الكتاب: الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي المؤلف: محمد بن الحسن بن العربيّ بن محمد الحجوي الثعالبي الجعفري الفاسي (المتوفى: 1376هـ) الناشر: دار الكتب العلمية -بيروت-لبنان الطبعة: الأولى - 1416هـ- 1995م عدد الأجزاء: 2   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي الحَجْوي الكتاب: الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي المؤلف: محمد بن الحسن بن العربيّ بن محمد الحجوي الثعالبي الجعفري الفاسي (المتوفى: 1376هـ) الناشر: دار الكتب العلمية -بيروت-لبنان الطبعة: الأولى - 1416هـ- 1995م عدد الأجزاء: 2   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] المجلد الأول المقدمات مقدمة التحقيق ... باب المقدمات: مقدمة التحقيق: إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستهديه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا. إنه من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له, وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} . {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} . {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} . إن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم, وشرَّ الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة, وكل بدعة ضلالة، وكل ضلال في النار. أما بعد: "الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي" سفر جليل لعالم نحرير مدقق من جهابذة الخلف، تناول مُؤَلَّفَه نشأة العلوم الإسلامية، وهي متشعبة, لكنه ربط هذا بفقه، فجعله بابة الكتاب، فأجاد وأفاد عليه -رحمة الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 وكم كانت تمس الحاجة لطرق هذا الموضوع لأهميته, فقد أصبحت العلوم السالفة طلاسم ذهبت مفاتيحها بانقطاع السند وقله أهل العلم، حتى حار طلاب العلم في تحصيل العلوم, فمنهم من طرق باب التمذهب عسى أن يجد ضالته. ومنهم: من طرق باب المتون، ومنهم من ضرب سهم في الحديث، ومنهم ... ، ومنهم ... فما كانت حصيلة هؤلاء إلّا تعقيد الجرير في الجرير, فما كانت بضاعتهم في العير، ولا في النفير -إلا مَنْ رحم ربي- حيث بدؤا مما انتهى إليه الأوَّلون، فلم يعرف هؤلاء درب المتقدمين في التأليف، إنما نظروا لرسمهم فحفظوا نقوشهم. فهؤلاء كمن وقف أمام قصر عظيم متسع الأركان، كثير الحجرات، فأراد أن يدخل، لكن أبوابه موصدة، فعمد إلى تسوّرِ الأسوار، فبذل جهدًا جهيدًا، فقد يصل أو لا. كذلك من طرق سبل التعلم دون أن يقف على التصور -إن صح التعبير- لنشأة العلوم وتطورها والطفرات العلمية، وظهور المدارس، وغير ذلك. فهذا التصور أساس فهم العلوم والتبحر فيها، وجدير بالإشارة أن هذه العلوم لم تكن لها منهجية في حياة الأمة، أو مشروع نظامي، إنما نشأة العلوم وتطورها تكفل إلهي من الله -سبحانه وتعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} . وإنما غاية هذا "الفكر السامي" تصور اجتهادي مع دعم ذلك التصور بالحقائق التاريخية الثابتة، فهذا مؤلف فريد في بابه، عظيم في جوابه، قسم فيه مُؤلِّفه مادته إلى أربعة أقسام: أ- القسم الأول: سماه: "طور الطفولية", ويعني: نشأة الفقه، وهو الذي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 يبدأ ببعثة النبي -صلى الله عليه وسلم، وينتهي بوفاته. ب- القسم الثاني: سماه: "طور الشباب", وهو عصر الاجتهاد، ويبدأ ببداية عهد الخلفاء الراشدين, وينتهي بنهاية القرن الثاني. ج- القسم الثالث: سماه: "طور الكهولة", وفي هذا الطور بيَّنَ فيه المؤلف توقف الخط البياني للفقه عن الصعود، أي أنه لم تُضف للفقه أيّ إضافات جديدة بحركة الاجتهاد، إنما انتشر خط جديد وهو التقليد والركون إليه. د- القسم الرابع: سماه: "طور الشيخوخة والهرم المقرب من العدم", وهو عنوان يتحدث عن مضمونه فلا يحتاج إلى تفصيل, ويبدأ ببداية القرن الخامس إلى وقتنا هذا. ومما لا شَكَّ فيه عظم الخطب المتناول في هذا التصنيف البديع. وكثير ما روادتني فكرة التأليف في هذا الموضوع لأهميته القصوى, ووعدت إخواني القراء بذلك في تقديمي لكتاب "الترغيب والترهيب", كذا "الإقناع لابن المنذر", فكانت مشيئة العليم الحكيم أن يقع في يدي هذا السفر الجليل، فرأيته حريّ بالاعتناء, وبضاعة ثمينة يجب أن تنشر، وما يفعل التراب في وجود الماء؟ ثم هذه الطبعة بعناية مركز تحقيق النصوص: إسهام منها في نشر العلم النافع، مع الاعتناء به فأضافت: 1- العناية بأصل الكتاب المطبوع، حيث فتشت كثيرًا عن أصل خطي له دون جدوى، وهذا المطبوع بتحقيق فضيلة الدكتور عبد العزيز القاريء, طبعة جيدة، سيما وتعليقات فضيلة الدكتور أزالة الكثير من عور الكتاب، هذه التعليقات قد حافظنا على بعضها عازين الفضل لصاحبه، فجزاه الله خيرًا. 2- أصلحنا ما وقع في الكتاب من تحريف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 3- قمنا بالتوسع في مصادر تراجم النقلة المذكورين. 4- تخريج الأخبار الواردة في الكتاب. 5- وضعنا فهرس أبجدي للرواة المترجمين. ثم هذه البضاعة المزجاة منا، إنما هي جهد بشري يعتريه ما يعتري غيره. ولله الكمال وإليه القصد. وكتبه أ/ أيمن صالح شعبان, مدير مركز تحقيق النصوص القاهرة -ليلة الأحد- 25 من شوال لعام 1415 من الهجرة النبوية المباركة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 ترجمة المؤلف : أترجم نفسي اقتداءً بالنبي -صلى الله عليه وسلم- إذ يقول: "أنا النبي لا كذب, أنا ابن عبد المطلب"، {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [سورة الأحزاب: 21] ، وبسيدنا يوسف إذ يقول: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [سورة يوسف: 55] ، ويقول: {أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ} [سورة يوسف:59] ، وبسيدنا عيسى حيث قال: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا، وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا، وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا، وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا} [سورة مريم: 33] . وقد ترجم نفسه ولي الدين ابن خلدون إمام التاريخ، ولسان ابن الخطيب إمام الأدب وغيرهما. نعم أعتذر بما اعتذر به ابن الإمام في"سمط الجمان", والحجاري في كتاب "المسهب", وابن القطاع في "الدرة الخطيرة", وأبو الحسن بن سعيد في كتاب "المغرب" وغيرهم. ليت المغاربة كان لهم ولوع بالتاريخ، وبالأخص تاريخ الرجال، فأكتفي بأمانتهم واعتنائهم عما سأورده في هذه الترجمة المخجلة التي أقصد بها إظهار حقيقة من حياتي, ربما لا يعرفها غيري كما أعرفها أنا, وإني لأشعر بعبء ذلك على كاهلي، ولكنني لا أجد منه بدًّا، فلينتبه إخواننا إلى الاعتناء بتراجم الرجال وإظهارهم مظاهرهم، فالأمة برجالها، والسهام بنصالها، وليترجم الناس لأنفسهم بأنفسهم ما دامت الأفكار معرضة عن هذه الواجبة حتى لا تضيع حقائق من حياتهم, ربما تتطلب فلا توجد, وكم ضاعت من حقائق بإهمال هذا الفن لم يجدِ الأسف عليها شيئًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 فليكن في عملي هذا تشجيع للناس على ترجمة أنفسهم، وتنشيط على الاعتناء بهذا الفن المهمَل الذي يضيق المقام عن تعداد فوائده التي منها: أن الأمم لا تعتبر في مقام الحياة إلّا بقدر ما فيها من الرجال وما يحسنون. نسبي: عُلِمَ من ترجمة سيدي الوالد -قدس الله روحه- بآخر تراجم المالكية من هذا الجزء، ومسقط رأسي فاس، بها قرأت وتعلمت، وبأدب أهلها تأدبت، وسكنت مكناسة الزيتون ستين ونيفًا، ثم وجدة ثلاث سنين، ثم مراكش نحو سنة، ثم الرباطسنة ثلاثين، ثم عدت إليه آخر سنة تسع وثلاثين, وبه وبفاس لي دار واستقرار الآن تمسكًا بالحق في العاصمتين، واعترافًا بفضل المدينتين، ودخلت جل مدن المغرب والجزائر، وتونس إلى سفاقص، ولقيت أهم رجال القطرين، وذاكرتهم وعرفتهم، وأخذت عن كبار أعلامهم، وأخذوا عني بما بُيِّنَ في "الفهرس", وتجولت فيهما كثيرًا، وفي أوربا بما هو مفصل في رحلاتي. وأما عقيدتي: فسنية سلفية؛ اعتقد عن دليل قرآني، برهاني ما كان عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه الراشدون, مالكي المذهب ما قام دليل. وجدت بخط سيدي الوالد -رحمه الله- في عقيدته: ولد لي سيدي محمد -حفظه الله- من الزوجة الصالحة بنت الأمين السيد الحسين عبد الكبير جنون يوم رابع رمضان المعظم عند النداء لصلاة الجمعة سنة 1291 إحدى وتسعين ومائتين وألف هجرية, جعله الله من علمائه العاملين، وأوليائه الصالحين أهـ، وذلك موافق 22 سبتمبر 1874، ومحل ولادتي بالدار التي أسسها سيدي الجد -رحمه الله- بجرنيز قرب الحرم الإدريسي. ربيت في حجر سيدي الوالد والوالدة الصالحة القانتة، وكان لهما الاعتناء التام بتربيتي وتهذيبي، وإصلاح شئوني إذ كنت أول مولود لهما، واستعانت الأم في ذلك بجدتي من قبل الأب، فكانت تحوطني، وتحنو عليّ أكثر من الأم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 بكثير، وما كانت تقدر على مفارقتي لا ليلًا ولا نهارًا. هذه السيدة الجليلة القدر كانت على جانب عظيم من التبتل والعبادة، صوامة، محافظة على أوقات الصلاة، حافظة للسانها وجوارحها عن الخروج عن عبادة الله تعالى، مكبة على طاعته، مشفقة على الضعفاء والمساكين وذوي العاهات، مواسية مَنْ يستحق المواساة، فكانت أفعالها وأخلاقها كلها دروسًا عملية علمية تهذيبية ينتفع بها من نفعه الله من العائلة كلها، أتلقاها عنها والفكر فارغ من غيرها، فكانت كنقش في حجر. وطالما رغَّبتني بأنواع ما يرغب به الصبيان في القيام باكرًا، وإسباغ الوضوء للصلاة، والنظافة وحفظ الثياب، والاعتناء بكتاب الله، والمحافظة على أوقات المكتب، وحب المساكين، ورحمة الضعيف، وهجر كل ما ليس بمستحسن في الدين، وبثّ روح النشاط في الحفظ والتعليم، فهي التي غرست في قلبي عشق العالم، والهيام بحفظ القرآن العظيم، واعتياد الصلاة، والارتياض على الديانة بحالها ومقالها, لما كانت عليه من صلاح الأحوال، ومتانة الدين عن علم واعتقاد متين. فمرآة أخلاقها وأعمالها في الحقيقة أول مدرسة ثقَّفت عواطفي، ونفثت في أفكاري روح الدين والفضيلة، فلم أشعر إلّا وأنا عاشق مغرم بالجد والنشاط, تارك لسفاسف الصبيان, متعود على حفظ الوقت ألَّا يذهب إلّا في ذلك، شيق إلى كل تعلم وتهذيب، لا أجد لذلك ألمًا ولا نصبًا، بل نشاطًا وداعية، امتزجت باللحم والدم، لذلك كان حفظي للقرآن والمتون قبل أقراني بكثير, وبدون كبير عناء، بل في الختمة الأولى حفظت الكتاب العزيز تقريبًا، وما زدت الثانية إلّا لزيادة الضبط وحفظ الرسم عن نشاط ومحبة داخلية من الضمير المتشوق بالأمل المناساق بعاطفة حب المعالي، وحب أداء الواجب الذي لأجله خلقت حسب ما تلهمني إليه عاطفتي, لا بإلزام خارجي. علي أن هذه التربية الجديدة المحضة قد أثرت على جسمي بضعف ونحول، وساعد ذلك التأثير عدم وجود نظام في المكتب، وعدم وجود لوازم الصحة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 والرياضة هنالك، ولا أوقات للراحة، بل عمل متصل ممل. اذكر هذه الحلقة من حياتني، ويعلم ما أقصده من ذكرها كل من له إلمام بفن التراجم, هذه هي الحلقة التي يغفلها كثير من الباحثين والمؤلفين منا، فتضيع بإهمالها أهم أطوار حياة الرجال، ويتعذّر تعليل كثير من أحوالهم, يأتون في عملهم هذا بالنتيجة، ويتركون المقدمات؛ لأن حياة الإنسان كلها إنما هي نتيجة ذلك الطور القصير؛ طور الطفولية, ومرآة ينطبع فيه كل حين أثر تربيته الأولى والمدرسة الأولى. إن تأثير هذه التربية الأولى على حياتي هي التي أوضحت لي أن تربية الأمهات لها دخل كبير في تهيئة الرجال النافعين، وإعداد الأمم للنهوض, لذلك أرى وجوب تعليمهن وتهذيبهن تعليمًا يليق بديننا, ويزين مستقبل أولادنا, ويصيرهن عضوًا نافعًا في هيأتنا الاجتماعية، فلا غنى لنا عن إعانتهن في تربية رجال المستقبل الذي عليهم مدار حياة البلاد، وتعليمهن فن التربية ونظام البيت، وقواعد الصحة والدين، وحفظ القرآن أو بضعه, والحساب والجغرافيا والتاريخ والعربية والأدب الحقيقي لا الخيالي, ونحو ذلك مما يعينهن على مهمتهن، ويضيء لهن الطريق، كما أن للرياضة دخلًا كبيرًا في تربية الأجسام وتقويتها، وتنظيم الكتاتب وجعلها موافقة لقواعد الصحة أمر ضروري لحياة الأمة, هذه هي حياتي مع جدتي جازاها الله عني بأفضل ما يجازي به المحسنين، وجازى والدتي التي كانت معينة لها في مهمتها، موافقة على كل أفكارها وأعمالها، معترفة في ذلك بفضلها. أما سيدي الوالد، فهو أول من ألقى دروسًا في العقائد السنية السلفية طبق القرآن الكريم، وفي الفقه والتاريخ والسير والشمائل، وهذا الفن هو الذي كان أغلب عليه، وهو أدخل في تهذيب الأولاد من كل ما سواه، ولا تحسن تربية أولاد المسلمين دونه، وقد نبهني للابتعاد عن خلط المعتقدات بالأوهام، ودرَّبني على التفرقة بين ما هو يقين يعتقد بدلائله، ولا يقبل التقليد في شيء من مقدماته، وبين ما هو مظنون يجتهد فيه استدلالًا واستنتاجًا، ويقابل فيه فكر المخالف بالاحترام والاعتذار، وما هو موهوم يطرح، ولا يفسد به جوهر العقل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 النقي. وكان يحذرني من تغلب العواطف على المصالح، ويحضني على مقاومة الحقائق للخيال، وعلى أن يكون العقل والدين سلطانًا حاكمًا على الخيال والعواطف، كما كان يحضني على حفظ القرآن وأشعار العرب وأمثالها, والأحاديث الصحاح، والوقائع التاريخية، واستنتاج العبر منها، وتطبيقها على الأحوال الوقتية، فكان نعم الأستاذ النافع، والله يحسن إليه بما أحسن لأوليائه المخلصين، لذا وذاك كنت أرى نفسي مطبوعًا على حب العلم والاشتغال به، بل الهيام المفرد فيه، راغبًا عَمَّا يعوق عنه. وكنت لما بلغت سبع سنين أو نحوها, أدخلني لمكتب خصوصي ومعي أخوان صغيران، وبعض أبناء وبنات أحبائه الصغار أيضًا، فكنَّا نتلقَّى القرآن العظيم على الفقيه الزاهد البارع في علوم اللسان سيدي محمد بن عمر السودي, حفيد الشيخ التاودي الشهير، وتلميذ جنون الكبير، فقرأت عليه إلي يس, وعليه أتقنت الكتابة والقراءة والتجويد والرسم، ودروس الأخلاق، وبعض الحساب، ومبادئ الدين, وأقرأني بعض متون في العقائد والنحو، ثم انتقلنا لمكتب عموميٍّ بزقاق البغل، فأكملت حفظ القرآن العظيم على الأستاذ الصالح الناصح ذي الدين المتين الواضح، سيدي محمد بن الفقيه الورياجلي, المقرئ الشهير الذي تخرَّج به كثير من أعيان فاس وأعلامها، والأستاذ ذو مناقب جمة، ومقام عظيم, يكفي أن أقول في بعض ما رأيت منها، أني أقسم بالله: لقد جلست بين يديه سنين ملازمًا له في الجل من الغلس إلى المساء إلا الأوقات الضرورية ما رأيته إلّا في عبادة وطاعة، ولقد أحسن إليَّ تعليمًا وتهذيبًا، وبين يديه أكملت حفظ كتاب الله، وكثير من بقية المتون، ودرَّبَني على قواعد الإعراب، وفهم غريب القرآن، وعلمني كثيرًا من ضروريات العبادة، وألقح فكري بالتفكير، وعرفني عملًا وتخلقًا مقدار ما تساويه مكارم الأخلاق, معزز لما كنت ألقنه في البيت، والله يثيبه بأفضل وأعظم مثوبة. وفي سنة 1307 سبع وثلاثمائة وألف، دخلت القرويين لتلقِّي دورس العريبة والدين, وغيرهما الثانوية والعالية, على جلة الشيوخ الذين أحرزوا قصب السباق، وطارت شهرتهم في الآفاق، وقد ترجمت جملة منهم في الفهرسة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 إذ لم يسعني ذكرهم جميعًا في هذا المجموع, وذكرت هناك تفصيل ما أخذته عنهم من فقه وفرائض ونحوٍ وصرف وتجويد وتوجيه قراءات وتوحيد، وحديث، ولغة, واشتقاق, وتفسير, وبيان، ومعان, وبديع، ونقد الشعر, وعروض، وأصول, ومنطق، وأدب, وتاريخ، وفلسفة, وجغرافية, وتوقيت, وسير, وعلوم الحديث, وتصوف, وهيأة, ووضع, وحساب وجبر, وغير ذلك. والذين لازمت دروسهم مدة التعاطي لزوم الظل للشاخص, إلى أن فرقنا الحِمَامُ, أو خروجي من القرويين هم: 1- الفقيه سيدي محمد بن التهامي الوزاني. 2- سيدي الحاج محمد فتح بن محمد بن عبد السلام جنون. 3- سيدي محمد فتحا القادري. 4- سيدي أحمد الخياط. 5- سيدي الحاج أحمد بن سودة. 6- سيدي عبد السلام الهواري. 7- سيد الكامل المراني. 8- سيدي أحمد بن الجيلاني. وأخذت بعض العلوم والرياضية عن: 9- علامتها سيدي إدريس بن الطائع البلغيثي, آخر مهرة علوم التعليم بفاس، ولازمت كثيرًا غيرهم، ولكن لا كملازمتهم، وفي سنة 1316 كان ابتداء إلقائي للدروس, بعد ما أذن لي بعض الشيوخ منهم ومن غيرهم، وما أحقني بقول القائل: خلت الديار من الرخا ... خ ففرزنت فيها البياذق ولم تكن القرويين تعرف إذا ذاك امتحانًا, وإنما كان يقوم مقامه إذن شيوخها الكبار لتلميذهم في التدريس، ثم تتوزع الشهرة والإقبال بقدر طول الباع. فأصبحت في هذه السنة أعدّ في صف العلماء المدرسين، وفيها ألفت أول تأليف كتبته أناملي, تجد بيانه في الفهرس، وأني أعلم من نفسي أنه لم يكن معي من الذكاء والاقتدار ما يؤهلني لذلك, والمرء أعرف بنفسه، ولكن كان معي كد وجد، وانقطاع للطلب نادر, مع طاعة تامَّة لوالدي, وتعظيم لشيوخي، وفي هذين الأمرين سر عجيب يكاد يلمس، ولا ينكره إلا من كان أطمس، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء, والحمد لله رب العالمين. وفي سنة 1317 أخذت أتناول شيئًا من التجارة في غير أوقات الدروس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 تدريبًا. وفي السنة بعدها وظّفت أول وظيف عدلًا في صوائر دار المخزن بمكناس, أيام السلطان المولى عبد العزيز بن الحسن, وفي سنة 1320 رقيت منه إلى وظيف أمين ديوانة مدينة وجدة على الحدود المغربية الجزائرية، وفي هذه السنة قبل سفري إلى وظيفي الجديد تزوجت. جملة اعتراضية: في هذه السنة بدأ انقلاب الأحوال بالمغرب بثورة أبي حمارة التي سبَّبَت فقر مالية المغرب والسلف الأوربي، ثم سقوط المالية بيد إدارة السلف، وفناء حماة المغرب وأبطاله في الحروب الداخلية, وقد اختل النظام، وضاع الأمن، وفسدت الأخلاق، وضاعت الفضيلة والأمانة، وتكالبت الناس على الرياسات الوهمية وجمع الحطام, وتسلط على مناصب الدولة كل دخيل جاهل، فجَرَّ ذلك إلى تلاشي الدولة العزيزية، وتتابعت المحن، وأظلم جو المغرب، وفي أثناء ذلك وقعت معاهدة 8 إبريل سنة 1904 بين فرنسا والإنكليز، ثم مؤتمر الجزيرة الخضراء, بأثرِ المؤتمر بيسير سقطت الدولة العزيزية، وقامت الدولة الحفيظية, ثم وقع إثر ذلك الاحتلال, ثم إعلان الحماية سنة 1339, وما استقرَّ الأمن إلا سنة 1331 فما بعدها شيئًا فشيئًَا. هذه إحدى عشرة سنة رأى المغرب فيها من الأهوال والشدائد ما يشيب له الرضيع، وتندك له الجبال. دخلت معترك الحياة، وقرعت باب السياسة والبلاد في هذه المشاكل، ويناسبني أن أتمثل هنا بقول عبد الحليم بن عبد الواحد: عشقت صقلية يافعًا ... وكانت كبعض جنان الخلود فما قدر الوصل جتى اكتهل ... ت وصارت جهنم ذات الوقود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 وهذال الزمن هو عنفوان العمر، وربيع الشباب, كنت آمل أني أستريح فيه من عناء الطلب، وأجد فيه راحة وهدوء وفراغًا لنشر العلم, والتمتع بحياة هنية, لكني صرت آسف على ما مضى, وأشفق من المستقبل, ووافق ذلك انزواء سيدي الوالد للعبادة، وتركه للدنيا التي كان كافيني إياها، فلزمني القيام بشئون كثيرة وعبء ثقيل ألهاني عن إعطاء كليتي لما كنت أتمناه من نشر العلم من اشتغالي بوظائفي الهامة، ثم آل الأمر للطامَّة الكبرى عليّ, وهي فقدي له -جعله الله فرطًا وذخرًا: وما كان قيس هلكه هلك واحد ... ولكنه بنيان قوم تهدما وقد كنت أشاهد بركة دعائه في كل حركاتي وسكناتي، وقد كنت أحرزت الحمد لله في طاعته وإرضائه مكانًا عظيمًا، وقد فارقته ولسانه وجوارحه تدعو لي, غير أسف في الدنيا إلّا على فراقي, أعاد الله عليّ فضل دعائه، وتغمده في رحمته، ويرى المطلعون على ذلك أن ذلك من سر نجاحي في كل أعمالي، وسرعة تقدمي وارتقائي، وسبوغ نعم عظمى على العبد الفقير يعجز عن ذكرها فضلًا عن شكرها، وحديث أصحاب الغار في الصحيح يؤيد ذلك، والقرآن والسنة طافحة به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 انعطاف: توليت أمانة ديوانه وجدة، ولما ظهر للمخزن ثمرة أعمالي في ضبط أمر الديوان, حتى صار مدخولها ثلاثة أضعاف ما كان قبلي على ضعف النظام واختلال الأمن, وتيقن بما هو مثبوت في الدفاتر الرسمية من نجاح الأعمال، حصلت له الثقة بي, فزاد لي ذلك وظيف مفتش الجيش الذي كان مرابطًا هناك لصيانة وجدة من هجوم أبي حمارة، وشغله هناك عن رد وجهته عن فاس، وكان هو معظم الجيش المغرب إذ ذاك، وذلك سنة 1321، فكنت بهذه الصفة نائبًا عن وزير المالية في أمور الجيش المالية، وعن وزير الحرب فيما يرجع إلى الأسلحة والذخائر الحربية, وما إلى ذلك، وبمجرد استلامي للوظيف أخذت في التفتيش والضبط، وإسقاط كثير مما كان زائدًا في قوائم الجيش باطلًا, ولا حقيقة له مما كان من أسباب سقوط المغرب، ويسمى في اصطلاحهم "منفوخ", وحسمت مادة بيع الدخائر والأسلحة، وأحرزت خزنتها كليًّا، فاقتصدت لخزينة الدولة ما ينيف عن خمسة عشر ألف بسيطة عزيزية يومية, كانت تحمل على عاتقها، وتذهب في بطون لا تعرف الشبع هباء منثورًا، وأهمية هذا القدر في ذلكم الوقت لا تخفى، وقد انحسمت بعد ذلك مادة بيع الدخائر الحربية والسلاح للعدو، وتوفَّر للخزينة مال وافر مما كان يضيع فيها، كل ذلك مثبوت بالدفاتر الرسمية، وقد قصدت بذلك انقاذ الوطن المهدد، وإصلاح ما فسد، ولكن أبى الله إلّا أن يقضي أمرًا كان مفعولًا، وقد كافأني المخزن على هذه الأعمال بترقيتي إلى وظيف أعلى زيادة على ما قبله, وهو نائب الملك في الحدود، وفي فصل دعاوي الإيالتين هناك، وكلفت بتنظيم جيش لحراسة الحدود المغربية، وأحق ما ينشد هنا: وأنَّ بقوم سودوك لحاجة ... إلى سيد لو يظفرون بسيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 ثم أسندت إليَّ سفارة عن المغرب الجزائر مع وظائفي المتقدمة، والكل متقارب العهد خلال سنة 1321 المذكورة، ووقعت مباشرته على أحسن ما كان يؤمل, حتى وقع بلوغ المؤمل، وتحسنت العلائق بين الإيالتين، وجرت الأمور في مجاري التعادل والتوازن والحمد لله, ولا أظن أن ذلك من أجل ما يسمونه بالدهاء السياسي, وإنما هي فيما أظن نفحات وعناية إلهية، ثم لم أجد لدي مسائل عويصة يصعب حلها، ولا مشكلات يعسر فكها, من صفاء جو السياسة إذ ذاك بين الدولتين، ومن حسن حظ المرء أن يكون خصمه عاقلًا، لكنني طرأت عليّ عوارض صحية لتراكم الأشغال, مع اشتباك الأحوال السياسية بالعاصمة فجأة، وعزم المخزن على عقد مؤتمر الجزيرة، فاستعفيت سنة 1323، واستقدمني السلطان، فقدمت فاسًا، وعرض علي أن أسمى عضوًا في المؤتمر فاعتذرت، وليس كل عذر يبدو, ولا كل داء يعالج. وإذا المنية أنشبت أظفهار ... ألفيت كل تميمة لا تنفع تعكرت الأحوال، وأظلم جوّ السياسة، واختلط الحابل بالنابل، فانعزت عن ذلك المعترك, وألقيت السلاح من غير تحمل درك، وأقبلت علي نشر العلم بفاس، وتحريك شيء من التجارة تكفيًا بها عن كل وظيف إلى سنة 1330, وعرضت عليّ أثناء مدة الإعفاء وظائف مهمة، فأعرضت عنها اختيارًا للسلامة. إن السلامة من سلمى وجارتها ... أن لا تحل على حال بواديها وفي سنة 1330 المذكورة, سميت نائب الصدارة العظمى في وزارة العلوم والمعارف، أول ما أحدث هذا الوظيف في المغرب آخر أيام السلطان المولى عبد الحفيظ بن الحسن، فقبلته رجاء نفع العلم، وفي مدتي انفتحت عدة مدارس ابتدائية بالمدن المغرية بعد خلوها منها، وباشرت إدخال العربية والدروس الدينية والقرآن العظيم لها، وبسبب ذلك حصل الإقبال على التعليم، وامتلأت المدارس شيئًا فشيئًا، وانتشرت في عموم المملكة حتى البوادي، وذلك أيام السلطان المولى يوسف -قدس الله روحه, فكان ذلك أول ترق أدبي فكري ناله المغرب، ولا شك أنه سيعود بالرقي العظيم على الفقه الإسلامي بهذه الديار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 وفي سنة 1332 باشرت تنظيم المجلس التحسيني لإصلاح العليم بالقرويين, وهو المجلس العلمي الموجود الآن, وهي بذرة لا بُدَّ أن تنبت ولو بعد حين، أسَّسْتُ هذه المجلس، وألَّفت قوانينه التحسينية, وما كان لفظ نظام أو تنظيم يعرف له المعنى المقصود هناك، ولا كان يوجد لعلماء ذلك المعهد مرتّب أو ترتيب, حتى فاجأتهم بذلك، فنفروا عنه، وبعد أن فهم المقصود أهل البصائر منهم, بما بذلته معهم من النصح والبيان، جأر منه مَنْ كان متسنمًا مقامًا يقضي عليه التنظيم بالنزول عنه، وقد قدمت الكلام على ذلك في هذا المجموع، ثم استعفيت سنة 1332، وأسقط هذه الوظيف من الوظائف المخزنية مدة، وأعطيت رتبة مستشار للحكومة المغربية شرفًا، فرجعت من الرباط إلى فاس, للإقبال على الدرس والتأليف، والتكفي بشيء من التجارة، وفي هذه السنة أشهرت الحرب العظمى بين دول أوربا, فنال المغرب حظه من أهوالها الكبرى, بما هو مبين في التواريخ, ثم تسببت عنها أهوال اقتصادية، وانقلابات وأزمات تغير بها وحه المغرب، وتبدلت أحواله. هذا جل ما يتعلق بالحياة السياسية, أما الحياة العلمية والقلمية فنقول: قد درست صحيح البخاري بالرباط ومراكش لما كنت موظفًا، ثم بفاس، ولما بلغت كتاب التفسير قرأته مفصلًا، وكنت أملي فيه ملخصًا من جملة تفاسير؛ كالطبري والرازي والبيضاوي، وروح المعاني، وأحكام ابن العربي، والجصاص، وغيرها, بعدما تركوه مدة سنين من قبل، ورام بعض الولاة منعى منه بدعوى التطير بقراءته، وأنه يتسبب عنه موت السلطان, كما فعلوا بشيخي جنون فيما سبق، فعصمني الله منهم وأكملته والحمد لله، وكان ختمه سنة 1338، وألقيت منه درسًا بتونس من أول سورة المؤمنين، ثم أعدته بفاس أيضًا لإيصال حلقاته، وقد اعتنت به الحكومة التونسية، فجمعته وطبعته على نفقتها، كما أقرأت صحيح مسلم والموطأ ومختصر خليل إلى قرب الزكاة بفاس، والسير النبوية, والتحفة لابن عاصم، ولامية الزقاق، وألفيه ابن مالك، والمنطق، والكل بفاس، وأقرأت المرشد المعين، والتحفة، والربع المجيب برسالة المارديني قبل ذلك بوجدة, مدة مقامي بها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 ثم رجعت سنة 1339 لوظيف نيابة الصدارة العظمى في وزارة العلوم والمعارف، ولا زلت به إلى ساعة كتابة هذه الأحرف، وأجمل الله الخلاص وسدد بمنه. ومن أحسن ما أمكنني القيام به تفقُّد المدارس من حيث العلوم العربية والدينية من حين لآخر، ويتبع سيرها، وبثّ روح النهضة فيها، والميل إلى إحياء علومنا، والتشبع من العلوم العصرية، وحثّ المعلمين والمتعلمين على حفظ النظام، وتوجيه كلية النظر نحو العلم والأخلاق ومكارم الدين، وأوصي من يقوم بالوظائف من بعدي بذلك، فإنه من خير الأعمال التي يتسنَّى بها التجديد المجيد والعلم قبس، وليجتهد كل واحد منا أن يعلِّمَ واحدًا, والواحد يعلم ألفًا، ومن البعض يكون الكل، والله المستعان. ولازلت على مباشرة ما يمكنني من الدروس بالرباط، فقد قرأت الفرائض الخليلية مرة بعد مرة، وجملة من البخاري بالرباط وسلا، وأعدت الفسير ثانيًا بالجلالين، ثم بالبيضاوي إلى آل عمران، وحظًّا وافرًا من الربع الرابع من المختصر الخليلي بالزرقاني وحواشيه, وبداية المجتهد لابن رشد الحفيد، وختمت جمع الجوامع، والشمائل مرارًا، وقاربت إتمام النصف من فروق القرافي, كل ذلك في هذه المدة التي ابتعدت فيها عن مسقط الرأس، وكلما رجعت إليه في رخصة من الرخص، أو فرصة من الفرص، أعدت قراءة التفسير بجامعه الأعظم, وأسأل الله الإعانة والتوفيق، وأن يتقبَّل بمحض فضله. أما تواليفي، فقد بلغت الآن خمسين والحمد لله بين مطول ومختصر، ومطبوع أو مخرج أو مُسوَّد كما هو مبين في الفهرس، وبعضٌ منها يكون مسامرة أو محاضرة ألقيها في موضوع علمي أو اجتماعي أو أخلاقي أو اقتصادي أو نحو ذلك، فيقع موقع الاستحسان، فيصير تأليفًا، ومن الله أستمد التسديد ونفع العبيد: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [سورة الضحى: 11] , {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [سورة الأحقاف: 15] . وإني لأرجو أن يكون في الشبيبة المغربية التي وقفت نفسي على ثقافتها، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 والأخذ بناصرها ونفعها من يقوم بنهضة مغربية صادقة, حتى يناسب مستقبلهم ماضي أسلافهم، وتكون أيامهم عصرًا ذهبيًّا للمغرب تحيى المجد الغابر، والفضل الداثر، وللتاريخ أدوار كأدوار الموشحات، فإذا جاء الإبان أعادها. وأوصي الشبيبة بتوجيه وجهتهم نحو رقي البلاد من حيث الأخلاق الكاملة، وثقافة الأفكار بالعلوم النافعة، ونشر محاسن الدين الحنيف، والكشف عن أسراره، وإزالة غشاوة الجهل به عن العقول, حتى يقف الناس على معنى الدين الحنيف، وينبذوا كل الأوهام التي خلطت به من أعدائه, فكل نهضة لا تؤسس على مبادئ الدين الصحيح والأخلاق الفاضلة تكون خلوًا من الفضيلة، وخطرًا عامًّا على نفسه, كما أنه وبال على بقية أنواع الحيوان، فلولا الدين لكانت الشهوة التي سطلته على الحيوان والجماد والنبات هي عينها تسلط بعضها على بعض، فالفضل كل الفضل في عمارة الكون ورقيّ النوع البشريّ هو للدين والمعوثين به، ولولا الأديان والرسل -عليهم السلام، ما وصل البشر لهذا الرقي الذي هو عليه، ولما كان إلّا وحشًا ضاريًا مفسدًا شريرًا في الأغلب من أفراده، ولم تزل الترقيات العصرية، والاكتشافات الفنية معجزة دالة على صحة الأديان وصدق المرسلين، فقد انكشف لنا به سر حرمة الخمر والخنزير، وسر غسل الإناء سبعًا من ولوغ الكلب، وأسرار حرمة الزنى، وإباحة تعدد الزوجات, وغير ذلك، وها نحن نرى أميركا تشدد في حرمة تعاطي الخمر بنحو ما كان عند مسلمي الصدر الأول, إلى غير ذلك, والحياة بدون زمام الدين فساد وخراب, وشواهد أثر ذلك منذ نشأت الدنيا إلى الآن, ولن تجد لسنة الله تبديلًا. فعليهم بإنهاض قومهم ووطنهم اقتصاديًّا بإرشادٍ إلى استخراج كنوزه العظيم التي اختلطت بأرضه ومائه، وبثّ روح جديدة في التجارة والزراعة والصنائع, وكافة أنواع الاقتصاد، حاربوا الفقر بالاقتصاد والاختصار من العوائد التي تستنزف الأموال، وباستنتاج الخيرات من الأرض والمياه، وبإحياء الصناعات الوطنية والنهوض بها إلى مستوى الرقي الجديد، فبالاقتصاد أصبح العالم مستعمرة اسرائيلية. واستعينوا على ذلك بتهذيب الأخلاق، فالإخلاق أساس كل نجاح، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 وفساد الأخلاق هو عين الإخفاق، وليتجنبوا المجادلات الدينية، والاختلافات المذهبية, فذلك شيء فرغ منه، فإياهم وإياي من ضياع الوقت النفيس إلّا فيما يفيد، حذار حذار من المجادلات العقيمة الدينية التي لا تأتي بفائدة, وليتجنبوا كل سياسية فإنها مفسدة للأعمال، معرقلة للمصالح. وليجتهدوا أن يتخرَّج منهم مدرسون ماهرون يحاربون الأخلاق التي أوجبت انحطاطنا في الهيئة العالمية، ويحاربون تطرف الأفكار التي أضاعت وقتنا، وليحاربوا عدو الإسلام الألد, داء الأمية حتى يصير جل أمتهم يقرأ ويكتب ويحسب، ويعرب عن ضميره بعبارة صحيحة عربية بدوًا وحضرًا، كما كان نبينا -عليه السلام- يحاربها, وأصحابه بعده، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها. وإن حاجة المغرب إلى المدرسين من أبناء جنسه فوق كل حاجة، وذلك هو الماء الذي يقطر في حلقوم المحتضر، وينشروا العلم الابتدائي أولًا في جميع أصقاع بلادهم العزيزة بين إخوانهم، وليتطوعوا في ذلك ما أمكنهم، وليعينوا من ظهرت أهليته على تحصيل العلوم العالية عربية وأوربية من طب وهندسة وطبيعيات، وحقوق ومكنيكيات، وغير ذلك. فإذا اشتغلوا بهذا، وعملوا بأصول هذه الوصية، فإنهم ينهضون بأمتهم وملتهم، ويكونون قد خدموا وطنهم حقًّا لا تشدقًا. وإياهم والاشتغال بسفاسف الأمور كتغيير الزي، وتكثير الشغب بلا طائل، فإني أربأ بهم أن يتركوا زيَّ قومهم في ظفرة، وأن ينفروا منهم آباءهم, ويلصقوا التهمة بهم في دينهم بيدهم. فما أجبن قومًا تستَّروا وراء لباسٍ غير لباسهم, خجلًا من جنسيتهم، وما أرذل قومًا أرادوا التشبيه بمن يعتقد انحطاطهم عنه، فليجتهدوا أن يكونوا قادة لأمة، ويجروها وراءهم تهذيبًا وتعليمًا, لا أن ينفروها منهم. وليكونوا مثال العفة والأخلاق الفاضلة، وأولها صدقة اللهجة، وتقديم المصالح العامة على الخاصة، ونزاهة اليد واللسان، وحسم مادة الباطل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 والرِّشَى، وترك الشبهات فضلًا عن المحرمات، وكل أمة هضمت خاصتها حقوق عامتها، كانت غنمًا مهزولة في ليلة شاتية لا يرجى لمستقبلها حياة, وليكونوا مثالًا للجد والنشاط والثبات في الأعمال والنزاهة، والبراعة والدهاء، وإني أعيذهم بالله من تضييع نصيحتي هذه. قد رشحوك لأمر لو فطنت له ... فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل أوصاني بهذا البيت شيخي جنون كتابة ومشافهة -رحمه الله مرارًا، وإلى الله أضرع أن يحقق رجائي فيكم، وأن يحفظكم يا أولادي وأخواني مما أصاب غيركم من سموم المعتقدات الفاسدة، وتطرف الأفكار، وأن يحميكم من ضدية الدين، وأن يجعلكم شبيبة مغربية حقًّا، محافظة على مجدها وقوميتها وذاتيتها، حرة التفكير ضمن دائرة الأدب والدين الصحيح الخالي من الخرافات والتخرصات، محافظة على شريعتها السمحة الحقة العظيمة, عارفة بتطبيقها على الأحوال الوقتية المناسبة, حتى تكونوا حماتها, وحماة الوطن العزيز، واللغة العربية الشريفة، معتدلين في أمركم كله، مستقيمين على المهْيَعِ القويم، متمسكين بسنة سيد المرسلين، وخلفائه الراشدين المرشدين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 تقريظات الكتاب : تقاطرت على المؤلف تقاريظ كثيرة من أعظم علماء الأقطار الناهضة شرقًا وغربًا، ولطول تتبعها نقتصر على ما لا بد منه، إذ ما لا يدرك كله لا يترك جله، طالبين المعذرة ممن لم ينشر تقريظه. تقريظ أمير شعراء المغرب وبلبله الصادح, الفقيه الأديب، البليغ البارع الأريب، الكاتب بوزارة الأوقاف المغربية، طائر الصيت بالديار الأفريقية، الشاعر المطبوع, ابن العباس الحاج عبد الله القباج, ونصه: كم ذا تدافع في الورى وتحامي ... عن حوزة الإيمان والإسلام كم ذا تنافح عن شريعة أحمد ... وتبين ما يخفى عن الأفهام كم ذا تناضل عن سلالته وعن ... أتباعه وصحابه الأعلام وتذود عن أحبار ملته الأولى ... صانوا محياها بخير لثام وفَدَوْا حياة علومهم بنفوسهم ... وحموا معابدها من الأصنام وهووا محاسنها وأعلوا شأنها ... وغدوا لها كالدرع والصمصام أسهرت جفنك في بزوغ نجومهم ... وطلعت بينهم كبدر تمام وفتحت أبواب البصائر للهدى ... منا وقلت لنا أدخلوا بسلام في كل ما عام تجيء بآية ... عظمى تسجل في سجل العام ولكل شهر في الفنون مجلد ... ضخم لديك سما عن الأسوام يبدو لفاتحه بدو هلاله ... من "فكرك" الحسن المنير "السامي" فيسير في الدنيا مسير الشمس في ... أقطارها والبرء في الأسقام فإذا أتى الخضرا تسابق أهلها ... للسكر منه بدون شرب مدام وإذا أتى مصرًا تحقق أهلها ... وأزاح عنهم سائر الأوهام وإذا أتى للشام قال ذووه قد ... هلَّ الهلال بأفق أرض الشام وإذا أتى بغداد قال إمامهم ... لست الإمام بل الإمام أمامي وإذا أتى للهند أغنى الهند أو ... للسند قال السند نلت مرامي واليوم قد أيقنت أن مجددًا ... بالمغرب الأقصى وبحرً طامي وإذا أتى صقع الحجاز ومكة ... ومدينة الممدوح في الأنعام هادي الورى للحق والداعي إلى ... ترك الخنا وتجنب الآثام ورسول رب العالمين ونوره ... في الكائنات ورحمة العلام ومحب أصحاب الشجاعة والسخا ... ومعين أهل البؤوس والأيتام ومبيد أهل الظلم في الدنيا وهل ... شيء أضر لها من الظلام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 ومن الذي يؤذي العباد لسانه ... كالحاسد المغتاب والنمام أثنوا عليه حيال أشرف بقعة ... ودعو لربه في أجل مقام تفديه نفسي بالحياة فإن مضت ... تفديه بعدي نفس كل همام ولعل ذاك ما يحب ويبتغي ... من سائر القراء في الإكرام ولعل فكرك يا محمد الرضي ... لم يبق في الأفكار من إبهام ومن المحقق أن روحك فيه لا ... تبلى ولا تفنى مع الأجسام ولعله كان الدواء لعلتي ... وقريحتي من آلم الآلام ودليل ذلك أنني ألفيته ... صبحًأ أغار على الدجا بحسام وشعرت أن اللطف حيت تلوته ... أضحى يلم وزاد في الإلمام وجزمت أنه مرشد للنجح لا ... يرشى ولا يخشى من اللوام وبأن أمر الدين كالدنيا ولا ... إصلاح للدنيا بدون "نظام" بل شمت لما أن نقهت سجيتي ... تنمو بجانها مع الأيام وظفقت أنظِّم ما أشاء كأنني ... أصبحت في عصري أبا تمام فافخر وصل بصواب فكرك ولتثق ... إن قلت إنه قد أصاب مرامي لو لم يكن سهمًا لما قال الفتى ... فكري يصيب كما تصيب سهامي ولقد رميت وما رميت وإنما ... رب السماء رمى بك المترامي لا ريب في هذا لدى كل امرئ ... يهوي الحقائق من سلالة سام ومن الذي يرتاب فيما قلته ... وبذاك تشهد ألسن الأقلام فاهنأ أبا عبد الإله محمدًا ... بالعلم والتوفيق والإلهام فالعلم نور الله عند عباده ... والكون دون العلم محض ظلام والمرء مهما كان في ايامه ... إن لم ينله يعد في الأنعام وبه غدوت لدى الأمير مقرَّبًا ... من صيد أهل النقض والإبرام ورفلت في حلل الثناء وإنما ... عدم الثناء نهاية الإعدام ولأنت يا حَجَوي غيث نافع ... لقلوبنا الموتى وللأحلام والحافظ الفذ المحدث بيننا ... بالصدق حجته على المتعامي والفضل فضل الله لا يحصى وهل ... تحصى نجوم الألفق بالأرقام أعطاك ربك منه أشرف قسمة ... والناس في الأخرى على أقسام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 لله فيك عناية تكفي بها ... عن حسن تدبير وحسن كلام وسعادة محجوبة تغنيك عن ... إثم اليدين وباطن الأقدام من لم ينل ما نلت من طيب الثنا ... لليدر ما للمجد من إعظام وإذا أحب الله عبدًا صالحًا ... أثنى بنو سام عليه وحام صلى الإله عليك غير مودع ... وسقى ثرى أبويك صوب غمام وحباك عن هذا الصنيع مثوبة ... كالأرض والسماوات والأجرام وكجنة الرضوان لا طلل بها ... يشجي ويبكي عروة بن حزام ترضيك في بدء بدون نهاية ... ونهاية تزهى بحسن ختام تقريظ قاضي تونس سابقًا, وشيخ الإسلام للمالكية حالًا بالديار التونسية, وصدر أعيانها الشريف العلامة النظار البابغة سيدي الطاهر بن عاشور, أمتع الله به وبتآليفه الإسلام, ونصه: الحمد لله الذي قيَّض لهذه الأمة نوابغ علمائها، وأضاء بهم أفق مجدها، ومحجة هديها، فكانوا نجوم سمائها، يتعاقبون بالظهور مغربًا ومشرقًا، فما انقضَّ كوكب إلّا بدا نظيرها متألقًا، ومن أبهر الكواكب التي أسفر عنها أفقنا الغربي في العصر الحاضر، وكان مصداق قول المثل: "كم ترك الأول للآخر" الأستاذ الجليل والعلامة النبيل، وصاحب الرأي الأصيل, الشيخ محمد الحجوي, المستشار الوزيري للعلوم الإسلامية بالدولة المغربية، فلقد مدَّ للعلم بيض الأيادي بتآليفه التي سار ذكرها في كل نادي، ها هو اليوم قد عززها بكتاب سماه: "الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي" كتاب طالعته مليًا، فوجدت سماه باسمه حريًا، وأعجبت بعرضه وتحريره، واستخلاصه من دلائل علم الفقه ومقاصده، وتاريخ الإسلام وتراجم رجاله، ورأيت منه ما لا يأتي مثله إلا لعالم روي من منابع الشريعة المختلفة المذاق بزلالٍ تنزه عن التكدر والامتذاق، حتى صار رأيه من فكره درًّا معينًا، ثم تبرزه الأقلام من أنامله درًّا ثمينًا، فلله درَّه ودرِّه، ومنه الرجاء أن تكثر آثار مؤلفه ويطول عمره. وكتب محمد الظاهر بن عاشور، في 5 ربيع الثاني سنة 1348 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 تقريظ المفتى الأول الحنفي بالديار التونسية, ونخبة العلماء الحنفية بها, العلامة النحرير المتفنن, سيدي محمد بن يوسف -الله يبقيه, ونصه: بسم الله, ما شاء الله, حمدًا لمن أظهر مواهب العلماء بنتائج الأفكار، ومدارك الأنظار، وخلَّد مآثرهم على صفحات القلوب، وصحائف الأسفار, فتنافست في اجتناء فوائدها، واقتناء فرائدها, أرباب البصائر والاعتبار, على تداول الأزمَّة والأعصار، وصلاة وسلامًا على ما تلألأت شريعته الغراء ومجبته البيضاء, مطالع ومظاهر الحكم والأسرار، سيدنا ومولانا محمد تاج الرسالة، وعين الرحمة المنثالة، النبي الصوة المختار، وعلى آله وأصحابه مصابيح الهدى، وأعلام الاهتداء, أمناء الوحي والآثار، أولئك هم الفضلاء الأخيار. وبعد, فإن لإيضاح الحقائق فضيلة ومزية، والشمس عن مدح المادح غنية, ولكن الاختراع في إبرازها، وتمييز صدورها من أعجازها, هي المزية الأولى, وبموارد التصنيف الأجدر والأولى، يستلفت أريحية الناظر بعاطفة مستجدة، وطارفة من أفانين البلاغة مستمدة، فلا يزال كلفًا بما فيه، مغتبطًا بمنازعه وماحيه، ودونك ما سمحت به الأيام، وأهداه واضعه تحفة للأعلام, وغرة في جبين عالم الإسلام, كتاب "الفكر السامي", فقد كساه الاختراع حللًا عبقرية، وقلده الإبداع من الجواهر حليه، وخلعت عليه الإجادة بهاءها، ومدت إليه الإفادة أضواءها, ناهيك به من ذخيرة صانها الدهر لهذا العصر, ما لمحاسنها من حصر، ومدون أحكم تاريخ الفقه الإسلام وفصله، وميز كل طور من أطواره بما انتمى إليه ووصله، فجاء بحمد الله كتابًا حافلًا مفيدًا، وفنًّا من الفنون الشرعية مبتكرًا جديدًا, ترتاح له الأسماع والنفوس, ويقول مجتليه: لا عطر بعد عروس، حيا الله جامعه، المبدي بدائعه، ألا وهو العلم الفرد والحهبذ الدراكة الأوحد، مفخر التخوم المغربية، وحامل راية العلوم الشرعية والأدبية, العمدة الهمام، العلامة المفضال أبو عبد الله الشيخ, سيدي محمد الحجوي -شكر الله سعيه، وأدام حفظه ورعيه، فلقد تقدَّم لاستنباط هذا الفن العزيز من مشارعه، واستخصله استخلاص الإبريز من معاهده ومواقعه، فأفرده ورسمه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 وأوضح مجمله وأبدى علمه، على أسلوب متين، وطراز ثمين، إلى تحرير، لم يحم حوله تحرير، وتحبير كأنه الروض النضير، شنف أعزه الله بما صنَّف، واستظهر بالغريب المصنف، نسأل الله سبحانه أن يعينه على أمثاله، ويحرس معاقد فضله وكماله، بمنِّه ونعمه. حرره محب العلم وأهله, عبد الله محمد بن يوسف, المفتي الحنفي بالديار التونسية - لطف الله به، في "25" شوال سنة سبع وأربعين وثلاثمائة وألف. تقريظ حافظ مصر وشيخ محدثيها النقَّاد مؤلف كتاب "الإيقاظ", الذي أعجب به الحفاظ، وصاحب المكتبة العامة الشهيرة بمصر. العلامة النحرير المتقن, سيدي أحمد رافع الحسين القاسمي الطهطاوي الحنفي -نفع الله به, ونصه: بسم الله الرحمن الرحيم, الحمد لله الذي هدانا لأقوم سبيل, وأنزل شريعته الغراء بالغة الحكمة واضحة الدليل، والصلاة والسلام على سيدنا محمد المؤيد بالآيات الباهرة، والداعي إلى سعادتي الدنيا والآخرة، وعلى آله المتبعين سننه، وأصحابه المجاهدين في الله على بيننة. أما بعد، فقد اطعلت على أجزاء من كتاب "الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي" لحضرة الأستاذ الفقيه الجليل, سيدي محمد بن الحسن الحجوي الثعالبي الفاسي, فألفيته كتابًا سلك في البحث عن تاريخ التشريع الإسلامي أحسن طريقة، ورمى عن قوس النظر السديد فأصاب الحقيقة، ومن أجلِّ مباحثه ما احتواه من تراجم كثيرة من حملة الشريعة الزاهرة، وذكر مآثرهم الجليلة الفاخرة، أورد كل هذا في عبارات رائقة وأساليب فائقة، فنشكره على هذه الهدية السنية شكرًا وافيًا، ونسأل الله تعالى أن يكثير من أمثاله, ويجعل عمله متقبلًا، وذخرًا باقيًا. القاهرة, في يوم الأربعاء رابع من شوال من سنة تسع وأربعين وثلاثمائة وألف الهجرية، كتبه الفقير إليه سبحانه؛ أحمد رافع الحسيني القاسمي الطهطاوي الحنفي -عفا الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 تقريظ المجمع العلمي العربي بدمشق الشام على لسان مجلته بالجزء 8, من قلم عضوه العلامة الحقق ذي التآليف البديعة, الشيخ عبد القادر المغربي, ونصه: النهضة العلمية في المغرب الأقصى، وشيء من آثارها الدالة عليها: كلنا نعلم أن في تونس من بلاد المغرب نهضة علمية وأدبية، وكنا نتمنَّى مثله للجزائر ومراكش، فلم يخيّب الله ظنَّنَا، فقد أخذ يبلغنا من وقت ولآخر تارةً بالآثار العلمية القيمة التي يصنفها أبناء هذين وجود القطرين العظيمين, وتارة بما نسمعه من أفواه القادمين إلى بلادنا من ذينك البلدين وجود نهضة علمية، وقيام علماء مصلحين يعملون على تنوير بلادهم, وإن كان الدهر فجعنا بعضو مجتمعنا الكريم الأستاذ أبي شنب الجزائري، فقد عوَّض الله تلك البلاد عنه بالأساتذة الحجوي والكتابي والرجراجي والجزولي, وغيرهم من أبناء مراكش والجزائر, وإن للأستاذ محمد بن الحسن الحجوي الثعالبي "مندوب المعارف العامة في مملكة مراكش ووزيرها وأستاذ العلوم العالية بالقرويين" اهتمامًا عظيمًا بأمر نشر العلم في تلك البلاد، وتنبيه الأفكار إلى وجوب إحداث نهضة عملية تتمشى مع النهضات الأخرى في سائر الأقطار الأخرى العربية، وهو يعمل دون ملل في هذه السبيل، فيكتب ويؤلف ويخطب، ويلقي المحاضرات الممتعة في الموضوعات المختلفة. ومن آثار قلمه ما أهداه إلى مجتمعنا العلمي وهو كتاب "الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي" ألقى المؤلِّف ملخص كثير منه بشكل محاضرات في نادي الخطابة الأدبي بالمدرسة الثانوية, وموضوعه: كيف نشأ الفقه الإسلامي, إلى أن صار لما هو عليه الآن، فبيَّن فيه كيف كان فقه العرب، ثم مرتبته من العلوم في الإسلام، وأطواره الأربعة التي تطوَّر فيها الإسلام. 1- طور الطفولية. 2- طور الشباب. 3- طور الكهولة. 4- طور المشيب والهرم. ثم يعقب ذلك الطور العتيد طور التجديد، هذا إلى ما يتعلق بالاجتهاد والتقليد، وقد وشَّح المؤلف كتابه بتراجم المجتهدين الثلاثة عشر مجتهدًا، وهم الذين دونت مذاهبهم في صدر الإسلام، وتراجم فقهاء الصحابة والتابعين, ومن بعدهم من نخبة علماء المذاهب المقلدة, وبالجملة, فإن مضمون هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 الكتاب فلسفة تاريخية أصولية للفقه الإسلامي، وتاريخ لأشهر مشاهير فقهاء الإسلام، ففيه تبيان لأصول الاجتهاد, وتدريب عليه، مع بيان المذاهب الأربعة, مملوء بالفوائد التي تتعلق بذلك جميعه. فالقارئ الفطن يفهم مما تقدَّم فضل الأستاذ المؤلف، ومبلغ الحاجة إلى تأليفه, لا في البلاد المغربية فقط, بل في البلاد الإسلامية التي نهضت اليوم من مرقدها, تبغي لنفسها مكانًا اجتماعيًّا راقيًا يتلاءم مع الأمكنة التي تتبوؤها أمم العالم، وهذا وكتاب "الفكر السامي" المذكور, يتألَّف من أربعة أرباع, كل ربع منها يتضمَّن طورًا من الأطوار الأربعة الآنفة الذكر، وقد طبع منها ربعان فقط, كل منهما في جزء مستقل. "الربع الأول" طور الطفولية, من بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى يوم وفاته, "والربيع الثاني" طور الشباب, من زمان الخلفاء الراشدين إلى آخر القرن الثاني. أهدى المؤلف إلى مجمعنا هذين الربعين أو الجزئين الأول منهما في "160" صفحة, والثاني في "340" صفحة, وقد طبع في مطبعة النهضة بتونس، وإنا لنرجو أن يوفق المؤلف إلى طبع الربعين الأخيرين. 2- ومن آثار الأستاذ الحجوي المهداة إلينا "المحاضرة الرباطية في إصلاح تعليم الفتيات في الديار المغربية" وقد ألقى الأستاذ هذه المحاضرة في معهد الدروس العليا بالمؤتمر الذي انعقد برباط الفتح سنة 1922، وقد نشرتها جريدة النهضة التونسية, ومن يوم إلقائها ونشرها تقدم: تعليم النبات بسرعة مدهشة, حتى في المدينة التي كانت متعصبة كفاس, كان عدد التلميذات "374", فبلغ الآن نحو "1400" تلميذة رغمًا عن معارضة بعض الأعيان في ذلك, عندما سمعوا المحاضرة تلقى جهرًا في المؤتمر. وكل من يهمه مطالعة موضوع المرأة المسلمة وتعليمها, ينبغي له مطالعة هذه المحاضرة المفيدة, وقد طالعتها واستفدت منها. 3- ثم رسالة تتضمَّن المحاضرات التي ألقيت في المؤتمر سنة 1924، والخطب التي منها خطبة للمؤلف، ثم قال: ومن مضامين هذه الرسالة يتبيّن للقارئ مبلغ النهضة العلمية في المغرب الأقصى, وحسن اتجاهها إلى ما يرقِّي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 الفكر، ويثقِّف العقول. 4- رسالة تتضمن محاضرة الأستاذ الحجوي, وزير المعارف المشار إليه في المسامرات "المحاضرات" بحاضرة فاس، وموضوعها: "مستقبل تجارة المغرب" وقد ضمَّنَها أفانين من الأحوال التجارية من الوجهة الدينية والاقتصادية والتاريخية، وقد أوَّل كلام المؤرخ ابن خلدون في مقدمة تاريخه "إن التجارة نازلة عن خلق الرؤساء, وبعيدة عن المروءة" فقال: إن المراد بها تجارة أولئك الضواطرة الذين ينزلون الأسواق، وليس معهم آداب التجارة وعلومها, سوى الختل والخديعة. الإمضاء المغربي ثم جاء مكتوب خاص من حضرة العلامة المحقق السيد عبد القادر المغربي الدمشقي المذكور, ونصه: بسم الله, إلى السيد السند الأجلِّ, مولانا الأستاذ محمد الحجوي الثعالبي -حرسه الله تعالى آمين. بعد حمد الله والصلاة على نبيه, أعرض أنها وصلت هديتكم, وهي الجزء الثالث من تأليفكم "الفكر السامي", وكنتم منذ حين أرسلتم إلينا الجزءين الأولين باسمنا, وآخرين باسم المجمع, إلى أن قال: ولعلي أوفق إلى أن أكتب عليه كتابة توفيه حقَّه، فإنه يعلم الله خير ما كتب في عصرنا هذا عن الدين الإسلامي، وسر التشريع فيه. وقد طالعت الجزءين الأولين، فأعجبني منهما حسن التنسيق، وجودة الاستنتاج، وغزارة المادة، وجزالة الفائدة, فلا زلت أيها السيد منارًا يهتدى به، ويستضاء بنور علمه، وأنا بعد لم أطالع الجزاء الثالث، فسأطالعه، وأنتظر الجزء الرابع حتى إذ وصلني عدت، فكتبت في تقريظ الكتاب ما يفي بحقه إن شاء الله, إلى أن قال: وأختم كتابي بالدعاء والسلام. الداعي المغربي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 تقريظ وزير المعارف بدولة الشام, ورئيس المجتمع العلمي العربي, العلامة النابغة ذي التآليف السائرة مسيرة الشعاع, أبي عبد الله محمد كرد علي -حرسه الله, ونصه: دولة سورة وزارة المعارف، الديوان رقم 6, لحضرة الأستاذ المحقق سيدي محمد الحسن الحجوي الثعالبي وزير المعارف في المملكة الشريفة المحترم. سيدي الأستاذ، وصلني الجزء الثالث من "الفكر السامي" الذي خطته براعتك، وأملاه علمك، وإن عالم الأدب العربي ليرحب بكل سفر يصدر من معدن فضلك، ويغتبط بأياديك البيضاء على العلم في بلادك, وفقني الله وإياك إلى ما فيه نفع المسلمين والعرب بمنِّه وكرمه. دمشق في 13 ذي العقدة 1349، "1" آذار 1931. وزير معارف سورية, ورئيس المجمع العلمي العربي, محمد كرد علي. تقريظ العضو المتطوع بمجلس القروين، العضو بالجمع العلمي العربي الدمشقي. العلامة المحدث الشيخ أبي عبد الأحد عبد الحي بن عبد الكبير الكتاني الشهير, ونصه: الحمد لله, إن أحسن ما تحلّت به الآذان والمسامع، واتخذ زينة للمحافل والمجامع، ما كان من الأوضاع جديد الاختراع، وأجادته يد الإبداع, ومن ذلك ما جادت به قريحة العبقري الأوحد، السري النابه الأسعد، الحلاحل العلامة، الذي جعل ضروب الرفعة مقامه، وابتزاز الفرائد اهتمامه, الأستاذ المشارك النابغة، مندوب المعارف أبي عبد الله محمد الحجوي, أقرَّ الله به أعين البلاد، وزيَّنَ به سماء الإصعاد، ورمى بقوسه الباتر عيون اهل الفساد والإفساد، في كتابه المعجب، فقد اجتليت مقاصد أجزائه الأولى، وتتبعت مضامينه المثلى، فوجدته أجاد فيها وأفاد وحرَّر وهذَّب وزاد، وجمع واختصر وقرر، وفصَّل وبوَّب وحرَّر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 فهكذا هكذا إلا فلا لا. وإن موضوعًا شيقًا كالموضوع الذي انتدب له المواضيع الجديرة باهتبال العملة وإصغاء النقلة، واستفادة المستفيدين، وإقبال المقبلين؛ لأن فقهنا الإسلامي أحسن فقه، وأفضل قانون، وأكمل وحي يعمل به ليوم المنون، فالعلم بتاريخه يزيد وقعًا في القلوب، وشكرًا لواضعه علام الغيوب, ومبلغه أفضل نبي وأكبر مشرّع، أنالك أشرف مطلوب، فإذا ضمَّ لنفاسة الموضوع جزالة الترصيف والإتقان المرفوع، كأن الناظر والمستمع كالمستنشق أزهار بستان، والمستجلي عرائس أذهان، ونتائج قرائح وأطيب أفنان، فهاكه كتابًا عز مطلبًا، وجل رتبًا، فخذه من الشاكرين، واستجل محاسنه للنهابهين، والحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى. 9 ذي القعدة "1349", عبد الحي الكتاني. تقريظ قاضي الجديدة سابقًا ومفتى فاس، وخطيب حرمها الإدريسي, العلامة المحقق سيدي العابد السودي القرشي حفظه الله, ونصه: الحمد لله المانح لذوي الأفكار السامية من مواهب العلوم والمعارف, ما سنح لهم به الدخول إلى روضة الرقائق واللطائف، ذات التربية الباهرة، والمعادن الفاخرة، والزهور العاطرة, المرصَّعة الجوانب الشاسعة، والزوايا الواسعة، بالأشجار اليانعة الأغصان, المثمرة بأنواع الفواكه الحسان, صنوان وغير صنوان، فسبحان مولانا الذي هيأ لمن شاء من ذوي الأفكار السامية أسباب الاقتطاف من الزهور الجميلة الأوصاف، اليانعة بروض المعارف والعلوم, ومنحهم الاقتدار بمعونته على استخراجهم له من منطوق ومفهوم, وإبراز ما خفي من مكنون مبانيها, واستخلاص ما حوته من اليواقيت في خبايا معادنها، إلى أن اجتمع لديهم بحسن وضعه، ومهارة صنعه, عقول ذوي العقول, ويسلب كل ذي لب، بما أودع فيه كل ما يؤمل على الاستغراق والشمول، والصلاة والسلام على سيدنا محمد القائل "أنا مدينة العلم وعليّ بابها", وعلى آله وأصحابه، وكل من تعلق من أمته بعرى العلوم وأسبابها. وبعد, فيقول أسير كسبه العبد الفقير إلى مولاه, العابد بن أحمد السودي القرشي, لا يزال يرفل في ظل رحمة مولاه ويمشي: لما ساعدتني الأقدار الإلهية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 والمواهب الصمدانية بمطالعة التأليف المسمى "الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي", الذي هو تأليف أخينا العزيز، والمبرز على منصَّة وزارة العلوم والمعارف الإسلامية أتمَّ تبريز, بما له من غزارة العلوم وحسن التدبير والتميز, البحر الخضم الذي لا يدرك ساحله، والبر الخصيب الذي لا تطوى مراحله, والطراد الشامخ الذي حنت إليه الفضائل السامية، السياسي الغيور المتمسك بالسنة النبوية العالية، الفرد الذي كسى بحرير تحريراته حرائر المعارف، وحلى بيواقيت أفكاره عرائس اللطائف، المشارك النحرير الذي لا يجارى في ميدان العرفان، الدراكة الشهير الذي لا يقابل عند المساجلة إلا بالتسليم والإذعان, النبيه المتيقظ الذي فاق كل من يكتب ويروي, أبي عبد الله سيدي محمد بن الأستاذ المنعم بكرم الله سيدي الحاج الحسن الثعالبي الشهير بالحجوي، حفظ الله مجادته وأعلى مقامه، ومهَّد له سبل المعالي مع السلامة، ومزيد الاستقامة، القائل لسان حال مؤلفاته: تلك آثار تدل علينا ... فانظروا بعدنا إلى الآثار وتأملت جملة وافرة من مبانيه، وأمعنت النظر في تراكيب معانيه، فوجدته كما قال القائل: وخريدة برزت لنا من خدرها ... كالبدر يبدو من رقيق غمام تسبي من العرب العقول بأسرها ... وتطير لب الروم والأعجام فاشتد للتعليق به هيامي، وأضرمت لتقريظه نار غرامي، فلم أشعر إلّا والنداء خلفي وأمامي، اتئد أيها النبيه، وهون على خلدك، فما عسى أن تقول فيه، ولسان حاله يصرخ بملء فيه، فقريض أبي الثناء تقريظه منه نفسه، فرجعت إلى نفسي وقلت لها: وايم الله ما خوطبت إلّا بمقالة صدق, ولا سمعت إلا صميم حق، فمعاينة الأثر تغني عن الخبر، فلله دره من مؤلف، ياله من مصنف، أسس على تحرير المناط، كأنه تحريرات القرافي وابن الشاط، ضمَّنه من الأفعال الصريحة والأحاديث الصحيحة ما تطمئن له النفوس، ويقول كل منصف: لا عطر بعد عروس، وكيف لا ولم يسبق لهذا الصنيع العجيب، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 والميع الغريب، أحد من فحول السلف، ولا رمى مرماه حاذق الخلف، ولا اقترب من حماه مؤرخ نجيب, ولا صاحب المعية أريب، ولا اهتدى أحد من المبتكرين للإشارة لهذا المنزع المصيب، مع مسيس الحاجة إلى معرفة أحوال نشأة الفقه وتطوراته، وكيفية تأصيلاته وتفريعاته, فسبحان مولانا الذي ادَّخر هذه المنقبة العظيمة لهذا الرجل العظيم، ووفقه إلى استخلاص المناهج الفقهية والأدلة الشرعية وخلاصة السنة النبوية المرعية، وجعل علمه موضوع عمله المبرور, والسعي المشكور, مع تفوقه في بيان أساس المجتهدين، وما جرى به عمل الصحابة والتابعين، وكأني به يقول بلسان حاله الصريح, لمن يحاول تقريظ هذا المشروع: هيهات فإنك كمن يرى الناس محاسن القمر ليلة إبداره بإيقاد الشموع، يا له من مشروع سدلت عليه حلة الحمد والثنا، وأديرت كئوس معارفه على ذوي الإنصاف بالرحيق، وأضرمت حرارة شهبه في أكباد الحسدة من نار الحريق، فكشرًا لك أيها المؤلف بعد شكر من ألهمك لهذا الصنيع، وهنيئًا لك بهذا الغرس البديع، الذي رأيت نضارة محاسنه على نضارة رياض الربيع, لازلت ترفل في رياض العلوم غاديًا ورائحًا، وفي كل أعمالك السرية والجهرية ساعدًا ناجحًا، وأثابك على علمك بمضاعفة الحسنات، والعفو عن السيئات. تقريظ مفتى فاس سابقًا, وابن مؤسسها وقاضي تازة سابقًا, ووجدة حالًا, العلامة المحرر مولاي إسماعيل الإدريسي الحسني, ونصَّ بعد الديباجة: يظن كثير من الناس أن المغرب الأقصى شاغر من العلماء أرباب الأفكار الحكيمة, والأقلام السيالة بالحقائق الفلسفية الناصعة, مصورة بصورة المحسوس الملموس, والمفيدين بابتكار الموضوعات الهامة في التأليف والنشر، ومن حكماء ماهرين يحللون المعلومات تحليلًا كيمياويًّا يدل على حياة العلم في أقصى المغارب، ولكن لا يزال الزمان يرينا خلاف ذلك على طريق نقيض، يرينا أن بين ظهرانينا ومن فلذات كبد ذلك المغرب، ومن أبناء جلدتنا العلماء والحكماء والمفكرين والمبتكرين والمفيدين، وناهيك في هذا الباب بذلك العلامة الحلاحل، والأستاذ الفرد الأوحد، الوزير الأمثل, سيدي محمد الحجوي الثعالبي، وناهيك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 دليلًا على ذلك ما أبداه من الفكر السامي، فإنه فكر وسام حقيقة، بل هو الآية الكبرى, وهو فلسفة, ولماذا فلسفة الفقه وعمر الدين مهذبه جامعة مقربة, أبرزها رافلة في حلل التحقق التحرير، والتنميق والتحبير, دالة على غلط ذلك الظن، وعلى أن للمغرب رجالًا حكماء، فشكرًا لك أيها الأستاذ، وكفانا فخرًا وجود أمثالكم, يتحلى بهم جيد العالمية بالمغرب الأقصى والسلام. وجدة في 4 ذي الحجة 1349, قاضي وجدة إسماعيل الإدريسي. تقريظ نابغة كتاب وشعراء القطر التونسي, وعين أعيانه رئيس التشريفات الملوكية سابقًا, وشيخ مدينة بنزرت, الجنرال وشيخ مدينة بنزرت, الجنرال السيد محمد بن خوجة, ونصه: بعد الحمدلة والصلاة، العلامة النحرير، المتحلي من الكمالات بكثير, الأستاذ الأرضى، والهمام الأحظى، الشيخ سيدي محمد الحجوي، مندوب المعارف، والجامع بين تيدها والطارف، حرس الله مقامه، وأيد بنوره قوله وكلامه، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فقد وصلنا -وصلتكم السعادة الحسنى وزيادة- الربع الثالث من كتاب "الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي", وقد سرحنا طرف الطرف، فإذا هو غزير الفائدة، عميم الإجادة, جدير بالتهاني كشقيقه الأول والثاني، بحيث جاء متممًا لما تقدمه من التعريف بأصول التكليف، وبيان القول الصحيح منها من الضعيف, تلقاء مادة الروح الإسلامية، التي هي النطفة الفقهية المستمدة من الآيات الشريفة، المتممة لمبارك الأحاديث الصحيحة، والأقوال الراجحة النافعة التي هي للشبهات دافعة، وللكتاب والسنة راجعة، وأنه بلسان الحق لصنيعٍ مشكور, سيحفظ لكم إن شاء الله جميل الذكر مذ الأعوام والدهور, كيف لا وشهرة فضلكم وغزارة علمكم بعدت بمثلها العهود، وفي عالم الغيب والشهود، والرجاء بالله أن يعينكم على إنجاز مشروعكم, بإبراز الربع الرابع مع ما يتبعه من خاتمة الكتاب المشرئبة نحوها عيون الألباب، لأنها الركن الركين، لتعلقها بكيف يكون التجديد المتين، نسأل الله تعالى أن يديم لكم النفع دوام الوتر والشفع، وأن يحرس مهجتكم، ويصون بهجتكم, ومعاد السلام عليكم, من أخيكم المتهج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 بكمالاتكم، المكرر لسانه لوافر حسناتكم، وجميل صفاتكم، فقير ربه, أمير الأمراء محمد بن الخوجة عامل بنزرت -لطف الله به- في 22 جمادى الأخيرة، وفي نوفمبر 1930-1349. تقريظ الفقيه النبيه العلامة المتفنن الصوفي قاضي وجدة ثم الجديدة سابقًا, وقاضي سطات الآن, أشهر قضاة المغرب, سيدي الحاج أحمد سكيرج, ونصه: بسم الله أصول وبحمده أقول، قد طالعت كثيرًا من كتب أهل العصر , ولم أك ممن يعيض عن الاستفادة من تأليف أهل عصره، والاستطلاع على مخبآت مفارق علماء مصره، بل لي ولوع تامٌّ بصرف نفيس الأنفاس في مطالعة ما كتبوه، وبذل أنفس النفائس في اقتناء ما ألفوه، ولم آل جهدًا في محاربة عوامل النفس في إلزامها بتنزيل التناس منازلهم بما أمكنني، فلم أر منها منصفًا يخضع أمام أئمة العصر بإذعان تام, مثل المنصف الذي تجسدت فيه ذاتًا لطيفة ذات السنة, رطبة بالثناء الجميل من سائر الوجوه, حضرة مندوب العلوم والمعارف بالإيالة المغربية الشريفة, الشيخ الإمام أبي الحسن العلامة الشهير, سيدي محمد الحجوزي الثعالبي, عندما اطَّلعت على تأليفه المعنْوَن بالفكر السامي، ذلك لأنه مستحق لما أقول وفوق ما أقول، طالعت كتابه المذكور، فشاهدت أنوار المعارف مشرقة من خل ألفاظه الدرية، وبيان معانيه السحرية، وإن من البيان لسحرًا، فقد كادت قبل تصفح صفحاته أن تفصح عمَّا انطوت عليه، وتنظر العمي إلى سطوره، وتسمع الصم كلماته, في غيبته وحضوره، وهو السهل الممتنع عن الغير الإتيان بمثله. ولقد حاولت تقريظه، فتلعثم مني اللسان، وارتعشت مني البنان، فأطرقت منه خجلًا، وأنشدت من بحر الخبب مرتجلًا. الفكر السامي في الكتب ... كالشمس ولكن لم تغب طالعه تجده منطويًا ... في العلم على كل العجب يشفي من داء الجهل ولا ... يبقى جهلًا من ذي طلب فيه الآيات مبينة ... للنا س الحق بلا ريب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 ما الروض إذا الأفنان به ... ازدهرت علياه مدى الحقب وبه الأنوار تفوق شذا ... وشدا فيها الحادي العربي وأجابته الأطيار لا بما ... يدع العشاق مع الطرب وهم لعذارهم خلعوا ... وانجلت عنهم كلُّ الكُرَبِ طابت لهم أوقاتهم ... في هذا الروض بلا نصب في الناس بأبهج من هذا ... "الفكر السامي" بين الكتب لم لا ومؤلفه علم العـ ... لم العالي أعلى الرتب "الشيخ الحجوي" من شهدت ... بالفضل لله أهل الحسب ما من علم صعب إلا ... وله أضحى ملقى السلب ولديه ترى يجثو العظما ... من بين يديه على الركب فأفادهم علمًا جمًّا ... وجلا عنهم كل الحجب لله أبوه فقد كملت ... فيه الحسنى مذ كان صبي همم في العليا منه سمت ... وبهم عن كل الضيم أبي وأبان الحق ولا عجب ... أن أحيا العلم مع الأدب فالله يديم سلامته ... ويقيه من كل النجب ويديم به نفعًا فما ... ويؤيده طول الحقب وقلت أيضًا من بحر البسيط من الضرب المقطوع: أنى لفكر سما في سلم الفهم ... يعلو على فكرك السامي سما العلم يا أيها السند الحجوي الذي شهدت ... بفضله فضلاء العرب والعجم لك التقدم في علم وفي عمل ... وبحر صدرك بالدر المسني رمي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 لله ما أنت مسد من عظيم جدًّا ... أسراره قد سرت كالروح في الجسم ألفت خير كتاب عُدَّ موقعه ... بين التآليف مثل المخ في العظم كتاب علم صحيح فيه معرفة ... وحكمة أحكمت بمحكم الحكم كتاب علم صحيح لست أمدحه ... وحدي بما فيه من إنارة الفهم إني أقول لمن قد رام يجحده ... دع الجحود الذي عن الهدى يعمي طالعه واحكم على ما قلت معترفًا ... بالحق في حقه إن كنت ذا حزم أبوابه كلها في العلم قد فتحت ... مغالق الفهم والتفهيم للقوم فصوله كلها في العلم جامعة ... من دره ما علا وازدان في الرقم ترى تراجمه يزداد رونقها ... بما أجاد به في الحرب والسلم يريك حسن صنيع منه جاد به ... وكم به لمزيد العلم من غنم من يدَّخره فقد تمت خزانته ... من نقصها إن يرد علمًا بلا وهم أما مطالعه ففي الجهالة قد ... كفاه بالعلم ضر الهم والغم بشر مطالعه بالعلم وهو به ... له كفيل مع التحقيق بالجزم فاشدد عليه يديك ثم عض عليها ... بالنواجذ فهو فائق النظم واظب عليه وحصل ما حواه لكي ... تكون في العصر ممن فاق بالعلم هذا زمان به شمس العلوم بدت ... في الأفق تنفي ظلام الجهل والظلم ولا ترقى إلّا بالعلوم ولا ... ولاء للجهل عند صاحب الحزم لا خير في الجهل في سرٍّ وفي علن ... والجهل في كل حال خص بالذم وخير داعية في قطرنا ظهرت ... في عصرنا العالم الحجوي أخو الحلم يغضي عن الجاحدين وهو يعمل ما ... في طوقه في انتشار علمه الجم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 يدعو إلى العلم وهو غير ملتفت ... لما يصادفه في البدء والختم فالله سبحانه يديم حرمته ... وفي العلا دائمًا يعلو على النجم أحمد سيكرج -أمَّنَه الله. تقريظ الفقيه العلامة وقاضي دمنات الآن, أبي العباس أحمد بن محمد بن المدني السرغيني, ونصه: الحمد لله مَنْ آتاه حِفْظَ الوصية، ومنحه نصيحة الرعية، وألهمه عدل القضية، وأنعم عليه بأن فوّض أمر العلماء إليه، حافظ الصعر المحدث الشهير، العلامة النحرير، السيد محمد بن الحسن الحجوي الثعالبي, بعد السلام التام، عن خير مولانا الإمام، فإن العصر الجديد صار قديمًا بما مر عليه بمؤثرات الانتظار، وأصبح الفكر يستنير بمصابح الاعتبار، ويستنصر بالأفكار، ويقول في عالم القوة والأقطار، إذا ما الفكر حار بتشويش تراتيب الأخطار، وإذا ما جهل التراجم جار, فلا ننسى مزية ضوء سامي الأفكار, فإنه لا فضل في جمع الحدث والاضطرار، بدون تأمل واعتبار، وإنما الفاضل من استطاع بملكة التصرف، وصناعة النقد والاختيار، فعلم الفقيه بما كتب، لا بما نصب، فإن استخدم العلوم والتفوق في علوم الآلات يطفئ حرارة البرية بالمنافع العصرية، لازلتم عصابة فضل تعقد على مدحكم الخناصر، وتختم على حبكم السرائر، لو كان بي أن أشكرك لظنَّ في تحسينه، أو أمدحك لرأي لك فيما أبدعت في تزيينه، لكان لقلمي مطمع أن يدنو من الوفاء بما يوجبه حقك، ويجري في الشكر إلى الغاية كما يطلبه فضلك، لكنك لم تقف بعرفك عندنا، بل عممت به من حولنا، وبسطت على القريب والبعيد من أبناء لغتنا، لازلت تنبه من العلماء الخامد، وتهز فيهم أريحية الجامد، بل لا تنفك تحيى من قلوبهم ما أماته التقهقر بالقسوة، وتقوم من نفوسهم ما أعوزت فيه الأسوة، حكمة أفاضها الله على يديك، فجردتها من ثوبها الغريب، وكسوتها حلة من نسج النصوح الحبيب، كتاب يتيم بين أترابه، عزيز بين طلابه، شاهد لنفسه بنفسه، بمعانيه المشرقة من آفاق ضمسه, تريق لفكر قارئه, بعلاج فنونه كيف يشاء، ويستفيد منه ما يشاء، فهو في خزانة الفقيه منفعة، وللمحدث في فهرسته دروس مودعة، يزداد به أهل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 الفن في بلاغتهم وأدبهم، وأهل الحديث والتحديث في فصاحتهم، وليست هذه أول فائدة التقطت من هذه المائدة الكاشفة للعلماء عن المعاهد المشاهد، سبوح لها منها عليها شواهد. وكتبنا هذا على نية الاعتذار، وقصد الإذكار ملتمسًا إتمام ما بدا، من شهرة الندا، بتعجيل ذلك المقتدى، ولكن في ذلك مأثرة في كل مكان, وتشكر بكل لسان. بشرت دورسي بالذي قد رأيته ... فما محنتي الإليال قلائل وقلت لفكر السامي فينا مزية ... فليس لنا من دهرنا ما ننازل فلا برحت لعين العلم إنسانًا, ولازلت على المجد والفضل عنوانًا، يا بحر العلم الزاخر، لمثل هذه المآثر، جاز قولهم: كم ترك الأول للآخر، أبقاكم الله منفعة للإسلام، وعلى صميم المحبة والسلام. في منتصف ربيع الأنور الأزهر عام 1348, إمام الضريح العباسي, أحمد بن محمد المدني السرغيني -سامحه الله بفضله. تقريظ علامة القطر الجزائري, أشهر عالم مفكر فيه, ورئيس علمائه كافة, الشيخ عبد الحميد بن باديس, المدرس بقسنطينة, وصاحب مجلة الشهاب, ونصه: حمدًا وصلاًة وسلامًا, قسنطينة في 10 رمضان عام 1345. العلامة الأستاذ سيدي محمد الحجوي المحترم, سلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، وبعد: فقد تشرفت بهديتكم النفيسة الغالية, الربع الأول من الفكر السامي من تاريخ الفقه الإسلامي، فنعم موضوعًا طرقتم, وأسلوبًا فيه سلكتم، وإن كتابكم هذا إن شاء الله هو أساس النهضة الفقيهة في جامع القرويين, المعمور نهضة تبنى على النظر والاستدلال، فيخرج بها العلم من جمود التقليد إلى سعة الاتباع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 بالدليل، وإلى هذا فإني مدين لجنابكم بسبقكم إلى ربط سبب التعارف بيننا, لازلتم لكل فضل سابقين, فلكم على دوام العهد وإخلاص الود من قلب يمقت أشد المقت فئة المنافقين والمتملقين، والسلام معاد على فضليتكم, من أخيكم في الله: عبد الحميد بن باديس -لطف الله به. تقريظ الفقيه علامة طنجة ونواحيها, الأستاذ الشيخ سيدي عبد الصمد بن التهامي -حفظه الله, ونصه: الحمد لله وحده, وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه. مجادة الأخ في الله الفقيه الأجل العلامة المحدث الأستاذ المبجَّبل سيدي محمد الحجوي، رعاكم الله، وسلام عليكم ورحمة الله, بوجود مولانا علاه وبعد: فقد وصلتنا هديتكم السنية، وتحفتكم البهية، كتابكم الوحيد, ومؤلفكم الفريد, المسمى "الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي" فانشرح لها الصدر، وابتسم لهما الثغر، ووقعت بمكان في الجنان، وفسحنا لها في خزانة العلم أرفع مكان, ناهيك به من مؤلف طرق موضوعًا من أشرف المواضيع، وتفجر ينبوع سلسبيله من أرفع الينابيع, يا له من كتاب هو في الفقه الإسلامي فصل الخطاب، فنشكركم كثيرًا على هذه التحفة، ونُجِلُّ قدركم على هذه الطرفة, جعله الله خالصًا لوجهه الكريم, عظيم الأجر في دار النعيم، ونحن ننظر بكل تشوق النصف الباقي, أعانكم الله على إتمام نشره الدائم الباقي، ودمتم وفق ما رمتم، وعلى الأخوة, والسلام. حرِّرَ بطنجة في عشرين ربيع النبوي الأنور عام 1348. عبد الصمد بن التهامي جنون -كان الله له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 كما قرظته جرائد ومجلات في الأقطار الإسلامية, عربية وغيرها, فلنقتصر على نزر معتذرين للأكثرين. فمن مقالة افتتاحية لجريدة السعادة العربية, عددها 3100 بتاريخ 12 عام 1345, وهي مقالة طويلة وصف بها الكتاب وصفًا مدققًا, نقتطف منها فقرات: قال بعدما ذكرت الجمود الذي اعترى الأمم الإسلامية على كل قديم, والاكتقاء بالافتخار والاستكثار بما فعله الآباء, وخلده من المآثر وتقليدهم, وسد باب الاجتهاد, إلى أن قالت: وكان المفكرون في الأمر لا يعدو فعلهم فتح الأفواه وسدها على التأنف والتأسف, ويا ليت شعري ماذا كانت تصبح العاقبة لو لم يتح لنا القدر أفرادًا أحسّو الخطر الحائق، يقاومون ويكافحون إلى أن أوجدوا هذه الحركة الفكرية التي يروقنا أن نحييها اليوم في شخص زعيمها، ومؤسس أركانها, العلامة السيد محمد الحجوي, أحد أساتذة كلية القرويين، والمندوب المخزني في المعارف والعلوم, نقول هذا وبين يدينا كتاب "الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي", الذي وضعه هذا الأستاذ النحرير منذ نيف وسبع سنوات، وتأخَّر عن طبعه لأسباب لا نعلمها حتى كتابة هذه السطور, وقد كان كشف عن بعض فصوله ومحتوياته في عدة مسامرات ألقاها بنادي المدرسة الثانوية بفاس, في غضون سنة 1918، ومنذ ذلك الحين وطلبة العلم، وقضاة المحاكم يترقبون بروزه على أحرِّ من جمر الغضا، وما كان أشد ارتياحهم ساعة ما بشرتهم الجرائد الفرنسية والعربية، وفي طالعها السعادة بخروجه إلى حيز المطبوعات. اهتدى المؤلف إلى طريقة في الوضع جديدة غير مسبوقة بمثلها ... إلخ. ثم تكلم على تقسيم المؤلف، أحوال الفقه إلى أطوار أربعة، وأطال في بيان ذلك إلى أن قال: ولم يزل الأستاذ الحجوي يساير الفقه في تطوراته وتقلباته, ويتتبع خطواته موضحًا تارةً استحالة حاله، وأخرى موجبات تغيراته، وهو في كل ذلك يحرر ويدقق، ويسبر الأغوار لاستخراج الحقائق من أصدافها, حتى إذا وصل إلى رأس المائة الأولى, إلى أن قال: وفي هذا الحضيض أو هذه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 الشيخوخة, يعني في المائة الخامسة فما بعدها، وقف عليه الأستاذ الحجوي في جملة من وقفوا، فشكا حاله، ورثى مآله، واعتزم إنقاذه وانتشاله، وليس هذا الإنقاذ بالشيء العسير لو كان للمؤلف وأشباه المؤلف أعوان وأنصار على العمل الصالح وإصلاح الأعمال أهـ. وقد خصصت أيضًا مقالة لتظريظ الجزء الثاني، وأخرى للثالث عند ظهورهما, ونقلت تقاريظ عن أفراد نوابغ من علماء المغرب, كما نقل غيرها من الجرائد من غيرهم من النوابغ. وقد قرظته الزهرة والنجاح والشهاب, وغيرها من جرائد أفريقية والشام ومصر ومجلاتها, مما يطول جلبه ولا تبعد مراجعته. مما أتى في بعض الجرائد الأجنبية ما جاء في جريدة لافيجي الفرنسية بالمغرب. نقتطف منها بعض فقرات, هي نفثات من قلم المسشرق المتضلع من العلوم الإسلامية, موسيولوي موسى القنصل جنرال، ومفتش العام للأمور الأهلية بالمغرب إذ ذاك، وفي عددها 5762 بتاريخ 3 ماي 1927 تحت عنوان: حادث جديد في عالم الأدب المغربي إن عالم مغربنا نائب الدولة المغربية في المعارف العمومية, سيدي محمد الحجوي, أظهر تاريخًا للفقه الإسلامي تحت عنوان: "الفكر السامي", وقد أصدر منه الربع الأول من الأربعة الأجزاء التي يتركب منها الكتاب، وهو جزء لطيف يقع في 156 صحيفة عامرة السطور، وقد ابتدأ طبعه في مطبعة المعارف بالرباط، وأكمله في مطبعة البلدية بفاس في خلال خمس سنين, وذلك أن آلتنا الطباعية ليست بكافية الآن. ولندخل في الموضوع فنسارع بقولنا: إن سيدي محمد الحجوي قد اعتمد عند خوضه في هذا الموضوع أصوب المبادئ وأوفقها للدين الإسلامي الحنيف, التي ترى أن الفقه الإسلام علم ديني، وأنه موحى به، وعلى الأخص أصوله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 إلى النبي -صلى الله عليه وسلم, وقد برهن المؤلف على استقلال في الفكر، وحرية في النظر مع شعور بحاجيات الأحوال الحاضرة, بحيث نعتقد إن أظهار هذا الكتاب هو حادث جديد في عالم الأدب المغربي. وإليك القالب الذي أفرغ فيه أبحاثه التي قسَّم إليها كتابه, إلى أن قال: ثم تلي بعد ذلك بالمقصود الذي هو موضوع البحث، وهو تطورات الفقه في توالى الأعصر، وفي هذا القسم يتجلَّى في نظرنا ما لهذا المؤلف من المقدرة العظيمة, بل ما له من البراعة المدهشة التي لم نر نظيرًا له فيها, إلى أن قال: ونعتبر أنفسنا قد قدَّمنا للقراء كلمة موجزة مصيبة عن هذا الكتاب إذا قلنا في حقه: إن سيدي محمد الحجوي قد قطع الوصلة بالتقاليد العتيقة المغربية التي كانت تحول دون الباحث في كتب المغاربة، سواء منها المطبوعة أو الخطية، فلم يقدم لنا حضرة المؤلف لا مختصرًا من نوع المختصرات المتركبة من مجموع أحاجي ألغاز تستلزم شروحًا وحواشي، ولا مطولًا من نوع المطولات المنتفخة بالزخرفات الفارغة، والتكرار الممل، والتي يضيع فيها الموضوع في سبيل البحث عن سجعة أو توازن فقر. ولكنه قدَّم لنا مثالًا من ذلك الأسلوب الحي الناصع السلس المتجرد عن كل تكلف, الواضح الدلالة, العالي النفس, لم يتكلف فيه نكتًا غريبة، ولم يتعمَّد فيه إظهار تعمق معرفة، وفي هذا الكتاب طرز في آخر الصحائف تبين بعض المهمات وبعض أفكار المؤلف أو غيره من المؤلفين والمؤرخين, متقن الطبع, فيه بعض الحروف مضبوطة زيادة في التوضيح، في آخر هذا الجزء جدول للخطأ المطبعي، وفهرسة للمواد، وباختصار: فقد جاء هذا الكتاب تأليفًا علميًّا فريد الصناعة, فيه أفكار جديدة مبتكرة مفرغة في أحدث قالب. إليك أيها الوزير بتشكراتنا، ولنتمنّ أن يقتدي الناس بك في هذا العمل، فما أعظم هذه التسهيلات التي أتيت بها، وما أعظم ذلك الوقت الذي اختصرته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 على الباحث اهـ. ولما وصله الجزء الثالث لباريز، قرظه بكتاب كتبه للمؤلف, نقتطف منه هذه الجمل: أني مع ما ليد من الأشغال الأكيدة، بادرت إلى مطالعة بعض أبواب كتابكم السامي حقيقة, فوجدتها كغيرها مما سبقها في الجزءين الأولين, في غاية من الإتقان والذكاء، واتساع الفكر والأنظار، ومراعاة أحوال السياسة الخاصة بكل عصر من الأعصار، وبكل جيل من الأجيال، ويدل كل ذلك على معرفة تامة بعلم التاريخ، وعلم الأخلاق معًا، وتذاكرت بهذا الخصوص مع م كولان "يعني قيم الخزانة العمة العربية, والمدرس بالمدرسة العليا" ووجدت رأيه مطابقًا مع رأيي بالتمام, على أنه لم يبعثني محض المحبة لكم على ذكر ما ذكرته أعلاه، بل هو نظر كل ذي فكر سالم، سواء سبقت له معرفتك أم لا، على أن ذلك التأليف قلَّما يوجد مثله لمؤلف مغربي حادث, جزاكم الله خيرًا، وأورث أنجالكم تلك الأخلاق الجميلة التي نوركم الله بها ... إلخ, والسلام. لوسي مرسي 7 يناير 1931. تقريظ الفقيه العدل المدرس, سيدي محمد بن أحمد العبدي الكانوني الأسفي استقرارًا, ونصه: سيادة الفقيه العلامة الأكمل المشارك المحدث النفاعة الأنبل, أبي عبد الله سيدي محمد بن الحسن الحجوي الجعفري, سلام علكم ورحمة الله وبركاته, وبعد: فقد بلغنا كتابكم الفكر السامي صبحة يوم الجمعة 26 حجة عامة، فاجتمع لنا في اليوم عيدان؛ يوم الجمعة، وبلوغ ذلك الكتاب النفيس، فلما نظرناه، وسرحنا الطرف في أزهار رياضه، وكرعنا في معين حياضه، فإذا هو كما قال القائل: كتاب فيه ما فيه ... بديع في معانيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 إذا عاينت ما فيه ... رأيت الدر يحويه وما هي بأول بركاتكم يا آل أبي بكر، لقد طرقتم موضوعًا لا يطرقه إلّا الأفراد والعلماء الأفذاذ الذين لا يوجد الفرد منهم إلّا في الزمان بعد الزمان، وقد عرفت سيادكم الداء الذي أصاب الأمة، ومن أجله تدهورت، وأشرتم، بل كنتم أول من أشار لدوائه، وإني أشهد الله وملائكته أن لساني عاجز عن وصف مقدار ذلك الكتاب الذي هو أفضل هدية قدمته لأبناء جنسك, في زمان هم أحوج الناس لها، وإني أتوجه إلى الله وأسأله لكم التسديد والتوفيق، وأن يديم سيادتكم سائرة على أقوم طريق، وأن يمدكم من عنده بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وأن يزيدكم من نعمه الحسية والمعنوية فوق ذلك وأضعافه، وأن يمدكم بروح قدسه؛ فلقد نصرتم السنة المحضة بالقول والفعل، وحملتم لواء العلم والعمل، جزاكم الله عن أمتنا خيرًا وأعظم مثوبة وأجرًا. إلى أن قال: ودمتم بخير والسلام. خديم ودادكم محمد بن احمد العبدي الكانوني، وفقه الله. تقريظ فخر علماء مسلمى أوربا, وأشهر مشاهير علماء مملكة يوغسلافية والصرب وكاهية: رئيس علماء ديار البوسنة والهرسك سابقًا, والعضو بالمجلس الإسلامي الأعلى بسراي بوسنة سارجيفوا, العلامة سيدي محمد توفيق أوكيج -حفظه الله, ونصه: بعد البسملة والحمدلة والصلاة والتسليم على النبي -صلى الله عليه وسلم, إلى سعادة الفقيه الشهير، والمؤرخ الفيلسوف الكبير، فخر الوزراء الكرام، وعمدة العلماء العظام, وزير المعارف المغربية، ومدرس العلوم العالية بالقرويين, الأستاذ الشيخ سيدي محمد بن الحسن الحجوي الثعالبي، نفعنا الله بعلومه، وأدام علاه آمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 سعادة الوزير المحترم، تحية وسلامًا، وبعد: إنه ليسرني جدًّا أن أقدم إلى معاليكم أجمل التهاني بمناسبة صدور الجزء الثالث من تأليفكم القيم الذي أدرجتم فيه أنظاركم السامية عن تاريخ الفقه الإسلامي وتطوره، كم كنا نحتاج إلى مثل هذا الكتاب الجليل، أيها الفقيه النبيل، وكم نفرح الآن بنيل المرام، كيف لا وقد انتظرنا انتظار الشمس بعد الغسق، فلا شك أن اسمكم العالي سيبقى مكتوبًا بالذهب على صفحة تاريخنا العلمي لهذا العصر الذي أود أن أسميه عصر العناية في ترقية علوم الشريعة السمحة بعد وقوفها الطويل. ومما يزيديكم قدرًا في نظري على سائر معاصريكم من علماء العالم الإسلامي, هو منشؤكم من تلك البلاد المغربية التي نفتخر جميعًا بماضيها المجيد، ونتمنى عز مستقبلها، فهي كانت يومًا مع كل غربيتها من جهة جغرافية مشرقًا شموس الثقافة الإسلامية والعربية المنتشرة من شمال أفريقية نحو أوربا، وبصفتي أوروبيًّا ومسلمًا, أنا أفتخر افتخارًا خاصًّا بتلك الحقيقة التي لا نكير لها، أما كتابكم الجليل، فهل من سبيل أن أمدحه ولو بكلمة واحدة, كلَّا، فهو المستغني عن كل مدح حيث إنه يمدح نفسه بمجرد قدره وقيمته، ولكنني أرجو من فضلكم السماح أن أترجم لكم إعجابي المفرد عن إصابتكم في تقسيم تاريخ الفقة الإسلامي وتطوره على أربعة أطوار: الطفولية والشباب، والكهولة والهرم، غير أني أنتظر الجزء الرابع، وقد عيل صبري أن أرى طريقًا جعلتموه مؤديًا إلى تجديد الفقه الإسلامي وترقيته, لما أن تلك المسألة هي التي تهمني في هذا الزمان أكثر الهم، أما العدالة والإنصاف في عرض المذاهب المختلفة، ورجالها العظام، وسلوككم طريق الحق والصواب، فكل هذا خصلة من الخصال التي زينت جميع كبار الفقهاء من أسلافنا العظام، وهي التي تجعلكم خير خلف لهم, لو أردت أن أشير حتى إلى شيء يسير من الأمور الكثيرة التي تجلب أنظار كل قارئ من أي نفطة نظرية كان، لطال بي هذا, إني أقتصر في الاعتراف أن في الأسلوب العصري الذي اتخذتموه في كتابكم لم يسبقكم أحد من قبل، ونعم ما قيل: كم تكر الأول للآخر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 وأدعو الله الكريم أن يجعلكم متبوعًا في هذا السبيل من الكثيرة من شبان العالم الإسلامي، ولا سيما من شبان بلادكم الطيبة، فأنتم خير قدوة لهم، ولكتابكم موضع الفخر والإجلال بين الكتب المعتبرة في تلك الناحية، هذا وأكرر إعجابي بكل ما حملتموه عن العالم الإسلام من الخدمة للشريعة المحمدية المطهرة، وأرجوكم أيها الأخ العزيز أن تتفضلوا بقبول فائق الاحترام، لازلتم مطلعًا لأنوار الأفكار السامية، ومرجعًا للعلم والعلماء. في 20 ذي الحجة 1349, الداعي محمد توفيق أوكيج, عضو من أعضاء المجلس الإسلامي الأعلى بسراي بوسنة سراجيفوا, وكاهية رئيس العلماء لديار بوسنة وهرسك سابقًا. تقريظ الفقيه النبيه أحد نوابغ البيت الفهري الشهير, السيد الصديق الفاسي -حفظه الله, ونصه: كم كان بمنيتي أثناء كنت مشتغلًا وبعض إخواني الأعزاء بدراسة كتاب "أعلام الموقعين" للإمام ابن قيم الجوزية, أن يقيض الله من ينتقي منه نتفًا, ويختصر طرفًا, أرى معرفتها من الأمر الضروري، وكم كان ببغيتي أيضًا أن تسري روح العلم الحق المشتمل عليها ذلك الكتاب الكبير الأهمية في عروق علمائنا، فتثمر نباتًا حسنًا نقتني من ثماره كل ما نريده، ونجتبي من غلته كل ما نشاء, بقيت تعاودني هذه الواردات المرة تلو الأخرى، فأتكدر من أجلها، وتنقبض نفسي منها أيما انقباض، لتيقني بأن الكل يترنم بنغمة المثل المخترع: خطأ مشهور خير من صواب مهجور، وكانت كل آمالي في هذا السبيل معلقة على العلماء الذين نبذوا الظنون والأوهام وراءهم ظهريًّا، ودرسوا فلسفة التشريع الإسلامي، والغاية التي ترمي إليه، ولقد كانت فراستي في هؤلاء العلماء صوبًا، فإن تلك المتمنيات لم يقيم بتحقيقها وإبرازها إلى عالم الوجود إلّا العلامة الوزير المتنوّر الفكر, سيدي محمد الحجوي, الذي سيحفظ له التاريخ علمه النافع، ومجهوداته الجليلة, ما دام فكره السامي مقروءًا من جيل إلى جيل، ولا يقدر قدر كتاب الفكر السامي, ويعلم قيمته إلّا من عرف مآل الفقه الإسلامي، وما شوَّه به في القرون الأخيرة من تشعيب في معناه، وتعقيد في ألفاظه، واختصار في جملة بأسلوب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 الغموض والإبهام، فالعلامة الحجوي ينبهك بفكره السامي وحكمه المفيدة، ونصائحه الثمينة, إلى ماهية الفقه الإسلامي في الصدر الأول، وفي القرون المشهود لها بالخير والفضل, لترى بعيني رأسك كيف كان مسماه بالأمس، وكيف استحال إلى ما استحال إليه، فهو يبين لك سهولة الدين ويسره ورفقه بالنوع الإنساني، ويرشدك لأصول عامة، وكليات جامعة تدرج تحتها ما شاء من جزئياتها، فيذهب بك في باب المصالح المرسلة مثلًا إلى شبه هذه القوانين: 1 اليقين يرفع بالشك. 2 الضرر يزال. 3 العادة حاكمة والشرع حكمها. 4 الأمور بمقاصدها. 5 المشقة تجلب التيسير. وكتاب هذه غايته هو جدير بأن يكتب بسواد العين، ويعتنى به شديد الاعتناء بالمحافظة على دراسته، وتفهمه تفهمًا محكمًا، إذ هو المنفذ من الضلال، والسبب للنهوض من الهوة السحيقة التي سقط فيه الفقه على أم رأسه سنين عديدة، وكيف لا يكون جديرًا بكل اعتناء، وقد جعل شعاره قبل كل شيء قول الإمام الشافعي: أجمع المسلمون على أنَّ من استبانت له سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس كائنًا من كان، فهو كتاب يجعل النفس تطمح إلى الروح الدينية الحقة، ويبعث في القارئ اشتياقًا إلى الاستطلاع على أفكار أولئك العظماء الذين لم يكن لهم مرد حينما يريدون الفتيا في نازلة من النوازل, إلا لكتاب الله ولسنة رسوله الكريم، فلم يكن في عصورهم الزاهرة من يحظر عيهم شرح كتاب الله بحجة أن صوابه خطأ، وخطأه كفر، ولا من يقدح في عقليتهم إذ دأبوا على تفهم سنة رسول الله بدعوى أن الأولى هو إقراؤها للبركة على المرضي والأموات، أو في الحفلات على الأقل، ولا من يلزمهم بأخذ أحكام الفقه الإسلامي رغم كل مشقَّة وتعب من المختصرات التي ربما تكون الألغاز أسهل حلًّا منها. ولقد ذكَّرني هذا أن بعض الظروف كانت ألزمتني أن أجيب على الفور سائلًا أجنبيًّا عن حكم الشرع الإسلامي في كيفية الزكاة عن العروض التي تتخذ للقنية "هي ما يدخر من الأموال وغيرها" والتجارة معًا، فأرشدني بعض رفقائي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 لقول صاحب المختصر -رحمه الله: ولا يزكى عرض لا زكاة في عينه ملك بمعاوضه أو بنية تجر، أو مع نية غلة أو قنية على المختار، والمرجَّح بلا نية قنية أو غلة أو همًّا, فصرت أخبط في المسألة خبط عشواء، واختلط علي الحابل بالنابل، ولكن من سعادة الحظ أن رفيقي المشار إليه كان يحسن لغة السائل، فسلك الجرة والحمد لله، فانظر أيه القارئ اللبيب حال الفقه الإسلامي التي ترى الآن، ويراها كل واحد وحالته في صدر الإسلام, لتعرف يقينًا مكانة تأليف الأستاذ الحجوي، وما يرشدك إليه من التعليمات المفيدة النافعة, كثر الله من أمثاله، وجزاه عن الدين خيرًا، ووفق الجميع لما فيه رضاه. الصديق الفاسي. ملاحظة: كتب المؤلف حفظه الله على هذا التقريظ ما نصه إن كتاب أعلام الموقعين لابن قيم الجوزية لمن أنفس الكتب المؤلفة في آداب الفتوى والمفتين، ومن أنبل كتب الحنابلة وأفيدها لمذهبهم الذي تقل لدينا كتبه، وقد لخصت منه شيئًا مما يتعلق بموضوع الكتاب، ونوَّهت به لما تكلمت على الكتب التي تعين على الاجتهاد في الفروع, على أنه غير خالٍ عمَّا ينتقد كمسألة الحلف بالطلاق, حيث يرى عدم لزومه، وطلاق الثلاث في كلمة حيث يراها واحدة, مما شذَّ فيه، وقد نبهت على ما ظهر لي نقده بمحله من الكتاب، ولست متحملًا مسئولية إلّا ما نقله مسلمًا، إذا ما كنت قط من الذين رضوا عن رجل قلدوه تقليدًا أعمى فقدسوه، ولقد نهانا الله عن ذلك في قوله: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا} الآية [التوبة: 31] ، ولا من الذين إذا عثروا على سقطة لرجل، طرحوه وأي الرجال المهذب. كذلك لا أشاطره العقائد التي له في المجلد الثاني من أعلام الموقعين بعدد 370 إلى 377, وحملته النكرة على الأشعرية، وتسمتيه إياهم جهمية أفراخ الجهمية، وادعاءه في العدد 370 في المثال الأول أن آيات التنزيه من قبيل المتشابه، وهي قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} و {هَل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} ومراده بالمتشابه ما تعطلت دلالته, حسبما صرَّح به في السطر الرابع من العدد 370, وهذه الآيات هي أم العقيدة السنية، وعمدة المسلمين في التنزيه، فكيف يصح تعطيل دلالتها, ومع ذلك فأعلام الموقعين له قيمته العلمية، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل. تقريظ الفقيه الأديب أحد نوابغ البيت المذكور أيضًا, السيد الطاهر بن محمد الفاسي, ونصه: كل من يطَّلِعُ على التاريخ يعلم حق العلم مقدار ما وصل إليه الفقه الإسلامي في تلك الإيام الماضية، والأزمان الغابرة، ويحكم لأول مرة أن هناك فرقًا كبيرًا، وبونًا شاسعًا يدرك الباحث المتأمل أن أسبابه ودواعيه ومنشأه ذلك التشعب العظيم, والاختلاف الكثير الذي كان أولئك الأسلاف -رضوان الله عليهم- يقضون أوقاتهم الثمينة في البحث والتنقيب عن الجزئيات والفروع. تلك أمة قد مضت وخلَّفت لنا آثارًا عظيمة نقتدي بها ونهتدي بمنارها, لولا ما يعوقنا من ذلك التطويل الممل. وتلك الألغاز التي يصعب حلها، مهلًا أيها العلم، فقد ذهبت شوطًا بعيدًا، فليس الغرض من هذه العجالة الوجيزة بسط الكلام على الأسباب والدواعي التي دعتنا إلى الكسل والخمول، فذلك ما يستدعي الوقت الطويل, حسبي اليوم كلمة عن ذلك الكتاب الذي ضمَّ بين دفتيه ما لو يطلع عليه أولئك الذين جبلوا على حب العدل والإنصاف, من الذين يتتبعون تلك الجزئيات التي تنقضي الأعمار، ولا تنقضي، لأدركوا خطأهم الكبير، وجعلوه منارًا يهتدون سبيله. لست أريد أن أبالغ في وصف هذا الكتاب، فذلك ما يعجز عنه قلمى القصير، بل يكفي تنويهًا به كون مؤلفه ذلك الرجل العظيم, العالم الخبير, الشيخ محمد الحجوي وزير المعارف. منذ أزمان ليست بالكثيرة ظهر لعالم الوجود الجزء الأول والثاني، فتقبلهما ذوو الأفكار الصائبة، والآراء السديدة بقبول حسن، وأثنو ثناء عاطرًا على همة المؤلف القعساء، وعلى اهتمامه العظيم بالبحث في هذا الموضوع الذي هو من الأهمية بمكان، وها نحن الآن مسرورن كل السرور, حيث جادت علينا مجادة المؤلف بإبراز الجزء الثالث منه, الذي طالما تعطشت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 لرؤيته النفوس تعطش الظمآن للماء الزلال. وبعد, فلا يسعنا إلّا ان نضمَّ صوتنا لتلك الأصوات, شاكرين للمؤلف الجليل صنيعه الذي يستحق عند الله الثواب الجزيل والأجر الكثير، طالبين من الله سبحانه أن يعينه على إبراز الجزء الرابع الذي سيكون مسك الختام. الطاهر بن محمد الفاسي. تقريظ الأديب أحد نوابغ الكتّاب بسلا, السيد محمد المغربي -حفظه الله, ونصه: يعتبر عظماء الرجال وذووا الأفكار السامية والآراء الراقية أنَّ اللذة الحقيقية منحصرة في الانكباب على العلوم والمعارف، وبثهما بين أفراد طبقات الأمة، فلا تمرّ ساعة من أوقاتهم الثمينة دون إبراز فائدة علمية تظهر للعيان، ولا يختلف في نفعها اثنان، وأشرف ساعة يلاحظونها بأعينهم الساهرة هي الساعة التي يكتشفون فيها آثارًا قيمة، فيحفظونها بيراعهم السيال على صفحات مؤلف نفيس، أو يلقون فيها حكمة تلوكها الألسنة، وتتناقلها الدفاتر، وتبقى محفوظة، وتسجل لهم في تاريخ حياتهم العلمية التي تذكر مقرونة بشكرهم والثناء عليهم. وإذا افتخر رجال العلم في سائر العصور بما يسدونه من النصائح للخاص والعام, وجليل الأيادي الفاخرة التي لا تدخل تحت سيطرة الحصر ولا تقاس بمقياس الحد، فأسمى شيء يفتخرون به هو المؤلفات التي يتحفون بها أبناء عصرهم، ويعرضونها على عشاق النقد والتحليل, لا سيما إذا كان الموضوع مفتقرًا إلى التوسع في دائرة البحث والتنقيب. حدا بي للكتابة في هذا الموضوع ما وصل إليه العلم من التطور العجيب في هذا العصر الزاهر, الذي هو عصر العلوم والمعارف والتقدم, الأمر الذي يدل دلالة واضحة على ما لعلمائنا الأجلة من الاعتناء بانتقاء الكتابة في المواضع الهامة التي تبرهن على ما لهم من واسع الاطلاع، وعظيم المعرفة والمشاركة في العلوم، ويكفي في الاستدلال على ذلك المؤلف العظيم القدر والمقدار, الذي أبرزته إحدى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 المطابع العربية المعنون بـ: "الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي", ظهر من هذا الكتاب القيم المحتوي على أربعة أجزاء ثلاثة منها، والهمة مبذولة في إنجاز طبع الرابع. ذلك الكتاب العزيز المنال, الذي هو من أرفع وأحسن ما ألف في هذا العصر, وفيه يقال: كتاب بديع حسنًا ومنظرًا ... ولكنه أهدى لنا أنفس الدر جواهره تغني اللبيب عن السوى ... فدونكه كنزًا وذخرّا مدى الدهر ولعمري إنه لكتاب فاخر، جليل القدر، غزير الفوائد، كثير الفرائد, جامع لعدد عديد من الأبحاث التاريخية والأنقال، والنصوص الفقهية والدلائل الأصولية، وتراجم مشاهير أعلام الأمة، وغير ذلك من التحريرات العجبيبة التي تشهد لفضيلة مؤلفه بمزيد الاطلاع، وطول الباع, ولا غرابة، فإن ناسج برده، ومرصع جواهره، ومدبج درره وغرره, هو العلامة البحاثة المحدث الكبير, الأستاذ المطلع الشهير, أبو عبد الله سيدي محمد الحجوي الثعالبي, مندوب العلوم والمعارف الذي إذا ذكر، علم السامع أنه الفرد الذي جمع بين التضلع والمشاركة في سائر العلوم الإسلامية, وعلو المكانة والمنزلة السامية. ناهيك برجل لم يعرف إلا بخدمة العلم ونشره, بمؤلفاته الكثيرة التي طارت بها الركبان، ودروسه المفيدة التي كان يلقيها بكلية القرويين بفاس وبغيرها، تفسيريه وحديثية وأصولية وفقهيه, وما إلى ذلك. المؤلف الذي جعلنا موضوع كلماتنا هذه في شأنه, كان ألقى ملخصه فضيلة الأستاذ المذكور بنادي الخطابة الأدبي بفاس في ربيع الثاني سنة 1336, وجعل موضوعه كيف نشأ الفقه الإسلامي, وتطوره في أطواره الأربعة؛ الطفولية ثم الشباب ثم الكهولة ثم الهرم, وكيف يكون التجديد مع ما يتعلق بالاجتهاد والتقليد, موشَّحًا بتراجم المجتهدين 13 الذين دونت مذاهبهم، وتراجم أشهر مشاهير الفقهاء والصحابة فمن بعدهم، وبالجملة هو فلسفة تاريخية مبين أصول الاجتهاد والمذاهب الأربعة, مملوء بفوائد تتعلق بذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 فنحن بلسان أهل العلم قاطبة نرفع لفضيلته حفظه الله على صفحات هذه الجريدة الغراء, التي هي المنبر العام لنشر الآراء وأفكار ولسان الكتاب والأدباء, خالص تشكراتنا على هذه المنقبة الفاخرة الثمينة التي أضافها لمآثره العلمية، وخدماته الجلية في سبيل العلم ونشره, والإشادة من ذكره, ونرجو له من المولى سبحانه دوام العناية والرعاية والحظوة الكاملة. سلا محمد المغربي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 تقدمة المؤلف : بسم الله الرحمن الرحيم {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي، وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي، وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي، يَفْقَهُوا قَوْلِي} . يقول العبد المعترف بالقصور, محمد بن الحسن الحجوي الثعالبي الفاسي دارًا ومنشئًا -وفَّقه الله: الحمد لله نحمده ونستعيه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا, من يهد الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن سيدنا محمدًا عبده ورسوله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسيلمًا. أما بعد: فقد سألتني -رعاك الله, كيف نشأ الفقه الإسلامي إلى أن صار لما هو عليه الآن؟ فأجيبك إلى رغبتك مستعينًا بالله سبحانه, مقدمًا أمام المقصود ثلاث تمهيدات: الأول: في مسمَّى الفقه، وهل هو علم ديني محض أم لا؟ الثاني: في الفقه قبل الإسلام، وهل كان عند العرب فقه وفقهاء أم لا؟ الثالث: في منزلة الفقه في الإسلام. ثم المقصد في الفقه على عهد الإسلام، وهو أقسام أربعة باعتبار أطوار الفقه الأربعة التي تطور فيها في نظري: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 الطور الأول: طور الطفولية, وهو من أول بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى أن توفي. الثاني: طور الشباب, وهو من زمن الخلفاء الراشدين إلى آخر القرن الثاني. الثالث: طور الكهولة إلى آخر القرن الرابع. الرابع: طور الشيخوخة والهرم, وهو ما بعد القرن الرابع إلى الآن، مبينًا الأسباب الموجبة لتلك التطورات, ومقدمًا إمام كل قسم ملخص التاريخ السياسي لتلك المدة في الأمم الإسلامية بإجمال، وفي كل قسم أذكر أشهر مشاهير فقهائه، وسنذيله بما يتطلَّبه الفقه من التجديد, ثم بيان الاجتهاد والتقليد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 التمهيد الأول: في مسمى الفقه, وهل هو علم ديني أو دنيوي الفقه في اللغة: العلم والفهم، قال تعالى: {لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا} 1. وفي أعلام الموقعين: أن الفقه أخص من الفهم؛ لأن الفقه هو فهم مراد المتكلِّم من كلامه, وهو قدر زائد على مجرد فهم مما وضعله اللفظ, فالفقه أخص من الفهم لغة2. وفي الشرع: العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسبة من أدلتها التفصيلية3. فلا يقال الفقيه إلا لمجتهد، ولغيره مجاز. وقال أبو البقاء في قواعده نقلًا عن الإمام الرازي: الفقه معرفة النفس ما لها وما عليها. ولا بُدَّ من تخصيصه بما يتعلق بالفروع، فهو مبين لأحكام أفعال المكفلَّين4 من طهارة وصلاة وصوم وزكاة وحج ونكاح وطلاق وزكاة وبيع وإجازة وقتل   1 الأعراف: 179. 2 أعلام الموقعين "ج1/ 219". 3 التي طريقها الاجتهاد، ذكره الإمام الجويني مطلع وريقاته النفيسة في أصول الفقه. 4 هذه الأحكام سبعة: الواجب، والمندوب، والمباح، والمكروه، والمحظور، والصحيح، والفاسد. وهناك من الأصوليين من عدَّها خمسة بحذف القسمة الأخيرين. ومنهم من عدَّها أربع بحذف المذكورين وإخراج المباح حيث لا يتعلق به ثواب أو عقاب, وبسط ذلك في المدونات الموضوعية في بابها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 وقصاص إلخ. وهو باعتبار ما يتعلق بالعبادة علم ديني أخروي. وباعتبار ما يتعلق بالمعاملات وفصل الخصومات دنيوي، فهو دنيوي باعتبار أخروي باعتبار1. وإن كان الغزالي عدَّه دنيويًّا حيث قال: "فإن قلت: لم ألحقت الفقه بعلم الدنيا وألحق الفقهاء بعلماء الدنيا؟ فاعلم أن الله أخرج آدم من تراب، وأخرج ذريته من سلالة من طين ومن ماء دافق، فأخرجهم من الأصلاب إلى الأرحام, ومنها إلى الدنيا, ثم إلى القبر, ثم إلى العرض, ثم إلى الجنة أو الناء, فهذا مبدؤهم وهذه غايتهم، وهذه منازلهم, وخلق الدنيا زادًا للمعاد ليتناول منها ما يصلح للتزويد, فلو تناولوها بالعدل لانقطعت الخصومات وتعطل الفقهاء, ولكنهم تناولوها بالشهوات, فتولدت منها الخصومات, فمست الحاجة إلى سلطان يسوسهم, واحتاج السلطان إلى قانون يسوسهم به, والفقيه هو العالم بقانون السياسة وطريق التوسط بين الخلق إذا تنازعوا بحكم الشهوات, فكان الفقيه معلم السلطان ومرشده إلى طريق سياسة الخلق، وضبطهم لتنظيم باستقامتهم أمورهم في الدنيا. ولعمري إنه متعلق أيضًا بالدنيا, ولكن لا بنفسه بل بواسطة, فإن الدنيا مزرعة للآخرة, ولا يتم الدين إلا بالدنيا، والملك والدين توأمان، فالدين أصل والسلطان حارس, وما لا أصل له فمهدوم، وما لا حارس له فضائع، ولا يتم الملك والضبط إلا بالسلطان، وطريق الضبط في فصل الخصومات بالفقه"2.   1 ومردُّ ذلك لأساس العمل، وهو النية وقصد القلب. 2 ذكره في إحياء علوم الدين في الباب الأول, عند كلامه على العلم الذي هو فرض كفاية. "ط الحلبي 1358هـ" "ج1/ 24". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 التمهيد الثاني: الفقه قبل الإسلام, وهل كان عند العرب فقه وفقهاء أم لا اعلم أن الإسلام وجد الإمة العربية أمية لا تقرأ ولا تكتب, ولم يكن لديها علوم مدونة في الكتب تدرسها في مساجد أو مدارس, وإن وُجِدَ لديهم معرفة بعلوم تدعو إليها ضرورة حياتهم البدوية؛ كعلم النجوم والقيافة والعيافة والأنساب, وغير ذلك مما نسب المؤرخون لهم معرفته, لكنها لم تكن مدونة لهم في كتاب, وإنما هي من نوع ما يحسن أهل البادية معرفته وحفظ بعض قواعده، ومن هذا النوع ما كان لهم من الإلمام ببعض ضوابط فقهية يفصلون بها خصوماتهم؛ كقولهم في القصاص: القتل أنفى للقتل، والدية على العاقلة في الخطأ، وكنا يؤثر عن عمرو بن الظرب أحد حكام العرب قوله في الخنثى: القضاء يتبع المبال. وفي النسائي وغيره أن القسامة كانت في الجاهلية فأقرَّها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على ما كانت عليها في الجاهلية, وقضى بها بين أناس من الأنصار ادَّعَوْه1 على يهود خيبر2. ومن ذلك معرفتهم بعض مناسك الحج، وكانوا يصومون عاشوراء كما في الصحيح3، بل كانوا يتحنثون في رمضان بالصوم كما يدل عليه حديث بدء الوحي4، وقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ   1 قال المؤلف: ادَّعَوْه, أي: القتل. 2 سنن النسائي "ج8/ 5". 3 أخرجه البخاري في الصحيح في أول كتاب الصوم "ج3/ 31". 4 الذي في حديث بدء الوحي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حبب إليه الخلاء, فكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه الليالي ذوات العدد. انظر "ج1/ 5 من صحيح البخاري"، و"ج1/ 97" من صحيح مسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 قَبْلِكُمْ} 1، وقد ثبت اغتسالهم من الجنابة واختتانهم، وكان لهم نكاح بخطبة وصداق، كما يدل له خطبة أبي طالب لخديجة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم, وهي مذكورة في السيرة محفوظة فلا نطيل بها، ولهم طلاق وظهار، فقد ثبت في النسائي2 أن خولة زوج أُبَيّ بن الصامت أتت النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالت: إن زوجي ظاهر مني فأمرها بفراقه، فلما نزل قوله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} الآية3، نسخ الطلاق بالكفارة تخفيفًا من الله ورحمة، ويظهر أن تلك الأحكام كانت عند العرب من بقايا شريعة إسماعيل وولده إبراهيم -عليهما الصلاة والسلام. فلما جاء الإسلام أقرّ ما أقرَّ ونسخ ما نسخ، ومن جملة ما نسخه القرآن نذر الجاهلية لغير الله, المبين في قوله تعالى في الأنعام: {وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ، وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ} 4. وقال تعالى: {وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} إلى قوله: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا} 5، وقال في سورة المائدة: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} 6. فهذه الآيات بينت نظام الإنتاج في الحرث والأنعام الذي كان عند مشركي العرب، فجعلوا نصيبًا منه لأوثانهم يأخذه سدنته, ونصيبًا للفقراء، وما هو للأوثان أقسام ثلاثة: الأول: حجر لا يطعمه إلّا من يشاءون, الثاني: أنعام حرمت ظهورها، الثالث: أنعام لا يذكرون اسم الله عليها وهي السائبة والبحيرة والوصيلة والحامي، فألغى الشرع ذلك وقرَّر نصاب الزكاة فقال:   1 البقرة: 183. 2 النسائي: "ج6/ 136". 3 المجادلة: 1. 4 الأنعام: 138، 139. 5 الأنعام: 142-144. 6 المائدة: 103. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} 1، وقرعهم بقوله: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا} 2. فهذا مثال ما كان عند العرب من الفقه، وهو ضوابط قليلة الأهمية ليست كافية في بابها, ولا رادعة لأهل الفساد والدعارة3, ولا وافية بالنظام الاجتماعي، لهذا بقيت الأمة العربية مفترفة الأهواء فاقدة النظام, تخوض بحار الحروب لقتل نفس, بل لضربة أو سبة, فتنقطع السبل وتذهب الحقوق، وتنقطع المواصلات والمعاملات إلّا في الأشهر الحرم، فكانوا في جاهلية جهلاء يفتخرون في أشعارهم لدى منتدياتهم بقطع السبل وقتل النفس وسلب الحقوق وغير ذلك من الأفعال الشنيعة، وإنما وازعهم الذي أمكنهم من الحياة وبقاء الجنس العربي هو العصبية القومية، فمن كانت لهم عصبية في قومه دافع بها عن حقوقه, وإلا حالف قومًا آخرين, فكان تحت ذمتهم يدافعون عنه على أصول معلومة عندهم، حتى إن الحليف كان يرث حليفه، إلى أن جاء الإسلام, فعند ذلك عرفت الحقوق بمعرفة الفقه, وصار لهم المقام الأول في الاعتبار, والركن الأعظم في الأذهان، ونسخ حكم التحالف بوجوب التناصف. هذا وإن لفظ الفقه كان موجودًا في لغة العرب, لكن بمعنى الفهم كما سبق لا بمعنى العلم المخصوص، وكذلك لفظ العلم، وما كانوا يستعملون لفظ فقيه أو لفظ عالم فيما استعملا فيه بعد الإسلام. فما بلغنا أن العرب كانت بينهم طائفة قبل الإسلام موسومة بسمة الفقهاء أو العلماء, أو كان هذا اللقب خاصًّا بصنف من الناس دون صنف؛ إذ كانوا أميين غير متدينين بدين له فقه وعلم، ولا كانوا يرجعون في فصل خصوماتهم وصيانة حقوقهم إلى نصٍّ مدون يجري على كل الناس أو جلهم. كان منهم من يزعم أنه على ملة إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام؛ كزيد بن عمرو بن نفيل، وأمية بن أبي الصلت وغيرهما، لكن ملة إبراهيم كان قد درست, وإنما كانا تابعين له في اعتقاد التوحيد ونبذ الأصنام وعدم أكل ما ذبح لها فقط، ثم إن الإسلام حعل لفظ فقيه خاصًّا بمن عرف العلم المخصوص بأدلته،   1 الأنعام: 141. 2 الأنعام: 144. 3 في الطبعة المغربية بالذال المعجمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 حتى إن المقلد يعتبر عاميًا, وصير لفظ عالم لمن حصل أي علم, لكن بشرط العمل، قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} 1، وقال: {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُون} 2. وقال -عليه السلام: "من يرد به خيرًا يفقه في الدين" 3، و "إنما العلم بالتعليم" 4. وقال عمر: تفقهوا أن تسودوا, وقال -عليه السلام: "إن العلماء على منابر من نور يوم القياة" 5. وقال: "خياركم في الإسلام خياركم في الجاهلية إذا فقهوا" 6. وفي البخاري عن أبي هريرة وزيد بن خالد قالا: كنا عند النبي -صلى الله عليه وسلم- فقام رجل فقال: أنشدك الله إلا ما قضيت بيننا بكتاب الله، فقام خصمه وكان أفقه منه فقال: اقض بيننا بكتاب الله وائذن لي, قال: "قل" قال: إن ابني كان عسيفًا على هذا فزني بامرأته, فافتديت منه بمائة شاة وخادم, ثم سألت رجالًا من أهل العلم فأخبروني أن على ابن جلد مائة وتغريب عام, وعلى امرأته الرجم .... الحديث"7. فها أنت ترى كيف ابتدأت سمة الفقه والعلم في الإسلام، أما غيرنا من أمم العصر فقد أصبح الفقيه والمتشرع عندهم صفة لمن عرف قوانين الدول, ومارس علم الحقوق إسلامية وغير إسلامية، ومهر في فلسفة القوانين الدولية وكيفية تطبيقها على أحوال الأمم أو الأفراد، نعم ذكر المؤرخون الأثريون أن دولة حمورابي التي كانت في العراق كان لها قانون وجد منقوشًا على حجر يحتوي عى مائة وعشرين مادة، ويغلب على ظنّ المؤرخين أنها دولة عربية، ولكن ذلك الأثر قد اندثر باندثار تلك الأمة التي يعزى تاريخ حياتها إلى نحو ثلاث آلاف   1 فاطر: 28. 2 العنكبوت: 43. 3 البخاري: عن معاوية في العلم "ج1/ 28"، والترمذي عن ابن عباس في العلم "ج5/ 28"، وابن ماجه عن أبي هريرة "ج1/ 80". 4 قال السيوطي في الجامع الصغير: رواه الدراقطني في الأفراد، والخطيب في التاريخ عن أبي هريرة وأبي الدرداء. 5،6" انظر الملحق. 7 أخرجه البخاري في المحاربين "ج8/ 207". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 سنة قل اليوم، ولما جاء الإسلام لم يجد لدى الأمة العربية فقهًا كافيًا سماويًّا ولا وضعيًّا, بل وجدها في ظلمة الجهل بالحقوق, فأفاض عليها نور الفقه, وهذَّب الأخلاق, وصان الحقوق، وحررها وبيَّنَها, فأصبحت الأمة فقيهة بالفقه الإسلامي المؤسس بالوحي الإلهي المبين في آيات القرآن العظيم وسنن النبي الكريم -عليه أفضل صلاة وتسلم. قالت تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} 1 {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِين} 2، وما خرج الصحابة -رضي الله عنهم- من جزيرة العرب حافية أقدامهم على جمالهم فاتحين أرض الروم والفرس الذين كانوا أعظم أمم الأرض إلّا وهم فقهاء مشترعون, عزَّ أن يأتي الزمان بعدهم بمتشرع مثلهم، في حال أنهم قواد ماهرون، وذووا سياسة بارعون, وخلفاء فاتحون عادلون بعد الجفاء العظيم، كل ذلك ببركة الإسلام ومتانة الدين الذي كانوا متمسكين به من نحو عشرين سنين فقط, وهذه المدة غير كافية الآن لأن يتخرج فقيه ماهر من الأزهر أو القرويين أو من كلية باريز، إن هذا والله لمن معجزات الإسلام.   1 النحل: 44. 2 النحل: 89، في الطبعة المغربية " ... يتذكرون" وصوابه ما أثبتناه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 التمهيد الثالث: منزلة الفقه في الإسلام اعلم أن الفقه الإسلامي جامعة ورابطة للأمة الإسلامية, وهو حياتها تدوم ما دام, وتنعدم ما انعدم، وهو جزء لا يتجزء من تاريخ حياة الأمة الإسلامية في أقطار المعمورة، وهو مفخرة من مفاخرها العظيمة، ومن خصائصها لم يكن مثله لأي أمة قبلها، إذ هو فقه عام مبين لحقوق المجتمع الإسلامي بل البشري, وبه كمل نظام العالم، فهو جامع للمصالح الاجتماعية بل والأخلاقية, وهو بهذه المثابة لم يكن لأي أمة من الأمم السالفة, ولا نزل مثله على نبي من الأنبياء، فإن فقهنا بيَّنَ الأحوال الشخصية التي بين العبد وربه؛ من صلاة وصوم وزكاة وحج ونظافة كغسل البدن كلًا من الجنابة أو للجمعة أو للعيدين، أو بعضًا وهو الوضوء عند أداء الفرائض الخمس في اليوم والليلة، وسن أمور الفطرة من ختان وقص شارب والسواك وتقليم الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة. ففي صحيح مسلم عن سلمان: قال لنا المشركون: إني1 أرى صاحبكم يعلمكم حتى يعلمكم الخراءة, فقال: أجل, إنه نهانا أن يستنجي أحد بيمينه أو يستقبل القبلة, ونهانا عن الروث والعظام وقال: "لا يستنجي أحدكم بأقل من ثلاث أحجار" 2. وأرشدنا الفقه إلى تجميل الثياب في الجمعة والعيدين, ومسّ الطيب, وآداب الأكل والشرب, وما يؤكل ويشرب وما لا، كما أرشد إلى تحسين حال المجتمع   1 قال المؤلف -رحمه الله: انظر إلى هذا الاعتراض من المشركين على الشيء الحسن الجميل, يريدون قلبه إلى ضده حسدًا وعنادًا, قال تعالى: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا} . 2 في مسلم بلفظ ... وقال: "لا يستنجي أحدكم بدون ثلاثة أحجار" "ج1/ 154". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 العام, فأرشد إلى ما يحفظ الصحة وتجنب ما يضرها، وهذَّب الأخلاق فأمر بالصدق في المعاملات والوفاء بالعقود والعهود, وأوجب ترك الذنوب من زنى وخمر وغيبة ونميمة وقذف وسعاية وشهادة زور وانحراف في الأحكام أو تحريف لحلال أو حرام وغير ذلك، فلو أن المسلمين عملوا بأحكام الفقه والدين كما كان آباؤهم لكانوا أرقى الأمم وأسعد الناس. كما أنه جعل للفقراء حظًّا في مال الأغنياء بالزكوات والكفَّارات, وهذا أساس المبادئ الاشتراكية المعتدلة, والأعمال الخيرية التي تأسَّست لها الجمعيات الكبرى في أوربا1. كما شرع الحج ليحصل اجتماع عام لسائر الأمم التي تدين به؛ ليستفيد بعضهم من بعض علومهم وأحوالهم, فيتعاونوا ويتآزورا, وفي ذلك إعانة لأهل الحرمين الشريفين، ليكونا مركزين عظيمين للإسلام، كما شرع اجتماعات أخرى أصغر وأيسر في الجُمَعِ والأعياد. وبيَّنَ كيفية تأسيس العائلات, فندب إلى الزواج وحثَّ عليه، وبيَّنَ العقود التي تعتبر زواجًا، وشروطها من وليٍّ وصداق وشهود، وما خالفها فهو زنى أو قريب منه في حق الأمة دون الرسول فله في ذلك خصوصيات، ورخَّص في الصلاق لما عسى أن يقع من تشاجر الزوجين. وما يتعلق بذلك من نحو إيلاء وظهار. كما بيَّنَ آداب دخول البيوت من الاستئذان والسلام، وجعل احترامًا خاصًّا لكل إنسان, هو ما يعبَّر عنه بالحرية الشخصية، وسدل الحجاب بين الرجال والنساء الأجنبيات محافظة على النسل, وإبعادًا للمظنة, وإراحة لكل ضمير. وجعل ضوابط للنسب والقرابة والرحم, ومن يعد قريبًا من نسبك أو رحمك ومن لا, حتى الولائم جعل لها آدابًا. وبيَّنَ أحكام المعاملات من بيع وإجارة ورهن وقرض وقراض وشركة وإبضاع, وغيرها من المعاملات المالية التي تقتضيها القاعدة التي عليها منبيٌّ علم الاجتماع، وهي أن الإنسان مدني الطبع محتاج إلى أبناء جنسه، فهو   1 يبدو أنه لم يكن اتضح بعد حقيقة هذه الجمعيات المشبوهة واضطلاع دور اليهود في إدارتها لخدمة أغراضهم الدنيئة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 مرشد إلى تأليف الجمعيات للتعاون في هذه الدار على الاقتصاد مانع من الربا الذي به خراب الجمهور من الأمة، كما أنه مبيِّنٌ لفصل الخصومات سواء في المال أو الدماء أو الأعراض. وبيَّنَ ما يلزم لحفظ المجتمع العام من نصب الإمام وشروط استحقاقه للإمامة, وما يجب له من الطاعة, وعليه من المشهورة والعمل بالشريعة وإقامة العدل بين أصناف الرعية مسلمين أو غير مسلمين. ثم قسم السلطة فجعلها خططًا1, وهي الإدرات المدنية, ومنها القضاء, فحدَّد للقاضي خطته وبيَّنَ للشاهد كيفية توثيق الحقوق, وأمر بكتبها وتبيانها وعدم كتمانها. وهكذا خطة المحتسب, ثم بقية الخطط، وحكم على من خرج من طاعة الإمام أن يقاتل، وإذا وقع حرب من أمة أجنبية فبيَّن القواعد الحربية, ثم السلمية, وأمر بحسن الجوار, وإقامة الحدود على من أخاف السايلة, أو خالف نصوص الشريعة, وبيَّنَ التأديبات والزواجر والقصاص ورفع الأضرار. وبالجملة قد استقصى الشئون الاجتماعية وبيَّنَها, حتى دخل مع الرجل لبيته وحكم بينه وبين زوجته، فبيَّنَ ما له وما عليه، وفصَّل ما عسى أن يقع بينهما من الخصومة, حتى حكم بين الرجل وولده، وبينه وبين نفسه، حتى بعد مماته بيَّنَ قسم ميراثه ودفنه وقبره، ثم أوصى بأيتامه خيرًا, وبيَّنَ كيف يوصي على أولاده, وبيَّنَ قدر ما يوصي به, وكيفية الحجر على السفية والترشيد. كل ذلك لينتظم أمر الحياة, ويعيش المسلم عيشة منتظمة يتفرغ معها لإعداد الزاد ليوم المعاد. فالفقه الإسلامي نظام عام للمجتمع البشري لا الإسلامي فقط، تام الأحكام لم يدع شاذة ولا فاذة، وهو القانون الأساسي لدول الإسلام والأمة الإسلامية جمعاء، وإن انتظام أمر دول الإسلام في الصدر الأول وبلوغها غاية لم تدرك بعدها في العدل والنظام لدليل واضح على ما كان عليه الفقه من الانتظام وصراحة النصوص وصيانة الحقوق ونزاهة القائمين بتنفيذ أوامره مما لا يوجد الآن، ودليل عى ما كان لهاتيك الدول من التمسك بحبله المتين، وما   1 قال المؤلف -رحمه الله: قد أنهى الشيخ علي الخزاعي الخطط والعمالات والحرف الشرعية إلى نيف وخمسين ومائة خطة في كتابه "تخريج الدلالات السمعية" فانظره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 دخلت الأمم الكثيرة في الإسلام أفواجًا, واتسعت دائرة الإسلام, فانتشرت الأمة الإسلامية مادَّةً جناحيها من نهر الفانج في الهند شرقًا, إلى أفريقيا, ثم إلى أواسط أوروبا في زمن قليل إلّا باحترام الحقوق, والعلم بقواعد الفقه الإسلامي, والتسوية بين جميع أجناس البشر التي كانت تحضنها في العدل, وجمع شتات مكارم الأخلاق ومحاسن المعتقدات، وهذه التواريخ العربية وغيرها لم ينتقد واحد منها نظام العرب الذي كانوا عليه, بل مدحوه بما لم يمدحوا به غيره, واقتبسوا منه, واختارته الأمم على ما كان من الأنظمة, فانصرفت عنها إليه, وثلث عروش ملوكها من أجله. فالأمة الإسلامية لا حياة لها بدون الفقه, ولا رابطة ولا جامعة تجمعها سوى رابطة الفقه وعقائد الإسلام، ولا تتعصَّب لأي جنسيبة, فهي دائمة بدوام الفقه, مضمحلة باضمحلاله, فمهما وجد أهل الفقه واتبعوا كانت الأمة الإسلامية، ومهما انعدم الفقه والفقهاء لم يبق للأمة اسم الإسلام. ويجب على كل أمة إسلامية أرادت سنَّ قانون أو دستور أن تراعي هذا المبدأ حفظًا للجامعة الإسلامية. ثم لما نهضت أوربا نهضتها المعروفة للرقي العصري, فأول حجر وضعته في أساس مدنيتها الزاهرة هو العدل وسن القوانين بالتسوية في الحقوق؛ إذ لا يعقل أن تترقَّى أمة وحقوقها مهضومة وأفرادها مظلومة, والكل يعلم أن بعض قوانينها مقتبسة من الفقه الإسلامي؛ كقانون نابليون الأول وغيره من ملوك أوروبا، فالفقه الإسلامي أصل التمدن العصري الحديث, والفضل كل الفضل في احترام الحقوق وصيانتها وتشييد منارها للإسلام والفقه الإسلامي. ومن مكارم الفقه الإسلامي, بل من معجزاته, أنه تمَّ نظامه وجمعه في مدة نحو عشر سنين كما يأتي في الطور الأول, فلم ينتقل النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى الدار الآخرة حتى تركه تامّ الأصول، ولم يمض على الأمة قرن ونصف حتى ألفت تآليف مهمة في فروعه، وبسط أحكامه وتطبيق أصوله على فروعه, وهذا لم يكن للأمم قبلنا، فهذه أمة الرومان التي يتبجح أهل التاريخ بقوانيها, ويعدونها أصل التمدن الحديث, لم ينضج فقهها ولا جمع نظامها إلا على عهد القيصر جوستينيان سنة 565 قبل الهحرة بسنتنين "57" سبع وخمسين، بعد مضي ثلاثة عشر قرنًا من حياة الرومان, ذلك ما يدلك على مكانة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 الفقه الإسلامي وأنه بوحي سماوي ودين متين. ثم نقول والحق أحق ما يقال: لم يوجد شرع مزج بين المصالح الدينية والدنيوية, وصيَّر هذه عين هذه, وبيَّن قانون الاجتماع البشري والعدالة التامَّة بوجه يعم جميع المصالح الاجتماعية كالشرع الإسلامي, ولذلك كان الخليفة الأعظم عندنا رئيسًا دينيًّا ودنيويًّا معًا، فهو جامع وظيفتين عظيمتين, ولذا عرفوا الإمامة العظمى بأنها: رياسة عامة في الدين والدنيا تجب للمتصف بها أن يطاع فيما يستطاع. أما القوانين الوضعية فلا تعلق لها بأمر العبادة والآداب النفسية, وإنما هي ضبط لمعاملة الأفراد والأمم بتبادل المصالح، وأيضًا الفقه الإسلامي هو بأمر إلهي, فالعمل به طاعة الرب, والعامل به له أمل الثواب في الآخرة, وعدم العمل به معصية متوعد عليه بالعقاب الأخروي, زيادة عمَّا تقرر فيه من العقوبات الدنيوية، فهو أمس بالنظام من بقية الشرائع والقوانين التي هي من وضع البشر. فالفقه الإسلامي من مفاخر الأمة الإسلامية, كيف لا وهو مؤسَّسٌ على روح العدل والمساواة واحترام الحقوق الخاصة والعامة والنظام الأتم, وتقرير الملك1 لذويه, واحترام النواميس الطبيعية، وقد اعتبر درء المفاسد فقدَّمَه على جلب المصالح، وسد الذرائع، والمصالح المرسلة، ولا ضرر ولا ضرار، وتقديم الأهم على المهم، وبنيت أحكامه على الاعتدال لا إفراط وتفريط، واعتبر الأعراف والعوائد، فأحكامه يتغير الكثير منها بتغير الأحوال, كما قال عمر بن عبد العزيز: تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور. وكما قال زياد بن أبيه لأهل البصرة في خطبته الشهيرة: قد أحدثتم أحداثًا لم تكن, وقد أحدثت لكل ذنب عقوبه. فهو صالح لكل أمة وكل مكان وكل زمان, ولهذا كان لا ينسخ, وكانت رسالة نبينا -صلى الله عليه وسلم- عامة لجميع الأمم إلى يوم القيامة.   1 قال المؤلف -رحمه الله: المِلك بكسر الميم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 القسم الأول: في الطور الأول للفقه مدخل ... القسم الأول: في الطور الأول للفقه وهو طور1 الطفولية من لدن كونه جنينًا إلى أن كمل خلقه فصار وليدًا, إلى أن سعى واكتمل قويًّا سويًّا. وذلك من أول بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى وفاته, وكانت البعثة النبوية سنة "610" عشر وستمائة تقريبًا من ميلاد المسيح -عليه السلام, أي: قبل تاريخ الهجرة الذي هو تاريخنا بنحو ثلاث عشرة سنة, وكانت الوفاة النبوية سنة إحدى عشرة "11" في ربيع الأول النبوي, غير أن ثلاث سنوات أولى من البعثة كانت فترة الوحي بعدما نزل أول آية من القرآن وهي: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} إلى {مَا لَمْ يَعْلَمْ} , وكان نزولها على ما عند ابن إسحاق وغيره في "17" رمضان من عام البعثة في غار حراء الذي كان -صلى الله عليه وسلم- يتعبد فيه بمكة قبل المبعث2, ثم بعد الثلاث سنين تتابع نزول القرآن وتشريع الشريعة، ولكن جلّ ما نزل بمكة قبل الهجرة في مدة نحو عشرة سنين تليها, كان في التوحيد وردّ العقائد الفاسدة وبيان الحجج الدامغة على   1 قال المؤلف -رحمه الله: قال ابن العربي في أحكامه الكبرى لدى قوله تعالى: {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ} : عمر الإنسان له مراتب: سن النماء: وهو أول العمر إلى بلوغ ثلاث وثلاثين سنة, وهو سن الشباب وبلوغ الأشد, وسن الوقوف وهو إلى الأربعين, وهوغاية القوة وكمال العقل, وسن الكهولة: من الأربعين إلى ستين، وفيه يشرع الإنسان في النقص, وسن الشيخوخه: من الستين إلى آخر العمر, وفيه يكون الهرم والخرف، غير أني لم اتقيد بحدوده, لكني قاربتها كما يظهر للمتأمل. 2 قال المؤلف -رحمه الله: وآخر آية نزلت: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} رواه الشيخان عن البراء بن عازب, وروى البخاري عن ابن عباس: آخر آية نزلت آية الربا، وروى النسائي عنه: آخر آية نزلت: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 إثبات وجود الله ووحدانيته وصفاته العلى، وإثبات النبوءة. وأخبار تاريخ من مضى من الأمم، ورد عقيدة الوثنية، وبث مكارم الأخلاق مع قليل من الأحكام الفقهية الفرعية، فكانت السور المكية حاوية لمباحث الإيمان وهي أصول الدين، ولمباحث الأخلاق والتهذيب وأخبار الأمم الماضية، ترهيبًا وزجرًا ووعظًا وتذكيرًا، إذ كان المقصود إدخال الناس في الدين ونبذ أصل الوثنية، وبعد دخول الناس في الدين وتضييق كفار مكة بهم إذ كانوا قليلين أمروا بالهجرة ليأمنوا على دينهم وأنفسهم. فبعد الهجرة ووجود من يخاطب بالأحكام الفرعية صارت تنزل أحكام الحلال والحرام في العبادات والمعاملات وغيرها، وهي مباحث علم الفقه, فجل الفقه الإسلامي تكون في مدة عشرة سنين بعد الهجرة إلى الوفاة1 النبوية، ولذلك تجد أحكامه مبينة في السور المدنية "19" باتفاق وهي: 1- البقرة. 2- آل عمران. 3- النساء. 4- المائدة. 5- الأنفال. 6- التوبة. 7- النور. 8- الأحزاب. 9- القتال. 10- الفتح. 11- الحجرات. 12- المجادلة. 13- الحشر. 14- الممتحنة. 15- الجمعة. 16- المنافقون. 17- الطلاق. 18- التحريم. 19- النصر. وقد حكى أبو الحسن بن الحصار في نظمه الناسخ والمنسوخ الاتفاق على أنها مدنية1, لكن زاد فيها سورة الحديد، وقد أسقطناها لما يأتي فيها من الخلاف، والباقي وهو خمسة وتسعون سورة مكي، وهو ما نزل قبل الهجرة، إما متفق عليه، وهو واحد وسبعون سورة, أو مختلف فيه وهو أربع وعشرين وهي: 1- الفاتحة. 2- يونس. 3- الرعد. 4- الحج. 5- الفرقان. 6- يس. 7- الحديد. 8- الصف. 9- التغابن. 10- الإنسان.   1 قال المؤلف -رحمه الله: فبالوفاة النبوية انتهى تاريخ التشريع الإسلامي، ولم يبق بعد إلا تاريخ الفقه وهو التفريع والاستنباط من الأصول التي أتي بها الرسول عليه السلام وتلك التفاريغ كامنة في تلك الأصول، فبعد الأصول النبوية لم يبق تشريع إذا تمت الشريعة بقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} الآية، ولهذا كان موضوع كتابي هذا تاريخ الفقه الإسلامي ليعم أقسام المقصد الأربعة كلها. 2 ذكر الحافظ السيوطي بعض نظمه في الإتقان، انظر الجزء "1/ 44". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 11- المطففين. 12- الفجر. 13- البلد. 14- والليل. 15- القدر. 16- لم يكن. 17- الزلزلة. 18- العاديات. 19- ألهاكم. 20- أرأيت. 21- الكوثر. 22- الإخلاص. 23، 24- المعوذتان. والحق أن المختلف فيه هل هو مكي أو مدني بعض آياته مكية وبعضه مدني1. فإن قلت: إن مادَّة الفقه ليست القرآن وحده، بل والسنة والإجماع والقياس, فما هي مدة تكوينها؟ قلت: كذلك كان تكوّنها في العشر سنين المذكورة إذ جلَّ السنة المروية في الصحاح التي أخذ منها الفقه كانت في العشر سنين المذكورة، أما الإجماع فهو وإن كان لا يتأتى إلّا بعد وفاته -عليه السلام؛ لأنه اتفاق مجتهدي الأمة بعده -عليه السلام, لكن أصل إثباته بالقرآن المدني. قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} 2، وقال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} 3, وقال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} 4 الآية، وأما القياس فقد وقع في زمنه -عليه السلام- العمل به, ويأتي مزيد بيان لذلك إن شاء الله تعالى5. فإن قلت: إن الشرائع قبل شرعنا كان لها فقه متعلق ببيان عباداتها من صلاة وصوم ونحوهما, بل الشريعة الموسوية يوجد في توراته بيان بعض الحقوق الدنيوية، وإن كانت العيسوية بنيت على الزهادة والتبتل ولم تعتبر الدنيا, وأن كثير من فقهائنا يقول: شرع من قبلنا شرع لنا، فيكون فقهنا مقتبسًا من الشرائع قبلنا،   1 تسمية السورة مكية أو مدنية تعتمد على معظم آياتها وغالبها، فليس معنى كون السورة مكية مثلًا أن تكون جميع آياتها كذلك، فسورة الأنعام من المتَّفَق على أنه مكي، وفيها آيات قيل إنها مدنية "انظر ج1/ 57" من الإتقان. 2 آل عمران: 110. 3 البقرة: 143. 4 النساء: 115. 