الكتاب: ملامح يونانية في الأدب العربي المؤلف: دكتور إحسان عباس (المتوفى: 1424هـ) الطبعة: 1 تاريخ النشر: 1977 الناشر: المؤسسة العربية للدراسات والنشر عنوان الناشر: بناية صمدي وصالحة - ص. ب: 5460/ 11 بناية برج شهاب - تلة الخياط - ص. ب: 195119 - برقياً: موكيالي - بيروت معلومات إضافية: تم طبع هذا الكتاب في كانون الأول (ديسمبر) 1977   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- ملامح يونانية في الأدب العربي إحسان عباس الكتاب: ملامح يونانية في الأدب العربي المؤلف: دكتور إحسان عباس (المتوفى: 1424هـ) الطبعة: 1 تاريخ النشر: 1977 الناشر: المؤسسة العربية للدراسات والنشر عنوان الناشر: بناية صمدي وصالحة - ص. ب: 5460/ 11 بناية برج شهاب - تلة الخياط - ص. ب: 195119 - برقياً: موكيالي - بيروت معلومات إضافية: تم طبع هذا الكتاب في كانون الأول (ديسمبر) 1977   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ملامح يونانية في الأدب العربي هل ترجم العرب شعراً يونانياً؟ سؤال لم تعد الإجابة عليه بالنفي، بعد أن توفرت لدينا نماذج من الشعر اليوناني المترجم. هل كانت الترجمة للشعر اليوناني أسراً عارضاً قررته المصادفة المحض؟ أيضاً سؤال لم تعد الإجابة عليه بالنفي، بعد أن وجدت لدينا ترجمة عامة لنماذج من شعر يوناني. هل توقف اهتمام العرب بالأدب والفكر اليونانيين عند هذا الحد؟ أن هذا الكتاب يحاول أن يبين ايضا كيف عمد العرب إلى مادة الفكر اليوناني والأساطير والخرافات اليونانية فوضعوها في أشكال أدبية متنوعة لتصبح أقرب إلى النفوس، سواء أكان الوعاء الذي اتخذوه لها شعراً أو رسالة أو مقامة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1 الإهداء " إلى رودلف ماخ الصديق العالم، ذكرى أيام جميلة؟ بصحبته - في برنستون " إحسان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1 شكر وتقدير يدين هذا البحث بالفضل للجامعة الأمريكية في بيروت التي منحتني فرصة التفرغ للبحث العلمي (1975 - 1976) ثم لجامعة برنستون التي استضافتني سنة أخرى (1976 - 1977) لأتمكن من إنجاز دراساتي، وفي مقدمتها هذه الدراسة؛ وأنا إذ أشكر للجامعتين فضلهما الكبير؟ على المستوى العام - أحب أن أنوه بالمساعدات القيمة التي تلقيتها من أصدقائي الأساتذة في دائرة دراسات الشرق الأدنى؟ على المستوى الخاص - فلهم جميعا أوفى الشكر والتقدير؛ وما كان البحث أن ينجز على هذا النحو، لولا المكتبة الغنية بجامعة برنستون، ولولا العون الذي تلقيته من الصديق رودلف ماخ الذي يسر لي الاطلاع على كل ما احتاجه من مخطوطات، وكان اطلاعه الغزير نعم العون لي في كثير من المواقف. وأخيرا؟ وليس أخرا - أجد هذه الدراسة مدينة بالفضل للدكتورة وداد القاضي التي قدمت لي مساعدات قيمة فيما يتصل بالمراجع الألمانية المعتمدة في هذا البحث، وقرأت المسودة؟ قبل ذهابها إلى المطبعة - ونبهتني فيها إلى أمور كثيرة؛ فالله يجزيها عني وعن العلم خير الجزاء. إحسان عباس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2 تمهيد يمثل هذا البحث في مجموعه - محاولة للإجابة على سؤالين يختلطان معا أحيانا، أولهما: ماذا ترجم العرب من أدب يونان، وثانيهما: ما هي الطرق التي استغل فيها الأدب العربي الثقافة الإغريقية، سواء أكانت تلك الثقافة علما أو أدبا أو فلسفة. ومهما يكن من شيء، فإن القول بتقبل الأدب العربي لمؤثرات أجنبية، ليس انتقاصا من أصالته، أو استهانة بعناصر تلك الأصالة؟ على أساس من هذا الإيمان، جرى القلم في فصول هذا البحث، وفي تطويره، بعد أم كانت نواته الأولى محاضرة بالإنكليزية، ألقيتها في جامعة هارفارد، بتاريخ 25 آذار (مارس) 1976. وإذ تحدد السؤالان على هذا النحو، وجدتني أبذل الجهد في الإجابة عليهما من زاوية الأدب العربي وحده، فتلك خطوة ضرورية، وإن لم تكن مكتملة، وحسبي أن أضع أمام الدراستين ما يمكن أن يكون تمهيدا متواضعا لبحوث أخرى قد تجد من يحققها بوسائل أكثر واستعداد أشد، فإذا استطاعت هذه المحاولة أن تثير بعض الجهود إلى ذلك، فإنها لن تكون غير ذات نفع. جامعة برنستون 20 يناير (كانون الثاني) 1977 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 نظرة في مصادر هذا البحث (1) لما كانت الزوايا التي تحاول هذه الدراسة أن تلم بها متعددة، لم يكن من الطبيعي أن تستقطبها نواة واحدة مشتركة من المصادر، تعد أصلا تتفرع عنه سائر المصادر والمراجع، فربما كانت إشارة صغيرة في كتاب كبير لا علاقة مباشرة له بالثقافة اليونانية ذات أهمية بالغة في لفت نظر القارئ إلى حقيقة كبيرة؛ ولهذا كان على الدارس ألا ييأس من تتبع المصادر على اختلاف موضوعاتها ومنتمياتها، وإن أدى به الأمر إلى أن لا يعثر على شيء يستند المقولة الكبرى في بحثه. وأنا على يقين من أن التفلية الدقيقة لمصادر أخرى لم يتح لي أن أطلع عليها، رغم ما بذلته من جهد شاق في تتبع المصادر الميسورة، سواء منها ما أثبته في قائمة المراجع وما لم أثبته، جديرة بأن تضيف إلى هذا الموضوع استطلاعات جديدة، وفي كل حين تجود الأيام بمستكشفات لم تكن متيسرة، وينتفي القول التعميمي: " ما ترك السالف للخالف شيئا " انتفاء تاما. وهنالك حقيقتان لا بد من الإشارة إليهما لاتصالهما اتصالاً مباشرا بالتيار العام في هذه الدراسة؛ أولهما أن عهد الترجمة لم ينتظر مجيء المأمون، ولا كان وليد رغبته الجارفة في الثقافة الهيلينية، وإنما كان قد بدأ قبل ذلك بكثير، في فترة ما في الدولة الأموية (بين سنتي 105 - 132) ، والشواهد على ذلك مثبتة في مقدمتي على عهد أردشير (2) ؛ وقد اتجه البحث إلى هذه الناحية، وظهرت فيه نتائج طيبة، وإن لم تبلغ بعد مرحلة القول الفصل في هذا الأمر (3) ؛ وفي سبيل تأكيد هذا الاتجاه، وقفت عند المحتوى اليوناني؟ في أدب الرسالة - كما يمثله عبد الحميد الكاتب. وثانية الحقيقتين ظاهرة المنافسة بين أنصار الثقافة الفارسية وأنصار الثقافة اليونانية (4) ؛ ففي المرحلة   (1) حين لا اثبت المراجع هنا، فمعنى ذلك أنني أحيل القارئ على ثبت المراجع في آخر الكتاب. (2) انظر عهد أردشير: 33 - 34. (3) انظر مقالتي غرنياسكي (ثبت المراجع) ودراسة ديمتري غوتاس: 444 وما بعدها. (4) راجع ما كتبه الدكتور عبد الرحمن بدري في مقدمته على " الأصول اليونانية للنظريات السياسية في الإسلام " (جا) (المقدمة ص6 - 9) حول هذه المنافسة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 الأولى؟ فترة سالم الكاتب وابن المقفع - تغلب أنصار الثقافة الفارسية، إذ لم يستطع سالم؟ فيما يبدو - وهو ميال إلى الثقافة اليونانية، أن يباري منافسا قويا مثل ابن المقفع الذي اضطلع بدور كبير في نقل الثقافة الفارسية، بل يبدو أنه كان حينئذ نقلة آخرون لتلك الثقافة عدا ابن المقفع، وشاهد ذلك الكتاب الذي رآه المسعودي باصطخر سنة 303 وكان مما ترجم عن الفارسية لهشام بن عبد الملك، وفيه علوم كثيرة من علوم الفرس وأخبار ملوكهم وأبنيتهم وسياستهم مما لم يوجد في كتب أخرى (1) ؛ وما دام المسعودي لم ينسبه إلى ابن المقفع، فربما أشار هذا إلى وجود مترجم آخر أو مترجمين آخرين. وكان أكثر المنقولات عن الفارسية يتصل بالسياسة عامة؛ سواء أكانت الكتب المترجمة تتناول قواعد السياسة النظرية أو العهود أو سير الملوك أو آداب الآيين، حتى وقر في النفوس حينئذ أن " السياسة " مقصورة على الفرس، مثلما أن فضيلة الشعر مقصورة على العرب؛ ولهذا كان اتجاه سالم ومن حوله ينحو نحو ترجمة آثار سياسية يونانية دون سواها، وكان في مقدمة ذلك تلك الرسائل المنحولة لأرسطاطاليس، ليوازوا بذلك جهود أنصار الثقافة الفارسية في هذا المضمار. ومع أن الحقبة الثانية من حقب الترجمة قد اتجهت إلى الآثار اليونانية الفكرية والعلمية، وعرجت على النصوص السياسية تتطلبها حيثما وجدتها، وترجمها إلى العربية، فإن الصبغة " الفارسية " في السياسة، ظلت هي المسيطرة في هذا الجانب الثقافي، وخاصة لأن أغلب السياسيين حول المأمون كانوا من الفرس، حتى المأمون نفسه لا يزال يأمر معلم الواثق بالله أن يعلمه؟ بعد كتاب الله - عهد أردشير ويحفظه كليلة ودمنة (2) ؛ وقد ظلت طبقة البيروقراطية في الدولة تتجه نحو الثقافة الفارسية، فالكاتب يكتفي بأن يروي لبزرجمهر أمثاله، ولأردشير عهده ولابن المقفع أدبه، وبأن يصير كتاب مزدك معدن علمه ودفتر كليلة ودمنة كنز حكمته (3) ؛ ويظل الحذر من الثقافة اليونانية إلى ما بعد ذلك بزمن عند مؤلفي كتب الأدب، أمثال ابن قتيبة، فإن ما أورده مما يتصل بالسياسة من تراث الفرس، لا يقف إلى جانبه تلك الأقوال   (1) التنبيه والإشراف: 106. (2) المبرد: الفاضل: 4 وانظر عهد أردشير: 34. (3) ذم أخلاق الكتاب (في ثلاث رسائل للجاحظ) : 42. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 اليسيرة التي نسبها إلى اليونانيين؛ وقد عبر ابن قتيبة عن هذا الحذر في أدب الكاتب حين قال يصف المثقف في عصره: " وأنحرف إلى علم قد سلمه له ولأمثاله المسلمون، وقل فيه المتناظرون، له ترجمة تروق بلا معنى، واسم يهول بلا جسم، فإذا سمع الغمر والحدث الغر قوله: الكون والفساد، وسمع الكيان المفردة، والكيفية والكمية والزمان والدليل والأخبار المؤلفة راعه ما سمع؟.. " (1) . وتمثل تلك الصرخة التي أطلقها ابن الداية؟ الذي كان هو وأبوه من محبي الثقافة اليونانية - حلقة في سلسلة تلك المنافسة بين أنصار الثقافتين، في حقل السياسة على وجه الخصوص؛ إذ يتصور ابن الداية أن شخصا قد أخذ يبين؟ بحق - فضل الفرس في السياسة، ولكن جماح التعصب لم يقف به عند هذا الحد، وإنما دفعه إلى تنقص اليونانيين في هذا الشأن، وكرر ذلك على سمع صاحبه، مما اضطر ابن الداية إلى أن يقدم له نموذجا من آراء اليونانيين في الحقل السياسي لكي يستطيع صاحبه أن يدرك " محلهم من حسن السيرة وفضلهم على غيرعم في السياسة " (2) ؛ وسواء أكانت هذه التوطئة " حيلة " تأليفية، أو حقيقية واقعة، فأنها تصور رد ابن الداية على طغيان الأدب السياسي الفارسي حينئذ. وكان على أنصار الثقافة اليونانية أن يقوموا برد آخر، في حقل متصل بالسياسة، وهو " الآداب "، فقد كاد يستقر في الأذهان أيضا أن قواعد الآداب وقف على الفرس؛ ولهذا نرى جهودا كبيرة تبذل في حقبة الترجمة على يد حنين وغيره من التراجمة لنقل الأقوال الحكمية اليونانية، موازاة لما يقوم به أنصار الثقافة الفارسية أمثال الحسن بن سهل من نقل جاويدان خرد وغيره من آثار الفرس (3) ؛ وكان ما ينقله   (1) أدب الكاتب: 3 - 4، ويعد ابن عبد ربه في العقد عالة على عيون الأخبار، ومع ذلك الأقوال المنسوبة لليونانيين تقل عنده، وتندرج تحت كلمة مبهمة مثل " وقال الحكماء " أو تنسب لشخصية عربية، وعن موقف ابن عبد ربه من " العلوم الجديدة " انظر بخاصة: إحسان عباس، تاريخ الشعر الأندلسي (عصر سيادة قرطبة) : 137 (ط:1960) . (2) الأصول اليونانية: 3 - 4. (3) خارج نطاق هذه المنافسة، كانت ترجمة العلوم والفلسفة انتصارا واضحا للثقافة اليونانية، ولذلك نرى حتى بعض المنتمين إلى الثقافة الفارسية. يحاول أن يحاكي المأمون في شغفه بذلك، مثال ذلك طاهر بن الحسين الذي طلب إلى أبي قرة أسقف حران أن يترجم له كتاب أرسطاطاليس في فضائل النفس (مخطوطة كوبريللي:66) . ومثل بني المنجم الذين كانوا يرزقون جماعة من النقلة في الشهر خمسمائة دينار للنقل والترجمة والملازمة (القفطي: 30 - 31) ويمكن ذكر أمثلة عديدة في هذا الصدد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 التراجمة من تلك الأقوال يقع تحت اسم ((Gnomonologia أو (Florilegia) ويضم أقوالا حكمية وأشعاراً لا تفترق في كثير عن الأقوال الحكمية، وأكثر المقصود فيها الغاية الأخلاقية، كما تؤدي إليه لفظة " أدب " التي تطلق على ما يترجم أو ينقل عن الفارسية، وقد لقيت تلك الأقوال عناية كبيرة، وخاصة بعد مرحلة الترجمة، إذ أفردت بالتأليف، أو نثرت على نطاق واسع في الكتب الأدبية. ومن الممكن أن نتبين في هذه الدراسة أربعة خطوط متوازية في مختلف فصولها، إذ هي تعالج الشعر المترجم، وتحوير الحكم النثرية في صور شعرية، وتشكيل الأدب السياسي في قوالب وصور أدبية، واللقاء على مستوى الأمثال والخرافات والأساطير بين الأدبين، ومن ثم كان من الممكن أيضا معالجة مصادرها في أربعة أقسام كبرى: 1 - مصادر الشعر: إن القول بأن العرب عرفوا الشعر اليوناني؟ أو على وجه أدق تلقوا ما عرفوه منه - بطريقة عارضة (1) ، لا يزال يلجأ إلى النماذج الشعرية التي وردت في ترجمة كتابي الشعر والخطابة لارسطاطاليس، وفي بعض التعليقات عليهما، وقد استطاعت النماذج الواردة في هذين الكتابين، رغم ما أصاب بعضهما من تحريف؟ أن ترسخ في نفوس طلاب الثقافة اليونانية أهمية أوميرس (2) وتدل على مكانته بين اليونانيين وخاصة لدى ارسطاطاليس الذي كان يحتفظ بديوان شعره معه فلا يفارق متكأه (3) . ويمثل كتاب " تحقيق ما للهند من مقولة " وكتاب " الآثار الباقية " للبيروني مصدرا هاما لبعض الأقوال الشعرية العارضة، التي تتميز عن النماذج الأخرى المنقولة بدقة قرابتها إلى الأصل، وبصحة نسبها. ويقدم كل من البيروني وتاريخ أوروسيوس (هروشيس) نموذجين للجو العام الذي عاش فيه الشعر اليوناني نفسه، أعني بذلك جو الأسطورة، إذ يوردان عددا من   (1) هذا هو رأي كريمر في مقالته (انظر ص:263) وراجع رأي روزنتال في The Glassical Heritage p.255. حول هذا الموقف نفسه. (2) هذه هي الصورة التي اخترناها هنا وفي سائر الكتاب، وإن كان الاسم يرد في صور مختلفة، ويرد عند المحدثين بصورة " هومر " أو هوميروس؟ الخ. (3) صوان الحكمة (طهران) : 192. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 الأساطير اليونانية، كما ينفرد أوروسيوس بنشر المعلومات عن الشعر الروماني وشعراء الرومان، وعلى التوسيع من مدلول كلمة " شعر " وعلى مشاركة عدة أمم فيه. ويمكن الإضافة إلى هذه المنقولات العارضة، وخاصة من الأقوال والأشعار المنسوبة إلى أوميرس، إذا تتبع الدارس نصوصا يونانية أخرى مثل الرسائل المنحولة إلى أرسطاطاليس، ففيها غير قليل من تلك الأقوال، ولتلك الرسائل وما شابهها مصادر متعددة، ولكن يمكن الإشارة هنا إلى مخطوطات ثلاث محفوظة في كوبريللي وآيا صوفيا والفاتح (1) . غير أن ترجمة الشعر اليوناني لم تكن دائما عارضة، وإنما هناك ترجمة عامدة، قصد القائمون بها الشعر لذاته، ونقلوه ليعرفوا العرب بأقوال شعرية يونانية، وقد كان هؤلاء يميزون دائما بين هذه الأقوال الشعرية والأقوال الحكمية، وعلى ذلك فان عدم الصحة في نسبة تلك الأقوال الشعرية لا يقلل من شأن الغاية المعتمدة في ترجمتها، ومن ذلك تلك الأشعار المنسوبة إلى أوميرس التي ترجمها اصطفن بن بسيل (معاصر حنين بن إسحاق) وكلها من اللون الأيامبي. وقد وصلتنا في كتاب " منتخب صوان الحكمة " (2) وعنه نقل بعضها الشهرستاني في الملل والنحل، وهي أقوال تولاها الدارسون المحدثون بالدراسة؟ كما سأعرض عند الحديث عنها في الفصل الخاص بأميرس - وردها إلى أصولها، وقد أصبحت تعرف بين هؤلاء الدارسين بأسم " الأقوال المناندرية " نسبة إلى شاعر يوناني اسمه مناندر (Menander) . ولدى ابن هندو صاحب كتاب " الكلم الروحانية في الحكم اليونانية " فصل يتضمن صورة من هذه الأقوال الشعرية. ونتقدم خطوة أخرى في هذه الترجمة العامدة للشعر حين نجد في كتاب " قطب السرور " للرقيق القيرواني (حوالي 426) مقطعات شعرية؟ أقوالا - تنتمي كلها، بسبب طبيعة الكتاب (إذ هو في وصف الأنبذة والخمور) إلى الشعر الخمري، ولا تزال هذه القطع تتطلب مزيدا من البحث، لردها إلى أصولها، ومعرفة صاحب كل مقطوعة منها على التعيين. 2 - مصادر الحكم النثرية: ليس من هذه الدراسة البحث في الحكم النثرية نفسها، ولكن التعرف إلى   (1) هي التي تحمل رقم: 1608، 4260، 5323 على التوالي، وقد استخرج الأستاذ غرنياسكي منها بعض أقوال أوميرس، وادرجها في ملحق بآخر مقالته الأولى (انظر فهرس المصادر) . (2) صوان الحكمة (طهران) : 194 - 203. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 مصادرها يعد أمرا ضروريا إلى درس ما جرى لهذه الحكم حين استغلت في الصور الأدبية العربية، وبخاصة عند إدراجها في الشعر. وقد لقيت هذه الحكم عناية واهتماما بالغين خلال العصور، لطبيعتها الإنسانية والأخلاقية، فلم يقتصر الاهتمام بها على طلاب الفلسفة، وإنما شمل بعض الدارسين ممن كان يقف من الفلسفة موقف الحذر أو الانكار، فأدرجت في كتب الأدب من مثل مؤلفات الجاحظ وعيون الأخبار لابن قتيبة والعقد لابن عبد ربه والمجتنى لابن دريد، حيث عقد فصلا مستقلا لأقوال الفلاسفة اليونانيين (1) ، كما نثر أبو حيان التوحيدي عددا كبيرا منها في كتابيه " البصائر والذخائر " و " الامتناع والمؤانسة " وفي كتب أخرى له لم تصلنا، ويبدو أن أبا حيان مر بمرحلتين: مرحلة النقل عن المصادر السابقة، في البصائر، وكانت معرفته بالثقافة الفلسفية لا تزال محدودة، ولذا فهو لا يسمي من الفلاسفة إلا قليلا، ويجعل تلك الأقوال مصدرة بقوله: " وقال فيلسوف " ومرحلة التعرف المباشر إلى الفلسفة عن طريق أبي سليمان المنطقي ومدرسته، كما يبدو ذلك واضحا في الامتناع. وفي محاضرات الراغب الأصفهاني عدد منها وإن لم يكن كثيرا، وعدد أكثر في التذكرة الحمدونية لابن حمدون، وقد جرى أسامة بن منقذ على منهاج ابن دريد في إفراد فصل خاص بها (2) ، بعد أن نثر في تضاعيف كتابه " لباب الآداب " عددا منها، وربما كان ما ورد منها في " ربيع الأبرار " للزمخري معتمدا في أكثره على بصائر التوحيدي. كما اهتم بها المؤلفون في السياسة مثل أبي الحسن العامري في كتابه " السعادة والإسعاد " والطرطوشي في " سراج الملوك "، أو من جمع بين الموضوعين؟ اعني السياسة والأدب - مثل ابن هذيل الأندلسي في كتابه " عين الأدب والسياسة "، ومثل هذه المصادر لا تذكر على وجه الاستقصاء، فذلك أمر يبدو غير مستطاع، لضياع كثير من تلك المصادر، أو لوجود كثير منها في صورة خطية، بعيدة عن متناول الأيدي. فإذا تجاوزنا هذه المصادر الأدبية والسياسية بحثا عن المصادر الأصيلة لتلك الحكم وجدنا أن العناية بها مرت في مرحلتين: مرحلة الترجمة في الحقبتين المشار إليها آنفا   (1) انظر باب " من نوادر كلام الفلاسفة " في المجتنى: 51 - 57، وقد استأثر هذا الفصل باهتمام الأستاذ فرانتز رونتال، فقام بترجمته وتخريجه ورد بعض الأقوال فيه إلى أصولها اليونانية (انظر ثبت المصادر) . (2) لباب الآداب: 428 - 467. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 أعني فترة سالم الكاتب وفترة حنين بن إسحاق، على وجه لا يقبل الشك أن الحكم التي قالها الفلاسفة عند تابوت الاسكندر، كانت معروفة قبل حنين، وأن هذا ربما رجح ترجمتها في فترة سالم. وفي فترة حنين قام هو نفسه بترجمة كثير من الحكم وكذلك فعل ابنه إسحاق، وتلميذه اصطفن بن بسبيل، وأبو عثمان الدمشقي، أما المرحلة الثانية فهي مرحلة التنسيق والاستقصاء، وقد شغلت هذه المرحلة القرنين الرابع والخامس، والجهود التالية المبنية على ما بذل في هذين القرنين من جهد، وعلى ذلك يمكن ترتيب المصادر الأصلية لتلك الحكم على النحو التالي: 1 - كتاب نوادر الفلاسفة لحنين بن إسحاق: وصلنا برواية شخص اسمه محمد بن علي الأنصاري (1) ، وقد كان هذا المصدر المبكر أصلا معتمدا لدى المؤلفين في هذا الموضوع من بعد، وممن اعتمد عليه اعتمادا كبيرا ابن أبي أصيبعة كما أن مخطوطة كوبريللي (رقم: 1608) تحتفظ بقسم كبير مما نقله حنين، بالإضافة إلى ما نقله إسحاق وغيرهما. 2 - صوان الحكمة الذي يقرن باسم أبي سليمان المنطقي: لم يصلنا هذا الكتاب في صورته الأصلية، وإنما وصلنا في صورتين متفاوتتين، إحداهما تسمى: منتخب صوان الحكمة، والأخرى تسمى مختصر صوان الحكمة، وهذه الثانية من عمل زين الدين عمر ابن سهلان الساوي (2) . وقد اعتمد مؤلف صوان الحكمة على عدة مصادر في طليعتها ما ترجم من أقوال الحكماء على يدي حنين ومدرسته (3) . فقد أثبت الأستاذ رونتال (4) أن الفصل عن تاريخ الأطباء في منتخب صوان الحكمة (5) والمؤسس على مادة مأخوذة من   (1) منه مخطوطة بالاسكوبال رقم: 76 وأخرى في ميونخ رقم: 651، ولم يتح لي الاطلاع عليهما، وقد ترجمه يهودا بن سليمان الحريزي (المتوفى حوالي 1200) إلى العبرية، ونشر هذه الترجمة A.Lowenthal كما قام بترجمته إلى الألمانية (1896) وكانت قد ظهرت له ترجمته أسبانية سنة 1879 (انظر غوتاس: 39 ومقالة شتروماير عن حنين في الموسوعة الإسلامية، الطبعة الثانية) . (2) ترجم له البيهقي في تتمة صوان الحكمة (أو تاريخ حكماء الإسلام: 132) وقال إنه كان من ساوة وارتحل إلى نيسابور واستوطنها، وكان متعففا يتكسب بالوراقة، فيبيع نسخة من كتاب الشفاء بخطه بمائة دينار. وله تصانيف في المنطق والحساب وغيرهما ورسائل مختلفة، إلا أن مؤلفاته احترقت مع بيته بساوة بعد وفاته. (3) اعتمدت فيما ذكرته ما يلي عن مصادر صوان الحكمة على رسالة الأستاذ غةتاس: 447 - 449. (4) صوان الحكمة (طهران) : 98. (5) Rosenthal F. Ishaq b. Hunayns Tarikh el - Atibba Oriens7 (1954) pp.55 - 80. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 (John Philoponus) إنما كان من ترجمة إسحاق بن حنين، كما أن وصية فيثاغورس الذهبية (1) - حسب تقدير الأستاذ أولمان (2) - إنما نقلها مترجم معاصر لحنين أو سابق له. ويقر مؤلف صوان الحكمة نفسه أن الأقوال المناندرية المنسوبة إلى أوميرس من ترجمة اصطفن بن بسيل تلميذ حنين (3) . ووردت في ترجمة ديموقراطيس (4) جملتان أوردهما الجاحظ؟ معاصر حنين - في رسالة التربيع والتدوير (5) ، وقولة لزوسيموس وردت بين أقواله التي أوردها الجاحظ في كتاب الحيوان (6) . ولا ريب في أن هناك مصادر أخرى اعتمدها مؤلف صوان الحكمة، ولكن الكشف عنها لا يتم إلا بعد مقارنة ما في هذا الكتاب بما جاء في غيره من أقوال الحكماء. وقد أفاد الشهرستاني من هذا الكتاب كثيرا في كتابه الملل والنحل في ما أورده من تلك الأقوال، كما أن صوان الحكمة كان أنموذجا لما جاء بعده من كتب في هذا الموضوع. 3 - الكلم الروحانية في الحكم اليونانية لأبي الفرج ابن هندو: وما بين أيدينا منه صورة لم تنل حظها من التحقيق الدقيق كما أنها مؤسسة على مخطوطة ناقصة (7) . ويمثل الكتاب مجموعة قيمة هامة من الحكم، بينها فصل عن شعر اليونان؟ كما تقدم القول - وفصل آخر عن الخرافات اليونانية. وتتميز بعض نصوص ابن هندو بدقتها إذا هي عورضت بالأصول اليونانية. 4 - جاويدان خرد أو الحكمة الخالدة لمسكويه: يجمع أقوالا حكمية للفرس واليونان والعرب والهنود، ومع أن ما يخص اليونان منه لا يمثل إلا جزءا صغيرا فإنه هام للمقارنة مع سائر المجموعات، كما يبدو أنه اعتمد ما نقله حنين ومدرسته.   (1) صوان الحكمة (طهران) : 159. (2) أولمان: 28 - 29. (3) صوان الحكمة (طهران) : 204. (4) صوان الحكمة (طهران) : 194. (5) رسالة التربيع والتدوير، الفقرة: 190. (6) الحيوان 1: 140. (7) نشرت بعناية مصطفى القباني الدمشقي، القاهرة 1900، ويذكر بروكلمان من مخطوطات الكتاب ثلاثا (باريس 5139 والفاتح 4041 وآيا صوفيا 2452) ، انظر غوتاس: 41. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 5 - مختار الحكم للمبشر بن أضخم مجموعة لدينا من الأقوال الحكمية، ويتميز بمقدمات تحتوي معلومات بيوغرافية في أول كل ترجمة. 6 - الأحاديث المطربة لابن العبري: للمؤلف كتاب بالسريانية يعرف بالقصص المضحكة، (وقد ترجمه بدج Budge إلى الإنكليزية) ، ولعل الأحاديث المطربة صورة وضعها بالعربية هو نفسه، وهو في ستة عشر فصلا وتحتل اليونانية الفصل الأول، وهذا النص نشره الأب لويس شيخو (1) . 7 - روضة الأفراح ونزهة الأرواح لشمس الدين الشهرزوري، وهو لتأخر مؤلفه في الزمن يعتمد على المجموعات السابقة وخاصة على صوان الحكمة (2) . ولا تتم صورة المصادر التي تورد الأقوال الحكمية دون العودة إلى أصول أخرى منها الكتب المؤلفة في تراجم الحكماء مثل كتاب ابن جلجل وطبقات الأمم لصاعد الأندلسي وتاريخ الحكماء للقفطي وعيون الأنباء لابن أبي أصيبعة، ومنها مجموعات لا يزال أكثرها مخطوطا، ونميز من بينها في هذا الصدد مخطوطة كوبريللي (1608) والفاتح (4260) وآيا صوفيا (5323) وتمتاز الأولى من بينها بأنها جمعت القدر الأكبر من تلك الأقوال (3) ، ويبدو أن ناسخها (أو جامعها الأول) قد اطلع على عدة صور من الحكم، ولهذا مثلا نجد أن حكم سقراط تجيء في غير موضع واحد، وكذلك هو حال النقل عن حنين وابنه اسحاق، وقد أدرج فيها عهد أردشير وحكم لسليمان بن داود مما يجعل بعض اجزائها غير قاصر على حكم يونان، ومن الهام أن أشير هنا إلى أن ما جاء فيها من حكم فيثاغورس وسليمان وابن سيرا (برسين في لباب الآداب) يتفق وما أورده أسامة في لباب الآداب (443 - 445) ، وإلى جانب هذه المخطوطات الثلاث رابعة بعنوان " مختار من كلام الحكماء الأربعة الأكابر (4) " وهم فيثاغورس وسقراط وأفلاطون وأرسطاطاليس، وقد قام الأستاذ غوتاس بتحقيقها والتعليق عليها في دراسته   (1) لويس شيخو: مقالات فلسفية: 39 - 60. (2) لا يزال هذا الكتاب مخطوطا وهو يمثل تاريخا للفلاسفة من أقدم العصور إلى عصر المؤلف (القرن السابع) . (3) وصف الأستاذ غوتاس هذه المخطوطة وتحدث بتفصيل عن محتوياتها، انظر ص: 43 - 49. (4) حققت على أساس مخطوطة آيا صوفيا (2460) وآيا صوفيا (2822) وباريس (202) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 التي تكررت الإشارة إليها، وقد اتضح للمحقق مدى صلتها بنص صوان الحكمة من أقوال الحكماء الأربعة، وأنها لا تعدو أن تكون رواية أخرى منه، قد أدخلت عليها بعض الإضافات، وأنها أقرب إلى مختصر الصوان منها إلى المنتخب، وأن جمعها قد تم على الأغلب في الثلث الأول من القرن الحادي عشر (1) . ولن يفوتنا هنا أن نذكر ذلك الفصل من أقوال الحكماء الذي ورد في كتاب " طب النفوس " لابن عقنين (1226) وهو مؤلف بالعربية مكتوب بحروف عبرية، وقد حقق هذا الفصل وترجمه الأستاذ هالكن، وعليه كان اعتمادي في هذا البحث. أما الأقوال الحكمية التي رثى الحكماء بها الاسكندر فقد حاولت أن استقصي مصادرها الأدبية والتاريخية، وقد أفردتها في ملحق خاص بها (انظر الملحق الثاني) فلهذا لا حاجة بي إلى التنويه بأهم مصادرها في هذا المقام. 3 - مصادر الفكر السياسي: سيتضح في هذه الدراسة أن الفكر السياسي اليوناني كان من أهم المواد التي عني الأدباء بالإفادة منها في مختلف الأشكال الأدبية، وفي مقدمة ذلك الرسائل المنحولة لارسطاطاليس، والأخرى المنحولة لأفلاطون. ويتفق الفكر السياسي في كثير من مصادره مع الأقوال الحكمية. ففي صوان الحكمة ومختار الحكم مثلا أقوال كثيرة تتصل بذلك الفكر. وربما كانت المخطوطات الاستانبولية الثلاث؟ المشار اليها من قبل - من أهم المصادر التي حفلت بالنصوص السياسية، كما أن المؤلفات ذات الطابع السياسي الأخلاقي مثل السعادة والإسعاد وسراج الملوك مصدر طبيعي لها. ولا يزال الفكر السياسي بحاجة إلى عناية من تحقيق ودرس، وقد نشرت بعض الرسائل في " مقالات فلسفية قديمة " لشيخو، وفي الأصول اليونانية للنظريات السياسية في الإسلام تحقيق الدكتور عبد الرحمن بدوي، ويضم هذا الكتاب عهودا ثلاثة منسوبة لأفلاطون من صنع ابن الداية (وقد أعاد نشرها عمر المالكي بعنوان " الفلسفة السياسية عند العرب " دون أن يشير إلى ما   (1) انظر غوتاس: 429 - 345. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 صنعه الدكتور بدوي) وكتاب سر الأسرار المنسوب لارسطاطاليس. 4 - مصادر الخرافات والأمثال: في اللقاء بين الأدبين على مستوى الأمثال والخرافات، وبخاصة الحكايات على ألسنة الحيوانات، كان لا بد من العودة إلى ثلاثة أنواع من المصادر (أ) كتب الحيوان ككتاب الجاحظ وكتاب الدميري، وليس لدى الجاحظ ميل كبير إلى هذه الخرافات، أما الدميري فإنه يعتمد في هذه الخرافات على مصادر سابقة، (ب) كتب الأمثال، وتحتفظ بعض مصادر الأمثال المبكرة بخرافات قليلة تتصل اتصالا مباشرا ببيئة الجاهلية، ولكن منذ حمزة الأصفهاني يبدو الاهتمام بهذه الخرافات أكثر فقد أفرد في أواخر كتابه " الدرة الفاخرة " فصلا خاصا بها. وتمثل أمثال العامة ذخيرة هامة في هذا المجال، ولهذا كان لابد من الاعتماد على ما أورده الثعالبي منها في " التمثيل والمحاضرة " وما أورده الابشيهي في المستطرف، (ج) كتب الأدب، فقد ورد منها في العقد " جانب. إن لم يكن كثيرا، كما أن التوحيدي؟ الذي أهتم كثيرا بأدب العامة وأمثالهم - قد أورد منها في البصائر عددا غير قليل. واقتفى الراغب الأصفهاني خطوات حمزة فأفرد لها في أواخر محاضراته بابا خاصا، وكذلك فعل أبن الجوزي في كتاب أخبار الأذكياء، وقد حرصت على أن أبعد من هذه الحكايات ما ورد منها في كليلة ودمنة وغيره من المصادر الفارسة مثل " مرزبان نامه " وصنوه " فكاها الخلفاء "، وإذا تجاوزنا هذه المصادر الرئيسية وجدنا هذه الخرافات تستأثر باهتمام ابن هندو فيعقد لها فصلا في كتابه " الكلم الروحانية " وهي تلك الخرافات المترجمة عن يونان، وفي هذا السياق يقع أيضا جهد أبن بطلان فيما يتعلق بالحكايات التي أوردها في رسائله، والتي نقل عنه القفطي بعضها في أخبار الحكماء. واضح أذن أن المثقفين كانوا يعرفون أن بعض الحكايات ترجم مباشرة عن اليونانية، وبعضها الآخر قديم لا يعرف أصله، ولهذا جرى عرض هذه الخرافات على قصص إيسوب وبابريوس وفايدرس، وعلى الخرافات البابلية واليهودية، من أجل المقارنة، واستيفاء متطلبات هذه الدراسة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 تلك نظرة عاجلة لا تستطيع أن تصور تماما طبيعة المصادر الضرورية في سياق هذه الدراسة، ولكنها تعطي لمحة عنها، على أن نتذكر أن الحاجة إلى مصادر فرعية، كانت دائما ضرورية. وقد أفدت في دراستي هذه من بحوث عدد كبير من الدارسين الغربيين (ممن أثبت أسماءهم وأسماء بحوثهم في ثبت المراجع) ووجدت الكثير من العون في تعليقاتهم وآرائهم، ولولا خطواتهم في هذا الميدان، لكان لهذه الدراسة شأن آخر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 " 1 " موقف العرب من الشعر اليوناني ومدى معرفتهم به إذا وضع الدارس أمام عينيه فرضية مريحة؟ مرهونة بما استكشف حتى اليوم من مصادر - مفادها أن العرب لم يترجموا شعرا يونانيا، ومن ثم لم يتأثر أدبهم بذلك الشعر، لم يبق عليه إلا أن يحشد الأسباب التي أدت إلى ذلك، وخاصة إذا كان هذا الدارس ينظر نظرة مقارنة إلى ما تم في عصور الترجمة من نقل للفلسفة اليونانية وعلوم يونان. فقد يجد؟ وهو محق في ذلك - أن العرب كانوا يرون لهم في شؤون الشعر والبلاغة والفصاحة تفوقا يميزهم عن سائر الأمم، سواء أكان لهذا الشعور ما يسوغه أم لا، وأنهم لذلك كانوا يشعرون أن لا حاجة بهم إلى أخذ تراث الأمم الأخرى، خضوعا لهذا اللون من الاكتفاء الذاتي. ثم إن الأدب اليوناني، سواء أكان بطوليا أو مسرحيا أو غنائيا، كان يتكئ على تراث وثني، يتعارض تماما والتوحيد الصارم، ولهذا لم يكن في الإمكان ترجمته، فإذا ما ترجم منه شيء؟ مهما يكن قليلا - فلا بد من تحويره ليتفق والروح التوحيدية. ولما كان العرب يعتقدون أن تميزهم يرجع في الدرجة الأولى إلى القدرة على التعبير، ولما كان عصر الترجمة قد واكب ظهور الشعوبية التي تعيب على العرب تخلفهم في شتى الميادين، لم يشأ هؤلاء العرب أن يقروا بحاجتهم إلى معرفة ما لدى الأمم الأخرى من أدب، فإن مثل هذا الإقرار يسلبهم أبرز أنواع التفوق، أعني الميدان الأدبي. ومما يدل بقوة على أن العرب لم يترجموا الآثار اليونانية الكبرى في الأدب، ما تم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 لديهم حينما ترجموا " كتاب الشعر " الذي يستند على شواهد أدبية، فقد وضح بقوة أن التراجمة والمعلقين على هذا الكتاب من أمثال أبي بشر يونس بن متى والفارابي وابن سينا وابن رشد وحازم القرطاجني، قد عجزوا عن فهم ما فيه من مصطلح وعن الإفادة الصحيحة من قواعده وأحكامه، لأنه لم يكن لديهم أمثلة مترجمة؟ وبالتالي أمثلة أصلية - تدلهم على مفهوم الملحمة أو المأساة. وفي إبان عصر الترجمة، قرر الجاحظ مبدأ يعد ذا حظ كبير من الصواب، إلا أنه رغم ذلك شديد الخطورة، وذلك هو أن " الشعر لا يستطاع أن يترجم ولا يجوز عليه النقل ومتى حول تقطع نظمه وبطل وزنه وذهب حسنه وسقط موضع التعجب (1) " ومثل هذا المبدأ من شأنه أن ينفر الناس من ترجمة الشعر إلى العربية، أو يجعل أية محاولة في هذا السبيل قليلة الجدوى، وقد بقي هذا الرأي حيا على الزمن، حتى ردده أبو سليمان المنطقي في (القرن الرابع) حين قال: " ومعلوم أن أكثر رونق الشعر ومائه يذهب عند النقل، وجعل معانيه يتداخلها الخلل عند تغيير ديباجته (2) "، ولكنه لم يكن حائلا دون الترجمة في كل وقت، وإنما اصبح عذرا للمترجم واعتذارا عن الشعر المترجم، إذا هو بدا؟ حقا - فاقد المائية والرونق في شكله النثري. وقرن الجاحظ إلى مبدأه ذاك مبدأ آخر حين أعلن أن " فضيلة الشعر مقصورة على العرب وعلى من تكلم بلسان العرب (3) "، ولعل هذا الحسم لا يتجشمه إلا من اطمأن من نفسه إلى معرفة واسعة بعدة لغات؟ أو على الأقل باللغات المشهورة في عصره، وهبنا فهمنا أن " فضيلة الشعر " هنا تعني " فضيلة إتقان الشعر " أي البلوغ فيه إلى درجة لا مثيل لها في اللغات الأخرى، فإن هذا المبدأ أيضا حجاب دون شعر الأمم الأخرى، وربما حمل في ذاته، إلى الشعور بالاستعلاء في هذه الناحية، تثبيطا لمن حاول أن يعرف ما لدى تلك الأمم من شعر. ثم إن قصر " فضيلة الشعر على العرب " أمر داخل فيما أصبح يسمى المميزات الفارقة   (1) الجاحظ: كتاب الحيوان 1: 75. (2) أبو سليمان المنطقي: منتخب صوان الحكمة، الورقة: 71 وصوان الحكمة (طهران) : 193. (3) الحيوان 1: 74. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 لكل أمة على حدة، وهو شيء يأخذ بالظاهر الأغلب، وعن ذلك عبر صاحب الامتناع والمؤانسة حين قال: " فللفرس السياسة والآداب والحدود والرسوم والعلم والحكمة، وللهند الفكر والروية والسحر والأناة، وللترك الشجاعة والإقدام، وللزنج الصبر والكد والفرح، وللعرب النجدة والقرى والوفاء والبلاء والجود والذمام والخطابة والبيان (1) ". ومن أطراف ما يمر به المرء متصلا بهذا الموضوع ما ورد في رسالة السياسة العامية المنسوبة إلى ارسطاطاليس فإن الكاتب يقرن فيها بين العرب والهند في مميزات شتى منها: أنهم على السنة " ولهم الكرم والمروءة والأنفة وبذل الأموال والصبر في اللقاء ولزوم الغيرة والمعرفة بالشعر والسعة في الكلام؟ " ثم ينصح الإسكندر بإن يكثر لهم من المخاطبة " فإنهم يأنسون باللفظ ويميلون إلى حسن الكلام "، ويملي عليه كتابا يكتبه إليهم وفيه: " واعلموا أن الشعر جزء من أجزاء كثيرة من الحكمة فتنازعوا على طلب الحكمة (2) .. "، وفي هذا ما فيه من إقرار اليونانيين أنفسهم بما للعرب من تفوق في هذه الناحية، إلا أنها مفردة لا بد من موازنتها بسائر أجزاء الحكمة، وهذا ما يفسر؟ أو يسوغ - إقبال العرب على ترجمة حكمة اليونانيين والفرس، تتميما واستكمالا لما ينقصهم، حسبما تمليه هذه النصيحة المنسوبة لارسطاطاليس. ولا ريب في أن موقف الجاحظ كان ينبع من إيمانه العميق بإن العرب ذوو حظ متفرد في البلاغة، وفيهم نزل القرآن لما أوتوا من ذوق أدبي رفيع، وربما زاد من تمسكه بهذه النظرة أمران: أولهما بعض النماذج الأدبية المترجمة، وهذه؟ مهما يكن حظها من الروعة في لغتها الأصلية - تفقد كثيرا من روائها وروعتها حين تقرأ في غير لغتها، والثاني أن الجاحظ كان يتخذ من هذه الفكرة سندا يدافع به عن العرب، ضد الشعوبية، وبه يثبت فضل العرب وتميزهم عن سواهم من الأمم، ويرى في شعرهم " ديوانا " كاملا للمعارف الإنسانية، ويسوءه؟ من ثم - أن يرى كتاب عصره - مدفوعين بروح معادية للعرب وتراثهم - يبحثون عن ثقافتهم في كتاب مزدك ودفتر كليلة ودمنة وأمثال بزرجمهر (3) .   (1) التوحيدي: الإمتاع والمؤانسة 1: 74. (2) مخطوطة كوبريللي، الورقة 100، 101 - 102. (3) الجاحظ: رسالة في ذم أخلاق الكتاب (ضمن ثلاث رسائل) : 42. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 ولا أظنه غاب عن الجاحظ أن كل أمة كانت ذات نصيب من الأدب والشاعر، وأن اليوان - بالذات - كان لديهم شعرهم الخاص بهم، وهو الذي يروي أن زوسموس اليوناني سئل كيف يعلم الناس الشاعر، وهو ليس بشاعر، فأجاب: زوسيمون كالمسن الذي يشحذ ولا يقطع (1) . وحين يبتعد شبح الشعوبية، يصبح الإقرار بحظ الشعوب الأخرى من الشعر والأدب جملة أمرا طبيعيا، يقول الزبير بن بكار: (256/829) كان لي غلام يسوق أهجنا لي ويرطن بالزنجية شيئا يوقع عليه شبه شعر، فمر بنا رجل يعرف لسانه، فاستمع له ثم قال، إنه يقول: فقلت لها أنى أهتديت لفتية ... أناخوا بجعجاع قلائص سهما فقالت كذاك العاشقون ومن يخف ... (2) عيون الأعادي يجعل الليل سلما والشاهد أن ذلك الغلام الزنجي كان يتغنى بكلم موزون في لغته، فأما الترجمة لما قال، فإنها تومي إلى تقارب بين المعنيين، في أغلب الظن، لا أنها ترجمة دقيقة. وفي عصر الجاحظ نفسه سمع حنين بن إسحاق (260/873) ذات مرة ينشد شعرا بالرومية لأوميرس رئيس شعراء يونان (3) ، ولا ريب في أن الذي سمعه وأدرك أنه يتغنى بشعر، وأن الشعر إنما كان لأوميرس، كان يشارك حنينا في الاطلاع على شيء من الشعر اليوناني في لغته الأصلية. وإلى حنين وغيره من التراجمة يعود الفضل في اتساع المعرفة؟ نسبيا - بدور اليونان في الشعر، حتى إذا بلغنا إلى الفارابي وجدنا أن تلك المعرفة بلغت حدا من السعة لم تتجاوزه من بعد إلا قليلا. ويعتمد الفارابي في أحكامه نظرة موضوعية مقارنة، فهو وقف على أشعار كثير   (1) الحيوان 1: 290 (وكتب هنالك ريسموس) . وفي الكلم الروحانية لابن هندو: 80 - 81 نسب هذا القول إلى سقراط، وجاء منسوبا إلى زوسيموس في منتخب الصوان: 102 (254ط. طهران) وفي العقد 2: 268 نسب للخليل بن أحمد، وفي محاضرات االراغب الأصفهاني 1: 55 لابن المقفع. (2) التوحيدي: البصائر والذخائر 2: 15. (3) ابن أبي أصيبعة: عيون الأنباء 1: 185. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 من الأمم (1) لا على أشعار العرب واليونان وحسب، فعرف أن العرب يعنون بنهايات الأبيات أكثر من سائر الأمم الأخرى، وأنهم لا يجعلون التلحين أو النغم المرافق للإنشاد جزءا من الشعر نفسه، بينما تفعل ذلك بعض الأمم الأخرى، فإذا قرئت أشعارها دون اللحن بطل وزنها (2) ، ويتطرق الفارابي من ذلك إلى مشكلة أخرى وهي: إذا تمت عناصر التخيل في القول ولكنه لم يبن على وزن وإيقاع محدد، فهل يسمى شعرا؟ ويجيب على ذلك بقوله: إنه لا يعد شعرا وإنما هو: قول شعري (3) . ويقارن بين الوزن في الشعر العربي والشعر اليوناني فيرى كلا منهما قائما على وحدات تعرف عند العرب بالأسباب والأوتاد وعند اليونانيين بالمقاطع والأرجل (4) . وإذا تناولنا الفارابي أصناف الشعر وجد أنها إما أن تتنوع من ناحية الأوزان أو من ناحية المعاني، وهو على وعي بأن العلماء المعاصرين له الذين تحدثوا عن أشعار العرب والفرس تناولها من ناحية المعاني فقسموا الأشعار إلى الأهاجي والمدائح والمفاخرات والألغاز والمضحكات والغزليات (5) ، وما ذلك إلا لأن الشعراء في جميع الأمم خلطوا أوزان أشعارهم بأحوالها، أي أنهم نظموا في المديح أو الرثاء على عدة أوزان، وانفرد اليونان بين الأمم بأن خصصوا لكل موضوع وزنا مستقلا، فوزن المدائح غير وزن الأهاجي، ووزن الأهاجي غير وزن المضحكات (6) ، فإذا قلنا إن من أنواع الشعر اليوناني الطراغوذيا والقوموذيا كان معنى ذلك أن الطراغوذيا يشمل موضوعا ووزنا يحددان طبيعته ويميزانهعن القوموذيا. وقد عد الفارابي من أنواع الشعر اليوناني ثلاثة عشر نوعا منها الطراغوذيا وديثرمبي وقوموذيا وإيامبو وأفيقي (Epic) وريطوري (7) ، وعرف كل نوع منها، فكان مما قاله في تعريف الطراغوذيا: هو نوع من الشعر له وزن معلوم يلتذ به كل من سمعه من   (1) الفارابي: جوامع الشعر (مع تلخيص ابن رشد) : 171. (2) المصدر نفسه: 172. (3) المصدر نفسه. (4) الفارابي: إحصاء العلوم: 65. (5) الفارابي: رسالة في قوانين صناعة الشعر (ضمن: فن الشعر) : 152. (6) المصدر السابق نفسه. (7) المصدر السابق: 152 - 153. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 الناس أو تلاه، يذكر فيه الخير والأمور المحمودة المحروص عليها ويمدح بها مدبر والمدن، وكان الموسيقاريون يغنون بها بين يدي الملوك، فإذا مات الملك زادوا في أجزائها نغمات أخرى وناحوا بها على أولئك الملوك. وفي تعريف ديثرمبي قال: نوع من الشعر له وزن ضعف وزن طراغوذيا يذكر فيه الخير والأخلاق الكلية المحمودة والفضائل الانستنية، ولا يقصد به مدح ملك معلوم ولا إنسان معلوم لكن تذكر فيه الخيرات الكلية؟ وأما أيامبو فهو نوع من الشعر له وزن معلوم تذكر فيه الأقاويل المشهورة سواء كانت تلك من الخيرات أو الشرور، بعد أن كانت مشهورة مثل الأمثال المضروبة. وكان يستعمل هذا النوع من الشعر في الجدال والحروب وعند الغضب والضجر (1) . وقد خلص الفارابي من دراسته هذه إلى أن ما شعر به أهل اللسان العربي من القوانين الشعرية بالإضافة إلى ما جاء في كتاب الشعر لأرسطو وفي كتاب الخطابة له أيضا إنما هو نزو يسير (2) ، وإذا كان هذا في ظاهره حكما على عدم اتساع النظرية النقدية عند العرب، فلا بد أن يكون حكما غير مباشر على الشعر نفسه، فقد ذهب الفارابي، وتابعه ابن رشد؟ من تصورهما الخاص لمعنى قيام الشعر اليوناني على الخير والتحبيب به ودفع الشر والتنفير منه - إلى أن الشعر العربي في أكثره منغمس في النهم والكرية (3) وزاد ابن رشد قوله: وذلك أن النوع الذي يسمونه النسيب إنما هو حث على الفسوق، ولذلك ينبغي أن يجنبه الولدان، ويؤذبون من أشعارهم بما يحث فيه على الشجاعة والكرم، فإنه ليس تحث العرب في أشعارها من الفضائل على شيء سوى هاتين الفضيلتين، وإن كانت ليس تتكلم فيهما على طريق الحث عليهما وإنما تتكلم فيهما على طريق الفخر (4) . وقال في موضع آخر: ولكون أشعار العرب خلية من مدائح الأفعال الفاضلة وذم النقائض أنحي الكتاب العزيز عليهم (5) .   (1) انظر المصدر السابق: 153 - 154. (2) ابن رشد: تلخيص كتاب ارسطاطاليس في الشعر (ضمن: فن الشعر) : 250، وتلخيص (سالم) :163. (3) تلخيص ابن رشد: 250 و (سالم) : 67. (4) المصدر السابق. (5) تلخيص ابن رشد: 229 و (سالم) : 123. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 وفي المائة سنة التي تلت وفاة الفارابي (339/950) تواجهنا ظاهرة تلفت النظر حقا، وهي زيادة الاهتمام بأدب الحكمة اليوناني: كان قسم كبير من هذا الأدب قد ترجم في فترة مبكرة، فكان هم المثقفين في الحقبة التي أشير إليها أن يجدوا النظر فيما كان قد ترجم، وأن يعيدوا إبرازه، أو أن يترجموا أشياء جديدة لم تكن قد ترجمت من قبل (1) . وهنا علينا أن نلحظ أمرا هاما راعاه أولئك المثقفون أو بعضهم، فإنهم كانوا حريصين على الفصل بين أدب الحكمة وبين الشعر، كذلك فعل أبو سليمان المنطقي في الفصل الذي عقده لاوميرس (2) ، وعلى ذلك جرى ابن هندو في " الكلم الروحانية " فإنه بعد أن نسب الأقوال الحكمية لكل فيلسوف على حدة، عقد فصلا خاصا بعنوان " مما نقل من أشعارهم إلى العربية (3) "، ومن بعد تلك الحقبة التزم الشهرستاني (548/1153) بهذا المبدأ، وخاصة في ترجمة أوميرس، جريا على ما أختطه أبو سليمان (4) . وقد كان لهذا الفصل بين النوعين قيمة محدودة ذلك لأنه دل بأمانة على مصادر الترجمة، ولكن طبيعة الشعر المترجم، كانت شديدة الشبه بالأقوال الحكمية، حتى ليمكن القول إن هذا الشعر لم يترجم إلا لأنه كان يمثل وجها من وجوه الحكمة اليونانية، وأن روعته الشعرية لم تكن هي لحافز الأول على الاهتمام به. وإذا كانت تلك النماذج الشعرية قد أثبتت أن الشعر لم يكن مقصورا على العرب، فإنها لم تزد على أن أكدت أن اليونان قوم حكماء، وأن حكمتهم لا تقل في أهميتها عن " أدب " الفرس. من هنا يتبين لنا أن طلاب الثقافة اليونانية وقعوا في دائرتين مغلقتين، فهم إما عرفوا منزلة اليونان في الشعر، وبعض النماذج الشعرية، عن طريق كتابي الشعر والخطابة لارسطاطاليس وما حولهما من شروح كشرح ثامسطيوس، وإما عرفوا أقوالا شعرية؟ غير دقيقة النسبة - لا تفترق في كثير عن الحكم. ولا نعرف أحدا استطاع أن يخرق هاتين الدائرتين سوى أبي الريحاني البيروني (بعد 442/1050) وسبب ذلك أن أبا الريحان لم يقع كما وقع الفارابي وابن سينا وابن رشد ضحية لنماذج أدبية لا يعرفها، كما يقع من يقرأ " كتاب الشعر " دون أن يعرف حقيقة المأساة والملهاة مثلا، وإنما كانت   (1) سيجيء الحديث عن هذا الأدب في موضعه من هذه الدراسة، انظر الفصل التاسع. (2) انظر منتخب صوان الحكمة، الورقة: 71 وما بعدها، وصوان الحكمة: (طهران) 193 - 194. (3) الكلم الروحانية:135. (4) انظر ترجمة أوميرس في الملل والنحل 2: 164 - 167. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 مصادره علمية تستشهد بالأدب، وعلى هذا قد تكون معرفته بالأدب اليوناني عارضة، ولكنها؟ في النهاية - معرفة دقيقة لارتباطها بالحقائق العلمية. بل لعل طبيعة الموضوعات التي عالجها البيروني في كتابيه " تحقيق ما للهند من مقولة " و " الآثار الباقية عن القرون الخالية " هي التي جعلته ينطلق إلى جذور الأدب اليوناني، لا إلى الأدب وحسب، وأعني بذلك الأسطورة اليونانية نفسها، وهي التي تحاشاها كل من كتب قبله، لأنها قد تتعارض والإيمان بالتوحيد. ولعل بعض الأمثلة التالية يوضح ما أعنيه: (1) ولدزوس (Zeus) في جبل ديقطاون (Dicte) في قريطي (Grete) حيث كانت والدته تخبؤه من أبيه قرونس (Gronus) لئلا يبتلعه كما ابتلع غيره، ثم ما في التواريخ المشهورة من تزوجه بالنساء المعروفات واحدة بعد أخرى وإحبال بعض منهن مغصوبات غير منكوحات، ومنها أورفة (Europa) بنت فونيكوس (Phoenix) الذي أخذها منه أسطارس (Asterius) ملك اقريطي وأولدها بعده مينوس (Minos) وردمنتوس (Rhadamanthys) وذلك بعد زمان خروج بني اسرائيل من التيه إلى فلسطين، وما ذكر أنه مات بأقريطي ودفن بها في زمان شمسون الاسرائيلي، وله سبع مائة وثمانون سنة، وأنه سمي زوس لما طال عمره بعد أن كان يسمى ديوس (Deus) وأن أول من سماه بهذا الأسم ققرفس (Gecrops) الملك بأثينية؟. (1) . (2) إن نقطانيبوس (Nectanebus) ملك مصر لما هرب من أردشير الأسود واختفى في مدينة ما قيدنيا (Macedonia) يتنجم ويتكهن، احتال على اولمفيذا (Olympias) أمرأة بيلبس (Philippus) ملكها وهو غائب حتى كان يغشاها خداعا ويري نفسه على صورة أمون الإله في شبح حية ذات قرنين كقرني الكبش إلى أن حبلت بالأسكندر، وكاد بيلبس عند رجوعه أن ينتفي منه وينفيه، فرأى في المنام أنه نسل الإله آمون، فقبله وقال: لا معاندة مع الآلهة (2) . (3) فإن اراطس (Aratus) يقول في ظاهراته ورموزه على البرج السابع: تأمل   (1) أبو الريحان البيوني: تحقيق ما للهند: 46 - 47. (2) تحقيق ما للهند: 47. