الكتاب: تطلعات إلى المستقبل في مستهل القرن الهجري الجديد المؤلف: محمد بن قطب بن إبراهيم الناشر: الجامعة الإسلامية، المدينة المنورة الطبعة: السنة الثالثة عشرة - العدد التاسع والأربعون - محرم - صفر - ربيع الأول 1401هـ/1981م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- تطلعات إلى المستقبل في مستهل القرن الهجري الجديد محمد قطب الكتاب: تطلعات إلى المستقبل في مستهل القرن الهجري الجديد المؤلف: محمد بن قطب بن إبراهيم الناشر: الجامعة الإسلامية، المدينة المنورة الطبعة: السنة الثالثة عشرة - العدد التاسع والأربعون - محرم - صفر - ربيع الأول 1401هـ/1981م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] تطَلُعَات إلى المستقبل في مُسْتَهَل القَرْنِ الهجْرِي الْجَدِيدُ لفضيلة الأستاذ محمد قطب في مستهل هذا القرن الهجري الجديد.. استبشر كثير من المسلمين وهي ظاهرة طيبة، نرجو أن يحقق الله من ورائها الخير الكثير، ولكن الاستبشار وحده لا يكفي إذا كان مجرد أماني خاوية، يقول سبحانه وتعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ} (النساء/123) . فالأماني الفارغة لا تغير شيئاً من الواقع، ولا تحدث ما نرجوه من الخير، إنما يحدث هذا التمني أثره الطيب بإذن الله حين يكون استبشاراً مبنياً على عمل، استبشاراً له رصيد من الواقع، إننا نريد أن نتدارس معاً أمر هذا الاستبشار بالقرن الهجري الجديد، هل هو مجرد أماني؟ أم أنه استبشار له رصيد من الواقع؟ وما ذلك الرصيد؟ على وجه التحديد؟ ما حجمه؟ ما الذي ينبئ به؟ ما الذي نرجوه من وراءه؟ أقول بادئ ذي بدء: إن الله لا يغير أحوال البشر بأرقام السنين، ولا بأرقام القرون، فكوننا دخلنا في قرن تاريخي جديد، ليس معناه بالضرورة أن يغير الله لنا، إنما علمنا الله سبحانه وتعالى طريق التغيير، قال عز من قائل: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (الرعد/11) . فطريق التغيير إذن: الطريق الذي يغير الله على أساسه واقع الناس هو أن يغيروا ما بأنفسهم، والتغيير بحالتيه من سيئ إلى حسن، أو من حسن إلى سيئ لا يحدث في حياة الناس إلا إذا غيروا ما بأنفسهم: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (الأنفال/53) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 فإذا أنعم الله على قوم نعمة فإنه يحفظها لهم ما داموا هم حافظين لها، فإذا غَيَرُّوا ما بأنفسهم فإن الله يغير حالهم إلى حال سوء والعياذ بالله، ثم إنهم إذا كانوا في حال سوء، وأرادوا أن يخرجوا منها إلى حال خير فإن عليهم بادئ ذي بدء أن يغيروا ما بأنفسهم إلى خير فيغير الله ما بهم من سوء ويبدل أحوالهم إلى خير. فعلى هذه القاعدة، أو على هذه السنة الربانية التي لا تتبدل ولا تتحول ككل سنن الله سبحانه وتعالى، نتدارس أمر هذا القرن الجديد، فنسأل عن هذا الاستبشار: هل هو مبني على واقع في نفوس الناس؟ أي بعبارة أخرى: هل بدأ الناس يغيرون ما بأنفسهم؟ فنتوقع إذن أن يغير الله لهم؟ أم إنهم ما زالوا يسيرون على الحال الذي يسيرون فيه؟ فلا تغيير إذن من عند الله ما دامت القلوب لم تتغير والعقول لم تتغير؟ أنا شخصياً من المستبشرين والحمد لله، استبشر لا بالسنوات، ولا بالأرقام، لكن استبشر بما أراه في قلوب الشباب في العالم الإسلامي من المحيط إلى المحيط، من تغير نحو الإسلام.. إنه اتجاه جديد.. بعث إسلامي جديد.. يعمر هذه القلوب من بعد ما كانت خاوية خلال القرون الماضية، فحل بالمسلمين ما حل بهم نتيجة خواء قلوبهم من الإيمان الصحيح، ولكني وأنا أستبشر بمطلع هذا القرن، وأرجو للمسلمين فيه خيراً، لا أغفل عن الواقع الذي نعيشه، لا أغفل عن الظلمات.. عن الأزمات.. عن المصاعب والمشقات التي تحيط بالمسلمين اليوم، وتعتصرهم اعتصاراً على يد أعدائهم في كل مكان في الأرض. ولعلنا لا نستطيع أن نمضي في الحديث عن هذا القرن الجديد، إلا إذا تحدثنا عن القرون القريبة الماضية، فالمستقبل حلقة من حلقات التاريخ متصلة بالحاضر، والحاضر حلقة متصلة بالماضي، ولا يمكن أن ندرك الحاضر ولا أن ندرك المستقبل المرقوب إلا إذا مررنا بالماضي نستشف أحداثه، ونعرف ما جرى فيه من تغير في أحوال المسلمين بعد أن كانوا هم الأمة، بعد أن كانوا هم القوة في الأرض، بعد أن كان لا يبرم أمر في الأرض إلاَّ برضاهم أو بمشورتهم، أو يغضبون فتهتز الأرض كلها. كيف تغير الحال؟ كيف صار المسلمون إلى الذل والهوان والتشريد الذي يعيشونه اليوم؟ يُقَتَّلون في كل مكان في الأرض، يعذبون.. يشردون.. يطاردون.. تنتهك أموالهم وديارهم وأعراضهم.. بل تنتهك أرواحهم وقلوبهم.. وتحْشى بأفكار ليس بينها وبين الإسلام صلة، وبأمور مخالفة تمام المخالفة لدين الله. كيف حدث ذلك وقد وعد الله المؤمنين من هذه الأمة بالاستخلاف والتمكين والتأمين، حيث قال سبحانه وتعالى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} (النور 55) نعم، هنالك في الآية وعد من الله سبحانه وتعالى بالاستخلاف والتمكين والتأمين، ولكن الوعد مقرون بشرط {يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} . إن هذا هو الشرط الذي اشترطه على هذه الأمة، والذي تكفل في مقابله أن يمنح هذه الأمة بركته ونصره وتأييده وعونه في الاستخلاف والتمكين والتأمين. "يؤمنون" و "يمكن دينهم في الأرض" و "يصبحون هم الخلفاء" أي هم القوة التي تسيّر أمر هذه الأرض. كذلك قال الله في وصف هذه الأمة: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (آل عمران 110) . وقال كذلك: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} (البقرة 143) . هذا الوصف الرباني، هذا التقرير الرباني لهذه الأمة، أنها خير أمة أخرجت للناس، وأنها شاهدة على البشرية كلها، وقائدة لها ورائدة، كيف تحول إلى هذا الهوان الذي تعيشه الأمة الإسلامية؟ هل يتخلف وعد الله؟ حاشا لوعد الله أن يتخلف، وهو الوعد الحق والله أصدق القائلين، ماذا حدث إذن؟ كيف نفسر القرون الثلاثة الأخيرة من حياة المسلمين، التي انحدروا فيها تباعاً، وظلت قوتهم تتضاءل بينما ظلت قوة أعدائهم تتصاعد، حتى غلب عليهم أعداؤهم وغزوهم في عقر دارهم، ومزَّقوا العالم الإسلامي مزقاً، ودخلوا لا الأرض والديار فقط، بل القلوب والأرواح، يغزوننا بما نصطلح على تسمينه "الغزو الفكري". كيف حدث ذلك؟ كل شيء بقدر، نعم، ولكن قدر الله يجري من خلال أعمال الناس:- {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (الروم 41) . يظهر الفساد في البر والبحر بقدر من الله، نعم، لكن بما كسبت أيدي الناس، فقدر الله مرتبط بأعمال الناس في الأرض: هل يستقيمون على النهج أم يحيدون عنه؟ وبحسب سلوك الناس في الأرض يجري قدر الله. حين وقعت هزيمة "أحد" قال الله سبحانه وتعالى للمؤمنين: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ} (آل عمران 166) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 هو قدر من عند الله، نعم، مقدر في كتابه من قبل أن يبرأ السموات والأرض، لكنه جرى بما كسبت أيد المؤمنين يومئذ، {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} . بمخالفتهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم قائدهم ونبيهم ومعلمهم، فأصابهم ما أصابهم في ذلك اليوم بقدر من الله وبفعل من أنفسهم، كذلك ما أصابهم في ذلك أصاب المسلمين في القرون الثلاثة الأخيرة إنه جرى بقدر من الله، ولكنه جرى من خلال أعمال المسلمين، فماذا عمل المسلمون في تلك القرون بالذات مما أورثهم هذا الهزال، وهذا الهوان، وهذا الضعف وهذا الذل الذي عاشوا فيه في القرن الأخير بصفة خاصة؟ بكلمة مختصرة: لقد حادوا عن طريق الله، فإن أردنا أن نفصل هذه الكلمة شيئا من التفصيل، فلنراجع مفاهيم الإسلام وقواعده وأركانه، كيف نزلت من عند الله سبحانه وتعالى؟ كيف فهمها الصحب الكرام رضي الله عنهم ورضوا عنه؟ كيف قامت بها تلك الأمة التي وصفها خالقها سبحانه، بأنها كانت {خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} .. ثم كيف تحولت هذه المفاهيم، هذه الأركان، هذه المعاني الإسلامية في نفوس المتأخرين من المسلمين، وأبدأ بالركن الأكبر والأعظم من أركان الإسلام. الركن الذي يدخل به الناس الإسلام. "لا إله إلا الله.. محمد رسول الله". ذلك ركن الإسلام الركين، ركنه الأول، قبل الصلاة والزكاة والصوم والحج، قبل كل شيء، هذا الركن الأساسي الذي ينبني عليه الإسلام، انبنى في الماضي، وينبني في الحاضر، وينبني في المستقبل، وبغيره لا يتم بناء على الإطلاق، كيف كانت "لا إله إلا الله" في حس هذا الجيل الأول الذي استحق وصف الله بكامله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} ذلك الجيل الفريد الذي لم يتكرر في تاريخ البشرية، كيف نشأ؟ بم تفرد هذا التفرد في التاريخ كله؟ هل كانوا بشراً غير البشر؟ كلا والله، لقد كانوا بشراً تجري بشريتهم في عروقهم، في سلوكهم وفي أعمالهم، هم في كل لحظة بشر، ولكنهم بشر على الصعيد الأعلى. بشر في أعلى آفاق البشرية، فبم استطاعوا أن يصعدوا إلى ذلك الأفق السامق؟ بأي شيء ارتفعوا حتى استحقوا أوصاف الله لهم؟ ارتفعوا باستيعاب هذا الركن الأول بصفة خاصة، باستيعاب "لا إله إلا الله محمد رسول الله" استيعابها إلى أعمق أعماقهم، والسلوك بها في واقع الحياة في كل لحظة من لحظاتهم. ليست "لا إله إلا الله" تلك الكلمة العابرة التي صارت إليها في حس المسلمين المتأخرين، كلمة يقولونها، يظنون أنهم بها حازوا الإسلام وهم بعيدون عن معناها، بعيدون عن مقتضاها، بعيدون عن منهجها الشامل التي يشمل الحياة كلها، يقولونها بألسنتهم، وقلوبهم وعقولهم غافلة عنها، وسلوكهم الواقعي مخالف لها أتم المخالفة. وأي مخالفة أكبر وأعظم من أن يحكم المسلمون بشريعة غير شريعة الله وهم ينطقون "لا إله إلا الله"؟ ما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 معنى "لا إله إلا الله" إذن إذا لم يكن أول مقتضاها أن يتحاكموا على شريعة الله، ماذا بقي منها في واقع الحياة، بقي الصوت والصدى، وما كان المقصود بها أن تكون أصواتا تخرج من أفواه الناس، إنما كان المقصود بها أن تكون واقعا يعايش، كان المقصود بها أن تلغي الجاهلية التي تعبد أرباباً متفرقةً، وتحدث بدلاً من الجاهلية واقعاً جديداً فيه إله واحد يُعبد، لا آلهة متعددة، إله يُعبد في المسجد، وهو ذاته سبحانه يُعبد في كل مكان. أما أن يُعبد الله في المسجد، ويُعبد إله آخر في واقع الحياة، فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} (النحل/51) . فأما الجيل الأول الذي كتب بدمه.. بمشاعره.. بفكره.. لكل لحظة من حياته أمجاد التاريخ الإسلامي ووضع البذرة التي نمت خلال القرون، فقد كان يستوعب "لا إله إلا الله". كان يعرف مقتضياتها كلها، كان يعيش كل لحظة من حياته بـ "لا إله إلا الله"، فيتحاكم إلى شريعة الله، ويتخذ منهج الله منهجاً له في الحياة، يأتمر بما أمره الله، وينتهي عما نهاه الله، ولا نقول إنهم كانوا ملائكة، كلا، لقد كانوا بشراً، وكان يجري