5 عقد له بابين أحدهما بعنوان: هل استعمل الصحابة القياس على العهد النبوي، والآخر بعنوان: هل وقع القياس منه -عليه السلام, ويأتيان عند كلامه عن القياس في هذا الجزء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 ويكون تكوينه ونشوؤه قبل التاريخ المبين آنفًا. فالجواب: كلا, بل فقهنا مبتكر ليس مقبتسًا, فهو كالعلم المرتجل؛ إذ نبينا -صلى الله عليه وسلم- النبي الأمي، وأمته التي بُعِثَ فيها بدوية، لم تكن لها في زمن تكوين الفقه حضرية تتمكن بها من الاقتباس من الكتب قبلها، ففقهنا مقتبس من قرآننا وسنة نبينا، ناشيء بنشأتهما. أما من قال من علمائنا: إن شرع من قبلنا شرع لنا. فليس مراده أننا نطالع توراتهم مثلًا ونقتبس منها الأحكام, فهذا لا قائل به, وإنما مرادهم أن ما ورد في القرآن والسنة حكاية عن وقائع الأمم السالفة ونوازلها الفقهية إذا لم يقيم دليل على نسخه يكون شرعًا لنا, لكون الشرع قرره ولم ينكره, فحكايته له وعدم إنكاره بمنزلة قوله: اعملوا به، كقوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} الآية1، أما كتب الكتابيين فلا يجوز لنا أن نأخذ منها الأحكام أصلًا, لقوله -عليه الصلاة والسلام: "لا تصدقوهم ولا تكذبوهم, وقولوا آمنًّا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم" 2. روى الطبري وغيره أن بعض الصحابة أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- بصحيفة مكتوب فيها من بعض كتب أهل الكتاب, فغضب النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال: "كفى بقوم ضلالة أن يرغبوا عمَّا جاء به نبيهم إلى ما جاء به غير إلى غيرهم"، فنزل قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} 3، وقد كان ابن عباس ينكر أشد الإنكار على ما يأخذ عن الإسرائيليات في صحيح البخاري4 وكثير من الصحابة كذلك أنكره. كل ذلك يدل على أن الفقه الإسلامي شريعة مستقلة لم يدخلها الاقتباس ولا الأخذ من الشرائع قبلها أصلًا, سوى ما قَصَّ الله في كتابه, وأمر نبيه بأخذه من   1 المائدة: 45. 2 البخاري عن أبي هرير في الاعتصام "ج9/ 136", وأبو داود في العلم "ج3/ 318". 3 العنكبوت: 51، انظر تفسير الطبري "ج21/ 6" ط. الحلبي. 4 البخاري في الاعتصام "ج9/ ص136". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 مكارم الأخلاق وصريح التوحيد، ونحو ذلك، كما قال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} الآية1 وقال: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} 2، وقال: {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} 3 هذا كله في التوحيد ومكارم الأخلاق, وكله مأخوذ بواسطة الوحي لا مباشرة من كتبهم التي لا تخلو من تبديل، أما أحكام الفقه فهو ما قاله سبحانه: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} 4.   1 الشورى: 13. 2 الأنعام: 90. 3 لقمان: 15. 4 المائدة: 48. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 مادة الفقه الإسلامي : مادته أمور أربعة: الأول: منها القرآن العظيم الذي احتوى عليه المصحف الكريم، أعني: القراءات السبع التي هي متواترة بلا خلاف، وقيل: العشر كلها متواترة1، والمسألة مبسوطة في كتب الأصول, وفي جامع المعيار كلام نفيس في هذا الموضوع فارجع إليه2، ولا تغترّ بكلام الشوكاني الذي أنكر تواتر السبع في إرشاد الفحول, فإنه يؤدي إلى إنكار تواتر القرآن، وقد بيَّن ذلك في كتابنا في الأصول، أما ما وراء العشر كقراءة مصحف أُبَيّ أو ابن مسعود, فهي الآن محكموم بشذوذها، لكن حكمها حكم السنة, فيبحث عمَّا ثبت منها بطريق صحيح أو حسن, فيحتج به في الفقه كغيره على الأصح. الثاني: السنة الصحيحة أو الحسنة، ولا يحتج بضعيفها في الفقه خلافًا لأبي حنيفة وابن حنبل3, 4. الثالث: الإجماع. الرابع: القياس. قال ابن رشد في المقدمات ما نصه: وأحكام شرائع الدين تدرك من أربعة   1 وهو الصحيح، وقد حقق المسألة الإمام محمد بن الجزري في نشره "ج1/ 36-47". 2 هناك كتابان بهذا الاسم "المعيار المعرب عن فتاوي أفريقيا والأندلس والمغرب" للوان شريس، وآخر عن فتاوي المتأخرين من علماء المغرب, للوزاني, وطبع بالمغرب سنة 1328هـ. 3 "ص27/ ط. محمد على صبيح بمصر". 4 أما أبو حنيفة فيقدِّم الحديث الضعيف على القياس بشروط، ذكرها المصنف عند كلامه على قواعد مذهبه في هذا الجزء, وأما أحمد بن حنبل فأخذه بالضعيف إذا لم يكن في الباب شيء يدفعه فيقدمه على القياس، مع أن مراده بالضيف قسم من أقسام الحسن, وليس المراد الباطل ولا المنكر، ولا ما لا يحتج به. انظر "31، 77/ ج" من أعلام المواقعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 أوجه: أحدها: كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. الثاني: سنة نبيه -عليه السلام, الذي قرن طاعته بطاعته وأمرنا باتباع سنته، فقال -عز وجل: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ} 1, وقال: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} 2، وقال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} 3، وقال: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} 4، والحكمة هي السنة، وقال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} 5. والثالث: الإجماع الذي دلَّ تعالى على صحته بقوله: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} 6. لأنه تعالى توعَّد على اتباع غير سبيل المؤمنين, فكان ذلك أمرًا واجبًا باتباع سبيلهم، وقال -صلى الله عليه وسلم: "لا تجتمع أمتي على ضلالة" 7. الرابع: الاستنباط: وهو القياس على هذه الأصول الثلاثة التي هي الكتاب والسنة والإجماع؛ لأن الله جعل المستنبط من ذلك علمًا, وأوجب الحكم به فرضًا، فقال -عز وجل: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} 8، وقال -عز وجل: {إنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} 9 أي: بما أراك فيه من الاستنباط والقياس؛ لأن الذي أراه فيه من الاستنباط والقياس هو مما أنزل الله عليه وأمره بالحكم به حيث يقول: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} 10، 11.   1آل عمران: 132. 2 النساء: 80. 3 لحشر: 7. 4 الأحزاب: 34. 5 الأحزاب: 21. 6 النساء: 115. 7 ابن ماجة في السنن في كتاب الفترة عن أنس "ج2/ 1303"، وأخرج ابو داود في السنن عن أبي مالك الأشعري: "إن الله أجاركم من ثلاث -وذكر منها- وأن لا تجتمعوا على ضلالة" "ج4/ 98"، وأخرج الترمذي عن ابن عمر: "إن الله لا يجمع أمتي على ضلالة" "ج4/ 466". 8 النساء: 83. 9 النساء: 105. 10 المائدة" 49. 10 المقدمات على المدونة ط. محمد أفندي ساسي المغربي, بالسعادة بمصر. ص14 فصل في الطريق إلى معرفة أحكام الشرائع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 وقد بقي على ابن رشد الاستدلال, وهو دليل ليس بكتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس, فما سوى الأربعة من الأدلة التي توجد في كلام أهل الاجتهاد هو الاستدلال وهو أنواع: الأول: التلازم بين الحكمين من غير تعيين علة, وإلّا كان قياسًا. الثاني: استصحاب الحال. الثالث: شرع من قبلنا شرع لنا. وزاد الحنفية والمالكية في بعض الأبواب: الاستحسان وهو الرابع. وزاد المالكية والحنابلة: المصالح المرسلة وهو الخامس. وزادوا سادسًا وهو قياس العكس, وهو إثبات عكس شيء لضده لتعاكسهما في العلة كحديث مسلم: "أيأتي أحدنا شهوته وله فيها أجر؟ قال: "أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر" 1. وزادو سابعًا وهو قولهم: الدليل يقتضي أن لا يكون كذا خولف في كذا لمعنى مفقود في صورة النزاع فتبقى على الأصل، مثاله: تزويج المرأة، دل الدليل على امتناعه وهو ما فيه من إذلالها بالوطء، والخدمة، وذلك تأباه الإنسانية لشرفها، خولف هذا الدليل في تزويج الولي لها فجاز لكمال عقله, وهذا المعنى مفقود فيها, فبقي تززيجها نفسها الذي هو محل النزاع على ما اقتضاه الدليل من الامتناع. وزادوا ثامنًا: وهو انتفاء الدليل الذي به يدرك الحكم فينتفي الحكم، وذلك أن المجتهد إذا بحث عن دليل الحكم فلم يجده كان محصلًا لظن أنه لا حكم, وقال الأكثر: إنه لا يلزم من عدد وجدانه الدليل عدم الحكم، لكنا نقول المجتهد عمل وسعه فحصل له الظن بعدم الدليل, فتمسك بالبراءة الأصلية، وذلك دليل بالنسبة إليه. والنافي لا يطالب بالدليل إن ادَّعى علمًا ضروريًّا كقولنا: الحكم يتوقف ثبوته على دليل وإلَّا لزم تكليف الغافل, ولا دليل بالسبَّر، فإننا سبرنا الأدلة   1 مسلم في الزكاة "ج3/ 82"، وأبو داود في الأدب "ج4/ 362". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 فلم نجد ما يدل عليه، أو بالأصل؛ لأن الأصل المستصحب عدم الدليل فينتفي الحكم. وزادوا تاسعًا: وهو الاستقراء الجزئي على الكلي، بأن تتصفَّح جزئيات كلي ليثبت حكمها له, فإن كان تامًّا, أي: في كل الجزئيات إلّا صورة النزاع, فهو قطعي في إثبات الحكم في صورة النزاع عند أكثر العلماء, وإن كان في أكثر الجزئيات فهو ناقص ظني فقط, ويسمى إلحاق الفرد بالأغلب. فهذه تسعة أنواع كلها داخلة في الاستدلال, وبسط هذا في كتب الأصول. وقال ابن العربي وغيره: القرآن هو الأصل, فإن كانت دلالته خفية نظر في السنة, فإن بينته فالجلي من السنة، وإن كانت الدلالة فيه خفية نُظِرَ فيما اتفق عليه الصحابة، فإن اختلفوا رجّح، فإنت لم يوجد عمل بما يشبه نصّ الكتاب وهو القياس على القرآن، ثم على السنة، ثم على الإجماع, ثم عل الراجح. وهو ترتيب ظاهر إلّا أن الإجماع نصُّوا على أنه مقدَّم على الكل عند التعارض, باتفاق كما يقتضيه صنيع جميع الجوامع. وقال الأصفهاين: هو قول الأكثرين. وقال ابن قيم الجوزية في أعلام الموقعين: صحيفة 335 من المجلد الثالث1 ما نصه: "ولم يزل أئمة الإسلام على تقديم الكتاب على السنة, والسنة على الإجماع, فجعل الإجماع في المرتبة الثالثة, وهذا بعد أن نقل عن مقلدة أحمد بن حنبل قوله: من ادَّعى الإجماع فهو كاذب, لعل الناس اختلفوا، هذه دعوى بشر المريسي، والأصم، ولكن يقول: لا نعلم الناس اختلفوا أو لم يبلغنا, ثم نقل عن الشافعي ما نصه: الحجة كتاب الله، وسنة رسوله واتفاق الأئمة, وعنه في كتاب اختلافه مع مالك:   1 أعلام الموقعين "ج2/ 248". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 والعلم طبقات: الأولى: الكتاب والسنة. الثانية: الإجماع فيما ليس كتابًا ولا سنة. الثالثة: أن يقول الصحابي فلا يعلم له مخالف من الصحابة. الرابعة: اختلاف الصحابة. الخامسة: القياس. فقدَّم دليل الكتاب والسنة على الإجماع, ثم أخبر أنه إنما يصار إلى الإجماع فيما لم يعلم فيه كتاب ولا سنة. قال: وهذا هو الحق, ثم نقل عن أبي حاتم نحو ذلك فانظره، وقد كرر نقله عنه في عدد "385" من السفر الأخير1. وعلى كل حال فالحنابلة يجعلون الإجماع في الرتبة الثالثة إن تحقق وجوده عندهم كما سبق, وهذا المنقول عن الشافعي مخالف لما يأتي في مبدئه في الفقه من قوله: الإجماع أكبر من الخبر الفرد. ولعلهما قولان له والله أعلم. وإذا أمعنت النظر وجدت أصل الأحكام واحدًا, وهو قول الله سبحانه، قال تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} 2 إلا أن منه ما وصلنا بين دفتي المصحف, ومنه ما وصل على لسان رسول الله -الذي لا ينطق عن الهوى- في غير المصحف، ومنه ما هو مستنبط من ذلك وهو القياس والاستدلال, أو مستند إلى أحدهما وهو الإجماع. أما أصول المذاهب كالحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي، فقد تتفرع وتزيد على هذه، كأصول المذهب عند المالكية أُنْهِيَت إلى سبعة عشر ستأتي في ترجمة الإمام بحول الله. ولنتكم على هذه الأصول الخمسة وكيف حالها فلي الطور الأول من أطوار الفقه فنقول:   1 لعله يعني ما ذكره المصنف في "ج2/ 281" من ط. مكتبة الكليات الأزهرية سنة 1388هـ. 2 الأنعام: 57، ويوسف: 40، 67. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 القرآن العظيم مدخل ... القرآن العظيم: هو اللفظ المنَزَّل على النبي -صلى الله عليه وسلم, المنقول إلينا بين دفتي المصحف تواترًا. واعلم أن القرآن العظيم هو المادة الأولى للفقه كما سبق، وذلك أنه الحجة العظمى بيننا وبين ربنا، وهو الحبل المتين الذي لا نجاة إلّا ما دمنا متمسكين به، وهو العروة الوثقى التي لا انفصام لها: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} 1. "تركت فيكم ما أن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله وسنتي" 2. {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ} 3. وقال تعالى: {وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون} 4. وفي جامع المعيار عن الإمام المازري: القرآن قاعدة الإسلام، وقطب الأحكام، ومفزع أهل الملة ووزرهم وآية رسولهم, ودليل صدق دينهم. وإن حجيته ووجوب العمل به هو المعلوم لدينا بالضرورة ولا يحتاج لإقامة برهان، وذلك هو معنى التمسك بالدين. وآياته تنيف على ستة آلاف آية جلها متعلق بالتوحيد والأدلة عليه، ورد عقائد الزيغ والإلحاد، وإثبات النبوات والمعاد ووصف أهواله والنعيم والجحيم, والوعد والوعيد, وأخبار الأمم الماضية, والوعظ والتذكير, والثناء على الله وذكر آلائه, وبيان صفاته العلى وأسمائه الحسنى، وكيفية تسبيحه وتقديسه وغير ذلك.   1 آل عمران: 103. 2 مالك في الموطأ -من بلاغاته- في القدر، والحاكم في مستدركه. 3 الأنبياء: 10. 4 الأعراف: 157. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 والمتعلق من آياته بالأحكام الفقهية المقلل من العلماء كابن القيم يقول: مائة وخمسون آية كذا في أعلام الموقعين. وقال بعض بعض العلماء: إنها نحو خمسمائة, وذلك نحو جزء من اثني عشر منه، أي: نصف السدس تقريبًا، والحق أنها تنيف على هذا العدد. قال ابن العربي في الأحكام عن بعض أشياخه: إن سورة البقرة وحدها مشتملة على ألف أمر وألف نهي وألف حكم وألف خبر, ولعظيم فقهها أقام ابن عمر في تعلمها ثمان سنين1. وقد أخذ ابن العربي فيها الأحكام الفقهية من تسعين آية، بل فاتحة الكتاب التي سبع آيات أخذ الأحكام من خمس آيات منها، وجملة آيات القرآن التي أخذ هو منها الأحكام ثمانمائة وأربع وستون "864" آية مفرقة في مائة وخمس سورة "105", ولكن معظمها في نيف وثلاثين سورة المبدوء بها المصحف الكريم, وعلى الأخص في السور المدنية التي تقدم لنا عدها، وقد استدركنا عليه نحن وغيرنا آيات أخر استنبطت منها أحكام أخر، والقرآن لا تنقضي عجائبه, ولا تنحصر أحكامه، ولا تزال كل يوم تظهر منه لطائف وأسرار ما دام المفكرون في الوجود، وما من جيل، بل ما من أحد يتدبره إلا ويظن أنه المخاطب به, عليه تتنزّل أحكامه وإشاراته؛ لأنه قول رب حكيم أحكم الحاكمين سبحانه. قال سيدنا علي -كرم الله وجهه: ما ترك لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا كتاب الله، وما في هذه الصحيفة، أو فهم أوتيه رجل مسلم. وقال -عليه السلام: "رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه" 2. وإذا راجعت أبواب الفقه فقلَّمَا تجد بابًا إلّا وأصلها مقتبس من القرآن العظيم صراحة أو إيماءً، قال في المعيار عن الشيخ أبي مدين: إن للقرآن نزولًا وتنزيلًا, أما النزول فقد تَمَّ بموته -عليه السلام, وأما التنزيل على الوقائع واستنباط الأحكام، فلم يزل إلى آخر الدهر3.   1 أحكام القرآن "القسم الأول/ 8". 2 أبو داود في العلم "ج3/ 322". والترمذي في العلم "ج5/ 28 ط. الحلبي، وابن ماجه في المقدمة "ج1/ 84، 85، 86"، وفي المناسك "ج2/ 1015". 3 انظر التعليق الذي تقدم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 نزول القرآن منجمًا والحكم فيه: نزل القرآن جملًا جملًا, وآية آية مفرقًا، وربما نزل عشر آيات أو أكثر على حسب الوقائع والقضايا التي كانت تقع للمسلمين فبيَّنَ القرآن أحكاها، وكثيرًا ما كان الصحابة إذا نزلت نازلة تسارعوا للسؤال عن حكمها فينزل القرآن, أو تبيِّن السنة فيسارعون للامتثال، فيكون ذلك أثبت في أذهانهم وأرسخ في قلوبهم، إذ الأمة كانت أمية لم تألف كتابًا ولا نبوة, ولا كان فيها علم، ولا تهذيب قبل الإسلام إلّا ما كان فطريًّا, فلطف الله بهم وأجراهم على سنة الكون في تلقين العلوم تدريجًا، وبذلك ردَّ الله على الكفار الذين اعترضوا إنزاله منجمًا بقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} 1، وقال تعالى: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} 2، وقال تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} 3. فلم يكن القصد من إنزال القرآن أن يكون بين يديهم كتاب يتبركون بلفظه يقرءونه على الموتى فقط، بل القصد أن يعلموا بأحكامه ويتهذَّبوا بتهذيبه وتنظيم أحوالهم به، ويتخلَّقوا بأخلاقه حتى يصيروا به أمة مهذبة, لها جامعة ورابطة وتهذيب تهذِّبُ به غيرها من الأمم, وهذا لا يكون إلّا بإنزاله منجمًا, ولو نزل دفعة واحدة لاشتغلوا بلفظه وتركوا معناه كما هو واقع فينا الآن, فتدبر ذلك. وإذا تصفَّحت آيات الأحكام وجدت فيها أجوبة على أسئلتهم:   1 الفرقان: 32، وفي الطبعة المغربية: {وقالوا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة .... } وهو خطأ. 2 الإسراء: 106. 3 العنكبوت: 48. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} 1. {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} 2. {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} 3. {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ} 4. وهي أربع عشرة آية وردت على هذا النسق. نعم فيها واحدة سؤال اليهود: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوح} 5 وذلك كله تعليم للأمة. فبقيت سنة إذا نزلت نازلة رفعوا السؤال لأهل العلم فأجابوا بما علموا أو قالوا: لا ندري. قال ابن عباس: ما رأيت قومًا كانوا خيرًا من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم, ما سألوه إلّا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض, كلهن في القرآن منهن: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} قال: ما كانوا يسألون إلّا عمَّا ينفعهم. وروى أشهب عن مالك قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يسأل فلا يجيب حتى ينزل عليه الوحي. وكثير من آيات الأحكام ليس فيها يسألونك, ولكنها كلها لأسباب ونوازل وقعت فبيَّنَها علماء التفسير في أسباب النزول, وهو علم خاصٌّ يستعان به على فهم القرآن, ولا سيما ما ثبت منه بطريق صحيح أو حسن فهو حجة في التأويل, وإن لم يكن مخصَّصًا؛ لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. كان أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أول أمرهم لشدة تمسكهم بالدين يرون أن كل مسألة لها حكم, فيسألون عن كل شيء حتى نهاهم النبي -صلى الله عليه وسلم- رفقًا بهم، فقال:   1 النساء: 176. 2 البقرة: 219. 3 البقرة: 217. 4 البقرة: 189. 5 الإسراء: 85، في الطبعة المغربية: {يسئلونك .... } بغير واو وهو خطأ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 "ذروني ما تركتكم, فإنما هلك من قبلكم بكثرة سؤالهم" 1. وأجاب الذي سأل عن الحج هل يجب كل عام بقوله: "لا ولو قلت نعم لوجب, ولم تقدروا" 2، وقال تعالى: {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} 3.   1 البخاري في الاعتصام "ج9/ 117"، ومسلم في الحج "ج4/ 102"، والترمذي في العلم "ج5/ 47"، والنسائي في الحج "ج1/ 83"، وابن ماجة في المقدمة "ج1/ 3". 2 مسلم في الحج "ج4/ 102"، والترمذي في تفسير سورة المائدة، والنسائي في المناسك، وابن ماجه في المناسك "ج2/ 963". 3 المائدة: 101. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 كتابة القرآن : اعلم أن كتابة القرآن هو أول تدوين الفقه على الحقيقة، والقرآن قد كتب كله على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بغاية الإتقان، ولم تبق منه آية إلّا دونت ورتبت في محله في سورتها بلا خلاف، وكان للنبي -صلى الله عليه وسلم- كُتَّابٌ يبلغون أربعة وأربعين كاتبًا على ما في سبل الهدى والرشاد للشامي, وعدهم واحدًا واحدًا, ونظم العراقي بعضهم في ألفيته، وبيَّنَ أسماءهم صاحب صبح الأعشى أيضًا وغيره. منهم: زيد بن ثابت، وأُبَيّ بن كعب، ومعاوية بن أبي سفيان، وأبو بكر وعمر، وعثمان، وعلي, وغيرهم، وكان العارفون بالكتابة في المدينة قليلين, لكن لما أُسِرَ أعيان مكة في وقعة بدر جعل النبي -صلى الله عليه وسلم- في الفداء مالًا، ومن لم يجد فدية علَّم عشرة من صبيان المدينة، وهكذا انتشرت الكتابة وكثر الكُتَّاب، ولكثرتهم لم يكن يخلو مجلسه -عليه السلام- ممن يقوم بهذا الوظيف المهم، ومن ألزمهم لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- زيد بن ثابت، كان إذا نزل قرآن على النبي -صلى الله عليه وسلم- أتى به فأملى عليه, فكتب في اللخاف1 والأديم وجريد النخل وألواح العظام وغير ذلك, لعدم الكاغد2 إذ ذاك عندهم. وكل ما يكتب منه يبقى في منزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم, ويأخذ الكاتب منه نسخة لنفسه ليبثه في الصحابة, ويحفظه الحفاظ الذين جمعوا القرآن على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم. وأشار في صحيح البخاري لبعضهم ومنهم: 1- ابن مسعود. 2- سالم مولى أبي حذيفة. 3- زيد بن ثابت. 4- أُبَيّ بن كعب. 5- معاذ بن جبل. 6- أبو الدرداء. 7- أبو زيد. 8- أبو بكر   1 قال المؤلف -رحمه الله: اللخاف: حجارة بيض، ويؤخذ منه جواز كتابة القرآن في ألواح التعليم بالمدارس. 2 الكاغد: القرطاس معرب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 الصديق. 9- عبد الله بن عمرو بن العاص. 10- أبو أيوب الأنصاري. 11- سعيد بن عبيد. 12- مجمع بن جارية, وغيرهم. انظر الإتقان1. ثم بعد وفاته -عليه السلام, جمع تلك الكتابة التي كانت مفرَّقة أبو بكر بإشارة من عمر، والذي تولَّى الجمع زيد بن ثابت، ولم يكن لأبي بكر في هذا الجمع سوى أن نظمها في أوراق خاصة. قال المحاسبي: كمن وجد أوراقًا مفرَّقة في بيت فربطها بخيط2. ورتَّب السور بعضها مع بعض دون آيات السور, فإنها كانت مرتبة من لدن النبي -صلى الله عليه وسلم- بإجماع3. نعم، فقدوا آيتين مما كان مكتوبًا في بيته -عليه السلام، وهما آية التوبة: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} الآية4، وآية الأحزاب: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} 5 ووجدهما محفوظتين عند كثيرين يحصل بهم التواتر, لكن لم يكونوا يقبلوا إلّا ما وجد مكتوبًا زيادة في التثبت فوجوا الأولى مكتبوة عند خزيمة, والثانية عند أبي خزيمة, فعند ذلك ألحقوهما. انظر شراح الصحيح6. ثم في زمن سيدنا عثمان عمَدَ إلى ذلك المصحف بإشارة حذيفة بن اليمان -رضي الله عنهما, ونسخه في عدة نسخ وفرَّقها في عواصم الإسلام قصدًا منه   1 النوع العشرون في الإتقان: في معرفة حفاظه ورواته "ج1/ 244". 2 بل كان له في هذا الجمع فضل عظيم في أمرين هامين: أولهما: إثبات النص القرآني بصيغته النهائية التي تمَّت في العرضة الأخيرة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبيل وفاته. وثانيهما: يمكن أن نسميه "التوثيق" أي: توثيق النص المكتوب بعرضعه على المحفوظ في صدرو أكبر عدد من الصحابة. 3 في ترتيب السور خلاف عرضه السيوطي في الإتقان "ج1/ 216" في النوع الثامن عشر, ولكن يبدو لنا عند التحقيق أن ترتيبها توقيفي، لعدة أمور منها: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عرض القرآن كله على جبريل في رمضان قبيل وفاته كما ثبت في الصحيح، وقد ثبت أن الصحابة -رضي الله عنهم توخّوا في الجمعتين إثبات هذه العرضة الأخيرة، وحرصوا على متابعتها بدقة. 4 التوبة: 138. 5 الأحزاب: 23. 6 عند الكلام على حديث جمع القرآن في آخر كتاب التفسير من الصحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 للنشر وإزالة الاختلاف، وألزم الناس بالتلاوة عليه, وحرَّقَ ما سواها، إذ كان لكبار الصحابة مصاحف أخرى يروونها عن النبي -صلى الله عليه وسلم, كل واحد حسب لغة قومه؛ لأن القرآن أنزل على سبعة أحرف، أي: سبع لغات، فخاف عثمان كثرة الاختلاف فجمعهم على لغة واحدة، وهي لغة قريش الذين هم قرابة النبي -صلى الله عليه وسلم- سدًّا للذريعة1.   1 لم يحذف عثمان شيئًا من أحرف القرآن التي أثبتت في العرضة الأخيرة، وكما قال المحاسبي في جمع أبي بكر: أنه كمن وجد أوراقًا مفرَّقة في بيتٍ فربطها بخيط, نقول: لم يكن لعثمان سوى أنه نقل مصحف أبي بكر ونشره في سبع نسخ, ووزَّعها على الأمصار، بعد أن ازداد من التوثق، واتخذ منهجًا فريدًا في كتابة المصاحف، أما القول بأنه جمع الأمة على حرف واحد، وفسر هذا الحرف بأنه لغة قريش، فهو قولٌ فارقه التحقيق وإن اشتهر, فهذه مصاحفه تناقلها القراء، وفيها لغة قريش وغيرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 تكاليف القرآن العظيم : تمتاز تكاليف القرآن عن السنة بسهولتها ورفقها وإمكام القيام بها من غير مشقة. قال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} 1. وقال: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} 2. وقال: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا} 3. وقال: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} 4. وقال: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} 5. إلى غير ذلك. وها أنت رأيت أن الله نهاهم عن السؤال لئلَّا ينزل التكليف, وإنما كثرت التكاليف واتسعت الشريعة بالسنة حيث أكثروا من السؤال. بل كانوا إذا نزل حكم ثقيل في القرآن وسألوا التخفيف عنهم كقوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ} 6، فلما شقَّ عليهم التحرز عنه كليًّا نزل قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} 7. الآية. ولما نزل قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} 8 الآية. شقَّ ذلك عليهم فأمرهم النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يقولوا: سمعنا وأطعنا، فنزل الله قول تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} كما في الصحيح9.   1 البقرة: 286. 2 البقرة: 185. 3 النساء: 28. 4 المائدة: 6. 5 الحج: 78. 6 الأنعام: 152. 7 البقرة: 220. 8 البقرة: 284. 9 انظر البخاري، كتاب التفسير "ج6/ 41". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 وربما نزل التخفيف بدون سؤال, قال تعالى: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا} 1. وربما نزل الحكم الذي لا بُدَّ منه وهو ثقيل تدريجًا؛ كحرمة الخمر, فإنه حُرِّمَ أولًا عند الصلاة, ثم حُرِّمَ كليًّا، ومن الأحكام التي نزلت تدريجًا الربا؛ حُرِّمَ أولًا كثيره, ثم حُرِّمَ كليًّا، وكل ذلك رفق ورحمة بالأمة، ولذلك جعلت الاستثناءات في الأحكام لهذا المعنى كقوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} 2, وقوله: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} 3 وشرط القرآن الاستطاعة عمومًا فقال: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} 4، ثم نصَّ عليها فيما هو مظنة المشقة خصوصًا كقوله: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} 5. وقوع النسخ في القرآن: قدمنا أن القرآن حجة بإجماع، فيشكل على ذلك مسألة النسخ فنقول: النسخ: لغةً الإزالة والتبديل، وفي الشرع: رفع حكم شرعي بمثله مع تراخيه عنه، وهو جائز عقلًا بلا خلاف، واقع في الكتاب والسنة خلافًا لأبي مسلم الأصفهاني، وقد جهَّلوه في دعوى أنه لم يقع في القرآن. وحكمة النسخ أن شرع الأحكام كثيرًا ما يكون لمقتضيات وقتية، فإذا تغيَّرت وناسب تغير الحكم لتغيرها رحمة وتخفيفًا من الحق -سبحانه وتعالى، وقد لا تغير حال، ولكن يكون القصد التخفيف فقط، وقد يكون القصد التشديد في بعض الأحكام كنسخ فدية الصوم بتعين الصوم، وحيث أثبتت المعجزة صدق الرسول, فإن الله لا يُسْأَل عمَّا يفعل، ينسخ ما يشاء ويحكم ما يريد.   1 الأنفال: 66. 2 البقرة: 196. 3 البقرة: 196. 4 التغابن: 16. 5 آل عمران: 97. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 أما حكمة بقاء تلاوة المنسوخ فهو التذكير بحكمة التخفيف والامتنان بتلك النعمة، واستحضار تلك السابقة، وثواب التلاوة، والتعبد والإعجاز وفوائد أدبية. إذا علمت هذا, فالآية المنسوخة مهما وردت أخرى ناسخة لها, فذلك النسخ رفع لحكم الأولى على ما هو المختار, فالاحتجاج في الأحكام بالناسخ، أما المنسوخ فغير محتج به فيها, فهو مستثنى من الحجية بدليل قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} 1، وقال تعالى: {مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي} 2، وقال تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} 3, وفي صحيح مسلم في الوضوء عن العلاء بن الشخير قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينسخ حديثه بعضه بعضًا, كما ينسخ القرآن بعضه بعضًا4. فالنسخ وقع في القرآن بلا شك, بمعنى رفع حكم آية عن جميع محالها, والمتحقق من ذلك اثنتا عشرة آية أو نحوها. الأولى: قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} 5 الآية. نسخها قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} 6 إلخ. آيات المواريث، وقيل إنها منسوخة بحديث "لا وصية لوارث" 7 إذا قيل بتواتره، وقيل: نسخها الإجماع, والتحقيق أن الأجماع لا يكون ناسخًا, وإنما الناسخ دليله، وأن الحديث المذكور ليس بناسخ، وأن الناسخ آيات الميراث حيث بينت ما يجب للوالدين   1 البقرة: 106. 2 يونس: 15. 3 النحل: 101. 4 مسلم في الحيض باب إنما الماء من الماء "1/ 185". 5 البقرة: 180. 6 النساء: 11، 12. 7 الحديث بهذا اللفظ رواه أبو داود "ج3/ 114" ط. التجاربة، والترمذي "ج4/ 434"، وابن ماجة "ج2/ 905" ط. الحلبي، كلهم عن أبي أمامة الباهلي، وبوَّب البخاري بهذا اللفظ فقال في الصحيح: باب لا وصية لوارث، ثم ذكر حديث ابن عباس بمعناه "ج4/ 4" ط. استنبول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 والأقربين, فلم يبق احتياج لوجوب الوصية، بل نسخ وجوب الوصية بقوله: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} إذ مفهوم يوصي به أنه إذا لم يوص بها فلا نفاد للوصية، نعم إطلاق لفظ وصية المتناول الوصية للوارث قيد بحديث "لا وصية لوارث" هكذا ظهر لي في الآيتين والحديث، وعليه فلم يبق هناك مثال يتحقق فيه نسخ القرآن بالسنة الآحاد, وإنما يوجد التقييد أو التخصيص أو التعميم وأمرها سهل. وكل منها واقع بالسنة، ومن ذلك حديث عبد الرحمن بن عوف في الصحيح1 أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أخذ الجزية من مجوس هجر, فهو دال على تعميم آية الجزية من أهل الكتاب، وأن القيد بأهل الكتاب فيها خرج مخرج الغالب لنزولها في اليهود, وليس ذلك بنسخ. الثانية: قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} 2 نسختها {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} 3. الثالثة: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} 4 نسخ الوصية آية الميراث السابقة, ونسخ عدة الوفاة بالحول الآية قبلها {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} 5 وقدمت الناسخة على المنسوخة؛ لأن ترتيب آيات المصحف لم يكن على ترتيب النزول, بل هو بأمر خاص من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بإجماع. الرابعة: قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} 6, نسختها آية: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} 7. الخامسة: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} 8 نسختها آية: {وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} 9. السادسة: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ} 10 الآية   1 البخاري باب الجزية والموادعة مع أهل الحرب "ج4/ 177". 2 البقرة: 184، وفي المتواتر قراءة {مسكين} بالإفراد والجمع. 3 البقرة: 185. 4 البقرة: 240. 5 البقرة: 234. 6، 7 البقرة: 284، 286. 8 النساء: 33، والقراءة بالألف بعد العين متواترة. 9 الأحزاب: 6. 10 النساء: 15. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 نسختها آية النور {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} 1 الآية مع آية الرجم التي نسخ لفظها وبقي حكمها, لكنه يؤول إلى نسخ القرآن بالسنة لعدم تواتر الناسخة الآن, وإن كانت متواتر في وقت الصحابة، أو يقال: نسخها دليل الإجماع؛ لأن الإجماع من الصحابة وعلماء الأمصار على رجم المحصن العالم العاقل المختار. ولم يخالف إلّا الخوارج والمعتزلة قالوا: لم نجده في القرآن, وأما ما في البخاري2 من أن عبد لله بن أبي أوفى سئل هل رجم النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل نزول سورة النور أو بعدها فقال: لا أدري, فلا يلزم من عدم معرفته هو عدم اطِّلاع غيره, ففي الصحيح3 من حديث أبي هريرة وعقبة بن عامر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال للرجل الذي قال له: إن ابني كان عسيفًا على هذا, وزنى بزوجته: "إن على ابنك جلد مائة وتغريب عام, واغد يا أنيس على زوجة هذا, فإن أقرّت فارجمها" وقال عليّ: رجمت بسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو في الصحيح4, وعن عمر -رضي الله عنه- أنه خطب الناس فقال: "إن الله بعث محمدًا بالحق, وأنزل عليه القرآن, فكان مما أنزل عليه الرجم" أخرجه البخاري5, وأخرج مسلم عن عباة بن الصامت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "خذوا عني, قد جعل الله لهنَّ سبيلًا, الثيب بالثيب جلد مائة والرجم" 6. السابعة: آية المائدة: {وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَام} 7 وآية القتال: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} 8 نسختها آية البقرة: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} 9, لكن يشكل عليه أن المائدة متأخرة في النزول عن البقرة, بل قال ابن عباس: إن المائدة آخر ما نزل، ويجاب بأنها آخر ما   1 النور: 6، 7، 8، 9، وهي آيات الملاعنة، أما آية الرجم التي أشار إليها، فهي قوله: "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموها البتة ... " وسيذكر المصنف بعد في حديث البخاري. 2 البخاري في المحاربين "ج8/ 204". 3 المصدر السابق "ج8/ 207"، ومسلم في الحدود "ج5/ 121". 4 البخاري في المحاربين "ج8/ 204". 5 المصدر السابق "ج8/ 209". 6 مسلم "ج5/ 115"، وأبو داود "ج4/ 144"، والترمذي "ج4/ 41"، وابن ماجة "ج2/ 853" وانظر تحقيق أحاديث الرجم في نيل الأوطار "7/ 86". 7 المائدة: 2. 8 التوبة: 5. 9 البقرة: 217. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 نزل من السورة دون الآيات, فلا ينافي ذلك وجود المنسوخ فيها. الثامنة: قوله تعالى في المائدة: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} 1 نسختها آية: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّه} 2, وبه يرد قول أبي عبيدة عن الحسن ليس في المائدة منسوخ، وقاله عمر بن شرحبيل وعائشة وغيرهم. التاسعة: قوله تعالى في المائدة: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُم} 3 نسختها آية: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} 4 ويرد عليه ما تقدَّمَ أيضًا، على أن بعض المالكية وأهل الظاهر وابن حنبل وكثيرًا من التابعين لا يقولون بنسخها، حكم بها أبو موسى الأشعري وغيره, وانظر بسط القول في هذه الآية في عدد "166" من الطرق الحكمية لابن القيم5. العاشرة: قوله تعالى: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} 6 نسختها الآية بعدها: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} 7, ولفظ الآيتين خبر ولكن معناهما الأمر, بدليل أول الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} فوقع التحديد للعدد الذي يجب الثبات والصبر للقائه, ولا يرخص في الفرار منه. الحادية عشرة: قوله تعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} 8 نسختها آيات العذر وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّة} 9. الثانية عشرة: قوله: {إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} 10 نسختها الآية بعدها. الثالثة عشرة: قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ   1 المائدة: 42. 2 المائدة: 49. 3 المائدة: 106. 4 الطلاق: 2. 5 ص "165-174" ط. العلمية بالمدينة المنورة. 6، 7 الانفال: 65، 66. 8 التوبة: 41. 9 التوبة: 122. 10 المجادلة: 12. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ} 1 نسختها الآية بعدها, وهي قوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى} 2 الآية. ويمكن النزاع في نسخ هذه الآية أيضًا؛ لأنها ليست بصريحة في وجوب التهجد على من معه حتى يكون نسخًا. الرابعة عشرة: قوله تعالى: {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} 3 نسخها عموم: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} 4 الأية. وفي ذلك نزاع أيضًا إذ يحتمل أن تكون آية الزاني {لا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً} معناها: أن شأنه ذلك تنفيرًا, لا أنه حكم ونهي, فلا نسخ. الخامسة عشرة: قوله تعالى: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْد} 5 الآية. نسختها آية: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} 6 الآية, وفيها نزاع أيضًا, فهذه الآيات قد تحقَّق النسخ في الجل منها إما بمعنى الإزالة أو التبديل، على أن البعض منها قد يمكن النزاع فيه والتخلص من النسخ كما سبق ولكنه قليل، وجميع ما ذكروا فيه النسخ مما سواه كله, إما من باب التخصيص, وهو إزالة الحكم عن بعض الأفراد دون بعض، أو من باب التقييد أو نحو ذلك، وكان الأقدمون كابن حزم يتسمحون فيسمونه نسخًا، كقوله: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} إلى قوله: {إِلَّا مَنْ تَاب} 7 فإنهم يقولون: إنها ناسخة قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} 8 الآية. والحق أن لا نسخ، وأنما هو تخصيص؛ لأن الحكم لا زال باقيًا لبعض الأفراد، ومن هذا المعنى ما قاله ابن العربي من أن آية {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِين} نسخت مائة وأربعًا وعشرين آية فيها الصفح عن الكفار والتولي والإعراض والكف عنهم، قال: ومن العجب ان آية القتال نسخ آخرها وأولها, فإن ما ذكره في النسخ في آيات الصفح والكف غير متعيّن كما يعلم بالوقوف عليها في محلها. وعلى كل حال, فإن المفسرين مهما رأوا منافاة ظاهرة آية لأخرى إلّا ويدعون   1، 2 المزمل: 20. 3 النور: 3. 4 النور: 32. 5 الأحزاب: 52. 6 الأحزاب: 50. 7 الفرقان: 68، 69. 8 النساء: 93. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 النسخ مجازفة، وليس بصواب، فالنسخ له شروط، منها عدم إمكان الجمع بين مدلولي الآيتين، وتواردهما على محل واحد، وبعبارة تحقق وجود الوحدات الثمان التي يشترطها المناطقة في التناقض، ومنها تحقيق التاريخ إما بنص صريح, أو بأن يجمعوا على العمل بالأحرى، كأكثر الآيات "15" السابقة، إلى غير ذلك من الشروط المبسوطة في محلها من الأصول وهي تقارب العشرة. قال ابن الحصَّار: لا يعمل في النسخ إلّا بنقل صريح عن رسول الله أو عن صحابي يقول: آية كذا نسخت كذا؛ لأنهم عاينوا النزول، ولا يعمل بقول المفسرين من غير دليل، ولا بقول المجتهدين, فإن المجتهد قد يخطئ ويصيب؛ لأن النسخ يتضمَّن رفع حكم تقرر في زمنه -صلى الله عليه وسلم, ويتضمن حرمة العمل به ونفيه عن الشريعة, فلا بُدَّ فيه من نقل بتواتر أو آحاد عدول. والمسألة طويلة الذيل وليس المحل محل بسطها, ولكن لما لخصته هنا قيمة لا يستهان به. ثم النسخ أقسام: ما نسخ لفظه وبقي حكمه نحو: "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالًا من الله" وهي آية كانت في الأحزاب كما في الصحيح1، ومن نسخ لفظه وحكمه كعشر رضعات معلومات، وما نسخ حكمه وبقي لفظه كالآيات "15" السابقة. والنسخ يكون نسخ قرآن بقرآن، وسنة بسنة، وسنة بقرآن، وقرآن بسنة متواترة لا بخبر واحد كما يأتي. ولا نسخ بالعقل ولا بالإجماع؛ لأنه لا يكون إلّا بعده -عليه السلام، ولا نسخ بعده، ولكن إجماعهم إن خالف نصًّا فقد تضمَّن ناسخًا وهو مستند الإجماع. وهناك نوع آخر من النسخ, وهو إزالة الآية أو الآيات من القرآن لفظًا ومعنًى, أو لفظًا فقط, فتُنْسَى ولا تبقى مقروءة، وعلى هذا حمل قوله تعالى: {أَوْ   1 الذي في صحيح البخاري "ج8/ 209", وفي مسلم "ج5/ 116" حديث عمر بن الخطاب، وذكر فيه آية الرجم ولم يذكر نصها, ولا السورة التي نزلت فيها، أما نص الآية فرواه أُبَيّ بن كعب، وأخرج حديثه ابن حبان في صحيحه, ورواه أبو أمامة بن سهل عن خالته العجماء, وأخرج حديثه أحمد والطبرني في الكبر "نيل الأوطار "ج7/ 91". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 نُنْسِهَا} 1 في أحد القولين, ومنه حديث أبي موسى في صحيح مسلم2 أنه بعث إلى قراء البصرة فدخل عليه ثلاثمائة رجل قد قرأوا القرآن فقال: أنتم خيار أهل البصرة وقراؤهم, فاتلوه ولا يطولن عليكم الأمد فتقسوا قلوبكم كما قست قلوب من كان قبلكم، وإنا كنا نقرأ سورة كنَّا نشبهها في الطول والشدة ببراءة فأنسيتها، غير أني فد حفظت منها: لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى واديًا ثالثًا, ولا يملأ جوف ابن آدم إلّا التراب، وكنا نقرأ سورة كنا نشببها بإحدى المسبحات فأنسيتها, غير أني حفظت منها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} فتكبت شهادة في أعناقكم فتسألون عنه يوم القيامة.   1 البقرة: 106. 2 مسلم في الزكاة: "ج3/ 100". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 السنة النبوية مدخل ... السنة النبوية: هي أقواله -صلى الله عليه وسلم- وأفعاله وتقريره. ومجموع الأحاديث التي تدور عليها أحكام الفقه نحو خمسمائة حديث وبسطُها وتفاصيلها نحو أربعة آلاف حديث كما في أعلام الوقعين1. والسنة في الدرجة الثانية بعد القرآن العظيم؛ لأن القرآن كلام رب العزة، متعبد بتلاوته، معجز ببلاغته، قطعي الثبوت لتواتره، بخلاف السنة، ولذلك إذا وجد قرآن صريح فهو مقدَّم عليها، وهذا مما لا خلاف فيه؛ لأن الصحابة -رضوان الله عنهم- ما كانوا يسألون إلّا عمَّا لم يجدوه مصرَّحًا به في القرآن الكريم، نعم إذا وجدت سنة مخالفةٌ لنصِّ القرآن متأخرة عنه, فهل تكون ناسخة أو لا, محل خلاف، والصحيح أنه يجوز النسخ بها, ولكن لم يقع نسخ القرآن بالسنة إلّا إذا كانت متواترة عند حكم المجتهد بالنسخ بها، ويجوز التخصيص والتقييد بها إذا كانت دلالة القرآن ظنّية كالعمومات والإطلاقات, فيخصص حينئذ ظني بظني، وللمسألة تفاصيل وتفاريع في كتب الأصول, وانظر أول السفر الرابع من موافقات الشاطبي تجد بسطًا كافيًا. واعلم أن السنة معمول بها باتفاق من يعتد به من أهل العلم ولو خبر آحاد, لقوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} 2, وقوله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} 3, وقوله: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} 4, وقد كان -صلى الله عليه وسلم- يوجه رسله إلى الآفاق بتبليغ الشريعة الشريعة وهم فرادى, وذلك دليل على وجوب العمل بالسنة, ولو كانت خبر آحاد، وقد عمل بها الصحابة في زمنه -عليه السلام- حال غيبته، وأقرَّهم عليها وهي خبر آحاد، ووجه مع عمرو بن حزم صحيفة إلى اليمن وهي   1 أعلام الموقعين "ج3/ 257". 2 النجم: 3. 3 الحشر: 7. 4 الأحزاب: 21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 مذكورة في الموطأ وتأتي، وعملوا بالسنة بعد وفاته في مجتمعاتهم التي تعتبر إجماعًا، وثبت احتجاجهم بها من طرقٍ كثيرة تبلغ القطع مما لم يبق معه شك, ويعلمه من يتتبع كتب الصحاح وكتب السِّيَر، وقال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} 1, فالسنة تبيِّن ما أجمل في القرآن؛ لآن الشريعة كانت تنزل تدريجًا لأجل الرفق بالأمة الأمية كما سبق، ومن جملة الرفق أن ينزل الإجمال ثم يأتي تفصيله، وكل ذلك موجود في السنة مبيَّنٌ فيها، كما أن السنة تشرع ما ليس في القرآن استقلالًا كما يأتي، انظر إلى الإيمان جاء في القرآن الأمر به وإلزام كل واحد أن يملأ منه قلبه, ثم بينته السنة بقوله -صلى الله عليه وسلم: "الإيمان أن تؤمن بالله ووملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره" 2 كذلك الإسلام والإحسان، وانظر إلى الصلاة عماد الدين, أوجبها القرآن من غير بيان, وبينت السنة عدد الصلوات أو الركعات وكيفيتها وشروطها, وإصلاح ما قد يقع فيه الخلل منها, ووضحت أوقاتها, وكيف العمل في فوائتها, وما ذكر في القرآن إلّا ما هو إجمال من ذلك كقوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} الآية3. ففي القرآن بيان شرط وهو الطهارة المائية, ثم الترابية, وأشار إلى شرط ستر العورة بقوله: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} 4 وإلى شرط استقبال القبلة بقوله: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} 5. ولكن هناك تفاصيل بينتها السنة، ثم أشار القرآن إلى أوقاتها بقوله تعالى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ، وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} 6, ولكن السنة بينت الأوقات بالبيان الشافي, بحديث بريدة وحديث ابن عمر في الصحيح وغيرهما, وأشار القرآن إلى كيفيتها بقوله: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} , وقوله: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} , ولكن السنة هي التي استوفت, فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "صلّوا كما رأيتموني أصلي" 7.   1 النحل: 44. 2 البخاري في الإيمان:"ج1/ 20". 3 المائدة: 6. 4 الأعراف: 31. 5 البقرة: 150. 6 الروم: 17. 7 البخاري في الأذان "ج1/ 154". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 وروى لنا أبو هريرة ووائل بن حجر, ومالك بن الحويرث, وأبوحميد الساعدي, وغيرهم كيفية صلاته -عليه السلام, وعلمنا منها ما هو واجب وما لا. وهكذا الزكاة أشار القرآن إلى وجوبها بقوله: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ، لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} 1، ولكن من أين علم القدر الواجب؟ عُلِمَ من السنة, قال -عليه السلام: "فيما سقت العيون أو كان عثريًا العشر, وما سُقيَ بالنضح نصف العشر" 2, وقال: "قوفي الركاز الخمس" 3، وبينت السنة قدر النصاب، قال -عليه السلام: "ليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة، وليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة, وليس فيما دون ذود من الإبل صدقة" 4. وهكذا الصوم, أوجب الله علينا في القرآن صوم شهر رمضان, وبينت السنة أن المراد الشهر القمري الذي يكون ثلاثين ويكون تسعًا وعشرين، وأمرنا أن نصوم لرؤية الهلال، ونفطر لرؤيته, وأن من أفطر عامدًا لغير عذر تجب عليه الكفارة, إلى غير ذلك. وهكذا الحج, أوجب الله في القرآن الحج على من استطاع، وبيَّنَ أركانه, فأشار إلى الإحرام بقوله تعالى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} إلى آخر الآية5، وإلى وقوف عرفه: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ} 6 وبيَّنَ السعي والطواف بقوله: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} 7، وبقوله: {طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ} 8.   1 المعارج: 24، 25. 2 أخرجه بهذا اللفظ: "فما سقت السماء والعيون ... " البخاري عن سالم بن عبد الله بن أبيه "ج2. 155", والترمذي "ج3/ 23"، وأخرجه أبو داود بلفظ: "فيما سقت السماء والأنهار والعيون أو كان بعلًا العشر, وفيما سُقِيَ بالسواني أو النضح نصف العشر" "ج2/ 147" وابن ماجه "ج1/ 581"، ولم يذكر "النضح". 3 رواه الجماعة. 4 حديث أبي سعيد الخدري: متفق عليه, والذي ذكره المصنف لفظ البخاري "ج2/ 147". 5 البقرة: 196. 6 البقرة: 198. 7 البقرة: 158. 8 الحج: 26. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 وبينت السنة كيفية الإحرام وممنوعاته، وحدود عرفة، ووقت الوقوف فيه، وكيفية السعي، والطواف، وعدد الأشواط, إلى غير ذلك، وقد أجمله -عليه السلام بقوله: "خذوا عني مناسككم" 1, وبينت الأحاديث النبوية التي رواها الصحابة الذين عاينوا حجة تفاصيل ذلك, كابن عباس وابن عمر وغيرهما.   1 أخرجه مسلم عن جابر "ج4/ 79"، وأبو داود "ج2/ 201" بلفظ: "لتاخذوا عني مناسككم"، والنسائي "ج5/ 219" بلفظ: "فخذوا مناسككم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 السنة مستقلة في التشريع : اعلم أن الحق عند أهل الحق أن السنة مستقلة في التشريع, فقد يرد فيها ما لم يذكر إجماله ولا تفصيله في القرآن كزكاة الفطر, قال خليل: يجب بالسنة صاع. وكصلاة الوتر، وكحد الزاني المحصن؛ لأن آية: "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة" حكمها حكم السنة؛ لأنها نسخ لفظها ولم ترو إلينا تواترًا, وإن وقع الإجماع على الحكم بها، فالسنة كالقرآن يثبت بها تحليل الحلال وتحريم الحرام، كتحريم الجمع بين المرأة وعمتها، والمرأة وخالتها، وتحريم لحوم الحمر الإنسية1, وكوجوب الكفارة على منتهك حرمة رمضان، وما لا يحصى كثرة، خلافًا للخوارج. قال في أعلام الموقعين: أحكام السنة التي ليست في القرآن إن لم تكن أكثر مما فيه لم تنقص عنه، وما يروى من طريق ثوبان من الأمر بعرض الأحاديث على القرآن، فقال يحيى بن معين: إنه من وضع الزنادقة، وقال الشافعي: ما رواه أحمد عمن يثبت حدثيه في شيء صغير ولا كبير2. وقال ابن عبد البر في كتاب جامع العلم: عن عبد الرحمن بن مهدي, إن الزنادقة وضعوا حديث: "ما أتاكم عني فاعرضوه على كتاب الله, فإن وافق فأنا قلته، وإن خالف فلم أقله", ونحن عرضنا هذا الحديث نفسه على قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} , وغيرها من الآيات الدالة على الأخذ بالسنة, فتبيَّنَ لنا أن الحديث موضوع كرّ على نفسها بالإبطال3.   1 لكن مالك وأبو حنيفة أخذ تحريم الخمر والبغال والخيل من قوله تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَة} ولم يقل لتأكلوها، فلذلك قال بتحريم الخيل أيضًا, مع ثبوت حليتها بالسنة في الصحيح. المؤلف. 2 انظر "ج2/ 309". 3 جامع بيان العلم وفضله "ج2/ 191". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 قلت: ومن الأدلة على وضعه أن في القرآن آيات لو عُرِضَ على عمومها بعض السنن لردته, ومع ذلك أجمعوا على العمل بالسنة، والإجماع معصوم. كقوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} 1, فعمومها يقتضي جواز الجمع بين المرأة وعمتها وخالتها. والسنة تمنع ذلك، والإجماع على العمل بالسنة، وقال تعالى: {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} 2، وجاءت السنة بأن الدية على العاقلة, والإجماع على ذلك إلّا عثمان البنيّ -من التابعين- يراها على القاتل. وقال تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} 3 الآية, وأن السنة حرمت الحُمُر الإنسية وأمثال هذا. قال الأوزاعي: الكتاب أحوج إلى السنة من السنة إلى الكتاب، قال ابن عبد البر: إنها تقضي عليه وتبين المراد منه, ومقالة الأوزاعي أنكرها الإمام أحمد بنت حنبل قائلًا: بل السنة تبيّن القرآن وتفسره. نقل ذلك ابن القيم في كتابه الطرق الحكمية, قال ابن القيم: وقد أنكر أحمد والشافعي على من ردَّ أحاديث رسول الله لزعمه أنها تخالف ظاهر القرآن، وللإمام أحمد في ذلك كتاب سماه طاعة الرسول، والذي يجب على كل مسلم اعتقاده أنه ليس في سنن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الصحيحة سنة واحدة تخالف الكتاب, بل السنن مع القرآن ثلاث منازل: المنزلة: الأولى: سنة موافقة شاهدة بنفس ما شهدت به الكتب المنزلة, وتوارد هذه من باب توارد الأدلة كالتأكيد. المنزلة الثانية: سنة تفسير الكتاب وتبين المراد منه وتقيد مطلقه وتخصيص عامه، كالحديث الصحيح المبين أن الظلم في قوله تعالى: {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} 4 وهو الشرك، وأن الخيط الأبيض والأسود هما بياض النهار وسواد الليل، وأن الذي رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى هو جبريل، وأن قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ} 5 هو في   1 النساء: 24. 2 الأنعام: 124. 3 الأنعام: 145. 4 الأنعام: 82. 5 إبراهيم: 27. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 القبر حين يسأل إلى غير ذلك. المنزلة الثالثة: سنة متضمنة لحكم سكت عنه الكتاب فتبينه بيانًا مبتدءًا كالحكم بالشاهد واليمين، وتحريم الرضاع وما يحرم من النسب، والرهن في الحضر، وميراث الجدة وغيره مما رفع البراءة الأصلية، وأمثال هذا كثير، وليس هذا من النَّسخ في شيء؛ لأنه إنما رفع البراءة الأصلية، ولا يجوز رد واحدة من هذه الثلاث، وليس للسنة مع كتاب الله منزلة رابعة: "بتصرف وزيادة"1. قلت فيه: إن هناك منزلة رابعة: وهي السنة الناسخة للكتاب المتواترة على رأي الجمهور, أو الآحاد على القول بها كحديث: "لا وصية لوراث" 2، وحديث: "البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام" 3، الناسخ لقوله تعالى: {فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} 4، فإن الحاكم لو اقتصر على الجلد لوافق القرآن وخالف السنة، وهذا محل النزاع بين الحنفية وبقية المذاهب، وقد استدرك هذا القسم في أعلام الموقعين، وأطال فيه، فانظره عدد "382"من المجلد الثاني5. ثم قال في الطرق الحكمية: لو ساغ ردَّ سنن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما فهمه الرجل من ظاهر الكتاب لردت بذلك أكثر السنن وبطلت بالكلية, فما من أحد يحتج عليه بسنة صحيحة تخالف مذهبه ونحلته إلّا ويمكن أن يتشبث بعموم آية أو إطلاقها, ويقول: هذه السنة مخالفة لهذا العموم أو هذا الإطلاق فلا تقبل، وهؤلاء الروافض ردوا حديث: "نحن معاشر الأنبياء لا نورث" 6 بعموم آية: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} 7، وردت الجهمية   1 الطرق الحكمية ص72، ط. العلمية بالمدينة المنورة. 2 أبو داود "ج3/ 114"، والترمذي "ج4/ 433 "، وابن ماجة "ج2/ 905"، وغيرهم. 3 أخرجه مسلم "ج5/ 115"، وأبو داود "ج47/ 144"، والترمذي "ج4/ 41"، وابن ماجة "ج2/ 853". 4 النور: 2. 5 أعلام الموقعين "ج2/ 309". 6 متفق عليه: البخاري "ج8/ 185"، ومسلم "ج5/ 153"، بلفظ: $"لا نورث ما تركناه صدقة". 7 النساء: 13. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 أحاديث الصفات بظاهر: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} 1، وردت الخوارج أحاديث الشفاعة، وخروج أهل الكبائر الموحدين من النار بما فهموه من ظاهر القرآن في آيات الوعيد، والجهمية أحاديث الرؤية بظاهر آية: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} 2، والقدرية أحاديث القدر الثابتة بما فهموه من ظاهر القرآن، وردت كل طائفة ما ردته، فإمَّا أن يطرد الباب في قبولها, ولا يرد شيء منها لما يفهم من ظاهر القرآن، وإما أن يطرد الباب في رد لكل, وما من أحدٍ ردَّ سنة بما فهمه من ظاهر القرآن إلّا وقد قبل أضعافها مع كونها كذلك، وقد أنكر أحمد والشافعي على مَنْ ردَّ أحاديث تحريم كل ذي3 ناب من السباع بقوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} 4. وروى أحمد وابو داود والترمذي وابن ماجة والبيهقي في الدلائل عن أبي   1 الشورى: 11. 2 الأنعام: 103. 3 قال المؤلف -رحمه الله: حديث نهي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن أكل كلِّ ذي ناب من السباع رواه الستة جميعًا كما في شرح المشكاة, وهو في البخاري والموطأ بلفظ: وحديث نهي عن أكل كل ذي مخلب من الطير. رواه أحمد ومسلم، وأبو داود، وابن ماجة كما في المشكاة، وقد حكى ابن رشد الإجماع على إباحة كل طير ولو جلّالة وذا مخلب، وبحث معه في الإجماع، وعلى كل حالٍ فهو مشهور المذهب الذي في المختصر وغيره، أخذًا بظاهر القرآن وتقديمًا له على السنة كما هو أصل المذهب, أما ذو الناب من السباع: فمشهور مذهب مالك الكراهة في السبع والضبع والثعلب والذيب والهر وإن وحشيًّا, ولم يردّ المالكية الحديث بل حملوه على الكراهة، قالوا: لعدم صراحة لفظ:"نهى" في الحرمة جمعًا بينه وبين القرآن المصرح بقوله: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ..} الآية. ومذهب الموطأ: تحريم كل ذي ناب من السباع لحديث عبيدة بن سفيان الحضرميّ مرفوعًا: "كل ذي ناب من السباع فهو حرام" ونحوه في البخاري, ولعمل أهل المدينة أيضًا، ففي الموطأ قال مالك: وهو الأمر عندنا. وإن كان ظهر المدونة الكراهة، واعتمده ابن العربي وغيره، واعتمد ابن عبد البر صريح الموطأ، ثم إن مالكًا من أصول مذهبه تقديم ظاهر القرآن على صريح السنة، كما يأتي في ترجمته, فلذلك قال بحرمة الخيل على ما في المختصر، لكن خالف هذا الأصل فحرم ذا الناب من السباع, من أن ظاهر القرآن الإباحة، المسألة فيها نزاع كبير، انظر الزرقاني على الموطأ فقد حررها, والمشهور في المذهب هو كراهة الفرس والسباع فقط, لتعارض الأدلة على ماحرره الرهوني. 3 الطرق الحكمية ص"73" ط. العلمية بالمدينة المنورة سنة 1391هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 رافع قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لا ألفين أحدكم جالسًا على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به ونهيت عنه فيقول: لا أدري ما وجدناه في كتاب الله اتبعناه" 1. وعن المقدام بن معد يكرب قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إني أوتيت القرآن ومثله معه، يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بالقرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه، وإن ما حرَّم رسول الله كما حرَّم الله, ألا لا يحل لكم الحمار الأهلي، ولا كل ذي ناب من السبوع, ولا لقطة من عهد إلّا أن يستغني عنها صاحبها, ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه, فإن لم يقروه فله أن يعقبهم بمثل قراه" رواه أبو داود ورواه الدارمي2 بمعناه أيضًا إلى قوله: "كما حرم الله" , ويؤيد مضمون الحديثين قوله تعالى في وصف رسول الله -صلى الله عليه وسلم: {يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} الآية3, وقال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} 4. وقال تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} 5, إلى غير ذلك. وقال الشافعي في الأم نقلًا عن أبي يوسف في كتابه نقد سير الأوزاعي ما نصه: عليك من الحديث بما تعرف العامة، وإياك والشاذ منه, فإنه حدثنا ابن أبي كريمة عن أبي جعفر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه دعا اليهود فحدثوه حتى كذبوا على عيسى, فصعد النبي -صلى الله عليه وسلم- المنبر فخطب الناس فقال: "إن الحديث سيفشو عني, فما أتاكم عني يوافق القرآن فهو عني, وما أتاكم عني يخالف القرآن فليس مني".   1 أبو داود "ج4، ص200"، والترمذي "ج5/ 37"، وابن ماجه "ج1/ 6، 7" وأحمد في مسنده، انظر الفتح الرباني للساعاتي "1/ 92. 2 أبو داود "ج4/ 200، والدارمي "ج1/ ص117"، واللفظ المذكور مجموع من اللفظين. 3 الأعراف: 157. 4 النساء: 65. 5 آل عمران: 32. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 مسعر بن كدام والحسن بن عمارة بن عمرو بن مرة, عن البختري, عن علي بن أبي طالب قال: "إذا أتاكم الحديث عن رسول الله فظنوا أنه الذي أهدى, والذي أنقى, والذي هو أحيا, إلى أن قال: فإياك وشاذّ الحديث، وعليك بما عليه الجماعة من الحديث, وما يعرفه الفقهاء, فقس الأشياء على ذلك, فما خالف القرآن فليس عن رسول الله, وإن جاءت به الرواية". حدثنا الثقة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال في مرضه الذي مات فيه: "إني لأحرم ماحرم القرآن، والله لا يمسكون على بشيء" فاجعل القرآن والسنة المعروفة لك إمامًا وقائدًا, واتبع ذلك وقس عليه ما يرد عليك مما لم يوضح لك في القرآن والسنة"1. هذا ما نقله الشافعي عن أبي يوسف, ورده عليه بأن التقيد بما يعرف الفقهاء ليس بصواب أيضًا, وكذلك ردّ الحديث الغريب أيضًا ليس بصواب, وإنما الصواب هو أن الشاذ وهو ما خالف ما هو أقوى منه من قبيل الضعيف, وما سوى ذلك فمقبول ولو غريبًا, فإن الغرابة لا تنافي الصحة. وجل ما يرده الحنفية من السنة ويقدمون القياس عليها, فحجتهم هو ما ذكره أبو يوسف، وذلك كله لا يقبله المالكية ولا الشافعية ولا الحنابلة ولا أئمة الحديث والله الموفق.   1 الأم "ج7/ 338", وإذا أردت فيهم هذه المسألة فأرجع إلى كتاب الرد على سير الأوزاعي لأبي يوسف من ص23، إلى ص32، وعليك بالتعليقات فإنها قيمة، ثم ارجع إلى شرح أصول البزودي لعبد العزيز البخاري "ج3/ من ص10". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 ا شروط العمل بالسنة : اعلم أن لا يحتج بها إلّا إذا كانت متواترة أو صحيحة أو حسنة، ولم يكن هناك قادح، كما إذا خالف الرواي من هو أحفظ منه أو أتقن أو أكثر, فتكون حينئذ شاذة، والشاذ من قبيل الضعيف فلا يُحْتَجُّ به، وتقدم قريبًا الرد على من اشترط معرفة الفقهاء للحديث أو عدم الغرابة، وروي عن بعض السلف اشتراط رواية اثنين عن اثنين إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم، ويدل له فعل أبي بكر في مسألة ميراث الجدة ويأتي، ونسب هذا لعمر أيضًا ولم يصح، بل صح عنه العمل بخبر الواحد في حديث عبد الرحمن بن عوف في الطاعون وغيره1، نعم كان يثبت في بعض الأحيان، ويطلب الرواي الثاني كما وقع له مع أبي موسى في حديث: "إذا استأذن أحدكم ثلاثًا ولم يؤذن له فليرجع" حتى جاء بأبي سعيد الخدري يشهد أنه سمعه من رسول الله -صلى الله عليه وسلم2, وقصده في ذلك أن يجعل هيبة على حديث رسول الله حتى لا يروى إلّا عن الثقة. وكان سيدنا علي يستخلف الراوي العدل استثباتًا، إلّا أبا بكر فإنه كان يقبل روايته من غير يمين، كما ذكره المحلي في كتاب التعادل والتراجيح، ولهذا تفصيل وبيان في الأصول، والجمهور على وجوب قبول خبر الواحد الضابط عن مثله إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم, وحكي عليه في جمع الجوامع الإجماع، وعلى ذلك كان العمل في زمنه -عليه السلام- كما سبق، والإجماع مبحوث فيه بما سبق, واستثنى المالكية منه إذا خالف عمل أهل المدينة؛ لأن عملهم بمنزلة مرويهم لثقتهم وقربهم من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالجوار، ومرويهم مقدَّم؛ لأنه من قبيل المستفيض، وهو مقدَّم على خبر الواحد، إذ يصير خبر الواحد بالنسبة إليه شاذًّا إذا خالفه من   1 متفق عليه: البخاري "ج7/ 168"، ومسلم "ج7/ 29". 2 الجماعة إلّا النسائي، البخاري "ج8/ 67"، مسلم "ج6/ 177"، وأبو داود "ج4/ 345"، والترمذي "ج5/ 53"، وابن ما جهة "ج2/ 1221". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 هو أكثر منه، ولأنهم شاهدوا الأخير من أحواله -صلى الله عليه وسلم, وهو أعرف بالناسخ والمنسوخ، وأما من نسب إلى مالك أنه يشترط موافقة العمل لخبر الواحد فقد أخطأ، واشترط الحنفية أن لا يخالفه روايه, فالعمل بما رأى لا بما روي؛ لأنه لا يخالفه إلّا عن دليل. قلنا: في ظنه وقد لا يكون دليلًا في الواقع، وشرطوا أن لا يكون فيه البلوى، فإن هذا تتوفر الدواعي على نقله تواترًا، وذلك علة قادحة عندهم توجب ردَّه، وأن لا يخالف القياس على تفصيل عندهم يأتي في ترجمة أبي حنفية. والصواب: أن خبر الواحد إذا تجرَّدَ عن القرائن مفيد للظن، خلافًا للظاهرية الذين ادَّعوا إفادته العلم اليقيني، قالوا: ولو لم يفد العلم فكان علمًا بالظن، والله يقول: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} 1، وقال: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} 2، وهي حجة داحضة، فالقرآن أوجب اليقين في العقائد لا في كل شيء, ونحن إنما أوجبنا العمل بخبر الواحد في الفروع العملية استنادًا لعمل الرسول -عليه السلام، وقال تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} الآية3. انظر تفسير ابن عرفه فيها. وأقوى ما يرد به على الظاهرة الإجماع من الصحابة فمَنْ بعدهم على العمل بظواهر النصوص التي هي متمسك الظاهرية, وبالأدلة الظنّية في الفروع، ووقع منهم الاستدلال بها في غير ما موطن، فدلَّ ذلك على تخصيص الآيات المانعة من اتباع الظن بالعقائد بدليل سياقها، وانظر شروح البخاري في باب العمل بخبر الواحد.   1 النجم: 28. 2 الإسراء: 36. 3 التوبة: 122. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 السنة يقع فيها النسخ كالقرآن : قال في أعلام الموقعين: قالوا -يعني العلماء: النسخ الواقع في الأحاديث التي أجمعت عليه الأمة لا يبلغ عشرة أحاديث البتة ولا شطرها "صحَّ من العدد 4585 من الجزء الثالث". ومن ذلك حد الخمر, فأنه أولًا لم يكن حدًّا، بدليل ان رجلًا شرب, فلما أخذ هرب لدار العباس مستجيرًا، فتبسم النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يحده1، ثم شرع النبي -صلى الله عليه وسلم- الحدَّ, لكن كان أولًا خفيفًا, وهو الضرب بأطراب أثوابهم وأرديتهم والنعال والأيدي وجريد النخل، ثم شرع الحدّ بالجلد، فقد ثبت في السن وغيرها: "إذا شرب الخمر فاجلدوه, فإذا شرب الثانية فاجلده, وإذا شرب الثالثة فاجلدوه, فإذا شرب الرابعة فاقتلوه" 2، فصار الحد بالجلد, وأمر بالقتل في الرابعة. وفي رواية في الخامسة لكن لم يقتل أحد، فقد روى أبو داود عن قبيصة بن ذؤيب: "إذا شرب فاجلدوه, فإذا شرب الرابعة فاقتلوه، ثم أتي النبي -صلى الله عليه وسلم- بمن شرب الرابعة فلم يكن قتل تخفيفًا من الله تعالى" 3، وعليه فالقتل شرع بالسنة ونسخ بها. ولما كان زمن أبي بكر قُوِّم عدد الضرب الذي كان في زمن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأربعين جلدة، واستقرَّ العمل زمن أبي بكر على أربعين جلدة، فلما كان زمن سيدنا عمر كتب إليه خالد بن الوليد بأن الفسق كثر، وأن الناس استهونوا الأربعين فانهمكوا, فشاور المهاجرين والأنصار وفيهم علي، وطلحة،   1 أبو داود "ج4/ 162". 2 أبو داود "ج4/ 164"، والترمذي "ج4/ 48"، والنسائي "ج8/ 281"، وابن ماجة "ج2/ 589". 3 أبو داود "ج4/ 165"، وأخرج الترمذي نحوه عن جابر بن عبد الله "ج4/ 49"، وانظر الكلام في هذه المسألة في نيل الأوطار "ج4/ 146". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، فقال له علي بن أبي طالب: إن من شرب سكر، ومن سكر هذى، ومن هذى افترى، فأرى أن يحدَّ حد المفتري -يعني ثمانين التي هي أدنى الحدود, ووافقوه على ذلك. فقال عمر لرسول خالد: بلغ صاحبك ما قالوا: فضرب خالد ثمانين, وكان عمر يجلد ثمانين إذا أتاه الرجل القوي المنتهك في الشراب، وإذا أتي بالرجل الذي منه الزلة الضعيف ضربه أربعين، لكن في زمن عثمان رجع عليّ عن فكره, فكان يقول: لو مات أحد بحد الخمر لوديته؛ لأنه لم يكن فيه سنة, وإنما هو شيء صنعناه -يعني الزيادة على الأربعين, ولذلك قال عند حد عثمان للوليد بن المغيرة والى الكوفة لما شهد عليه أهلها بالشرب: حدَّ رسول الله أربعين، وحدَّ أبو بكر أربعين، وعمر ثمانين, وكلٌّ سنة. ثم حدَّه أربعين1. ويعمل عمر أخذ مالك وأبو حنيفة رغمًا عن كون الحنفي لا يقول بالقياس في الحدود، مستندين لقول علي: وكلٌّ سنة. ورأوا فعل عمر كانعقاد الإجماع فلا ينقضه ما بعده.   1 مسلم "ج6/ 126"، وأبو داود "ج4/ 163"، وابن ماجه "ج2/ 585". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 تدوين السنة : تقدم أن أول تدوين للفقه هو تدوين القرآن؛ إذ كان -صلى الله عليه وسلم- يأمر بكتب كل ما ينزل عليه منه، فأما السنة فإن في صحيح مسلم أنه نهاهم عن كتبها وقال: "لا تكتبوا عني غير القرآن" 1، لكن النهي ليس مطلقًا، فالتحقيق أنه نهاهم أن لا يكتبوها ويجعلوها في بيته مع القرآن لئلَّا تختلط به، وأما من أراد أن يكتب لنفسه وأمِنَ من الاختلاط فإنه لم يمعنه, كما يثبت ذلك في الصحيح أن عبد الله بن عمرو بن العاص كان يكتبها2. وروى أحمد أنه سأل النبي -صلى الله عليه وسلم, هل يكتب كل ما يسمع منه -عليه السلام،   1 مسلم في الزهد "ج8/ 229". 2 البخاري في العلم "ج1/ 38"، والترمذي "ج5/ 40". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 فقال: "نعم, فإني لا أقول إلاحقًّا" 1، وقال في حجة الوداع: "اكتبوا لأبي شاه" 2، وكان عند علي بن أبي طالب صحيفة فيها العقل وفكاك الأسير، ولا يقتل مسلم بكافر، وفي رواية فإذا فيها المدينة حرم كما في الصحيحين3. وروى النسائي أنه كان مكتوبًا فيها: "المؤمنون تتكافأ دماؤهم, وهم يدٌ على من سواهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، ألا لا يُقْتَلُ مؤمن بكافر, ولا ذو عهده في عهده، ومن أحدث حدثًا فعلى نفسه، أو آوى محدثًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين" 4. وفي الصحيح عن ابن عباس, لما اشتدَّ بالنبي -صلى الله عليه وسلم- الوجع قال: "ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابًا لا تضلوا بعده" , قال عمر: إن النبي غلبه الوجع، وعندنا كتاب الله حسبنا5، وفي الموطأ قال الزهري: قرأت كتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم, الذي كتب لعمرو بن حزم حين بعثه على نجران, وكان الكتاب عند أبي بكر بن حزم في قطعة أدم, فكتب رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "هذا بيان من الله وسوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} وكتب الآيات منها حتى بلغ {إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَاب} ، ثم كتب: هذا كتاب الجراح: في النفس مائة من الإبل، وفي العين خمسون، وفي اليد خمسون، وفي الرجل خمسون، وفي المأموية ثلث الدية، وفي الجائفة ثلث الدية، وفي المنقلة خمس عشرة فريضة، وفي الأصابع عشر عشر، وفي الأسنان خمس خمس، وفي الموضحة خمس" رواه مالك والنسائي وصححه ابن حبان6.   1 أحمد في مسنده. انظر الفتح الرباني للساعاتي "1/ 191". 2 البخاري في العمل "ج1/ 38"، وفي اللقطة "ج3/ 165"، وأبو داود في المناسك "ج2/ 212". 3 البخاري "ج1/ 38"، ومسلم "ج6/ 85"، في الأضاحي. 4 النسائي "ج8/ 18، 21". 5 البخاري في الاعتصام "ج9/ 137". 6 مالك في الموطأ "ج2/ 849"، والنسائي في القسامة "ج8/ 50, 51-54"، وقد أخرجه غيرهما، واختلف في صحة الكتاب، قال الحاكم: قد شهد عمر بن عبد العزيز، وإمام عصره الزهري بالصحة لهذا الكتاب. انظر نيل الأوتار, كتاب الدماء "ج7/ 18، 19". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 ويصح أن تعتبر هذه الكتابة أول تدوين السنة التي هي من مواد الفقه، لكن ما كتبوا إلّا الشيء اليسير، لا سيما وما كتبه عبد الله بن عمرو بن العاص لم يظهر، إذ لم يعدوه من المكثرين الذي تجاوزوا الألف لاشتغاله بالسياسة مع والده ورحلته إلى مصر. ولم تكن إذ ذاك دار علم، مع أن أبا هريرة قال: لم يكن أحد أكثر مني ملازمة للنبي -صلى الله عليه وسلم- إلّا ما كان من عبد الله بن عمرو, فإنه كان يكتب ولا أكتب1. وعلى كل حالٍ فالقرآن تركه -عليه السلام مكتوبًا مدونًا كله, أمَّا السنة فلم يبتدأ جمعها وتدوينها إلّا بعد مائة سنة من وفاته -عليه السلام, كما يأتي تحريره، سوى ما كُتِبَ على عهده كما سبق, وكان يسيرًا، وإنما اتَّكلوا في السنة على حفظهم وسيلان أذهانهم ومضاء قرائحهم، والأميّ دائمًا يكون أحفظ من الكاتب، وكان سيدنا عمر همَّ يجمعها وكتبها واستخار الله في ذلك شهرًا, ثم خاف اشتغال الناس بها وترك القرآن, أو غير ذلك فرجع. والحق يقال، لا شك أن تأخُّر كتبها تسبَّب عنه وقوع الاختلاف والاضطراب في كثير من الأحاديث وهو من أوجه تقديم القرآن عليها، زد على ذلك ما ابتليت به من وضع الزنادقة والرافضة وتعمدهم الكذب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأغراض سياسية واهية كما يأتي.   1 سبق تخريجه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 أخذ أحكام الفقه الخمسة من القرآن والسنة : لا يخفى أن ما يوجد في الشريعة من الأحكام منحصر في خمسة: الوجوب، والندب، والحرمة، والكراهة، والجواز، وذلك أن أفعال المكلفين قسم منها رضيه الله، وقسم سخطه، وقسم لا رضى فيه ولا سخط. فالأول يشمل الواجب والمندوب، والثاني: الحرام والمكروه، والثالث هو الحلال. وطريق الحصر فيها أن طلب الشرع للفعل إما أن يكون جازمًا أو لا، الأول الوجوب، والثاني الندب، وطلبه للكف بغير كفٍّ إما جازم أو لا، الأول الحرام، والثاني المكروه، والخامس وهو الحلال أن لا يطلب فعلًا ولا تركًا, بل يخيِّر ويعبر عنه بالجائز، أما ما يعبَّر عنه بالسنة فهو من قبيل المندوب، وما يعبر عنه بخلاف الأولى فهو من قبيل المكروه، ولهذا اصطلح أئمة الفقه والأصول على الأحكام الخمسة، وتجد أبواب الفقه محتوية على بيان الواجبات والمندوبات والمحرمات والمكروهات والجائزات. والحنفية يفرقون بين الفرض وهو ما ثبت وجويه بقطعيٍّ كالقرآن ومثاله الصلوات الخمس، والواجب وهو ما يثبت كصلاة الوتر، ولا فرق بينهما عند غيرهم. كيف أخذ الفقهاء هذه الأحكام من القرآن؟ غير خفي أن القرآن ليس من الأوضاع البشرية الموضوعة لبيان علم من العلوم بمصطلحاته، بل هو كلام الله الذي أنزله على عبده لينقذ الناس من الظلمات إلى النور، جعله في أعلى طبقات البلاغة ليحصل الإعجاز وتثبت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 النبوة وساقه مساق البشارة والإنذار والوعظ والتذكير ليكون مؤثرًا في النقوس, رداعًا لها عن هواها, سائقًا لها بأنواعٍ من التشويق إلى الطاعة وترك المعصية، والفصاحة من أعظم المؤثرات على عقول البشر بتنوع العبارة التي تؤدى بها تلك الأحكام، ومن طبيعة البشر أن يملَّ من عبارة واحدة, ولا يحصل بها التأثير المطلوب, فلو قيل في كل مسألة: هذا واجب، هذا مندوب، هذا حرام، هذا مكروه، هذا جائز لتكرر اللفظ ولم تكن هناك الفصاحة المؤثرة, فلذلك تجد القرآن تارة يعبر ببعض الألفاظ المصطلح عليها كالحرمة والحلية، قال تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} 1، {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ} 2، {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} 3 ويعبر في الوجوب بمادة فرض: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ} 4، {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} 5، وقد يعبِّر عن فرض بقضى، نحو: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} 6 ويعبر بكتب، قال تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} 7، {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} 8، {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَام} 9، وقد يعبِّر بالأمر ويراد به الإلزام، قال تعالى: {أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} 10، وقد يعبِّر بالأمر عن الطلب الأعم من الوجوب والندب، كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ} 11. بدليل الإحسان وإيتاء ذي القربى, فإن منه ما ليس بواجب، ويعبر بينهى عن حرَّم، نحو: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ} 12، وقد يعبِّر عنه بلا يحل، قال تعالى: {لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا} 13، وقد يعبِّر عن الوجوب بعلى، كقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْت} ، وقد   1 المائدة: 3. 2 النحل: 116. 3 النساء: 24. 4 الأحزاب: 50. 5 التحريم: 2. 6 الإسراء: 23. 7 المائدة: 45. 8 البقرة: 178. 9 البقرة: 183. 10 يوسف: 40. 11 النحل: 90. 12 الممتحنة: 9. 13 النساء: 19. 14 آل عمران: 97. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 فسَّرت ذلك السنة لقوله -عليه السلام: "إن الله فرض عليكم الحج فحجوا" 1, وقد يعبر بعدم الرضى عن المنع، قال تعالى: {وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} 2، أي: يمنعه ولا يبيحه بحال، والرضى لضده: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ} 3، ومثله الحب، قال تعالى: {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ} 4، {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} 6، {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} 7، ومثله الجناح، قال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ} 8، {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} 9 ومثله الحرج، قال تعالى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ} 10 الآية، ومثله الملام، قال تعالى: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِين} 11. ومن الصيغ المفيدة للوجوب ظاهرًا, جعل الفعل المطلوب من المكلف محمولًا عليه، كقوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} 12، بدليل أنه إذا لم يرد به الوجوب عُقِّبَ بما يدل على عدمه، كقوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} 13، ومن ذلك جعله جزاءً كقوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} 14، {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} 15. ومن ذلك وصفه بأنه بر، قال تعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى} 16، أو   1 سبق تخريجه في ص6. 2 الزمر: 7. 3 الفتح: 18. 4 النساء: 148. 5 البقرة: 182. 6 البقرة: 173. 7 البقرة: 182. 8 النور: 58. 9 البقرة: 158. 10 النور: 61. 11 المؤمنون: 6. 12 البقرة: 228. 13 البقرة: 233. 14 البقرة: 196. 15 البقرة: 280. 16 البقرة: 189. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 وصفة بالخير, قال تعالى: {قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْر} 1. ومن ذلك ذكر الفعل المطلوب والوعد عليه بالجنة، كقوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُون} إلى قوله: {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ، الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ} 2. ومن ذلك صيغتنا: افعل ولتفعل على المشهور فيهما كـ: {أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} , {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا} 3. {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَر} 4، {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} 5، ومحل هذا ما لم يكن بعد الحظر كقوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} 6، وما لم يكن للإرشاد نحو: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} 7، إلى غير ذلك مما هو معلوم في الأصول. ومن الصيغ الدالة على التحريم: لا تفعل, على المشهور فيها أيضًا نحو: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيم} 8، {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا} 9. ومن ذلك فعل الأمر الدال على طلب الكفِّ نحو: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ} 10، ما لم يدل دليل على أن النهي للإرشاد ونحوه. ومن ذلك نفي البر عن الفعل نحو: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} 11، ونفى الخير نحو قوله تعالى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ} 12. ومن ذلك نفي الفعل؛ لأن المعدوم شرعًا كالمعدوم حسًّا, نحو: {لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} . ومن ذلك ذكر الفعل متوعدًا عليه إمَّا بالإثم أو الفسق نحو: {قُلْ فِيهِمَا   1 البقرة: 220. 2 المؤمنون: 1-11. 3 الحج: 29. 4 لقمان: 17. 5 الحج: 20. 6 المائدة: 2. 7 النساء: 3. 8 الإسراء: 34. 9 آل عمران: 130. 10 الإسراء: 120. 11 البقرة: 189. 12 النساء: 114. 13 البقرة: 233. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 إِثْمٌ كَبِيرٌ} 1، {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ} 2، وقال تعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} 3 الآية، وقال تعالى: {ذَلِكُمْ فِسْق} 4. ومنه اللعن كحديث مسلم: "لعن من اتخذ شيئًا فيه الروح غرضًا" 5. قال الحافظ: واللعن من دلائل التحريم كما لا يخفى. ومن ذلك التوعد بأنه من عمل الشيطان، كقوله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} 6. ومن ذلك التوعد على الفعل بالعذاب, وهذ أخص من كل ما سبق, فإنه مع كونه يدل على الحرمة يدل على أن الفعل كبيرة من الموبقات كما هو رأي الجمهور نحو: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} 7 الآية، {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} إلى قوله: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيم} 8. وبالجملة إن الأحكام الخمسة لم يُنَصُّ في الكتاب والسنة عليها كما هي في كتب الفقه بألفاظ حرِّم، وأوجب، وأبيح، وندب، وكره في كل مسألة، وإنما الكتاب والسنة وردت فيهما الصيغ الدالة على السخط أو الرضى أو عدمهما، منطوقًا أو مفهومًا، أو ورد فعله -عليه السلام- وتقريره، أما ما سكت عنه فقال جمهور الأمة: إن طريق الوقوف على حكمه هو القياس بناءً على أن كل مسألة لها حكم خلافًا للظاهرية، ثم إن الصحابة -رضي الله عنهم, ومن بعهم أدركوا بحسب القرائن ما دلهم على تلك الأحكام, فاصطلحوا عليها ورأوا أن الأوامر والنواهي لا تخرج عنها, فبذلوا الجهد في الاستنباط والأخذ بحسب القرائن وموارد كلام العرب وإيماءتهم كناياتهم, ورب إشارة أفصح من عبارة, وكناية أبلغ من التصريح. ومن ذلك أخذ الأمام البخاري طهارة المسك من حديث: "اللون لون دم   1 البقرة: 219. 2 البقرة: 181. 3 الفرقان: 68. 4 المائدة: 3. 5 أخرجه مسلم في الصيد "ج6/ 73". 6 المائدة: 90. 7 النساء 93. 8 التوبة: 34. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 والريح ريح مسك" , حيث وقع تشبيه دم الشهيد بالمسك؛ لأنه في سياق التكريم والتعظيم, فلو كان نجسًا لكان من الخبث ولم يحسن التمثيل به في هذا المقام، وأمثال هذا كثيرًا، كل ذلك بحسب مدراكهم وأخذهم من اللوازم والسياق والمعنى الذي لأجله وقع الأمر أو النهي، فإذا وقع التصريح بعلة الحكم عدوا ذلك إذنًا في القياس, فقاسوا على الصورة التي جاء النص فيها كل صورة وجدوا فيها تلك العلة, وقيل ليس بإذن، وعليه ذهب في جمع الجوامع. هذا وأصناف الألفاظ التي تتلقى منها الأحكام الأربعة: ثلاثة متفق عليها: وهي لفظ عام يحمل على عمومه، نحو قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} 1 اتفق المسلمون أنه متناول لجميع أصناف الخنازير ما لم يكن مما يقال عليه الاسم بالاشتراك كخنزير الماء، وخاص يحمل على خصوصه كقوله -عليه السلام: "أبو عبيدة أمين هذه الأمة" 2، وعام يراد به الخصوص كقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} 3, اتفق المسلمون أن ليس وجوب الزكاة في جميع أنواع الأموال، والرابع مختلف فيه, خاص يراد به العموم نحو: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} 4، وهو من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى فيفهم منه تحريم الشتم والضرب فأعلى. ثم الألفاظ التي يؤخذ الحكم منها, إما أن تكون دالة على معنى واحد لا تحتمل غيره، وهو النص، ولا خلاف في وجوب العمل به، أو يحتمله وغيره على حد السواء وهو المجمل، وهذا لا يوجب حكمًا بلا خلاف، أو يكون دلالته على أحد المعنيين أو المعاني أرجح, فيحمل عليه إلّا إذا دلَّ دليل على حمله على المرجوح فيحمل عليه, ويسمى هذا الحمل بالتأويل, وهنا تتشعَّب المدراك في الدليل، وفي دلالته بهذه الصورة نشأ اجتهاد المجتهدين في عصره -عليه السلام, وإقراره لهم عليه, ثم بعده, ويأتي مزيد بيان له إن شاء الله تعالى. ومما تؤخذ منه الأحكام فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- للأمر, ومداومته عليه, وإظهاره في جماعة, فيكون ذلك دليل أنه سنة عند المالكية, مندوب عند غيرهم, ما لم يصرح   1 المائدة: 3. 2 متفق عليه: البخاري "ج5/ 32"، ومسلم "ج7/ 129". 3 التوبة: 103. 4 الإسراء: 24. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 بوجوبه، أو تدل عليه أمارة أخرة، كغسل اليدين للكوعين في افتتاح الوضوء والغسل، وكالمضمضة والاستنشاق, وذلك كثير. ومن مستنبطاتهم أخذهم من صيغ النهي الفساد في العقود كالبيع والنكاح، وفي الصلاة والصوم والحج مثلًا، ولاختلاف مداركهم في النهي, هل هو للحرمة أو للكراهة؟ اختلفوا في كثير من البيوع والأنكحة هل تفسخ أم لا؟ وعلى الفسخ هل أبدًا أو إذا لم تفت، وبعد الفسخ في النكاح هل يلحق الولد المتكوّن منه أم لا؟ وكذا النهي في العبادات هل يتضمَّن البطلان فتعاد أم لا؟ وهل إعادة الصلاة في الوقت أو أبدًا؟ ومن هنا تفرع علم الفقه وكثرت مسائله وتشبعت أحكامه. ولقد كان كثير من السلف الصالح كمالكٍ يتحرَّى أن لا يصرح بحكم اجتهادي لم يصرح به في الكتاب ولا في السنة، فلا يقول هذا حرام ولا حلال ولا واجب مثلًا، بل يقول: هذا لا يعجبني أولم يكن من فعل السلف، أو لا أدري به بأسًا، أو لا بُدَّ من فعله، أو هذا أحب إلي، لأن المفتي مخبر عن الله, ويجوز عليه الخطأ, فيتحاشى أن يندرج تحت قوله تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ} الآية1.   1 النحل: 116. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 الإجماع : غير خفي أن الاجماع غير متيسر في الطور الأول للفقه, الذي هو الزمن النبوي؛ لأن الإجماع كما عرفه في جمع الجوامع: هو اتفاق مجتهدي الأمة بعده -عليه السلام- في عصر من الأعصار, على حكم من الأحكام. لكن الإجماع لا بُدَّ أن يستند إلى كتاب أو سنة لا يخرج عنهما، وإن لم نقف على مستنده فكأنه وجد في الزمان النبوي, فليس هو أًصلًا مستقلًّا بذاته من غير استناد إلى كتاب أو سنة، إذ لو كان مستقلًّا لاقتضى إثبات شرع زائد بعد النبي -صلى الله عليه وسلم, وذلك غير جائز. قال الشافعي في الأم: ولا يكون عن قياس أو اجتهاد؛ لأنهم لو اجتهدوا لم يتفقوا -يعني: غالبًا. وقال عياض في المدارك: قد يكون عنهما, وعليه صاحب جمع الجوامع. فتبيَّنَ لك أن هذه الأصول الثلاثة كلها متقررة ثابتة في زمنه -صلى الله عليه وسلم. وحجية الإجماع مبنية على أصلٍ وهو عصمة الأمة الإسلامية في اجتماعها على ضلالة في أمر دينها، دليله قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ} 1، وقوله -صلى الله عليه وسلم: "لا تجتمع أمتي على ضلالة, ويد الله مع الجماعة, ومن شذَّ شذَّ في النار" وراه الترمذي2. وقولنا في أمر دينها لئلَّا يرد خطؤها في أمور الدنيا كترك النظام الذي ابتليت به الأمم الإسلامية في القرن الماضي وما قرب منه، وإهمال التعليم والتربية، وكقولهم بانبساط الأرض على فرض إجماعهم عليه.   1 النساء: 115. 2 سبق تخريجه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 ومذهب الجمهور أن الإجماع حجة في الدين، متعبَّد به، تثبت به الأحكام كما تثبت بالنصوص الشرعية. وأنكر الإمام أحمد، وداود الظاهر الإجماع في زمن التابعين وقالا: إنما الحجة في إجماع الصحابة، وقد روي عن أحمد أنه قال: من ادَّعى الإجماع فهو كاذب. نقله في أعلام لموقعين وعن الشافعي ونحوه1 وكيف يتأتَّي اعتراف الكافة, وهذا لم يكن إلّا فيما يسمَّى علم الكافة؛ كالعلم بأن الصلوات المفروضة خمس، والصبح ركعتان، أمَّا ما هو من قبيل علم الخاصة الذي لا يعرفه إلّا العلماء فقلَّ أن يتيسر ذلك، وكيف يتيسر الصدق لمن يقول في مسألة واحدة: إن المجتهدين اتفقوا فيها على حكم واحد، اللهم إلّا إذا كان في صدر الإسلام لما كانوا مجتمعين في المدينة أو الحجاز، ولهذا قال ابن عرفة: كل من حكى إجماعًا في مسألة فهو رهين نقله؛ إذ لا بُدَّ لمن ادعاه من أمور ثلاثة: 1- ثبوت وجود مجتهدين يتفقون على الشيء المجمع عليه. 2- الإحاطة بمعرفة جميع علماء الإسلام المنتشرين في الأرض كلها مع اتساع خطة الإسلام التي لا يمكن معها ذلك. 3- ثبوت نصهم في المسألة أو سكوت من سكت اختيارًا أو إقرارًا؛ بحيث لا مانع من الإنكار. ودون واحدة من هذه الثلاثة خرط القتاد، انظر معاوضات المعيار، وبذلك كله تعلم مجازفة قول صاحب العمل الفاسي في صيد بندق الرصاص: أفتى بذلك شيخنا الأواه ... وانعقد الإجماع من فتواه وأمثاله كثير في كتب المتأخرين فاحذره، نعم, الشافعي يرى أن الحجة في الدين أن ينقل الحكم عن السلف ولا يعلم أنهم اختلفوا فيه، وهذا ليس بإجماع حقيقة, ولا يسمَّى به, ولكن رآه حجة لأنه إجماع سكوتي، والحنفية يرون أن الإجماع السكوتي حجة, وهو أن يجيب واحد من المجتهدين ويسكت الباقي, ولا مانع من الإنكار، وفيه اثنا عشر قولًا، انظر جمع الجوامع2، وقد أشار   1 أعلام الموقعين "ج2/ 247". 2 انظر حاشية البناني على شرح المحلي على جمع الجوامع "2/ 196". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 الكمال بن أبي الشريف عند قوله آخره، وخصَّ محمد بأنه خاتم النبيين ... إلخ. إلى أن الذي يعتمد في نقل الإجماع مثل ابن المنذر, وابن عبد البر, ومن فوقهما من الأئمة وحفاظ الأمة, فلذلك مدارك الإجماع، ولا يعتمد على حكاية مثل الرازي والنسفي له, فإنه لا ينهض حجة1. على أنهم حذَّروا من إجماعات ابن عبد البر، واتفاقات ابن رشد، وكثير من الفقهاء يدعي في بعض المسائل الإجماع ويردون عليه: 1- حكى بعضهم في تحريم لحوم الخيل الإجماع مع إباحة الحنفية لها. 2- حكى بعضهم الإجماع على العمل بالقياس, مع إنكار ابن مسعود والشعبي وابن سيرين له. 3- حكي في جمع الجوامع الإجماع على العمل بخبر الواحد وتقدَّم لنا البحث معه. 4- وحكي أيضًا الإجماع على تقديم الإجماع على النص عند التعارض, وتقدَّم لنا البحث معه. 5- حكى بعضهم الإجماع على عدم وجوب غسل الجمعة مع قول الحنفية به. 6- وعلى المنع من بيع أمهات الأولاد, مع قول علي بن أبي طالب به. 7- وعلى إلزام الطلاق الثلاث بكلمة واحدة, مع قول بعض الصحابة وبعض الحنابلة بعدمه. وأمثال هذا كثير, فلا ينبغي أن يغترَّ بكل من حكى إجماعًا, بل لا بُدَّ من البحث والتنقيب. وقال الغزالي في كتابه "فيصل التفرقة" ما نصه: قد صنَّف أبو بكر   1 الرازي: هو فخر محمد بن عمر صاحب المحصول، ت: 606، ترجم له المؤلف في أوائل القسم الرابع، والنسفي: هو أبو البركات حافظ الدين عبد الله بن أحمد بن محمود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 الفارسي1 كتابًا في مسائل الإجماع، وأنكر عليه كثير منه, وخولف في بعض تلك المسائل, فإذا من خالف الإجماع ولم يثبت عنده بعد فهو جاهل مخطئ. وليس بمكذب، فلا يمكن تكفيره، والاستقلال بمعرفة التحقيق في هذا ليس بيسير منه، فتبيَّن أنه ليس لكل عالم حكاية الإجماع, بل له أئمة مخصوصون لا يقبل إلّا منهم على القول بتصوره ووجوده كما سبق. واعلم أن الجمهور على الاحتجاج بالإجماع السكوتي، أما الإجماع الصريح فقال الأصفهاني2: المشهور أنه حجة قطعية، ويقدَّم على الأدلة كلها، ولا يعارضه دليل أصلًا, ونسبه إلى الأكثرين، قال: بحيث يكفر مخالفه أو يضلل أو يبدع. قلت: وفيه بحث, فإن دلالة الآية السابقة على حجته ظنية فقط، والحديث خبر آحاد، واستدل له بغيرهما, ولكن أضعف دلالة منهما، فأدلة حجيته ليست قطعية، إلّا أنه يُدَّعَى أن مجموعها يفيد قطعًا ولا يسلَّم، فكيف يكون قطعيًّا، وكيف يقدَّم على القطعي من الأدلة، وقال الرازي والآمدي: لا يفيد إلّا الظن، ومنهم من جعله مراتب، فإجماع الصحابة مثل الكِتَاب والخبر المتواتر، وإجماع مَنْ بعدهم بمنزلة المشهور من الأحاديث، والمسألة محلها الأصول، وألحق به مالك إجماع أهل المدينة، قال: إذا أجمعوا لم يعتد بخلاف غيرهم. ورآه حجة، ويأتي في ترجمة مالك بسط لذلك إن شاء الله. وتقدَّم في ترجمة مادة الفقه كلام على مرتبة الإجماع فارجع إليه.   1 هو أحمد بن الحسين بن سهل من كبار الشافعية، قيل: توفي سنة 305هـ. 2 لعله شمس الدين أبو عبد لله محمد بن محمود شارح المحصول، ترجمته في طبقات الشافعية للسبكي "8/ 100". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 القياس مدخل ... القياس: هو إلحاق فرع بأصل لمساواته له في علة حكمه؛ كإلحاق النبيذ بالخمر في الحرمة, ووجوب حد شاربه لمساوته له في الإسكار، ولا يكفي وجود الجامع بين الأصل والفرع، بل لا بُدَّ في اعتباره من دليل يدل عليه من نصٍّ أو إجماع أو استنباط, ولذلك احتاجوا في مسالك التعليل العشرة المقررة في الأصول. وقد أنكره ابن مسعود من الصحابة، وعامر الشعبي من تابعي الكوفة، وابن سيرين من تابعي البصرة، نقله ابن عبد البر والدارمي عنهم وعن غيرهم، خلافًا لقول ابن بطال1: أول من أنكره النَّظَّام, وتبعه بعض المعتزلة وداود الظاهري, على أن داود لا ينكر الجلي منه ولا منصوص العلة، وإنما الذي أنكره هو ابن حزم من أصحابه، وادَّعى الشيعة وقوم من المعتزلة استحالة التعبد به عقلًا، وكل ذلك مردود، فإن الصحيح ومذهب الجماهير من علماء الإسلام على العمل والتعبد به شرعًا، فقد قاس الصحابة والتابعون ومن بعدهم علماء الأمصار، وقد جاء العمل به في زمن رسول الله -صلى الله عليه وسلم, وأرشد القرآن إليه، قال تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَار} 2، والاعتبار قياس الشيء بالشي. وقال تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ، أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ، نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ، عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ، وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ} 3. فهذه الآية وقع فيها الاحتجاج على الكفار في إنكارهم البعث بالقياس على النشأة الأولى، وهو قياس في الأصول المعتقدة التي يطلب فيه القطع، ففي الفقه الذي يكتفي فيه بالظن من باب أولى، وقال تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} 4، أمرهم أن يردوا ما أشكل عليهم إلى الرسول, فإن لم   1 لعله سليمان بن محمد بن بطال البطليوسي، ت سنة 404هـ. 2 الحشر: 2. 3 الواقعة: 58-62. 4 النساء: 83. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 يكن موجودًا, فإلى أولي الأمر منهم؛ العلماء وخص المجتهدين وهم أهل الاستنباط، وأول باب في الاستنباط وأعلاه هو القياس، وتقدَّم في ذلك في كلام ابن رشد في مادة الفقه، ومن الآيات الدالة على مشروعية القياس قوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} 1. حمل جمهو رالأمة الميزان على القياس، والآيات الدالة على ذلك كثيرة, وقد استوعب ابن القيم في أعلام الموقعين كثيرًا منها, فانظره أثناء شرحه لكتاب سيدنا عمر، وأنشد ابن عبد البر لأبي محمد اليزيدي2 من أبيات طويله في إثبات القياس: لا تكن كالحمار يحمل أسفا ... رًا كما قد قرأت في القرآن إن هذا القياس في كل أمر ... عند أهل العقل كالميزان لا يجوز القياس في الدين إلا ... لفيه دين صوّان ليس يغني عن جاهل قول راوٍ ... عن فلا وقوله عن فلان إن أتاه مسترشد أفتاه ... بحديثين فهما معنيان إن من يحمل الحديث ولا يعرف ... فيه المراد كالصيدلاني حكَّم الله في الجزاء ذوي عد ... ل لذي الصيد بالذي يريان لم يوقِّت ولم يسمّ ولكن ... قال فيه فليحكم العدلان إسوة في مقالة لمعاذ ... إقض بالرأي إن أتى الخصمان ولذا في النبي صلى عليه الله ... والصالحون في كل أوان قس إذا أشكلت عليك أمور ... ثم قل بالصواب والعرفان وقوله: لا يجوز القياس في الدين "إلخ", يشير إلى ما قاله الشافعي: لا يجوز لأحدٍ أن يقيس حتى يكون عالمًا بما مضى قبله من السنن وأقاويل السف وإجماع الناس واختلاف العلماء ولسان العرب3.   1 الحديد: 25. 2 يحيى بن المبارك العدوي اليزيدي: ت سنة 202 هـ. 3 الرسالة ص510. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 وحقيق بمن أقيم في هذا المنصب الخطير أن يُعِدَّ له عدته, وأن يتأهب له أهبته، وأن يعلم أنه مبلغ عن الله بمنزلة الوزراء الموقعين عن الملوك, وله المثل الأعلى, ولذا ورد في الحديث: "أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار" 1. وقد تولى الله الإفتاء بنفسه في غير ما آية: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} 2، {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} الآية3. ويأتي لنا في الخاتمة ما يُشْتَرط في المفتي والمجتهد, وما هي الصفة التي يتحقق به وجوده, وقد أرشد النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه إلى القياس، ففي الصحيح أن رجلًا أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله, وُلِدَ لي غلام أسود، وإني أنكرته، فقال: "هل لك من إبل"، قال: نعم، قال: "ما ألوانها؟ " قال: حمر, قال: "هل فيه من أورق؟ " قال: نعم, قال: "فأنى ذلك؟ " قال: لعله نزعة عرق. قال: "فلعل ابنك هذا نزعة عرق" 4. ففي الحديث إرشاد له أن يقيس مخالفة لون ولده له على مخالفة لون ولد الجمل لوالده, وهو قياس الشبه، قال في المستصفى: ما من مفتٍ إلّا وقد قال بالرأي, ومن لم يقل به فلأنه أغناه غيره عن الاجتهاد, ولم يعترض عليهم في الرأي, فانعقد إجماع قاطع على جواز القول بالرأي5. وهو إجماع مبحوث فيه بالخلاف السابق، وقال في المستصفى أيضًا: لا يظن بالظاهري المنكر للقياس إنكار المعلوم والمقطوع به, ولعله ينكر المظنون منه.   1 الدارمي عن عبد لله بن أبي جعفر مرسلًا "ج1/ 53"، قال في كشف الخفاء: رواه ابن عدي عن عبد الله بن جعفر مرسلًا "ج1/ 51". 2 النساء: 176. 3 النساء: 127. 4 البخاري في المحاربين "ج8/ 215"، ومسلم في اللعان "ج4/ 211"، وأبو داود في الطلاق "ج2/ 278"، والنسائي في الطلاق "ج6/ 164". 5 المستصفى "ج2/ 245". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 هل استعمل الصحابة القياس في العهد النبوي : نعم: استمعله الصحابة، وأقرَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- مَنْ كان قياسهم صحيحًا، وقدح فيما وجد فيه قادح، قال ابن عقيل الحنبلي1: قد بلغ التواتر المعنوي عن الصحابة باستعماله, وهو يفيد القطع. ففي زمنه -عليه السلام- تقرر القياس وأصوله مع قوادحه، فنستنتج من مبحث القياس والأصول الثلاثة قبله أن نظام الفقه كمل كله على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بتمام أصوله الأربعة، وسنفرد ترجمته للأصل الخامس, ووجوده في العهد النبوي على الجملة، فلم يبق إلّا التفريع والاستنباط منها، ولنأت بعض الشواهد التي حضرتنا الآن على استعمال الصحابة للقياس في عهده -عليه السلام: الأول: حكَّمت بنو قريظة سعد بن معاذ فحكم بأن تقتل مقاتلتم وتسبى نساؤهم وذراريهم, فقال له -عليه السلام: "حكمت فيهم بحكم الله" رواه الشيخان2، وحكمه هذا من القياس, قاسه على المحاربين المذكورين في قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآية، بجامع الفساد لموالاتهم قريشًا في وقعة الأحزاب, ونقضهم العهد, ويحتمل أن يكون قاسهم على الأسرى الذين عوتبوا على فدائهم, وأمروا بقتلهم، وكان إذ ذاك لم ينسخ بقوله تعالى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} 3. الثاني: تمرغ عمَّار بن ياسر بالتراب حين أصبح جنبًا في سفر, وصلَّى بذلك التيمم, أما عمر الذي كان مرافقًا له فلم يتمزغ ولم يصل, ولما قدما وسألا النبي -صلى الله عليه وسلم, قدح في قياس عمار الطهارة الترابية على المائية في تعميم البدن، بأنه فاسد الوضع لوجود النصِّ لقوله تعالى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} 4 مشيرًا له إلى أن الملامسة المراد بها ما يعم الجماع أو هي هو. وقال له: "يكفيك   1 عليّ بن عقيل بن محمد بن الوفاء البغدادي الحنبلي, ت سنة 513هـ، ترجم له المؤلف في القسم الرابع في مشاهير الحنابلة بعد القرن الرابع. 2 البخاري في بدء الخلق "ج5/ 143"، ومسلم في الجهاد والسير "ج5/ 160". 3 محمد: 4. 4 المائدة: 6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 أن تفعل هكذا" , وبيَّنَ له كيفية التيمم, وأنه لا فرق فيه بين أن يكون عن حدث أكبر أو أصغر, خلاف ما فهم عمر في الملامسة أنها مقدمة الجماع فقط, فلا يكفي في الجماع إلّا الغسل على فهمه, والقصة في الصحيح1. الثالث: في النسائي, جاء رجل من البحرين لابسًا خاتم ذهب، فقال له -عليه السلام: "في يدك جمرة من نار"، فقال: لقد جئنا بجمر كثير, فقال له -عليه السلام: "إن ما جئت به ليس بأحزأ عنا من حجارة الحرة, ولكنه متاع الدنيا" 2. فبيَّن له فساد قياسه, وأشار إلى أن هناك فرقًا بين الذهب الملبوس الذي قُصِدَ به الزينة, وبين ما هو محمول معَدٌّ لضرورة المبادلة, وإن كان الكل أصله من تراب الأرض أشبه بحجارة الحرة وهي حجارة سود متراكة خارج المدينة المنورة. الرابع: تيمم عمرو بن العاص جنبًا وصلَّى إمامًا بالصحابة في غزوة ذات السلاسل, ولما قدموا وأخبروا النبي -صلى الله عليه وسلم- عاتبه على إمامته بهم وهو جنب, ولم يأمر أحدًا منهم بالإعادة, والقصة في الموطأ3. والواقع من عمرو قياس حال الإمام على حال الفذِّ, فأشار له -عليه السلام- إلى أنه قياس مع وجود الفارق, وأنه قياس الأعلى على الأدنى, ولم يأمره بالإعادة, فدلَّ على أن الحكم الكراهة فقط. الخامس: قضية أبي سعيد الخدري في الصحيح, حيث رقى ملسوعًا بسورة الفاتحة, وأخذ على ذلك جعلًا من غنم, قياسًا على الجعل في غير الرقية, فلما قدموا وأخبروا النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لهم: "إن أحق ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله" وسلم له ما استنبط من القياس4.   1 متفق عليه: البخاري في باب التيمم "ج1/ 89"، ومسلم "ج1/ 193". 2 النسائي في الزينة "ج8/ 153". 3 قصة عمرو بن العاص أخرجها البخاري تعليقًا "ج1/ 91"، وأبو داود "ج1/ 92"، وليست في الموطأ. 4 البخاري في الطب "ج7/ 170"، ومسلم في السلام "ج7/ 19". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 الفرق بين تخريج المناط وتحقيق المناط وتنقيح المناط ... الفرق بين تخريج المناط وتحيق المناط وتنقيح المناط: إذا تأمت هذه الأقيسة التي تلونا عليك وجدت محلَّ الاجتهاد فيها تخريج مناط الحكم، وهو استنباط الوصف المناسب من النصِّ ليجعل مدارًا للحكم. وهذا هو الذي منعته الشيعة ومعتزلة بغداد والظاهرية، كاستنباط أن الإسكار هو علم تحريم شرب الخمر الوادر في النص، فنحن نستنبط المناط بالرأي فنقول: حرَّمه لكونه مسكرًا وهو العلة, فنقيس عليه النبيذ، أما تحقيق مناط الحكم وتنقيح مناطه فلا خلاف بين الأمة في جوازهما ووقوعهما: الأول: أن يقع الاتفاق على عليية وصف بنص أو إجماع فيجتهد في وجودها في صورة النزاع، كتحقيق أنت النَّبَّاش سارق بأنه وجد منه أخذ المال خفية وهو السرقة فيقطع, وهذا لاشك أنه من الاجتهاد، قال الغزالي: وهذا النوع من الاجتهاد لا خلاف بين الأمة فيه, والقياس مختلف فيه, فكيف يكون هذا قياسًا. ومن هذا الاجتهاد في تقدير المقدرات كمثلية جزاء الصيد, فإن مناط الحكم وهو إيجاب المثل معلوم من النص, قال تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} 1, وتحقيقه هو الحكم بأن البقرة مماثلة لحمار الوحش فينتظم الاجتهاد من أصلين، لا بُدَّ من المثل -وهذا معلم بالنص, وكون البقرة مثلًا، وهذا منظون، وهكذا قيم المتلفات، وقدر الكفاية في النفقات، وكون هذه الجهة في هذا المسجد هي القبلة, ولا خلاف بين الأمة أن هذا النوع من الاجتهاد موكول لأربابه في كل زمان وكل مكان. لا قائل بتحجيره, ولا يتصور خلو الزمان النبوي عن مثله، فقد كانت الصحابة تذهب للبعوث والولايات في الآفاق، فغير ممكن عدم   1 المائدة: 95. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 عملهم بمثل ما ذكر، أو توقفهم في كل جزئية على النصِّ الخاص بها. الثاني: هو تنقيح المناط أن يدل دليل على التعليل بوصف, فيحذف خصوصه عن الاعتبار بالاجتهاد, ويناط الحكم بالأعم, أو تكون أوصاف فيحذف بعضها عن الاعتبار بالاجتهاد, ويناط الحكم بالباقي، وحاصله أنه الاجتهاد في الحذف لبعض الأوصاف, وتعيين البعض للعلِّيَّة، بأن تكون الأوصاف المحذوفة لا دخل لها في العلِّيَّة فيتعيِّن حذفها عن درجة الاعتبار ليتسع الحكم، مثاله: إيجاب العتق على الأعرابي الذي وقع على أهله في رمضان، فإنَّا ننظر في هذا الحكم فنجده متعلقًا بمن وقع منه الجماع وهو الأعرابي, ومن وقع عليه وهو الزوجة, ونفس الجماع، وزمان الوقاع، وهو ذلك الرمضان, فنحلق بالأعرابي أعرابيًا آخر بقوله -عليه السلام: "حكمي على الواحد كحكمي على الجماعة"1، أو بالإجماع على أن التكليف يعم الأشخاص، بل نلحق التركي والعجمي به أيضًا, لأنا نعلم أن مناط الحكم وقاع مكلف لا وقاع أعرابي، ونلحق به مَنْ أفطر في رمضان آخر, لأنا نعلم أن المراد هتك حرمة رمضان لا حرمة ذلك الرمضان، بل نلحق به يومًا آخر من ذلك الرمضان، ولو وطأ أمته لأوجبنا عليه الكفارة؛ لأنا نعلم أن كون الموطوءة زوجة لا دخل له في الحكم، بل يلحق به الزاني لأنه أشد في هتك الحرمة، بل والاستمناء باليد؛ لأن المقصود هتك حرمة الشهر، فهذا تنقيح المناط بحذف ما عُلِمَ أنه لا دخل له في التأثير, وليس هذا من السبر والتقسيم الذي تحصر فيها الأوصاف, ثم يبطل منها ما لا يصلح للعلِّيَّة بطرقه فتتيعن العلة، بل في هذا تعيين الفارق وإبطاله. قال الغزالي: ولا نعرف بين الأمة فيه خلافًا. ونازعه العبدري بأن من ينكر القياس ينكره لرجوعه إليه, وهذا النوع مما لا شك في وقوعه في الزمن النبوي أيضًا بكثرة. نعم, قد يتردد بعض الأوصاف بين كونه طرديًّا أو مؤثرًا كالأكل والشرب في نهار رمضان؛ إذ يمكن أن يقال: مدار الكفارة إفساد صوم الفرض، وذلك كما يحصل بالجماع يحصل بالأكل والشرب، ويمكن أن يقال: إن النفس لا تنزجر عند هيجان الشهوة للجماع   1 ليس له أصل، وروى الترمذي بمعناه حديث أميمة بنت رقيقة في باب بيعة النساء من السير, ولفظه: "إنما قولي لمائة أمرأة كقولي لامرأة واحدة" "ج4/ 151"، ورواه أيضًا النسائي في البيعة "ج7/ 134"، ويأتي كلام المصنف على الحديث الذي ذكره في القسم الثاني من الكتاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 لمجرد الوازع الديني, فيحتاج إلى كفارة بخلاف الأكل والشراب. ومن ذلك أيضًا حديث الصحيح: سئل -عليه السلام- عن فأرة سقطت في سمن فقال: "ألقوها وما حولها وكلوه" 1، فالفأرة وصف خاصٌّ, لكن لا عبرة بخصوصه, بل المعنى الذي أوجب ضياع المال وقوع نجس فيه, ولا خصوصية للسمن بل كل مائع، وضابطه أن يترادَّ بسرعة إذا أخذ منه شيء، وكونه مائعًا ورد التقييد به في بعض طرق الحديث عند أبي داود والنسائي، وكون راويه وهو الزهري لم يقل بالتقييد لا يضرنا؛ إذ حجتنا فيما روى لا فيما رأى، على أن الرواية المطلقة فيها ما يدل على التقييد وهو قوله: "ألقوها وما حولها" فلا يكون لها حول إلا إذا كان جامدًا, ولو كان مائعًا لم يكن له حول؛ لأنه لو نقل من أي جانب لخلفه غيره في الحال, فيصير الكل حولًا لها فيلقى جميعه، وفي رواية الدارقطني فيقوَّر ما حولها2، وجاء ابن حزم فخصَّ الحكم بالفأة, فلو وقع خنزير عنده لم ينجس إلّا بالتغير3، وقال أحمد: إن المائع إذا حلَّت فيه نجاسة لا ينجس إلا بالتغير، واختاره البخاري وابن نافع المالكي4، أما السمن فلم يفرق أحمد بينه وبين العسل مثلًا, مما هو مثله في الجمود, أما إذا وقعت الفأرة ولم تمت وخرجت حية, فاتفقوا على أنها لا تضر ما لم تنجس, ووقعت رواية لمالك بعدم التقييد بالموت، فالتزم ابن حزم الذي يقول بعدم حمل المطلق على المقيد, بأن الفارة توثر ولو خرجت حية. فهذان مثالان من تنقيح المناط, وههنا يحتاج الفقيه إلى مزيد فكر, ويمكن أن يخرج على ذلك ما قدح به -عليه السلام- في قياس معاذ في التمزغ بالتراب, وقضية عمرو بن العاص, فتأمل ذلك والله أعلم لا رب غيره.   1 أخرجه البخاري في الوضوء "ج1/ 65"، وأبو داود في الأطعمة "ج3/ 364"، والترمذي "ج4/ 291", والنسائي "ج7/ 157". 2 سنن الدراقطني "ج4/ 291". 3 المحلى "ج1/ 175" المسألة رقم "136". 4 ابن نافع عند المالكية اثنان: الصائغ: وهو عبد الله بن نافع أبو محمد، وهو أثبت في مالك, ويروي عنه سحنون، والزبيري وهو عبد الله بن نافع الأصغر أبو بكر. الديباج المذهَّب "1/ 409، 411". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 هل وقع القياس منه -عليه السلام: هذه المسألة مبنية على مسألة أعمَّ منها وهي: هل اجتهد -عليه السلام، أم لم يجتهد, لعدم احتياجه إليه بالوحي، ولقوله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} 1 والأصحُّ كما في جمع الجوامع أنه يجتهد, وأن اجتهاده لا يخطيء, وأنه يفوض إليه فيقال: احكم بما تشاء, ومما هو صريح في اجتهاد -عليه السلام: 1- قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ} 2. 2- ومن اجتهاده -عليه السلام- نزوله في بدر دون ماء, فقال له الخباب بن المنذر: هل بوحي أو برأي؟ فقال: برأي، لأنه رأى أن منعهم من الماء كمنع الحيوان منه، وتعذيب الحيوان به لا يجوز، وقد جبل على الشفقة -صلى الله عليه وسلم, فقال الخباب: الرأي أن نمنعهم من الماء, يعني: لأن منعهم من الماء من مكيدة الحرب وأسباب النصر، والحربي ليس بمحترم حتى يكون منعه من الماء ممنوعًا, فذلك من القياس أيضًا أن يكون من الاستدلال الآتي: 3- ومنه قوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} 3, عوتب على الإذن لمن ظهر نفاقهم في التخلف عن تبوك ,ولا معنى لأن يعاتب عَمَّا نزل به وحي, وإنما هو اجتهاد. 4- ومنه قوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} 4 عوتب على استبقاء أسرى بدر بالفداء اجتهادًا, عملًا بعموم العفو والصفح المأمور به قبل نزول آيات القتال، وحملًا لآيات القتال على ما قبل الأسر، ولحاجة المسلمين إلى المال الذي يقويهم، وعملًا بمقتضى مكارم الأخلاق من العفو عند المقدرة. 5- ومنه حديث الصحاح في صلاته -عليه السلام- على عبد الله بن أُبَيّ بن سلول المنافق، فقال له عمر: أتصلي عليه، وقد نهيت عن الصلاة عليهم؟   1 النجم: 4. 2 التحريم: 1. 3 التوبة: 43. 4 الأنفال: 67. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 فنزل قوله تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} 1 الآية. ولعل مراد عمر بقوله: وقد نهيت، النهي عن الاستغفار في قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} 2, فقاس الصلاة على الاستغفار, إما مساواةً أو أحروي، أو رأى أن الاستغفار داخل في صلاة الجنازة؛ لأنها دعاء فتناولها العموم، فنزل القرآن بتصويبه، أما قوله تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُم} الآية. فإنما نزلت بعد سبب هذه القصة. ومن التفويض له -عليه السلام- بأن يقال له احكم بما تشاء قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} 3، وحديث النسائي وغيره: "لقد هممت أن أنهى عن الغيلة 4 حتى ذكرت أن فارس والروم يصنعونه فلا يضر أولادهم5". 2- ومنه أيضًا حديث الصحيح: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عن كل صلاة" 6. 3- ومنه أيضًا: حديث الصحيح: "لولا قومك حديثوا عهد بكفر لبنيت الكعبة على قواعد إبراهيم" 7. 4- ومنه أيضًا: حديث السائل عن الحج هل يجب كل عام؟ فقال -عليه السلام: "لا، لو قلت: نعم لوجب ولم تقدروا عليه, دعوني ما تركتكم, فإنما هلك من قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم" وهو في الصحيح أيضًا8. 5- ومنه حديث الصحيح في حرمة مكة حيث قال: "لا يعضد شجرها" فقام العباس وقال: "إلا الإذخر9 .......................................   1 التوبة: 84. 2 التوبة: 113. 3 النساء:105. 4 الغيلة بكسر المعجمة, والغيال: إرضاع المرأة ولدها وقت الحمل. 5 النسائي في النكاح "ج6/ 88". 6 مسلم في الطهارة "ج1/ 151". 7 البخاري في الحج "ج2/ 179"، ومسلم "ج/ 97". 8 8سبق تخريجه ص29. 9 قال المؤلف -رحمه الله: الإذخر -بكسر الهمزة فذال معجمة فخاء معجمة مكسورة: نبات معروف بالحجاز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 فقال -عليه السلام: "إلا الإذخر" 1. 6- ومنه حديث الصحيح عن سلمة بن الأكوع قال: لما أمسوا يوم فتحوا خيبر أوقدوا النيران، قال النبي -صلى الله عليه وسلم: "على ما أوقدتم هذه النيران" قالوا: لحوم الحمر الإنسية، قال: "أهريقوا ما فيها واكسروا قدورها"، فقام رجل من القوم فقال: نهريق ما فيها ونعسلها، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "أو ذاك" 2. غلظ أولًا عليهم بكسر القدور حسمًا للمادة, فلما سلموا الحكم وضع عنهم الإصر ورخَّص لهم في غسلها. 7- ومن القياس قوله -عليه السلام- للمرأة التي قالت: يا رسول الله, إن أمي ماتت وعليها صوم نذر أفأصوم عنها، فقال: "أرأيت لو كان على أمك دين فقضيته, أكان يجزي عنها" قالت: نعم، فقال: "فدين الله أحق أن يقضي". والقصة في الصحيح3. 8- وقوله للرجل الذي قال: أيقضي أحدنا شهوته ويؤجر عليها؟ فقال: "أرأيت لو وضعها في حرام أكان عليها وزر"؟ قال: نعم، قال: "فذكلك إذا وضعها في حلال كان له أجر" 4. 9- وقال: "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب" 5. 10- وقال لعمر وقد قَبَّل امرأته وهو صائم: "أرأيت لو تمضمضت بماء" 6. 11- وقال للذي أنكر ولده الذي جاءت امرأته أسود: "هل لك من إبل   1 البخاري "3/ 18"، ومسلم "4/ 109". 2 البخاري في بدء الخلق "ج5/ 166"، ومسلم في الجهاد والسير "ج5/ 185". 3 البخاري "ج3/ 46"، ومسلم "ج3/ ص155". 4 سبق تخريجه ص22. 5 هذا اللفظ في مسلم "ج4/ 164"، وورد لفظ: "إن الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة" من حديث عمرة بنت عبد الرحمن في الصحيحين: البخاري "ج7/ 11"، ومسلم "ج4/ 162". 6 أبو داود "ج2/ 311". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 حمر فيها أورق"؟ قال: نعم. قال: "فمن أين؟ " قال: لعله نزعه عرق. قال: "وهذا لعله نزعه عرق" 1. وقد صنَّف الناصح الحنبلي في أقيسته -عليه السلام2، وهذه التي ذكرنا جلها في الصحاح, ولا يقال: إن ما وقع فيه العتاب لا معنى لحمله على الوحي, وبعضها أرشد فيه إلى التعليل، وما بيَّن تلك العلل إلا تنبيهًا على القياس وتشريعًا وتدريبًا, وإلا كان عبثًا وتطويلًا. وقيل: إنه -عليه لسلام- لا يجتهد لقوله تعالى: {مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} 3. وغير خفي أنه لا دليل في الآية على النفي؛ لأن المنفي تبديل القرآن، والاجتهاد ليس تبديلًا بل هو اتباع واستنباط من الوحي, وقيل: يجتهد في الآراء والحروب لا في الأحكام، والصواب أن اجتهاده -عليه السلام- لا يخطئ، وقيل بالإثبات, ولكن لا يقر على باطل, بل يقع التنبيه على الخطأ حينًا. حكمة اجتهاده -عليه السلام: من حكمته تعليم الأمة وتدريبها على الاجتهاد في الأحكام, واستنباط الأحكام التي تناسب كل مكان وزمان، وعدم الجمود على ظواهر النصوص؛ لأن ذلك عائق عن الترقي والتطور في أطوار تناسب الزمان والمكان، ومن حكمة الخطأ في اجتهاده على القول به, وإن كان شاذًّا أن لا تتسرع الأمة بالتنديد على العلماء الذين يقع منهم الخطأ؛ لأن الاجتهاد عرضة لذلك؛ فإن وقعوا في التنديد والتشنيع والتهديد انقطع الاجتهاد, مع أنه من مصالح الشريعة التي هي عامة لكافة الأمم, والتي هي مستمرة لا تنسخ, ولا يعقل استمرارها إلا إذا كان يتغير الكثير من أحكامها بتغير الأحوال, ولا يخفى أن الاجتهاد مقام عظيم وفيه ثواب جسيم، فلمن أخطأ أجر واحد، ولمن أصاب أجران, كما في الصحيح4،   1 سبق تخريجه. 2 عبد الرحمن بن نجم الجزري السعدي العبادي, أبو الفرج ناصح الدين بن الحنبلي، ت ستة 634. 3 يونس: 15. 4 متفق عليه: البخاري في الاعتصام "ج9/ 132"، ومسلم في الأقضية "ج5/ 131". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 فالقول بأنه -عليه السلام- لا يجتهد, يلزم عليه حرمانه -عليه السلام- من هذا المقام مع مخالفة الظواهر المتكاثرة, والظواهر إذا تكاثرت أفادت القطع. القياس: هل دليل سمعي أو عقلي: قالت المعتزلة: إن العقل له استقلال في استحسان الحسن، واستقباح القبيح, فيمكن أن يستقلَّ بتشريع الأحكام وإدراك الثواب والعقاب، وهو قول حائد عن الصواب، فإن الثواب والعقاب أمر غيبي تابع لرضى الرب وسخطه، ولا اطلاع عليه إلّا من قِبَلِ النبوة, ومن هذا فقد ادَّعى أن الإنسان يبصر في الظلام ويعقل وهو في الأرحام، نعم العقل يدرك حسن بعض ما هو حسن, وقيح بعض ما هو قبيح لا الكل، ويمدح على الأول ويذم على الثاني، فالحق أن القياس دليل سمعي ورد في القرآن والسنة كما تقدمت أدلته. أصل القياس وأسرار التشريع: إن الشريعة الإسلامي عامة لسائر الأمم والأزمان، ونظام للمجتمع العام، وما كان بهذه لمثابة فلا بُدَّ أن يكون منطبقًا على مصالح العباد، وراجعة إليهم وحدهم لا إليه تعالى؛ لأنه غنيٌّ عن العالمين. لهذا كان أكثر أحكامها معقول المعنى، وقيل: كلها سواء في العبادات أو في المعاملات، وفي هذه أكثر وضوحًا؛ لأن القصد من تدخل الشرع في المعاملات صيانة الحقوق وحفظ المصالح, فلا بُدَّ من مراعاتها إذن في تلك الأحكام، قال تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ} الآية1. فالشريعة روعيت فيها المصالح العامة والخاصة وحقوق التملك والحرية الشخصية والفكرية, حتى إنها لم تكلفنا إلا باعتقاد ما سلمه العقل، وقد روعيت فيها النواميس الطبيعية والقانون الطبيعي الذي جعله الله لسعادة البشر وارتقائه. جاء الدين بتأييد قانون الفطرة، أعني القانون الطبيعي الذي هو حفظ الذات المبنيّ على جلب اللذات ودفع الألم، فطرة الله التي فطر الناس عليها،   1 البقرة: 188. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 إذ كل إنسان مجبول بفطرته على الجهاد في سبيل جلب المصلحة, أعني: اللذة, ودفع المفسدة وهي الألم. فجاء الشرع لتأييد ذلك, ولكن باعتدال بحيث لا يخرج إلى حب الذات، وهو عدم الاكتراث بصالح العموم، ثم أرشدنا إلى ما هي المصالح وما هي المضار, وإلى طريق الجلب والدفع؛ لأن الإنسان قد يغلط في الطرق الموصلة لها. فالشرع حكيم كالطبيب العارف بقوانين حفظ الصحة ودفع المرض, ودليل مرشد إلى ما هي اللذة الحقيقية, والطريق الحقيقي الموصل لجلبها فيأمر بها, ويرشد إلى القدر الذي لا يضر منها ليتناولها باعتدال؛ كإباحته الاكتساب, ونهيه عن الشره والجشع والغش والتدليس ونحوهما. وكإباحة التنعيم بالطيبات, ونهيه عن السرف، مثل الطبيب الذي ينهى عن الشبع خوف التخمة، ومرشد إلى ما هو الألم الحقيقي, والطريق الموصل إلى دفعه، وهذه المصالح هي حكم الأحكام المرتبة على العلل التي لأجلها شرع الحكم. فمن أنكر القياس وزعم أن الشرع تعبدي كله, فقد عطَّل الحكمة ولم يفهم الشريعة حق فهمها, وجعلها شرع جمودًا وآصار، مع أنها موصوفة في القرآن بضد ذلك، قال تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} 1، ويأتي مزيد بسط لهذا في ترجمتي أبي حنيفة وداود الظاهري, فهو تكملة لما هنا، وكفى ما تقدَّم لنا في مسألة النسخ والحكمة التي شرع لأجلها, ففي ذلك إرشاد إلى أن الأحكام روعيت فيها المصالح الراجعة إلى سعادة الأمة في الدارين معًا، قال تعالى: {وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} 2، ولهذا كان كثير من أحكام المعاملات يتغير بتغير الأحوال وتطور الأمة, كما قال عمر بن عبد العزيز: تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور. ومن هنا جاءت المصالح المرسلة وسد الذرائع وغيرهما مما يأتي، ولهذا نظر أولوا البصائر من علماء الشرع في الأحكام كي يجدو لها عاملًا، فما وجدوه بطريق النصِّ أو الإجماع أخذوه, وإلا استنبطوا من الاقتضاءات والإيماءات، والسبر والقسيم. والإخالة والمناسبة التي هي الملايمة للطبع بجلب لذة أو دفع أمل مما هو من مقاصد الشرع، التي تنقسم إلى ضروري وحاجي وتحسيني، فإن المصلحة باعتبار قوتها في ذاتها تنقسم إلى ما هو في رتبة الضرورات، وإلى ما هو في رتبة الحاجيات، وإلى ما يتعلق بالتحسينات،   1 الأعراف: 157. 2 القصص: 77. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 الشريعة الإسلامية ديموقراطية ... الشرعية الإسلامية ديموقراطية 1: زعم بعض العصريين أنها أريستوقرطية2 مستدلًا بأحكام الأرقاء, وهو غلط, فإنها ما جوزت استرقاق أسرى الحرب إلّا من باب مجازاة أمم ذلك الزمان بالكيل الذي تكيل به جريًا على عادتهم, بدليل أن الاسترقاق ليس بواجب, بل الإمام مخيَّر بين المنِّ أو الفداء أو الاسترقاق أو القتل, كي يجازي المحاربين بمثل ما يعملون أن يستحقون، والشارع متشوّف للحرية, مرغِّب فيها بأنواع الترغيب، بل ألزم من أعتق جزءًا يسيرًا من رقيق أن يعتق باقيه إن وجد مالًا، فالشرع يزيل الرقِّية بأدنى سبب، فمن زعم أن شريعة الإسلام أريستوقراطية لم يصب, بل هي ديموقراطية حقة، بمعنى أنها بنيت على مبدأ العدل والمساواة في الحقوق بين طبقات الناس، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} 3، وقال -عليه السلام: "كلكم من آدم وآدم من تراب" 4، وقال -عليه السلام: "والله لو سرقت فاطمة ابنتي لقطعت يدها" كما في الصحيح5. وحاشاها -عليها السلام. وقد حكم عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- على جبلة بن الأبهم وهو ملك غسان بالقصاص من لطمة لطمها رجلًا سوقيًّا حتى أدَّى ذلك لردته, فمع هذه النصوص التي لا تقبل التأويل كيف يقال: إنها أريسقراطية. وهل يوجد في الدول الديمقراطية من يعامل أهل الذمة بمعاملة الشريعة الإسلامية التي توصي بأن لهم ما لنا وعليهم ما علينا، وخففت عنهم التجنيد   1، 2" يأتي تعريفهما. 3 الحجرات:13. 4 عزاه في الجامع الصغير: "2/ 94" إلى البزار عن أبي حذيفة بلفظ: "كلكم بنو آدم وخلق الله آدم من تراب" ونحوه عند أبي داود من حديث أبي هريرة "4/ 331". وعند الترمذي من حديث ابن عمر "5/ 389". 5 متفق عليه: البخاري "8/ 199"، ومسلم "3/ 114". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 وجعلت بدله الجزية لئلَّا تكلفهم القتال على وطن غير وطنهم، وقال -عليه السلام: "من ظلم لي ذميًّا فأنا خصيمه يوم القيامة" 1، وفي آخر وصية أوصى بها: "استوصوا خيرًا بذمة الله ورسوله". ومن الأدلة على أنها ديمقراطية بناؤها على الشورى ونبذ الاستبداد والسلطة الشخصية، ودليل بناءها على المساوة في الأحكام أن خطاباتها عامة للذكر والأنثى والحر والعبد, وأن كل خطاب فيها وأمر ونهي متناول للرسول فمَنْ دونه, إلا إذا قام دليل على استثناء أوخصوصية، والاستثناءات لا تنافي الديمقراطية؛ إذ لا يعقل تساوي أجناس الذكور والإناث في أحكام المني والحيض ونحو هذا، فالاستثناءات ضرورية لجميع الشرائع, ولا تنافي الديمقراطية ولا المساواة, يعلم هذا كل منصف2.   1 أخرج أبو داود "3/ 171" عن عدة من أبناء أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم, عن آبائهم دنية عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ألا من ظلم معاهدًا أو انتقصه أو كلَّفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئًا بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة" وانظر: اللآليء المصنوعة للسيوطي "2/ 140"، والمقاصد الحسنة للسخاوي "392". 2 الديمقراطية:" مصطلح سياسي, قالو في معناها أنها: حكومة الشعب، بمعنى أن تكون إرادة الشعب مصدر السلطة, ولاشك أنها بهذا تكون مخالفة للإسلام الذي يقوم بناءه على إعطاء الحاكمية لله وحده، ولها أشكال مختلفة، وطرائق متعددة، وتقابلها: الإرستقراطية, والتي تعني: حكومة الخواص، أو الطبقة المختارة، ولقائل أن يقول: إن الديمقراطية أمثل ما وصل إليهى فكر الإنسان من أنظمة سياسية وضعية، ولآخر أن يعدد نواقصها أو عيوبها أو مزاياها، ولكن ليس لأحد أن يخلط بينها وبين النظام الإلهي الكامل الممثَّل في الشريعة الإسلامية المنزلة, وإن كان بينة الدفاع عنها، ومن فعل ذلك فقد أساء إلى شريعة الله، ولم يلتزم جانب العلم والحكمة والحذر، وسترى مثالًا أوضح لاندفاع المصنف -عفا الله عنه- في المقارنة دون رويّة عند كلامه على أبي ذر الغفاري ويأتي، وإن كان يلوح من كلامه هنا أنه يعتبر الديمقراطية شعارًا عامًّا يعني: العدالة الاجتماعية والمساواة, والارستقراطية عكسها، "عبد العزيز القاريء". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 الاستدلال في زمنه -عليه السلام: تقدَّمَ أن الاستدال هو ما ليس بنصٍّ أو إجماع ولا قياس, وله أنواع خمسة: التلازم بين حكمين: هو نوعة الأول, وهو راجع في الحقيقة إلى الاستدلال بالأقيسة المنطقية الاقترانية والاستثنائية, ولا شك أن هذه المصطلحات لم تكن موجودة في العصر النبوي بهذه الكيفية الموجودة عند المناطقة، وإنما حدثت عند المسلمين بعد ما ترجموا كتب اليونان، لكنها أمور عقلية, معانيها مرتكزة في العقول السليمة, وإن لم يعبر عنها بالعبارات المصطلح عليها، وقد اختلفوا: هل الأشكال الأربعة عند المناطقة موجودة في القرآن أم لا؟ ومن أثبتها استدل بقصة إبراهيم -عليه السلام- في قوله تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي} 1 الآية. واستدل أيضًا بقوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} 2, وبقوله تعالى: {إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى} 3 الآية. إلى غير ذلك. أما في الفقهيات فمدار احتجاج الصحابة وأهل الصدر الأول الذين لم تكن لديهم هذه المصطلحات على انبلاج الحجة وثلج الضمير, أو ظهور الأمارات على الحكم بوجود ما جعل علامة عليه، ولذلك لا يجد الباحث في استدلالهم تصريحًا بكونهم احتجوا بالشكل الأول أو الثاني مثلًا. نعم من شاء أن يستخرج ذلك بنوع تكلف فليس ببعيد الوجود، ويمكن أن يخرج على ذلك حديث الصحيح "ما أنهر الدم وذُكِرَ اسم لله عليه فكل ليس الظُّفر والسن, وسأحدثكم   1 الأنعام: 76. 