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 تحت رجلي البقار؟ أي العواء - في الصور الشمالية العذراء التي تأتي وبيدها السنبلة المنيرة؟ يعني السماك الأعزل - وهي إما من الجنس الكوكبي الذي يقال إنه أبو الكواكب لبقديمة، وإما متولدة من جنس آخر لا نعرفه، وقد يقال إنها كانت في الزمن الأول مع الناس في حيز النساء غير ظاهرة للرجال، واسمها عندهم العدل (Justice) وكانت تجمع المشيخة والقوام في المجامع والشوارع، وتحثهم بصوت عال على الحق، وتهب الأموال التي لا تحصى، وتعطي الحقوق، والأرض حينئذ تسمى ذهبية، وما كان أحد من أهلها يعرف المراء المهلك في فعل أو قول، ولا كان فيهم فرقة مذمومة، بل كانوا يعيشون عيشا مهملا، وكان البحر مرفوضا غير مركوب بسفن، وإنما كانت البقر تأتي بالمير. فلما أنقرض الجنس الذهبي وجاء الجنس الفضي عاشرتهم غير منبسطة، واختفت في الجبال غير مخالطة للنساء كما كانت من قبل، ثم كانت تأتي عظام المدن وتنذر أهلها وتعيرهم على سوء الأعمال وتلومهم على إفساد الجنس الذي خلفه الآباء الذهبيون وتخبرهم بمجيء جنس شر منهم، وكون حروب ودماء ومصايب عظيمة، فإذا فرغت عنهم إلى الجبال، إلى أن انقرض الفضيون، وصار الناس من جنس نحاسي، فإستخرجوا السيف الفاعل للشر، وذاقوا لحم البقر، وهم أول من فعل ذلك، فأبغضت العدل (Justice) جوارهم، وطارت إلى الفلك: وقال مفسر كتابه: إن هذه العذراء هي بنت زوس وكانت تخبر الناس في المجامع بالشرائع العامية، والناس حينئذ خاضعون للحكام، غير عارفين بالشر والخلاف، لا يخطر ببال أحد منهم شغب ولا حسد، يعيشون من الحرث ولا يسلكون البحر في تجارة أو حرص، وهم على طبيعة في الصفاء كالذهب، فلما انتقلوا من تلك السيرة وصاروا غير حافظين للحق لم تعاشرهم العدل، ولكنها كانت تشاهدهم وتسكن الجبال، فإذا أتت محالفهم بكراهة هددتهم، لأنهم كانوا ينصتون لقولها كآبائهم، ومن أجل ذلك لم تكن تظهر للذين يدعونها كما كانت تفعل أولا، فلما أتى الجنس النحاسي بعد الفضي واشتبكت الحروب ونشأ الشر، عزمت على أن لا تكون معهم البتة وأبغضتهم وصارت إلى الفلك (1) . (4) ومن أساطير اليونانيين أن أيفسطس (Hephaestus) عشق أثينا (Athene) وراودها فدافعته حفظا للعذرة، واختفى لها في بلاد أثنية، وأراد القبض عليها فطعنته   (1) تحقيق ما للهند: 192 - 193. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 بحربة حتى تركها، وأرسل النطفة على الأرض فكان منها أرقتونيوس (Erichthonius) وأنه جاء على عجلة مثل رخ الشمس ومعه ممسك الأعنة (the Gharioteer) راكب (1) . لقد كانت الأسطورة هي الحجاب الكثيف دون فهم الشعر اليوناني وتذوقه، ترى لو أنها وجدت؟ في تاريخ مبكر - تسامحا في التقبل كالذي فعله البيروني، هل كانت تؤدي إلى لقاء من نوع آخر بين الأدبين اليوناني والعربي؟ ويختلف البيروني عمن سبقه اختلافا جوهريا، لعله من أثر اطلاعه على أساطير يونان والهند، وإجراء المقارنات بينهما، وذلك أنه لم يحاول أن يسخر حكمة اليونان وأدبهم، أو يحورهما، في سبيل خدمة التوحيد، إى قليلا كأن يعتقد أن ما يسميهم الحنفاء آلهة إنما هم الملائكة؟ نقلا عن أفلاطون في طماوس (2) - إذ كان يعرف أن زوس مثلا يجمع عندهم بين البشرية وما لا يتصل بالبشرية، ويقرأ في افتتاح كتاب اراطس في الظاهرات قوله في تمجيد زوس: وأنه الذي نحن معشر الناس لا ندعه ولا نستغني عنه، ملأ الطرق ومجامع الناس، وهو رؤوف بهم مظهر للمحبوبات، ناهض بهم إلى العمل، مذكر بالمعاش، مخبر بالأوقات المختارة للحفر والحرث (3) ؟. " ويردد مع جالينوس قوله: " نحب أن نعرف أي زوس عنى اراطس: الرمزي أم الطبيعي لأن اقراطس الشاعر سمى الفلك زوس (4) ؟ "، أما من عداه، فأنهم لخضوعهم لفكرة التوفيق بين الدين والفلسفة سارعوا إلى اكتساب المفهومات اليونانية معاني إسلامية توحيدية، ذلك شيء يكاد يكون عاما في الفلسفة، غير أنه امتد أيضا إلى الأدب نفسه، ولعل القول الذي اقتبسه أبو سليمان المنطقي من أوميرس يوضح ذلك، فقد قال أوميرس: " لا خير في كثرة الرؤساء (5) "، وهو قول يعود إلى الالياذة (20402) وإن كان ناقصا. (6)   (1) تحقيق ما للهند: 202 - 203. (2) تحقيق ما للهند: 17،46. (3) المصدر السابق: 47. (4) المصدر السابق: 48. (5) منخب صوان الحكمة، الورقة: 71، صوان الحكمة: 193 (طهران) . (6) J. Kraemer: Arabische Homerverse، in ZDMG 109 (1956) p.280 (يشار إليه فيما يلي باسم كريمر) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 وحين يعلق عليه المنطقي؟ ويتابعه في ذلك الشهرستاني - بقوله " وفي هذا كفاية لمن تأمل ريع هذه الكلمة واحتواها على معان جليلة جعلها كل من تكلم في التوحيد من الفلاسفة والمتكلمين بعده قدوة وعمدة فيما أثبتوه من ذلك " (1) نعلم أن المعنى اتخذ في خدمة غرض غير الذي وضع له، ومن الطبيعي تبعا لهذا المنهج طمس أكثر الدلالات الوثنية عند نقل الأشعار اليونانية، وربما لم يبق من هذه الدلالات إلا إثارة باهتة هنا وهنالك، كما في هذا القول المنسوب إلى أوميرس: " إن المغلوب من قاتل الله البخت (2) ". وقد كان من أثر النظر إلى الشعراء اليونانيين والشعر اليوناني من خلال منظار الحكمة، نشوء تصورات خاصة بالشعراء أنفسهم، فليس شعرهم في معظمه حثا على الفضائل وحسب، وإنما هم أنفسهم أيضا ذوو منهج سلوكي خاص، فهم يترفعون عن الإسعاف في المهاترة، ويوجهون الأقوال اللاذعة عن طريق التلميح والتمثيل، وهذا هو معنى قول ابن بطلان: " بلغنا عن شعراء اليونانيين أنهم كانوا إذا راموا في الهجاء إمضاء عزيمة القوة الغضبية لم يخرجوا بذلك عن تدبير الناطقة (3) ". ثم إن اتقان البيروني للغة السنكريتية منحه بعدا جديدا في النظر، فهو شغوف بإجراء المقارنات بين الهنود واليونان والعرب، كلما وجد إلى ذلك سبيلا، غير أنه لم يتحدث عن قواعد الشعر أو أصول البلاغة عند الهنود وإنما وقف وقفة طويلة عند علم العروض، لأهمية هذا العلم عندهم، إذ يجعلون كتبهم في سائر العلوم منظومة حتى يسهل استظهارها (4) ، وكما عمل العرب " من الأفاعيل قوالب لأبنية الشعر وأرقاما للمحرك منها والساكن يعبرون بها عن الموزون، فكذلك سمى الهند لما تركب من الخفيف والثقيل   (1) منتخب صوان الحكمة، الورقة: 71 وصوان الحكمة (طهران) : 193 والشهرستاني، الملل والنحل 2: 164 - 165. (2) الملل والنحل 2: 166 والكلم الروحانية: 39 وانظر كريمر: 309 وM. Uimann: Die Arabische Uberlieferung der Sogenannten Menander - sentenzen، Wiesbaden (1961) No 168، P. 37. (ويشار إليه باسم: أولمان أو الأقوال المناندرية فيما بعد) . (3) خمس رسائل لابن بطلان وابن رضوان: 62. (4) تحقيق ما للهند: 65 - 66 وانظر ص: 72 - 73 حيث يشير الى أن اليونانيين كانوا يذهبون مذهب الهند في نظم العلوم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 بالتقديم والتأخير وحفظ الوزان في التقدير دون تعديد الحروف ألقابا يشيرون بها إلى الوزن المفروض (1) "، والبيت الشعري عند الهنود يتكون كما في العربية من شطرين، يسمى كل واحد منهما رجلا " وهكذا يسميها اليونانيون أرجلا (2) "، ويثني البيروني من ثم على الخليل بن أحمد لأنه كان موفقا في الاقتضابات، ولكنه لا يستبعد أن يكون الخليل قد سمع عما لدى الهند من موازين شعرية، كما ظن به عض الناس (3) . وصلة الخليل بالثقافات الأجنبية؟ سواء أكانت هندية أو يونانية - موضوع تحوم حول الظنون، ولم يكن البيروني منفردا في الإشارة إليه. ولعل الأسطورة التي رواها الزبيدي إنما هي تعبير غير مباشر عن الظن في أنه كان يعرف اليونانية، فقد قال الزبيدي: " ويروى أن ملك اليونانية كتب إلى الخليل بن أحمد كتابا باليونانية، فخلا بالكتاب شهرا حتى فهمه، فقيل له في ذلك، فقال: قلت إنه لا بد من أن يفتتح الكتاب ببسم الله أو ما أشبهه، فبنيت أول حروفه على ذلك، فاقتاس لي (4) ". ولما تحدث شمس الدين محمد بن ابراهيم بن ساعد الانصاري أستاذ الصفدي عن عروض الشعر اليوناني، قدر أن الخليل ربما وصل إلى علمه شيء من عروض يونان (5) . وبعد اليروني وابن بطلان قل أن نجد رغبة أصيلة في الكشف عن منابع جديدة في أدب يونان، فإذا التقينا دارسا مخلصا للمعرفة كالشهرستاني (548/1153) وجدناه يتكىء على مصادر القرنين السابقين، وليس الحديث عن الشعر اليوناني عنده إلا مكملا للصورة العامة التي يريد رسمها للفكر اليوناني، وقد أصاب الشهرستاني حين ذكر أن وجود الشعر في أمة يونان كان قبل الفلسفة (6) ، ولكنه خالف كل من تقدمه في قوله إن الشعر اليوناني لا يعتمد على وزن، وأن الوزن ليس ركنا في الشعر عندهم " بل الركن في الشعر إيراد المقدمات المخيلة فحسب، ثم قد يكون الوزن والقافية معينين   (1) المصدر السابق: 67. (2) المصدر السابق: 68. (3) المصدر السابق: 71. (4) الزبيدي: طبقات النحويين واللغويين: 51. (5) الصفدي: الغيث المسجم 1: 30. (6) الملل والنحل 2: 167 وهذا ليس رأيا أصيلا له، وانما يتابع فيه أبا سليمان المنطقي، انظر منتخب صوان الحكمة: 11 والصوان (طهران) : 592. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 في التخيل (1) "، وقد تقدم رأى الفارابي في هذا الموضوع، وهو حتما أدق مما قاله الشهرستاني. وقد أصبح ما أورده ابن سينا في كتاب " الشفاء " عن الشعر والخطابة أهم مرجع للدارسين الذين يعنون بالثقافة اليونانية. فعلى ذلك الكتاب اتكأ صاحب لابن الأثير (637/1239) وهو يحاوره في شؤون النقد والبلاغة، واستنتج ابن الأثير حين أطلع عليه أن كل الذي ذكره ابن سينا " لغو لا يستفيد به صاحب الكلام العربي شيئا "، يقول ابن الأثير: " ولقد فاوضني بعض المتفلسفين في هذا، وانساق الكلام إلى شيء ذكر لأبي علي ابن سينا في الخطابة والشعر، وذكر ضؤوبا من ضروب الشعر اليوناني يسمى اللاغوذيا (لعلها: طراغوذيا) وقام فأحضر كتاب الشفاء لأبي علي، ووقفني على بعض ما ذكره، فلما وقفت عليه استجهلته، فإنه طول وعرض، كأنه يخاطب بعض اليونان، وكل الذي ذكره لغو لا يستفيد به صاحب الكلام العربي شيئا (2) ". وواضح أن ابن الأثير لم يدرك أن أبن سينا يعرض كتابا يونانيا أو كتابين يونانيين وأنه لا ينشىء قولا في الشعر من عند نفسه، ثم إنه جمع بين الخطأ والصواب في جملة واحدة حين قال: " لغو لا يستفيد به صاحب الكلام العربي شيئا " فهو ليس لغوا، ولكن صاحب الكلام العربي لا يستطيع حقا الإفادة منه لأنه لم يكن لديه ذلك النوع من الشعر المسمى " طراغوذيا ". غير أن ابن الأثير أساء فهم ما قرأه من وجه آخر، فهو قد ظن أن الإنشاء الشعري يقوم على نحو منطقي من متقدمين ونتيجة، وأعاد إلى الذهن ذلك الصراع القديم بين الشعر والمنطق حسبما أوجزه البحتري في قوله: كلفتمونا حدود منطقكم ... الشعر يغني عن صدقه كذبه ولهذا نجده يقول: " بل أقول شيئا آخر وهو أن اليونان أنفسهم لما نظموه   (1) الملل والنحل 2: 153. (2) ابن الأثير: المثل السائر 1: 311 - 312. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 من أشعارهم لم ينظموه في وقت نظمه وعندهم فكرة في مقدمتين ونتيجة، وإنما هذه أوضاع توضع ويطول بها مصنفات كتبهم في الخطابة والشعر (1) ". فإذا انتقل ابن الأثير إلى ميدان آخر ذي شواهد واضحة فارقته غلواؤه، وهذا الميدان هو الأدب الفارسي، ففي معرض حديثه عن الفرق بين الشاعر والناثر، وأن الأول إذا قال قصيدة من مائتي بيت أو أكثر لا يجيد في كل بيت، وأن الكاتب مهما يطل فهو مجيد في كل ما يأتي، التفت إلى الشعر الفارسي فقال: " وعلى هذا فإني وجدت العجم يفضلون العرب في هذه النكتة المشار إليها. فإن شاعرهم يذكر كتابا مصنفا من أوله إلى آخره شعرا، وهو شرح قصص وأحوال ويكون مع ذلك في غاية الفصاحة والبلاغة في لغة القوم، كما فعل الفردوسي في نظم الكتاب المعروف بشاهنامه، وهو ستون ألف بيت من الشعر، يشتمل على تاريخ الفرس، وهو قرآن القوم، وقد أجمع فصحائهم على أنه ليس في لغتهم أفصح منه، وهذا لا يوجد في اللغة العربية على اتساعها وتشعب فنونها وأغراضها، وعلى أن لغة العجم بالنسبة إليها كقطرة من بحر (2) ". وليس هذا موضع مناقشة ابن الأثير في المقارنات المختلة التي يجريها هنا، وإنما أوردت ذلك للدلالة على أنسه بالمعرفة لما يجري عند الفرس، حين كان صيت الشاهنامه ذائعا، والبنداري قد ترجم بعضها إلى العربية (بين 615 - 624) ، ونفرته من الأدب اليوناني، لجهله به وعدم وجود نماذجه لديه، وربما كان ابن الأثير يعرف الفارسية، فهناك في أقواله ما يوهم أنه كان يعرفها ويعرف لغات أخرى من بينها اليونانية، وإذا كان من الممكن التسليم بمعرفته للفارسية، لشيوعها في العصر الأيوبي، فمن المستبعد أن تكون اليونانية بين اللغات التي يعرفها (3) .   (1) المصدر السابق. (2) المثل السائر 2: 418 - 419. (3) يقول ابن الأثير " ومما وجدته في لغة الفرس " (المثل السائر 2: 281) وهذا قد يعني معرفة وقد يعني نقلا عن كتب مترجمة، ثم يحكي أن خطيب ملطية عرض عليه قصيدة في مائة بيت كل عشرين بلغة من هذه اللغات: العربية والفارسية والتركية والرومية والأرمنية، ويضيف أنه كان أفصح في سائر اللغات منه في العربية، مما حمل محققي " الجامع الكبير " أن يقولا إنه كان يعرف أربع لغات أخرى (انظر المقدمة: 32) ومن استطاع أن يقارن بين المستويات في خمس لغات فلا بد أن يتقنها بأنصباء متقاربة، وهذه دعوى لا تصح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 وكان كتاب الشفاء أيضا معتمد حازم القرطاجني (684/1285) في تصوره للشعر اليوناني، فهو ينقل عن ذلك الكتاب في غير موطن من كتابه: " منهاج البلغاء وسراج الأدباء " ومن خلاله يكرر ما قاله الفارابي وابن سينا عن اعتماد كل نوع شعري عند اليونان على وزن حاص (1) . ويضيف إلى ذلك ثلاثة مفهومات أخرى وهي: 1 - أن الشعر اليوناني يرتكز إلى الأساطير والخرافات التي تفترض وجود أشياء لا حظ لها من الواقعية. 2 - أن الشعر اليوناني أيضا يتكئ على خرافات حول أمور موجودة، تشبه خرافات كليلة ودمنة وخرافة " ذات الصفا " التي ذكرها النابغة الذبياني. 3 - أن لهم طريقة خاصة في الشعر يذكرون فيها انتقال أمور الزمان وتصاريفه وتنقله (2) . فإذا تجاوزنا هذه المفهومات لم نجد لليونان نصيبا كبيرا في الشعر، ولهذا ما يزال حازم يعتقد أن الشعر اليوناني ضيق المجال إذا هو قيس بالشعر العربي، ويذهب إلى أن " أرسطو " لو عرف الإبداع في الشعر العربي لزاد ما وضع من القوانين الشعرية (3) ، وهو قول يناقض ما قاله الفارابي (4) . وإنما جرا حازما على قوله هذا ما وعد به ابن سينا في آخر كتاب الشعر بقولة: " ولا يبتعد أن نجتهد نحن فنبدع في علم الشعر المطلق؟ كلاما شديد التحصيل " فكأن حازما ظن أن ابن سينا كان ينوي أن يضيف قواعد جديدة؟ بناء على الشعر العربي - إلى القواعد التي وضعها أرسطاطاليس (5) . وقد يحسن بنا أن نتوقف هنا، لنتذكر طبيعة التحول الذي طرأ على فكرة الجاحظ بأن " فضيلة الشعر مقصورة على العرب "، وكيف ساعد الانفتاح على الأمم الأخرى   (1) منهاج البلغاء: 68. (2) المصدر نفسه. (3) منهاج البلغاء: 69. (4) راجع ما تقدم ص: 28. (5) في عرض آراء حازم في النقد أنظر، تاريخ النقد الأدبي: 539 - 574. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 ولغاتها وآدابها في توسيع دائرة التعرف والمقارنة، وكأنما كان ابن خلدون يلخص هذه الدورة الطويلة من التطور ويرد على الجاحظ ومن ذهب مذهبه حين يقول: " أعلم أن الشعر لا يخص بالسان العربي فقط، بل هو موجود في كل لغة، سواء كانت عربية أو عجمية، وقد كان الفرس شعراء وفي اليونان كذلك، وذكر منهم في كتاب المنطق أوميرس الشاعر وأثنى عليه، وكان في حمير أيضاً شعراء متقدمون (1) ".   (1) مقدمة ابن خلدون: 1314 - 1315. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 " 2 " أوميرس الشاعر والموروث الأوميريسي عند العرب عرف طلاب الثقافة الإغريقية عددا من أسماء شعراء اليونان مثل ايسيودس (1) وبندارس (فندارس) (2) وسيمونيدس (3) وسوفقليس (4) وأوريبيدس (5) ، وألحقوا بكل منهم أقوالا في الحكمة (6) ، ولكن لم يحتل أحد لديهم مكانة عالية كالتي احتلها أوميرس،   (1) ايسيودس (Hesiod) لا يعرف متى عاش على وجه التحقيق، غير أن هيرودت المؤرخ يعده معاصرا لأوميرس، بينما ترجح البحوث الحديثة أنه متأخر عنه بكثير، ومن أهم آثاره " الأعمال والأيام " وهي قصيدة يتوجه بها إلى أخيه برسيس (Perses) الذي حاول أن يغصبه ما ورثه عن أبيه من أرض. (2) بندارس (Pindar) (518 - 438 ق. م.) شاعر غنائي، يبدو أن أبويه كانا ينتميان إلى الطبقة الأرستقراطية، أخذ الشعر عن عمه وغيره ونظمه في تمجيد بعض الفائزين في الألعاب الأولمبية، وفي سنة 476 ذهب إلى صقلية ومجد طاغيتها هيرون لفوزه في سباق الخيل، ونظم في مدحه عدة قصائد، وقد جمعت أشعاره في سبعة عشر جزءا. (3) سيمونيدس (Simonides)) (556 - 468) شاعر غنائي وصاحب مراث/ ارتحل حوالي سنة 514 إلى تشاليا وحل ضيفا على عائلة السكوبيين ومجد فوزهم في سباق العربات، بأعجوبة حين سقط عليهم البيت فرثاهم في إحدى قصائده، ثم عاد إلى أثينا حوالي 490 وكتب أبياتا سجلت على شاهد القبر الذي ضم قتلى مرثون، وبين سنتي 480 - 479 كسب شهرة عالية إذ كتب أبياتا في رثاء الإسبارطيين الذين قتلوا في معركة ثرموبيلي. (4) سوفقليس Sophocles (حوالي 496 - 406 ق. م) أحد الثلاثة أعلام التراجييديا اليونانية، والآخران هما اسخيلوس ويوربيديس كان أبوه غنيا، وكان هو جميل المحيا ماهلاا في الرقص والموسيقى، وقد فاز في المباريات المسرحية عدة مرات، ومن أهم مسرحياته: الكترا وأوديب كولونيوس، وانتيجونه وأوديب ملكا وغيرها. (5) أوريبيدس (Euripides) (485 (؟) - 406 (؟)) لعله تتلمذ على انكساغوراس، وخالط بعض فلاسفة عصره مثل سقراط، كان شغوفا بالقراءة والدرس، مؤثرا للعزلة، وقد ظهر أول مرة في المباريات المسرحية سنة 455، ومن أهم مسرحياته التسع عشرة الباقية: الكترا وأورست. (6) انظر أمثلة من هذه الأقوال في مختار الحكم: 316 (لايسيودس) 298، 302، 303، 315305 (لبندارس) 316 (لسيمونيدس) 302، 312، 315، 318، 319 (لسوفقليس) 318 (لأوريبيدس) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 فهو أمرؤ القيس اليوناني (1) ، به بدئ الشعر، وكان زمانه في الفترة الواقعة بين أبقراط وجالينوس (2) ، وفي قول آخر إنه كان بعد زمان موسى بخمسة قرون (3) ، وإذا كان غيره من الشعراء قد اقتصر على الشعر فإنه كان يجمع إلى الشعر الحكمة، ولتقدمه في صناعة الشعر أصبح قدوة يحتذى، وعلى منواله نسج كل من جاءوا بعده وتعلموا منه (4) . ويؤخذ من بعض الحكايات أنه كان في الشعر؟ في نظر بعض العرب - من المقلين (5) . أما من حيث الخلفة فإنه كان معتدل القامة حسن الصورة أسمر اللون عظيم الهامة، ضيق ما بين المنكبين، سريع المشية كثير التلفت، بوجهه آثار الجدري (6) . ومن صفاته أنه كان يحب المزاج ومداخلة الرؤساء، ويوصف أيضا بأنه كان مهذارا مولعا بالسب لمن تقدمه (7) ، ولعل هاتين الصفتين إنما ألحقتا به من جراء الخلط بينه بعض الشخصيات الأخرى، وقيل إنه حين توفي كان له من العمر مائة سنة وثماني سنين (8) . ولم تكن الشهرة التي نالها أوميرس مبنية بالدرجة الأولى على معرفة وثيقة بآثاره الشعرية، إذا نحن استثنينا من ذلك معرفة حنين المباشرة لشعره، فإن الأثرين العظيمين   (1) منتخب صوان الحكمة الورقة: 11، وصوان (طهران) : 92 الآثار: الباقية: 86. (2) ابن أبي أصيبعة 1: 36. (3) المبشر بن فاتك: مختار الحكم: 30. (4) المصدر السابق نفسه. (5) القفطي: تاريخ الحكماء: 70. (6) مختار الحكم: 30 وله صورة في مخطوطة برلين رقم: Qu. 785 الورقة 21 ب وانظر مقالة كريمرس ص 289 والصورة المرفقة هنا. (7) مختار الحكيم: 30. (8) المصدر السابق نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 صورة اوميروش الشاعر صورة اوميروس كما جاءت في مخطوطة برلين رقم 785.Qu الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 فراغ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 اللذين ينسبان إليه وهما الإلياذة والأوديسة لم يترجما إلى العربية، مع أنهما ترجما (أو ترجم بعضهما) إلى السريانية على يد ثوفيل الرهاوي في القرن الثامن الميلادي، حسبما ذكر ذلك أبو الفرج ابن العبري (1) ، ولكن تلك الشهرة ترجع إلى أن الدارسين للثقافة اليونانية وجدوا في مصادرهم شهادة موثقة في الثناء على أوميرس، وأنه كان عند يونان أرفع الشعراء منزلة (2) وهم يقرأون أن ديوجانس الكلبي سئل من أشعر اليونانيين فقال كل واحد عند نفسه وأوميرس عند الجمهور (3) ومما زكى هذه الشهادة وأيدها إعجاب كل من أفلاطون وارسطاطلليس وثناؤهما عليه واستشهادهما بشعره " لما كان يجمع فيه من اتقان المعرفة ومتانة الحكمة وجودة الرأي وجزالة اللفظ (4) ". وقد وجدوا ارسطاطاليس بخاصة يكثر من ذكره في كتابيه الخطابة والشعر، ويمنحه التفوق في كل موقف ويميزه بالإجادة المطلقة، ولعل هذا الذي أوحى إلى ابن رشد أن يقول فيه: " فكان رب النعمة العظيمة بذلك عند اليونانيين وعظموه كل التعظم حتى اعتقدوا فيه أنه كان رجلا إلهيا، وأنه كان المعلم الأول لجميع اليونانيين (5) ". وتندرج الأقوال الملحقة باسمه في ثلاثة أنواع: 1 - أقوال ومواقف حكمية يشارك فيها سائر الحكماء. 2 - أشعار ثابتة النسبة له أو محتمل ثبوتها. 3 - أشعار نسبت له وهي لغيره. 1 - الأقوال والمواقف الحكمية: أورد المبشر بن فاتك عددا كبيرا منها، وعند ابن هندو والشهرستاني والشهرزوري بعضها (6) ، وفي بصائر التوحيدي عدد منها تحت عنوان   (1) كريمر: 261، وانظر أيضا: G. E. von Grunebaum: Medieval Islam، (the University of Ghicago Press، 1961) P. 303. (2) مختار الحكم: 29. (3) الكلم الروحانية: 106 ومنتخب صوان الحكمة: 71، وصوان (طهران) : 193. (4) الملل والنحل 2: 164 ومنتخب: 70 وصوان الحكمة (طهران) : 192. (5) ابن رشد: تلخيص الخطابة: 102. (6) مختار الحكم: 30 - 33 والكلم: 90 - 91 والملل والنحل 2: 165 - 166 وشمس الدين الشهرزوري: روضة الأفراح ونزهة الأرواح: الورقة 44. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 " ومن حكم اليونانيين (1) " دون ذكر لاسم أوميرس، مثل: آله الرئاسة سعة الصدر، عادة الصمت تورث عيا، اللجاجة تسلب الرأي، خضوع اللفظ يحلل الحقد، افرط الأنس مقدمة للجرأة، قوة العزم تنبل البغية. فهذه الأقوال مما نسبه المبشر به فاتك إلى أوميرس، ويبدو أن الأقوال الأخرى التي ذكرها التوحيدي إنما وجدها أيضا منسوبة له، ولكنه أوردها لليونانيين على التعميم، وتجنب ذكر أوميرس في كل كتاب البصائر. ومن المتعذر أن يقطع المرء بصحة نسبة هذه الأقوال والمواقف إلى أوميرس، وخاصة حين نجد المصادر تخلط في نسبتها، فقد روى المبشر أن أوميرس استرق واشتراه بعضهم فقال له المشتري: لأي شيء تصلح؟ قال: للحرية (ص: 30) ثم روى المؤلف نفسه هذا الموقف نفسه لارسيجانس (ص: 297) وروى الشهرستاني له قوله: الكرم يخرج ثلاثة عناقيد: عنقود الالتذاذ وعنقود السكر وعنقود السفاهة (2) ، وهو قول رواه المبشر منسوبا إلى خروسيس (3) (ص: 300) ، وحكي عنه أنه كان يقول: كل الناس يحمل مزادتين واحدة في مقدمة وأخرى في مؤخرة، فالتي في المقدم ينظر بها سيئات غيره وعثراته، والتي في المؤخر لا ينظر بها إلا سيئات نفسه وعثراتها. وقد روى المبشر هذا القول مرتين: مرة لأوميرس (ص: 37) ومرة لأرسورس (ص: 300) وأورده ابن هندو (ص: 101) منسوبا لديمستانس الخطيب، وهذا القول نفسه مروي عن ايسوبيوس (Aesop) (4) ، ولهذا الخلط وما أشبهه أسباب مختلفة، سيجيء الحديث عنها في ما يلي. 2 - أشعار ثابتة النسبة له أو محتمل ثبوتها: أكثر هذه الأشعار وردت على شكل شواهد وأمثلة موضحة، سواء في كتاب الخطابة   (1) البصائر والذخائر 3: 676 - 677. (2) النص مضطرب في الشهرستاني 2: 167. (3) الصواب أنا خرسيس كما أثبت الأستاذ أولمان في كتابه المذكور سابقا ص: 7. (4) Babrius and Phaedrus (Loeb Glassical Library 1965) No. 66P. 83، 317. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 وكتاب الشعر أو غيرهما، ولكنها لا تفيد معرفة مباشرة بقصائد أوميرس، وقد وضح الأستاذ كريمر أن بعض هذه النصوص قد أسي فهمها (1) ، وأن المترجم كان يكمل النص اليوناني، اعتمادا على معرفته بالنص السرياني، كما حدث في هذين البيتين اللذين يمثلان مطلعي الإلياذة والأوديسية: أنبئينا أيتها الآلهة عن غضب أخيلوس أنبئينا يا موسا (Muse) عن الرجل الكثير المكايد الذي حسم أمورا كثيرة من بعد ما خربت المدينة العامرة إليون (2) . وفي كتاب الخطابة نصوص أخرى بعضها ذو حظ من الدقة مثل: أن الغضب لأحلى من الشهد (ابن رشد: لأحلى من قطرات العسل) (3) ، وبعضها قد انحرف عن جادة الدقة مثل قوله يصف إنسانا يندب ميتا: أنه لما تكلم بذلك صرخوا صرخة فاجعة لذيذة (4) ، وهذا تحوير لقوله هنالك " ثار في قلوبهم حنين إلى البكاء " (الإلياذة 23: 108) وكذلك جاء عند كل من ابن سينا وابن رشد " إن هذه المدينة إذا فتحت عنوة ستلقى من مالاغروس (Meleagros) كل شر، وكذلك الناس كلهم، فإنه يهلك الناس ويشب الحريق في المدينة حتى يحرقها بأسرها ويعترف كل بولده، أي ينوح كل باسم ولده: يا ولدي فلان (5) "، وإذا قارنا هذا القول بما ورد في الإلياذة (9: 291 - 594) اتضح فيه إساءة فهم المعنى الأصلي، وخطأ المناسبة، وإلحاق إضافات ليست من الأصل. ولدى البيروني في " تحقيق ما للهند من مقولة " ثلاثة أقوال لاوميرس (6) : أولها: ولست أدري ماذا يعنون بإضافة الصوت إلى السماء وأظنه شبيها بما قال أوميرس شاعر اليونانيين: " إن ذوات اللحون السبعة ينطقن ويتجاوبن بصوت حسن " وعنى الكواكب   (1) كريمر: 263 - 264. (2) الترجمة القديمة لكتاب الخطابة: 232، وكريمر: 266 وانظر مثالا آخر: 269. (3) ابن سينا: الخطابة: 101 وتلخيص الخطابة: 178 والإلياذة 18: 109. (4) الخطابة: 101 والتلخيص: 180. (5) الخطابة: 80 والتلخيص: 128. (6) تحقيق ما للهند: 21، 48، 114. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 السبعة وقد وقف الأستاذ كريمر عند هذا القول، وربط بين فكرة اللحون وآراء فيثاغورس ثم قال: فإذا قبلنا أن يكون البيت الذي رواه البيروني لأوميرس نقلا عن تعليق لفيثاغورس فإن هذا ليس بمستبعد (1) . وثاني الأقوال التي أوردها البيروني هو: لأن اقراطس الشاعر سمى الفلك زوس، وكذلك قال أوميرس: " كما تقطع الثلج من زوس " وفيه إشارة إلى ما ورد في الإلياذة (19: 357) (2) . وثالث تلك النصوص قول أوميرس في الحديث عن غلقسياس (Galaxy) ؟ أي المجرة - " إنك جعلت السماء الطاهرة مسكن الأبد للآلهة، لا تزعزعه الرياح ولا تبله الأمطار ولا تتلفه الثلوج، بل فيه الصحو البهي بلا سحاب يغشاه (3) " الاوديسية 6: 42 - 45. 3 - أشعار نسبت إليه وهي لغيره: يظهر بعض هذه الأشعار عند حنين بن إسحاق في نوادر الفلاسفة، ولكن أكبر مجموعة منها وردت في صوان الحكمة الذي يقرن باسم أبي سليمان المنطقي، وهو كتاب لم   (1) كريمر: 276. (2) كريمر: 270، وانظر الصفحات 274 - 275 في تبيان أهمية ما نقله البيروني في هذا الموضع. (3) قد تصح نسبة الأقوال التالية إلى أوميرس وهي مما ورد في مخطوطة آيا صوفيا (رقم: 4260) : (أ) كن على وصف أوميرس: " أسدا عند الحركة، حملا عند السكون، كالنمر الذي لا ينام وقت جوعه ولا يسهر وقت شبعه ". (ب) فهو كما قال أوميرس الشاعر: " في الدم سيفه لا يرفع، وأمواله تنفذ، وخراجه مع هذا ثقيل، وخزائنه خراب، ومن يشكره قليل ". (ج) وأنه لينبغي أن يقال فيها كما قال أوميرس في صانع منطقة هرقلس: " أنه لو لم يصنع شيئا قط سواها لكفاءة بصنعتها شرفا، إذ ما أورد على الناس مثل تلك الصنعة ". أما بقية الأقوال الواردة في هذه المخطوطة فإنها تلحق بالنوع الثالث. انظر: M. Grignaschi، " Le Roman epistolaire classique conserve dans Ia version arabe de Salim abu - I - " Aia " Ie Museon 80، 1967: APPendix LL، No 11، 12، 20. (ويشار إليها من بعد باسم: غرنياسكي، المقالة الأولى) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 يصلنا في صورته الكاملة، وإنما لدينا منه اجتزاءان: أحدهما يسمى مختصر صوان الحكمة، صنعة عمر بن سهلان الساوي، والثاني: منتخب صوان الحكمة، وعن هذا الكتاب نقل كل من الشهرستاني والشهرزوري صاحب روضة الأفراح ونزهة الأرواح. وقد وردت مجموعة من هذه الأشعار عند معاصر لأبي سليمان وهو أبو الفرج ابن هندو في كتابه الكلم الروحانية، ولكنه لم ينسبها إلى أوميرس وإنما وضعها تحت عنوان " مما نقل من أشعارهم (أي اليونانيين) إلى العربية " (1) وقد عني الأستاذ كريمر في مقالته التي تكررت الاشارة اليها من قبل وفي ملحق المقالة (2) بدراسة هذه المجموعة، وتلاه الأستاذ منفرد أولمان، الذي انطلق من حيث بلغ كريمر، في دراسته، وقام بنشر هذه الأقوال وترجمتها، وردها إلى مصادرها (3) ، وأعاد نشرها الدكتور فهمي جدعان في مقالته " هوميرس عند العرب " (4) . وخلاصة ما توصل إليه البحث في هذه الأقوال أنها؟ حتى حين تحمل سمات إسلامية - صحيحة النسبة إلى يونان، وهي ليست من صنع شاعر واحد، وإنما هي تنسب لعدة شعراء، فهم يوربيدس ومناندر وديفيلوس وغيرهم، إلا أن القسم الأكبر من هذه الأقوال لا يعرف قائلوه، ويدل الترتيب الذي اتبعه ابن هندو وأبو سليمان المنطقي على أن هذه الأقوال نقلت من مصادر مرتبة بحسب الترتيب الأبجدي اليوناني، وتعرف تلك المجموعات التي تحتوي الأقوال المناندرية نسبة إلى مناندر الشاعر الكوميدي (343 - 292 أو 291 ق. م) مع أنها ليست كلها لمناندر؟ كما تقدم القول -، وقد يرجع بعض هذه المجموعات المناندرية إلى القرن الثاني قبل المسيح، ويرى باحثون آخرون أنه يمكن إرجاعها إلى القرن الأول، وردها بعضهم إلى القرن الرابع ب. م، وهما يكن من شيء فإن هذه المجموعات كانت تتزايد على مر الزمن، خدمة لأغراض تعليمية.   (1) الكلم الروحانية: 135. (2) Zu den " Arabischen Homerversen " (ZDMG، 1957) PP. 511 - 518 (ويشار إليه باسم الملحق) . (3) هو كتابه المذكور سابقا. (4) مجلة الأبحاث (1671) : 3 - 36. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 وقد جاء في منتخب صوان الحكمة في تقديم هذه المقطعات، " وهذه بعض مقطعات من أشعار أوميرس التي تسمى يامبو (Iambio) فيها معان حسنة، وترتيبها على حروف اليونانيين، نقلها اصطفن إلى العربية (1) ". واصطفن هذا هو ابن بسيل، كان ترجمانا معاصرا لحنين، وقد نقل كثيرا من الكتب العلمية، من أهمها كتاب ديسقوريدس في النبات، وكان حنين يتصفح ما يترجمه، وكان هو يقارب حنينا في النقل، إلا أن عبارة هذا الثاني أفصح وأحلى (2) ، وقد صرح المنطقي بأن اصطفن قام بالترجمة عن اليونانية مباشرة (3) . وعدد هذه الأقوال التي ترجمها اصطفن 350 قولا عند أولمان (ويضاف اليها 92 قولا لمترجم آخر) وعند جدعان 213 قولا (يضاف اليها 28 قولا عن كتاب الشهرستاني) ، وسبب هذا الفرق أن أولمان أضاف ما وجده عند الشهرزوري وما في مختصر صوان الحكمة. وعند المقارنة بين المصادر التي أوردت الأقوال المناندرية نجد اضطرابا في نسبة القول الواحد إلى اثنين أو أكثر (4) ، وهذه القضية تثير السؤالين التاليين لماذا يحدث الاضطراب في نسبة قول ما أولا؟ ولماذا نسبت هذه الأقوال إلى أوميرس، وهي ليست له، ثانيا؟ من الطبيعي أن يحمل بعض هذا الاضطراب على أخطاء النساخ وأوهامهم، وعلى صعوبة الأسماء اليونانية وتشابه بعضها بالبعض الآخر حين ترسم بالحروف العربية، كما أنه قد ينشأ عن جهل بالقائل الأصلي، إذ قد ينزع أحدهم متمثلا بقول قديم، فيظن أنه صاحب ذلك القول، فينسب إليه دون صاحبه الحقيقي، ومن أمثلة ذلك ما يروى من أن رجلا عليه ثياب فاخرة وقف على فيثاغورس فتكلم ولحن في كلامه فقال له   (1) منتخب صوان الحكمة: 71 وصوان (طهران) : 194، وجدعان: 16 وأولمان: 8. (2) راجع القفطي: 171 وابن أبي أصيبعة 1: 189، 204، 2: 46. (3) جدعان: 6. (4) يقول الأستاذ أولمان: 9، في خمسة مواضع نسب أحد الأقوال إلى أربعة أشخاص، وفي ثمانية عشر موضعا إلى ثلاثة وفي 84 موضعا إلى اثنين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 فيثاغورس: إما أن تتكلم بكلام يشبه لباسك أو تلبس لباسا يشبه كلامك (1) ، فهذا القول نفسه ينسب للمبرد (2) ، ولا تفسير لذلك إلا أن المبرد تمثل به في موقف مشابه. كذلك فإن بعض الأقوال إذا ترجمت من اليونانية إلى العربية أشبهت أقوالا سائرة في العربية، فاختلطت بذلك نسبتها، فالقول: " لا يكسب الإنسان الحسنة إلا بالتعب " من أقوال يوربيدس (3) ، ومع ذلك فلو نسبه أحدهم لأحد حكماء المسلمين لجازت النسبة. وكثيرا ما يحور المترجمون في النصوص المنقولة بعض تحوير لتشبه شيئا موجودا في تراث اللغة التي ينقلون إليها. وقد يكون المترجم أمينا غاية في الأمانة، إلا أن مصادره مضطربة تنسب القول الواحد لعدة أشخاص. فقد لاحظ الأستاذ شتروماير أن هذا القول: " إنما جعل للإنسان لسان واحد وأذان ليكون ما يسمعه أكثر مما يتكلم به " قد ورد في المصادر الإغريقية واللاتينية منسوبا إلى ديموقريطس وديموستين وزينون الرواقي واكزنوقراطس وافقطيطس، فلما نقل إلى المصادر العربية نسب أيضا إلى سقراط وأفلاطون وديوجانس (4) . وقد تكون شهرة القول ودلالته على وجهة أخلاقية معينة سببا في نسبته لغير واحد، فهذا القول: " لولا قولي إني لا أعلم تثبيتا أني أعلم لقلت إني لا أعلم "، ومثله " ما كسبت من فضيلة العلم إلا علمي بأني لا أعلم "، يشير إلى حث على التواضع محمود في العلماء، ولهذا يمكن أن ينسب لغير واحد (5) . وكثير من هذا التصرف يرجع إلى طبيعة الأقوال الحكمية والمنهج المتبع في النظر إليها، فهي على خلاف علم الحديث لا توثق بالرواية، ولا يهم اسم قائلها بمقدار ما يهم   (1) مختار الحكم: 68 ولباب الآداب: 443، وانظر الكلم الروحانية: 133 حيث ينسب إلى بعض الفلاسفة. (2) البصائر 1: 217. (3) كريمر، الملحق: 518. (4) G. Stromaier: Ethical Sentences and Anecdotes of Greek Philosophers in Arabic Tradition (in Correspondance d، Orient No. 4، Bruxelles، 1970) PP. 464 - 65. وفي المصادر العربية انظر القول في مختار الحكم: 107، 131، 81 وابن أبي أصيبعة 1: 48 وأسامة بن منقذ: لباب الآداب: 465 وقد نسب في العقد (2: 472) لأبي الدرداء. (5) نسب في مختار الحكم: 167 لأفلاطون، 50 لأبقراط، 125 لسقراط، 302 لبندارس وورد في البصائر 2: 693 لأفلاطون وتارة لفيلسوف دون تعيين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 الناس منها محتواها الأخلاقي، ولهذا لا يدقق الرواة في إلحاقها بصاحبها الحقيقي، وعلى هذا فمن الخطر في الدراسة الأدبية الاتكاء الكثير على هذه الأقوال في تبين شخصية المدروس ومنهجه العلمي ونظراته الفكرية. وقد يبلغ التهاون حدا بعيدا يصيب بعض الأقوال والمواقف التي أصبحت من الشهرة والسطوع بحيث لا يمكن نسبتها إلا إلى شخص واحد، فقصة المرأة التي وقفت تشتم زوجها، فلما أعياها صمته وهدوءه صبت عليه الماء فقال لها دون أن يفارقه هدوءه " كنت تبرقين وترعدين وأما الآن فقد أمطرت " مشهورة عن زوجة سقراط، ومع ذلك نجدها منسوبة إلى كل من فيثاغورس وأنكساغوراس (1) . وأبين من ذلك قصة الحكيم الذي اتخذ الحب مسكنا له، فهذه القصة معروفة عن ديوجانس الكلبي، ومع ذلك فإن المصادر العربية نسبتها إلى سقراط. جاء في مختار الحكم: " وقال له بعض تلامذته: أيها المعلم كيف لا نرى عليك أثر حزن؟ فقال له سقراط: لأني لا أملك ما إن عدمته أحزنني، فقال له سوفسطائي كان حاضرا: فإن انكسر الحب؟ وكان سقراط يأوي إذ ذاك في كنف حب - فقال سقراط: إن انكسر الحب فلا ينكسر المكان " (2) ، ولهذا عرف سقراط في المصادر العربية باسم " سقراط الحب "، وقد قصر ابن أبي أصيبعة سكناه الحب على الفترة التي كان فيها مع الملك في المعسكر " فكان سقراط يأوي في عسكر ذلك الملك إلى زير مكسور يسكن فيه من البرد وإذا طلعت الشمس خرج منه فجلس عليه يستدفئ في الشمس " (3) ويبدو أن الشهرستاني لم يأخذ الحكاية علة معناها الظاهري فتأول الحب بمعنى الجسد الإنساني (4) أما القفطي فروى الحكاية على وجهها الظاهري فقال: " ويعرف بسقراط الحب لأنه سكن حبا وهو الدن " (5) .   (1) البصائر 1: 475 ومنتخب صوان الحكمة: الورقة 24 وصوان (طهران) : 115. (2) مختار الحكم: 121 وبصورة موجزة: 97. والقصة رواها حنين والكندي أيضا. انظر: A.S. Halkin: Classical and Arabic Malterial in Ibn، Aknin " Hygiene of the Soul " (in American Academy of Jewish Research، Procee dings vol. Xiv، 1944) P. 50. ويذكر من بعد باسم هالكن " وأشار اليها كريمر: 293 - 294، وانظر رسالة الكندي في دفع الحزن (في الكندي فيلسوف العرب الأول لمحمد كاظم الطريحي) ص: 119. (3) ابن أبي أصيبعة 1: 43 - 44 وهالكن: 51. (4) الملل والنحل 2: 143 وهالكن. (5) أخبار الحكماء: 197 وهالكن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 ولاستكمال الصورة أيضا نقلت قصة ديوجانس مع الملك، ونسبت إلى سقراط. فقد روي أن سقراط كان يوما يتشرق في الشمس على ظهر الحب الذي يأوي إليه، فوقف عليه الملك فقال: يا سقراط ما الذي منعك من إتياننا؟ فقال: الشغل أيها الملك بما يقيم الحياة، فقال الملك، لو أتيتنا كفيناك، فقال له سقراط: لو علمت أني أجد ذلك لزمتك ما لزمتني الحاجة إلى ذلك، فقال له الملك: فسل حاجتك، قال: حاجتي أن تزيل عني ظلك فقد منعتني المرفق بالشمس، فدعا له بكسى فاخرة من الديباج وغيره والذهب، فقال له سقراط: وعدت بما يقيم الحياة وبذلت [ما] يقيم الأموات، ليس لسقراط حاجة إلى حجارة الأرض وهشيم النبت ولعاب الدود، الذي يحتاج إليه سقراط [هو] معه حيث توجه " (1) ، ولا ريب في أن الدافع إلى تحوير مثل هذه الرواية من ديوجانس إلى سقراط، إنما كان تأكيدا للصورة الزهدية الكبرى التي ارتسمت في الأذهان لذلك الفيلسوف، ولكن من المستبعد أن يكون هذا التحوير قد جرى على أيدي الرواة المسلمين، وأغلب الظن أنه كان من فعل بعض النقلة قبل ذلك، ليمنحوا سقراط طابعا مسيحيا. وقد يطول بنا القول لو أردنا مزيدا من الأمثلة؟ فهي كثيرة حقا - ولهذا نقتصر على هذا القدر ففيه كفاية. أما لماذا حولت الأقوال الشعرية المناندرية عن مناندر وغيره ونسبت إلى أوميرس، فقد يكون الأمر فيه ما قاله الأستاذ كريمر وهو أن أوميرس كان معروفا أكثر من مناندر (2) ، ولكن المسألة ليست بهذه البساطة، نعم كانت شهرة اوميرس قد طغت بحيث حجبت كل اسم آخر، حتى ان ابن رشد حين وجد أمامه في كتاب الخطابة " قال الشاعر " غيرها وجعلها " قال أوميرس " (مع أن الشاعر هو يوربيدس) (3) ،   (1) البصائر 3: 553 ومختار الحكم: 85 وابن أبي أصيبعة: 44 وهالكن: 51 - 52 والقصة مثال جيد على تصرف النقلة في الروايات، فقد حذف منها أبو حيان معاتبة الملك لسقراط لأنه يعيب عبادة الأصنام، وهي رواية وردت في المختار: 92 مستقلة أيضا. وزاد فيها أبو حيان قصة مزاح الملك الذي قال لسقراط: لقد حرمت نفسك من نعيم الدنيا وجواب سقراط له (انظر أيضا الحكمة الخالدة: 212) وأدخل القفطي: 198 فيها قول سقراط للملك: أنت عبد عبدي لأني أملك شهوتي وأنت لا تملك شهوتك، وسؤال الملك له لم اتخذ الحب مسكنا، وقد أورد المبشر مخاطبة سقراط للملك مستقلة أيضا ص: 120 وعند مقارنة الروايات جميعا يظهر لنا قدر كبير من التصرف في تغيير العبارات نفسها في القصة الواحدة. (2) كريمر: 315. (3) تلخيص الخطابة: 190 والحاشية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 ولكن هذا لم يكن شيئا عاما. وليسمن شك عندي في أن ما نسبه حنين إلى أوميرس وجده منسوبا كذلك، وأن اصطفن كان أمينا في ترجمته، وان الاضطراب يعود أولا إلى المصادر التي اعتمدا عليها، فقد كان من عادة النساخ إذا رتبوا أقوالا لأحد الحكماء أن يبدأوا باسمه عند أول قولة ثم يضعون بعد ذلك كلمة مثل " وقال " أو " وله "، فإذا جاء ناسخ قليل الاعتناء وحذف الجملة الأولى، اضطربت النسبة، وأصبح كل ما يجيء بعد ذلك منسوبا إلى قائل آخر (1) . ثم إن كل ناسخ أو صانع مختارات كان يطلق لنفسه العنان في الحذف والجمع، حسبما يمليه عليه ذوقه، وفي هذا مجال آخر للاضطراب (2) وإذا صح أن كلا من حنين واصطفن قد ضللته المصادر الأصلية، فقد كانت صورة أوميرس الشاعر الحكيم في نفسيهما تتيح توكيدا قويا لذلك التضليل، وهذا أمر لم يقتصر على أوميرس وحده. وقد أقترح الدكتور فهمي جدعان أن يكون بعض الأقوال الواردة في منتخب صوان الحكمة صحيح النسبة إلى أوميرس، وأحال بذلك على قصيدة مفقودة للشاعر تدعى " مرغيتس " (3) وهي تعد شبيهة بالكوميديا، وخاصة وأن بعض الأقوال التي نسبت إليه يقوم على السخرية، ولكنه عاد فأبدى شيئا من التحفظ تجاه هذا الرأي (4) ، لأن الأستاذ أولمان كان قد أرجع كثيرا من تلك الأقوال إلى أصولها اليونانية، وليس فيها ما يرتد إلى أوميرس نفسه. ومن تأمل هذه الأقوال وجدها؟ كما رآها الدكتور جدعان - تنقسم في قسمين أساسيين " أحدهما جاء يعبر عن حكمة الخير والشر وعن الأمثال التي تعبر عن خبرة عميقة وفذة في الحياة وفي معرفة الأمور الإلهية والإنسانية، وثانيهما هازل ناقد ساخر ينصب على موضوعات محددة كالمرأة والزواج اللذين يحظيان بأكبر نصيب من النقد والسخرية " (5) . وبوجه تفصيلي تعلي هذه الأقوال من قيمة الأدب وتتحدث عن الفضيلة   (1) من أوضح الأمثلة على ذلك تلك القائمة من الحكم التي أوردها أسامة بن منقذ في لباب الآداب. (2) شتروماير: 464 وانظر كريمر: 301. (3) مجلة الأبحاث: 14 - 15. (4) مجلة الأبحاث: 26 (الحاشية: 26) . (5) مجلة الأبحاث: 25 - 26. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 عامة وما يندرج تحتها من عدل وعفة وضبط للسان وغير ذلك كما تشجب الغضب والحسد والعجب والنقمة والعداوة والنميمة والكذب، وفيها مجموعة عن الصداقة والأصدقاء ومجموعة أخرى عن الغربة والغرباء، ومما يندرج تحت هذه المجموعة الأخيرة (1) : 1 - إذا كنت غريبا فسر بسيرة سنن البلد. 2 - إذا رأيت مسكينا غريبا فلا تخدعهم [كذا] . 3 - إن الغربة صعبة لوجوه كثيرة. 4 - إن أحسنت إلى الغرباء فاعلم أنك تكافأ في بعض الأوقات. 5 - أعن بصيانة الغرباء ولا تقصر في ذلك. 6 - كن صديقا صالحا للغرباء الصلحاء. 7 - إذا أمكنك الزان فلا تكلم غريبا البتة. 8 - إن العفة صالحة وهي للغرباء نافعة جدا. 9 - إذا كنت غريبا فقلل من الفضول فإن ذلك خير لك. 10 - إن من الناس من شأنهم الإحسان إلى الغرباء. 11 - إن السكوت أصلح للغريب من الكلام. 12 - إذا كنت غريبا فأكرم من يضيفك. 13 - أنصف الغرباء فلعلك تكون غريبا يوما ما. وموضوع الغربة والغريب قد طغى على تفكير مثقفي القرن الرابع (عصر أبي سليمان المنطقي ناقل هذه الحكم) وخاصة على كتابات التوحيدي، غير أن هذه النصائح العملية الموجهة إلى الغريب نفسه حينا وإلى من يعامل الغريب تقف موقف المفارقة مما صار إليه الموضوع لدى التوحيدي، فهو هنالك قد أصبح محاولة لتحديد الغريب، ومبلغ ما يلقاه من تجهم ورد وإذلال في الحياة العملية، وتصويرا للغربة الصوفية في علاقة الإنسان بالله (2) .   (1) تحتل هذه الأقوال الأرقام 221 - 233 في مجموعة أوالمان (ص 44 - 45) . (2) انظر مثلا الإشارات الإلهية: 81 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 ومسحة الترجمة واضحة على هذه الأقوال حتى إن بعضها يظل غامض الدلالة بسبب انتزاعه من قرينته الموضحة مثل: إن أحسنت الصبر على الأعراض كنت سعيدا (1) ، ومثل: إن العمر سمي عمرا لأنه يكتب بمشقة (2) (فمثل هذا القول يعتمد على الإيحاءات التي تتضمنها كلمة " عمر " في اليونانية) ومثل: إن في الأشرار شيئا من اللذة. (3) كذلك لا تزال فيها لمحات غير إسلامية مثل: " إن والديك آلهة لك " أو " الوالدان آلهة كبار عند من يعقل " أو " من لا يعقل شيئا من الشر فهو إلهي " (4) وقد اضطر المترجم أن يوضح القولة الأخيرة بما يشبه التوجيه حين قال: يريد بالالاهي الشريف كالملائكة. ومن اليسير أن تقرن معظم هذه الأقوال بما يشبهها في الأدب العربي شعره ونثره، ومن ذا الذي يقرأ (5) : - كثير من له بخت ولا عقل له. - قد يصلح البخت سوء الفعال. - إذا حضر البخت تمت الأمور. - أكثر أمور الناس بالبخت لا بجودة الرأي. ثم لا يتذكر ذلك الأدب المستفيض في العربية حول هذا الموضوع من مثل (6) : - الجد أنهض بالفتى من عقله ... فأنهض بجد في الحوادث أو ذو - لا تنظرن إلى عقل ولا أدب ... إن الجدود قرينات الحماقات - لا تعجبن لأحمق ... نال الغنى من غير كده   (1) أولمان، رقم: 9 ص18. (2) أولمان، رقم: 51 ص 23. (3) أولمان، رقم: 112 ص 30. (4) أولمان، رقم: 216، 163، 160 ص 43، 37، 30. (5) أولمان، رقم: 257، 259، 262، 285 ص 48، 49، 51. (6) انظر ابن عبد البر: بهجة المجالس 1: 186 - 194. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 ولعاقل ما يشتعل ... فكلهم يسعى بجده - عش بجد ولا يضرك نوك ... إنما عيش من ترى بالجدود وعشرات من مثل هذه الأقوال، وكذلك هو الحال فيما يتصل بموضوعات الشيخوخة (1) ، وتقلب الناس في صداقاتهم بحسب ما يعتري المرء من غنى وفقر (2) ، وعدوى المصاحبة للأردياء وأن القرين يقتدي بقرينه (3) ، وغير ذلك مما يعز حصره. وأفتقدت الأقوال المناندرية رواءها الشعري، وبذلك لم تضف شيئا إلى الأدب العربي، ولا فتحت أمام قرائها آفاقا جديدة، إلا أنها؟ من وجهة أخرى - رسخت بعض ضروب التجربة وأكدتها حين بينت أن كثيرا من حصيلة تلك التجربة لا يتغير بتغاير الأمم وتقادم الأزمان.   (1) انظر أولمان رقم: 138 " إذا أقبل الكبر جلب كل علة ". (2) انظر أولمان رقم: 43 الرجل إذا ساءت حاله هرب منه الأصدقاء، رقم: 116 إذا كانت لنا أموال صارت لنا أصدقاء. (3) أولمان رقم: 179 من عاشر الأردياء صار رديئا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 فراغ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 " 3 " الخلط بين أوميرس وايسوبيوس (ايسوب) يعطينا المثل الذي أوردناه عن سقراط؟ فيما تقدم - مثلا لاستقطاب شخصية ما، عناصر متفرقة من شخصيات أخرى، ومثل هذا الشيء نفسه حدث في حال أوميرس، فإن إبراز دور الحكيم واختفاء شخصية الشاعر الملحمي، قد أفسح المجال لا لتنسب أقوال غيره إليه وحسب، بل لتضفي عليه صفات وخصائص مستمدة من شخصيات أخرى. ذلك نوع من محاولة خلق " النموذج " وهو أمر يكاد يكون ميلا مستقرا في الجبلة العربية، نشهده في الأمثال وسير الرجال ومجالات التفوق، فامرؤ القيس " نموذج " شعري، مثلما أن حاتما نموذج مطلق في الكرم، وذلك شلأن قيس في الحب. ولم يكن الأخذ بنسبة الاشعار المناندرية والاقوال الحكمية إلى أوميرس، ولا أنصراف لفظة " الشاعر " اليه عند ابن رشد، إلا نوعا من هذا التصور، أسعف عليه خطأ محبب في طبيعة المصادر المعتمدة. حكى أوميرس أن رجلا من الفلاسفة كسر به في البحر فقال: أيها الناس اقتنوا ما إذا كسر بكم في البحر سبح معكم فإذا سلمتم به يبقى عليكم وهي العلوم والفضائل (1) . إن هذه الحكاية على هذا النحو المقتضب محفوفة بشيء من الغموض، وهي تنسب للشاعر سميونيدس (556 - 468 ق. م) فقد ذكر أن سميونيدس قام برحلة لزيارة مدن آسيا (الصغرى) ليمدح الفائزين في الألعاب الأولمبية، وفيما هو في السفينة هبت عواصف   (1) الكلم الروحية: 90. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 شديدة جعلتها تجنح بركابها، فكل من كان على ظهر السفينة؟ عدا سيمونيدس - كان لديه ما يحرص على حمله رجاء أن ينتفع به إذا كتبت له السلامة، ووصل الشاعر إلى البر وغرق كثير ممن أثقلوا أنفسهم بحمل الحوائج، ولما وصل سيمونيدس والقلة الذين نجوا إلى مدينة كلازوميني (Clazomenae) أقرب المدن إلى المكان الذي وصلوا إليه، التقى سيمونيدس من عرفه من لحن القول، لأنه كان معجبا بشعره، فرحب به وأكرمه، أما بقية الناجين فأخذوا يستجدون الناس ليقيموا أودهم، وبذلك كانت فضيلة الشعر التي يحملها سيمونيدس أينما توجه هي السبب في ما لقيه من بر وإكرام. وقال سيمونيدس للقوم الذين نجوا: " لقد أخبرتكم أنني أحمل معي جميع مقتنياتي، أما أنتم فقد ضيعتم ما كنتم تقتنون، في هذه العجلة " (1) . وفي رواية مختار الحكم: أن الحكيم الذي كسر به المركب، عمل شكلا هندسيا على الأرض، فرآه قوم فمضوا به إلى ملك تلك الجزيرة، فوقع بأن يكتب إلى سائر البلدان: " أيها الناس اقتنوا ما إذا كسر بكم البحر مركب سار معكم، وهي العلوم الصحيحة والأعمال الصالحة " (2) . ومناللافت للنظر أن هذه الرواية تعلي من شأن العلم، بينما تذهب الرواية اليونانية إلى إبراز قيمة الشعر، ولكن الروايتين تومئان إلى مدلول واحد، وهي ترجيح القنية الفكرية على القنى المادية، ومثلهما في هذا الصدد رواية ثالثة تحكى عن ديوجانس وهي أنه مر بعشار فقال له العشار: أمعك شيء، فقال: نعم ووضع مخلاته بين يديه ففتشها العشار فلم يجد فيها شيئا، فقال: أين ما قلت؟ فكشف عن صدره وقال: ها هنا حيث لا تقدر عليه ولا تراه (3) .   (1) Phaedrus (in Babrius and Phaedrus) PP. 337 - 339، (2) مختار الحكم: 32، وقد رويت القصة على نحو مختلف في المنتخب من صوان الحكمة: 217 (طهران) عمن اسمه ارسطيس، وكان رجلا ثريا فعثر به الدهر، فركب البحر وانكسر به المركب ورسى به إلى الشط فرأى في شط بحر شكلا هندسيا في بناء هنالك، فاطمأن لأنه علم أنه وقع إلى قوم حكماء، فدخل المدينة، وخالط أهلها واسترد ثراءه السابق، ثم أنه رأى قوما يريدون ركوب البحر ذاهبين إلى بلده فسألوه هل يريد أن يرسل شيئا لأهله فقال قولوا لهم: ليكن ما تكتسونه وتقتنونه شيئا إذا كسر بكم المركب وغرقتم كان يسبح معكم. (3) ابن دريد: المجتنى: 51 والكلم الروحية: 110 ومختار الحكم: 81 ومنتخب صوان الحكمة: 28 وصوان (طهران) : 171، ويقول الاستاذ روزنتال إن هذا الموضوع شائع في الأدب اليوناني، انظر: Sayings of the Ancients in Ibn Durayds Kitab al - Mujtana Orientalia 27 (1958) P. 33، No. 6، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 فإذا لم نقل إن شخصية أوميرس تلتبس هنا بشخصية سيمونيدس أو ديوجانس (لأنه يروي الحكاية عن غيره) ، فإنه يصلح أن يكون رمزا لهذا المفهوم الذي تعبر عنه الروايتان، ويشترك مع كل من الشاعر والحكيم في نظراته إلى بعض شئون الحياة. وهذا قد يكون شيئا طبيعيا مقبولا، غير أن الأمر الذي يستوقف النظر ويثير الدهشة حقا التباس شخصية أوميرس بشخصية ايسوبيوس (ايسوب: ايجازا) ، إن قلة المعلومات التاريخية التي لدينا عن الشاعر لا تمكن المرء من أجراء المقارنات بين الأخبار المروية عنه وعن إيسوب، كما أن قلة هذه المعلومات ربما كانت السبب في إفساح المجال لذلك الخلط بين الشخصيتين، بالإضافة إلى أسباب أخرى، أشرت إلى نماذج منها فيما تقدم. فالحديث عن أسر أوميرس وبيعه واسترقاقه وإقامته في الرق مدة طويلة ثم عتقه بعد ذلك، وما يتصل بهذه الأحداث من أقوال (1) إنما هو ترديد لقصة إيسوب التي قد تكون بدورها أيضا قصة ملفقة من عدة قصص، للخيال فيها دور كبير (2) . روى المبشر بن فاتك أن أوميرس لما عرض للبيع قال له الذي أراد شراءه: أترى أن أشتريك؟ فقال له: بعد لم تشترني، أمشيرا في مالك جعلتني (3) ؟ ووردت هذه القصة في المجتنى لابن دريد على نحو مقارب: " وأسرييوش وأراد رجل شراءه فقال له: أشتريك؟ فقال كيف تشتريني وأكون لك عبدا بعد ما اتخذتني وزيرا (يريد بعدما شاورتني في ابتياعي) (4) ، واسم اسيوش قد يقرأ بسهولة " أيسوبيوس " والقصة واردة في ترجمة ايسوب عندما أراد شراءه ختنثوس (Xanthus) الفيلسوف (5) . وعلى هذا السياق نفسه يمكن أن تحمل الرواية الأخرى التي جاء فيها: واشتراه بعضهم فقال له: لأي شيء تصلح، فقال: للحرية (6) ، فإن أقوى الروابط بين شخصيتي أوميرس وايسوب   (1) مختار الحكم: 30. (2) انظر حياة إيسوب في: Lioyd W. Daly: Aesop without Morals (New York، London، 1961) PP. 11 - 90. ويشار إليه باسم " دالي ". (3) مختار الحكم: 30. (4) المجتنى: 52 وانظر أيضا منتخب الصوان: 91 (232 ط. طهران حيث كتب اسونس) . (5) انظر دالي: 43، وروزنتال رقم: 17. (6) مختار الحكم: 30. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 أن كليهما يحسن الإجابة الحادة المسكتة ويستطيع أن يفاجئ السائل غير ما قد يتوقعه من جواب، فإذا سأل: من أين أنت؟ (مثلا) قال: من أبي وأمي (1) . ويتصور إن البطلان الشاعر أوميرس نموذجا للطريقة اليونانية لدى الشعراء، فهو إذا هاتره أحدهم لم يهجه مباشرة وإنما رد نازعا بمثل خرافي، فقد جاءه مرة أبانو الماجن فقال: اهجني بهجائك إذا لم أكن أهلا لمديحك، فقال اوميرس: لست فاعلا ذلك أبدا، فقال له: إني أمضي إلى رؤساء اليونانيين وأشعرهم بنكولك، فقال له مرتجلا: بلغنا أن كلبا حاول قتال أسد بجزيرة قبرص، فامتنع الأسد أنفة منه، فقال له الكلب: إني لأشعر السباع بضعفك، فقال السبع: لأن تعيرني الأسد بالنكول عن مبارزتك أحب إلي من أن ألوث شاربي بدمك (2) (وهي القصة التي تروى عن الحمار والخنزير البري عند فايدرس 1: 29) (3) . ومرة أخرى لجأ أوميرس إلى هذه الطريقة نفسها حين افتخر عليه إبرخس (Hipparchus) الشاعر بكثرة الشعر وسرعة العمل وعيره ببطء عمله وقلة شعره، فقال أوميرس: بلغنا أن خنزيرة بإنطاكية عيرت لبوة بطول زمان حملها وقلة الولد فافتخرت عليها بضد ذلك، فقالت اللبوة: لقد صدقت، إني ألد الولد بعد الولد، ولكن أسد (4) (وتروى عن اللبوة والثعلب في قصص إيسوب (5) وهي كذلك في الكلم الروحانية: 131 وابن العبري: 50) . ويمكننا أن نرد هذا التوافق بين الشخصيتين وأقوالهما وطريقتهما إلى الأسباب العامة التي ذكرناها عند الحديث عن الاضطراب في نسبة القول الواحد إلى غير واحد من الناس، ولكن لا بد من أن نضيف هنا شيئا آخر، وهو أن المجموعة التي تعرف باسم   (1) منسوبة لاوميرس في مختار الحكم: 30 ولايسوب عند دالي: 42. (2) خمس رسائل، مخطوطة الموصل الورقة: 162 وتاريخ الحكماء: 67 (ويبدو أنه نقلها عن ابن بطلان) . (3) Phaedrus، Book 1، P. 225. (4) خمس رسائل، مخطوطة الموصل: 162 وتاريخ الحكماء: 70. (5) دالي رقم: 257 ص: 200 وتحريج المصادر الأخرى في: Babrius، Appendix No. 257. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 خرافات ايسوب، لم تكن بطبيعة الحال من تأليف رجل واحد، وإنما تمثل تراثا واسعا، بعضه يوناني وبعضه غير يوناني، وأن اليونان عرفوا هذا اللون من الخرافات في عهد مبكر، يرقى إلى أيام ايسيودس (Hesiod) (1) ، وليس ثمة ما يمنع أن يرقى إلى أيام أوميرس نفسه. وقد كان هذا اللون من الأدب شفويا وشعبيا في آن معا، يدور على الالسنة، ويستغله المتمثل به بحسب مقتضى الحال أما لعبرة أخلاقية أو لتوضيح مسألة أو لتأكيد موقف جدلي (2) . وقد أشار أرسطاطاليس إلى أهمية هذا اللون وفائدته في الخطابة وأورد ابن سينا مثالين من تلك الخرافات: أحدهما قول أحد المشيرين لقومه: إياكم وأن تصيروا بحالكم إلى ما صار إليه الفرس، عندما زاحمه الأيل في مرعاه ونغصه عليه ففزع إلى إنسان من الناس يعتصم بمعونته ويقول له: هل لك في إنقاذي من يدي هذا الايل؟ فأنعم الإنسان له الإجابة على شرط أن بالتقام ما يلجمه، وبتمطيته ظهره وهو ممسك قضيبا، فلما أذغن له صار فيما هو شر له من الايل، والثاني قول آخر: إني أوصيكم أن تستنوا بسنة الثعلب الممنو بالذبان، فقال له: وما فعل ذلك الثعلب؟ قال: بينما ثعلب يعبر نهرا من الأنهار إلى العبر الآخر إذ اكتنفته القنصة وحصل في حومة الكلب، فلم ير لنفسه مخلصا غير الانقذاف في وهدة غائرة انقذافا أثخنه، وكلما راود الخروج منه أعجزه، فلم ير إلا الاستسلام، وهو في ذلك إذ جهدته الذبان محتوشة إياه، وإذا في جواره قنفذ يشاهد ما به من الغربة والحيرة ولذع الذباب وانحلال القوة، فقال له: هل لك يا أبا الحصين في أن أذب عنك؟ فقال: كلا، ولا سبيل إلى ذلك، وإنه لمن الشفقة الضائرة ومن البر العاق، فقال له القنفذ: ولم ذلك؟ قال: اعلم أن هؤلاء الذبان قد شغلت المكان فلا موقع لغيرهم من بدني، وقد امتصت ريها من دمي، فهي الآن هادئة، فإن ذبت خلفها جماعة أخرى غراث كلبي تنزف بقية دمي (3) . كذلك فإن العناصر التي يمثلها إيسوب من حدة وسرعة خاطر ومفاجأة وإفحام وعمق في الحكمة، كانت محببة لدى العرب، مستقرة في تراثهم منذ عهد بعيد، فلا غرابة إذا هم رأوها أيضا في شخص مقدم في الشعر والحكمة مثل أوميرس، فانبهم لديهم التمييز بين الرجلين. وهذا ينقلنا إلى الحديث عن شخصية إيسوب وأدبه عند العرب، في الفصل التالي.   (1) انظر دالي: 12. (2) المصدر السابق: 14. (3) الخطابة لابن سينا: 168 - 169. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 فراغ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 " 4 " أثرايسوبيوس في الشخصيات والأمثال العربية وقضية اللقاء بين آثار الشرق والغرب تلقي شخصية إيسوب ظلالا على بعض الشخصيات الجاهلية والإسلامية؟ وبخاصة في القرنين الأولين - عن طريق الحوار، وفي موقف عبد المسيح بن بقيلة الحيري الذي بعث به قومه ليقابل خالد بن الوليد حين توجه لفتح الحيرة (13/634) ما يعيد إلى الذهن بعض مواقف إيسوب على نحو احرفي، فقد سأله خالد حين حضر بين يديه: أين أقصى أثرك؟ قال: ظهر أبي، قال: ومن أين خرجت؟ قال: من بطن أمي، قال: علام أنت؟ قال: على الأرض، قال ففيم أنت؟ قال: في ثيابي، قال: فمن اين أقبلت؟ قال: من خلفي، قال: فأين تريد؟ قال: أمامي، قال: ابن كم أنت؟ قال: ابن رجل واحد، قال: أتعقل؟ قال: نعم وأقيد، قال: أحرب أنت أم مسلم، قال: بل سلم، قال: فما بال هذه الحصون؟ قال: بنيناها للسفيه حتى يجيء حليم فينهاه (1) . وفي قصة الغضبان بن القبعثري مشابه من هذه الطريقة نفسها، حيث يتجنب المسؤول الجواب المباشر، ويحاول التلاعب اللفظي، فقد ذكر المسعودي أن الحجاج وجه الغضبان إلى بلاد كرمان ليأتيه بخبر ابن الأشعث، فلما ضرب خباءه هنالك، إذا هو بأعرابي قد أقبل عليه فقال: السلام عليك، فقال الغضبان: كلمة مقولة، قال الأعرابي: من أين جئت، قال، من ورائي: قال: وأين تريد؟ قال: أمامي، قال: وعلام جئت،   (1) حمزة الأصفهاني: الدرة الفاخرة: 457. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 قال: على فرسي قال: وفيم جئت؟ قال: في ثيابي؟ " وفي تتمة قصة الغضبان عندما خرج على الحجاج، وحواره معه، استمرار لهذا النموذج أيضاً (1) . ويبدو أن هذه الطريقة كانت تلائم شخصيات بعض القضاة المتمتعين بحدة في الذكاء مثل الشعبي وشريح وإياس. فقد سئل الشعبي مرة، كيف بت البارحة؟ فطوى كساءه في الأرض ثم نام عليه وتوسد يده وقال: هكذا بت (2) ، أما شريح (أو إياس) فإن الحوار بينه وبين عدي ابن أرطاة يمثل نموذجا واضحا لهذه الطريقة الايسوبية، مع مزجها بقسط غير قليل من السخرية والدعابة (3) ، (ع عدي، ش شريح) . ع: أين أنت ش: بينك وبين الحائط ع: فاسمع مني ش: للاستماع جلست ع: إني تزوجت امرأة ش: بالرفاء والبنين ع: وشرطت على أهلها ألا أخرجها من بينهم ش: أوف لهم بالشرط ع: فأنا أريد الخروج ش: في حفظ الله ع: فاقض بيننا   (1) مروج الذهب 3: 355 - 358. (2) البصائر 2: 72. (3) الدرة الفاخرة: 457 - 458 وابن الجوزي: أخبار الأذكياء: 68 ومحاضرات الراغب 2: 416. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 ش: قد فعلت وإذا نحن أمعنا النظر في هذا الحوار وجدنا فيه صورة من خرافة جاهلية وردت على ألسنة الحيوانات (إيسوبية المنزع) وذلك حين ذهبت الأرنب تخاصم الثعلب عند الضب، فقالت الأرنب: يا أبا الحسل، قال: سميعا دعوت، قالت: أتيناك لنختصم إليك، قال: عادلا حكيما، قالت: فأخرج إلينا، قال: في بيته يؤتى الحكم، قالت: إني وجدت ثمرة، قال: حلوة فكليها، قالت: فأختلسها الثعلب، قال: لنفسه بغى الخير، قالت: فلطمته، قال: بحقك أخذت، فلطمني، قال: حر أنتصر لنفسه، قالت: فأقض بيننا، قال: قد قضيت (1) . أما شخصية لقمان التي أرجأنا الحديث عنها إلى هذا الموضع فإن التطابق بينها وبين شخصية إيسوب تم إلى حد كبير، كلا الرجلين كان عبدا دميم الخلقة، ثم أعتق، وكلاهما يرمز إلى أن بذلذة الهيئة والقماءة وقبح المنظر ليست مقياسا للذكاء ولا حائلا دون الحكمة، وهما يقفان عند حد قوله شقة بن ضمرة؟ وكان يشاركهما في دمامة المنظر، وقد وفد على النعمان، فأستهان به: " إنما المرء بأصغريه قلبه ولسانه (2) "، وكلاهما له قصة مع سيدة تتعلق بهذين الأصغرين أيضا: لقمان أعطاه سيدة شاة وأمره بذبحها وأن يأتيه بأطيب ما فيها فذبحها وأتاه بقلبها ولسانها، ثم أعطاه في يوم آخر شاة أخرى وأمره أن يذبحها ويأتيه بأخبث ما فيها فذبحها وأتاه بقلبها ولسانها، فسأله عن ذلك فقال: هما أطيب ما فيها إن طابا وأخبث ما فيها إن خبثا (3) ، وفي سيرة إيسوب حديث طويل عن الملأدبة التي أقامها سيده لتلامذته، وأمره أن يطبخ لهم أحسن شيء وأطيبه، فلم يطبخ سوى الألسنة (4) ، وكلاهما كان يستعمل ذكاءه لإنقاذ سيده من ورطة يقع فيها:   (1) الدميري: حياة الحيوان الكبرى 1: 20 وانظر رواية أخرى في الدرة الفاخرة: 456 والمفضل بن سلمة: الفاخر: 76 وجمهرة أمثال العسكري 1: 230 والومخشري: المستقصى 2: 61 وثمة رواية ثالثة في العقد 3: 66 ورابعة في أخبار الأذكياء: 255 ومحاضرات الراغب 2: 415. (2) انظر العقد 3: 287 - 288 وفصل المقال: 137. (3) الدميري 2: 36 وبإيجاز في مختار الحكم: 262، والمقترح في جوامع الملح (فصل في الصمت) (مخطوطة رقم 3358 من مجموعة يهودا بجامعة برنستون) . (4) دالي: 56 - 58. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 فقد قمر سيد لقمان، وكان شرط خصمه أن يشرب ماء النهر، وبعل بالأمر، فقال له لقمان: لا تغتم فإن لك عندي فرجا، قال: وما هو؟ إذا قال لك الرجل أشرب ما في هذا النهر فقل له أشرب ما بين الضفتين أو المد الذي يجيء؟ فإنه سيقول لك: أشرب ما بين الضفتين، فإذا قال لك فقل له: احبس عني المد حتى أشرب ما بين الضفتين، فإنه لا يستطيع أن يحبس عنك المد (1) ، ففعل ذلك سيده ونجا من الغرم. والفرق بين هذه الرواية وما ورد في سيرة إيسوب أن سيد إيسوب، كان في حال سكر، لا في جولة ميسر، وأنه تعهد بأن يشرب البحر، فأشار عليه إيسوب أن يقول لمن طالبه بالوفاء: ثمة أنهار كثيرة وجداول تصب في البحر، فأوقفوها عن الانصباب فيه لكي أشرب ماءه (2) ". وإذا كانت شخصية لقمان تقترب من شخصية إيسوب، فإن حكمة لقمان جاءت أقرب إلى حكمة أحيقار الحكيم البابلي، وهذه مسألة لست أنوي أن أقف عندها، فأنها خارجة عن نطاق هذا البحث (3) ولا ريب في أن هؤلاء الثلاثة يمثلون جوانب هامة من الأدب الحكمي في الشرق والغرب، ويقف لقمان حلقة وصل بين الحكيمين الآخرين. وحين نقرأ أن بعض أهل الجاهلية كان يحمل مجلة لقمان يثور لدينا هذا السؤال: أترى مجلة لقمان هذه كانت شيئا شبيها بأقوال أحيقار أو بخرافات إيسوب؟ ويبدو أننا بالنظر إلى أدب إيسوب أمام فرضية مقبولة: وهي أن ذلك الأدب كان معروفا لدى العرب في الجاهلية عن طريق اللغة الآرامية وعن طريق نصارى الحيرة بالذات (4) ، فنحن نجد نماذج من الخرافات والأمثال الجاهلية مضمنة أيضا في أدب إيسوب، ولكن علينا أن نأخذ الشاهد بحذر، فقد أثبتت الكشوف الحديثة أن بعض   (1) مختار الحكم: 260 - 261 وأخبار الأذكياء: 16 - 17. (2) دالي: 64 - 66. (3) عن أحيقار انظر: F. Conybeare، J. Rendel Harris and Agnes Smith Levis: The Story of Ahikar، 2 nd ed. Cambridge، 1913. وأنيس فريحة: أحيقار: حكيم من الشرق الأدنى، بيروت 1962. (4) عبد المجيد عابدين: الأمثال في النثر العربي القديم: وانظر: Jewish Encyclopaedea 1: 221، 5: 324. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 العناصر عند إيسوب ترجع إلى أصول مشرقية موغلة في القدم، وبخاصة إلى أصول سومرية، وهذا واضح في النتائج التي توصل إليها الأساتذة إدمند غوردن ون. س. كريمر ولامبرت في أبحاثهم (1) ، وربما أضيفت إلى خرافات إيسوب عناصر من أصل عربي خالص، وإن كان من المعتقد أنها في دور متأخر نسبيا. ونكتفي من الأمثلة السومرية بثلاثة لعلاقتها بهذا النوع من الأدب في اللغة العربية أيضا: (1) قصة الحيوان الذي ذهب يطلب قرنين فعاد مجدوع الأذنين: هذا الحيوان في الأمثال والخرافات السومرية هو الثعلب (2) ، وفي الأمثال العبرية هو الجمل (3) ، وكذلك هو عند إيسوب (4) ، أما في الأمثال العربية فيقال إنه الحمار ولكن الأشهر أنه الظليم (5) (أو النعامة) ، وقد جرى المثل العربي على إسقاط اسم الحيوان المقصود؟ عمدا فيما يظن - فجاء على هذه الصورة: " كطالب القرن، جدعت أذنه "، ولكن الظليم؟ أو النعامة - قد ذكر في الشعر القديم (6) ، وإطلاق المثل على الظليم أنسب لأنه يوصف بأنه   (1) E. Gordon: Sumeran Proverbs، Universty Museum؛ Univ. of Pensylvania، Philadelphia 1959. Idem: Sumerian Animal Proverbs، Journal of Cuneiform Studies xll (1958) PP. 1 - 35، 43 - 75؛ W.G. Lambert: Babylonian Wisdom Literature، Oxford، 1960، Kraemer and Gor - don. Biblical Paralells From Sumerian Lit، Univ. Mus. Philadelphia. 1954. And Kramer. From the Tablets of Sumer، Colorado. 1956. (2) Biblical Paralells. P. 25. (3) A. Cohen: Ancient Jewish Proverbs، London، 1911، No. 107. P.62. and S.D. Goitin: the Original and Historical Significance of the Present - Day Arabic Proverb، Islamic Culture. 1952، P. 176. (4) دالي: رقم 117 ص: 143 و Babrius، Appendix، P.444. (5) الحيوان 4: 323 - 324 والدميري 2: 310 والدرة الفاخرة: 553 والميداني: مجمع الأمثال (القاهرة 1310) 2: 57 وأبو الفرج الاصبهاني: كتاب الأغاني (ط. دار الكتب) 3: 5، وانظر الحديث عن السبب في وضع الحمار موضع الظلم في ما يلي. (6) من ذلك قول أبي العيال الهذلي (ديوان الهذليين 2: 268 والحيوان 4: 324 والدرة الفاخرة: 554 والمستقصى 2: 219) : أو كالنعامة إذ غدت من بيتها ... ليصاغ قرناها بغير أذين فاجتثت الأذنان منها فانثنت ... صلماء ليست من ذوات قرون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 " أصلم "؟ أي مقطوع الأذنين - كما أن اسمه قد يدل على ما لحق به من ظلم حين قطعت أذناه (1) ، وحين يذكر الثعلب أو الحمار في هذا المثل فإن ذلك لا يقصد إلى تعليل خاصة فيزيولوجية ثابتة وإنما يشير إلى حادثة بعينها. أما أين ذهب ذلك الحيوان، فأمر تتجاهله الرواية العبرية والعربية بينا تنص عليه الروايتان السومرية واليونانية، فهو في الأولى قد ذهب إلى إنليل وفي الثانية إلى زوس (Zeus) . ويبدو أن نقله إلى خرافات إيسوب قد تم عن السومرية والعبرية، بعد أن أجري التحوير الضروري المطلوب عليه، ولكن من الصعب أن نجد تفسيرا لتغيير الثعلب السومري وجعله جملا في خرافات العبرانيين واليونانيين، إلا أن يكون صغر أذني الجمل بالنسبة لجسمه هو السبب في ذلك. وترد الخرافة في كليلة ودمنة عن الحمار (2) ، وهي هناك حافلة بتفصيلات لا نجدها في أية رواية من الروايات الأخرى سواء أكانت سومرية أو يونانية أو عربية. ويدخل فيها عنصر الأيل الذي رآه الحمار وهو يشرب فأعجب بقرونه وأحب أن يكون له مثلها، وظل يتحين الفرصة حتى ذهب إلى الدار التي يعيش فيها الأيل، وخاطبه فلم يستطع أن يفهم لغة الحمير، وضاق صاحب الأيل به ذرعا فضربه، فارتد إليه الحمار فكدمه، فعندئذ عمد الأيل إلى أذني الحمار فجدعهما. وأغلب الظن أن الأيل هنا تحريف عن " انليل "، والا فليس في المألوف أن يكون الأيل مما يدجن ويأخذه صاحبه إلى الماء ليسقيه. وربما كان حلول الحمار محل الظليم؟ أو النعامة - في الشعر العربي من تأثير كليلة ودمنة، إذ نجد الإشارة إلى ذلك في شعر محدث، فقد نسب إلى بشار قوله: فصرت كالعير غدا طالبا ... (3) قرنا فلم يرجع بأذنين ومثله قول الآخر: ذهب الحمار ليستعير لنفسه ... قرنا فآب وما له أذنان وقول ثالث:   (1) الحيوان 4: 323 - 324، والدميري 2: 310. (2) ابن المقفع: كليلة ودمنة: 232. (3) انظر التمثيل والمحاضرة: 344. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 كمثل حمار كان للقرن طالبا ... (1) فآب بلا أذن وليس له قرن (2) قصة البعوضة (أو الذبابة) التي حطت على ثور (أو فيل) ثم قالت له: استمسك كيما أطير: وجدت هذه الخرافة في مجموعة أمثال أشورية نسخت سنة 716 ق. م. عن نسخة أقدم (2) ، وقد وردت كذلك خرافات إيسوب (3) ، ولم أعثر عليها منسوبة إلى الجاهلية، ولكن لابد أن تكون قد عرفت في دور مبكر قبل نهاية القرن الثاني الهجري، فقد وردت في رسالة بعث بها إبراهيم بن الأغلب (196/811) إلى خريش بن عبد الرحمن الكندي يقول فيها: " أما بعد فإن مثلك مثل البعوضة التي قالت للنخلة إذ سقطت عليها استمسكي فإني أريد الطيران، فقالت النخلة: ما شعرت بسقوطك فيكربني طيرانك (4) "، وبوضع " النخلة " بدل " الثور " أو " الفيل " يتحاشى ضارب المثل تشبيه نفسه بالحيوان، ومن الطريف أن هذا المثل ظل يحتفظ بصورته هذه في الأمثال العربية العامية حتى وقت متأخر، فقد عده الابشيهي من أمثال النساء، ونصه: " باتت ناموسة على جميزة، قالت: صبحك الله بالخير، قالت: مين دري بك قبله (5) ". (3) قصة الثعلب الذي لم يستطع أن يحصل على عنقود العنب، فقال معزيا نفسه: هو حامض. تبدو القصة السومرية؟ على رغم ما أصاب النص من تشويه - حافلة بالتفصيلات (6) ، فالحيوان هو الكلب وما اشتهاه عذق من التمر، وأما في خرافات إيسوب فإن الحيوان   (1) الميداني 2: 57. (2) Sumerian Animal Provrbs (J. C. S.) vol. Xll، P. 1. And Iambert، PP. 216 - 219. (3) دالي رقم: 137 ص: 151 وبابريوس رقم: 84 ص: 103. (4) ابن الأبار، الحلة السيراء 1: 103، وانظر التمثيل والمحاضرة: 376 وتذكرة النهروالي: 96 وفيهما بعض اختلاف عما في الحلة. (5) الابشيهي، المستطرف 1: 55. (6) Gordon: Animal Proverbs، J. C. S. part I، Vol. Xll. 1959، no. 5 - 90، P. 80. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 ثعلب والثمر المشتهى عناقيد من العنب (1) ، ومن صور هذا المثل في العربية (2) : أيها العاتب سلمى ... أنت عندي كثعاله رام عنقودا فلما ... أبصر العنقود طاله قال هذا حامض ... لما رأى ألا يناله وهي على الأغلب مستمدة من قصة إيسوب، ومما يلفت النظر أن المثل في العربية العامية يتجاوز عن ذكر الحيوان، ويرد على النحو الآتي: عنقود مدلى في الهوا، من لا يصل إليه يقول: حامض ما استوى (3) . فهذه الأمثلة الثلاثة تدل على أن خرافات إيسوب ذات أصول موغلة في القدم، وأن منها ما هو مشرقي في أصله وليس نتاجا يونانيا خالصا، وأن التلاقي بين آداب الشرق والغرب؟ وخاصة في هذا المجال - كان أوسع نطاقا. ويذكر كلمنت الإسكندري أن ديموقريطس خلال رحلاته في المشرق اقتبس من أقوال أحيقار وضمنها كتاباته الأخلاقية، وقد كان الباحثون في مطلع هذا القرن يميلون إلى استبعاد هذه الرواية، ولكن الشهرستاني أورد ثلاث حكم لديموقريطس موجودة في نصائح أحيقار (4) ، كما أن في الأدب اليوناني حكما أخرى تبدو مستمدة من أحيقار نفسه، مما يؤكد هذا التلاقي (5) . فإذا عدنا إلى البحث عن العلاقة بين خرافات الجاهلين على ألسنة الحيوانات وبين أساطير إيسوب، وجدنا خرافات الجاهلية من هذا المنطلق تسير في نوعين متوازيين   (1) دالي رقم: 15، ص: 100 وبابريوس رقم: 19 ص: 31 وفايدرس، الكتاب الرابع رقم: 3،ص: 303. (2) الدرة الفاخرة: 319 ومحاضرات الراغب 2: 416 والتمثيل والمحاضرة: 358 والمستقصى 1: 235 والميداني 1: 336. (3) المستطرف 1: 51. (4) هي قوله: لا تطمع أحدا أن يطأ عقبك اليوم فيطأك غدا، وقوله: لا تكن حلوا جدا لئلا تبلغ ولا مرا جدا لئلا تلفظ، وقوله: ذنب الكلب يكسب له الطعام وفمه يكسب له الضرب (الملل 2: 171) وتنسب لغيره من حكماء اليونان، انظر المبشر: 297، 302، 199. (5) شتروماير: 467 - 468، وانظر منتخب الصوان: 4 حيث يرد ذكر لعلاقة بين لقمان وانبذوقليس، وهو أمر يومىء إلى الإحساس بوجود لقاء ثقافي مستمر بين الشرق والغرب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 تكاد تكون العلاقة بينهما واهية، النوع الأول خرافات تصور حياة الحيوانات وعلاقاتها فيما بينها وطبائعها وحيلها ومكايدها، دون أن يرمي إثارة عبرة أخلاقية، أو إعطاء مثال للسلوك، وكأن غرض هذا النوع من الخرافات أن يقول إن ما يجري في عالم الإنسان من تظالم وغصب واستبداد وما إلى ذلك موجود مثله في عالم الحيوان، كالخرافة التي تروي أن الضفدع كان ذا ذنب فسلبه الضب ذنبه (1) ، وكالقصة التي يشير إليها أمية بن أبي الصلت في شعره فيقول: بآية قام ينطق كل شيء ... وخان أمانة الديك الغراب إذ يقول الجاحظ في تفسير هذه الإشارة: " وفي كثير من الروايات من أحاديث العرب أن الديك كان نديما للغراب، وأنهما شربا الخمر عند خمار ولم يعطياه شيئا، وذهب الغراب ليأتيه بالثمن حين شرب، ورهن الديك، فخاس به فبقي محبوسا (2) ". وإلى مثل هذا النوع تنتسب الأمثال المبنية على أفعل، مثل: آلف من كلب، أجرا من الذباب، أجهل من حمار، أحمق من نعامة، وغير ذلك، فإنها جميعا في تبيان طبائع الحيوان، وإلى ذلك يشير حمزة الأصفهاني بقوله: " فحين تأموا (أي العرب) أخلاق تلك البهائم، فألفوها متفرقة في أنواعها ثم رأوها مجتمعة في الإنسان الذي يجمع إلى حرص الذئب حذر الغراب، وإلى تدبير الذر كسب النمل، وإلى هداية الحمام حزم الحرباء، وإلى حراسة الكراكي ختل الثعلب، إلى غير ذلك من أخلاقها، قالوا عند ضرب الأمثال بأخلاق الإنسان، إن فلانا له جرأة الأسد ووثوب النمر وروغان الثعلب وختل الفهد (3) ؟ ". غير أن العرب؟ من ناحية ثانية - أجروا الحيوانات مجرى الأناسي، فتصوروها تذهب مذهب الإنسان في التهاجي والتفاخر، وعقدوا بينها منافرات كالتي كانت تجري بينهم، فالقطاة والحجلة تهاجيا، فقالت الحجلة للقطا: قطا قطا أرى، أمعك بيضك ثنتان وبيضتي مائتان، فقالت القطاة: حجل حجل، أنت تفرين في الجبل، إذا بصرت   (1) الدرة الفاخرة: 212. (2) الحيوان 2: 320 - 321. (3) الدرة الفاخرة: 60. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 بالرجل (1) ، وشبيه بذلك منافرة الأرنب للوبر، إذ قالت الأرنب: وبر وبر، عجز وصدر، وسائرك حقر نقر، فقالت الوبر، اران اران، عجز وكتفان، وسائرك أكلتان (2) ، وليس وراء هذا النثر المسجوع أية عبرة أخلاقية، وإنما هو مذهب من التعبير والتباهي، جرى عليه الناس أنفسهم في منافراتهم. أما النوع الثاني فهو تلك الخرافات التي تهدف إلى العبرة، ومنها ما يبدو عربيا خالصا، لا سمة فيه لمؤثرات خارجية، كقصة الغراب الذي قال لأبنه: يا بني إذا رميت فتلوص؟ أي تلو - فقال: يا أبت إني أتلوص قبل أن أرمى، وقصة الضب الذي قال لأبنه: يا بني أتق الحرش، فقال يا أبه وما الحرش؟ قال: أن يأتيك الرجل فيمسح بيده على جحرك ويفعل، ثم إن جحره هدم بالمرداة، فقال: يا أبت، أهذا الحرش، فقال: يا بني، هذا أجل من الحرش (3) ، وها هنا تتبدى البساطة والإيجاز معا في الخرافات ومنها ما هو ذو صلة وثيقة بالمؤثرات الخارجية، كهذه القصة المستمدة من أحيقار؟ وإن كنا لا نقطع بأنها كانت معروفة لدى الجاهليين - وتقول القصة إن رجلا من بني إسرائيل نصب فخا فجاءت عصفورة فنزلت عليه فقالت: مالي أراك منحنيا، قال: لكثرة صلاتي انحنيت، قالت: فمالي أراك بادية عظامك؟ قال: لكثرة صيامي بدت عظامي، قالت: فمالي أرى هذا الصوف عليك؟ قال: لزهدي في الدنيا لبست الصوف، قالت: فما هذه العصا عندك؟ قال: أتوكأ عليها وأقضي حوائجي، قالت، فما هذه الحبة في يدك؟ قال: قربان إن مر بي مسكين ناولته إياها، قالت: فإني مسكينة، قال: فخذيها، فدنت فقبضت على الحبة فإذا الفخ في عنقها، فجعلت تقول: قعي قعي (4) ؛ هذه القصة مروية عن وهب بن منبه، ونسبتها إلى رجل من بني إسرائيل قد جعلت   (1) الدرة الفاخرة: 555. (2) المصدر السابق. (3) الدرة الفاخرة: 156،118 - 119 وانظر أخبار الأذكياء: 253 والمستقصي 1: 50، 62 والميداني 1: 126، 153. (4) العقد 3: 67 - 68 والنص العربي في: The Story of Ahikar No. 10، P. 28 وانظر أيضا أخبار الأذكياء: 254 والدميري 2: 103 حيث تجد الخرافة نفسها برواية أخرى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 الأستاذ عبد المجيد عابدين يعدها من الخرافات التي تعود إلى أصل إسرائيلي (1) ، مع أنها بابلية في نسبتها، ولكن رواية وهب بن منبه لها تدل على دور المثقفين بالثقافة اليهودية أو المسيحية في إشاعة هذا اللون من الخرافات قبل الإسلام وبعده، في البيئة العربية والإسلامية، ولهذه الخرافة نظائر أخرى لا حاجة بنا إلى إيرادها (2) . ومن هذا النوع ذي الصلة الوثيقة بالمؤثرات الخارجية خرافات نجدها عند إيسوب، وإن لم يكن من الضروري أن تعود في الأصل إلى البيئة اليونانية، ومن أقدم هذه الصور المشتركة قصة الرجل والحية، وهي ذات جذور عميقة في الأدب الجاهلي (3) حتى لنجدها مسرودة في قصيدة تنسب للنابغة الذبياني، يقول فيها (4) : وإني لألقى من ذوي الضغن منهم ... وما أصبحت تشكو من الوجد ساهره كما لقيت ذات الصفا من حليفها ... وما انفكت الأمثال في الناس سائره فقالت له أدعوك للعقل وافيا ... ولا تغشيني منك بالظلم بادره فواثقها بالله حين تراضيا ... فكانت تديه المال غبا وظاهره فلما توفى العقل إلا أقله ... وجارت به نفس عن الخير جائره تذكر أنى يجعل الله جنة ... فيصبح ذا مال ويقتل واتره فلما رأى أن ثمر الله ماله ... وأثل موجودا وسد مفاقره أكب على فأس يحد غرابها ... مذكرة من المعاول باتره فقام لها من فوق حجر مشيد ... ليقتلها أو تخطى الكف بادره فلما وقاها الله ضربة فأسه ... وللبر عين لا تغمض ناظره تندم لما فاته الذحل عندها ... وكانت له إذ خاس بالعهد قاهره   (1) الأمثال في النثر العربي: 82 - 83. (2) انظر الحيوان 5: 238 - 239 والعقد 3: 68. (3) انظر أمثال الضبي: 84 - 85 والميداني 2: 61 والدميري 1: 254. (4) ديوان النابغة: 131 - 135 (تحقيق محمد الطاهر بن عاشور) والمصادر المذكورة في الحاشية السابقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 فقال تعالي نجعل الله بيننا ... على مالنا أو تنجزي لي آخره فقالت يمين الله أفعل إنني ... رأيتك مسحورا يمينك فاجره أبى لي قبر لا يزال مقابلي ... وضربة فأس فوق رأسي فاقره والقصة في الأساطير العربية أن أخوين خربت بلادهما فأرادا انتجاع مرعى، وكان في جوارهما واد فيه حية قد حمته، فنزلاه، فعدت الحية على أحدهما فقتلته، فحلف أخوه ليأخذن بثأره، فلما لقيها ليقتلها عرضت عليه الصلح وأن تعطيه دية أخيه، كل يوم دينارا، وحلف كلاهما للآخر، حتى كان أن تذكر الرجل أخاه، وكأنه وجد من العار أن يقبل الدية بديلا عن الثأر، فلما حاول قتلها أخطأها، وأصاب صفاة كانت عند جحرها، ثم ندم لما فاته الذحل؟ كما يقول النابغة - فأراد أن يتعاهدا ثانية، فأبت الحية ذلك، وقالت له: " كيف أعاودك وهذا أثر فأسك "؟. أما في خرافات إيسوب فخلاصة القصة أن حية قتلت ابنا لأحد المزارعين، فغضب، وحمل فأسه وذهب إلى وكر الحية ولبث يترقب ظهرها ليضربها حالما تبرز، فلما أخرجت الحية رأسها أهوى عليها المزارع بفأسه ولكنه أخطأها وأصاب صخرة كانت هنالك، ثم عرض على الحية نوعا من التسوية والمصالحة، فقالت له الحية: لا، لأني لا أستطيع أن أحس بمشاعر الصداقة نحوك بعد أن رأيت أثر فأسك في الصخرة، وأنت لا تستطيع أن تنسى حين تنظر إلى قبر ابنك (1) . والمقتول؟ حسب الرواية العربية - أخ لا ابن، كما أن هناك عنصرا هاما قد حذف من الرواية اليونانية وهو الذهب، فالحية حسب الرواية العربية قبلت المصالحة، وأخذت تعطي الرجل كل يوم دينارا، فلما استشعر الغنى رأى أنه لم يعد بحاجة إلى الحية، وأخذ يتذكر ما كان من فقد أخيه، ولكن للقصة رواية لاتينية لا تتحدث أولا عن مقتل ابن أو أخ، وإنما عن صداقة عقدت بين رجل وحية، يقدم الرجل بموجبها اللبن للحية وتقدم الحية إليه ذهبا، وأن زوجة الرجل أشارت عليه بقتل الحية، بعد إذ أصبح الذهب لديه وفيرا، وحين أخطأ الرجل الحية وأثرت ضربته في الصخر، هاجمت الحية غنمه وقضت على عدد كبير منها، ثم قتلت ابنه فأشارت عليه زوجته مرة أخرى أن يصالح الحية، وحين حاول الرجل ذلك وأخذ قعبا من لبن   (1) دالي رقم: 51، ص: 115 وملحق بابريوس رقم: 573 ص: 529. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 ليقدمه لها، دلالة على حسن نيته، قالت الحية له: " لن نستطيع أن نعود إلى ما كنا عليه لأني حين أرى أثر الضربة سأتذكر الفأس، وأنت حين ترى سرير ابنك خاليا ستتذكر إساءتي إليك " (1) . هذه الخرافة ترجع فيما يقال إلى أصل هندي (2) ، ومع ذلك فإننا نلحظ فيها تغييرا أساسيا في الرواية العربية، وذلك هو جعل المقتول أخا لا ابنا، لأن ذلك هو الذي يتفق مع النسبة الكبرى من قصائد الرثاء في العصر الجاهلي (3) . وبعد العصر الجاهلي تصبح هذه الروايات أو الخرافات، جزءا هاما من الأدب الإسلامي، حتى إن رواتها لا يترددون في نسبة مثلها إلى الرسول. فقد نسب إلى النبي قوله: " مثل الذي يفر من الموت كالثعلب تطلبه الأرض بدين، فجعل يسعى حتى إذا أعيا وانبهر دخل جحره، فقالت له الأرض: يا ثعلب ديني ديني، فخرج فلم يزل كذلك حتى انقطعت عنقه فمات (4) ". وترد قصة الأثوار الثلاثة في خطبة لعلي ابن أبي طالب، على النحو التالي: " إنما مثلي ومثل عثمان كمثل ثلاثة أثوار كانت في أجمة، أبيض وأسود وأحمر، ومعها أسد فكان لا يقدر منها على شيء لاجتماعها عليه، فقال الأسد للثور الأسود وللثور الأحمر: إنه لا يدل علينا في أجمتنا إلا الثور الأبيض، فإن لونه مشهور، ولوني على لونكما، فلو تركتماني آكله خلت لكما الأجمة وصفت، فقالا: دونك وإياه فكله، فأكله، ومضت مدة على ذلك ثم إن الأسد قال للثور الأحمر: لوني على لونك فدعني آكل الثور الأسود، فقال له: شأنك به، فأكله، ثم بعد أيام قال للثور الأحمر: إني آكلك لا محالة، فقال: دعني أنادي ثلاثة أصوات، فقال افعل، فنادى: إنما أكلت يوم أكل الثور الأبيض (قالها ثلاثا) (5) ، وهذه أيضا من قصص إيسوب (6) .   (1) دالي رقم: 573 ص: 261 وبابريوس، الملحق: 530. (2) عابدين: 42 - 43 نقلا عن:.Ency. of Religion and Ethics (3) بعض الأمثلة قد يكون هاما في تبيان هذه الحقيقة مثل مراثي لبيد والخنساء وكعب بن سعد الغنوي ودريد بن الصمة ومتمم بن نويرة وغيرهم. (4) الدميري 1: 164. (5) الدميري 1: 167، والمستقصى 1: 417 والميداني 1: 17. (6) بابريوس رقم: 44 ص: 59. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 وتعود إلى الظهور تلك القصة التي تتصل بأوميرس عن الليث الذي يأبى أن يلطخ شاربه بدم الخنزير، في رسالة كتب بها المنصور العباسي إلى ابن هبيرة، حين دعاه للمبارزة، ونص الرسالة: " يا ابن هبيرة إنك امرؤ متعد لطورك، جار في عنان غيك، يعدك الشيطان ما الله مكذبة، ويقرب لك ما الله مباعده؟ مثلي ومثلك أن أسدا لقي خنزير، قاتلني، فقال الأسد: إنما أنت خنزير ولست لي بكفؤ ولا نظير، ومتى فعلت الذي دعوتني اليه فقتلتك قيل: قتل خنزيرا، فلم أعتقد بذلك فخرا ولا ذكرا، وإن نالني منك شيء كان مسبة علي وإن قل، فقال: إن أنت لم تفعل رجعت فأعلمت السباع أنك نكلت عني وجبنت عن قتالي، فقال الأسد: احتمال عار كذلك أيسر علي من لطخ شاربي بدمك " (1) وورود هذه الحكاية على هذا النحو في تاريخ إسلامي مبكر، ينفي ما حاول ابن بطلان أن يرسخه في اذهاننا، وهو أن هذه الحكاية مترجمة مباشرة عن اللغة الإغريقية (2) ، إلا أن نفترض أن مثل هذه الترجمة قد تم في تاريخ مبكر جدا قد يرجع إلى العصر الجاهلي. وفي عهد المنصور العباسي نفسه نصادف خرافة أخرى يرويها وزيره أبو أيوب المورياني، فقد كان أبو أيوب يخشى المنصور، فيما قيل، وإذا طلبه للمثول بين يديه اصفر وارتعد، فلما سئل عن سبب ذلك ضرب مثلا فقال: زعموا أن بازيا وديكا تناضرا، فقال البازي للديك: ما أعرف أقل وفاء منك، فقال: وكيف؟ قال: لأنك تؤخذ بيضة فيحضنك أهلك وتخرج على أيديهم فيطعمونك بأكفهم حتى إذا كبرت صرت لا يدنو منك أحد إلا طرت ها هنا وها هنا وصحت، وإن علوت حائط دار كنت فيها سنين طرت وتركتها وصرت إلى غيرها، وأنا أوخذ من الجبال وقد كبرت سني، فأطعم السيء القليل وأونس يوما أو يومين ثم أطلق على الصيد فأطير وحدي، فآخذه وأجىء به إلى صاحبي، فقال له الديك: ذهبت عنك الحجة، أما لو رأيت بازيين في سفود ما عدت اليهم أبدأ، وأنا كل يوم ووقت أرى السفافيد مملوءة ديوكا، وأقيم معهم، فأنا أوفى منك لو كنت مثلك (3) .   (1) البلاذري، أنساب الأشراف 3: 152 وانظر محاضرات الراغب 2: 417. (2) انظر ما تقدم ص: 51. (3) الحيوان 2: 362 والأذكياء: 256 والدميري 1: 101 والجهشياري، كتاب الوزراء والكتاب: 102 ومحاضرات الراغب 2: 417 والغيث 1: 209. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 وهذه القصة؟ وإن لم توجد في خرافات إيسوب - تدل على أن نقل كليلة ودمنة إلى العربية، في حدود هذه الحقبة التي نومئ إليها، كان يمثل رغبة الناس في هذا اللون من الأمثال، كما أنه أيضا كان ذا أثر في توجيه الأنظار إلى الينابيع الفارسية والهندية التي يستمد منها ذلك الأدب. وحين نجد أن أبان بن عبد الحميد اللاحقي وغيره قد نظموا قصص كليلة ودمنة (1) ، ليسهل حفظها في أغلب الظن، وأن سهل بن هارون قد عارضها بكتاب سماه " ثعلة وعفرة " (2) يتجلى لنا أن الاهتمام بهذا اللون من الأدب كان آخذا في الازدياد، رغم أن مصادرنا من القرن الثالث لا تؤيد هذه الحقيقة على نحو مباشر (3) ، ولكن يحق لنا أن نعتبر مصادر القرن الرابع، مصداقا على ما كان يجري في القرنين السابقين، وبخاصة كتب المختارات المتنوعة مثل البصائر للتوحيدي، فإنما هي عودة إلى تنسيق ضروب النشاط الأدبي في ذينك القرنين السابقين. ولما كان ما يهمنا من ذلك الأدب هو مدى لقائه بنظيره اليوناني، فإني سأعرض؟ في إيجاز - نماذج تمثل ذلك اللقاء، على أن يرد أكثر الحكايات بشكله الكامل، في ملحق خاص بها (4) . 1 - قصة الشيخ الذي نصب للعصافير فخا، وضربه البرد، فكلما قبض على عصفور، دمعت عينه مما كان يصك وجهه من برد الشمال، فظنته العصافير امرءا صالحا رقيق الدمعة، فقال عصفور منها: لا تنظروا إلى دموع عينيه، ولكن انظروا إلى عمل يديه (الحيوان 5: 238 - 239 وملحق بابريوس رقم: 193، ص 458) ، وقد مرت حكاية أخرى عن مناسك نصب فخا (انظر: 72 فيما تقدم) ، ويمكن أن تقارن   (1) من هؤلاء الذين نظموا كليلة ودمنة أيضاً سهل بن نوبخت وعلي بن داود كاتب زبيدة، انظر عبد الله بن المقفع لمحمد غفراني خراساني (ط. القاهرة) ص: 255. (2) نشرت قطعة من هذا الكتاب في حوليات الجامعة التونسية (العدد الأول، ص 19 - 40) بعنوان: النمر والثعلب، تحقيق عبد القادر المهيري. (3) لم يعره الجاحظ اهتماما كثيرا في الحيوان، وكذلك ابن قتيبة في عيون الأخبار والمبرد في الكامل؟ الخ. كما ان كتب الأمثال حتى عهدئذ أبرزت جانبا من البيئات المحلية للأمثال دون أن تعنى كثيرا بالمؤثرات الخارجية. (4) انظر الملحق الأول في آخر الكتاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 القصتان بثالثة رواها صاحب العقد (3: 68) عمن صاد قبرة فرجته أن يطلقها على أن تقدم له ثلاث نصائح. ويبدو أن هذا النوع من القصص قد كان ملائما للتعبير عن الحقيقة الخادعة تحت مظهر نسكي. 2 - قصة الذئب الذي أخذ يعدد الذنوب على الحمل افتئاتا، لكي يسوغ لنفسه أكله (1) (الدرة الفاخرة: 294 وانظر الميداني 1: 302 والزمخشري 1: 233 وبابريوس رقم 89، ص: 111 وفايدرس، الكتاب الأول رقم: 1، ص: 91) ويبدو أن هذه القصة قد وضعت في صيغة شعرية، في عهد مبكر، إذ جاءت على هذا النحو (2) : وأنت كذئب السوء إذ قال مرة ... لعمروسة والذئب غرثان مرمل أأنت الذي من غير جرم سببتني ... فقال متى ذا قال ذا عام أول فقال ولدت العام بل رمت ظلمنا ... فدونك كلني لا هنا لك مأكل 3 - قصة الحمار الذين يهين الفيل بقوله له: " يا أخي "، وإذ يستغرب الفيل هذه القرابة يشير الحمار إلى الشبه بين غرموله وخرطوم الفيل (الدرة الفاخرة: 552 ومحاضرات الراغب 2: 416 وفايدرس، الكتاب الأول رقم: 29، ص: 225 وقد جمعت هذه القصة أيضا عند فايدرس معنى الاستعلاء الذي أدى بالليث إلى أن يعف عن دم الخنزير لئلا يلطخ به شاربه) . 4 - قصة الأسد والثعلب والذئب الذين اصطحبوا معا في رحلة صيد، فصادوا حمارا وظبيا وأرنبا، وسئل الذئب أن يقوم بالقسمة فأعطى الحمار للأسد والأرنب للثعلب واحتفظ لنفسه بالظبي، فخبطه الأسد فأطاح رأسه، قم أقبل على الثعلب وطلب إليه إجراء القسمة فقال الثعلب: الحمار لغدائك والظبي لعشائك والأرنب في ما بين ذلك، وقد تعلم القسمة العادلة من رأس الذئب الطائح عن جثته (الدميري 1:   (1) ذكر حمزة في كتاب الدرة الفاخرة أن هذه الخرافة تقع في حديث طويل من حديث الأعراب، وتابعه في ذلك الميداني، إلا أنهما لم يذكراه، ولا ريب في أن ذلك الحديث يمثل الخرافة وما فيها من حوار بين الذئب والحمل، ولكني لم أعثر عليه. (2) يضاف إلى المصادر المذكورة في المتن لهذه الأبيات، محاضرات الراغب 1: 138. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 161 - عن المعافى بن زكريا النهرواني (390/999) صاحب كتاب أنيس الجليس ومحاضرات الراغب 2: 417 وملحق بابريوس رقم: 149، ص: 449، وفي الحديث عن " حصة الأسد " انظر أيضا بابريوس رقم: 68، ص: 83 وفايدرس، الكتاب الأول، رقم: 5، ص: 199) . 5 - قصة الأسد الذي اعتل فزارته جميع السباع إلا الثعلب، فكاد له الذئب، فانتقم منه الثعلب بأن جاء عائدا للأسد ووصف له دواء يشفيه من مرضه وهو مرارة الذئب، فضربه الأسد، وكان ضعيفا، فسلخ بعض جلده، ومضى الذئب ملطخا بدمه والثعلب يصيح في أثره " يا صاحب السراويل الأحمر، إذا جلست عند الملوك فأعقل كيف تتكلم " (البصائر 2: 727 وكتاب الأذكياء لابن الجوزي والدميري 1: 161 ومحاضرات الراغب 2: 416 ودالي رقم: 258، ص: 200 - 201 وبابريوس ص: 473) . ومع أن العبرة في الروايتين متفقة، فثمة فروق أساسية بينهما، منها أن الدواء في القصة الأيسوبية هو جلد الذئب ومرارته، وهو هنالك يموت ولا ينجو بنفسه، وإنما يقف الثعلب فوق جثته شامتا ويقول: " لا بد للمرء من أن ينصح الملك بالحب ر بالكراهية ". 6 - قصة الثعلب (أو الذئب) الذي ابتلع عظما فبقي في حلقه، فاستخرجه الكركي بأجر فلما طالب بأجره قال له الثعلب إن أجرتك خروج رأسك صحيحا من حلق الثعلب (البصائر 2: 702 - 705 والكلم الروحانية: 131 ومحاضرات الراغب 2: 416 وبابريوس رقم: 94، ص 115 وفايدرس، الكتاب الأول رقم: 8، ص: 201) . 7 - قصة الكلب الذي عدا خلف غزال، فقال الغزال: أنك لن تلحقني لأني أعدو لنفسي وأنت تعدو لصاحبك (البصائر 2: 305 وعند بابريوس عن كلب وأرنب بري، رقم: 69، ص: 85 وعند الدميري 1: 160 عن كلب وثعلب وعند ابن الجوزي: 255 عن كلب وذئب) . 8 - قصة الجمل الذي قيل له أتصعد أو تهبط؟ فقال: ذهب الاستواء من الأرض؟! (البصائر 7 الفقرة رقم: 62 وبابريوس رقم: 28، ص: 15) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 9 - قصة الرجل الذي أراد أن يثبت لأبنائه فائدة الاتحاد، فعرض عليهم أن يكسوا حزمة من عصي مجتمعه فما قدروا، ولكن كل واحد منهم كان يقدر على ان يكسر العصا مفردة (1) (بابريوس رقم: ص: 63، وأعتقد أنها مبكرة في تاريخها، وأنها تنسب للمهلب بن أبي صفرة، وإنما أضعها هنا، بحسب الترتيب الزمني (أواخر القرن السابع) لأنها تروى عن زاوي بن زيري أحد زعماء البربر في الفتنة البربرية في الأندلس (انظر لسان الدين ابن الخطيب، الإحاطة 1: 523) . 