عليهم ما يجري على البشر من خطأ وخطيئة، ولكنهم: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} (آل عمران/135-136) . نعم: لقد كانوا يخطئون كما يخطأ البشر، وتقع منهم الخطايا كما تقع من البشر، ولكنهم سرعان ما يفيئون إلى الله، يعرفون أنهم مخطئون، فيقومون من وهدتهم ويتجهون إلى الله من جديد، فيتقبل الله توبتهم ويعطيهم العزم والقوة على أن يسيروا في طريقه. كان ذلك الجيل يعرف حق المعرفة، ويقدر حق القدر ما "لا إله إلا الله" لم تكن في حسه كلمة عابرة، ولا قضية خفيفة الوزن، وإنما كانت حياته كلها هي "لا إله إلا الله.. محمد رسول الله"، وبذلك كان خير جيل عرفته البشرية وبذلك فعل تلك المعجزات العجيبة التي لا يصدقها البشر لولا أنها واقع حدث بالفعل. كيف تأتىَّ لهذه الحفنة القليلة من البشر أن تنشر دين الله بهاذ اليسر، بهذه السرعة، بهذا التمكن من خلال نصف قرن كان الإسلام قد امتد من المحيط إلى ما وراء الهند، حركة لا مثيل لها في التاريخ كله من قبل ولا من بعد، هل تحدث جزافاً؟ كلا، إنما تحدث بمقوماتها، وأول مقوماتها: "لا إله إلا الله، محمد رسول الله". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 حين يستوعبها القلب، حين تتعمق في النفس، حين تصبح هي منهج الحياة إنها تكتب الواقع على ذلك النحو الفريد الذي كتبه أولئك الصحب الكرام رضي الله عنهم وأرضاهم. ثم إن أجيالا مضت ومسلمون يستمسكون بأركان الإسلام ولكن يدهم تتخلخل من القبضة المتينة رويداً رويداً فيصيبهم من جراء هذا التخلخل ما ذكره الله لهم في سننه التي لا تتغير ولا تتبدل، يجيء الأعداء يهاجمون دار الإسلام، جاء الصليبيون، وجاء التتار، وغزوا أرض الإسلام، ما غزوها اعتباطاً كل شيء بقدر، وكل شيء يسير حسب السنن الربانية، كان المسلمون قد غفلوا، قد ركنوا إلى الأرض، إلى الشهوات، إلى متاع الدنيا القليل، شغلتهم أموالهم وأنفسهم، شغلهم متاع لا يساوي أن يشغلوا به عن الدار الآخرة وعن الجهاد في سبيل الله، فجاء الغزاة: إنه عقاب سريع من الله سبحانه وتعالى، جاء الصليبيون وجاء التتار، وأغاروا.. وعاثوا فساداً في الأرض الإسلامية.. ولكن الله الغالب على أمره {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} (يوسف/21) ، إن الله الغالب على أمره كان قد قدر قدراً أن يستيقظ المسلمون مرة أخرى، أن يعودوا إلى الله بقيادة علمائهم وزعمائهم وقادتهم العسكريين. أرسل الله من العلماء من يذكِّرُ هذه الأمة بقضية عقيدتها، من ينقي لها تلك العقيدة مما شابها من أخلاط ليست منها، وكان في مقدمة أولئك شيخ الإسلام ابن تيمية رضي الله عنه، وبعث الله قادة من قادة المسلمين يذكرونهم، كما فعل "صلاح الدين" بأنهم غلبوا على أمرهم لأنهم نسوا الله، وشردوا عن دينه الصحيح، فيجب عليهم أن يعودوا إلى الدين، يجب عليهم أن يعودوا إلى النهج الصحيح، لينصرهم الله واستجابت الأمة، سواء وراء "صلاح الدين" في حربه للصليبين، أو رواء "قطز" في حربه للتتار، وصيحة "قطز" الشهيرة.. "وا إسلاماه" حين دخل المعركة الفاصلة بينه وبين التتار، بهذه الصيحة العظيمة "وا إسلاماه" وتغير مجرى التاريخ، لقد كان التتار قد خرجوا من ديارهم في رحلة مخربة مدمرة لم يتوقفوا فيها أبداً خلال ألوف من الأميال حتى دخلوا عاصمة الخلافة "بغداد" وعاثوا فيها فساداً بأبشع ما يعيث جيش غازٍ، جيش بربري، جيش لا يعرف للرحمة سبيلاً ولا معنى من معاني الإنسانية: يُقتِّل.. يُذبِّح.. لقد ألقوا بكتب المكتبة الكبرى في بغداد، ألقوا بها في النهر لتعبر عليها خيولهم، وحولوا مجرى النهر دماً أحمر أربعين يوماً وليلةً من المذابح التي أوقعوها بالمسلمين، ووصل الذل بالمسلمين يومئذ إلى حد أن التتري في بغداد كان يمر بالمسلم، والتتري ليس معه سلاح فيقول للمسلم: قف مكانك حتى أذهب إلى بيتي فآتي بالسيف فأقتلك، فيقف المسلم مكانه حتى يأتي التتري بالسيف ويقتله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 وبعث الله لهذه الأمة قائدها الذي يقودها باسم الإسلام وتحت راية الإسلام، في تلك المعركة الشهيرة الحاسمة التي دخلها قطز رافعاً هذه الصيحة رافعاً هذه الراية "وا إسلاماه" وتغير مجرى التاريخ، ففي يوم واحد، في معركة واحدة، استغرقت من الصباح الباكر إلى ما بعد العصر، تغير ميزان القوى، وارتد التتار في "عين جالوت" لأول مرة منذ أن خرجوا من ديارهم، هزموا وتقهقروا، وكان ذلك فتحاً تاريخياً لأن التتار بعد ذلك بدأوا يدخلون في الإسلام. ومضت جولة جديدة للمسلمين، اعتز فيها الإسلام ولكنه اعتز على دَخلٍ فيه، تلك هي الفترة التي قامت فيها الدولة العثمانية، وليس هنا مجال التفصيل في أمر هذه الدولة التي كثر الكلام ضدها في كتب التاريخ التي بين أيدينا، حتى قام قائل وهو مسلم أو يدعي أنه مسلم.. يقول: "الاستعمار التركي" وما ينبغي لمسلم أن يتفوه بمثل هذه اللفظة، إن المسلم لا يكون مستعمر في أرض الإسلام، قد يكون ظالماً.. نعم، قد يكون فاسقاً.. نعم، قد يحدث منه ما يحدث مخالفةً ومعصيةً، أما أن يكون مستعمراً وهو يحكّم شريعة الله، إنها كلمة دخيلة، أدخلها أعدائنا إلى قلوبنا وأفواهنا لنكره الحكم الإسلامي. ينبغي أن نحترس ونحن نتحدث عن هذه الدولة، لقد كانت فيها مظالم كثيرة.. نعم، ولقد كان فيها انحرافات كثيرة من دين الله.. نعم، ولكن يكفي هذه الدولة عند الله أنها حمت العالم الإسلامي أربعة قورن متوالية من الغزو الصليبي والصهيوني، ويكفي هذه الدولة عند الله أن السلطان "عبد الحميد" أبى