الكتاب: تحذير أهل الأيمان عن الحكم بغير ما أنزل الرحمن المؤلف: أبو هبة الله إسماعيل بن إبراهيم الخطيب الحسني الإسعردي الأزهري السلفي الناشر: الجامعة الإسلامية، المدينة المنورة الطبعة: الثالثة، 1407هـ عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- تحذير أهل الأيمان عن الحكم بغير ما أنزل الرحمن الإسعردي، إٍسماعيل الكتاب: تحذير أهل الأيمان عن الحكم بغير ما أنزل الرحمن المؤلف: أبو هبة الله إسماعيل بن إبراهيم الخطيب الحسني الإسعردي الأزهري السلفي الناشر: الجامعة الإسلامية، المدينة المنورة الطبعة: الثالثة، 1407هـ عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] تحذير أهل الإيمان عن حكم بغير ما أنزل الرحمن تأليف: أبي هبة الله إسماعيل بن إبراهيم الخطيب الحسني الأسعردي الأزهري السلفي مقدمة الحمد لله الذي بفضله أكمل لنا الدين، وأتم علينا برحمته النعمة ببعثة النبي الأمين الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، صلى الله وسلم عليه وعلى أصحابه أولى النهى وأقمار الدجى، ومن سار على نهجه واقتفى أثره. وبعد فقد وقعت بيدي هذه الرسالة المباركة العظيمة النفع في بابها، ورغم أنها صغيرة الحجم فهي فريدة غالية تشع بنور الإيمان والحكمة، لأن أدلتها من الكتاب والسنة، فساهمت في نشرها رجاء أن ينفع الله بها في هذا الزمن الذي اختلط فيه الحابل بالنابل، وانتشرت فيه الفوضى والعبث في كثير من الأقطار، وأصبح الناهي لهم عن الوقوع في متاهات الضلالة، كمن ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء، فهم صم عن سماع داعي الهدى، عمي عن السير وراء من. يحمل مشعل النور. ويهرعون كالخفاش وراء داعي الردى، قد استولى عليهم الشيطان الغرور، وزين لهم عملهم الذي سيجنون من ورائه الويل والخيبة والثبور، قد هجروا القرآن ودراسته، فحرموا الأمن والاستقرار، وحصلوا على الخيبة والدمار، ويوم القيامة سيعضون على أيديهم حيث جانبوا سبيل الرشاد واقتفوا سبل دعاة الباطل الكفرة وأذنابهم في تعلمهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 وثقافتهم دعاة الفساد، فيا ويلهم ثم ويلهم حين السؤال، من الملك. الكبير المتعال، ويا خيبتهم حين الورود على الحوض فيذدادون عنه كما تذداد الضوال، وما ذاك إلا لميلهم عن الحق، وتضليلهم لغيرهم من الخلق. فهل من يسمع لدعوة هذا المؤلف الذي أبدى نصحه. وبذل وسعه، بأسلوب الداعي الحكيم والمزلي الرحيم. وهل يهب زعيم مخلص لله ناصح ملالة فيقودها إلى ساحات النجاة قبل الفوات: هذا ما نرجوه من الرب العظيم. وعليه المعول، وهو حسبنا ونعم الوكيل. الناشر علي الحمد الصالحي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 تحذير أهل الإيمان عن الحكم بغير ما أنزل الرحمن بسم الله الرحمن االرحيم الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق المبين، والحبل المديد المتين، الذي من اعتصم به فقد تمسك بالعروة الوثقى. وكان من الناجين، ومن أعرض عنه ولم يرفع له رأسا فقد خاب وخسر ذلك الأبعد الأشقى. وكان من النادمين الندامة الكبرى. الداعين على أنفسهم بالويل والثبور حيث لا ينفع ندم ولا أنين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي جاءنا من ربه بتلك الشريعة الوافية. الكافية الشافية. الناجعة النافعة، الجامعة المانعة. المغنية الغنى التام عن جميع الشرائع والقوانين، وعلى آله وأصحابه. وأحبابه وأحزابه. الذين جاهدوا والذين يجاهدون في نصر دين الله. وإعلاء كلمة الله. جميع المعارضين والمضادين، من المشركين والمارقين المنافقين المعاندين المعادين، المحادين المشاقين، لله ولرسوله الصادق المصدوق الأمين. بيان أعظم أسباب التأخر والتقهقر: أما بعد فأني أرى أن الجهل قد عم الحاضر والبادي، وخيم بأطنابه على القاصي والداني، وعلم الكتاب والسنة. الذي هو من كل شر جنة. مع أنه المنار الذي يهتدي به المجدون ويسترشد به المسترشدون. ومن لا نصيب له وافر منه فهو راكب متن عمياء، وخابط خبط عشواء. وهو إلى الضلال أقرب منه إلى الهدى، وإلى الردى، أقرب منه إلى السلامة والنجاة، قد خبت ناره. وولت الأدبار أنصاره ورأوا شيئا هينا أو فريا. واتخذوه وراءهم ظهريا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 قد أهملوه وضيعوه وهجروه هجر القلى وقطعوه وأولعوا بعلوم لا تسمن ولا تغنى من جوع ولا تنقع للظمآن لهاة واكبوا عليها إكباب المقامر على ملهاه. ووقفوا أعمارهم العزيزة على نحو كتب الفلاسفة وكتب القيل والقال. وفضول العلوم التي لا تأتي بطائل ونوال. لا في دين ولا في دنيا أصلا وقطعا. وهم مع هذا يحسبون أنهم يحسنون صنعا، فهم ولا شك من الأخسرين أعمالا. الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا، فلذلك أظلمت منهم القلوب والبصائر. وعميت منهم السرائر. فلا يتنبهون للخطوب التي تحل بهم وإن تنبهوا فقلما تجد فيهم من يفدى نفسه في سبيل دفع ذلك الملم المدلهم. فكل يقول أنا مالي. حسبي مراقبة حالي والدين له رب يحميه. يحوطه ويعليه. وهذه كلمة حق أريد بها باطل أفما قرأ عمره القرآن هذا القائل. فيرى أمر ربه بالدفاع عن دينه وشرعته، وبذل الجهد المستطاع في إعلاء كلمته. نعم قال عبد المطلب البيت له رب يحميه. لما لم يجد عنده من الأسباب الظاهرة ما يقاوم به أبرهة والفيلة ويكفيه. فالتجأ في المعنى إلى ربه. واظهر له عجزه عن ذبه، حتى كان ما كان. أما والإنسان يتمكن من نصر الحق أدنى تمكن ولو بالبيان بالقلم أو اللسان. فلا يسوغ له التأخر عن ذلك كيفما كان. لماذا إذا اهتضم في شيء من حقوقه يسعى أقصى جهده ويبذل غاية وسعه في الحصول على مطلوبه. ويدأب الليل والنهار ويتوسل بكل الوسائل حتى البعيدة المتوهمة للوصول إلى مرغوبه. ما ذاك إلا لنقص وضعف في الإيمان. وانحطاط في الهداية والعرفان. فلا يتألم أدنى تألم إذا أصيب بأكبر شيء في دين الله. ويتألم أشد التألم إذا أصيب بأحقر شيء في دنياه. فهؤلاء هم كما قال القائل لابنه كما أنشده في المدخل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 ابني إن من الرجال بهيمة ... في صورة الرجال السميع المبصر فطن بكل مصيبة في ماله ... فإذا أصيب بدينه لم يشعر هذا حال أغلب خواصنا إلا القليل الذي وفقه الله وقليل ما هم. فما بالك بعوامنا فغم كما قال القائل: لم يبق من جل هذا الناس باقية ... ينالها الوهم إلا هذه الصور وكما قال الثاني: واعلم بأن عصبة الجهال ... بهائم في صور الرجال وكما قال الثالث: لاتخدعنك اللحى ولا الصور ... تسعة أعشار من ترق بقر تراهم كالسحاب منتشرا ... وليس فيه لطالب مطر في شجر السرو منهم منتشرا ... شبه له رواء وما له ثمر وكما قال الرابع: لا بأس بالقوم من طول ومن غلظ ... جسم البغال وأحلام العصافير وأحسن من هذا كله قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ} فلذلك ترى غالب الناس اليوم إلى أوضاع القوانين البشرية الشيطانية أميل وأطوع منهم إلى أوضاع القانون الإلهي. والوحي السماوي. وترى المتشدقين المتحذلقين الذين يزعمون أنهم يريدون ترقية الأمة ولم شعثها. وضم شملها، بأفكارهم الفاسدة، وآرائهم الكاسدة، وسياساتهم المخالفة المنابذة لسياسات الشريعة الحقة الصادقة. لا يقومون مقاما ولا يجلسون مجلسا إلا حثوا فيه الناس أتباع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 كل صادق وناعق الذين يميلون مع كل ريح ولم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجأوا إلى ركن وثيق على ما يتمكنون به من مقتضيات أهوائهم النفسانية ومشتهيات أطباعهم البهيمية الشيطانية. من قوانين أهل الكفر والصليب والتشبه بهم في الأفعال والأقوال، فترى لذلك قلوب الناس من قريب وبعيد وحاضر وباد إلا من عصمه الله من الأفراد متمالئة على قبولها غير مكترثين بالقانون الذي نزل من عند الله. وبينه لنا رسول الله المعصوم الصادق المصدوق الذي ما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى صلى الله عليه وسلم حتى جعلوا التحاكم إليها والتعويل في الأحكام عليها لو جعلوا لهم محاكم سموها بأسماء ليست من حقيقتها في شيء بل هي معها على طرفي نقيض. فسموا شرعية، وعدلية، وحقوقية وغير ذلك من الأسماء التي لا حقيقة لها بل هي الغول أو العنقاء، فالشرعية في الحقيقة هي الخدعية. والعدلية هي العدلية لكن عن نهج الشريعة المحمدية، والحقوقية هي الحقوقية لكن بمعنى كونها محل ضياع الحقوق الخالقية والمخلوقية. قد نسوا القرآن وأطرحوه خلف ظهورهم بالكلية، واعتاضوا عنه بقوانين الكفار وآراء ابتدعوها تقولا على الشريعة الغراء الأحمدية، ولم يرضوا بحكم الله ورسوله فيهم ورضوا بأحكام الكفار وآرائهم. فتعسا لها من عقول، لا تشترى ولا بالبقول، وهم مع هذا يزعمون أنهم من العقل على جانب عظيم، لا يلحقهم فيه الحديث ولا القديم، وليت شعري أي عقل يكون لمن لا يرضى بحكم أحكيم الحاكمين وأعلم العالمين وأعدل العادلين ويرضى بحكم الجاهلين وأظلم الظالمين. وما أرى مثل هؤلاء القوم من ذوى الأبصار المطموسة والبصائر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 المعكوسة، إلا مثل الجعل يتأذى من رائحة المسك والورد الفواح ويحيا بالعذرة والغائط في المستراح فسحقا لأمثال هده العقول سحقا ومحقا لهن اللهم محقا. فلما تمادى بنا ذلك الحال، ومرت به علينا سنون وأحوال، حتى فتح الله تعالى لعباده باب حرية المقال، بعد ما قد كانوا ألجمهم الاستبداد المفرط بلجوم السكوت على مر الأحوال، وألقمهم