10 - قصة الجدي الذي وقف على سطح، وشتم ذئبا مارا، فقال له الذئب لست أنت الذي تشتمني إنما يشتمني الموضع الذي أنت فيه (الكلم الروحانية: 131 - 132 وبابريوس رقم: 96، ص: 125) . 11 - قصة ثعلب رأى أفعى فوق جرزة شوك وقد حملها السيل فقال: هذه السفينة لا يصلح أن يصلح أن يكون لها إلا مثل هذا الملاح (الكلم الروحانية: 132 والمجتنى رقم: 4 ومحاضرات الراغب 2: 417 وانظر تخريجها عند روزنتال، حيث يذكر أن لها شبها في قول من أقوال أحيقار، النص العربي رقم: 28) . 12 - قصة ثعلب أراد أن يصعد حائطا فتعلق بعوسجة فجرحته فلما لامها قالت: لقد أخطأت حين تعلقت بي وأنا من عادتي أن أتعلق بكل شيء (الكلم الروحانية: 132 ومحاضرات الراغب 2: 417 وملحق بابريوس ص: 425 رقم: 19 وهي عند دالي رقم 19، ص: 102) . 13، - 14 - قصة الكلب الذي عير الأسد بنكوله، وقصة الخنزيرة التي عيرت اللبؤة بقلة الأولاد (وقد مرت القصتان ص: 50؟ 51، وهما عن ابن بطلان، ومر تخريجهما) .   (1) ليست هذه القصة من الخرافات على ألسنة الحيوانات. ولكني أوردها هنا لوقوعها في المصادر العربية وعند بابريوس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 15 - تمثل برسيس (Persius) (1) لما بلغة أن عدوه اغتابه فقال: بلغنا أن كلبا وقردا اجتازا بمقبرة سباع، فقال القرد للكلب، اصعد بنا نترحم على إخواننا هؤلاء، فقال الكلب: ومن أين بينكما معرفة؟ فقال القرد: سبحان الله! ما اعلم شيئا من هذا، ولكني كنت أود أن يكون أحدهم حاظرا وتقول هذا (رسائل ابن بطلان، الورقة: 162 وبابريوس رقم: 81، ص: 101 والملحق ص: 435 - 436 حيث تخريجها) . 16 - ذكروا أن فيلسوفا أودع بعض أمناء قضاة أثينية ثوبا فضاع عنده فأغتنم به الفيلسوف غما شديدا، فعير بذلك، فقال: بلغنا أن خطافة عششت في مجلس قاض فسرقت الحية فراخها، فعزاها الطير فلم تتعز فأنكر ذلك عليها فقالت: والله ما بكائي لتفردي دون الطير بهذه الرزية وإنما بكائي لما يأتي علي من الجور في مجلس الحكم (رسائل ابن بطلان، الورقة: 162 وتاريخ الحكماء: 309 وبابريوس رقم: 118، ص: 155) . هذه نماذج وحسب، يمكن أن يضاف إليها غيرها، وبعضها قد عرفه العرب مترجما عن الإغريق (مثل 6، 10 - 16) ، وبعضها مشترك بين أمم مختلفة، كما أن قسما منها قد يكون عربيا خالصا (انظر رقم: 8) ، وقد زاد نطاق التلاقي بين الأدبين بعد إذ أصبح " كليلة ودمنة " جزءا من التراث العربي (2) ، كما أن نطاق الخرافات الأيسوبية أتسع على مر الزمن، فنسب إلى إيسوب كثير من الحكايات التي كانت من قبل تروى عن غيره، وأكتفي هنا بإيراد مثلين:   (1) ورد عند القفطي (109) باسم " ثوسيوس " وقال: انه شاعر يوناني قد أحكم الطريقة اليونانية، وهو ينقل عن ابن بطلان. (2) قارن قصة النسر الذي علم السلحفاة كيف تطير (بابريوس رقم: 115) بقصة السلحفاة والبطتين في كليلة ودمنة: 86 - 88 وقصة الزانيين (ملحق بابريوس رقم: 520) بقصة المرأة وجارها المصور (كليلة ودمنة: 108) وهناك مجالات أخرى للمقارنة لمن أراد الاستقصاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 1 - قصة مصارع كان يفتخر فقيل له إنه لا معنى لافتخاره لأنه لم يغلب من هو أقوى منه أو من هو مثله وإنما غلب من هو دونه (رويت لسيمونيدس الشاعر في الكلم الروحانية: 119 ومنتخب الصوان: 88 وانظر فايدرس رقم: 13، ص: 391) . 2 - قول ديوخانس لرجل أصلع شتمه: أما أنا فلا أشتمك ولكنني أغبط شعرك على مقدمة رأسك فإنه قد استراح منك (الكلم الروحانية: 109 وملحق بابريوس رقم: 248، ص: 471) . وقد تم للخرافات العربية اتجاه جديد حين ابتعد بعضها عن دائرة العبرة الأخلاقية، وأصبح جزءا أساسيا من الفكاهات الشعبية أو النقد الاجتماعي والفكري والسياسي، وان لم تبارح الدائرة العامة للأمثال. وتتجلى السخرية الفكاهية في مثل: قالت الخنفساء لأمها: ما أمر بأحد إلا بزق علي، قالت: من حسنك تعوذين (1) ، ومن التعليقات الفكرية الحادة ما تنطوي عليه القصة التالية: دخل كلب مسجدا خرابا فبال على المحراب، وفي المسجد قرد نائم، فقال الكلب: أما تستحي أن تبول في المحراب؟! فقال الكلب: ما أحسن ما صورك حتى تتعصب له (2) . أما النقد السياسي المباشر فتصوره هذه القصة: كان بالموصل بومة وبالبصرة بومة فخطبت بومة الموصل إلى بومة البصرة بنتها لإبنها، فقالت بومة البصرة: لا أفعل إلا أن تجعلي لي صداقها مائة ضيعة خراب، فقالت بومة الموصل: لا أقدر على ذلك الآن، ولكن إن دام والينا علينا؟ سلمه الله - سنة واحدة فعلت لك ذلك (3) ، ونختم هذا اللون بهذه الحكاية. نظر ثعلب إلى حمل يعدو فقال: ما وراءك؟ قال: جعلت فداك، سخرت الحمير والبغال، فقال: وما أنت والحمير والبغال، قال: أخاف جور السلطان (4) . وأحيانا أصبحت   (1) البصائر 2: 464 وتذكرة النهروالي: 96 نقلا عن التمثيل والمحاضرة: 379 وابن العبري: 51. (2) البصائر 2: 719 ومحاضرات الراغب 2: 417. (3) الدميري 1: 147 ومحاضرات الراغب 1: 101 وسراج الملوك: 107 وابن العبري: 51 وقد قدم لها بمقدمة تجعل جوها غير عربي. (4) البصائر 2: 719. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 هذه الخرافات مادة لتصوير بعض جوانب من العصبية، كالمفاضلة بين البلدان مثلا، ومن أوضح الأمثلة على ذلك قصة الثعلب الشامي والثعلب العراقي، ودعوى الأول، وقدرة الثاني على ابتكار الحيلة للنجاة (1) . ومهما يكن من أمر هذه الصبغة التي أصبحت تمثلها بعض الخرافات، فإن الأثر الإيسوبي ظل ملموسا على مر الزمن، وتغلغل هذا الأثر في أعماق الحياة الشعبية حتى أصبح جزءا منها، وقد مر بنا كيف احتفظت الأمثال العامية حتى القرن العاشر الهجري؟ وربما بعده - بقصة الذبابة التي شاءت أن تحط على نخلة أو جميزة (2) ، ومن غير المستبعد أن يكون هذا الأثر قد واكب الآداب العامية منذ أن بدأت تأخذ حيزها إلى جانب الأدب الفصيح، ونحن نجد في الأمثال التي احتفظ بها الوهراني في مناماته، هذا المثل: " قال الحائط للوتد: لم تشقني؟ قال: سل من يدقني؟ لم يتركني ورائي، الحجر الذي من ورائي " (3) وهو مما ورد في أمثال إيسوب (4) ، وفي ذلك الأدب الشعبي نجد الجمل الذي تجنب الأدب الفصيح أن يمس جانبه بالسخرية (5) ، يصبح؟ كما هو أحيانا في بعض خرافات إيسوب - موضع سخرية وتندر، من ذلك هذا المثل الذي أورده الوهراني: " قالوا للجمل: ما لرقبتك معوجة؟ قال: وأي شيء في مقوم حتى تكون رقبتي مقومة؟! " (6) ، وهذا المثل الآخر الذي أورده الأبشيهي: " قالوا للجمل زمر،   (1) البصائر 2: 727 - 729 ومحاضرات الراغب 2: 416 دون توضيح لنسبة كل من الثعلبين. (2) انظر ما تقدم ص: 67. (3) ركن الدين محمد بن محمد الوهراني: منامات الوهراني: 70، وروائي الأولى تعني: ورأيي. (4) ملحق بابريوس رقم: 270، ص: 476. (5) في الأدب الفصيح أحيانا قدح في الجمل، وذلك أمر تقتضيه المقايسة بين ضخامة الجسم وقلة العقل، ومثل هذا يصدر في الغالب عن رجل ضئيل يعبره الناس بضآلته، فهو يرد على ذلك بقوله: لقد عظم البعير بغير لب ... فلم يستغن بالعظم البعير (ديوان كثير عزة: 530) ، ويتحاشى هذا الموقف آخرون، كما في قول القائل " جسم البغال وأحلام العصافير " وكان في مقدوره أن يقول " جسم الجمال ". (6) منامات الوهراني: 171 - 172. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 قال: لا شفف ملمومة، ولا أيادي مفرودة " (1) ، ومن ثم يتجلى كيف ظل الأدب الشعبي يهتم بهذا النوع من الأمثال والخرافات، ولعل من أبرز الشواهد على ذلك، إدخال قصة " أحيقار " كلها ضمن الإطار القصصي في ألف ليلة وليلة، ذلك الكتاب الذي ينبئ أيضا عن عدد من مواطن اللقاء مع الأساطير الإغريقية (2) .   (1) المستطرف 1: 52 وقارن ذلك بما ورد عند بابريوس رقم: 80، ص: 99 حيث اراد صاحب الجمل في حفلة شرب ان يقسر جمله على الرقص، فقال له الجمل، حتى أتقن المشي أولا. (2) سيأتي الحديث عن هذه الناحية في فصل تال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 " 5 " " ترجمة الشعر الخمري اليوناني إلى العربية " نظرة في بيئة الأندلس والقيروان " قد يقال إن ما ترجمه العرب من أشعار الأمم الأخرى لا يتعدى أقوالا موجزة اختلط فيها الشعر بغير الشعر، وهي تندرج في معظمها في باب الحكم وتشتبه بها حتى ليعز التمييز بينهما، فإذا تجاوزوا ذلك استأثرت باهتمامهم الأمثال والخرافات التمثيلية، فإذا تجاوزوا هذه أيضا وقفوا عند نوع من المنظومات ليس لها من الشعر حظ إلا الوزن، عرفوها عند الهند واليونان، ولعلهم تأثروها فيما نظموه من العلوم، من ذلك كتاب دروثيوس الصيداوي (القرن الأول ب. م.) في الفلك، وهو يتألف من ستة فصول أو كتب، على وزن سداسي (Hexameter) ، وقد ترجمه أو اختصره ثوفيل الرهاوي (- 785) (1) وشرحه عمر بن الفرجان (- 815) (2) ، ويقول الأستاذ كريمر إنه كان ذا أثر لدى العرب وغيرهم يفوق الأثر الذي تركته الأعمال الشعرية الأخرى المترجمة عن أصل إغريقي (3) ، ولا بد أنهم عرفوا كتب ديمقراطيس نفسه في الأدوية وأنهما مكتوبة بشعر موزون في اليونانية (4) وأن ديمقراطيس نفسه قد وصف الدواء المتخذ   (1) ثوفيل Theophilus)) كان رئيس منجمي المهدي العباسي (القفطي: 109) . (2) عمر بن الفرجان أبو خفص الطبري أحد رؤساء التراجمة والمتحققين بعلم حركات النجوم وأحكامها، كان منقطعا إلى يحيى بن خالد بن برمك ثم إلى الفضل بن سهل. وقد ترجم للمأمون كتبا كثيرة وألف كتبا أخرى (القفطي: 241 - 242) . (3) كريمر، التعليق: 511 - 512. (4) تحقيق ما للهند: 61. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 باللعابات التي استخرجها ماناقراطس بشعر موزون ذي ثلاثة مصاريع (1) ، ولعلهم لم ينتظروا حتى عهد أبي الريحان البيروني ليعرفوا أن للهند كتبا في العلوم مقدرة بأوزان كالأراجيز (2) ، وأنهم اختاروا أن تكون منظومة ليسهل استظهارها (3) . قد يقال كل ذلك، ما دامت مصادرنا لا تزال تظن علينا بأي تغيير ولو جزئي، في الصورة العامة، وربما كانت إضافة شيء يسير إلى الصورة السابقة أمرا عزيزا، فلا أقل من وضعها في أبعاد جديدة وتحت أضواء كاشفة، وهذا هو ما ستحاول تحقيقه الفصول التالية. أما هنا، فإن تتبع المصادر في سبيل استنطاقها عن شيء جديد يضاف إلى الصورة المعروفة، هو الحافز الأول، وفي هذا الصدد كان لا بد من الاتجاه إلى الأندلس والقيروان. ومن المستبعد أن تكون الأندلس قد تلقت تأثيرا مباشرا من الأدب اليوناني، وإنما اعتمدت على ما ترجم من آثار يونانية في المشرق، ولكن المثقفين، وغير المثقفين بالأندلس كانوا يحسنون اللاتينية أو صورة منها، وقد كانوا يتحدثون بهذه اللغة منذ عهد مبكر، وكان المثقفون منهم يدركون دقائق الفروق بينهما وبين العربية، وعندما وضع ابن حزم كتابه في تقريب حد المنطق، توقف عند بعض المصطلحات فقال: " ومن أحكم اللغة اللطينية عرف الفرق بين المعنيين اللذين قصدنا في الاستفهام "، وقال في موضع آخر من كتابه هذا " ولهذا المعنى في اللطينية لفظة لائحة البيان (4) " والشواهد على اتقان الأندلسيين للغة اللاتينية كثيرة، ونحن نعلم أن الأندلسيين ترجموا كتاب أوروسيوس (هروسيس) ، وهو كتاب في التاريخ، وصل إليهم في عهد عبد الرحمن الناصر (5) ، وقد بقيت نسخة من هذا الكتاب محفوظة بمكتبة جامعة كولومبيا (تحت رقم، X 893. 712 H) ، وقد وصف هذه النسخة، وترجم بعض أجزائها إلى الإيطالية   (1) المصدر السابق: 73. (2) المصدر السابق: 61. (3) المصدر السابق: 65 - 66. (4) ابن حزم، التقريب لحد المنطق: 15، 54. (5) عن هذا الكتاب وانتقاله إلى الأندلس انظر ابن أبي أصيبعة 2: 47 وهو ينقل عن ابن جلجل في كتاب " طبقات الأطباء والحكماء "، انظر مقدمة الكتاب: كط - لج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 الأستاذ دلافيدا (1) . وعند اطلاعي على هذه النسخة تبين لي أنها في الحق تضع القارئ أو المثقف الأندلسي يومئذ في جو عجيب من الأخبار والأساطير والأشعار اليونانية والرومانية. فمن قرأ تاريخ أوروسيوس عرف قصة الحروب الطروادية وصلة أوميرس (ميرش الشاعر) بها، فهنالك نص واضح على أن سبب الحروب إنما كان اختطاف زوجة أمير من أمرائهم اسمها إلانة (Helen) وأنه " كان لابتزازها خبر يطول وصفه " وأن جميع الروم الغريقيين احتموا لها " وتحالفوا وتعاهدوا على خراب مدينة طروية (Troy) ؟ فغزوها بنحو من ألف مركب وحاصروها عشر سنين "، ثم كيف تم فتحها على نحو عجيب بعد أن سفكت الدماء وهلكت أمم " مثل الذي وصفه ميرش الشاعر في شعره الواضح الفصيح، إلى ما وصفه غيره من الشعراء وواضعي القصص ". ولا بأس من إيراد قصة الحصان الخشبي كما يرويها أوروسيوس: " وذلك أن الروم الغريقيين لما عجزوا عنها بعد محاصرتهم إياها عشر سنين عملوا صورة صورة من خشب عظيمة، مثقوبة تدور على فلك، وأدخلوا فيها خمسمائة مقاتل، ثم أمرهم المشير عليهم بذلك أن يضربوه بالسياط ضربا وجيعا فضربوه وتركوه مع الصورة، ثم احتملوا ودخلوا مراكبهم وعبوا كتائبهم يظهرون الانصراف إلى بلدهم، فلما خرج أهل المدينة وجدوا الصورة والمضروب أمامها، فسئل عنها فقال لهم: إن هذه الصورة وثنهم الذي يعبدونه، وكانوا قبل ذلك قد أظهروا عبادتها حينا، وكنت أنا خادمه وقسه، فلما كشفوني عن قوله في أمر هذه المدينة أعلمتهم عنه أنها غير مأخوذة ولا مقدور عليها، فغضبوا من أجل ذلك علي فضربوني كما تروي، وكان وجيها فيهم، معروفا عندهم، وأنا أعلمكم أنه رب صدوق، فإن أكرمتموه أعانكم عليهم ودلكم على هلاكهم، ففرحوا بذلك، ثم أخذوا الصورة وجروها على فلكها، حتى وصلت المدينة، ولما يسعها باب فتحوا لها ثلمة في السور، فلما كان الليل أقبل الذين كانوا أظهروا الانصراف إلى بلدهم؟ " وقد قرب هذا الكتاب إلى المثقفين بعض الأساطير وعرفهم بها، من ذلك أسطورة رجل من الحدادين في الروم اسمه ديدال (Daedalus) وابنه ييقار (icaros) وأنهما عملا   (1) انظر هذا المقال في: AI - AndaIus XIX (1954) PP. 257 - 293 وهو مضمن أيضا في كتابه: Note di Storia Letteraria Arabo - Ispanica، Roma، 1971، PP. 79 - 107. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 أجنحة من ريش وكانا يطيران بها (1) ، ولكن الأهم من ذلك أنه يضع أولئك المثقفين في جو من الشعر، يبعدهم إبعادا كاملا عن التصور بأن العرب وحدهم هم المتميزون بفضيلة الشعر. ففي كل موقف اسم شاعر أو أسماء شعراء، فالحروب بين فارس وأثينا وإسبارطة وصفها بلقاط الشاعر والحروب بين الاقطانيين والطشاليين (Thessalians) وصفها أيضا هذا الشاعر نفسه، وفي حرب المشانيين (Messenians) واللجذمونيين (Lacedaemonians) كان أمير اللجذمونيين هو تراؤش الشاعر (Tyrtaios) فلما غلب قومه وتهيبوا القتال نظم قصيدة أنشدها إياهم فحييت بها قلوبهم وعادوا للقتال وأبلوا فيه بلاء حسنا. وفي زمان شحشار (Xerxes) ملك الفرس كان يعيش بأثينا الفلاسفة اشيليوس (Aeschylus) وبناروش (Pindarus) وشفقلاؤس (Sophocles) الذين إليهم أشعار المراثي. ومن الطريف هنا أن كلمة " المراثي " تطلق على التراجيديا، وأن الذين استغلوا كتاب الشعر شرحا واقتباسا إنما سموها " المدائح ". وتتسع دائرة الحديث عن الشعر: فسليمان شاعر على ما يحكيه ديوان أخبار الأنبياء، له في الكلام الموزون ألف قصيدة وخمس قصائد في طريق التهليل، على مثل ما كان الأنبياء يستعملون فيه موزون الكلام في عصرهم ذلك. وشبيلة (Sibyl) العالمة تنسب إليها الأشعار وأنواع من الكهانات والعلوم. وللرومان شعراءهم من أمثال مرقش (Marcus) وفرقيلش (Virgil - Virgilius) وججرون (Ciceron) . كذلك ترد في الكتاب إشارات إلى مواطن من الشعر الروماني، منها قوله عند الحديث عن بعض الحروب: " وهي الحروب التي قال فيها فرقيليش أشعاره المعروفة عند العامة (2) ، وفرقيليش هذا هو الذي يقول في سبأ: " أن أغصان البخور للسبأيين خصوصا ". وثمة شاعر روماني آخر يقول في نهر صرنة الذي فاض عندما غزا أنيبال (Hannibal) إيطاليا: " ناهيك بالأبحر التي مادتها صرنه ". ومن ذلك؟ وهو شيء يلفت النظر حقا - أن المترجم نقل بعض الشعر الروماني إلى شعر عربي، أو   (1) يشير إلى الأسطورة اليونانية التي تتحدث كيف هرب ديوالوس وابنه ايقاروس من سجن في كريت على أجنحة من الريش والشمع، وان الابن لم يسمع أبيه فأعتلى في طيرانه حتى أقترب من الشمس، فذاب الشمع وسقط في البحر جنوب جزيرة ساموس. (2) تاريخ اوروسيوس: 283 وكتاب دلافيدا: 99. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 لعله حاكي الشعر الروماني بقول من عنده، فقد جاء هنالك: وفي ذلك (أي في محاولة صلب المسيح) يقول مركش الشاعر الروماني، وكان مجوسيا (في كلمة طويلة) : لما رأى الناس الكسوف مخالفا ... لسبيله حسبوه ليلا سرمدا فرحت له الدنيا وظنت أنه ... أمرا عليها لا يزال مؤبدا وفيها يقول: صلبت بنو يعقوب يوما ربها ... إيسوعها فاديها الممجدا ظنت بأن تخفي بذلك أمره ... وأبى الإله بأمره إلا الهدى ثم ذكر الحواريين فقال: وكأنني حينا بنور إياته ... يعلو ويسمو في الدهور مؤيدا وقد يكون لهذا الشعر في ذاته قيمة يسيرة أو لا يكون، ولكن وجوده يفتح أفقا جديدا للأمل في وجود صور أخرى من هذا اللقاء، بين الأدبين العربي والروماني، ترى ألم يتساءل المثقفون الأندلسيون عن ماهية أشعار فرقيليش المعروفة عند العامة، ثم ألم يحاولوا التعرف إليها؟ أما القيروان فإن المجالات الثقافية التي توفرت في زمن بني زيري، وخاصة في عهد باديس وابنه المعز، ما تزال بحاجة إلى مزيد من البحث والاستجلاء، وقد تحملنا الأسماء الأدبية التي لمعت في تلك الفترة مثل عبد الكريم النهشلي وابن شرف وابن رشيق والحصري الضرير والحصري صاحب زهر الآداب، على القول بأننا هنا نواجه ثقافة عربية خالصة، ولكن التفاتة إلى زاوية أخرى قد تجعل هذا الحكم يبدو متحيزا، وحسبنا أن نذكر راعي الأدب والأدباء في عصره ومن بأسمه ألف ابن رشيق كتاب العمدة أعني علي بن أبي الرجال، فقد كان مضطلعا بالثقافة اليونانية، وكتابه " البارع " في علم النجوم خير دليل على ذلك، ففي هذا الكتاب نقول مستفيضة عن المصادر المترجمة والمؤلفة في هذا العلم، وقد احتفظ بكثير مما ترجمه توفيل أو فسره عمر بن الفرخان من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 كتاب دروثيوس المنظوم؟ الذي تقدم ذكره - وخاصة في باب " الاختبارات " (1) . وفي الكتاب ما يدل على أن ابن أبي الرجال كان يمارس العمل بالنجوم أيضا فهو ينبئنا أنه حكم اعتماداً على حساباته النجومية في عدة أحداث، ويقول إن المعز بن باديس طلب إليه أن يستخرج مدة ولاية ثقة الدولة أحمد بن الحسين أمير صقلية، فحكم بأن المدة ستكون سبع عشرة سنة شمسية ونصفا، فلما بلغها وزاد عليها مدة جمعة قتل، كذلك استكشفه المعز عن مدة ولاية المنصور بن عبد الله بن محمد لبيت المال فوجد أنها خمسة وخمسون شهرا، قال: فو الله متا زاد عليها سوى أحد عشر يوما، قال: " وقد جربت وحكمت في عدة من العمال وولاية الثغور والمدن والدواوين وبيت المال عدة لا أحصيها، فما انخرم منها شيء واطردت على سنن واحد؟ " (2) ، ولا نستبعد أن يكون لعلي بن أبي الرجال الذي كان في رأي ابن رشيق مجليا في فني المنظوم والمنثور على السواء (3) أثر في من حوله من طلاب العلم والأدب، وفي توجههم وجهة الثقافة اليونانية، وحين نتذكر أثر ابن أبي الرجال والميدان الذي استأثر باهتمامه لا نستغرب أن يقول ابن رشيق، " ومن فضائله (أي الشعر) أن اليونانيين إنما كانت أشعارهم تقيد العلوم والأشياء النفيسة (4) والطبيعية التي يخشى ذهابها " (5) . وفي مثل ذلك الجو نستطيع أن نفهم موقف عبد الكريم النهشلي في النقد على نحو أوضح، فهو يسرع إلى المقارنة بين العرب (6) ، وينظروا إلى قسمة الشعر من زاوية الخير والشر (7) ويجيز الفوارق المتأتية لا عن اختلاف المقامات والأزمنة وحسب، بل عن اختلاف البلاد أيضا " ويستحسن عند أهل بلد ما لا يستحسن   (1) قد اعتمدت على النسخة المحفوظة في مجموعة يهودا رقم: 292 بجامعة برنستون، من هذا الكتاب، انظر الورقة 55 ب حيث يقول " غير أن الذي عليه العمدة هو قول دروثيوس؟ "، ويبدأ باب الاختيارات على الورقة: 224/أ، وانظر أيضا مقالة كريمر، الملحق: 512 وما بعدها. (2) البارع، الورقة: 102/أ - ب. (3) ابن رشيق: كتاب العمدة 1: 6 (ط/ 1907) . (4) لا أرى هذه القراءة صحيحة، ولعل الصواب " النفسية " لتجيء على وفق " الطبيعية ". (5) العمدة 1: 9. (6) يرى عبد الكريم أن الشاعر عند العرب هو المتغزل المتماوت، وعادة العجم أن يجعلوا المرأة هي الطالبة والراغبة المخاطبة (العمدة 2: 100) . (7) العمدة 1: 76، 28. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 عند أهل غيره " (1) ، ولا إخال إلا أن هذا كله يعود إلى شيء من أثر الثقافة اليونانية. ولم تكن تلك الحلقة الثقافية التي التأمت حول ابن أبي الرجال إلا نتاجا طبيعيا لتلك الحقبة الباديسية، التي يمثلها المؤرخ الكبير إبراهيم الرقيق (حوالي 425/1033) (2) وقد كان إبراهيم جامعا لضروب من الثقافات الضرورية لمن يقوم بدور النديم ودور المؤرخ، وإذا كانت لفظة " الرقيق " صفة تتوجه إليه، لا إلى أبيه، فربما أوحى ذلك أنه لم يكن بعيدا بحكم الانتماء عن ثقافات أخرى غير العربية. مهما يكن من شيء فإن اطلاعه على الثقافة اليونانية أمر تشهد به مؤلفاته، وخاصة كتابه " قطب السرور "، فلأول مرة يقدم لنا هذا الكتاب أشعارا يونانية مترجمة إلى العربية، لا في الحكمة والأمثال والخرافات، ولا في المنظومات العلمية، وإنما في موضوع آخر كنا نظن أن العرب قد وقفوا فيه من يحس بالاكتفاء والرضى الذاتي فيه، وذلك هو شعر الخمر. ففي الفصل عقده الرقيق بعنوان " منافع الأشربة ومضارها على مذاهب الفلاسفة " (3) ، لم يكتف بالإحالة على آراء جالينوس وبقراط وكتاب روفس في الشراب ترجمة قطسا ابن لوقا وكتاب " الكرمة " لارسطاطاليس وآراء أطباء العرب مثل إسحاق بن عمران ومحمد بن زكريا الرازي، وإنما ضمن ذلك الفصل شعرا في الخمر لشعراء يونان. ولسنا نستطيع أن نجزم إن كان الرقيق؟ وأصله قد يغري بالقول إنه كان يعرف لغة أخرى غير العربية - هو الذي ترجم تلك الأشعار، أو أنه وجدها مترجمة ونقلها، وإن كان قد وجدها مترجمة فمتى ترجمت، وهل كان مترجمها مشرقيا أو مغربيا؟ وإن كان قد نقلها فهل تم ذلك عن طريق مصادره الطبية أو الأدبية، وإذا كانت الثانية فما هي تلك المصادر؟ أسئلة كثيرة لا يمكن الإجابة عليها، على أن ثمة ما يوحى بأنه كان يعرف اليونانية، إذ قال في التعليق على إحدى المقطعات المترجمة: " وهذا بكلام اليونانيين شعر موزون " (4) ، وهي قولة يحاول أن يؤكد بها أن الأصل   (1) العمدة 1: 58. (2) في ترجمة الرقيق انظر معجم الأدباء لياقوت 1: 288 (الطبعة الأوربية) وورقات لحسن حسني عبد الوهاب 2: 438 ومقدمة المنجي الكعبي على القطعة الباقية من تاريخه، بعنوان: " تاريخ أفريقية والمغرب " تونس 1968. (3) إبراهيم الرقيق: قطب السرور في أوصاف الخمور: 225 وما بعدها. (4) قطب السرور: 260 وانظر القطعة رقم: 3 في ما يلي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 لديه على غير ما توحي به الترجمة، إن لم يكن ينقل ذلك التعليق عن شخص آخر. من هم أصحاب هذه القطع الشعرية؟ من الصعب أن يقال في هذا الصدد قول دقيق، لأن أسماء الشعراء قد حرفها النساخ، ولأن بعض الأسماء قد تصرف بها المحقق، على هواه، كما أن المؤلف نفسه في حالات أخرى لم يذكر أسم الشاعر. أما القطع نفسها فتتفاوت طولا بين سطر وعشرة أسطر، غير أنها جميعا تتمتع برفعة في الأسلوب، حتى إن إحداهما لترد في معظمها على شكل مسجوع (1) ، وهذا أمر قد يجعلها مستساغة أكثر لدى القارئ العربي، ولكنه يلقي شكا على الدقة في الترجمة. ولكن من اللافت للنظر أن جمال الأسلوب ليس وقفا على القطع الشعرية بل إنه يشمل أقوال الحكماء والأطباء التي وردت في هذا السياق. أما من حيث المحتوى فيجب أن أقرر أن جميع القطع تمجد صفات الخمر، ما عدا قطعة واحدة منسوبة لأفلاطون (2) ، وربما كانت تلك القطع بذلك تثبت قوة انتسابها إلى الشعر. ويتطلب اسطفن الرهاوي (3) - صاحب إحدى القطع - وقفة خاصة إذ يقر المحقق أن الاسم غير واضح في النسخة الأصلية، ولست أعتقد أنه اسطفن ابن بسيل الذي ترجم الأقوال المناندرية، لأنه 0في أعلى تقدير - مترجم لا منشىء، ورغم اهتمامه الكبير بترجمة الأشعار اليونانية، فانا لا نستطيع أن ننسب إليه المقطعة التي أوردها الرقيق، كما لا نستطيع أن نصدق أن الرقيق يدرجه بين الحكماء والفلاسفة، وعلى هذا فإن في سند الرواية سقطا، ولا بد فإن لم يكن الأمر كذلك فربما افترضنا أن صاحب هذه القطعة العميقة شاعر يوناني قد تحرف اسمه أو تصحف. وفي القطعة المنسوبة إليه نبرة من التوحيد، وهذا غير مستغرب في الآراء والأفكار الفلسفية اليونانية المنقولة إلى العربية، لأنها قد حورت لتطابق المشاعر الإسلامية. ويجري نص القطعة المشار إليها على النحو التالي: - 1على أي شيء نشكر رب الكل ومبدع الأشياء، أعلى اصطناعه الخمرة أم على أنه ملكنا إياها وأباحها لنا مع أباح من الذهب والفضة، فمن بين محروم ومرزوق،   (1) انظر القطعة رقم: 5 في ما يلي. (2) قطب السرور: 257. (3) قطب السرور: 258. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 لأن هذه الثلاث معادن بها قوام هذا العالم، والخمرة أفضل الثلاثة، لأنه الاثنين جوهر البدن، والخمرة جوهر الروح، لأن النفس تتربى بالخمر وتسر بها وتفرح لها، والبدن يتربى بالآخرين ويسر بهما ويفرح لهما، والخمرة تستعمل من داخل والجوهر من خارج، والداخل أفضل (1) . 2 - والقطعة الثانية المؤلفة من سطر تنسب إلى الحكيم (2) مع التأكيد بأنها ترد في شعره لا في حكمته، ولكن من هو الحكيم المقصود؟ ذلك أمر لا يمكن تبينه، فهو قد يكون ارسطاطاليس كما قد يكون أوميرس، يقول الحكيم: " الخمرة جوهر ذائب والجوهر خمرة جامدة "، وهذا القول قد ورد نصا عند أبي نواس (3) : أقول لما تحاكيا شبها ... أيهما للتشابه الذهب هما سواء وفرق بينهما ... أنهما جامد ومنسكب 3 - وترد القطعة دون ان يذكر اسم ناظمها، ولكن لا مجال للشك؟ حسب تصريح الرقيق - بأن صاحبها شاعر، وهي تتحدث عن الشراب على النحو الآتي: " هو أخو إخوان ونديم ندمان، يشربه أقوام كرام يشاكلونه في الأفعال، يتصاحبون ويتزاورون، ويتحابون ويتآلفون، لا كأقوام يرون الحسنات مساوئ والمساوئ حسنات، غفران الذنوب طبع لهم، وترك الأحقاد سنة لهم، لا يتجاوزون طبعهم ولا يتركون سنتهم، الحسنة الصغيرة عندهم عظيمة، والسيئة العظيمة عندهم صغيرة مغفورة " (4) . هذه القطعة السابقة هي التي شغفها الرقيق بقوله: " وهذا بكلام اليونانيين شعر موزون "، والقطعة تتحدث عن المشاكلة بين الخمر والشاربين في كرم الطباع، على   (1) قطب السرور: 258. (2) المصدر نفسه. (3) ديوان أبي نؤاس: 243 (آصاف) وقطب السرور: 520. (4) قطب السرور: 259 - 260. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 أساس من التكافؤ، وتذكر أيضا من هذه الناحية بقول أبي نؤاس (1) : والخمر قد يشربها معشر ... ليسوا إذا عدوا بأكفائها ثم تأخذ في الحديث عن فضائل الندامى في الألفة والتغاضي والمغفرة، وربما كان الحديث عن أخلاق الندامى في الشعر العربي مستفيضا، ولكن هذه القطعة ما تزال تنفذ إلى خصائص فيهم يمر بها الشعر العربي مجملا دون تفصيل. - 4 والقطعة الرابعة تنسب إلى من اسمه لبيروس، ومن الصعب أن نجزم أهو شاعر أم لا، ووقوع هذه القطعة بين اقتباستين شعريتين لا يمكن أن يتخذ دليلا على أنها مقطوعة شعرية، ومع ذلك فإن طبيعتها ترجح أنها شعر، يقول لبيروس: " ينتقد بالخمرة الناس فيعرف الزائف منهم والمغشوش كالحجر الذي يحك به الذهب فيعرف خالصه من مغشوشه، كذلك الخمر في الأشربة إن عدت فيما يطرب النفس وينشر السرور والفرح ويسلي الأفكار الرديئة كانت حقيقة بذلك، وإن عدت فيما يزيل الهموم ويذهب الغموم اجتمع ذلك فيها، وإن قلنا إنها تنشط الكسلان وتروي العطشان وتشجع الجبان وتسخي البخيل فيعطي الجزيل ويراه نزرا قليلا وتعزي عن المصائب وتسلي عن العشق المبرح، ولولاها لم تعمل الملاهي، ولكانت الأحزان والهموم دائمة لا تبرح، لكنها تزيلها وتذهب بها وتبدلها بأضدادها " (2) . وأول ما يلفت النظر في هذه القطعة طبيعتها التحليلية، فهي تبدأ بالقاعدة العامة. " الخمر محك وصيقل " ثم تذهب بعد ذلك في جزئيات تتحدث عن نواحي مختلفة من الآثار الإيجابية للخمر، مع إغفال التعرض لآثارها السلبية، وتلك الآثار الإيجابية تتردد في الشعر العربي، وليس فيها شيء كثير يميزها من حيث المحتوى، ولكنها؟ من ناحية ثانية - تذكر بشعر للشاعر اليوناني ألقايوس (Alcaeus) (3) ، إذ يقول في إحدى قطعه: " إن كان امرؤ يشكو ألما فليشرب؟ وإذ قال لك بعضهم: لا خير   (1) ديوان أبي نؤاس: 239. (2) قطب السرور: 260. (3) كان في أواخر القرن السابع وأوائل السادس (ق. م) ، من مواطني جزيرة لسبوس، شارك في الحياة السياسية ونفي، وبينه وبين أبي نواس مشابه في غير ما وجه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 في الشراب فقل له: أغرب عن وجهي " (1) ويقول في أخرى: " وخير دواء أن تدعو بالخمر وتمعن في الشراب " (2) ولا ريب في ان هذا الموضوع عام شائع في الشعر الخمري، ولا يسعفنا على ترجيح نسبة المقطوعة السابقة إلى القايوس (وإن كان رسم الكلمة قد يلتبس برسم لبيروس) . - 5 وآخر هذه القطع الشعرية أطرفها نسبة لأنها لشاعرة اسمها طريطاوس، وقد أنجبت يونان شاعرات كثيرات، أبعدهن شهرة صافو، ومنهن من عرفن بنظم " أغاني الخمر " وهي قصائد ليس من الضروري أن تتحدث عن الخمر، وإنما كانت تنشد في احتفالات باخوس، ومن أولئك الشواعر مثلا براكسيلا (3) غير أن المحير في نسبة هذه القطعة التي أوردها الرقيق أن الاسم " طريطاوس " لا ينصرف إلى المؤنث، وإنما هو صورة من الاسم (Tyrtaeus) وهو اسم شاعر إيوني عاش في إسبارطة أيام الحروب المسينية (685 - 668 ق. م.) (4) ، غير أنه ليس فيما تبقى من شعره ما يشير إلى اهتمامه بموضوع الخمر، وعلى هذا فمن العسير أن ننشئ صلة بينه وبين القطعة المترجمة، وأقرب صورة أخرى للاسم هو اسم (myrtis) وهو اسم لشاعرة من معاصري بندار (5) ، وتظل المشكلة نفسها قائمة لأن هذه الشاعرة لم يبق لها من المقطعات ما ينبئ باتجاه خمري. وتقوم هذه القطعة: " الشراب معدن اللذات وجالب المسرات، يطيب النفوس،   (1) Lyra Graeca، ed. And translated by J.M. Edmunds، The Loeb Classical Library، 1928، Vol. 1، pp. 421 - 22. (2) Ibid، p. 417. Of. Greek Lyric Poets، Selected and Translated by Francis Brooks، London، 1896، p. 67. (3) من شعراء القرن الخامس، انظر Lyr. Graeca المجلد 3: 73 - 79. (4) انظر Greak Lyr. Poets ص2 - 3 وكتاب: Greek Lyric Poetry، trans. By Wills Barnstone، Secnd printing. Newyork، 1975، p. 39. (5) في المصادر العربية إشارات إلى نساء عرفن في حقل الفلسفة، انظر مثلا المجتنى لابن دريد: 89 والسعادة والإسعاد: 389، 391 حيث يذكر حكيمة اسمها " فرياغوراس " ومرة يرد الرسم " فيثاغوراس " (392 - 395) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 ويصرف البؤس ويعفي على النحوس ويولد طرب الجليس، ويشد القلب ويزيل الكرب، ويذكي الأذهان ويغسل الادران، وينير البصر ويصفي الكبد، ويغرس العلوم ويوفر الحلوم، إذ كان بقصد واعتدال، وإذا جاوز الحد وزاد عادت أفعاله إلى الأضداد " (1) : ومن الواضح أن موضوع القطعة هو أثر الخمر أو " مآثرها الإيجابية " وأنها بذلك تنحو منحى القطعة السابقة. وإذا نحن قارنا بين هذه الأقوال الشعرية وقول مترجم عن أرسطاطاليس لم نجد فرقا كبيرا لا في الموضوع ولا في مستوى الصياغة. يقول ارسطاطاليس " إن الذي استخرج القوة التي غيرت ماء الكرم حتى صيرته خمرا يتولد عنها لشرابها الفرح والسرور، قد أتى بشيء تقصر عنه عقول المستنبطين، وقد أتى بما فاق وعلا كل قوة شجرية، وقد أشرقت الأرض بفعله وأزهرت بصنيعه، لأن نور الخمرة لا يعدله نور من الأنوار الأرضية، وإذا عدت المحاسن كلها وجدتها قد كملت فيها فصارت غاية المحبوب ونهاية المطلوب، وكما أنها ملكه الأشجار صار من يشربها ملكا بها، ومن فضائلها؟. الخ " (2) فهذه القطعة أعرق في الشاعرية من القطع السابقة. ومن المؤسف أن النص يضطرب عند بداية إيراد الأشعار، إذ يورد الرقيق أن اليونانيين يسمون القوة التي تعيد ماء الكرمة خمرا؟ وهي تلك القوة التي تحدث عنها ارسطاطاليس - " القوة المتقدمة في الشرف على جميع الأنوار " لأنها أشرف الشجر وماؤها أشرف المياه " لأنها تولد السرور والفرح " وبعد هذا تأتي عبارة " ففي خيرها أكون باقي حياتي " وهي عبارة شعرية تدل على أن ما قد سقط من النص كان اقتباسا شعريا، لقول المؤلف بعده " وقال شاعر آخر "، إلا أن ننسب كل ما تقدم إلى بيلسون، المذكور في أول الفقرة، وعندئذ يكون بيلسون هو الشاعر المقصود، وبذلك تصبح القطع التي أوردها الرقيق ستا (إذا عددنا قطعة اصطفن الرهاوي بينها) . ولكن ما هو الوجه الصحيح لهذا الاسم " بيلسون "؟ ذلك ما لم يمكن التوصل إليه كما هي الحال في الأسماء الأخرى.   (1) قطب السرور: 260 - 261، وقيام المقطوعة على السجع قد يحملنا على أن نقرأ " وينير البصر ويصفي الكدر ". (2) قطب السرور: 256 - 257. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 وعلى الجملة تمثل هذه القطع نغمة جديدة في سياق الصلات بين الأدبين اليوناني والعربي، وتشير إلى أن الترجمة لم يبق وقفا على الأشعار الحكمية والعلمية وإنما شملت أيضاً جانبا من الشعر الغنائي. وقد تكشف الأيام لنا عن جوانب أخرى إلى جانب الشعر الخمري، فإن كتاب الرقيق قد قوى مثل هذا الاحتمال، إذ ما كان أحد قبل ظهور هذا الكتاب يظن أن العرب عنوا أدنى عناية بالشعر الغنائي عند اليونانيين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 فراغ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 " 6 " استخدام الفكر السياسي اليوناني مادة في الرسائل الأدبية حاولت في الفصول السابقة أن أصور جوانب من اللقاء بين الأدبين اليوناني والعربي عن طريق الترجمة، وسأحاول فيما يلي أن أتحدث عن طرق أخرى تم فيها استخدام الفكر الإغريقي في قالب أدبي عربي، سواء أكان ذلك القالب رسالة أو شعرا أو مقامة، وسواء أكان اللقاء بين الأدبين اقتباسا للمضمون أو محاكاة له. ولعل من أول ضروب هذه اللقاءات اقتباس عبد الحميد الكاتب المعارف اليونانية في السياسة، واستخدامها في رسائله، وقد حاول الدكتور طه حسين أن يقول إن أسلوب عبد الحميد متأثر ببعض معالم الأسلوب اليوناني (1) ، ولكن هذه القضية ليس من السهل إثباتها أو القول برأي قاطع أو محتمل فيها، والأقرب إلى الاحتمال أن عبد الحميد كان مطلعا على ما ينقل في عصره من الثقافات المختلفة وخاصة الفارسية واليونانية. فأما الفارسية فهناك إجماع من الروايات على أن عبد الحميد كان صديقا لابن المقفع، وكان ابن المقفع؟ دون ريب - داعية للثقافة الفارسية بما ينقله أو يترجمه أو يلخصه عنها، ومن المستبعد؟ والصلة وثيقة بين الرجلين - ألا يتأثر عبد الحميد بذلك اللون من الثقافة. وأما اليونانية فإن عبد الحميد كان ختنا لسالم مولى سعيد بن عبد الملك، وكان سالم كاتبا عند خلفاء بني أمية حتى عهد هشام بن عبد الملك ولا يستبعد أن يكون   (1) من حديث الشعر والنثر: 43. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 عبد الحميد قد تخرج به وسلك طريقه ونسخ على منواله، ومن المعروف أن سالما هذا " نقل من رسائل ارسطاطاليس إلى الاسكندر ونقل له وأصلح هو " كما يقول ابن النديم (1) ، وأن رسائله التي عرفها ابن النديم كانت نحو مائة ورقة. وعلى هذا يصح أن يقال إن سالما أتاح لعبد الحميد الاطلاع على أدب سياسي منسوب إلى يونان. وقبل المضي في تبيان هذه الناحية أبادر إلى القول بأن تلك الرسائل ليست صحيحة النسبة إلى أرسطاطاليس، وإنما نحلت له، ولكن العرب ظلوا قرونا طويلة يتكئون عليها ويقتبسون منها دون أن يخالجهم شك في نسبتها. وتحتاج عبارة ابن النديم شيئا من المحاكمة فقوله " نقل " يعني أن سالما كان يعرف اليونانية أو السريانية حتى يقوم بهذا العمل، ثم قوله " ونقل له وأصلح هو " يشير إلى أنه اعتمد على جهود بعض المترجمين والنقلة، وهذا يعني أحد شيئين: أن سالما لم يكن يعرف إحدى اللغتين وهذا شيء يبطله قوله " ونقل " أو أن مشاغله الكثيرة في الدولة جعلته يستعين في بعض ما نقل بأحد النقلة، فهو على التوجيه الأخير قد قام بعملين بالنقل المباشر والإصلاح لما نقله غيره، ومعنى الإصلاح هنا منح المنقول في الأسلوب وصوغه في قالب بليغ مقبول، بحيث يلتبس بأسلوب سالم نفسه عندما ينشئ، أو يقاربه كثيرا. وعندي أن عبارة ابن النديم يجب أن تقرأ " نقل؟ أو نقل به " وأن الشك في أي الأمرين هو الذي حدث يعود إلى ابن النديم، وعلى ذلك فإن المرجح أن سالما لم يكن يحسن اليونانية أو السريانية، وإنما حكم أسلوبه البلاغي في ما أعانه به بعض المترجمين. وأي الأمرين كان فإنه يشير إلى جهود مبكرة في النقل، قبل أن يبدأ عصر الترجمة المنظم، ولهذا ما يؤيده في شهادة أخرى أوردها المسعودي، فقد ذكر أنه رأى عام 303 كتابا باصطخر يشتمل على علوم كثيرة من علوم الفرس وأخبار ملوكهم وأبنيتهم وسياستهم وأن ذلك كان مما ترجم لهشام بن عبد الملك في سنة 113هـ؟ (2) ، فلم يكن نقل الرسائل المنسوبة إلى ارسطاطاليس هو الجهد الوحيد الذي تم في أواخر الدولة الأموية، وحسبنا أن نتذكر جهود ابن المقفع في النقل عن الفارسية، وأنه من غير الممكن أن يكون قد تنبه لذلك أو باشره في السنوات القليلة التي عاشها في ظل الدولة العباسية (3) .   (1) ابن النديم، الفهرست: 117. (2) التنبيه والأشراف: 106. (3) انظر عهد اردشير، المقدمة: 34. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 أين هي رسائل ارسطاطاليس إلى الاسكندر التي نقلها سالم أو نقلت له؟ إن ضياع معظم آثار سالم الأصيلة أو المنقولة يجعلنا نتوقف دون القطع بأن الصورة التي وصلتنا من هذه الرسائل هي عينها التي عرفها سالم. نعم هناك ثلاث مخطوطات تحتوي على هذه الرسائل (1) ، عدا ما هو موجود منها منفردا، وقد قام الأستاذ ماريو غرنياسكي بدراسة هذه المخطوطات على نحو دقيق في مقالتين كبيرتين (2) ، حاول فيهما أن يثبت أن قسما من تلك الرسائل كان ولا بد من عمل سالم، وأتى على ذلك بأدلة من خلال فحصه للنصوص ومقارنته لهذه الرسائل بأصول يونانية، ومن أدلته تلك أن الرسائل تشير إلى جو الدولة الأموية، ولا تعرف كثيرا مما طرأ من تغير بعد نشوة الدولة العباسية، فالكاتب يتحدث كثيرا عن الموالي والعبيد، وإذا ذكر نظام الجيش تحدث عن الصفوف ولم يذكر الكراديس إلا عند الحديث عن الترك، وهو يصور الترك عدوا مخوف الجانب، كما كانوا في الدولة الأموية، وأن الخراسانيين شعب محارب " إذا مالوا إلى مقاتلة ثبتوا فيها وإذا رغبوا في أحد أحبوه وطال شكرهم له " ولكنه لا يذكر أبدا أنهم عماد جيش الدولة، كما أصبح حالهم أيام العباسيين، ثم إن المسؤول عن هذه الرسائل كان ذا مكانة عالية في الدولة، وتلك هي حال سالم الذي كان أثيرا عند هشام حتى إنه كان يقرأ عليه ما يرد من كتب ولا يدخل عليه منها إلا ما يسره (3) ، إلى غير ذلك من أدلة (4) ، هي أشبه بالتلمس الذي لا يبلغ اليقين أو يشارفها، ثم كأن هذه الأدلة تفترض أن سالما كان مؤلفا لتلك الرسائل، فإن لم يكن كذلك فإنه حور في الأصل كثيرا حتى يتناسب ومفهوماته عن الدولة ونظم الحرب وأحوال الأمم، ومع أن شيئا من التحوير قد يتم في مثل هذه الحال فإنه لا يمكن أن يبلغ الدرجة التي تصورها أدلة الأستاذ   (1) هي مخطوطة آيا صوفيا رقم 4260 ومخطوطة الفاتح رقم 5323 ومخطوطة كوبريللي رقم 1608. (2) Mario Grignaschi: Le Roman Epistolaire Classique Conserve dans la Version Arabe de Salim Abu - l - Ala، Le Museon 80، 1967 pp. 211 - 264، idem: Les Rasail Aristatalisa ila - l - Iskander de Salim Abu - l - Ala، Bulletin d'Etudes Orentles، Tome XIX، 1965 - 66 pp. 7 - 88. (3) الكندي: كتاب الولاة والقضاة: 80. (4) هي منشورة في المقالين، وانظر بخاصة المقالة الأولى ص: 25 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 غرنياسكي. ومهما يكن من شيء فإن هناك ما قد يرجح أن بعض تلك الرسائل سابق لعهد الترجمة المنظمة، وربما كان الأستاذ غرنياسكي على صواب حين يرى أن الرسالة في السياسة العامية تمثل صورة قديمة من الرسائل المترجمة، ولكن التباين الشاسع أحيانا بين أساليب تلك الرسائل مجتمعة، يجعلني أعتقد أن ما جاء في المخطوطات المذكورة ليس من الضروري أن يكون من عمل ناقل واحد، وأن ما ينتمي إلى سالم منها ما يزال بحاجة إلى إثبات، وهذه قضية لا تؤثر كثيرا في طبيعة هذا البحث، لأن هناك فرقا واسعا بين أن يقال إن سالما عرف رسائل منسوبة إلى ارسطاطاليس وأن يقال إن تلك الرسائل أو بعضها هي نفسها التي وصلتنا في المخطوطة الفلانية، فإذا انهارت كل الأدلة التي توفق بين القولين، بقي القول الأول ثابتا بشهادة ابن النديم وبعض القرائن الأخرى. وأهم هذه القرائن اثنتان: أولاهما أن نعرض بعض هذه الرسائل على أسلوب سالم نفسه. وتعترض هذا الأمر صعوبات منها ندرة ما وصلنا من كتابات سالم وصعوبة الحكم لدى المقارنة بين الأساليب، وتقارب أساليب عصر ما في كثير من الخصائص، ومع ذلك فإن محاولة ما لا بد من أن تبذل في هذه الناحية، وقد بقي لدينا نتف يسيرة من رسائل سالم (1) ، ولكن يبدو أن له رسالة تامة كتبها عن هشام بن عبد الملك إلى عمرو بن سعيد يهدئ فيها من روعه لأن خالدا القسري استخف به واستهان بمقامه، وقد أوردها الطبري غير منسوبة (2) ، وجاءت مقترنة باسم سالم في كتاب " العطاء الجزيل في كشف غطاء الترسيل " لنحمد بن أحمد البلوي الأندلسي وهو يضم مجموعة من رسائل المشارقة والمغربة موزعة على أبواب مختلفة (3) . يقول سالم في هذه الرسالة: " أما بعد فقد بلغ أمير المؤمنين كتابك وفهم ما ذكرت من تسليط [خالد] عليك لسانه في مجلس العامة، مستحقرا لقدرك ومستصغرا لقرابتك بأمير المؤمنين، وإمساكك عنه تعظيما لأمر أمير المؤمنين وسلكانه وتمسكا بوثائق عصم   (1) انظر جمهرة رسائل العرب 2: 425 حيث يجب أن نقرأ " سالم مولى هشام " بدل سالم بن هشام، وكذلك ص: 431، 432. (2) تاريخ الطبري 1: 1644 وجمهرة رسائل العرب 2: 412 ويمكن أن نعد الرسالة التي أرسلت إلى خالد لتوبيخه على موقفه من عمرو بن سعيد من إنشاء سالم أيضا، الطبري 1: 1642 وجمهرة رسائل العرب 2: 409. (3) مخطوطة الخزانة الملكية بالرباط رقم: 6148. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 طاعته، على مؤلم ما تداخلك من قبيح ألفاظه وشرة منطقه، وإكبابه عليك عند إطراقك عنه، مرويا ما أطلق أمير المؤمنين من لسانه وأطال من عنانه ورفع من درجته ونوه من خموله، وكذلك أنتم؟ آل سعيد - في مثلها عند هذر الذنابى وطائشة أحلامها صمت من غير ما إفحام تنهضون بأحلام تخف الجبال عندها وزنا، وقد أحمد أمير المؤمنين تعظيمك إياه وتوقيرك سلطانه وشكره، وجعل أمر خالد إليك عزله واقراره، فإن عزلت أمضى عزلك، وأن أقررت فتلك منة على خالد لا يشكرك أمير المؤمنين فيها " (1) . يمكن أم يسمى هذا أسلوب الأناة الفكرية حيث يعمد الكاتب إلى الامتداد بالجملة قبل أن يبلغها غايتها ولذلك قد يعمد الكاتب فيه إلى جمل فرعية معتمدة على الجملة الأصلية، إما بإيراد جمل وصلية أو بالخروج إلى حيز متفرع عن الحال الموصوفة: " تعظيما لأمير المؤمنين وسلطانه وتمسكا بوثائق عصم طاعته على مؤلم ما تداخلك من قبيح ألفاظه وشره منطقه واكبابه؟ الخ " ففي بدئه " على مؤلم؟ " تفريع جديد على الأصل/ ولكنه لا ينسى أبدا أن التفريع له حظ الأصل، من الجمل المتعاطفة والمزدوجات، فبعد قوله تعظيما؟ وتمسكا " يورد " من قبيح؟ وشرة؟ واكبابه "، فإذا انتقل إلى تفريع جديد قال: " مرويا فيما أطلق؟ وأطال؟ ورفع؟ ونوه؟ " وبذلك تتركب الفقرة من مستويات متدرجة إلا أنها مستويات مفسحة ممطوطة، تمنح الفكر المتأمل حظا من النقلة دون وثب أو عجلة (2) . ضع إزاء هذا ما جاء في إحدى الرسائل: " أما بعد فإن دوائر الأسباب ومواقع العلل وإن كانت ساعدتنا بالأمور التي أصبح الناس لنا بها دائنين، فانا جد واجدين لمس   (1) العطاء الجزيل، الورقة: 125. (2) أعتقد أن هذا اللون من الأسلوب كان هو العامل الأكبر في نقلة الكتابة العربية إلى أسلوب سريع قصير الفقرات مسجوع، خروجا من الملل ورغبة في السرعة في بلوغ القصد وكان هذا ما حققه البديع في المقامات، وجرى الأمر على ذلك إلى أن حدث تغيير صناعي في استحداث أسلوب يجمع بين السجع والاسترسال، والسجع داخل الاسترسال، والاستطالة بالعبارات حتى يفقد القارئ نفسه ويغدو لاهثا قبل ان يصل إلى النهاية، وهذا ما نجده لدى القاضي الفاضل وابن الأثير والعماد الكاتب في رسائله لا في وصفه للمعارك. ولأبي العلاء شأن آخر، يشذ عن قاعدة هذا التطور، وهو اختياره دائما هذا الأسلوب " المتوتر " داخل إطار من الأغراب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 الاضطرار إلى حكمتك، غير جاحدين للإقرار بفضلك، والاستنامة إلى مشورتك والاجتباء لرأيك والاعتقاد لأمرك ونهيك، لما بلوناه من جدا مغبة ذلك علينا، وذقنا من جنى منفعته حتى صار ذلك بنجوعه فينا وترشيحه لعقولنا (1) كالغذاء الذي تلتاط به الطباع بالتقوت به؟ وقد كان مما سيق إلينا من النصر والفلج، وأتيح لنا من الظفر والقهر وبلغنا في العدو من النكاية ما يعجز القول عن وصفه ويقصر اللسان عن أداء مفترض الشكر للمنعم به " (2) . لاحظ في هذا الأسلوب ورود الجملة الوصلية " وإن كانت ساعدتنا "؟ وهي فرعية، ثم هذا الاسترسال مع " الإقرار؟ والأستنامة؟ والاجتباء.. والاعتقاد " ثم التفريع على التفرع " بنجوعه؟ وترشيحه "؟ ثم العودة إلى التعداد المسترسل " سيق، أتيح، بلغنا؟ " وأدل من كل ذلك " مفترض الشكر للمنعم على الأنعام به " فلو لم تكن الأناة المسترسلة هي القاعدة لاكتفى الكاتب بقوله " مفترض الشكر للمنعم ". إن العيب في هذا البرهان أنه ينقل فيما ينقل إحساسا ذاتيا بطبيعة الأسلوب، ولكن هب أنه أصبح مقبولا بنوع من الإحساس الغامض لموسيقى الأسلوب وإيقاعه فإنه يظل يشكو من عيب آخر، وهو أن هذه السمة تنطبق على عصر لا على كاتب واحد، وحين تقرأ ابن المقفع أو عبد الحميد أو حتى الجاحظ؟ بعد زمن - تكاد تقف مبلسا إزاء الفوارق الداخلية التي تميز أسلوب كل واحد منهم. إن هذه دراسة لم يحاولها أحد بعد، أعني وضع السمات الفارقة التي تميز كل كاتب عن غيره من أبناء عصره، ويزداد الأمر صعوبة حين تجد كاتبا قديرا مثل أبي إسحاق الصابي، يعيش في عصر، ويكتب بأسلوب عصر آخر. ولكن مهما يكن من شيء فإن الرسالة التي اقتبست منها آنفا لا بد أن تكون قد كتبت في عصر سالم وعبد الحميد وابن المقفع. وفي الرسالة المتعلقة بالسياسة العامية ملامح كثيرة من هذا الأسلوب مما قد يجعل على القول بأنها تمثل ما قام به سالم أبو العلاء أو أحد من معاصريه. أما القرينة الثانية؟ وهي الأمم فيما يتصل بهذا البحث - فهي العثور على أناس معاصرين   (1) في شرح النهج: وترسخه في أذهاننا. (2) مخطوطة آيا صوفيا، الورقة 92/أ - ب والمقالة الثانية لغرنياسكي: 59 وهي حسب ترقيم غرنياسكي تعد الرسالة الحادية عشرة بين مجموعة الرسائل، وانظر أيضا شرح نهج البلاغة 17: 52. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 لسالم، تأثروا بتلك الرسائل وأفادوا منها، وانعكست بعض مادتها في كتاباتهم. وهنا يبرز؟ دون مواربة - دور عبد الحميد، أظهر معاصر لسالم وأجدر من يمكن أن يتأثر به من خلال التلمذة والمعاصرة، وحالنا مع عبد الحميد خير من حالنا مع سالم من حيث تنوع ما وصلنا من رسائله وخاصة بعد الإطلاع على مخطوطة " العطاء الجزيل " التي تحوي من رسائله أربع عشرة رسالة لم يكن معروفا منها سوى رسالة واحدة (1) . وفي كل ما وصلنا من كتابات عبد الحميد تقف رسالته إلى عبد الله بن مروان ولي العهد حين وجهه أبوه لمحاربة الضحاك الشيباني الخارجي متميزة بين سائر رسائله في هذا الصدد، فهذه الرسالة؟ حسبما أوردها ابن أبي طاهر طيفور في كتابه " اختيار المنظوم والمنثور " - تحمل تاريخ 129 من الهجرة، وموضوعها في السياسة الحربية (2) ، ولهذا فإن ما قد تحمله من شبه برسائل ارسطاطاليس إنما يدور حول هذا الموضوع نفسه. وقد لمح الأستاذ غرنياسكي بعض شبه بين ما جاء في رسائل ارسطاطاليس ورسالة عبد الحميد (3) ، وكان هذا في الحق هو المنطق الصحيح لإثبات أن تلك الرسائل كانت معروفة في ذلك الدور الكبير المبكر. وأحب أن لا يتبادر إلى الذهن أن عبد الحميد قد اقتبس معلوماته في السياسة الحربية عن الرسائل المنسوبة إلى أرسطاطاليس، فإنه قد لازم مروان بن محمد مدة طويلة منذ أن كان مروان واليا بأرمينية (114/732) إلى أن قتلا معا، بعد معركة الزاب (132/ 749) ، ومهما ينس التاريخ من مآثر مروان فإنه لا ينسى جهوده في تنظيم الجيوش، وفي سياسة الحروب، ولكن الذي أعنيه هنا أن عبد الحميد كان نموذج المثقف في عصره، وأنه بالإضافة إلى معرفته التجريبية في شتى شئون الحياة كان يجمع إلى تلك المعرفة اطلاع المثقف على ما لدى الفرس واليونان وغيرهم من الأمم في قواعد الحرب والسلم، وأنه حين كتب رسالته إلى ولي العهد فإنه كان يستمد من التجربة والثقافة معا، ولا ريب في أن الرسائل المنسوبة إلى ارسطاطاليس قد أعطته القالب العام للمشورة في شئون الحرب، حتى أننا لو فرضنا أن الجانب التاريخي في رسالته لم يكن حافزا واقعيا، فإن   (1) يذكر ابن النديم أن رسائل عبد الحميد كانت تجيء في نحو ألف ورقة (الفهرست: 117) . (2) انظر رسائل البلغاء: 173 - 210. (3) المقالة الثانية: 23، التعليق رقم: 5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 صوغها؟ أنموذجا فيما يمكن أن يتبع في مثل ذلك الموقف - لم يكن لينقصها حظها من الأصالة والفائدة والقيمة العملية. وتجيء رسالة عبد الحميد في قسمين واضحين: أولهما يتضمن حديثا عن السلوك الأخلاقي الذي يجب أن يتصف به القائد الحربي من جميع الوجهات، والثاني القواعد الحربية التي يجب أن يأخذ بها في جميع المراحل داخل نظام الجيش وعند التعبئة أو الرحيل أو النزول أو خوض المعركة، وقد بلغ من الدقة في هذه الأمور بحيث أصبحت رسالته ركازا لبعض ما كتب في الفن الحربي من بعد. ويبدو أنه في القسم الأول منها خضع لجانب من ثقافته الفارسية كما خضع في بعض جوانب القسم الثاني للثقفة اليونانية، ولكنه سلك في كل ذلك مسلكا بارعا حقا، فأعتمد في الجانب الأخلاقي، الذي يشغل القسم الأول؟ جانب التركيز: " ومن ذلك أن تملك أمورك بالقصد وتصون سرك بالكتمان، وتداوي جندك بالإحسان، وتداوي حقدك بالأنصاف، وتذلل نفسك بالعدل، وتحصن عيوبك بتقويم أودك، وتمنع عقلك من دخول الآفات عليه بالعجب المردي، وأناتك فوقها الملال وفوت العمل، ومضاءتك فدرعها روية النظر واكفها بأناة الحلم؟ " (1) - وهذه وغيرها صفات وجوانب قد عولجت بالتفصيل فيما نقله ابن المقفع عن الفرس في " الأدب الكبير ". حتى إذا تناول القواعد الحربية - وهي القسم الأهم من الرسالة - عالجها بالتفصيل والتحليل، فهذه اقولة المجملة في رسائل أرسطاطاليس " حصن العورة، واضبط الضيعة، وأذك العيون، واجتهد في الاحتراس " (2) تنحل في عدة فقرات، تبدأ كل فقرة بواحدة من هذه النصائح: " حصن جندك (189) ؟ ثم أذك عيونك (190) ؟ واعلم أن موضع الأحراس (194) ؟ ". وإذا قال ارسطاطاليس: واجعل الحرب آخر أمرك " (3) عانيا بذلك إدراك ما لا بد من إدراكه بالمكيدة بدل الحرب، وجدنا عبد الحميد يقف عند هذه القاعدة في موضعين يقول في أولهما: " اعلم أن الظفر ظفران أحدهما وهو أعم منفعة وأبلغ في حسن الذكر قالة وأحوطه سلامة، وأتمه عافية، وأعوده عاقبة، وأحسنه في الأمور موردا،   (1) رسائل البلغاء: 177. (2) العامري: السعادة والإسعاد: 332. (3) السعادة والإسعاد: 325. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 وأعلاه في الفضل شرفا، وأصحه في الرؤية حزما وأسلمه عند العامة مصدرا، ما نيل بسلامة الجنود وحسن الحيلة ولطف المكيدة " (1) ويقول في الموضع الثاني " اعلم أن أحسن مكيدتك أثرا في العامة وأبعدها صوتا في حسن القالة ما نلت الظفر فيه بحسن الروية وحزم التدبير ولطف الحيلة " (2) . وإذا كانت نصيحة ارسطاطاليس في باب المكايد نوعين أولهما: " أدخل المكايد على عسكر عدوك بإفساد مياههم وبإلقاء البذور التي تهلك الدواب في مروجهم " (3) وثانيهما " كاتب أشد قواد عدوك بأسا وأوفرهم نصيحة لعدوك لتوقع وهما في قلب عدوك على صاحبه الناصح له، واعمل على أن يقع كتابك بيد حراس عدوك " (4) ، اختار عبد الحميد المكيدة الثانية وأهمل الأولى لأنها لا تتفق مع عقيدة الدينية، فقلب في ذلك: " وكاتب رؤساءهم وقادتهم وعدهم المنالات ومنهم الولايات وسوغهم التراث، وضع عنهم الإحن، واقطع أعناقهم بالمطامع، واستدعهم بالمثاوب، واملأ قلوبهم بالترهيب، أن أمكنتك منهم الدوائر وأصارتهم إليك الرواجح، وادعهم إلى الوثوب بصاحبهم أو اعتزاله إن لم يكن لهم بالوثوب عليه طاقة، ولا عليك أن تطرح إلى بعضهم كتبا كأنها جوابات كتب اليهم، وتكتب عل ألسنتهم كتبا تدفعها إليهم، وتحمل بها صاحبهم عليهم وتنزلهم عنده منزلة التهمة ومحل الظنة؟ " (5) . ومن الطريف أن هذا المبدأ الذي تتضمنه الرسائل المنحولة لأرسطاطاليس قد ورد أيضاً في نصوص سياسية منحولة لأفلاطون، فلدينا ثلاثة عهود يقال إنها مستخرجة من رموز كتاب السياسة لأفلاطون من تأليف أحمد بن يوسف المشهور بابن الداية (حوالي 340/951) وقد جاء في العهد الأول منها: " وينبغي أن تسلك في مجاهدة من أعرق في الرياسة واضطلع بتدبير المدن أن قصدك غير هذا المسلك من بث الجواسيس في عسكره وإظهار الكتاب على ألسنة خواصه بطلب الأمان منك، وتضمنها ما صح عندك من   (1) رسائل البلغاء: 189. (2) رسائل البلغاء: 209. (3) السعادة والإسعاد: 333 وسر الأسرار: 150 ومخطوطة كوبريلي: 88. (4) السعادة والإسعاد: 334. (5) رسائل البلغاء: 209. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 أسراره، ولتحمل هذا جواسيسه اليه فيضطرب أمره ويرتاب بمن كان يثق به، ومكاتبة من قدرت إجابته من جيشه من كاف حزم؟ " (1) . وإذا تحدث ارسطاطاليس عن نوع السلاح الذي به تؤخذ الأهبة على نحو موجز: " وربما احتاج إلى آلات يقابل بها مكايد العدو كمنجنيق ينصب بازاء منجنيق وعرادة إزاء عرادة " (2) ، وجدنا عبد الحميد يطيل في هذه الناحية ويتفنن في وصف ضروب الأسلحة اللازمة في موضعين من رسالته، وبحسبنا هنا للتمثيل أن نقتبس جزءا مما جاء في الموضع الأول: " وخذهم من السلاح بأبدان الدروع ماذية الحديد، شاكة النسج، متقاربة الحلق، متلاحمة المسامير، وأسوق الحديد مموهة الركب، محكمة الطبع، خفيفة الصوغ، وسواعد طبعها هندي وصوغها فارسي، رقاق المعاطف بأكف واقية وعمل محكم، وبلق البيض مذهبة ومجردة، فارسية الصوغ، خالصة الجوهر، سابغة الملبس، واقية الجنن، مستديرة الطبع، مبهمة السرد وافية الوزن؟ معهم السيوف الهندية وذكور البيض اليمانية رقاق الشفرات مسمومة الشحذ غير كليلة الحد، مشطبة الضرائب معتدلة الجواهر صافية الصفائح لم يدخلها وهن الطبع ولاعابها أمت الصوغ؟ الخ " (3) . ودقة عبد الحميد هنا؟ كما هي في غير موطن - دليل على مبلغ معرفته التجريبية، كما أنها قد تشير إلى ابتهاجه بإظهار تلك المعرفة. وفي النظرة إلى العدو يورد أرسطاطاليس هذه النصيحة: " ضع أمر عدوك على أن في الدرجة العليا من القوة ثم عامله بقدر ذلك، واقصده من قبل أن يطول وارتق الفتن قبل أن يتمكن من فاتقه " (4) ويقابل هذا عند عبد الحميد: " معظما أمر عدوك لأكثر مما بلغك حذرا يكاد يفرط لتعد له من الاحتراس عظيما ومن المكيدة قويا " (5) . غير أنه لا يفوتنا أن كثيرا من هذه القواعد الحربية كان قد اصبح متأثلا في كل أمة، بحيث يمكن أن يكون التشابه فيها أقل من الفروق التي تصلح لأمة دون أخرى،   (1) الأصول اليونانية للنظريات السياسية: 31. (2) السعادة والإسعاد: 326. (3) رسائل البلغاء: 196 وانظر الموضع الثاني: 207 (4) السعادة والإسعاد: 332 وسر الأسرار: 83 ومخطوطة كوبريلي: 83. (5) رسائل البلغاء: 191. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 فمبدأ تجنب القتال؟ ما كان إلى ذلك سبيل - أمر نجده أيضا عند الفرس، إذ ينقل ابن قتيبة عن الآيين: " ولا يحاربن جندا إلا على اشد الضرورة، وعلى حال لا يوجد معها من المحاربة بد " (1) ثم ينقل المؤلف نفسه نصيحة بهذا المعنى عن كتاب للهند " الحازم يكره القتال ما وجد بدا، لأن النفقة فيه من الأنفس، والنفقة في غيره من المال " (2) . أما طرح الحسك في المواضع التي يتخوف فيها البيات فإنه يكاد يكون خطة عامة (3) ، وقد نجد عبد الحميد يقول: " ثم ول على كل مائة رجل منهم رجلا من أهل خاصتك " (4) ، ونجد سابور يقول لابنه هرمز " اجعل على كل مائة رئيسا " (5) ، ثم لا يكون هذا التشابه إلا تعبيرا عن قاعدة حربية أصبحت عامة لا يتميز فيها الفرس عن العرب ولا يستقل فيها هؤلاء دون اليونان، ولهذا فإن ميزة رسالة عبد الحميد ليست في هذه المشابه بمقدار ما هي في قدرته على توجيه القواعد العسكرية بحيث تلائم جيشا إسلاميا يحارب جيشا آخر، يعتقد أصحاب الأمر أن الجند فيه من الخوارج " المتسمين باسم الإسلام "، ولهذا لن نجد عند عبد الحميد حديثا عن مدى متابعة العدو عند الهزيمة أو حديثا عن الغنائم أو ما أشبه ذلك. ولكن مهما يكن من شيء فإن ميل عبد الحميد إلى التفنن والأصالة لم يستطع أن يحجب مقدار حركته في الإطار الثقافي الموجود لدى الفرس واليونانيين.   (1) عيون الأخبار 1: 113. (2) عيون الأخبار 1: 112 وهذا القول في كليلة ودمنة: 156 (وقارن بما ورد ص: 84) وفي وصايا أسطاليس، انظر السعادة والإسعاد:325. (3) عيون الأخبار 1: 113. (4) رسائل البلغاء: 207، وهذا المثل نفسه قد جعل الدكتور طه حسين يستدل على ان عبد الحميد كان متأثرا لا باليونانية وحدها بل بما كان مألوفا عند اليونان لأن الوحدة الصغرى في الجيش البيزنطي كانت تتألف من مائة (من حديث الشعر والنثر: 45 - 46) . (5) السعادة والإسعاد: 331. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 فراغ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 " 7 " معارضة مراثي الحكماء للاسكندر في الأدب العربي لم يكن موقف عبد الحميد إلا نموذجا واحدا من اعتماد الرسالة الأدبية على المادة اليونانية إلا أنه نموذج هام لسببين: أولهما حدوثه في دور مبكر من تاريخ الكتابة العربية، وثانيهما أنه يمثل تأثرا مباشرا لا محض تأثر مستمد من العيش في جو ثقافي عام، كما قد يحدث في العصور التالية، وحين نفرض أنه ليس المثل الوحيد، فإننا نرجو أن نعالج استمراره؟ في القالب الرسائلي - في غير هذا الموضع، ولكن حسبنا الآن ونحن نعرض نماذج من التأثر أن ننقل إلى صورة أخرى، تعتمد المحاكاة وسيلة لها، والمحاكاة في العادة لا تكون ظاهرة مرموقة إلا لقوة الأنموذج وتميزه. وتقف قصة الاسكندر في جوانب مختلفة منها نموذجا قويا يصلح للمحاكاة وخاصة لدى أبي سليمان المنطقي وتلامذته وأصحابه، وربما كانت ثمة قصص أخرى تفرض نفسها بقوة الأنموذج ولكنها لم تجد ناقلا شغوفا بالنقل عامة، وبقل الحكمة والفلسفة بخاصة، مثل التوحيدي. ونقف من هذه القصة عند نموذجين: 1 - أولهما قول الأسكندر وقد سئل: أيهما أحب اليك أبوك أو معلمك؟ فقال: معلمي؟ يعني ارطاطاليس - لأن والدي كان سبب كوني القريب وارسطاطاليس كان سبب تجويد كوني (1) . وفي رواية أخرى، قيل له إنك تعظم معلمك أكثر من تعظيمك   (1) صوان الحكمة: 147 (ط. طهران) ، والمنتخب: 51. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 والدك فقال: لأن أبي كان سبب حياتي الفانية ومؤدبي سبب حياتي الباقية (1) . ففي هذا القول تجاوز؟ لا يعدم تسويغا - لذلك النص الصريح في الدين على حق الوالدين، واقتران طاعتهما بطاعة الله تعالى، وها هنا نحن نجد مقارنة بين المؤدب والأب، وتميزا بينهما في المفاضلة، ولكن لا بد من أن نقر هنا بأن الآيات القرآنية تنص على شيئين هما الطاعة والرفق ثم ما يتبع من بر وحدب، بينا تقوم النظرة المنسوبة للأسكندر على الإجلال والتعظيم. وقد كان هذا الجواب، حافزا قويا لعدد من مثقفي القرن الرابع يحاكموه، فهو نموذج بارز من الإجابة إلا أنه لا يزال يفسح مجالا لوجهات نظر أخرى، وقد تناوله كل من أبي زكريا الصيمري وأبي سليمان المنطقي والنوشجاني وأبي محمد الأندلسي (2) بالإعجاب الذي لا يحول دون إبداء الموقف الذاتي، ولهذا عبر كل منهم عن نظرته الفكرية لو أن السؤال وجه إليه: فقال الصيمري: لو قيل لي هذا لقلت: لأن أبي كان قضى وطرا بالطبيعة فعرضت، ومعلمي يفجر من أجلي أوطارا فكملت به (3) . وقال المنطقي: لو قيل لي هذا لقلت: لأن ابي أفادني الطبيعة التي انطلقت علي بالكون والفساد، ومؤدبي أفادني العقل الذي به انطلقت إلى ما ليس فيه كون أو فساد. وقال النوشجاني: لو قلت أنا لقلت: لأن أبي كونني بالعرض، ومعلمي زينني في كوني بالعرض. وقال الأندلسي: لو قلت أنا لقلت: لأن أبي قيدني فأوثق، ومعلمي حل قيدي وأطلق.   (1) المصدر السابق: 159 (طهران) وأورد هنا القول السابق برواية " سبب حياتي؟ سبب تجويد حياتي ". وانظر محاضرات الراغب 1: 25 والتمثيل والمحاضرة: 137. (2) جميع هؤلاء يتردد ذكرهم في مؤلفات أبي حيان التوحيدي، ويمكن تصورا آرائهم ومواقفهم من تلك المؤلفات، ولهذا أعتقد أن هذا القول من منقولات أبي حيان نفسه، ويمثل الأندلسي بينهم الثقافة اللغوية النحوية، مع ملابسة للفلاسفة الذين حول أبي سليمان، وقد تحدث عنه أبو حيان في عدة مواطن: انظر المقابسات: 95، 96، 126 ومثالب الوزيرين: 260 والبصائر 2: 591 وفي هذا الأخير قال إنه توفي سنة 375 ببغداد، وهذا قد يحدد تاريخ الأنموذج الذي حاكى المفكرون فيه قولة الأسكندر. (3) كذا وهو قلق في معناه، والنص مضطرب في أصل المنتخب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 2 - النموذج الثاني؟ وهو أقرب إلى جو الأدب من النموذج السابق - مستمد من موقف المفكرين عند تابوت الاسكندر، فهناك رواية تقول؟ وليس هنا موطن البحث في قيمتها التاريخية - إن الأسكندر توفي في أرض العراق ثم نقل إلى الإسكندرية ليدفن فيها، وقد تجمع عدد من الفلاسفة والحكماء عند قبره، وقال كل منهم قولة في تأبينه إذ طلب إليهم عظيمهم أن يقول كل واحد منهم قولا " يكون للخاصة معزيا وللعامة واعظا " (1) . وقبل أن أتحدث عن قوة هذا الأنموذج وما أثاره لا بد من وقفة عند هذه الأقوال نفسها، فهي؟ فيما يبدو - قد ترجمت في دور مبكر، تم ذلك قبل عهد حنين بن اسحاق، وربما أمكن نسبتها إلى أيام سالم وجهوده هو ومن حوله في الترجمة. وتثير هذه الأقوال عددا من الأسئلة حولها، وفي مقدمة هذه الأسئلة: كم كان عددها عندما ترجمت أول مرة؟ إنه لم يتح لي الإطلاع على نوادر الفلاسفة لحنين، ولكن اليعقوبي لا يورد منها إلا تسعة، ثم نجدها عند سعيد بن البطريق اثنين وثلاثين، وعلى نحو مقارب عند المسعودي والثعالبي، ومع أن المبشر بن فاتك يورد منها أربعة عشر، فإنه يوضح أنه لم يوردها جميعا: " وقال جماعات أخر من الناس من الحكمة والموعظة مثل ما قال هؤلاء، وحذفته اختصارا، وقد أوردته وباقي أخباره في تاريخي الكبير مستوفى على تمامه " (2) . وهناك نصان يعتمدان أصلا واحدا هو " صوان الحكمة "، الذي يقترن باسم المنطقي وهما منتخب منه، ومختصر له، وعدد هذه الأقوال في المنتخب خمسة، وفي المختصر ثلاثة وعشرون، وقد يقال إن صانع المنتخب حذف ما شاء على أساس الانتقاء، ولكن التوحيدي وهو تلميذ أبي سليمان وصاحبه المرافق له في فترة غير قصيرة من حياته يقول ان الحكماء الذين تحدثوا حول تابوت الاسكندر كانوا عشرة (3) ، فهل قيد التوحيدي هذا   (1) مروج الذهب 2: 10 - 12، واجتماع عدد من الفلاسفة وتبادلهم الأقوال في موضع ما، شائع فيما نقل من صور الفكر اليوناني، انظر مثلا مخطوطة كوبريللي: 16 حيث يذكر أن سبعة من الحكماء اجتمعوا في بيت الذهب فقالوا نريد أن نذكر أشياء من الحكمة؟ الخ. (2) مختار الحكم: 241. (3) أبو شجاع: ذيل تجارب الأمم، 75نقلا عن كتاب الزلفة لأبي حيان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 قبل أن يعرف أبا سليمان؟ وهل ظل يجهل أن لأستاذه كتابا يسمى " صوان الحكمة " بحيث لا نراه يقف عنده أو يسميه أبدا؟ إن العدد الذي يورده التوحيدي لا يختلف كثيرا عن ما ذكره اليعقوبي، وربما كان هذا الرقم يشير إلى عدد تلك الحكم في القرن الثالث، حتى إذا كان القرن الرابع أصبحت هذه الحكم تزيد على الثلاثين، فإذا رجعنا إلى مخطوطة كوبريللي (1608) وهي متأخرة كثيرا ففي تاريخها؟ وجدنا هذه الأقوال قد بلغت ثلاثة وخمسين قولا، فكيف نفسر هذه الزيادة المطردة؟ قد يكون سبب ذلك تعدد المصادر التي أخذت عنها تلك الأقوال واختلافها فيما تورده منها، وفي مخطوطة كوبريللي ما يفيد الاعتماد على نسختين سابقتين تنفرد إحداهما بعدد من الأقوال لا يرد في الأخرى، وهذا يؤدي إلى الافتراض بأن الترجمة المبكرة لهذه الأقوال قد خلفتها ترجمة أو ترجمات متوالية أضافت كثيرا إلى النواة الأولى، ولعل المقارنة بين أبن البطريق والمسعودي؟ وهما متعاصران - يوضح هذا الخلاف في الأصول المعتمدة، فالأقوال متقاربة في العدد إلا أن ابن البطريق ربما كان يعتمد مصدرا سريانيا، ولهذا فإن المؤرخين لا يتفقان إلا في اثني عشر قولا مما يوردانه، ثم ينفرد كل منهما في سائرها. وقد عثر الأستاذ بروك على صورة سريانية من هذه الأقوال وجدها أقرب إلى ما أورده ابن البطريق والمكين وأبو شاكر مما هي إلى ما أوردته المصادر العربية (1) ، وإذا تقدمنا خطوة أخرى في المقارنة واتخذنا المسعودي والثعالبي محورا لها، وجدنا التقارب في العدد موجودا إلا أن الاتفاق لا يتعدى أحد عشر قولا، ينما ينفرد الثعالبي عن سائر المصادر، لا عن المسعودي وحده، في ثمانية عشر قولا لا يشاركه في بعضها إلا مصدر متأخر عنه مثل زهر الآداب لعله ينقل عنه أيضا. فهل نقول إن الثعالبي يعتمد مصدرا فارسيا قد تفرد في أكثر ما أورده من تلك الأقوال؟ أن تعدد المصادر واختلافها أمر محتمل، بل لعله السبب الأهم لا في تفسير الزيادة المطردة وحسب، بل في الخلافات الواردة في صياغة   (1) S. P. Brock: The Laments of the Philosophers over Alexander in Syriac، Journal of Semitic Studies 15 (1970) PP. 205 - 218، cf. P. 207. أما الصورة السريانية المشار إليها فأنها محفوظة في: Mingana Syr. 47، f. 267 وقد وجدت المخطوطة في ألقش قرب الموصل، وتاريخ نسخها حديث (1907) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 بعض النصوص المشتركة (1) ، غير أن لهذه الخلافات نفسها أسبابا أخرى منها اختلاف المترجمين وتفاوتهم في الميل إلى " تعريب " الأسلوب المنقول، ويبدو أن مثل هذا الميل كان موجودا في الدوائر الأدبية، وأنه كان أحيانا يعمي الأصل وينقل القول المترجم إلى حيز جديد، وهذه ظاهرة ستعالج على نحو مفصل تال. أما هنا فيكفي أن أقول: إن من قبيل هذا الانسياق وراء أضواء الأسلوب؟ في الحالين - ورود القول التالي على صورتين أسلوبيتين متفاوتتين: المسعودي: يا عظيم السلطان اضمحل سلطانك كما اضمحل ظل السحاب؟ وعفت آثار مملكتك كما عفت آثار الرباب. صوان الحكمة: ما كنت إلا ظل سحاب اضمحل، لما أظل، فما نحس لملكك أثرا ولا نعرف له خبرا. فالتصرف الأسلوبي في العبارتين واضح ومقصود، والمعنى الأساسي واحد. ومن صور التصرف اليسير في الترجمة دون محاولة لرفع المستوى البلاغي، ما يتصل بتلك القولة التي تومئ إلى أن الأسكندر وضع في تابوت من ذهب، وأن المفارقة قد تمت، بين الحياة والموت، فهو في الحياة كان يخزن الذهب، وفي حال الموت أصبح الذهب " خازنا " لجسده. ابن البطريق: كفى بهذا عبرة أن الذهب كان بالأمس كنزا للأسكندر فأصبح الأسكندر اليوم بالذهب مكنوزا. المسعودي: هذا الإسكندر الذي كان يخبأ الذهب فصار الذهب يخبأه. الثعالبي: ما زال الإسكندر يكنز الذهب حتى كنزه الذهب الآن. المبشر: كان الإسكندر يكنز الذهب والفضة ويصونه، والآن أصبح الذهب يصونه ويكنزه.   (1) أشار الأستاذ روزنتال إلى الاختلاف في نصوص تلك الأقوال، انظر: The Classical Heritage، P. 121 واختار من بينها نص الثعالبي وترجمه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 الحصري: كان الملك يخبأ الذهب، وقد صار الآن الذهب يخبؤه. آيا صوفيا: كنت بالأمس للذهب جامعا واليوم الذهب قد جمعك. فهذه ستة أقوال تختلف في الصياغة اختلافا يقل أو يكثر، فأما أن يكون اختلافا ناشئا عن الترجمة نفسها وإما أن يكون ناشئا عن الرواية بالمعنى دون التقيد الدقيق في الألفاظ، والأمر الثاني مألوف بكثرة. على أن تزايد تلك الأقوال واختلافها؟ وهما أمران مقترنان أحيانا - إنما نجما عن نوع من الوضع، غير متعمد، فهؤلاء المؤرخون الذين رووا هذه الأقوال لم يحاولوا الكذب، ولكن الحمل على المعنى جعل نوعا مما أثبتوه يشبه الوضع عن حسن نية: مثل ذلك جميع تلك الأقوال التي تقع بين قطبي: كان؟ فصار، فإذا كانت الجملة الأصلية المقولة عند تابوته مثلا: طان آسرا فصار أسيرا، فمن السهل في الرواية على المعنى أن تجيء في صور مختلفة " ناطقا صامتا، قاتلا مقتولا، غالبا مغلوبا، مرتفعا متضعا، قاهرا مقهورا،؟ الخ (1) بل من السهل أن يتم التصرف في هذا المعنى على صيغ أخرى تبتعد عن التقابل ين طرفي المفارقة، وكل هذا عند رواته لا يعني كذبا في الوضع لأنه يظل ينقل روح المعنى المراد، ومما يقارب ذلك معنى " العظة " بالموت، فإن إيرادها في صور مختلفة يحمل معنى الوضع غير المتعمد كما يجمع إلى ذلك أحياناً وهما في حقيقة المعنى الأصلي أو نسيانا له إذا كانت الرواية من الذاكرة، فمن تلك الصور: المسعودي: قد كنت لنا واعظا فما وعظتنا موعظة أبلغ من وفاتك. ابن البطريق: لا تعجبوا ممن لم يعظنا في حياته ثم قد صار بموته لنا واعظا. فنحن نرى هنا أن المسعودي قد ناقض ابن البطريق إذ زعم الأسكندر كان واعظا للناس في حياته بينا هو عند ابن البطريق لم يفعل ذلك، ثم ان ابن البطريق نفسه تحدث عن هذه العظة في قولتين أخريين، مؤدى إحداهما أن العامة تتعظ بموت الملوك كما أن الملوك يتعظون بموت العامة (رقم 43 في الملحق) وأن الإسكندر ما اتعظ بعظة أبلغ من وفاته (رقم 44) وهما يمثلان تفريعين صغيرين على الأساس الأول لهذه الحكمة،   (1) انظر الأرقام: 31، 41، 52، 54، 88، 118 في الملحق: 2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 ويورد الثعالبي تفريعا آخر عند المقابلة بين النطق والعظة: قد كنت أمس أنطق وأنت اليوم أوعظ (رقم: 58) ثم نجد لدى الشهرستاني انطلاقة جديدة ينكر فيها وعظ الإسكندر للناس في حياته (كما هي الحال عند ابن البطريق) ولكنه وعظهم في مماته، إلا أن الجديد هنا أن عدم الوعظ كان اختيارا وأن الوعظ كان اضطرارا (رقم: 80) ، هل كل هذه الأقوال ترجع إلى أصل واحد؟ يبدو أن الأمر كذلك، ولكن استغلال المعنى الواحد من عدة أنحاء يدل على البراعة أيضا، وأن هذا النوع من التشقيق مبني على الأصل. وشبيه بهذا التفريع تولد داخلي أعانت عليه نزعة أخلاقية زهدية دينية تتحرك بقوة في موقف الموت، وليس من الضروري أن يتم ذلك على أيدي الرواة العرب بل لعلهم وجدوه في الرواية المسيحية السريانية فنقلوه على حاله، أو بشيء يسير من التغيير، ولا نكران في أن كثيرا من هذه الأقوال إنما حور عن أصله؟ أو وضع أصلا - ليلائم بعض المشاعر الدينية التي تزهد في الدنيا أو تؤمن بالبعث، والأقوال التالية أمثلة على ذلك: 1 - أعجب لمن كانت هذه سبيله كيف شرهت نفسه بجمع الحطام البائد والهشيم الهامد (الملحق: 15) . 2 - إن دنيا يكون هذا آخرها فالزهد فيها أولى أن يكون في أولها (24) . 3 - هذه طريق لا بد من سلوكها فارغبوا في الباقية كرغبتهم في الفانية (34) . 4 - ما أرغبنا في ما فارقت وأغفلنا عما عانيت (82) . 5 - خرجنا إلى الدنيا جاهلين وأقمنا فيها غافلين ونخرج عنها كارهين (89) . 6 - قل للملوك ليس بعد الحياة إلا الموت، ولعل ما بعد الموت أشد من الموت (96) . 7 - قل للملوك ما الحياة بثقة فيرجى غدها ولا الموت بغابر فيؤمن يومه (97) . 8 - لو كان له يقين لم ينصب نفسه لجمع ما تخلف عنه (107) . وحين يصرح المسعودي بأن القول الثاني إنما صدر عن أحد نساك الهند، فإنما ذلك إشارة إلى هذا الوتر الزهدي القوي الذي يتخلل أقوال أولئك الحكماء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 ولعل جانبا من هذا التكاثر قد تم بالنقل المعاكس فنحن نعرف مثلا صلة أبي العتاهية بهذه الأقوال؟ وذلك ما سيتم توضيحه في فصل تال - ولكن يبدو أن بعض أسباب الوصل بين أقوال الحكماء وأبي العتاهية إنما تمت بطريق معاكس، فأبو العتاهية هو الذي يقول " لدوا للموت وابنوا للخراب " وبسبب من تلك الصلة يعكس الأمر، وينقل قول أبي العتاهية ويدرج بين أقوال الحكماء على أنه لواحد منهم ويصبح: " الآن علمت أنك ولدت للموت وبنيت للخراب " (1) . كذلك حدث؟ فيما أعتقد - في كثير من صور الرثاء المألوفة عند العرب مثل: 1 - انظروا كيف خر الطود الشامخ ونضب البحر الزاخر وسقط القمر الطالع (74) 2 - قد كان هذا الأسد يصيد الأسود والآن وقع في الحبالة (59) 3 - انظروا إلى حلم النائم كيف انقضى وإلى ظل الغمام كيف انجلى (17) ولن يغيب عن التأمل في هذه الأقوال وجود تيارين متضاربين فيها: أحدهما مليء بالأسف على الأسكندر وعلى العظمة التي زالت والقوة التي تلاشت، والثاني حافل بالشماتة والتقريع (2) ، ومهما نحاول أن نقول إن الروح الزهدية التي تقؤع من يجمع المال للوارث (3) ، وتتحدث كثيرا عن الأجل والأمل (4) وتشجب السعي الدائب من أجل الدنيا (5) ، هي المسئولة عن ذلك فإنها لا تكفي وحدها لتفسير التيار الثاني، خصوصا وان الإسكندر لدى المسلمين لم يكن محض ملك، ولا عد جبارا في الأرض، وإنما كان لدى الكثيرين هو ذا القرنين الذي اضطلع بعبء الإصلاح (6) ، فهل هناك عامل آخر؟ أو عوامل أخرى ساعدت النزعة الزهدية على إبراز جانب التقريع والشماتة في تلك الأقوال؟ حقا إننا نجد هذا التيار في الصور المبكرة عند ابن البطريق والمسعودي مثل: " أيها الساعي المغتصب جمعت ما خذلك؟ الخ (رقم: 6 في الملحق) ، ولكن   (1) انظر رقم 73 وهو مما انفرد به الثعالبي وقد أشار إلى أن أبا العتاهية أخذ قوله منه. انظر غرر السير: 453، 455. (2) لحظ ذلك الأستاذ غرنياسكي، انظر مقالته الأولى: 229، 231. (3) انظر رقم 100، 113 في الملحق: 2. (4) رقم: 5 في الملحق: 2. (5) رقم: 104 في الملحق: 2. (6) انظر مقالة غرنياسكي الأولى ص: 230. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 الأقوال الدالة على الشماتة؟ في هذه الفترة - تظل أضعف بكثير من الأقوال التي تدل على الأسف، حتى نصل إلى الثعالبي، فنجدها قد ازدادت كثيرا، وهناك نقرأ: 1 - كل يحصد ما يزرعه فاحصد الآن ما قد زرعت (60) 2 - استرحت من أشغال الدنيا فانظر كيف تستريح من أهوال الأخرى (62) 3 - ما ينبغي لك ذلك التجبر أمس مع كل هذا الخضوع اليوم (1) (57) 4 - ما كان أغناك عن إماتة الخلق الكثير مع موتك هذا السريع (63) 5 - دخلت الظلمات لطلب نور الحياة ولم تعلم أن مصيرك إلى ظلمة التابوت (68) فهذه الأقوال وغيرها؟ مما انفرد به الثعالبي - تقوي الظن بأنها وليدة بيئة فارسية، كان رضاها عن الأسكندر المغتصب، الذي سيحصد ما زرع ويلقى جزاء جبروته أقل بكثير من رضى الروايات الأخرى مسيحية كانت أو إسلامية. إلا أن هذه الروح في الرواية الفارسية قد وجدت من بعد عونا من النزعة الزهدية العامة. ويقف القول الخامس فيما تقدم عن دخول الظلمات وطلب نور الحياة فريدا، وذا دلالة على محاولة استخراج تلك الأقوال من التحركات التاريخية للإسكندر نفسه (أو على الأقل محاولة لاستخراجها من قصته تاريخية كانت أو أسطورية) . ومما يجب أن نلحظه في تلك الأقوال تسمية بعض قائليها وإغفال أكثرهم، واضطراب المصادر في أسماء المذكورين منهم، ونسبة القول لغير واحد، مما لن أحاول الوقوف عنده، بعد إذ أصبح ظاهرة تكاد تكون طبيعية في مثل هذه الأقوال. ولكن مما يلفت النظر أن اليعقوبي والمسعودي والمبشر بن فاتك لا يذكرون أسماء القائلين، ولعلهم كانوا على وعي بالخطأ التاريخي في جمع عدد من الأشخاص لا يجمعهم زمان، ولا يتأتى جمعهم في مكان، حول تابوت الإسكندر، ثم نجد ابتداء من المسعودي أنهم لم يكونوا جميعا من حكماء يونان بل كان فيهم بعض حكماء الهند ونساكها، وأنهم أيضا لم يكونوا جميعا من طبقة الفلاسفة والحكماء، وغنما كانوا يضمون صاحب مائدة الإسكندر وصاحب بيت المال وأحد الخزان (إلا أن يكون هؤلاء أيضا كانوا حكماء) كما برزت بينهم   (1) انظر التعليق على هذه العبارة في الملحق (رقم: 75) حيث ترد العبارة في مخطوطة كوبريللي والحصري على نحو أكثر قسوة في الشماتة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 زوجة روشنك وأمه. ومن الطريف أن القول المنسوب إلى زوجته قد ألمح إلى تلك الشماتة التي تحدث عنها آنفا: " وأن كان هذا الكلام الذي سمعت منكم معاشر الحكماء فيه شماتة فقد خلف الكأس الذي تشرب به الجماعة " (1) . وتستحق القولة المنسوبة إلى أم الأسكندر وقفة خاصة، لتباينها في المصادر على نحو واضح: 1 - ابن البطريق ومخطوطة كوبريللي (2) : قد بالغتم في التعزية والذي كنت أحذره على الأسكندر قد صار إليه، فلم يبق له ملك ولا عليه، فليكثر في الدنيا زهدكم وأعطوا الحق من أنفسكم، فقد قبلت تعزيتكم. 2 - اليعقوبي ومختصر الصوان والمبشر (3) : العجب يا بني لمن بلغت السماء حكمته وأقطار الأرض ملكه ودانت له الملوك عنوة كيف هو اليوم نائم لا يستيقظ وساكت لا يتكلم، فمن ذا يبلغ الإسكندر عني فيعظم حباؤه مني وتجود منزلته عندي بأنه وعظني فاتعظت وعزاني فتعزيت وصبرت، ولولا أني لاحقة به ما فعلت، فعليك السلام يا بني حيا وميتا فنعم الحي كنت ونعم الهالك أنت. 3 - مروج الذهب: لئن فقد من ابني أمره فما فقد من قلبي ذكره (4) . 4 - الثعالبي: يا بني قد كنت أرجوك وبيني وبينك بعد المشرقين وقد أمسيت منك الآن وأنت أقرب إلي من ظلي. فإذا كان كل قسم من هذه الأقسام يمثل مجموعة من الروايات، فإن المجموعة الأولى   (1) الملحق 2 رقم: 29 ونصه عند ابن البطريق: " أن كان منطقكم في الأسكندر باستهزاء فقد خلف الكأس التي نشربها معكم ولكلكم فيها ارواء (ص: آراء) وان كان تعزيه وبكاء فاستعدوا للجواب وأعدوا الحجة فإن مما ذاق ستذوقون فليكن العمل على حسب القول فأنكم غير آمنين " (ص: 84) . (2) تاريخ ابن البطريق: 84 - 85 ومخطوطة كوبريللي، الورقة: 4. (3) تاريخ اليعقوبي 1: 145 ومختصر الصوان: 30 ومختار الحكم: 241 وأثبت رواية الثالث، وهناك اختلاف جزئي عنها لدى اليعقوبي ومختصر صوان الحكمة. (4) الملحق 2 رقم: 30. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 تتمشى وروح الزهد العامة في الأقوال، كما أن الثالثة والرابعة أوجز من أن تنسب إلى أم ثاكلة. وتتميز المجموعة الثانية بأنها قد جمعت جانبا غير قليل مما نثر في الحكم، مع الإلحاح على تذرع الأم الثاكلة بالصبر والعزاء، وإذا وضعناها إلى جانب قولة أخرى أوردها المبشر بن فاتك نفسه وجدنا الانتقال من الصبر إلى الجزع واضحا تماما حيث يرد على لسانها " قد ولت الدنيا عني، وهد الموت ركني، وأذعنت بحلول الزوال علي، والدوام لبارئ الكل الحي الذي لا يموت ولا يزول ولا يفنى. وكل مرضعة فللموت تربي، وللفناء تغذو وإلى الثكل تصير، فما العوض من فراق الحبيب وثمرة القلب ومنى النفس!! ما أرى أن في الدنيا وطنا ولا مقرا بعد هلاكه إلا بأن أهيم مع الوحوش إلى أن يكرمني الله باللحوق بدار الحبيب " (1) ، ومن تأمل هذه الاختلافات في الأقوال المنسوبة لأم الأسكندر أدرك أنها تمثل مواقف مختلفة، بحسب نفسيات الذين كانوا يتصورون أنا تشهد تابوت ابنها وبحسب تفاوت أمزجتهم وانتماءاتهم. لقد أطلت القول بالحديث عن أقوال الحكماء لأنها اكتسبت أهمية لا في تاريخ الأدب العربي وحسب بل في الأدب السرياني والفارسي والتركي، وشاعت في الغرب منذ القرن الثاني عشر الميلادي (2) ، ولست أنوي أن أتحدث هنا عن ما تركته من أصداء غير مباشرة في الأدب العربي، فقد بان من الأمثلة السابقة مدى التلاقي؟ اطرادا وعكسا - بين هذه الأقوال وبين المرثية العربية، وإنما أكتفي بعرض صورة واحدة تمثل دور المحاكاة، - بقوة الأنموذج - كما أوضحت في مطلع هذا الفصل، وهذا يقضي عودة إلى مدرسة أبي سليمان المنطقي، ومؤرخها المخلص أبي حيان التوحيدي. وتتصل المناسبة بوفاه عضد الدولة الذي ينعته أبو سليمان المنطقي بالملك السعيد (3) ، وقد كان هذا الملك يرعى أبا سليمان ويفضل عليه، ولهذا نجده يقول بعد وفاته: " من يذكرني وقد مضى الملك؟ رضوان الله عليه - ومن يخلفه في مصلحتي ويجري على عادته معي، ومن يسأل عني ويهتم بحالي، هيهات! فقد والله بالأمس من يطول تلفتنا إليه ويدوم تلهفنا عليه؟ إن الزمان بمثله لبخيل - كان والله شمس المعالي وغرة الزمن وحامل الأثقال وملتقى القفال ومحقق الأقوال والأفعال؟ " (4) "، ويبدو أن فضل عضد الدولة   (1) مختار الحكم: 242. (2) انظر التوحيدي: الامتناع والمؤانسة 2: 116. (3) انظر التوحيدي: الامتناع والمؤانسة 2: 116. (4) الامتناع 1: 30. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 لم يقف عند أبي سليمان، وإنما عم رجال مدرسته، ولهذا لا يستغرب أن يقف أولئك الفلاسفة وعهم أساتذتهم؟ أبو سليمان - يؤبنون عضد الدولة على نحو ما فعل الحكماء عند تابوت الإسكندر، وعلى ضوء المناسبة نستطيع أن نحدد تاريخ الأقوال لاتصالها بوفاة عضد الدولة (أي سنة: 372/982) وتلك الأقوال قد ذكرها أبو حيان في كتاب الزلفة؟ وهو من كتبه التي لم تصلنا حتى اليوم - فقال: " لما صحت وفاة عضد الدولة كنا عند أبي سليمان السجستاني، وكان القومسي حاضرا والنوشجاني وأبو القاسم غلام زحل وابن المقداد والعروضي والأندلسي والصيمري، فتذكروا الكلمات العشر المشهورة التي قالها الحكماء العشرة عند وفاة الإسكندر " (1) . وكان الذي اقترح عليهم محاكاتها هو الأندلسي فاستحسن أبو سليمان اقتراحه، وكان أول القائلين، ثم توالى بعده أصحابه على الترتيب الآتي: 1 - المنطقي: لقد وزن هذا الشخص الدنيا بغير مثقالها وأعطاها فوق قيمتها، وحسبك انه طلب الربح فيها فخسر روحه في الدنيا. 2 - الصيمري: من استيقظ للدنيا فهذا نومه، ومن حلم بها فهذا انتباهه. 3 - النوشجاني: ما رأيت غافلا في غفلته ولا عاقلا في عقله مثله، لقد كان ينقض جانبا وهو يظن أنه مبرم، ويغرم وهو يرى أنه غانم. 4 - العروضي: إما إنه لو كان معتبرا في حياته لما صار عبرة في مماته. 5 - الأندلسي: الصاعد في درجاتها إلى سفال، والنازل من درجاتها إلى معال. 6 - القومسي: من جد للدنيا هزلت به، ومن هزل راغبا عنها جدت له، انظر إلى هذا كيف انتهى أمره وإلى أي حظ وقع شأنه، وإني لأظن أن الرجل الزاهد الذي مات في هذه الأيام ودفن بالشونيزية احفظهما واعز ظهيرا من هذا الذي ترك الدنيا شاغرة ورحل عنها بلا زاد ولا راحلة. 7 - غلام زحل: ما ترك هذا الشخص استظهارا بحسن نظره وقوته، ولكن غلبه ما منه كان، وعنه بان.   (1) ذيل تجارب الأمم: 75. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 8 - ابن المقداد: إن ماء أطفأ هذه النار لعظيم، وإن ريحا زعزعت هذا الركن لعصوف. ولا يخفى ما في هذه الأقوال من استجلاب للجو الزهدي حول الدنيا وشؤونها، وإذا استثنينا القولين اللذين يقران لعضد الدولة بحسن النظر وقوة الركن، فإن الأقوال الأخرى إما تنحو نحو التعميم وإما تحاول أن تغض من قيمة الطموح الدنيوي كما يمثله ملك، وقد تتفق في بعض دلالتها مع بعض ما جاء في أقوال الحكماء الذين أبنوا الإسكندر. ولعل إيمان أولئك المفكرين؟ ولو نظريا - بالسيرة الفلسفية التي يمثلها سقراط هو المحرك في هذا كله، إذ كم يبدو التباين جليا بين ما يقوله أبو يليمان المنطقي في لحظة فلسفية وبين ما يقوله في وصف عضد الدولة في لحظة شعوره باليأس من السند المادي. وكذلك سائر هؤلاء المفكرين فإنهم تجنبوا أن يذكروا ما كان للرجل من أثر في تشجيع العلم والفلسفة، وكان قمة ما يصبون إليه لا أن يحاكوا الأقوال الزهدية يمثلها وحسب، بل أن يعتقدوا؟ وشيخهم أبو سليمان دليلهم إلى ذلك - أن كل ما يمكن أن يقال في ذلك الموقف قد أتى عليه أبو إسماعيل الهاشمي الخطيب حين قال على المنبر يوم الجمعة يرثي عضد الدولة: " كيف غفلت عن كيد هذا الأمر حتى نفذ فيك، وهلا اتخذت دونه جنة تقيك، ماذا صنعت بأموالك والعبيد، ورجالك والجنود، وبخولك العتيد، وبدهوك الشديد، هلا صانعت من عجل (؟) على السرير، وبذلت له من القنطار إلى القطمير، من أين أتيت وكنت شهما حازما، وكيف مكنت من نفسك وكنت قويا صارما؟ " (1) ، فكل هذه الأقوال ترد موردا واحدا، وإن كانت خطبة الخطيب أبلغ أسلوبا. ولدى سبط أبن الجوزي تعليق يقول فيه: " بين كلام هؤلاء وأولئك المتقدمين المتكلمين على تابوت الإسكندر كما بين الملكين في المساواة " (2) . وليس الأمر كذلك بإطلاق، ولكن الذين حاكوا الأقوال القديمة حددوا لأنفسهم مجالا ضيقا، فلم يستطيعوا أن يقولوا شيئا يتعدى دائرة الزهد إلا قليلا.   (1) ذيل تجارب الأمم: 76 - 77. (2) هامش ذيل تجارب الأمم رقم: 6 ص 77 نقلا عن مرآة الزمان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 فراغ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 " 8 " إعادة صوغ الفكر السياسي اليوناني في أسلوب أدبي من السهل أن ندرك لماذا احتل الفكر السياسي مقاما هاما بين المسلمين، فهذا الفكر؟ سواءا أكان فارسيا أو يونانيا أو غير ذلك - هو أهم زاد ثقافي للأمراء والحكام، وهو أيضا المادة الثقافية الأولى التي يعول عليها الكاتب أو من يرشح نفسه ليكون كاتبا مترسلا في الديوان، ولماذا كانت الكتابة في معظمها ديوانية فإن شعلة هذا النوع من الفكر ظلت مضاءة على مر الزمن، رغم تغير الأزمان والأمكنة، وفي طليعة هذا اللون من الفكر تجيء الكتب التي يمكن أن يطلق عليها " مرايا للأمراء "، وهي نصائح سياسية تسدى للأمير أو ولي العهد حتى يكون سياسيا ناجحا، وتقوم على قاعدة أخلاقية، وعن طريق هذه القاعدة ترتبط بالدين، وينظر إليها بشيء كثير من التقدير، حتى وإن كانت مصادرها بعيدة كل البعد عن أصول الإسلام. وقد لحظ أبو الحسن العامري 0أن الأدب الكبير لابن المقفع إنما يعتمد القواعد الأخلاقية التي جاءت في كتاب المجوس " الأبستا " وانه مع تقدمه في ذلك غير لائق شيئا منه بالقرآن " وكيف يظن به ذلك وقد علم أن الشرف الأنسي عند ملوك العجم كان معلقا بالأنساب، وكانوا يحرمون على رعاياهم الترقي من مرتبة إلى مرتبة، وفي ذلك ما يعوق التراكيب السوية عن كثير من الشيم الرضية، ويعقد الأنفس الأبية عن حيازة الدرجات العلية " (1) ، ومع ذلك فإن العامري نفسه   (1) العامري: الأعلام بمناقب الإسلام: 160. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 حين كتب " السعادة والإسعاد " لجأ إلى اقتباس كثير مما ورد في " الأدب الكبير " دون أن يسميه (1) . ومثل ذلك يمكن أن يقال في كثير من الكتب التي ترجمت عن الفرس كعهد أردشير وكتاب الآيين وكتاب التاج في أخلاق الملوك وغيرها، فأن معظمها أصبح " معتمد " المرشحين لولاية الأمور، وقد عرفنا أن عهد أردشير كان مما يؤخذ أولياء العهود بدراسته والتعمق فيه مع أن أساسه قائم على طبقية مصمتة لا مجال لتخطيها، وشيء من وصولية عملية، وإنكار تام لمصطلح " العدالة " والاستغناء عنه بمصطلح " الحزم ". وكان من جراء الإتمام الكبير بهذا اللون من الفكر أن أقبل الناس فيه على الترجمة والتأليف إقبالا كبيرا، فبعد عبد الحميد وابن المقفع نجد طاهر بن الحسين يكتب عهدا لابنه عبد الله حين ولاه المأمون ديار ربيعة، وينال العهد إعجاب المأمون فيأمر باستنساخه وتفريقه في الأمصار (2) ، ونجد عمارة بن حمزة يكتب رسالة " الخميس " وهي التي كانت؟ كما يقول ابن خلكان - تقرأ لبني العباس (3) . ويستمر الأمر على ذلك، فينتزع ابن الداية مما زعم أنه رموز كتاب السياسة لأفلاطون ثلاثة عهود، ويطول بنا القول لو شئنا أن نحصر الإسهام في هذا الحقل عل مر الزمن، ولكن حين نرصد الظاهرة نفسها نستطيع أن نتبين جهدا آخر في هذا النطاق يتمثل في أمرين: أولهما صياغة الحكمة السياسية الأخلاقية في أقوال تسير بين الناس ويسهل حفظها، كما فعل أبو الحسن علي بن محمد الصغاني صاحب كتاب " الفرائد والقلائد في الاستعانة على حسن السياسة " (4) .   (1) انظر نماذج من ذلك في الصفحات: 380، 381، 149، 146، 160؟ الخ حيث تم النقل عن الأدب الكبير دون أن يذكر بالاسم. (2) ابن أبي طاهر: كتاب بغداد: 34. (3) ابن خلكان 4: 32. (4) اقتبس منه أسامة بن منقذ في لباب الآداب: 67 وما بعدها، ومن نماذجه، آفة الملوك سوء السيرة، وآفة الوزراء خبث السرسرة.. وآفة الزعماء ضعف السياسة، وآفة العلماء حب الرياسة.. الخ " وقد ورد ذكر الكتاب في نصيحة الملوك للغزالي: 163 (من الترجمة الفارسية) منسوبا لأبي الحسن علي بن الأهوازي الحنفي ويعتقد المحقق أنه معاصر للثعالبي. (نصيحة الملوك تحقيق أستاذ جلال الدين همائي، طهران: 1351) والأهوازي المذكور ربما كان هو نفسه مؤلف كتاب " التبر المنسك في تدبير الملك " (مطبعة التمدن، القاهرة 1900) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 وثانيهما؟ وهو ما يهمنا في هذا الصدد - إعادة " ترجمة " الآثار اليونانية بأسلوب رفيع، كما أشرت إلى ذلك في الفصل السابق، لا لكي يسهل حفظها وحسب، بل لكي تصبح نموذجا أدبيا يحتذيه الكاتب، وإذا أقتبس منه خفي اقتباسه، واندرج ما اقتبسه ضمن أسلوبه المتوازن المسجوع. وكان من أوائل النصوص السياسية المنقولة إلى العربية الرسائل المحولة إلى ارسطاطاليس وخاصة رسالة بعنوان " السياسة في تدبير الرياسة " أو " سر الأسرار " فيما كتبه للإسكندر، وهي الرسالة التي يعتقد الأستاذ غرنياسكي أن أساسها الأولي تمثله " رسالة في السياسة العامية " المنحولة أيضا له، ولتي ربما كانت من النصوص التي نقلها سالم أو نقلت له. وقد حظيت تلك الرسائل المنحولة لأرسطاطاليس وبخاصة رسالته في السياسة العامية التي تطورت من بعد في ما سمي " سر الأسرار " بما لم يحظ به غيرها من عناية استنساخا واقتباسا وإضافة، ولكن الذي يهمنا؟ في هذا المقام - هو أنها وجدت من يعيد صياغتها في أسلوب مسجوع لتصبح قطعة أدبية لا محض رسالة سياسية. متى حدث ذلك وعلى يد من؟ لا أجد على هذين السؤالين جوابا قاطعا حتى الآن، وإن كنت أعتقد أن " نظم " الرسالة قد يكون من فعل صاحب " الفرائد والقلائد " فإن لم يكن الأمر كذلك فصاحب الفرائد إنما يقلد محاولات سابقة في هذا المضمار، ولدينا ما يثبت أن بعض المحاولات لإعادة كتابة بعض الرسائل السياسية أو بعض أجزائها بأسلوب جزل مسجوع قد تم في القرن الرابع أو قبله، فقد أورد أبو حيان التوحيدي في " الإمتاع والمؤانسة " صورة من هذه الصياغة الأدبية بين مجموعة من الحكم القصيرة التي أظن أيضا أن يد التحوير قد مستها، وتجري العبارة التي أوردها التوحيدي كما يلي: " تجرع من عدوك الغصة إن لم تنل الفرصة، فإذا وجدتها فأنتهزها قبل أن يفوتك الدرك، أو يصيبك الفلك، فإن الدنيا دول تبنيها الأقدار، ويهدمها الليل والنهار " (1) ، وليست العبارة في صورتها هذه إلا " ترجمة " لقول ينسب إلى أرسطاطاليس وهو " افترص من عدوك الفرصة واعلم أن الدنيا دول " (2) .   (1) الإمتاع والمؤانسة 2: 62. (2) مختار الحكم: 193 وفي السعادة والإسعاد: 325 وردت عبارة ارسطاطاليس كما يلي: " ومتى أمكنتك فرصة فاهتبلها فإن ترك المبادرة عند مصادفة الغرة ممعقب للحسرة وإنما الدنيا دول " وفي سر الأسرار: 136 ولا تدع لك في عدوك فرصة إلا انتهزتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 وعندما نصل إلى لباب الآداب لأسامة بن منقذ نجد العبارة التي أوردها أبو حيان بنصها (1) بين مجموعة من الأقوال السياسية التي خضعت لهذا النوع من الصياغة، وفيها قسط غير قليل مما يعد " ترجمة " جديدة لعبارات من رسائل أرسطاطاليس: 1 - فهذه العبارة: تفقد أمور عدوك قبل أن يطول ذراعه، وارتق الفتق قبل أن يتمكن فاتقه، لا تطلب ما بعد عنك حتى يستوي ما قرب منك، لا تخل فكرك ليلك ونهارك، فإذا أنشأت حربا فأعظمها، وإذا أشعلت نارا فألهبتها (2) . قد نظم بعض أجزائها على النحو التالي: تفقد أمر عدوك قبل أن يمتد باعه، ويطول ذراعه، وتكثر شكته، وتشتد شوكته، وعالجه قبل أن يعضل داؤه، ويصعب دواؤه، فكل أمر لا يداوى قبل أن يعضل، ولا يدبر قبل أن يستفحل، يعجز عنه مداويه، ويصعب تداركه، وتلافيه ولا تشغل نفسك بإصلاح ما بعد عنك حتى تفرغ من إصلاح ما قرب منك (3) - إذا أنشأت حربا فأرهجها، وإذا أوقدت نارا فأججها (4) . وإليك أيضا بعض العبارات الأخرى مقارنة بما صارت إليها عند إعادة صياغتها: 2 - سر الأسرار: يا اسكندر لا تباشر الحروب بنفسك (5) . للباب الآداب: ولا تباشر الحرب بنفسك، فإنك لا تخلوا في ذلك من ملك تخاطر به، أو هلك تبادر إليه (6) . 3 - السعادة والإسعاد: صير استشارتك بالليل فإن الفكر فيه أجلى وأجمع (7) .   (1) لباب الآداب: 63 - 64. (2) السياسة العامية مخطوطة كوبريللي، الورقة 83 وبعضها في السعادة والإسعاد: 325. (3) لباب الآداب: 64. (4) لباب الآداب: 61. (5) الأصول اليونانية: 149. (6) لباب الآداب: 64. (7) السعادة والإسعاد: 432 (من أقوال أرسطو للإسكندر) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 لباب الآداب: ولتكن مشاورتك بالليل فإنه أجمع للفكر، وأعون على الذكر، ثم شاور في أمرك من تثق بعقله ووده (1) . 4 - السياسة العامية: وصير الأرزاق على الضعيف، وصير رزق الجندي ما يحمله ويحمل عياله؟ وإذا أمرت بالأرزاق فأنجزها لهم؟ وأي صاحب لقاء أو بطريق أو جندي اتهمته، فإن كانت له درجة فأسقطها، وإن كان جنديا، وكان ذلك أول فعله فأصفح عنه، وإذا كان يوم الحرب قربت الأمناء يكتبون بين الصفين ما يحدث في كل ناحية، ثم غنمهم على ذلك وأبرز لهم العطايا فإنهم يبذلون أنفسهم لها؟ وأجر الأرزاق على ولد الشهيد في الحرب وما أشبه ذلك، وأجر الأرزاق على الجرحى سوى أرزاق العامة، ومن ضرب في وجهه فكافئه بجائزة، ومن ضرب في ظهره فوبخه بالكلام فقط، ومن قطعت يده وبطلت له جارحة فقد وجب عليك رزقه بقية عمره. (2) . لباب الآداب: وقال الحكيم: أفض على جيشك سيب عطائك، واصرف إليهم أحسن عنايتك وإرعائك، فإنهم أهل الأنفة والحمية، وحفظة الحوزة والرعية، وسيوف الملك وحصون الممالك والبلدان، وأوثق الأصحاب والأعوان، بهم تدفع العوادي، وتقهر الأعادي، ويزال الخلل، ويضبط العمل، قوي ضعيفهم يقو أمرك، وأغن فقيرهم يشد أزرك، وامنحهم قبل الفرض، واختبرهم عند العرض. ولا تثبت منهم إلا الوفي الكمي الذي لا يعدل عن الوفاء، ولا يجبن لدى االهيجاء، فإن المراد منهم قوة العدة، لا كثرة العدة. وإن أصاب أحدهم في وقعة تندبه لها، أو حملة تبرزه فيها، ما يعطله عن اللقاء، ويؤخره عن الاكفاء، فلا تمح اسمه، ولا تمنعه رسمه، وأن قتل في طاعتك، واستشهد تحت رايتك، فأكفل بنيه، وذب عن أهله وذويه، فإن ذلك يزيدهم رغبة في خدمتك، ويسهل عليهم بذل المهج والأرواح في نصرة دولتك ودعوتك (3) . وفي هذه الأمثلة المقارنة نموذج لمن شاء أن يتصور كيف أصبحت الوصايا السياسية رسائل أدبية، ذات أسلوب مسجع، ولكن المثل الأخير منها يحمل مشكلة جديدة، ذلك لأن التطابق بينه وبين النقل الأسلوبي محمول على الجملة لا على التفصيل، ولعل   (1) لباب الآداب: 64. (2) رسالة في السياسة العامية، مخطوطة كوبريللي، الورقة: 88 وقارن السعادة والإسعاد: 334. (3) لباب الآداب: 59 - 60. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 " المترجم " هنا ناظر إلى نص آخر أو إلى نصوص أخرى غير هذا النسوب لارسطاطاليس، ذلك أن بعض الشبه يربط ما جاء هنا وبين نص منسوب لعلي بن أبي طالب (1) ، وربما حملنا هذا على القول بأن " الحكيم "؟ أو الذي نظم أقوال الحكيم - كان يتصيد كل ما يهمه في هذا المضمار، فالحكيم هنا لفظة لا تشير إلى رجل بعينه، وإنما قد تعني كل من يمكن أن تقتبس الحكمة عنه (2) . وقد أورد أسامة مجموعة من هذه الأقوال السياسية المحبوكة على هذا المنوال، ونسبها إلى " الحكيم " ولما لم يكن في مقدوري أن أرد جميع صور هذه الصياغة إلى الآثار المنحولة لارسطاطاليس، فإن خير ما أختم به هذا الفصل أن أثبت مجموعة من تلك الأقوال، تمثل مزيدا من الشواهد على هذه الطريقة، فربما اهتدى البحث لأصولها " الساذجة " فيما بعد: 1 - حاجة السلطان إلى صلاح نفسه أشد من حاجته إلى صلاح رعيته، وفائدته في إحسان سيرته، أعظم من فائدته في ثبات وطأته، لأنه إذا أصلح نفسه صلحت رعيته، وإذا أحسن سيرته ثبتت وطأته، ثم يبقى له جميل الأحدوثة والذكر، ويتوفر عليه جزيل المثوبة والأجر، لأن السلطان خليفة الله في أرضه، والحاكم في حدود دينه وفرضه، قد خصه الله بإحسانه، وأشركه في سلطانه، وندبه لرعاية خلقه، ونصبه لنصرة حقه، فإنه أطاعه في أوامره ونواهيه تكفل بنصرة، وان عصاه فيهما وكله نفسه. (3) . 2 - من ملكه الله من أرضه وبلاده، وائتمنه على خلقه وعباده، وبسط يده وسلطانه، ورفع محله ومكانه، فحقيق عليه أن يؤدي الأمانة، ويخلص الديانة، ويجمل السيرة،   (1) القاضي النعمان: دعائم الإسلام 1: 421 - 422. (2) شاهد هذا على نحو لاشك فيه أن اقتبس عن الحكيم مرتين (ص:74) وكان هذا الحكيم هو ابن المقفع، فالنصان الواردان عند أسامة هما في الأدب الكبير، (رسائل البلغاء: 54،49) ولكن دون تحوير أو اعتماد صياغة جديدة كما هو الحال فيما نسب إلى أرسطاطاليس. (3) هذه القطعة والثنتان التاليتان في لباب الآداب: 58 - 59، 61، والأساس الذي بنيت عليه القطعة الأولى موجود عند أرسطاطاليس في قوله: " أصلح نفسك لنفسك يكن الناس تبعا لك " (مختار الحكم: 193 ولباب الآداب: 58) ولكن هذه الصياغة تجاوزت هذا الأساس إلى غيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 ويحسن السريرة، ويجعل الحق دأبه المعهود، والأجر غرضه المقصود، فالظلم يزل القدم، ويزيل النعم، ويجلب النقم، ويهلك الأمم. 3 - من أعرض عن الحزم والأحتراس، وبنى على غير أساس، زال عنه العز واستولى عليه العجز، وصار من يومه في نحس، ومن غده في لبس. 4 - من جد في حرب عدوه وقتاله، واحتال في قتله واستئصاله، يشغل بذلك قلبه، ويسخط ربه، وينفق عليه ماله، ويكد فيه نفسه ورجاله، ثم يكون من أمره على غرر، ومن حربه على خطر، ولو استعطفه بلطف مقاله، واستصلحه بحسن فعاله، واتخذه وليا صفيا يشاركه في الخير والشر، ويساهمه في النفع والضر، ويعضده غي الأحداث والعوادي، وينجده على الأضداد والأعادي، لكان أصلح له في دينه ودنياه، وأعود عليه في بدئه وعقباه " (1) . وهذه القطعة الأخيرة تختلف عما في الرسائل المنحولة لارسطاطاليس وغيرها من حيث أنها تنص على التلطف للعدو ومحاولة استعطافه واستصلاحه إلى أن يصير صفيا، إذ أن أكثر تلك الأقوال إنما تخص على الحذر والتنبيه والكيد، وما إلى ذلك، وهذا الاختلاف يومئ إلى أننا يجب أن نبحث عن مصدر آخر لأمثال هذه الحكم (2) . ومهما تتنوع هذه الأقوال وتتعدد مصادرها فإني أراها جميعا تنتمي إلى مصدر واحد، كتاب أو رسالة، حين تكون على هذا النحو من الأسلوب المسجوع. ولكن هل ينقل أسامة عن هذا المصدر بترتيب أو لا؟ ذلك ما لا يمكن القطع به. ولعل سائلا أن يسأل: ما الجديد الذي قدمته هذه المحاولة؟ والجواب على ذلك أنها تفعل شيئا كثيرا سوى تقريب الأدب السياسي لمن يحبون جزالة الأسلوب   (1) لباب الآداب: 61 - 62. (2) لعل أقرب النصوص إليها من حيث المعنى هو ما ورد في كليلة ودمنة: 239 " فلا يمنعن ذا العقل عداوة كانت في نفسه لعدوه من مقاربته والتماس ما عنده، إذا طمع منه في دفع مخوف، ويعمل الرأي في إحداث المواصلة والموادعة ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 وحلاوة الموسيقى، فبسط العبارات لم يضف شيئا إلى النظرية السياسية أو إلى المواقف الأخلاقية. ولكن هذا العمل؟ من وجه آخر - يقف شاهدا على مدى افتتان فريق من الناس بلون من ألوان الفكر اليوناني وعلى محاولتهم إشاعته عن طريق التحلية والتنميق (1) .   (1) من النماذج المتأخرة التي تمثل إعادة صياغة: ما فعله ابن عربشاه (854/1450) فقد ترجم مرزبان نامه عن التركية (وقد ترجم إليها عن الفارسية) ، ثم إنه أعاد صياغته في كتابه فاكهة الخلفاء ومفاكهة الظرفاء، مع إضافات قليلة من لدنه. (مرزبان نامه، ط. مصر 1278 وفاكهة الخلفاء، الموصل 1869) . ومن السهل ×جراء المقارنة بين النصين " وهذا يدل على أن إعادة الصياغة لم تكن مقصورة على الآثار السياسية اليونانية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 " 9 " تحوير الحكم والأمثال اليونانية في صورة نظم ما تقدم في الفصل السابق من تحوير الأدب السياسي المنسوب إلى يونان في أسلوب نثري جزل مسجوع، يجمع بين ما ظنه أصحابه من جمال المحتوى والشكل معا، كان؟ فيما يراه - مسبوقا بحركة أخرى، أوغل في الزمن، تم فيها نقل الأمثال والحكم من صورتها النثرية إلى نظم؛ هي حركة تستطيع أن تسميها ترجمة من العربية إلى العربية، سواء أكانت الأصول يونانية أو فارسية، وهذه الحركة تتمثل في ثلاثة تيارات، أولها: ظاهر جلي، ذو حدود واضحة وإمارات شاهدة، وذلك يتمثل في ما قام به أبان اللاحقي وسهل بن نوبخت وعلى داود في نقل كليلة ودمنة إلى الرجز، وفي نقل حكم الهند وغيرها (1) ، وهي حركة تصميمية عامدة، كانت تخضع لرغبة بعض المولعين بالثقافات الأجنبية، فقد ذكر محمد بن داود في طبقات الشعراء أن يحيى بن خالد اشتهى حفظ كتاب كليلة ودمنة، فقلبه له أبان شعرا ليسهل عليه حفظه (2) ، والثاني تيار لا لا حدود له، رأى في الحكم والأمثال ملكا شعبيا، يستطيع كل من شاء أن يستمد منه وأن يتصرف به حسبما يحلو له، وقد مر بنا من نقل الحكايات في صورة شعر مثل واضح في قصة الذئب والحمل (3) ، ويمكن أن يضاف إلى ذلك أمثلة أخرى، منها قول   (1) الفهرست: 119 حيث ذكر أن أبانا نقل كتاب حكم الهند. (2) الجهشياري: 211. (3) انظر ما تقدم ص: 78 (رقم: 2) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 بعضهم في ذئب رباه مع غنمه، فعدا حين كبر على شاة له فأكلها: فرست شويهتي وفجعت طفلا ... ونسوانا وأنت لهم ربيب نشأت مع السخال وأنت طفل ... فما أدراك أن أباك ذيب إذا كان الطباع طباع سوء ... (1) فليس بمصلح، طبعا، أديب ويجب ألا تستوقفنا كثيرا نسبة هذا الشعر إلى أعرابي، فجهل القائل هنا هو الشيء المهم، إذ أنه يؤكد أن هذا الشعر وأمثاله إنما أصبح تركة شعبية خالصة، تحمل في ذاتها أهميتها دون أن تكون نسبتها لمن قالها أمرا هاما. والظن قوي بأن هذا اإتجاه قد بدأ يستقوي منذ أواخر العصر الأموي، لأنه ذو دلالة على مرحلة ثقافية معينة، يصبح فيها اتكاء على التراث، وتقدير قيمته، أمرا أصيلا، وإذا نحن نظرنا إلى الشعر قبل ذلك وجدنا النزع بالحكاية الخرافية غير شائع كثيرا، وأن الميل يكاد يكون أقوى لاستشهاد بالقصص الإنسانية مثل حكاية السمؤال؟ في شعر الأعشى - وحكاية زرقاء اليمامة في شعر النابغة، أو قصة كعب بن مامة وقصير والقارظ العنزي وأمثال ذلك، حتى إذا بلغنا إلى شعر الكميت في الفترة التي أتحدث عنها، وجدنا النزع بالخرافة الحيوانية يكثر ويطغى على ما سواه إلى أن يكاد يصبح مذهبا أدبيا، كما في قوله (2) : كما رضيت جوعا وسوء ولاية ... لكلبتها في آخر الدهر حومل وقوله (3) : فعل المقرة للمقالة خامري يا أم عامر   (1) الدرة الفاخرة: 294 وأشار المحقق إلى ورود الشعر في المحاسن والأضداد: 41 والحيوان 4: 48، 6: 24، 7: 56، 80 وذلك يدل على أن الشعر يرجع إلى ما قبل القرن الثالث. وانظر عيون الأخبار 2: 5 وتذكرة النهروالي: 73 وجمهرة العسكري 2: 57 والمستقصى 1: 233 والميداني 1: 302. (2) الدرة الفاخرة: 117 والبكري: فصل المقال: 496. (3) الدرة الفاخرة: 150 وفصل المقال: 188. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 وقوله (1) : كما خامرت في حضنها أم عامر ... لدى الحبل حتى عال أوس عيالها وقوله في الرخمة؟ ونفى عنها الحمق ونسبها إلى الكيس (2) : وذات اسمين والأسماء شتى ... تحمق وهي كيسة الحويل لها خب تلوذ به وليست ... بضائعه الجنين ولا مذول ومثل هذا كثير في شعره وهو يشير إلى بداية الوعي بقيمة الخرافات الحيوانية، والتنبيه لا لاستعمالها في الشعر وحسب، بل اعتمادها في المواقف المختلفة. ويبدو أن الحكم من نثر إلى شعر يتم على نطاق واسع، وأول الشواهد عليه انتثار عدد كبير من الأقوال الحكمية المنظومة التي بقيت في المصادر دون نسبة، وإن كان الظن قويا بأن القسم الأكبر منها قد ألحق بشعراء عرفوا بهذا الاتجاه، وكانوا كثيري العدد في هذه الفترة التي أتحدث عنها. وهذا يسلمنا إلى الحديث عن التيار الثالث، وهو تيار أشبه شيء بالانتحال وليس به، ويمكن أن نسميه تضمينا أو اقتباسا، للحكم الأجنبية، عن طريق الغوص العامد في الثقافات الأجنبية، وشدة الإعجاب بها، ولعل في صلة أبي عمرو كلثوم بن عمرو العتابي بالفارسية ما يصلح أن يتخذ نموذجا لغيره، وخلاصة قصته أن رجلا اسمه يحيى بن الحسن دعا غلاما له وكلمه بالفارسية، ودخل العتابي فسمع ما يتحدثان به فكلم يحيى بالفارسية، فقال له: أبا عمرو، ما لك وهذه الرطانة؟! فقال: بلدكم هذه ثلاث قدمات، وكتبت كتب العجم التي في الخزانة بمرو، ثم قدمت نيسابور وجزتها بعشرة فراسخ إلى قرية يقال لها ذودر فذكرت كتابا لم أقض حاجتي منه، فرجعت إلى مرو فأقمت شهرا، فقال له يحيى: لم كتبت كتب العجم؟ فقال العتابي: وهل المعاني إلا في كتب العجم والبلاغة، اللغة لنا والمعاني لهم (3) . فإذا عرفنا بعد ذلك أن العتابي أفرد فنون الحكم   (1) الدرة الفاخرة: 152. (2) الدرة الفاخرة: 154 والحيوان 7: 18. (3) كتاب بغداد: 87. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 بالتأليف (1) ، وانه انتحى في شعره منحى في شعره منحى الحكمة، لم نستغرب ذلك. ويكاد يكون من الأمور المسلمة أن اللقاء بتلك الثقافات الأجنبية، بالإضافة إلى عوامل أخرى كالموجة الزهدية والحركة الاعتزالية والأوضاع الاقتصادية العامة وغيرها، هو الذي خلق طبقة من الشعراء الحكماء من أمثال سابق البربري وصالح بن عبد القدوس ومحمد بن حازم الباهلي وصالح بن جناح ومحمود الوراق والعتابي وأبي العتاهية: ويتميز هؤلاء الشعراء بنوع من الحكمة اللسانية التي تدعو نظريا إلى قيم أخلاقية، ربما لم يتقيد أحد منهم بها سلوكه العملي. وأكبر الظن أن هذه الحكمة التي عرفوا بها لا تعدو أن تكون في معظمها تضمينا للقواعد الأخلاقية المأخوذة عن اليونانيين والفرس والعربي، مما يتصل بآداب السلوك والمعاملة والنظرة إلى شؤون الحياة عامة. ولعل الأرجوزة " ذات الأمثال " لأبي العتاهية؟ إن لم تكن نقلا مباشرا مما ينتسب إلى التيار الأول - إنما كانت من هذا القبيل (2) ، ويقال إنها كانت تضم أربعة آلاف مثل، بقي منها 620 شطرا وليس بين الحكم المجموعة فيها اتصال في كثير من الأحيان، بل كثيرا ما يقترن في شطرين متجاورين حكمتان لا رابطة بينهما، كما أن الحكم المتصلة بموضوع واحد، كالدنيا والموت، تجيء في مواضع متفرقة، دون أن تسلم من التكرار في المعاني، وعلى رغم طغيان النغم الزهدي على الأرجوزة فإن فيها ميلا واضحا إلى إبراز دور " العقل " وقيمته. وأحيانا يستوقف القارئ مثل قوله (3) : لكل شيء معدن وجوهر ... وأوسط وأصغر وأكبر وكل شيء لاحق بجوهره ... أصغره متصل بأكبره أو قوله (4) : نتائج الأحوال من لا ونعم ... والنفس من بين صموت وعدم   (1) الفهرست: 121. (2) ديوان أبي العتاهية: 444 - 466. (3) ديوانه: 449. (4) ديوانه: 456. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 فإن مثل هذه الإشارات الموجزة ذات المنحى الغامض؟ بسبب إيجازها - لا تمكننا من الاهتداء إلى منتماها وأصلها، وإن كانت تبدو غربية في سياق زهدي يتوسل كثيرا بالقيم الدينية. وقد مرن أبو العتاهية؟ وغيره من شعراء الحكمة في عصره - على تكوين القصيدة الحكمية من عدد من الحكم التي تقوم بينها رابطة أو يضبطها تدرج، حتى أصبحت القصيدة تمثل قفزات متباعدة، وكان في ذلك اكبر جور على الوحدة النفسية أو الشعرية في القصيدة العربية آنئذ. وهذه مقطوعة نجدها في ديوان أبي نواس، وهو من هو قدرة على حوك القصيدة في استرسال مترابط، إلا أنها أبيات مرسلة، كل بيت منها يقوم وحده (1) : عدوك ذو العقل خير من الصديق لك الوامق الأحمق ... وما ساس أمرا كذي شيبة ... بصير بما ساس مستوثق وما أحكم الرأي مثل امرئ ... يقيس بما قد مضى ما بقي وصمتك من غير عي اللسان ... أزين من هذر المنطق فالبيت الأول صياغة للحكمة القائلة: " عدو عاقل خير من صديق جاهل (أحمق) ، والثاني ترجمة لقولهم " رأي الشيخ خير من مشهد الغلام " والثالث يشير إلى الاعتبار بما مضى في الحكم على ما هو حاصل، والأخير في فضيلة الصمت دون عي. ترى أكانت قصيدة الحكمة؟ في هذا التفكك - تنظر إلى موروث سابق؟، من الغريب أننا إذا عدنا إلى العصر الجاهلي، وجدنا أبيات الحكمة في معلقة زهير، والقصيدة الدالية المنسوبة لعدي بن زيد (2) ، ووصية يزيد بن الحكم لابنه (3) ، وما أشبه ذلك، تجري على هذا المنوال أيضا، وأننا إذا قارناها بالحكم والوصايا المأثورة عن   (1) ديوان أبي نواس: 203 - 204. (2) ديوان عدي بن زيد: 102 - 109 (حققه وجمعه محمد جبار المعيبد، بغداد 1965) . (3) انظرها في الحماسة (رقم: 445 ص: 1190 من شرح المرزوقي) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 حكماء الجاهلية، وجدنا أن تلك الحكم والوصايا أشبه شيء بخطرات فكرية لا يربطها سلك واحد، سوى كونها كلها تذهب مذهب القواعد الخلقية، ولكن الموقف؟ وخاصة في الشعر - يتطلب تدقيقا، وربما كانت القصيدة التالية تصور ما أذهب إليه: إن كنت لا ترهيب ذمي لما ... تعرف من صفحي عن الجاهل فأخش سكوتي إذا أنا منصت ... فيك لمسموع خنا القائل فالسامع الذم شريك له ... ومعظم المأكول كالآكل مقالة السوء إلى أهلها ... أسرع من منحدر سائل ومن دعا الناس إلى ذمه ... ذموه بالحق وبالباطل فهذه القطعة؟ وإن لم تكن مبنية على حكم مفككة، بل جاءت متدرجة في سياقها - تنسب لكعب بن زهير (1) ، ثم هي أيضا تنسب لمحمد بن حازم الباهلي (2) ، وقد لحظ ابن هندو أن قوله فيها " فالسامع الذم شريك له " يشبه قول أفلاطون " المصغي إلى الذم شريك لقائله " (3) ، وقد استغل هذا المعنى نفسه محمود الوراق فقال (4) : فإنك عند استماع القبيح ... شريك لقائله فانتبه وقد أورد البكري البيت دون نسبة، على نحو غريب (5) : وشاهد الهاجي شريك له ... ومطعم الخنزير كالآكل وكل الدلائل تشير إلى أن القطعة وليدة ذلك الجو الحكمي في عصر متأخر كثير عن عصر كعب، وحين تختلط الرواية على هذا النحو، ولا يميز بين شعر كعب وشعر   (1) ديوان كعب: 124 والعقد 2: 444 وبهجة المجالس 1: 400 - 401. (2) انظر فصل المقال: 105 الحاشية رقم: 2. (3) الكلم الروحانية: 12 وانظر مختار الحكم: 160 حيث ورد " المصغي إلى القول " وكذلك لباب الآداب: 453. (4) بهجة المجالس 1: 401 وديوان الوراق: 132. (5) فصل المقال: 105. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 محمد بن حازم، فليس من المستبعد أن تكون عملية مماثلة قد تمت في أبيات زهير الحكمية، فأضيفت إلى المعلقة وهي واضحة في مغايرتها لها، وحملت على عدي بن زيد قصيدته الدالية، ونحلت لغيره أشعار من هذا القبيل، وكان كل ذلك من نتاج جو الحكمة الذي زادته الترجمة لحكم الأمم الأخرى اتساعا وكثافة. وفي نقل الحكم المنثورة إلى شعر، لا يمكن أن يطمئن المرء إلى قول حاسم في أن هذه الحكمة أو تلك مأخوذة عن أصل يوناني. فالعصر الذي أتحدث عنه قد أتسع صدرا لأنواع من الحكم نقلت عن أمم مختلفة، وقد تنسب الحكمة الواحدة حينا إلى الفرس وحينا إلى اليونان وتارة إلى الهند، ثم تجدها ذات أصول راسخة في البيئة العربية منذ عهود قديمة، وهذه الحكمة التالية التي أعتقد أنها منظومة عن أصل نثري، ترد على هذا النحو (1) : وقد يرجى لجرح السيف برء ... وجرح الدهر ما جرح اللسان ومرة أخرى تجيء كالآتي: جراحات السنان لها التئام ... ولا يلتام ما جرح اللسان وتروى على نحو آخر: وجرح السيف تدمله فيبرا ... وجرح الدهر ما جرح اللسان وتتصل هذه الحكمة بقول امرئ القيس: إذا المرء لم يخزن عليه لسانه ... فليس على شيء سواه بخزان ووضعها الاخطل في صورة أخرى حين قال: والقول ينفذ ما لا تنفذ الإبر ...   (1) فصل المقال: 24، ونظر الرواية الأولى في العقد 2: 445 ونسب البيت ليعقوب الحمدوني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 ثم نجدها نجدها في الأدب الكبير، الذي يفترض أنه مترجم عن الفارسية " جرح اللسان أشد من جرح اليد " (1) ، وترد كذلك في الحكم المنقولة عن اليونان (2) . وها هنا أمر لابد من التوقف عنده، وهو أن العرب كانوا مشاركين في حضارة الشرق؟ قبل الإسلام وبعده - وأنهم أيضا عرفوا الحكمة اليونانية قبل عصر الترجمة بزمن طويل، مثلهم في ذلك مثل الفرس، الذين عرفوا شيئا كثيرا من الحكمة اليونانية منذ عهد الإسكندر، وربما قبل ذلك. وخير شاهد على ذلك كتاب الأدب الكبير، فإنه في شكله الذي نعرفه يمثل الحكمة الفارسية، وقد صرح أبو الحسن العامري أنه ذو صلة بكتاب " أفستا " في الحث على مكارم الأخلاق حين قال: " ولعمري أن للمجوس كتابا يعرف بأبستا وهو يأمر بمكارم الأخلاق ويوصي بها، وقد أتى بمجامعها عبد الله بن المقفع في كتابة المعروف بالأدب الكبير " (3) ، ومع ذلك فإن اللقاء بين هذا الكتاب وبين ما جاء في الحكم المنقولة عن اليونانيين أمر لافت للنظر، وهو يبين مدى التماثل بين كثير من الحكم الفارسية وما نقله العرب من حكمة يونان. ولأقدم هنا بعض الأمثلة الموضحة: 1 - في الأدب الكبير: لا تتركن مباشرة جسيم أمرك فيعود شأنك صغيرا، ولا تلزم نفسك مباشر الصغير فيصير الكبير ضائعا (4) . وفي رسالة منسوبة إلى أرسطاطاليس بعث بها إلى الإسكندر: وإنما الأمور كلها أمران صغير لا ينبغي أن تباشر وكبير [لا] ينبغي أن تكله إلى غيرك، ومتى باشرت صغار الأمور شغلتك عن كبارها، وأن وكلت كبارها إلى غيرك أضعت أكثر مما حفظت وأفسدت اكثر مما أصلحت " (5) .   (1) رسائل البلغاء: 105 وانظر عيون الأخبار 2: 22 حيث ينقل عن كتاب للهند، وهو في أغلب الأحوال كليلة ودمنة، وفي هذا الأخير: 164 جرح اللسان لا يندمل. (2) في الأقوال المناندرية: السيف يجرح الجسد والكلام يجرح النفس (أولمان رقم: 220 ص: 44) . (3) الأعلام بمناقب الإسلام: 159 - 160. (4) رسائل البلغاء: 47. (5) شيخو: مقالات فلسفية قديمة: 40. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 2 - في الأدب الكبير: وليستوحش [الوالي] من الكريم الجائع واللئيم الشبعان فإنما يصول الكريم إذا جاع واللئيم إذا شبع (1) . أفلاطون: اتقوا صولة الكريم إذا جاع وبطر اللثيم إذا شبع (2) . عمرو بن العاص، قال لمعاوية: أحذر طغيان اللئيم وخصاصة الكريم، فإن اللئيم إنما يصول إذا شبع، وأما الكريم فإذا جاع (3) . كسرى: احذروا صولة الكريم إذا جاع واللئيم إذا شبع (4) . 3 - في الأدب الكبير: وأعلم أن المستشار ليس بكفيل وأن الرأي ليس بمضمون، بل الرأي كله غرر لآن أمور الدنيا ليس شيء منها بثقة (5) (وهو بنصه في السعادة والإسعاد لارسطاطاليس) (6) وقد أورده المبشر في مختار الحكم دون نسبة على النحو التالي: من سوء الأدب وضعف الرأي ادلال المستشار بصوابه، ومن جهل المستشير أن يلوم المستشار على ما ينزل به من القضاء، لآن الرأي غير مضمون والعمل في ذلك بالتغرير " (7) . 4 - في الأدب الكبير: وأعلم أن اللئام أصبر أجسادا، والكرام أصبر نفوسا، وليس الصبر المحمود الممدوح بأن يكون الرجل جلدا وقاحا على الضرب، أو رجله قوية على المشي، أو يده قوية على العمل، فإن هذا من صفات الحمير، ولكن الصبر المحمود أن يكون للنفس غلوبا، وللأمور محتملا، وفي الضر متحملا؟ (8) .   (1) رسائل البلغاء: 52. (2) مختار الحكم: 139. (3) السعادة والإسعاد: 305. (4) العقد 2: 355. (5) رسائل البلغاء: 101. (6) السعادة والإسعاد: 430. (7) مختار الحكم: 346. (8) رسائل البلغاء: 82. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 وفي البصائر: وقال فيلسوف: الكرام أصبر نفوسا واللئام أصبر أبدانا (1) . وفي السعادة والإسعاد: (دون نسبة) : اللئام أصبر أجسادا والكرام أصبر نفوسا، وصبر النفس أن يكون للهوى تاركا وللمشقة فيما يرجو نفعه محتملا (2) . وفي مختار الحكم: وقال ارسطاطاليس أعلم أن اللئام أصبر أجساما والكرام أصبر نفوسا؟ الخ (كما جاء في الأدب الكبير) (3) . 5 - في الأدب الكبير: أبذل لصديقك دمك ومالك، ولمعرفتك رفدك ومحضرك، وللعامة بشرك وتحيتك، ولعدوك عدلك وإنصافك (4) . وقال اسقلبيوس: سبيل من له دين ومروءة أن يبذل لصديقه نفسه وماله، ولمن يعرفه طلاقة وجهه وحسن محضره ولعدوه العدل.. (5) . 6 - في الأدب الكبير: وأن استطعت أن تجعل صحبتك لمن قد عرفك منهم بصالح مروءتك قبل ولايته فافعل، فإن الوالي، لا علم له بالناس إلا ما علم قبل ولايته، فأما إذا ولي فكل الناس يلقاه بالتزين والتصنع (6) . وقال سقراط: من استطاع أن يصحب من الملوك والولاة من عرفه قبل ولايته بالصلاح والثقة والأمانة، فليفعل، فإن الملك والوالي لا علم له بالناس إلا بما كان قد علم به قبل ولايته، فأما إذا ولي فكل الناس يلقونه بالتصنع والتعظيم (7) .   (1) البصائر 4: 187. (2) السعادة والإسعاد: 86. (3) مختار الحكم: 215. (4) رسائل البلغاء: 71 وعيون الأخبار 3: 15 والسعادة والإسعاد: 149. (5) مختار الحكيم: 29 وعيون الأنباء 1: 21 وانظر الجاحظ لطه الحاجري: 147 حيث أشار إلى هذا التشابه بين الحكمتين، إلا أنه خطأ أن قول ابن المقفع من الأدب الصغير. (6) رسائل البلغاء: 123. (7) مختار الحكم: 123. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 وفي ما يسمى " الأدب الصغير " المنسوب؟ وهما - لابن المقفع حظ من هذه المشاركة، فمن ذلك: 7 - في الأدب الصغير: أمور لا تصلح إلا بقرائنها: لا ينفع العقل بغير ورع ولا الحفظ بغير عقل، ولا شدة البطش بغير شدة القلب، ولا الجمال بغير حلاوة، ولا الحسب بغير أدب، ولا السرور بغير أمن، ولا الغنى بغير جود، ولا المروءة بغير تواضع، ولا الخفض بغير كفاية، ولا الاجتهاد بغير توفيق (1) . فيلسوف: كثير من الأمور لا تصلح إلا بقرنائها: لا ينفع العلم بغير ورع، ولا الحفظ بغير عقل، ولا الجمال بغير حلاوة، ولا الحسب بغير أدب، ولا السرور بغير أمن، ولا الغنى بغير كفاية، ولا الاجتهاد بغير توفيق (2) . فيلسوف: النظر محتاج إلى القبول، والحسب إلى الأدب، والسرور محتاج إلى الأمن، والقربى محتاجة إلى المودة، والمعرفة محتاجة إلى التجارب، والشرف محتاج إلى التواضع، والنجدة محتاجة إلى الجد (الجدة) (3) . 8 - وفي ما يسمى الأدب الصغير: الملك الحازم يزداد برأي الوزراء الحزمة كما يزداد البحر بمواده من الأنهار (4) . هذا القول الذي يحسن الاستشارة ورد منسوبا لأفلاطون على نحو معكوس وذلك في قوله: " الملك هو كالنهر الأعظم تستمد منه الأنهار الصغار، فإن كان عذبا عذبت وإن كان مالحا ملحت " (5) .   (1) رسائل البلغاء: 28 وقارن بما في كليلة ودمنة: 90. (2) تذكرة ابن حمدون: 9 - 10. (3) البصائر 1: 471 وانظر القول نفسه في 4: 218 - 219 وأوله " الشكر محتاج؟ "، وقد أورده أبو حيان في البصائر 1: 378 برواية مختلفة: " لا ينتفع بالعقل إلا مع العلم " ولا ينتفع بالعلم إلا مع العقل، ولا ينتفع بالعلم إلا مع الأدب، ولا ينتفع بالأدب إلا مع الاجتهاد، ولا ينتفع بالاجتهاد إلا مع التوفيق ". وفي المواطن الثلاثة ورد منسوبا لفيلسوف. (4) رسائل البلغاء: 33 وهو أيضا في كليلة ودمنة: 156. (5) مختار الحكم: 135 وتذكرة ابن حمدون: 49 والكلم الروحانية: وفي مختار الحكم: 344 صورة أخرى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 وهذا اللقاء بين الادبين يمتد إلى نواح أخرى فلا يقف قاصرا على الأدب الكبير والأدب الصغير، ولو أن دارسا جعل همه تتبع هذا اللقاء في الأدبين اليوناني والفارسي، لأجتمع له من ذلك حصيلة كبيرة، فهنالك؟ مثلا - أثر آخر ينسب لابن المقفع باسم " يتيمة السلطان " (1) ، نشر اعتمادا على مخطوطة محفوظة بدار الكتب المصرية تحت رقم 672 مجاميع؟ وهي ليست سوى حكم جمعت من جاويدان خرد وكليلة ودمنة في الأغلب ونقرأ فيها: " المرأة الصالحة عماد الدين وعمارة البيت وعون على الطاعة " (2) ويقابل هذا في الأقوال المناندرية: " إن المرأة الصالحة ركن بيتها " (3) ، وفي هذه اليتيمة أيضا: " فلا شيء أشد من الفقر وهو رأس كل بلاء " (4) ، وفي الأقوال المناندرية: " لا يكون بؤس أشد من الفقر " (5) ، ويقول مؤلف هذه اليتيمة: " أمور كثيرة لا يجترئ عليها إلا أهوج ولا يسلم منها إلا القليل: صحبة السلطان، وائتمان النساء على الأسرار وشرب السم للتجربة، وركوب البحر " (6) ، ثم يقول في موضع آخر: " أربعة أشياء لا يستقل قليلها: النار والمرض والعدو والدين " (7) ومن الطريف أن النار وركوب البحر والمرأة قد جمعت أيضا في أحد الأقوال المناندرية: ثلاثة أشياء رديئة، البحر والنار والمرأة السوء " (8) ، وفي طني أن الأمر في هذه المقارنات لا يقف عند هذا الحد، وإنما قد يطور على نحو أوسع، كما قدمت. ولو كان كليلة ودمنة هو موضوع المقارنة، لوجدنا فيه شواهد كثيرة من هذا اللقاء، ولكن ليس من الأنصاف اتخاذ هذا الكتاب موضوعا للمقارنة لأنه أصبح تراثا عالميا لا يقتصر على أمة دون أخرى. ومع ذلك فإن إيراد بعض الشواهد ضروري للدلالة   (1) رسائل البلغاء: 145 - 172. (2) رسائل البلغاء: 184. (3) أولمان رقم: 72 ص: 26. (4) رسائل البلغاء: 159. (5) أولمان رقم: 241 ص: 26. (6) رسائل البلغاء: 156. (7) رسائل البلغاء: 164. (8) أولمان، رقم: 170 ص: 37. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 على هذه " العالمية " في الشيوع المشاركة. يقول بطليموس: " من كتم السلطان النصيحة والطبيب ما به من الداء، والأخ الشقيق العالم ما ينبغي أن يفضي اليه من السر فقد أرداد المصيبة لنفسه " (1) وفي كليلة ودمنة: " فإن من كتم السلطان نصيحة، والأطباء مرضه، والأخوان رأيه كان قد غش نفسه " (2) ، وفي حكم بطليموس: " وينبغي للسلطان أن يعرف أولياءه على منازلهم بقدر الذي عندهم من الفضل والدين والمروءة، ثم تكون منازلهم عنده واستعانته بهم على قدر الذي عند كل واحد منهم من الغناء والمنفعة " (3) ، وهذا مشبه لما في جاء في كليلة ودمنة: " ثم ان على الملك بعد ذلك تعاهد عماله والتفقد لأمورهم حتى لا يخفى عليه إحسان محسن ولا إساءة مسيء، ثم عليهم بعد ذلك أن لا يتركوا محسنا بغير جزاء، ولا يقروا مسيئا ولا عاجزا على العجز والإساءة، فإنهم ان ضيعوا ذلك وتهاونوا به، تهاون المحسن واجترا المسيء ففسد الأمر وضاع العمل " (4) . وقد يطول بنا القول لو ذهبنا نورد النصوص المتشابهة أو المشتركة بين كليلة ودمنة والحكم اليونانية، وبحسابنا أن نختم هنا بمثل واحد فقد جاء في خاتمة - كليلة ودمنة. " إن الآمر بالخير ليس بأسعد من المطيع له فيه، ولا الناصح بأولى النصيحة من المنصوح له بها، ولا المعلم بأسعد بالعلم ممن تعلمه منه " (5) . ومن الطريف أن تكون هذه هي فاتحة رسالة منسوبة إلى أرسطاطاليس، خاطب بها الاسكندر، يقول فيها: " ليس الأمر بالخير أسعد به من المطيع له، ولا المعلم أقل انتفاعا بالعلم من المتعلم، ولا الناصح أولى به من المنصوح له بالمديح متى قبل " (6) . ذلك حسبنا في هذه المقارنة، فإن المضي فيها. يخرج بنا عما أردناه لهذا الفصل. على أية حال لا أدري متى قل الميل إلى نقل الحكم والأمثل في صورة نظم، فإننا نجد ذلك الميل ما يزال قويا في عصر الثعالبي من منتصف القرن الخامس -   (1) مختار الحكم: 257. (2) كليلة ودمنة: 72 وانظر تذكرة ابن حمدون: 82 وفيه " والاخوان بثه، فقد خان نفسه ". (3) مختارات الحكم: 257. (4) كليلة ودمنة: 258 وانظر الأدب الصغير: 16. (5) كليلة ودمنة: 303. (6) رسائل فلسفية قديمة: 36. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 فقد أورد للشاعر أبي الفضل السكري المروزي أحمد بن محمد بن زيد مزدوجة ترجم فيها أمثالا للفرس، منها قوله (1) : من رام طمس الشمس جهلا أخطا ... الشمس بالتطيين لا تغطى أحسن ما في صفة الليل وجد ... الليل حبلى ليس يدرى ما تلد من مثل الفرس ذوي الأبصار ... الثوب رهن في يد القصار إن البعير يبغض الخشاشا ... ما كان لكنه في إنفه ما عاشا نال الحمار بالسقوط في الوحل ... ما كان يهوى ونجا من العمل نحن على الشوط القديم المشترط ... لا الزق منشق ولا العير سقط في المثل السائر للحمار ... قد ينهق الحمار للبيطار والعنز لا يسمن إلا بالعلف ... لا يسمن العنز بقول ذي لطف وكان هذا الشاعر مولعا بنقل الأمثال الفارسية إلى العربية، وقد جرى على ذلك في غير هذه الأرجوزة، وكان يجعل تلك الأمثال في قصائده، فمن ذلك (2) : ما كنت لو أكرمت استعصي ... لا يهرب الكلب من القرص وقوله: طلب الأعظم من بيت الكلاب ... كطلاب الماء في لمع السراب وقوله: ادعى الثعلب شيئا وطلب ... قيل هل من شاهد؟ قال الذنب وليس ممكنا أن نقطع إن كانت هذه الأمثال فارسية قديمة أو مولدة في العصور الإسلامية، ولكن أنى كان الأمر، فإن الشغف بنقلها إلى شعر يؤكد ما أذهب اليه، كا يوضح نوعا من المنافسة بين كل من ناقلي الأمثال والحكم اليونانية والفارسية.   (1) يتيمة الدهر 4: 88. (2) يتيمة الدهر 4: 89. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 وقد أورد الثعالبي صورة أخرى من هذه الأمثال المترجمة، ولكنه لم يبين إلى أي عصر أو أي قوم تنتمي، ومن الغريب أنها ليست أرجوزة أو مزدوجة، وإنما هي شعر يجري على بحر السريع، وكل بيت منها يستقل بنفسه، وواضح أنها محاولة لإدراج أكبر عدد من الأمثال في نطاق واحد، فمنها (1) : انتهز الفرصة في وقتها ... والتقط الجوز إذا ينثر يطلب أصل المرء من فعله ... ففعله عن أصله يخبر كم ماكر حاق به مكره ... وواقع في بعض ما يحفر فررت من قطر إلى مثعب ... علي بالوابل يثعنجر إن تأت عورا فتعاور لهم ... وقل أتاكم رجل أعور ثم أورد الثعالبي أيضا لشاعر آخر هو أبو عبد الله الضرير الأبيوردي، قصيدة ترجم فيها أمثال الفرس منها (2) : صيامي إذا أفطرت بالسحت ضلة ... وعلمي إذا لم يجد ضرب من الجهل وتزكيتي مالا جمعت من الربا ... رياء وبعض الجود أخزى من البخل كسارقة الرمان من كرم جارها ... تعود به المرضى وتطمع في الفضل ألا رب ذئب مر بالقوم خاويا ... فقالوا علاه البهر من كثرة الأكل وكم عقعق قد رام مشية قبجة ... (3) فأنسى مشاه ولم يمش كالحجل يواسي الغراب لذئب في كل صيده ... وما صاده الغربان في سعف النخل   (1) يتيمة الدهر 4: 90. (2) يتيمة الدهر 4: 90 - 91. (3) قارن بما في كليلة ودمنة: 299 من حديث عن الغراب الذي حاول تقليد مشية الحجلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 وهذه الصورة الجديدة من الترجمة لا تختلف كثيرا عن الأشعار المنظومة ابتداء في الحكمة وهي في وزنها وصياغتها تمثل محاولة تتفوق على كل ما سبقها في هذا المضمار. ويجب ألا نسرع إلى القول بأن الاهتمام بالأمثال والحكم الفارسية كان أكثر من الاهتمام بالأمثال والحكم اليونانية، فهذه الأخيرة لم تجد؟ فيما يبدو - من يتنبه لها ويؤرخها كما فعل الثعالبي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 " 10 " صهر معاني الحكم اليونانية في الشعر العربي للأقدمين نظرات، لا بد من أن نتوقف عندها مدققين متأملين؛ من ذلك مثلا قولهم إن أبا العتاهية كان " يرمى بالزندقة مع كثرة أشعاره في الزهد والمواعظ وذكر الموت والحشر والنار والجنة " وأنه ربما كان ثنويا (1) أو أنه " كان خبيث الدين يذهب مذهب الثنوية، إلا أنه كان ناسك الظاهر " (2) ؛ وقد يكون الذي أثار هذا الحكم معرفة بعض معاصريه بمدى الخلف بين القول والعمل لديه، ووجوده في عصر اشتدت فيه التهمة بالزندقة، ولكن الذي يهمنا اليوم من كل ذلك أن أبا العتاهية في حكمته إنما كان تلميذا للثقافتين الفارسية واليونانية، وقد رأينا كيف كان من أوائل الذين ترجموا الحكم والأمثال الأجنبية، وخلطوها بالقيم الإسلامية، وربما لم يكن بين الفئتين من تعارض، ولكن محض المحاولة يضع أبا العتاهية في صف ابن المقفع وغيره ممن كانت أهدافهم في هذا المنحى مظنة ميل إلى تراث غير إسلامي خالص؛ وإذا كانت الزندقة تتضمن مثل العودة إلى ذلك التراث، فإن أبا العتاهية كان زنديقا لأنه يؤمن بالأنموذج اليوناني للمثل الأعلى، أي أنه يرى السيرة الفاضلة في الحكيم لا في النبي، وحين نقرأ قوله (3) :   (1) ابن المعتز: طبقات الشعراء، 228. (2) المصدر نفسه: 364. (3) بهجة المجالس 2: 296، والعقد 1: 37، وديوانه: 392، (وأنظر العقد 3: 273 حيث سئل يحيى البرمكي ما الكرم فقال: ملك في زي مسكين) وتمام ما يقوله أبو العتاهية: ذاك الذي عظمت في الله حرمته ... وذاك يصلح للدنيا وللدين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 إذا أردت شريف الناس كلهم ... فأنظر إلى ملك في زي مسكين فإننا نفهم أن شريف الناس؟ أي المثل الأعلى - هو الملك الفيلسوف، أي هو؟ دون مواربة - سقراط لو قيض له يضطلع له أن يضطلع بالمسؤلية السياسية (1) ، وإن ظن بعضهم " أن الملك في زي مسكين " إنما يتمثل في إبراهيم بن أدهم، ذلك الرمز المبكر للغني الذي رفض الدنيا. وقد لحظ الأقدمون أيضا مدى تأثر بعض الشعراء بالتراث المنسوب إلى يونان؛ فقول صالح بن عبد القدوس: وينادونه وقد صم عنهم ... ثم قالوا وللنساء نحيب ما الذق عاق أن ترد جوابا ... أيها المقول الألد الخطيب إن تكن لا تطيق رجع جواب ... فبما قد ترى وأنت خطيب ذو عظات وما وعظت بشيء ... مثل وعظ السكوت إذ لا تجيب قد قرنه ابن طباطبا بقول أحد الحكماء ممن ورثوا الإسكندر: " طالما كان هذا الشخص واعظا بليغا، وما وعظ بكلامه موعظة قط أبلغ من وعظه بسكوته " (2) . ولهم من أبي العتاهية موقف مشابه، نبه إليه كل من المبرد وابن طباطبا وأبي الفرج الأصفهاني والثعالبي والحصري والطرطوشي والراغب الأصفهاني (3) ؛ فحين وقف أبو العتاهية على صديقه علي بن ثابت وهو يجود بنفسه، بكى طويلا ثم قال:   (1) لا ريب في رسوخ صورة سقراط الزهدية في النفوس، انظر مثلا صوان الحكمة: 125 حيث جاء " وكان زاهدا وربما ما شبع من الخبز قط " وكذلك حديث الرازي عن السيرة الفلسفية (رسائل الرازي: 99) وأكثر الحكايات عنه تشير إلى هذه النزعة. (2) ابن طباطبا: عيار الشعر: 80 (3) انظر الكامل: 230 (ط. رايت، وأشار إلى ذلك غوتاس، ص: 464) ونسب القول الثاني إلى الموبذ في قباذ الملك، وعيار الشعر: 80 والأغاني 4: 46 (دار الثقافة) وغرر السير: 454 وزهر الآداب: 673 - 674 وسراج الملوك: 13 ومحاضرات الراغب 2: 286، وراجع كذلك مخطوطة كوبريللي، الورقة: 25. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 يا شريكي في الخير قربك الله ... فنعم الشريك في الخير كنتا قد لعمري حكيت لي غصص ... الموت فحركتني لها وسكنتا وحين دفن وقف على قبره يبكي بكاء طويلا ويقول: بكيتك يا علي بدمع عيني ... فما أغنى البكاء عليك شيا وكانت في حياتك لي عظات ... فأنت اليوم أوعظ منك حيا وفي هذين الموقفين كان أبو العتاهية، معجبا أيضا بالأقوال التي ألقاها الحكماء عند تابوت الإسكندر، فقوله " حركتني وسكنتا " مأخوذ من قول أحد الحكماء " حركنا اإسكندر بسكونه " وقوله: " فأنت اليوم أوعظ منك حيا " من قول الآخر: " قد كنت أمس أنطق وأنت اليوم أوعظ " (1) . ويزيد المبرد على ذلك قوله: إن أبا العتاهية: " لا يكاد يخلي شعره مما تقدم من الأخبار والآثار فينظم ذلك الكلام المنثور ويتناوله أقرب متناول ويسرقه أخفى سرقة "؛ أما ابن طباطبا فيرى أن أبا العتاهية إنما ورد مورد صالح بن عبد القدوس إلا أنه جاء بالمعنى في لفظ موجز وصياغة أجمل. ويضيف الثعالبي أن أحد الحكماء قال في الإسكندر: " علمت أنك ولدت للموت وبنيت للخراب " وأن أبا العتاهية أخذ هذا المعنى أيضا فقال: لدوا للموت وابنوا للخراب ... (2) فكلكم يصير إلى تباب قال الثعالبي: " وجدت أبا العتاهية كثيرا ما يقول في مراثيه وزهدياته على معاني هذه الكلمات " (3) ؟ أي الكلمات التي قيلت في رثاء الإسكندر. ماذا يعني هذا كله؟ يعني لأننا نتجاوز ترجمة الأمثال والحكم إلى شعر؟ كما بينا في   (1) انظر الملحق: 2، رقم 56، 58، والنص في الأغاني: " كان الملك أمس أهيب منه اليوم وهواليوم أوعظ منه أمس ". (2) غرر السير: 455، وانظر الرأي في نسبة هذا القول عكسيا (ص: 122 فيما تقدم) . (3) المصدر السابق: 454 - 455. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 الفصل السابق - وأننا هنا إزاء شعر جميل، إلا أنه يتوكأ في بعض معانيه على الثقافة اليونانية. وقد كان طلاب الثقافة اليونانية أكثر من غيرهم وعيا بتلك الصلة بين الثقافتين العربية واليونانية، فهم إذا قرأوا سقراط وقد سئل لماذا لا يرى عليه أثر الحزن: " لأني لا أملك ما أحزن عليه إذا عدمته "، ذكروا به قول الشاعر: فمن سره أن لا يرى ما يسوءه ... (1) فلا يتخذ شيئا يخاف له فقد وإذا وجدوا: " الحسدة مناشير أنفسهم " (2) أو " الحسود منشار أهله، فإنه لفرط أسفه وغمه بما نال غيره من الخير يكون كأنه يشقق نفسه " (3) قرنوا به قول شاعر آخر (4) : اصبر على مضض الحسود فإن صبرك قاتله ... كالنار تأكل بعضها ... إن لم تجد ما تأكله بل إن بعضهم؟ على سبيل التساهل - لا يقول ان هذا القول يذكر أو يقرن بقول هذا الشاعر أو ذاك وإنما يقول أخذه الشاعر، كما فعل صاحب صوان الحكمة حين أورد هذا القول المنسوب لارسطاطاليس: " العشق همة نفس فارغة لا شغل لها " (5) فقال: أخذه الأخطل فقال: وكم قتلت أروى بلا دية لها ... (6) وأرى لفراغ الرجال قتول   (1) الكلم الروحانية: 84 - 85. (2) الكلم الروحانية: 125. (3) السعادة والإسعاد: 122. (4) الكلم الروحانية: 125. (5) ورد هذا القول دون نسبة في السعادة والإسعاد: 147، منسوبا لديوجانس في لباب الآداب: 441. (6) المنتخب الورقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 أي أن الأخطل أخذ قول أرسطاطاليس قبل أن يترجم إلى العربية. وأسهل من ذلك أن ينسب الأخذ إلى شاعر عاش بعد شيوع الترجمة، وقد كان ابن هندو متنبها إلى هذه العلاقة سواء أسماها أخذا أو تشابها، كما مر في مثلين سابقين. ومما وقف عنده ابن هندو قولة لأفلاطون: " العفو يفسد من الخسيس بمقدار ما يصلح من الرفيع " فقد ذكر أن أبا الطيب أخذ هذا المعنى فقال: ووضع الندى في موضع السيف بالعلا ... مضر كوضع السيف في موضع الندى (1) وهناك قولة أخرى لأفلاطون: " الفقير إذا تشبه بالغني كان كمن به ورم ويوهم الناس أنه سمين وهو يستر ما به من الورم " علق عليها ابن هندو بقولة: كأن أبا الطيب المتنبي لحظ هذا الكلام حيث يقول: أعيذها نظرات منك صادقة ... أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورم (2) وقرن بين قول أفلاطون " المصغي إلى الذم شريك له " وقول الشاعر؟ ولم يسمه - والسامع الذم شريك له ... والمطعم المأكول كالآكل (3) - حسبما تقدمت الإشارة إلى ذلك (4) . ووجد في قول المتنبي: إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا ... ألا تفارقهم فالراحلون هم شبها بقول فيلن: " الذي يقبل الحكمة هو الذي ضل عنها وليست هي الضالة   (1) الكلم الروحانية: 13. (2) الكلم الروحانية: 13. (3) المصدر نفسه: 12. (4) انظر ما تقدم ص: 138. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 عنه (1) ، ولديه وقفات أخرى في استثارة التشابه بين بعض الحكم اليونانية وأبيات شعر عربية (2) . غير أن أكبر عمل منظم في هذا الصدد هو الرسالة الحاتمية في ما وافق المتنبي في شعره كلام أرسطو في الحكمة لأبي علي محمد بن الحسن الحاتمي (368/998) (3) ، من وضع الحاتمي؟ وإنما يثور هذا السؤال لأمرين، أولهما: أن الحاتمي لم يعرف بين طلاب الثقافة اليونلنية، وليس في ما وصلنا إلا إشارات قليلة عن صلته بالفلسفة، وبعض هذه الإشارات خاطئ (4) ، وثانيهما أن الحاتمي قد عرف بشدة الحملة على المتنبي، وما الرسالة الموضحة إلا صورة إلا صورة من ذلك الغضب الشديد، بينما يقول مؤلف هذه الرسالة التي بين أيدينا: " والذي بعثني على تصنيف هذه الألفاظ المنطقية والآراء الفلسفية التي أخذها أبو الطيب أحمد بن الحسين المتنبي منافرة خصومي فيه لما رأيت من نفور عقولهم عنه وتصغيرهم لقدره؟ ووجدنا أبا الطيب؟ قد أتى في شعره بأغراض فلسفية ومعان منطقية، فإن كان ذلك منه عن فحص ونظر وبحث فقد أغرق في درس العلوم، وإن يك ذلك منه على سبيل الاتفاق فقد زاد على الفلاسفة بالإيجاز والبلاغة والألفاظ الغربية وهو في الحالتين على غاية من الفضل وسبيل نهاية من النبل، وقد أوردت من ذلك ما يستدل على فضله في نفسه وفضل علمه وأدبه وإغراقه في طلب الحكمة " (5) ، فهذا كلام يحمل كل تقدير للمتنبي وإشادة بفضله ونبله وغزارة علمه وتعمقه في الإطلاع، وهو يختلف كثيرا عن ذلك السب الغاضب والتقريع الشديد الذي تمثله الموضحة.   (1) الكلم الروحانية: 120. (2) انظر مثلا ص: 10، 20، 69، 70، 80، 86، 93، 100، 101، 105، 120، 136 من الكتاب المذكور. (3) انظر في ترجمته ابن خلكان 3: 362 والحاشية، وراجع كتابي تاريخ النقد الأدبي عند العرب: 253 وما بعدها، والفصل الخاص بالرسالة الحاتمية: 243 - 250. (4) انظر تاريخ النقد: 244. (5) الرسالة الحاتمية: 22 - 23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 ورغم هذين الأمرين ففي تأييد نسبة هذه الرسالة إلى الحاتمي يمكن للدارس أن يقول إن ما جاء به الحاتمي هنا لا يتطلب ثقافة فلسفية، فقد عاش في عصر كانت قد كثرت فيه الكتب التي تتردد فيها مختارات من أقوال الفلاسفة، كان كتاب حنين بن اسحاق معروفا، وربما كان صوان الحكمة وجاويدان خرد والسعادة والإسعاد وغيرها قد أعان أبا حيان على إيراد كثير من أقوال الفلاسفة في كتابه البصائر، فغير مستبعد أن يكون الحاتمي وهو ممن يلابس عصبة التوحيدي أن يكون ملما بتلك المصادر مطلعا عليها. كذلك قد يقال إن هذه الحاتمية إنما تمثل لحظة من لحظات الهدوء قبل الموضحة أو بعدها، وان حملة قد أثارتها حوافز شخصية وسياسية لا بد أن تحور إلى هدوء، بل أن الموضحة نفسها لا تنكر فضل المتنبي إنكارا تاما، وإنما كان الرجل مغيظا فقال ما قال وهو يغلي على لهب الغيظ. وإزاء هذا كله لا يستبعد أن تكون الرسالة صحيحة النسبة للحاتمي، ومن المستبعد أن يكون الحاتمي إنما يوري في هذه المقدمة بمدح يشبه الذم، وإنه إنما يحاول أن يفضح المتنبي؟ على نحو عملي - حين يجعل أقواله مأخوذة من غيره، فقد كان الحاتمي شغوفا بموضوع السرقات الشعرية، ورسالته هذه قد تندرج تحت ذلك الموضوع، لولا أن عنوانها يقول: " فيما وافق " فإذا كان هذا العنوان من وضع الحاتمي، فهو أيضا قد تنازل للمتنبي عن الاتهام بالسرقة، وجعل التشابه بين شعره وتلك المعاني المنطقية محض " موافقة ". وهناك اشكالات أخرى تتصل بالرسالة منها أن المقدمة التي تصور صاحب الرسالة امرءا من المتشيعين للمتنبي الرادين على خصومه لم ترد؟ فيما يبدو - في المخطوطات التي اعتمد عليها ريشر في نشره لهذه الرسالة (1) ، ويرد على هذا بأنها ثابتة في مخطوطات أخرى، وأن عدم ورودها يحجب عن أعيينا موقف الناقد من المتنبي، ولكنه لا يضعف نسبتها إلى الحاتمي بل ربما كان يقويها، ويبدو أن ابن هندو لم يعرف شيئا عن هذه الرسالة مع تأخر وفاته كثيرا عن وفاة الحاتمي، فقول المتنبي:   (1) Islamica، Vol. II، fasc 3، Lipsiace، 1926، PP. 439 - 473. وقد ترجمها ريشر إلى الألمانية، وانظر روزنتال: The Classical Heritage ص: 261 - 263 حيث ترجم بعض الأقوال إلى الإنجليزية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا ... ألا تفارقهم فالراحلون هم يقرنه الحاتمي بقول أرسطو: " من لم يردك لنفسه فهو النائي عنك وان كنت قريبا منه، ومن يردك لنفسك فأنت قريب منه وان تباعدت عنه " (1) ، بينا يقرنه ابن هندو بهذه الحكمة: " الذي [لا] يقبل الحكمة هو الذي ضل عنها وليست هي الضالة عنه " (2) ، وقد مر بنا قول المتنبي " ووضع الندى في موضع السيف؟ " وان ابن هندو يراه مشبها لقول من أقوال من أقوال أفلاطون، وهو مختلف عن القول الذي يورده الحاتمي لأرسطو (3) ، كذلك استقل ابن هندو بإبراز الشبه بين قول المتنبي " أعيذها نظرات منك صادقة؟ البيت " وبين قول آخر لإفلاطون، ولم يتنبه الحاتمي لذلك. وكل هذا يدل على أن ابن هندو لم يتأثر بالرسالة الحاتمية لأنه؟ فيما يبدو - لم يعرف عنها شيئا. وأقدم نقل عن الحاتمية نجده لدى ابن حمدون صاحب التذكرة (4) (562/ 1166) إلا أنه لا يسميها، ولا يذكر الحاتمي، وقد يعد عمل ابن حمدون مضللا لأنه اهتم بإيراد الحكم المنسوبة لأرسطاطاليس اكثر من اهتمامه بإيراد ما يقارنها من شعر المتنبي، وبذلك كاد يخفي أخذه من الحاتمية ويوهم من يقرأ كتابه أنه يعتمد مجموعة من مختارات الحكم، ولما كانت هذه الحكم التي أوردها الحاتمي ليست جميعا لأرسطاطاليس، فقد أكد ابن حمدون هذا الاضطراب في نسبتها، ومن الغريب أن ابن حمدون أورد هذه الحكمة: " الذكر في الكتب عمر لا يبيد " ونسبها لأفلاطون وأعقبها بقول المتنبي المشابه لها (5) ، مع أنها في الحاتمية لأرسطاطاليس (6) ، فكأنه إنما كان في هذا الموطن ينقل عن مصدر آخر، أو كان ضحية للسهو والوهم.   (1) الحاتمية، رقم: 13، ص: 30. (2) الكلم الروحانية: 120. (3) الحاتمية رقم: 22، ص: 34. (4) تذكرة ابن حمدون: 29 - 30. (5) تذكرة ابن حمدون: 22. (6) الحاتمية رقم: 91، ص: 69. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 وبعد ابن حمدون نجد أسامة بن منقذ (584/ 1188) يدرج هذخ الرسالة ضمن كتابه " البديع في نقد الشعر " (1) ، مصرحا بنسبتها للحاتمي، ويتبين لدى مقارنة جميع الصور التي وردت فيها الحاتمية؟ بما في ذلك بديع أسامة - أن ثمة اختلافا كبيرا في ترتيب فقرات الرسالة، واختلافا كبيرا في عددها (2) ، وواضح أن الخطر في ذلك كله انزلاق المقارنات عن مواضعها الصحيحة، ودمج حكمة وبيت لا علاقة بينهما، ومفتاح ذلك ما ورد في طبعه فؤاد أفرام البستاني فإن رقم 100 فيها مكرر، وهو بعينه قد ورد في رقم: 44 وفي كل مرة ذكرت الحكمة وذكر معها بيت مختلف، والحكمة هي: من صحة السياسة أن يكون الإنسان مع الأيام كلما أظهرت سنة عمل فيها بحسب السياسة، والبيت المقترن بها أول مرة هو: كلما انبت الزمان قناة ... ركب المرء في القناة سنانا وهو في المرة الثانية: وكل امرئ يولي الجميل محبب ... وكل مكان ينبت العز طيب وليس بين البيتين والحكمة أدنى علاقة، وإذا استطعنا عن طريق التأويل المتعسف للبيت الأول أن نجد فيه إثارة من شبه بالحكمة نفسها فإن البيت الثاني منقطع الصلة بها تماما. وهذا ضعف عام يعتري كثيرا من فقرات الرسالة، وليس مرده إلى اضطراب النساخ وحسب، بل إلى المؤلف نفسه أحيانا، فإنه كان يعتمد أبسط صور التشابه الظاهري ليقيم علاقة بين حكمة وبيت، دون أن يفتش بدقة عن الاختلاف الواسع بينهما. فقول أرسطو " الذي لا تعلم علته لا يوصل إلى برئة " منقطع الصلة بالبيت المقترن به وهو: ومن جاهل بي وهو يجهل جهله ... (3) ويجهل علمي أنه بي جاهل   (1) البديع في نقد الشعر: 264 - 283. (2) هي مائة فقرة في طبعة البستاني، و 98 في نشرة ريشر، و 92 عند أسامة، و79 في طبعة ان انطون بولاد (بيروت 1868) ، و97 في طبعة الجوانب (1302) . (3) الحاتمية رقم: 70، ص: 58. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 وقوله: " من كان همه الأكل والشرب والنكاح فهو بطبع البهائم، لأن البهائم متى خلي بينهما وبين ما تريده لا تفضل شيئا غير ذلك " لا يربطه أي شبه بقول المتنبي: أرى أناسا على غنم ... وذكر جود ومحصولي على كلم (1) إلى أمثال أخرى من هذا النوع. ويعتري الرسالة ضعف آخر وهو إيراد المعاني المتشابهة مع مراعاة تفريقها كأنها عدة معان مختلفة، ومن أمثلة ذلك ما جاء من أقوال تتحدث عن فعل الزمان والفناء مثل: - تعاقب أيام الزمان مفسد لحال الحيوان (رقم: 8) - الزمان ينشئ ويلاشي (رقم: 5) - الكون والفساد يتعاقبان الأشياء (رقم: 9) - ترداد حركات الفلك يحيل الكائنات عن حقائقها (رقم: 10) ثم ما الفرق بين هذين القولين؟: - لسنا نمنع ائتلاف الأرواح وإنما نمنع ائتلاف الأجسام (رقم: 9) - الائتلاف بالجواهر قبل الائتلاف بالأجسام (رقم: 48) وفي كل مرة منهما تقترن الحكمة ببيت جديد من أبيات المتنبي. ويعض الأقوال فيها يستبعد صدوره عن أرسطو أو عن غيره من الفلاسفة، مثل: " الظلم من طبع النفوس " (رقم: 33) ومثل " ثلاثة أن لم تظلمهم ظلموك: ولدك وزوجك ومملوكك، فسبب صلاحهم التعدي عليهم " رقم: 38) كما أن بعض الحكم لا يحتاج فيه إلى الاستئناس بأرسطو مثل: " إذا كان البناء على غير قواعد كان الفساد أقرب إليه من الصلاح " (رقم: 60) ومثل: " إذا لم ترفع نفسك عن قدر الجاهل رفع   (1) الحاتمية رقم: 72، ص: 59. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 الجاهل قدره عليك " (رقم: 69) ولكن هذه المسألة الأخيرة لا تنطبق على بعض ما جاء في الحاتمية وحسب، بل على أكثر المختارات الحكمية المنقولة عن يونان وفارس. وكل هذا يؤدي بنا إلى أن نتساءل: من أين جاء الحاتمي بهذه الأقوال؟ من الصعب أن نعين لهذه الحكم مصدرا واحدا، كما أن نسبتها جميعا إلى أرسطاطاليس أمر مستغرب، وعند محاولة مقارنتها بما جاء في مجاميع الأقوال اليونانية مثل مختار الحكم ومنتخب صوان الحكمة ومختصره والكلم الروحانية وغيرها نجد بعضها موجودا في تلك المصادر إلا أنه غير منسوب دائما إلى أرسطاطاليس. وأورد في ما يلي ما وجدته من هذه الأقوال أو ما يقاربها ويجري مجراها في مصدر آخر: 1 - الحاتمية: روم نقل الطباع عن ذوي الأطماع شديد الامتناع (رقم: 2، ص: 24) مختار الحكم: وكل شيء يستطاع نقله إلا الطباع (أرسطاطاليس) (1) . 2 - الحاتمية: من لم يقدر على فعل الفضائل فلتكن فضائله ترك الرذائل (رقم: 89، ص: 68) . مختار الحكم: من لم يقدر على فعل فضيلة فليكن همه ترك رذيلة (أرسطاطاليس) (2) 3 - الحاتمية: آخر لإفراط التوقي أول موارد الخوف (رقم: 77، ص: 62) . مختار الحكم: إن من الترقي ترك الإفراط في التوقي (أفلاطون) (3) . 4 - الحاتمية: الفرق بين الحلم والعجز أن الحلم لا يكون إلا عن قدرة والعجز لا يكون إلا عن ضعف (رقم: 52، ص: 49) . مختار الحكم: الحلم لا ينسب إلا إلى من قدر على السطوة، والزهد لا ينسب إلا إلى من ترك بعد القدرة (أفلاطون) (4) .   (1) مختار الكلم: 200. (2) مختار الحكم:198. (3) مختار الحكم: 174. (4) مختار الحكم: 165، 157 وانظر عيون الأخبار 1: 52. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 5 - الحاتمية: من علم أن الكون والفساد يتعاقبان الأشياء لم يحزن لورود الفجائع، لعلمه أنه من كونها (رقم: 9، ص: 28) . مختار الحكم: ليس الحكيم التام من فرح بشيء من هذا العالم أو جزع لشيء من مصيباته واغنم له (أفلاطون) (1) . 6 - الحاتمية: قال وقد نظر إلى غلام حسن الوجه فاستلطفه فلم يجد عنده علما: نعم الدار لو كان فيها ساكن (رقم: 25، ص: 36) . مختار الحكم: وقال وقد رأى رجلا شريرا حسن الوجه: نعم البيت وبئس الساكن (ذيوجانس الكلبي) (2) . الكلم الروحانية: أما البيت فحسن وأما الساكن فيه فردىء (ذيوجانس) (3) . الكلم الروحانية: ورأى غلاما صبيحا لا أدب له فقال: وأي بيت لا أساس له (ذيوجانس) (4) . البصائر: أما البيت فحسن وأما الساكن فيه فخبيث (ذيوجانس) (5) . 7 - الحاتمية: موت النفوس حياتها، وعدمها وجودها لأنها تلحق بعالمها العلوي (رقم 54، ص: 50) . السعادة والإسعاد: من أحب لنفسه الحياة أماتها، فإن النفس الناطقة إنما تحيا بموت النفس الشهوانية (سقراط) (6) . 8 - الحاتمية: تعاقب أيام الزمان مفسد لأحوال الحيوان (رقم 8، ص: 27) . الحاتمية: ترداد حركات الفلك يحيل الكائنات عن حقائقها (رقم: 10، ص 28) .   (1) مختار الحكم: 141. (2) مختار الحكم: 79. (3) الكلم الروحانية: 107 - 108. (4) الكلم الروحانية: 107. (5) البصائر: 395 - 396 وانظر أيضا 1: 139 (رواية ولكن لا أساس له) . (6) السعادة والإسعاد: 84. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 البصائر: باختلاف الحركة والسكون بادت الأمم والقرون (فيلسوف) (1) . 9 - الحاتمية: النفوس المتوهره تأبى مقارنة الذلة جدا، وترى فناءها في ذلك حياتها، والنفوس الدنيئة بضد ذلك (رقم 11، ص: 29) مختار الحكم: الموت خير من المقام في دار الهوان (سقراط) (2) . 10 - الحاتمية: الدنيا تطعم أولادها وتأكل مولوداتها (رقم: 34، ص: 40) . الأقوال المناندرية: أن الأرض تلد كل شيء ثم تسترده (أولمان رقم: 64، ص: 25) . 11 - الحاتمية: الزمان ينشىء ويلاشي ففناء كل قوم سبب لكون قوم آخرين (رقم: 5، ض: 26) . مختار الحكم: حوادث الزمان هلاك لقوم ووعظ لآخرين (سقراط) (3) . 12 - الحاتمية: لسنا نمنع ائتلاف الأرواح، وإنما نمنع ائتلاف الأجسام، فإن ذلك من طبع البهائم (رقم 19، ص: 23) . البصائر: ليس ينبغي أن نمنع من معاشقة النفس النفس، ولكن من معاشقة البدن البدن (فيلسوف) (4) . 13 - الحاتمية: ليس جمال ظاهر الإنسان مما يستدل به على حسن فعله وفضيلته (رقم: 56، ص: 51) . مختار الحكم: البهيميون من الجهال إنما يقضون على الحسن والقبيح بقدر ما تنال حواسهم الظاهرة، وإنما ترى الحواس الظاهرة حسن الأعضاء   (1) البصائر 1: 341. (2) مختار الحكم: 106. (3) مختار الحكم: 101 - 102. (4) البصائر: 7، الفقرة: 18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 فأما حسن الصورة فلا تراها إلا الحواس الباطنة (أفلاطون) (1) . 14 - الحاتمية: الصبر على مضض السياسة ينال به شرف الرياسة (رقم:32، ص: 39) . العقد: من طلب الرياسة صبر على السياسة (علي بن أبي طالب) (2) . هذا هو القدر الذي استطعت العثور عليه، وفي كل ذلك ما يدل على أن الأقوال التي وردت في الحاتمية لا تعدم صلة بحكم ثبتت في المصادر العربية منقولة عن اليونانيين. فأما نسبتها جميعا إلى أرسطاطاليس فقد كان من طريق التجوز، على اعتبار انه النموذج الأعلى للحكمة مثلما كان أوميرس النموذج الأعلى للشعر. ولم تستغرق الرسالة الحاتمية كل ما يمكن أن يتم من رابط بين الأفكار اليونانية وشعر المتنبي، ومن شاء استطاع أن يضيف إليها كثيرا، ففي الأقوال المناندرية: " ان الرأي في الجبان جبان أيضا " (3) ، وهو مشبه إلى بعيد لقول المتنبي: تلقى الحسام على جراءة حده ... مثل الجبان بكف كل جبان ونجد في قول مهاد رجيس: " من ساءت ظنونه تنغصت عيشته وعطمت مصيبته (4) " طرفا مما أسهب فيه المتنبي بقوله: إذا ساء فعل المرء ساءت طنونه ... وصدق ما يعتاده من توهم وعادي محبيه بقول عداته ... وأصبح في ليل من الشك مظلم وتعريف أرسطاطاليس (أو غيره) (5) للصديق: " هو أنت، إلا أنه بالشخص   (1) مختار الحكم: 135. (2) العقد 2: 420. (3) أولمان، رقم: 91، ص: 28. (4) مختار الحكم: 283. (5) في منتخب صوان الحكمة: 244 - 245 (طهران) أن من اسمه ثيا فندورس سئل ما حقيقة الصديق فقال: انسان هو أنت إلا أنه غيرك، حيوان غير موجود، اسم على غير معنى، وفي مختار الحكم: 213 انه لأرسطاطاليس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 غيرك " قد تلاعب به المتنبي، حتى أخرجه على النحو الآتي، منكرا وجود الصديق البية: صديقك أنت: (لا من قلت خلي ... وار كثر التجمل والكلام) والأمثلة كثيرة على مدى صلة المتنبي بالمصطلح الفلسفي والأفكار الفلسفية واستغلال كل ذلك في شعره، ولكن المتنبي لم يكن مترجما لتلك الأفكار والمصطلحات، كما فعل جيل الشعراء الذين كانت همتهم منصرفة إلى نظم الحكم، وإنما تمثل كل ذلك على نحو فذ، فكان شعره ثمرة عجيبة لذلك اللقاء الثقافي، وليس معنى ذلك انتقاصا من موهبته في إحراز تجربة عميقة في الحياة، كانت المنبع الهام في تلك العبقرية الشعرية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 فراغ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 " 11 " اتخاذ المقامة وعاء للفكر الحكمي والسياسي اليونانيين للمقامة في تاريخ الأدب العربي شأن خطير لعله لم ينل ما يستحقه من عناية حتى اليوم. فقبل أن تخلق القصة القصيرة بمئات السنين، عرف العرب شكلا أدبيا، يعبر للأرستقراطية المثقفة بما يدور في حياة العامة، ويتحدث عن شؤون المجتمع؟ في ملابساتها اليومية - بلغة جزلة: كان السؤال الكبير في القرن الرابع الهجري هو: كيف يمكن للأدب أن ينقل الصورة الأسطورية من فصاحة الأعراب التي جعلها ابن دريد وغيره من الرواة محكا للقدرة على التمسك بالطبع في الأداء، مع التعبير عن حاجات المدينة. وفجأة وجد بديع الزمان ضالته في أبي دلف الخزرجي الينبعي، فقد كان يعرفه معرفة وثيقة، ويعرف أنه عن طريق الكدية يمثل النظرة إلى المجتمع المدني، وعن طريق الفصاحة يمثل صفاء اللغة الإعرابية، فأتخذه نموذجا، وسماه أبا الفتح الإسكندري (1) ، وجعله قناعا لنقد الحياة الاجتماعية والأدبية في مختلف صورها، وكان لا بد لهذا البطل القصصي أن يكون مكديا، كي يدور البلاد، ويتعرف إلى الناس والعادات، ويتحدث عن تجارب مختلفة، ويستكشف المدينة وحياتها، ويتحدث عنها بأسلوب فصيح معروف عن الأعراب. وهكذا ولدت المقامة؟ قطعة نثرية مسجوعة قصيرة الفقرات، ذات طول معين، لا يتجاوز في طولها مقام واعظ يتحدث إلى جمهوره، وفي الغالب   (1) يقول الثعالبي: وأنشدني بديع الزمان لأبي دلف، ونسبه في بعض المقامات إلى أبي الفتح الإسكندري (اليتيمة 3: 358) وهو شاهد على النموذج الذي كان يسيطر على ذهن البديع حينما خطر له أن ينشيء المقامات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 يكون البطل فيها متنكرا، فهي تقع بين " عقد " و " حل "، قصيري الأمد، ويكون الحل إشباعا للتشويق، ويصبح " الانكشاف " مدعاة للارتياح وسبيلا إلى طمأنينة النفس. وحين نستعمل هذه المصطلحات، أعني: العقد والحل والأنكشاف، فلسنا نعني أن المقامة متأثرة بالنظرية الارسطاطاليسية في " التراجيديا "، وبعبارة أخرى لا نعني أن " المقامة " وليدة جو يوناني، إذ يبدو أن المقامة وليدة جو محلي لا علاقة له بالدراما اليونانية، ولكن الذي نحب أن نؤكده هنا، هو أن ولادة هذا الفن الذي لم تعرفه الآداب الأخرى؟ فيما نقدر - كان يرضي رغبة روائية لدى العرب كتلك الرغبة التي وجدت رضاها عند غيرهم في الدراما. ومثلما أن المقامة لم تجد حتى اليوم من يتوفر على إبراز أهميتها الدقيقة بين الأشكال الأدبية كذلك كان حظ أثرها، ذلك أن سعة المجال الذي يمكن أن تغطيه المقامة؟ حسب سعة الحياة الإنسانية - قد جعل أثرها مترامي الأطراف، وأتاح للأدباء؟ بعد البديع - مجالا للتخصص، فثمة من اكتفى من المقامة بالنقد الأدبي (1) ، ومن رصد فيها الحياة الريفية (2) ، ومن اتخذها قالبا لوصف الرحلة ومن اجتزأ منها بوصف العناصر الجزئية إبراز لمقدرته الأدبية (3) ، وآخرون قد فتنتهم قدرة البديع في وصف الطعام والمائدة، وهذا هو ما عمد إليه بعض كتاب مصر في العصر الفاطمي (4) ، وفي مقدمتهم العميدي، فإن في رسالته المطبخية (5) محاولة واضحة لمحاكاة بديع الزمان. وقد كانت المقامة المضيرية من أكثر المقامات تأثيرا في من جاء بعد البديع، فهي في   (1) يعد ابن شرف نموذجا لهذا النوع من المقامات، انظر الذخيرة ج 4: 154 ورسالة أعلام الكلام (ط. مصر 1926) وتاريخ النقد الأدبي عند العرب: 460 وما بعدها. (2) في مقامة لابن أبي الخصال، انظر تاريخ الأدب الأندلسي (عصر الطوائف والمرابطين) : 316. (3) ذلك هو ما فهمه ابن شهيد من المقامات، انظر رسالته في الحلواء، في الذخيرة 1/1: 230 - 232 ووصفه للماء 1/1: 236 في معارضته وصف البديع له. (4) انظر تاريخ المسبحي، الورقة: 212 وما بعدها. (5) رسائل العميدي: (مخطوطة في مجموعة يهودا بجامعة برنستون، منها نسختان رقم 4059، 4548 ومخطوطة ثالثة لم تلاقم بعد، وهي التي اعتمدها بالإشارة) والرسالة المطبخية موجودة في النسخ الثلاث، وهي الرسالة الأولى في النسخة الثالثة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 حقيقتها نقد لاذع لطبقة التجار وأسلوب هذه الطبقة في الحياة: فالتاجر يسكن في دار في أشرف محلة ببغداد، وكل شيء فيها يدل على الرفاهية والعز والغنى، ولكن صاحبها قد حصلها من شاب أفلس، بالخديعة والحيلة، ثم هو لا يستنكف أن يعرف بأن امرأة فقيرة ألجأها فقر إلى بيع عقد كان لديها بأبخس الأثمان، وأن الحصير المفروش في الدار إنما اشتري " وقت المصادرات وزمن الغارات " (1) ، وأن الأبريق إنما اشتراه مالكه عام المجاعة بثمن بخس أيضا، وهكذا يظل البديع يغمز من " وصولية " هذه الطبقة وقدرتها على انتهاز الفرص، بما لا يدع مجالا للشك في أن غايته الأولى؟ في إطار المقامة - هو النقد الاجتماعي، وكل ما يجيء بعد ذلك فإنما هو مكمل للموضوع الأساسي أو هوامش تحلية على جوانبه. إن الغاية الأساسية في هذه المقامة ربما لم تجد من يفهمها على حسب دلالتها الصحيحة، بين من تأثروا بها، ولكن ما يهمنا في هذا الصدد، هو أن هذا الشكل الأدبي قد وجد صالحا لاستيعاب جوانب من الحكمة اليونانية والفكر اليوناني أيضا. ولعل أوضح محاولة في هذا السبيل هي ما قام به ابن بطلان. ففي كتاب " دعوة الأطباء " (الذي ألفه ابن بطلان سنة 450) أثر كبير من المقامة في الشكل بوجه عام ومن المقامة المضيرية على وجه الخصوص. أما ما جاء في مقدمة الكتاب من أنه صيغ على أسلوب كليلة ودمنة، فذلك ضرب من الوهم لا يثبت للفحص أبدا، وقد سماه القفطي " مقامة " (2) ، وسماه ابن أبي أصيبعة " رسالة " (3) ، والتسمية الأولى أدق، والثانية جائزة من حيث شمول مدلول الرسالة، وقد احتذى ابن المطران حذوه فيها في كتاب ألفه (4) .   (1) المقامات: 111. (2) تاريخ الحكماء: 298. (3) عيون الأنباء 1: 242، 243. (4) عيون الأنباء 2: 181، وقارن بدعوة الأطباء كتاب " التشويق الطبي " لصاعد بن الحسن، فإن الروح تكاد تكون واحدة، إلا أن صاعد بن الحسن جرد كتابه من شكله الأدبي، وإن كنت تلمح فيه - في بعض المواقف - أسلوبا يذكر بالمقامات كما في قوله: " فإن سئل عن شيء من العلم ابرز ثيابه، واظهر أردائه، وأشار بخاتمه، ونغص لحيته، وسعل وتنحنح، وانقطع وتشجع وقال: أنا داويت وعالجت، وقطعت وبططت، وجبرت وكحلت، وفصدت وحقنت؟ " (ص: 6، ب) وهو أيضا قريب الشبه من دعوة الأطباء في كثرة اعتماده على حكم الأقدمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 وهذه المقامة تنظر في عنوانها إلى كتاب وضعه أثنايوس النقراطسي (Athenaeus of Naucratis) بعنوان " مأدبة الحكماء " (the Deinosophists) وهي مأدبة أقامها رجل ثري ودعا إليها عددا كبيرا من المثقفين في جميع الفنون، فكان بينهم الفيلسوف والمؤرخ والشاعر واللغوي والخطيب والقاضي وجرى فيها الحوار على الطريقة السقراطية، وشمل ما يتعلق بالطعام من أسماك ولحوم وخضار، وما يتعلق بالشراب من ألوانه وأسماء كؤوسه وغير ذلك من أمور (1) . وإذا كاناثنايوس قد استطاع أن يجمع إلى المأدبة المتخيلة عددا من ذوي الاختصاصات المتنوعة، في مدينة روما، والحياة الثقافية فيها مزدهرة، فإن ابن بطلان قد اقتصر على عدد من المشتغلين بالصناعة الطبية، ولم يستطع أن يجعل بغداد مكانا لتلك الدعوة إذ كان قد فارقها وأكثر المفكرين فيها قد ماتوا، من أمثال ابن الخمار وابن عبدان ونظيف القس وابن بكس وأبي الوفاء المهندس، وإنما جعل ميافارقين ساحة لها أيام دولة أبي نصر أحمد بن مروان الكردي، وقد كسدت سوق الصناعة الطبيعة لسببين: كثرة الدخلاء فيها، ثم تغلب الصحة على المرض وانكشاف الوبأ والعلل عن الناس منذ أن ملك أبو نصر، ذلك الرجل الميمون النقيبة (2) . وتتخلص قصة المقامة في أن رجلا (هو ابن بطلان نفسه) فارق بغداد وقصد ميافارقين، وفي نيته أن يدخل عمر (دير) الزعفران ليرتسم بالطب وليلقى راهبا هنالك فيتزود ببركة دعائه، وفي طريقه في ميافارقين أرشد إلى دكة بالعطارين عليها شيخ من أبناء السبعين، فيتحدث إليه الشيخ عن كساد صنعة الطب عندهم، وعندما يعرف أن   (1) انظر الجزء الأول من كتاب اثنايوس ص: 3 وما بعدها وربما عرف ابن بطلان كتبا أخرى بهذا العنوان في اليونانية. فقد كان الموضوع - فيما يبدو - محببا إلى المؤلفين بتلك اللغة. لأنه يفسح المجال للحوار والاستقصاء وتعدد الآراء، ويبدو كذلك أن ابن بطلان شغف أيضا بهذا الشكل الأدبي، إذ نجد له كتابا آخر بعنوان " دعوة القوس "، أما " وقعة الأطباء " فربما كان في أكثره تهكما وسخرية، وخاصة بابن رضوان (ابن أبي أصيبعة 1: 242، 243) . (2) هذه طريقة من المدح، وإلا فان ابن مروان قد أنشأ في ميافارقين بيمارستانا أنفق عليه أموالا كثيرة وزوده بكل ما يحتاج إليه، وكان فيه من الأطباء المشهورين زاهد العلماء أبو سعيد منصور بن عيس النصراني النسطوري (ابن أبي أصيبعة 2: 253) . وقد ملك أبو نصير من 401 - 453/1010 - 1061. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 القادم عليه ضعيف المعدة ناقص الشهوة يحدثه حديثا طبيا عن أنواع الطعام وما يصلح له منها ثم عن الشراب وفوائده ومضاره، وضم مجلس الشراب أبا جابر الفاصد (ومعه عوده) وأبا موسى الصيدلاني وأبا سالم الجرائحي وأبا يعقبوب الكحال، وإزاء هذا كله ينكر الضيف انه طبيب ويزعم انه طبائعي فتجري المحاورة بين الشيخ وضيفه حول ما لا بد للطبائعي أن يعرفه من مسائل، فحين يظهر عجز الضيف في الإجابة عنها ينكر أنه طبائعي ويدعي أنه كحال، فإذا أعيته المسائل التي لا بد أن يعرفها الكحال زعم أنه جرائحي، فإذا سقط في الامتحان، ادعى أنه فاصد ثم أنه صيدلي يعرف شؤون العقاقير والأدوية، وفي النهاية يقول: أنا رجل جئت بكتب إلى أهل هذه البلدة، فيقول له الشيخ " أنت من طب الرقاع والرسائل " ويستطرد إلى الحديث عن فتى " أمسى في بعض الليالي معافى وأصبح يدعي أنه حكيم " فيغمز بذلك من شخص معروف بدعوى الفهم في صناعة الطب، ويذهب إلى الحديث عن جهلة الأطباء وأن هذا قد جر إلى استهانة العامة بالصناعة الطبية، فهم لا يصدقون ما يقوله الأطباء لهم: " إذا قال لهم طبيب هذا غذاء يضر يقولون كم قد أكلناه وما ضرنا، وما يعلمون أن الطبيعة تحامي ما أمكنها عن نفسها وتعجز عن المحاماة فتعطب، ويقولون: ما دام للإنسان خبز عند الخباز فما يضره شيء، فإذا جاء أبو ضابط ما ينفعه شيء، يسمون الخبز الحياة ومعطي الحياة الخباز، ويكنون الموت أبا ضابط " (1) . وفي خاتمة الكتاب يهم الضيف بالإنصراف، فيستبقيه غلام الشيخ لأنه إن ذهب لم يمكنه الحصول على شيء من الطعام والشراب من سيده البخيل، وإنما إذا أقبل على الأكل والضيف موجود، وشاهده سيده احتج بوجود الضيف، فيقبل الضيف والغلام وأبو جابر الفاصد تلميذ الشيخ على الطعام والشراب بنهم، والشيخ قد نام وثقل لما أفرط في الشرب، وإذا يصحو ويرى ما حل بطعامه وشرابه يغضب ويقسم أنه لن يضيف غريبا بقية عمره، وينصرف الضيف ثم يعاود دار الشيخ لعله يلقاه مرة أخرى، فإذا بالشيخ يراعي الطريق من الشباك، مخافة أن يفجأه ضيف طارق، وإذ الضيف يقول لغلامه: " احفظ الباب والممرق، فقد ورد الغرار الملمق، وأخاف أن يلج الدار ويتسلق "، ويحييه الضيف، فيغلق الشباك في وجهه، ويكون ذلك آخر العهد به.   (1) دعوة الأطباء: 88 - 89. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 وتتألف " دعوة الأطباء " من اثني عشر فصلا (أو أن شئت فقل من اثني عشرة مقامة) بما في ذلك الفاتحة والخاتمة، ومنذ الفصل الثالث تتخلل الفصول مواقف الشرب، والقطع الغنائية، وتمثل فقرات ارتياح بين الفوائد الطبية، والنقد لأوضاع الأطباء والغمز من جهالة كثيرين منهم، ونقد المجتمع في نفوره من طلب والأطباء. ويمثل الطبيب الشيخ دور التاجر " الوصولي " في المقامة المضيرية، فهو مثله في حرصه وبخله، وما نصائحه الطبية لضيفه ومنعه من الأكل والشرب في داره، مع أن المائدة جاهزة، إلا صنو مماطلة التاجر لأبي الفتح الإسكندري في إحضار المضيرة، ولكن أقوى المشابه بينهما من نبل المشاعر الإنسانية، فالتاجر ينصب الشباك للمفلس والفقير كي يستولي على ما تبقى لديهما، والشيخ شديد الأسف، لانحسار الأوبئة والأمراض وكساد عمل الحفارين والحمالين: " اليوم جمهور الحفارين والحمالين قد بعدوا عن هذه الديار، وتشتتوا في القرى والأمصار، واشتغل أكثرهم بالمزروعات وسوق العجل والفدان، ونقل الجبصين من رؤوس الجبال إلى البلدان " (1) ، ويجمع إلى هذا الأسف حنينا رومنطقيا إلى تلك الأيام التي كانت تخرج فيها الجنائز إلى المقابر: " بالثياب الديباج كأنها زهر البستان؟ والجنائز تجلى كالعرائس وتحط على المقابر كالنجوم الزواهر، وأصوات الصدائح في المآتم والنوائح كترنم المزاهر، واصطخاب الآلات والمزامر، ومغسلوا الموتى لا يوصل إليهم إلا بالملاطفات، والأطباء يتزاحم على دكاكينهم بالمهارى والبغلات؟. " (2) . وهو أيضا شبيه بالتاجر في الوقوف عند كل مادة من مواد خوانه، كما كان التاجر يتوقف ليصف كال آنية أو آلة في داره، وحين أحضر الغلام طبقا علمه منديل وفوقه خبز وبقل، أخذ الشيخ رغيفا وقال: " رحم الله العجوز لقد كانت لها عناية حسنة بالخبز، وهي علمت هذا الغلام يخبز هذا الخبز، كل يا سيدي فإنه مغسول الحنطة، مختمر العجين، معتدل الملح، خلنجي الظهر، مورد الوجه، علك المضغ، سريع الهضم، ملائم للجسم. ثم أخذ طاقة هندباء وقال: اعلم يا سيدي أن الهندباء أنواع: أجودها الرقيقة فإنها خير من غيرها، وأصلح في إصلاح الكبد، وأسرع في تفتيح السدد، وكثيرا ما سقي ماؤها من الراوند، انظر يا سيدي إلى عرض ورقها،   (1) دعوة الأطباء: 16 - 17. (2) دعوة الأطباء: 16 - 17. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 وصفاء خضرتها، وتطعم عذوبة طعمها ورطوبتها وبردها، لا سيما إذا أكلت، فخير أن تؤكل مع هذا الخل الثقيف، انظر اليه، فما معولي في دفع الصفراء إلا عليه؟. " (1) في هذا المقطع يبلغ احتذاء المقامة المضيرية ذروته. في هذا الإطار، وجدت الحكمة اليونانية والفكر اليوناني مجالها الرحب، فقد كان ابن بطلان طبيبا شديد التعلق بما ثقفه من أصول الطب اليوناني والمعارف اليونانية جملة، فلذا أفرغ في مقامته كثيرا من الآراء الطبية والأقوال الحكمية، وغرضه في الأساس تعليمي، إلا أنه يمزج كل ذلك بفكاهته ونقده وميوله الأدبية، وخاصة لأن أكثر هذه الأقوال يرد على لسان رجل بخيل لا يريد لرغيفه أن يكسر ولا لطعامه أن يؤكل، فهذا فيثاغورس يقول: " من ساس معدته فقد قرب جميع الأعضاء من الاعتدال " (2) ، وما أحسن ما قال سقراط وقد اجتاز على كساح قد أخرج من حش كساحة " يا أهل أثينا هذا الذي كنتم تغلقون عليه أبوابكم وتقيمون لحفظه الخزان " (3) ، والحكيم بقراط يقول: " ليس بالخبز يحيا الإنسان بل بكل كلمة طيبة " (4) ، وسقراط يقول: " أن أحببت أن تأكل فلا تأكل حتى تأكل " وأفلاطون يقول: " آكل لأعيش لا أعيش لأكل " (5) ، وجالينوس يقول: " أجيل الناس من ملأ بطنه من كل ما يجده " (6) ، إلى غير ذلك من أقوال يتحدد هدفها بمعرفة الشخص الذي يرددها. بل أن ابن بطلان ليقتبس من هذه الثقافة في المواقف المختلفة دون أن يعنى أحيانا بنسبة القول إلى صاحبه، فقوله: اعلم يا سيدي أنه ليس الآمر بأسعد من المطيع له، ولا الناصح أولى بالنصيحة من المنصوح له " (7) ، هو فاتحة رسالة منسوبة إلى أرسطاطاليس بعث بها إلى   (1) دعوة الأطباء: 21. (2) دعوة الأطباء: 22. (3) دعوة الأطباء: 23. (4) في نسبة هذا القول - إلى ابقراط غرابة لأنه ينسب إلى المسيح، ومما يزيد الأمر غرابة أن يرويه ابن بطلان كذلك وهو مسيحي متدين. (5) دعوة الأطباء: 26. (6) دعوة الأطباء: 27. (7) دعوة الأطباء: 31. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 الإسكندر، وقد ذكرتها فيما تقدم (1) ، وقد يطول بنا القول لو أردنا الاستمرار في الاستشهاد بما يورده من حكم الأقدمين وأقوالهم، وبخاصة لأنه يتعرض بجميع فروع الصناعة الطبية التي كانت معروفة في زمنه. وهو يخلط ذلك أيضا بالحكمة الفارسية متأثرا بابن المقفع وكليلة ودمنة كأن يقول مثلا: " ومن المعلوم أن ذا العقل لا تبصره منزلة أصابها وإن عظم أمره، كالجبل الذي لا يتزلزل وإن اشتدت به الريح، والسخيف تبطره أدنى منزلة كالحشيش الذي يحركه أدنى ريح، فإن الأدب يذهب عن العاقل السكر ويزيد الأحمق سكرا، كالنهار يزيد كل ذي بصر بصرا، ويزيد الخفاش عماء " (2) . ومع أن المقامة حافلة بالإنحاء على ما وصلت إليه حال الطب في أيدي الجهال، فإنها لا تعفي الجهل المتفشي في المجتمع من النقد اللاذع: " تقول شعثاء العاتكة ما في الدنيا مثل دخنة أبي الحسين العطار، وتقول عليا القابلة ومن أين مثل قشوتة، وتقول سكينة الماشطة: إن عنده دهن العافية، شيء ما في الدنيا مثله، وتحلف أن ما في العالم مثل حوائجه؟ فلا يبقى حمام ولا مجلس قاض ولا سوق غزل ولا دكان قطعان الا والحديث كله صفة أبي الحسين العطار " (3) . وكثير من المسائل التي عرضها ابن بطلان في هذه المقامة، كان مما عايى به أبا علي ابن رضوان في رسائله، ولكن هذا خارج عن غرض هذا الفصل. ويعود إطار المقامة فيتخذ وعاء للفكر اليوناني أو المنسوب إلى يونان، بعد ما يزيد على ثلاثة قرون، وهنا يعود إلى ظهور ذلك الموضوع المحبب إلى كثير من طبقة الكتاب، وهو الفكر السياسي، ففي القرن الثامن، وفي دولة بني نصر بغرناطة، وقع اختياء لسان الدين ابن الخطيب على عهدين من العهود الثلاثة التي كان ابن الداية قد ترجمها أو صاغها تحت عنوان: " كتاب العهود اليونانية المستخرجة من رموز كتاب السياسة لأفلاطون " وهما " عهد الملك إلى ابنه " (4) و " عهد الوزير إلى ولده " (5) ،   (1) انظر ما تقدم ص: 145. (2) دعوة الأطباء: 64. (3) دعوة الأطباء: 60 - 61. (4) الأصول اليونانية للنظريات السياسية في الإسلام: 5 - 41 الفلسفة السياسية: 47 - 94. (5) الأصول اليونانية: 42 - 54 والفلسفة السياسية: 95 - 113. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 فقد صاغ الأول في " مقامة سياسية " (1) ، والثاني في ما سماه " كتاب الإشارة إلى أدب الوزارة " (2) ، وقد كان الأستاذ دنلوب هو الذي استكشف الصلة بين العهد اليوناني والمقامة (3) كما كانت الدكتورة وداد القاضي هي التي درست العلاقة بين كتاب الإشارة وعهد الوزير إلى ولده في بحث ألقي بمؤتمر المستشرقين المنعقد بمدينة اكس آن بروفانس، في شهر سبتمبر 1976 حول النظرية السياسية لدى لسان الدين بن الخطيب، وليس يعنيني هنا مدى التغيرات التي أجراها لسان الدين على كلا النصين؟ فذلك شيء قد تكفل به البحث القيم المشار إليه - وإنما يهمني هنا المزاوجة بين الشكل الأدبي العربي والمحتوى الفكري اليوناني. أما الصلة بين أثري ابن الخطيب والعهدين المذكورين فإنما واضحة تمام الوضوح، واكتفي للدلالة عليها بمثل واحد من كل منهما: جاء في العهد الأول حول الرعية: " اعلم أن رعيتك ودائع الله قبلك وأمانته عندك، وأنك لا تصل إلى ضبطهم إلا بمعونته جل وتعالى، وأفضل ما استدعيت به عونه لك تقديم نفسك لهم، وحسن النية فيهم وحراستهم والمنع منهم والرفع عن تضييعهم، وأخذ كل طبقة منهم بما لها وعليها حتى تشعر عليتهم رأفتك، وأوساطهم إنصافك، وسفلتهم خوفك " (4) . وقد صاغ ابن الخطيب هذا النص على النحو التالي: " رعيتك ودائع الله تعالى قبلك (ومرآة العدل الذي عليه جبلك) ولا تصل إلى ضبطهم إلا بإعانة الله تعالى (التي وهب لك) ، وأفضل ما استدعيت به عونه فيهم، (وكفايته التي تكفيهم) تقويم نفسك عند قصد تقويمهم (ورضاك بالسهر لتنويمهم) ، وحراسة (كهلهم ورضيعهم) والترفع عن تضييعهم، وأخذ كل طبقة بما عليها وما لها، (أخذا يحوط مالها، ويحفظ عليها كمالها، ويقصر عن غير الواجبات آمالها) حتى تستشعر عليتها رأفتك (وحنانك) وتعرف أوساطها   (1) نفح الطيب 5: 431 - 445. (2) من مطبوعات المجمع العلمي، تحقيق عبد القادر زمامة، دمشق 1972. (3) D. M. Dunlop: A Iittle Known Work on Politics by Lisan al - Din Ibn al - Khatib (Miscellania de Estudios Arabis y Hebraecus؟.Granada، 1959، PP. 47 - 54. (4) الأصول اليونانية: 6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 (في النصب) امتناعك، وتحذر سفلتها سنانك " (1) . وجاء في عهد الوزير إلى ولده: " ومما أخافه عليك أن تسول لك قوة الإمكان الزيادة في الاحتكار من الضياع والأموال وما تدعوا إليه جلالة المحل فينقسم شغلك ويشيع سعيك، ويحصيه عليك من لا يمكنك الاحتراز منه، من محروم لديك، ومتطلع إلى أوفى من منزلته عندك، قد أضرم الحسد وأذكى نوازع صدره، فيعظم صغيره ويزيد في مقداره ويتشوف إلى مناهضتك من كان مقصرا عنها، فيستدعي بذلك الارتياب بك والاستظهار عليك، وقوة طمع الخاصة فيك " (2) ، ويقابل هذا في الإشارة: " واحذر أن تسول لك قوة الإمكان (ودالة السلطان) الزيادة في الاستكثار من الضياع (والعقار) ، والجواهر النفيسة والأحجار، (وغير ذلك من الاختزان والاحتكار) وما تدعو اليه جلالة المحل (ونباهة المقدار) ، فينقسم (فكرك) وشغلك ويضيع سعيك (وفضلك) ، ويحصيه عليك من (يضمر لك الافتراس) ولا يمكنك (من كيده) الاحتراس، ممن حرم حظه، (أو وكس معناه ولفظه) أو متطلع إلى أوفى من ميزانه، (متسام إلى ما وراء إمكانه) (أقصرت به السياسة من شأنه) فأضرم الحسد ناره، وأذكى أواره، وأعظم صغيره (وأثاره) ويتشوف إلى مناهضتك من كان عنها مقصرا، (أو يجهر من كان مستترا) ويستدعي الارتياب بما جلبه الحظ إليك والاستظهار بع عليك، وطمع الحاسد فيما لديك " (3) . وتجدر الإشارة هنا إلى أمور منها: إن تتبع ابن الخطيب في " الإشارة " لمقارنتها بعهد الوزير إلى ولده أعسر مطلبا منه في حال المقامة، لأنه يجمع أحيانا عبارات من أماكن متباعدة، ويقدم ويؤخر، لا بين الجمل وحسب، بل بين الفصول التي يتألف منها العهد. ثم إن من قرأ المثلين السابقين ورأى أن سجع ابن الخطيب يجعل عدد العبارات مضاعفا توقع أن تكون صياغته للعهدين في مثلي حجميهما، ومع ذلك فإن هذا لا يطابق الواقع،   (1) نفح الطيب 5: 433 وما بين قوسين هو الزيادات التي أضافها ابن الخطيب مع بعض التغيير في العبارات الواقعة خارج الأقواس، ليتسق حال السجع. (2) الأصول السياسية: 50 وقوله: " وقوة طمع الخاصة فيك " قد ورد في أحد النسخ " وقوة طمع الحاسد فيك، وهو ما اعتمده لسان الدين، فيما يلي، وفي الأصول " طبع الخاصة " ولا معنى له، وانظر الفلسفة السياسية: 106 والحاشية رقم: 8. (3) الإشارة: 16. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 فالعهد الأول الذي يقع في ما لا يقل عن خمس وثلاثين صفحة قد جاء لدى ابن الخطيب فيما لا يجاوز ثلاث عشرة، والثاني وهو في الأصل في حوالي اثنتي عشرة صفحة قد جعله ابن الخطيب في سبع عشرة. وهكذا نرى أن الأول؟ وهو أكبرهما - قد نقص كثيرا (فأصبح ثلث الحجم الأصلي) ، وزاد الثاني قليلا بمقدار نصف حجمه، والسبب في ذلك أن ابن الخطيب يحذف ما لا يتلاءم ونظرته السياسية في كلا العهدين، كما أنه اختار شكل المقامة بالنسبة للعهد الأول، ولذلك اضطر أن يحافظ على طول المناسب لها، وكان موضوع العهد الثاني ألصق بنفسه وتجربته؟ لأنه عهد وزير إلى ولده، فهو يعكس دور ابن الخطيب نفسه في الحياة السياسية، ولهذا زاده السجع كما زادته الرغبة في الموضوع طولا، وهكذا يكون ابن الخطيب قد عالج المحتوى اليوناني في شكلين أدبيين، اختار لأحدهما المقامة، واختار للثاني ما جرى عليه الكتاب الذين أعادوا صياغة الرسائل الارسطاطاليسية المنحولة؟ حسبما تبين في الفصل الثامن - بأسلوب جزل مسجع، وبخاصة ما قام به مؤلف كتاب " القلائد والفرائد ". وقد تأنى ابن الخطيب لشكل المقامة بأن خلق حول النص اليوناني جوا ملائما لهذا الشكل، إذ تصور هارون الرشيد وقد أصابه الأرق، فبعث رسله ترتاد كل سبيل ليأتوه بأول طارق يصادفونه، وكان أن وقع في أيديهم " شيخ طويل القامة، ظاهر الاستقامة، سبلته مشمطة، وعلى أنفه من القبح (1) مطة، وعليه ثوب مرقوع، لطير الخرق عليه وقوع "؟ شيخ في مثل حال أبي الفتح الإسكندري، إلا أنه حكيم لا وعظ من الذين يتصيدون الرزق بالحيلة، " فارسي الأصل، أعجمي الجنس، عربي الفصل " قد جمع فضائل أمم ثلاث، فيسأله الرشيد عن رأيه " في هذا الأمر الذي بلينا بحمل أعبائه " أي رياسة الدولة وسياسة الأمة، فيقدم له رأيه في الموضوع، بما لا يخرج كثيرا عما رسمه الملك في عهده لابنه، حتى إذا استوفى الحظ من الحديث في السياسة، أصلح عوده وتغنى، ثم غير اللحن " إلى لون التنويم، فأخذ كل في النعاس والتهويم " وانسل من المجلس، كما يفعل أبو الفتح في بعض المواقف، وطلب فلم يعثر له على أثر، تماما كما يختفي أبو الفتح أيضا، إلا أن اختتام المجلس بالموسيقى والتفنن في اللحون، أليق بالحكيم منه بالمكدي.   (1) في النفح: من القبع، واظنه خطأ، وقد صوبته هنا وعجزت عن تصويبه هنالك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 وسواء أكان بطل المقامة مكديا أو حكيما أفقيا لا يعرف لنفسه مستقرا (فهو شبيه بالمكدي) فإن الإطار المقامي يسوغ هذا الذي استحدثه ابن الخطيب ليعرض الآراء الأساسية في السياسة، إلا أن الشكل الذي اختاره لكتابه " الإشارة " وهو الرجوع إلى الجو الحيواني، أعسر على التسويغ، فالملك في هذا النص أسد ووزيره نمر " يعرف بالمرقط، كأنه بالنجوم منقط، شثن الكفين، بعيد ما بين العينين، كأن ذناباه ذؤابة كوكب، أو جديلة مركب؟ عظيم الوثب والطفور، حديد الناب والأظفور " وقد شاخ النمر وأراد أن يتغزل الوزارة، لضعفه وهرمه، ومن الطريف أن يقول في مخاطبة ملك الوحوش: " فسوغني التفرغ لمعادي، والنظر في بعد طريقي وقلة زادي "؟ كأنه إنسي الفكر والغاية وحشي الاسم لا غير - ويصادف أن يكون للنمر ابن قد حاز أيضا ثقة الأسد، فهو ينقل الوزارة من الأب إلى الابن، في صنيع يقيمه ويستدعي إليه " الأشراف وقومه الجهاد وطوائف النساك والزهاد "؟ طبعا من الوحوش - وبعد أن يؤدي النمر الشعائر في هيكل العبادة، يجثو لديه ولده، ويطلب إليه أن يوجهه بنصائحه، فتكون هذه النصائح هي خلاصة ما يريده ابن الخطيب من عهد الوزير إلى ولده. وواضح من هذا أن ابن الخطيب، لم يستطع أن يعمق الرمز، وكان الموقف الحيواني يختلط في تعبيراته بالموقف الآدمي، وواضح أيضا أن ابن الخطيب كان يرد في كليلة ودمنة وما شابهه من كتب نموذجه الأثير، ولكن طبيعة الأسطورة هنا لم تسعفه كثيرا، إذا كانت الخرافة - كما جاء بها - مجرد توطئة للقول، دون استمرار في الجو الحيواني، كما هي الحال في مثل كليلة ودمنة. وخلاصة القول أن ابن الخطيب وإن وضع تجربته في هذه الرسالة، وصبغ جوها بمسحة إسلامية، ورفض ما لا يتفق ونظرته من آراء - وهو شيء قد مارسه كثيرون من قبله - وأضاف إليها ما اعتقد انه ضروري لبيئته ودولته، فإنه في المقامة والرسالة، ربما كان خاتمة من حاولوا هذا الجمع بين إطار أدبي ومحتوى يوناني أو منسوب إلى يونان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 " 12 " ملاحظات على طريق الدراسة المقارنة حين يقول الشاعر اليوناني: " الحياة كالخمر، فان القليل المتبقي منها يحور حامضا " (1) ، ويقول الشاعر العربي: والعمر مثل الكاس يرسب في أواخرها القذى ... يستوقفنا التشبيه الأساسي لا التفصيلات الملحقة به؛ الحياة كالخمر.. الحياة كالكأس؛ صورتان متقاربتان، تنبعثان من منبع واحد؛ فهل الثاني أخذ عن الأول، أو أن هذا نتاج مظهر حضاري مشترك؟ وكذلك يثور التساؤل نفسه حين نسمع الشاعر العربي يقول: " عيرتني بالشيب (وهو وقار) " والشاعر اليوناني يقول " عيرتني بالشيخوخة (وقلت إنها رديئة) " (2) ؛ فإن استعمال " التعبير " عن هذا الموقف هو الذي يلفت النظر. وحين يصر كلا الشاعرين على عدم إفشاء السر للمرأة (3) ، أو يتحدثان   (1) هو أنتيفانس (Antiphanes) ونص قوله في الترجمة الإنكليزية: Life's just like wine، wfen little yet remains sour it becomes، أنظر: F.A. paley: Fragments of the Comic Poets، 2nd ed. 1892. 51. (2) المصدر نفسه: 51. (3) المصدر نفسه: 49. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 بنغمة واحدة عن (مآسي) الزواج (1) ، أو يذهبان إلى القول بأن الشعراء لم يغادروا متردما؟ كما يقول عنترة واكزنارخوس (2) ، أو يغبطان الحجر لأنه لا يحس أو الحيوان لأنه لا يعني نفسه بالإجابة عن هذه المسألة أو تلك (3) ، أو يشجبان التفاخر بالمحتد النبيل تغطيه لتخلف في العمل (4) - فعلى أي شيء نحمل كل هذا التشابه وأمثاله في أمور مختلفة؟ الواقع أن كل ذلك وغيره قد يحمل على التشابه في نتائج التجارب الإنسانية، ولكن التماثل يبلغ حدا من الدقة يتعذر عنده نفي كل صورة اللقاء بين الأدبين، وهنا قد يذهب بعض الناس إلى القول بالأخذ أو الاحتذاء نتيجة الإطلاع المباشر، وهذه قضية لا يسهل إثباتها، لأنها تحتاج إلى وثائق مؤيدة، ومثل هذه الوثائق المؤيدة لا وجود له في الغالب. وقد يذهب البعض الآخر إلى القول باللقاء بين حضارتين لقاء تجاوز التأثر السطحي، فمن المؤكد أن العرب بعد الفتح انتشروا في عالم تغلب عليه الحضارة الهلنستية، والثقافة الكلاسيكية، وأنهم ورثوا من هذه الحضارة لا كتبا ترجموها وحسب، بل مؤسسات وأصولا ثقافية ومناهج تعليمية، ولهذا كان ظهور المشابه أمرا يكاد يكون محتوما، والأمثلة على ذلك عديدة، في المجالات المختلفة، وإنما أكتفي منها هنا بأمثلة موجزة (5) : 1 - اعتقد العرب - مثلما اعتقد اليونانيون أن الشعر " ديوانهم "، ولهذا كان اليونانيون يرون أن أوميرس هو نموذج " التراث "، ولم يحد العرب عن هذا المعتقد، إلا حين رسخت لديهم العلوم وتدريسها، أما اليونان فإن المفهوم تغير لديهم قليلا بعيد عصر الفلسفة. على أن الفريقين اعتقدا أن الشعر أداة للتخليد، ومن أقدم الشواهد على ذلك   (1) المصدر السابق: 65. (2) المصدر السابق: 89. (3) المصدر السابق: 98. (4) المصدر السابق: 111. (5) هذه الأمثلة مستوحاة - إلا أشير إلى ذلك - من كتاب: E.R. Curtius: European Literature and the Middle Ages، Princeton، Princeton University Press، 1973. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 ما قاله عمر بن الخطاب لأولاد هرم بن سنان. وكلا الفريقين اعتقد أن الشعر للتسلية، وهي فكرة أبرزتها بقوة مدرسة الإسكندرية، ثم أضيف إلى التسلية عنصر الفائدة والتعليم: " يشجع الجبان ويسخي البخيل " - 2 - لم يضع العرب واليونان حدودا فارقة في الشكل بين الشعر والنثر بحيث فترقان في الجوهر والأصل، كلاهما ضرب من الكلام، يفرق بينهما الوزن، أو الوزن والقافية، ولهذا استطاع بعض النقاد الشعراء أمثال ابن طباطبا أن يرى في القصيدة رسالة، تنشأ على أصول الرسالة وترتب فيها الأفكار، ثم تنسق أبياتها بحسب تناسب تلك الأفكار. ولما كان المدح عند اليونان من موضوعات الخطابة، وكان عند العرب من موضوعات الشعر، اختلطت صورة الشعر بصورة الخطابة لدى العرب منذ عهد مبكر، وقد حدث هذا في الأدب اليوناني ولكنه تأخر في الزمن نسبيا. ومن المزج بين الصناعتين (لا الفنين) انبثق التفنن في حل النظم، ونظم النثر، وتولدت قضايا المفاضلة بين الشعر والنثر: أيهما أهم وأيهما أصهب وما أشبه ذلك. 3 - قضية الطبع والصنعة في الشعر مشتركة، ويبدو أن التطور في الأدب سار عند كلتا الأمتين في خطين متوازيين حتى انتهى إلى صور لا يفهمها إلا المثقفون وامتلا بصور البديع إلا أن التمدح في الشعر العربي بالتجويد والحوك والتنقيح ينتمي إلى عهد مبكر. 4 - الصراع بين القدامى والمحدثين، شغلت في الأدبين دورا هاما، وهي ظاهرة مستمرة في تاريخ الأدب، وفي الأدب العربي؟ كما في الأدب اليوناني - نجد الانتصاف للمحدثين هو الذي ينتصر، رغم المعارك الآنية بين الفريقين. 5 - خير جليس في الزمان كتاب: قضية خطيرة، فلقد كان للكتاب في العالم الهلنسي شأن عظيم، وكذلك ظلت له هذه المكانة عند العرب؟ على رغم الاعتماد على الرواية والغض من الصحفي الذي يعتمد في علمه على الدفاتر - ويكفي أن نقرأ مقدمة الجاحظ في الحيوان، حيث يتحدث عن الكتاب لندرك مبلغ ما كان له من أهمية. 