أن يقيم الوطن اليهودي في الأرض الإسلامية، ودفع حياته أو ملكه ثمناً لذلك، وله عند الله عاقبة. ولكن علينا أن نقف وقفة عند هذه الأحداث: "عبد الحميد واليهود"، لأن حاضرنا الذي نعيشه مرتبط أشد الارتباط بهذه الأحداث، لقد ذهب اليهود بقيادة قائد الصهيونية أو مبتدعها "هرتزل" ذهبوا إلى السلطان عبد الحميد يعرضون عليه عروضاً مغرية لو أنه كان يريد الحياة الدنيا، وكان يريد لنفسه المجد والسلطان، فلم يكن ليطلب لنفسه أكثر مما عرضه عليه "هرتزل" له ولدولته، كانت "تركيا" في ذلك الوقت أو "الدولة العثمانية" تدعى "بالرجل المريض" لكثرة المشكلات التي كانت تحيط بها، وتوقعاً لسقوطها ميتة بعد طول المرض، كانت في أزمة اقتصادية حادة، وكانت فيها مشاكل سياسية كثيرة، وكانت الدولة الصليبية لا تكف عن استثارة الأقليات، المسيحية واليهودية لتشغل بال السلطان لكي لا يهدأ ولا يستقر، كانت روسيا تستثير المسيحيين الأرثوذكس لأنها هي أرثوذكسية المذهب، وكانت بريطانيا تتكلف بإثارة الأقليات الكاثوليكية والبروستانتية مع أنها هي بروستانتية، وكانت تلك الأقليات، ومن أبرزها الأقلية الأرمنية لا تكف عن إثارة المشاكل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 للدولة العثمانية، كل يوم مشكلة في ركن من أركان الدولة، ويضطر "السلطان" أن يضرب بيد من حديد على مثيري الفتن، فيقول الأعداء: انظروا. هذا هو الجلاد، هذا هو الدكتاتور، هذا هو البربري الذي لا يعرف الرحمة يقتلَّ رعاياه، يستثيرونهم ليثوروا ضد الدولة، ضد الإسلام، يريدون أن يقوضوا الإسلام، فإذا فتك بهم، وما كان أمامه إلا أن يفتك بهم، يقولون: "انظروا إلى السفاح". وذهب "هرتزل" إلى "عبد الحميد" يعرض عليه قروضاً طويلة الأجل ويعرض عليه تنشيط الحياة الاقتصادية في الدولة العثمانية، ويعرض عليه التدخل لدى الدولتين المناوئتين "روسيا" و "بريطانيا" لكي تكفا عن إثارة الأقليات، ماذا يطمع حاكم أكثر من ذلك: يستقر حكمه، يغني شعبه، يأمن من الفتن والاضطرابات، ماذا يريد أكثر من ذلك، وكان لهم في مقابل ذلك كله طلب صغير، هو إعطاء اليهود قطعة من الأرض في فلسطين ليقيموا عليها وطناً قومياً لهم، ورفض السلطان المسلم بما أوحى إليه إسلامه، وقال "لهرتزل": "إن هذه ليست بلادي ولكنها بلاد المسلمين وقد روتها دماؤهم، ولا أملك أن أتنازل عن شبر واحد منها". وكان أن عُزِل.. وكانت نهايته، كما تعلمون منفياً في الأرض، ولكن له الأجر عند الله، لأنه وقف تلك الوقفة البصيرة.. المستبصرة بنور الله، التي عرف فيها أن هؤلاء الخادعين يريدون هذه القطعة القليلة من الأرض لتكون غداً دولة ولتتوسع هذه الدولة ولتنخر في عظام العالم الإسلامي، وهذا الذي كان. نريد أن نتتبع بشيء قليل من التفصيل تلك السنوات التي مرت ما بين هذا العرض الإجرامي الذي رفضه "عبد الحميد"، وبين قيام الدولة اليهودية، التي لقد ائتمر المؤتمرون أو المتآمرون.. هرتزل ورفقائه، في مؤتمر أقيم في سويسرا عام 1897 للميلاد.. وقرروا في ذلك المؤتمر ضرورة إقامة الدولة في خلال خمسين عاماً. وإذا حسبته التاريخ تجد الدولة قد قامت بالفعل من خلال خمسين عاماً 1897-1947.. خمسون عاما بالضبط، فماذا فعل اليهود ونصارهم وحلفاؤهم من الصليبيين لكي يقيموا تلك الدولة. لقد بدأوا بإزالة الخلافة الإسلامية.. لأن الخلافة كانت هي السد المنيع الذي يقف أمام أطماعهم، حتى "الرجل المريض" كانت أوربا تخشاه!!، ولست أنا الذي أقول ذلك، اقرءوا ذلك إن شئتم في كتاب "الغارة على العالم الإسلامي". بألسنتهم هم، يقول واحد من المبشرين: "إن أوربا كانت تخشى الرجل المريض وهو مريض.. لأن وراءه ثلاثمائة مليون من المسلمين مستعدون للجهاد بإشارة من يده"، لذلك كانوا يخشونه وهو مريض، ولذلك كانوا يعملون بغية الإجهاز عليه، وبالفعل جاءوا بدعِيِّهم "مصطفى" وما هو بمصطفى، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 وما هو بمسلم، ولكنه تمسْلَم، "مصطفى كمال أتاتورك" وهو من أصل يهودي، من يهود "الدونمة" الذين هاجروا من المغرب إلى البلقان بأمر من قيادتهم السرية، وتمسلموا "ادعوا الإسلام" قبل تلك الأحداث كلها بمائة وخمسين عاماً، واستوطنوا بالقرب من دار الخلافة ليقيموا بدورهم حين يجيء الوقت المحدد لهذا الدور، وجاء "كمال أتاتورك" المتسمي بمصطفى ليزيل الخلافة الإسلامية وليمهد لإقامة الدولة اليهودية في حين غفلة من المسلمين، فما كان أحد في ذلك التاريخ يوم أزيلت الخلافة الإسلامية يتصور على الإطلاق أن الأحداث ستجري في طريق إقامة الدولة اليهودية في الأرض الإسلامية إنما كان الأشقياء، كان الشريرون يعبثون، يعيثون في الأرض فساداً وأول فسادهم إزالة الخلافة الإسلامية، وتمزيق العالم الإسلامي، أولا إلى كتلتين كبيرتين: الكتلة العربية، الكتلة التركية، وإثارة البغضاء والحقد والحسد بين الكتلتين، يدعون الترك إلى تتريك الدولة، أي إلى اضطهاد العرب، ثم يذهبون إلى العرب فيلعبون بقلوبهم، ويلعبون بعقولهم، يجئ "لورانس" ويدعي أنه صديق العرب، وأنه ينصحهم نصيحة خالصة، وما كانت نصيحته إلاَّ إثارتهم ضد الدولة التركية، فيتمزق العالم الإسلامي تمهيداً لتمزيق أكثر، لتفتيته إلى دويلات لا تستطيع أن تحمي نفسها، ولا تستطيع أن تدفع عن الإسلام شيئًا. ومُزِّق العالم الإسلامي مزقاً متنافرة متناحرة متنافسة متباغضة على غير ما أمرهم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. وتكون جيش من المسلمين العرب يقاتل الدولة الإسلامية تحت راية "أللنبي" البريطاني وحين يدخل "أللنبي" بيت المقدس عام 1917م يقول: "الآن انتهت الحروب الصليبية ... " وما انتهت في الواقع، ولكنها كلمة تعبر عن الحقد الصليبي الذي يمتلئ به قلب ذلك الرجل، ولكن من أتباعه؟ من المقاتلون معه؟ مسلمون، عرب، يقاتلون مسلمين. ويقول لورد "أللنبي" في مذكراته: إنه لولا المعونة الضخمة التي قدمها الجيش العربي ما استطعنا أن نتغلب على الدولة العثمانية. يمزق العالم الإسلامي مزقاً، والعالم العربي بصفة خاصة، لتزرع فيه تلك الدولة الدخيلة وما كان في الإمكان أن تزرع وهناك إسلام في الأرض يحكمها، ما كان في الإمكان لشذاذ الآفاق أن يحتلوا الأرض المقدسة لو أن الناس كانوا يعون "لا إله إلا الله محمد رسول الله" وإن هذه الكلمة كانت تقتضيهم ألاَّ يقبلوا أن تدنس أقدام الكفار شبراً واحداً من الأرض الإسلامية، ولكن الأرض الإسلامية من المحيط إلى المحيط فيما عدا رقعاً قليلة منها أجزاء من الجزيرة العربية، وجسم الدولة التركية -أرض تركيا- ما عدا ذلك كله دخل في نطاق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 الاستعمار الصليبي، الذي تدخل الصهيونية تحت جناح الصليبية فيه لتعيث فساداً في الأرض ولتمكن وتهيء لقيام الدولة اليهودية. وبعد خمسين عاماً من هذا التشتيت، من هذا التمزيق، في موعدها الذي قدره الله، والذي قال به "هرتزل".. وما كان ينطق بالغيب، ولكنه يخطط والمسلمون غافلون، يدبر، والمسلمون مشغولون بخلافاتهم بعضهم مع بعض، بأحقادهم بعضهم على بعض، بتنافسهم على لعاعات من الحياة الدنيا، ينسون بها الله وينسون بها الآخرة، ينسون بها مقتضيات "لا إله إلاَّ الله" وإن كانوا يقولون بألسنتهم صباح مساء. ومنذ قامت تلك الدولة ماذا حدث في العالم العربي بصفة خاصة والعالم الإسلامي بصفة عامة؟ لقد كان اليهود وحلفاؤهم الصليبيون قد دبروا وخططوا تخطيطاً دقيقاً ألا تقوم قوة على الإطلاق تواجه تلك الدولة، فأزالوا القوة السياسية والقوة العسكرية، والقوة الاقتصادية، والقوة الروحية للمنطقة كلها، فأما القوة السياسية فماذا تملك تلك الدويلات التي تحتضنها بريطانيا وفرنسا؟. ماذا تملك أن تصد عن نفسها وأن تمنع عدوان العادين؟ وأما القوة العسكرية، فقد فتت جيوش العرب، ووضعت تحت وصاية حليفتي اليهود بريطانيا وفرنسا، فصارت أسلحة العرب من بريطانيا وفرنسا، وذخيرة السلاح من بريطانيا وفرنسا، فإذا كفت هاتان الدولتان أيديهما من الذخيرة فقط تتوقف الجيوش العربية كلها في ساعة، أما الاقتصاد فقد سيَّره الصليبيون والصهيونيون في خطة معينة: إضعاف العالم العربي، واستنزاف ثرواته، وتركه مريضا فقيراً جاهلاً لا يملك أمر لنفسه. أما قوة الشباب، وهي قوة هائلة تُخشى، فقد سلطوا عليها السينما والإذاعة ولم يكن التلفزيون قد اخترع بعد، وسلطوا عليها المراقص، والحانات والشواطئ العارية، سلطوا عليه الصحافة.. العارية بصورها العارية بأخبارها، العارية بقصصها.. العارية بأفكارها.. التي تبعد الشباب عن الله، تبعده عن الدين، تبعده عن الجدية في أي أمر من الأمور. وحسب المخططون أنهم قد خططوا تخطيطاً كما يقول المثل العامي "لا يخر الماء منه" "محكم"، وهو في الحقيقة محكم، ولكنهم نسوا أن هناك مسلمون ما يزالون يقولون "لا إله إلا الله" لا بأفواههم فقط.. إنما يقولونها بقلوبهم، بأرواحهم، بمنهج حياتهم، يقولونها يقصدونها حقاً، ويعيشون في ظلها، ويعيشون على نحو مما عاش المسلمون الأوائل الذين قال فيهم أبو بكر رضي الله عنه: "إنهم قوم أحرص على الموت من حرص أعدائهم على الحياة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 في عام 1948م حين أعلنت الدولة، وقامت مسرحية الحرب بين الدول العربية والكيان اليهودي، وتراجعت في نهايته الجيوش العربية إلى خط الهدنة المقرر من قبل، المصطلح عليه من قبل، الذي يعرف القادة المحاربون في المسرحية أنهم سيعودون إليه بعد المسرحية!! حين قامت تلك المسرحية كان "فتيةٌ" من المؤمنين بالله، من الذين يردون أن يصلوا إلى الله شهداء، أو منتصرين: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} (التوبة/52) . الشهادة أو النصر.. كان "فتية" يملأ قلوبهم "لا إله إلا الله محمد رسول الله" يقاتلون في أرض فلسطين، وما كانوا يزيدون في أي معركة عن مائة، ولكنهم كانوا يقاتلون بقوة الإسلام، بقوة الإيمان، القوة التي لا تغلب، فما إن عركهم اليهود وعركوهم في معركة أو معركتين، حتى صاروا إذا سمعوا صيحة "الله أكبر ولله الحمد" يفرون من مستعمراتهم، تاركين أسلحتهم وذخائرهم لينجوا بجلودهم، عند ذلك تقرر أنه لا يمكن للدولة الوليدة أن تعيش إلا إذا قضى على هؤلاء "الفتية" المقاتلين. وكان تخطيط عالمي اشتركت فيه كل قوى الشر العالمية للقضاء على هذه "الحفنة" من المؤمنين لكي تستقر الدولة في مأمنها، لكي لا يزعجها "لا إله إلا الله محمد رسول الله". وقوتلت تلك "الفئة" من الشباب، وحوربت، واضطهدت، وعذبت.. عُذبت عذاباً لا مثيل له في التاريخ إلا محاكم التفتيش في الأندلس، وما كان يقصد بمحاكم التفتيش في الأندلس إلا القضاء على الإسلام والمسلمين في تلك البلاد، لم تكن مجرد حرب، لم يكن مجرد اضطهاد، إنما هو تعذيب منظم للإبادة، ولكن قدر الله شيء، وما يقدره البشر شيء آخر، قدر البشر أن تفنى هذه الحفنة من "الفتية" المؤمنين، أن ينتهي الإسلام من الأرض لتستقر تلك الدولة، ولتستقر قلوب الصليبية الحاقدة، لتسقط الثمرة التي طالما اشتهوها، وظنوا أنها طابت واستوت، وأنها واقعة في