2 الأنبياء: 22. 3 الأنعام: 91. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 عن ذلك، أما السن فعظم, وأما الظفر فسُدَي الحبشة" 1, قال البيضاوي2: هو قياس حذفت مقدمته الثانية لشهرتها عندهم, والتقدير: أما السن فعظم, وكل عظم لا يحل الذبح به، وطوى النتيجة لدلالة الاسثناء عليها، قال ابن الصلاح3: هذا يدل على أنه كان -عليه السلام- قرر لهم أن لا تحصل به ذكاة، فلذلك اقتصر على قوله: "فعظم", قال: ولم أر بعد البحث من نقل للمنع من الذبح بالعظم معنى يعقل. ويمكن أن يخرج على ذلك أيضًا حكم سعد بن معاذ, فيقال: بنو قريظة حاربوا, وكل من حارب تقتل مقاتلته, وتسبى نساؤه وذراريه, فتكون النتيجة: بنو قريظة تقتل مقاتلهم وتسبى نساؤهم وذراريهم. دليل الصغرى نقضهم العهد وممالأتهم قريشًا على حرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الأحزاب، والكبرى ظاهرة، ويمكن أن يخرَّج على ذلك بعض القضايا السابقة أيضًا, وذلك غير خفي على من له معرفة بالمنطق، أما من ليس له به معرفة فلا فائدة في الإكثار عليه. الاستصحاب: هو النوع الثاني: وهو كما قال الزركشي4 أنواع: الأول: استصحاب ما دلَّ العقل والشرع على ثبوته ودوامه، كالملك عند جريان العول المقتضى له، وشغل الذمة عند جريان إتلاف أو التزام، ودوام الحل في المنكوحات بعد تقرر النكاح، وهذا لا خلاف في وجوب العمل به. الثاني: استصحاب العدم الأصلي المعلوم بدليل العقل في الأحكام الشرعية، كبراءة الذمة من التكليف حتى يدل دليل شرعي على تغيره؛ كنفي صلاة   1 رواه الجماعة: البخاري في الذبائح:"7/ 118"، ومسلم في الأضاحي "6/ 78"، والترمذي في الأحكام "4/ 81"، وأبو داود "3/ 102"، والنسائي "7/ 199"، وابن ماجه "2/ 1061". 2 أبو الخير: عبد الله بن عمر البيضاوي. ت: 698، ترجم له المؤلف في القسم الرابع. 3 أبو عمر عثمان بن الصلاح الموصلي. ت: 643، ترجم له المؤلف في القسم الرابع، وانظر طبقات الشافعية "8/ 326". 4 بدر الدين محمد بن بهادر بن عبد الله الزركشي، ت ستة 794هـ. "الدرر الكامنة" "4/ 17". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 سادسة، وهو استصحاب البراءة الأصلية الآتية، قال القاضي أبو الطيب1: وهذه حجة بالإجماع من القائلين بأنه لا حكم قبل الشرع. الثالث: استصحاب الحكم العقلي إلى أن يَرِدَ الدليل الشرعي، وهذا مذهب اعتزالي؛ إذ العقل يحكم عندهم في بعض الأشياء إلى أن يرد دليل الشرع، ولا خلاف بين أهل السنة في إلغائه في الشرعيات. الرابع: استصحاب الدليل الشرعي مع احتمال المعارض؛ إما تخصيصًا إن كان الدليل ظاهري أي: عامًّا، وإمَّا نسخًا إن كان الدليل نصًّا, وهذا معمول به إجماعًا، لكن لا يمسي استحصابًا عند المحققين كإمام الحرمين، لأن ثبوت الدليل من حيث اللفظ لا من حيث الاستصحاب. الخامس: استصحاب الحكم الثابت بالإجماع في محل النزاع، وهو راجع إلى الحكم الشرعي، بأن يتفق على حكم في حالة, ثم تتغير صفة المجمع عليه فيختلفون فيه، فيستدل من لم يغير الحكم باستصحاب الحال. مثاله: إذا استدلّ من يقول: إن المتيمم إذا رأى الماء في أثناء الصلاة لا تبطل صلاته؛ لأن الإجماع منعقد على صحتها قبل ذلك، فاستصحب إلى أن يدل على أن رؤية الماء مبطلة، وكقول الظاهرية: يجوز بيع أم الولد؛ لأن الإجماع انعقد على جواز بيع هذه الجارية قبل الاستيلاد, فنحن على ذلك الإجماع بعد الاستيلاد، وهذا النوع هو محل الخلاف، فذهب القاضي والشيرازي2 وغيرهما إلى أنه ليس بحجة، قال أبو منصور3: وهو قول جمهور أهل الحق من الطوائف، واختار الآمدي وابن الحاجب4 قول داود وغيره بالاحتجاج به، قال الشوكاني: وهو الراجح؛ لأن المتمسك بالاستصحاب باقٍ على الأصل, قائم قي مقام المنع، فلا يجب عليه   1 طاهر بن عبد الله الطبري: ت سنة 450، ترجم له المؤلف في القسم الرابع. 2 إذا أطلق القاشي عند الأصوليين فهو أبو بكر الباقلاني، ت: سنة 304هـ. والشيرازي هو أبو إسحاق إبراهيم بن علي, صاحب "المهذب" في فقه الشافعية، ت ستة 472هـ، وقد ترجم لهما المؤلف في أواخر القسم الرابع. 3 عبد القاهر بن طاهر التميمي أبو منصور البغدادي، ت سنة 429هـ. "طبقات الشافعية للسبكي" "5/ 136". 4 الآمدي: هو سيف الدين أبو الحسن علي بن أبي علي بن محمد، ت سنة "464هـ"، وقد ترجم له المؤلف في القسم الرابع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 الانتقال عنه إلّا بدليل يصلح لذلك, فمن ادعاه جاء به. ولا يخفى أن النوع الأول والثاني من الاستصحاب لا يخلو منهما الزمن النبويّ، إذ هما ضروريان، بخلاف الثالث؛ لأن الصحابة ما كانوا يرون أن للعقل حكمًا في الشرعيات، أما الرابع فمهمًّا لا يخلو منه الزمن النبوي أيضًا، بخلاف الخامس؛ لأن الإجماع غير متصور في زمنه -عليه السلام. شرع من قبلنا شرع لنا: وهو النوع الثالث من الاستدلال، قال الحنفية: إنه من الأدلة الشرعية التي هو أصل الفقه ومادته، وقال القاضي عبد الوهاب1: إنه الذي تقتضيه أصول مالك، واستدلوا له بقوله تعالى: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِه} 2 وقوله: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} 3 وبحديث الصحيح: "أنه -عليه السلام- كان يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء"4. ولكنَّ هذا كله فيما بلغنا أنه شرع مَنْ قبلنا على لسان نبينا, أو ممَّن كان ثقة مأمونًا كعبد الله بن سلام, ولم يثبت نسخه ولا تخصيصه، وإلا فالقرآن رفع الثقة بكتبهم حيث قال: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} 5 الآية. وقال تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} 6, وتقدَّمَت الإشارة إلى هذا في أول القسم. ومن وقوعه في الزمن النبوي ما ثبت في الصحيح: "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما قدم المدينة وجد اليهود تصوم عاشوراء, فسأل عن ذلك فقالوا: يومًا نجى الله فيه موسى, فقال: "نحن أحق بموسى منهم, فصامه وأمر بصيامه" 7. وللمانع أن يدعيَ أن الصيام كان بوحي, ولكنه خلاف ظاهر القصة، ومنه قضية ابن عباس: أنه سجد   1 عبد الوهاب بن علي بن نصر الثعلبي البغدادي المالكي، ت سنة 422هـ، ترجم له المؤلف في أوائل القسم الرابع. 2 الأنعام: 90. 3 النحل: 123. 4 متفق عليه: البخاري في مناقب الأنصار "5/ 90"، ومسلم في الفضائل "7/ 83". 5 البقرة: 79. 6 المائدة: 48. 7 متفق عليه: البخاري في مناقب الأنصار "5/ 89"، ومسلم في الصوم "3/ 149". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 في صلاة وقرأ قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} 1, فاستنبط التشريع من هذه الآية2. ومن ملحقات هذه المسألة: هل كان -عليه السلام- متعبدًا قبل البعثة بشريعة إبراهيم، لما عرف في كتب السيرة من كونه -عليه السلام- كان كثير البحث عنها, عاملًا بما بلغ إليه منها، وأمر باتباعها بعد البعثة {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} 3 أو بشريعة آدم أو نوح أو غيره. أقول: قال إمام الحرمين4: هذه المسألة لا تظهر لها ثمرة, بل هي مسألة تاريخية تحتاج إلى أن تؤيد بنقل صريح وأين هو؟ ونحوه للمازري5. الاستحسان: وهو النوع الرابع من الاستدلال، وقد اختلفوا في الاستحسان ما هو؟ كما اختلفوا في كونه حجة أم لا، فقال به الحنفية والحنابلة والمالكية، وأنكره الشافعي، حتى روي عنه أنه قال: من استحسن فقد شرَّع. مثاله: رشد اليتيم, قال الله فيه: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} 6 استحسن الحنفية أنه بلغ خمسًا وعشرين سنة فقد رشدن؛ لأنه مظنَّة الرشد, فيمكَّن من ماله، وخالف الشافعية والمالكية فقالوا: لا بُدَّ من ثبوته بالبينة كما هو مقتضى القياس، ومن ذلك أخذ ضامن درك العيب والاستحقاق بعد، والاستحسان يوجبه في حاضرة. القياس لا يوجبه لعدم وقوع استحقاق بعد, والاستحسان يوجبه عند مالك وغيره لضرورة تصوين أموال الناس وتسهيل معاملة البدوي، وقال جماعة من المحققين: الحق أنه لا يتحقق الاستحسان المختلف فيه؛ لأنهم ذكروا في تفسيره أمورًا لا تصلح للخلاف، لأن بعضها مقبول اتفاقًا وبعضها متردد بين   1 الأنعام: 90. 2 البخاري في التفسير "6/ 155". 3 النحل: 123. 4 عبد الملك بن أبي محمد بن عبد الله بن يوسف الجويني الشافعي، ت سنة 478هـ، ترجم له المؤلف في القسم الربع. 5 محمد بن علي بن عمر التميمي المالكي، ت سنة 536هـ, ترجم له المؤلف في القسم الرابع. 6 النساء: 6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 ما هو مقبول اتفاقًا وبين ما هو مردد اتفاقًا، فأما من عرَّفَه بأنه: دليل ينقدح في نفس المجتهد تقصر عبارته عنه, فإمَّا أن يكون انقداحه في نفس المجتهد بمعنى تحقق ثبوته، فعمله به واجب, وهو مقبول اتفاقًا، وإمَّا أن يكون بمعنى أنه شاكٌّ فيه, فهو مردود اتفاقًا، ولا تثبت الأحكام بالاحتمال والشك، وقال الغزالي1 في المستصفى: إنه هوس؛ لأن ما لا يقدر على التعبير عنه لا يدري أنه وهم وخيال, أو تحقيق، ولا بُدَّ من ظهوره ليعتبر بأدلة الشرع لتصحيحه أو تزيفه2. وأما من عرَّفَه كاللخمي3 في التبصرة بأنه: كون الحادثة مترددة بين أصلين أحدهما أقوى بها شبهًا أو أقرب إليها, والآخر أبعد, فيعدل عن القياس, على الأصل القريب إلى القياس على الأصل البعيد لجريان عرفه, أو ضرب من4 المصلحة, أو خوف مفسدة, أو ضرب من الضرر، كما نقله التسولي5 في الرهن، وكذلك من عرَّفه بأنه: العدول عن قياس إلى قياس أقوى، أو تخصيص قياس بأقوى منه؛ كتخصيص العرايا من منع بيع الرطب بالتمر، وهو معنى قول ابن العربي6 في الأحكام: اتفق المالكية والحنفية على أن الاستحسان الأخذ بأقوى7 الدليلين, ..............................................   1 أبو حامد محمد بن محمد الغزالي، ت سنة 505هـ، انظر ترجمته في القسم الرابع. 2 المستصفى "1/ 281". 3 علي بين محمد الربعي، فقيه مالكي. ت سنة 478هـ "الديباج المذَّهب" "2/ 104", قد ترجم له المؤلف في أوائل القسم الرابع. 4 قال المؤلف -رحمه الله: مثاله: الطلاق بلفظ الثلاث، متردد بين أن يقاس على أمثاله من العقود كالبيع والنكاح, فيشترط في وقوعه توفر الشروط الشرعية, فلا يلزم منه الآن إلا ما ألزمه الشرع، فلا يقع إلا واحدة، وبين أن يقاس على الأيْمَان والنذور التي ما التزمه المكلف منها لزمه على أي صفة كان، فألحقه عمر بن الخطاب بالثاني, وإن كان الأول أقرب شبهًا لضربٍ من المصلحة. 5 عليّ بن عبد السلام التسولي، له كتاب البهجة شرح التحفة, في أحكام القضاء والوثائق، ت سنة 1258هـ, انظر ترجمته في القسم الرابع من الكتاب. 6 أبو بكر محمد بن عبد الله المعافري المالكي، ت سنة 543هـ. انظر ترجمته في أوائل القسم الرابع من الكتاب. 7 قال المصنف -رحمه الله: يمثل له بالجد في الميراث تعارض فيه دليلان: الأول قيامه مقام الأب في عدم الاقتصاص منه لحفيده, وعتقه عليه وعدم شهادته له بإجماع، وهذه الأحكام تقتضي أن يكون أبًا يحجب الإخوة مطلقًا، وبه قال الصديق والحنابلة وأبو حنفية، = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 ونحوه للباجي1, فهذا مقبول اتفاقًا ممن يقول بالقياس، قال ابن السمعاني2: إن كان الاستحسان هو القول بما يستحسنه الإنسان ويشتهيه من غير دليل, فهو بطل ولا أحد يقول به، وإن كان هو العدول عن دليل إلى دليل أقوى منه, فهو مما لم ينكره أحد, ثم ذكر أن الخلاف لفظي. وقال الشيخ بناني3 في حواشي الزرقاني, أول باب الاستحقاق عن المراق ما نصه: روى ابن القاسم عن مالك أنه قال: الاستحسان تسعة أعشار العلم. وقال ابن رشد في سماع أصبع من كتاب الاستبراء: الاستحسان الذي يكثر استعماله حتى يكون أغلب من القياس, هو أن يكون طرد القياس يؤدي إلى غلوٍّ في الحكم ومبالغة فيه, 4 فيعدل عنه في بعض المواضع لمعنًى يؤثر في الحكم, فيختص به ذلك الموضع، والحكم بغلبة الظن أصل في الأحكام.   = والثاني: أن ابن الأخ الذي يدلي بالأخ مقدَّم على العمِّ الذي يدلي بالجد بإجماع, وهذا يقتضي تقديم الإخوة عليه، إلّا الإخوة لأم, لكن عارضه أن الجد أب ما, وهو تعدد النسب، والأخ ليس بأصل ولا فرع, لذلك أعطيناه رتبة أعلى من الأخ, وأدنى من الأب, فيحجب الإخوة لأم إذ هم ذوو رحم من أصل، ويقاسم الأشقاء أو لأب إذا كانت المقاسمة خيرًا له، وإلّا تحافظنا له على الثلث مع عدم ذي الفرض, وعلى السدس أو ثلث الباقي إذا كان معهم ذو فرض يضيق عليه وعليهم، فهذا استحسان من زيد بن ثابت، وبه قال الشافعي ومالك على ضعف هذه الحجة وقوة الأولى نظرًا. فتأمله. 1 سليمان بن خلف الباجي الأندلسي، أخذ عن أبي الأصبغ وأبي محمد مكي وغيرهم, وروى عن الحافط أبي بكر الخطيب, وأخذ عنه ابن عبد البر، وبينه وبين ابن حزم مناظرات، قال القاضي عياض: حاز الرئاسة بالأندلس, فسمع منه خلق كثير, وتفقَّه عليه خلق, وممَّن تفقه عليه أبو بكر الطرطوشي، ت سنة 474هـ، الديباج المذهب" "1/ 37". وقد ترجم له المؤلف في أوائل القسم الرابع. 2 أبو المظفر منصور بن محمد بن عبد الجبار، ت سنة 489هـ. "طبقات الشافعية للسبكي" "5/ 335"، وانظر ترجمته في القسم الرابع من الكتاب. 3 محمد بن الحسن البناني الفاسي، ت سنة 1194هـ، ترجم له المؤلف في أواخر أصحاب مالك في القسم الرابع من الكتاب. 4 قال المؤلف -رحمه الله: مثاله الأخ الشقيق مع الأخوة لأم في الحمارية والمشتركة، فإن طرد القياس يؤدي إلى غلوٍّ في الحكم، هو حرمان الأشقاء مع أن الأم التي استحقَّ بها الأخوة للأم شاركوها فيها, وكونهم أبناء أبي الميت لا يزيدهم إلا قربًا، لذلك ألغينا هذا القياس لمعنى يؤثر في الحكم, وشاركوهم في الثلث, والشافعي يقول بهذا كمالك, فلزمه القول بالاستحسان, ولو سماه بغير اسمه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 ومن الاستحسان مراعاة الخلاف وهوأصل في المذهب، ومن ذلك قولهم في النكاح المختلف في فساده أنه يفسخ بطلاق, وفيه الميراث, وهذا المعنى أكثر من أن يحضر. وأما العدول عن مقتضى القياس في موضوع من المواضع استحسانًا لمعنًى لا تأثير له في الحكم, فهو مما لا يجوز بالإجماع؛ لأنه من الحكم بالهوى المحرم بنصِّ التنزيل, قال تعالى: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ} 1 الآية "بخ"2. وقال ابن العربي في أحكام سورة الأنعام ما نصه, وبهذه الآية أعني قوله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ} 3 الآية. أنكر جمهور من الناس على أبي حنيفة القول بالاستحسان, فقالوا: إنه يحرّم ويحلل بالهوى من غير دليل, وما كان ليفعل ذلك أحد من أتباع المسلمين, فكيف أبو حنيفة وعلماؤنا من المالكية كثيرًا ما يقولون القياس كذا في مسألة, والاستحسان كذا. والاستحسان عندنا وعند الحنفية هو العمل بأقوى الدليلين، وقد بينَّا ذلك في مسائل الخلاف، نكتته أن العموم إذا استمرَّ والقياس إذا اطَّرَد, فإن مالكًا وأبا حنفية يريان تخصيص العموم بأيّ دليل كان من ظاهر أو معنى، ويستحسن مالك أن يخص بالمصلحة, ويستحسن أبو حنيفة أن يخص بقول الواحد من الصحابة الوارد بخلاف القياس، ويرى مالك وأبو حبيفة تخصيص القياس ببعض العلة, ولا يرى الشافعي لعلة الشرع إذا ثبتت تخصيصًا، ولم يفهما الشريعة من لم يحكم بالمصلحة, ولا رأى تخصيص العلة, وقد رام الجويني رد ذلك في كتبه المتأخرة التي هي نخبة عقيدته ونخيلة فكرته، فلم يستطع، وفاوضت الطوسي الأكبر 4 في ذلك وراجعته حتى وقف، وقد بينت ذلك في المحصول والاستيفاء بما في تحصيله شفاء، فإن قال أصحاب الشافعي: فقد تاخمتم هذه المهواة, وأشرفتم على التردي في المغواة, فإنكم زعمتم أن اليمين يحرم الحلال, ويقلب الأوصاف الشرعية, ونحن براء من   1 ص: الآية 26. 2 اصطلاح يعني: باختصار. 3 الأنعام: 136. 4 لعله عبد الرزاق بن عبد الله بن علي بن إسحاق أبو المحاسن شهاب الدين الطوسي، كان قد تفقه على إمام الحرمين الجويني، ت بنيسابور سنة 515 هـ، "النجوم الزاهرة" "5/ 222", "طبقات الشافعية للسبكي" "7/ 168". "عبد العزيز القارئ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 ذلك. قلنا: هيهات ما حرمنا إلا ما حرم الله, ولا قلنا إلا ما قال الله, ألم تسمعوا قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} 1. قلت: إن الشافعي أيضًا لم يخل من الاستحسان، فقد ثبت عنه: أن أمد الحمل أربع سنين, مع أن القياس يقتضي أن يكون تسعة أشهر؛ لأنه غالب ما يقع، والشريعة جاءت بالحكم بالغالب، فقد حكمت بأن ثلاثة قروء جريًا على الغالب في استبراء الرحم بالحيض، مع اتفاقهم على أن الحامل قد تحيض نادرًا، وقال أبو حنفية: سنتان، وعن أحمد روايتان كالقولين، وروي عن مالك: خمس سنين, وبه الفتوى، وعنه أربع, وهما قولان مشهوران في المذهب, وروي عنه سبع سنين, وروى أشهب إلى أن تضع ولو طال ما طال, وصحَّحَه ابن العربي. وقيل: ست سنين، وقيل: ما يراه النساء, وقال الظاهرية ومحمد بن الحكم: تسعة أشهر تمسكًا بالغالب الذي هو القياس, ومستند الأقوال السبعة قبله هو الاستحسان محافظةً على النسب, وسدًّا للذرائع, وسترًا على النساء اللاتي يقعن في ذلك؛ لأن إثبات الزنا عليهن صعب كما أشار له القرافي في الفرق "175"2، فلهذا ترك الغالب, واعتبرت الصورة النادرة وإن لم يكن في المسألة نص من الشرع قاطع، وقول بعض الناس: إن نساء أوربا وأطباءها مجمعون على أن الجنين لا يمكن أن يمكث في البطن أكثر من تسعة أشهر وشيء يسير فغير مسلّم, فإن بعض أطبائهم قال بمثل ما يقول فقهاؤنا, فلا إجماع عندهم، سلمنا، فليس بحجة ولا من نوع الإجماع، بل هو استقراء ناقص لعدم تتبع نصف أفراد النساء, بل لا يتصور تتبع عشر العشر, وما لم يستقرأ فيه الأفراد فلا حجة فيه، على أن حجة الفقهاء في العمل بالنادرة قياسها على أقل الحمل, حيث اعتبر القرآن فيه النادرة احتياطًا, ولنا رسالة في المسألة. ثم إن وقوع الشافعي في الاسحسان لعله هو الذي حمل ابن عربي في الفتوحات على تأويل مقالته السابقة على المدح فقال: مراده إن من حسن فقد   1 التحريم: 1. 2 أحمد بن إدريس الصنهاجي المصري، أحد الأعلام من المالكية، له تصانيف كثيرة منها "الذخيرة" في فقه المالكية، "والأحكام في الفرق بين الفتاوى والأحكام". ت. سنة 684هـ, ودفن بالقرافة بمصر "الديباج المذهب" "1/ 236", وترجم له المؤلف في أوائل القسم الرابع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 صار كنبيٍّ ذي شريعة, وأن أتباعه لم يفهموا كلامه على وجه, على أنها لا تحتاج إلى تأويل, وهي عندي محمولة على الاستحسان المحرَّم بإجماعهم, وسبق بيانه في كلام ابن رشد. ومنه عندي استحسان المتنطعين أن يقطع المتسحِّر الأكل قبل الفجر بنصف ساعة فأكثر، لمخالفت لحديث: "إن بلالًا يؤذن بليل, فلكوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم". قال: ولم يكن بينهما إلا أن ينزل هذا ويرقى هذا، رواه مسلم1، وقد ورد تسحرنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم, ثم قمنا إلى الصلاة. قلت: كم كان قدر ما بينهما؟ قال: خمسين آية2. ومقتضى الحديث الأول أن الفصل بخمسين آية ليس بمطلوب، قال النووي: في الحديث الثاني الحث على تأخير السحور إلى قبيل الفجر, ومقدار قراءة خمسين آية أقل من خمس دقائق، ومنه أيضًا القيام عند ذكر الولادة النبوية مع ورود النصِّ, بل النصوص الصحيحة الصريحة بالنهي عنه، انظر رسالتنا "صفاء المورد في عدم القيام عند سماع المولد"، ورسالتنا: "الحق المبين في الرد على من ردَّ عليها وهو صاحب حجة المنذرين"3. الاستحسان في العصر النبوي: يمكن أن يخرّج عليه حكم سيدنا عليّ لما كان في اليمن بين ثلاثة وقعوا على امرأة في طهر واحد بأن يقرع بينهم, فمن خرجت له القرعة لحق به الولد, وأدى   1 متفق عليه: البخاري "3/ 37"، ومسلم "3/ 128". 2 متفق عليه: البخاري "3/ 37"، ومسلم "3/ 131". 3 أخرج الترمذي "5/ 9"، عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله -صلى الله عليه وسلم, قال: وكانوا إذا رأوه لم يقوموا لما يعلمون من كراهيته لذلك. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه. قلت: وكيف لا يكرهه -صلى الله عليه وسلم- وقد نهى عنه وقال: "من أحب أن يتمثَّل له الناس قيامًا فليتبوأ مقعده من النار" أخرجه الترمذي "5/ 9" وأبو داود "4/ 358"، إلّا أنه: "يمثل" بدل: "يتمثل" فقيام المبتدعة عند ذكر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حفلات الموالد مخالفة صريحة للسنة النبوية, وإصرار على ما كان يكرهه النبي -صلى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 للآخرين ثلثي الدية, وصوَّب النبي -صلى الله عليه وسلم- حكمه، روى القصة الإمام أحمد في مسنده من طريق زيد بن أرقم وأبو داود والنسائي1، وقد ورد في أعلام الموقعين.   1 أخرجه أبو داود "2/ 281"، والنسائي 6/ 150"، وأحمد "4/ 374". 2 "2/ 62". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 المصالح المرسلة : هي من جملة ما دخل في الاستدلال بل في الاستحسان منه، وتقدَّمَ تعريف المصلحلة في أصل القياس وأسرار التشريع، والمراد هنا مصلحة لم يشهد الشرع باعتبارها ولا إلغائها, وتقدَّمَ أنها أقسام ثلاثة: ضرورية، وحاجية، وتحسينة، والمراد هنا ما كان واقعًا في رتبة الضرورة, وهو المحافظة على الدين أو النفس أو العقل أو النسب أو المال أو العرض؛ لأن ما دون ذلك كله من الحاجيات أو التحسينات. وكل ما كان منها فلا يجوز الحكم بمجرده إن لم يعتضد بشهادة أصل إلا أن يجري مجرى الضرورات, فلا يبعد أن يؤدي إليه اجتهاد مجتهد وإن لم يشهد الشرع فهو كالاستحسان، أما إن اعتضد بأصل فهو قياس, ثم إن ما كان في رتبة الضرورات فلا يبعد أن يؤدي إليه اجتهاد مجتهد، وإن لم يشهد الشرع معين. ومثاله: إن الكفار إذا تترَّسُرا بالأسرى المسلمين، وكان بحيث لو كفننا عنهم لغلبونا على دار الإسلام وقتلوا أهل القطر الإسلامي أو الجيش الذي هو الساعد المدافع, ويقتلون الأسرى أيضًا, ولو رميناهم لقتلنا الأسرى الذين لم يذنبوا, وهم معصوموا الدم, ولا دليل في الشرع يبيحه, فيجوز أن يقول قائل: الأسرى مقتولون على كل حال, فحفظ أهل القطر أقرب إلى مقصود الشرع؛ لأنا نعلم قطعًا أن قصده تقليل القتل, كما يقصد حسم سبيله عند الإمكان، وحيث لم نقدر على الحسم فقد قدرنا على التقليل, فهي مصلحة عُلِمَ بالضرورة أنها مقصود الشرع لا بأصل واحد معين، بل بأدلة خارجة عن الحصر, مع أن تحصيلها بهذه الطريق وهو قتل من لم يذنب غريب لم يشهد له أصل معين، لكنها توفرت فيها شروط: ضرورية، وقطعية، وكلية لأهل القطر كله بها قطعًا كما في جمع الجوامع. فلو تترَّسُوا في قلعة فلا يجوز الرمي إذ ليس من الضروري فتح قلعة, وأيضًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 ليس حصول المصلحة فيها قطعيًّا، وكذلك جماعة في سفينة لو رمو ثلثهم لنجوا وإلا غرقوا كلهم، فهذه ليست كلية لانحصار عددهم، وليس كاستيصال كافة القطر, ولعدم تعين الثلث بعينة, بل على الشياع إلا بالقرعة, ولا أصل لها هنا فصبرهم واجب، وأما ما نقله إمام الحرمين عن مالك من أنه يجيز قتل الثلث من الأمة لاستصلاح الثلثين فقد أنكر نسبته إلى الإمام, كما في حواشي البناني على الزرقاني، وفي المصالح المرسلة نزاع كبير, نسبوا إلى مالك أنها من أصول مذهبه, والجمهور على خلافه، وقال الزركشي1: إن العلماء في جميع المذاهب يكتفون بمطلق المناسبة، ولا معنى للمصلحة المرسلة إلا ذلك، قال الخوارزمي2: هي المحافظة على مقصود الشرع بدفع المفاسد على الخلق. ويشترط رابعًا أن يعلم كونها مقصوة للشرع بالكتاب أو السنة أو الإجماع, إلّا أنها لم يشهدلها أصل معين باعتبار, وإنما يعلم كونها مقصودة لا بدليل واحد بل بمجموع أدلة وقرائن أحوال وأمارات متفرقة، ومن أجل ذلك تسمَّى مصلحة مرسلة، ولا خلاف في اتباعها إلّا عندما تعارضها مصلحة أخرى، وعند ذلك يأتي الخلاف في ترجيح إحدى المصلحتين نظير ما تقدَّم في الاستحسان. قال ابن دقيق العيد3: الذي لا يشك فيه أن لمالك ترجيحًا على غيره من الفقهاء في هذا النوع, ويليه ابن حنبل, ولا يكاد يخلو غيرهما من اعتباره في الجملة, ولا أنكر على من اعتبر أصل المصالح المرسلة, لكن تحقيقها محتاج إلى نظر سديد, والاسترسال فيه ربما يخرج عن الحد، وقد نسبوا إلى سيدنا عمر -رضي الله عنه- أنه قطع لسان الحطيئة بسب الهجو, فإن صح ذلك فإنه من باب العزم على المصالح المرسلة, وحمله على التهديد الرادع للمصلحة أولى من حمله على حقيقة القطع للمصلحة، وهذا يجر إلى النظر فيما يسمَّى مصلحة مرسلة، قال: وشاورني بعض القضاة في قطع أنملة شاهد, والغرض منعه عن الكتابة بسبب قطعها، وكل هذا منكرات عظيمة الموقع في الدين, واسترسال قبيح في أذى المسلمين.   1 سبقت ترجمته. 2 لعله أبو محمد منصور بن أحمد القاءاني الخوارزمي، ت سنة 775، تاج التراجم لابن قطلوبقا ص237، الأعلام "8/ 234". 3 تقي الدين محمد بن علي بن وهب, المعروف بابن دقيق العيد، ت سنة 702 هـ "الدرر الكامنة" "4/ 210", "طبقات الشافعية للسبكي" "9/ 207". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 قلت: ولا يبعد أن يخرج على ذلك: 1- ما رواه مالك في الموطأ أن الضحاك ابن خليفة ساق خليجًا له حتى النهر الصغير من العريض, فأراد أن يمر به في أرض لمحمد بن مسلمة فأبى، فقال الضحاك: لم تمنعني وهو لك منفعة تشرب به أولًا وآخرًا ولا يضرك, فأبى, فكلَّم عمر -رضي الله عنه- فدعى محمد بن مسلمة فأمره أن يخلي سبيله فأبى، فقال عمر: لم تمنع أخاك ما ينفعه وهو لك نافع تشرب به أولًا وآخرًا, ولا يضرك، فقال محمد: لا والله، فقال عمر: والله ليمرنَّ ولو على بطنك1. وأمره عمر أن يجريه, فإذا تأمَّل المتأمل وجده اعتمد أصلًا عامًّا وهو إباحة النافع وحظر الضار, ولم يقله قياسًا على أصل معين، وغيره من المجتهدين لا يجبره على إجراء الماء؛ حيث عارضه أصل آخر وهو قوله -عليه السلام: "لا يحل مال امريء مسلم إلّا عن طيب نفس" رواه الحاكم2 بإسناد على شرط الصحيحين في جله, وعلى شرط مسلم في بعضه، وأيضًا هذه المصلحة ليست في محل الضرروة فلا تعتبر، ويؤخذ من حكم عمر هذا أنه يبيح الصلاة في الدار المغصوبة، وقد أوسع الكلام فيها ابن ناجي3 في تاريخ معالم الإيمان. 2- ومن ذلك أن علي بن أبي طالب قضى في رجل من رجل يريد قتله, فأمسكه له آخر حتى أدركه فقتله, وبقربه رجل ينظر إليهما وهو يقدر على تخليصه, لكن نظر إليه حتى قتله بأن يقتل القاتل ويحبس الممسك حتى يموت, ويفقأ عين الناظر الذي وقف ينظر ولم ينكر، فرأى تعزيز الناظر بفقإ عينه مصلحة للأمة. انظر عدد 50 من الطرق الحكمية4، إن كان هذا الحكم بالفقإ لم يأخذ به الفقهاء, كما أن الممسك يجب عليه عند المالكية القصاص لا الحبس؛ لأنه مباشر ووماليء على القتل. 3- ومن ذلك تحريق عليّ -كرم الله وجهه- لقوم نسبوا إليه الألوهية, وثبت   1 الموطأ "2/ 746". 2 المستدرك "1/ 93" لفظه: "لا يحل لامريء من مال أخيه إلّا ما أعطاه عن طيب نفس". 3 قاسم بن عيسى بن ناجي التنوخي القيرواني، فقيه من قضاة القيروان، ت سنة 887هـ "معالم الإيمان" "3/ 149"، ترجم له المؤلف في أوائل القسم الرابع. 4 ص50، ط. المكتبة العلمية بالمدينة المنورة 1391هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 ابن ابن عباس لم يرتض منه ذلك فرجع, ويمكن أن يخرج ذلك على أن عليًّا لم يطَّلع على أن التحريق بالنار منسوخ بقوله -عليه السلام: "لا يحرق بالنار إلا الله" 1. 4- ومن زيادة عمر في حد الشرب من أربعين إلى ثمانين. 5- ومن ذلك إفتاء عمر بن الخطاب بإيقاع طلاق الثلاث على من لفظه به في مرة واحدة، قال: لأن الناس استعجلوا أمرًا كان لهم فيه أناة، وذلك لما رأى من استرسالهم في ذلك، ولكن هذا بعد الزمن النبوي وإلّا ففي زمنه -عليه السلام، وزمن أبي بكر، وثلاث سنين من خلافة عمر, كان الحكم بواحدة فقط، هكذا في أعلام الموقعين2. والحديث بذلك في الصحيحين لكن خالفه روايه ابن عباس, فقد روى عنه جلة أصحابة لزوم الثلاث، وأيضًا روى في المدونة عن أشهب عن القاسم بن عبد الله أن يحيى بن سعيد حدَّثه أن ابن شهاب حدَّثه أن ابن المسيب حدَّثه أن رجلًا من أسلم طلَّق امرأته على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثلاث تطليقات، فقال له بعض أصحابه، إن لك عليها رجعة فانطلبت امرأته حتى وقفت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالت: إن زوجي طلقني ثلاث تطلقيات في كلمة واحدة، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "قد بنت منه ولا ميراث بينكما" , ونقل في المدونة بسند فيه ابن لهيعة عن ابن عمر وابن عباس أنهما أفتيا بذلك فانظره، وأثر ابن المسيب مرسل، ولكن مراسيله كلها صحاح مقبولة عند الكل. 6- ومن ذلك تأبيده الحرمة على من تزوج امرأة في عدتها ودخل به زجرًا لأمثاله أن لا يفعلوا, ومعاملة له بنقيض قصده, وخالفه عليٌّ فكان لا يحكم بالتأبيد. 7- ومن ذلك ما روي عن مالك من ضرب المتهم بالسرقة حتى يقر، لكن إن ثبت بينة وقوع سرقة منه من قبل، وأما المجهول الحال أو المعلوم الصلاح فلا تقبل عليه دعوى السرقة, بل يؤدَّب من ادعاها على صالح كما في المختصر، وكذا   1 في البخاري في الجهاد "4/ 75"، عن أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم: قال: "إن النار لا يعذب بها إلا الله ... الحديث" وفيه عن ابن عباس أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تعذبوا بعذاب الله". 2 "3/ 30". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 على مجهول الحال، قالوا: إن لم يضرب عسر إظهار السرقات، لكن عارضت هذه المصلحة مصلحة المضروب؛ إذ ربما يكون بريئًا, وترك عقوبة مذنب خير من ظلم بريء, وما جعل الشرع اليمين إلّا لئلَّا تضيع المصلحة الأولى كليًّا, فقد يستخرج به المسروق, أمَّا إذا عارضها نصٌّ فتلغى عن مالك وغيره، ولذلك انتقد المالكية على يحيى بن يحيى الأندلسي1 لما أفتى الأمير عبد الرحمن الأموي حين وطء في نهار رمضان بتعين شهرين متتابعين, فقيل له: قد ضيَّقت عليه, هلَّا أفتيته بالعتق, فقال: إنه أمير يهون عليه العتق فيفطر كل يوم ويعتق. بأنها فتوى شاذة لأخذه بالمصلحة في مقابلة النص وذلك لا يجوز؛ لأنه يؤدي إلى تغيير حدود الشريعة بتغير الأحوال, فتنحل رابطة الدين وتنفصم العرى، وفي معناه من أفتى أميرًا مترفهًا سافر من المجاورة للبحر في سفينة أمينة بعدم قصر الصلاة لعدم المشقة، وليس بصحيح؛ لأن الشرع علَّق القصر على السفر, فيكفي أنه مظنة المشقة وهي غير منضبطة، ومثل ذلك السفر في السكة الحديدية والسيارة والمناطيد الجوية, فيسنُّ القصر في مسافته ولو قطعها في جزء يوم وأدركته الصلاة وهو في السفر، فلا يظن بالملكية أنهم يأخذون بالمصالح المعارضة بالنص، نعم إذا عارضتها مصلحة أخرى يجتهدون في تقديم ما يظهر لهم أنها أقوى كضرب المتهم كما سبق. مسألة إرهاب المنكر حتى يقر: في نيل الابتهاج في ترجمة حسن بن علي المسيلي قاضي بجاية إنه استناب حفيده فيها لمرضه, وكان له نبل فتحاكمت عنده أمرأتان, ادَّعت إحداهما على الأخرى أنها أعارتها حليًّا, وأنكرت الأخرى, فشدد على المنكرة وأوهمها حتى اعترفت، فلما حكى له حفيدة القصة فرحًا بما توصّل إليه من الحق، أنكر عليه أشد نكير وقال: إنما النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "البينة على المدعي, واليمين على من أنكر" 2، وأشهد بتأخيره.   1 هو يحيى بن يحيى بن بكير بن وسيلاس الليثي، أخذ عن مالك، وقدم الأندلس, وانتهت إليه الفتوى بها، وكان الأمير عبد الرحمن بن الحكم يبجله ويستشيره، وانظر القصة المشار إليها في ترجمته في "ترتيب المدراك للقاضي عياض" "2/ 534". 2 هذا اللفظ رواه البيهقي في السنن، وقال النووي أنه حسن "كشف الخفا" "1/ 342"، = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 قال الشيخ بابا1: وهذا من ورعه ووقوفه مع ظاهر الشرع, وعلى هذا يجب أن يكون العمل, وهو مذهب مالك, وظاهر مذهب الشافعي تجويز مثل هذا, فإنه يرى أن القصد إنما هو الوصول إلى حقيقة الأمر بأي شيء وصل إليه حصل المقصود, ولهذا يجيزون قضاء الحكام بعلمهم، والحق خلاف لحديث: "فإنما أقضي على نحو ما أسمع"2 وساق قصة أخرى من هذا النمط وقعت لحاكم في الإسنكدرية فانظرها. قلت: إن مسألة المسيلي في إرهاب المنكر يشهد لها قضية الجارة التي رضّ يهودي رأسها بحجر, وسألها النبي -صلى الله عليه وسلم- عمَّن فعل بها ذلك, فأشارت إليه وهي في الصحيح3, وفي بعض الرويات فبقي به حتى أقرَّ وأُقيم عليه القصاص, فلا خروج عن ظواهر النصوص في ذلك. ثم إن مسألة حكم الحاكم بعلمه ليست مخصوصة بالشافعية بل الحنفية كذلك عندهم، ومن قال بذلك يلزمه القول بالمصالح, ولا إشكال كما قال أحمد بابا المذكور. وقال الغزالي في المستصفى بعد أن مال إلى القول بالمصالح المرسلة في كثيرة من فروعها: إنها راجعة إلى حفظ مقاصد الشرع التي تعرف بالكتاب أو السنة أو الإجماع، فكل مصلحة لا ترجع إلى ذلك وكانت من المصالح الغريبة التي لا تلائم تصرفات الشرع فهي باطلة, ومن صار إليها فقد شرع. قال: وإذا فسَّرناها بالمحافظة على مقصد الشرع فلا وجه للخلاف في اتباعها، بل يجب القطع بكونها حجة، وحيث ذكرنا خلافًا فذلك عند تعارض مصلحتين, وعند ذلك   = وله أصل في الصحيح, فقد أخرج البخاري في الرهن "3/ 187" عن ابن عباس -رضي الله عنما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قضى أن اليمين على المدَّعَى عليه، وأخرجه مسلم في الأقضية "5/ 128", وأخرج الترمذي من طرق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: "البينة على المدعي, واليمين على المدَّعى عليه"، وقال: هذا حديث في إسناده مقال "5/ 617". 1 أحمد بابا بن أحمد التكروري التنبكتي، مؤرخ من أهل تنكبت في أفريقية الغربية، من مصنفاته "نيل الابتهاج بتطريز الديباج" في تراجم المالكية، ت. سنة 1036 هـ "الأعلام" "1/ 98", وترجم له المؤلف في القسم الرابع. 2 متفق عليه: البخاري في الحيل "8/ 32"، ومسلم في الأقضية "5/ 128". 3 متفق عليه: البخاري في الديات "9/ 5"، ومسلم في القسامة "5/ 103". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 يجب ترجيح الأقوى. واعلم أن المصالح المرسلة عند المالكية من جملة المخصصات، فقد قال مالك في المرأة إذا كان شريفة القدر: لا يلزمها إرضاع ولدها إن قبل ثدي غيرها, لمصلحة المحافظة على جمالها جريًا على عادة العرب في ذلك. وخصَّ بذلك عموم القرآن، صرح بذلك ابن العربي في الأحكام، ثم إني لم أقف على وقوع فتوى في العصر النبوي بالمصالح المرسلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 سد الذرائع : وهي النوع الخامس من الاستدلال، الذرائع الوسائل والطرق إلى الشيء، نهى الشارع عنه, وهي في الأصل مباحة, لكن من حيث إفضاؤها إلى المنهي تزول إباحتها, فسدّها ومنعها من أصول الفقه عند المالكية، ونازعهم غيرهم في كونها أصلًا, مع أنه لا يخلو مذهب من بناء فروع عليها, وهي كما قال القرطبي أقسام: الأول: أن يفضي إلى الوقوع في المحرم قطعًا، وهذا لا خلاف في وجوب تجنبه، وإن كان في الأصل حلالًا إذ لا خلاص من الحرام إلّا باجتنابه, ففعله حرام من باب ما لا يتم الواجب إلّا به فهو واجب. الثاني: أن يفضي إليه غالبًا. الثالث: أن يتساوى الأمران: وفي هذه وقع اختلاف الفقهاء، قال القرافي1: من الذرائع ما يجب سده بإجماعٍ كحفر الآبار في طرق المسلمين، وسب الأصنام عند من يعلم من حاله أنه يسب الله تعالى، ومنها ما هو ملغي بإجماع كزراعة العنب فإنها لا تمنع خشية الخمر وإن كانت وسيلة إلى المحرم، ومنها ما هو مختلف فيه كبيوع الآجال، فالمالكية لا يغتفرون الذريعة فيها وخالفهم غيرهم2. لنا أدلة: قال تعالى: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} الآية3. وقال: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ} الآية4, وقال   1 سبقت ترجمته. 2 البقرة "2/ 32". ط دار إحياء الكتب العربية بمصر 1345هـ. 3 النور: 31. 4 البقرة: 65. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 تعالى: {وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَأُوهُمْ} الآية1، وقال -عليه السلام- كما في الصحيح: "الراعي حول الحمى يوشك أن يقع فيه" 2, وقال -عليه السلام: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" 3، ومن أقوى الأدلة على سدها تحريق عثمان المصاحف, وجمع الناس على حرف واحد مع أن الله وسَّع عليهم بسبعة أحرف لئلَّا يختلفوا في القرآن, وانعقد الإجماع على فعله4، وإذا أردت بسط المقام فانظر المجلد الثالث عدد120 من أعلم الموقعين, ففيه تسعة وتسعون دليلًا5. هل وقع سد الذرائع في الزمن النبوي: يمكن أن يكون هو ملحظ الصحابة الذين أبوا من أكل الغنم التي أخذها أبو سعيد جعلًا على رقية سيد الحي6, مع دليل البراءة الأصلية, وأن الأصل في العقود هو الصحة, حتى أجاز ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم, والذين أبوا من أكل ما صاده أبو قتادة وهو حلال حتى أباحه لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم7 إذ كان معهم دليل الجواز, وهو مفهوم قوله تعالى: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} 8, لكن إذا فهموا قوله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} 9 على الاصطياد الذي هو المصدر لا الصيد, وإلا كان عموم منطوقه مقدَّمًا على مفهوم الآية الأولى, وعلى مفهوم الموافقة في قوله: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} 10.   1 الفتح: 25. 2 رواه الجماعة: البخاري في الإيمان "1/ 21"، ومسلم واللفظ له أنه قال: " .... يرتع فيه" في المساقاة "5/ 51"، وأبو داود في البيوع "3/ 243"، الترمذي "3/ 502"، والنسائي "7/ 213"، وابن ماجة "2/ 1318". 3 أخرجه الترمذي عن الحسن بن علي -رضي الله عنهما- قال: حفظت من رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك, فإن الصدق طمأنينة, وإن الكذب ريبة" قال الترمذي: حسن صحيح "4/ 668". 4 تقدم التعليق عليه. 5 "3/ 135-159". 6 سبق تخريجه ص "71". 7 رواه الجماعة: البخاري "3/ 14"، ومسلم "4/ 14"، وأبو داود "2/ 171"، والترمذي "3/ 196"، والنسائي "4/ 145"، وابن ماجة "2/ 1023". 8 المائدة: 95. 9 المائدة: 96. 10 المائدة: 2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 قول الصحابي: اعلم أن بعض الأصوليين عدَّه من جملة الأصول؛ حيث رأى مالكًا وابن حنبل جعلاه أصلًا من أصول مذهبيهما, وفي الحقيقة إنه لو كان أصلًا لهما, فليس من أصول الشرع العامة, ولا أصلًا بنفسه زائدًا على الأصول السابقة؛ لأن قول الصحابي لا بُدَّ أن يستند إلى نص أو قياس أو غيرهما مما سبق لذلك لا حاجة لعدة منها، وهو أيضًا في زمنه -عليه السلام- ليس بأصل؛ لأنهم كانوا يعرضون غالبًا اجتهادهم فيقره، فالحجة في إقراره, وإقراره سنة كما سبق، ويأتي لنا ما وقع من الخلاف من الاحتجاج بقول الصحابي, وذلك عند التكلم على أصول مذهب مالك, وقد تركنا أصولًا أخرى زادها بعض الأصوليين, وذلك لشدة ضعف القول بها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 البراءة الأصلية والاستدلال بها في العصر النبوي : اختلفوا هل الأفعال قبل ورود الشرع على الإباحة، وقال بعضهم على الحظر، وقال بعضهم على الوقف، وقد أبطل في المستصفى الأقوال الثلاثة كلها؛ أمَّا الإباحة والمنع فلأنهما تقتضيان مبيحًا ومانعًا، والفرض لا شرع يبيح أو يمنع إلا من يقول بالتحسين والتقبيح العقليين, ومثل ذلك التوقف في الأمرين معًا, والتحقيق أن المراد أنه لا حرج في الفعل أو الترك, ولذلك عبَّرنا بالبراءة التي لا إيهام فيها، ويمثل لوقوع هذا في الزمن النبوي بفتوى أبي عبيدة بن الجراح بأكل لحم حوت العنبر الذي لفظه البحر من غير ذكاة في سرية الخبط, فأكل هو وأصحابه, فلما رجعوا وأخبروا النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "هل معكم شيء" وأجاز فتواه, وأكل منه كما في أبي داود في كتاب الأطعمة1، وفي بعض طرق الصحيح أيضًا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أكل منه كما في فتح الباري في كتاب الذبائح, لكن رواية أبي الزبير عن جابر في مسلم, أن أبا عبيدة قال لهم: ميتة, ثم قال: لا بل نحن رسل رسول الله -صلى الله عليه وسلم, وفي سبيل الله, وقد اضطررتم فكلوا. فحاصل فتوى أبي عبيدة أنه بناه أولًا على عموم تحريم الميتة تمسكًا بقوله تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً} الآية2، وهي مكية بلا خلاف، ثم ذكر تخصيص المضطر بإباحة أكلها إذا كان غير باغٍ ولا عادٍ, والشرط متحقق؛ لأنهم رسل رسول الله، لكن تبيَّن لهم لمَّا قدموا على رسول الله، وقال هل معكم شيء، وأكل منه وهو غير مضطر, أن ميتة البحر حلال للمضطر وغيره, وأنها في حكم المذكى, وقال بعض أئمتنا: إنهم أقاموا يأكلون منه أيامًا, فلو كانوا أكلوا منه على أنه ميتة اضطرارًا ما داموا عليه, إذ يمكن انتقالهم لطلب المباح من   1 متفق عليه: البخاري في الصيد "7/ 116", ومسلم "6/ 61". 2 الأنعام: 145. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 غيرها, والظاهر أنهم فعلوا مضطرين أولًا، ثم تبيَّن لهم أنها ليست من الميتة المنهي عنها التي هي ميتة البر. فتمسَّكوا في آخر الأمر بالبراءة الأصلية, فصحَّ التمثل به لما نحن بصدده. ويمكن أن يخرج على أصل البراءة أيضًا أخذ أبي سعيد الخدري الجعل على الرقية1، وأكل بعض ما كان محرمًا صيد أبي قتادة2 حيث صاده وهو حلال, ويمكن أنهم أخذوا بمفهوم المخالفة في قوله تعالى: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} 3، ومفهوم في قوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} 4. وهذه الأصول من قياسٍ واستدلالٍ وفروعه مبنيّة على أن لله في كل مسألة حكمًا، وأن نصوص الشريعة لم توف بتلك الأحكام، فاحتجنا إلى القياس وما بعده، ويأتي مزيد كلام على هاتين المسألتين في ترجمة داود الظاهري إن شاء الله.   1 سبق تخريجه "ص71". 2 سبق تخريجه "ص102". 3 المائدة: 95. 4 المائدة: 2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 أصول أخرى عامة غير ما تقدَّم بني الفقه عليها: 1- اليقين لا يُرفع بالشك، كمن تيقَّن الزوجية وشكَّ هل طلَّق أم لا, فلا طلاق عليه، وهذا الأصل ذكره القاضي الحسين1, وهو في الحقيقة راجع إلى الاستصحاب, وتقدَّم لنا ما فيه من الخلاف. قال المالكية: إن من تيقن الطهارة وشك في الحدث يجب عليه الوضوء, وعدو الشك من النواقض، وخالفهم غيرهم تمسكًا بالأصل المذكور وهو أقوى. 2- الضرر يُزال، كوجوب ردّ المغصوب وضمانه بالتلف. 3- المشقة تجلب التيسير, ومن مسائله جواز القصر والجمع والفطر في السفر. 4- العادة حاكمة والشرع حكمها، كأقل الحيض وأكثره. وزاد بعضهم خامسًا وهو: أن الأمور بمقاصدها، أي: لا تحصل إلا بقصدها؛ كالطهارة لا تحصل إلا بنية، ومنهم من ردَّ هذا إلى ما قبله، فإن العادة تقتضي أن الغسل الذي تقارنه نية لا يسمَّى غسلًا ولا قربة، وإذا دققنا النظر وجدنا هذه الأصول الخمسة كلها راجعة إلى جلب المصالح، فتكون مندرجة في المصالح المرسلة، فلا زيادة على الأصول السابقة.   1 هو أبو علي الحسين بن محمد المروزي, ويقال أيضًا المروذي, من فقهاء الشافعية. "تهذيب الأسماء واللغات للنووي "1/ 164"، ترجم له المؤلف في القسم الرابع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 تاريخ تشريع بعض الأحكام المنصوصة مدخل ... تاريخ تشريع بعض الأحكام المنصوصة: سلف لنا ان تشريع الأحكام الفرعية إنما تتابع بعد الهجرة, وأن ما كان قبلها قليل، كتحريم وأد البنات الذي كان شائعًا في العرب، وتحليل الطيبات التي حرَّموها على أنفسهم افتراءً على الله، قال تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} الآية1، وقال تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 2، وقال تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا} 3 الآية، وقال: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} 4 الآية. فهذه الآي كلها نزلت قبل الهجرة ولم أعرف سنين نزولها على التحقيق، وهناك آي أخرى في الأحكام قليلة نزلت قبلها أيضًا، ولنذكر ما حضر مما وقفت على تعيين تاريخ نزوله, مرتَّبًا على السنين كما هو وظيف المؤرخ، مقتصرًا على المشهور أو المرجَّح غالبًا.   1المائدة: 103. 2 الأنعام: 145. 3 الأنعام: 151. 4 الأنعام: 121. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 الصلاة : كان -صلى الله عليه وسلم- لأول المبعث يصلي1 ركعتين بالغداة وركعتين بالمساء، وفي حديث سماع الجن القرآن: أنهم سمعوه يقرأ في بطن نخلة وهو يصلي ليلًا، ويظهر أنها صلاة التهجد, وكان ذلك سنة إحدى عشرة من المبعث عند كثير من أهل السير، فذهب الحربي1 إلى أن الصلاة كانت مفروضة ركعتين بالغداة وركعتين بالعشي، وذكر الشافعي عن بعض أهل العلم أن صلاة الليل كانت مفروضة ثم نسخت بقوله تعالى: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} 2 فصار الفرض قيام بعض الليل، ثم نسخ ذلك بالصلوات الخمس، وذهب جماعة إلى أنه لم يكن قبل الإسراء صلاة مفروضة إلّا ما كان وقع الأمر من صلاة الليل من غير تحديد. السجود لقراءة القرآن: كان أيضًا مشروعًا قبل الهجرة كما تدلّ له قصة الغرانيق وإن تكلم فيها مَنْ تكلم، لكن المرجَّح أن لها أصلًا في الجملة وإن لم تثبت بعض تفاصيلها, ولعل ما تقدَّم كله تدريب، وتدريج إلى إيجاب الصلوات الخمس، فتكون الصلاة من الأحكام التي نزلت تدريجًا, وقد قالت عائشة: إن الصلوات الخمس فرضت ركعتين ثم زيد في صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر3, وإن خالفهما ابن عباس.   1 قال المؤلف -رحمه الله: على هاتين الصلاتين يحمل كثير من الآيات المكية التي ورد فيها ذكر الصلاة كآية: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} الآية، على أنه يحتمل أنها نزلت بعد فرض الصلاة قبل الهجرة, لما رواه الواحدي عن عليّ بن الحسين: آخر آية نزلت بمكة المؤمنون، أما قوله تعالى: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا} فهي محمولة على القراءة أو الدعاء كما في البخاري، وقد نزلت والنبي -صلى الله عليه وسلم- مختفٍ بدار الأرقم. 1 إبراهيم بن إسحاق بن بشير عبد الله البغدادي أبو إسحاق الحربي، وتوفي ببغداد، من أكابر المحدثين، ت سنة 285 هـ، "تذكرة الحفاظ" "2/ 147". 2 المزمل: 20. 3 متفق عليه: البخاري في الجمعة "2/ 55"، ومسلم في صلاة المسافرين "2/ 142, وأخرج مسلم عن ابن عباس: فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربًعا وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة "2/ 143". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 فرض الصلوات الخمس: اتفقوا على أنه كان ليلة الإسراء, والأصح فيه أنه كان قبل الهجرة بسنة، وحكى ابن حزم الإجماع عليه، فرضت أولًا خمسين ثم خفِّفَت فصارت خمسًا, كما تجده في حديث الإسراء، وأما قول الأصوليين: إن النَّسخ لا يقع قبل التبليغ للأمة, فحديث الإسراء يردّه, وفي الحكم العطائية: علم ضعفك فقلل أعدادها، وعلم احتياجك فكثر أمدادها. واعلم أن أحسن رابطة جمعت المسلمين وألَّفت قلوبهم ووحدت وجهتهم هي الصلاة، بسبب ما سُنَّ فيها من الاجتماع اليومي خمس مرات، ثم الأسبوعي يوم الجمعة، ثم مرتين في السنة للعيدين، وهو أكبر من الأسبوعي الذي هو أكبر من اليومي، إذ يأتي فيه كل مَنْ كان قريبًا من البلد، ثم الاجتماع الأكبر في عرفة ومنى ومزدلفة, الذي يجمع أطراف العالم الإسلامي, فبهذه الاجتماعات أمكن للرسول تهذيبهم وبث الخير والقرآن في قلوبهم, وزالت كل نفرة كانت ساكنة بها، وترقية أفكارهم, وجمعهم لنهضة واحدة كرجل واحد إذ كانوا بها يتعارفون، حتى صاروا كأبناء عائلة واحدة يحس كل واحد منهم بما أحسَّ به الآخر، وكل واحد منهم كان يتفقَّد أحوال بقية إخوانه ويعلم ما عندهم، مع تمرينهم على مبادئ الدين، ولولا الصلاة ما اضمحلَّت منهم بقايا الوثنية التي كانت أفسدت أفكارهم، هذا زيادة عمَّا في الصلاة من الشكر لله على نعمه، والتذلل بين يديه, ومناجاته كل يوم خمس مرات، واستحضار اليو الآخر وأهواله، والسؤال عن النقير والقطمير بين يدي الله، كل يوم سبعًا وعشرين مرة في قراءة الفاتحة، ومن كان يعمل هذا لا شك أنه ينزجر عن المآثر، كالجور والزور، وكل الفجور، فبالصلاة تربَّت فيهم الملكات النفسانية الطيبة, وتهذبت أحوالهم، وإليه يشير قوله تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} 1, فهذا من أوجه اعتناء القرآنت بأمرها، وتنويع الوصيات والأوامر في شأنها، حتى كانت أول مشروع وآكده.   العنكبوت: 45. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 وقوت الصلاة: جاء جبريل في اليوم الموالي ليلة الإسراء, فصلى بالنبي -صلى الله عليه وسلم- صلاة الظهر في أول وقتها، ثم جاء فصلى صلاة العصر, كذلك إلى آخر الصلوات، ثم جاء في اليوم الثاني فصلى به الظهر في آخر وقتها المختار، ثم بقية الصلوات، وقال له: ما بينهما وقت، والحديث في الصحيح1, فبيان وقتها كان مقارنًا لفرضيتها، وأوقاتها مجملة في القرآن, قال تعالى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ، وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} 2. الغسل والوضوء وإزالة النجاسة: نقل ابن عبد البر3 اتفاق أهل السير على أن غُسْلَ الجنابة فُرِضَ على النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو بمكة لما فرضت الصلاة. قلت: ويقوي ذلك الآية الكريمة: {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} 4 وقصة إسلام عمر إذ منعته أخته من مسِّ الصحيفة إلّا بعد أن اغتسل، رواه أبو نعيم5، وابن أبي شيبة6 في تاريخه، واستدلَّ بها ابن العربي من بقايا شريعة إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام.   1 هذا اللفظ حديث ابن عباس عن الترمذي "1/ 278"، وأخرج مثله عن جابر بن عبد الله، وأصله في الصحيحين من حديث ابن مسعود, أخرجه البخاري في الصلاة في باب المواقيت "1/ 131"، ومسلم في المساجد "2/ 103". 2 الروم: 17. 3 يوسف بن عمر بن عبد البر النمري الإمام الحافظ، ت سنة 463، انظر ترجمته في أوائل القسم الرابع. 4 الواقعة: 79. 5 أحمد بن عبد الله بن أحمد الأصبهاني، ت سنة 430هـ، انظر ترجمته في مشاهير الشافعية في القسم الرابع. 6 عبد الله بن محمد بن أبي شيبة أبو بكر، صاحب المصنف والمسند، ت سنة 235هـ، ترجم له المؤلف في أوائل القسم الثالث بإيجاز، انظر "تاريخ بغداد" "10/ 66"، "تذكرة الحفاظ" "2/ 18". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 وأما الوضوء فقال ابن عبد البر: إنه -عليه السلام- ما صلى قط إلّا بوضوء. قال: وهذا مما لا يجهله عالم, وجزم ابن حزم بأن الوضوء لم يشرَّع إلا بالمدينة؛ لأن قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} 1 آية مدنية بلا إشكال لذكر اليتيم فيها، ويأتي نزوله، وردَّ عليه ببعض أحاديث ذكِرَ فيها الضوء قبل الهجرة, انظرها في الباري, وجزم ابن الجهم المالكي بأن الوضوء قبل الهجرة قد كان, ولكنه مندوب فقط، وهذا كالجمع بين القولين. وأما إزالة النجاسة عن ثوب مصلٍّ وبدنه ومكانه, فيظهر أنه كان واجبًا قبل الهجرة، وأصله قوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} 3 وهي مكية, ففي مسلم عن يحيى بن سعيد, سألت أبا سلمة أيّ القرآن قبل؟ قال: {يا أيها المدثرُ} , ونحوه في الصحيحين عن جابر4، وبدليل أنه -عليه السلام- وضع عليه المستهزئون سلا جزور وهو يصلي بالمسجد الحرام فبقي بمكانه حتى جاءت فاطمة وأزالته عنه5، وذلك مما يدل على أن وجوب إزالة النجاسة كان من أول ما شرع من أحكام الفقه. صلاة الجمعة: فرض الاجتماع لصلاة الجمعة قبل الهجرة, وذلك أن المسلمين لما ضيَّق بهم كفار قريش بمكة, وقيَّضَ الله الأنصار لإحراز فضيلة بيعتي العقبة، أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه بالهجرة تباعًا، فكان أول من هاجر مصعب بن عمير ليعلِّم الأنصار القرآن والدين، وبعد وصوله استأذن نبي الله -عليه السلام- في صلاة الجمعة فآذنه   1 المائدة: 6. 2 فتح الباري "1/ 233" ط. السلفية. 3 المدثر: 4. 4 البخاري في تفسير سورة المدثر "6/ 200"، ومسلم في الإيمن "1/ 99". 5 متفق عليه: البخاري في الصلاة "1/ 131"، وفي الجزية "4/ 127"، وفي غيرهما في الأبواب، ومسلم في الجهاد "5/ 179". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 وأقامها في المدينة المنورة قبل هجرة النبي -عليه السلام- إليهما1، وعليه فلا غرابة في قول أبي حامد2: إنها فرضت بمكة خلافًا للحافظ3، أما قوله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} 4 فهي مدنية، نزلت بعد فرضيتها بكثير للتنصيص على ترك البيع وقتها، ولتأكيد ما أثبتته السنة بالقرآن, وتسمية اليوم جمعة قيل إسلامية، وقيل سمَّه بها كعب بن لؤي في الجاهلية. الخطبة: في السنة الأولى من الهجرة بعد وصوله -عليه السلام- خطب أول خطبة كانت في الإسلام، تجد نصها عند مؤرخي السير، قيل في المسجد النبوي لأول بنائه وقيل بقباء، ومن ذلك الحين شرعت الخطب في الإسلام. الأذان: في السنة الأولى أيضًا شرع الأذان للصلوات الخمس، وذلك أنهم كانوا يتحيَّنون وقت الصلاة فيجتمعون، فلما كثروا شاور النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه فيما يتخذ للإعلام بدخول الوقت، إذ الوقت أنفس ما يحافظ عليه، فأشار بعضهم باتخاذ الناقوس كالنصارى، وبعضهم بالبوق كاليهود، وبعضهم بإيقاد النار، فلم يرتض شيئًا من ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فرأى عبد الله بن زيد بن عبد ربه الخزرجي، رجلًا في المنام دله على الأذان والإقامة، فقصَّ رؤياه على رسول الله, فقال: "هذا رؤيا حق" , فأمر بلالًا أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة، ورأى عمر مثل رؤيا عبد الله أيضًا"5.   1 روي عن كعب بن مالك -رضي الله عنه, أن أوَّل من جمع بهم أسعد بن زرارة. أخرجه أبو داود "1/ 280"، وابن ماجة "1/ 344"، وابن حبان والبيهقي وصحَّحه، وقال الحافظ ابن حجر: إسناده حسن, وقد جمع بينه وبين ما أخرج الطبراني عن أبي مسعود الإنصاري, أن أول من جمع بالمدينة مصعب بن عمير بأن أسعد كان أميرًا ومصعبًا كان إمامًا. "انظر نيل الأوطار" "3/ 230". 2 هو أحمد محمد الإسفراييني، ترجم له المؤلف في القسم الثالث بإيجاز. "انظر تهذيب الأسماء واللغات للنووي" "2/ 208". 3 إذا أطلق الحافظ" أراد به ابن حجر صاحب الفتح. 4 الجمعة: 9. 5 أخرجه أبو داود "1/ 135"، والترمذي وقال: حسن صحيح "1/ 359"، وابن ماجة "1/ 232". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 النكاح : في السنة الأولى أيضًا شرعت أحكام من النكاح كالصداق والوليمة؛ إذ قال -عليه السلام- لعبد الرحمن بن عوف لمَّا تزوج: "كم سقت لها؟ " قال: نواة من ذهب، فقال له: "أولم ولو بشاة" كما في الصحيح1، وهذه القصة كانت لأول الهجرة, ففيها الصداق والسؤال عن قدره، وأخذوا من قدر النواة: أنه ربع دينار على نزاع في ذلك، قال تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَة} 2، وفي الحديث مشروعية الوليمة. وقد حدَّد الله عدد الزوجات بقوله: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} 3 فمنعهم مما كانوا عليه من الزيادة على أربع، ونزلت أحكام أخرى تتعلق بالنكاح والطلاق ونزاع الزوجين, وغير ذلك في أوقات مختلفة يطول استقصاؤها، وكل ذلك تنظيم للعيش وتكوين للعائلات، وتأسيس لها على المبادئ الإسلامية، وقد أقرت الشريعة الإسلامية عقود الأنكحة التي كانت قبل الإسلام ولم تأمر بفسخها ولا بإعادة النظر في تطبيقها على ما جددته شريعة الإسلام من الشروط, وأثبتت به الأنساب، نعم نزل بعد هذا: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ} 4.   1 متفق عليه: البخاري "7/ 27"، ومسلم "4/ 144". 2 النساء: 4. 3 النساء: 3. 4 الممتحنة: 10. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 القتال : في السنة الأولى أيضًا شرع القتال. 1- لحماية الدعوة الإسلامية. 2- والدفاع عن أنفسهم. 3- واستنقاذ من بقي بمكة تحت طائلة العذاب. وذلك أن الكفار أخرجوا المسلمين من أرض الحرم من ديارهم وأموالهم واستولوا عليها وعلى أولادهم، فصار المهاجرون فقراء كما وصفوا في القرآن، مجرَّدين عن الأصل والولد، ولم يكتفوا بهذا, بل ضيقوا بمن بقي مسلمًا بمكة من الرجال المستضعفين والأولاد والنساء بأشد المكر. 4- وزادوا فهجوا المسلمين والرسول بأقبح الهجو ليهجوا جميع العرب ضدهم. 5- ومنعوا انتشار مبادئ الإسلام. 6- مانعين لهم من حرية القول. 7- وحرية الفكر. وهذا أقصى ما يتصور من الظلم والتضييق, وأحق ما يقاتل عليه في أنظار العالم كله، ولا يقعد عن دفع صائل كذها إلا عاجز لا ثقة له بنفسه ولا بربه الذي وعد بنصر المظلوم, ولما هيَّأ الله لرسوله عددًا ممن أسلم مختارًا حبًّا في مبادئ الدين الحنيف، وإيمانًا بمشاهدة المعجزات المتكاثرة، وتكرر من هؤلاء طلب الإذن في القتال المرة بعد المرة، إذن الله لهم في القتال بقوله: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} 1 وقوله: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ، الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} 2 وقال: {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا} 3. وكل هذه الآيات نزلت بالمدينة، وبهذا تعلمون يقينًا رد طعن من يقول: إن الإسلام إنما انتشر بالسيف وأنه شريعة الحرب، بل أصل نشره الدليل والبرهان   1 الحج: 39. 2 البقرة: 193، 194. 3 النساء: 75. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 وكمال مبادئه العالمية. فشرع -عليه السلام- في تهيئة الجيوش وبعث البعوث والسرايا، ثم غزا بنفسه الكريمة ثمانيًا وعشرين غزاة، أولها الأبواء في السنة الثانية، وآخرها تبوك في التاسعة، وقاتل بنفسه في ثمانية منها، وقد لخصتها بتواريخها وأماكنها ونتائجها في مؤلَّف مختصر، فلينظر، فإذا ضممتها إلى البعوث والسرايا التي هيأها ولم يحضرها بنفسه الكريمة البالغة نيفًا وسبعين بعثًا, التي أولها كان في السنة الأولى مع سيد الشهداء عمه حمزة1, وقيل غيره، فجميع جيوشه بلغت مائة جيش كما قال مغلطاوي2، كل ذلك في نحو تسع سنين، وما قبضه الله حتى دان جلّ جزيرة العرب بالإسلام شرقًا وغربًا وشمالًا وجنوبًا، وانتشرت الدعوة إلى أقاصي البلدان وراء أرض العرب، إلى نفس القياصرة والأكاسرة العظام، وما خرج من الدنيا حتى ترك الأمة العربية مهذبة قادرة على تبليغ الدين، مضطلعة به ماديًا وأدبيًّا، مهيئة لتهذيب غيرها من الأمم، ولقد فعلت، وإن ما تهيأ له في هذه المدة الوجيزة من تكوين الوحدة العربية بل الإسلامية مع مغازيه وبعوثه وجيوشه التي كونها من لا شيء ولا مادة، من أمة هي أبعد الأمم عن النظام والوحدة، كله معجزة ظاهرة. هذا في جهاده العدو الخارجي، أضف إلى ذلك جهاده العظيم في تعليم الأصحاب وتدريبهم وتهذيبهم وإقامة الحجج عليهم وتفهيمهم، وجهاده المنافقين واليهود المخالطين له في داخل المدينة، ثم المؤلفة قلوبهم من جفاة الأعراب، مع تلقي أسرار الرسالة، وتكميل الشرائع، ونزول القرآن وتدوينه، والمجاهدة بالعبادة الشاقة ليلًا ونهارًا، والقيام بالحقوق البشرية.   1 انظر الإصابة "2/ 122". 2 علاء الدين مغلطاي بن قليج بن عبد الله البكرجي المصري الحنفي، مؤرخ من حفاظ الحديث، له تصانيف كثيرة منها: شرح البخاري في عشرين مجلدًا، وشرح سنن ابن ماجة لم يكمله، والزهر الباسم في سيرة ابي القاسم, والإشارة في السيرة النبوية، ت سنة 762هـ "ترجمته بالدرر الكامنة" "5/ 122". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 تحريم التطفيف في الكيل والوزن : أخرج الواحدي1 من طريق الحسين بن واقد1، قال: سمعت علي بن الحسين يقول: أول سورة نزلت بالمدينة، ويل للمطففين، ولكن في فتح الباري اتفقوا على أن سورة البقرة أول سورة أنزلت بالمدينة، قال في الإتقان، وفي الإتقان نظر لقول علي بن الحسين المذكور3. وعن الواقدي4 أول ما نزل بها سورة القدر.   1 أبو الحسن علي بن أحمد بن علي بن متوية الواحدي النيسابوري ت سنة 468هـ "طبقات الشافعية للسبكي" "5/ 240". 2 الحسين بن واقد مولى عبد الله بن عامر بن كريز أبو عبد الله المروزي، وثَّقَه ابن معين، ت سنة 159، "خلاصة الخزرجي" 85. 3 انظر الإتقان "1/ 96، 91". 4 محمد بن عمر بن واقد السهمي الأسلمي مولاهم، أبو عبد الله الواقدي، من أشهر مؤرخي الإسلامي، ت سنة 207هـ "تاريخ بغداد" "3/ 3"، "تذكرة الحفاظ" "1/ 317". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 الصيام : في السنة الثانية شرع صوم عاشوراء وجوبًا وصاموه, ثم في السنة التي تليها نسخ بصوم رمضان؛ لأن هذا الشهر كان -عليه السلام- يتحنَّث فيها بغار حراء، وفيه نزلت عليه النبوءة والقرآن، فشرع لنا صيامه تذكارًا لذلك, وشكرًا على أعظم النعم علينا, وهناك أسرار أخرى ليس المحل لها، ففيه نزل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} الآية1، وقال: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} الآية2، وكانت العرب تعرف الصيام ويتحنَّث منهم البعض في رمضان، ولعل ذلك من بقايا شريعة إسماعيل وأبيه، فجاء الإسلام بما زاده وبينه من شرائعه, ومذهب الجمهور أن الذي كتب على الأمم قبلنا مطلق الصوم لا رمضان نفسه. قال الضحاك3: لم يزل الصوم معروفًا من زمن نوح عليه السلام.   1 البقرة: 183، 184. 2 البقرة: 185. 3 لعله الضحاك بن مزاحم البلخي المفسر، ت سنة 105هـ، انظر "الدر المنثور للسيوطي" "1/ 177". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 صلاة العيدين، زكاة الفطر، التضحية : في السنة الثانية أيضًا شرعت صلاة العيدين وصلاها بهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بالمصلى، وفي أبي داود والترمذي والنسائي، وابن حبان بإسناد صحيح عن أنس: قدم النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينة ولها يومان يلعبون فيهما, قال: " أبدلكم الله تعالى بهما خيرًا منهما يوم الفطر والأضحى" 1. في السنة الثانية أيضًا شرعت زكاة الفطر على الأبدان, وهي صاع من أغلب قوت البلد أو شعير أو غيرهما، يأخذه الفقير، ينبسط به ذلك اليوم ويستريح من العناء, ويشارك إخوانه في الاحتفال والفرح والشكر، قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى، وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} 2، قيل: هي زكاة الفطر، والمشهور أن هذه الآية مكية، وأن زكاة الفطر لم تجب إلّا في هذه السنة بالسنة. شرعت في السنة الثانية أيضًا, ففيها كان أول أضحى شهده المسلمون, خرج -عليه السلام- للمصلى فصلى ثم خطب ثم ضحى بكبشين أملحين أقرنين, فسمَّى وكبَّر ووضع رجله على صفاحهما، وقال: "اللهم هذا منك وإليك" فالأوّل ضحى به عن نفسه وعائلته الكريمة، والثاني عن أمته3، واقتدى به من له قدرة من المسلمين, وبقيت سنة لهم إلى يومنا هذا تذكارًا لما أنعم الله به على إبراهيم -عليه السلام- من فداء ابنه, وتشبهًا بالحجَّاج في هداياهم بمنى, وتشويقًا لذلك الجمع الأكبر, ولفتح مكة الذي كان سببًا لكل خير على الأمة. ثم إن تقريب القربان لله تعالى كان في جميع الأمم قبلنا، قال تعالى: {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ} 4, وإنما الذي شرع في هذه المسألة نسيكة مخصوصة في أيام النحر الثلاثة بعينها.   1 أبو داود "1/ 295"، والنسائي "3/ 146"، ولم أجده في الترمذي. 2 الأعلى: 14، 15. 3 ثبت في ذلك عدة أحاديث, منها حديث عائشة, وأخرجه مسلم وأبو داود وأحمد, وحديث أنس وأخرجه الجماعة, وحديث جابر وأخرجه أبو داود وابن ماجه. "انظر نيل الأوطار -أبواب الهدايا والضحايا" "5/ 121". 4 الحج: 67. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 الزكاة المالية : في السنة الثانية أيضًا قبل فرض رمضان, وما جزم به ابن الأثير من أنها في التاسعة، فلعل مراده بعث العمال لقبضها, فهو الذي تاخَّر إلى التاسعة، حين دان الناس بالإسلام, ووضعت الحرب أوزارها بعد الفتح، وذلك لأنها مذكورة في حديث ضمام بن ثعلبة في الصحيح1 بقوله: آلله أمرك أن تأخذ هذه الصدقة من أغنيائنا فتقسمها على فقرائنا؟، وقدوم ضمام كان سنة خمس، وفي ابن خزيمة والنسائي وابن ماجة والحاكم من حديث قيس بن سعد بن عبادة: أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بصدقة الفطر قبل أن تنزل الزكاة2, قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} 3. إن الزكاة هي التي تممت ربط الوحدة الإسلامية لعطفها على الطبقة السفلى من الناس, وهم الفقراء الذين هم الأغلب طبعًا, بمواساتهم وإزاحة عللهم, وهي الضمان الأكبر لحياتهم وأمن غائلتهم, وزيادة نشر الدعوة وتثبيت من لم يستقر الدين في قبله, وعتق أرقاء الحرب، وكانوا أكثرين أيضًا، والنفقة في الجهاد، كل ذلك ممتن للرابطة الإسلامية والوحدة القومية، قال تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ} 4. فهذا بيان الأصناف الثمانية الذين تدفع لهم الزكاة.   1 متفق عليه: البخاري "1/ 25"، ومسلم "1/ 32". 2 النسائي "5/ 36"، وابن ماجه "1/ 585"، والحاكم "1/ 410". 3 التبوة: 103. 4 التبوبة: 60. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 تحويل القبلة : في الثانية في رجب حولت القبلة التي كانوا يستقبلونها في صلاتهم وهي بيت المقدس, إلى الكعبة المشرفة بمكة, التي هي أول بيت وضع للناس, الذي أسسه إبراهيم وإسماعيل جد العرب {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} 1، وقال تعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ} 2, لذلك كانت قبل الإسلام مركز الوحدة العربية وصيَّرها الإسلام بهذا التوجه وحدة إسلامية, وفي ذلك تنويه وتشريف للعرب أيضًا, وتشويق لاستنقاذ مكة التي كانت تحت سيطرة الوثنيين, وتطهير كعبة الله التي أمروا أن يستقبلوها وهي مملوءة بثلاثمائة وستين صنمًا، وفي ذلك نزلت آيات منها قوله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} 3، لما كانوا بمكة كانوا يصلون لبيت المقدس جاعلين الكعبة بينهم وبينه, ولما انتقلوا للمدينة تمحضت جهة بيت المقدس؛ إذ لا يمكن بالمدينة استقبال الجهتين، فكان في ذلك تأليف لليهود باستقبال قبلتهم، لكن اليهود حصل اليأس من إيمانهم، ثم كان تحويل القبلة تدريجيًّا, فقد نزل قوله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} 4 ثم نسخ بالآية السابقة، وقد قصَّ الله اعتراض اليهود على تحويل القبلة وما أجابهم به, كما هو معلوم في نص القرآن. ومن الضروري البديهي أن الكعبة إنما هي جهة التوجيه بالقلب هو لله وحده، ولذلك لم يضر التوجه إليه مع ما كان فيها من الأصنام، ومن توجُّه للكعبة نفسها وعبدها فهو وثني كافر، ومن هذا المعنى تفهم معنى تقبيل الحجر الأسود الذي هو أثر خالد من آثار ما أنزل آدم معه من الجنة, فليس المراد بها طلب نفع ولا التماس خير, وإنما هو احترام لما احترمه الشرع، فالمسلم لا يلتجيء في جلب نفع أو دفع ضر إلّا لمولاه الذي خلقه وحده, وإلا لم يكن موحدًا.   1 البقرة: 127. 2 المائدة: 97. 3 البقرة: 144. 4 البقرة: 115. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 الغنائم وتخميسها، النفل، فداء الأسرى : في السنة الثانية أحل الله للمجاهدين غنائم الحرب, وأوجب عليهم أن يخمسوها إذ نزل قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} 1، فكان الخمس يخمَّس أخماسًا أيضًا, لكل صنف من الأصناف الخمسة خمسه، ونزول هذه الآية كان في غزوة بدر, إلّا أن من أهل السير مَنْ ذكر أن أول غنيمة خمِّست غنيمة سرية عقدت في الإسلام، وأن عبد الله خمَّسَها باجتهاد منه, ثم نزل القرآن بتصويبه, وسريته كانت في السنة الأولى. كانت العرب توزع الغنائم حسب القوة والعصبية, وللرؤساء معظمها من غير نظام, وإنما تنهبها نهبًا, وربما أفضت بهم إلى أن يذهبوا من حرب إلى حرب, فجاء الإسلام بأخذ الخمس لأهله, وقسَّمَة أربعة أخماس على المقاتلين سويةً لا فضل ولا استئثار, وحرَّم الغلول وجعله من أعظم الكبائر والجرائم. في غزوة بدر نزل أيضًا2: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} 3، والنَّفل ما يعطيه رئيس الجيش لمن ظهرت منه مزية حربية قبل قسمة الغنيمة من رأس المال، وقيل: من الخمس وهو مذهب الجمهور، وفي الآية أيضًا نزاع، روي عن ابن عباس حملها على هذا المعنى، ومذهب الجمهور أن المراد بالأنفال فيها هي الغنيمة كلها، ومعنى كونه لله ورسوله ظاهر، ثم الله بيَّن لهم قسمتها بقوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} 4 الآية، فلا نسخ. في السنة الثانية أيضًا في بدر، فعلوه باجتهاد، وبرأي جمهور الصحابة،   1 الأنفال: 41. 2 قال المؤلف -رحمه الله: بفتح الفاء. 3 الأنفال:1. 3 الأنفال:41. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 إلا عمر, فإنه كان أشار بقلتهم، فنزل القرآن بتصويب رأي عمر وإمضاء ما كان من الفداء مع العتاب عليه، قال تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} 1, ثم نزل قوله تعالى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} 2، ثم تتابع نزول أحكام الحرب وأوامره في هذه الغزاة, ثم في غزوة أحد في السنة بعدها، ثم في بني النضير وخيبر وغيرها.   1 الأنفال: 67. 2 محمد: 4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 الميراث : وفي السنة الثالثة بعد غزوة أحد نزلت آية فرائض الميراث، خلافًا لما نقله الطبري عن أبي زيد أن ذلك كان عام الفتح, لما روى أحمد وأصحاب السن وصحَّحه الحاكم عن جابر: جاءت امرأة سعد بن الربيع الأنصاري فقالت: يا رسول الله, هاتان ابنتا سعد بن الربيع, قتل أبوهما معك في أحد, وإن عمهما أخذ مالهما, قال: "يقضي الله في ذلك" , فنزلت آية الميراث, فأرسل إلى عمهما فقال: "أعط ابنتي سعد الثلثين, وأمهما الثمن، فما بقي فهو لك" 1. وآية الميراث في قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا، وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} 2. أما مسألة الكلالة المذكورة بعد هذه الآية، فتأخَّر نزولها كما يأتي, إذ هي   1 أخرجه أبو داود "3/ 121"، والترمذي "4/ 414"، وابن ماجة "2/ 908"، وأحمد "3/ 352". 2 النساء: 11، 12. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 آخر ما نزل على قول، هذا ما استقرّت عليه فريضة الإرث في الإسلام. أما قبل هذه السنة، ففي صحيح البخاري عن ابن عباس, كان المهاجرون لما قدموا المدينة يرث المهاجري الأنصاري دون ذوي رحمه, للأخوة التي آخى النبي -صلى الله عليه وسلم- بينهم، فلما نزلت: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} 1 نسخت، ثم قال: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} 2 من النصر والرفادة والنصيحة، وقد ذهب الميراث ويوصى له3. والآية التي كانت نزلت في ذلك هي قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} 4, فهذه الآية منسوخة كما سبق في مبحث النسخ, نسختها آية: {وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} 5. وروى البخاري عن ابن عباس أيضًا: كان المال للولد، وكانت الوصية للوالدين، فنسخ الله من ذلك ما أحب, وجعل للذكر مثل حظ الأنثيين, وجعل للوالدين لكل واحد منهما السدس والثلث، وجعل للمرأة الثمن والربع, وللزوج الشطر والربع6. واشار ابن عباس بقوله: كان المال للولد، إلا أن العرب في الجاهلية كانوا لا يورثون البنات, فنسخ ذلك القرآن، قال تعالى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} 7، ثم بيَّن المفروض بقوله: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} 8 إلى آخر الآية السابقة، وعنه أيضًا: كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته إن شاء بعضهم تزوجها, وإن شاءوا لم يزوجها, وهم أحق بها من أهلها, حتى نزل قوله تعالى: {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} الآية9.   1 النساء: 33. 2 النساء: 33. 3 البخاري في الفرائض "8/ 190". 4 الأنفال: 72. 5 الأنفال: 75. 6 البخاري في الفرائض "8/ 189". 7 النساء: 7. 8 النساء: 11. 9 النساء: 19، والحديث في البخاري في تفسير سورة النساء "6/ 55". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 مسألة الميراث من أهم المسائل عند سائر الملل, وبها تتكون العائلات وتتقرّب القرابة, وتتقرر الأرحام, وتعرف مراتب الأقارب ليكون بها الدفع والجلب والتعاون العائلي، نعم في صدر الإسلام إذ كانوا في غاية الضعف المادي والدعوة محتاجة لما يقوي انشارها، جعلت الأخوة الإسلامية الدينية مقدمة على أخوة النسب، فكان المهاجري يرث أخاه الأنصاري وبالعكس دون ذوي الرحم، ولما كثروا واستغنى عن ذلك، رجع ذلك للقرابة، وهم الأصول والفروع والأطراف والأزواج، على التفصيل المبيَّن في الآية السابقة، وما بقي كملته آية الكلالة الآتية، والسنة النبوية التي منها قوله -عليه السلام: "ألحقوا الفرائض بأهلها، فما أبقيت السهام فلأولى رجل ذكر" 1، ومنها حديث ابن مسعود: إن الأخت تعصب مع البنت، إلى غير ذلك2.   1 متفق عليه: البخاري "8/ 187"، ومسلم "5/ 59". 2 الجماعة إلا مسلمًا والنسائي, البخاري "8/ 188"، وأبو داود "3/ 120"، والترمذي "4/ 415"، وابن ماجه "2/ 909". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 الطلاق والرجعة والعدة : في السنة الثالثة أيضًا شرعت أحكامها, ونزلت سورة الطلاق: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} الآية1، سبب نزولها أنه -عليه السلام- طلَّق زوجه حفصة بنت عمر، فنزل جبريل -عليه السلام- فأمره برجعتها، وقال له: إنها صوَّامة قوامة2، وفيها نزلت سورة: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ، قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} 3 الآية.   1 الطلاق: 1. 2 حديث أنه طلق حفصة ثم راجعها, رواه أبو داود "2/ 285"، والنسائي "6/ 178"، وابن ماجه "1/ 650"، وأحمد "3/ 478"، وليس فيه أن ذلك كان سبب نزول أول الطلاق، وإن كان قد ذكره المفسرون. "انظر القرطبي" "18/ 148", ويفهم من كلام المصنف أن تطليقه -صلى الله عليه وسلم- لحفصة هو سبب نزول أول التحريم أيضًا، وهذا غريب يعارض ما في الصحيحين، البخاري في تفسير سورة التحريم "6/ 194"، ومسلم في الطلاق "4/ 184-194". 3 التحريم: 1، 2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 شرع الله الطلاق تخفيفًا عن الأزواج، إذ ربما لا يطيب العيش لعدم تطابق الأخلاق والعادات، وجعل العقد منبرمًا ليكون الفرق بين النكاح والسفاح، وجعله بيد الزوج؛ لأنه رجل الحرب والمكلف بالإنفاق، ولكن أوصاه بها خيرًا، وأوجب لها من الحقوق ما يكفل حرمتها، قال تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} 1، ثم جعل للزوج الرجعة لأمد معين, وفي عدد معين من التطليق، إذ لعلَّ قلبه يبقى معلقًا بزوجته، إذ نفس الرجل قد تكذب عليه وتقول له: إنك قادر على الفراق, فكان أحق بها ما لم تبن منه، وشرعت العدة لئلَّا يختلط مني الزوج الثاني بمنيّ الأول حفظًا للنسب، وجعل الله أقصى التطليق ثلاثًا للحر، واثنتين للعبد، فإن أكملها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجًا غيره، وللطلاق أحكام أخرى مذكورة في السورة المخصوصة باسمه، وفي البقرة أيضًا أحكام منه، ولذلك كثرت فيه الفروع الفقهية.   1 البقرة: 228. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 قصر الصلاة في السفر وصلاة الخوف : شرِعَا معًا في السنة الرابعة في غزوة ذات الرقاع، بقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا، وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} الآية1, هذا ما يستفاد من ابن الأثير في شرح المسند2، وجزم الدولابي3 بأن قصر صلاة السفر كان في ربيع الآخر من السنة الثانية، وقال السهيلي4: بعد الهجرة بعام أو نحوه، وأما من ذهب على أن قصر الصلاة هو الأصل فيقول: إن في هذه السنة زيد في صلاة الحضر فصارت أربعًا عدا صلاة الفجر لطول القراءة فيها, والمغرب لكونها وترًا للنهار, وأقرب صلاة السفر على ما كانت عليه5، وعليه فالصلاة مما فرض تدريجًا.   1 النساء: 100، 101. 2 أبو السعادات مجد الدين المبارك بن محمد بن محمد بن عبد الكريم الشيباني الجزري، من كتبه: جامع الأصول في أحاديث الرسول، والنهاية في غريب الحديث، والشافي في شرح مسند الشافعي، ت سنة 66هـ، "طبقات الشافعية للسبكي" "8/ 366"، وانظر ترجمته في القسم الرابع من الكتاب. 3 أبو بشر محمد بن أحمد بن حمّاد الدولابي، ت سنة 326، ترجم له المؤلف في القسم الثالث، وانظر: "تذكرة الحفاظ" "2/ 291". 4 عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد أبو القاسم السهيلي، صاحب الروض الأنف في شرح السيرة النبوية، ت سنة 581هـ "الديباج المذهب" "1/ 480". 5 سبق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 الرجم من الزنا، الإقطاع في الأراض وغيرها، صلاة خسوف القمر، التيمم ... الرجم من الزنا، الإقطاع في الأراضي وغيرها، صلاة خسوف القمر، التيمم: في السنة الرابعة أيضًا, وقعت قضية اليهودي واليهودية اللذين زنيا, فرجمهما النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد ما أطلعهما على آية الرجم في التوراة, والقصة في الصحيحين, والرجم للمحصن مجمع عليه، وتقدَّم ذلك في مبحث النسخ2. في السنة الرابعة أيضًا, أقطع النبي -صلى الله عليه وسلم- أرضًا من أموال بني النضير للزبير بن العوام الأسدي3، وكان أقطع المهاجرين دور المدينة لأول الهجرة, لكنه إقطاع انتفاع لا تمليك، بخلاف إقطاع الزبير. في السنة الرابعة أيضًا, خسف القمر فصلاها النبي -صلى الله عليه وسلم- ركعتين ركعتين حتى انجلى. في السنة الرابعة أيضًا, شرع التيم بدلًا عن الغسل والوضوء تخفيفًا   1 سبق. 2 سبق. 3 أخرج أبو داود عن ابن عمر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أقطع الزبير حضر فرسه, فأجرى فرسه حتى قام, ثم رمى بسوطه فقال: "أعطوه حيث بلغ السوط" "3/ 177" وفي البخاري عن أسماء بنت أبي بكر قالت: كنت انقل النوى من أرض الزبير التي أقطعه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على رأسي وهو مني على ثلثي فرسخ. في النكاح "7/ 45". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 ورحمة بقوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} 1، وذلك في غزوة المريسع1, في قصة عقد عائشة الذي ضاع وأقاموا يبحثون عنه على غير ماء, وليس معهم ماء كما في الصحيح2، والتحقيق عند أهل الأصول أن التيمم إن كان لفقد الماء فليس برخصة؛ لأنه لم يكن الوضوء قط واجبًا في تلك الحالة فرخص في تركه، بل ثبت في مسلم أنهم صلوا بدون وضوء, وما ثبت أمرهم بالإعادة3، وقول عمار بن ياسر في حديث أبي داود4 إنه رخصة مجاز، نعم إن كان لمرض فهو رخصة. وما وقفت على حديث قط فيه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- تيمَّمَ لمرض, ولا التصريح في حديث أنه تيمَّم لجنابة، نعم أفتى لأصحابه بالتيمم لها -صلى الله عليه وسلم، وقد ثبت تيممه في حديث عائشة في الصحيح5، وهو حديث عمار بن ياسر في أبي داود6، وفي حديث ابن عباس عند أحمد والطبراني7، وفي حديث ابن عمر عند أبي داود والدراقطني8، وهو حديث البخاري عن أبي جهيم في التيمم لرد السلام9، فهي ثلاث مرات, وإن تعدد رواتها ومخرجوها.   1 المائدة: 6. 2 قال المؤلف -رحمه الله: المريسيع -بضم الميم وفتح الراء وبعد الياء الساكنة سين مهملة ممدودة بالكسر وأخره عين مهملة- اسم موضوع بالحجاز. 3 حديث عائشة في فرض التيمم رواه الجماعة إلّا الترمذي: البخاري "1/ 87"، ومسلم "1/ 191"، وأبو داود "1/ 86"، والنسائي "2/ 233"، وابن ماجه "1/ 188". 4 مسلم "1/ 192". 5 انظر تخريجه في "الفقرة/ 2". 7 أبو داود "1/ 86". 8 أحمد "5/ الحديث رقم 3262". ط. دار المعارف. وفي "4/ رقم 2396"، وفي مجمع الزوائد "1/ 263". 9 في الطبعة المغربية "أبي الجهضم" وصوابه ما أثبتناه، والحديث في البخاري في التيمم لرد السلام "1/ 88". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 حد القذف، الحجاب والاستيذان : شرع في السنة الرابعة أيضًا حفظًا للأعرض، بسب قصة الإفك التي ابتليت فيها عائشة -رضي الله عنها, وبرَّأها الحق سبحانه في كتابه في خبر مطوّل كما في الصحيح أيضًا1، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ، إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 2, وقد حد حسان بن ثابت، ومسطح بن أثاثة، وحمنة بنت جحش ممن خاضوا في الإفك، وترك حد عبد الله بن أُبَيّ بن سلول سدًّا للذريعة لعصبيته ونفاقه. شرع في السنة الرابعة أيضًا في قصة زواجه -عليه السلام- بزينب بنت جحش، وحديث أنس بذلك مكرر في البخاري4، وفيه نزل قوله تعالى: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ} الآية5. فهذا حجاب خاص سُدِلَ على بيت النبوءة الأعظم، ثم نزل الحجاب العام تلك السنة أيضًا. قال تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ, وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْأِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ   1 متفق عليه: البخاري في تفسير سورة النور "6/ 127"، ومسلم في التوبة "8/ 112". 2 النور: 4. 3 أخرج الحاكم في الإكليل أن من جملة من أقيم عليه الحد عبد الله بن أُبَيّ بن سلول "انظر نيل الأوطار" "6/ 284". 4 البخاري في الاستئذان "8/ 65". 5 الأحزاب: 53. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} 1 واستثنى من ذلك من لا ريبة في كشفها فقال: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ} 2. بهذا انسدل الحجاب على نسوة الإسلام الحرائر، واستراحت الضمائر وأمنت الفتنة, وذهبت "الظنة"3، وتمَّ الاحترام، وعظم بذلك الإنعام. وشرع الاستيذان في جميع البيوت أخذًا بالحيطة فقال تعالى: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ, فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُم} 4، وهذا ما يسمَّى بالحرية الشخصية والحرمة الأفرادية، فلا يجوز التهجم على البيوت ولا دخولها إلّا بإذن، أو إن كان هناك موجب شرعي ثابت ببينة تستحل به الحرمة، وإلّا فلا، ولا تضيق على النسوة المسلمات في ذلك، لإنهن ألفنه وهو من التكاليف الدينية التي ترتاح لها الضمائر المؤمنة، وتتلقاها بالانشراح وإن كانت نزيهة أبية, ولا أقرَّ لعين مؤمن ولا مؤمنة منه ولله الحمد، ولا محوج لغيرنا أن يتدخل في شئوننا الداخلية التي هي حيوية لنا كهذه، فإذا لم تحمله على انتقاده غبطة فحسد، ولا ينقضي عجبي من رجل يدعي أنه مسلم وينتقده، أو يزعم أن ليس في الشريعة ما يدل عليه، أو لم يكن في الصدر الأول.   1 النور: 30، 31. 2 النور: 60. 3 في الطبعة المغربية "الضنة" بالضاد المعجمة ولا يستقيم المعنى، و"الظنة" التهمة. 4 النور: 27، 28. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 الحج والعمرة : الحج أحد أركان الإسلام الخمسة، شرع في السنة الرابعة أيضًا، إذ نزل قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} 1، بدليل ذكره في حديث ضمام بن ثعلبة2، وقدومه كان سنة خمس على ما عند الواقدي3, وسلمه في فتح الباري مستدلًا به، فإذا ضممنا هذه إلى كونه عليه   1 آل عمران: 97. 2 سبق تخريجه. 3 انظر ترجمته وقد سبقت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 السلام- إنما حجَّ سنة عشر, مع إمكان أن يحج سنة سبع وثمان وتسع، أنتج لنا أن الحج واجب على التراخي لا الفور, خلافًا لمن ضيق, ثم رأيت الحافظ1 نقل عن الشافعي نحو هذا, فلله الحمد. الحج والعمرة كانا معلومين عند العرب, وكانوا يقيمون موسم الحج كل عام، وذك من بقايا شريعة إبراهيم -عليه السلام، قال تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ، وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ، ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} 2, إلا إنهم زادو فيه ونقصوا، كتركهم الوقوف بعرفة, والسعي بين الصفا والمروة، وجعلهم النسيء في أشهر الحج، فجاءت شريعة الإسلام بتقرير ما كانوا يعرفونه من الحجّ، وأصلحت ما أفسدوه منه, حتى رجع لما كان عليه زمن إبراهيم -عليه السلام. وقد حجَّ -عليه السلام- قبل الهجرة مرتين قبل وجوبه, على نحو ما كان يحج إبراهيم, ولم يخرج عنه إلى ما غيرته الجاهلية، أما بعد الهجرة فلم يحجّ إلا حجة الوداع في العام العاشر من الهجرة, فيما بيَّنَ لهم المناسك بالفعل الذي هو أقوى من القول، وقال: "خذوا عني مناسككم" 3, وهناك تمَّت شرائع الحج والعمرة، ونزل قوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} 4, ونزل: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} 5، فأباح التجارة في الحج وأباح تحصيل المقصدين، ونزل: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} 6، ونزل: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} 7، ونزل: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} الآية8، والذي وقع في السنة الرابعة هو تقرير فرضيته على كل مسلم، وكان في ذلك أيضًا تشويق لفتح   1 ابن حجر العسقلاني صاحب الفتح. 2 الحج: 26-28. 3 سبق تخريجه. 4 البقرة: 197. 5 البقرة: 198. 6 البقرة: 158. 7 البقرة: 199. 8 التوبة: 37. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 مكة، وذلك من حكمة الحج. ومن حكمته الاجتماع والائتلاف والتعارف بين الأمم الإسلامية، وتفقُّد أحوال بعضهم, واقتباس العلوم والمتاجر وغير ذلك، فهو من المصالح الاجتماعية والدينية معًا. وما قيل في الحج يقال في العمرة؛ لأنها قرنت به في كتاب الله, قال تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} 1، وقرأ علقمة ومسروق وإبراهيم النخعي: "وأقيموا الحج والعمرة لله" خرج الطبري بأسانيد صحيحة عنهم2، هكذا يقول الشافعية والحنابلة، وقال المالكية والحنفية: بعدم وجوب العمرة، متمسكين بالبراءة الأصلية. ولم تذكر في حديث جبريل المبين لقواعد الإسلام، ولا في حديث بُنِيَ الإسلام على خمس، بل حديث ضمام بن ثعلبة تضمَّن نفي وجوبها حيث قال: هل عليّ غيرها فقال: "لا, إلا أن تطوّع" 3 وأما الآية السابقة فغاية ما فيها أنها قرنت مع الحج، ودلالة الاقتران ضعيفة كما علم في الأصول، ومع هذا فهي عند المالكية والحنفية من آكد السنن، وهي عنندنا مما يتعيّن بالشرع، ولذلك لما صُدَّ -عليه السلام- عن البيت عام الحديبية قضاها في عام عمرة القضية بعده، وقال مالك: ليس بقضاء, وفيها بيَّن لهم تتمة أحكامها بالفعل، ثم في عام الفتح، وعام حجة الوداع، حيث اعتمر النبي -صلى الله عليه وسلم- فيها أيضًا، فقد ثبت في الصحاح أنه اعتمر أربع مرات بعد الهجرة، وهي المبينة آنفًا.   1 البقرة: 196. 2 قراءة شاذة وإن صحت أسانيدها، لمخالفتها للمصحف الإمام. 3 سبق تخريجه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 صلاة الاستسقاء، الإيلاء، أحكام الصلح والسلم : في السنة الخامسة صلاها بهم -عليه السلام- في رمضان فسقوا. في السنة الخامسة أيضًا نزل قوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 1, وكان في الجاهلية طلاقًا فخُفِّفَ. قال الشافعي: سمعت من أرضى من أهل العلم بالقرآن يقول: كان أهل الجاهلية يطلقون بثلاث: الظهار، والإيلاء، والطلاق, فأُقِرَّ الطلاق طلاقًا, وحكم في الإيلاء والظهار بما بيَّنَ القرآن. نقله في فتح الباري2, ويروى نحوه عن ابن عباس. في السنة السادسة كانت الحديبية, خرج النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى مكة لا يريد قتالًا بل العمر فقط، فصدوه عن البيت ووقعت بيعة الرضوان, ووجّهت قريش سفيرهم سهيل بن عمرو إلى النبي -صلى الله عليه وسلم, فانعقد الصلح بينهما لمدة، ووضعت الحرب أوزارها, وتقررت شروطه وكتبوا ذلك، ومن جملة الآيات التي نزلت في السلم قوله تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} 3، وكان نزل قبل ذلك: {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ} 4، وقوله تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ، إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ} 5، فالشريعة كلها تحض على السلم الصحيح المبني على إقامة العدل وشرف الأمة، وتأبى الحرب إلّا لضرورة إيجاد السلم به، إذ الحرب إذا تعيَّن طريقًا للسلم كان سلمًا، ومن القضايا الأولية "إذا أردت السلم فاستعد للحرب"، وبذلك الصلح أمنت الدعوة للإسلام من المعارضة، وانتشرت دعاة   1 البقرة: 226. 2 فتح الباري "9/ 350" ط. الخشاب. 3 الأنفال: 61. 4 محمد: 35. 5 الممتحنة: 8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 الإسلام في الآفاق، وانتشر الدين، وانكشفت للعرب حقائق مبادئه العالية، فقبلوها, فدخلوا في الدين أفواجًا، لزوال حاجز الحرب وضغط قريش، فحصل الإسلام من الحروب السابقة على حرية الظهور والتبليغ والانتشار, وأمنوا على الحرية القولية والفكرية، بل انتشرت الدعوة إلى ما وراء بلاد العرب، فقد بعث -صلى الله عليه وسلم- رسله وكتبه إلى الملوك المجاورين كالمقوقس ملك مصر، بل إلى أعظم ملوك الأرض إذ ذاك؛ كسرى ملك فارس، وهرقل عظيم الروم, في هذه السنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 أحكام المحصر، جزاء الصيد وصيد المحرم : في السنة السادسة أيضًا خرج -عليه السلام- معتمرًا ثم تحلَّل لما أحصر عن البيت, وبيَّن لهم أنه تكون العمرة العام القابل كما وقع في عقد الصلح بالحديبية, التنصيص عليه, قال تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} 1، وهل المحصر هو من منعه العدو أو من منعه المرض؟ وهل من منع بأحدهما يتعيّن عليه قضاء أو هدي أو لا يجب شيء؟ في المسألة خلافٌ ينظر في كتب الخلافيات، ومذهب مالك في ذلك أوسع المذاهب. في السنة السادسة أيضًا نزل قوله تعالى: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} 2. والجمهور على أن المخطيء كالعامد في ذلك, وفيها تحريم صيد المحرم أو ما صيد له أيضًا، قال تعالى في سورة المائدة التي هي آخر ما نزل من السور: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} 3.   1 البقرة: 196. 2 المائدة: 95. 3 المائدة: 96. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 تحريم الخمر والميسر والأنصاب والأزلام : في السنة السادسة حرِّمت على ما جزم به الحافظ الدمياطي1, ورجحه القسطلاني, ومال إليه الحافظ2 في كتاب الأشربة، خلاف ما له في التفسير, فإنه مردود بما ذكره في حديث وفد عبد القيس3 من كتاب الإيمان، وهذا الحديث في رواية أبي مصرح بحرمة الخمر، وقد صرَّح الحافظ في المغازي أن وفادتهم كانت سنة خمس, فيكون تحريم الخمر سنة خمس أو قبلها على التحقيق، وفيها نزل قوله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 4 وهي رابعة الآيات التي ذكر فيها حكم الخمر في القرآن. الأولى: قوله تعالى: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} 5، وهذه مكية إذ كانت الخمر حلالًا لهم يشربونها، خلافًا لمن حَكَى إجماع الملل والنحل على حرمة شرب ما أسكر وغيب العقل منها, فإن هذه الآية تفهم الحلية إذا كان سكرًا أي: مسكرة بالفعل، وكانوا يسكرون كما وقع لسيدنا حمزة لما بقر بطني ناقتي سيدنا علي -كرم الله وجه الجميع، وقصتها في الصحيحين6، وفيها أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دخل على حمزة وهو سكران, ولم ينقل أنه عتب عليه في السكر ولا عد ذلك قادحًا فيه ولا مرتكبًا إثمًا, وقد اعترض القشيري على القفال7 في حكايته إجماع الملل والنحل على حرمة ما يزيل   1 لعله عبد المؤمن بن خلف الدمياطي أبو محمد شرف الدين، من أكابر الشافعية، ت سنة 507 هـ، "طبقات الشافعية للسبكي" "10/ 102". 2 ابن حجر العسقلاني صاحب "الفتح", وهو مراده كلما أطلق لفظه "الحافظ". 3 أخرجه أبو داود في الإيمان "1/ 21"، ومسلم في الإيمان أيضًا "1/ 35", وأبو داود "3/ 330"، النسائي "8/ 289". كلاهما في الأشربة. 4 المائدة: 90. 5 النحل: 97. 6 متفق عليه: البخاري في الخمس "4/ 65"، ومسلم في الأشربة "6/ 85". 7 لعله يقصد بالقفال محمد بن علي بين إسماعيل الشاشي أبوبكر القفال، ت سنة 365هـ. انظر ترجمته في طبقات الشافعية للسبكي "3/ 200"، وأما القشيري فهو بكر بن محمد بن العلاء أبو الفضل المالكي: ت سنة 344هـ، "الدنيا المذهب" "1/ 313"، وقد ترجم لهما المؤلف في القسم الثالث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 العقل، وقال: تواتر الخبر أنها كانت مباحة على الإطلاق ولو غيبت العقول، ويدل لما قلنا الآيتان الآتيتان قريبًا، وأسباب نزولهما. الثانية: قوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} 1 نزلت في عمر وحمزة ومعاذ بن جبل, قالوا: يا رسول الله, أفتنا في الخمر والميسر, فإنههما مذهبتان لعقولنا، متْلِفَتَان لأموالنا, فنزلت، فتركها قوم تحريًّا عن الإثم، وشربها آخرون للمنافع، ولا شك أن من تركها قدَّم درأ المفاسد على جلب المصالح، ومن شربها وقف مع ظاهر التخيير الذي لا جزم فيه بالمنع، ولعله كان لم ينزل قوله: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ} 2 وإلا فوجود الإثم الكبير كان في فهم التحريم. الثالثة: قوله تعالى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} 3 نزلت في عليّ بن أبي طالب، دعاه وعبد الرحمن بن عوف رجل من الأنصار، فسقاهما قبل أن تحرَّم الخمر، فأمهم عليّ في المغرب فقرأ: قل يا أيها الكافرون, فخلط، فنزلت: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} الآية. رواه أبو داود4, فحرم تناولها في أوقات الصلوات, فتركها قوم عند وقت الصلاة خاصة، وقوفًا مع الظاهر، وتركها قوم مطلقًا أخذًا بسد الذرائع. الرابعة: هي الآية السابقة: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} الآية، وسبب نزولها: أن سعد بن أبي وقاص أضافه5 عتبان بن مالك في جماعة؛ فأكلوا وشربوها فثملوا وانتشوا وتناشدوا الشعر, ففخر عليهم سعد, فخيّر المهاجرين على الأنصار, فضربه رجل منهم فشجَّه في أنفه, فأنزل الله: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} الآية. رواه مسلم بمعناه في المناقب6, وزاد غيره فقال عمر: اللهم بيَّن لنا في الخمر بيانًا شافيًا، فنزلت: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} الآية بالتحريم بتاتًا، فأراقوها فلي أزقَّة المدينة، وكسروا أوانيها7، فهذا من الأحكام التي نزلت تدريجًا كما سبق.   1 البقرة: 219. 2 الأعراف: 33. 3 النساء: 43. 4 أبو داود "3/ 325". 5 قال المؤلف -رحمه الله: عتبان -بكسر العين وتضم- صاحبي جليل من الأنصار. 6 مسلم "7/ 125". 7 روى الزيادة أبو داود في الأشربة "3/ 325"، والترمذي في تفسير سورة المائدة "5/ 253". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 الظهار، المسابقة : كان العربي إذا قال لزوجه: هي عليه كظهر أمه, عد طلاقًا وتحريمًا للزوجة، وأقرَّه الإسلام ثم نسخ، وذلك في السنة السادسة، فنزل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ, فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} 2 فكانت الكفارة تخفيفًا ورحمة، وأول ظهار كان في الإسلام كما رواه ابن شاهين وابن منده3, ظهار أوس بن الصامت صنو عبادة بن الصامت، ظاهر من زوجته خولة بنت ثعلبة، وهما المعنيان بالآية السابقة, وتقدَّم حديثهما في الصفحة 4، 4 وهو من الأحاديث الجامعة بين الناسخ والمنسوخ، إذ فيه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمره أولًا بفراقها، قال بعض الشراح: وذلك كان أولًا تقريرًا لما كان عليه أمر الجاهلية ثم نسخ. قال الحافظ أبو محمد الدمياطي5: في السنة السادسة سابق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين الخيل, فسبق فرس لأبي بكر فأخذ السبق, وهو أول مسابقة في الإسلام   1 روى الزيادة أبو داود في الأشربة "3/ 325"، والترمذي في تفسير سورة المائدة "5/ 253". 2 المجادلة: 1-4. 3 ابن منده: هو الحافظ أبو عبد الله بن إسحاق بن محمد بن يحيى بن منده الأصفهاني، ت سنة 395هـ، ترجم له المؤلف بإيجاز في القسم الثالث، وانظر: "تذكرة الحفاظ" "3/ 338"، وأما ابن شاهين فهو عمر بن أحمد بن عثمان أبو حفص، ت سنة "385هـ."تاريخ بغداد" "11/ 265". 4 من الطبعة المغربية. 5 سبقت ترجمته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 وذكر ذلك غير واحد من العلماء. من سيرة الشامي1، وذلك دليل ما كان له -عليه السلام- من الاهتمام بأمر الخيل وتربيتها، وقال: "الخيل معقود في نواصيها الخير يوم القيامة" 2, وقال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} 3.   1 وهي: سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد، من تصنيف محمد بن يوسف الصالحي، ت سنة 942هـ، وطُبِعَ من كتابه هذا ثلاثة أجزاء حتى سنة 1395هـ بالقاهرة. "شذرا الذهب" "8/ 250". 2 متفق عليه: البخاري في المناقب "4/ 253"، ومسلم في الزكاة "3/ 72". 3 الأنفال:60. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 الوقف، حد الحرابة وهي إفساد السابلة : بعد اقتسام غنيمة خيبر استشار عمر النبي -صلى الله عليه وسلم- في سهمه منها وحبسه في سبيل الله, فكان سنة المسلمين في التحبيس على أنواع البر والإحسان، قيل: هو أول حبس في الإسلام. كان تشريعه في السنة السادسة أو السابعة, وأقامه النبي -صلى الله عليه وسلم- على النفر الذين حاربوا وقتلوا راعي النبي -صلى الله عليه وسلم, وسمَّروا عينه وغدروا وارتدوا واستاقوا ذود الصدقة، وهم من عكل وعرينة، قدموا على النبي -صلى الله عليه وسلم- وهي ضعاف الأجسام بالجوع، فمرضوا بحمى المدينة، فبعهثم إلى أبل الصدقة خارج المدينة يشربون ألبانها وأبوالها يستشفون بذلك، فلمَّا شُفوا غدروا وفعلوا فعلتهم هذه، فوجَّه النبي -صلى الله عليه وسلم- في أثرهم فأدركوا، ولما أُتِيَ بهم نزل قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} 1 فأقام الحد عليهم واقتصَّ للراعي بغاية الصرامة, لئلَّا يعود غيرهم, وكانت هذه القصة ما بين السادسة والسابعة، قال قتادة2 روايه في البخاري: فحدَّثني محمد بن سيرين3 أن ذلك كان قبل أن تنزل الحدود زاد قتادة كما في مغازي البخاري: وقبل النهي عن المثلة4.   1 المائدة: 33. 2، 3 قتادة بن دعامة الدوسي, ومحمد بن سيرين, من كبار التابعين، تأتي ترجمتهما في القسم الثاني. 4 البخاري "5/ 164". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 تحريم لحوم الحمر الإنسية ونحوها، المزارعة والمساقاة، حرمة مكة ... تحريم لحوم الحمر الإنسية ونحوها، المزارعة والمسافاة، حركة مكة: في السابعة أيضًا, في غروة خيبر حرِّمَت لحوم الإنسية. إن العرب كانوا يأكلون جميع الحيوانات لا يكترثون، وإن كان بعضهم يأنف من بعضها كالخنزير، فجاء الدين بتحريم لحوم الحمر الإنسية في هذه السنة بالسُّنَّة، والبغال مقيسة عليها قياس شبه كما سبق، وكذلك الخيل في قول مالك، قيل: ولم يوجد في السُّنَّة ما يدل عليه، واستدل بقوله تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ} 1 الآية كما تقدَّمَ، وقيل: حلال, وقيل مكروه, وهو المشهور عندنا, وقد سبق أيضًا، ووردت السُّنَّة بالنهي عن كل ذب ناب من السباع, وذي مخلب من الطير، وقد تقدَّم لنا ما قيل في ذلك2. في السابعة أيضًا شرعت أحكامها، لما عامل النبي -صلى الله عليه وسلم- يهود خيبر على أن يعملوا في أرضهم ونخيلهم بالنصف، وكان في صدر الإسلم إنما يزرع ثلاثة: رجل له أرض، ورجل مُنِحَ أرضًا، ورجل اكترى أرضًا بذهب أو فضة. رواه أبو داود والنسائي بإسناد صحيح عن ابن المسيب3. في السنة الثامنة فتح الله على نبيه الحرم المكي فدخلها لابس السلاح غير محرم، ودخلها عنوة، وقيل صلحًا، وأبيحت له ساعة من النهار خصوصية   1 النحل: 80. 2 تقدَّم. 3 أخرجه البخاري في الوكالة "3/ 137"، ومسلم في البيوع "5/ 26"، وأبو داود "3/ 626"، والنسائي "7/ 49". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 له، ثم خطب النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال: "إن مكة حرمها الله, ولم يحرمها الناس، وإن الله أباحها لنبيه ساعة من نهار، وعادت لها حرمتها كما كانت بالأمس، لا ينفر صيده, ولا يعض شجرها" الحديث1، والمراد بتحريمها أن تكون الحياد, ولا تجعل محلًّا عسكريًّا, ولا ميدانًا للمنافسة السياسية, بل محل عبادة ونسك, فالحنفية يقولون: ولو التجأ إليها البغاة, أو من وجب عليه قصاص ضُيِّقَ عليهم حتى يسلموا، ولا قتال ولا قصاص بالحرم أصلًا، وغيرهم يقول: "إن الحرم لا يجير عاصيًا ولا فارًّا بخربة" كما ثبت في السنة2, وعليه فيقاتلون في الحرم، فالفرق بينها وبين غيرها إنما هو وجوب جعلها محايدة ما أمكن، أما ترك البغاة بها بأنه يؤدي لفساد النظام وذاك ظاهر، فيحاربون بها إن دعت لذلك ضرورة حربية، وتقام لها الحدود والقصاص كغيرها من البلدان.   1 تقدَّمَ تخريجه. 2 متفق عليه: البخاري "3/ 18"، ومسلم "4/ 110". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 القصاص : في السنة الثامنة كان أول قود في الإسلام، أقاد النبي -صلى الله عليه وسلم- بمكة رجلًا من هذيل برجل من بني سليم, بحكم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} 3، وقوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} 4، وقال تعالى: {لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} 5، وقال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} 6. وكان القصاص معروفًا عند العرب كما تقدَّمَ في التمهيد الثاني، ولكن الإسلام ضبطَه وحرَّرَ نظامه، فمن تمسك بعموم ما سوى عجز الأولى7، قال:   3 البقرة: 178. 4 المائدة: 45. 5 الإسراء: 33. 6 البقرة: 179. 7 أي: تمسك بالعموم في صدر الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى .... } على أنه مستقل عن عجز الآية فلا يخصصه، وهذا مذهب الحنفية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 إن القصاص عام, وأفراد بني آدم متكافئون إلا الحربيين، ومن تمسَّك بعجز الأولى قال: لا بُدَّ من الكفاءة بالدين والحرية، فلا يُقْتَل مسلم بكافر كما هو لفظ الحديث الصحيح1، ولا حرّ بعبد، نعم, اتفق الكل على قتل الرجل بالمرأة، والمسألة طويلة الذيل في كتب الفروع والخلافيات، ومن نظام القصاص أن الحق في طلبه أو العفو لولي المقتول وللوالي السجن، وغيرنا من الأمم يرى أن الحق فيه لولي الأمر على تفاصيل في المسألة.   1 وهو حديث صحيفة علي بن أبي طالب -رضي الله عنه, أصله في الصحيحين، انظر ص53، وأما اللفظ المذكور فأخرجه الجماعة سوى مسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 منع بيع الخمر، نكاح المتعة : في الصحيحين عن جابر أنه سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- عام الفتح وهو بمكة يقول: "إن الله ورسوله حرَّم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام" 2، فقال القياسيون،: وكل ما هو محرَّم العين, فإن الله إذا حرَّم شيئًا حرَّم ثمنه. وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يخطب بالمدينة، فقال: "يا أيها الناس, إن الله يُعَرِّض بالخمر, ولعل الله سينزل فيها أمرًا, فمن كان عنده منها شيء ليبعه ولينتفع به" , قال: فما لبثنا يسيرًا حتى قال النبي -صلى الله عليه وسلم: "إن الله حرَّم الخمر فمن أدركته هذه الآية وعنده منها شيء فلا يشرب ولا يبيع" فسفكوها3، وقد قال -عليه السلام:"لعن الله اليهود حُرِّمَت عليهم الشحوم فجملوها -أي: أذابوها- وأكلوا ثمنها" , وهو في الصحيح4. هو نكاح إلى أجل يشترطه أحد الزوجين، وكان مباحًا لضرورة الغزو والسفر، ثم نُهِيَ عنه في غزوة خيبر، ثم أبيح، ثم نُهِيَ عنه في غزوة الفتح، ثم أبيح في غزوة أوطاس بعدها ثلاثة أيام، ثم منع، وكان ذلك سنة ثمانٍ فلم يبح   2 البخاري "3/ 110"، ومسلم "5/ 41". 3 أخرجه مسلم في البيع 5/ 41". 4 متفق عليه: البخاري "3/ 107"، ومسلم "5/ 41". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 بعد ذلك1.   1 روى الحسن وعبد الله بن محمد بن علي بين أبي طالب عن أبيهما عن علي -رضي الله عنه: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عن نكاح المتعة, وعن لحوم الحمر الإنسية. أخرجه الشيخان، البخاري "7/ 16"، ومسلم "4/ 134" فأجمع علماء الإسلام على تحريم المتعة امتثالًا لما روى علي بن أبي طالب عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم، ولم ثبت من الأخبار الأخرى، وشقَّت الرافضة العصا ورمت برواية علي وغيره عرض الحائط فأباحت المتعة، قال ابن المنذر: ولا أعلم اليوم أحدًا يجيزها إلا بعض الرافضة, ولا معنى لقولٍ يخالف كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم. "نيل الأوطار" "6/ 136"، وأمَّا قول المصنِّف: ثم أبيح في غزوة أوطاس: فهو ما كان في فتح مكة، روى سبرة الجهني أنه -صلى الله عليه وسلم- إذن لهم في متعة النساء في فتح مكة، وأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "يا أيها الناس إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء, وإن الله حرَّم ذلك إلى يوم القيامة ... " الحديث. فدلَّ على تأييد التحريم، أخرجه مسلم "4/ 132". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 الحدود والتعازير : في السنة الثامنة أيضًا قطع يد المرأة المخزومية التي سرقت بمكة بحكم قول الله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ} 1، وكان شفع فيها أسامة بن زيد حب رسول الله وابن حبه، فقال له: "أتشفع في حدٍّ من حدود الله؟ " مع أن المرأة ابنة أخي أبي سلمة ابن عبد الأسد, صنو النبي -صلى الله عليه وسلم- من الرضاع, الذي كان زوج أم سلمة إحدى أمهات المؤمنين قبل أن يتزوجها النبي -صلى الله عليه وسلم, وقد أهمّ أمرها قريشًا, ولم ينفعها ذلك، فقد خطب النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "إنما أهلك من قبلكم أنهم كانوا إذا أذنب فيهم الشريف تركوه، وإذا أذنب فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد, وايم الله لو سرقت فاطمة ابنتي لقطعت يدها" 2، ثم أمر بتلك المرأة التي سرقت فقطعت يدها. والحدود وردت في الشريعة المطهرة في سبعة عشر جرمًا، بين متفق عليه، ومختلف فيه، فالمتفق عليه: 1- السرقة:   1 المائدة: 38. 2 سبق تخريجه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 2- الردة: ويجب فيها القتل بإجماعٍ في الرجل لقوله -عليه السلام: "من بدَّل دينه فاقتلوه" 1. 3- الحرابة وتقدَّمت. 4- الزنا، قال تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} 2، وقال في حق الرقيق: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} 3، وزادت السُّنَّة تغريب عام لغير المحصن, ورجم المحصن وتقدَّمَ. 5- القذف وتقدَّمَ. 6- شرب الخمر, وتقدَّم في نسخ السُّنَّة بيانه، وسواء سكر أم لم يسكر، هكذا عدَّد الحافظ من المتفق عليه في كتاب الحدود، ولكن بعده بسبعة أوراق تعقّب على عياض وغيره في حكاية الإجماع على وجوب حد الخمر, وحكى عن طائفة من أهل العلم أنه لا حدَّ فيه, وإنما فيه التعزير، نقل ذلك عنهم الطبري وابن المنذر وغيرهما، ثم أجاب عنه، ولكن فيه قول عن ابن عباس: إنه لا حدَّ فيه ولا زجر، نقله هو فانظره4. ومن المختلف فيه: 1- جحد العارية: قال أحمد وإسحاق بن راهويه: هو كالسرقة, بل منها؛ لأن حديث المخزومية ورد في بعض ألفاظه: "كانت تستعير المتاع وتجحده" كما في الصحيح5. 2- شرب ما يسكر كثيره من غير الخمر، خالف فيه الحنفية إذا لم يسكر   1 أخرجه الجماعة إلا مسلمًا، البخاري في الاستتابة "9/ 18"، وأبو داود "4/ 126"، والترمذي "4/ 59"، والنسائي "7/ 96"، وابن ماجه "2/ 848". 2 النور: 2. 3 النساء: 25. 4 فتح الباري "12/ 54، 57" ط. الخشاب 1325هـ. 5 سبق تخريج الحديث والزيادة المذكورة, رواها أبو داود "4/ 132"، والنسائي "8/ 64". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 بالفعل1. 3- القذف بغير الزنا. 4- التعريف بالقذف. 5- اللواط ولو بمَن يحل له وطؤها. 6- إتيان البهيمة. 7- السحاق. 8- تمكين المرأة القرد أو غيره من الحيوان من وطئها. 9- السحر. 10- ترك الصلاة تكاسلًا، قال به مالك والشافعي، "خليل" وقتل بالسيف حدًّا, ولو قال: أنا أفعل, وخالفهما أبوحنيفة. 11- الفطر في رمضان، قيل فيه الضرب, وزيد على ذلك قتل. 12- من سبَّ واحدًا من الرسل -عليهم السلام. 13- وقتل الزنديق, والقتل فيهما من غير استتابة بخلافه في الردة. 14- وشرب الخمر إذا تكرَّر, فإنه يقتل في الرابعة أو الخامسة إلّا أنه قول شاذٌّ جدًّا.   1 الخمر عند أبي حنيفة -رحمه الله: اسم للنيء من ماء العنب بعدما غلي واشتد وقذف بالزيد وسكن عن الغليان وصار صافيًا، وعند صاحبيه: وإن لم يسكن من الغليان، وما كان كذلك فهو حرام قليله وكثيره. أما الأنواع الأخرى من الأشربة، فالسكر، ونقيع الزبيب، والتمر من غير طبخ، والفضيخ، والباذق، يحرم شرب قليلها وكثيرها، ولكن دون حرمة الخمر، فلا يجب الحد بشرب قليلها حتى يسكر، وأما الطلاء، ومطبوخ التمر، والزبيب أدنى طبخ، فالقليل منه حلال طاهر، وما أسكر منه فحرام، "انظر تحفة الفقهاء للسمرقندي" "ج3/ 444-458"، و"أحكام القرآن للجصاص، "1/ 322-328"، وإن رمت التفصيل فعليك بشرح فتح القدير لكمال الدين بن الهمام "8/ من 151-169". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 15- والجاسوس أيضًا, فإنه يقتل إن رآه الإمام. 16- والقدرية, قال جماعة من الأئمة: إن تابوا وإلّا قتلوا, بل كل مبتدع. 17- ومن طلب حريم إنسان أوماله بغير حق. 18- ومن خالف الإجماع وأظهر الشقاق. وذكر ابن العربي في المائدة من أحكامه: أن القتل جاء بأكثر من عشرة أشياء بين متفق عليه ومختلف فيه فانظره1، وها أنت رأيت ستة عشرة موضعًا منها بين خلاف ووفاق، وهذا كله خارج عما تشرع فيها المقاتلة. 19- كما لو ترك قوم الزكاة ونصبوا لذلك الحرب. 20- والبغاة الخارجين على الإمام فللعدل قتالهم. ومن المتفق عليه القصاص: 21- في النفس وفي الجراح عمدًا وتقدَّم. فيصير شرع التقل في تسعة عشر موضعًا، ولكنها لا تخرج عن الحديث: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والزاني المحصن، والمرتد المفارق للجماعة"2. انظر الحافظ في الدماء3، فهذه الجرائم التي بينت الشريعة جزاءها, ووراء ذلك الزواجر والتعازير، فقد فوضت للإمام فيما سوى هذه الجرائم, فله أن يعزرلحق آدمي, أو مصعية الله بما شاء بقدر الحد في الجرائم التي هي كجرائمه أو أكثر فيما هو أعظم، أو أقل فيما هو أخف بما يراه، هذا قول المالكية وكثير من العلماء، "خليل" وعزر الإمام لمعصية الله أو حق آدمي، ولكن ما لم يسر إلى النفس, فإن سرى إليها ففيه تفصيل يطلب في محله، وقد ثبت أن عمر حدَّ رجلًا شرب الخمر في نهار رمضان بمائة جلدة، ثمانين حدّ الخمر وعشرين لحرمة الشهر, يعني وذلك زيادة على الكفارة المعلومة, وحدَّ بعض   1 لم أجده في تفسير المائدة من أحكام القرآن. 2 متفق عليه: البخاري في الديات "9/ 7"، ومسلم في القسامة "5/ 106". 3 فتح الباري "12/ 162" ط. الخشاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 الولاة رجلًا لاط بصبي ثلاثمائة ولم ينكر عليه مالك، قاله ابن العربي في الأحكام، وقد نصوا على تعزير شاهد الزور بإشهاره والطواف به, ومن أهل العلم من يرى نفيه إلى غير ذلك مما هو مقرر في كتب الأحكام. فبهذا تعلم انطباط الشريعة وما فيها من تمام النظام, كما بينَّا ذلك في غير موضع من هذا الكتاب وغيره ردًّا على مَنْ يزعم أنه ليس فيها إلّا التوعد الأخروي الذي لا يؤثر إلا في المؤمنين، وأن ذلك سبب فوضى الأحكام وعدم النظام عند المسلمين في هذه الأزمان، وهذا ضلال مبين ومغالطة، فبأي حق نظروا لحاضر المسلمين ولم ينظرو لماضيهم، أجهل منهم بتاريخ الإسلام أم تجاهل؟ وبأيّ حقٍّ ينتقدون شريعة يجهلون ما فيها من الزاجرين: الزاجر الأخروي والزاجر الدنوي؟ فهل أمس بالنظام من بقية الشرائع، نعم فوضت في بقية الزواجر لولي الأمر لتكون مطابقة لكل زمان ومكان بتغير الأحوال, ولو أنها بينتها وحددتها لملأوا علينا العالم صراخًا بأنها لم تبق صالحة الآن لتغير الأحوال, كما قالوا في حد السرقة والزنا, بل في القصاص، وإذ ذاك يتذمرون بأنها حجزت عليهم كل شيء من مصالحهم, فيالله من عمائهم، ومسألة النظام في الإسلام لأهميتها خصَّصت لها تأليفًا خاصًّا فلينظره من شاء التوسع في الموضوع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 زيادة القبور: كانت ممنوعة في صدر الإسلام لأنها أعظم أسباب سريان الأفكار الوثنية، فلما تقررت مبادئ الدين ورسخت أبيخ ذلك. قال الطيبي1 في "شرح المشكاة": لم فتح -عليه السلام- مكة سنة ثمان, زار قبر أمه فقال -عليه السلام: "استأذنت ربي في أن أزور قبرها فأذن لي, فزوروا القبور، فإنها تذكر الموت" 2، وفي الصحيح: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها, ونهيتكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاث فأمسكوا ما بدا لكم، ونهيتكم عن النبيذ إلّا في سقاءٍ فأشربوا في الأسقية كلها ولا تشربوا مسكرًا" 3.   1 الحسين بن محمد بن عبد الله شرف الدين الطيبي، ت. سنة 743هـ، "الدرر الكامنة" "2/ 156". 2، 3 أخرجه مسلم في الجنائز "3/ 65". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 غير أن القصد من الزيارة: التذكير والاعتبار، ثم الدعاء والاستغفار للموتى، كما فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- في زيارة شهداء أحد، لا لطلب نفع من الميت، أو دفع ضر, فلا مسوغ لذلك، وهل أبيحت الزيارة للذكور فقط أو الإناث؟ خلاف1.   1 لا شك أن في زيارة القبور من القربان، لأنها تذكر بالآخرة والموت، ويضم إلى هذا المعنى "في زيارة قبور الأنبياء والصالحين، وقبور المسلمين عامة" معنى آخر، هو السلام عليهم دار قوم مؤمنين، والدعاء لهم والاستغفار أوقعهم في الأفكار الوثنية التي من أجلها منع الصحابة في أول الأمر من زيارة القبور كما يقول المصنف، وهي افتتان القلوب بسكَّان تلك القبور "خاصة إذا كانوا من الأنبياء، والصالحين"، وتعلقها بهم، حتى تقع في المحظور بدعائهم، والاستغاثة بهم، وطلب المنفعة منهم، أو دفع المضرة بواسطتهم، وهذا هو عين الشرك الذي بُعِثَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لمحاربته والقضاء عليه, حتى تخلص القلوب تعلقها بالله، وتوجّه عبادتها إليه وحده، ومن رأى ماذا كان يصنع الجاهليون عند قبور الشهداء بأحد بالمدينة النبوية في أوائل هذا القرن قبل عهد التوحيد، وكذلك من يرى اليوم ماذا يصنع الضالون من أمة الإسلام حول قبر الحسين أو قبر البدوي في مصر، وحول قبر محي الدين بن عربي في الشام، وماذا يصنع الروافض حول قبور آل البيت في العراق وإيران، وماذا جنى أهل الخرافة من عظائم الأمور في الهند، يعلم مدى ما آلت إليه زيارة القبور من حالٍ تغضب الله -غز وجل- الذي قال: "أنا أغنى الشركاء عن الشرك, من عمل علمًا أشرك به معي غيري تركته وشركه" أخرجه مسلم عن أبي هريرة "8/ 223". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 الآداب الاجتماعية : في السنة الثامنة وفدت الوفود من أقاصيّ البلدان، ودخل الناس في الدين أفواجًا، ونزل كثير من أحكام أدبية أجتماعية مذكورة في سورة الحجرات، التي فيه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} 2 وهذا على نظام اجتماعي عرف في تاريخ الخليقة، ولهذا صدَّرَ به -عليه السلام- في خطبة حجة الوداع لاجتماع وجوه المسلمين بها كما يأتي، وكقوله تعالى: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} 3, وقوله في حق الرسول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} .   2 الحجرات: 13. 3 الحجرات: 12. 4 الحجرات: 1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 وقوله: {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} 1، وقوله: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} 2، وقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} 3، فمضمون سورة الحجرات كافٍ للنظام الاجتماعي الإسلامي، ولي فيها تأليف خاص.   1 الحجرات: 2. 2 الحجرات: 9. 3 الحجرات: 10. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 اتخاذ المنبر، ستر العورة : في السنة الثامنة على ما في أسد الغابة اتَّخَذ نبي الله -صلى الله عليه وسلم- منبرًا ليسمع الناس، وقصته في الصحيح1. العورة الغلظة عند مالك السوأتان، والمخففة ما سواهما مما بين السرة والركبة، وذلك من الرجل والأَمَة، أما المرأة الحرة فكلها عورة يجب سترها عدا الوجه والكفين، إن أمنت الفتنة، وإلّا فيجب سترها أيضًا، فأما ستر المرأة فتقدَّم تاريخ نزوله، وأما ستر عورة الرجل فهو فرض إسلامي تقتضيه الآداب العمومية والحشمة الإيمانية عند مالك، وإذا كان من الآداب فيجب الستر في الصلاة التي هي أحق بالأدب بالأولى، وغير مالك يقول: إنه من شروط الصلاة بحيث إذا لم يستر تبطل صلاته. كان العرب يطوفون بالبيت عراة رجالًا ونساء, يقولون: ثياب أذنبنا فيها فلا نطوف بها، وفي صحيح مسلم عن ابن عباس قال: كانت المرأة تطوف بالبيت وهي عريانة فتقول: من يعيرني تطوافًا تجعله على فرجها وتقول: اليوم يبدو بعضه أو كله ... فما بدا منه فلا أحله   1 متفق عليه: البخاري في الصلاة "1/ 188"، ومسلم في المساجد "2/ 74". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 فنزلت هذه الآية {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} 1، وفي صحيح مسلم2 أيضًا, أن العرب كانت تطوف عراة إلا الحمس1 وهم قريش، إلا أن يعطيهم الحمس ثيابًا, فيعطي الرجال الرجال والنساء النساء. وزاد غيره. ومن لم يكن له صديق بمكة يعير له ثوبًا طاف عريانًا أو ثيابه, وألقاها بعد فلا يمسها أحد، فلما بعث الله رسول الله وأنزل عليه: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} ، أذَّن مؤذن رسول الله ألا لا يحج بعد العام مشرك, ولا يطوف بالبيت عريان، كان النداء بمكة سنة تسع، قاله أبو حيان3. أما النبي -صلى الله عليه وسلم- فكان الستر واجبًا عليه من أول المبعث, وما رُئِيَ قط عريان منذ كان ينقل حجارة الكعبة عند بنائها وعمره خمس وثلاثون سنة, عصمه الله من ذلك، والجمهور على أن قوله تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} ، وهو ستر العورة في الصلاة والطواف معًا بدليل: {كُلِّ مَسْجِدٍ} وليس والطواف إلّا في مسجد واحد، وأن اللفظ وإن كان خاصًّا لكنه عام في الستر مطلقًا, فلا يجوز للمسلم أن يكشف عورته إلّا لزوجته أو أمته, ويكره لهما النظر لعورته إلّا لضرورة, بل لا ينبغي له الكشف منفردًا, ولا النظر في عورة نفسه إلّا بقدر الضرورة، هذا من أجمل الآداب الاجتماعية التي فرَّط فيها المسلمون وهي من شرعهم، فترى نساء البوادي عاريات, ورجال كثير من الحواضر لا يبالون بكشف العورة في الحمامات.   1 الأعراف: 31. 2 مسلم في الحج "4/ 43". 3 قال المؤلف -رحمه الله: الحمس -بفتح الحاء المهملة وسكون الميم آخره سين مهملة. 3 محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حبان الغرناطي الجباني الأندلسي النفزي أثير الدين أبو حيان النحوي صاحب البحر المحيط. ت سنة 745 هـ "الدرر الكامنة" "5/ 70". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 التوبة، اللعان : في التاسعة أيضًا غزا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تبوك, وتخلف عنه رجال فأدبوا بما يليق بهم، ثم تاب ثلاثة منهم فقَبِلَ الله توبتهم ونزل: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ، وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} 1، وكانت التوبة في الشرائع قبل الإسلام أصعب مما في الإسلام، فإن بني إسرائيل لم تقبل منهم التوبة من الرِّدَّة إلا بأن يقتلوا أنفسهم، بخلاف الإسلام، نعم في غير عبادة العجل كانت عندهم التوبة بون قتل, خلافًا لما نقله الأبي2 عن سفيان الثوري3, بدليل حديث الصحيحين في الذي قتل تسعة وتسعين نفسًا4، كما أن التوبة لا تسقط القتل عندنا في القصاص؛ لأنه حق الغير, بل ولا حدَّ الزنا عند غير الحنفية، ولا حدَّ الحرابة عندنا خلافًا لمن نقل فيه الإجماع على سقوطه، وتقدَّم أن الزنديق وسابّ الرسول -عليه السلام- لا بُدَّ فيهما من القتل, ولكن لا يكلفان بقتل أنفسهما، إن التوبة فيما بين العبد وبين مولاه مقبولة في كل ذنب حتى القتل عند الجمهور, ولا يطلب منه أن يفضح جريمته أمام الراهب كما عند النصارى، بل العبد يناجي ربه ويلجأ إليه منه, لا حاجب ولا مانع، قال تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} 5. في التاسعة أيضًا وقعت قضية عويمر العجلاني عندما انصرف النبي -صلى الله عليه ولسم- من تبوك كما عند الدراقطني وغيره، حيث رمى زوجه بالزنى، فأنزل الله فيه:   1 التوبة: 117. 2 محمد بن خلفة بن عمر الأبي الوشتاتي المالكي, من كتبه "إكمال إكمال المعلم لفوائد كتاب مسلم" جمع فيه بين شروح: المزري والقاضي عياض والنووي على مسلم، ت سنة 827هـ "البدر الطالع" "2/ 169". 3 سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري, من أتباع التابعين، تأتي ترجمته في القسم الثاني. 4 البخاري في بدء الخلق "4/ 211"، ومسلم في التوبة "8/ 103". 5 غافر: 60. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ، وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ، وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ، وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} 1, فحكم بينهما بذلك, وتلاعنا في المسجد النبوي على الكيفية المبينة في الآية, وفرِّقَ بينهما2، وصارت سنة المتلاعنين، وأما حديث ملاعنة هلال بن أمية الضمري الذي في الصحيح "أنه أول من لاعن" فذكر أبو عبد الله أخو المهلب بن أبي صفرة أنه خطأ, وأن الذي لاعن هو عويمر العجلاني، نقله الأبي في شرح مسلم3.   1 النور: 6-9. 2 الدراقطني "3/ 277". 3 حديث الملاعنة عليه: البخاري في الطلاق "7/ 69", ومسلم في اللعان "4/ 205". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 صلاة الجنازة وتكبيراتها، منع المشركين من دخول مكة ... صلاة الجنازة وتكبيراتها، منع المشركين من دخول الكعبة: في التاسعة أيضًا تقرَّر عدد تكبيراتها وهو أربع تكبيرات؛ إذ فيها توفي النجاشي ملك الحبشة, فنعاه النبي -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه في اليوم الذي توفي فيه، وخرج بهم للبقيع فصفَّهم، كبَّر أربعًا ودعا، فاستقر العمل في ذلك، وكان قبله تارة يكبِّر أربعًا وتارة أكثر وأقل. في التاسعة أيضًا انتهت المدة التي كانت بين النبي -صلى الله عليه وسلم- وبين المشركين، فنبذ إليهم عهدهم, ووجه أبا بكر فحجَّ بالناس ومعه علي يبلغ عن رسول الله لهم سورة براءة التي فيها الأمر بانجلاء المشركين عن مكة، وتحريم دخولها عليهم بعد أربعة أشهر من حج أبي بكر، وقال تعالى: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ} 1 ونزل قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} 2 وطهَّر الله الحرم منهم كما كان طهره من الأصنام سنة ثمان.   1 التوبة: 3. 2 التوبة: 28. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 صلاة كسوف الشمس، حديث جبريل في الإيمان والسلام والإحسان : في السنة العاشرة كسفت الشمس بعد موت إبراهيم بن مولانا رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فقال الناس كسفت لموته، فخطبهم النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال: "إن الشمس والقمر لا يكسفان لموت أحد ولا لحياته, ولكنهما آيتان من آيات الله يخوف الله بهما عباده, فإذا رأيتموها فافزعوا للصلاة" 1 كما في الصحيح, ثم صلَّى صلاة الكسوف بهم جامعة على الكيفية المذكورة في الصحيح. وقيل: إن الكسوف تكرَّر في الزمن النبوي, لذلك اختلف الرواة في كيفية صلاته, ونقل الأبي في شرح مسلم أن كسوفًا كان في غزوة خيبر التي كانت في المحرم سنة سبع, فالله أعلم. في العاشر أيضًا جاء جبريل في صورة رجل شديد سواد الشعر شديد بياض الثياب, فسأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الإيمان؟ فعرَّفه له بقوله: "أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره, والإسلام؟ " فعرفه له بقوله: "أن تشهد أن لا إله إلّا الله وأن محمدًا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلًا"، والإحسان؟ فعرفه له بقوله: "أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك". وعن أشراط الساعة؟ فبينها له, فلما أدبر قال: "ذاك جبريل جاء يعلمكم دينكم" 2 وهذا حديث أبواب من الفقه، وأحكام علم التوحيد، وعلم التصوف، وعليه رتب العلماء كتبهم الموضوعة في الفنون الثلاثة.   1 متفق عليه: البخاري "1/ 42"، ومسلم "3/ 27". 2 روه الجماعة: البخاري "1/ 20"، ومسلم "1/ 28"، وأبو داود "4/ 223"، والترمذي "5/ 6"، والنسائي "8/ 88"، وابن ماجه "1/ 24". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 حرمة الدماء والأعراض والأموال، لا وصية لوارث: من خطبته التي خطبها -عليه السلام- بمنى عام حجة الوداع, حمد الله وأثنى عليه, ثم قال: "أما بعد, أيها الناس، ألا إن ربكم واحد, وإن أباكم واحد, ألا لا فضل لعربي على عجمي, ولا لعجمي على عربي, ولا لأسود على أحمر, ولا لأحمر على أسود, إلَّا بتقوى الله، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، ألا هل بلغت؟ " قالوا: بلّغ رسول الله -صلى الله عليه وسلم, قال: "فليبلغ الشاهد الغائب, فربَّ مبلَّغٍ أوعى من سامع". ثم قال: "أي شهر هذا؟ فسكتوا. فقال: هذا شهر حرام, أيّ بلد هذا؟ فسكتوا, فقال: بلد حرام. أي يوم هذا؟ فسكتوا. فقال: يوم حرام, ثم قال: إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا, ألا هل بلغت, فليبلغ الشاهد الغائب". قال الناس: نعم. قال: "اللهم أشهد, ألا ومن كانت عنده أمانتة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها". إلى أن قال: "ألا إن كل مسلم محرم على كل مسلم, ألا لا تظلموا, ألا لا تظلموا, إنه لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه" , إلى أن قال: "إن المسلم أخو المسلم, إنما المسلمون إخوة". إلى أن قال: "إنما أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها, وحسابهم على الله, لا تظلموا أنفسكم, لا ترجعوا بعدي كفَّارًا يضرب بعضكم رقاب بعض" 1 وقد تقدَّم بعض من هذه الخطبة ومن قوله:"دماءكم وأموالكم" ... إلخ". استنبط حكم العلل التي هي مبنى القياس والاجتهاد كما سبق لنا في أسرار التشريع. في خطبة الوداع قال -عليه السلام: "لا وصية لوراث" , كما في أبي داود والترمذي وتقدم ما في ذلك في ترجمة النسخ في القرآن2.   1 انظر البخاري: باب الخطبة في منى كتاب الحج "2/ 215"، ومسلم: باب حجة النبي -صلى الله عليه وسلم "4/ 40". 2 سبق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 الوصية بالثلث، أبواب المعاملات وحرمة الربا : في العاشرة أيضًا منعت الوصية بأكثر من الثلث في قصة سعد بن أبي وقاص, لما مرض وعاده النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال له: أوصي بثلثي مالي؟ فقال: "لا, لأن تترك ورثتك أغنياء خير من أن تتركهم عالة يتكفَّفون الناس" إلى أن قال له: "الثلث والثلث كثير" 1 والحديث بذلك في الصحيحين. قد نظَّمت الشرعية أبواب المعاملات بأمرين: الأولى: أمرت بالوفاء بالعقود، ففي السنة العاشرة نزلت المائدة التي أولها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} 2, وهي العقود الصحيحة شرعًا, الخالية من المفاسد الاجتماعية والدينية والأدبية. الثاني: أوجبت الصدق على المتعاقدين وترك الغش والأيمان الفاجرة، والآيات والسُّنَّة في هذا كثيرة لا نحتاج لجبلها، ومن جملة آي القرآن المبني عليها المعاملات الشرعية ذات الأبواب الواسعة قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} 3، وقوله: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْأِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 4. أما الربا ففي العاشر نزلت آية حرمة الربا التي في آخر البقرة، وفي صحيح مسلم عن فضالة بن عبيد: "كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم خيبر نبايع اليهود الوقية الذهب بالدينارين والثلاثة, فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لا تبيعوا الذهب بالذهب إلّا وزنًا بوزن" 5 فيقتضي أنهم في غزوة خيبر كانوا يتعاملون بالربا، وقد كانت في المحرم سنة سبع، والتحريم كان بأثرها على ظاهر   1 البخاري "4/ 3"، ومسلم "5/ 7". 2 المائدة: 1. 3 النساء: 29. 4 البقرة: 188. 5 مسلم في البيوع "5/ 46". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 الحديث, ولا ينافيه تأخُّر نزول الآية إلى السَّنَة العاشرة؛ لأن تحريم الربا مما نزل تدريجيًّا، ففي أول الأمر حرم عليهم ما فيه الربح بأضعاف مضاعفة، لما في ذلك من الإجحاف بحقوق المحتاجين للتعامل, قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} 1, ثم نسخ في حجة الوداع لما وضع ربا الجاهلية حتى ربا العباس, ففي صحيح مسلم عن جابر من حديث الطويل في الحج, أن النبي -صلى الله عليه وسلم- خطب الناس بعرفة فقال: "إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا, ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع, ودماء الجاهلية موضوعة وإن أوّل دم أضع من دمائنا دم إياس بن ربيعة بن الحارث, كان مسترضعًا في بني سعد فقتلته هذيل, وربا الجاهلية موضوع, وأول ربًا أضع ربا العباس بن عبد المطلب, فإنه موضوع كله, فاتقوا الله في النساء, فإنكم أخذتموهن بأمانة الله, واستحللتم فروجهن بكلمة الله, ولكم عليهنَّ أن لا يوطئن فرشكم أحدًا تكرهونه, فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربًا غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده أن اعتصمتم به كتاب الله". الحديث2, ونزل في العاشرة أيضًا {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ} 3 الآية، ونزل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 4 الآية، فحرم كثيره وقليله، وقد بينت السنة ما هو الربا, فكل معاملة منعت كتابًا أو سنة فهي ربا, وما سواها هو الحلال، وبهذا تفهم {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} , فالسَّلَفُ بمنفعةٍ ربا, وفيه نزل القرآن، وكان الرجل إذا حلَّ الدَّيْن عليه ولم يجد وفاءً زاده في الدَّيْن, وزاده في الأجل, وهو فسخ الدين في الدين فهو ربا، وضع وتعجل ربا، وحط الضمان وأزيدك ربا، وربا النساء ربا، وربا الفضل إذا اتحد الجنس ربًا على الصحيح، وأنواع ذلك كثيرة استقصتها كتب الفقه والخلافيات، وكان سيدنا عمر متوفقًا في أبواب من الربا لم يرد فيها نصّ، فقد خطب في آخر حياته وقال: ليت النبي -صلى الله عليه وسلم- عهد لنا   1 آل عمران: 130. 2 سبق تخريجه. 3 البقرة: 275. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 فيها. قال ابن العربي في الأحكام: صحَّ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ستة وخمسون معنى نهى عنها، ثم عددها واحدًا واحدًا, غير أن منها ما نُسِخَ كالنهي عن كراء الأرض والماء والكلأ، ومنها ما دخله التخصيص كبيع ما لم يقبض، ومنها ما هو محمول على الكراهية كبيع السنور وكسب الحجام، وذلك في كتب الفقه ثم قال: ولا تخرج عن ثلاثة وهي الربا والباطل والغرر، ويرجع الغرر بالتحقيق إلى الباطل فتكون قسمين، وهذه المناهي تتداخل ويفصلها المعنى، ومنها أيضًا ما يدخل في الربا والتجارة ظاهرًا. ومنها ما يخرج عنها ظاهرًا, ومنها ما يدخل فيها باحتمال، ومنها ما ينهي عنه مصلحة للخلق وتألفًا بينهم لما في التدابر من المفسدة1. ثم إن أبواب المعاملات، من الفقهاء من ضيقها كالظاهرية حيث حملوها جميعًا على الفساد إلا مادل الدليل على جوازه، والجمهور على العكس، ولو أن الجمهور حملوا تدخُّل الشرع فيها على معنى حفظ مصالح الخلق, وجعلوا الأحكام فيها كلها دائرة على هذا الأصل، لاتَّسَعَت أبواب المعاملة على المسلمين، ولكنهم أدخلوا فيها التعبد لما قام عندهم من الأدلة على قصده, فضاقت المعاملة والمذاهب في ذلك غير متساوية؛ وفمذهب مالك أضيقه الصرف, وغيره لا يرى رأيه فيه، ولكن تجد لهم تضييقًا في باب غيره، وتضييق الفقهاء أبواب المعاملات كان شيئًا في أن المتمسِّكين بمذاهبهم تقل معاملاتهم ويضيق حالهم، وكل من اتسعت متاجره فإما أن يبحث عن الأقوال الشاذة فيقلدها ولا يعدمها، وإما أن ينبذ التقيد بالأحكام الشرعية في معاملاته وهي الطامة الكبرى، ولو وسعوا على الناس لكان خيرًا من أن يحملوها على هذا المركب الخشن، فإنا نرى كثيرًا من الفقهاء يأخذون بالرخص لأنفسهم في كراء الأرض بما تنبت، وفي شركة الخماس، وبيع الصفقة وأمثال ذلك، فلا ينبغي للفقهاء أن يقيدو الأمة عن ما يزيد تقدمها, ولا يضيقوا عليها حتى تخلع الرسن، ولا أن يوسعوا حتى تنحلّ الشريعة، بل الاعتدال أساس من أسس الشريعة، وما جاء التضييق إلا من الأقيسة ثم الاستحسان, وإلا فالنصوص الشرعية المانعة من أنواع المعاملات قليلة جدًّا بالنسبة لما فرَّعه الفقهاء بالاستنباط المبنيّ على أصل دخول التعبد   1 أحكام القرآن "1/ 243". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 والتدين، في باب المعاملات. وقد سألني الصدر الأعظم بتونس -حفظه الله- عن هذه المسألة قائلًا: إن اليهود ثم الأوروبيين استحوذوا على تجارة العالم لعدم تعرض شريعتهم لهم في معاملاتهم, فهل من رخصة للمسلمين كي يخرجوا مما هم فيه من الضيق المؤدي للفقر والهلاك؟ فأجبته: إن اليهود نبذوا شريعتهم وإلّا فهي تنهاهم عن الربا, أما نحن ففتح الباب على مصراعيه نبذ للشريعة. لكن كل مسألة ينظر لها رخصة, فإن وجدت في مذهب فيترخّص للضرورة1 وإلا فلا. هذا ملخص جوابي له فاقتنع به.   1 ولكن هذا الباب ألّا يفتح أبدًا، حتى لا تتلاعب "الصدرو العظمى" وسائر الولاة والحكام بشرع الله, وإلا فإنهم لن يعوزهم العثور على علماء السوء الذين يستخرجون لهم شذوذات المذاهب وغرائبها ما يبيحون لهم بها كل شيء، والضرورة لا مقياس لها على وجه الدقة في زمان الفتنة، والترخص كذلك، فالأَوْلَى أن يكون الميزان هو "الحجة والبرهان" من أصول الشريعة المعروفة "الكتاب والسنة والإجماع والقياس"، والحق أحق أن يتبع. وغريب أن يعد المصنف القياس والاستحسان من أسباب التضييق, مع أن الفقهاء إنما لجأوا إليهما للتوسعة على الأمة فيما لم ترد به النصوص وهي قليلة، أو عندما تقع المصالح في الحرج، وأكثر من استخدام هذين الأصلين الحنفية؛ لذلك كان فقههم غنيًّا بالتفريعات وبالاستنباط، كما اعتنى المالكية بقاعدة المصالح المرسلة، وكل ذلك من أسباب التوسعة والتيسير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 الذكاة والصيد : غير خفي أن للذكاة عندنا حكمًا وسطًا بين إفراط اليهود وتفريط النصارى، فالأول لا يذبح لهم إلّا رئيس ديني بسكين بالغة الحد في التحديد، وفي مرة واحدة يمرها. ولا يخفى ما في ذلك من التضيق, والآخرون فرَّطوا حتى قتلوا عنق الدجاجة من غير إسالة دم، أما عندنا "فما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل ليس السن والظفر" كما في الصحيح1, فكل مميز يناكح يذكى، ولو يهوديًّا أو نصرانيًّا، ولو امرأة، حضريًّا أو بدويًّا، وكل محدد يفري الودجين تصح به الذكاة ولو حجرًا أو قصبًا إلّا السن والظفر، أما الصيد فإصابته بمحدد في أي موضوع, أو بناب كل معلَّم بنية في الكل, والمحرم عندنا هو المذكور في المائدة التي نزلت في السنة العاشرة, وهي آخر ما نزل من السور. قال تعالى: {حُرِّمَتْ   1 سَبَقَ تخريجه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} 1، قال ابن العربي في الأحكام لدى قوله تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ} 2 الآية: إنها نزلت على النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم نزل عليه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} 3، وذلك يوم عرفة -يعني في حجة الوداع- على قول الأكثر، وهذا يعكر على ما تقدَّم لنا في صدر القسم الأول من الكتاب أن الأنعام مكية باتفاق على ما في الإتقان4. وتقدَّم لنا أن وجوب ذكر اسم الله أو سنيته, وتحريم الميتة والدم ولحم الخنزير، شرِّعَ في أول بعثة قبل الهجرة بأية النحل وهي: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 5 وهي مكية، ونحوها في البقرة أيضًا وهي مدنية، فالذي تجدد في السنة العاشرة هو تحريم المنخنقة وما معها, وهي في معنى الميتة, فيحتمل أن آية المائدة بيان لآيات الأنعام والنحل والبقرة وهو الظاهر، ويحتمل أنها زيادة عليهما. وعلى كل حال الذي يظهر من القرآن والسنة أن العرب كانوا يذكون قبل الإسلام بدليل: {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ} 6 والنسيكة الذبيحة, وبدليل قصة الذبيح، وبدليل أنهم كانوا يذبحون لأصناهم، وكان لهم مذبح في البيت الحرام وبمنى، كما هو مقرر في الآثار، لم يجئ الشرع بجديد في أمر الذكاة على ما كان عندهم، نعم أتى بيانها وبيان آلتها وكيفيتها، ومنع مما كانوا يأكلونه من المنخنقة وما بعدها، وأمر بالتسمية, وأن ما ذكر عليه اسم صنم أو أي مخلوق فميتة, كما نهى عَمَّا كانوا يأكلون من الميتة, فإن القرآن مصرح بأنهم كانوا   1 المائدة: 3. 2 الأنعام: 145. 3 المائدة: 3. 4 عبارة ابن العربي في أحكام القرآن "2/ 764" تفيد أن الآية نزلت مرتين إن صح النقل، مع أن كون سورة الأنعام مكية لا يعكر عليه استثناء آيات منها كما ذكر في الإتقان "1/ 57"، إنما يعكر ذلك على ما ورد من نزولها جملة واحدة, فيحتاج إلى الجمع. 5 النحل: 115. 6 الحج: 67. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 يأكلونها، قال تعالى: {وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ} 1, فهم كانوا يأكلون المذكَّى والميتة معًا كما أنه فصل في الصيد, وأن ما صيد بعرض المعرض أو صاده بكلب غير معلَّم أو محرم فلا يؤكل ويعتبر ميتة, إلى غير ذلك من أحكام الميتة في القرآن والسنة، قال تعالى: {يَسْأَلونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} 2, وقال تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} 3. وقد أباح القرآن ذكاة الكتابيّ وهو ما يأكله أهل دينه, قال تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} 4 يهودًا أو نصار ولو قتلوا عنق الدجاجة على ما قال ابن العربي ومن تبعه لضرورة الخلطة, ولذا أباح لنا التزوج منهم وقبولهم ذمة تأليفًا وتوددًا, ولا يصحّ قصر الآية على اليهود لأنهم لا يأكلون ذبيحتنا، والله يقول: {وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} .   1 الأنعام: 139. 2 المائدة: 4. 3 المائدة: 96. 4 المائدة: 5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 الكلالة في الميراث : من آخر ما نزل من القرآن قوله تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} 1، فهذه في الإخوة أو الأخوات الأشقاء أو لأب عند عدم الأشقاء، وكان نزل قبلها آية آخرى وهي: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} 2، والإجماع على أن هذه الإخوة للأم وأنهم يرثرون الثلث فقط يشتركون فيه، سواء الذكر كالأنثى، فإن انفرد واحد فالسدس فقط ذكر أو أنثى، وفي الكلالة خلاف عريض ليس المحل محله.   1 النساء: 176. 2 النساء: 12. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 كمال الشريعة: نزل على النبي -صلى الله عليه وسلم- إعلامًا بكمال الشريعة قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِينًا} 1 بعرفة وهو واقف يوم عرفة عشية يوم الجمعة في حجة الوداع, كما في حديث عمر في الصحيحين2، والمراد والله أعلم من إكمال الدين إكمال أصواله التي تقدَّم الكلام عليها صدر الكتاب، فلا ينافي نزول آيتي تحريم الربا والكلالة بعد هذه الآية لتعلقهما بالفروع، وقال الطبري وغيره: إكماله بالحج إذ كانوا ممنوعين منه قبل الفتح، وقد روي عن ابن عباس أن قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} 3، نزلت قبل وفاته -عليه السلام- بتسع ليال4ٍ، وفي صحيح مسلم عن أنس أن الله -عز وجل- تابع الوحي على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل وفاته, حتى توفى وأكثر ما كان الوحي يوم توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم5.   1 المائدة: 3. 2 متفق عليه: البخاري "6/ 63"، ومسلم "8/ 238". 3 البقرة: 281. 4 انظر الإتقان "1/ 102". 5 متفق عليه: البخاري "6/ 224"، ومسلم "8/ 238". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 وقوع الاجتهاد في العصر النبوي مدخل ... وقوع الاجتهاد في العصر النبوي: إن وقوع الاجتهاد من الصحابة في عصره -عليه السلام, واستنباط الأحكام الفقهية من أصوالها, لا يمتري فيه مَنْ له معرفة بالسنة، وتقدمت أمثلة من ذلك ويأتي أيضًا كثير منها، ولنأت بعشرة أدلة، وقد يتضمَّن الواحد منها أدلة فنقول: 1- قال -عليه السلام- فيما رواه الترمذي: "أفرضكم زيد بن ثابت وأقضاكم علي" 1، وقضايا مشهورة أقرَّ منها النبي -صلى الله عليه وسلم- كثيرًا، وسيأت بعضها. 2- ومن ذلك فتواه في المرأة التي وقع عليها ثلاث رجال في طهر واحد بالقرعة كما تقدَّمَ، وقد أورد ابن القيم كثيرًا من قضاياه في كتابه "الطرق الحكمية" فلينظر2. 3- ومن ذلك اجتهاد بعض الصحابة لما قال -عليه السلام: "لا يصلين أحدٌ العصر إلّا في بني قريظة" فصلَّى البعض في الطريق محافظة على الوقت، وبعضهم وقف مع الأمر فلم يصل حتى وصل, والحديث في الصحيح3، فعذر الجميع ولم يعنّف على واحد منهم، وعن الاجتهاد تفرَّع مذهبا القياسيين وأهل الظاهر4.   1 ليس هذا لفظ حديث الترمذي، بل الذي فيه عن أنس -رضي الله عنه, أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أرحم أمتي بأمتي أبو بكر, وأشدهم في أمر الله عمر, وأصدقهم حياء عثمان, وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل, وأفرضهم زيد بن ثابت، وأقرؤهم أُبَيّ, ولكل أمة أمين, وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح" ورواه من طريق آخر عن أنس بنحوه, وليس فيه ذكر علي -رضي الله عنه. الترمذي "5/ 664"، وفي صحيح البخاري في تفسير البقرة "6/ 23"، عن عمر بن الخطاب أنه قال: "أقرؤنا أُبَيّ وأقضانا علي". وانظر "المقاصد الحسنة 723". 2 الطرق الحكمية ص "31، 46، 48، 49، 50، 51، 52، 55، 60، 61" وقد ذكر ابن القيم الفتوى المذكورة في أعلام الموقعين أيضًا "2/ 62". 3 أخرجه البخاري في المغازي "5/ 143". 4 وذلك أن الصحابة في هذه الواقعة اتجهوا اتجاهين في الفهم: فمنهم من فهم الأمر على ظاهره فتمسك به حتى خرج وقت العصر، ومنهم من فهم أن المبادرة إلى الخروج إلى بني قريظة والاستعجال في ذلك هو المقصود, دون أن يؤدي ذلك إلى تأخير الصلاة عن وقتها, فلم يقفوا عند الظاهر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 4- وروى سعيد بن منصور1 في سننه عن أبي عوانة وأبي الأحوص, عن سمك بن حرب, عن حنش الصنعاني, عن عليٍّ -كرم الله وجهه- قال: "لما بعثني النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى اليمن قاضيًا, حفر قوم زبية للأسد فوقع الأسد فيها, وازدحم الناس عليها فوقع فيها رجل, وتعلق بآخر, وتعلق الآخر بآخر, حتى صاروا أربعة، فحرجهم2 الأسد فيها فهلكوا، وحمل القوم السلاح وكاد يكون بينهم قتال، فأتيتهم فقلت لهم: أتقتلون مائتي رجل من أجل أربعة، تعالوا أقض بينكم؛ فللأول ربع الدية, وللثاني ثلثها, وللثالث نصف الدية، وللرابع الدية كاملة، وجعلت الديتان نصف سدس الدية على من1 حفر الزبية لقبائل الأربعة الموتى فسخط بعضهم، فلما قدموا على النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "القضاء كما قضاه علي" 3. قال ابن العربي في الأحكام: وتحقيقها أن الأربعة مقتولون خطئًا بالتدافع   1 تأتي ترجمته في أوائل القسم الثالث من الكتاب. 2 لفظ أحمد "فجرحهم", والحرج المكان الضيق، ويقال: أحرجت فلانًا إلى كذا: أي ألجأته إليه. 3 قال المصنِّف -رحمه الله: قوله على مَنْ حفر الزبية كذا في أحكام ابن العربي وفي أعلام الموقعين على من حضر رأس البير، فلا أدري هل الضاد تصحَّفَت إلى الفاء أو العكس, أو هو اختلاف الرواية، والذي يظهر من ابن القيم أن الضاد هي الرواية. 4 حديث "زبية الأسد" رواه حنش بن المعتمر الكناني عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه, أخرجه أحمد في المسند من رواية إسرائيل, ثنا سماك عن حنش، وفيها أنه -رضي الله عنه- قال: أجمعوا من قبائل الذين حفرو البئر ربع الدية -بالفاء- المسند "2/ رقم 573" ط. دار المعارف، وأشار الشيخ أحمد شاكر إلى أنه في نسخة -حضروا- بالضاد، وزعم -رحمه الله- أنه خطأ, ولذا اختار ما في النسخة الأخرى -أي بالفاء, وأما الشوكاني -رحمه الله- فيبدو أنه وجد في نسخته من المسند "حضروا" بالضاد, فاعتمدها في نيل الأوطار "7/ 74", ويؤيده ما في المسند نفسه في موضع آخر "2/ رقم 1309" ط. دار المعارف. وهو رواية حمَّاد عن سماك وفيه: وجعل الدية على قبائل الذين ازدحموا, كما يؤيدها ما أخرجه سعيد بن منصور في سننه من رواية أبي عوانة وأبي الأحوص عن حنش، وفيها: اجعل الدية على من حضر رأس البئر -بالضاد, وهي التي نقلها ابن القيم في أعلام الموقعين "2/ 58". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 في الحفرة لهم الديات على من حفر، بيد أن الأول مقتول بالمدافعة, قاتل الثلاثة بالمجاذبة، فله ربع الدية لمقتوليه، وعليه ثلاثة أرباع الدية لمن قتلهم، وأما الثاني فله ثلث الدية وعليه الثلثان للاثنين الذين قتلهما، وللثالث نصف الدية وعليه النصف للواحد الذي جذبه، فوقعت المحاصصة وغرمت العواقل، وهذا من بديع الاستنباط1، الذي لا يدركه الشادي, ولا يلحقه بعد التمرن إلّا العاكف المتمادي، وبقي عليه توجيه استحقاق الرابع للدية كاملة وهو ظاهر؛ لأنه لم يجذب أحدًا، فبقيت ديته كاملة لعاقلته, وإنما كانت الديتان ونصف سدسها على من حضر أو حفر, مع أن الأسد هو الذي عدا على الأربعة وقتلهم, والعجماء جبار, كما إذا تجاذبوا وغرقوا في البحر؛ لأن الحاضرين قد تسبَّبوا بالتزاحم, ولولا ما وصلت أذية الأسد إلى الساقطين كما أن الذين حفروا قد تسببوا أيضًا. 5- ومن ذلك ما قال الشعبي2: اجتمع ثلاث جوار فركبت إحداهن على عنق الأخرى, فقرصت الثالثة المركوبة فقمصت فسقطت الراكبة فوقصت, أي: كسرت عنقها, فماتت, فرقع ذلك إلى علي -كرم الله وجهه، فقضي بالدية أثلاثًا على عواقلهن، وألغى الثلث الذي قابل فعل الواقصة؛ لأنها أعانت على قتل نفسها3، ولطائف أحكام علي كثيرة كأخبار شجاعته وكرم حاتم. 6- ومما يدل لذلك تولية الأحكام والجيوش لمن كان حديث عهد بالإسلام كعتاب بن أسيد4 الذي أمَّره -صلى الله عليه وسلم- على مكة بعد الفتح على صغر سنه وحدوث عهده بالإسلام, ثم حج بالناس سنة ثمان, وأمَّر عمرو بن العاص على جيش ذات السلاسل بفور إسلامه, فصلى بهم جنبًا بالتيمم كما في الموطأ, ولم يؤمروا بالإعادة5، وولَّى خالد بن الوليد وغيرهم, ولم يكونوا يحفظون إلا اليسير من السنة، ولكن كانت فيهم قابلية الاجتهاد لمعرفتهم باللسان، وكان معهم من يحفظ السنة وربما أخطأوا في الاجتهاد فأرشدهم, كخالد حين قتل من قالوا   1 أحكام القرآن: "4/ 1627". 2 عامر بن شراحيل: ترجم له المؤلف في أوائل القسم الثاني، وانظر "تاريخ بغداد" "12/ 227"، و"تهذيب التهذيب" "5/ 65". 3 أعلام الموقعين "2/ 58". 4 قال المؤلف -رحمه الله: عتاب كنفاع, صيغة مبالغة, وأسيد بوزن عتيد. 5 الإصابة "4/ 429". 6 سبق تخريجه ص 71. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 صبأنا، فقال -عليه السلام: "اللهم إني أبرؤ إليك مما صنع خالد" ووداهم من مال المسلمين لا من مال خالد لعذره بالاجتهاد, ولم يعزله بل أبقاه على ولايته1. ويأتي لنا قريبًا ترجمتا القضاة والمفتين على العهد النبوي، فكل ذلك دلائل على ثبوت الاجتهاد، وفي صحيح مسلم عن النعمان بن بشير قال: كنت عند منبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال رجل: ما أبالي أن لا أعمل بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج، وقال آخر: ما أبالي أن لا أعمل عملًا بعد الإسلام إلا أن أعمّر المسجد الحرام، وقال آخر: الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم, فزجرهم عمر وقال: ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يوم الجمعة، ولكن إذا صليت الجمعة دخلت فاستفتيه فيما اختلفتم فيه, فأنزل الله: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} 2 الآية. 7- وجوَّز للحاكم أن يجتهد, فإن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فلا وزر عليه بل له أجر واحد كما في صحيح مسلم3. 8- وهكذا أولى ماذ بن جبل مخلافًا من اليمن، وقال له: "بم تحكم يا معاذ"؟ فقال: بكتاب الله. قال: "فإن لم تجد" , قال: بسنة رسول الله، قال: "فإن لم تجد" , قال: أجتهد ولا آلوا. فقال: "الحمد لله الذي وفَّق رسول رسول الله" رواه أبو داود وغيره4, وتكلَّم فيه الجوزقاني5، لكن له شاهد عند البيهقي في سننه، وقد استدلَّ به ابن العربي في الأحكام, وقواه السيوطي في كتاب القضاء من حاشية أبي داود، وكذلك ابن القيم في أعلام الموقعين، فقد قال: رواه شعبة قال: حدثني أبو عون عن الحرث عن عمرو بن أناس من أصحاب   1 أخرجه البخاري "5/ 203". 2 التوبة: 19، والحديث أخرجه مسلم في الإمارة "6/ 36"، وراجع تفسير القرطبي "8/ 92". 3 سبق تخريجه "ص78". 4 أبو داود "3/ 203"، والترمذي "3/ 607". 5 أو الجوزقاني: -بالراء- الحسين بن إبراهيم أبو عبد الله، من كتبه "الموضوعات"، وكتاب الأباطيل" ت سنة 543هـ "اللباب في تهذيب الأنساب" "1/ 250". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 معاذ عن معاذ. الحديث. قال: وعدم تسمية أصحاب معاذ لا تضره إذ شهرة أصحابه بالدين والعلم والفضل والصدق بالمحل الذي لا يخفى, ولا يعرف في أصحابه متهم ولا كذّاب ولا مجروح, بل أصحابه من أفاضل المسلمين وخيارهم، لا يشك أهل العلم بالنقل في ذلك، بل يدل على شهرة الحديث وأنهم جماعة لا واحد، وهذا أبلغ في الشهرة من أن يرويه عن واحد مسمَّى, كيف وشعبة حامل لواء هذا الحديث، وقد قال فيه بعض أئمة الحديث: إذا رأيت شعبة1 في إسناد حديث فاشدد يدك عليه، قال أبو بكر الخطيب: وقد قيل: إن2 عبادة بن نسي رواه عن عبد الرحمن بن غنم عن معاذ، وهذا إسناد متصل، ورجاله معروفون بالثقة, على أن أهل العلم قد نقلوه واحتجوا به, فوقفنا بذلك على صحته عندهم, كما وقفنا على صحة قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لا وصية لوارث" , وقوله في البحر: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته" , وقوله: "إذا اختلف المتبايعان في الثمن والسلعة قائمة تحالفا ورد البيع" , وقوله: "الدية على العاقلة" , وإن كانت هذه الأحاديث لا تثبت من جهة الإسناد. أ. هـ كلام الخطيب3. قلت: والحديث كما هو في أبي داود كذلك في الترمذي بإسنادين عن شعبة عن أبي عون الثقفي عن الحرث بن عمرو, عن رجال من أصحاب معاذ. قال أبو عيسى: لا نعرفه إلّا من هذا الوجه, وليس إسناده عندي بمتصل4، لكن قال الشهرستاني في الملل والنحل: قد استفاض بهذا الحديث الخبر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم4. 9- وقال -عليه السلام: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين بعدي" 6. وقال كما في صحيح مسلم: "إن يطع القوم أبا بكر وعمر يرشدوا" 7، فلو لم يكونوا مجتهدين واجتهادهم صائب ما أمر بالاقتداء بهم, والأدلة على ذلك كثيرة.   1 شعبة بن الحجاج الواسطي البصري, ت سنة 160هـ, ترجم له المؤلف بإيجاز في أواخر القسم الثاني، وانظر: "تاريخ بغداد" "9/ 255"، "تهذيب التهذيب" "4/383". 2 قال المؤلف -رحمه الله: عبادة بضم العين بن نسي -بضم النون وفتح المهملة وتشديد الباء- هو الكندي قاضي طبرية, أخرج له أصحاب السنن الأربعة, موثق. 3 أعلام الموقعين "1/ 202". 4 الترمذي "3/ 607". 5 الملل والنحل "2/ 39"، على هامش الفصل لابن حزم. ط. الأدبية بمصر سنة 1317هـ. 6 من حديث العرباض بن سارية -رضي الله عنه, أخرجه: أبو داود "4/ 201"، والترمذي "5/ 44"، وابن ماجه "1/ 16". 7 أخرجه مسلم عن أبي قتادة. المساجد "2/ 139". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 أصول الفقه انتهت في العهد النبوي, والفروع لا تنتهي أبدًا, لذلك شرِّع الاجتهاد: إن أصول الفقه وإن كملت في الزمن النبوي ففروعه لم تتم بعد، ولا أنتهاء لها أبدًا ما دامت الحوادث، ولما كان استيعاب جميع الفروع الفقهية وأعيان الوقائع الجزئية والإحاطة بجميع أحكامها وإنزل شريعة بذلك، لا يسعه ديوان, ولا تطيقه حافظة الإنسان، مع جواز وقوعه عقلًا، لطف الله بنا فأنزل العمومات لتستنبط منها المسائل الخاصة بالاندراج، وأنزل المسائل الخاصة ليقاس عليها ما يماثلها في علة الحكم أو يشابهها، ووكَّل إلى نبيه تدريب الأمة على الاجتهاد والاستنباط ليحصل لهم ثواب الاجتهاد الذي جعله من أفضل العبادات، ودليل كمال النفس والفكر, وتحصيل ثمرة الفهم والعقل الذي أكرم الله به الإنسان، فكان -صلى الله عليه وسلم- يمرنهم ويرشدهم إلى الاجتهاد، كقوله لما سُئِلَ عن الحمير: " ما أنزل الله عليّ فيها إلّا هذه الآية الجامعة الفاذة: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} 1 " فبيَّن لهم بهذا الجواب كيفية اندراج الجزئي في الكلي, وأن العام حجة, وأنه يعمل به قبل البحث عن المخصص. وكقوله للرجل الذي قال: إن زوجتي ولدت غلامًا أسود، يريد أن يلاعنها: "هل لك من إبل حمر فيها جمل أورق"؟. قال: نعم نزعه عرق, قال: "فكذلك هذا عسى أن يكون نزعة عرق" 2 يشير له إلى قياس الشبه، وكذلك قوله للحسن: "كخ كخ, إنا آل محمد لا نأكل الصدقة" 3، يمرنه مع صغره على معرفة الحكم بدليله، وكقوله لعائشة ولجويرية في اللحم الذي تصدق   1 البخاري في تفسير سورة الزلزلة "6/ 217". 2 سبق. 3 متفق عليه: البخاري "2/ 157"، ومسلم "3/ 117". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 به على بريرة: "هو لها صدقة ولنا هدية"1. وهذه أحاديث في الصحيح, وكل ذلك تمرين لهم على الاجتهاد، وهذا عاشر الأدلة على ثبوت اجتهاد الصحابة في عصره -عليه السلام, كما أنه دليل على قياسهم خلافًا للظاهرية, وحاشا الصحابة أن يكون جامدين، وحاشا الشريعة العامة الدائمة أن تأمر بالجمود والله يقول: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} 2، والصحابة مقتدون في الاجتهاد بالرسول -عليه السلام, وقد أثبتنا فيما سبق اجتهاده، بل الرسل كلهم يجتهدون، فأكل آدم من الشجرة عن اجتهاد، وتزوج داود بامرأة أوريا عن اجتهاد، إذ هم معصومون عن الذنوب عمدًا وسهوًا, كبيرة وصغيرة, وكل ما عوتبوا عليه مما ثبت في القرآن أو السنة فهو واقع منهم عن اجتهاد كما حقَّقه الحاتمي3 وغيره, وهكذا كل ما وقع بين الصحابة من القتال والخلاف.   1 متفق عليه: البخاري في الهبة "3/ 203"، ومسلم في الزكاة "3/ 120". 2 النساء: 83. 3 لعله أحمد بن محمد بن عبدوس بن حاتم، له ترجمة في تاريخ بغداد "5/ 69". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 إباحة الاجتهاد بعده -عليه السلام- بل وجوبه, كفاية على أهله صحابة وغيرهم: إن ما اشتملت عليه الترجتمان قبله كله أدلة واضحة على مضمون هذه الترجمة, فلا نطيل بيانه إذ ذلك يدرك بأدنى تأمّل, ولعدم الفرق بين حياته ووفاقته -عليه السلام- في ذلك, ثم الإجماع على ذلك، فقد نهى عمر عن التمتع في الإهلال بالحج, مع ما ثبت أن الصحابة فعلوه بأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع لما رأى أن ذلك كان لعلة ذهبت, وقال: متعتان كانت على عهد رسول الله, أنا أنهى عنهما، وأعاقب عليهما، متعة النساء ومتعة الحج1. وحرق عثمان مصاحف الصحابة التي كان على الأحرف السبعة التي نزل القرآن بها, وجمعهم على حرف واحد اجتهادًا وأخذًا بسد الذرائع, ووقع الإجماع على تصويب رأيه2. ونهى عثمان عن قصر الصلاة, وأمر المتأهل بمكة بالإتمام أيام الحج بعدما كان يقصرها, والخليفتان قبله لما تغير له من الاجتهاد، وأردف ابن عمر الحج على العمرة وقال: ما أمرهما إلا واحد, فإذا أحصرت عنهما ومنعت من دخول مكة تحللت منهما كما تحلل النبي -صلى الله عليه وسلم- من العمرة3. وأمثال هذه كثيرة سيرد عليك منها ما يقنع.   1 يوضح ما قاله المصنف ما جاء في صحيح مسلم "4/ 38" أنه -رضي الله عنه- قال: إن الله كان يحل لرسوله ما شاء, وإن القرآن قد نزل منازله, فأتموا الحج والعمرة لله كما أمرك الله. وفي النسائي "5/ 119": قد علمت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- فعله, ولكن كرهت أن يظلوا معرسين بهن على الأراك, ثم يروحوا بالحج تقطر رءوسهم. 2 انظر ما سبق من التعليق. 3 متفق عليه: البخاري "2/ 192، 3/ 10"، ومسلم "4/ 50، 51". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 القضاة والحكام على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم: روى الطبراني برجال الصحيح عن مسروق1 قال: كان أصحاب القضاء من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ستة: عمر، وعلي، وعبد الله بن مسعود، وأُبَيّ ابن كعب، وزيد بن ثابت، وأبو موسى الأشعري2. وروى أحمد والترمذي وعبد بن حميد وأبو يعلى وابن حبان, أن عثمان قال لابن عمر -رضي الله عنهم: اقض بين رجلين فإن أباك كان يقضي. فقال: إن أبي كان يقضي فإن أشكِلَ عليه شيء سأل النبي -صلى الله عليه وسلم, فإن أشكِلَ على النبي -صلى الله عليه وسلم- شيء سأل جبريل، وأنا لا أجد من أسأل ولست مثل أبي3. قال الشامي4 في سيرته: يريد أنه كان يقضي في بعض الأمور في أوقات مختلفات, لا أنه كان يقضي دائمًا، والدليل على ذلك حديث ابن عمر -رضي الله عنهما: ما اتخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قاضيًا ولا أبو بكر ولا عمر، حتى كان في آخر زمانه قال ليزيد بن أخت نمير: اكفني بعض الأمور، رواه أبو يعلى, ورجاله رجال الصحيح5، وروى الطبراني بسند جيد عن السائب بن يزيد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يتخذ قاضيًا, وأول6 من استقضى عمر. قال: رد عني الناس في الدرهم   1 مسروق بن الأجدع الهمداني أبو عائشة الكوفي، أحد التابعين، روى عن أبي بكر وعمر وعلي ومعاذ، ت سنة 63 هـ "خلاصة الخزرجي" "374". 2 مجمع الزوائد "9/ 313". 3 هذا حديث يزيد بن عبد العزيز بن موهب، وليس هذا لفظه، تصرّف المصنف في لفظه، انظر الترمذي "3/ 603"، ومسند أحمد "1/ رقم 475"، ومجمع الزوائد "4/ 193، 5/ 200"، والترغيب والترهيب "3/ 282". 4 محمد بن يوسف الصالحي: انظر ص135. 5 مجمع الزوائد "4/ 196". 6 قال المؤلف -رحمه الله: سيأتي أن أبا بكر استقضى عمر, فكان أول قاض في الإسلام بعده -عليه السلام، والسبب في تولي النبي -صلى الله عليه وسلم- القضاء بنفسه ظاهر، وهو أن العدل أساس العمران، ولا ارتقاء ولا رجاء لتأليف أمة وتعاضده وتكوين وحدتها إلّا بالعدل والأمن على الحقوق, لهذا كان -عليه السلام- يتولى القضاء بنفسه تأليفًا لهم وتدريبًا على إقامة العدل والاجتهاد، وتنبيهًا لهم أن يكونوا قوَّامين بالقسط, وأن يلي قضاءهم من يكون أفضلهم وأنزههم وأعلمهم, ولما أضاع المسلمون ما أرشد إليه الرسول تأخروا وانحطت جامعتهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 والدرهمين1. قلت: مرادهم أنه -عليه السلام- لم يستقض أحدًا بحضرته في المدينة, وإلا فقد ثبت أنه وجَّه عليًّا قاضيًا إلى اليمن, ومعاذًا كذلك، وقال له: "بم تقضي" قال: بكتاب الله، الحديث في أبي داود وتقدَّمَ2، وقال -عليه السلام: "أقضاكم علي" رواه الترمذي3. وروى أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه, أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعث معقل بن يسار قاضيًا إلى اليمن وهوحديث السن, ودعا له أن يهدي قلبه ويثبت لسانه، قال: فما شككت في قضاء بين اثنين4 ومن جملة من استقضاهم النبي -صلى الله عليه وسلم- في أشياء خاصة: عقبة بن عامر الجهني، ورى الإمام أحمد برجال الصحيح والدراقطني بسند حسن عنه قال: جاء خصمان إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يختصمان فقال: "قم يا عقبة اقض بينهما" فقلت: بأمي وأبي يا رسول الله, أنت أولى بذلك. قال: "وإن كان اقض بينهما" قلت: على ماذا؟ قال: "اجتهد, فإن أحسنت فلك عشر حسنات, وإن اجتهدت فأخطأت فلك أجر واحد" 5. ورى أحمد والطبراني نحوه عن عمر, وروى أحمد والطبراني والحاكم6 معقل بن يسار المزني قال: أمرني رسول الله أن أقضي بين قوم. فقلت: ما أحسن أن أقضي يا رسول الله. قال: "إن الله مع القاضي ما لم يحف   1 مجمع الزوائد "4/ 196". 2 سبق تخريجه. 3 سبق تخريجه. 4 ليس هذا الحديث في الترمذي، والذي عند أبي داود "3/ 301"، وابن ماجة "2/ 774"، وأحمد "1/ 88، 136، 149، 156، 161"، أنه بعث علي بين أبي طالب ودعا له أن يهدي الله قلبه ويثبت فؤاده, وأما معقل بن يسار فالذي روي عنه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمره أن يقضي بين اثنين فقال: ما أحسن أن أقضي يا رسول الله؟ قال له النبي -صلى الله عليه وسلم: "الله مع القاضي ما لم يحف عمدًا" أحمد "5/ 26". 5 الدراقطني "4/ 203"، وأحمد "4/ 205"، وأخرج مثله عن عمرو بن العاص. 6 قال المؤلف -رحمه الله: معقل كمعدان, وبسار كسحاب, والمزني بضم ففتح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 عمدًا" 1. وروى الدراقطني أن حذيفة بعثه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقضي بين قوم في حصن فقضى للذي يليهم القمط2 -وهو بضمتين جمع قماط, كلمة نبطية, حزمة من قصب يلقى على خشب السقف, ومن جملة من حكَّمهم النبي -صلى الله عليه وسلم- عمرو بن حزم، أمره أن يحكم بالشاهد واليمين كما في سيرة الشامي3، وتولية عتاب بن أسد على مكة وغيره كله من هذا القبيل.   1 مجمع الزوائد "4/ 193"، وأحمد "5/ 26"، والحاكم "3/ 577" وفيه أبو داود الأعمى، قال الهيثمي: كذاب، وروى نحوه عن ابن مسعود مرفوعًا, وفيه حفص بن سليمان القارئ. 2 رواه ابن ماجه "2/ 785"، والدراقطني "4/ 229". 3 سبل الهدى والرشاد لمحمد بن يوسف الصالحي. انظر التعليق ص135. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 المفتون على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم: سيد المفتين وأولهم على الإطلاق وأكملهم وأجلهم وأعظمهم هو سيدنا محمد رسول الله بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان أبو القاسم -صلى الله عليه وسلم. بناء على الصحيح من اجتهاده -عليه السلام، وثبوت ذلك، وكيف لا يكون سيد المفتين وهو نبيهم الموصوف بالعصمة, المؤيَّد بالوحي والتنزيل, الذي أوتي جوامع الكلم، واختصر لها الكلام اختصارًا، وما ينطق عن الهوى, المؤيَّد بالمعجزات الباهرة، والقرآن الحكيم، الأمين المأمون، أكمل النبيين وأفضل المرسلين وأشرف العالمين وإمام المتقين، هادي الأمة وأعظم منة، الذي ختمت به النبوة، وكمل به نظام المجتمع الإنساني -صلى الله عليه وسلم, ولقد ألف أحمد بن عبد الصمد الغرناطي1 المتوفَّى سنة 580 ثمانين وخمسمائية كتابًا في الأقضية النبوية سماه: "آفاق الشموس وأعلاق النفوس", وقد ختم في أعلام الموقعين بفتاويه -عليه السلام, مرتَّبة على أبواب الفقه، ولكن الجلّ منها لا يتعين فيه الاجتهاد, بل الظاهر أنه عن وحي، لكن البعض من ذلك عن اجتهاد بلا شك: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} ، وقد نص القرافي2 في الفرق "36" على أنه -صلى الله عليه وسلم- المفتي الأعلم والقاضي الأحكم وعالم العلماء، فجميع المناصب الدينية فوَّضها الله إليه في رسالته، فهو أعظم من كل مَنْ تولّى منصبًا منها إلى يوم القيامة، فما من منصب ديني إلّا وهو متصف به في أعلى مرتبة، غير أن غالب تصرفه -صلى الله عليه وسلم   1 أحمد بن عبد الصمد بن أبي عبيدة الأنصاري الخزرجي الغرناطي، انظر ترجمته في الديباج المذهب "1/ 215". 2 سبقت ترجمته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 بالتبليغ. ثم أعظم المجتهدين بعده, وأكمل المفتين هم صاحبته الكرام, الذي اختارهم الله لصحبته, وأكرمهم بالتلقي عنه والقيام بالهجرة إليه ونصرته, وكيف لا يكونون أعظم المجتهدين وقد شاهدوا نوره الباهر الذي هو إكسير الأرواح, وعاينوا نزول الشريعة عليه وتنزيلها على مواقعها, وشاهدوا إفتاءه وأحكامه, وتلقوا عنه في ذلك نظامه، فكانوا في الصلاة خلفه, وفي النصرة أمامه. وهم أعرف الناس بمواقع خطابه ولغته وبيانه, فهم الذين كان الخطاب يوجه إليهم فيأتون بصورة الأوامر وهو إليها ناظر، قائم عليهم، وشاهد في قيامهم بالشعائر، وقد أثبتنا فيما سبق اجتهادهم على العهد النبوي، وقد كان منهم جماعة موسومة بالعلم والفتوى في حياته -عليه السلام، قال الليث بن سعد1, عن مجاهد: العلماء أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم, وقال قتادة: هم المعنيون بقوله تعالى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} الآية2. وفي الصحيح في قصة صاحبة العسيف التي رجمت: أن أهل العلم أخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام. الحديث3. وفي صحيح مسلم عن أنس بن مالك أن ناسًا من الأنصار قالوا يوم حنين حين أفاء الله على رسوله من أموال هوازن ما أفاء, فطفق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعطي رجالًا من قريش المائة من الإبل، فقالوا: يغفر الله لرسول الله, يعطي قريشًا ويتركنا, وسيوفنا تقطر من دمائهم. قال أنس بن مالك: فحدث ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن قومهم, فأرسل إلى الأنصار فجمعهم في قبة من أدم, فلما اجتمعوا جاءهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "ما حديث بلغني عنكم" فقال له فقهاء الأنصار: أما ذوو رأينا يا رسول الله لم يقولوا شيئًا. الحديث4, فسماهم فقهاء إذ ذاك, ويروى عن سهل بن أبي عمر خيثمة5 قال: كان الذين يفتون على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم   1 تأتي ترجمته في القسم الثاني من الكتاب. 2 سبأ: 6. 3 سبق تخريجه. 4 متفق عليه: البخاري في الجهاد "4/ 114"، ومسلم في الزكاة "3/ 105". 5 إن كان هو الصحابي فاسمه سهل بن أبي حثمة. الإصابة "3/ 195". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 ثلاثة من المهاجرين، وثلاثة من الأنصار: عمر، وعثمان، وعلي، وأُبَيّ بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت. وعن علي بن عبد الله بن يسار الأسلمي1 قال: كان عبد الرحمن بن عوف ممن يفتي في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم. قال القاسم بن محمد2: كان أبو بكر وعمر وعثمان وعلي يفتون على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم. فهؤلاء ثمانية، وقال ابن الجوزي في "المدهش"3: إن الذين كانوا يفتون على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عشرة: أبو بكر وعمر، وعثمان، وعلي، وعبد الرحمن بن عوف، ومعاذ بن جبل، وعمار بن ياسر، وحذيفة بن اليمان، وزيد بن ثابت، وأبو الدرداء، وأبو موسى الأشعري، فصاروا اثني عشر مفتيًا, ونظم ذلك شمس الدين بن الشملي: وفي زمن المختار أفتى بعصره4 ... أبو بكر، الفاروق، عثمان، حيدر حذيفة، عمار، وزيد بن ثابت ... معاذ، أبو الدرداء، وهو عويمر أُبَيّ, أبو موسى إلى أشعر انتمى ... وختم نظامي بابن عوف معطر "أ. هـ بخ" من سبل الهدى والرشاد4. فالخلفاء الأربعة لولا أنهم بتلك المرتبة العليا في الفقه والفتيا ما قال -عليه السلام:$"عليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين بعدي"5، وقال: "أقضاكم   1 في الإصابة، عن نيار الأسلمي عن أبيه "4/ 347". 2 القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، أحمد فقهاء المدينة السبعة, من سادات التابعين، ت سنة 107. الجرح والتعديل "ق2/ ج2: 118" ترجم له المؤلف في أوائل القسم الثاني. 3 عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي أبو الفرج البغدادي، ت سنة 597 هـ, "وفيات الأعيان" "1/ 279". 4 بإمرة. 5 انظر ص135. 6 سبق تخريجه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 عليّ، وأفرضكم زيد بن ثابت، وأعلمكم بالحلال والحرام معاذ, وأقرؤكم أُبَيّ" 1، والحديث أصله في الصحيح, بعض منه في الترمذي وغيره. وقال في الإصابة في ترجمة زيد بين ثابت: روى ابن سعد بإسناد صحيح، قال: كان أصحاب الفتوى ستة، عمر، وعليّ، وابن مسعود، وأبو موسى، وأُبَيّ بن كعب، وزيد بن ثابت -رضي الله عنهم. وفي الاستيعاب لابن عبد البر في ترجمته أبي الدرداء, عن مسرق2 قال: شافهت أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- فوجدت علمهم انتهى إلى ستة: عمر، وعلي, وعبد الله بن مسعود، ومعاذ, وأبي الدرداء، وزيد بن ثابت. فزاد على ابن الجوزي عبد الله بن مسعود, إلا أنهما لم يصرحا بأن ذلك في العهد النبوي، وقال الشعبي3: ثلاثة يستفتي بعضهم من بعض: عمر، وعبد الله بن مسعود، وزيد بن ثابت، وكان علي، وأُبَيّ بن كعب، وأبو موسى, يستفتي بعضهم من بعض. قال الشيباني: قلت للشعبي: وكان أبو موسى بذاك، فقال: ما كان أعلمه، قلت: فأين معاذ. قال: هلك قبل ذلك. نقله في أول أعلام الموقعين4. وكتب عمر إلى معاوية وهو والٍ بالشام في خلاف وقع بينه وبين عبادة بن الصامت في الصرف مفاضلة من جنس واحد أجازه معاوية مناجزة ومنعه عبادة. يقول: متى كنت فقيهًا, فإن عبادة كان يفتي وأنت تسكر مع قينات مكة5, يعني: حال كفره قبل الفتح، فهذا يدل على أن عبادة من جملتهم, فصاروا أربعة عشر مفتيًا، ولذلك ذيلت النظم السابق بهذا البيت. ومن جملة المفتين أيضًا عبادة ... كذلك ابن مسعود إمام منور فكل هؤلاء السادة استنبط الأحكام من أصولها, وأفتى في العهد النبوي, وحفظت فتاويهم وهي منقولة في كتب الحديث والسير. قلت: بل كل من ولي أمرًا للنبي -صلى الله عليه وسلم- بعيدًا منه إلّا وصار مفتيًا, مثل معاذ بن   1 سبق تخريجه. 2 ترجمته تقدمت قريبًا. 3 انظر ما سبق. 4 "1/ 14-21". 5 أصله في الصحيح: مسلم:5/ 43"، وفيه ما يفيد أنه كان في خلافة معاوية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 جبل والي اليمن، ومثل أبي عبيدة بن الجراح الذي كان أمير سرية الخبط وأفتاهم بأكل الحوت، ومثل أبي سعيد الخدري الذي أفتى نفسه وأصحابه بأخذ الجعل على الرقية، ومثل أبي قتادة الذي اصطاد وهو حلال, وأفتى من كان محرمًات بالأكل من صيده، وينبغي أن يعد منهم سعد بن معاذ الذي حكَّمه -صلى الله عليه وسلم- في بني قريظة، وأمثاله ممن توفي في الحياة النبوية, ونقلت عنهم بعض فتاوى صادرة في العهد النبوي؛ كعثمان بن مظعون، وجعفر بن أبي طالب، وسيأتي ذلك في كلام ابن حزم في الطور الثاني بعده، وعلى هذا فعددهم أكثر من أربعة عشر بكثير. نعم هؤلاء "14" كانوا يفتون بحضرته -عليه السلام, على أنَّا نعلم أن فتاوى الصحابة لم يكن القصد منها إلّا التمرين على الاجتهاد, وكانت قوية جدًّا بالنسبة لما كان ينزل من الأحكام, ولما كان يبينه -عليه السلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 ترجمة أبو بكر الصديق : سيدنا عبد الله بن أبي قحافة التيمي القرشي, صاحب الرسول في الغار ورفيقه في الهجرة, والسابق الأول للإسلام، لم يعبد صنمًا قط توفيقًا من الله وفطرة فطره الله عليها، ولا شرب الخمر قط، والمقدَّم للصلاة في الحياة النبوية، والذي قدَّم نفسه وماله كله لله، والخليفة الأول بعده بإجماع من يُعْتَدُّ به، والذي أنقذ الإسلام بعد الوفاة النبوية بعلمه وتوفيقه وعدله وصرامته في الحق، وأنفذ وصايا رسول الله، كان قوالًا بالحق، صادعًا بالأمر، سالكًا سبيل الصدق، غير مائل ولا متجافٍ، قائمًا بالعدل، لا تأخذه في الله لومة لائم، لم يستأثر بمال، ولا مال قط عن سنن الرسول، وكان يوليه الرسول الجيوش، موصوفًا بأصالة الرأي، خطيبًا مصقعًا، وقد وجهه -عليه السلام- أمير الحاج سنة تسع، ولا يوجّه لهذه الوظيقة إلّا من كان بالمكانة العليا فقهًا وإفتاء, ليعلمهم مناسكهم ويفتهيم فيما لم يعلموا. قال -عليه السلام- فيما رواه الترمذي عن حذيفة: "اقتدوا بالذين بعدي: أبي بكر وعمر، واهتدوا بهدي عمار، وتمسَّكوا بعهد ابن أم عبد" قال الترمذي: حديث حسن1. وفي الصحيح: "إن من أمنّ الناس عليّ صحبته وماله أبا بكر, ولو كنت متخذًا خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلًا, ولكن أخوة الإسلام ومودته, لايبقين في المسجد خوخة إلا خوخة أبي بكر" 2، وقال -عليه السلام: "إن يطع القوم أبا   1 هذا اللفظ: رواه الترمذي عن ابن مسعود "5/ 672"، وقال: حديث حسن غريب من هذا الوجه من حديث ابن مسعود, لا نعرفه إلّا من حديث يحيى بن سلمة بن كهيل، وروي الجزء الأول منه عن حذيفة "5/ 609"، ورواه كذلك ابن ماجه في المقدمة "1/ 37". 2 متفق عليه: البخاري "5/ 4"، ومسلم "7/ 108". 3 سبق تخريجه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 وقال أبو سعيد الخدري: كان أبو بكر أعلمنا برسول الله -صلى الله عليه وسلم, وقال له عمر: رأينا لرأيك تبع. أجمعت الأمة أنه المعني بقوله تعالى: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى} 1، قال الفخر الرازي: إذا ضمَّت هذه الآية لقوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} 2 أنتج لنا ذلك أنه أفضل الأمة بعد نبيها -صلى الله عليه وسلم, توفى سنة "13" ثلاث عشرة3.   1 الليل: 17. 2 الحجرات: 13. 3 ترجمة أبي بكر في الإصابة "4/ 169"، والاستيعاب "3/ 963"، وأسد الغاية "3/ 205". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 ترجمة أبو حفص سيدنا عمر بن الخطاب القرشي العدوي : الخليفة الثاني بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم, قال فيه -عليه السلام- فيما رواه الترمذي وحسنه: "لو كان بعدي نبي لكان عمر"، وفي لفظ: "لو لم أبعث فيكم لبعث فيكم عمر"4، وأسلم بعد البعثة بنحو ست سنين، وله من العمر ست وعشرون سنة، وهو مكمل أربعين رجلًا في الإسلام وبضع عشرة امرأة, أسلم ببركة دعاء رسول الله الذي قال: "اللهم أعزَّ الإسلام بأحب الرجلين إليك، عمر بن الخطاب, أو عمرو بن هشام" 5 يعني: أبا جهل، وهو الذي وافق ربه بضعة عشر موضعًا، فهو الذي قال: لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى،   4 الترمذي: "5/ 619"، وقال: حديث حسن غريب, لا نعرفه إلّا من حديث مشرح بن عاهان, أما قوله: "لو لم أبعث فيكم لبعث عمر". فليس في الترمذي، قال الصغاني: موضوع: انظر كشف الخفا "2/ 231"، واللآليء المصنوعة "1/ 302". 5 رواه الترمذي عن ابن عمر وفيه قال: وكان أحبهما إليه عمر، قال الترمذي: حديث حسن صحيح غريب "5/ 617", وروى عن ابن عباس أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "اللهم أعز الإسلام بأبي جهل أو بعمر" قال: فأصبح فغدا عمر على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأسلم. قال الترمذي: حديث غريب من هذا الوجه. وأخرج ابن ماجه في المقدمة عن عائشة -رضي الله عنها- أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب خاصة" وفي إسناده ضعف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 فنزلت الآية بوفقه، وهو الذي قال لرسول الله -صلى الله عليه وسلم: إنه يدخل عليك البر والفاجر, فلو أمرت نساءك أن يحتجبن, فنزلت آية الحجاب, فهو السب في الحجاب في الإسلام. وهو الذي قال: اللهم بيِّن لنا في الخمر بيانًا شافيًا. فنزل تحريمه. وهو الذي أشار بقتل أسارى بدر، وخالفه غيره, فنزل القرآن بتصويب رأيه، وكم لذلك من نظير. وترجمة هذا السيد الجليل والخليفة الأعظم لا تفي بها هذه النتفة فلها أسفار، فسيدنا عمر كما له الفضل على الأمة سياسة، وفتحًا وعدلًا، واستقامة، وقيامًا بنشر الدين، والنفوذ الإسلامي، والعلم، والأمن، والتهذيب، وتنظيم دولة الإسلام العظمى في الأقطار الشاسعة, وضبط إدارتها التي استعار جلها عن دولة الفرس التي محقها برأيه وتدبيره وسيفه ودهائه، وما كان ليانف من اقتباس إدارة بلاده عن أمة أبادها سيفه لسعة فكره, وما كان ليجعل سياسته محض التقليد الجامد, وقصر كل شيء على الدين، ولو لم يكن من الدين, بل كان ينظر مصلحة الدنيا والدين معًا، فلقد أشار عليه الوليد بن هشام بأن يدون الدواوين وينظَّم جنده على نسق ما كان عند الروم في الشام، ففعل ولم يستنكف أن يأخذ ذلك عنهم، ولا جمد على أنه بدعة، بل نظر مصلحة الإسلام، وهكذا فعل في ضرب الخراج، كما يأتي في اجتهاده، وغير ذلك مما يطول من محاسنه. كذلك خدم الأمة بفكرة ورأيه وعلمه وصحيح إدراكه واجتهاد في أحكام أصاب فيها روح الترشيع الإسلامي, وعين المصلحة العامة التي جاءت الشريعة بحفظها, ويأتي بعض فروع من اجتهاده تبين لك ذلك، ولو أن عمر فسح له في الأجل واطَّلع على تنظيم أصول الشورى، ومجلس النواب، الذي كان عند أمة الرومان قبله, ونظام ديموقراطيتهم لنظَّم الإسلام على ذلك النمط، ولو أنه أتيح له ذلك ما كان يتأتى لأمة أن يبقى في المعمور إلا وانتظمت في جامعته، لكن روم الشام ومصر الذين استولى عليهم كانت الشورى ذهبت منهم، ولم تكن كتب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 الرومان معرَّبة لديه حتى يعرف تلك الأصول المهمة، ولعدم الشورى المنتظمة في الإسلام وقع ما وقع في الفتن والحروب بعد عمر, ليقضي الله أمره، ولا أزال أقول: إنه كان يجول في فكر عمر شيء من ذلك بدليل تنظيمه لمجلس شورى الخلافة، التي جعلها بين الستة، وما جعله من نظام ذلك المجلس وهو في النزع؛ إذا عيَّن أعضاءه العالمين والشرفيين والرئيس وكيفية التصويت، والأغلبية، وإذا وقعت المساواة كان الترجيح للرئيس أو الجهة التي فيها عبد الرحمن بن عوف، إلى غير ذلك مما يطول, ويدل أنه صدار عن فكر عظيم، وتدبير عميق، فلو ترك مجلسًا على ذلك النظام مستديمًا للجامعة الإسلامية لما وقع الإسلام في مهاوي الاستبداد والاستبعاد التي عاناها منذ ثلاثة عشر قرنًا, ولكل أجل كتاب. من كلام عمر: القوة في العمل أن لا تؤخر عمل اليوم الغد، والأمانة ألا تخالف سريرة علانية, واتقو الله -عز وجل- فإنما التقوى بالتوقي, ومن يتق الله يقه. وقيل له: فلان فاضل لا يعرف من الشر شيئًا، قال: ذاك أوقع له فيه. قال ابن مسعود: علماء الأرض ثلاثة: فرجل بالشام لعله يعني به أبا الدرداء، وواحد بالكوفة يعني نفسه، وواحد بالمدينة، فأما هذان فيسألان الذي بالمدينة والذي لا يسألهما. وقال الشعبي: إذا اختلفت الناس فخذوا بما قال عمر. وقال ابن مسعود لما دفن عمر: ذُهِبَ اليوم بتسعة أعشار العلم. وقال الشعبي: قضاة هذه الأمة: عمر، وعليّ، وزيد بن ثابت، وأبو موسى. نقل هذه الآثار في أعلام الموقعين1. وقال علي: ما كنا نبعد ان السكينة تنطق على لسان عمر.   1 "1/ 14-20". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 وقال ابن مسعود:" ما عبدنا الله جهرة حتى أسلم عمر. وقال فيه -عليه السلام: "اللهم اجعل الحق على لسان عمر وقلبه" 1. وقال -عليه السلام: "بينا أنا نائم أتيت بقدح لبن فشربت حتى رأيت الريّ يخرج من أظفاري, ثم أعطيت فضلي عمر" قالوا: فما أولت ذاك يا رسول الله؟ قال: "العلم" 2. وقال -عليه السلام: "بينا أنا نائم والناس يعرضون علي وعليهم قمص, فمنها ما يبلغ إلى الثدي, ومنها دون ذلك, وعرض عليّ عمر بن الخطاب وعليه قميص يجره" قالوا: فما أوَّلت ذلك يا رسول الله قال: "الدين" 3. ومن دينه أنه خطب يومًا فقال: أيها الناس, ألا تسمعون؟ فقال سلمان: لا نسمع، فقال عمر: ولم يا أبا عبد الله؟ قال: إنك قسمت علينا ثوبًا ثوبًا، وعليك ثوبان, فقال: لا تعجل، ونادى ولده عبد الله، فقال: نشدتك الله الثوب الذي ائتزرت به أهو ثوبك؟ قال: اللهم نعم. فقال سلمان: أما الأن فقل نسمع4. وقد توفي وعليه دين ستة وثمانون ألفًا, أوصى ولده أن يبيع داره ويقضيها, فباع الدار المعروفة بدار قضاء دين عمر وقضاها, وهي التي صارت تعرف بدار القضاء, وسأل يومًا سلمان: أملك أنا أم خليفة؟ فقال له: إن جبيت من أرض المسلمين درهمًا ووضعته في غير حقه فملك، رواه الطبري5. وهو أول قاضٍ في الإسلام ولي بعد النبي -صلى الله عليه وسلم, ولاه أبوبكر وقال له: اقض بين الناس فإني في شغل6، وكان عمر أمهر مجتهد ومفتٍ في الأمة بعد نبيها   1 الذي ثبت ما رواه الترمذي عن ابن عمر أنه -صلى الله عليه وسلم: "إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه" "5/ 617". 2 متفق عليه: البخاري "5/ 13"، ومسلم "7/ 112". 3 متفق عليه: البخاري "5/ 15"، ومسلم "7/ 112". 4 لا أدري إن كان لهذه القصة ساق تستند إليها، وقد ذكرها ابن قتيبة في عيون الأخبار "1/ 55". 5 تاريخ الطبري "4/ 211". 6 انظر الاستيعاب "3/ 1150". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 صلى الله عليه وسلم- بدليل نزول الوحي بموافقته في بضع عشرة موضعًا, ولقوله -عليه السلام- كما في الصحيح: "إن يكن فيكم محدثون فعمر منهم" 1، والمحدث الملهم الموفق. وفي الترمذي وحسَّنه مرفوعًا: "إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه" 2, قال ابن عمر: ما نزل بالناس أمر قط فقالوا فيه، وقال عمر, إلّا نزل فيه القرآن على نحو ما قال عمر3. وفيه نزل قوله تعالى: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} 4، قال عمر: فكنت أنا الذي استنبطت ذلك الأمر. رواه مسلم في صحيحه5، ويليه ابن مسعود, ثم على هذا في الموافقة وبراعة الاستنباط أما ترتيبهم في كثرة الفتوى فيأتي. توفي عمر ختام سنة "23" ثلاث وعشرين6.   1 متفق عليه: البخاري "5/ 15"، ومسلم "7/ 115". 2 الترمذي "5/ 617". 3 نفس المصدر. 4 النساء: 83. 5 مسلم في الطلاق "4/ 188-190". 6 أبو حفص: سيدنا عمر بن الخطاب القرشي العدوي. "تهذيب التهذيب" "7/ 385". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 ترجمة أبو عبد الله سيدنا عثمان بن عفان القرشي الأموي ... 4- أبو عبد الله سيدنا عثمان بن عفان القرشي الأموي: الخليفة الثالث: بويع بعد عمر بإجماع بعد الشورى التامة والاختيار الحر، وهو من السابقين للإسلام، هاجر الهجرتين، وصلى للقبلتين، وصهر رسول الله على بنتين كريمتين، الواحدة بعد وفاة الأخرى، وكان محظوظًا في الدنيا؛ فكان من أكبر المساعدين للنبي -صلى الله عليه وسلم- بماله الكثير عند شدة احتياج الإسلام إليه, ومآثره في ذلك مشهورة، في تجهيز الجيوش، والزيادة في المسجد النبوي، ووقف بئر رومة، الذي صيَّره عموميًّا يستسقي منه أهل المدينة، إلى علم غزير، وعقل رصين, وشرف أثيل، وله آراء واجتهاد يأتي لنا بعضها، ولم ينقل الكثير منها لاشتغاله بغير ذلك مما سبق. قال ابن سيرين1: كانوا يرون أن أعلمهم بالمناسك عثمان بن عفان, ثم ابن   1 تقدَّم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 عمر بعده، وكان عثمان شديد الحياء والحلم, مائلًا إلى السلم والعافية، ووقعت في أيامه فتوح كثيرة، وظهر الرفه الكثيرة في الأمة بما لم ير مثله بعده، إلا أنه كبر سنه، وضعف جسمه، وكان له ثقة في قرابته بني أمية، فتغلَّبوا على أمره، وتولوا أعظم الولايات، وانتفعوا وراء ذلك بسعة العيش ووجاهة في الدولة، نَفَسها عليهم غيرهم، فوجدت الجمعيات السرية التي كانت تكيد الإسلام وجهًا للطعن فيها، مع استغنائه ببني أمية عن مشاروة أكابر المهاجرين والأنصار، الذين كانوا أهل شورى عمر؛ لأن عمر لم يترك للشورى نظامًا محكمًا في الانتخاب, وانتظام المجلس وكيفية التصويت، كما تقدمت الإشارة إليه، ونقم الطاعنون على عثمان أشياء لا تبرر عملهم ضده، فحاصروه بداره، وطلبوا منه أن يتخلى، فامتنع فاقتحموا عليه داره، وقتل شهيدًا ختام سنة "35" خمس وثلاثين1.   1 أبو عبد الله: سيدنا عثمان بن عفان القرشي الأموي, ولد بعد الفيل بست سنين، يكنَّى بأبي عمرو وأبي عبد الله، ت سنة 35هـ. تهذيب التهذيب "7/ 127"، ومعجم طبقات الحفاظ "127" معرفة الثقات "5/ 12"، والتاريخ الكبير "6/ 208"، إسعاف المبطأة "205"، التاريخ لابن معين "3/ 394"، دائرة الأعلمي "21/ 325". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 ترجمة سيدنا علي بن أبي طالب -رضي الله عنه: الخليفة الرابع، أول من أسلم من الشبان، وأول قاضٍ ولَّاه رسول الله -صلى الله عليه وسلم, فكان في اليمن، وتقدَّم الكلام على أقضيته واجتهاده، تربى في بيت النبوءة، وتغذى بلبان معارفها, ولما آخى النبي -صلى الله عليه وسلم- بين أصحابه، قال له: "أنت أخي وأنا أخوك" 1، وهو صهره على أعز الخلق عليه، وابن عمه الذي كان يحوطه، ومع ذلك لم يرشحه للخلافة، إبعادًا للسلطة الشخصية من ساحة الإسلام، بل ترك الأمر شورى للمسلمين يختارون من يشاءون، وهو أحد العشرة المبشرة، وأحد ستة الشورى، وأحد العلماء الربانيين، والشجعان، والزهاد، والخطباء، والشعراء، ومناقبه في العلم وما أوتيه من الاجتهاد والفهم معلوم،   1 روى الترمذي عنابن عمر قال: آخى النبي -صلى الله عليه وسلم- بين أصحابه فجاء عليّ تدمع عيناه فقال: يا رسول الله, آخيت بين أصحابك ولم تؤاخ بيني وبين أحد؟ فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أنت أخي في الدنيا والآخرة"، قال الترمذي: حديث حسن غريب "5/ 636". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 وكان صاحب شورى عمر في أقضيته، وكذلك كان مع أبي بكر، وعثمان أيضًا، وكان عمر يتعوّذ بالله من معضلة ليس لها أبو الحسن. ويروى من فضائله قوله -عليه السلام: "أنا2 مدينة العلم، وعلي بابها"1, قال مسروق3: شافهت أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم, فوجدت علمهم ينتهي إلى ستة: علي، وعبد الله -يعني: ابن مسعود, وعمر, وزيد بن ثابت، وأبي الدرداء، وأُبَيّ بن كعب، ثم شافهت الستة فوجدت علمهم انتهى إلى عليٍّ وعبد الله. شهد المشاهد كلها مع النبي -صلى الله عليه وسلم- إلّا تبوك, فإنه استخلفه فيها على المدينة، وقال له: "أنت مني بمنزلة هارون من موسى, إلا أنَّه لا نبي بعدي" كما في الصحيحين4. وفضائل علي ومناقبه ولا سيما في العلم وما أوتيه من الفصاحة والبلج بالحجة شيء لا يحصر، وكتب الصحاح مملوءة من ترجمته، وقد انتشرت أحكامه وفتاويه، ولكن قاتل الله الشيعة, فإنهم أفسدوا كثيرًا من علمه بالكذب عليه، أرادوا أن ينفعوا فضروا، ولهذا تجد أصحاب الصحيح لا يعتمدون من حديثه وفتواه إلّا ما كان من طريق الأثبات من أهل بيته، أو من أصحاب ابن مسعود، كعبيدة السلماني5، وشريح6، وأبي وائل7، ونحوهم. وكان   1 قال المؤلف -رحمه الله: حديث أورده ابن الجوزي في الموضوعات, وإن صححه الحاكم، وقال الحافظ ابن حجر: الصواب أنه حسن. 2 أخرجه الحاكم عن ابن عباس -رضي الله عنهما "3/ 126"، وأخرج الترمذي عن علي -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أنا دار الحكمة وعلي بابها" قال الترمذي: هذا حديث غريب منكر "5/ 637"، وقد استوفى الكلام فيه الحافظ السيوطي في اللآليء المصنوعة "1/ 328-336". 