حجر الصمت على ما هو أعيا من الداء العضال، غير أنه وقع الناس في اضطراب وارتباك وجدال وتفرق الناس فرقا مختلفة المسالك والمذاهب. وتحزبوا أحزابا غير مؤتلفة المشارب، وكان من تلك الفرق جمعية الاتحاد المحمدي المتجمعة لطلب العمل بالشرع الأحمدي، قوى الله عضدها، وأيد ساعدها، وأخذ بأيديها، وبدد شمل أعاديها، ألهمني الله تعالى أن أكتب نبذة شافية صدور الذين أوتوا العلم والذين يريدون أنهم بهدى ربهم يهتدون، على شريطة الاختصار في المقال حذرا من السآمة والملال وأبين اضطرار الناس إلى الشريعة جدا، وأجمع بعض الآيات الدالة على أغناء القرآن بالسنة النبوية المبينة عن جميع الشرائع السابقة والقوانين البشرية الشيطانية اللاحقة، ليكونوا على بصيرة من أمرهم، ويحذروا من كيد عدوهم ومكرهم. [فأقول] وأنا أبرأ إلى الله من القوة والحول. وأستغفره من زلل العقل والقوة. معلوم لكل من عنده أدنى مسكة من عقل أن الله سبحانه وتعالى لم يخلق هذا الخلق عبثا كما قال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} . وكما قال: {أَيَحْسَبُ الإنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدى} أي مهملا هملا لا يؤمر ولا ينهى كما قال الشافعي- أو لا يثاب ولا يعاقب كما قال غيره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 والقولان معناهما واحد لأن الثواب والعقاب غاية الأمر والنهي فهو سبحانه خلقهم للأمر والنهي في الدنيا والثواب والعقاب في الآخرة- وكما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} ولا فرق بين بلاد إبقاء العبادة على ظاهر معناها أو تفسيرها بالمعرفة كما يروى عن ابن عباس رضي الله عنهما، فإنهما متلازمان، فالمعرفة لا تكون بدون عبادة والعبادة لا تكون بدون معرفة، وأما ما يستدل به بعض من لا إلمام له بعلم الحديث مما يروى عن الله تبارك وتعالى أنه قال "كنت كنز لا أعرف فأحببت أن أعرف فخلقت خلقا فعرفتهم بي فعرفوني" فقد قال حفاظ الحديث ونقاده. أنه لا يعرف له سند صحيح ولا ضعيف. إذا تمهد هذا فنقول ليعلم أن حاجة الناس إلى الشريعة ضرورية جدا فوق حاجتهم إلى كل شيء ولا نسبة لحاجتهم إلى علم الطب إليها. ألا ترى أن أكثر العالم يعيشون بغير طبيب ولا يكون الطبيب في بعض المدن الجامعة وأما أهل البدو كلهم وأهل الكفور كلهم وعامة بني آدم فلا يحتاجون إلى طبيب وهم أصح أبدانا وأقوى طبيعة ممن هو متقيد بالطبيب ولعل أعذرهم متقاربة وقد فطر الله بني آدم على تناول ما ينفعهم واجتناب ما يضرهم وجعل لكل قوم عادة وعرفا في استخراج ما يهجم عليهم من الأدواء حتى أن كثيرا من أصول الطب إنما أخذت من عوائد الناس وعرفهم وتجاربهم. وأما الشريعة فمبناها على تعريف مواقع رضى الله وسخطه في حركات العباد الاختيارية. فمبناها على الوحي المحض. بخلاف الطب فمبناه على تعريف المنافع والمضار التي للبدن وعليه. مما قد لا تمس الحاجة إليه، وغاية ما يقدر في عدمه موت البدن وتعطل الروح عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 وأما ما يقدر عند عدم الشريعة ففساد الروح والقلب جملة وهلاك الأبد وشتان بين هذا وهلاك البدن بالموت فليس الناس قط إلى شيء أحوج منهم إلى معرفة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم والقيام به والدعوة إليه والصبر عليه وجهاد من خرج عنه حتى يرجع إليه وليس للعالم صلاح بدون ذلك البتة ولا سبيل إلى الوصول إلى السعادة والفوز الأكبر إلا بالعبور إلى هذا الجسر. ثم لفظ الشريعة يتكلم به كثير من الناس ولا يفرق بين الشرع المنزل من عند الله تعالى وهو الكتاب والسنة الذي بعث الله به رسوله فإن هذا الشرع ليس لأحد من الخلق كائنا من كان الخروج عنه ولا يخرج عنه إلا كافر، وبين الشرع الذي هو أقوال أئمة الفقه وآراؤهم التي أدى اجتهادهم ووصلت إليها أفهامهم كأبي حنيفة ومالك بن أنس والشافعي وأحمد بن حنبل وغلاتهم من الأئمة المجتهدين، رضي الله عنهم أجمعين. فهؤلاء أقولهم تعرض على الكتاب والسنة ويحتج لها بهما لما هو معلوم من حديث الحاكم والثابت أن طرق في الصحيح أن المجتهد يصيب ويخطئ فإن أصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر على اجتهاده والله يغفر له خطأه لكنه لا يتابع عليه. فما وافقهما أو كان أشبه بهما فهو الصواب وما خالفهما فهو خطأ لا يجوز لمن تبينه واطلع عليه متابعة من ذهب إليه. وإذا قلد المقلد أحدهم حيث يجوز له التقليد كان جائزا وليس إتباع أحدهم بعينه واجبا على جميع الأمة كإتباع الرسول صلى الله عليه وسلم. ولا يحرم تقليد أحدهم كما يحرم يحرم إتباع من يتكلم بغير علم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 وأما إن أضاف أحد إلى الشريعة ما ليس منها من أحاديث مفتراة أو تأويل النصوص بخلاف مراد الله ونحو ذلك فهذا من نوع التبديل فيجب الفرق بين الشرع المنزل، والشرع المؤول والشرع المبدل. ولأتحفك هنا بقاعدة عظيمة. وفائدة جسيمة. تتعرف فيها حال كل قول يرد عليك ينسب إلى الشرع. وهي أنه إما أن يكون هذا القول موافقا لقول الرسول أولا يكون. والثاني إما أن يكون موافقا لشرع من قبله وإما أن لا يكون. وهذا الثالث إن كان لا عن شبه دليل بل محض إتباع الهوى فهو المبدل كالأديان التي شرعها الشياطين على ألسنة أوليائهم. قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} وقال تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُم لَمُشْرِكُونَ} . وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} وإن كان عن شبه دليل فهو المؤول وفي هذا كان الصحابة رضي الله عنهم إذا قال أحدهم برأيه شيئا مما لم يجد فيه نص كتاب أو سنة عن النبي واضطر لمعرفة الحكم الذي يرضاه الله ورسوله يقول: "إن كان صوابا فمن الله وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان والله ورسوله برئ منه" كما قال ذلك ابن مسعود، وروى عن أبي بكر وعمر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 وما كان شرعا لغيره وهو لا يوافق شرعه فقد نسخ كالسبت، وتحريم كل ذي ظفر وشحم الثرب1 والكليتين، فإن اتخاذ السبت عيدا، وتحريم هذه الطيبات قد كان شرعا ثم نسخ. فالأقسام ثلاثة إجمالا، وأربعة تفصيلا فاحتفظ كل الاحتفاظ على هذه القاعدة تنفعك. ثم دين الأنبياء كلهم الإسلام كما أخبر الله بذلك عنهم في غير موضع من القرآن- وكما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنا معشر الأنبياء ديننا واحد" وهو الاستسلام لله وحده وذلك إنما يكون بطاعته فيما أمر به في ذلك الوقت فطاعة كل نبي هي من دين الإسلام إذ ذاك، فاستقبال صخرة بيت المقدس مثلا كان من دين الإسلام قبل النسخ، ثم لما أمر باستقبال الكعبة صار استقبالها من دين الإسلام ولم يبق استقبال الصخرة من دين الإسلام ولهذا خرج اليهود والنصارى عن دين الإسلام. فإنهم تركوا طاعة الله وتصديق رسوله واعتاضوا عن ذلك بمبدل أو منسوخ!. وبالجملة فدين الإسلام هو دين الأولين والآخرين من النبيين والمرسلين. وقوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخرة مِنَ الْخَاسِرِينَ} عام في كل زمان ومكان.   1 الثرب وزن فلس شحم رقيق على الكرش والأمعاء اهـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 فنوح وإبراهيم ويعقوب والأسباط وموسى وعيسى والحواريون كلهم دينهم الإسلام وهو عبادة الله وحده لا شريك له والاستسلام له ظاهرا وباطنا، وعدم الاستسلام لغيره كما قد بين ذلك عنهم القرآن فدينهم كلهم واحد وان تنوعت شرائعهم كما قال الله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} . وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} والله تبارك وتعالى قد بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بشرائع الإسلام الظاهرة وحقائق الإيمان الباطنة. ففي مسند أحمد عن أنس عن النبي صلى اله عليه وسلم أنه قال: "الإسلام علانية والإيمان في القلب". وفي البخاري أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن الإيمان والإسلام، والإحسان، فمن لم يقم بشرائع الإسلام الظاهرة امتنع أن يحصل له حقائق الإيمان الباطنة- ومن حصلت له حقائق الإيمان الباطنة فلابد أن يحصل له حقائق شرائع الإسلام الظاهرة، فإن القلب ملك والأعضاء جنوده، فمتى استقام الملك وصلح استقامت جنوده وصلحت كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد ألا وهي القلب". فإذا كان في القلب حقائق الإيمان الباطنة فقد صلح فلابد أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 يكون سائر جسده صالحا فإن لم يكن جسده صالحا امتنع أن يكون في باطنه حقائق الإيمان كإخلاص الدين لله وحبه وخشيته والتوكل علبه والإنابة إليه. وأصل الإيمان والتقوى، الإيمان برسل الله، وجماع ذلك الإيمان بخاتم الرسل سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فالإيمان به يتضمن الإيمان بجميع كتب الله ورسله. وأصل الكفر والنفاق، هو الكفر بالرسل وبما جاءوا به فإن هذا هو الكفر الذي يستحق صاحبه العذاب الأكبر في الآخرة. فإن الله تعالى أخبر في كتابه أنه لا يعذب أحدا إلا بعد بلوغ الرسالة. قال الله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} . وقال تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} وقال تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُل} وقال تعالى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ. وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} وقال