أيديهم لا محالة، قدَّروا ذلك، وقدَّر الله أن يقوم بعث إسلامي في كل بلاد العالم الإسلامي، قدَّر الله أن ينشأ جيل جديد من الشباب يقول "لا إله إلا الله" لا يقولها بلسانه فقط، إنما يقولها بلسانه وقلبه، يعيشها.. يريد الإسلام واقعاً يُعَايَش، لا يريده كلمات جوفاء، لا يريده شعارات، لا يريده أفكاراً موضوعة في كتب.. سواء كانت تلك الكتب صحيحة التصوير للإسلام أم فاسدة التصوير.. إنها في حالتيها لا تصلح، الكتب وحدها لا تصلح الشعارات وحدها لا تصلح الأفكار الجامدة الميتة لا تصلح، إنما يصلح "لا إله إلا الله محمد رسول الله" عقيدة حية تملأ القلب، تشكل السلوك، تغير الواقع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 ومشيئة الله الغالية، الله الذي أنزل هذا الدين ليبقى إلى يوم القيامة وليظهره على الدين كله، وحفظ كتابه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر/9) ، حفظ سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، حيث لم تحفظ سيرة ولا سنة لنبي من قبل إلا ما حفظه القرآن من سير الأنبياء السابقين، هذا الدين الذي أنزله الله ليبقى لن يمحى من الأرض بإذن الله، فيقيِّض الله له بقدر منه جنوداً يحمونه، ولابد من هؤلاء الجنود، يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} (الأنفال/62) . ولقد كان يكفي لعقولنا نحن أن يقول الله سبحانه وتعالى: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ} فماذا بعد نصر الله؟!! ولكن الله يلفتنا إلى سنة من سننه: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} ، لابد أن يكون هناك مؤمنون في الأرض يكونون جنوداً، يكونون ستاراً لقدر الله، يُجري الله قدره، ولكن من خلال هذا الستار البشري جنود مؤمنون، يعيشون "لا إله إلا الله محمد رسول الله" يعيشونها واقعاً حياً، يسلكون بها سلوكهم الواقعي، فينصر الله بهم هذا الدين. إن الواقع الذي عشناه في نهاية القرن الرابع عشر، ودخلنا به مستهل القرن الخامس عشر هو هذا الواقع الذي وصفته لكم. الصليبية والصهيونية جاثمتان على أرض الإسلام، تمتهنان كل كرامة في الأرض الإسلامية، يسلبون المسلمين أرضهم وديارهم وأموالهم، ينتهكون أعراضهم، ينتهكون قلوبهم وأرواحهم بالغزو الفكري، يضعون في تلك القلوب أفكاراً غير إسلامية وسلوكاً غير إسلامي، واتجاهات غير إسلامية، وفي ذات الوقت بعث إسلامي جديد يملأ قلوب حفنة من الشباب، قليلون هم: نعم بالنسبة لتعداد المسلمين، ولكنهم هم الأمل، هم البشير الذي نستبشر به بالنسبة للقرن الخامس عشر وما يتلوه إن شاء الله من القرون. قلت في مستهل كلامي: إن الاستبشار، إن الأماني الخاوية لا تغير شيئا، ولا يغير الله بها شيئا في الواقع، إنما يغير الله حين يغير الناس ما بأنفسهم:- {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (الرعد/11) . فهل حدث التغيير؟ نعم لقد بدأ يحدث، بدأ منذ نهاية القرن الرابع عشر وندخل القرن الخامس عشر وهذا التغيير قائم في قلوب تلك الفئة من الشباب، إن تكن قليلة اليوم بالنسبة لتعداد العالم الإسلامي: الألف مليون.. الذين تحدث عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في لمحة من لمحات الوحي فقال: " يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فقال قائل: أمن قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير. ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن، قيل وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت" 1. هذه الألف مليون من البشر التي تعمر الأرض الإسلامية غثاء كغثاء السيل، لا يقام له وزن، تقضى الأمور وهو غائب. كما كان الشاعر العربي القديم يقول عن قبيلة "تيم": ويقضي الأمر حين تغيب تيم ... ولا يستأذنون وهم شهود كذلك الحال مع هذا الغثاء الذي يملأ الأرض الإسلامية. ولكن يشاء الله أنه من وسط هذا الغثاء يبرز هذا الجيل الذي نستبشر به ونرجو من الله على يديه الخير، جيلٌ يرجع إلى أصول الإسلام الصحيحة من كتاب الله، وسنة رسوله، وسيرة السلف الصالح، يريد الإسلام واقعاً حقيقياً خالياً من الغبش، لا يريده شعارات. لا يريده ألفاظاً، لا يريده أفكاراً جامدة، إنما يريده واقعاً حياً مأخوذاً من النبع الصافي: من كتاب الله وسنة رسوله، ومقتدى فيه بالسلف الصالح الذي كان يعيش الإسلام حقاً، ويدرك معانيه حقاً، ويطبقه في واقع حياته حقاً. هذا هو البشير الذي نستبشر به بالنسبة للقرن الخامس عشر. وما نقول أبداً إن الظلمات قد انتهت وإن المشكلات قد ذهبت، ولا إن الأعداء قد تركوا عداءهم لهذا الدين. كيف والله تعالى هو الذي يقول: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} (البقرة/217) . إن أعداء الله الذين ذكرهم الله في كتابه المنزل، إنهم فئات أربع: اليهود، والنصارى، والمنافقون، والمشركون. هؤلاء هم أعداء "لا إله إلا الله" وهؤلاء هم الذين لم يكفوا أبداً عن عدائهم للإسلام، قال تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُم} (البقرة/120) . وقال عن المشركين عامة: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} (البقرة/217) ، ومصداق ذلك هو الواقع الذي نعيشه، بل مصادقة الأربع عشر قرناً التي عاشها الإسلام في الأرض، ولكن هذا القرن بصفة خاصة -أقصد القرن الرابع عشر- كان مصداقاً لتلك العداوات: اليهود والنصارى في كل بلاد الأرض، المنافقون، المشركون وهم اليوم فئات كثيرة أبرزهم الشيوعيون والملحدون الذين يعادون هذا الدين