان قد أتاحت للنقاد المحافظين أن يصدروا مثل القول. تفاوت الشعراء: نعم تفاوت الشعر لشاعر واحد متغرب ويقر المواعيني أن تفاوت الشعراء أمر طبيعي ولكنه يتعجب من أن يكون لشاعر واحد تارة شعر مستغلق وتارة منيسط، ويقول: " ولا أدري فائدة لغامض المعاني والألفاظ إلا لمعنى سبر إفهام الناس، أو أن يدل الشاعر على اتساع موارده واحتفال حفظه لكلام العرب ولغاتها شعيرها وغريبها " (2) . إتكاؤه على ابن طباطبا وابن المعتز وقدامة والحاتمي فإذا تحدث عن تسهل الشعر وتصعبه بين حين وحين نقل كل ما جاء عند ابن قتيبة، وإذا تحدث عن الأشعار الرصينة والمموهة والمستكرهة، أو شبه بعض الشعر بالقصور وبعضه بالخيام المتقوضة، وإذا نص على أن عيار الشعر أن يعرض على الفهم الثاقب كما تعرض المحسوسات على الحواس المختلفة، فلذلك كله منقول من " عيار الشعر " لابن طباطبا. وبعد أن يورد   (1) الورقة: 127/ ب. (2) الورقة: 129. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 519 نماذج من جيد الشعر يتحدث عن أنواع البديع - متبايناً ابن المعتز وقدامة والحاتمي وغيرهم - من استعارة وتشبيه وتمثيل وتكافؤ وطباق وتجنيس وتقسيم ومقابلة وتوشيح وتسهيم وترديد وتصدير واستثناء واستطراد وتصريع وترصيع ومبالغة وإيغال وغلو وإغراق وقلب ونظم المنثور ونثر المنظوم. الموشح من الوزن المركب، وجماله في سهولة النظم وتحدث من بينها عن قسم سماه الوزن المركب؛ ثم قال " ولعل الملاعب والتوشيح فيما أخالها من هذا المقصد المركب " ثم مثل على غريب التوشيح بموشحه لعبادة بن ماء السماء: بأبي ظبي حمى ... تكنفه أسد غيل يستبي لبي بما ... يعطفه إذ يميل " وهي من ستة أبيات، فتأمل أيدك الله إحكام نسجه وإتقان نظمه - أربع تضمينات في كل غصن؟ وفي الخرجات (ست) تضمينات في كل بيت ثمانية عشر بيتاً وأكثرها سهل، وليس هذا من قصدنا وإنما ذكرنا منها هذه النكتة لكونها مسندة من تلقاء بعض شيوخنا، ولأنها فذة في نظمها، وتنظيمها سهل مكين فغصونها لا تكاد تشعر بها " (1) ؛ وهذا النص القيم في التعليق على شكل الموشح، وعده من الوزن المركب، يفيدنا حقائق أخرى في المصطلح، فالمواعيني لا يستعمل كلمة " قفل " وإنما يضع بدلها كلمة " غصن " ثم يستعمل كلمة " الخرجات " للدلالة على ما يسميه غيره " الأغصان ". ولو ان المواعيني لم يكثر النقل والتلفيق من الكتب المشرقية لكان في مقدوره من خلال تمثيلاته وصوره، ومعرفته بطبيعة الأندلس ورقة ذوقه   (1) الورقة: 147 - 148. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 520 ان يكون ذا مكانة أوضح في تاريخ النقد الأدبي، ولكنه لم يسمح لشخصيته إلا بشيء يسير من الاستقلال والتفرد. ابن رشد وكتاب الشعر ويبدو أن الأندلس لم تعرف " كتاب الشعر " قبل ابن رشد (- 595) سوى التماعات يسيرة لعلها جاءت بالواسطة؛ فأما حين تناول ابن رشد هذا الكتاب فإنه جرى فيه على غير ما وجدناه عند الفارابي وابن سينا. هذان تهيبا الكتاب على تفاوت فيما بينهما؛ أما ابن رشد فإنه رأى أن الكتاب لا يمكن أن يكون ذا جدوى للقارئ العربي إذا هو لم يطبق ما يمكن تطبيقه من آراء أرسطو على الشعر العربي؛ كانت مهمة الشارح المبسط تدفعه إلى ان يجعل الكتاب واضحاً مفهوماً ذا فائدة عملية، بحيث لا يبقى غريباً عن النقد العربي. خروج الشعر العربي عن مفهوم الشعر لدى اليونان وكان يعلم حق العلم أن كثيراً من قوانينه خاص بأشعار اليونان، أو بأشعار " الأمم الطبيعية "؛ وكان يدرك أن الشعر العربي يبتعد عن مدح الفضائل، وأن ما فيه منها إنما يجيء مجيء الفخر بها لا بالحث عليها، ويوافق الفارابي في قوله: إن أكثر أشعار العرب إنما هي في النهم والكريه (1) . فالنسيب عند العرب حث على الفسوق " ولذلك ينبغي أن يتجنبه الولدان، ويؤدبون من أشعارهم بما حث على الشجاعة والكرم " (وهما الفضيلتان الوحيدتان اللتان يتحدث عنهما الشعر العربي بطريق الفخر لا الحث) (2) . ويقول في موضع آخر: " إذ كانت مدائح الفضائل ليس توجد في أشعار العرب، وإنما توجد في زماننا هذا في السنن المكتوبة " (3) ؛ وكان يدرك كذلك أن قوانين النقد   (1) فن الشعر: 205. (2) المصدر نفسه. (3) فن الشعر: 220 وانظر ص 245 " ومحاكاة هذا النوع من الوجود (يعني أحوال المتقدمين في فن الملاحم " قليل في لسان العرب، وهو كثير في الكتب الشرعية ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 521 التي تداولها العرب لا تمثل إلا شيئاً يسيراً بالنسبة إلى ما وجد في كتابي الخطابة والشعر لأرسطو - مردداً بذلك قول الفارابي (1) -؛ وهو يؤكد القول بان كتاب الشعر نفسه ناقص لم يتكلم فيه أرسطو إلا عن صنف المديح وانه وعد بالتكلم في صناعة الهجاء، وإن كان من الممكن استنباط قوانين صناعة الهجاء إذ كانت الأضداد يعرف بعضها ببعض (2) . المديح والهجاء - التراجيديا والكوميديا وواضح أن ابن رشد يعني بالمديح فن المأساة (التراجيديا) وبالهجاء فن الملهاة (الكوميديا) وأنه يعيد استعمال المصطلحين كما وردا عند أبي بشر متى، لا كما ورد عند ابن سينا؛ ولكن شرحه لا يدل على انه عرف هذين الكتابين، فهو يشير إلى الفارابي، وليس ما يشير إليه مما ورد في " قوانين صناعة الشعر "، ولابد أن نفترض أن الفارابي قد تحدث عن الشعر حديثاً مسهباً بالاعتماد على كتاب ارسطو، وان هذا الكتاب الذي وضعه الفارابي كان معتمد ابن رشد. عدم فهمه للمحاكاة وقد كانت الغاية التي وضعها ابن رشد نصب عينه هي السبب في انحرافه بعيداً بمدلولات كتاب الشعر، فهو لم يختر المصطلح الخاطئ (كالمدح والهجاء) اعتباطاً، وغنما اختاره لأنه اقرب إلى الربط بالشعر العربي، وهو لم يكتف باختيار المصطلح الخاطئ، وإنما انحرف بالمعاني والمدلولات، لكي يسوق أمثلة تقربها إلى القارئ، ولعل أكبر خطأ وقع فيه هو انه لم يفهم المحاكاة، كما فهمها الفارابي وابن سينا، فظن المحاكاة " وجهي التشبيه " في الصورة، فقال " وأصناف التخييل والتشبيه ثلاثة: اثنان بسيطان وثالث مركب منهما، أما الاثنان البسيطان فأحدهما تشبيه شيء بشيء وتمثيله به،   (1) فن الشعر: 250. (2) المصدر نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 522 وذلك يكون في لسان بألفاظ خاصة عندهم مثل كأن وأخال، وما أشبه ذلك في لسان العرب وهي التي تسمى عندهم حروف التشبه، وإما أخذ الشبيه بعينه بدل الشبيه، وهو الذي يسمى الإبدال في هذه الصناعة وذلك مثل قوله تعالى " وأزواجه أمهاتهم " ومثل قول الشاعر " هو البحر من أي النواحي أتيته ". " وينبغي أن تعلم أن في هذا القسم تدخل الأنواع التي يسميها أهل زماننا استعارة وكتابة؟ " وأما القسم الثاني فهو أن يبدل التشبيه مثل أن تقول: الشمس كأنها فلانة أو الشمس هي فلانة؟ ومن العكس قول ذي الرمة " ورمل كأوراك العذارى "، والصنف الثالث من الأقاويل الشعرية هو المركب من هذين " (1) ؛ وحين تصبح المحاكاة هي عملية التشبيه الجزئي في رسم صورة، تصبح درجات المحاكاة (وهي تصوير الناس أحسن مما هم عليه أو أسوأ أو كما هم بالضبط) درجات للتشبيه نفسه، فالتشبيه يكون للتحسين أو التقبيح أو المطابقة (2) . الخطأ يجر إلى خطأ آخر من طريق المصطلح وبعد أن سمى ابن شد ما يعرف عندنا اليوم بالعقدة باسم " القول الخرافي " وسمى جزءي الانقلاب والانكشاف باسمي " الإدارة والاستدلال " عاد يسمي هذا القول الخرافي محاكاة " فالمحاكاة البسيطة هي التي يستعمل فيها أحد نوعي التخييل؟ اعني النوع الذي يسمى الإدارة - أو النوع الذي يسمى الاستدلال، وأما المحاكاة المركبة فهي التي يستعمل فيها الصنفان جميعاً " (3) وعرف الإدارة (الانقلاب أو التحول) بأنها: محاكاة ضد المقصود مدحه؛ والاستدلال (الانكشاف) محاكاة الشيء فقط. فخرج عن مدلول ابن سينا ومصطلحه وقد كان اقرب إلى الأصل؛ ذلك أن ابن   (1) فن الشعر 201 - 203. (2) انظر فن الشعر 204 - 206. (3) فن الشعر: 216. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 523 سينا قد قال: وأجزاء الخرافة جزءان، الاشتمال وهو الانتقال من ضد إلى ضد؟ وكان يستعمل في طراغوذياتهم في أن ينتقلوا من حالة غير جميلة إلى حالة جميلة بالتدريج؟ والجزء الثاني: الدلالة، وهو ان يقصد الحالة الجميلة بالتحسين " (1) . حقاً إن ابن سينا ليس دقيقاً، ولكن ابن رشد أبعد منه كثيراً عن نص ارسططاليس. وقد زاد ابن رشد بعداً انه اخطأ معنى " الاستدلال " فظنه الحالة العقلية التي تتمكن من استقراء الأدلة فقال: " وهذا النوع من الاستدلال الذي ذكره هو الغالب على أشعار العرب، اعني الاستدلال والإدارة في غير المتنفسة (من الأشياء) وهو مثل قول أبي الطيب: كم زورة لك في الأعراب خافية ... أدهى وقد رقدوا من زورة الذيب أزورهم وسواد الليل يشفع لي ... وانثني وبياض الصبح يغري بي فإن البيت الأول هو استدلال والثاني إدارة، ولما جمع هذان البيتان صنفي المحاكاة كانا في غاية الحسن " (2) فأين هذا الحديث عن معنى الإدارة؟ أي التحول في مقدورات بطل المأساة - والاستدلال - أي وجود علائم تنكشف بها حقائق كانت خافية في طبيعة المأساة ويتبع ذلك تحول في الشعور بالكره أو الحب نحو شخصيات المسرحية؟ البطل المسرح عنده هو الممدوح وحين تحدث عن الشخصية (مجموعة الخصائص التي تكون في الفرد) سماها " العادات " وجعل شخص البطل المسرحي هو " الممدوح " وربط ما يطلبه ارسطو من مواءمة بين تصوير شخصيات أعلى من المستوى العادي وبين المحافظة على درجة من الواقعية - ربط ذلك بان الشاعر يصور كل   (1) فن الشعر: 179. (2) فن الشعر: 216. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 524 شيء بحسب ما هو عليه حتى يحاكي الأخلاق والنفس، ومثل على ذلك بقول أبي الطيب: أتاك يكاد الرأس يجحد عنفه ... وتنقد تحت الذعر منه المفاصل يقوم تقويم السماطين مشيه ... (1) إليك إذا ما عوجته الأفاكل صرف الاستدلالات إلى معنى التشبيه أما حين تحدث عن أنواع الاستدلالات (الانكشافات) فإنه ابتعد فيها عن نص ارسطو ابتعاداً كلياً، فزعم أنها أنواع، منها: (1) مجيء المحاكاة لأشياء محسوسة بأشياء محسوسة؟ " وجل تشبيهات العرب راجعة إلى هذا الموضع، ولذلك كانت حروف التشبيه عندهم تقتضي الشك ". (2) مجيء المحاكاة لأمور معنوية بأمور محسوسة كقولهم في المئة: إنها " طوق العنق " وهذا كثير في أشعار العرب، وما كان منها غير مناسب في أشعار الحدثين فيجب أن يطرح كقول أبي تمام " لا تسقني ماء الملام "، كلك يطرح التشبيه بالخسيس ويكون الأشياء الفاضلة؛ ومن التشبيه الخسيس قول الشاعر في تشبيه الشمس " كأنها في الأفق عين الأحول ". وهناك أشعار هي في باب التصديق والإقناع أدخل منها في باب التخييل كقول أبي الطيب: " ليس التكحل في العينين كالكحل ". (3) المحاكاة بالتذكر، وهو مثل قول متمم بن نويرة: وقالوا أتبكي كل قبر رأيته ... لقبر ثوى بين اللوى والدكادكك فقلت لهم إن الأسى يبعث الأسى ... دعوني فهذا كله قبر مالك ومنه ما جاء في شعر العرب من ذكر الطيف، وتصرفهم فيه كثير التفنن.   (1) فن الشعر: 222. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 525 (4) أن تكون المحاكاة بذكر شخص شبيه بشخص آخر من ذلك النوع، مثل قول امرئ القيس " وتعرف فيه من أبيه شمائلا ". (5) ما يستعمله السوفسطائيون وهو الغلو الكاذب كقول أبي الطيب: عدوك مذموم بكل لسان ... ولو كان من أعدائك القمران. وهذا كثير في أشعار العرب غير موجود في القرآن الكريم لأنه ينزل من الشعر منزلة الكلام السوفسطائي من البرهان. (6) هذا النوع يستعمله العرب وهو إقامة الجمادات في مخاطبتهم مقام الناطقين كقول المجنون: وأجهشت للتوباد لما رأيته ... وكبر للرحمن حين رآني فقلت له أين الذين عهدتهم ... حواليك في أمن وخفض زمان فقال مضوا واستودعوني بلادهم ... ومن ذا الذي يبقى على الحدثان منه مخاطبتهم الديار والأطلال ومجاوبتها (1) . ومن عرف ما قاله أرسططاليس عن أنواع الاستدلال (الانكشاف) وهي: الانكشاف بالإشارات والعلامات المرئية (كالجروح والعقود) والانكشاف المتعمد، والحادث بواسطة الذاكرة (حين تهيج الذكرى مثلاً بعولس فيبكي فينكشف حاله) والانكشاف الحادث بطريق الاستنتاج وكلها تدل على التعرف إلى حال الشخص الذي تدور حوله القصة - من عرف ذلك كله أدرك أن أبن رشد قد نقل المعاني إلى مجالات أخرى، وقياساً على ذلك زاد من عنده عليها أشياء لا صلة لها بالمعنى الذي يريده مؤلف " كتاب الشعر ".   (1) فن الشعر: 222 - 229. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 526 الحل والربط في المسرحية هما حسن التخلص كذلك نقل الحل والربط في المسرحية عن حقيقتهما حين فهم منهما أن الربط يشبه البيت الرابط بين الغزل والمدح أي بيت التخلص، وأن الحل هو عدم إيراده والاكتفاء بقول: " دع ذا " و " عد عن ذا " (1) . مثال من الشعر البطولي عند العرب أما الشعر البطولي فقد أقر بأنه قليل في لسان العرب، ولكن أورد عليه قول الأسود بن يعفر: ماذا أؤمل بعد آل محرق ... تركوا منازلهم وبعد أياد وهي قصيدة يتحدث فيها عن فناء الأمم الماضية (2) . وقد كان السبب الأكبر في خطأ أبن رشد أنه لم يفهم معنى المحاكاة حين ظنها التشبيه. وحيثما وقع الحديث عنها عاد إلى التمثيل عليها بالتشبيهات المستمدة من الشعر العربي، وزاده إمعاناً في ذلك إن النماذج التي يمثلها كتاب أرسطو لا وجود لها في ذهن أبن رشد، فانساق مع المصطلح حسب مدلوله الظاهري؛ فكان شديد البعد عن النظرية الشعرية الأرسططاليسية. تأثره بأفلاطون حتى هذا الحد رأينا أبن رشد في نطاق التأثير الأرسططاليسي، يلخص ويفسر؛ وقد كان لابد له وقد لخص جمهورية أفلاطون من أن يتعرض لرأي ذلك الفيلسوف في الشعر وصلته بمنهاجه التربوي في نطاق الجمهورية. وما يزال تلخيصه للجمهورية - في صورته باللغة العربية - مفقوداً إلا أن الأيام قد احتفظت منه بترجمة عبرية قام بها صموئيل بن يهوذا المرسيلي وترجمها الأستاذ إ. روزنتال إلى الإنجليزية، ويقع هذا التلخيص في ثلاث مقالات يرد فيها الحديث عن الشعر في المقالتين الأولى والثالثة: فيقرر   (1) أنظر: 231. (2) أنظر: 245 - 246. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 527 ابن رشد أولاً متابعاً لأفلاطون أن المحاكاة كانت تتم لدى الأقدمين بالصوت والشكل (الصورة) ثم تحولوا إلى المحاكاة بالكلمات إذ هذا النوع من المحاكاة أكثرها مناسبة لفن الشعر، ويعلق أبن رشد على هذا قائلاً " وغالباً ما يتبع الشعراء العرب هذه الطريقة الأخيرة في المحاكاة أي المحاكاة التي تتم عن طريق الكلمات " وبعد أن يورد رأي أفلاطون في إبعاد حماة الجمهورية (Guardians) عن المحاكاة جملة إذ الإنسان منوط باستكمال فعالية واحدة في تلك الجمهورية، يميز بين أنواع القابليات فيقول إن بعض الناس مهيأون بالطبع لإجادة " الهجاء " Satire بينما آخرون مهيأون للرثاء فقط كما روي عن أبن العجاج (1) الذي كان يستطيع أن يمدح فقط ولا يستطيع أن يهجو. وبما أن المحاكاة تصبح طبيعة ثانية فإنه لابد أن يمنع " الحماة " من محاكاة أعمال النساء وأصواتهن في مختلف شئون الحياة ولا أن يحاكوا الدباغين أو غيرهم من ذوي الحرف؟. وهنا يعلق أبن رشد بقوله: " قلت: لابد من أن تستبعد القصائد التي تجري على سياق ما عرف لدى العرب من وصف هذه الأمور ومن محاكاة أمور مماثلة لها " (2) . ويشفع ذلك بقوله: " لكل هذه الأسباب ليس من المناسب أن نسمح للشعراء في هذه الجمهورية بمحاكاة كل شيء، لأسباب عدة، أولها أن عمل المحاكي يجيء حسناً إذ أقتصر المرء على المحاكاة ضمن مقولة واحدة كما هي الحال في الفنون والصنائع، وثانيها أنه ليس من اللائق أن نسمح بمحاكاة الأشياء الحقيرة أو محاكاة ما ليس له تأثير (؟) (3) على قبول الأمور ورفضها كما هي الحال لدى كثير من القصائد العربية، التي يعد وجودها في الجمهورية بوصف حكايات النساء (؟) وطريقة تحسينها وبعامة القيم الأخلاقية " (4) .   (1) في الأصل: ابن Tahas والاسم محرف، وقد روي عن العجاج أنه لم يكن يهجو (الشعر والشعراء: 37) . (2) أنظر Averroes Commentry ص: 131 - 133. (3) ما وضعنا بعده علامة استفهام فهو غامض أو مضطرب في النص الأصلي. (4) المصدر نفسه: 133. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 528 وحين تحدث أفلاطون عن الحكم القائم على الطغيان بطريقة خاصة، أفاد أبن رشد أن حديثه على هذا النحو إنما جاء كلك لأنه رأى قصائد تمدح الطغاة، ثم أردف لك بقوله: " وقد رأيت كثيراً من الشعراء وممن نشأوا في تلك الدول يؤثرون هذا النوع من الحكم، يظنونه الهدف الأسمى وأن في روح الطغيان تفوقاً وهم ينصاعون لذلك الحكم " (1) . لعل أبن رشد لم يضف شيئاً كثيراً هنا إلى ما قاله أفلاطون، ولكن ارتباط ذهنه دائماً بالواقع في الشعر العربي مما يلفت النظر، سواء أكان ذلك في تفسيره لكتاب الشعر أو في تعليقاته على ما جاء في الجمهورية، وقد كان في كل ذلك خاضعاً لمنهجه العام، وهو ربط الآراء الفلسفية بما يجده في الواقع عامة، لا في الشعر وحده، ولهذا تجده يبارح التلخيص في الجمهورية مثلاً ليربط بين ما يقوله أفلاطون وما يعرفه من واقع عصر المرابطين في السياسة (2) أو مما صنعه أبن غانية (3) . وهو في كشفه لنقائص الشعر العربي بالنسبة للجمهورية يعيد الموقف الذي وجدناه عند مسكويه " (4) .   (1) المصدر نفسه: 243. (2) يقول ابن رشد: إنك تستطيع أن تدرك هذا من الحكم الديمقراطي الموجود في عصرنا لأنه كثيراً ما يتحول إلى طغيان، خذ مثلا الحكم في بلدنا قرطبة بعد الخمسمائة، إذ كان ديمقراطياً تماماً لكنه بعد 540 تحول إلى طغيان (أنظر ص 235) . (3) يقول ابن رشد ما خلاصته إن الطاغية يشتبك في الحروب المستمرة لكي يستطيع السيطرة على أملاك شعبه، لأنه يظن أنه إن أبتز ما في أيديهم من ممتلكات لم يستطيعوا خلعه إذ يكونون مشغولين بأنفسهم ويطلب القوت يومياً مثلما حدث لأهل إقليمنا مع الرجل المعروف بأبن غانية (المصدر نفسه) وبنو غانية كانوا من المرابطين الذين أقلقوا الموحدين ولعل المشار إليهم منهم وهو يحيى بن غانية (أنظر التعليقات: 295) . (4) أشار الأستاذ روزنتال إلى ذلك (أنظر التعليقات: 260) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 529 طرح النقاد بعد أبن رشد جانب الأخلاق وتمسكوا بالموقف الدفاعي ومع أن أبن رشد حاول أن يجعل لكتاب الشعر فائدة عملية، لدى كل من الشاعر والناقد، فإن أكثر الذين تحدثوا عن قضايا الشعر من الأندلسيين في القرن السابع لم يلتفتوا إلى ما صنع، وغلبت عليهم نزعة التأريخ الأدبي القائم على التصنيف أولاً ثم على قاعدة بسيطة من النظر النقدي؛ وبما أن أكثرهم هاجروا من موطنهم إلى بلاد أخرى فإن النزعة الدفاعية عن الأندلس وأدبها استقوت لديهم، كما قوي إحساسهم بالفوارق القائمة بين الشعر الأندلسي والشعر في الأقطار الأخرى، فهم من هذه الناحية استمرار للتيار الذي بدأه أبن حزم وتابعه فيه أبن بسام، ولكنهم طرحوا النظرة الأخلاقية جانباً وتعلقوا بنظرة فنية قائمة على تذوق " الصورة الشعرية ". الشقندي ورسالته في المفاضلة بين الأندلس والمغرب وفي طليعة هؤلاء أبو الوليد إسماعيل بن محمد الشقندي (1) (- 629) ولم يكن من المهاجرين، ولكن إثارة المقارنة بين الأندلس والمغرب في الشعر والمآثر عامة هي التي حفزته إلى وقفته الدفاعية. فقد تنازع مع أبن أبي يحيى أبن المعلم الطنجي حول أي العدوتين أفضل، في مجلس أمير سبتة أبي يحيى أبن أبي زكريا، فطلب الأمير إليهما أن يعمل كل واحد منهما رسالة في تفضيل بره؛ فكتب الشقندي رسالة أفتخر فيها بعظماء الملوك والعلماء والمؤرخين والبلاغيين من الأندلس وبالكتب الأندلسية، ثم أخذ يعدد أكابر الشعراء أمثال أبن زيدون وأبن وهبون وأبن دراج، واستشهد بقطع متميزة للأندلسيين بعضها في ذكر الغربة والعفة وجمال التشبيه وصفة الخمرة ووصف الرياض والغزل والهجاء وغير ذلك من موضوعات الشعر، وافتخر ببعض النساء الشواعر، حتى إذا انتهى من ذلك عرج على ذكر الفرسان وشمائل الأندلسيين وفضائل إشبيلية وقرطبة وجيان وغيرها من المدن، فما   (1) أنظر نفح الطيب 4: 177 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 530 يتعلق بالنقد من هذه الرسالة قد سبق في قالب الحمية للدلالة على فضل الأندلس في الشعر؛ وأكثر ما أورده من مقطعات إنما رجع فيه إلى ما استحسنه الأندلسيون واعجب به الذوق العام، وأكثره يعتمد على الصور الجميلة، وليس مما يستقل به ذوق الشقندي أو ما يوشحه بأحكام نقدية صريحة، ولكن دلالة هذه المختارات قوية، فكأن الشقندي قد أورد على أبن المعلم نماذج من الشعر لا يستطيع أبن المعلم نفسه أن ينكر جمالها، كذلك فإن سكوته عن بيان خصائصها يفترض ضمناً أن أبن المعلم - إن كان سليم الذوق - سيدرك خصائصها الفنية دون حاجة إلى توضيح، وعلى هذا تدل النماذج الشعرية التي أوردها الشقندي على شيئين أولهما: طبيعة الذوق المغربي في القرن السابع وثانيهما وحدة هذا الذوق في كل من المغرب والأندلس. الموقف الدفاعي عند أبن دحية وكتاب المطرب وفي هذا الصف الذي يمثله الشقندي يقف أبن دحية الكلبي (- 633) فإنه كتب " المطرب " للملك الكامل الأيوبي ليعرف المشارقة بالشعر الأندلسي والمغربي فجمع في كتابه صوراً من " الغزل والنسيب والوصف والتشبيب، إلى غير ذلك من مستطرفات التشبيهات المستعذبة ومبتكرات بدائع بدائه الخواطر المستغربة؟ الخ " (1) واسترسل في كتابه مع الخاطر، دون تبويب أو ترتيب، ولذا فإنه لم يراع فيه التدرج الزمني. وهو يعلق على ما يختار بتقريظات قائمة على المبالغة، ولكن موقفه الدفاعي واضح في قوله بعدما أورد أبياتاً للغزال: " وهذا الشعر لو روي لعمر بن أبي ربيعة أو لبشار بن برد أو لعباس بن الأحنف ومن سلك هذا المسلك من الشعراء المحسنين لاستغرب له، وإنما أوجب أن يكون ذكره منسياً ان كان أندلسياً، وإلا   (1) المطرب ص: 1؛ ومن الضروري أن نلحظ هنا قوله " بدائع بدائه الخواطر "، ونقرنه بتسمية معاصره المصري ابن ظافر لأحد كتبه باسم " بدائع البدائه "، فهو صورة من اللقاء بين الأندلس ومصر لا من حيث الاهتمام بموضوع واحد وحسب، بل من حيث الالتقاء عند تسمية واحدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 531 فما لها أخمل وما حق مثله أن يهمل؟. هل وصفه إلا الدر المنتظم، وهل نحن ألا نظلم في حقنا ونهتضم؟ يا لله لأهل المشرق قولة غاص بها شوق، ألا نظروا إلى الإحسان بعين الاستحسان، واقصروا عن استهجان الكريم الهجان، ولم يخرجهم الإزراء بالمكان عن حد الإمكان " (1) . وابن دحية ليس من النقاد، وهو مثل الشقندي اعتمد الذوق العام في تدوين ما دونه من شعر؛ ولكن من الطريف أن نجده حين يصف شاعراً بالبراعة في الشعر يقول فيه: " شاعر المغرب الأقصى ومفخره في صناعة المحاكاة والتخييل " (2) فانظر إلى هاتين اللفتين اللتين كانتا من مصطلحات ذوي الثقافة الفلسفية كيف درجتا، حتى ليستعملهما شخص بعيد عن ذلك اللون من الثقافة، وقد مرت بنا اللفظة الثانية منهما عند ابن خفاجة. ابن سعيد يستمر في الموقف الدفاعي ولم يكن نقد ابن سعيد (- 685) سوى حلقة تجمع بين موقف الشقندي وابن دحية، فهو تبنى الموقف الدفاعي مثلهما عن الشعر الأندلسي، وإن كان أقل منهما حدة واكثر مجاملة للمشارقة، واقدر على استيضاح الفروق القائمة بين المشرق والمغرب في العادات والتقاليد والأخلاق لطول تمرسه بالرحلة والتنقل، ولهذا كان نقده يرتكز في البداية: على أن الإنصاف لا يقصر الفضل على مصر دون مصر، كما انه لا يقصره على مصر دون عصر (3) (وكان هذا الشق الثاني من القاعدة قد أصبح تكأة للشق الأول وحسب) ؛ ولهذا كان ابن سعيد أول وصوله إلى مصر والشام معنياً بتعريف الناس فيهما إلى أدب الأندلس، ومن اجل تلك الغاية ألف المغرب في برنامجه ليكون تاريخاً أدبياً للشرق والغرب على السواء، فألف " المشرق في   (1) المطرب: 145. (2) المطرب: 199. (3) عنوان المرقصات: 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 532 حلى المشرق "، وعاد يمزح بين الغايتين في " جامع المرقصات والمطربات " (1) وفي " المقتطف من ازاهر الطرف " و " القدح المعلي في التاريخ المحلي ". الشعر مرقص ومطرب ومراتب دونهما ثم هو يجمع بين ابن دحية والشقندي من وجه آخر فهو يشترك والأول في الوقوف عند نوع من الشعر سمي " المطرب " كان هو النوع الهام الذي يستأثر بإعجاب ابن دحية وبه سمى كتابه " المطرب من أشعار أهل المغرب ". وهو يشترك مع الشقندي في اللون الشعري المفضل، الذي عده الشقندي في رسالته تميزت به الأندلس. ولهذا نجد أن ابن سعيد لا يرى حرجاً في أن يعد المختارات والنماذج التي أوردها الشقندي في رسالته ملكاً له، يوردها للتمثيل على نوع من الشعر سماه " المرقص " ولو أن دارساً قارن الأمثلة التي أوردها الشقندي في رسالته لكل من المعتد وابنه الراضي وابن زيدون وابن دراج واللمائي وأبي حفص ابن برد وابن شهيد وابن اللبانة وابن وضاح وابن الزقاق وابن خفاجة وابن بسام والرصافي وابن حنون (أو حيون) من شعراء الأندلس، لوجد تلك الأمثلة هي عينها التي أوردها ابن سعيد في " عنوان المرقصات والمطربات " ثم أوجد ابن سعيد يكرر هذه الأمثلة في " رايات المبرزين "، فإذا أضفنا إلى ذلك أن للشقندي كتاباً اسمه " ظرف الظرفاء " وأنه من المصادر الهامة التي يعتمدها ابن سعيد عرفنا كم كان الشقندي موجهاً لذوق ابن سعيد (أو إن شئت فقل: لقلمه) في اختيار الشعر الأندلسي، ثم في اختيار الشعر المشرقي قياساً على ذلك.   (1) جامع المرقصات والمطربات: هو كتاب استخرجه من المشرق والمغرب معاً، ثم أعجله عنه الطلب، فاكتفى بأنموذج منه سماه " عنوان المرقصات والمطربات ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 533 الغرابة تخلص من السأم الناشئ عن التكرار وهؤلاء النقاد الثلاثة صورة للذوق الغالب على الأندلس، فمن الواضح أن ابن دحية لم يصنع شيئاً سوى تقييد ما كان طلاب الأدب يعجبون به من أشعار أندلسية على مر الزمن، وربما كانت النماذج التي أوردها الشقندي في رسالته هي أيضاً زاد البيئات الأندلسية في المجالس والحلقات؛ وكلا الرجلين، وخاصة الثاني منهما، سهل على ابن سعيد تناول تلك النماذج؛ وأكبر الظن أن ابن سعيد نفسه وهو الذي جاب الأندلس بصحبة أبيه، كان موجه الخاطر إلى تلك النماذج لا بتأثر من أبيه (الذي كان أكبر موجه له) بل بتأثير من البيئة عامة، وهي بيئة لم يكن ذوقها - من ناحية الأدب - حضرياً وحسب، بل كان قد أصبح " حضرياً متزمتاً " - عن صح التعبير - يطلب تحت وطأة السام جديداً يتعلق به؛ يطلب " الغرابة " وهي إكسير كان يسعى إلى العثور عليه نقاد المشرق منذ زمن بعيد، حين كانوا يحسون بالشبع من تكرار المألوف، ومن تواتر الأشكال المتشابهة، فلا غرابة حينئذ أن يسمي ابن سعيد كتابه الكبير - وهو ميراث عدد من الناس نحوا هذا المنحى - بأم " المغرب ". والغرابة الجدة المصاحبة للابتكار أو الجدة المرافقة لتوليد شيء جديد من أمور لم تعد جديدة، وإذا عثر عليها المتذوق اشتد به الطرب إلى درجة التعبير عنه بالرقص، ولذلك سمى ابن سعيد ما تمتع بالجدة - من حيث الابتكار أو التوليد - باسم " المرقص " وسمى ما دونه مما عليه إثارة من الابتداع لا تبلغ بالمتذوق حد الرقص وإنما تثير في النفس هزة ارتياح ونشوة طرب باسم " المطرب ". ومن الأول ذلك البيت الذي ملك على ابن شهيد - أبي النقد الأندلسي - إعجابه وأسهره حتى استطاع أن يولد منه معنى، وذلك هو قول امرئ القيس: سموت إليها بعدما نام أهلها ... سمو حباب الماء حالاً على حال فليس المرقص هو الشعر القائم على التشبيه بل على " غريب التشبيه " أو غريب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 534 " الصورة " - استعارة كانت أو تشبيهاً أو غير ذلك؛ فهناك تشبيه جميل ولكنه لا يبلغ حد المرقص، وهناك " التشبيهات العقم "، وهي أيضاً شيء غير المرقص - فيما يبدو لان ابن سعيد لا يخلطها به؛ وأما المطرب فمثاله قول زهير: تراه إذا ما جئته متهللاً ... كأنك تعطيه الذي أنت سائله (1) المرقص والمطرب يرجحان الشعر المحدث على القديم ومن درس النماذج التي أوردها ابن سعيد على هذين اللونين من الشعر وجد المرقص والمطرب يترددان معاً في أشعار الجاهلين والإسلاميين والمحدثين - مع غلبة في المطرب على المرقص - وأن الاستشهاد بالمطرب يقل كثيراً في المائة الرابعة (2) ، حتى إذا وصلنا المائة الخامسة والسادسة والسابعة اختفى الاستشهاد بالمطرب، ولم تبق إلا الأمثلة على المرقص؛ وليس معنى هذا أن المطرب لم يعد له وجود، بل إن كثرة المرقص قد أغنت عن إيراده. وفي الشعر بعد هذين النوعين نوع ثالث يسمى " المقبول " وهو ما " لا يكون فيه غوص على تشبيه وتمثيل " (3) . كقول طرفة: ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً ... ويأتيك بالأخبار من لم تزود فإذا كان المقياس هو " الغوص على التشبيه والتمثيل " فمعنى ذلك أن شعر الأقدمين يقل فيه المرقص ويكثر فيه المطرب، ولكن أكثره مقبول أو مسموع (وهو ما لا يأباه الطبع) أو متروك (وهو ما كان قائماً على خشونة ينفر منها الذوق) ؛ وكان اكثر شعر الشعراء في القرون الثلاثة الأخيرة من المرقص والمطرب واقله من المقبول والمسموع والمتروك؛ وهذا يعني حقيقة   (1) راجع نقد ابن شرف القيرواني لهذا البيت في الفصل الخاص به، ولاحظ التباين بين ذوقين. (2) وضع ابن سعيد الشاعر ابن المعتز في المائة الرابعة، وهو وهم أو اضطراب في النسخ. (3) عنوان المرقصات: 5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 535 واحدة وهي المتأخرين للغوص على التشبيهات، وميل الأذواق إلى طريقتهم، وليس إنكاراً للأنواع الأخرى من الشعر نظرياً، غير أنه من الناحية العملية يعني تقديم الأهم على المهم؛ ومن هنا يتبين تجافي الذوق المتنوق عن شعر عمر بن أبي ربيعة لان أكثره في طبقة المقبول (1) ، وعن تشبيهات الأعشى لأنها إعرابية جافية (2) ، وعن شعر علقمة لان معاني الغوص معدومة في شعره (3) ؛ وعن نثر الأقدمين جملة لأنه عار من السجع والصور فهو داخل في درجة المقبول والمسموع والمتروك (4) ، حتى عن نثر الصابي لان معظم ترسله في طبقة المقبول (5) ؛ وبهذا المقياس يرتفع نثر العتبي صاحب " اليميني " والقاضي الفاضل وابن خاقان وابن أبي الخصال لاعتماد نثرهم على السجع والغوص على الصور؛ بل يصبح قول المتنبي: وعدت إلى حلب ظافراً ... كعود الحلي إلى العاطل هو مقياس الإيثار في شعره، ويتضاءل إلى جانبه مثل قوله: ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى ... عدواً له ما من صداقته بد لان الأول غوص على تشبيه فهو من المرقص، والثاني حكمة فهو من النمط المقبول، إذ أكثر الحكم والأمثال من هذا النمط.   (1) عنوان المرقصات: 23. (2) المصدر نفسه: 17. (3) المصدر نفسه. (4) المصدر السابق: 5. (5) المصدر نفسه: 8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 536 المرقص والمطرب انتصار لفكرة المتعة على الفكرة الأخلاقية وفي استعمال هذه المصطلحات الخمسة (المرقص - المطرب - المقبول - المسموع - المتروك) نظر ابن سعيد إلى الشعر من ناحية " التأثير " وحسب، أي نظر إلى فعل الشعر في نفس المتلقي وإلى رد الفعل لديه حين يتلقى الشعر؛ وقصر النظر على هذه الناحية دون سواها، مع استبعاد الأمثال والحكم من باب المرقص والمطرب، وذلك انحياز إلى جانب المتعة في الشعر، وانصراف عما أهتم به النقاد الأندلسيون السابقون من الزاوية الأخلاقية، ونتيجة لذلك انحصرت براعة الشعر (أو براعة الشاعر) في إبراز وجه جديد من القول قائم على الصورة؛ ومن الواضح أن اعتماد " التوليد " صنواً للابتكار هو نظر إلى الشعر من زاوية " قضية السرقات "، وكان ذلك قد أصبح قانوناً للشعر في الأندلس منذ ابن شهيد؛ غير انه من الغريب أن نجد هذا التفاوت في الذوق الأندلسي في فترة واحدة، فبينا يتأخر المتنبي عن شعراء القرون الثلاثة الأخيرة في قدرته على الإبداع التصويري لدى ابن سعيد (وربما لدى المدرسة الاشبيلية كلا) نجده اكبر شاعر في نظر حازم (ابن المنطقة الشرقية في الأندلس) ، وبينا يفوز المتاخرون عند ابن سعيد بقصب السبق في الاختراع والتوليد، نجد حازماً يعدهم نموذجاً لانحراف الشعر عن خطه الصحيح (منذ أكثر من قرنين) . غير انه من الجدير أن نشير إلى أن مقياس ابن سعيد سريع إلى الاختلال عند الفحص، لا من حيث النظرة والذوق لدينا اليوم، بل من حيث شمول النظرة لو حاولها ابن سعيد نفسه، ولهذا نجد اضطراباً داخلياً لدى ابن سعيد في الأخذ بمقياسه، فهو يحب شعر المجنون وقيس بن ذريح وكثير (1) (دون ان تكون صلة ذلك الشعر قوية بالغوص على الصور) وهو يرى في المعري " اشعر من ملك طريق التخييل) (2) ؛ ومرة أخرى يقف الدارس حائراً في تقلب هذا   (1) عنوان المرقصات 23 - 28. (2) رايات المبرزين: 6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 537 الذوق الأندلسي في فترة زمنية قصيرة، فبعد سنوات سنستمع أشياخ ابن خلدون يخرجون المعري - وأستاذه المتنبي - من دائرة الشعر، لأنهما لا يجريان على طريقة العرب، وتلك عودة لا إلى الصورة ولا إلى الحكمة، وإنما هي عودة إلى البحتري، أي إلى جمال الموسيقى (1) . الرندي مصنف مدرسي لآراء النقاد المشارقة وقد كان من الممكن ان نقف قليلاً عند أبي البقاء الرندي (- 685) من أدباء هذا العصر وسعرائه، فقد خلف كتاباً سماه " الوافي في نظم القوافي "؛ ولم يكن الرندي من المهاجرين الأندلسيين فلهذا لم يكن بحاجة إلى الموقف الدفاعي، وكتابه لا يضيف شيئاً جديداً إلى القضايا والآراء النقدية، وإنما هو ذو منحى تعليمي خالص، جمع فيه بين ما جاء في كتاب العمدة وما جاء في الفصل الخاص من " العقد " حول الشعر والشعراء، واستقل بزيادة بعض الأمثلة أو بحشد التقسيمات الواردة في المصادر المختلفة، فليست له قضية نقدية يدافع عنها أو يتبناها، وإنما هو يكتب بصيغة تقريرية خالصة " وقد أوردت في كتابي هذا جملة كافية في صنعة الشعر لمن أحب أن يأخذ بأزراره ويطلع على أسراره ويتفنن في بديعه ويتبين سقطه من رفيعه "، وهو يردد ما قاله معاصروه وكثير ممن سبقهم من أن المتأخر ربما بلغ " بشرف الاطلاع ما لم يبلغ المقدم بفضل الاختراع "؛ وقد نقول إن شعوره بهوان الشعر في عصره هو الذي جعله يتحدث عن فضل الشعر وأن كثيراً من الخلفاء والأمراء قالوه " وهم القدوة "، ولكن   (1) قصرنا الحديث هنا على الأندلس، والواقع أن الذوق في المشرق كان مشابهاً لذوق الأندلسيين، وخاصة في مصر حيث نجد ابن ظافر يؤلف " غرائب التشبيهات " ونرى ابن الأثير يفضل المحدثين على كل من سبق من إسلاميين وجاهلين (وان كان تفضيله لهم قائماً على المعنى) ، وهكذا تبوأ الشعر المحدث مكان الصدارة في الذوق، في المغرب والمشرق على السواء، سواء لما فيه من صور أو لما فيه من معان (انظر الفصل الخاص بالنقد في مصر والشام والعراق) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 538 الأمر لا يعدو ما قاله صاحب العقد قبل قرون كثيرة: فكتاب " الوافي " مثل آخر على مدى تأثير العمدة في النقد في الأندلس. حازم القرطاجني ملتقى الروافد العربية واليونانية جميعاً وربما كانت آخر صلة بين كتاب أرسطو والنقد العربي متمثلة في كتاب حازم القرطاجني " منهاج البلغاء وسراج الأدباء "؛ وحازم ينتمي إلى شرق الأندلس، غير انه غادر وطنه حين سقط بلده في يد الرومس أو قبيل لك وعاش في ظل الدولة الحفصية، وفي مهاجره الجديد كتب كتابه المذكور. الناقد الغريب الضائع يحس بضياع الشعر ولم يكن غريباً على حازم الذي فقد وطنه ان يحس بالضياع، وان ينعكس إحساسه هذا على حال الشعر والنقد في عصره؛ أما الشعر فإنه منذ مائتي عام يعاني خروجه عن مذهب الفحول في الإحكام والانتقاء (1) ؛ وقد تضاءل جمهوره وقل المقبلون عليه، بل أصبح كثير من أنذال العالم - وما أكثرهم - يعتقد أن الشعر نقص وسفاهة، مع أن القدماء كانوا يعظمون صناعة الشعر حتى كانوا يرون في الشاعر كما يقول ابن سينا: نبياً يعتقد قوله وتصدق حكمته ويؤمن بكهانته؛ وغنما تردى الشعر إلى هذه الدرجة من الهوان لعجمة في ألسنة الناس (2) واختلال في طباعهم، ثم رأى هؤلاء ما ركبه الاخساء الذين اتخذوا " الأشباح الشعرية " وسيلة لاستدرار الاعطيات من السوقة، دون أن يعرفوا حقيقة الشعر، ظانين أن كل ما ركب على وزن وقافية يعد شعراً، وضاعت التفرقة بين الشعر الحق وهذا " الشبح "   (1) منهاج: 10. (2) لاحظ كيف جعل ابن خلدون " العجمة في ألسنة الناس " علة في انحدار النثر العربي إلى الناحية الشكلية والإكثار من المحسنات، وذلك تغطية على الفقر في الأفكار والمعاني (انظر الفصل الخاص بابن خلدون) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 539 الذي يرسم صورة الشعر دون حقيقته، واستنكف الذين يعرفون قدر الشعر عن أن يسلكوا أنفسهم في هذه الموجة من الانحطاط الفني، خوفاً من أن يظن الناس أن الفريقين - من النظامين والشعراء - على مستوى واحد، بل لعلهم ظنوهم كذلك، فعاملوهم بنفس القدر من الاستهانة، وشاع بين الناس أن الشعر زور وكذب، جهلاً منهم بحقيقة الشعر أيضاً، أو حسداً للشعراء أدى بهم إلى تنقص الشعر والزراية به، وبهذا لم يفقد الناس تقديرهم للشعر وحسب، بل انهم فقدوا الهزة التأثرية عند سماعه (1) . وبضياع النقد وأما النقد فإنه صناعة سحب عليها الخمول أذياله، ولهذا يحس حازم باليأس من الاستقصاء فيه، لان العناية بالشيء تكون على قدر المستفيدين، وقد اصبح المستفيدون قلة، هذا مع أن " النقد " أو " تعليم صناعة الشعر " أمر لا يستغني عنه عصر من العصور، حتى العرب على ما اختصت به من جودة الطباع في عصور ازدهار الشعر لم تكن تستغني في نظم القصائد عن التعليم والإرشاد، والتنبيه على العيوب وعلى الجهات التي قد تدخل منها. والدليل على ذلك أن كل شاعر ناشئ كان يلزم أحد الشعراء المحنكين، ويتعلم منه قوانين النظم ويتدرب على يديه في شئون البلاغة؛ أما في عصر حازم فإن الذي يريد أن يتقن الفن الشعري يرى أن طبعه يهديه إلى ذلك دون حاجة إلى معلم، فإذا أتقن الكلام الموزون المقفى ظن انه قد أصبح واحداً من الفحول، ذلك لأنه يعتقد " أن الشعرية في الشعر إنما هي نظم أي لفظ اتفق كيف اتفق نظمه، وتضمينه أي غرض اتفق، على أي صفة اتفق، لا يعتبر عنده في ذلك قانون ولا رسم موضوع " (2) .   (1) منهاج: 124 - 126. (2) منهاج: 27 - 28. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 540 المصلح المنتظر ناقد يجمع بين الثقافتين الشعر والنقد كلاهما قد انحدر إلى الحضيض؛ ولابد لهما من امرئ مؤمن بهما معاً ينقذهما من هذا الانحطاط الذي ترديا في مهاويه، وهذا الإنقاذ لا يحسنه إلا ناقد يستطيع ان يجمع بين الثقافتين: العربية واليونانية، فإن الشعر بعد اليوم لا يستطيع أن يعتمد على رجل واحدة، بل لابد له، كما حاول النقاد في العصور السابقة، من رجلين اثنتين، وبدأ حازم من هذا الموقف يرسم الطريق التي يعتقد صحتها، وهو ينطلق من موقف إصلاحي، وإن كنا نحس ان حماسته للإصلاح لم تكن لتخفي عنه " يلقي ترنيمه في أرض غريبة "، وإمامه تراث كبير من النقد القائم على الطريقة العربية، وبين يديه تلخيص ابن سينا لكتاب الشعر، ومن المزاوجة بين هذين التراثين، حاول أن يرسم " منهاجاً " للبلغاء وان يوقد " سراجاً " للأدباء؛ وحين نظر في كتاب الشعر كما لخصه ابن سينا أزداد اقتناعاً بان القواعد اليونانية وحدها لا تستطيع ان تستغرق الشعر العربي، بالحكم والتفسير، وكان ابن سينا نفسه هو الذي أوحى غليه بذلك، ولهذا آمن بان الحكيم أرسططاليس، رغم عنايته بالشعر وكلامه على قوانينه، قصر أحكامه على أشعار يونان، وهي محدودة الأغراض والاوزان، تدور على خرافات موضوعة، يهدفون منها إلى أن تكون أمثلة لما قد يقع في الوجود، ولهم طريقة يذكرون فيها انتقال أمور الزمان وتصاريفه وتنقل الدول، ولكن ليس لديهم تشبيه الأشياء بالأشياء، وإنما لديهم التشبيه بالأفعال لا في ذاتها، ولو أن أرسطو عرف الحكم والأمثال والاستدلالات واختلاف ضروب الإبداع في الشعر العربي لكان بحاجة إلى التوسع في القوانين التي وضعها؛ إذن فالطريق مهيأ أمام حازم ليزيد على ما جاء به أرسطو، وهذا أيضاً من وحي ما اقترحه ابن سينا، فإنه ختم تلخيصه بقوله " ولا يبعد أن نجتهد نحن فنبتدع في علم الشعر المطلق وفي علم الشعر بحسب عادة الزمان كلاماً شديد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 541 التحصيل والتفصيل " (1) . ويبدو أن ابن سينا لم يبتدع شيئاً من عند نفسه في هذا الموضوع، وشغلته عنه ظروفه، فليقم حازم بما قصر فيه أو شغل عنه ذلك الفيلسوف. غير انه - وربما كان هذا من قبيل الحيطة - لم يحاول الاستقصاء إلى النهاية في هذه " البويطيقيا " الجديدة، وإنما ترك أشياء كثيرة مكتفياً بان يعرض الظواهر الكبرى في صناعة الشعر، ثم ما يليها من أمور تقع على عمق غير بعيد عن الظاهر، فأما الدقائق والخفايا، فقد اعرض عنها لعسرها أولاً، ولأنها تتطلب إطالة كثيرة ثانياً، ثم لأن من احكم الظواهر الكبرى وما بعدها من " المتوسطات " استطاع ان يهتدي بنفسه إلى الدقائق والخفايا (2) . اليأس من الحال لم يقلل من الإخلاص في محاولة الانتقاد وحقيقة الحال أن اليأس الذي كان يتسلل إلى حازم بسبب وضع الشعر والنقد في عصره، لم يمنعه من ان يكون مخلصاً في رسم منهجه النقدي، إلا أن قلة ثقته في المستوى الثقافي لأبناء ذلك العصر لم يحفزه على النزول إلى مستواهم، فكتب، منتحلاً خطة كان الشكل الذي اختاره، يناقض الغاية العملية من الإصلاح الذي ارتاه، فذهب جهده صيحة في واد، ولم يستطع أن ينقد الشعر، أو يوجه النقد، ولو أن كتاب حازم ظهر يوم ظهر نقد الشعر لقدامة أو الموازنة للآمدي لكان له - فيما أقدر - في توجيه النقد الأدبي دور آخر.   (1) انظر 68، 69 من منهاج البلغاء. (2) منهاج: 70. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 542 عرض متسلسل لمنهج حازم وفي سبيل الاطلاع على ما قاد به حازم لابد من أن تقيم ترتيباً جديداً للخطوات التي سار فيها، متذكرين في كل خطوة، إن هذا الناقد أسلم نفسه إلى وضع القواعد ولم يحاول التمثيل إلا في النادر، فجاء كلامه نظرياً، ولكنه سلم مما تورط فيه ابن رشد من التباين بين القاعدة والمثال؛ وقد نمر أثناء إعادة الترتيب على أمور لها ما يشابهها عند النقاد الآخرين، ولكن الرغبة في الكشف عن " التصور الكلي " لمنهج حازم يجعلنا نتغاضى عن هذا التكرار. ما هو الشعر لم ينف حازم أن الشعر كلام موزون مقفى (1) ، ولكنه وقف من هذا التعريف عند ناحية التأثير أي فعل الشعر في التحبيب والتنفير، وذلك لأن الشعر يعتمد على عناصر تكفل له هذه القدرة منها: حسن التخييل أو المحاكاة أو الصدق أو الأغراب (2) ولكن " أحسن الشعر ما حسنت محاكاته وهيأته وقويت شهوته أو صدقه أو خفي كذبه وقامت غرابته " (3) ، وأردأ الشعر ما كان بضد ذلك، وهذا النوع الرديء جدير بألا يسمى شعراً؛ ذلك هو تعريف الشعر بالنسبة لتأثيره، أما من حيث الإبداع فإنه وليد حركات النفس أي وليد انفعالات تتناوب النفوس بين قبض وبسط (نزاع إلى ونزوع عن) وحركات النفس بين بسائط ومركبات، تتضمن الارتياح والاكتراث وما تركب منهما - وهي الطرق الشاجية، وتحت هذه يقع الاستغراب والاعتبار والرضى والغضب والنزوع والخوف والرجاء، ومن قيام الشعر بوصف هذه الانفعالات، تتولد المعاني الشعرية التي سنتحدث عنها فيما   (1) قد حدد حازم ص 89 أن التقفية مطلب في الشعر العربي، كما قال ابن سينا والفارابي من قبل. (2) سيأتي القول في بعض هذه العناصر التي تكفل للشعر القدرة على التأثير. (3) منهاج: 71. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 543 بعد (1) ؛ ولا بد لإبداع الشعر في أكمل الوجوه من ثلاثة عوامل خارجية: (أ) المهيئات: وأهمها البيئة ذات الهواء المعتدل والمطعم الطيب والمناظر الجميلة، والنشأة بين الفصحاء الذين دربوا على الإحساس بالإيقاع، وحفظ الكلام الفصيح. (ب) الأدوات: وهي العلوم التي تتناول الألفاظ والأخرى التي تتناول المعاني. (ج) البواعث: وهي نوعان: إطراب وآمال (فالإطراب كعوامل الحنين والآمال كالاستشراف إلى العطاء وما أشبه) . ولهذا قلما يبرع في الشعر إلا من نشا في بقعة فاضلة وفي أمة فصيحة (ليجود اللفظ) وحدته آمال إلى التجويد وإعمال الروية، وخلق لديه الحنين رقة في الأسلوب. ولا بد لكمال الإبداع من عوامل داخلية، وهي توفر ثلاث قوى لدى الشاعر: (أ) القوة الحافظة: وذلك بان تكون خيالات الفكر منتظمة متمايزة، نعرف طبيعة الموضوع الذي يقبل عليه الشاعر فترفده بالتصور المناسب، دون أن يعتكر خياله فيقع في التخليط وعدم انتظام الصور. (ب) القوة المائزة: وهي التي تعين الشاعر على ان يميز ما يلائم الموضع والنظم والأسلوب والغرض مما لا يلائم. (ج) القوة الصانعة: وهي التي تتولى ربط أجزاء الألفاظ والمعاني   (1) أنظر المنهاج: 11 - 12. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 544 والتركيبات النظمية والمذاهب الأسلوبية إلى بعض مع الاحتفاظ بالتدرج. فإذا اجتمعت هذه القوى معاً في شاعر أطلق عليها " الطبع الجيد ". ويبدو لنا من هذا المدخل إلى الشعر معظم الخصائص التي يتصف بها منهج حازم، فهو منهج قائم على الانتقاء والتنسيق والقياس؛ فهو قد انتقى من نقاد الفلاسفة تعريفه لماهية الشعر وعلاقته بحركات النفس، ومن الجاحظ القول بأثر البيئة والعرق (وذلك شيء شارك في جانب منه ابن قتيبة) ، ووقف مع جميع النقاد القائلين بحاجة الشاعر إلى الثقافة (العلوم) وكذلك هو في حديثه عن البواعث؛ أما حديثه عن القوى الحافظة والمائزة والصانعة فإنها قياس على ما وجده لدى الفلاسفة (وخاصة ابن سينا) من الحديث عن قوى النفس: قوة الفنطاسيا والقوة المصورة والقوة المخيلة والقوة الوهمية والقوة الحافظة الذاكرة (1) ؛ وتبدو قيمة هذا الجمع في سيطرة حازم على مختلف الجوانب التي نجدها مبعثرة هنا وهناك - على مر الزمن - عند كثير من النقاد. الفرق بين الشعر والخطابة وقضية الصدق والكذب ومما يزيد حد الشعر وضوحاً إقامة التفرقة بينه وبين الخطابة، وقد كان لابد لحازم من أن يتصدى لهذا الموضوع خضوعاً للأثر الفلسفي الذي استوحاه من الفارابي وابن سينا، ويبدو انه هنا لم يحاول أن يجري في مضمار من تقدموه وإنما انفرد باستنتاجات جديدة. فقد قرر هنا أن الشعر قائم على التخييل وإن الخطابة قائمة على الإقناع، وكان الفارابي قد قال إن الأقاويل الشعرية كاذبة بالكل لا محالة لأنها قائمة على التخييل، ورغم ذلك فإنها ترجع إلى نوع من أنواع السولوجسموس (القياس) وأن لهذا التخييل قيمة   (1) كتاب النفس من الشفا، الفصل 5: 43. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 545 البرهان في العلم. وسمى هذا التخييل باسم المحاكاة، وان المحاكاة لذلك أهم عنصر في الشعر، ولكنها ليست عنصراً في الخطابة، إذ تقوم الأقاويل الخطابية على الإقناع فهي صادقة بالمساواة (أي أن الصدق والكذب فيها متساويان) ؛ ولكن حازما ذهب من الأسس التي وضعها - أو صاغها - الفارابي في منحى آخر. فالخطابة تقوم حقاً على الإقناع ولكنها تعتمد على تقوية الظن لا على إيقاع اليقين ومن ثم كانت غير صادقة إلا أن عدل بها عن الإقناع إلى التصديق؛ أما التخييل في الشعر فإنه - كما قال الفارابي - قد ينقل الشيء على ما هو عليه أو يخيله على غير ما هو عليه، فهو أحق بأن يقال فيه: إن مقدماته تكون (إذا نقل الشيء على ما هو عليه) صادقة وتكون (إذا خيل الشيء على غير ما هو عليه) كاذبة (1) . وبعد أن يحدد حازم طبيعة السولوجسموس الشعري وهو أنه يرد دائماً محذوف إحدى المقدمتين أو النتيجة لأنه لا حاجة به إلى الإطالة في التفصيل (إذ في قوة القول نفسه ما يدل على المحذوف) يتجه حازم إلى القول بأن ما كان من الأقاويل القياسية مبنياً على تخييل وفيه محاكاة فهو قول شعري سواء كانت مقدماته برهانية أو جدلية أو خطابية، يقينية أو مشتهرة أو مظنونة؛ وعلى هذا فالقول الشعري يقبل من الخطابة بمقدار، ويظل على ذلك قولاً شعرياً. فالأقاويل الصادقة تقع في الشعر ولكنها لا يصح أن تقع في الخطابة لان الإقناع بعيد من التصديق، إذ هو مبني على الظن الغالب، والظن مناف لليقين (2) . وقد تقع فيه الأقاويل الكاذبة لأنه قد يبدأ بمقدمات مموهة وهو شعر في الحالين، لأنه لا يسمى شعراً بمقدار ما فيه من عنصري الصدق والكذب وإنما بمقدار ما فيه من محاكاة أو تخييل (3) .   (1) منهاج: 62 - 63. (2) منهاج: 70. (3) منهاج: 71. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 546 على أنا إذا نظرنا نظرة تفصيلية إلى الشعر من زاوية الصدق والكذب وجدنا الصدق يتعين في أحوال منها تحسين حسن ليس له نظير، فهذا يجب أن تكون الأقوال فيه صادقة، وتقبيح قبيح ليس له نظير، وهو في حكمه كالاول، وتحسين حسن له نظير، ويقع الصدق فيه كثيراً وخاصة لأنه يعتمد مبدأ التوسط في المحاكاة، وتقبيح قبيح له نظير، وهو كسابقه، أما من ناحية الكذب فالقول قد يبنى على الاختلاق الإمكاني كأن يصف الشاعر حبه وشجاه من غير أن يحب أو يحس بالشجى، وهذا لا يعلم كذبه من ذات القول، ولا يحكم عليه بالكذب، وقد يبنى على الاختلاق الإمتناعي والإفراط الإمتناعي والإستحالي وفي هذه جميعاً يكون القول كاذباً. أما الإفراط الإمكاني فلا يتحقق ما هو عليه من صدق أو كذب لا من ذات القول ولا من بديهة العقل، ولذلك لا يوصف بالكذب. يتبين من هذا إن الأقاويل الشعرية بعضها واقع (حاصل) وبعضها مختلق، وكلا القسمين يكون في ثلاث حالات اقتصار أو تقصير أو إفراط، فالأقاويل الحاصلة صادقة في حالي الاقتصاد والتقصير، وما كان إمكانياً فإنه يتحمل الصدق والكذب، ثم تكون الأصناف التالية كاذبة: الحاصل الممتنع، والحاصل المستحيل، والمختلق المقصر، والمختلق الاقتصادي والمختلق الإمكاني، والمختلق الإمتناعي، والمختلق الإستحالي. وإذا أنعمنا النظر في هذا الإحصاء وجدنا أن ما يدخل فيه الكذب أكثر عدداً مما يدخله الصدق، إلا إن حازماً بعد هذا كله يرجع من حيث بدأ فيرى أن الاعتبار في الشعر ليس بالنظر إلى الصدق والكذب بل بالنظر إلى التخييل، وأن الصدق والكذب أمران يرجعان إلى المفهومات لا إلى الدلالات، بل يخطو خطوة أبعد فيزعم أن الصدق أقدر على التحريك من الكذب، إذ التحريك في الصدق عام والتحريك في الأقوال الكاذبة خاص، ولخصوصيته كان ضعيفاً؛ ومن ثم فإن الصدق في المواد الشعرية أفضل. ويستنتج من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 547 هذا أن من قال " إن مقدمات الشعر لا تكون إلا كاذبة " إنما هو امرؤ كاذب. حقاً إن الشعر لا يقصر على الكذب، وبهذا قال من ذهب إلى " أن أعذب الشعر أكذبه " فإنهم لم يقولوا إن الصدق فيه معدوم ولكنهم فضلوا جانب الكذب فيه على جانب الصدق، فجاء حازم ينصر قضية الصدق مترسماً ما قرأه لدى ابن سينا (1) حيث قال: " وليس يجب في جميع المخيلات أن تكون كاذبة " (2) وحيث قال: " فإن كونه (أي الكلام المخيل) مصدقاً غير كونه مخيلاً أو غير مخيل " (3) - وخلاصة القول هنا: إن الشعر إنما ينظر إليه من ناحية تأثيره وقدرته على إحداث الانفعال النفساني. فقد يكون صادقاً والصدق فيه قادر على إحداث الانفعال. وحينئذ يكون الكاذب القادر على إحداث الانفعال خيراً منه، ويستشهد حازم بقول الفارابي " الغرض المقصود بالأقاويل المخيلة أن ينهض السامع نحو فعل الشيء الذي خيل له فيه أم ما من طلب له أو هرب عنه " (4) ، وكأنه لم يطلع على قول الفارابي: إن الأقاويل الشعرية كلها كاذب، ولهذا ساوى بين موقفه وموقف أبن سينا. وقد اتهم حازم المتكلمين بإشاعة نسبة الكذب إلى الشعر (دون أي شيء من الصدق) زاعماً انهم احتاجوا إلى الكلام في إعجاز القرآن، فدرسوا مقدمات في الفصاحة والبلاغة ضللتهم، وسكت حازم عن سائر التهمة، وأعتقد انه أراد أن يقول إن نسبة الكذب إلى الشعر إنما كانت لجعله في منزلة بعيدة عن القرآن القائم كله على الصدق؛ لكنه بدلاً من أن يقول ذلك اتهمهم بضعف بضاعتهم في النقد لأن المقدمات اليسيرة في الفصاحة والبلاغة لا تكفي؛ لابد في صناعة البلاغة من إنفاق العمر، " فهي البحر   (1) أنظر المنهاج 74 - 84. (2) المصدر نفسه: 84. (3) منهاج: 85. (4) نفسه: 86. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 548 الذي لم يصل أحد إلى نهايته " (1) . وبهذه الوقفة من موضوع طال حوله افتراق النقاد حسم حازم الخلاف نظرياً، حين أخرج قضية الصدق والكذب من طبيعة الشعر جملة وركز على أهمية " التخييل ". وأظهر أن الجدل حول هذه القضية إنما كان تجاوزاً عن دائرة " الانفعال " إلى منطقة الدلالات في الأقوال نفسها، وإن النقاد بدلاً من أن يسألوا هل هذا صدق أو كذب كان عليهم أن يسألوا عن " المحاكاة " ومدى تأثيرها. أقسام المحاكاة وتأثيرها أطال حازم القول في أقسام المحاكاة بالنظر إليها من زوايا وعلاقات مختلفة. فهي من حيث الغاية مثلاً تنقسم إلى محاكاة تحسين ومحاكاة تقبيح، ومحاكاة مطابقة، وهذه الثالثة ربما كانت في قوة الأوليين. وقد اعتمد في هذا على قول ابن سينا " فظاهر أن فصول التشبيه هذه الثلاثة: التحسين والتقبيح والمطابقة " وهذا إيجاز لقول أرسطو إن الرسام أو الشاعر قد ينقل الشيء كما هو أو أدنى مما هو أو كما يجب أن يكون. ثم تنقسم المحاكاة من جهة ما تخيل الشيء في قسميه، قسم يخيل لك الشيء كما هو في نفسه ومثاله الصورة التي يضعها الرسام أو التمثال الذي ينحته المثال، وقسم يخيل لك الشيء في غيره ومثاله صورة الشيء في المرآة؛ ثم تنقسم المحاكاة بحسب التنوع إلى المألوف والمستغرب، وما يتفرع عن هذين من مقابلات. وهكذا يمضي حازم في القسمة والتفرع ويتطرق إلى أشياء جزئية يستمد من طبيعة التركيب العربي نفسه. وإذا سلك الشاعر في المحاكاة مسلك التحسين أو التقبيح، فإنه يستطيع أن يحقق غايته - في نظره إلى الشيء أو إلى الفعل أو إلى الاعتقاد - بأربع وسائل:   (1) منهاج 87 - 88. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 549 (1) أن يحسن الشيء (أو يقبحه) من جهة الدين وأثره في النفس. (2) أن يحسن الشيء بمطابقته للعقل أو يقبحه لخروجه على مقتضى العقل. (3) أن يحسن الشيء من جهة الخلق أو يقبحه لمنافاته للخلق. (4) أن يحسن الشيء بربطه بالناحية النفعية في الدنيا أو يقبحه لما قد يجلبه من ضرر في هذه الناحية، فإذا أراد أن يقبح عشق الشيخ لفتاة صغيرة أعتمد ذم التصابي في حال المشيب، لكن إذا كان العاشق شاباً أضاف إلى ذلك تقبيح العلاقة باستثارة ما لدى النساء من قبح أخلاقي كالغدر والملالة وما أشبه ذلك (وهو تقبيح من جهة العقل) (1) ، أما محاكاة الشيء بما يطابقه، فالمذهب الأمثل فيها محاكاة الحسن بالحسن والقبيح بالقبيح (2) وأي تفاوت في المقدار أو اللون قد يفسد المحاكاة، أما الهيئة فلا يلتفت فيها إلى التفاوت (لأن الهيئة تؤخذ جملة ولا تؤخذ تفصيلاً) ، ويبدو من كل ذلك أن مفهوم حازم للمحاكاة متسع وإنها تشمل كل صور التعبير (أو النقل) ولكن المحاكاة التشبيهية تحتل من دراسته مقاماً هاماً، بحيث يعود ما دامت نماذجه مستمدة من الشعر العربي الغنائي إلى تغليب معنى التشبيه على المحاكاة. وحين تناول حازم سبب قوة المحاكاة على التأثير عاد إلى ابن سينا ونقل ما قاله أرسططاليس في التذاذ النفوس وانفعالها بالمحاكاة من حيث هي محاكاة، وبما زاد فيها من طبيعة التوافق الموسيقي، وقد فسر حازم هذا التوافق الموسيقي بتلذذ السمع بجمال العبارة الشعرية وذلك يشبه لذة العين   (1) منهاج 106 - 108. (2) منهاج: 113. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 550 برؤية الشراب في إناء من الزجاج أو البلور. وهو أمر لا يتأتى من وضع الشراب في آنية خزفية، وهذا الجمال يعتمد على اختيار مادة اللفظ وتلاؤم التركيب، وفي هذا تنفرد الأقاويل الشعرية عن غيرها من الأقاويل (1) . غير إن المحاكاة ليست دائماً على درجة واحدة من التأثير، وإنما يكون تأثيرها مساوياً لمقدار الإبداع فيها ومحدداً بحسب استعداد النفس لقبولها، والاستعداد النفسي يعني حالة معينة تكون فيها النفس مستعدة لتقبل محاكاة ملائمة لتلك الحالة، أو هو استعداد عام وذلك يعني " الإيمان بالشعر "، وهذا ما قد فقد في العصور المتأخرة، ولما فقد الشعر منزلته في النفوس، ضاع تأثير المحاكاة أو ضعف إلى الغاية؛ وقد عرضنا من قبل لرأي حازم في هوان الشعر على الناس في عصره (2) . ويتطرق حازم بعد ذلك إلى سؤال دقيق: وهو لماذا لا يكون التذاذ الناس بالشيء المحكي نفسه أكثر من التذاذهم بالمحاكاة نفسها؟ لم لا تكون اللذة الحادثة من رؤية امرأة جميلة اكبر بكثير من رؤية تمثال فني لتلك المرأة؟ فيقول أن اللذة حادثة في الحالين إلا أنها مختلفة في طبيعتها. فاللذة من رؤية الشيء نفسه. نابعة من حسن ذلك الشيء، أما اللذة من المحاكاة فإنها نابعة من " التعجيب ". ثم إن الشيء المحكي ربما لم يكن حسناً في كل حال، ولكن تخييله بالمحاكاة لا ينفي قدرته على العجيب في كل حال؛ ولنأخذ مثالا من الطبيعة: إن منظر الشمعة أو المصباح ربما كان جميلاً، ولكن انعكاس صورة الشمعة أو المصباح على صفحة مائية صافية أجمل بكثير من الشيئين في الواقع، أولاً لحدوث إقترانات جديدة (بين الضوء وصفحة الماء) وثانياً لان هذه الصورة اقل تكراراً من رؤية الشمعة نفسها، والنفس إلى ذلك أميل ذهاباً مع الاستطراف (3) .   (1) منهاج: 116 - 119. (2) منهاج 121 - 126. (3) منهاج: 126 - 128. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 551 معاني الشعر في اغلبها جمهورية قرر حازم وحدة المنبع في الشعر حين رده كله إلى أصل واحد، وجعله وليد حركات النفس، ولكن هذه الحركات النفسية تشتمل على ثلاثة عناصر (1) العوامل المحركة (2) المتحركين (3) العوامل المتحركة والمتحركين معاً؛ وعلى هذا لا تعدو معاني الشعر أن تكون وصفاً للحركات أو وصفاً لأحوال المتحركين أو وصفاً لأحوال الاثنين معاً (والثالث هو الأكمل) (1) . ولما كانت الغاية الكبرى من المعاني الشعرية (أو من الأقاويل الشعرية في صورتها المكتملة) هي إحداث التأثير والانفعال في النفوس الإنسانية بحيث تحمل على عمل شيء أو اعتقاده أو تجنبه. كانت أدخل المعاني في الصناعة الشعرية وأعرقها فيها هي ما اشتدت علقته بأغراض الإنسان، واشتركت في قبولها (أو النفور منها) نفوس الخاصة والعامة (2) بحكم الفطرة أو العادة؛ وذلك أن تجمع المعاني بين أن تكون معروفة ومؤثرة في آن معاً، أو أن تصبح مؤثرة بعد أن تعرف. وأحسن الأشياء التي تجمع المعرفة والتأثير معاً هي ما فطر الناس على استلذاذه أو التألم منه، وهذا يعني أن الشعر من هذه الناحية يتناول: (1) ما هو مفرح كلقاء الأحبة واجتلاء الروض والماء (2) وما هو مفجع كالفرقة (3) وما هو مستطاب كلذة انصرفت يتلذذ الإنسان بذكراها؛ هذه الأمور تتصور بالفطرة، ولذلك يمكن أن نسميها " المتصورات الأصيلة " ويقابلها " المتصورات الدخيلة " وهي التي لا يوجد لها في نفوس الجمهور أثر لفرح أو ترح أو شجو، وإنما هي مكتسبة، كتلك الأغراض التي تستمد   (1) منهاج: 13. (2) استدرك حازم على هذا بقوله " فأما بالنظر إلى حقيقة الشعر فلا فرق بين ما انفرد به الخاصة دون العامة وبين ما شاركوهم فيه، ولا ميزة بين ما اشتدت علقته بالأغراض المألوفة وبين ما ليس له كبير علقة " وحجته أن نجاح المحاكاة هو وحده الذي يقرر حقيقة الشعر، وكأني به يفرق هنا بين ما هو شامل وبين ما هو خاص التأثير، كلاهما شعر، ولكن الأول أكثر علقة بأكبر عدد من الناس ومن النفسيات (أنظر ص 21 من منهاج البلغاء) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 552 من العلوم والصناعات والمهن، وبعض هذه قد يكون معروفاً عند الجمهور كالأغراض المستمدة من المهن، ورغم ذلك لا يحسن إيرادها في الشعر، كما أن بعض المعاني التي لا يعرفها الجمهور، وإذا كان تعريفهم بها ممكناً فإنها تظل متعلقة بالإدراك الذهني، وهذا النوع المتعلق بالإدراك الذهني لا يصلح للشعر، وأكثر الناس يستبرد وقوع المعاني الذهنية فيه، ولا يوردها في شعره إلا من أراد أن يموه على الناس بأنه عالم شاعر. والشاعر الحق لا يدرج في شعره إلا المعاني التي تحرك الجمهور وتؤثر في النفوس؛ لذلك يمكن القول على وجه الإجمال (مع استثناءين سبقا) إن المعاني الجمهورية هي المادة الأصلية للشعر، وهي التي لا يتألف كلام فصيح عال إلا منها؛ وقد ترد فيها معان أوائل (مقصودة في نفسها) أو معان ثوان (أي استدلالات تقوي المعاني الأوائل) ؛ ولذلك كانت خير التصورات ما صلحت لإيراد النوعين من هذه المعاني متعاقبين، وذلك لا يكون أيضاً إلا بالعودة إلى المعاني الجمهورية القائمة في أصل الفطرة الإنسانية (1) . التجربة الشعرية تستمد من الحياة وبعضها من الثقافة مما تقدم يتبين لنا كيف إن حازماً ربط بين الشعر وبين الحياة الطبيعية أو حياة الحس عامة، وانه حاول أن يبعد الشعر عن العلم قدر استطاعته؛ وجعل ينبوع الشعر من حركات النفس، ومصبه النفوس الإنسانية في مدى تقبلها أو أعراضها بحسب الفطرة (أو بقوة الاكتساب الذي يرقى إلى درجة العادة) ؛ ولهذا كان من الطبيعي أن يوجه الشاعر ليستمد معانيه من التجربة الحسية، بحيث ترتسم صور المحسوسات في خياله، ثم يستطيع خياله أن يقيم ضروب العلاقات بينها؛ غير أنه في مقدور الشاعر أن يؤيد التجربة المستمدة من   (1) منهاج: 13 - 31. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 553 عالم الطبيعة بقوة التخيل والملاحظة والتجربة المستمدة عن طريق الثقافة، كدراسة ما جرى من قبل في تجارب غيره من الشعراء والأدباء أو ما أورده المؤرخون والقصاص، أو ما تبلور من التجربة الشعرية في صورة أمثال، والإفادة منه زائداً على التجربة الطبيعية، وشاعريته هي التي تستطيع أن تهديه إلى كيفية التصرف بهذا الزاد الثقافي في شعره (1) ؛ وهو في الأمرين يجب أن يخضع شعره للتناسب الصحيح والتطالب الحتمي بين ضروب المعاني من أضداد وأشباه ومتقاربات؟ الخ وقد حدد له البلاغيون نماذج من هذه المناسبات كالمطابقة والمقابلة والتقسيم والتفسير؟ الخ وعليه أن يراعي ذلك، فإن هذه المذاهب في مناسبات المعاني بعضها لبعض، إنما استخرجت من نماذج شعرية سابقة، سارع الذوق إلى استحسانها (2) . كذلك عليه أن يتدبر العيوب، أي المناحي السلبية، التي تنشأ عن الإخلال بصور المناسبات والتطالبات والتطابقات كالاستحالة بسبب الإفراط في المبالغة وفساد التقسيم وفساد التقابل والغموض؟ الخ (3) . الغموض والوضوح في الشعر ويتفرع عن الحديث في المعنى، حديث حازم عن الغموض والوضوح في الشعر، مع إن حازماً يقر أن بعض أنواع الغموض لابد أن يتوفر في الشعر مثل اللغز والكناية، والإشارات إلى الأحداث الماضية والقصص مما يتطلب من القارئ ثقافة خاصة، فإنه في الجملة منحاز إلى جانب الوضوح، فبعد أن يعد وجوه الغموض الناجمة عن طبيعة المعنى (كدقة المعنى أو تحمله لأوجه من التأويل) وعن طبيعة العبارة (كالتقديم والتأخير أو طول العبارة وكثرة المعترضات؟ الخ) نراه يصف للشاعر حيلاً يستطيع   (1) منهاج: 38 - 39. (2) منهاج 44 - 61. (3) منهاج: 137 - 196 واكثر هذا الفصل يعتمد على ما جاء به النقاد السابقون أمثال قدامة، مع بعض التوجيه الجديد في التفسير أو التمثيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 554 أن يخفف لها من درجة الغموض في شعره أو يزيلها، فإذا كان المعنى نفسه دقيقاً وجب على الشاعر أن يؤديه بأبسط عبارة أو أن يقرن المعنى بما يناسبه من الأمور التوضيحية؛ وانتصاراً منه للوضوح ين باعتماد القصص المشهورة حتى لا تكتسي الإشارات بالغموض، وينصح الشاعر أن يبتعد عن العبارات المتعلقة بصنائع أهل المهن، أو العبارات الدالة على المعاني العلمية (1) . قضية السرقة وتتصل قضية السرقة أيضاً بموضوع المعاني، ومما يميز نقد حازم انه مر بها مروراً عابراً، فجاءت كأنها قضية هامشية في نقده؛ وفي أثناء تعرضه لها قسم المعاني في قسمين: (1) قديمة متداولة، (ب) جديدة مخترعة، والقسم الأول مثل ما شاع بين الناس من تشبيه الشجاع بالأسد، ومثل هذا القسم لا تدخله سرقة لان معانيه ثابتة في وجدانات الناس مرتسمة في خواطرهم، وينشق عن هذا القسم نوع آخر من المعاني يعتمد الزيادة في المتداول أو قلبه أو التركيب عليه؛ غير أن المرتبة العليا في الشعر تتمثل في استنباط المعاني: " من بلغها فقد بلغ الغاية القصوى من ذلك، لأن ذلك يدل على نفاذ خاطره وتوقد فكره حيث استنبط معنى غريباً واستخرج من مكامن الشعر سراً لطيفاً "، وهذا النوع المبتكر لا يمكن أن يسرق وإنما يتحاماه الشعراء لضيق المجال في إخفاء السرقة؛ وهذه الأنواع من المعاني تحدد مراتب الشعراء، لأنها أربع درجات: اختراع واستحقاق وشركة وسرقة " والسرقة كلها معينة وإن كان بعضها اشد قبحاً من بعض " (2) .   (1) منهاج: 172 - 192. (2) منهاج: 192 - 196. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 555 أغراض الشعر وبعد ان استعرض حازم موقف النقاد السابقين في قسمة الشعر إلى أغراض (1) عاد يطلب مبدأ الوحدة الذي طلبه قدامة حين جعل أغراض الشعر نابعة من منبع واحد أخلاقي هو الفضيلة (وما يناقضها) وإنها ترتسم في صورة واحدة هي المدح (وما يناقضه) ؛ ولكنه اختار طريقاً جديدة لإبراز هذه الوحدة فقال: " عن الأقاويل الشعرية لما كان القصد بها استجلاب المنافع واستدفاع المضار، ببسطها النفوس إلى ما يراد من ذلك، وقبضها عما (لا) يراد، بما يخيل لها فيه من خير أو شر، وكانت الأشياء التي يرى إنها خيرات أو شرور منها ما حصل ومنها ما لم يحصل، وكان حصول ما من شأنه أن يطلب يسمى ظفراً، وفوته في مظنة الحصول يسمى إخفاقاً، وكان حصول ما من شأنه أن يهرب عنه يسمى أذاه أو رزءاً، وكفايته في مظنة الحصول تسمى نجاة، سمي القول في الظفر والنجاة تهنئة، وسمي القول بالإخفاق إن قصد تسلية النفس عنه تأسياً وإن قصد تحسرها تأسفاً، وسمي القول في الرزء ان قصد استدعاء الجلد على ذلك تعزية، وإن قصد استدعاء الجزع من ذلك سمي تفجيعاً، فإن كان المظفور به على يدي قاصد للنفع جوزي على ذلك بالذكر الجميل وسمي ذلك مديحاً، وإن كان الضار على يدي قاصد لذلك فادى ذلك إلى ذكر قبيح سمي ذلك هجاء، وإذا كان الرزء يفقد شيء فندب ذلك الشيء سمي ذلك رثاء؛ ولما كانت المنافع كأنها تنقسم إلى ما يكون بالنسبة والملاءمة مثل ما يوجد من مناسبة بعض الصور لبعض النفوس فيحصل لها بمشاهدة تلك الصور المناسبة لها نعيم وابتهاج؟. وغلى ما يكون بالفعل والاعتماد مثل ما يعتمده الإنسان من إسعاف آخر بطلبته فيكون في إسعافه بها منفعة له، وإلى ما يكون منفعة بالقوة والمال أو بتشفي النفس فقط مثل ما تحل مضرة بعدو إنسان؟.. اقتضى ذلك انقسام الذكر الجميل إلى ما يتعلق من المنافع بالأشياء المناسبة لهوى النفس وسمي   (1) انظر ص: 336 حيث ورد قول قدامة والرماني وغيرهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 556 ذلك نسبياً، وإلى ما يتعلق بالأشياء المستدعية رضى النفس وسمي ذلك؟ كما تقدم - مديحاً؟ الخ (1) . من هذا التفصيل في أغراض الشعر - وجميعها يرتد إلى الظفر أو النجاة (وتقيضيهما) نرى كيف عانى حازم قسمة أخرى للانفعالات النفسية لكي يذكر النسيب بين أنواع الشعر. وهو ذلك الفن الذي أبى الخضوع تماماً لقسمة قدامة من قبل؛ على أي حال لم يكن حازم وهو الذي جعل الشعر وليد حركات النفس (المعتمد على المعاني الجمهورية) بحاجة إلى كل هذا العناء في سبيل إقامة " منطق " خاص بأغراض الشعر، ذلك انه لو قال أن الغرض الشعري الواحد صورة من حالة نفسية في لحظة ما، لكان ذلك وحده كافياً لرد الأغراض إلى منبع واحد، وإذن لتحققت " وحدة الانطلاق " دون اللجوء إلى هذه المشقة في التفريعات. أما حديث حازم بعد ذلك عن الشئون التي يجب على الشاعر مراعاتها في كل من المدح والنسيب والرثاء والفخر والاعتذار؟ الخ، فلا تخرج عن عموميات ما جاء به النقاد السابقون من وصايا (2) . نظم الشعر يقول حازم: " اعلم ان خير الشعر ما صدر عن فكر ولع بالفن " (3) ؟ لا يعني بذلك أن الشعر يصدر عن فكر فقد قرر أن الشعر وليد حركات النفس، وغنما يعني هنا " صدق الإحساس " بالتجربة الواقعية، فاحسن الناس نسبياً من أحس بالألم من جراح التجربة، ولكنه يستدرك - كما فعل من قبل - حين يمنح الخيال حقه في التعويض عن تلك التربة، وهذا الخيال يتكون عن طريق الثقافة ودراسة طرق السابقين حتى تصبح لدى الشاعر " قوة على   (1) منهاج: 337 - 338. (2) انظر المنهاج: 349 - 353. (3) منهاج: 341. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 557 التشبه " (identification) ؛ وقد تكون هذه القوة عامة في الشاعر، فهو يحسن استغلالها في أي موضوع أو غرض شعري، ومنهم من تكون فيه قاصرة متميزة، فهو لا يحسن ذلك إلا بالدرجة المستمرة. القوى الضرورية لنظم الشعر فنظم الشعر إذن يحتاج إلى طبع أو دربة (بعد وجود المهيئات والأدوات والبواعث) وكلا الشيئين معقود بقوة الخيال لدى الشاعر، وقوة الخيال تفترض شيئاً من التصور الذي يحيط بما يريد الشاعر تحقيقه، ولذلك فإن عليها أن ترسم (1) المقاصد الكلية (2) طريقة إيراد تلك المقاصد وأسلوب إيرادها (3) ترتيب المعاني في الأسلوب المتخير (4) تشكل المعاني في عبارات (5) تخيل المعاني واحداً بعد آخر بحسب الغرض (6) مكملات المعاني وزينتها (7) ملاءمة تلك المعاني للإيقاع (8) ملاءمة المعنى الملحق بالمعنى الأصلي لاكتمال البيت الواحد (1) . ولا يمكن تحقيق ذلك كله إلا إذا توفرت لدى الشاعر عشر قوى وهي: (1) القوة على التشبيه فيما لا يجري على السجية ولا يصدر عن قريحة بما يجري على السجية ويصدر عن قريحة. (2) القوة على تصور كليات الشعر والمقاصد الواقعة فيها والمعاني الواقعة في تلك المقاصد.. (3) القوة على تصور صورة تكون بها أحسن ما يمكن (من حيث توالي أجزائها) . (4) القوة على تخيل المعاني بالشعور بها؟. (5) القوة على ملاحظة الوجوه التي يقع بها التناسب بين المعاني.   (1) منهاج: 371. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 558 (6) القوة على التهدي إلى العبارات الحسنة الوضع والدلالة على ذلك المعاني. (7) القوة على التخيل في تسيير تلك العبارات متزنة؟. (8) القوة على الالتفات من حيز إلى حيز والخروج منه إليه والتوصل به. (9) القوة على تحسين وصل بعض الفصول ببعض والأبيات ببعضها؟. (10) القوة المائزة حسن الكلام من قبيحه بالنظر إلى نفس الكلام وموضعه (1) . إن من يقرأ هذا التقسيم يتذكر ما قاله ابن طباطبا حول نظم القصيدة، غير أن ابن طباطبا كان يتحدث عن الخطوات العملية، بينا حول حازم هذه الخطوات إلى " قوى " قائمة في طبيعة الشاعر؛ ولو قال إن " قوة الخيال "؟ وهي قوة واحدة - تستطيع أن تحقق هذا وما هو أكثر منه، لما لجا إلى هذا الالتواء، ولكن حازماً - كما اتضح في غير موطن - مسرف في شغفه بالتقسيمات، لان لها دلالة على ثقافة منطقية. ويستمر حازم في سياق هذه القسيمة فيرى ان من اجتمعت فيه هذه القوى كاملة فهو الشاعر الكامل، الذي يقوى على تصور " كليات المقولات " ثم من حصل له قسط متوسط من هذه القوى، فهو الشاعر المتوسط (الذي تغلب الدربة لديه على الخيال) ثم من حصل له قسط قليل من تلك القوى، وهم أدعياء الشعراء ومنهم المتلصصون المغيرون على ما لدى غيرهم - " وهم شر العالم نفوساً وأسقطهم همماً وهم النقلة للألفاظ والمعاني على صورها في الموضع المنزل منه من غير أن يغيروا في ذلك غلا ما لا يعتد به " (1) .   (1) منهاج: 200 - 201. (1) منهاج: 200 - 201. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 559 التأهب للنظم فإذا أراد الشاعر أن ينظم قصيدة كان عليه أن يتخير الوقت والحالة النفسية - متبعاً في ذلك ما جاء في وصية أبي تمام للبحتري (1) - ومن ثم يستحضر في خياله المعاني ثم يقسمها في فصول مرتبة، مختاراً الوزن الملائم، والعبارات، ويجب أن يتجنب الشاعر الحالات النفسية التي تعوق دون النظم كالكسل في الخاطر أو التشتت فيه أو استيلاء السهو عليه أو تكلفه لمواد العبارات (لأنها قليلة) ، وأن يحاذر وهو يصوغ شعره من أن يكون قدر الوزن فوق قدر المعنى أو العكس، أو يكون المعنى دقيقاً داعياً إلى إيراد عبارة عنه على صورة يقل ورودها عفواً، أو يكون المعنى من المعاني التي يقل عنها التعبير في اللغة، فالخاطر يكد كثيراً لإيرادها موزونة (2) . الشعراء قسمان في عملية النظم والشعراء في عملية النظم اثنان: (1) شاعر مرو يحتاج الروية قبل ان ينظم وحال النظم وعند الفراغ، وبعد الفراغ من النظم، وهذا يعني انه يعتمد على قوة التخيل والقوة الناظمة وقوة الملاحظة وقوة الاستقصاء. وقد تصيب الروية تغييراً في المعنى أو تغييراً في العبارة " طلباً للغاية القصوى من الإبداع " (2) شاعر مرتجل، وأحسن حالاته حين يجيء بقول مستقصى تقارنت فيه المعاني، وأسوأ حالاته أن يكون قوله غير مستقصى ولا مقترن (3) . أما العبارة في النظم فيجب أن يراعي الشاعر فيها حسن التأليف وتلاؤمه (في الحروف والكلمات) والتسهل في العبارات وترك التكلف، ومراعاة حسن الوضع (في تقارب الألفاظ وتطالبها) ومجانية الزيادة والحشو، ومن ثم اختيار العبارات المستعذبة الجزلة.   (1) منهاج: 203. (2) منهاج: 208 - 210. (3) منهاج: 208 - 210. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 560 مناسبة الوزن في النظم للغرض والكشف عن خصائص الأوزان وفي سبيل مناسبة الوزن للغرض، درس حازم علم العروض دراسة جديدة وهي حقيقة بان تنال اهتماماً لا يتسع له هذا المقام، وإنما أشير منها هنا إلى حملة حازم على بحر المضارع ونبو ذوقه عنه (1) وتعليله اتخاذ البيت ثم الشطر ثم القافية مصطلحاً في الشعر العربي (2) ، وحديثه عن " تسلسل " القصيدة - رغم أن البيت وحده - في ذلك الشعر، ورغم ان حديثه عن هذه الناحية يشبه الخوض في الشئون المتافيزيقية فإنه حري بالاقتباس، يقول: " ويجب أن تعلم أن أبيات الشعر، وإن كانت أوئلها منفصلة عن اوئلها، فإن النظام فيها في تقرير الاتصال على استدارة، إذ كان وضع الأوزان الشعرية وترتيبها زمانياً لا يمكنك فيه ان ترجع بالنهاية إلى زمان المبدأ بل تكون بينهما فسحة من الزمان ولابد. وترتيب البيت المضروب ترتيب مكاني، إذا بدأت بأي موضع شئت منه ثم درت عليه تأتي لك أن ترجع إلى الموضع الذي بدأت منه بنقلة مستديرة على اتصال من غير أن يكون بين المبدأ والنهاية فسحة، والأوزان وإن لم يمكن أن يعاد بالنهاية فيها إلى زمان المبدأ فإنها على تقدير ذلك؟ الخ " (3) . ويؤكد حازم على أن كل غرض من أغراض الشعر يستدعي نوعاً من الأوزان (4) ، ثم يتحدث عن خواص كل بحر من البحور وما يناسبه " فالعروض الطويل تجد فيه أبداً بهاء وقوة، وتجد للبسيط سباطة وطلاوة وتجد للكامل جزالة وحن اطراد؟ الخ (5) . ثم يتحدث عن وضع القافية   (1) منهاج: 243. (2) منهاج: 249 - 252. (3) منهاج: 255. (4) منهاج: 266. (5) منهاج: 269. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 561 وصلتها بنظرته إلى مبدأ التناسب (1) ؛ ويرى حازم أن القصيدة تتكون من " فصول " متناسقة مترابطة، وان لكل فصل شروطاً لابد من توفرها كالترتيب والاستقصاء وإيراد المعاني الجزئية؟ الخ (2) ، وسبب قسمة القصيدة إلى فصول " أن النفوس " تسأم التمادي على حال واحد وتؤثر الانتقال من حال إلى حال،؟ وتستريح إلى استئناف الأمر بعد الأمر واستجداد الشيء بعد الشيء؟ وتنفر من الشيء الذي لم يتناه في الكثرة إذا أخذ مأخذاً واحداً ساذجاً ولم يتحيل فيما يستجد نشاط النفس لقبوله بتنويعه والافتنان في أنحاء الاعتماد به، وتسكن إلى الشيء وإن كان متناهياً في الكثرة إذا أخذ من شيء مآخذه التي من شانها ان يخرج الكلام بها في معاريض مختلفة؟ " (3) ومعنى ذلك كله أنه لابد في الشعر من الملاءمة بينه وبين حال الملتقى ومراعاة الشئون النفسية عامة، وقد سخر حازم أمر الانتقال من تسويم رؤوس الفصول إلى مرحلة التعجب إلى التذكر؟ إلى الاعتبار بذم الدنيا في قصيدة للمتنبي، ليدل على أن قسمة القصيدة إلى فصول إنما يراد به إشباع حاجة النفس إلى التنويع (4) ؛ وقد عاد حازم في هذا الفصل إلى مصطلحين مشتقين من صفات الخيل وهما " التسويم " و " التحجيل "؟ فالتسويم في الفواتح والتحجل في الخواتيم - وهو بذلك يدل على انه لم يترك مصطلحاً يمكن الإفادة منه في منهجه النقدي إلا حشده لهذه الغاية؛ وفي سبيل ملاءمة القصيدة للأحوال النفسية للمستمعين، شرح حازم كل غرض من الأغراض كالنسيب والمدح والرثاء، وأبان عن الشرائط التي يجب توفرها في حالتي التسويم والتحجيل، أو كما قال النقاد القدامى في المطلع والتخلص والاستطراد والختام (5) .   (1) منهاج: 272 - 281. (2) منهاج: 292 - 294. (3) منهاج: 296. (4) منهاج: 298 - 300. (5) منهاج: 303 - 324. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 562 طرق الشعر (جد وهزل) إن ملاءمة الشعر للنفوس أو منافرته لها - حسبما تقرر في الفقرة السابقة - هو المقياس الكبير الذي تقاس به حقيقة الشعر من حيث طرقه والحيل اللازمة فيه وأساليبه ومنازعه، وهي المواد التي سننفرد كلاً منها بالقول. فأما من حيث الطريقة فإن للشعر منهجين: الجد والهزل، وطريقة الجد تصدر الأقاويل فيها عن مروءة وعقل بنزاع الهمة والهوى إلى ذلك، وطريقة الهزل تصدر الأقاويل فيها عن مجون وسخف، وفي الطريقة الأولى يجب تجنب الهزل، والابتعاد بها عما ألف في الطريقة الهوزلية من أنواع التاليف، أي يجتنب فيها الساقط المولد من الألفاظ ويعتمد فيها اللفظ العربي المحض الصريح في الفصاحة، ويعتمد فيها من المعاني ما لا يشين ذكره ولا يسقط مروءة المتكلم، وأما الطريقة الهزلية فقد تستعير شيئاً من الطريقة الجدية (وليس العكس) وقد قال سقراط، حكاية الهزل لذيذ سخيف أهلها وحكاية الجد مكروهة، وحكاية الممزوج منهما معتدل، ولا نقبل على شاعر يحكي كل جنس، بل نطرده وندفع ملاحته وطيبه ونقبل على شاعرنا الذي يسلك مسلك الجد فقط " (1) . ومن الواضح أن الذي قاد حازماً إلى هذه القسمة تأثره بالنقد اليوناني مختلطاً، فالقسمة إلى جد وهزل هي قسمة الشعر إلى طراغوذيا وقوموذيا، وأما قول سقراط " بل نطرده؟ الخ " فإنه يومئ إلى ما قاله أفلاطون في الجمهورية من الإقبال على الشاعر الذي ينسجم وما تتطلبه مصالح تلك الجمهورية، وطرد الشعراء الذين يهزلون حين ينسبون الخصام إلى الآلهة وما أشبه، ولكن دراسته للمنطقة المشركة بين الطريقتين، وتصوره لها، إنما هما مستمدان من طبيعة دراسته لنماذج هذين اللونين في الشعر العربي (2) .   (1) منهاج: 330. (2) انظر المصدر نفسه: 331 - 335. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 563 الحيل الشعرية وفي الشعر حيل يلجأ إليها الشاعر لإنهاض النفوس نحو الحث على الفعل أو الحض على تركه، وهذه الحيل إذا اتصلت بالقول والموضوع سميت محاكاة - وهي عماد الشعر - فإذا اتصلت بالقائل والمتلقي (الشاعر والجمهور) فهي دعامة لتقوية التأثير؛ غير إن المحاكاة قد تحتاج أحياناً إلى ما يعضدها كالاستدلالات الخطابية. أما الشاعر نفسه فإن الحيلة المتصلة به هي استناده كثيراً إلى ضمير المتكلم، وأما الحيلة المتصلة بالسامع فهي استغلال صيغة الأمر وما شابهها (مع التنويع اللازم في الحالين لدفع السأم) ؛ " وكذلك لا ينبغي أن يستمر في كلام طويل على وصف حالة ساذجة، بل التركيب في الأحوال واقتران بعضها ببعض مما يجب أن يعتمد، مثل اقتران وصف حالة المحب بوصف حالة المحبوب " (1) ؛ ولعل أهم ما تؤديه الحيل الشعرية في حال الشاعر نفسه هو " إيهام بأنه صادق " أما بالنسبة للمستمع فهو الاحتيال على إثارة انفعاله " بتقريظه بالصفة التي من شأنها أن يكون عنها الانفعال " (2) . إن الحيل الشعرية أمور زائدة على صدق المحاكاة، ولكنها جزء من الإبداع الشعري لتحقيق المستوى المطلوب من التأثير. الأساليب الشعرية وتنقسم الأساليب الشعرية في ثلاثة أقسام: (1) الأسلوب الخشن (2) الأسلوب الرقيق (3) الأسلوب المتوسط بين هاتين الصفتين، ومن هذه الأقسام الثلاثة تتركب عشرة أنواع تجمع بين الحظوظ المختلفة من هذه الأقسام. ولما كان الشعر موجهاً إلى الجمهور، فان الأحوال النفسية لهذا الجمهور إما ان تكون (1) اللذة (2) الألم (3) اللذة والألم متكافئين وعلى هذا الاعتبار تتنوع الأقوال - بحسب بساطتها وتركيبها - في الأنواع الآتية:   (1) منهاج: 348. (2) منهاج: 346. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 564 (1) أقوال مفرحة (2) أقوال شاجية (3) أقوال مفجعة (4) أقوال مؤتلفة من سارة وشاجية (5) أقوال مؤتلفة من سارة ومفجعة (6) أقوال مؤتلفة من شاجية ومفجعة (7) أقوال مؤتلفة من سارة ومفجعة وشاجية؛ وكان حظ النفوس من هذه الأقسام بحسب استعدادها، ولهذا كان الأسلوب المعتمد هو ما يوافق السامع، وهذه الموافقة تراعي لدى البسيط الأحوال الطيبة السارة، ولدى الرقة الأحوال الشاجية، ولدى الألم الأحوال الفاجعة؛ فالمستطاب من هذه الأحوال وصف المدركات الحسية من عناق ولثم وماء وخضرة ونسيم وخمر وغناء؟. الخ والأحوال الشاجية تتعلق بالألم بعد اللقاء والجور بعد العدل؟ الخ (وأبو الطيب ماهر في وصف هذا اللون من التغير) والأحوال المفجعة وصف ما يلحق العالم من فساد وتغير وفناء؟ ويجب أن يراوح الشاعر ففلا يستمر على ذكر المعاني الموحشة بل يشغلها بما يؤنس النفس، إلا أن كان يتحدث عن موضوع لا يمكن فيه النقلة (كالحرب) ؛ ومما يهيئ الاسترواح للنفوس المراوحة بين المعاني الشعرية والمعاني الخطابية لارتياح النفوس للنقلة، وينبغي ان يكون الإقناع في الشعر تابعاً للتخييل وان لا يستكثر من التخييل في الخطابة والإقناع في الشعر، وإنما يتم ذلك بإيجاز فإذا ساوى في العكس (بان جعل الأقاويل الشعرية خطابية والخطابية شعرية) فقد خرج بكلتا الصناعتين عن طريقهما (وقد كان المتنبي فارس هذه الخطة في المعاقبة الملائمة بين الشعر والخطابة) (1) . ماذا نعني بالأسلوب الشعري؟ إذا كان الاستمرار بالألفاظ على نسق معين يسمى نظماً، فإن الاستمرار بالمعاني على نسق مرسوم يسمى أسلوباً، " فالأسلوب هيئة تحصل عن التأليفات المعنوية، والنظم هيئة تحصل عن التأليفات اللفظية " (2) ولهذا كان الأسلوب الشعري محتاجاً إلى " الاطراد   (1) منهاج: 354 - 363. (2) منهاج: 365. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 565 والتناسب والتلطف في الانتقال " (1) . المنازع الشعرية " أما المنازع فهي رد الهيئات الحاصلة عن كيفيات مآخذ الشعراء في أغراضهم وأنحاء اعتماداتهم فيها وما يميلون بالكلام نحوه أبداً ويذهبون به إليه حتى يحصل بذلك الكلام صورة تقبلها النف أو تمتنع من قبولها " (2) - لقد ميز حازم الطريقة الشعرية والأسلوب الشعري - وهو هنا يتسلل بدقة إلى تمييز شيء جديد قد نسميه " الاستمرار على أسلوب شعري مؤثر " - أو المذهب - كمنزع أبن المعتز في التشبيه ومنزع البحتري في وصف الطيف، وقد يتفرد الشاعر في منزعه، أو يقتفي أثر شاعر، فتصبح طريقته مركبة من عدة طرائق، وأحياناً يكون مفهوم " المنزع " - " القانون العام في شعر شاعر ما " فالقانون العام في شعر المتنبي مثلاً هو طريقته المفضلة في توطئة صدور الفصول للحكمة؛ ومقطع القول أن المنزع يمثل " العنصر البارز " في الطريقة الشعرية، فإذا كان هنالك شاعر يبني عبارته على التضاد أو على منحى من الاستعمال التعبيري فلذلك هو منزعه. " وحسن المآخذ في المنازع التي ينزع بالمعاني والأساليب نحوها يكون بلطف المذهب في الاستمرار على الأساليب والاطراد في المعاني والاتلاج إلى الكلام من مدخل لطيف " (3) وقد يكون حسن المنزع أحياناً مما لا يمكن تعليله.   (1) المصدر نفسه. (2) منهاج: 365. (3) منهاج: 374 - 379. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 566 المفاضلة بين الشعراء مطلب نسبي هل تمكن المفاضلة بين الشعراء؟ لقد وجدنا كيف وضع الآمدي مبدأ الموازنة بين شاعرين، ومثل ذلك فعله من قبله ومن بعده من النقاد، حتى إذا كان ابن الأثير أباح المفاضلة لا بين شاعرين وحسب، بل بين الشعر الذي تتباعد موضوعاته. ولكن حازماً كان اقرب إلى الواقع من أي ناقد آخر في فهمه لمبدأ المفاضلة؛ كان حازم يدرك الحقائق الآتية التي أشار إليها أو وضحها في كتابه وهي: (1) أن الشعر يختلف بحسب اختلاف أنماطه وطرقه، فشاعر يحسن فيما هو جزل متين، ولا يحسن طريقة الرقة واللطافة، وشاعر يحسن في غرض شعري كالنسيب دون الأغراض الأخرى. (2) أن الشعر يختلف بحسب الأزمان وما فيها وما يولع به الناس مما له علقة بشئونهم، فهناك زمن تشيع فيه أوصاف الخمر والقيان وزمان آخر يشيع فيه وصف الحرب والغازات أو نيران القرى والسخاء؟ الخ. (3) ان الشعر يختلف بحسب الأمكنة مما يلهم بعض الشعراء أن يصفوا الوحش (البادية) وآخرين أن يصفوا الخمر (الحاضرة) ؟ الخ. (4) أن الشعر يختلف بحسب اختلاف أحوال القائلين والموضوعات التي يحاولون فيها القول، فواحد يحسن الفخر، وآخر يحسن في المدح؟ الخ. لذلك كله فإن المفاضلة بين الشعراء أمر تقريبي ولا يجوز أن يؤخذ على سبيل القطع، والوصول في المفاضلة إلى درجة الجزم أمر غير ممكن، إنما يتم الترجيح فيها على سبيل التقريب، وتكون المفاضلة غير متيسرة في جودة الطبع وفضل القريحة، كما إنها قد تكون ممكنة إذا اجتمع الشاعران في غرض ووزن وقافية؛ ويجب أن ينال الشاعر من التقدير شيئاً كثيراً إذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 567 هو أجاد في تصوير ما لم يألفه، فإن إجادته في هذه الناحية يجب ان تكفل له التفضيل على شاعر آخر يحسن تصوير ما هو مألوف لديه. أما النقاد الذين جعلوا الزمن عاملاً في تفضيل شاعر على آخر فإنهم خارجون عن صناعة " النقد " جملة؛ وقد جرت في تاريخ النقد مفاضلات ينبغي ان نمر عنها عابرين لأنمها أقل من أن تستحق التوقف عندها. فإذا كانت البواعث والأسباب المهيئة لدى شعراء أكثر من غيرها لدى آخرين فحينئذ نقيم المفاضلة بينهم على هذا الأساس " كما نفضل شعراء العراق على شعراء مصر " - إذ لا تناسب في توفير الأسباب المهيئة لقول الشر " (1) . هل يمكن الحكم بكمال الشعر وأخيراً هل يمكن للناقد أن يحكم " بكمال " شعر ما؟ ذلك أمر يعز القول فيه لان الناقد يجب أن يتصدى عند الحكم لكل ما تحدثنا عنه من أنماط المعاني والنظام والأساليب والأوزان، واعتبار كل نمط من المعاني يصلح به نمط من اللفظ والنظام والأساليب والأوزان. واعتبار كل نمط من النظم بما يصلح به من أنماط اللفظ والمعاني والأساليب والأوزان، واعتبار كل نمط من أنماط الأساليب بما يصلح به من أنماط الألفاظ والمعاني والنظام والأوزان، واعتبار كل نمط من أنماط الأوزان بما يصلح به من أنماط اللفظ والمعنى والنظم والأسلوب؟ الخ " (2) أي ان مهمة الناقد هي فحص جميع الصور التي وضعها حازم - من حيث علاقتها جميعاً - للخروج بحكم في ذلك، وهذا ما لا يمكن بلوغه في النقد الأدبي. خاتمة كان من الضروري أن نتبع هذا السياق في عرض آراء حازم في النقد لأسباب عديدة منها أن أسلوب حازم صعب. ولذلك كان في هذا العرض شيء من التبسيط، ومنها ان هناك مسائل عالجها حازم في مواطن متفرقة من   (1) منهاج: 379 - 380. (2) منهاج: 143. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 568 كتابه خضوعاً لمنهجه العام وتقسيماته، وكان لابد من رصدها وجمعها معاً في نطاق واحد لسهل الرؤية على القارئ؛ ومنها أن كثيراً من الأمور التي عرض لها حازم جزئيات تتصل بعلم البلاغة، وكان من اللازم عند بناء نظرية نقدية متكاملة له أن ننحي تلك الأمور جانباً. وان نخلص المادة النقدية، مما يحيط بها من شئون عارضة. وبعد ذلك كله يمكننا أن نسأل: ما هو موقف حازم - أو دوره - في تاريخ النقد العربي؟ شمولية النقد عند حازم أول ما يلاحظه الدارس لنقد حازم هي تلك الصفة الشمولية التي تميزه عمن جاء قبله من النقاد، ذلك انه حاول أن يفيد من الاتجاه الفلسفي المبني على كتاب أرسططاليس، ومن آثار النقاد العرب سواء منهم من تأثر بالثقافة اليونانية أو لم يتأثر، وان يجيب على أكثر المشكلات الهامة التي عرضت للنقد الأدبي على مر الزمن، من خلال منهج قائم على نوع من المنطق الخاص بصاحبه، ولكنه منهج شمولي أيضاً لا يغفل أبداً ثلاثية هامة كان النقاد يكتفون بالنظر إلى واحد دون الآخر من أضلاعها، وتلك هي (الشاعر والعملية الشعرية والشعر "؛ وقد أولى حازم هؤلاء الثلاثة عناية متساوية على وجه التقريب، فاستطعنا أن نجد لديه بحثاً عن " القوى النفسية " التي لابد منها لقول الشعر، صحيح إنه لم يستعمل لفظة " الخيال " كثيراً، ولكن ما كان بمقدوره أن يفعل ذلك حين أتخذ لفظة " التخييل " صنواً للمحاكاة، وبهذا البحث في القوى النفسية استطاع حازم أن يربط بين الفاعل (أو العلة) والنتيجة. وبينا كان منهج حازم يوحي بأنه امرؤ موغل في العقلانية نجد آراءه في النقد تبعد كثيراً عن هذه الصنعة (إلا أن يتورط فيها عفوراً بتأثير من قدامة) إذ نراه يرد الشعر إلى العوامل النفسية دون غيرها، ولا يغيبن عن البال أن استعماله لكلمة " فكر " أحياناً لا تعني الدلالة العقلية، فإن اهتمامه " بالمعاني الجمهورية " هو تأكيد للعلاقة القائمة بين الشاعر وعالم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 569 الحس، ولهذا وجدنا لأول مرة ناقداً يتحدث عما نسميه اليوم " التجربة الشعرية " المستمدة من الواقع، والتي يمكن أن يرفدها الخيال والزاد الثقافي؛ وفي هذا يختلف حازم اختلافاً شديداً عن ناقد كبير آخر هو عبد القاهر الجرحاني، فإن الجرجاني الناقد جعل الشعر مربوطاً بالعقل، من جهة المعاني حتى في حالة التخييل، وبذلك قصر التخييل على الحيل العقلية في رفع درجة الشعر المخيل إلى درجة المعقول؛ ومن ثم كان التلذذ الناشئ عن تذوق الشعر لديه أمراً عقلياً. أما حازم فإنه استطاع لدقته أن يميز بين الحيل التمويهية والتخييل، صحيح إنه يعتقد أن التمويه متصل بالقائل والمتلقي، ولكن الحيل الشعرية إذا اتصلت بالشعر نفسه فهي محاكاة، وبهذا استطاع حازم أن يفصل بين التخييل من حيث هو مظهر عام يساوي المحاكاة، ومن حيث هو عنصر خاص قد يوازي التمويه. كذلك تجاوز حازم في نظريته الشعرية مشكلة " النظم " التي أطال الجرحاني الوقوف عندها؛ فتحدث حازم عن النظم بمعناه العام ولم يقصره على صورة السياق التأليفي إلا حين تخطاه إلى مراحل أخرى؛ فهو قد أقر أن النظم يتناول سياق الألفاظ، ولكنه أوجد إلى جانبه الأسلوب ليتناول سياق المعنى، وفي توفر النظم والأسلوب والمنزع لدى حازم يتم تخطيه لنظرية الجرحاني. الشعر وحركات النفس (لا العقل) ومن طبيعة النظريتين - في تباينهما - إلى الشعر ذهب الجرحاني إلى التعلق بالدقة في المعاني ليكفل للتذوق مراناً عقلياً، أما حازم فإن قصره الشعر على حركات النفس جعله يطلب الوضوح ويتأتى له من شيء النواحي. ويبدو ان حازماً عرف الجرحاني ولكنه لم يستطع ان يأخذ منه نظرته إلى معنى المعنى، وربما لم يفهمها أو ربما وجد منهجه يضطره إلى التحول بها عن واقعها، فلذلك ذهب إلى القول بالمعاني الأوائل والمعاني الثانوية، وهو لا يعني مستويين متفاوتين في التعبير، وغنما يعني معاني متساندة يوضح تاليها سابقها. ولكن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 570 هذين الناقدين يتقاربان في التقليل من شأن السرقات في المعاني، وذلك لان نظرية النظم عند عبد القاهر تبيح التفاوت المستمر، مهما اهتدى شاعر بضوء شاعر قبله، وموقف حازم من المعاني الجمهورية يعني أن المصدر الذي يرده الشعراء واحد، وإنما يتم التفاوت في المعاني المبتكرة. اهتمامه بسبب تفلسفه بالوحدة في المنبع والغاية والتقاؤه بقدامة وككل ناقد متفلسف سعى حازم دائماً إلى مبدأ " الوحدة " فرآها - كما ذكرت سابقاً - في منبع الشعر وفي أغراضه، ومن طلبه للوحدة كان لابد من أن يلتقي بقدامة وان يعجب بقدرته المنطقية، فحاول ان يحاكي طريقته في إيجاد محور للأغراض الشعرية؛ ولكن قدامة استطاع أن يضلله في غير موطن، فهو قد تابع قدامة في إخضاع الشعر للحدود العقلية التي يقبلها المنطق مثل حسن التقسيم والمقابلة وما أشبه، مع انه كان في مقدور حازم ان يتجاوز هذا كله لقوله بانبثاق الشعر من قوى " تسمى المائزة والحافظة والصانعة) فإذا وجد شيء من هذه الأمور في الشعر؛ فليست هي التي تكفل له درجة كبيرة من التأثير، وكان التأثير من أهم ما حام حوله حازم في نقده؛ وقد حاول حازم ان يخرج من هذا المأزق الذي أوقعه فيه قدامة حين ختم هذه الملاحظات بضرورة إعطاء الحكم للشعراء، أي عدم اتهامهم بأنهم خرجوا على صحة التقسيم والتقابل إلا إذا عجز التأويل عن ذلك: " وكلما أمكن حمل بعض كلام هذه الحلبة المجلية من الشعراء على الصحة كان ذلك أولى من حمله على الإحالة والاختلال، لأنهم ثبت ثقوب أذهانهم وذكاء أفكارهم واستبحارهم في علوم اللسان وبلوغهم من المعرفة الغاية القصوى " (1) وكأنما أحس حازم أن القاعدة هي الشاعر لا تقسيمات قدامة وتفريعاته حول صحة المعاني وسلامتها.   (1) المنهاج: 143. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 571 صعوبة التخلص من تأثير قدامة كذلك وجد حازم نفسه مضطراً إلى أن يوفق بين رأيه الخاص فيما يستحق المدح أو الذم من الأفعال وبين رأي قدامة، وخلاصة رأي حازم الذاتي في هذا الموضوع أن إيثار النفس على البدن، ثم إيثار الغير على الذات هما الموضع الطبيعي للمدح (1) ، (وضدهما للذم) - وهذا الإيثار غاية ما تستطيع تحقيقه الإرادة الإنسانية؛ أما خلاصة رأي قدامة فهو أن المدح يتم بالفضائل الأربع الكبرى وهي: العقل والعفة والعدل والشجاعة؛ ومع أن التناقض هنا غير واضح بين رأيي الناقدين فإن الإيثار معلم ذاتي بينما الفضائل الأربع مقياس اجتماعي؛ نعم ان الإيثار قد يكون محطاً لإكبار المجتمع، ولكنه أصعب من ان يصبح مقياساً عاماً؛ والإيثار أليق بمنهج حازم لأنه - وان ذكر المدح في شعره تقليداً للنقاد السابين - جعل أهم موضوعات الشعر هي المشاعر والمناظر والمسموعات ومواطن السرور ثم الأحوال الشاجية كالفرقة بعد اللقاء وتشكي الزمان والأمور المفجعة التي تذكر بالفناء وفساد العالم ومصير الناس؛ نعم إنه لم ينف المدح من قواعده أو شواهده، ولكن المدح لا يقوم في نطاق نظرية حازم إلا ان يكون وليد أحد طرفي البواعث التي هي الإطراب والآمال، فالمدح (أي شعر المدح) واحد من الأمور التي قد يولدها الأمل، ولكنه لا يحتل في نظرية حازم مقاماً عالياً بالنسبة للموضوعات الأخرى التي هي أعلق بالنفوس الإنسانية.   (1) منهاج: 162. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 572 أثر ابن سينا والحقيقة أن حازماً أفاد في نقده كثيراً من ابن سينا، وفي شرحه التعميمي للمحاكاة ما قد يدل على انه كان فاهماً لهذه النظرية، ولكنه لم يستطع إلا أن يحصر أمثلته عليها في جانب التشبيه؛ كذلك قدم له ابن سينا مفهوماً واضحاً للفرق بين الشعر العربي واليوناني، ومهد له أن يقول إن أرسطو لو عرف الشعر العربي لزاد كثيراً في أحكامه، ومهما نتحفظ إزاء هذا القول فأنا لا نملك إلا أن نقول: لو أن هذا القدر من الشعر الغنائي كان معروفاً لأرسطو لعدل في نظرية المحاكاة أو لاضعاف إليها؛ وعن طريق التأثر بالفلسفة استطاع حازم أن يحل مشكلة الصدق والكذب في الشعر، بعد ان طال القول فيها لدى من سبقه من النقاد. وخلاصة القول أن حازماً يمثل المزح بين التيار اليوناني والتيار العربي في النقد بعد أن ظلاً منفصلين مدة طويلة، وهو رغم اعتماده على هذين المصدرين استطاع ان يرسم منهجاً متكاملاً لموقف نقدي محدد المعالم. بيان مصطلح حازم في كتابه ولا أرى باساً في ختام هذا الفصل في أن أوضح المصطلح الذي استعمله حازم في فصول كتابه، وان يكن ذلك المصطلح غير داخل على وجه الدقة في مفرماته النقدية؛ سمى حازم كتابه " منهاج البلغاء وسراج الأدباء " وجعل عنوانات الفصول والفقرات هكذا على التوالي: منهج - معلم - إضاءة - تنوير - معرف - مام. وهي اصطلاحيات تعيد إلى الذهن محاولة صاحب الريحان والريعان. فالمنهج (أو المنهاج) هو الطريق الواسعة ولذلك كان كل فصل بهذا العنوان (في الإبانة عن ماهيته) ، وعلى طول هذا الطريق " معلم " أي إشارة تدل على (طريق العلم) و " معرف " أي إشارة تدل إلى شئون الذهن والقواعد المتصلة بالتفريعات المنطقية، وان المعرف يدل في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 573 الغالب على التقديرات النفسية؛ أما " المام " فإنه يدل على مذهب يفضي إلى غاية أو قصد. وهذه المصطلحات الثلاثة متصلة من عنوان الكتاب بلفظة " منهاج البلغاء "؛ غير أن الساري على الطريق بحاجة إلى " سراج " (القسم الثاني من العنوان) وهذا السراج هو الذي يمنح الماشي على المنهاج " إضاءة " و " تنويراً " والفرق بينهما أن الإضاءة اقل سطوعاً من التنوير، فكل فقرة تحمل عنوان إضاءة هي بسط لفطرة فرعية، وكل تنوير فهو مزيد بسط لفكرة جزئية قد تجيء في الإضاءة نفسها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 574 النقد في مصر والشام والعراق في القرنين السادس والسابع الوحدة الأدبية في هذه الأقطار ليس من السهل أن نفرد كل قطر من هذه الأقطار عند الحديث عن النقد الأدبي في القرنين السادس والسابع، لا لأن اثنين منهما وحسب - وهما مصر والشام - كانا تحت السيادة الأيوبية في معظم هذه الفترة، وإنما لأن الصلات الثقافية بين تلك الأقطار - من ناحية عامة - كانت قوية الحلقات، ثم لأن النقاد الذين نشأوا في هذه الأقطار، كانوا من حيث النشأة والثقافة يمثلون ذلك التمازج الثقافي؛ فعبد اللطيف البغدادي رحالة عرف مصر والشام معرفة مساكنة وتأثر، وابن الأثير الذي ينتمي إلى جزيرة ابني عمر، عاش في مصر والشام، والقاضي الفاضل وابن سناء الملك وابن ظافر وغيرهم، كانوا يعرفون الحدود الجغرافية بين تلك البلدان، دون أن تمنعهم تلك الحدود من أن يكونوا يوماً هنا ويوماً هنالك. النفرة من المؤثرات اليونانية وبينما كانت الأندلس تحاول منذ القرن الخامس أن تربط بين اتجاهين في النقد: عربي ويوناني، من خلال جهود ابن حزم وابن خفاجة وابن رشد وحازم القرطاجني، كان نقاد هذه الأقطار يتجافون - وكأنهم يعانون لا شعورياً نظرة عدائية تجاه ما أثارته الحروب الصليبية - عن كل اثر للثقافة اليونانية، ويتمسكون بما يعتقدونه " أصالة متفردة " للنظرة العربية في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 575 مجال الشعر والنقد؛ فقد يتوقع المرء أن يجد لدى شخص مهتم بالثقافة الفلسفية مثل عبد اللطيف البغدادي أثراً ما لكتاب الشعر، ولكنه يفاجأ إذ يجد هذا الرجل في ميدان النقد مهتماً بتلخيص كتاب " العمدة " لابن رشيق. وربما توقف المرء طويلاً عند قول رجل حاد الذكاء قوي الاعتداد بالنفس مثل ابن الأثير وهو يقول في كتابه: المثل السائر: " إن سلمت إليك أن الشعر والخطابة كانا للعرب بالطبع والفطرة فماذا تقول فيمن جاء بعدهم من شاعر وخطيب تحضروا وسكنوا البلاد ولم يروا البادية ولا خلقوا بها، وقد أجادوا في تأليف النظم والشر، وجاءوا بمعان كثيرة ما جاءت في شعر العرب ولا نطقوا منه، قلت لك في الجواب: هذا شيء لم يكن، ولا علم أبو نواس شيئاً منه ولا مسلم بن الوليد ولا أبو تمام ولا البحتري ولا أبو الطيب المتنبي ولا غيرهم، وكذلك جرى الحكم في أهل الكتابة كعبد الحميد وابن العميد والصابي وغيرهم؛ فإن ادعيت أن هؤلاء تعلموا ذلك من كتب علماء اليونان، قلت لك في الجواب: هذا باطل بي أنا، فإني لم أعلم شيئاً مما ذكره حكماء اليونان، ولا عرفته، ومع هذا فانظر إلى كلامي؟. وإذا وقفت على رسائلي ومكاتباتي - وهي عدة مجلدات - وعرفت اني لم اتعرض لشيء مما ذكره حكماء اليونان في حصر المعاني علمت حينئذ ان صاحب هذا العلم من النظم والنثر، بنجوة من ذلك كله، وانه لا يحتاج غليه أبداً؟. ولقد فاوضني بعض المتفلسفين في هذا وانساق الكلام إلى شيء ذكر لأبي علي بابن سينا في الخطابة والشعر، وذكر ضرباً من ضروب الشعر اليوناني يسمى " اللاغوذيا " وقام فاحضر كتاب " الشفاء " لأبي علي ووقفني اليوناني يسمى " اللاغوذيا " وقام فأحضر كتاب " الشفاء " لأبي علي ووقفني على ما ذكره فلما وقفت عليه استجهلته فإنه طول فيه وعرض كأنه يخاطب بعض اليونان، وكل الذي ذكره لغو لا يستفيد به صاحب الكلام العربي شيئاً " (1) .   (1) المثل السائر 2: 4 - 6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 576 ويفيد هذا النص الذي نقلناه عن ابن الأثير أموراً كثيرة، منها أنه كان في البيئة المشرقية من يؤمن بما قاله ابن سينا نقلاً عن اليونان، ولكن صوت مثل هذا المثقف، قد ضاع إزاء صوت ابن الأثير، وأن ابن الأثير كان يعتقد أنه لا حاجة بالنقد إلى كل ما قاله مفكرو اليونان - ما دام الشعر العربي هو مجال الحكم - وان الشعر العربي قد جرى في طريقه حتى عصر ابن الأثير، دون ان يكون للفكر اليوناني أثر في تكييفه واتجاهاته؛ وان ابن سينا - إذ يتحدث في النقد - يجهل الطبيعة العربية، ويتحدث إلى أهلها كأنه يتحدث إلى بعض الاعاجيم الغربيين عنها؛ ولا يستطيع أحد أن ينكر على ابن الأثير كثيراً مما قاله، لأنه كان يدرك إدراك الأديب المستقل في منحاه أن المقاييس اليونانية التي تمثلت في ترجمات كتاب الشعر وملخصاته لم تستطع أن تكون ذات تأثير في تيار الشعر العربي، ولكنه لم يسال نفسه: هل كان تيار النقد النابع من التصورات العربية الأصيلة قادراً على أن يؤثر في وجهة الشعر أيضاً؟ أعني: إلى أي حد استطاع النقد كله - ومن جملته نقد ابن الأثير - أن يكون ذا أثر موجه في حياة الشعر أو النثر؟ العودة إلى الينابيع العربية ولذلك كانت العودة إلى الينابيع العربية في النقد من أشد ما يميز التيار النقدي في مصر والشام والعراق - في هذه الفترة - وأن تكون تلك العودة قائمة على الاختيار المحدد لمصادر معينة من تلك الينابيع. فابن الأثير لم يجد ما ينتفع به من جميع ما يمثل التيار العربي في النقد سوى كتاب " الموازنة " للآمدي، و " سر الفصاحة " للخفاجي - مع الإشارة إلى أن الموازنة " أجمع أصولاً وأجدى محصولاً " (1) . وأسامة بن منقذ لا يجد ما يمثل النقد سوى العودة إلى المصادر السابقة وتلخيص ما فيها وترتيبه، ونعني بالمصادر السابقة ما أعان على رسم صورة للمحسنات الشكلية مثل " البديع   (1) المثل السائر 1: 25 - 26. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 577 لابن المعتز والحالي والعاطل وحلية المحاضرة والصناعتين للعسكري واللمع للعجمي والعمدة لابن رشيق " (1) - ستة مصادر مما يضع أسس المصطلح البلاغي، دون التمرس بالمشكلات النقدية الكبرى التي تصدت لها الموازنة والوساطة وأسرار البلاغة. وقد اقتصر ابن الأثير على كتابين مشرقيين، لكن أسامة وعبد اللطيف البغدادي يشير إلى أثر مغربي في الاتجاه النقدي حين يتخذان من " العمدة " لابن رشيق مصدراً هاماً يتكئان عليه؛ وهكذا تكتمل الحلقة النقدية، فبعد أن كان المشرق هو المؤثر في خلق تيار نقدي في المغرب (ومن ضمنه الأندلس) نجد المغرب حينئذ يلعب دور المؤثر. تأثير الأندلس في مصر وبلوغ الأثر الفارسي إليها ولم يقتصر تأثير المغرب على النقد، بل تعدى ذلك إلى الفنون الأدبية نفسها، إلا أن مصر كانت أكثر تقبلاً للأثر المغربي من الشام والعراق، وخاصة في إقبالها السريع على فن الموشحات. ونتيجة لذلك تمايزت البيئات الثلاث في نوع الأثر الخارجي، فغلب على الشام والعراق الأثر الفارسي متمثلاً في فن الدوبيت الذي أقبلت عليه الأذواق واعتبرته فناً مستقلاً إلى جانب الشعر والمواليا (2) ؛ حقاً إن الأثر الفارسي وصل إلى مصر نفسها، إذ نجد ابن سناء الملك مثلاً يجعل خرجات بعض موشحاته فارسية، ولكن تأثير الموشح في مصر كان أبعد وأظهر، ولعل اهتمام الأدباء   (1) انظر البديع في نقد الشعر: 8؛ والواقع أن أسامة لم يقف عند هذه المصادر، فهو ينقل عن غيرها مثل البيان لابن جني (161) واللامع العزيزي للمعري (175) وعمدة الكتاب لابن قتيبة (162) والمنصف لابن وكيع (183) ونقد الشعر لقدامة (183) ؛ ولكنه رغم ذلك لم يهتم بالمشكلات النقدية. (2) يقول ابن خلكان (3: 501) في ترجمة الحاجري: وله ديوان شعر تغلب عليه الرقة وفيه معان جيدة، وهو مشتمل على الشعر والدوبيت والمواليا، ولقد أحسن في الكل مع انه قل من يجيد في مجموع هذه الثلاثة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 578 والنقاد في هذه الأقطار الثلاثة بالدوبيت والمواليا والموشح غنما كان مرحلة أولية في خطوة كبيرة لم يجرؤوا على القيام بها، وهي الاعتراف الأدبي بفنون زجلية مختلفة شاعت حينئذ في تلك البلاد، ونحن نعلم انه في القرنين السادس والسابع، على أقل تقدير، غلب " الكان وكان " على البيئة العراقية، وكان في مبدأ أمره مقصوراً على الحكايات والخرافات، ونظم فيه بعض الوعاظ الرقائق والزهديات، ثم اقتبسه الملاحون في دجلة فاصبح أناشيدهم الخاصة، وتولع به أهل البطائح بشكل خاص حتى أصبح يسمى البطائحي (1) ؛ وغلب على البيئة المصرية فن زجلي سمي " البليق " وشغف به الناس وعدوه مستقلاً بعض الاستقلال عن الزجل بمعناه العام (2) - ومع ذلك لا نجد ناقداً تصدى لتلك الفنون أو حاول التوقف عند قيمتها، أو لمح الانقسام الحادث بين الشعب والطبقات المثقفة في نوع الزاد الأدبي الذي يفيء إليه كل منهما، حتى ابن الأثير الناقد الذي ينصح كل من يتصدى للشعر والخطابة " أن يتتبع أقوال الناس في محاوراتهم " (3) ، والذي أفاد من قول امرأة سمعها تندب ابنها وتقول فيه " كيف لا أحزن لذهابه وهو أول درهم وقع في الكيس " فأعجب بعيارتها واستعارها في إحدى رسائله - هذا الناقد يتحدث عن بعض تلك الفنون الشعبية بطريق السماع، وكأنه لم يسمع بنفسه أحداً يتغنى بها أو ينشدها إلا حين نبه لذلك فيقول: " وبلغني ان قوماً ببغداد من رعاع العامة يطوفون بالليل في شهر رمضان على الحارات وينادون بالسحور، ويخرجون ذلك في كلام موزون على هيئة الشعر، وإن لم يكن من بحار الشعر المنقولة عن العرب، وسمعت شيئاً منه فوجدت   (1) المقتطف من أزاهر الطرف، الورقة: 39. (2) انظر صفحات متفرقة من الطالع السعيد، وقول الادفوي: 583 في ترجمة ابن دقيق العيد " وكان ينشد الشعر والموشح والزجل والبليق والمواليا "، وقد عرف البليق أيضاً في العراق، وكان نموذجه يختلف عن النموذج المصري (العاطل الحالي: 126) . (3) المثل السائر: 103. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 579 فيه معاني حسنة مليحة ومعاني غريبة وغن لم تكن الألفاظ التي صيغت به فصيحة " (1) . الموشح في البيئة المصرية وقد تعرفت البيئة المصرية إلى فن الموشح في دور مبكر، نقله إليها المهاجرون الأندلسيون، وأقدم نماذجه التي وصلتنا ربما يرجع إلى النصف الثاني من القرن السادس (2) ، ولكنه عند أواخر هذا القرن كان قد شاع - فيما اقدر - شيوعاً كبيراً، وفي أواخر ذلك القرن وفي القرن الآلي كثر المهاجرون من أمثال: ابن اليسع الذي ألف لصلاح الدين " المعرب عن أخبار المغرب " وابن دحية وأخيه وابن سعيد ومحمد بن علي اليحصبي القرموني الزجال الذي يروي عنه ابن ظافر كثيراً من القصص الأندلسية في " بدائع البدائه "، وقد اقدر أن هذا الزجال عرف المصريين إلى فنون الزجل الأندلسي أيضاً كما قام المهاجرون الآخرون بإشاعة الموشح، ونحن نعلم أن الأندلسيين كانوا يرون في الموشحات مصدر فخر لهم كما قال ابن دحية في المطرب: " وهي زبدة الشعر وخلاصة جوهره وصفوته، وهي من الفنون التي اغرب بها أهل المغرب على أهل المشرق وظهروا فيها كالشمس الطالعة والضياء المشرق " (3) ويستفاد مما ذكره ابن سناء الملك ان المصريين كانوا - ربما قبل عصره - يقلدون الموشحات الأندلسية ويستعيرون خرجاتها في موشحاتهم (4) .   (1) المثل السائر 1: 124 ويستفاد من العاطل الحالي: 171 أن القائمين بأناشيد السحور كانوا يغنون " القوما ". (2) انظر أخبار وتراجم أندلسية: 43. (3) المطرب: 204. (4) فصوص الفصول، الورقة 21 ب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 580 الشعر الأندلسي في مصر ولم يقتصر تأثير الأندلس في البيئة المصرية على الموشحات. بل أقبل المصريون على الشعر الأندلسي نفسه، وعرفوا المصادر الأندلسية الهامة من مثل الذخيرة وقلائد العقبان، وأدرجوا الشعر الأندلسي الذخيرة وقلائد العقيان، وأدرجوا الشعر الأندلسي في مؤلفاتهم، وتصدوا لبعضه بالدراسة والنقد، وقد تفاعلت بعض المظاهر البيئية مع هذا الأثر الأندلسي الوافد، ومنحت الاتجاه النقدي صبغة مميزة، ويتضح لنا عند دراسة أشهر النقاد حينئذ المعالم التي تميز ما يمكن أن يسمى " المدرسة المصرية " في النقد. ابن سناء الملك وأثر القاضي الفاضل فيه وفي طليعة هؤلاء القاضي السعيد هبة الله بن جعفر بن سناء الملك (545 - 608) صاحب " دار الطراز "؛ ولا نستطيع أن نتحدث عنه - بل عن أكثر نقاد مصر في هذه الفترة - دون أن نذكر القاضي الفاضل، الذي كان يحتل دور المعلم والراعي للأدباء في مصر حينئذ، وتعد صلته بابن سناء الملك صلة توجيه ونقد وتشجيع؛ وهذه حقيقة تتضح حين نعلم انه كان في رسائله يلح دائماً على أن يكتب إليه ابن سناء الملك - حين كان القاضي الفاضل في الشام - بآخر ما نظمه، بل يطلب أن يرسل إليه مسودات شعره ليرى ما يجري فيها من تنقيح وتغيير. يقول ابن سناء الملك: " وكانت عادتي معه رحمه الله أن يطالبني بالوقوف على مستودات شعري ويرى ما ضربت عليه وما أثبته، فربما رأي ما ضربت عليه خيراً مما أثبته فيناقشني في الحساب ويطالبني بالجواب ويوضح لي وجه الخطأ والصواب، هذه عادتي معه من أول ما أدبني وعلمني وهذبني " (1) . ومعنى ذلك أن القاضي الفاضل كان يقوم بدور الناقد؛ وقد أورد ابن سناء الملك نماذج من نقد الفاضل لبعض قصائده وكلها يشير إلى أن الفاضل كان ينظم قصيدة نثرية   (1) فصوص الفصول، الورقة: 29. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 581 - إن صح التعبير - في نقده لشعر تلميذه، ولكنه بين الحين والحين كان ينبهه إلى بعض المآخذ، فقد انتقده مرة لأنه استعمل قافية التاء المضمومة: " فأما التائية المرفوعة فلا يقربها ولا يقر بها، فما أعجبني لا لأنها غير معجبة بل لأني اعلم أن الله لو حشر الأولين والآخرين ما قدروا ان يكملوا هذه القصيدة من ذلك الجنس، ولا أحاشي من ذلك الكرام الكاتبين، فضلاً عن الأندلس، وإذا كانت لا تدرك فلتترك..؟ " (1) ؛ وانتقده مرة أخرى لأنه أورد في قصيدة سينية كلمة " الكنس " في قوله: صليني وهذا الحسن باق فربما ... يعزل بيت الوجه منه ويكنس وقال له: " وبيت يعزل ويكنس أردت أن أكنسه من القصيدة لان لفظة الكنس غير لائقة بمكانها قبلاً " (2) ، فاعتذر ابن سناء الملك بأنه إنما اتبع في ذلك ابن المعتز، وان طريقته في الشعر هي طريقته، وأن طبعه لم يستطع أن يجاري البحتري لتفوقه الكبير، وانه نبا عن شعر أبي تمام إذ يكثر من مثل " سلم على الربع من سلمى بذي سلم "، فأجابه القاضي الفاضل بقوله: " ولا حجة للقاضي السعيد فيما أحتج به في الصواب فقط " وأحاله على كتاب العمدة لابن رشيق ليعرف المآخذ التي تورط فيها ابن المعتز، ولم تعجبه وقفته من الطائيين: " وقد تعصب القاضي السعيد على أبي تمام فنقصه وحطه، وللبحري فأعطاه أكثر من حقه، وما أنصفهما " (3) .   (1) المصدر نفسه: 28. (2) المصدر السابق: 24/ أ. (3) المصدر نفسه 27/ أ، وانظر دفاع ابن سناء الملك في الأوراق 24 - 27 والغيث 2: 245 - 246 وقد تعقب الصفدي بالنقد القاضي الفاضل، إذ انه وجده استعمل لفظة " الكنس " في إنشائه (الغيث: 246) ولعل القاضي كان يعني نبو اللفظة في الشعر أولا وفي القافية ثانياً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 582 وقد يوحي هذا الموقف النقدي بأن القاضي الفاضل كان محافظاً في ذوقه، ولكن سرعان ما ندرك سعة التذوق لديه حين نجده أحد المعجبين بهذا الفن الجدي - اعني الموشح - وان تلميذه كان يعرض عليه بعض موشحاته، ومن أمثلة ذلك قوله: " وقفت على موشح الجلنارة (1) ، وهو أحسن من الموشح الجلناري الذي كان زينة أعياد الخلفاء، واجدر منها بالنفاسة من القيمة والزيادة في البقاء، ومما ينفك يغايظنا بهذه الملح، ويومض إلينا بهذه اللمح، فإذا سألناه في إباحة معاقلها، وجلاء عقائلها تمنع وإنما يتمنع من يخاف التبذل بالبذل، وهذه المحاسن لا يخاف عليها الملال، ولا (2) يتطرق إليها الابتذال، ولا يختلط بزها ببز، ولا يوقع على مفصلها بحز " (3) . توجيه ابن سناء الملك لاختيار شعر ابن الرومي ومن ضروب المران الذي كان يأخذ به ذلك الأستاذ الناقد تلميذه، أن يطلب إليه اختيار شعر هذا الشاعر أو ذاك، فقد كلفه مرة باختيار شعر ابن الرومي، فاختار منه حرف الهمزة ثم توقف، فكتب إليه يذكره بذلك، فكان رد ابن سناء الملك: (فأما ما أمر به المولى في شعر ابن الرومي فما المملوك من أهل اختياره، ولا من الغواصين الذين يستخرجون الدر من بحاره، لأن بحاره زخارة، وأسوده زآرة، ومعدن تبره مردوم بالحجارة، وعلى كل عقيلة ألف نقاب بل ألف ستارة، يطمع ويؤيس، ويوحش ويؤنس، وينير ويظلم، ويصبح ويعتم، شذرة وبدرة، ودرة وآجرة، وقبلة بجانبها لبسة، وحرة بجوارها قحبة، ووردة قد حف بها الشوك، وبراعة قد غطى عليها النوك، لا يصل الاختيار إلى الرطبة حتى يتجرح بالسلا، ولا   (1) إشارة إلى موشحة لابن سناء الملك أولها: " صرف كاسي جلناره ". (2) في الخطوط: وهو. (3) فصوص الفصول، الورقة: 67/ أ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 583 يقول عاشقها هذا الملح قد أقبل حتى يقول قد تولى؟ " (1) . أن الالتفات إلى ابن الرومي استمرار لذلك الكشف الذي بدا في القرن الرابع، وبقي - بل أزداد بروزاً - لدى نقاد القرن الخامس وخاصة ابن رشيق، الذي عد ابن الرومي أحق الناس بلقب شاعر. ولكن ابن سناء الملك قد أقر بعجزه عن صنع مختار من شعره، وعلل ذلك بالتفاوت فيه. وتجاوز أسباب أخرى أو لم يدركها؛ وليس في الكتاب ما يدلنا ماذا كان رد الفعل لدى القاضي الفاضل إزاء هذا النقد. توجيهه لاختيار شعر ابن رشيق كذلك وجه القاضي الفاضل تلميذه لعمل اختيار من شعر ابن رشيق، وكان هذا مراناً أسهل من سابقه، إذ أنجز ما طلبه إليه، وأرسل الاختيار لأستاذه، وأفاده التمرس بهذا حين نبهه إلى ما يعانيه شعر ابن رشيق من اتكاء على شاعره المفضل - ابن المعتز - وعلى المتنبي، حتى قال: " ولو لم يكن يخلق الله ابن المعتز والمتنبي لما كان ابن رشيق يعرف الشعر فضلاً عن أن ينظمه، ولا أن يعلمه، وهو ينهب أشعار هذين الرجلين نهباً قبيحاً، ولا سيما ابن المعتز " (2) ثم أورد أمثلة من منهوبات ابن رشيق، وجرى بذلك في سياق النقاد الذين تحدثوا عن السرقات، وتوجه خاطره إلى التوقف عند المعاني المشتركة. ابن سناء الملك يستخلص قواعد الموشح إن المساجلات بين القاضي الفاضل وابن سناء الملك تدخل في صميم النشاط النقدي، ولكنها قاصرة على تدريب فرد من الناس ليجود شعره، ويوسع افقه في القدرة على تمييز الجيد من الرديء في الشعر؛ وهي وحدها لا تجعل من ابن سناء الملك ناقداً ذا مذهب نقدي واضح المعالم؛ غير أنه يستحق اسم الناقد لشيء آخر، وذلك في موقفه من الموشح، الفن الطارئ   (1) فصوص الفصول، الورقة: 31. (2) المصدر نفسه، الورقة: 80. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 584 الجديد على المشارقة؛ فقد تفتح له ذوقه على نحو لم يتيسر لشخص آخر من معاصريه؛ صحيح عن وقفته أمام الموشح تمثل " شعوراً بالنقص " إزاء بدعة جديدة، ولكن ذلك الإقدام على تلك البدعة كان يتطلب جرأة في الذوق، وقد تمثلت هذه الجرأة لدى ابن سناء الملك في وجهتين: أولاهما محاولة التجديد في التقليد، فهو لا ينكر انه يحاكي الأندلسيين، ولكنه لا يريد أن يفعل كما فعل غيره من المصريين فيستعير الخرجات من موشحات المغاربة، يقول " فكنت إذا عملت موشحاً لا استعير خرجة غيري بل ابتكرها واخترعها ولا أرضى باستعارتها؟ واخترعت أوزاناً ما وقعوا عليها (أي المغاربة) ، ولم يبق شيء عملوه إلا عملته إلا الخرجات الأعجمية فأنها كانت بربرية (1) فلما اتفق لي أن تعلمت اللغة الفارسية عملت هذا الموشح وغيره وجعلت خرجته فارسية بدلاً من الخرجة البربرية " (2) . أما الوجهة الثانية - وهنا تتميز روح الناقد - فهو لإقدامه على استخراج قواعد للموشح، وذلك أمر لم يقدم عليه الأندلسيون أنفسهم. ولست أشير هنا وحسب إلى القواعد التي رسمها لشكل الموشح؛ وتآلفه من أقفال واغصان، وعدد أجزاء كل بيت، إلى غير ذلك من شئون يدركها من يقارن نماذج مختلفة من الموشحات، فتلك دراسة علمية تجيء صائبة أو مخطئة بمقدار ما لدى الدارس من شواهد؛ ولكني أشير أيضاً إلى التفننات المختلفة في طبيعة الموشح، وما حديثه عن الخرجة إلا من هذا القبيل إذ يقول " وقد تكون الخرجة عجمية اللفظ بشرط ان يكون لفظها في العجمي سفسافاً نفطياً ورمادياً زطياً، والخرجة هي ابرز الموشح وملحه وسكره، ومسكه وعنبره، وهي العاقبة وينبغي أن تكون حميدة، والخاتمة بل السابقة وإن   (1) هذا لافت للنظر، فقوله إنها " بربرية " يشير إلى انه لم يدرك إنها كانت بعجمية الأندلس، على أنا لا نستبعد أن تكون هنالك خرجات بربرية أيضاً، ولكن ابن سناء الملك لا يذكر هذه اللفظة في " دار الطراز ". (2) فصوص الفصول، الورقة: 21ب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 585 كانت الأخيرة، وقولي السابقة لأنها التي ينبغي أن يسبق الخاطر إليها ويعملها من ينظم الموشح في الأول، وقبل أن يتقيد بوزن أو قافية " (1) ؛ على إننا يجب أن لا نقلل من قيمة القواعد التي استخرجها ابن سناء الملك، فإنها تدل على عقلية تنظيمية في النقد، وغن لم يعطنا فيها مقاييس واضحة، تعين على تذوق الموشح أو استكمال نواحي الجمال فيه، وحسب ابن سناء الملك انه لم يسبق إلى هذه الدراسة، وانه أيضاً لم يأت بعده من يكمل ما صنع. ولا نعرف ناقداً آخر في مصر توقف عند الموشحات بالنقد، أو عني بوضع قواعد واحكام نقدية نظرية، وإنما انصرف النقاد في الأكثر إلى النقد التطبيقي، وفي هذا الباب تجاوزوا الانشغال بالمتنبي، حتى نكاد لا نجد لهم حكماً يتعلق به وبشعره، وانصرفوا إلى نقد شعراء آخرين، من المعاصرين وغيرهم. ابن جبارة وكتابه نظم الدر في نقد الشعر وإذا كان القاضي الفاضل قد رفع من شعر ابن سناء الملك بتلك التقريظات المغالية، التي لا تتوقف كثيراً عند التعمق والتحليل، فغن القاضي الرئيس ابن جبارة علي بن إسماعيل (554 - 632) (2) قد قصر جهده النقدي في كتابه " نظم الدر في نقد الشعر " على تبيان المآخذ والمساوئ في شعر ابن سناء الملك، ولا ندري هل كان مدفوعاً إلى ذلك بداعي المنافسة، أو بداعي ميله إلى نقض تقريظات القاضي الفاضل؛ وهذا الكتاب الذي يسميه الصفدي أيضاً " تعليقته التي أملاها على شعر ابن سناء الملك " (3) ، لم يصلنا ولكن الصفدي احتفظ بنماذج منه في شرحه على لامية العجم، من ذلك قوله معلقاً على هذين البيتين لابن سناء الملك:   (1) دار الطراز: 32. (2) انظر ترجمته في نكت الهميان: 208 وبغية الوعاة: 329. (3) الغيث 1: 128. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 586 ومليحة بالحسن يسخر وجهها ... بالبدر يهزا ريقها بالقرقف لا أرتضي بالشمس تشبيهاً لها ... والبدر بل أكتفي بالمكتفي " وهذا نوع من الجنون والاختلاط، وذلك أن هذا الشاعر كثيراً ما يسمع الشعر ويختلط فيه ذهنه، فيأتي به على غير ما يقتضيه، فإن ابن المعتز انشد البيت (1) وأراد كونها في الحسن كالشمس التي هي آية النهار أو كالبدر الذي هو آية الليل أو كالمكتفي الذي هو خليفة الأرض في عظم الشان وكبر السلطان، فنقله هذا الشاعر إلى الحسن، ومن أين للمكتفي صفة الحسن، والذي دلت عليه التواريخ أنه كان أسمر أعين قصيراً؟ " (2) . ووقف عند قول ابن سناء الملك: ألا فارفعي ذا الشعر عنا فإننا ... نغار عليه من ملاعبة الحجل عجبت له إذ يطمئن معانقاً ... أما أذهل الخلخال خوف بني ذهل بشوك القنا يحمون شهد رضابها ... ولابد دون الشهد من إبر النحل فاتهمه بفساد المعنى ونقضه وانه أراد أن يمدحهم فهجاهم لأنه جعل طعن رماحهم كإبر النحل، وإبرة النحل لا أثر لها ولا ألم يحصل منها؟ " ولولا وقوع هذا الشاعر في شعره وقلة معرفته وقصور فكره لما قال: بشوك القنا يحمون شهد رضابها، وكيف يحمى الشهد بالشوك (3) "؟ وقال ابن سناء الملك: لها ناظر يا حيرة الظبي إذ رنا ... به كحل ناداه يا خجلة الكحل   (1) بيت ابن المعتز: والله لا كلمتها ولو أنها ... كالبدر أو كالشمس أو كالمكتفي (2) الغيث 1: 128. (3) الغيث 1: 224. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 587 وأثقلها الحسن الذي قد تكاثرت ... ملاحته حتى تثنت من الثقل فقال ابن جبارة: " قوله لها ناظر: تحققنا ذلك، ثم قال: يا حيرة الظبي، ولم يحار مع وجود المقاربة وعدم المباينة؟ ثم جعل العلة في حيرته وجود الكحل، أن هذه قريحة قريحة، وفكرة غير صحيحة؟ وقوله: وأثقلها الحسن: هذا قلب المعنى الذي ليس بمعنى؟ وكان ينبغي ان يقول: أثقلتها الملاحة التي تكاثر حسنها؟ وهل ينثني الإنسان من الثقل؟ إنما يمشي قطعة واحدة في حال الثقل " ثم قال: " وكلت شرح هذا البيت لعجزي عن معناه إلى عريف الحمالين فعساه يعرف معناه " (1) . واتهمه في قصيدة له رائية مطلقة يمدح فيها القاضي الفاضل بأنه سرق بعض معانيه من ابن عمار وأبي الطيب، ولكل منهما قصيدة على هذا الوزن (2) . ابن ظافر وتعقبه لابن شهيد وما دام كتاب " نظم الدر " أو التعليقة غير موجود لدينا، فليس في مقدور الدارس أن يكون فكرة متكاملة عنه، غير أن هذه النماذج النقدية تري مبلغ تدقيق ابن جبارة في الجزئيات، وتهجمه بألفاظ هجائية على ابن سناء الملك، ووقفته من بعض أشعاره موقف المتهكم؛ إلا ان بعض الأشعار التي اختارها لنقده التطبيقي بينة التكلف، ولهذا يصدق على نقده ما قاله الصفدي في مؤاخذاته " أجاد في بعضها وتعنت تعنتاً زائداً في بعضها " (3) . ولدينا نموذج آخر من هذا النقد التطبيقي لدى علي ابن ظافر الأزدي (- 627) (4) في تعليقه على قصيدة لابن شهيد الأندلسي مطلعها (5) : أما الرياح بجو عاصم ... فحلبن أخلاف الغمائم   (1) الغيث 1: 243. (2) الغيث 1: 264. (3) نكت الهميان: 209. (4) ترجمته في معجم الأدباء 13: 264 وفيه أنه توفي سنة 613. (5) أورد الصفدي نموذجاً من هذه التعليقات في الوافي بالوفيات 7: 146 - 148. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 588 وفي التفات الناقد إلى قصيدة أندلسية ما يؤكد ما تقدمت الإشارة إليه من احتفال النقاد في مصر بشعر الأندلس - إلى جانب الاهتمام بالموشحات؛ غير أن تعليق ابن ظافر على قصيدة ابن شهيد لا يتجاوز أمرين اثنين، أولهما: محاسبة الشاعر على اللفظة الموهمة مثل لفظة " لقيط " و " قاد " في قوله: فكأنني فيهم لقيط قاد من آساد دارم ... فكان تعليقه " غفل عن نفسه إذ شبهها بولد زنا قواد، وغن كان قصد لقيط ابن زرارة الدارمي وقواد الفرسان إلى الحروب " وهذا نقد أشبه بالنكتة، وهو يمثل ضيق الناقد بألفاظ أصبحت تحتمل معاني من السباب او نبو الموقع في الاستعمال الدارج، ومثل هذا أيضاً قد عابه ابن الأثير، كما سيتضح من بعد. وأما الشيء الثاني فهو تبيان السرقة، وهو باب واسع دخل فيه كثير من النقاد، ومن ذلك قول ابن شهيد: قمنا نصفق بالأكف لها ونرقص بالجماجم ... فقد ذهب ابن ظافر إلى أنه أخذه من قول الناجم: تشدو فنزمر بالكؤوس لها ونرقص بالرءوس ... والحديث عن السرقة في حال ابن شهيد خاصة، لا يقدم كثيراً ولا يؤخر، فقد مر بنا أنه كان يؤمن بان الشاعر القدير هو الذي يستطيع ان يأخذ فيخفي الأخذ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 589 ابن ظافر واهتمامه بشعر البديهة والحق أن جهود ابن ظافر النقدية، ليست مما يؤهله ليكون من مقدمي النقاد، فقد غلب عليه ميله إلى التاريخ وجمع الأخبار، ويدل كتابه " بدائع البدائه " على أنه كان مأخوذاً بالقدرة التي تستطيع أن ترسل الشعر عفو الخاطر، غير أنه لم يزد في هذا الكتاب على تعريف البديهة والارتجال والإجازة والتمليط؟ الخ، وحشد الحكايات المناسبة لكل نوع، دون نقد أو تحليل، إلا أن الكتاب نفسه قائم على فكرة نقدية خطرة وهي إحلال البديهة والارتجال محلاً عالياً في التقدير، وإظهار البراعة الذاتية فيها إلى جانب براعة الآخرين. ولنا على هذا الكتاب تعليقتان هامشيتان: أولاهما أن ابن ظافر يعد ابن الرومي " إمام الشعراء " (1) ، وهذا يؤكد ما ذكرناه عن منزلة ابن الرومي في البيئة المصرية، والثانية: مدى اهتمام ابن ظافر بأخبار الأندلس، بل محاولته تقليد الفتح بن خاقان نفسه في الحكايات المسجوعة. اهتمامه بالتشبيه وربما صح ان نعد كتاب " غرائب التشبيهات " لعلي بن ظافر جهداً ثالثاً في النقد، إلا أن ما قيل في بدائع البدائه يصدق على هذا الكتاب، فهو حشد للنماذج في أبواب معينة، مع اهتمام خاص بتشبيهات الأندلسيين. أن كتاب " غرائب التشبيهات " يقف في صف الكتب التي ألفت في هذا الموضوع من قبل، وهو جهد نقدي " بالقوة " إذ يحمل في ثناياه حقيقة العلاقة بين الذوق العام في العصر، وبين الصور التي تتمتع بالغرابة، وان كانت الغرابة دائماً نسبية.   (1) البدائع والبدائه: 9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 590 المصطلح البديعي وابن أبي الإصبع وقد اهتم النقد في مصر بتقرير المصطلح البديعي في صورته الواسعة، وكان زكي الدين ابن أبي الإصبع (- 654) صاحب " تحرير التحبير " من فرسان هذا الميدان، ويشبه هذا الكتاب في طبيعة جهده العام كتاب أسامة بن منقذ " البديع في نقد الشعر "، إلا انه يتميز عن كتاب قدامة في أمرين هامين، أولهما: محاولته في التوسع الإحصائي لفنون البديع ابتداءً من ابن المعتز حتى عصر المؤلف، وثانيهما: اتساع مجال المصادر التي اعتمد عليها في تأليف هذا الكتاب، ولذلك يمن ان يكون تحرير التحبير صورة لتطور المصطلح البديعي وللمقارنة بين المصطلحات لدى النقاد على مر الزمن حتى عصر المؤلف، كما انه صورة لجهد المؤلف نفسه في ما استطاع ان يضيفه إلى هذا المصطلح؛ غير أن هذا كله جهد شكلي، كان يوجه النقد إلى مزيد من الوقوف عند الجزئيات، ويعمي طريقه بكثرة المصطلحات، دون ان يضيف إلى حقيقته شيئاً جوهرياً؛ بل أن أسامة بن منقذ كان اكثر وعياً منه بحقيقة النقد حين ختم كتابه بتخليص النصائح التي تنفع الشاعر والناثر؛ من مثل النهي عن التعقيد في المعاني والتقعر في الالفاظ، وترديد ما قاله ابن طباطبا حول نظم الأبيات متفرقة ثم محاولة الربط بينهما، والإلحاح على تهذيب القصيدة أسوة بالحطيئة وزهير، وتخير الأوزان والقوافي الحسنة، وحسن التأتي في الاخذ، ومجاراة قدامة في المدح بالأخلاق دون الصفات الجسمانية، وتفصيل المدح على قدر الممدوح، وإجراء الملاءمة بين المعاني والألفاظ، قال: " واعلم ان محاسن الشعر ثلاثة: التطبيق والتجنيس والمقابلة، ومحاسن المعاني ثلاثة: الاستعارة والتشبيه والمثل " (1) - أمورا ليست سوى تكرار لكثير من المواقف والآراء القديمة التي مررنا بها، ولكنها تشعرنا أن أسامة حين استعمل كلمة " نقد "، كان يدرك ان لهذا بعداً آخر غير المستوى البديعي. غير أن لابن أبي الإصبع كتاباً أشد صلة بالنقد من تحرير التحبير   (1) البديع في نقد الشعر: 298. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 591 وهو " الميزان في الترجيح بين كلام قدامة وخصومه " ولكن هذا الكتاب لم يصلنا. صورة النقد بمصر ومجالاته تلك هي حال النقد بمصر في هذين لقرنين، ويمكن تلخيص دوره في تاريخ النقد العربي بالأمور الآتية: (1) وضع قواعد الموشح. (2) الاستمرار في إبراز دور ابن الرومي. (3) محاولة ساذجة في النقد التطبيقي. (4) العودة إلى النقد " بالقوة "، أي النقد المعتمد على اختيار الصور الغريبة. (5) التوسع بالمصطلح البديعي إلى أقصى حدوده. ضياء الدين ابن الأثير وجرأته واعتداده بنفسه ولم يكن ضياء الدين ابن الأثير (- 637) بعيد الشبه بسابقه أسامة، وبلاحقه ابن أبي الاصبع، في ما اختاره من تقرير حدود البديع العام، لولا عناصر في شخصيته تفرقه عنهما، فالحقيقة أن النواة الأولى في كتابيه " المثل السائر " و " الجامع الكبير " إنما هي شرح المصطلح البديعي، ولكن ما يحيط بتلك النواة، يحوي خطرات نقدية، تميز ابن الأثير عن صاحبيه، بل تميزه عن كثير من النقاد، حين تجعل أهم غاية لديه هي إبراز دور الناقد القدير في " تعليم البيان " - تلك المشكلة التي تمرس بها ابن شهيد في رسائله، وتوفر عليها ابن الأثير من خلال التطبيق الذي أجراه على نماذج من نثره أولاً، ثم على نماذج من نثر الآخرين او شعرهم؛ ولا ريب في أن الجرأة والاعتداد بالنفس اللذين يبلغان لديه حد الغرور قد كانا ستاراً يحجب بهما ضعف تحصيله الثقافي، وعدم تنوعه، فهو قد قرا كثيراً من الشعر واطلع على كثير مما ألف في النقد والبلاغة، ثم انهمك من خلال ذلك كله في شق طريقه في الترسل، محاولاً ان يتفوق على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 592 القاضي الفاضل. ولما كانت طريقته النثرية تعتمد في أساسها كثيراً على حل المنظوم، فإنها تحولت بنقده في وجهتين، أولهما: تقريب المسافة بين الشعر والنثر، والثانية: ملاحقة المعاني ومحاولة تصنيفها وحصر أنواعها. تقريب المسافة بين الشعر والنثر كما فعل ابن طباطبا ففي الوجهة الأولى رفض رأي الصابي في التفرقة بين الكتابة والشعر، وكانت تلك التفرقة تقوم في جانب منها على أن الشعراء إنما يشغلون أنفسهم بالوصف والحنين والغزل والمدح والهجاء، وان المترسلين يكتبون في موضوعات أخرى مثل إصلاح فساد أو تحريض على جهاد (1) ، فهو يرد على هذا الرأي وينكره ويرى أن لا فرق بين الشعر والنثر في الموضوع (2) ؛ ولكن الشعر والنثر لا يتطابقان تمام التطابق، بل تبقى بينها مسافة صغيرة تعينها فروق صغيرة أيضاً منها ان المعاني في الشعر أغزر، والسر في ذلك ليس في قصور النثر عن ذلك، وإنما لان الشعر كان اغلب على العرب على مر الزمن، فأودعوه كل المعاني (3) ، ولهذا صح لمن يريد إجادة النثر أن يدرس الشعر أولاً لكي يهتدي إلى المعاني التي ينثرها ويحلها في رسائله وإنشاءه. كذلك فان الشعر قد يتقبل الغريب الحسن من الألفاظ، بينما تجيء تلك الألفاظ نفسها نابية في النثر (4) ، وعلى هذا صاغ ابن الأثير قاعدة عامة للفروق بين ذينك الفنين بقوله: " فأعلم أن كل ما يسوغ استعماله في الكلام المنثور من الألفاظ يسوغ استعماله في الكلام المنظوم، وليس كل ما يسوغ استعماله في الكلام المنظوم يسوغ استعماله في الكلام المنثور " (5) .   (1) المثل السائر 4: 7. (2) المصدر نفسه: 9؛ وقارن هذا بما مر من رأي ابن طباطبا، فهناك تنعدم المسافة بين الشعر والنثر في طريقة البناء. (3) المثل السائر 1: 137. (4) المصدر نفسه: 237. (5) المثل السائر 1: 239. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 593 المعنى هو المقدم في تاريخ الشعر العربي؛ وحديثه عن السرقة وأما في الوجهة الثانية فإن ابن الأثير سحب إيثاره للمعنى على تاريخ الأدب العربي كله، فتصور أن العرب كانت دائماً وأبداً تهتم بالمعاني، وان الاهتمام باللفظ إنما يدل على تقدير للمعنى، إذ هو محاولة لإبرازه في احسن صورة، يقول: " اعلم أن العرب كما كانت تعتني بالألفاظ فتصلحها وتهذبها فإن المعاني أقوى عندها وأكرم عليها وأشرف قدراً في نفوسها، فأول ذلك عنايتها بألفاظها، لأنها لما كانت عنوان معانيها وطريقها إلى إظهار أغراضها أصلحوها وزينوها وبالغوا في تحسينها ليكون ذلك أوقع لها في النفس واذهب بها في الدلالة على القصد؟ فإذا رأيت العرب قد أصلحوا ألفاظهم وحسنوها ورققوا حواشيها وصقلوها أطرافها فلا تظن أن العناية إذ ذاك إنما هي بألفاظ فقط، بل هي خدمة منهم للمعاني؟ " (1) وقد أدته عنايته بالمعاني إلى أن صنف رسالة في المعاني المبتدعة (2) وألف كتاباً آخر سماه " عمود المعاني " (3) ؛ وخلاصة رأيه في هذه الناحية أن المعنى الذي يتوارد عليه عدة شعراء يدعى " عموداً "؛ ويكون المعنى (أو العمود) ذا شعب، ففي تلك الشعب يتم الانفراد للشاعر الواحد دون سواه؛ فإذا كان المعنى مما استقل بنفسه بحيث لا يستطيع أحد ان يأخذه أو يفرع عليه (أي يقيم له شعبة جديدة) فمثل هذا المعنى لا يطلق عليه اسم العمود، لان صاحبه قد انتهى فيه إلى غايته، ولا تخرج المعاني عن هذين الصنفين (4) ؛ والصنف الأول هو الذي يمكن ان يتحدث فيه الناقد عن سرقة الشعراء بعضهم من بعض؛ وقد جعل ابن الأثير تداولهم للمعاني في ثلاث درجات (1) درجة النسخ ومنها وقوع الحافر أو أخذ المعنى مع أكثر   (1) المثل السائر 2: 65 - 66. (2) الاستدراك: 60. (3) الاستدراك: 11. (4) الاستدراك: 9 - 13. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 594 اللفظ (2) ومنها السلخ وقسمه في 12 ضرباً (3) ومنها المسخ وهو قلب الصورة الحسنة إلى صورة قبيحة؛ ومجموع أنواع الأخذ على هذا الاعتبار ستة عشر نوعاً (1) ؛ وقد حصرها ابن الأثير في موضع آخر في خمسة أقسام: أخذ اللفظ والمعنى جميعاً (توارد الخواطر) ، واخذ المعنى دون اللفظ، واخذ المعنى مع بعض اللفظ وخلطه بألفاظ أخرى، واخذ بعض المعنى وبعض اللفظ، وأخذ بعض المعاني والإتيان بألفاظ جديدة؛ على أن القسم الثاني وهو أخذ المعنى دون اللفظ ينقسم عنده إلى عشرة أقسام، أغربها وأحسنها ابتكر له ابن الأثير اسماً من عنده حين دعاه " شبكة المعاني " لارتباط المعاني فيه بعضها ببعض على خفاء في الارتباط، ومن أمثلته قول أبي تمام: رعته الفيافي بعدما كان حقبة ... رعاها وماء الروض ينهل ساكبه وقول البحتري: شيخان قد ثقل السلاح عليهما ... وعداهما رأي السميع المبصر ركبا القنا من بعد ما حمل القنا ... في عسكر متحامل في عسكر فأبو تمام وصف الجمل بأنه بعد ان كان يرعى منابت الأرض رعته الأرض فهزل، من كثرة السير، والبحتري يريد انهما كانا يحملان الرمح فلما كبرا حملتهما العصا (2) ؛ ومدار الأمر في كل ذلك على الأخذ المتقن، ولا نستطيع ان نتوقع شيئاً غير ذلك من رجل يقيم نثره على التصرف بالمعاني الجيدة الواردة في التراث الشعري، ولهذا يرى أن السبق إلى معنى من المعاني لا يمثل إلا حقيقة التقدم في الزمن، ولو تقدم المتأخرون لسبقوا إلى المعاني كما سبق الأوائل (3) .   (1) أنظر المثل السائر 3: 225 - 294، 4: 3 - 4 وراجع بعض هذا المصطلح في السرقات عند المرزوقي، إلا ان ابن الأثير لا يشير إليه أبداً. (2) انظر الاستدراك 61 - 70، وبخاصة ص: 63 - 64. (3) الاستدراك: 6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 595 نتائج ولوع ابن الأثير بالمعاني وقد ترتب على تولع ابن الأثير بالمعاني نتائج هامة في تقييمه للشعر والنثر؛ منها انه لم يعد يطيق قبول المعنى العادي وهو يغربل الشعر بحثاً عن المبتدع، وإذا مر بمعنى عادي حاول أن يسلط عليه تصوره وذكاؤه ليرفع من مستواه، وهذا هو شأنه حين قرا بيت المنخل: ولقد دخلت على الفتاة الخدر في اليوم المطير ... فإنه لم يرض أن يكون المقصود " باليوم المطير " محض اقتران دخوله على صاحبته بيوم ماطر، وإنما يذهب خاطره إلى ما هو اعمق من ذلك، فان اليوم المطير يمنع الناس من السفر والنقلة، ولهذا أراد الشاعر ان يصور مدى جرأته بهذا القول وهو يومئ إلى انه دخل على تلك الفتاة وزوجها حاضر في البيت (1) ؛ أما إذا كان الشاعر يريد محض نزول المطر فقد " خاب وخسر ". ومن تلك النتائج أيضاً أن ذوقه اخذ ينبو عن الغزل الذي كان يجري بالشكوى العفوية والمعاني الإنسانية العامة، ويرى في توليدات المعاني الغزلية لدى كل من أبي الطيب وأبي تمام ارفع ما بلغه الشعر الغزلي (2) . كذلك فإنه حين وجد أن موضوعات الشعر لدى الإسلاميين ثم لدى المحدثين من بعدهم أكثر اتساعاً من موضوعات الجاهليين، وقدر ان المعاني لديهم أوفر واغزر سقط الجاهليون نسبياً في نظره، واستقر رأيه على أن اعظم شعراء العربية على الإطلاق هم أبو تمام والمتنبي والبحتري، الأولان بسبب المعاني، والثالث بسبب اللفظ، " وهم لات الشعر وعزاه ومناته، الذين ظهرت على أيديهم حسناته ومستحسناته، وقد حوت أشعارهم غرابة المحدثين إلى فصاحة القدماء، وجمعت بين الأمثال السائرة وحكمة الحكماء " (3) ؛   (1) الاستدراك: 22 - 23؛ ولو قيل لابن الأثير أنها لم تكن متزوجة، فربما قال: أبوها أو أخوها أو بعض أهلها. (2) الاستدراك: 31 - 37. (3) المثل السائر 3: 226 - 227. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 596 ثم أرتفع أبو تمام بين هؤلاء الثلاثة وقصر عنه المتنبي إلا في الحكم والأمثال والإبداع في وصف مواقف القتال (1) ؛ كذلك يمكن أن ينسب إلى تولع ابن الأثير بالمعاني نفوره من الشئون الشكلية الخالصة مثل محاولات الحريري في التفنن بإيراد لفظة معجمة وأخرى غير معجمة. على نظام مستمر في بعض رسائله، ومثل محاولة شاعر مغربي أن يصنع من القصيدة شجرة يقرا كل بيت فيها على ضروب من الأساليب اتباعاً لشعب تلك الشجرة واغصانها وذلك " ضرب من الهذيان. والأولى به وبأمثاله ان يلحق بالشعبذة " (2) . النقد الإحصائي والمفاضلة المطلقة وهذه النزعة أسلمت ابن الأثير إلى نوع من النقد الإحصائي إذ أن عدد المعاني المبتكرة - في المقام الأول - هو الذي يقرر تفوق الشاعر أو الناثر. فلأبي تمام عشرون معنى مبتدعاً أحصاها ابن الأثير، فوجدها أهل صناعة البيان أمراً مستكثراً، ولكن ابن الأثير نفسه عد معانيه المبتكرة (أي معاني ابن الأثير) فوجدها أكثر من ذلك عدداً (3) ؛ وقد مضى ابن الأثير يحكم هذه الطريقة الإحصائية ليجعل منها أهم مقياس نقدي، وقرنها أولاً بالمفاضلة بين المعاني سواء اختلفت أو اتفقت، نعم أن المفاضلة بين المعاني المتفقة أمر سهل، غير أن المفاضلة بين المعاني المختلفة وإن أنكرها بعض النقاد فإنها ممكنة كذلك، ولكنها اعسر وأدق مطلباً (4) ؛ وإذا كانت المفاضلة بين معنيين في بيتين متباعدين أمراً عسيراً فإن الطريقة الإحصائية مسعفة في المفاضلة بين قصيدتين، وذلك بعد الجيد في هذه والجيد في هذه، وكذلك هي مسعفة في المفاضلة بين ديوانين فإذا كان ديوان أحد الشعراء يحتوي   (1) المثل السائر 3: 227 - 228. (2) المثل السائر 3: 211. (3) المثل السائر 3: 211. (4) الاستدراك: 57 - 58 والمثل السائر 3: 270. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 597 على5 آلاف بيت منها أربعة آلاف جيدة، وديوان الشاعر الثاني يحتوي على ستة آلاف بيت منها أربعة آلاف جيدة، حكم بالتفوق للأول على الثاني (1) . وقد أجرى ابن الأثير دراسة تطبيقية للمفاضلة بين قصيدتين فاختار اثنتين تشتركان في موضوع واحد مثل قصيدة البحتري في وصف الذئب وقصيدة الشريف الرضي في الموضوع نفسه، فوجد - بطريق الإحصاء - أن البحتري لم يصف من الذئب سوى عظم قدّه وطول ذنبه وبريق أنيابه وانطوائه لشدة جوعه، أما الشريف فإنه لم يغادر شيئاً يتعلق بالذئب إلا ذكره، إذ وصف العلاقة النفسية بينه وبين الذئب، بينما أجاد البحتري في وصف هذه الناحية، فالبحتري من هذه الناحية أشعر، كما أن الشريف الرضي في وصف الذئب نفسه أشعر، وهما بذلك متكافئان (2) . ثم قارن بين قصيدتي البحتري والمتنبي في وصف الأسد، فوجد - من طريق الإحصاء أيضاً - أن معاني أبي الطيب أكثر عدداً إذ ذكر الأسد وصورته وهيئته وأحواله في انفراده ومشيته وبخله مع شجاعته، وأنفته وتوصل إلى وصف شجاعة الممدوح التي قصر البحتري همه على إبرازها، فالمتنبي أفضل من البحتري - في هذه القصيدة - في الغوص على المعاني، والبحتري افضل في حلاوة السبك (3) . الإحصاء يميز مراتب المعاني وإحصاء مراتب المعاني يفضي إلى التصنيف، وخير مثال على ذلك نظرة ابن الأثير إلى شعر المتنبي، فهو خمسة أقسام، " خمس في الغاية التي انفرد بها دون غيره، وخمس من الشعر الذي يساويه فيه غيره،   (1) الاستدراك: 60. (2) الاستدراك: 73. (3) المثل السائر 3: 287. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 598 وخمس من متوسط الشعر، وخمس دون ذلك، وخمس في الغاية المتقهقرة التي لا يعبأ بها وعدمها خير من وجودها، ولو لم يقلها أبو الطيب لوقاه الله شرها، فإنها هي التي ألبسته لباس الملام، وجعلت عرضه شارة لسهام الأقوام " (1) ؛ وهذا شغف بالقسمة لوجه القسمة، وإلا فلو انك جعلت شعر أبي الطيب في ثلاثة أصناف في عشرة، أو فيما بين ذلك. لوجدت المجال النسبي يفسح للقسمة صدره سواه قلت الأقسام أو كثرت. الغالبية العظمى مقياس لبراعة الشعر ومكانته ومن الطبيعي بعد ذلك أن تصبح الكثرة العددية هي المقياس في الحكم على تفوق الشاعر، فإذا شئت أن تعلم شاعر (أو كاتب) فانظر إلى رأي الناس فيه؛ عن الإجماع هنا، أو شبه الإجماع، هو الذي يقرر مكانته، ولكن لفظة " الناس " لدى ابن الأثير يجب ان تؤخذ في شيء من الحذر؛ لأنها تعني " طبقة المثقفين " في عصره - على الأرجح - او في أي عصر؛ ومهما يكن من شيء، فنحن نسمع فلأول مرة ناقداً يأنس إلى هذا اللون " الديقراطي " في تقييم الشعر، فيأخذ برأي الأكثرية، دون أن يتنبه إلى شعر أبي الطيب " وماذا يقال في رجب خمسة أسداس العالم مجمعون على فضله وتقدمه؟ وذاك أن جميع بلاد المشرق من أذربيجان إلى حدود الصين لا يتمارون في أنه أشعر الشعراء قاطبة، وهذه البلاد أكثر من نصف المعمور، وأما باقي البلاد من المغرب والجنوب والشمال فإن منهم من وافق المشارقة في تفضله على الشعراء قاطبة، ومنهم من يسوي بينه وبين المجيدين من الشعراء، ومنهم من يغض منه ويقع فيه، وعلى هذا فإن الأكثر له وجزء يسير ليس له " (2) ، ويبدو أن هذا الشغف بالإحصاء والتصنيف والاتكاء   (1) المثل السائر 3: 228 - 229. (2) الاستدراك: 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 599 على فضيلة العدد غنما هو محاولة واضحة من ابن الأثير، للظهور بمظهر من يعرف المنطق والحساب، ويبدو ذا حظ من الثقافة الأجنبية - حينئذ - رغم عدم اطلاعه عليها. الجمهور مرجع في الحكم ومصدر للمعاني وما دام عمل الأديب والناقد هو الحركة الدائبة في البحث عن المعنى، فإن " الجمهور " ليس هو المرجع الأخير في الحكم وحسب، بل إن ذلك الجمهور من أهم مصادر المعاني، وفي سبيل المعاني نزل ابن الأثير المستكبر المتشامخ إلى طبقات الشعب وإلى الأسواق والدكاكين يبحث عنها، لان الأديب في نظره " يحتاج إلى معرفة ما تقوله النادبة بين النساء والماشطة عند جلوة العروس وإلى ما يقوله المنادي في السوق " (1) ، ومن أجل هذا نراه يقف على المعانيب الدائرة في العامة، كما يعبرون بها، غذ يقولون مثلاً " أقلع عينك بعينك "؟ من حديث النساء على المعازل - ومثل " إذا ظهر اسمك فالق منجلك " - وهو من أحاديث الحصادين (2) -، غير أن هذا الالتفات كان نظرياً في معظمه، إذ كان ابن الأثير شديد الحساسية ضد الابتذال والتكرار، أو ضد الألفة الحادثة عنهما في المعاني، ومثل هذه الألفة اغلب على ما يتناقله الناس في أحاديثهم اليومية. المعنى المبتدع معيار الإجادة وهو أهم من الصورة الشعرية " المعنى المبتدع " - هو المحور في كل هذه الحركة الدائبة، سواء حين يكون المرء أديباً أو ناقداً، ولذلك لا نستغرب أن يكون ابن الأثير الناقد شديد الانجذاب إلى المعاني الذهنية، وان يفضلها على " الصور " الشعرية؛ وها هو حين يدعو إلى المفاضلة بين المعاني المتباعدة يقابل بين صورة من شعر امرئ القيس:   (1) المثل السائر: 73. (2) الاستدراك: 8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 600 كأن قلوب الطير رطباً ويابساً ... لدى وكرها العناب والحشف البالي وبين حكمة للنابغة: ولست بمستبق أخاً لا تلمه ... على شعث أي الرجال المهذب فيفضل بين النابغة - من جهة المعنى - " لأنه تضمن حكمة تعرب عن تجربة الأخوان فيتأدب بها الغر الجاهل، ويتنبه لها الفطن الاريب، والناس أحوج إلى معرفته من معرفة التشبيه الذي يتضمنه بيت امرئ القيس، وغاية ما فيه أنه رأيي صورة فحكاها في الممائلة بينها وبين صورة أخرى، وليس ثم سوى ذلك، وبيت النابغة حكمة مؤدبة تستخرج بالفكر الدقيق " هذا السياق كله: المفاضلة بين معنيين لا علاقة بينهما، كل منهما منتزع من مصدر، وينزعان إلى هدفين مختلفين، وإعلاء رفع نتاج " الفكر الدقيق " على الصورة - لم يكن خطراً على مهمة الشعر، بل كان خطراً على أهم الركائز الشعرية وهي " الصورة " التي لم يستطع ابن الأثير أن يرى فيها " وصفاً " مبتدعاً، لأنه لا يريد إلا " معنى " مبتدعاً، ولهذا فإنه أحس بشيء من النفور تجاه الشعر الذي يكثر أصحابه من استعمال الصور، واتهم الشعراء الذين يكثرون من التشبيه بأنهم تورطوا في كثير من الغثاثة، نعم إنه كان يؤمن بان التشبيه مذهب عسير، وانه مقتل من مقاتل البلاغة، لأن نقل " المعنى عن طريق التشبي أمر يعز فيه الصواب، بخلاف كفاية التشبيه لنقل صورة، ولهذا فإنه " قلما أكثر منه أحد إلا عشر، كما فعل ابن المعتز من أدباء العراق، وابن وكيع من أدباء مصر، فإنهما أكثرا من ذلك لاسيما في وصف الرياض والأشجار والأزهار والثمار، لا جرم انهما أتيا بالغث البارد الذي لا يثبت على محك الصواب " (1) .   (1) المثل السائر 2: 123 - 124. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 601 غير أن ابن الأثير بدلاً من أن يحدد الأسباب التي تجعل التشبيه مخفقاً، اكتفى بقوله إن " المعنى الصائب " يعز نقله عن طريق التشبيه. البحث في الشعر ينحصر في انتزاع المعاني المبتدعة وتظهر خطورة هذا المذهب النقدي على الشعر العربي جملة لا حين ننكر ان تكون القصيدة مجموعة مترابطة متنامية من الصور وحسب، بل حين نريدها حافلة بالمعاني المبتدعة، وإذا كان أبو تمام - وهو رب المعاني - لم يأت في حياته الشعرية بأكثر من عشرين معنى من هذا النوع، فمعنى ذلك أننا نطلب إلى الشاعر ان يحقق ما يلحق بالأعجاز، وبحق أدراك ابن الأثير انه كلما طالت القصيدة في الشعر العربي (كان تبلغ مئتي بيت أو ثلاثمائة) كان " الرديء " فيها كثيراً، وكان الجيد - الذي يريده ابن الأثير - قليلاً أو نادراً؛ وهذا الحكم صحيح إذا كنا لا نلتفت إلا إلى المعاني، ثم إلى المتفرد منها؛ ومن باب خفي يشير ابن الأثير إلى أن هذا هو السر في أن العرب ليست لديهم ملحمة مثل كتاب الشاهنامه " وهو ستون ألف بيت من الشعر يشتمل على تاريخ الفس، وهو قرآن القوم، وقد أجمع القوم وفصحاؤهم على انه ليس في لغتهم أفصح منه، وهذا لا يوجد في اللغة العربية على اتساعها وتشعب فنونها وأغراضها " (1) وفي هذا تجاوز كبير، فلو ان ابن الأثير حاكم الشاهنامة إلى قاعدة " المعنى " لحكم بان الإطالة لا تعني ابتكار المعاني أيضاً، ولكنه استعمل هنا مقياسين متفاوتين. غير أن التظاهر بالدقة الإحصائية والكلف بالمعنى، وهما ظاهرتان متلازمتان في نقد ابن الأثير، لم يحولا بينه وبين مبارحتهما حين كان يرخي العنان لطبيعته الحقيقية.   (1) المثل السائر 4: 12. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 602 الطبيعة الإحصائية لا تتفق مع التعميمات الجارفة لم تكن الدقة الإحصائية جزءاً أصيلاً في طبيعته، وإنما كانت ستاراً دون نقائص يحسها في ثقافته الفلسفية العلمية، ولهذا فإن هذا لناقد الذي كان يلبس ثوب العالم سرعان ما كان يخلع عنه هذا الرداء المستعار وينطلق نحو الأحكام الجارفة متكئاً على مثل قوله " قد غربلت الأشعار قديمها وحديثها " (1) ، ومثل " ولقد تصفحت الأشعار قديمها وحديثها " (2) ومثل " ولقد وقفت من الشعر على كل ديوان ومجموع وأنفذت شطراً منه في المحفوظ والمسموع " (3) - يمهد بمثل هذه الأقوال ليستولي على ثقة القارئ، ثم يطالعه بمثل هذه الحكم " ولو لم يكن لجرير سوى هذه الأبيات لتقدم بها على الشعراء " (4) أو يورد قطعة غزلية لأبي تمام ويشفعها بقوله " وهل لكثير من المتقدمين أو لابن الدمينة أرق من هذه الأبيات؟ " (5) أو يورد بيتاً للمتنبي ويعلق عليه بقوله " وهذا بمفرده يعدل دواوين كثيرة من الغزل، ولو لم يكن للمتنبي غيره لكفاه " (6) ، ثم هو يطرب لهذه الأحكام الجارفة التي يوردها غيره ويقتبسها كأنها الحجة القاطعة في الفصل بين الآراء: يعجبه كثيراً قول رجل من أهل الشام (بيت واحد من قصيدة ابن الخياط يعدل ديوان ابن منير جميعه " فيقول " وهذا الرجل قد كان عارفاً الفصاحة والبلاغة فحكم حكم عارف لما يقول " (7) ، ويعجبه قول ينسبه إلى أبي العلاء " لو تمثلت بائيات لأبي تمام ودالياته أشخاصاً وخرجت خلف نعشه لضاق بها الفضاء "   (1) الاستدراك: 30، وانظر أيضاً: 26. (2) المثل السائر 1: 98. (3) المثل السائر 3: 225، وانظر أيضاً ص: 229. (4) المثل السائر 3: 276. (5) الاستدراك: 31. (6) الاستدراك: 36. (7) الاستدراك: 39. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 603 ويعلق عليه بقوله " ولقد صدق في قوله هذا وما قال إلا حقاً " (1) . التعلق بالمعنى لم يستطع إخفاء التعبد للفظ ولم يكن احتفاله الكثير بالمعنى ليخفي حقيقة هامة، وهي أن مارته - من حيث هو أديب - تعتمد على شيء كبير من البراعة اللفظية، ولهذا فإن جميع ما عبر به عن إعجابه بالمعنى لا يبلغ مستوى تعبيره الذي صور به شغفه باللفظ حين قال: " وكنت إذا مررت بنظري في ديوان من الدواوين ويلوح لي فيه مثل هذه الألفاظ أجد لها نشوة كنشوة الخمر وطرباً كطرب الألحان " (2) . والعلاقة بين ابن الأثير الناقد والألفاظ تحتاج تحديداً ادق، فقد كانت الألفاظ تتمثل في نفسه مخلوقات وتماثيل " فالألفاظ الجزلة تتخيل في السمع كأشخاص عليها مهابة ووقار، والألفاظ الرقيقة تتخيل كأشخاص ذوي دماثة ولين أخلاق ولطف مزاج، ولهذا ترى ألفاظ أبي تمام كأنها رجال قد ركبوا خيولهم، واستلأموا سلاحهم وتأهبوا لطراد، وترى الألفاظ البحتري كأنها نساء حسان عليهن غلائل مصبغات وقد تحلين بأصناف الحلي " (3) : ومن الأنصاف أن نقول هنا، أن ابن الأثير لا ينفك - في هذا المقام - يرى المعنى مجسداً من خلال اللفظ، فيسبغ صورته على اللفظ، وإلا فإن الألفاظ لا يمكن أن تتصور كما وصفها، وإنما هذه صورة عامة مستمدة من التآلف بين المعنى واللفظ لدى أبي تمام والبحتري، صورة مستمدة من الموسيقى ومن الكيان الكلي للمنهج العام الذي يؤثره الشاعر في فنه. غير أن هذا لا ينفي ان أبن الأثير ذو حساسية تبلغ حد المرض نحو طبيعة اللفظة نفسها - كان حضري المزاج يكره " وحشي الألفاظ وشظف العبارات " (4) ، وكان " متنوفاً " في هذا الذوق، شديد الوسواس إذا   (1) الاستدراك: 57. (2) المثل السائر 1: 98. (3) المثل السائر 1: 252. (4) المثل السائر 1: 248. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 604 أحس بان اللفظة ذات إيحاءات رديئة من ناحية الدلالة على العورات، أو بأنها مبتذلة بين العامة (1) ، ولا يخلو هذا الموقف من بعض الاضطراب، فإن الذي يفتش عن المعنى بهذا القدر من الجهد لابد من أن يتسامح قليلاً في ناحية اللفظ؛ ولكن مما يقلل من هذا الاضطراب لدى ابن الأثير، رده على الخفاجي في الألفاظ التي تستحق أن تدخل في المنظوم، فقد ساير الخفاجي النقاد القائلين باستبعاد ألفاظ المتكلمين والنحويين والمهندسين من الشعر، ولكن ابن الأثير يرى أن صناعة المنظوم (والمنثور) مستمدة من كل علم وكل صناعة، لأنها موضوعة على الخوض في كل معنى، وهذا لا ضابط له يضبطه " (2) ، ولهذا نجده يقبل في الشعر ألفاظاً ومصطلحات فقهية ومنطقية ونحوية يردها غيره، ممن هم أشد منه تعلقاً بطبيعة اللفظة المفردة (3) . الطبيعة الهجومية في نقد ابن الأثير ذلك هو الموقف النقدي الذي يعد ابن الأثير على أساسه ناقداً ذا شخصية وفكرة واضحتين، ولكنه في سياق توضيحه لهذا الرأي عرض لكثير من الآراء النقدية السابقة فأقرها أو هاجمها بحدة، من خلال هجومه على أشخاصها، حتى لا يكاد يترك ناقداً أو بلاغياً أو منشئاً دون أن يغمز رأياً من آرائه؛ وفي أثناء هذا العمل راجع كثيراً من الىراء، فتهكم بآراء علماء العربية حول النقد كما وردت في الأغاني، وبقول الأصمعي وأبي عبيدة وغيرهما في بشار إنه أشعار الشعراء المحدثين، وعلق على ذلك بقوله: " وهم عندي معذورون لأنهم ما وقفوا على معاني أبي تمام ولا على معاني   (1) المصدر نفسه: 258. (2) المثل السائر 3: 213. (3) في هذا وضع معاكس لرأي حازم، الذي يرى مجال الشعر في المعاني الجمهورية وينفي ما يستمد من العلم، إلا القليل منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 605 أبي الطيب ولا وقفوا على ديباجة البحتري " (1) وأنكر أن يكون الجاهليون: امرؤ القيس والنابغة وزهير والأعشى قمة في الشعر، لان كلاً منهم أجاد في معنى واحد اختص به، وهاجم النحويين واللغويين، وخص بهجومه ابن جني في شرحه لديوان المتنبي، مصرحاً بان النقد فن لا يؤخذ عن علماء العربية، وغن كان الناس جميعاً يتسورون عليه ويتكلمون فيه حتى أجلاف العامة؛ وهاجم المعري هجوماً عنيفاً لقوله: ليس في شعر أبي الطيب لفظة يمكن أن يوم عنها ما هو في معناها، وقال: " ولكن الهوى كما يقال اعمى، وكان أبو العلاء أعمى العين خلقة وأعماها عصبية، فاجتمع له العمى من جهتين " (2) . وتعقب ابن أفلح في " مقدمته " التي ألفها في أقسام علم الفصاحة والبلاغة ووصفها بأنها قشور لا لب تحتها، وخاصة لقوله " أما المعاني المبتدعة فليس للعرب منها شيء وان اختص بها المحدثون " (3) ، ورد عليه بأمثلة تبين خطاه في هذا الحكم. حماسة أبي تمام إزاء تقييم إحصائي ووقف وقفة هامة - وان لم تخل من التهجم - عند حماسة أبي تمام؛ فهاجم شراحها لأنهم لا يهتمون إلا بذكر الإعراب وتفسير الكلمات، والشعر ليس المراد منه ذلك. وأثنى على أبي تمام بأنه كان في اختياره " عارفاً بأسرار الألفاظ والمعاني " إلا انه وجد في الحماسة مواضع لا يرضاها وخاصة في باب الهجاء، ومثل استعمال ألفاظ (زبونات " و " تيحان " و " علي لحيتي " - فاللفظتان الأوليان لو وقعتا في الفرات لصار ملحاً أجاجاً، واللفظة الثالثة من الكلام السخيف؛ وأبو تمام ملوم في إيراد الأبيات التي تندرج فيها هذه الألفاظ وخاصة إذا جاءت في بيت يمكن حذفه   (1) المثل السائر 3: 272. (2) المثل السائر 1: 411. (3) المثل السائر 2: 59 - 60. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 606 لأنه لا ضرورة له في السياق؛ وقد امتحن هذا الناقد قصيدة من اختيار أبي تمام ترك جانباً منها واثبت جانباً، فرأى ان المتروك يدل على سلامة الذوق لدى أبي تمام الناقد، لان ما أثبته من القصيدة يغني عما تركه، وهو الأجمل في القسمين؛ وتحكمت به ملكة الإحصاء أيضاً هنا، فعد في الحماسة أبياتاً تبلغ خمسمائة بيت، كان نفيها ضرورياً، وكان يريد ان يجمعها ويبين نزولها عن درجة الشعر الذي تضمنته الحماسة لولا انه خاف التطويل (1) . ولو مضينا نتتبع هجمات ابن الأثير على أصحاب البيان والنقد لسردنا أمثلة عديدة أخرى؛ كان الرجل على قسط غير قللي من حدة الطبع في معالجته للشعر والنثر او في تعليقه على الأشخاص، ولكنه اكثر النقاد إلحاحاً على المعنى وربما كان أوضحهم استعمالاً للطريقة الإحصائية في النقد، وأشدهم جرأة في النقد التطبيقي، لا على البيت المفرد، بل على القصيدة كاملة، وتلك تفرد منهجه النقدي، وهو منهج يشتمل على كثير من المحاذير والأخطار (2) . تفرد ابن الأثير بسبب ضآلة من حوله لقد اقترن نقد ابن الأثير بقوة شخصيته فلهذا تميز عمن مارس النقد في هذه الفترة في مصر والشام والعراق، إذ كان أكثر النقاد سواه إما أن يقفوا عند حدود المحاولات الجزئية أو يكتفوا بجمع الشواهد للمصطلح البلاغي، فإن أراد أحدهم التفرد وسع من نطاق ذلك المصطلح. ولهذا يتضح مدى تفرد ابن الأثير بمقارنته بمن حوله؛ وتتميز شجاعته في إبداء   (1) الاستدراك: 18 - 24. (2) لعله قد اتضح للقارئ كثير من هذه المحاذير مثل: بخس الصورة حقها، وعدم الاهتمام بالروابط النفسية أو الفنية في القصيدة، وتحكيم الإحصاء فيه لا ينفع فيه الإحصاء وغير ذلك؟. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 607 الرأي الذاتي على نحو ساطع إذا نحن درسناه جنباً إلى جنب مع جهد المظفر ابن الفضل بن يحيى العلوي الحسيني في كتابه " نضرة الاغريض ونصرة القريض ". صاحب نضرة الاغريض كان المظفر بن الفضل (- 656) (1) فيما يبدو عراقي النشاة، ذا صلة بالوزير مؤيد الدين ابن العلقمي، ومن أساتذته مؤدبه الشيخ أبو محمد ابن أبي البركات ابن البقال المقرئ، وهو يروي عنه عام 602؛ وقد ذكر أنه ألف كتاباً آخر سماه " الرسالة العلوية " قصره على الحديث في الفصاحة حاذياً فيه حذو ابن سنان الخفاجي في كتاب " سر الفصاحة ". سبب تألفيه الكتاب ومنهجه فيه وكان الداعي إلى تأليفه كتاب " نضرة الاغريض " انه حضر ذات يوم مجلس ابن العلقمي وجرى فيه حديث الشعر، وتباينت الآراء حوله، فطلب إليه الوزير أن يضع كتاباً يبين فيه حدود الشعر وفضله، فامتثل لذلك، وانتهى من الكتاب في سلخ جمادى الآخرة سنة اثنتين وأربعين وستمائة (642) (2) ، وعنوان الكتاب يدل على أنه دفاع عن الشعر، وقد قسمه مؤلفه في خمسة فصول: (1) في وصف الشعر وأحكامه وبيان أحواله وأقسامه (2) فيما يجوز للشاعر استعماله وما لا يجوز (3) في فضل الشعر ومنافعه وتأثيره في القلوب ومواقعه (4) في كشف ما مدح به وذم بسببه وهل تعاطيه اصلح أم رفضه أوفر وارجح (5) فيما يجب أن يتوخاه الشاعر ويجتنبه، ويطرحه ويتطلبه.   (1) انظر الأعلام للزركلي 8: 165. (2) كشف الظنون 2: 1959. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 608 ترتيب جديد لما جاء في المصادر السابقة يشبه عمل الرندي وإذا استثنينا بعض الروايات التي أخذها المؤلف عن أبيه وعن مؤدبه ابن البقال لم نجد في الكتاب سوى ترتيب للروايات المتناقلة، فالمؤلف ينقل عن الرماني، وعن حلية المحاضرة للحاتمي - دون ان يسميه (1) - وعن الجاحظ وابن طباطبا (2) وعن رسالة الصاحب في ذم المتنبي، وعن العمدة لابن رشيق (3) ، ونجد فيه مجالاً لبعض الروايات الأندلسية؛ أما المادة الخارجة عن الآراء المنقولة من هذه المصادر وغيرها فإنها إعادة للقصص والحكايات المتوارثة من أقدم العصور كحكاية أم جندب، وحسان والنابغة في سوق عكاظ، وتلك القصص المتصلة بقيمة الشعر في رفعه لناس وخفضه لآخرين مثل قصة الحطيئة والزبرقان، وبني أنف الناقة وهجاء النجاشي لبني العجلان وغير ذلك مما حفلت به كتب تاريخ الأدب والكتب النقدية وخاصة العمدة النبي من الشعر، وناقش آراء بعض المفسرين في الآية " والشعراء يتبعهم الغاوون "، ولم يأت في مناقشته بشيء جديد. تعريف الشعر والتفرقة بينه وبين النثر وبعد أن حدد المؤلف ألفاظه شعر وشاعر، وقريض وقصيدة وقافية عرف الشعر بأنه " عبارة عن ألفاظ منظومة تدل على معان مفهومة وإن شئت قلت: الشعر عبارة عن ألفاظ منضودة تدل على معان مقصودة " وأورد للأصمعي قوله " الشعر ما قل لفظه وسهل ودق معناه ولطف، والذي إذا سمعته ظننت انك تناله فإذا حاولته وجدته بعيداً " وفرق بين النظم والشعر، مستشهداً بموقف أبي العلاء، حين كان يسمي بعض أنواع الشعر المتهافت   (1) ينقل الفصل الخاص بعبد الله بن المعتز وقوته على التشبيه وتبيان منازل التشبيهات (الورقة: 28) . (2) راجع الورقة: 90 حيث يتحدث عن كيفية نظم القصيدة. (3) ينقل عنه مثلا روايته عن ابتهاج القبيلة بالشاعر (الورقة: 67) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 609 نظماً. ثم اخذ في الحديث عن البلاغة والإشارة والكناية والتشبيه والتجنيس.. الخ ومما يلفت النظر أن أكثر الأمثلة التي أوردها هنا تنتمي إلى الشعر الجاهلي والإسلامي واقلها مستمد من شعر المحدثين، وليس السر هنا في موقف نقدي معين، وإنما تلك هي طبيعة المصادر التي ينقل عنها، أي أن المؤلف لم يحاول أن يتعب نفسه في استقصاء شواهد جديدة غير الشواهد التي وردت في المصادر القديمة. حتى إذا بلغ إلى الحديث عن السرقات أيد ابن السكيت في قوله إن التوارد ليس مما اتفقت عليه الخواطر وغنما هو سرقة أيضاً. وليس بسبيل عرض الكتاب بحسب فصوله، ولكن لا ريب في أن الكتاب " دفاع عن الشعر " إلا ان المؤلف استعمل في هذا الدفاع أسلحة غيره، وكانت هذه الأسلحة قديمة، حتى إذا تحدث عن العيوب التي يجب ان يتجنبها الشاعر لم نجد لديه أيضاً سوى الايطاء والإقواء؟ الخ، وسوى الامتناع عن الفواتح الرديئة وإيراد ما يتطير منه، والوقوع في التناقض. افتقار المؤلف إلى التوازن في تأليفه وإلى الجرأة في الحكم ومن الواضح أن المؤلف يفتقر إلى كثير من التوازن في الإدراك فهو يضع الحث على تجنب السرقة مع " عدم التهكم في الهجاء "، ويجعل التهكم في الهجاء مساوياً للاستبهار في الفواحش، وينهى عن " التشبيهات الكاذبة " إلى جانب نهيه عن " الوحشي المتكلف " (1) ، كما يفتقر إلى شيء ولو قليل من جرأة ابن الأثير، فهو يوهم بأنه يورد رأيا يدل على موقف نقدي، ثم لا يلبث ان يترك هذا الرأي دون توضيح كاف: كذلك فعل حين حدثنا أن قوماً قد خلطوا الصنعة بالنقد والنقد بالصنعة ولم يفرقوا بين المصنوع والصنعة (2) ، ثم أسرع في التخلص من الحديث حول هذه المشكلة؛ وكذلك هو حين تناول موضوع النقد وقرر انه " صناعة لا يعرفها حق معرفتها إلا من دفع إلى مضايق القريض وتجرع غصص اعتياصه   (1) نضرة الاغريض، الورقة 90 - 91. (2) نفسه: 7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 610 عليه وعرف كيف يتقحم مهاويه ويترامى إليه " (1) . ذاهباً بذلك إلى أن الناقد لا يحسن النقد إلا أن يكون ممن جرب الشعر، وهو رأي تردد كثيراً من قبل، ولكن المؤلف لم يزد على ذلك ولم يوضح هذا الموقف. أما مقارنته بين فناء السلطان الدنيوي وخلود الشعر في سياق دفاعه عنه. (امرؤ القيس ذهب هو وأبوه وملكه وأهلوه وغبر شعره وكلامه؛ زال سلطان الاكاسرة والتتابعة وبقي شعر النابغة.. الخ) (2) فإنه يمشي في سياق وما ردده النقاد القدامى عن منزلة الشعر، وانه يرفع ويضع، وانه يؤثر في الأخلاق " فيشجع الجبان ويسمح البخيل ". ومن الكثير أن نحاسب المؤلف هنا على انعدام أي موقف نقدي في كتابه وعلى تبني مواقف الآخرين، وكل ما يمكن ان يقال هنا إن " نضرة الاغريض " من الأسماء الخادعة في تاريخ النقد، وان العلقمي أخطأ حين عهد إلى المظفر العلوي بالتصدي للحديث عن الشعر - وربما لم تكن هذه أكبر غلطات ذلك الوزير - وإذا كان المظفر نموذج النقد في بغداد في القرن السابع، فذلك دليل على أن النقد فيها كان مضمحلاً.   (1) نضرة الاغريض: 49. (2) نضرة الاغريض (الفصل الثالث، 64 وما بعدها) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 611 فصل ختامي النقد الأدبي عند ابن خلدون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 613 ابن خلدون والنقد الأدبي كل ذي حرفة يغلب مصطلح حرفته على شعره ليست لدينا صورة متكاملة عن النقد الأدبي في الأندلس أثناء القرن الثامن؛ وإذا استثنينا موقف ابن خلدون فكل ما لدينا شذرات أو إشارات إلى شيء من النشاط النقدي، فنحن نعلم مثلاً أن احمد ابن شعيب الجزنائي كاتب أبي الحسن المريني (توفي ابن شعيب سنة 750) (1) " كانت له إمامة في نقد الشعر وبصر به " (2) ، ومن ضروب هذا البصر أنه ذاكره ابن رضوان (3) مرة في الشعر وانشده مطلع قصيدة لبعض شعرائهم وهو: لم أدر حين وقفت بالأطلال ... ما الفرق بين جديدها والبالي فقال له على البديهة: هذا شعر فقيه (من قوله: ما الفرق؟) وكان حكمه صائباً، ومرد هذا الحكم - في النظر - إلى مبدأ كان قد شاع في المغرب والمشرق وهو أن ألفاظ أصحاب كل حرفة تغلب على أشعارهم؛ وقد وضح الصلاح الصفدي (- 764) هذا المبدأ بقوله: " وكل من عانى   (1) ترجمته في نيل الابتهاج: 68. (2) التعريف بابن خلدون: 48. (3) كان كاتب العلامة عند السلطان أبي الحسن المريني، راجع دراستي عنه في " كتاب العيد ": (بيروت 1966) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 615 النظم وغلب عليه فن من الفنون مال به ذلك الفن وغلبت عليه قواعده واستعملها في مقاصده الشعرية وتخيلات معانيه وظهر على ما يرومه اصطلاح ذلك الفن وأحكامه؛ ألا ترى إلى أبي الفتح البستي ومقاطيعه المشهورة في الآداب والحكم كيف يغلب عليها الألفاظ المنجمين (1) ؟؟. هذا الشيخ صدر الدين ابن الوكيل لما كان الفقه يغلب على فنونه نجد كلامه في الغالب إذا خلا من القواعد الفقهية ينحط عن رتبة الحسن " (2) ، وهناك كثير من الأحكام الجزئية التي نجدها في نقد هذا العصر في المشرق والمغرب على السواء. المؤثرات التي وجهت ابن خلدون في موقعه النقدي وربما كان ابن خلدون اعظم ناقد في هذا العصر، رغم انه لم يزاول النقد الأدبي، ولم يمنحه من جهده الشيء الكثير؛ وقد تأثر ابن خلدون في تصوره وأحكامه في هذا الميدان بشيوخه وبثقافته الشخصية وبتجربته الذاتية في الشعر والنثر، فهو قد كان شاعراً ثم أضرب عن الشعر بعد مدة من الزمن، وكان ناثراً يكتب نثراً مرسلاً في عصر شديد الكلف بالأسجاع. حملته على الإكثار من البديع وقد أخذ ابن خلدون عن شيوخه آراء وافقت هوى في نفسه وفي طليعتها نظرة بعضهم بعين الاستهجان والاستنكار إلى الإكثار من البديع، فقد كان شيخه أبو البركات البلفيقي يتمنى لو أن الدولة تنزل العقوبة القاسية بمن ينتحل فنون البديع في نظمه أو نثره وان تعرضه للتشهير (3) ، وكان شيخه الآخر الشريف السبتي يقول: " هذه الفنون البديعية إذا وقعت للشاعر أو   (1) الغيث 1: 124. (2) المصدر السابق: 126؛ وهذه النظرة مبكرة ترجع إلى ما قبل هذا العصر، وقد حاولها الكتاب عملياً، بان كتبوا رسائل على السنة أصحاب الحرف والصناعات وتنسب للجاحظ نفسه رسالة من هذا القبيل (انظر رسالة صناعات القواد في رسائل الجاحظ 1: 379 - 393) . (3) المقدمة: 1311. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 616 للكاتب فيقبح أن يستكثر منها لأنها من محسنات الكلام ومزيناته، فهي بمثابة الخيلان في الوجه يحسن بالواحد والاثنين منها ويقبح بتعدادها " (1) ؛ وإذا كان هذا هو رأي الشيوخ من الزاوية النظرية فان ابن خلدون طبقه من الناحية العملية حين اختار الأسلوب المرسل، قال حين جعله السلطان أبو سالم كاب السر: " وكان أكثرها يصدر عني بالكلام المرسل، ان يشاركني أحد ممن ينتحل الكتابة في الأسجاع، لضعف انتحالها، وخفاء العالي منها على اكثر الناس بخلاف المرسل، فانفردت به يومئذ، وكان مستغرباً عندهم بين أهل الصناعة " (2) . وقد يقال ان ابن خلدون شعر انه لا يستطيع أن يبلغ في النثر المسجع شأو ابن الخطيب الذي كان بشهادته " آية من آيات الله في النظم والنثر " (3) ، ولكن المسالة ابعد غوراً من المنافسة الفردية، فابن خلدون لا ينكر ان في الأسجاع نسقاً عالياً، ولكنه قليل، ولذلك ذاق ذراعاً بالتكلف الذي كان يحيل الكتابة الإنشائية إلى ألفاظ منمقة دون محصل معنوي " فتنحل بالإفادة من اصلها وتذهب بالبلاغة رأساً ولا يبقى في الكلام إلا تلك التحسينات، وهذا هو الغالب اليوم على أهل العصر " (4) وابن خلدون يؤمن أيماناً عميقاً بقيمة الفكرة، ولهذا فهو لا يرضى ان يبددها في ضباب كثيف من المحسنات اللفظية، ومن ثم عد دخول الصنعة في الكتابة الديوانية بداية الفساد فيها، واتهم الصابي بأنه أول من سلك هذا الطريق واتبعه فيه الكتاب " وإنما حمله عليه ما كان في ملوكه من العجمة والبعد عن صولة الخلافة المنفقة لسوق البلاغة؛ ثم انتشرت الصناعة بعده في منثور المتأخرين ونسي عهد الترسيل وتشابهت السلطانيات بالاخوانيات والعربيات بالسوقيات واختلط المعري بالهمل " (5) .   (1) المصدر نفسه. (2) التعريف: 70. (3) التعريف: 155. (4) المقدمة: 1310. (5) المقدمة: 1311. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 617 ذم حشد المعاني في البيت الواحد وكذلك اخذ ابن خلدون عن أشياخه نفورهم من حشد المعاني وتزاحمها في البيت الواحد، مؤثرين السهولة والتبسيط والشعر الذي تسبق معانيه ألفاظه إلى الذهن؛ أما كثرة المعاني في البيت فذلك نوع من التعقيد، والتعقيد شيء كرهه نقاد الأندلس حتى حازم القرطاجني؛ وكان أشياخ ابن خلدون لذلك يعيبون شعر أبي إسحاق ابن خفاجة شاعر شرق الأندلس لكثرة معانيه وازدحامها في البيت الواحد (1) . الالتزام بطريقة العرب وخروج المتنبي والمعري عنها وليس أدق في تصوير الذوق العام في الأندلس لدى شيوخ ابن خلدون وغيرهم من أهل الصناعة الأدبية، من قولهم " أن نظم المتنبي والمعري ليس هو من الشعر في شيء لانهما لم يجريا على أساليب العرب من الأمم " (2) ؛ ولم يكن هذا نابعاً عن عداء للفلسفة، بمقدار ما كان ناجماً عن ذوق يتجه نحو الربط بين الشعر والسهولة المطلقة، وهو رأي ربما كان ترجمة مشوهة لقصر " الشعر " على أمثال البحتري، وتسمية كل من المتنبي وأبي تمام " حكيماً) ؛ وهذا لا يدل على ان الذوق بعد حازم قد أصابه انحسار، وإنما يدل على أن وقفة حازم - في النظر إلى المتنبي - كانت خارجة عن الذوق العام في الأندلس والمغرب، ومنذ أن خفت حدة المحاكاة للمتنبي والمعري بعد عصر المرابطين والطوائف، اصبح النموذج الشعري العالي هو " الصورة الغريبة " - المرقص - كما رأينا عند ابن سعيد والشقندي وأضرابهما، وذلك أيضاً هو مقياس الذوق في المشرق.   (1) المقدمة: 1298. (2) المقدمة: 1296، وانظر 1298 أيضاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 618 الحفظ وأثره في تكوين الملكة الشعرية أما ثقافة ابن خلدون فكانت العامل الثاني في توجيه أحكامه وآرائه النقدية، وأعني بالثقافة هنا - على وجه الخصوص - محفوظات الرجل في مختلف الموضوعات، فقد أشار عليه أستاذه أبو عبد الله محمد بن بحر بحفظ الشعر، فحفظ " كتاب الأشعار الستة والحماسة للأعلم وشعر حبيب وطائفة من شعر المتنبي ومن أشعار كتاب الأغاني " (1) ، واجتمع إلى هذا ما حفظه من القرآن والأحاديث والعربية الفقه وما في بعض هذه العلوم من المتون كقصيدتي الشاطبي الكبرى والصغرى في القراءات (2) ، وان كان يقر بأن محفوظه كان قليلا (3) ؛ ولكن هذه القلة كانت هامة في ذاتها، فإن اقتصاره مثلاً على كتاب الأغاني (في باب الكتب الأدبية) جعل لهذا الكتاب منزلة خاصة في نفسه حتى قال فيه: " فإن ذلك الكتاب هو كتاب العرب وديوانهم وفيه لغتهم وأخبارهم وأيامهم وملتهم (4) العربية وسيرتهم وآثار خلفائهم وملوكهم وأشعارهم وغناؤهم وسائر مغانيهم، فلا كتاب أوعب منه لأحوال العرب " (5) ومثل هذا الحكم - الذي يمكن ان يرد في غير موطن - لا يصدر إلا عن قلة المحفوظ. غير أن المحفوظ أياً كان مقداره هو الذي قدم لابن خلدون فكرة ثابتة حول طبيعة الصناعة الأدبية من شعر أو نثر. وقد أبتدأ ابن خلدون من واقع الثقافة في عصره، فرأى أن الإنشاء " ملكة " لم تعد تتكون سليقة لان الناس يتعلمون اللغة تعلماً، وأن العامل الذي يكون تلك الملكة هو " الحفظ "   (1) التعريف: 17 - 18. (2) المقدمة: 1305. (3) المصدر نفسه. (4) كذا ولعلها " وملكتهم ". (5) المقدمة: 1285 وانظر أيضاً ص: 1268 " ولعمري إنه ديوان العرب وجامع أشتات المحاسن التي سلفت لهم في كل فن من فنون الشعر والتاريخ والغناء وسائر الأحوال، ولا يعدل به كتاب في ذلك فيما نعلمه ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 619 فمن أراد أن يكون شاعراً كان لابد له من أن يحفظ نماذج من الشعر العربي " حتى تنشأ في النفس ملكة ينسج على منوالها " (1) وأقل ما يحتاجه من يريد ان يصبح شاعراً شعر أحد الفحول الإسلاميين واكثر ما يحتاجه " شعر كتاب الأغاني، لأنه جمع شعر أهل الطبقة الإسلامية كله والمختار من شعر الجاهلية " (2) ، وكلما كثر المحفوظ تعددت النماذج وأصبح النسج على منوالها ايسر، فإذا تدرب الناظم واكثر من التدرب، استحكمت الملكة لديه، وربما كان من الخير له، لو زالت من ذهنه المحفوظات وبقيت رسومها فإنه عندئذ يكون اكثر اعتماداً على نفسه في اجتلاب التراكيب. ولعل هذه الحال ليست خاصة بعصر ابن خلدون، وإنما يرجع تاريخها إلى أقدم الأزمنة حين كان الشاعر الناشئ يعمل راوية عند شاعر مشهور، ولكن ابن خلدون هنا أبطل " الموهبة " جملة، وذهب إلى ان الملكة اكتساب خالص، ونفذ من ذلك إلى نتائج غريبة؛ فإنه جعل لطبيعة المحفوظ قيمة كبرى في تشكيل الملكة، فالمحفوظ الحر النقي الكثير الأساليب يشكل ملكة مختلفة عن التي يشكلها حفظ الشعر النازل، فملكة البلاغة العالية الطبقة في جنسها إنما تحصل بحفظ العالي في طبقته من الكلام " (3) فمن حفظ شعر أبي تمام أو ابن المعتز أو الرضي ورسائل ابن المقفع وسهل ابن هارون كانت ملكته أجود وأعلى مقاماً ورتبة في البلاغة ممن يحفظ شعر ابن سهل الإسرائيلي أو ابن النبيه أو ترسل البيساني والعماد الاصبهاني (4) . ونوع المحفوظ يقرر اتجاه صاحبه في الأدب أو العلم: فالملكة الشعرية تنشا بحفظ الشعر، وملكة الكتابة بحفظ الأسجاع والترسيل، والعلمية بمخالطة العلوم والادراكات والأبحاث والانظار، والفقهيه بمخالطة الفقه؟ الخ (5) ؛ والسابق إلى الحفظ   (1) المقدمة: 1296. (2) المصدر نفسه. (3) المقدمة: 1304. (4) المقدمة: 1303. (5) المقدمة: 1304. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 620 هو الذي يشكل الملكة ويلونها، فمن بدأ بالفقه تلونت ملكته بالعبارات الفقهية، ومن بدأ بالنحو تشكلت لديه الملكة النحوية، حتى إذا ورد على هذه الملكة تمرس بالبلاغة لم تسطع إحكامها، ولهذا كان شعر الفقهاء والنحويين والمكلمين والنظار غاية في القصور (1) ؛ إن الملكة لا تستطيع أن تفسح المجال لغير صناعة واحدة تبلغ بها درجة الإتقان: حتى الشعر والترسل لا يمكن اجتماعهما لدى امرئ واحد إلا في النادر، غذ الملكة المتقدمة هي المتحكمة، فإذا نازعتها مكانها ملكة أخرى لم تجد موضعاً تستقر فيه، وبقيت الأولى تدفع كل ما عداها؛ وهذا شيء يكاد يكون عاماً لا في الشئون الأدبية واللغوية والعلمية وحسب بل في جميع الصناعات، وإذا اعتبرته في اللغات وجدت أن الأعجمي " الذي سبقت له اللغة الفارسية لا يستولي على ملكة العربي، ولا يزال قاصراً فيه ولو تعلمه وعلمه، وكذا البربري والرومي والإفرنجي قل أن تجد أحداً منهم محكماً لملكة اللسان العربي " (2) . سلامة المكلة بان لا تدخل عليها عوامل تخدشها ولا يقف ابن خلدون عند هذا الحد بل يطور رأيه بناء على تجربته الذاتية في الشعر، ويذهب إلى ما يشبه التأكيد بان سلامة الملكة وتفردها دون ان تنازعها ملكة أخرى ادعى إلى إتقان الفن الذي توفرت عليه، وان الصراع بين ملكتين قد يصيب الأولى المتمكنة منهما ببعض الوهن؛ لقد نشأ ابن خلدون - بسبب محفوظه الشعري الأصيل - قادراً على قول الشعر ولكنه لحظ انه يحس " باستصعاب " فيه كلما حاول النظم، وحدث لسان الدين ابن الخطيب بهذا الذي يعتريه ثم علل ذلك التعسر بالتزاحم بين محفوظه الأصيل من الفن الشعري وحفظه للمتون والقصائد   (1) المصدر نفسه. (2) المقدمة: 1288. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 621 التعليمية قال " فامتلأ محفوظي من ذلك وخدش وجه الملكة التي استعددت لها بالمحفوظ الجيد من القرآن والحديث وكلام العرب، فعاق القريحة عن بلوغها " فما كان من لسان الدين إلا أن أبدى إعجابه الكبير بهذا الرأي قائلاً " لله أنت! وهل يقول هذا إلا مثلك! " لأنه وجد في الرأي أنصافاً للذات، وصواباً في التعليل. بلاغة الإسلاميين ارفع من بلاغة الجاهلين بسبب القرآن وانبثق عن هذه النظرية حول المحفوظ والملكة رايان نقديان خطيران: أولهما أن بلاغة الإسلاميين أمثال حسان والحطيئة وعمر وجرير والفرزدق وذي الرمة ونصيب والأحوص وبشار ارفع طبقة من شعر النابغة وعنترة وابن كلثوم وغيرهم من شعراء الجاهلية، وما ذلك إلا لان الإسلاميين أتيح لهم محفوظ من القرآن والحديث، اللذين عجز البشر عن الإتيان بمثلهما، لم يكن متاحاً للجاهليين فارتقت ملكاتهم في الباغة على ملكات من قبلهم من أهل الجاهلية ممن لم يسمع هذه الطبقة ولا نشأ عليها، فكان كلامهم في نظمهم ونثرهم أحسن ديباجة واصفى رونقاً من أولئك، وارصف مبنى واعدل تثقيفاً بما استفادوه من الكلام العالي الطبقة " (1) . وقد عرض ابن خلدون هذا الرأي على أستاذه الشريف أبي القاسم قاضي غرناطة فاعجب به، وبسببه كان يقربه ويشهد له بالنباهة في العلوم (2) ، ولو وافق المرء ابن خلدون في أساس هذا الحكم لما استطاع أن يفسر كيف يندرج مثل حسان والحطيئة في هذا السياق، إذ كان الواحد منهم مفضلاً على نفسه وعلى غيره في آن، لانهما شهدا الجاهلية ثم شهدا الإسلام. ويكفينا هذا في الاعتراض، دون أن نتساءل عن مدى تأثر الحطيئة بالقرآن أو عن التفاوت بين شعر حسان قبل الإسلام وبعده.   (1) المقدمة: 1306. (2) المصدر نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 622 ومن الغريب أن يذهب ابن خلدون هذا المذهب، وهو الذي قرر من قبل أن القرآن لا ينشأ عنه ملكة في الغالب " لما أن البشر مصروفون عن الإتيان بمثله، فهم مصروفون لذلك عن الاستعمال على أساليبه والاحتذاء بها، وليس لهم ملكة في غير اساليبه، فلا يحصل لصاحبه ملكة في اللسان العربي، وحظه الجمود في العبارات وقلة التصرف في الكلام " (1) ، ولعل وجه الغرابة يتضاءل حين نجد ابن خلدون يخص الاقتصار على القرآن وحده بهذا الحكم، فأما إذا اجتمع إلى القرآن محفوظات أخرى فإنها قادرة على تكوين ملكة في اللسان العربي. طريقة النظم وصورة القوالب في البناء وأما الرأي الثاني الناجم عن هذه النظرية في المحفوظ فهو تصور ابن خلدون لطريقة النظم: بعد أن يرتاض المرء في حفظ الشعر، ترسخ في ذهنه قوالب معينة، فإذا أراد أن ينظم قصيدة فما عليه إلا أن يستحضر القالب في نفسه، ثم أن يملاه بالقوالب الصغيرة أو التراكيب، " فغن مؤلف الكلام هو كالبناء أو النساج، والصورة الذهنية المنطبقة كالقالب الذي يبنئ فيه أو المنوال الذي ينسج عليه، فإن خرج عن القالب في بنائه أو على المنوال في نسجه كان فاسداً " (2) ، وأقل ما يمكن ان يقال في هذا التصور - حتى ولو كان قائماً على واقع الحال يومئذ - انه وضع الشعر في صورة العمل اليدوي لا من حيث إتقان الصنعة - كما هي الحال في تمثيلات عبد القاهر - بل من حيث تشابه الصنعتين. وما دام الحفظ هو الذي يعين على تصور القوالب، فإن الطريق إلى إتقان الشعر لا يتم بدراسة النحو أو البيان أو العروض؛ نعم إن الشاعر لابد من أن يراعي قوانين هذه العلوم ولكن شاعريته لا تتكون بالاقتصار على   (1) المقدمة: 1242. (2) المقدمة: 1293. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 623 هذه العلوم بل لابد له من حفظ كلام العرب شعراً ونثراً (1) ؛ وليس معنى ذلك أن تربية الملكة تجعل عمل الشعر شيئاً ميسراً، فالشعر فن صعب على أهل العصور المتأخرة ولذلك يحتاج صاحبه إلى " تلطف في تلك الملكة حتى يفرغ الكلام الشعري في قوالبه التي عرفت له، في ذلك المنحى من شعر العرب " (2) ؟. إذن فإن الملكة في اللسان وحدها لا تكفي بل لابد من أن يجتمع معها ذلك التلطف في مراعاة الأساليب الشعرية التي جعلتها العرب وقفاً على الشعر (3) . تعريف جديد للشعر ولكن ما هو الشعر؟ لقد درج العروضيون على أن يقولوا في حدة إنه الكلام الموزون المقفى؛ وهذا الحد لا يعجب ابن خلدون لأنه قاصر ولا يلائم غلا النظرة العروضية، ولذا فهو يضع للشعر الحد التالي: " الشعر هو الكلام البليغ المبني على الاستعارة والأوصاف، المفصل بأجزاء متفقة في الوزن والروي، مستقل كل جزء منها في غرضه ومقصده عما قبله وما بعده، الجاري على أساليب العرب المخصوصة به " (4) ؛ وأهم جزء من هذا التعريف وأشده غموضاً هو " الجاري على أساليب العرب "، فإذا لم يجر على تلك الأساليب، وإن احتوى جميع العناصر الأخرى فإنه لا يعد شعراً وإنما هو كلام منظوم، أو أي شيء غير ذلك، وبهذا السبب يخرج المتنبي والمعري من نطاق الشعر، كما سبق القول.   (1) المقدمة: 1294 وانظر 1290 - 1291 حيث يقول أن الإعراب والبيان والعروض علوم خارجة عن الصناعة الشعرية. (2) المقدمة: 1290. (3) المصدر نفسه. (4) المقدمة: 1295. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 624 الفصل التام بين الشعر والنثر هذه التفرقة الصارمة " بالاستعارة والأوصاف والجريان على أساليب العرب " جعلت ابن خلدون - على عكس ما كانت الحال عليه لدى أمثال ابن طباطبا وابن الأثير - يضع حداً فاصلاً بين الشعر والنثر، مبايناً بذلك الاتجاه الذي جرى عليه الكتاب المتأخرون " وقد استعمل المتأخرون أساليب الشعر وموازينه في المنثور، من كثرة الأسجاع والتزام التقفيه وتقديم النسيب بين يدي الأغراض، وصار هذا المنثور إذا تأملته من باب الشعر وفنه ولم يفترقا إلا في الوزن " (1) . ويعتقد ابن خلدون أن ضياع الحدود بين الشعر والنثر ليس صواباً من جهة البلاغة، إذ أن الأمور التي تناسب الأساليب الشعرية ليست مما يناسب الأساليب النثرية: " إذ الأساليب الشعرية تناسبها اللوذعية وخلط الجد بالهزل والإطناب في الأوصاف وضرب الأمثال وكثرة التشبيهات والاستعارات حيث لا تدعو ضرورة إلى ذلك في الخطاب؛ والتزام التقفيه أيضاً من اللوذعية والتزيين، وجلال الملك والسلطان وخطاب الجمهور عن الملوك بالترغيب والترهيب ينافي ذلك كله ويباينه؟ وما حمل عليه أهل العصر إلا استيلاء العجمة على ألسنتهم وقصورهم لذلك عن إعطاء الكلام حقه في مطابقته لمقتضى الحال، فعجزوا عن الكلام المرسل لبعد أمده في البلاغة وانفساح خطوبه، وولعوا بهذا المسجع يلفقون به ما تقصهم من بالأسجاع والألقاب البديعة، ويغفلون عما سوى ذلك " (2) ؛ ويؤاخذ ابن خلدون كتاب المشرق وشعراءه على تضحيتهم أحياناً بالصحة اللغوية والنحوية إذا استقام لهم سجع أو جناس أو مطابقة، مظهرين بذلك شغفاً غير طبيعي بالمحسنات الخارجية على حساب المبنى والمعنى (3) . ويبدو مما   (1) المقدمة: 1286. (2) المقدمة: 1287. (3) المصدر نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 625 قاله ابن خلدون في الفصل بين الشعر والنثر أنه بعني الكتابة الديوانية على وجه الخصوص دون سائر الفنون النثرية. البواعث على قول الشعر فإذا جاء إلى عد البواعث الحافزة على قول الشعر أعاد ما ذكره ابن قتيبة وما أجمله ابن رشيق في العمدة؛ والحق أن ابن خلدون يكمل النظرة الأندلسية نحو هذا الكتاب، فقد أصبح معتمد النقد لدى أهل الأندلس ولذلك يوليه ثناء كثيراً حتى ليقول " وهو الكتاب الذي انفرد بهذه الصناعة واعطاء حقها، ولم يكتب فيها أحد قبله ولا بعده " (1) ؛ ولو تأمل ابن خلدون فيما قرره من قبل لوجد أن البواعث الخارجية كمناظر المياه والأزهار وأوقات البكر عند الهبوب من النوم ليست إلا عاملاً ثانوياً في الحفز على الشعر، إذ الحافز الأكبر هو إدارة القالب في النفس مراراً حتى تأنس إليه ترتاح، ثم تجيء العبارات لتملأ ذلك القلب، فإذا لم يحضر القالب على نحو حافز فإن جميع الدوافع الخارجية تصبح غير ذات قيمة. كذلك فإن ابن خلدون لا يخرج عن الوصايا النقدية المعتمدة في تجنب الكلام المولد أو ارتكاب الضرورات، وينهى عن التعقيد وازدحام المعاني في البيت الواحد، ويوصي بمجانبة الوحشي والسوقي المبتذل - من لفظ ومعنى، ويخلص إلى تعليل الضعف العام فيشعر الزهد والامداح النبوية بقوله: عن السر في ذلك " لان معانيها متداولة بين الجمهور فتصير بذلك مبتذلة " (2) .   (1) المقدمة: 1297. (2) المقدمة: 1298. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 626 الأصل هو الفظ ويعود بناء إلى مشكلة اللفظ والمعنى فيرى - وهذا اغرب ما يمكن أن يقوله كاتب مفكر مثله - أن الأصل في صناعة النظم والنثر إنما هو اللفظ، والمعاني تابعة للفظ؛ " لأن المعاني موجودة عند كل واحد، وفي طوق كل فكر منها ما يشاء ويرضى فلا تحتاج إلى صناعة " (1) ، ويورد تشبيهاً على ذلك ماء البحر، فقد يغترف بآنية الذهب والفضة والصدف والزجاج والخزف، بينما الماء واحد في نفسه، وإنما الاختلاف قائم بين الأواني؛ مرة أخرى نلتقي بنظرية " المعاني المطروحة " - تلك الفكرة التي بدأت عند شخص من أشد الناس تنويعاً في موضوعاته وافكاره، وانتهت عند شخص من اعمق الدارسين فكراً في شئون الحياة والمجتمع؛ هل مرد ذلك إلى أن كلاص من هذين المفكرين، كان ينظر إلى ما يملك نظرته إلى شيء لا ينفق عناءً في سبيل الحصول عليه؟ قد يكون الباعث على ذلك الثقة النفسية لدى كل منهما، وإذا كان الجاحظ قد أوجد تلك النظرية خدمة لفكرة الإعجاز، فإن ابن خلدون لم يكن له تلك الغاية؛ ولكن حين تفهم المعاني بأنها " الحقائق العامة في الحياة "، فغن الالتفات إلى اللفظ (أو إلى الصياغة) يمكن قبوله على نحو ما. حديث عن المطبوع والمصنوع وبعد أن عرفنا ابن خلدون بطبيعة الشعر في عصره وما وصل إليه من تكلف وصنعة، نكاد نستغرب إيراده القول في " المطبوع والمصنوع "؛ ذلك لأن المطبوع قد فات زمنه، ولم يعد له وجود؛ ولكن ابن خلدون كان ينظر إلى المشكلة نظرة ولكن ابن خلدون كان ينظر إلى المشكلة نظرة تاريخية ويحاول أن يفيد من كتاب العمدة؛ ويستوقفنا حديثه هنا عن لذة الذهن في انتقاله بين درجات الدلالات في التركيب، وهذه اللذة هي " الظفر " بالمدلول من دليله " والظفر من أسباب   (1) المقدمة: 1302. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 627 اللذة كما علمت " (1) ؛ فهذا يذكرنا بحديث حازم عن الظفر، ولكن من الصعب أن يقال إن ابن خلدون اقتبس هذا من حازم، لان حديث هذا الناقد عن الظفر إنما كان في حال الأفعال الإنسانية (2) ؛ غير أنه يلتقي بحازم في نظرته إلى هوان الشعر على الناس، ولكنه يعدل ذلك تعليلاً مخلفاً، فهو يرى أن ما نشأ نحو الشعر من نفور واستهجان منذ أبي تمام والمتنبي وابن هانئ إنما سببه الكذب والنفاق والاستجداء، ولذلك " انف منه أهل الهمم والمراتب من المتأخرين، وتغير الحال وأصبح تعاطيه هجنة في الرياسة ومذمة لأهل المناصب الكبيرة " (3) ، ولا ندري متى حدث ذلك فقبل ابن خلدون بأقل من قرن ألف ابن الأبار " الحلة السيراء " ليثبت أن " أهل المراتب والمناصب الكبيرة " كانوا يجدون في الشعر مجالاً للتعبير عما تجيش به نفوسهم؛ إن هوان الشعر لانعدام القدرة على تذوقه كما قال حازم أدق من هذا الذي أورده ابن خلدون. الشعر نشاط إنساني لا ينفرد به العرب، اهتمامه بالشعر العامي في الأمصار ويرى ابن خلدون أن الشعر نشاط إنساني عام، وليس شيئاً يتميز به العرب، وهو يعلم ان في الفرس شعراء وفي يونان كذلك، وقد ذكر ارسطو الشاعر اوميروس في كتاب المنطق، وكان في حمير أيضاً شعراء؛ وفي عصر ابن خلدون كان لسان مضر قد اصبح عدة لهجات عامية متباينة في مختلف الأقطار، ولذلك وجد في كل قطر شعر خاص به، بلجة اهله، ولكن لا يتذوقه علماء اللسان المحافظون على الصياغة القديمة، مع أن في هذا الشعر بلاغة فائقة، وإنما وقع استهجانه أحياناً لخلوه من الأعراب، " والأعراب لا مدخل له في البلاغة، غنما البلاغة مطابقة الكلام للمقصود ولمقتضى الحال " (4) . وهكذا ظهر أخيراً الناقد   (1) المقدمة: 1314. (2) المقدمة: 1316. (3) المقدمة: 1314 (4) المقدمة: 1316. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 628 الذي لا يكتفي بتسجيل صور من الشر العامي في عصره بل يدافع عن مستواه الفني؛ ولما كان كل قطر قد استقل بلهجته وذوقه، لم يعد في الإمكان أن يستطيع ناقد واحد الحكم على نتاج تلك الأقطار، لابد من تعدد النقاد، بعد أن تعددت البلاغة، وأصبح الأندلسي لا يستطيع أن يتذوق البلاغة في شعر أهل المغرب، والمغربي يعجز عن إدراك البلاغة، وأصبح الأندلسي لا يستطيع أن يتذوق البلاغة في شعر أهل المغرب، والمغربي يعجز عن إدراك البلاغة التي فيشعر أهل الأندلس والمشرق وهكذا؛ إنما تذوق البلاغة لا يتم غلا بمعرفة اللهجة وإتقانها والاطلاع على طرق استعمالها (1) . ترى هل كان يحس ابن خلدون وهو يصور الواقع يومئذ انه يلغي مهمة الناقد " الكلاسيكي "؟ وهل كان في مقدور البيئات الشعبية أن تخرج ناقداً يضع القواعد والأحكام لتلك الفنون الشائعة يومئذ؛ أم أن الأمر ظل رهن التذوق العام الذي يعجز عن التعليل؟ إن ابن خلدون نفسه أرخ بعض أنواع ذلك الشعر، وأورد نماذج منه، واكتفى في الاتكاء على الذوق؛ حتى وهو يتحدث عن الفرق بين موشحات الأندلس وموشحات المشارقة. لم يجد ما يقوله غير الحكم العام وهو أن " التكلف ظاهر على ما عانوه (أي المشارقة) من موشحات " (2) . غير أنه بكل ذلك قد كشف عن جوانب القصور في الحركة النقدية عامة، وعن تطور الفنون الجديدة بمعزل عن النقد جلة، سوى استحسان الجمهور لها أو نفوره عنها. ونلحظ من مجموع آراء ابن خلدون في النقد أن آراءه مستمدة من تجربته الخاصة ومن التيار العربي الخالص في النقد الأدبي، وأنها موصولة بمفهوماته الاجتماعية، وليس لها صلة بالمؤثرات اليونانية أو حتى بالمفهومات الكبرى عند حازم التي تمثل تزاوجاً بين التيارين النقديين: العربي الخالص   (1) انظر المقدمة 1316، 1354 وقد حاول الصفي الحلي في " العاطل الحالي " أن يدرس نماذج من الأزجال في غير لهجته، فكانت دراسته تسجيلاً لبعض ظواهر اللهجة، دون إظهار أحكام نقدية قائمة على التذوق الفني. (2) المقدمة: 1339. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 629 والعربي المتأثر بالثقافات غير العربية، ويبدو أن العودة إلى المؤثرات اليونانية في النقد بعد حازم قد أغلقت دونها الأبواب فلا نجد منها إلى ما يشبه ذكريات عابرة (1) .   (1) من ذلك في المشرق مثلا حديث العلامة شمس الدين محمد بن إبراهيم بن ساعد الأنصاري شيخ الصفدي عن عروض الشعر اليوناني " أن الشعر اليوناني له وزن مخصوص، واليونان عروض لبحور الشعر، والتفاعيل عندهم تسمى الأيدي والأرجل؛ قال: ولا يبعد أن يكون وصل إلى الخليل بن أحمد شيء من ذلك فأعانه على إبراز العروض إلى الوجود ". (الغيث المسجم 1: 30) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 630