تعالى في أهل النار: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} . وقال تعالى فيهم: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ} . فأخبر أنه كلما ألقى في النار فوج وسئلوا عن النذير أقروا بأنه جاءهم فكذبوه، فدل ذلك على أنه لا يلقى فيها إلا. من كذب النذير. وقال تعالى في خطابه لإبليس: {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} فأخبر أنه يملؤها بإبليس ومن تبعه فإذا ملئت بهم لم يدخلها غيرهم، فعلم أنه لا يدخل النار إلا من تبع الشيطان، وهذا يدل على أنه لا يدخلها من لا ذنب له فإن من لا يتبع الشيطان لا يكون مذنبا وما تقدم يدل على أنه لا يدخلها إلا من قامت عليه الحجة بالرسل، وهذا المعنى في القرآن كثير. وإذا أحطت علما بهذه المقدمات التي مهدناها لك علمت علم اليقين أن الاعتياض عن القانون السماوي الذي جاء به الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه وآله بالقانون الأرضي الإنساني الشيطاني الذي لا يخلو مهما توافقت عليه الآراء. وتطابقت عليه الأملا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 من غلط وخطأ لاسيما إذا كان ممن لا علم عندهم بمعاني كتاب الله وسنة نبيه الداعي على بصيرة إلى الله بل غاية أحدهم أن يكون قد تعلم بعض العلوم الآلية. وفضول العلوم التي قد لا يحتاج إليها في الدين بالكلية. هو من أعظم أسباب المقت والحرمان. وأكبر موجبات العقوبة والخذلان. كيف لا وهو اتخاذ لدين الله هزوا ولهوا ولعبا وتبديل لنعمة الله بالنقمة، وللشكران بالكفران، وشرع دين لم يأذن به الله وإتباع لغير سبيل المؤمنين ومشاقة ومحادة ومحاربة وخيانة لله ولرسوله. وعشو عن ذكر الرحمن وإعراض عنه. إلى غير ذلك من المفاسد والمحاذير التي لا تدخل تحت الحساب ولا تضبطها أقلام الكتاب. قال الله تعالى: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ} وقال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} وقال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} وقال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ} وقال تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيم} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 وقال تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} فإذا كان هذا حكم الباغين المحاربين الخارجين عن طاعة الإمام الذين شقوا عصا الجماعة، فما بالك بمن دعا الناس كافة عربا وعجما مؤمنهم وكافرهم إلى قانون اخترعه هو أو غيره من جنس الخيالات الباطلة فخرج هو وأخرج به عن طاعة الله وطاعة رسوله وحاربهما وحادهما وشاقهما بمخالفة أمرهما أليس هو أولى بذلك؟. بلى وربك فإنه رأس الفساد وأم الشرور والخبائث وما يعقله إلا العالمون. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} . وقال تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} فأخبر سبحانه أن من ابتلاه بقرينه من الشياطين وأضله به إنما كان بسبب إعراضه وعشوه عن ذلك الذي أنزله على رسوله فكان عقوبة هذا الإعراض أن قيض له شيطانا يقارنه فيصده عن سبيل ربه وطريق فلاحه وهو يحسب أنه مهتد حتى إذا وافى ربه يوم القيامة مع قرينه وعاين هلاكه وإفلاسه قال: {قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ} وكل من أعرض عن الاهتداء بالوحي الذي هو ذكر الله فلابد أن يقول هذا يوم القيامة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 (فإن قيل) : فهل لهذا عذر في ضلاله إذا كان يحسب أنه على هدى، كما قال تعالى: {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} (قيل) : لا عذر لهذا وأمثاله من الضلال الذين منشأ ضلالهم الإعراض عن الوحي الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ولو ظن أنه مهتد فإنه مفرط بإعراضه عن إتباع داعي الهدى، فإذا ضل أوتى من تفريطه وإعراضه. وهذا بخلاف من كان ضلاله لعدم بلوغ الرسالة وعجزه عن الوصول إليها فذاك له حكم آخر والوعيد في القرآن إنما يتناول الأول المعرض. وأما الثاني فإن الله لا يعذب أحدا إلا بعد قيام الحجة عليه كما قدمنا. وقال تعالى: {وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْراً خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلاً} . وقال تعالى: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً} وقال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي} أي لم يتبع الذكر الذي أنزلته وهو القرآن. وليس المعنى ومن أعرض عن أن يذكرني بل هذا لازم المعنى فالذكر هنا مضاف إضافة الأسماء لا إضافة المصادر إلى معمولاتها {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} . فأخبر سبحانه أن من أعرض عن ذكره وهوالهدى الذي من اتبعه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 لا يضل ولا يشقى، فإن له معيشة ضنكا عكس من حفظ عهده فإنه قد تكفل له أن يحييه حياة طيبة ويجزيه أجره في الآخرة بقوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ، وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} . وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُون} ، وقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} ، وقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} ، وقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} . وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً} . قال أهل التحقيق من أهل التفسير: "الطاغوت كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع، فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله أو يعبدونه من دون الله أو يتبعونه على غير بصيرة من الله أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة لله". قال المحقق ابن القيم في كتابه "أعلام الموقعين عن رب العالمين " بعد هذه العبارة: "فهذه طواغيت العالم إذا تأملتها وتأملت أحوال الناس معها رأيت أكثرهم منحرف عن عبادة الله إلى عبادة الطاغوت وعن طاعة الله ومتابعة رسوله إلى طاعة الطاغوت ومتابعة هؤلاء، انحراف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 لأنهم لم يسلكوا طريق الناجين الفائزين من هذه الأمة وهم الصحابة ومن تبعهم ولا قصدوا قصدهم بل خالفوهم في الطريق والقصد معا". ولقد صدق والله فيما نطق، هذا حال جلنا إن لم يكن كلنا فلا حول ولا قوة إلا بالله وإلى الله المشتكى من فساد قلوبنا ونياتنا وأحوالنا وأخلاقنا فقد بلغ الفساد بنا مبلغا لا يمكن أن ينهض بنا ناهض لشيء من معالي الأمور إلا من ساعدته يد التوفيق وما أقلهم بل هم أعزمن الكبريت الأحمر. ثم لو لم يكن في القرآن المجيد في الزجر عن اتباع القوانين البشرية غير هذه الآية الكريمة لكفت العاقل اللبيب الذي أوتي رشده وأهمه صلاح قلبه عن تطلب غيرها، فكيف والقرآن كله يدعو إلى تحكيم ما أنزل الله وعدم تحكيم ما عداه، إما تصريحا وإما تلويحا وله جاهد من جاهد ويجاهد من يجاهد من عباد الله المتقين من لدن بعث سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم إلى يوم تقوم الساعة وقد صح عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا خلاف من خالفهم حتى يأتي أمرالله" - وأنه قال: "لا تجتمع أمتي على ضلالة". فعلمنا بذلك أن من الممتنع بالسمع أن يتمالأ العالم كلهم شرقا وغربا من أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم على اتباع القوانين البشرية وعدم المبالاة بالقانون الإلهي بل لابد أن يكون فيهم ولو واحد ينكر على هؤلاء الكل إما بلسانه إن أمكنه ذلك ولم يفتكوا به وإما بقلبه إن لم يمكنه وظن الفتك به كما قد كان أيام الاستبداد. والغرض بيان أن طائفة الحق لا تزال تقاتل وتجاهد على تحكيم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 ما أنزل الله باللسان. والبيان. والبدن والسنان والمال وكل ممكن لنوع الإنسان وأن به يتم نظام العدل، والملك، والدين والدنيا وبه يستقيم أمر المعاش والمعاد وتكمل لهم الراحة والأمن والحرية التامة، والسياسة العامة لجميع الملل والرعايا المختلفة الأصناف والألسنة والأمزجة. ومن شك في هذا فلينظر الفرق بين حال الإسلام في هذه القرون المتأخرة التي عطلت فيها حدود الشريعة وأحكامه وحاله في القرون المتقدمة التي ما كانت على شيء أحفظ منها على أحكام الشريعة وأرعى لها، يجد الفرق كما بين الثرى والثريا، وكما بين الأرض والسماء، وكما قال الشاعر: نزلوا بمكة في قبائل هاشم ... ونزلت بالبيداء أبعد منزل ألا ترى أن الصحابة رضي الله عنهم بعد وفاة نبيهم صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فتحوا ما فتحوا من الأقاليم والبلدان. ونشروا الإسلام والإيمان والقرآن. في مدة نحو مائة سنة مع قلة عدد المسلمين وعددهم. وضيق ذات يدهم. ونحن مع كثرة عَددنا، ووفرة عُددنا. وهائل ثروتنا وطائل قوتنا لا نزداد إلا ضعفا وتقهقرا إلى وراء وذلا وحقارة في عيون الأعداء، وذلك لأن من لا ينصر دين الله لا ينصره. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} ، فرتب نصره على نصره بإقامة طاعته وطاعة رسوله ففُهم أنه لا ينصر من لا ينصره، وهو كذلك، كما جرت به عادته وسنته في عباده، والمفهوم المخالف وإن كان في حجيته خلاف مبين في أصول الفقه ليس هذا موضع بسطه، فهذا المفهوم لا خلاف لا صحته واعتماده لاعتضاده الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 بدلائل أخرى وشهادة الواقع له. وهذا كما قال تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيز} ، فأخبر تعالى بأنه ينصر من ينصر دينه. ثم بين تعالى الذين ينصرون دينه بقوله: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَر} . فمن لم يكن موصوفا بهذه الصفات الأربع ممن مكنه الله تعالى في الأرض فلاحظ له بنصرة الله تعالى. وقال تعالى لأهل بدر: {بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةُ مُسَوِّمِينَ} ، فعلق إمداده لهم على شيئين هما عماد النصر: الصبر وتقوى الله عز وجل. وقال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} فوعد ووعده حق بنصرة الرسل والمؤمنين في الدنيا والآخرة بالحجة والظفر والغلبة على مخالفيهم وأعاديهم- وهذا كقوله الآخر: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} فوعد بعلوهم على عدوهم في مقاوم الحجاج وملاحم القتال في الدنيا وعلوهم عليهم في الآخرة كما قال: {وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} . وقال تعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} ، فأخبر سبحانه عن نفسه أنه كتب وجعل الغلبة له ولرسله وأتباعهم. وقال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُور} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 فخص المؤمنين بدفاعه عنهم ونصره لهم، وجعل العلة في ذلك أنه لا يحب أضدادهم. فإذا كان قد كتبها له ولرسله وأتباعهم وأوليائهم وخصهم بالدفاع عنهم، وعلل ذلك بأنه لا يحب الخوان والكفور، وكان من المحال أن تكون الغلبة لأعدائه وأعداء رسله، وهم الخونة الذين يخونون الله والرسول ويخونون أماناتهم ويكفرون نعم الله عليهم ويغمطونها. ولا ينافي ذلك انهزامهم في بعض المشاهد وما جرى عليهم من القتل في بعض المغازي، فإن الغلبة كانت لهم ولمن بعدهم في العاقبة وكفى بمشاهد رسوله الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين مثلا يحتذى عليها وعبرا يعتبر بها. وعن الحسن رضي الله عنه: "ماغلب نبي في حرب ولا قتل فيها"، ولأن قاعدة أمرهم وأساسهم والغالب منه هو الظفر والنصرة وإن وقع في تضاعيف ذلك شوب من الابتلاء والمحنة لرفع درجاتهم، وزيادة أجورهم ومثوباتهم والحكم للغالب. وبالجملة فقد ضمن الله تبارك وتعالى لكل من نصر دينه المبين. وأطاع رسوله الأمين أن ينصره في الدنيا والآخرة فمن خذل دينه وخالف رسوله استحق أكبر العذاب وأشد النكال في الدارين ولم يغن عنه لا مال ولا أحد من الله فتيلا. ألا ترى أن أهل أُحد لما أمرهم رسوله الله صلى الله عليه وسلم أن يثبتوا في مكانهم عند الجبل ولا يزايلوه سواء كانت الدولة للمسلمين أوعليهم فلما أقبل المشركون جعل الرماة يرشقون خيلهم والباقون يضربونهم بالسيوف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 حتى انهزموا والمسلمون على آثارهم، يقتلونهم قتلا ذريعا فلما فشلوا وتنازعوا فقال بعضهم قد انهزم المشركون، فما موقفنا ههنا، وقال بعضهم: لا نخالف أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فثبت مكانه عبد الله بن جبير أمير الرماة في نفر دون العشرة ونفر ينهبون أعقابهم، كر عند ذلك المشركون على الرماة وقتلوا عبد الله بن جبير رضي الله عنه وأقبلوا على المسلمين وحالت الريح دبورا وكانت صباً حتى هزموا وقتل من قتل. وذلك كله بشؤم مخالفة بعضهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعصيانهم له. وذلك معنى قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ} . وألا ترى أن أهل المدينة كانوا في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي أفضل أهل الدنيا والآخرة لتمسكهم بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم ثم تغيروا بعض التغير فقتل عثمان، وخرجت الخلافة خلافة النبوة من عندهم وصاروا رعية لغيرهم، ثم تغيروا بعض التغير فجرى عليهم عام الحرة من النهب والقتل وغير ذلك من المصايب ما لم يجر عليهم قبل ذلك. والذي فعل بهم ذلك وإن كان ظالما متعديا فليس هو أظلم ممن فعل بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ما فعل. وقد قال الله تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} . وكذلك الشام كان أهله في أول الإسلام في سعادة الدنيا والدين ثم جرت فتن وخرج الملك من أيديهم ثم تسلط عليهم المنافقون الملاحدة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 والنصارى بذنوبهم واستولوا على بيت المقدس وقبر الخليل وفتحوا البناء الذي كان عليه وجعلوه كنيسة ثم صلح دينهم فأعزهم الله ونصرهم على عدوهم لما أطاعوا الله ورسوله واتبعوا ما أنزل إليهم من ربهم. وكذلك أهل الأندلس كانوا رقودا في ظلال الأمن وخفض العيش والدعة فغمطوا النعمة وقابلوها بالأشر والبطر فاشتغلوا بمعاصي الله تعالى وأكبوا على لهوهم ولم يتقوا مواقع سخط ربهم ومقته ففعل الله بهم ما لا يحصره قلم كاتب ولا يحصيه حساب حاسب بتسليط عدوهم عليهم حتى مزقهم الله كل ممزق وفرقهم أيادي سبأ وارتد بعضهم على عقبه ركونا إلى الدنيا الفانية والحظوظ العاجلة. ومن قرأ تاريخهم علم ما كان القوم عليه وما صاروا إليه. وفي التاريخ أكبر عبرة لمن اعتبر. دعك من هذا ولا أطول عليك المسافة ففي كتاب ربنا ما فيه غنية عن كل شيء يهم لمن تدبره وعقله وصرف فيه شطرا من عمره كما صرف في تلك العلوم التي لا طائل تحتها ولا محصل لها ولا تقوم على ساق. وسيرد عليك إن شاء الله. في هذا المعنى الذي حمنا حول جملة آيات متعددة فانتظر قليلا. والغرض المقصود لنا الآن هنا بيان أن الصلاح والنجاح والفوز والفلاح وسعادة الدين والدنيا معا منوط ومربوط بنصرة دين الله لا سبيل له غير ذلك أبدا، ولذلك قال سيدنا مالك بن أنس إمام دار الهجرة رضي الله عنه: "لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها" أوكما قال، والأمر والله كما قال، وشاهد العيان يغني من له عينان عن البيان. ثم لنذكر بعض الآيات الصريحة لمن له نظر. وفهم وتدبر في التحذير عن اتباع غير ما أنزل الله فنقول: قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ} فجعل ما خالف حكم الكتاب ضلالة. وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَأُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ} ، وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} . وقال تعالى: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} ، وقال تعالى: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ} . وقال تعالى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} فجعل الله تعالى في الآيتين المنزل هو الحق وإذا كان هو الحق لا غير، كان ما عداه هو الباطل بلا مرية. وقال تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} . فقسم الله تعالى الأمر إلى شيئين لا ثالث لهما:.إما الاستجابة لله والرسول وما جاء به وإما اتباع الهوى. فكل ما لم يأت به الرسول صلى الله عليه وسلم فهو من الهوى. وقال تعالى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} . فقسم سبحانه طريق الحكم بين الناس إلى الحق وهو الوحي الذي أنزله على رسوله، وإلى الهوى وهو ما خالفه. وقال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقّ} . قال الشافعي في الأم: "وأهواءهم يحتمل سبيلهم في أحكامهم ويحتمل ما يهوون، وأيهما كان فقد نهى عنه وأمر أن يحكم بينهم بما أنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم" اهـ. ثم قال سبحانه: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ. أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} . فأمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بالحكم بين أهل الكتاب بما أنزله الله عليه ونهاه عن اتباع أهوائهم لما فيه من مخالفة المنزل إليه وحذره أن يفتنوه فيحولوا بينه وبين بعض ما أنزله إليه، وأعلمه أنهم إن تولوا عن الحكم الذي أنزله الله إليه فإنما يريد أن يصيبهم ويبتليهم بسبب بعض ذنوبهم. فعلم منه أن التولي عن حكم الله وحكم رسوله إلى حكم الأهواء سبب لإصابة الله بالمصائب، وهذا كقوله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 يَرْجِعُونَ} . وقوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} وقوله تعالى: {فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا} . وقوله تعالى: {وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} وقوله تعالى: {فَكُلاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} وقوله تعالى: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ} وقوله تعالى: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِم} . وقوله تعالى: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَاراً} وقوله تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاََّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} . وقوله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 وأخرج الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه قال: "لما فتحت قبرس فرق بين أهلها فبكى بعضهم إلى بعض فرأيت أبا الدرداء جالسا وحده يبكي فقلت يا أبا الدرداء ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله فقال ويحك يا جبير ما أهون الخلق على الله عزوجل إذا أضاعوا أمره بينما هي أمة قاهرة ظاهرة لهم الملك تركوا أمر الله فصاروا إلى ما ترى". وأخرج عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عمر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إذا ضن الناس بالدينار والدرهم وتبايعوا بالعينة1 واتبعوا أذناب البقر وتركوا الجهاد في سبيل الله أنزل الله بهم بلاء فلا يرفعه عنهم حتى يراجعوا دينهم" ورواه أبو داود بإسناد حسن. وفي سنن ابن ماجه في باب العقوبات من حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب قال: أقبل علينا رسول صلى الله عليه وسلم بوجهه فقال: "يا معشر المهاجرين خمس إذا ابتليتم بهن، وأعوذ بالله أن تدركوهن لم تظهر الفاحشة في قوم حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا والمكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان عليهم. ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء فلولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم فأخذوا   1 هي أن يبيع من رجل سلعة بثمن معلوم إلى أجل مسمى ثم يشتريها منه نقدا بأقل من الثمن الذي باعها به. اهـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 بعض ما في أيديهم. وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم". وفي شرح الموطأ عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " خمس بخمس، ما نقض قوم العهد إلا سلط عليهم عدوهم، وما حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر. ولا ظهرت فيهم الفاحشة إلا فشا فيهم الموت. ولا طففوا المكيال إلا منعوا النبات وأخذوا بالسنين. ولا منعوا الزكاة إلا حبس عنهم القطر" قال: رواه ابن ماجه والطبراني، وله شاهد1 عن ابن عمر مرفوعا نحو عند ابن إسحق اهـ. وفي نهج البلاغة من كلام سيدنا علي كرم الله وجهه: لا يترك الناس شيئا من أمر دينهم لاستصلاح دنياهم إلا فتح الله عليهم ما هو أضرمنه. ومن كلام بعض السلف الصالح: "كلما أحدثتم ذنبا أحدث الله لكم من سلطانه عقوبة"- وفي المشهور على الألسنة الجاري مجرى المثل السائر قولهم: لو "استقمنا ما انتقمنا". وقال قائل: بذا قضى الله بين الخلق مذ خلقو ... إن المخاوف والإجرام في قرن ولهذا المعنى الذي ألممنا الآن بساحل بحره العميق شواهد من القرآن والسنة، وكلام السلف الصالح لا تحصى لو ذهبنا إلى تتبعها   1 أقوال لعله الذي نقلناه عن سنن ابن ماجه قبل اهـ مؤلفه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 واستقصائها لطال بنا الكلام. والقصد هنا بيان أن التولي عن حكم الله وحكم رسوله من أكبر الذنوب، وأنه سبب لانصباب المصايب وتتابع النوائب "فإن الجزاء يكون من جنس العمل فمن تولى عن حكم الله وحكم رسوله تولى الله ورسوله عنه. ومن تولى الله ورسوله عنه فهيهات أن يفلح ويعز. بل يتركه الله أذل وأحقر ما يكون" قال تعالى: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ} وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ} . وفي مسند أحمد من حديث ثوبان قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق كما تداعى الأكلة على قصعتها" قلنا يا رسول الله أمن قلة بنا يومئذ قال: "أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل تنزع المهابة من قلوب عدوكم ويجعل في قلوبكم الوهن" قالوا وما الوهن قال: "حب الحياة وكراهية الموت". فأخبر صلى الله عليه وآله وسلم أنه يوشك أن يتداعى عليكم من فرق الكفر وأمم الضلالة بعضهم بعضا ليقاتلوكم ويكسروا شوكتكم ويغلبوا على ما ملكتموه من الديار والأموال كما تتداعى الفئة الآكلة بعضهم بعضا على قصعتهم التي يتناولونها من غير بأس ولا مانع فيأكلونها عفوا صفوا فيستفرغون ما في صحفتكم من غير تعب ينالهم أو ضرر يلحقهم أو بأس يمنعهم- ثم لما سألوه عن سبب ذلك هل هو من. قلة عددهم أخبر بأنهم كثير ولكنهم غثاء كغثاء السيل الذي هو ما يجي فوق السيل مما يحتمله من البزورات والأوساخ لقلة نفعهم وغنائهم ودناءة أقدارهم. وخفة أحلامهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 ثم أخبر بأن الله ينزع المهابة من قلوب عدوهم ويجعل في قلوبهم الوهن، وبين لهم سببه بأنه حبهم البقاء في الدنيا وكراهتهم الموت- يدعوهم ذلك إلى إعطاء الدنية في الدين واحتمال الذل من العدو نسأل الله العافية فقد ابتلينا به وكنا نحن المعنيين بذلك [حكاية لطيفة] ساقها الإمام محمد بن قتيبة الدينوري في كتابه (تأويل مختلف الحديث) قال: وحدثني رجل من أصحاب الأخبار أن المنصور سمر ذات ليلة فذكر خلفاء بني أمية وسيرتهم وأنهم لم يزالوا على استقامة حتى أفضى أمرهم إلى أبنائهم المترفين فكان همهم من عظيم شأن الملك وجلالة قدره قصد الشهوات وإيثار اللذات والدخول في معاصي الله عزوجل ومساخطه جهلا منهم باستدراج الله تعالى وأمنا من مكره تعالى، فسلبهم الله تعالى الملك والعز ونقل عنهم النعمة، فقال له صالح بن علي: يا أمير المؤمنين إن عبيد الله بن مروان لما دخل أرض النوبة هاربا فيمن اتبعه سأل ملك النوبة عنهم فأخبر فركب إلى عبيد الله فكلمه بكلام عجيب في هذا النحو لا أحفظه وأزعجه عن بلده، فإن رأى أمير المؤمنين أن يدعو به من الحبس بحضرتنا في هذه الليلة ويسأله عن ذلك، فأمر المنصور بإحضاره، وسأله عن القصة فقال: يا أمير المؤمنين قدمت أرض النوبة بأثاث سلم لي فافترشته بها وأقمت ثلاثا فأتاني ملك النوبة وقد خبر أمرنا فدخل علي رجل طوال أقني حسن الوجه فقعد على الأرض ولم يقرب الثياب فقلت: ما يمنعك أن تقعد على ثيابنا، فقال إني ملك وحق على كل ملك أن يتواضع لعظمة الله عز وجل إذ رفعه الله، ثم أقبل علي فقال لي: لم تشربون الخمور وهي محرمة عليكم في كتابكم. فقلت: اجترأ على ذلك عبيدنا وسفهاؤنا. قال: فلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 تطؤون الزروع بدوابكم، والفساد محرم عليكم في كتابكم. قلت: يفعل ذلك جهالنا. قال: فلم تلبسون الديباج والحرير وتستعملون الذهب والفضة وهو محرم عليكم. فقلت: زال عنا الملك وقل أنصارنا فانتصرنا بقوم من العجم دخلوا في ديننا فلبسوا ذلك على الكره منا. فأطرق مليا، وجعل يقلب يده، وينكث في الأرض، ثم قال: ليس ذلك كما ذكرت، بل أنتم قوم استحللتم ما حرم عليكم، وركبتم ما عنه نهيتم، وظلمتم فيما ملكتم، فسلبكم الله تعالى العز وألبسكم الذل بذنوبكم، ولله تعالى فيكم نقمة لم تبلغ نهايتها، وأخاف أن يحل بكم العذاب وأنتم ببلدي فيصيبني معكم، وإنما الضيافة ثلاث فتزودوا ما احتجتم إليه وارتحلوا عن بلدي ففعلت ذلك اهـ. وفي هذه الحكاية مقنع وكفاية لمن رزقه الله الهداية وجنبه طريق الغواية. وفيما رأيتم وسمعتم به مما جرى بأولئك الظالمين المستبدين. الخاسرين الأبعدين أكبر عبرة لمن اعتبر. وتبصرة لمن تبصر قال الشاعر: ما مر يوم على حي ولا ابتكرا1 ... إلا رأى عبرة فيه إن اعتبرا ولنرجع الآن لذكر بقية الآيات التي نحن بصددها فنقول وقال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ}   1 في القاموس بكر عليه وإليه بكورا وبكر وابتكر وأبكر وباكرة أتاه بكرة اهـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 فقسم سبحانه الأمر بين الشريعة التي جعله هو سبحانه عليها وأوحى إليه العمل بها وأمر الأمة بها. وبين أتباع أهواء الذين لا يعلمون، فأمر بالأول ونهى عن الثاني. وقال تعالى: {المص كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} فأمر بإتباع المنزل منه خاصة ونهى عن إتباع أولياء من دونه، فدل على أن من اتبع غيره فقد اتبع من دونه أولياء. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} فأمر تعالى بطاعته وطاعة رسوله، وأعاد الفعل إعلاما بأن طاعة الرسول تجب استقلالا من غير حاجة إلى عرض ما أمر به على الكتاب بل إذا أمر وجبت طاعته مطلقا سواء كان ما أمر به في الكتاب، أو لم يكن فيه، فإنه أوتي الكتاب ومثله معه. وقد قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} وقال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} وصح عنه صلى الله عليه وسلم من حديث أبي رافع أنه قال: " لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول لا أدري ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 بخلاف أولى الأمر فإنهم أيا كانوا العلماء والأمراء. أو العلماء فقط أو الأمراء فقط لا تجب طاعتهم إلا تبعا لطاعة الرسول، فمن أمر منهم بطاعة الرسول وجبت طاعته ومن أمر بخلاف ما جاء به الرسول فلا سمع له ولا طاعة. كما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق". وقال: "إنما الطاعة في المعروف". وهو ما وافق ما جاء به الرسول، ولهذا لم يأمر بطاعة أولى الأمر استقلالا بل حذف الفعل، وجعل طاعتهم في ضمن طاعة الرسول إيذانا بأنهم إنما يطاعون تبعا لطاعة. الرسول. وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} . فأفاد أن آية محبة الله إتباعه صلى الله عليه وسلم فيما جاء به، فمن لم تتحق فيه هذه العلامة فهو ليس بمحب لله وهو كذلك، فإن دعوى المحبة مع المخالفة من الحماقات الظاهرة والأكاذيب التي لا تخفى على أحد. ولذلك يقول القائل وقد أجاد فيما أفاد: تعصى الإله وأنت تزعم حبه ... هذا لعمري في القياس شنيع لو كان حبك صادقا لأطعته ... إن المحب لمن يحب مطيع وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به ولا يزيغ عنه". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وولده وأهله والناس أجمعين". وفيهما " ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان، أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله وأن يكره أن يرجع إلى الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار". وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} . فالواجب على كل أحد آمن بالله واليوم الآخر محبة الله ورسوله المحبة الصحيحة الصادقة التي تقتضي المتابعة والموافقة في حب المحبوبات وبغض المكروهات. قال أبو يعقوب النهرجوري: "كل من ادعى محبته تعالى ولم يوفق الله في أمره فدعواه باطلة". وقال يحيى بن معاذ الرازي: "ليس بصادق من ادعى محبة الله ولم يحفظ حدود الله. فمن ادعى أنه يحب الله ورسوله فيفترض عليه أن يبذل وسعه ويسعى جهده في إقامة حدود الله ونصرة دينه بالقول والفعل والمال وكل ممكن، فإن علامة المحب الصادق أن يسعى في حصول محبوبات محبوبه ويبذل جهده وطاقته فيها. وإلا فلو رأى محارم الله تنتهك وهو ساكت لا يغار ولا يغضب كما لو تعدى على أدنى حقوقه فهو حينئذ كذاب كذاب لا نصيب له من المحبة إلا مجرد الدعوى". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 وقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِر} أفادت الآية بطريق عكس النقيض الموافق المعلوم عند أرباب فن المنطق أن من لا أسوة له حسنة في رسوله صلى الله عليه وسلم فهو ليس ممن يرجو الله واليوم الآخر. وكفى بهذا التهديد العظيم في التحذير للعاقل. وقال تعالى: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ولا فرق في الاستدلال بهذه الآية الكريمة على ما نحن بصدده بين رجوع الضمير إلى الله أو إلى الرسول. وقال تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلأالْبَلاغُ الْمُبِينُ} وقال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} فأقسم سبحانه بنفسه على نفي الإيمان عن العباد حتى يحكموا رسوله في كل ما شجر بينهم من الدقيق والجليل. ولم يكتف في إيمانهم بهذا التحكيم بمجرده حتى ينتفي عن صدورهم الحرج والضيق عن قضائه وحكمه. ولم يكتف أيضا بذلك حتى يسلموا تسليما وينقادوا انقيادا لحكمه. فما بالك بمن حكم بغير ما أنزل الله فإنه أولى بسلب الإيمان عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} فأخبر سبحانه أنه ليس لمؤمن أن يختار بعد قضائه وقضاء رسوله حيا أو ميتا. ومن تخير فقد عصى الله ورسوله. ومن عصاهما فقد ضل ضلالا مبينا. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} روي عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسيرها: "لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة". وقال مجاهد: "لا تقدموا لا تفتاتوا على رسول الله قيم حتى يقضى الله على لسانه". وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} فلينظر فإنه إذا كان رفع أصواتهم فوق صوته سببا لحبوط أعمالهم. فكيف تقديم آرائهم وعقولهم وأذواقهم وسياستهم. ومعارفهم. وقوانينهم. وأوضاعهم عامدين عالمين على ما جاء به ورفعها عليه، أليس هذا أولى أن يكون محبطا لأعمالهم؟ بلى وربك. فالله عزوجل لولا أنه علم أن نظام العالم في الدين والدنيا معا لا يقوم إلا بهذه الشريعة الجامعة المانعة العادلة تمام العدل لبعث رسولا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 ينسخ منها ما لا يوافق هذا الزمان، بزعم المارقين، كما قد كان يفعل قبل، فلما جعل نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين فلم يرسل بعده من رسول كان ذلك دليلا أي دليل على أن هذه الشريعة وافية كافية. كاملة شافية. كافلة بجميع المصالح دينا ودنيا لا نحتاج معها إلى شيء من آراء الرجال وسياستهم إلا فيما يكون استيضاحا للحق الذي يرضاه الله ورسوله بعد معرفة مقاصد الشارع تمام المعرفة. ولذلك كان تقديم آراء الغير وعقولهم وأذواقهم ووجداناتهم وسياستهم المخالفة المنابذة للسياسة الشريعة الحقة الصحيحة محبطا للعمل البتة، وربما كان ردة ومروقا عن الأمة الإسلامية والملة الحنفية أعاذنا الله منها. قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} وقال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} فليحذر السياسيون أن يسوسوا الناس بغير ما أنزل الله فإنهم مع أنه لا يتم لهم أمر ولا يستقيم لهم حال يخشى عليهم من الردة والمروق من الدين فيكونون ممن خسر الدنيا والآخرة وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} فجعل من لوازم الإيمان أن لا يذهبوا مذهبا إذا كانوا معه إلا باستئذانه، فما بالك بالذهاب في دين الله والحكم بين الناس، فإنه أولى أن يكون من لوازم الإيمان أن لا يذهبوا ذلك المذهب إلا بعد استئذانه بدلالة ما جاء به صلى الله عليه وسلم على أنه أذن فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 وقال تعالى: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} ثم قال تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} . فبين أن المؤمنين ليس لهم إلا السمع والطاعة لحكم الله ورسوله وأنه ليس لهم إلى المخالفة سبيل أبدا. وقال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} أخرج ابن ماجه في سننه عن الشعبي عن جابر بن عبد الله قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فخط خطا وخط خطين عن يمينه وخط خطين عن يساره ثم وضع يده في الخط الأوسط فقال: "هذا سبيل الله"، ثم تلا هذه الآية". وقال تعالى: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} فإذا كان قد أمرهم بإتباع أحسن ما أنزل إليهم فيما يعترضهم فيه الأمران، الوجوب والندب، أو الندب والإباحة على ما قيل في التفسير وأنذرهم مفاجأتهم العذاب إن لم يفعلوا ذلك، فما الشأن فيما سبيله القطع فيه بالافتراض والتحتيم قولا واحدا كالحكم بين الناس بما أنزل الله. وقال تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 وقال تعالى: {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} وقال تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} . فنبه على أن التولي عن حكم الله ورسوله إلى غيره كفر. وقال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً} وقال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} وقال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَاباً أَلِيماً} وقال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} وقال تعالى: {وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرا مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْراً خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلاً} . وقال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاه} وقال تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ} وقال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 فأمر بالائتمار والانتهاء، وحذر عن المخالفة. (هذا) وكم من أمثال هذه الآيات الجليلة المحذرة عن مخالفة الكتاب والسنة، وكفى بواحدة منها لمن أوتي رشده. ومن لا فلا تغنيه قراءة جميع الكتب الإلهية عليه. ثم ليس العجب من قوم يدعون الإسلام يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون، وغلب عليهم هواهم. فأصمهم وأعماهم. حتى رفضوا العمل بقانون ربهم الذي أنزله على نبيه، وعملوا بقوانين أهل الكفر والصليب إقامة لرياستهم وقضاء لشهواتهم. غفلة منهم عن اليوم الموعود الذي تجد فيه كل نفس ما عملت من خير أو شر محضرا بين يديها. وإنما العجب العجاب ممن يتزيون بزي أهل القرآن ويتسمون بأسماء أهل الإيمان. يختلقون الإفك والفشار. ولا يخشون المسبة والعار. بلغوا من الجهل مبلغا دونه جهل اليهود والنصارى فيزعمون أن الشريعة المحمدية مانعة لهم من ترقيهم. أو معوقة عن مرامهم ومراميهم. فلا تصلح لأهل هذا الزمان. وانقطع حكمها ووقع في حيز خبر كان فنسخوها بآرائهم الكاسدة وأهوائهم الفاسدة. ومشتهيات أطباعهم الخبيثة العاطلة. ومقتضيات أميالهم الخسيسة الباطلة. مسخهم الله تعالى ظاهرا كما قد مسخهم باطنا ليكونوا عبرة للغابرين، ومثلة في الحاضرين. فهؤلاء المردة المارقون لا دواء أنجع فيهم من تمكين الصوارم البواتر من رقابهم، وقطع دابرهم حتى لا يقوى حزبهم. ولا يكثر جمعهم، أبادهم الله ودمرهم وشتت شملهم ومزقهم كل ممزق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 وهؤلاء الأوغاد لم يقدروا الشريعة حق قدرها، ولم يعلموا أن مبناها على الحكم ومصالح العباد. في المعاش والمعاد. وأنها عدل الله بين عباده ورحمته بين خلقه. وظله في أرضه وهي نوره الذي به أبصر المبصرون. وهداه الذي به اهتدى المهتدون. وشفاه التام الذي به دواء كل عليل. وطريقه المستقيم الذي من استقام عليه فقد استقام على سواء السبيل. فهي قرة العيون وحياة القلوب ولذة الأرواح. فيها الحياة والغذاء والدواء والنور والشفاء والعصمة، وكل خير في الوجود فإنما هو مستفاد منها وحاصل بها. وكل نقص في الوجود فسببه من إضاعتها. ولولا رسوم قد بقيت لخربت الدنيا وطوي العالم. وهي العصمة للناس وقوام العالم، وبها يمسك الله السماوات والأرض أن تزولا. فإذا أراد الله تبارك وتعالى خراب الدنيا وطي العالم رفع إليه ما بقي من رسومها. فهي عمود العالم وقطب الفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة. والعجب أيضا من قوم لا يرون تمام الترقي إلا في التشبيه بالكفار وعبدة الأصنام لزعمهم أنهم بلغوا من التمدن والترقي مبلغا لم يبلغه غيرهم من الأنام، فإن هؤلاء أيضا قوم لا خلاق لهم قد قصروا نظرهم