عداوة لا هوادة فيها.. والذين يتحالفون مع المعسكر الغربي حين يبرز الإسلام وينسون عداوتهم معه فهم في حرب دائمة مع أوربا وأمريكا إلا حين تكون القضية قضية الإسلام فيتحالف الأمريكان والروس كما تحالفوا في تقسيم "باكستان" إلى شرقية وغربية، وكما تحالفوا في أفغانستان. ونفذها الشيوعيون كانت برضاً من المعسكر   1 الحديث عن ثوبان رضي الله عنه. أخرجه أبو داود في الملاحم، ورواه أحمد في مسنده بسند قوي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 الغربي، وإن كان المعسكر الغربي يتصايح بين الحين والحين.. إنه صياحٌ يشجع القاتل على ذبح الفريسة.. إنك إذا وجدت رجلاً يمسك بالسكين ليقتل إنساناً ثم وقفت من بعيد تصيح به "عيب يا شيخ ماذا تصنع؟! " فأنت في الواقع تشجعه على أن يتم جريمته.. وهذا هو الذي حدث من أمريكا بالنسبة للشيوعيين.. هم الذين هيأوا لروسيا أن تغزوا أفغانستان. نعم إن الشيوعية لها حقدها الخاص وهو أشج الحقد.. ولكنهم يتآزرون جميعا على حرب الإسلام. ما من قضية يبرز فيها الإسلام إلاَّ وتتكالب كل دول العالم؛ اليهود والنصارى، والمنافقون والمشركون.. كلهم في أرجاء الأرض يتكالبون للقضاء على الإسلام والمسلمين، وإن استبشاري الذي أعبر عنه إنني لا أغفل عن الواقع الموجود، لا أغفل عن الظلام الذي يكتنف المسلمين.. لا أغفل عن المذابح التي تقع في كل أرض الإسلام والمسلمين.. لا أغفل عن مذابح سوريا أو مذابح أفغنستان.. أو مذابح الفلبين.. أو مذابح تشاد.. أو مذابح أوغندا.. وكل بلد من بلاد المسلمين تقع فيه المذابح.. إلاَّ من رحم ربك. لا أغفل عن ذلك الواقع ولا أغمض عيني عن الظلام الكائن اليوم.. ولكني فقط أقول.. أن هناك فارقاً بين بداية القرن الرابع عشر وبداية القرن الخامس عشر. لقد استعرضنا معاً أهم الأحداث أو أكبر الأحداث في القرن الرابع عشر.. فكيف كان حال المسلمين حين وقعت تلك الأحداث؟ كانوا في يأس حين زالت دولة الخلافة.. يئسوا.. قنطوا.. شردوا من الإسلام.. انسلخوا منه.. ذهبوا وراء أوربا شرقها وغربها.. ظنوا أن طريق الخلاص هو أن يتبعوا أعداءهم ... حتى إن دخلوا جحر ضَبٍّ دخلوه. نبذت أوربا دينها فانسلخ المسلمون من دينهم.. عرَّت أوربا نساءها فعرى المسلمون نساءهم وأخرجوهن في الشوارع والشواطئ عاريات.. قالت أوربا أن التقدم يقتضي القضاء على الدين لأنه خرافة.. فقال المسلمون أو من يحملون أسماءً مسلمة.. إنه لا بد لنا لكي نتقدم أن نقضي على الغيبيات.. أن نقضي على الخرافات لكي نتقدم!!! قالت أوربا إن التقدم هو المصانع.. وهذا التقدم المادي.. وهو التكنولوجيا.. بعيداً عن عالم الروح.. بعيداً عن الدين.. بعيداً عن الله.. بعيداً عن اليوم الآخر.. فقام مسلمون أو من يتسمون بأسماء المسلمين يقولون هلم ننشئ المصانع.. هلم نتعلم التكنولوجيا ولكن على أساس قتل الدين وإزالة الغيبيات من النفوس. وذلك كان القرن الماضي.. واليوم تقع الأحداث في العالم الإسلامي وستستمر لأن العداوات المتأصلة ما زالت متأصلة. ولأن القوة الإسلامية لم تنمُ بعد إلى الحد الذي تصد فيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 العدوان الصليبي والصهيوني والشيوعي والإلحادي.. ولكن الفارق هو أن موجة الانسلاخ من الإسلام كانت هي عنوان القرن الرابع عشر، وموجة العودة إلى الإسلام هي عنوان هذا القرن والقرون التالية بإذن الله. إني أستبشر بمستقبل الإسلام لأمرين كبيرين.. الأمر الأول هو الذي شرحته.. قيام حركات البعث الإسلامي في كل مكان في الأرض الإسلامية.. العودة إلى الإسلام، الرغبة في تطبيق الإسلام بصفائه، بنقائه، بحيويته، بحركيته، بواقعيته. والأمر الثاني الذي يبعث الاستبشار في نفسي -لا مجرد أماني ولكن قراءة للواقع، وقراءة له على ضوء السنن الربانية.. هذا الأمر هو أن الحضارة الأوربية آخذة في الانهيار. ويتبادر إلى الذهن هذا السؤال: ما علاقة هذه البشرى أو هذا الاستبشار بانهيار الحضارة الغربية؟.. نعم: لقد كان أشد ما فتن المسلمين عن دينهم في القرن الماضي بصفة خاصة هو هذه الحضارة الغربية.. وذلك لأن قوماً من المسلمين من المسلمين أو ممن يحملون أسماء مسلمة قالوا لأنفسهم، هذه أوربا بلا دين وهي قوية ممكنة في الأرض، ونحن مسلمون ومع ذلك فنحن جهلاء، ونحن ضعاف ونحن متخلفون، فما قيمة الدين إذن؟! فلننبذه ولنصنع كما صنعت أوربا. تلك المعادلة الخاطئة غير المستبصرة كانت سبباً في فتنة الشباب المسلم في القرن الماضي. لقد شهدوا جزءًا من سنة الله ولم يدركوا بقية السنة ولم يدركوا الحكمة لقد وجدوا أوربا الكافرة ممكنة في الأرض.. نعم.. ولكن ذلك لا يخالف سنن الله، وحاشا لشيء يقع في الأرض أو في الكون كله أن يكون مخالفاً لسنن الله.. لقد نسي أولئك الذين فتنوا بأوربا.. بل لم يتدبروا أصلاً قرآنهم الذي بين أيديهم: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (محمد/24) . يقول الله موضحاً ومبيناً ما يقع في أوربا اليوم وما وقع في أمم سلفت من الجاهليات القديمة.. يقول سبحانه وتعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} (الأنعام/44) . نعم: هذه هي السنة الربانية، نسيت أوربا ما ذكرت به، نسيت إلهها نسيت الآخرة، وانحصرت في الحياة الدنيا، وعلى مستوى من أحط المستويات من الحرص على الحياة الدنيا ومتاعها الرخيص. فماذا فعل الله بهم؟.. فتح عليهم أبواب كل شيء.. أبواب القوة السياسية.. أبواب العلم.. أبواب التكنولوجيا أبواب القوة الحربية.. أبواب القوة الاقتصادية.. كل أبواب