6 - قضايا التناظر؟ الطبيعي والمجتلب - من تراث العالم الهلنسي: نبل المحتد أو شرف العلم، السيف أو القلم (الجمع بينهما أولاً كما في وصية أحدهم لأبنائه: لا تقفوا إلا عند بائع السلاح أو بائع الكتب) ، الورد أو البنفسج، النخل أو الزرع، الشجاعة أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 الحكمة، ويمكن الإشارة هذه الأخيرة بقول المتنبي: الرأي قبل شجاعة الشجعان ... هي أول وهي المحل الثاني فإذا هما اجتمعا لنفس حرة ... بلغت من العلياء كل مكان إن المتنبي " يلخص " - في شكل تقريري - معنى البطولة في الالياذة، مثلا، حيث لا بد في الأوضاع الايجابية من اقتران الحكمة والشجاعة، وتحدث الفاجعة في حال الابتعاد عن هذا المعيار المثالي. 7 - الحب كالبطولة من موضوعات الشعر، أعراض الحب: من سهر وبكاء وجنون وموت أصبحت محور الحديث منذ العذريين، في هذا المجال كان النموذج الكلاسيكي ينسخ حرفيا (1) كما أن التعبيرات والصور تشبه ما في الموروث الكلاسيكي، - لاحظ المجازات الحربية بشكل خاص - والمنظرين لقضية الحب عند الإغريق والعرب ساروا في خط واحد، متخذين أساس تنظيرهم الشعر نفسه (2) . 8 - كثير من طرق التعبير عن المواقف المختلفة في الحياة ينتهج نهجا واحدا، من ذلك التعزي بموت العظماء " حتى هرقل نفسه مات " أو: ماذا أومل بعد آل محرق ... تركوا منازلهم وبعد إياد وإبقراط الطبيب عجز عن أن يدفع الموت عن نفسه: يموت راعي الضأن في جهله ... ميتة جالينوس في طبه ثم التعبير عن استشعار العجز كأن يقال مثلا إن هرقل نفسه قد عجز، أو إن أوميرس لا يستطيع؟ الخ، أو ربما أدى هذا إلى تصوير التحدي والتجاوز: " فمن عبد الحميد؟ أو ابن العميد؟ "؟ ثم اللجوء إلى استنفار الطبيعة: " وأجهشت للتوباد لما   (1) Grunebaum: Greek Form Elements in the Arabian Nights LXII JAOS، (1942) ، P. 284. (2) المصدر نفسه: 285. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 رأيته؟ " " أيها الليل؟ "، " يا ساري البرق يرمي عن جوانحنا " " ويا نسيم الصبا بلغ تحيتنا؟ ". 9 - تشكي الزمن في الأدبين، وهنا لا بد من التنويه بقيمة كلمة " الدهر " أو الأيام " في الأدب العربي، فإن ما يرد في الأدب اليوناني خاصا بالتحدث عن انفعال " الطبيعة " قد يرد إلى الدهر، أو القدر أو الحظ. 10 - الفتى الشيخ، أو اجتماع القوة والحكمة، أو الشباب والحلم، يلعب دورا هاما في الأدبين، ولنذكر قول المتنبي: ليت الحوادث باعتني الذي أخذت ... مني بحلمي الذي أعطت وتجريبي فما الحداثة من حلم بمانعه ... قد يوجد الحلم في الشبان والشيب وهو موضوع هام في الرثاء - وخاصة في رثاء من مات صغير السن، وأبو تمام يقول: لهفي على تلك المخايل منهما ... لو أمهلت حتى تكون شمائلا والمتنبي يعود للتلاعب بهذه العلاقة على نحو آخر في قوله: سأطلب حقي بالقنا ومشايخ ... كأنهم من طول ما التثموا مرد 11 - المجازات: هنالك ميادين للافتراق، فالمجازات البحرية والمسرحية قليلة في الأدب العربي وافرة في الأدب الكلاسيكي، ولكن مجازات " القرابة " (ابن، بنت، أم؟) وافرة في الأدبين، فبنات الدهر المكاره، وبنات الصدر الفكر، وبنات الصدر الفكر، وبنات الليل النجوم، وبنات طبق الدواهي، وبنات أوبر الكمأة، وأبو مرة أبليس، وأبو مرة عمرة الجوع، وابنه العنب عند بندار كما هي عند أبي نواس ويستمر هذا المجاز حيا حتى شوقي " يا ابنة اليم ما أبوك بخيل " (السفينة) والأمثلة كثيرة تتطلب تنسيقا ودراسة، لتطورها وتصورها (1) ، ومجازات الطعام والشراب، ومجازات الحواس (كالعين والأذن)   (1) بعض هذه الأمثلة مأخوذ عن البصائر 1: 66 - 67 ومن المفيد أن يرجع القارئ إلى كتاب " المرصع " لابن الأثير، فأنه - حتى عصر مؤلفه - أوفى مصدر لهذا النوع من المجازات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 موفورة في الأدبين، كمايشتركان في المجازات المستمدة من النحو والبلاغة، وينفرد الأدب العربي بالمجازات المتصلة بالفقه والحديث. 12 - الإيجاز؟ من الوجهة المثالية - هو معيار الإجادة في الأدبين، ولكن تحديده على نحو دقيق ربما لم يكن ممكنا، وحسبنا أن نتذكر أن عبد الحميد الكاتب كان يرى الإيجاز أساسا في البلاغة والترسل، وهو المعروف بالأصلة وتشقيق الكلام. 13 - اللقاء على مستوى الأساطير: هذه مسألة عرض الأستاذ غرنباوم لجانب منها حين درس مواطن التشابه بين الحكاية اليونانية (Greek novel) وقصص ألف ليلة وليلة. وقد أصبح رأيه معتمدا عند بعض الدارسين (1) ، حسبما عرضه في موضوعين: في مقالة له سبقت الإشارة إليها (2) ، وفي كتابه " الإسلام في العصور الوسطى " (3) ، وفيما يلي عرض موجز لأهم ما جاء في هذين المصدرين: (1) بين قصص ألف ليلة والحكايات اليونانية مشابه، إذ تعتمد كلتاهما على تجواب محبين يطاردهما القدر، ويحكم على المحبين بالأنفصال حتى يتاح للقصة أن تتحدث فيما بعد عن التئام شملهما أكثر من حديثها عن تطور عواطفهما. ويلعب القدر هنا الدور الأكبر في الحالين، إذ يجعل من المرء ألعوبة مسخرة لتقبل النتائج. وفي التفصيلات خروج عن مقتضى " الحكاية " اليونانية، ونزوع إلى المفهوم الإسلامي حول تقلب الحظوظ وعدم ثبات الدنيا على حال، واستشعار الخضوع للقدر بدلا من الثورة عليه. (2) التجواب مشترك حقا بين القصة العربية والحكاية اليونانية ولكن كلتا القصتين تهتم بالأحداث لا بالأبطال، وإذا حاولت الحكاية اليونانية ولكن إبراز دور المرأة، فإن القصة العربية تحاول إبراز دور الرجل (البطل) .   (1) انظر مثلا: The Classical Heritagc، P. 255. (2) هي: Greek Form Elements in the Arabian Nights، JAOS، 1942، PP. 277 - 92. (3) Medival Islam، the Univ. of Chicago Prss، 1971 (Chap IX) PP. 294 - 319. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 (3) الحب من أول نظرة مشترك بين القصص اليونانية والعربية، وهو في كلتيهما مرض. ثم إن التعرض للبكاء والإغماء واليأس والجنون أمر متوقع، كذلك فإن الإعلاء من شأن العفة هام فيهما (وأن لم يحل دون التردي في إسار الشهوة) . (4) كل أبطال الحكايات اليونانية والقصص العربية في ألف ليلة يتمتعون بقسط وافر من الجمال، فالجمال هو سر وجودهم، ومن ثم تجيء سلسلة من أوصاف الرجال والنساء. وتهتم ألف ليلة على وجه الخصوص بتصوير الأشخاص أكثر من تصوير المناظر الطبيعية، ومع ذلك فإن منظر الحديقة هام في الفئتين من الحكايات. (5) قد تكون مواقف المناظرة (مثل المفاضلة بين الجنسين، وأيهما أحق بالحب) إغريقية الأصل. (6) عودة القاص في ألف ليلة إلى التحدث عن حياة البطل من مبتداها يرجى إاى نموذج يوناني. (7) في ألف ليلة كما في الحكاية اليونانية صديق للبطل لا يفارقه، وله شأن هام في تطوير القصة. (8) النهاية في كلتيها تتفق ورغمبات المحبين وآمالهما. (9) للرسائل قيمة هامه، وكذلك الأحلام. (10) رد الفعل عند الجهود إزاء كلتيهما هو " العجب ". (11) تتفقان في اتخاذ الكلمة السحرية وسيلة لفتح الأبواب وغير ذلك. وتوضيحا لبعض هذا الاتجاه، دعنا نعرض أمثلة من المشابه القصصية نفسها: (1) العسكري المهذار في قصة (Miles Gloriosus) من تأليف بلوتس (Plautus) اختطف حبيبة شاب أثيني اسمه بلوسكليس. وعندما اكتشف الشاب هذا الأمر، اتخذ له مسكنا بجوار دار العسكري وتمكن من خلال سرب يصل بين البيتين أن يلتقي بحبيبته، ولما شاهد خادم العسكري الفتاة في البيت المجاور وهي في أحضان صاحبها قيل له - على سبيل التمويه - إن لها أختا توأما كانت قد وصلت حينئذ. ثم إن العسكري يحاول إغراء امرأة أخرى، فيقتنع بأن يسرح صاحبة الشاب الأثيني، ويعطيها عبدها الأمين الذي شاركها في حوك خيوط الحيلة، كي تترك هـ وشأنه، فتنطلق مع صاحبها على مرأى من العسكري نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 إن عناصر الشبه بين هذه الحكاية وقصة " قمر الزمان وزوجة الجواهري " في ألف ليلة وليلة كثيرة لافتة للنظر، لا في الحبكة القصصية وحسب، بل في عدة مواقف أخرى منها منظر الوداع، ونهب أموال الجوهري، والمساعدة التي قام بها الوسيط، وتقديم العبد هدية في الحالين.. (2) قصة السندباد في رحلاته السبع: (وان لم تكن في الأصل من ألف ليلة وليلة) يكاد كل عنصر أسطوري فيها أن يجد ما يوازيه في أدب الشرق والمغرب، وفيها عناصر تشبه بعض ما في حكايات الاسكندر، وعناصر تشبه بعض المواقف في قصة عولس (Ulysses) وغيرهما (1) . (3) ثمة ما لا يقل عن ثماني قصص (أو مقاطع كبيرة من قصص) في ألف ليلة وليلة يتردد فيها نموذج الحكاية اليونانية (2) . هذا هو؟ بإيجاز شديد - ما يراه غرونباوم، وقد أقر أنه ليست لدينا أية شهادة وثائقية تثبت اخذ مادة ألف ليلة أو بعض تلك المادة أخذا مباشرا عن التراث اليوناني (3) ، ولهذا لجأ قرائن ومقايسات، عن الأخذ في مجالات أخرى مثل بعض صور البيان، والمفاضلة بين الطبع والتكلف، والاشتراك في رثاء الحيوان؟ الخ: وفي ظني أن ذلك كله لا يقدم مقنعا. فكل ما ساقه من أمثلة واقع؟ إن صح الأخذ فيه؟ ضمن عصر الترجمة، وليس الأمر في ألف ليلة وليلة كذلك، فنحن حتى اليوم لا نستطيع أن نجيب على أسئلة كثيرة تتعلق بهذه القصص: متى كتبت؟ وفي أي قطر؟ وكل الدلائل تشير إلى أن ما بين أيدينا يمثل تدوينا متأخرا في الزمن، فإذا وجدت في النص المدون آثار هندية أو فارسية، فذلك يشير إلى الأصل لتلك القصص، فأذن متى وكيف تسربت إليها المؤثرات اليونانية؟ إذا سلمنا بإمكان تسرب تلك المؤثرات فلا بد من ان نفترض أن كثيرا من أصول تلك القصص كان أدبا شفويا يتردد في أرجاء   (1) Medieval Islam، pp. 296 - 97. (2) المصدر السابق: 307 وانظر المقالة: 282 وما بعدها. (3) انظر مقالة غرونباوم: 290. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 حوض البحر المتوسط، على نحو أو آخر، دون أن يتوقف على مر الزمن. ومن يقف على صور التشابه التي عرضها الأستاذ غرونبارم أمكنه أن يرى في أكثرها صورا لتجارب متشابهة، في مجتمعين مختلفين، وبعضها يدل على أنه نتيجة طبيعية لإنفاذ العجز الإنساني، وجمال البطل حتمية ضرورية ليكون محبوبا، وهكذا؟ على أن صور التشابه؟ أيا كان سببها - تستحق دراسة مقارنة، وذلك هو ما حققه دراسة غرونباوم، على نحو دقيق ممتع مفيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 فراغ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 ملحقات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 فراغ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 الملحق " 1 " خرافات على ألسنة الحيوانات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 فراغ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 - 1 - الشيخ والعصافير وفي المثل أن شيخا نصب للعصافير فخا فارتبن به وبالفخ، وضربه البرد، فكلما مشى إلى فخ وقد انضم إلى عصفور فقبض عليه ودق جناحه وألقاه في وعائه دمعت عيناه مما كان يصك وجهه من برد الشمال، وقال: فتوامرت العصافير بأمره وقلن: لا بأس عليكن فإنه شيخ صالح رحيم رقيق الدمعة، قال، فقال عصفور منها: لا تنظروا إلى دموع عينيه ولكن انظروا إلى عمل يديه. (الحيوان 5: 238 - 239) - 2 - الغراب وابنه أراد ابن الغراب أن يطير، وأبوه قد رأى رجلا فوق السهم ليرميه به، فقال له: يا بني، اتئد حتى تعلم ما يريد الرجل، فقال الابن: الحذر قبل إرسال السهم. (المستقصى 1: 310) - 3 - الفيل والحمار زعموا أن الفيل والحمار تجمعا في مرعى، فطرد الفيل الحمار، فقال له: لماذا تطردني مع اشتباك الرحم بيني وبينك؟ فقال: من أين هذه الرحم؟ قال: من أجل أن في غرمولي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 شبها من خرطومك، فقبل الفيل منه هذه القرابة. (الدرة الفاخرة: 553 ومحاضرات الراغب 2: 416) - 4 - الأسد والثعلب والذئب زعموا أن أسدا وثعلبا وذئبا اصطحبوا فخرجوا يتصيدون، فصادوا حمارا وظبيا وأرنبا، فقال الأسد للذئب: اقسم بيننا صيدنا، فقال: الأمر أبين من ذلك، الحمار لك والأرنب لأبي معاوية؟ يعني الثعلب - والظبي لي، فخبطه الأسد فأطاح رأسه، ثم أقبل على الثعلب وقال: قاتله الله ما أجهله بالقسمة، هات أنت أبا معاوية، فقال الثعلب: يا أبا الحارث، الأمر أوضح من ذلك، الحمار لغدائك والظبي لعشائك، والأرنب في ما بين ذلك. فقال له الأسد (1) : قاتلك الله ما أقضاك! من علمك هذه الأقضية؟ قال: رأس الذئب الظائح عن جثته. (الدميري 1: 161 والأذكاء: 254 عن أنيس الجليس) - 5 - الأسد المريض اشتكى الأسد علة شديدة فعاده جميع السباع إلا الثعلب، فدخل عليه الذئب فقال: أصلح الله الملك، إن السباع كلها قد وارتك وعادتك، ما خلا الثعلب، فإنه مستخف بك، وبلغ ذلك الثعلب فأغتنم به، فلما جاءه قال له الأسد: مالي م أرك يا أبا الحصين؟ فقال: أصلح الله الأمير، بلغني وجعك فلم أزل أطوف في البلدان أطلب دواء لك حتى وجدته، فقال له: أي شيء هو؟ قال: مرارة الذئب، قال الأسد: وكيف لي بذلك؟   (1) في رواية عن الشعبي: فقال له الأسد قاتلك الله ما أبصرك بالقضاء والقسمة، من أين تعلمت هذا؟ قال: مما رأيت من أمر الذئب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 قال: أرسلني الساعة إلى الذئب حتى يجيء، فإذا حضر فشد عليه واقتله وخذ مرارته وكلها، فأرسل إليه والثعلب عنده، فأتى الذئب، فوثب الأسد عليه، وكان ضعيفا من وجعه، فلم يتمكن منه وسلخ جلد أسته، وأفلت الذئب، وخرج الثعلب يصيح به: يا صاحب السروال الأحمر، إذا جلست عند الملوك فأعقل كيف تتكلم. فعلم الذئب أن الثعلب قد دل عليه. (البصائر 2: 727) والأذكياء: 253 ومحاضرات الراغب 2: 316 - 6 - الثعلب والكركي ابتلع ثعلب عظما فبقي في حلقه، فطلب من يعالجه ويخرجه، فجاء إلى كركي فجعل له أجرا على أن يخرج العظم من حلقه، فأدخل رأسه في فم الثعلب وأخرج العظم بمنقاره، ثم قال للثعلب: هات الأجرة، فقال الثعلب: أنت أدخلت رأسك في فمي وأخرجته صحيحا، لا ترضى حتى تطلب أجرا زيادة؟! (البصائر 2: 704 والكلم الروحانية: 131 ومحاضرات الراغب2: 416) - 7أ - الغزال والكلب عدا كلب خلف غزال، فقال له الغزال: إنك لا تلحقني، قال لم؟ قال: لأني أعدو لنفسي، وأنت تعدو لصاحبك. (البصائر 2: 305 وربيع الأبرار، الورقة: 259ب) - 7ب - الثعلب والكلب قيل للثعلب: مالك تعدو أكثر من الكلب؟ فقال: لأني أعدو لنفسي، والكلب يعدو لصاحبه. (أخبار الأذكياء: 255 والدميري 1: 160) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 - 8 - في الاتحاد قوة ؟ وضرب لهم زعيمهم زاوي بن زيري بن مناد الصنهاجي مثلا بأرماح خمسة مشدودة، ودفعها لأشد من حضره منهم وقال له: أجهد نفسك في كسرها كما هي وأغمزها، فعالج ذلك فلم يقدر عليه، فقال له: حلها وعالجها رمحا رمحا، فلم يبعد عليه دقها، فأقبل على الجماعة فقال: هذا مثلكم يا براربة، إن جمعتم لن تطاقوا، وأن تفرقتم لن تبقوا؟ (الإحاطة 1: 515) - 9 - الجدي والذئب وقف جدي على سطح فمر به ذئب، فأقبل الجدي يشتمه، فقال له الذئب: لست أنت تشتمني، إنما يشتمني الموضع الذي أنت فيه. (الكلم الروحانية: 131 - 132 ومحاضرات الراغب 2: 417) - 10 - الراغب والثعلب كانت أفعى نائمة فوق جرزة شوك، فحملها السيل والأفعى عليها، فنظر إليها ثعلب فقال: هذه السفينة لا يصلح أن يكون لها إلا مثل هذا الملاح. (الكلم الروحانية: 132 ومحاضرات الراغب 2: 417) - 11 - الثعلب والعوسجة أراد ثعلب أن يصعد على حائط، فتعلق بعوسجة فعقرت يده، فأقبل يلومها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 فقالت له: يا هذا لقد أخطأت حين تعلقت بي، وأنا من عادتي أن أتعلق بكل شيء الكلم الروحانية: 132 ومحاضرات الراغب 2: 417) - 12 - مرة طائر ومرة بعير زعموا أن النعامة قيل لها: احملي، فقالت: أنا طائر، فقيل لها طيري، فقالت: أنا بعير (1) . (الدرة الفاخرة: 553) - 13 - لماذا لا يجتر الحمار قيل للحمار: لم لا يجتر؟ فقال: أكره مضغ الباطل. (الدرة الفاخرة: 273 ومحاضرات الراغب 2: 416) - 14 - الأعرابي والضبع زعموا أن ضبعا أكلت لأعرابي جديا، فقال لها: يا خبيثة، أكلته، فقالت: لم أفعل، فقال: ما هذا الصفرة بأنيابك والحمرة بكفيك؟ فقالت الضبع: ما هي إلا حبرة ثيابي وحمرة بالكف من خضابي. (الدرة الفاخرة: 554)   (1) ورد هذا منظوما في شعر يحيى بن نوفل (عيون الأخبار 2: 86) ومثل نعامة تدعى بعيرا ... تعاصينا إذا ما قيل طيري فإن قيل احملي قالت فأني ... من الطير المرية في الوكور وأنظر التمثيل والمحاضرة: 362. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 - 15 - اختر وما فيهما حظ لمختار زعمت الأعراب أن الضبع صادت مرة ثعلبا، فلما أرادت أن تأكله قال الثعلب: مني علي أم عامر، فقالت الضبع: قد خيرتك يا أبا الحصين خصلتين، فأختر أيهما شئت، فقال الثعلب: وما هما؟ فقالت الضبع: إما أن آكلك، وإما أن أقتلك. فقال الثعلب: أما تذكرين أم عامر حين نكحتك بهوب دابر، فقالت الضبع: متى؟ وانفتح فوها، فأفلت الثعلب. (الدرة الفاخرة: 368 ومحاضرات الراغب 2: 416) - 16 - ذكاء قنبرة أولم طير فأرسل رسله ليدعو إخوانه، فغلط بعض الرسل فجاء إلى الثعلب فقال: أخوك يقرأ عليك السلام ويسألك أن تتجشم العناء إليه في يوم كذا، وتجعل غداءك عنده، فقال الثعلب: قل له السمع والطاعة. فلما رجع واخبر الطير بغلطه اضطربت الطيور من ذلك وقالوا له: يا مشؤوم أهلكتنا وعرضتنا للحتف ونغصت أمرنا علينا. فقالت القنبرة: إن أنا صرفت الثعلب بحيلة لطيفة، ما لي عندكم؟ قالوا: تكوني سيدتنا وعن رأيك نصدر وعلى أمرك نعتمد، فقالت: مكانكم، ومشت إلى الثعلب فقالت له: أخوك يقرأ عليك السلام ويقول: تحضر غدا يوم الأثنين، وقد قرب الأنس بحضورك، فأين تحب أن يكون مجلسك؟ مع الكلاب السلوقية أم مع الكلاب الكردية؟ فتجرعها الثعلب. ثم قال: أبلغني أخي السلام وقولي له: والله أنا مسرورة بقربك، شاكر الله سبحانه على ما منحني من مكانك، ولكن تقدم لي نذر منذ دهر بصوم الاثنين والخميس، فلا تنتظروني. (البصائر 1: 282 - 283 والأذكياء: 257) - 17 - الثعلب لا يذهب رسولا إلى الكلب قيل لثعلب: أتحمل كتابا إلى الكلب وتأخذ مائة؟ قال: أما الكراء فواف، ولكن الخطر عظيم. (البصائر 2: 705 ومحاضرات الراغب2: 416) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 - 18 - ثعلبان في شرك وقع في شرك صياد ثعلبان، فقال أحدهما: يا أخي أين نلتقي؟ فقال: في دكان الوبار بعد ثلاث. (البصائر 2: 705 ومحاضرات الراغب2: 407) - 19 - قل إلى عمان رأى كلب رغيفا يتدحرج فتبعه فقال له: إلى أين؟ قال إلى النهروان، قال الكلب: قل إلى عمان إن تركتك. (البصائر2: 719) - 20 - كلب يفزغ السبع قيل للكلب: لماذا عندما ترى السبع تنبح؟ قال: أفزعه، قيل: ولم تضرط؟ قال: من فزعه. (البصائر2: 720) - 21 - ثعلبان: عراقي وشامي لقي ثعلب عراقي ثعلبا شاميا فقال: عرفني ما عندك من حيل ثعالب الشام، فقال: عندي مائة حيلة، فقال العراقي: والله لأصحبنه حتى استفيد منه، فلزمه، فبينما هما كذلك، وقد اصطحبا في سفر حتى قال له العراقي: يا أخي، إن لقينا الأسد كيف الحيلة في لتخلص منه؟ قال: لا يهمك أمره فإن عندي حيلا. فما انقضى كلامه حتى طلع الأسد، فقال العراقي للشامي: خذ في حيلة، قال: والله ما عندي حيلة في هذا الوقت، قال: إنا لله، ولم أخطرت نفسك وغررت أخاك، الآن لا تنطق حرف. فلما دنا الأسد قال لهما: من أين أقبلتما؟ قال العراقي: إياك أردنا وإليك قصدنا، قال: فبماذا؟ قال: إن أخي هذا يكون بالشام وأنا بالعراق، وإن أبانا مات وورثنا شويهات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 فجاء أخي هذا يريد أن يذهب بها، فقلت: هلم إلى سيد السباع ليحكم بيننا، فمهما قال التزمناه، (وكان الأسد جائعا، فقال في نفسه: لا أعجل في أكل هذين، لكن أصبر ساعة حتى أقف على أمر الغنم، وهما في قبضتي) . قال: أين الشاء؟ قالا: في هذا البستان، وأشارا إلى بستان حصين له مجرى ماء ضيق، وقال أحدهما: أنا أرسل أخي حتى يخرج الغنم فيقسمها الملك، فقال: نعم، فقال الشامي: ادخل وأخرج الغنم وعجل، فدخل الشامي وأقبل يأكل من الثمار، فلما أبطأ قال العراقي: قد قلت للملك إنه ظالم، فإذن لي حتى أدخل خلفه وأخرجه إليك مع الشاء قميئا ذليلا، قال: أدخل وعجل. فدخل الثعلب البستان وأقبل يأكل من الثمار حتى شبع، ثم أشرف من الحائط على الأسد فقال له: يا أبا الحارث، أعلم أنا قد اصطلحنا فأمض في دعة الله، فجعل الأسد يضرب بذنبه الأرض ويستشيط، فقال له الثعلب: إنما أنت قاض، وما رأيت قاضيا يغضب من الصلح غيرك. (البصائر 2: 727 - 729 ومحاضرات الراغب 2: 416) - 22 - الكلب والعظام قيل للكلب أنت تأكل عظاما وتخرا عظاما، فأيش ربحك؟ فقال: أدولب. (البصائر 2: 739) - 23 - في البئر مع دب وأسد هرب رجل من أسد فوقع في بئر، فوقع الأسد خلفه، فإذا في البئر دب، فقال له الأسد: مذ كم لك ها هنا؟ قال: منذ أيام، وقد قتلني الجوع، فقال الأسد: أنا وأنت نأكل هذا الإنسان وقد شبعنا. فقال له الدب: فإذا عاودنا الجوع ما نصنع؟ وإنما الرأي أن نحلف له أنا لا نؤذيه ليحتال في خلاصنا وخلاصة، فإنه على حيلة أقدر منا، فحلفنا له، فتشبث حتى وجد نقبا فوصل إليه إلى الفضاء، وتخلص وخلصهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 معنى هذا أن العاقل لا يترك الحزم في كل أموره، ولا يتبع شهوته، لا سيما إذا علم أن فيها هلاكه، بل ينظر في عاقبة أمره، ويأخذ بالحزم في ذلك. (الأذكياء: 256، والدميري 1: 296) - 24 - الدب والعنب قيل لدب: لم تفقر رجلا في ليلة من كثرة ما تأكل [من] عنبه، فقال: لا تلمني فإن بين يدي أربعة أشهر أنجحر فيها، فلا أتلمظ إلا بالهواء. (الإمتاع 3: 73) - 25 - كركي يتصقر كركي كان يجيء كل يوم إلى شاطئ نهر فيلتقط من الحمأة دودا ويقتصر في القوت عليه، فرأى يوما بازيا قد ارتفع في الجو فاصطاد حماما، فأكل منها بعضا وترك في موضعه البعض وطار. فتفكر الكركي في نفسه وقال: مالي لا اصطاد الطيور كما يصطاد، وأنا أكبر جسما منه، فارتفع في الجو، وانقض على حمام فأخطأه، فسقط في الحمأة فتلطخ ريشه ولم يمكنه أن يطير، فأخذه قصار كان يعمل على شاطئ النهر وحمله إلى منزله، فاستقبله رجل فقال: ما هذا؟ قال: كركي يتصقر. (محاضرات الراغب 1: 194) - 26 - كلب رازي في اصبهان لقي كلب أصبهاني كلبا رازيا بالري، فقال له: ما أطيب أصبهان! إني أرى الخبازين يرمون بالرغفان على قارعة الطريق، فقال الكلب الرازي: لا أعمل خيرا من الخروج إلى إصبهان، فلما خرج أول ما لقي دكان خباز من الطريق الذي يشرع إلى دولكاباذ، فجاز بها، وأخذ الخباز يطرح الخبز على لوحة، والكلب يأخذ يأكل، فنظره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 الخباز فأحمى السفود ومده إلى خرطومه، وتناول سبخة يرميه بها فقال الكلب: على هذا السعر؟! (محاضرات الراغب2: 416) - 27 - تضرب رأسي بشيء وقف كلب على قصاب فأخذ يكثر النبح، فقال له: إن ذهبت وإلا ضربت رأسك بهذه القطعة اللحم، وتشاغل عنه، فوقف الكلب ينتظر ثم قال، تضرب رأسي بشيء وإلا أمر؟ (محاضرات الراغب 2: 417) - 28 - الحمار الطروب أن جملا وحمارا توحشا فوجدا مرعى خاليا يرتعان فيه، فقال الحمار يوما وقد بطر: إني أريد أن أغني، فقال الجمل: أتق الله فينا، فإني أخشى أن ينذر بنا فتؤخذ، قال: لا بد، ثم نهق فسمعته قافلة مارة فأخذوهما، فأبى الحمار أن يمشي، فحمل على الجمل، فمروا في عقبة، فقال الجمل: إني طربت لغناك المتقدم وأريد أن أرقص رقصة، فقال الحمار: اتق الله، إني أسقط، فلا تفعل، فرقص الجمل فأسقط لحمار فوقصه. (محاضرات الراغب 2: 417) - 29 - طاب حمامك دخلت فأرة الحمام، فلما خرجت رأت سنورا، فقال لها: طاب حمامك، فقالت: لو لم أرك يا ابن البظراء. (محاضرات الراغب 2: 417) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 - 30 - ما هذا لقوتك ولكن؟. في أمثال الهند أن ثعلبا قبض على أرنب: والله ما هذا لقوتك ولكن لضعفي، [وإن لم تصدق قولي] . (محاضرات الراغب2: 417، وابن العبري: 51) - 31 - الصقر والعصفور زعموا بأن الصقر صادف مرة ... عصفور بر ساقه المقدور فتكلم العصفور تحت جناحه ... والصقر منقض عليه يطير ما كنت خاميزا لمثلك لقمة ... ولئن شويت فإنني لحقير فتهاون الصقر المدل بنفسه ... كرما، وأفات ذلك العصفور (التمثيل والمحاضرة: 367) - 32 - النسر والبعير مر نسر ببعير مرة ... وهو منقاد لغر في زمام قال تبا لك من ذي أربع ... بازل يبرك صغرا لغلام قال لا ألحاك في ما قلته ... إنني عاملتهم موتي زمام (التمثيل والمحاضرة: 368) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 - 33 - الذئب والثعلب والأرنب قيل إن ذئبا وثعلبا وأرنبا وجدوا خروفا فقال بعضهم لبعض: إن الشيخ فينا يأكله، فقال الأرنب: أنا ولدت قبل آدم، فقال الثعلب: حقا ولكن أنا كنت هناك حين ولدت، فنهض الذئب وخطف الخروف وقال: إن قياسي ومقامي يشهدان على أني أقدم منكما، وأكله. (ابن العبري: 51) - 34 - وصايا الثعلب قال الثعلب: لو كان عنب الثعلب حلوا لما تركه لناس بغير ناطور في البرية. وقال يعلم أولاده: إذا رأيتم الكرم حاملا والناطور نائما والنهر دافئا فابشروا بالغنيمة والشبع. (ابن العبري: 51) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 الملحق " 2 " مراثي الحكماء في الإسكندر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 فراغ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 مصادر أقوال الحكماء تاريخ سعيد بن البطريق: 83 - 84 (وعددها 32) وتاريخ اليعقوبي: 144 - 145 (9) ومروج الذهب2: 10 - 12 (30) وغرر السير: 450 - 454 (31) والتمثيل والمحاضرة: 176 (13) ومختار الحكم: 240 - 241 (14) وزهر الآداب: 673 - 674 (12) والملل والنحل 2: 199 - 200 (18) ومخطوطتا آيا صوفيا 4260 الورقة 121 والفاتح 5323 الورقة 108 (14) ومنتخب صوان الحكمة مخطوطة داماد رقم 1408 الورقة: 56 (5) ومختصر صوان الحكمة مخطوطة الفاتح رقم 3222 الورقة 29 (23) ومخطوطة كوبريللي رقم 1608 الورقة 3 (53) . وقد اتخذ مروج الذهب أصلا (قسم1) ثم زيد ما انفرد به كل مصدر آخر، حسب الترتيب الآتي: 2 - تاريخ ابن البطريق 3 - تاريخ اليعقوبي 4 - غرر السير والتمثيل والمحاضرة 5 - مختار الحكم 6 - الملل والنحل 7 - زهر الآداب 8 - مخطوطتا آيا صوفيا والفاتح 9 - مختصر صوان الحكمة (ولم ينفرد المنتخب بشيء 10 - مخطوطة كوبريللي أما الأرقام في الحواشي فتشير إلى ترتيب كل قول في كل مصدر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 فراغ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 - 1 - فلما مات الإسكندر طافت به الحكماء ممن كان معه من حكماء اليونانيين والفرس والهند وغيرهم من علماء الأمم، وكان يجمعهم ويستريح إلى كلامهم ولا يصدر الأمور إلا عن رأيهم، وجعل بعد أن مات في تابوت من الذهب، ورصع بالجوهر، بعد أن طلي جسمه بالأطلية الماسكة لأجزائه فقال عظيم الحكماء والمقدم فيهم: ليتكلم كل واحد منكم بكلام يكون للخاصة معزيا وللعامة واعظا، وقام فوضع يده على التابوت: 1 - فقال: أصبح آسر الأسراء أسيرا [وقاتل الملوك قتيلا] (1) 2 - ثم قام حكيم ثان فقال: هذا الإسكندر الذي كان يخبئ الذهب فصار الذهب يخبئه (2) . 3 - وقال الحكيم الثالث: ما أزهد الناس في هذا التابوت (3) . 4 - وقال الحكيم الرابع: من أعجب العجب أن القوي قد غلب والضعفاء لاهون مغترون (4) .   (1) الثعالبي: 1 (الأرسطالطاليس) والتمثيل: 1 والمبشر: 7 والزيادة من الثعالبي، والرواية مختلفة قليلاً عند المبشر. (2) الثعالبي: 4 (ذيوجانس) والمبشر: 3 وابن البطريق: 7 والحصري: 7 والحصري: 5 وآيا صوفيا: 10 مع اختلاف في الألفاظ واتفاق في المعنى، وانظر محاضرات الراغب 2: 286 حيث ورد منسوباً لأم الاسكندر. (3) الثعالبي: 5 (ذروثيوس) وابن البطريق: 15 وآيا صوفيا: 11 وكوبريللي: 17 " ما أزهد الناس فيك أيها الملك وأرغبهم في تابوتك ". (4) مختصر الصوان: 16 " يا للعجب أن القوي مغلوب والضعفاء لا يموتون مطمنين " وكوبريللي: 32 " والضعفاء لاهون غادون ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 5 - وقال الخامس: يا ذا الذي جعل أجله ضمانا وجعل أمله عيانا هلا باعدت من أجلك لتبلغ بعض أملك، هلا حققت من أملك بالإمتناع عن فوت أجلك. 6 - وقال السادس: أيها الساعي المغتصب جمعت ما خذلك عن الإحتياج فغودرت عليك أوزاره، وفارقتك أيامه، فمغناه لغيرك ووباله عليك (1) . 7 - وقال السابع: قد كنت لنا واعظا فما وعظتنا موعظة أبلغ من وفاتك فمن كان له عقل فليعقل ومن كان معتبرا فليعتبر (2) . 8 - وقال الثامن: رب هائب لك كان يغتابك من ورائك وهو اليوم بحضرتك لا يخافك. 9 - وقال التاسع: رب حريص على سكوتك إذ لا تسكت، وهو اليوم حريص على كلامك إذ لا تتكلم. 10 - وقال العاشر: كم أملتت هذه النفس لئلا تموت، وقد ماتت (3) . 11 - وقال الحادي عشر (وكان صاحب خزانة كتب الحكمة) : قد كنت تأمرني أن لا أبعد عنك فاليوم لا أقدر على الدنو منك.   (1) ابن البطريق: 2 (افلاطون) ما خذلك وولى فالزمتك أوزاره وعاد على غيرك هناؤه، والشهرستاني: 4 (افلاطون الثاني) ما خذلك وتوليت ما تولى عنك فلزمتك أوزارخ وعاد على غيرك مهنأه وثماره، وآيا صوفيا: 80 (ميلاطوس) : وفي الأولى: جمعت ما خانك عند الاحتجاج وودعك عند الاحتياج فلا قرابة يزورك ولا وزير ينتقدك، وفي الثانية مقارب لابن البطريق، وفي مختصر الصوان: 1 (افلاطون) وكبريللي: 2 (افلاطون) . (2) ابن البطريق: 9 لا تعجبوا ممن لم يعطنا في حياته ثم قد صار بموته واعظاً، وانظر رقم: 8 في ما يلي، ومختصر الصوان: 5 وسقط من كليهما ما بعد لفظة " وفاتك "، ومحاضرات الراغب 2: 286 لارسطاطاليس وكذلك عيار الشعر: 80. (3) ابن البطريق: 11 (سين الحكيم) أمات هذا الشخص خلقاً كثيراً لئلا يموت فمات فكيف لا يدفع الموت عن نفسه بالموت، ومختصر الصوان: 3 (ماسوس) مقارب لابن البطريق وكذلك الشهرستاني: 8 وكوبريللي: 7 والحصري: 9، وفي لباب الآداب: 432 لفوثاغورس، والتمثيل: 6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 12 - وقال الثاني عشر: هذا اليوم عظيم العبر أقبل من شره ما كان مدبرا وأدبر من خيره ما كان مقبلا، فمن كان باكيا على من زال ملكه فليبك (1) . 13 - وقال الثالث عشر: يا عظيم السلطان اضمحل سلطانك، كما اضمحل ظل السحاب، وعفت آثار مملكتك كما عفت آثار الرباب (2) . 14 - وقال الرابع عشر. يا من ضاقت عليه الأرض طولا وعرضا، ليت شعري كيف حالك في ما احتوى عليك منها (3) . 15 - وقال الخامس عشر: لعجب لمن كانت هذه سبيله كيف شرهت نفسه يجمع الحطام البائد والهشيم الهامد. 16 - وقال السادس عشر: أيها الجمع الحافل الملتقى الفاضل، لا ترغبوا في ما لا يدوم سروره وتنقطع لذته، فقد بان لكم الصلاح والرشاد من الغي والفساد. 17 - وقال السابع عشر: انظروا إلى حلم النائم كيف انقضى و [إلى] ظل الغمام كيف انجلى (4) . 18 - وقال الثامن عشر (وكان من حكماء الهند) : يا من كان غضبه الموت هلا غضبت على الموت (5) .   (1) هو أول الأقوال عند اليعقوبي وابن الطريق والمبشر والشهرستاني والمنتخب وكوبريللي، والخامس في آيا صوفيا، والروايات متقاربة. وينسب لفيلمون في آيا صوفيا وعند ابن البطريق ولبليموس عند الشهرستاني والمنتخب (ولعله مصحف عن فليمون) . (2) المنتخب: 3 (زينون) ما كنت إلا ظل سحاب اضمحل لما أظل فما نحس لملكك أثراً ولا نعرف لك خبراً، وكذلك الشهرستاني: 3 وفي آيا صوفيا: 7 مقارب للمسعودي. (3) المنتخب: 5 (دولس) : عليه البلاد، وكذلك في المختصر:2، وهو في كوبريللي: 4 وآيا صوفيا: 9 ويمثل رقم: 12 قولاً مقارباً " عهدي ورحب البلاد تضيق عنك فما حالك في ضيق ما ائتمل منها عليك ". وقارن بالتمثيل: 4 " قد جاب الأرضين وملكها ثم حصل منها على أربعة أذرع ". (4) الثعالبي: 3 (بطليموس) والمبشر: 10 والحصري: 6 والشهرستاني: 7. (5) ابن البطريق: 13 (دمطر الحكيم) وكبريللي: 8 (ديمطرن) والتمثيل: 5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 19 - وقال التاسع عشر: قد رأيتم أيها الجمع هذا الملك الماضي فليتعظ به الآن هذا الملك الباقي (1) . 20 - وقال العشرون: هذا الذي دار كثيرا والآن يقر طويلا (2) . 21 - وقال الحادي والعشرون: إن الذي كانت الآذان تنصت له قد سكت، فليتكلم الآن كل ساكت. 22 - وقال الثاني والعشرون: سيلحق بك من سره موتك كما لحقت بمن سرك موته (3) . 23 - وقال الثالث والعشرون: ما لك لا تقل عضوا من أعضائك وقد كنت تستقل ملك الأرض، بل مالك لا ترغب بنفسك عن ضيق المكان الذي أنت به وقد كنت ترغب بها عن رحب البلاد (4) . 24 - وقال الرابع والعشرون (وكان من نساك الهند وحكمائها) : إن دنيا يكون هذا آخرها فالزهد فيها أولى أن يكون في أولها (5) . 25 - وقال الخامس والعشرون (وكان صاحب مائدته) : قد فرشت النمارق ونضدت الوسائد وهيأت الموائد ولا أرى عميد المجلس (6) .   (1) كوبريللي: 37 (ديسقريدس) . (2) كوبريللي: 4 (ذيوجانس) (3) المختصر: 21 سلحقك، وابن البطريق: 8 كما لحقت أنت، وكوبريللي: 45. (4) الثعالبي: 6، 8 والأول لبليناس والثاني لديمقراطيس، والتمثيل: 7، 8 وابن البطريق: 19 عهدي بك وقد كنت ترغب بنفسك عن رحب البلاد فكيف صبرك الآن على ضيق المكان، والحصري: 5، 7 كالثعالبي. (5) ابن البطريق: 17 (فيلقطون) فالزهد في أولها أولى بنا، والمختصر: 20 فالزهد أولى في أوائلها، وكوبريللي: 42 مشبه لابن البطريق. (6) الثعالبي: 31 (صاحب المطبخ) قد طرحت المفارش ووضعت الوسائد ونصبت الموائد ولست ... والتمثيل: 13 والحصري: 12 نضدت النضائد وألقيت الوسائد (ثم يتابع الثعالبي) وكوبريللي: 34 والنص مضطرب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 26 - وقال السادس والعشرون (وكان صاحب بيت ماله) : قد كنت تأمرني بالجمع والادخار فإلى من أدفع ذخائرك؟ (1) 27 - وقال السابع والعشرون (وكان خازنا من خزانه) : هذه مفاتيح خزائنك فمن يقبضها قبل أن أوخذ بما لم آخذ منها. (2) 28 - وقال الثامن والعشرون: هذه الدنيا الطويلة العريضة قد طويت منها في سبعة أشبار [ولو كنت بذلك موقنا لم تحمل على نفسك في الطلب] . (3) 29 - القول التاسع والعشرون (قول زوجته روشنك بنت دارا بن دارا ملك فارس) : ما كنت أحسب أن غالب دارا الملك يغلب، وإن كان هذا الكلام الذي سمعت منكم معاشر الحكماء فيه شماتة، فقد خلف الكأس الذي تشرب به الجماعة. (4) 30 - القول الثلاثون (ما يحكى عن أمه أنها قالت حين جاءها نعيه) : لئن فقد من ابني أمره، فما فقد من قلبي ذكره. (5)   (1) الثعالبي: 29 قد كنت ... الأموال فتسلم الآن ما جمعته لك، كوبريللي: 35 قد كانت الأمور تنفذ بك تنفذ فاليوم كلها دونك، وهو منسوب لخازن بيت ماله، ولكنه قول مستقل تماماً. (2) الثعالبي: 30 بما لم آخذه منك. (3) الثعالبي: 25 قد جبت هذه الدنيا الطويلة العريضة حتى ملكتها ثم حصلت منها في أربعة أذرع ويشبهه الحصري: 4، وفي المختصر: 4 هذا طوى الارض العريضة ثم لم يقنع حتى طوي منها في ذراعين، ومثله الشهرستاني: 9. وقريب من المبشر: 8 وفي كوبريللي: 15 هذا الذي لم تسعه البلدان العظام قد طوي في ذراعين من الارض. (4) ابن البطريق: 31 والثعالبي: 28 والتمثيل: 12 والحصري: 11 وكوبريللي: 38 وقوله " وان كان هذا الكلام ... " لم يرد في المصادر ما عدا ابن البطريق، وعند زيادة على ما هنا. (5) ورد قول أم الاسكندر في الثعالبي: 27 والمبشر: 15 وابن البطريق: 32 واليعقوبي: 9 والمختصر: 23 وكوبريللي: 46 وهو يختلف بين الايجار والاطالة، وربما نسب اليها غير قول واحد في موقفين مختلفين، ولهذا لم نورده في هذه الحاشية لتباعد النصوص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 31 - صدر عنا الإسكندر ناطقا وقدم علينا صامتا. (1) 32 - قل لرعية الإسكندر هذا يوم ترعى الرعية راعيها. (2) 33 - هل يعزينا على ملكنا من لم تصبه مصيبة فنتعزى. (3) 34 - هذه طريق لا بد من سلوكها فارغبوا في الباقية كرغبتكم في الفانية. 35 - قد كنا أيها الشخص بالأمس نقدر على الاستماع ولا نقدر على القول فهل تسمع الآن ما نقول؟ (4) 36 - لم يؤدبنا الإسكندر بكلامه مثلما أدبنا بسكوته. (5) 37 - خافت حصونك أيها الملك وأمنت حصون خائفيك. (6) 38 - ما أصدق الموت لأهله غير أنهم يكذبون عيونهم ويصمون آذانهم. (7) 39 - أيها الجمع لا تبكوا على من جاز البكاء عنه بل ليبك كل امرئ منكم على نفسه. 40 - إن كان لا يبكي من الموت إلا عند حدوثه فالموت في كل يوم جديد. (8)   (1) آيا صوفيا: 2 وكوبريللي: 19 منسوباً لارسطاطاليس. (2) طوبريللي: 39 (مادون) . (3) المختصر: 19. (4) الشهرستاني: 6 والمبشر: 9 كان الاسكندر بالأمس ... على الكلام، فاليوم نقدر عنده على الكلام ولا يقدر على الاستماع. (5) المختصر: 9 والشهرستاني: 12 وكوبريللي: 9. (6) كوبريللي: 24 أيها الشخص. (7) المختصر: 14 وكوبريللي: 26 وفيها: يكذبون عقولهم. (8) كوبريللي: 27 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 41 - إن كنت مرتفعا لقد أصبحت متضعا وإن كنت مغبوطا لقد أصبحت مرحوما. (1) 42 - يا هذا الذي كان غضبه مرهوبا وجانبه ممنوعا، هلا غضبت لفرق الموت منك أم هلا امتنعت لتطرد الذل عنك. (2) 43 - كفى للعامة أسوة بموت الملوك وكفى الملوك عظة بموت العامة. (3) 44 - ما أتعظ الإسكندر بعظة هب أبلغ من وفاته. (4) 45 - قد كان صوتك مرهوبا وكان ملكك عاليا فأصبح الصوت قد انقطع والملك قد اتضع. (5) 46 - قد كنت تقدر على الإحسان ولا أقدر أنا على الكلام فاليوم أقدر على الكلام ولا تقدر أنت على الإحسان. (6) 47 - أن كنت بالأمس لا يأمنك أحد لقد أصبحت اليوم لا يخافك أحد. 48 - قد كان الراعي يهتم بالرعية بالأمس، فاليوم تهتم الرعية براعيها. 49 - قد وصلت إلى من كان له قبلك دين ولا بد من اقتضاء ذلك منك، فليت شعري كيف صبرك عند قضاء الدين والحق. (7) 50 - لو كان بك من الوقار والسكينة فيما خلا مثل الذي بك اليوم لكنت حكيما.   (1) كوبريللي: 28 لئن كنت أمس مغبوطاً لقد أصبحت مرحوماً ولئن كنت مرتفعاً لقد صرت الآن وضيعاً. (2) قارن بما تقدم رقم: 18. (3) كوبريللي: 31 كفى بالعامة بموت الملوك عبرة. (4) كوبريللي: 52 ما وعظ ... من موته. (5) اليعقوبي: 6. (6) قارن بما تقدم رقم: 35. (7) كوبريللي: 33 إن للرعية قبلك ديوناً فكيف صبرك الان على قضاء الحقوق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 51 - أيها المنطيق ما أخرسك، أيها العزيز ما أذلك، أيها القانص أنى وقعت موضع الصيد في الشرك من هذا الذي يقنصك. (1) 52 - هذا القوي الذي أصبح اليوم ضعيفا والعزيز الذي أصبح اليوم ذليلا. (2) 53 - قد كانت سيوفك لا تجف ونقماتك لا تؤمن، وكانت مدائنك لا ترام، وكانت عطاياك لا تبرح، وكان ضياؤك لا يكسف، فأصبح ضوؤك قد خمد، ونقماتك لا تخشى، وأصبحت عطاياك لا ترجى، وأصبحت سيوفك لا تنتضى، وأصبحت مدائنك لا تمنع. 54 - هذا الذي كان للملوك قاهرا فقد أصبح اليوم للسوقة مقهورا. (3) 55 - هلا امتنعت من الموت إذ كنت من الملوك ممتنعا، وهلا ملكت عليه إذ كنت عليهم مملكا. 56 - حركنا الإسكندر بسكوته (وانطقنا بصمته) . (4) - 4 - 57 - ما ينبغي لك كل ذلك التجبر أمس مع كل هذا الخضوع اليوم. (5)   (1) المبشر: 2، أيها المعزز ما أذلك أنى وقعت في هذا الموضع مثل الصيد في الشرك. (2) المبشر: 6 هذا كان بالأمس قوياً عزيزاً أصبح اليوم ضعيفاً ذليلاً. (3) المبشر: 5 هذا الذي قهر الناس بملكه أمس قد أصبح اليوم لديهم مقهوراً. (4) الثعالبي: 2 والتمثيل 2 والطرطوشي: 13 والحصري: 2 وآيا صوفيا: 1 والأغاني 4: 406 وبهجة المجالس 2: 202 والمثل السائر 2: 281 منسوباً لوزير قباذ وسقط منها جميعاً " وأنطقنا بصمته ". (5) الحصري: 10 والطرطوشي: 13 وكوبريللي: 50 ما أقبح شدة تجبرك (الحصري: افراطك في التجبر) بالأمس مع شدة اتضاعك (الحصري: خضوعك) اليوم. والتمثيل: 11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 58 - قد كنت أمس انطق وأنت اليوم أوعظ. (1) 59 - قد كان هذا الأسد يصيد الأسود وقد وقع الآن في الحبالة. 60 - كل يحصد ما يزرعه فأحصد الآن ما قد زرعت. 61 - حلي الذهب على الأحياء أحسن منه إلى الأموات. 62 - استرحت من أشغال الدنيا فأنظر كيف تستريح من أهوال الأخرى. 63 - ما كان أغناك عن إماتة الخلق الكثير مع موتك هذا السريع. 64 - قد كنا لا نقدر عندك على الكلام فالآن لا نقدر على الصمت. (2) 65 - ما أشد ما كنت تتشدد فيه وما أسهل ما تركت الآن. 66 - طالما أبكيت الناس في حياتك وقد صرت تبكيهم عند مماتك. 67 - لم تكن تصبر في الأبزن كصبرك الآن في التابوت. 68 - دخلت الظلمات لطلب نور الحياة ولم تعلم أن مصيرك إلى ظلمة التابوت. 69 - كنت تبيت في مكان وتقيل في آخر. فما بالك اقتصرت في المبيت والمقيل على مكان واحد. 70 - حين قدرت أن تفعل لم نقدر أن نقول، وإذ قدرنا أن نقول لست تقدر أن تفعل. (3) 71 - قد قلعت الريح الدوحة الباسقة وذهب الراعي فضاعت الماشية. 72 - كونوا خلف ملك آخر فقد غاب ملككم هذا، غيبته لا أوبة لها. 73 - الآن علمت أنك ولدت للموت وبنيت للخراب.   (1) الحصري: 3 كان الملك يعظنا في حياته وهو اليوم أوعظ منه أمس، الأغاني 4: 406 كان الملك أمس أهيب منه اليوم وهو اليوم أوعظ منه أمس. (2) التمثيل: 9. (3) قارن بما تقدم رقم: 35، 46. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 74 - انظروا كيف خر الطود الشامخ ونضب البحر الزاخر وسقط القمر الطالع. - 5 - 75 - قد فارقت الأنجاس المذنبين إذ وصلت إلى الأطهار الطيبين. 76 - كان الإسكندر حريصا على الارتفاع ولم يعلم أن ذلك أشد لصرعته (1) 77 - كان الإسكندر يخافه من لا ينظر إليه فقد صار لا يخافه من ينظر إليه. 78 - هذا الذي كان أعداؤه يكرهون فربه فقد صار أصدقاؤه لقربه أكره. (2) 79 - كان الإسكندر بالأمس يدبر بقوته فاليوم قد عجز عن تدبير نفسه. - 6 - 80 - ألا تتعجبون ممن لم يعظنا اختياراً حتى وعظنا بنفسه اضطرارا. 81 - ما سافر الإسكندر سفرا بلا أعوان ولا آلة ولا عدة غير سفره هذا. (3) 82 - ما أرغبنا في ما فارقت وأغفلنا عما عاينت. (4) 83 - من لم ير هذا الشخص فليتق الله وليعلم أن الديون هكذا قضاؤها. (5) 84 - قد كان بالأمس طلعته علينا حياة واليوم النظر إليه سقم.   (1) الشهرستاني: 96 من شدة حوصه على الارتفاع انحط كله، كوبريللي: 18 من شدة حرصه على الارتفاع عظمت صرعته، كوبريللي: 51 كان الاسكندر حريصاً على الارتفاع ولا يدري أن تلك أشد الاتضاع. (2) المختصر: 12 يا من كان بالأمس تزهى النفوس منه دنواً فقد عاقته اليوم واشتهت منه بعدا. (3) آيا صوفيا: 14 سفرة ما ساقر مثلها بلا زاد واعوان، وكوبريللي: 20 مشبه لذلك. (4) آيا صوفيا: 6 والمختصر: 6. (5) كوبريللي: 13 هكذا يكون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 85 - قد كان يسأل عما قبله ولا يسأل عما بعده. (1) 86 - الآن تضطرب الأقاليم لأن مسكنها قد سكن. (2) 87 - الآن وقت الانصراف لأن الأشخاص يتوجهون من دار إلى دار، والله تعالى يبقى ولا يفنى. - 7 - 88 - كان الملك غالبا فصار مغلوبا وآكلا فصار مأكولا. (3) - 8 - 89 - خرجنا إلى الدنيا جاهلين وأقمنا فيها غافلين ونخرج عنها كارهين. (4) 90 - يا من ذلل الأملاك كيف رأيت تذليل الموت إياك. - 9 - 91 - ما أبعد شبه مكانك الذي أنت فيه اليوم من مكانك الذي كنت فيه بالأمس. 92 - لم يقض هذا الجسد نهمته من الدنيا حتى قضت الدنيا نهمتها منه. 93 - لو عرف هذا الشخص ضعفه بالأمس لكان اليوم مغبوطا. (5) 94 - أن هذا الشخص الذي جمع الذهب لم ينفعه حيا فكيف ينفعه ميتا. 95 - يا من ساد الملوك عزا وقهرا لقد ساويت ترب أقدامهم مهانة وذلا.   (1) انظر رقم: 104 فيما يلي. (2) كوبريللي: 44 الأقاليم المعمورة. (3) التمثيل: 10. (4) المنتخب: 2 (ميلاطوس) . (5) كوبريللي: 11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 96 - قل للملوك بعد الحياة إلا الموت ولعل ما بعد الموت أشد من الموت. 97 - قل للملوك ما الحياة بثقة فيرجى غدها ولا الموت بغابر فيؤمن يومه. 98 - يا من فتح خزائن الملوك عنوة، فتحت خزائنك بغير قتال. - 10 - 99 - أن الآمر في الذهب قد ساوى الذهب صمتا فهل ترجو أن ينفذ لك بعد يومك أمر. (1) 100 - هذا الذي كان يعطي اليسير مما جمع ليحمد قد خلف الكثير الآن على من لا يحمد. 101 - لا يعرف المرء حقيقة جسده ما هو إلى أن يفارقه. 102 - يا من له الأعين خاضعة والألسن ساكنة ما الذي جرأها عليك فاجترأت. 103 - ل عني هذا الشخص بعلم ما يكون بعده كسؤاله عما كان قبله لقلل سعيه. (2) 104 - لا يعظم عنكم من يعلم غيره لكن العظيم من علم نفسه. 105 - لو كان الإسكندر يعلم أنه يزول عنه ما كان فيه لكان يكون للحكماء أطوع. 106 - لو كان له يقين لم ينصب نفسه لجمع ما تخلف عنه. 107 - كما أن بيع مكذوب في بيعه كذلك كل ملك مكذوب في نفسه. 108 - ليس العجب من غروب الشمس إنما التعجب من شروقها. 109 - يا من ساس الأمور عزا وقهرا أليس قد ساويت؟ 110 - يا من عظم في العزة حتى ملك وأفرط في اللهو حتى سقط ما الذي زهدك   (1) المنتخب: 4 (زينون الأصغر) . (2) حتى هذا القول أن يأتي في القسم: 9 لأنه ورد في المختصر: 13 وانظر ما تقدم رقم: 85. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 في الزهد وهذه غايتك. 111 - (صاحب نسائه) : قد كن أحباءك يثابرن على قربك فصرن اليوم لا يحببن القرب منك. 112 - أن كنت فرحت بموت من ورثته فالآن يفرح بموتك وارثوك. 113 - قل لآل يا وان احزنوا موازاة ما سيق إليكم من طباشير المفرحات. 114 - يا لها حالة، بكاء امرئ اليوم مما كان وطن نفسه عليه بالأمس، وضحكه بالأمس مما ينوي أن يبكي عليه اليوم. 115 - هيهات لقد صدق الموت لولا كدر قلوبهم. 116 - ان كنت إنما تبكي لجدة الموت فإن الموت لم يزل جديدا. (1) 117 - لقد أصبح [؟] وقاهر الملوك مقهورا. (2)   (1) قارن بما تقدم رقم 40. (2) قارن بما تقدم رقم: 54. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219