على النعيم الفاني العاجل. ونسوا النعيم المقيم الآجل. فهم أشبه بالأنعام. بل هم أضل وإن لبسوا ثياب الأنام. دينهم وديدنهم تقليد أولئك والتزيي بزيهم والاحتذاء بهم في أقوالهم وأفعالهم ومطاعمهم ومشارحهم وملابسهم فلهم في أولئك الأسوة التامة، لا في رسوله الله صلى الله عليه وسلم فهم ليسوا ممن يرجو الله واليوم الآخر. وهذا مصداق قوله صلى الله عليه وسلم الثابت من طرق في الصحيح: "لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه" قالوا: اليهود والنصارى قال: "فمن " فإنا لله وإنا إليه راجعون. فإياكم إياكم عباد الله ومخالفة الشريعة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم من عند ربه قيد شبر فإن المخالفة والله الذي لا إله غيره عين الهلاك والعمى والخسران المبين. وإياكم إياكم أن تظنوا أن الكتاب والسنة اللذين هما الشريعة لم يفيا بجميع أحكام الحوادث فإن هذا خطأ جسيم وبهتان عظيم. فقد قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً} . وقال تعالى: {مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} وقال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} وقال تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 وقال تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وقال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُْ} أي للحالة أو للملة أو للطريقة التي هي أقوم الحالات أو الملل أو الطرق. وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً} وقال تعالى: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} إذا تأمل المتأمل قوله: {فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ} وعرف عظم موقعه وبلاغته، وعلم أن علوم العالمين أجمعين كلها تتلاشى وتضمحل في جنب علم الله تعالى بما ينفع ويصلح وما يضر ويفسد لم يشك أن القرآن قد تكفل ببيان ما فيه صلاح المعاش والمعاد ونظام الدين والدنيا معا على أكمل وجه وأبلغه حيثما تولى تفصيله العليم الخبير الذي لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض مما كان أو يكون. وقال تعالى: {قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 وقال تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} وقال تعالى: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} وقال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} وقال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} . فبين سبحانه للعباد جميع ما يتقونه لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل. وقال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ} قال أهل التفسير عموما: الرد إلى الله الرد إلى كتابه، والرد إلى الرسول الرد إليه ذاته في حياته، والرد إلى سنته وهي أقواله وأفعاله وتقريراته بعد وفاته. فأمر الله بالرد إليه وإلى الرسول ليس إلا، لأن كتاب الله ببيان الرسول فاصل للنزاع وقاطع للخلاف ولابد. هذا فيما تنازع فيه المؤمنون. فما بالك بما أتفقوا عليه فالرد فيه أوجب وأوجب. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 وقال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} فأنتم ترون أنه سبحانه أخبر في هذه الآيات، أنه أنزل الكتاب لبيان حكم ما يختلف فيه الناس، وجعله، هدى وجعله رحمة، وجعله شفاء للقلوب والصدور من الظلمات، وجعله مخرجا من الظلمات إلى النور، وجعله نورا وجعل إليه التنازع والتحاكم، إلى غير ذلك من أوصافه التي لا تحصى. فكيف يكون بهذه الأوصاف التي وصفه الله سبحانه بها، وبالناس حاجة إلى قوانين البشر وأوضاعهم وسياساتهم فما دام في الناس حاجة ما في أية جزئية إلى أي قانون ورأي يكن بتلك الأوصاف والله أصدق القائلين. فتبين بذلك أنه ما غادر صغيرة ولا كبيرة من أمور الدين والدنيا وما يتعلق بصلاح المعاش والمعاد إلا وتكفل بها واحدة واحدة عرف ذلك من عرفه وجهله من جهله قال الشرف البوصيري في آيات القرآن. لها معان كموج البحر في مدد ... وفوق جوهره في الحسن والقيم فما تعد ولا تحصى عجائبها ... ولا تسام على الإكثار بالسأم قرت بها عين قاريها فقلت له ... لقد ظفرت بحبل الله فاعتصم ولكن الأفهام والعقول متفاوتة، فمن يصادف فهمه المحز ويطبق المفصل، فهذا هو الذي له أجران- ومن يخطئه ولا يصيبه بعد بذل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 الوسع، وهذا هو الذي له أجر واحد كما ثبت ذلك في الصحيح ومن فاهم ومستنبط من آية حكما ومن فاهم ومستنبط حكمين، ومن فاهم ومستنبط أكثر، ففضل الله تعالى ليس بمحظور عن أحد يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين وإنما أنا قاسم والله يعطي". وبالجملة فالقرآن متكفل بنظام المعاد والمعاش في التفرق والاجتماع على أكمل وجه وأجمله لمن كحل بنور التوفيق بصيرته. وطهر بماء الإيمان سريرته. ووجه إليه همته. وصرف فيه ملله. قال الإمام الشافعي في سورة العصر: "لو فكر الناس كلهم في هذه السورة لكفتهم". وفي لفظ عنه: "لو لم ينزل الله على خلقه حجة إلا هذه السورة لكفتهم". وقد بين معناه وأوضح مغزاه الإمام ابن القيم في مفتاح دار السعادة بأبلغ وجه وأعلاه فقال ما نصه: "وبيان ذلك أن المراتب أربعة وباستكمالها يحصل للشخص غاية كماله. إحداها: معرفة الحق. الثانية: عمله به. الثالثة: تعليمه من لا يحسنه. الرابعة: صبره على تعلمه والعمل به وتعليمه. فذكر تعالى المرات الأربعة في هذه السورة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 وأقسم سبحانه في هذه السورة بالعصر أن كل أحد في خسر إلا الذين آمنوا وهم الذين عرفوا الحق وصدقوا به فهذه مرتبة. وعملوا الصالحات وهم الذين عملوا بما علموه من الحق فهذه مرتبة أخرى. وتواصوا بالحق وصى به بعضهم بعضا تعليما وإرشادا فهذه مرتبة ثالثة. وتواصوا بالصبر صبروا على الحق ووصى بعضهم بعضا بالصبر عليه والثبات فهذه مرتبة رابعة. وهذا نهاية الكمال. فإن الكمال أن يكون الشخص كاملا في نفسه مكملا لغيره. وكماله بإصلاح قوتيه العلمية والعملية. فصلاح القوة العلمية بالإيمان. وصلاح القوة العملية بعمل الصالحات، وتكميله غيره بتعليمه إياه وصبره عليه وتوصيته بالصبر على العلم والعمل. فهذه السورة على اختصارها هي من أجمع سور القرآن للخير بحذافيرها والحمد لله الذي جعل كتابه كافيا عن كل ما سواه شافيا من كل داء هاديا إلى كل خير اهـ. وأخرج الترمذي في جامعه عن علي رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ستكون فتن كقطع الليل المظلم" قيل فما النجاة منها يا رسول الله قال: "كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، وهو فصل ليس بالهزل، من تركه تجبرا " وفي رواية: "من جبار" قصمه الله. ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، ونوره المتين، والذكر الحكيم، والصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تتشعب معه الأراء، ولا تشبع منه العلماء، ولا تمله الأتقياء، من علمه سبق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن اعتصم به فقد هدى إلى صراط مستقيم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 وفي مراسيل أبي داود السجستاني عن يحيى بن جعدة أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بكتاب في كتف قال: "كفى بقوم ضلالة أن يبتغوا كتابا غير كتابهم إلى نبي غير نبيهم" فأنزل الله عزوجل: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} وعن أبي قلابة أن عمر مر بقوم من اليهود فسمعهم يذكرون دعاء من التوراة فانتسخه ثم جاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجعل يقرؤه ووجه النبي صلى الله عليه وسلم يتغير فقال رجل: "يا ابن الخطاب ألا ترى ما في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم" فوضع عمر الكتاب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله عزوجل بعثني خاتما وأعطيت جوامع الكلم، وخواتمه، واختصر لي الحديث اختصارا، فلا يلهينكم المتهوكون"، فقلت لأبي قلابة: ما المتهوكون؟ قال: المتحيرون اهـ وأخرج البخاري في كتاب الاعتصام في باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء" عن عبيد الله بن عبد الله أن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء وكتابكم الذي أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدث1 تقرؤونه محضا لم يشب2 وقد حدثكم أن أهل الكتاب بدلوا كتاب الله وغيروه وكتبوا بأيديهم الكتاب وقالوا هو من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا. ألا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسألتهم. لا والله ما رأينا منهم رجلا يسألكم عن الذي أنزل عليكم".   