القوة.. انظر إلى العبارة " {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} . نعم. هذا جزء من السنة الربانية.. ولكن المتدبر لكتاب الله يعرف النهاية المحتومة لهؤلاء القوم: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} (الأنعام/44) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 لقد بدأت السنة تتحقق، بدأ هذا الكيان الشامخ المخيف يتزلزل. القوة المادية ما تزال في أيديهم.. نعم.. ولكن كتابهم ومفكريهم وفلسفاتهم هم الذين يقولون إن هذه الحضارة آيلة إلى السقوط.. آخذة في الانحدار لخلوها مما يسمونه هم "القيم الروحية"، ومما يسميه الله سبحانه وتعالى "لا إله إلا الله محمد رسول الله". هذا البناء الشامخ المخيف الذي أزاغ قلوب المسلمين في القرن الماضي يبدأ اليوم يتزلزل. ولو قلت للناس قبل عشرات السنوات إن الحضارة الأوربية آخذة في الانهيار ما صدقوك. لكنهم اليوم والحمد لله يصدقون لأن أوربا تقول هذا من نفسها.. تقول: إنه ما لم يتغير واقع الحياة الأوربية.. ما لم يعودوا إلى القيم الروحية.. فإنهم صائرون إلى الانهيار. ماذا يهمنا نحن من انهيار أوربا؟ أنشمت فيهم؟ كلا: لا شماتة. ليست القضية قضية شماتة.. إنما هي إرادة الخير للبشرية كلها.. وأوربا من بينها.. إن أوربا حين مُكنت فُتنت.. وزادت جحوداً، وزادت بعداً عن الله.. ولن تعود إلى الله أبداً إلا بقارعة.. لن تعود حتى يهتز كيانها اهتزازاً لن تعود حتى تحس أن بنيانها يتقوض.. عندئذ إذا قدر الله لها.. تعود إلى الله.. فيغير الله لها حين تغير ما بأنفسها. ولقد بدأوا يحسون. فبدأ أفراد منهم يدخلون في دين الله، ولكنا نطمع غداً -لا أن يدخلوا في دين الله أفراداً- إنما يدخلوا في دين الله أفواجاً. أرأيتم ما الذي يمنعهم اليوم من الإسلام؟؟ إنهم حائرون إن القلق والحيرة والضياع تملأ عليهم حياتهم، فتضيق بهم الأرض.. وتضيق قلوبهم بهم فينتحرون، ويصيبهم الجنون والقلق والأمراض العصبية والأمراض النفسية. ويفرون يريدون العلاج.. يبحثون عن الطريق.. يدخل بعضهم في "البوذية" يظنون أنها هي الطريق. يدخل بعضهم في "الهندوكية" يظنون أنها هي الطريق. بعضهم يدخل في عبادة "كريشنا" وهي إحدى العبادات الجاهلية القديمة التي تعاد إلى الحياة اليوم في أوربا وأمريكا.. ويدخل فريق منهم في الإسلام. لماذا لا يدخلون كلهم في الإسلام؟! أولئك الباحثون عن الطريق. وهل الطريق إلاَّ الإسلام؟! تعلمون ما الذي يصدهم؟ إنما يصدهم واقع المسلمين.. يسمعون كلاماً طيباً عن الإسلام، في الدعوة، في الكتب في المحاضرات.. في البحوث التي تلقى عليهم.. ثم يقولون للدعاة، إذا كان الإسلام بهذا الشكل فلماذا كانت حياتكم أنتم نقيضاً لما تقولون؟ من أجل ذلك قال الله سبحانه وتعالى وهو يعلم المؤمنين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} (الصف/2-3) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 ولكن الجيل الجديد الثابت في رحاب الإسلام.. الذي نستبشر به للغد في العالم الإسلامي.. نستبشر به أيضاً لمستقبل البشرية. أن الحائرين الضالين الذين يلدغهم الضياع فيبحثون عن الطريق سيجدون الطريق غداً.. حين يجدونه في واقع سلوكي مطبق.. حين يجدون مجتمعاً إسلامياً.. يعيش الإسلام حقاً.. يعيش "لا إله إلا الله محمد رسول الله" مع بقية أركان الإسلام.. عندئذ فإن الجادين في البحث عن الطريق سيجدون الطريق أمامهم. وسيدخلون في دين الله أفواجاً. متى يحدث ذلك؟؟.. ذلك غيب.. ولكنا نرى بشائره منذ اليوم.. ثن نستبشر ونختم حديثنا اليوم بهذه البشرى التي جاءت على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يتحدث بلسان الوحي: "لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر فيقول الحجر والشجر يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود" (م ـ عن أبي هريرة) . وفي إحدى روايات الحديث.. رواية عجيبة، بالنسبة لنا.. ولا عجب في الوحي.. في إحدى روايات الحديث "أنتم شرقي الأردن وهم غربيه".. فيتحدد مكان المعركة بالضبط.. المعركة التي نتهيأ بوادرها اليوم.. وقال واحد من الصحابة "ما كنا ندري م الأردن حتى سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هذا الحديث". إنها لبشريات.. وما أقول أبداً إن الواقع الحالي مشرق مريح للأعصاب.. بل أقول: إنه يكتنفه الظلام.. تكتنفه العقبات.. تكتنفه المشقات.. تكتنفه المشانق المعلقة للمؤمنين في كل مكان في الأرض.. نعم ولكن البشرى غالبة بإذن الله.. إني أمد بصري إلى القرن القادم وقرون تالية بإذن الله.. فأرى أن هذا البشير الذي ولد في نهاية القرن الماضي سيكبر بإذن الله.. يترعرع كما وصف الله المؤمنين. {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} (الفتح/29) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 يترعرع هذا الجيل بإذن الله.. ويمتد هذا الخط على الأفق.. فيلتقي بخط انهيار الحضارة المادية الكافرة فيكون النصر المؤزر بإذن الله.. وتكون جولة جديدة للإسلام.. يدخل فيها الناس في دين الله أفواجاً وتقوم المعركة الكبرى بين الإسلام وبين أكبر أعدائه.. بين المسلمين وبين اليهود.. فينتصر المسلمون بعون الله.. وتكتب صفحة جديدة للإسلام. ذلك ما خطر في نفسي من خواطر في مستهل القرن الخامس عشر أحببت أن أشرككم فيها.. أحببت أن تشاركوني استبشاري بهذا القرن.. لا على أنها مجرد أماني.. ولكن على رصيد من الواقع بإذن الله. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110