1 أي أقرب نزولا إليكم من عند الله. 2 أي لم يخلط به غيره اهـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 وأخرج البخاري فيه ومسلم في الوصايا عنه عن ابن عباس قال لما حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي البيت رجال وفيهم عمر بن الخطاب قال: "هلم أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده" فقال عمر إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غلبه الوجع وعندكم القرآن فحسبنا كتاب الله تعالى، واختلف أهل البيت واختصموا فمنهم من يقول: "قربوا يكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا لن تضلوا بعده". ومنهم من يقول: "ما قال عمر"، فلما أكثروا اللغط والاختلاف عند النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قوموا عني". قال عبيد الله فكان ابن عباس يقول: "إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم". فتأمل هذه الأحاديث وأعطها حقها من التأمل الصادق تعلم أن الله سبحانه وتعالى لم يحوجنا معشر أهل القرآن إلى كتاب آخر من الكتب السماوية بل اشتمل كتابنا على جميع ما فيها من المحاسن وعلى زيادات كثيرة لا توجد فيها فلهذا كان مصدقا لما بين يديه من الكتب ومهيمنا عليها يقرر ما فيها من الحق ويبطل ما حرف منها وينسخ ما نسخه الله فيقر الدين الحق وهو جمهور ما فيها وببطل الدين المبدل الذي لم يكن فيها والقليل الذي نسخ منها. وأما قول ابن عباس رضي الله عنهما: "إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم فقد قال المتكلمون في شرح هذا الحديث: أن عمر رضي الله عنه كان أفقه من ابن عباس وأدق نظرا لاكتفائه بالقرآن وعلمه أن الله تعالى أكمل دينه بقوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} وقوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُم} وأمنه الضلال على الأمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 ولا يقال: إن عمر رضي الله لم يرتض أمره صلى الله عليه وسلم بكتابة الكتاب فخالفه وعصاه لأنه رضي الله عنه فهم أن الكتاب الذي أراد أن يكتبه لا يخرج عن كتاب الله، لعلمه أنه معصوم في تبليغه عن ربه وتثبيت الله له لقوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى} وعلمه أنه لم يترك بيان شيء مما أنزله إليه ربه، فخرج ذلك الأمر منه في حال اشتداد الوجع به صلى الله عليه وسلم مخرج كلام النصوح الحريص على هداية شخص فهو لا يزال ينصحه بالعبارات المختلفة والأساليب المتعددة حتى يرسخ في فؤاده ما يريده منه فلذلك رأى عدم التثقيل عليه صلى الله عليه وسلم في كتابة ذلك الكتاب مع الاستغناء عنه بالقرآن فافهم هذا المعنى فلعله أحسن شيء يندفع به الاعتراض على سيدنا عمر فيما صورته صورة المخالفة. وفي تركه صلى الله عليه وسلم الإنكار على عمر دلالة على حسن فهم عمر وتيقظه لمراده صلى الله عليه وسلم الذي هو الأخذ بكتاب الله بعده حتى لا يضلوا، وإلا فلو كان مراده صلى الله عليه وسلم أن يكتب لهم ما لا يستغنون عنه مما لم يبينه لهم من قبل لم يتركه لاختلافهم ولا لغيره لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} كما لم يترك تبليغ غير ذلك لمخالفة من خالفه ومعادات من عاداه كما أمرهم في تلك الحال بثلاث: كما أخرجه مسلم عن سعيد بن جبير، "أمرهم بإخراج المشركين من جزيرة العرب، وإجازة الوفد بنحو ما كان يجيزهم"، وسكت عن الثالثة أو ذكرها ونسيها سعيد الراوي قالوا: الثالثة: هي تجهيز جيش أسامة رضي الله عنه. ويحتمل أنها قوله: "لا تتخذوا قبري وثنا يعبد". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 فانظر فإنه لم يرجعه تنازعهم واختلافهم ولغطهم عنده عن بيان هذه الثلاث التي ما كان بينها لهم قبل، فلو كان مضمون الكتاب الذي أراد أن يكتبه لهم مما لم يسبق بيانه ما كان ليسكت عن بيانه بحال، فرضي الله عن عمر ما أدى نظره وألطف فهمه وأصوب فكره. والقصد هنا أن الله لم يحوجنا بمنه وكرمه إلى شيء آخر من الكتب السالفة كما كان أحوج أهل الانجيل لفهم التوراة وإتباعها لكون المسيح عليه السلام كان متبعا في الأكثر لشريعة التوراة: ولذا قال: {وَلأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُم} . فكيف يحوجنا إلى شيء من قوانين البشر وأوضاعهم وسياستهم حاشا الله ومعاذ الله. ومن ظن ذلك فإن كان جاهلا بين له وفهم وإلا فهو كافر حلال الدم والمال في جميع مذاهب علماء المسلمين قولا واحدا. فإن من ظن أن هذه الشريعة الكاملة التي ما طرق العالم شريعة أكمل منها ناقصة تحتاج إلى سياسة خارجة عنها تكملها فهو كمن ظن أن بالناس حاجة إلى رسول الله آخر غير رسولهم الذي يحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث. وكذلك من ظن أن شيئا من أحكام الكتاب والسنة النبوبة الثابتة الصحيحة بخلاف السياسة والمصلحة التي يقتضيها نظام الدنيا فهو كافر قطعا. ولا يظن ذلك إلا من بلغ به الجهل بمرتبة الشريعة الغراء. وأحكامها الحقة النقية البيضاء أي أسفل سافلين. وأيما فرد ظن ذلك أو تخالج الشك في صدره في حكم من أحكامها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 فليعرض ذلك على أهل العلم بالكتاب والسنة حقيقة دون أهل الفلسفة وفضول العلوم حتى تتبين له حقيقة الحال. وتنقشع عن سماء قلبه سحائب الأوهام والضلال. قال الحافظ ابن القيم في كتابه "مفتاح دار السعادة" ما نصه: "وتأمل حكمته تبارك وتعالى في إرسال الرسل في الأمم واحدا بعد واحد بعد واحد كلما مات واحد خلفه آخر لحاجتها إلى تتابع الرسل والأنبياء لضعف عقولها وعدم اكتفائها بآثار شريعة الرسول السابق، فلما انتهت النبوة إلى سيدنا محمد بن عبد الله رسول الله. ونبيه أرسله إلى أكمل الأمم عقولا ومعارف وأصحها أذهانا وأغزرها علوما وبعثه بأكمل شريعة ظهرت في الأرض منذ قامت الدنيا إلى حين مبعثه فأغنى الله الأمة بكمال رسولها وكمال شريعته وكمال عقولها وصحة أذهانها عن رسول يأتي بعده أقام له من أمته ورثة يحفظون شريعته ووكلهم بها حتى يؤدوها إلى نظرائهم ويزرعوها في قلوب أشباههم، فلم يحتاجوا معه إلى رسول آخر ولا نبي ولا محدث (أي ملهم) ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "إنه قد كان قبلكم في الأمم محدثون فإن يكن في أمتي فعمر". فجزم بوجود المحدثين في الأمم وعلق وجودهم في أمته بحرف الشرط وليس هذا بنقصان في الأمة عمن قبلهم بل هذا من كمال أمته على من قبلها فإنها لكمالها وكمال نبيها وكمال شريعته لا تحتاج إلى محدث، بل إن وجد فهو صالح للمتابعة والاستشهاد، لا أنه عمدة لأنها في غنية بها بعث الله به نبيها عن كل منام أو مكاشفة أو إلهام أو تحديث: وأما من قبلها فللحاجة إلى ذلك جعل فيهم المحدثون" اهـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 وإذا ثبت أن الله تعالى قد أغنانا أهل الإيمان والقرآن بكتابه وسنة نبيه عن جميع الشرائع وقوانين أهل الإفك والبهتان. فما وافقهما فهو العدل. كما قال تعالى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} قال تعالى: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقّ} فأمره أن يحكم بينهم بالقسط، وأن يحكم بما أنزل الله، فدل ذلك على أن القسط هو ما أنزل الله ولذلك قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} وما خالفهما فهو عين الظلم والبغي والعدوان، وإن ظن أنه عدل ومصلحة قال الله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} . وقال تعالى: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَه} وقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} ولله در البوصيري حيث قال في آيات القرآن: وكالصراط وكالميزان معدلة ... فالقسط من غيرها في الناس لم يقم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 ثم الشرع الذي أنزل الله ويجب على كل حكام المسلمين العمل به، كما أنه عدل كله، رحمة كله، ومصلحة كله، وحكمة كله، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشرع وإن أدخلت فيه بشبهة. فليس في الشرع ظلم أو قسوة أو عبث أصلا بل حكم الله أحسن الأحكام كما قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} . فكل من حكم بما أنزل الله فقد حكم بالعدل، وكل من حكم بغيره فقد ظلم: ومن لم يعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله على رسوله واستحل أن يحكم بين الناس بما يراه هو عدلا من غير إتباع لما أنزل الله فهو كافر، فإنه لا عبرة بما يراه عدلا من غير أن يكون موافقا لما أنزل الله، إذ ما من أمة إلا وهي تأمر بالحكم بالعدل، لكن قد يكون العدل في دينها ما رآه أكابرهم، بل كثير من المنتسبين إلى الإسلام يحكمون بعادتهم الجارية بينهم التي لم ينزلها الله، كسوالف البادية، وكأوامر المطاعين فيهم، ويرون أن هذا هو الذي ينبغي الحكم به دون الكتاب والسنة وهذا هو الكفر. فهؤلاء إذا عرفوا أنه لا يجوز الحكم إلا بما أنزل الله فلم يلتزموا ذلك بل استحلوا أن يحكموا بخلاف ما أنزل الله فهم كفار، وإلا كانوا جهالا ضلالا لا يعلمون. والحاصل، أن الحكم بالعدل واجب مطلقا في كل زمان ومكان على كل أحد ولكل أحد، والحكم بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم هو أكمل أنواع العدل وأحسنها، والحكم به واجب على النبي صلى الله عليه وسلم وكل من اتبعه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 ومن لم يلتزم حكم الله ورسوله فهو كافر. ومن اعتقد أن يحكم ببن الناس بقول أي أحد كان ولا يحكم بينهم بالكتاب والسنة فهو كافر وظالم لنفسه ولغيره من المحكوم له وعليه ولله حسن الختام. وجملة القول أنا معشر أهل الإيمان والقرآن لا يجوز لنا أن نتبع قانونا سوى قانون ربنا تبارك وتعالى ولا نرضاه ولا نقبله بل هو رد على من جاء به بحكم الله ورسوله. هذا ما وجب علينا كتابته شرعا بحكم وجوب أداء الأمانة التي ائتمننا الله عليها معشر أهل العلم، وما علينا إلا البلاغ. إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب. وحسبنا الله ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا آمين والحمد لله رب العالمين. (تمت الرسالة) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62