3 سبقت ترجمته. 4 متفق عليه: من حديث سعد بن أبي وقاص: واللفظ لمسلم: البخاري "5/ 24", ومسلم "7/ 120. 5 متفق عليه: من حديث عمرو السلماني المرادي، أحد التابعين، ت سنة 72هـ، تذكرة الحفاظ "1/ 47". 6 شريح بن الحارث بن قيس بن الجهم الكندي أبو أمية، ولي قضاء الكوفة زمن عمر وعثمان وعلي ومعاوية, ت سنة 77هـ، طبقات ابن سعد "6/ 90". 7 شقيق بن سلمة الأسدي أبو وائل الكوفي، من السادة التابعين، أخذ عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ومعاذ، توفي في خلافة عمر بن عبد العزيز. خلاصة الخزرجي "167"، وقد ترجم لهم المؤلف في القسم الثاني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 يقول: إن ههنا علمًا لو أصبت له حملة. وقال عمر بن الخطاب: عليّ أقضانا1. وقال -عليه السلام: "أقضاكم علي" 2، قال عمر: لولا علي لهلك عمر, وكم من قضية ردَّ فيها علي عمر وعثمان فرجعا لرأيه، قال ابن مسعود: كنا نتحدث أن أقضى أهل المدينة عليّ. وقال ابن المسيب: ما كان أحد من الناس يقول: سلوني غير عليّ. وقال عبد اللك بن أبي سليمان: قلت لعطاء: أكان في أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- أحد أعلم من علي؟ قال: لا والله ما أعلمه. وقالت عائشة: أما إنه لأعلم الناس بالسنة, وقال ابن عباس: كنَّا إذا أتانا الثبت عن علي لم نعدل به. وقال أيضًا: لقد أعطي تسعة أعشار العلم، وأيم الله, لقد شارككم في العشر العاشر، وقال ابن مسعود:" أعلم أهل المدينة بالفرائض علي. وزهده وورعه شهير، وسيره بسيرة الخلفاء قبله كذلك في العدل والخراج وتنظيم بيت المال، والوقوف عند حد الشرع الشريف، وقد خصت ترجمته بتآليف، وهذه الآثار نقلت جلها عن أعلام الموقعين، والاستيعاب. توفي شهيدًا بالكوفة سنة "أربعين" في رمضان3.   1، 2 سبق تخريحه. 3 سيدنا علي بن أبي طالب -كرم الله وجهه- القرشي البصري. تهذيب التهذيب "7/ 294"، والميزان "3/ 133"، والمغني "4285"، ديوان الضعفاء "2936"، والكامل "5/ 1854"، مجمع الزوائد "1/ 79، 1/ 167"، لسان الميزان:4/ 235، 236"، دائرة الأعلمي "22/ 213". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 ترجمة عبد الرحمن بن عوف الزهري القرشي : أحد العشرة، وأحد ستة الشورى، الأمين على أزواج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعده في حجِّهن، ولَّاه عمر ذلك، وهذه منقبة عظيمة أيضًا، هاجر الهجرتين, وشهد بدرًا فما بعدها، ولاه النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد دومة الجندل، قال فيه عمر: نعم الرأي عبد الرحمن, مسدد رشيد, له من الله حافظ. وهو أحد المثرين المشهورين في الإسلام، خزّان الله ورسوله، أعان المسلمين إعانات مالية شهيرة، وله صدقات وأعمال برٍّ كبرى، وترك مالًا عظيمًا، كان محظوظًا في التجارة والعقل والعلم وسابقية الإسلام، ومناقبه جمَّة لا تفي بها هذه النتفة، وكان صاحب شورى عمر المرجوع إليهم في الآراء، والفقه، عمل برأيه كغيره في زيادة حد الخمر، وخالفه في تحبيس أرض الفرس، ورجع إلى روايته في حديث الطاعون، وأخذ الجزية من المجوس إلى غير ذلك، توفي سنة "32" اثنين وثلاثين1.   1 عبد الرحمن بن عوف الزهري القرشي: ترجمته في الإصابة "4/ 346"، والاستيعاب "2/ 844"، وأسد الغاية "3/ 311". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 ترجمة عبد الله بن مسعود الهذلي : أحد السابقين الأولين للإسلام، سادس من أسلم، لذلك يعد سدس المسلمين، ضمَّه إليه النبي -صلى الله عليه وسلم- فكان يلبسه نعليه، ويمشي معه وأمامه، ويستره إذا اغتسل، ويوقظه إذا نام، وقال عليه السلام: "إذنك علي أن ترفع الحجاب, وأن تسمع 1 سوادي حتى أنهاك" 2، وهو صاحب الوسادة والنعلين والسواك. شهد المشاهد كلها معه -عليه السلام، وهاجر الهجرتين، وصلى القبلتين, وشهد له -عليه السلام- بالجنة، وشهد له بالعلم، وقال فيه -عليه السلام: "عليكم بعهد ابن أم عبد" 3، وقال عليه السلام: "لو كنت مستخلفًا أحدًا من غير مشورة   1 قال المؤلف -رحمه الله: سوادي: بكسر السين أسراري. الأبيّ علي مسلم". 2 ابن ماجه عن عبد الله "1/ 49". 3 سبق تخريجه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 لاستخلفت ابن أم عبد" 1. وقال: "رضيت لأمتي ما رضي الله عنه وابن أم عبد، وسخطت لها ما سخط الله لها وابن أم عبد" 2. في البخاري: "خذو القرآن عن أربعة, عن ابن أم عبد، ومعاذ بن جبل، وأُبَيّ بن كعب، وسالم مولى أبي حذيفة" 3. وقال أبو وائل4: سمعت ابن مسعود على المنبر يقول: أيأمروني أن أقرأ القرآن على قراءة زيد بن ثابت، والذي نفسي بيده, لقد أخذت من في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سبعين سورة، وإن زيد بن ثابت لذو ذؤابة يعلب به الغلمان، والله ما نزل من القرآن شيء إلّا وأنا أعلم في أي شيء نزل، وما أحد أعلم بكتاب الله مني، ولو أعلم أحدًا تبلغنيه الإبل أعلم بكتاب الله مني لأتيته, ثم استحيا فقال: وما أنا بخيركم5، وقال شقيق: فقعدت في الحلق التي فيها أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم, فما سمعت أحدًا أنكر عليه ذلك ولا ردَّ ما قال، وقال أبو موسى الأشعري: كنا حينًا وما نرى ابن مسعود وأمه إلا من أهل بيت النبي -صلى الله عليه وسلم- من كثرة دخولهما ولزومهما له. وقال أبو مسعود عقبة بن عمرو البدري6: وقد قام عبد الله بن مسعود: ما أعلم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ترك بعده أعلم بما أنزل الله من هذا القائم, فقال أبو موسى: لقد كان يشهد إذا غبنا ويؤذن له إذا حجبنا. رواه مسلم7. وقال حذيفة: لقد علم المحفوظون من أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- أن عبد الله بن   1 أخرجه الترمذي "5/ 673"، وابن ماجة "1/ 49" من طريق الحارث بن علي -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم, وقال الترمذي: حديث غريب, إنما تعرف من حديث الحارث عن علي. أورده المصنّف فلا أعلم مصدره، والحديث مرسل. 2 الحاكم "3/ 317" ولفظه: "رضيت لأمتي ما رضي لها ابن أم عبد" , وهذا اللفظ الذي أورده المصنف فلا أعلم مصدره, والحديث مرسل. 3 البخاري في مناقب أُبَيّ بن كعب "5/ 45"، ورواه بلفظ: "استقرأوا القرآن .... " في مناقب سالم مولى أبي حذيفة "5/ 34"، وفي مناقب معاذ "5/ 45"، ومسلم في مناقب عبد الله بن مسعود "7/ 148". 4 سبق ترجمته. 5 في البخاري:6/ 230" إلا قوله: "وإن زيد بن ثابت لذو ذؤابة يعلب به الغلمان". 6 صحابي انظر ترجمته في الإصابة "4/ 524",. 7 مسلم "7/ 147". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 مسعود كان من أقربهم وسيلة إلى الله يوم القيامة, وحلف بالله ما أعلم أحدًا أشبه دلًا وهديًا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- من حين يخرج من بيته إلى أن يرجع إليه من ابن مسعود، وسئل عنه علي فقال: قد قرأ القرآن وعلم السنة, وكفى بذلك, وكتب عمر إلى أهل الكوفة: إني قد بعثت إليكم بعمار بن ياسر أميرًا, وعبد الله بن مسعود معلمًا ووزيرًا، وهما من النجباء من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أهل بدر، فاقتدوا بهما واستمعوا من قولهما، وقد آثرتكم بعبد الله على نفسي، وقال فيه أبو الدرداء بعد موته: ما ترك بعده مثله. وقال عبد الله بن بريدة: إنه المراد بقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} 1 الآية. ومزاياه كثيرة, وقد انتشر العلم والدين عن أصحاب أربعة من أعلام الصحابة: ابن مسعود وأصحابه وهم أهل العراق، وزيد بن ثابت وعبد الله بن عمر وأصحابهما وهم أهل المدينة، وابن عباس وأصحابه أهل مكة. توفي ابن مسعود بالمدينة سنة "32" اثنتين وثلاثين2.   1 سبأ: 6. 2 عبد الله بن مسعود الهذلي: أسد الغابة "3/ 384". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 ترجمة زيد بن ثابت الأنصاري الخزرجي النجاري : أبو سعيد أو أبو ثابت. قال ابن عبد البر: أول مشاهده أحد فما بعدها, وأعطاه النبي -صلى الله عليه وسلم- راية بني النجار في غزوة تبوك نزعها من عمارة بن حزم، فقال: هل بلغلك عني شيء؟ فقال: "لا ولكن القرآن مقدَّم"، كان كاتب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الوحي وغيره، ثم استكتبه أبو بكر، فعمر، وهو الذي باشر جمع المصحف الشريف أيام أبي بكر، وقال له: إنك شاب ثقف1 لا نتهمك, وكفى بهذا تعديلًا, وكيف لا وقد ائمتنه النبي -صلى الله عليه وسلم- على الوحي2. ثم هو الذي تولَّى نسخ المصاحف زمن عثمان أيضًا، ومعه معينون   1 قال المؤلف -رحمه الله: ثقف -أوله مثلثة والقاف مكسورة ومسكنة- أي: حاذق. 2 لفظ البخاري: إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله .... الحديث "6/ 235". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 مذكرون في الصحاح، واتفق عثمان ومن كان معه على حمل الناس على القراءة بحرف زيد بن ثابت، وترك غيره من بقية الأحرف السبعة، فحرفه هو الذي يقرأ العالم الإسلامي به الآن1، وأمره النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يتعلم العبرانية والكتابة بها، فتعلّم كتابتها في نصف شهر، وكذلك السريانية فكان يكتب للنبي -صلى الله عليه وسلم- بهما المكاتب للآفاق, ويترجم ما يرد بهما2, وهو الذي قال فيه -عليه السلام: "أفرضكم زيد" رواه أحمد بإسناد صحيح3. أي: أعلمكم بالفرائض. وروى ابن سعيد من طريق قبيصة قال: كان زيد رأسًا بالمدينة في القضاء والقراء والفرائض. وروى البغوي بإسناد صحيح عن ابن خارجة: كان عمر يستخلف زيد بن ثابت إذا سافر, فقلما رجع إلّا أقطعه حديقة من نخل. وكان عثمان يستخلفه أيضًا, كما استعمله أمينًا لبيت المال، وعن طريق ابن عباس: لقد علم المحفوظون من أصحاب محمد أن زيد بن ثابت كان من الراسخين في العلم, وهو أحد الذين جمعوا القرآن على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم. قال مسروق: قدمت المدينة فوجدت زيد بن ثابت من الراسخين في العلم.   1 هذا ادّعاء عجيب لا أدري من أين أتى به المصنف، مع أن ما في صحيح البخاري يرده, ففي حديث جمع المصحف يقول زيد: فقدت آية من الأحزاب حين نسخنا المصحف قد كنت أسمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقرأ بها, فتلمَّسناها فوجدناها مع خزيمة بن ثابت الأنصاري {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ...... } "6/ 236"، فهو من كونه يحفظ هذه الآية إلا أنه لم يكتف بذلك حتى يجدها عند غيره مكتوبة زيادة في التوثيق, فلم يكن لعثمان أن يحمل الصحابة والأمة بعدهم على رواية واحدة للقرآن وإن كنت حرف زيد، بل كان هدفه من مشروع الجمع، إثبات كل الأحرف السبعة المنزلة التي استقر الأمر عليها في العرضة الأخيرة, وتوثيقها بنص مكتوب يرجع إليه عند الاختلاف لاستبعاد ما ليس منها. وقد تقدَّمَ التعليق عليه، ولو ثبت ما ادَّعاه المصنف اعتراض ابن مسعود الذي ذكره آنفًا على عثمان -رضي الله عنه, مع أن الصحابة لم يوافقوه على اعتراضه، ورجع -رضي الله عنه- بعد أن تيقّن من سلامة المشروع العثماني ودقته، وتيقّن من أن زيد بن ثابت لم ينفرد بمهمته, بل كانت بإجماع من المهاجرين والأنصار ممن حضر منهم المشروع. "عبد العزيز القارئ". 2 الإصابة "2/ 593". 3 أحمد "3/ 281"، وسبق تخريجه. 4 أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز بن المزربان النبوي, ت سنة 310, تذكرة الحفاظ "2/ 247". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 وقال مالك، كان إمام الناس بالمدينة بعد عمر زيد بن ثابت, وكان إمام الناس بعده عبد الله بن عمر، وقد أخذ بركابه يومًا ابن عباس، وقال: هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا، فقبَّل زيد رأسه، وقال: هكذا أمرنا أن نفعل بآل بيت نبينا، توفى سنة نيف وأربعين، ووقف ابن عباس على قبره فقال: هكذا يذهب العلم. وقال أبو هريرة: مات حبر هذه الأمة، وعسى الله أن يجعل في ابن عباس منه خلفًا، قال ابن جرير الطبري: قيل: إن ابن عمر وجماعة ممن عاش بعده بالمدينة من الصحابة, إنما كانوا يفتون بمذاهب زيد بن ثابت, وما كانوا أخذوا عنه مما لم يكونوا حفظوا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قولًا1.   1 زيد بن ثابت الأنصاري الخزري البخاري: أبو سعيد - أبو خارجة، الخزرجي البخاري المدني. التاريخ الكبير "3/ 380". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 ترجمة معاذ بن جبل الأنصاري الخزرجي : الإمام المقدَّم في علم الحلال والحرام، شهد المشاهد كلها مع رسول الله -صلى الله الله عليه وسلم- ومنها العقبة، وبدر، وكان فيها ابن إحدى وعشرين سنة، ولَّاه النبي -صلى الله عليه وسلم- على اليمن، وحديثه بذلك في الصحيح، ولّاه على الجند -بفتح النون- يقضي بينهم, ويعلمهم القرآن وشرائع الإسلام، وجعل إليه قبض الصدقات من العمال الذين باليمن، ولما وحهه قال له: "بم تقضي"؟ قال: بكتاب الله الحديث، وتقدَّم1، وهو ممن كسر آلهة بني سلمة. وفي الصحيح أنه أحد الأربعة الذين جمعوا القرآن على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم2، وفيه أيضًا: "اقرأوا القرآن على أربعة" 3 وعدّه منهم، وقال فيه أبو نعيم في الحلية: إمام الفقهاء، وكنز العلماء، وكان من أفضل شباب الأنصار حلمًا وحياء وسخاء وجمالًا، وكان مجاب الدعوة. وروى عنه عمر وأبو موسى وغيرهما من أعلام الصحابة، قال فيه عمر:   1 سبق تخريجه. 2، 3 البخاري "6/ 229، 230"، ومسلم "7/ 148"، واللفظ المذكور عند مسلم من حديث ابن عمر "7/ 149"، وسبق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 عجزت النساء أن يلدن مثل معاذ، ولولا معاذ لهلك عمر. وفي حديث الترمذي مرفوعًا: "أعلمهم بالحلال والحرام معاذ" 1، وخطب عمر فقال: من أراد الفرائض فليأت زيد بن ثابت، ومن أراد أن يسأل عن الفقه فليأت معاذ بن جبل، ومن أراد المال فليأتني. قال شهر بن حوشب2: كان أصحاب رسول الله إذا تحدثوا وفيهم معاذ نظروا إليه هيبة له، وكان ابن عمر يقول: حدثونا عن العاقلين العالمين، معاذ وأبي الدرداء. وقال فيه ابن مسعود: إنه كان أمَّة قانتًا لله حنيفًا، وفسَّر الأمة بالذي يعلِّم الخير ويؤتم به, والقانع: المطيع لله، قال: وكذلك كان معاذ. ولاه عمر بعد أبي عبيدة بن الجراح على الشام, فمات بإثره. اخترمته المنية شابًّا عن نيف وثلاثين سنة عام "19" تسعة عشر في طاعون عمواس3.   1 سبق تخريجه. 2 مولى أسماء بنت يزيد بن السكرة، أبو سعيد الشامي, روى عن مولاته وابن عباس وعائشة وأم سلمة وجابر وغيرهم، ت سنة 100، خلاصة الخزرجي "169". 3 معاذ بن جبل الأنصاري الخزرجي: الإصابة "6: 136"، والاستيعاب "3/ 1402"، وأسد الغابة "4/ 376". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 ترجمة أُبَيّ بن كعب الأنصاري الخزرجي النجاري: أبو المنذر، شهد العقبة الثانية، وبدرًا، وغيرها، وفيه قال -عليه السلام- فيما رواه الترمذي: "أقرؤكم أُبَيّ" 1، وهو أحد الأربعة الذين جمعوا القرآن على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم, وأمره الله أن يقرأه عليه، قال: قلت: يا رسول الله: سماني الله لك؟ قال: "نعم" 2. فقرأ عليه: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} بالتاء جمعيًا3.   1 الترمذي "5/ 664"، وتقدَّم تخريجه. 2 متفق عليه. البخاري "5/ 45"، ومسلم "7/ 150". 3 لفظ الصحيح: $"إن الله أمرني أن أقرأ عليك لم يكن الذي كفروا" البخاري "5/ 45"، ومسلم "7/ 150"، وفي الترمذي "5/ 665"، وأنه قرأ فيه: أن ذت الدين عند الله الحنيفية المسلمة لا اليهودية ولا النصرانية من يعمل خيرًا فلن يكفره، وقرأ عليه: $"ولو أن لابن آدم واديًا من مالٍ لابتغى إليه ثانيًا ولو كان له ثانيًا لابتغى له ثالثًا, ولا يملأ جوف ابن آدم إلّا التراب, ويتوب الله على من تاب". قال الترمذي: حديث حسن صحيح، أما ما جاء به المصنف من أنه قرأ عليه آية يونس فخطأ، ولكن أخرج الحاكم في مستدركه "3/ 304" عن عبد الله بن عبد الرحمن ابن أبزي عن أبيه عن أُبَيّ بن كعب قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "نزلت عليّ سورة وأمرت أن أقرئكها" قال: قلت: أسميت لك؟ قال: "نعم"، قلت: -أي الراوي- لأبي: أفرحت بذلك يا أبا المنذر؟ قال: وما يمنعني والله -تعالى وتبارك- يقول: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 وهو من كُتَّاب الوحي لرسول الله -صلى الله عليه وسلم, بل هو أوّل من كتب له بعد الهجرة، وهو من فقهاء الصحابة وعلمائهم، وهو أوّل من كتب في آخر المكاتب وكتب فلان بن فلان، وكان له مصحف يقرؤ عليه، وحُرِقَ زمن عثمان، روى عنه عمر، وعبادة بن الصامت، وغيرهما من كبار الصحابة، وكان عمر يسميه سيد المسلمين، ويسأله عن المعضلات، ويتحاكم إليه إذا وقع خلاف بينه وبين الصحابة، وناهيك بهذا المرتبة رجل يرضى عمر بحكمه، وقال مسروق1: كان ثلاثة من الصحابة يدعون قولهم لقول ثلاثة: ابن مسعود يدع قوله لقول عمر، وأبو موسى لقول علي، وزيد بن ثابت لقول أُبَيّ بن كعب. توفى في خلافة عمر سنة "19", وقيل في خلافة عثمان قبل موته بجمعة2.   1 تقدمت ترجمته. 2 أُبَيّ بن كعب الأنصاري الخزرجي النجاري: ترجمته في الإصابة "1/ 27"، والاستيعاب "1/ 65"، وأسد الغابة "1/ 49". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 ترجمة أبو موسى عبد الله بن قيس : الأشعري، الكوفي، من السابقين الأولين، هاجر الهجرتين، واستعمله النبي -صلى الله عليه وسم- على زبيد وعدن وأعمالهما، واستعمله عمر على البصرة، فافتتح الأهواز وأصبهان، ثم استعمله عثمان على الكوفة بطلب من أهلها، فتفقّه به أهلها، ثم كان أحد الحكمين بصفين، ثم اعتزل الفريقين، كان من القراء أحسن الناس صوتًا ونغمة، ممن يحسن القراءة ويجودها. قال فيه -عليه السلام: "لقد أوتي مزمارًا من مزامير آل داود" 1، وكان   1 متفق عليه: البخاري في فضائل القرآن "6/ 241"، ومسلم في المساجد "2/ 193"، ولفظهما: $"لقد أوتيت مزمارًا من مزامير آل داود". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 عمر إذا رآه يقول له: ذكرنا ربنا يا أبا موسى، وهو الذي فقَّه أهل البصرة وأقرأهم، وأوصى عمر: لا يقر لي عامل أكثر من سنة، وأقرّوا الأشعري أربع سنين، قال فيه علي -كرم لله وجهه: صبغ في العلم صبغة. وهو أحد الستة الذين انتهى العلم إليهم كما قال الشعبي1، وأحد قضاة الإسلام الأربعة، قال ابن المديني2: قضاة الأمة أربعة: عمر، وعلي، وأبو موسى، وزيد بن ثابت. وروى البخاري عن الحسن البصري3: ما أتى البصرة راكب خير لأهلها من أبي موسى4. توفي سنة نيف وأربعين أو نيف وخمسين5.   1 ترجمته سبقت. 2 علي بن عبد الله بن جعفر السعدي أبو الحسن المديني البصري, ترجم له المؤلف في أوائل القسم الثالث، وانظر تاريخ بغداد "11/ 158"، تهذيب التهذيب "7/ 349". 3 الحسن بن أبي الحسن -سيار أو يسار- البصري، مولى زيد بن ثابت، ترجم له المؤلف في أوائل القسم الثاني، وانظر تهذيب الأسماء للنووي "1/ 161"، وحلية الأولياء "2/ 131". 4 لم أجده في البخاري، وقد أخرجه الحاكم في مستدركه "2/ 245". 5 أبو موسى: عبد الله بن قيس: لسان الميزان "3/ 328". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 ترجمة أبو الدرداء عويمر بن عامر الأنصاري : الخزرجي، أسلم يوم بدر، وشهد المشاهد كلها، وآخى -عليه السلام- بينه وبين سلمان, فكانا من الزُّهَّاد العباد، وهو معدود من الفقهاء العقلاء الحكماء في هذه الأمة. قال فيه النبي -صلى الله عليه وسلم: "إنه حكيم هذه الأمة" 1، وهو من الأربعة الذين أوصى معاذ أن يلتمس العلم عندهم: أبو الدرداء، وسلمان الفارسي، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن سلام. وقال فيها أبو ذر: ما حملت ورقاء ولا أظلت خضراء أعلم منك يا أبا الدرداء. وقال فيه معاوية: إنه من الفقهاء العلماء الذين يشفون من الداء. وقال فيه القاسم بن محمد2: إنه من الذين أوتوا العلم, ومن حكمه   1 ذكره ابن حجر عن شريح بن عبيد -أرسله- عن النبي -صلى الله عليه وسلم, الإصابة "4/ 748". 2 القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، أحد فقهاء المدينة السبعة، ت سنة 107هـ، ترجم له المؤلف في أوائل القسم الثاني بإيجاز، وانظر الجرح والتعديل "ق2/ 118"، ووفيات الأعيان "1/ 418". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 المأثورة في وصف الدنيا: إنها دار كَدَر, ولن ينجو منها إلّا أهل الحذر، ولله فيها علامات يسمع به الجاهلون، ويعتبر بها العاملون، ومن علامته فيها: أن حفّها بالشهوات، فارتطم فيها أهل الشبهات، ثم أعقبها بالآفات، فانتفع بذلك أهل العظات، ومزج حالها بالمثونات، وحرامها بالتبعات، فالمثري فيها تعب، والمقل فيها نصب. تولَّى قضاء دمشق في خلافة عمر أو عثمان، وقال ابن أبي الضياف التونسي1 في تاريخه: إن عمر ولّاه قضاء المدينة أيام خلافته، توفي سنة نيف وثلاثين2.   1 أحمد بن أبي الضياف التونسي أبو العباس، وزير ومؤرخ، تقدَّم في دولة المشير أحمد باي بتونس، ت سنة 1291هـ، الأعلام "135". 2 أبو الدرداء: عويمر بن عامر الأنصاري: مسند أحمد "5/ 94، 60/ 440"، طبقات ابن سعد "7/ 391"، وطبقات خليفة "95، 303"، التاريخ الكبير "7/ 76"، الجرح والتعديل "7/ 26"، المستدرك "3/ 336"، الاستبصار "125، 127"، الاستيعاب "4/ 1646"، تاريخ ابن عساكر "13/ 336/ 1"، أسد الغابة "6/ 79"، سير النبلاء "2/ 335"، كنز العمال "13/ 550"، شذارات الذهب "1/ 39". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 ترجمة عبادة بن الصامت الأنصاري : الخزرجي, أحد النقباء، شهد العقبات الثلاث وبدرًا والمشاهد كلها, من أعلام الصحابة وقضاتهم, وجهه عمر إلى الشام قاضيًا ومعلمًا، وهو أوّل من تولَّى قضاء فلسطين، ووقع خلاف بينه وبين معاوية في الصرف، وتقدمت قصته معه، ووقف معاوية يومًا عند المنبر فقال: حدثني عبادة فاقتبسوات منه, فهو أفقه مني، وله مع معاوية قصص متعددة تدل على قوة شكيمته في دين الله, وقيامه بالأمر بالمعروف، روى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- كثيرًا، وروى عنه كبار من الصحابة والتابعين، كأنس، وجابر، وغيرهما. وهو ممن جمع القرآن في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه ابن سعد، توفي سنة نيف وثلاثين, أو نيف وأربعين1.   1 عبادة بن الصامت الأنصاري: أبو الوليد الأنصاري الخزرجي: الثقات "3/ 302"، أسد الغابة "3/ 160"، تجريد أسماء الصحابة "1/ 294"، الإصابة "3/ 624"، المصابح المضيء "1/ 85"، الجرح والتعديل "6/ 95"، تقريب التهذيب "1/ 395"، الاستيعاب "2/ 807"، الوافي بالوفيات "16/ 816"، سير النبلاء "2/ 5"، النجوم الزاهرة "1/ 21". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 ترجمة عمار بن ياسر : أبو اليقظان، العنسي1، المهاجري، حليف بني مخزوم، من السابقين الأولين، ممن عذِّب في ذات الله، كانت -عليه السلام- يمر به وهو يعذَّب هو وأمه، فيقول: "صبرًا آل ياسر" 2 وماتت أمه من ذلك التعذيب صابرة، شهد بدرًا والمشاهد كلها، قال -عليه السلام: "إن عمارًا مليء إيمانًا إلى مشاشته" 3 وهو أحد أعلام الصحابة وفقائهم، ومن النجباء الأربعة عشر، استشهد في صفين عن تسعين سنة، وكان من حزب علي -رضي الله عن الجميع، عجبًا لصلابته في الدين، حتى شهد القتال في وقعتي الجمل وصفين وهو ابن تسعين، قال فيه -عليه السلام: "عمَّار تقتله الفئة الباغية" 4. ومناقبه جمَّة -رحمه الله، ولنمسك عمَّا وقع منه ضد عثمان, فذلك عن اجتهاد قيامًا بما رآه لصلاح أمته -رحمه الله5.   1 قال المؤلف -رحمه الله: العنسي: بفتح المهملة وسكون النون, وعمَّار كشداد صيغة مبالغة, وياسر بكسر السين. 2 ذكره في الإصابة "7/ 713". 3 أخرجه النسائي في الإيمان "8/ 97"، وابن ماجه في المقدمة "1/ 52". 4 متفق عليه: البخاري في الصلاة "1/ 115"، ومسلم في الفترة "8/ 158". 5 عمار بن ياسر: مسند أحمد "4/ 262، 319"، طبقات ابن سعد "3/ 1/ 176"، التاريخ الكبير "7/ 25"، التاريخ الصغير "1/ 79، 84، 85"، والجرح والتعديل "6/ 389"، حلية الأولياء "1/ 139، 143"، والاستيعاب "8/ 225"، سير أعلام النبلاء "1/ 406"، تهذيب التهذيب "7/ 408"، والإصابة "7/ 64"، شذارت الذهب "1/ 45"، العبر "1/ 25، 38". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 ترجمة حذيفة بن اليمان واسمه حسيل : العبسي1 الكوفي، حليف بني عبد الأشهل، من الأنصار، من السابقين الأولين, صاحب سرّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المنافقين, أعلمه بما يكون من الحوادث والفتن، شهد أحدًا وما بعدها، واستشهد أبوه بها، روى مسلم عنه, أن كفار قريش أخذوه هو وأباه، فقالو: إنكم تريدون محمدًا، يعني وهو في   1 قال المؤلف -رحمه الله: العبسي -بالباء الموحدة تحت, وحذيفة وحسيل مصغران أهـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 بدر, فقلنا: لا نريد إلّا المدينة، فأخذوا منا عهد الله وميثاقه لننصر فنَّ إلى المدينة ولا نقاتل معه، فأتينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخبرناه الخبر، فقال: "أنصرفا نفي لهم بعهدهم, ونستعين الله عليهم" 1. روى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- الكثير، والموجود له في كتب الحديث ينيف عن المائة حديث، وكان عمر يسأله عن الفتنة، وولّاه المدائن، فبقي بها إلى أن مات، وله أيادٍ في الإسلام بسيفه وعلمه، فقد فتح الدينور، وماسبذان، وهمدان، والري2، وهو الذي أشار على عثمان بنسخ المصاحف، وجمع الناس على مصحف واحد وتحريق ما سواه، وهذه خدمة للفقه تذكر فتشكر، كان عمر ينظر إليه في حضور جنائز المنافقين، فمن تخلَّف عن جنازته لم يشهدها عمر، قال فيه أبو الدرداء لعلقمة: أليس فيكم صاحب السر الذي لا يعلمه غيره، كما في الصحيحين3، توفي سنة "36" ست وثلاثين4.   1 أخرجه مسلم "5/ 176". 2 مدن مشهور، انظر معجم البلدان "2/ 545"، "3/ 116", "4/ 410"، "4/ 41". 3 البخاري في فضائل ابن مسعود "5/ 35"، ولم أجد في مسلم. 4 حذيفة بن اليمان واسمه حسيل: ترجمته في الإصابة "2/ 44"، والاستيعاب "1/ 334"، وأسد الغابة "1/ 390". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 ترجمة أبو ذر الغفاري جندب 1 بن جنادة: في معالم الإيمان2 عنه أنه قال: صلليت قبل الإسلام بأربع سنين، قال له عبد الله بن الصامت3: من كنت تعبد؟ قال: إله السماء, أتوجه حيث وجهني الله. والذي في صحيح مسلم بثلاث سنين، وفي رواية فيه: سنتين4قبل   1 قال المؤلف -رحمه الله: جندب -بضم الجيم والدال وبفتح الدال أيضًا, وجنادة -بفتح الجيم وتشديد النون- هذا أشهر الأقوال في اسمه، واسم أبيه, وقد غلبت عليه الكنية أ. هـ. 2 معالم الإيمان في معرفة أهل القيروان, لعبد لرحمن الأنصاري الدباغ, ت سنة 696هـ. 3 عبد الله بن الصامت الغفاري البصريّ, أخذ عن عمِّه أبي ذر وعمر وعثمان. خلاصة الخزرجي "201". 4 مسلم "7/ 155". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 مبعث النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: أتوجه حيث يوجهني ربي: أصلي عشاء حتى إذا كان من آخر الليل ألقيت كأني خفاء، حتى تعلوني الشمس، الحديث. من السابقين الأولين للإسلام، كان خمس الإسلام لأنه أسلم بعد أربعة، وقيل: بعد ثلاثة، وقصة إسلامه في الصحيحين1، وهاجر إلّا أنه بعد بدر وأحد، ولم يتيسر له شهودهما، ولا شهود الخندق، وقال فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أبو ذر في أمتي على زهد عيسى بن مريم" 2. وقال أبو ذر: لقد تركنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وما يحرك طائر جناحه في السماء إلّا ذكرنا معه علمًا، وهو أول من حيي النبي -صلى الله عليه وسلم- بتحية الإسلام, وهي السلام عليكم، وذلك لما دخل عليه ليسلم، وروى ابن عبد البر عن أبي الدرداء, أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما أظلّت الخضراء ولا أقلّت الغبراء أصدق لهجة من أبي ذر" 3، وقال فيه علي -كرم الله وجه: إنه وعاء مليء علمًا ثم أوكيء عليه. قالوا: وكان يوازي ابن مسعود في العلم، ولذلك كان عمر ألحقه بأهل بدر في العطاء، وقال أبو ذر: كان قوتي علي عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صاعًا من تمر، فلست بزائد عليه حتى ألقى الله، وحكي عنه في معالم الإيمان4 أنه قال: إني أقربكم مجلسًا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم القيامة، فقد سمعته يقول: "أقربكم مني مجلسًا يوم القيامة مَنْ خرج من الدنيا كهيئة ما تركته فيها" , وإنه والله ما منكم من أحد إلّا وقد تشبث منها بشيء غيري. وكان بالشام, وهو ممن نشر فيه العلم والدين، وشكاه معاوية لعثمان؛ لأنه كان يرى وجوب التصدق5 بما زاد على القدر الضروري مما تقوم به الحياة، فقد   1 البخاري "5/ 59"، ومسلم "7/ 152". 2 أخرج الترمذي عن مالك بن مرثد, عن أبيه, عن أبي ذر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق ولا أوفى من أبي ذر, شبه عيسى بن مريم عليه السلام ... الحديث" قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، وقد روي بعض هذا الحديث فقال: "أبو ذر يمشي في الأرض بزهد عيسى بن مريم -عليه السلام" "5/ 669". 3 الترمذي "5/ 669"، وابن ماجه "1/ 55". 4 انظر التعليق في الصفحة السابقة. 5 قال المؤلف -رحمه الله: رأي أبي ذر هذا هو أصل المذهب الاشتراكي السائد اليوم في = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 روى أبو يعلي بإسنادٍ فيه ضعف عن ابن عباس: أن أبا ذر كان يحدث ويقول: لا   = أوروبا, وكان الإسلم في ابتدائه على هذا المذهب, فكان مالهم كله لله ولرسوله, لا يملكون شيئًا لمكان الضرورة والقلة الداعية لذلك، وكانت مصلحة الدعوة للدين ونشره وإظهاره تدعو للاستعانة باموالهم وأنفسهم, فكانت أموالهم وأنفسهم كلها لله, يتصرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيها كيف يشاء, فقد أمرهم بالهجرة فهاجروا من مكة، وخرجوا عن مالهم وأولادهم, وفارقوا من بقي على الشرك من أزواجهم, وآخى بين المهاجرين أولًا في مكة, ثم آخى بينهم وبين الأنصار في المدينة, فكان المهاجري يرث الأنصاري وبالكعس، وفي مسلم عن أبي سعيد: بينما نحن في سفر مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا جاء رجل على راحلة له قال: فجعل يصرف بصره يمينًا وشمالًا, فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له, ومن كان له فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له" قال: فذكر من أصناف المال ما ذكر حتى رأينا أنه لا حق لأحد منها في فضل، ومن ذلك ما في الصحيح: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن كراء الارض، وفيه أيضًا: نهي أن يؤخذ للأرض أجر أو حظ، وفيه أيضًا: "من كانت له أرض فليزرعها، أو ليرزعها أخاه ولا يكرها"، وفي لفظ البخاري: " فليزرعها أو ليمنحها, فإن لم يفعل فليمسك أرضه" , فهذا هو أصل الاشتراكية المعتدلة. لكن الجمهور على ان ذلك قد نسخ بجعل الإرث للقرابة ومن يستحقه في كتاب الله, وبفرض جزء من المال معين وهو الزكاة لا يجب على مسلم غيره، وتقررت الملكية الناسخة للاشتراكية, لكن أبو ذر لا يرى نسخ الحكم, وكان يلبس مثل ما كان يلبس مملوكه, كما يدل لذلك حديث الصحيح، ولهذا أنكر عليه معاوية, وبسبب ذلك خرج من الشام إلى الربذة إلى أن مات بها -رحمه الله*. * قال فضيلة الشيخ عبد العزيز القارئ: هذا مما سبق التنبيه عليه، والمؤلف هنا أعوزه الحذر وفارقه التحقيق, ونحن نأخذ عليه أمرين في عجالته هذه: أولهما: أن أبا ذر -رضي الله عنه- لم يوافقه معظم الصحابة على اجتهاده في فهم آية الكنز، وعلى رأسهم الخليفتان الراشدان عثمان وعلي، ولذلك لم ينكر أحد على عثمان لما نفاه إلى الربذة، ولعل مكمن الخطأ في اجتهاده -رضي الله عنه- أنه أراد أن يحمل الأمة على أمر لما يلزمها بها لشارع الحكيم، إذ لم يلزم الإسلام أحدًا أن يوزع فضول ماله على الناس، وإنما أوجب عليه حقًّا معلومًا من ماله هو الزكاة، فمتى أداها طاب له ما بقي من ماله, ولم يعد كنزًا، عن أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: كنت ألبس أوضاحًا من ذهب، فقلت: يا رسول الله، أكنز هو؟ فقال: "ما بلغ أن تؤدي زكاته فزكي فليس بكنز" رواه أبو داود "2/ 95"، وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: لما نزلت هذه الآية: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} قال: كبر ذلك على المسلمين، فقال عمر: أنا أفرج عنكم، فانطلق، فقال: يا نبي الله, إنه كبر على أصحابك فرض المواريث لتكون لمن بعدكم ... الحديث" أبو داود "2/ 126". وأما ادعاء المصنف أن أموال المسلمين في ابتداء الإسلام كانت كلها بيد الرسول -صلى الله عليه وسلم- يتصرف بها كيف يشاء، فإنها كانت كذلك ولكن لا على سبيل المصادرة والتأميم, وإنما كان يندبهم = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 يبين عند أحدكم دينار ولا درهم إلّا ما ينفقه في سبيل الله أو يعده لغريم. فكتب معاوية إلى عثمان: إن كان لك بالشام حاجة فابعث إلى أبي ذر, وروى الطبري أن جعل يقول: يا معشر الأغنياء واسوا الفقراء, بشِّر الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله بمكاوي تكوى بها جباهم وجنوبهم وظهورهم. فما زال حتى ولع الفقراء بمثل ذلك وأوجبوه على الأغنياء, وحتى شكا الأغنياء ما يلقون من الناس، فكتب معاوية إلى عثمان في ذلك. رأى معاوية أن ذلك داع للفتنة فوجه عليه عثمان، ثم كان في الربذة منتبذًا الخلق زاهدًا عابدًا إلى أن مات، وفي مسلم1 عن الأحنف بن قيس قال: قلت لأبي ذر: ما لك ولإخوانك من قريش, لا تعتريهم وتصيب منهم؟ قال: لا وربك لا أسألهم دنيا, ولا أستفتيهم عن دين حتى ألحق بالله ورسوله. ومن فتياه ما في مسلم أيضًا أن الأحنف بن قيس سأله: ما تقول في هذا العطاء؟ قال: خذه, فإن فيه اليوم معونة, فإذا كان ثمنًا لدينك فدعه, ولما حضرته الوفاة لم يوجد في تركته ما يكفَّن به إذ كان يتصدق بعطائه كله, وكان في فلاة من الأرض هو وزوجته فقط، فجاءت سيَّارة فقال لهم: لو كان لي ثوب أو لامرأتي لم أكفن إلا فيه, وإني أنشدكم الله أن لا يكفنني رجل منكم كان أميرًا أو عريفًا أو بريدًا أو نقيبًا، وكانوا من أهل بدر كلهم، ولم يكن فيهم إلا من قارب بعض ذلك إلا فتى من الأنصار: قال يا عم, أنا أكفنك في ردائي هذا وفي ثوبي وفي عبئتي، من غزل أمي، قال أنت تكفنني، وكانت وفاته بها سنة "31" إحدى وثلاثين أو اثنين وثلاثين2.   = ويحبب إليهم الأنفاق لحاجة المسلمين في أول الإسلام, ولكن دون أن يلزم أحدًا، فالملكية الخاصة لم يمس مبدؤها بأي حكم ناسخ أو منسوخ، والأمثلة التي أوردها المصنف لا تساعده على دعواه؛ لأنها أحكام لها ظروف معروفة لدى أهل العلم، والكلام فيها مفصّل في كتبهم. ولهذا نأخذ عليها الأمر الثاني: وهو أن اجتهاد أبي ذر -رضي الله عنه- لم تكن فرصة مناسبة لربطها "بالاشتراكية" من جهتين؛ أولاهما: ما بينها من أنه كان اجتهادًا مرجوحًا، وثانيهما: أنه ليس لأحد كائنًا من كان أن يخلط بين "النظام الرباني الإسلامي" وبين الأنظمة البشرية والأفكار الوضعية، فإن فعل أحد ذلك فقد جنى على شرع الله؛ لأنه يحمله حينئذ أوزار تلك الأنظمة وعيوبها ونواقصها، ولذلك لا أدري أكان المصنف في محاولته هذه التوفيق بين الاشتراكية والإسلام على بصيرة بما وصلت إليه الاشتراكيات, والغاية التي انتهت إليها وهي "الاشتراكية الماركسية", والتي تقوم على أصول منها: الجدلية التاريخية أو التفسير المادي للتاريخ، وإنكار الأديان والأخلاق، وسائر الروابط الإنسانية، وحتمية الصراع بين الطبقات، وأن هذه "الهلوسات" الماركسية كلفت البشرية كثيرًا من الضحايا والمأسي حتى الآن. 1 مسلم "3/ 77". 2 أبو ذر الغفاري: جندب بن جنادة: ترجمته في الإصابة "7/ 125"، والاستيعاب "1/ 252"، وأسد الغابة "1/ 301". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 ترجمة سلمان الفارسي أبو عبد الله : يقال سلمان بن الإسلام، وسلمان الخير، أصله من أبناء أساروة فارس، من أصبهان أو من رام هرمز، ترك مهده وخرج يطلب الدين الصحيح، فتنصَّر أولًا، ثم تهوَّد ثانيًا، فأُسِرَ فتناولته أيدي الرق، إلى أن أسلم، قيل: شهد بدرًا, وقيل: أول مشاهده الخندق، هو الذي أشار على النبي -صلى الله عليه وسلم- باتخاذ الخندق للدفاع، وشهد ما بعدها، وهو من أعلام الصحابة ومن زهادهم السبعة الذين هم: عمار، وبلال، وصهيب، وأبو ذر، وخباب، والمقداد، الذين لا يحيط بفضائلهم كتاب، وقد عاتب الله نبيه فيهم في آيات الكتاب كما في الاستيعاب1، وخبر إسلامه غريب ذكره في الشمائل2 وغيرها. جعل عمر له خمسة آلاف خراجًا, فكان يتصدق بها، ويأكل من كد يده، يعمل الخوص في حال كونه أميرًا على المدائن، وكان لا يتخذ بيتًا، بل يستظل بالشجر، أو بجدار المسجد، جاء صاحب له يومًا فقال: أردت أن أبني لك بيتًا يكنك، فأبى, فبقى به حتى قال له: إني أعرف البيت الذي تريد. قال له: وكيف؟ قال: يكون سقفه إذا وقفت ملاصقة رأسك, وإذا اضجعت كان جداره ملاصقًا لرجليك. فقال: نعم, فعند ذلك بني له بيت قصب بتلك الصفة، وما كان له إلّا عباءة يفترش بعضها ويلبس بعضها، ولم يكن يقبل من أحد شيئًا، هذا أمير المدائن عاصمة الفرس, فهكذا كان ولاة المسلمين, وهذا سر تقدمهم وسرعة انتشار دينهم ومبادئهم، وفيه. قال عليه السلام "لو كان الدين بالثريا لناله رجال من فارس"3،   1 آيات العقاب من سورة الأنعام, روى لنا سبب نزولها سعد بن أبي وقاص, وأخرج حديثه مسلم "7/ 127". 2 أخرجه أحمد في مسنده "5/ 438، 441". 3 أخرجه مسلم عن أبي هريرة "7/ 191", ولفظه: "لو كان الدين عند الثريا لذهب به رجل من فارس" أو قال: "من أبناء فارس" وله: "لو كان الإيمان عند الثريا لناله رجال من هؤلاء، ووضع يده على سلمان" -رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 وكان له مجلس من رسول الله -صلى الله عليه وسلم, وقال فيه أيضًا: "أمرني ربي بحب أربعة, وأخبرني أنه يحبهم: علي, وأبو ذر، ومقداد، وسلمان -رضي الله عنهم" 1, وقال فيه علي: علم العلم الأول والآخر بحر لا ينزف وهو منا أهل البيت. وقال فيه أيضًا: سلمان الفارسي مثل لقمان الحكيم. توفى سنة "36" نيف وثلاثين2.   1 أخرجه ابن ماجه "1/ 53". 2 سلمان الفارسي أبو عبيدة: ترجمة سلمان في الإصابة "3/ 141"، والاستيعاب "2/ 134"، وأسد الغابة "2/ 328". 3 تقدم تخريجه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 ترجمة أبو عبيدة بن الجراح القرشي الفهري : أحد العشرة المبشرة بالجنة الذين كانوا أمام النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحروب ووراءه في الصلاة، هاجر الهجرتين، وشهد بدرًا وما بعدها، من السابقين الأولين, ومن قوادهم الفاتحين. فاتح الشام ومبيد دولة الروم منها، قال فيه -عليه السلام: "لكل أمة أمين, وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح" 1, وأراد أبو بكر أن يبايعه يوم السقيفة بالخلافة إذ قال الصحابة: رضيت لكم أحد هذين الرجلين. له ولعمر، وقال عمر لما وصل عنده للشام: كلنا غيَّرَتْنَا الدنيا غيرك يا أبا عبيدة, إذ لم يجد عنده في منزله شيئًا, ولا ما ينام عليه سوى كسوته وسرجه وسلاحه، ولذلك قال عند وفاته: لو كان أبو عبيدة حيًّا لأوصيت له بالخلافة. فذاك مما يدل على علمه وفضله، ومن فتاويه لما وجهه -صلى الله عليه وسلم- رئيس سرية الخبط, وخرجت لهم حوت العنبر: نحن رسل رسول الله, وفي سبيل الله, فكلوا منها فأكلوا, ولما قدموا وأخبروا النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل فتواه، وقال: "هل معكم منه شيء وأكل" 2. وهو الذي قال لعمر لما قدم الشام وأراد الرجوع من الطريق لأجل ما بلغه من الطاعون: أتفر من قدر الله؟ فقال: نفر من قدر الله إلى قدر الله, لو غيرك قالها يا أبا عبيدة3. وذلك دالّ على جلالته عند عمر فمن دونه، وقالت عائشة: أحب أصحاب رسول الله إليه أبو بكر, ثم عمر, ثم أبو عبيدة. وفد ابنه معاذ بعد موته حيث خطب الناس فقال: إنكم فجعتم برجل ما أزعم والله أني رأيت من عباد الله قط أقل حقدًا, ولا أبر صدرًا، ولا أبعد غائلة, ولا أشد حياء للعاقبة, ولا أنصح للعامة منه, فترحموا عليه. اتفقوا أنه مات في طاعون عمواس عام "18" ثمان عشرة4.   1 تقدم تخريجه. 2 تقدم تخريجه. 3 متفق عليه. البخاري في الطب "7/ 169"، ومسلم في السلام "7/ 29". 4 أبو عبيدة بن الجراح القرشي الفهري. ترجمته في الإصابة "3/ 586"، والاستعياب "4/ 171"، وأسد الغابة "3/ 804". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 ترجمة مصعب بن عمير القرشي العبدري : أحد السابقين الأولين, ممن حُبِسَ في ذات الله، هاجر الهجرتين، شهد بدرًا واستشهد في أحد، وهو صاحب راية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيها، كان من قراء الصحابة وعلمائهم، أرسله -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة قبل الهجرة ينشر الدين ويعلمهم الفقه، فعلمهم وأسلم على يده كثير، وهو أول من أقام جمعة في الإسلام بالمدينة قبل قدوم النبي -صلى الله عليه وسلم- إليها، وكان بمكة ذا رفاهية ونعمة، ولكن زهد وتقشّف بعد الهجرة، فلما مات لم يوجد عنده سوى نمرة غطّوا بها جسده وبقي رجلاه غطوهما بالإذخر -رحمه الله1.   1 مصعب بن عمير القرشي العبدري: التاريخ الصغير "1/ 21، 25"، الجرح والتعديل "8/ 140"، والعبَر "1/ 5". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 ترجمة سالم بن معقل مولى أبي حذيفة بن عتبة القرشي : فارسي الأصل، من السابقين الأولين، أحد الذين جمعوا القرآن على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وكان إمام المهاجرين الأولين في مسجد قباء وفيهم أبو بكر وعمر, وناهيك برجل يؤمهما في حياة رسول الله -صلى الله عليه وسلم1، وكان أكثرهم قرآنًا، وتقدَّم قوله -عليه السلام: "خذوا القرآن عن أربعة" وذكر منهم سالمًا2، وسمعه النبي -صلى الله عليه وسلم- يقرأ فقال: "الحمد لله الذي جعل في أمتي مثلك" 3، وقال فيه عمر لما حضرته الوفاة: لو كان حيًّا ما جعلتها شوري. وكان يفرط في الثناء عليه، شهد بدرًا فما بعدها، وكان بيده راية المهاجرين يوم اليمامة فقطعت يده اليمنى, فأخذها باليسرى فقطعت أيضًا، مات هو ومولاه فيها، وجد رأس أحدهما عند رجل الآخر، ذلك سنة "12" اثني عشرة4.   1 أخرجه البخاري في الأذان "1/ 168". 2 تقدم تخريجه. 3 أخرجه ابن ماجه بلفظ: "الذي جعل في أمتي مثله" "1/ 425"، والبزار بلفظ: ".. الذي جعل في أمتي مثله" مجمع الزوائد "9/ 300". 4 سالم بن معقل مولى أبي حذيفة عن عتبة القرشي. ترجمته في الإصابة "3/ 13"، والاستيعاب "2/ 567"، وأسد الغابة "2/ 245". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 ترجمة سعد بن معاذ الأنصاري الأوسي : سيدهم، شهد العقبة وبدرًا وأحدًا والخندق, وأصيب فيه بأكلحه فبقى مريضًا إلى أن حكم في بني قريظة إذ نزلوا على حكمه، فحكم بأن تقتل مقاتلتهم, وتسبى ذراريهم ونساؤهم, لغدرهم وخيانة عهودهم, فقال له -عليه اسلام: "حكمت فيهم بحكم الله" 1، وذلك دليل صوابية اجتهاده، له فضائل جمة في نفع الإسلام وصدق مبداه وثابته في مواطن كثيرة، ومات بأثر الحكم المذكور -رحمه الله، قال فيه النبي -صلى الله عليه وسلم: "اهتزل لموته عرش الرحمن" 2، 3.   1 متفق عليه: البخاري في فضائل سعد بن معاذ "5/ 44"، ومسلم في الجهاد "5/ 160". 2 متفق عليه: البخاري "5/ 44"، ومسلم "7/ 150". 3 سعد بن معاذ الأنصاري الأوسي. انظر ترجمته سعد في الإصابة "3/ 74"، والاستيعاب "2/ 602"، وأسد الغابة "2/ 296". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 ترجمة عثمان بن مظعون القرشي الجمحي : أسلم بعد ثلاثة عشر رجلًا، وهاجر الهجرتين، وهو من عبّاد الصحابة وفقهائهم ومجتهديهم، ومن اجتهاده ما في الصحيحين عن سعد بن أبي وقاص قال: ردَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- على عثمان بن مظعون التبتل, ولو أذن له لاختصينا. وفي رواية مسلم: أراد أن يتبتّل فنهاه. الحديث1، وهو الذي ردَّ على لبيد بن ربيعة حين قال: وكل نعيم لا محالة زائل. بقوله: كذبت, نعيم الجنة لا يزول. فقام سفيه منهم فلطم عينه فاخضرت2، وهو ممن حرّم الخمر في الجاهلية, فكان لا يشربها, وقال: لا أشرب شرابًا يذهب عقلي ويضحك بي من هو أدني مني ويحملني على أن أنكح كريمتي. شهد بدرًا ومات في السنة الثانية من الهجرة, وهو أول من مات بها من المهاجرين, وأول من دفن بالبقيع منهم3.   1 متفق عليه: البخاري "7/ 5"، ومسلم "4/ 129". 2 ذكر القصة في الإصابة. 3 عثمان بن مظعون القرشي الجمحي: أبو السائب القرشي. التاريخ الكبير "6/ 210"، البداية والنهاية "3/ 66، 92، 99"، معجم الثقات "303"، التاريخ الصغير "1/ 20، 42"، العبر "1/ 4"، تنقيح المقال "2/ 7803"، الموضوعات "1/ 156". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 ترجمة جعفر بن ابي طالب صنو علي -رضي الله عنهما: من السابقين الأولين، هاجر الهجرتين، حضر فتح خيبر, فاعتنقه النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال: "ما أدري بأيهما أنا أشدّ فرحًا, بقدوم جعفر أم بفتح خيبر" 1. نشر الدين في الحبشة, وعلى يده أسلم النجاشي وبعض من أسلم هناك، بعثه النبي -صلى الله عليه وسلم- خليفة أمير جيش مؤتة بحدود الشام, غزا فيها الروم، قاتل حتى قطعت يداه على راية رسول الله -صلى الله عليه وسلم, وذلك بعد أن عقر فرسه لئلَّا تفر به, وليعلم جيشه أنه لا مفر، وهو أول من عقر في الإسلام, وهذا من اجتهاده -رضي الله عنه, وجدت فيه نحو تسعين جراحة ما بين صدره ومنكبه وما أقبل منه، وهذه الغزاة من أعجب ما سطره التاريخ للإسلام، كان المسلمون نحو ثلاثة آلاف خاضوا بحرًا من جيش الروم يتجاوز مائة ألف، وهي فاتحة المعارك بين الإسلام والروم, وأول النصر عليهم للإسلام، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يكنِّيه أبا المساكين لحبه لهم وإحسانه إليهم، وقال له: "أشبهت خلقي وخلقي" 2 كما في الصحيح. وقال فيه أبو هريرة: ما احتذى النعال ولا ركب المطايا ولا وطئ التراب بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أفضل من جعفر. فكان يرى أفضليته حتى على الخلفاء, وهو مذهب كثير من المحدثين, أن الذين ماتوا في حياته -عليه السلام- دونه, وشهد عليهم أفضل الصحابة على الإطلاق، كانت وقعة مؤتة سنة ثمان 3.   1 قدوم جعفر في فتح خيبر في الصحيح، وأما هذا اللفظ فرواه الطبراني عن أبي جحيفة, وفي سنده أنس بن مسلم، قال الهيثمي، لا أعرفه, وبقية رجاله ثقات. ورواه الطبراني أيضًا عن الأعمش وهو مرسل، مجمع الزوائد "9/ 271". 2 البخاري "5/ 24". 3 جعفر بن أبي طالب صنو علي -رضي الله عنهما. الإصابة "1/ 485". والاستيعاب "1/ 242". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 ترجمة زيد بن حارثة الكلبيّ مولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم: وحِبُّه ووالد حِبِّه أسامة، كان وصيف خديجة زوج رسول الله -صلى الله عليه وسلم, فوهبته له, وجاء والده وعمه من بلدهما يطلبان فداءه من رسول الله -صلى الله عليه وسلم, فخيَّره فاختار رسول الله دون أبويه، وهو أول من سبق للإسلام على ما قال الزهري وسيلمان بن يسار1 وغيرهما، هاجر وشهد بدرًا، قال ابن عمر: ما كنا ندعوا زيدًا إلا زيد بن محمد, حتى نزل {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} 2 رواه في الصحيح3، ولم يذكر أحد في القرآن باسمه من الصحابة سواه في قصة زينب بنت جحش التي كانت زوجته فطلقها, ثم تزوجها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما في سورة الأحزاب، وكان -صلى الله عليه وسلم- يؤمّره على الجيوش, وأمّره على جيش مؤته, وكان حعفر خليفته، ويا لها من منقبة، فقاتل حتى قتل قبل جعفر، قالت عائشة: ما بعث رسول الله سرية هو فيها إلا أمَّره عليها, ولو بقي لاستخلفه, وقال فيه: "أنت مولاي ومني وأحب الناس إلي" 4. وفي البخاري: "إن كان لخليقًا للإمارة ومن أحب الناس إلي" 5. ومن فقهه أن أحد اللصوص أكرى له بغلًا من الطائف, ثم مال به إلى شعب وأراد أن يقتله, فاستمهله أن يلصي فصلَّى ركعتين ودعى بقوله: يا أرحم الراحمين. فأرسل الله له من خلصه منه من الملائكة6, 7.   1 الزهري هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب إمام الحفاظ، ت سنة 124هـ، انظر ترجمته في "تهذيب التهذيب" "9/ 445", وتذكر الحفاظ "1/ 102". وسليمان بن يسار أحد الفقهاء السبعة بالمدينة، ت سنة 108هـ, وقد ترجم لهما المؤلف في القسم الثاني. 2 الأحزاب: 5. 3 متفق عليه: البخاري في تفسير سورة الأحزاب "6/ 145"، ومسلم في فضائل زيد "7/ 131". 4 أخرجه أحمد من حديث أسامة "5/ 204"، وابن سعد, وقال ابن حجر: إسناده حسن، الإصابة "2/ 601"، وفي البخاري في الصلح "3/ 242"، عن البراء أنه -صلى الله عليه وسلم- قال لزيد: "أنت أخونا ومولانا". 5 متفق عليه: البخاري "5/ 29"، ومسلم "7/ 131". 6 ذكرها ابن عبد البر بإسناده إلى الليث بن سعد. 7 زيد بن حارثة الكلبي مولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم. الإصابة "2/ 598"، وفي الاستيعاب "2/ 542"، وأسد الغابة "2/ 224". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 ترجمة خالد بن سعيد بن العاص بن أمية الأموي : من السابقين الأولين، أسلم بعد أربعة، هو أول من كتب بسم الله الرحمن الرحيم، هاجر الهجرتين، صلى للقبلتين، ورجع من الحبشة هو وزوجه وأخوه وبنته مع جعفر بن أبي طالب، شهد عمرة القضية فما بعدها، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يوليه؛ إذ كان من سادات قريش وأعيانهم، استعمله على صدقات مذحج، وأمَّره أبو بكر على مشارق الشام في الردة، استشهد في أجنادين أو يوم مرج الصفر1.   1 خالد بن سعيد بن العاص بن أمية الأموي: القرشي الأموي. تقريب التهذيب "1/ 214"، تهذيب التهذيب "3/ 94"، تهذيب الكمال "1/ 355"، الكاشف "1/ 269"، الجرح والتعديل "3/ 1500"، الأعلمي "17/ 128"، التاريخ الكبير "3/ 152". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 ترجمة خبيب بن عدي الأنصاري الأوسي : من السابقين، شهد بدرًا وأسر في سرية الرجيع، فبيع وقتلته قريش صبرًا بمكة، وهو القائل. ولست أبالي حين أقتل مسلمًا ... على أن شقٍّ كان في الله مصرعي وذلك في ذات الإله وإن يشأ ... يبارك على أوصال شلو ممزع ولما خرجوا ليقتلوه قال: دعوني أصلي ركعتين, ثم قال: لولا أن تروا أنَّ ما بي جزع من الموت لزدت, فكان أوّل من صلى ركعتين عند القتل, وهذا من اجتهاده -رضي الله عنه, وكان هذا سنة ثلاثة هجرية1.   1 خبيب بن عدي الأنصاري الأوسي. ترجمته في الإصابة "2/ 262"، والاستيعاب "2/ 440"، وأسد الغابة "2/ 103". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 ترجمة عبد الله بن جحش الأسدي القرشي : من السابقين الأولين، هاجر الهجرتين، وأخته زينب بنت جحش زوج النبي -صلى الله عليه عليه وسلم, هو أول قائد للمسلمين ساق الجيوش، ولواؤه أوّل لواء عقد، ومن اجتهاده في قسم الغنيمة أخماسًا, فجعل الخمس لرسول الله -صلى الله عليه وسلم, وقسّم أربعة أخماس في الغانمين من قبل أن يفرض ذلك، فنزل بعد ذلك: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} 1، شهد بدرًا واستشهد يوم أحد -رحمه الله، وانقطع سيفه يوم أحد فأعطاه النبي -صلى الله عليه وسلم- عرجرنًا فصار سيفًا، وقد بيع بمائتي دينار، اشتراه بغا2 التركي، ومن اجتهاده أنه أحد الثلاثة الذي استشارهم النبي -صلى الله عليه وسلم- في أسرى بدر، هم عبد الله، وأبو بكر، وعمر3.   1 الأنفال: 41. 2 ذكره ابن حجر في الإصابة في ترجمته. 3 عبد الله بن جحش الأسدي القرشي: ترجمته في الإصابة "4/ 35"، والاستيعاب "3/ 877"، وأسد الغابة "3/ 131". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 ترجمة حمزة بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ... ترجمة حمزة بن عبد الملطلب عمّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم: وأخوه من الرضع، من السابقين الأولين، وممن أعزّ الله بهم الإسلام، هاجر مع رسوله -عليه السلام، وشهد بدرًا فأبلى فيها بلاء حسنًا، وأحدًا كذلك، وفيها استشهد, ومثَّل به المشركون أقبح مثلة، فلمّا رآه النبي -صلى الله عليه وسلم- بكى، وقال: "والله لئن أظفرني الله بهم لأمثلنَّ بسبعين منهم" 1 فأنزل الله: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ، وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} 2, وهذا من الاجتهاد أيضًا بلا شك، وحمزة هو سيف الله، وسيد الشهداء، ومن قواد المسلمين، قيل: هو أول قائد, ورايته أول راية عقدت في الإسلام، وقيل: أول رياة عقدت في الإسلام راية عبيدة بن الحرث، قيل: إن حمزة أفضل مسلم بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم3.   1 أخرجه الدراقطني "4/ 118". 2 النحل: 126، 127. 3 حمزة بن عبد المطلب عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم: ترجمته في الإصابة "21/ 121"، والاستيعاب "1/ 369"، وأسد الغابة "2/ 46". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 ترجمة سيدتنا فاطمة بنت مولانا رسول الله -صلى الله عليه وسلم: وأشبه الناس به خُلُقًا وخَلْقًا، وأحب الناس إليه، وإلى أمته، سيدة نساء العالمين, ويكفي أن يقال في ترجمتها بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم, فأي فضل وأي شرف وأي فخر بعد هذا، لكن ترجمة فضلها وعقلها وأدبها وشعرها وخطبها وجودها وفقهها خُصَّت بالتآليف، وانظر خطبها في كتاب "بلاغات النساء"1، من فقهها -رضي الله عنها, أوصت عليًّا أن يغسّلها, فهي أول امرأة غسَّلَها زوجها في الإسلام، وأقره الصحابة على ذلك، فكان إجماعًا، وهو مقدَّم على ما يقتضيه القياس من كون الزوج بعد وفاتها صار أجنبيًّا لانصرام العصمة، وأوصت أن يجعل عليها قبَّةً2 تحمل فيها لئلَّا ترى، وهي أول من فُعِلَ بها ذلك فرقًا بين النساء والرجال سترًا لهن2, ولم يعقب النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا منها, ولم يبق بعده من بنيه سواها، توفيت بعد بثلاثة أو ستة أشهر، وهي أول لحوقًا به -عليه السلام, كما أخبرها بذلك3.   1 بلاغات النساء: تأليف أحمد بن طيفور الخراساني، ت سنة 280، طبع بمصر سنة 1236هـ. 2 قال المؤلف -رحمه الله: سأل قاضي دانية أبو عمر أحمد بن حسين الشيخ أبا عمران الفاسي عالم أفريقيا لما توجّه في سفارة من الموفق صاحب دانية إلى المعز بن باديس عن مائة مسألة، من جملته هذه وهي: لم خصت المرأة بوضع قبة على نعشها واستمر عليه عمل الأمة من الصدر الأول إلى الآن. وقد كانت تدفن ليلًا على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم, وهي في حياتها لا يلزم إخفاء شخصها بل ستر جسدها؟ فأجاب أبو عمران: إنها لم تملك من أمراها شيئًا, فلذلك جعل لها أتمَّ الستر. وأجاب السائل بأن علة ذلك أنها لما حُمِلَت على الأعناق وتعيَّن عينها, زيد في سترها حتى لا يعلم طولها من قصرها, وسمنها من هزالها, وهي في حياتها مختلطة بغيرها لم تتعين. نقله في المدارك في ترجمته الأول. 2 أما أنها أوصت عليًّا بأن يغسّلها فنقله ابن عبد البر في الاستيعاب. وانظر كلام الحافظ ابن حجر عليه في الإصابة "8/ 57"، وفي مسند أحمد أنها -رضي الله عنه- اغتسلت قبل موتها، وأوصت ألا يكشفها أحد "6/ 461"، قال الهيثمي: فيه من لم أعرف، وروى نحوه الطبراني بإسناد منقطع. مجمع الزوائد "9/ 211". 3 سيدتنا فاطمة بنت مولانا رسول الله -صلى الله عليه وسلم. ترجمتها في الإصابة "8/ 53"، والاستيعاب "4/ 1893"، وأسد الغابة "5/ 519". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 ترجمة خزيمة بن ثابت الأنصاري الأوسي الخطمي : بفتح فسكون، من السابقين الأولين، شهد بدرًا وما بعدها، كسر أصنام بني خطمة، ومن اجتهاده أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ابتاع فرسًا فأنكره البائع, فجاء خزيمة وشهد بصدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال له: "كيف شهدت بما لم تشهد"؟ فقال: ائتمناك على خبر السماء, فكيف لا نصدقك في هذا، فجعل النبي -صلى الله عليه وسلم- شهادته بشهادة رجلين خصوصية له، وهذا من فقهه واجتهاده الصائب -رضي الله عنه1، ولما جمعوا المصحف لم يجدوا آية الحرص إلّا معه, كما في البخاري2, مات بصفين مع عليّ -رضي الله عنه3.   1 أبو داود في الأقضية "3/ 308"، والنسائي في البيوع "7/ 226". 2 في البخاري في تفسير سورة التوبة "6/ 90"، وفيه أيضًا في جمع المصحف "226" أنه وجد معه آية من الأحزاب: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} . 3 خزيمة بن ثابت الأنصاري الأوسي الخطمي. التاريخ الكبير "3/ 205"، ودائرة المعارف الأعلمي "17/ 169"، البداية والنهاية"7/ 310". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 ترجمة خالد بن الوليد القرشي المخرومي ... ترجمة خالد بن الوليد القرشي المخزومي: سيف الله، أحد أشراف قريش في الجاهلية والإسلام، أسلم بين الحديبية وخيبر، ولم يزل من حين أسلم يوليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قيادة الجيوش، شهد معه الفتح، وهو الذي كسر صنم العزّى، ومن اجتهاده أن بعثه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى الغميصا فقتل ناسًا قالوا: صبأنا -أي أسلمنا- ولم يحسنوا النطق بالشهادة، فلم يستصوب فعله, ووداهم -عليه السلام- من مال المسلمين وعذر اجتهاده، وقال -عليه السلام: "اللهم أني أبرأ إليك مما فعل خالد" 1 والقصة في الصحيح، وله مشاهد وفتوح في الحياة النبوية وبعدها، وما كسرت له راية، وعلى يده أسس الله دعائم الإسلام بعد تضعضعه بموت النبي -صلى الله عليه وسلم, فهو الذي أخضع أهل الردة، وقتل مسليمة الكذاب، ومالك بن نويرة, ومن أبى من دفع الزكاة, وأخمد فتنة ثورة العرب، وفتح كثيرًا من بلاد الشام، فهو فاتح دمشق وغيرها، ولما حضرته الوفاةقال: لقد شهدت مائة زحف وما في جسدي موضع شبر إلّا وفيه ضربة أو طعنة، أو رمية, ثم أنا أموت على فراشي كما يموت العير, فلا نامت أعين الجبناء. توفي سنة "21" إحدى وعشرين2.   1 تقدم تخريجه. 2 خالد بن الوليد القرشي المخزومي: ترجمته في الإصابة "2/ 427"، وأسد الغابة "2/ 93". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 ترجمة عبد الله بن رواحة الأنصاري الخزرجي : أحد قواد الإسلام في البعوث والسرايا، ومن النقباء، وشهد بدرًا وما بعدها، وكان هو الخليفة الثاني بعد جعفر بن أبي طالب في سرية مؤتة, فاستشهد بعد الرئيسين قبله، كان من شعراء الصحابة, ينافح عن رسول الله بسنانه ولسانه، ومن فقهه: سئلت امرأته بعد موته عن صنيعه فقالت: كان إذا أراد أن يخرج من بيته صلّى ركعتين, وإذا دخل صلى ركعتين, لا يدع ذلك. قالوا: وكان أول خارج للغزو وآخر قافل، ومن ذلك أيضًا ما نزل: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} 1، قال عبد الله بن رواحة: علم الله أني منهم, فأنزل الله: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} 2 وهذا تمسك بالعموم حتى يرد المخصص، ومن ذلك أنه أنشد بين يدي رسول الله عند دخوله مكة: خلوا بني الكفار عن سبيله ... اليوم نضربكم على تأويله ضربًا يزيل الهمام عن مقيله ... ويذهل الخليل عن خليله فقال عمر: يا ابن رواحة, أفي حرم الله وبين يدي رسول الله تقول هذا الشعر, فقال: "خلّ عنه يا عمر, فوالذي نفسي بيده لكلامه عليهم أشد من وقع النبل" 3، ومن ذلك ما في الزهد لأحمد عن أنس: كان ابن رواحة إذا لقي الرجل من أصحابه يقول: تعالى نؤمن بربنا ساعة. الحديث، وفيه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "رحم الله ابن رواحة, إنه يحب المجالس التي تتباهى بها الملائكة" 4، وقال أبو الدرداء: لقد رأيتنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بعض أسفاره في اليوم الحارّ الشديد، وما في القوم صائم إلّا رسول الله -صلى الله عليه وسلم, وعبد الله بن رواحة5. ومن ذلك أنه مشى ليلة إلى أمته فجامعها، وفطنت امرأته فلامته، فجحد والحال أنها عاينت، فقالت: إن كنت صادقًا فاقرأ القرآن فالجنب لا يقرؤه، فقال:   1 الشعراء: 224. 2 الشعراء: 227. 3 أخرجه النسائي "5/ 159". 4 أحمد في المسند عن أنس بن مالك "3/ 265". 5 متفق عليه: البخاري "3/ 44"، ومسلم "3/ 145". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 شهدت بأن وعد الله حق ... وأن النار مثوى الكافرين وأن العرش فوق الماء حق ... وفوق العرش رب العالمين وتحمله ملائكة غلاظ ... ملائكة الإله مسومين فقالت: صدق الله وكذبت عيني, وكانت لا تحفظ القرآن ولا تقرؤه، قال ابن عبد البر: رويناها من وجوه الصحاح1.   1 عبد الله بن رواحة الأنصاري الخزرجي: مسند أحمد "3/ 451"، طبقات ابن سعد "6/ 2/ 79"، تاريخ خليفة "86-87"، والتاريخ الصغير "1/ 23"، الجرح والتعديل "5/ 50"، حلية الأولياء "1/ 118-121"، والاستيعاب "6/ 171"، ابن عساكر "9/ 99/ 2"، أسد الغابة "3/ 234"، كنز العمال "13/ 449"، وشذرات الذهب "1/ 12". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 ترجمة أسامة بن زيد بن حارثة, حِبُّ رسول الله وابن حِبِّه: تقدَّم نسبة أبيه، تربّى أسامة في بيت رسول الله ومع أولاده، وكان يجعله في حجره، هو وسبطه الحسن، ويقول: "اللهم إني أحبهما فأحبهما" 1 وكفى بهذا شرفًا، توفي النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو ابن عشرين سنة، وولّاه على جيش عظيم فيه أبو بكر وعمر، فمات النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل أن يتوجه فأنفذه أبو بكر، وتكلَّموا فيه لما تولاه, فخطب النبي قبيل وفاته وقال: "إن يتكلموا فيه فقد تكلموا في أبيه قبله, وإن كان لخليقًا للإمارة, وايم الله, إن كان لأحب الناس إلي, وايم الله إن هذا لها لخليق -يريد أسامة, وايم الله إن كان لأحبهم إلي من بعده, فأوصيكم الله به فإنه من صالحكم" رواه مسلم2، وكفى بهذا ثناء، كان عمر يجله كثيرًا, وإذا لقيه قال له: السلام عليك أيها الأمير، ويقول له: لا أدعوك إلّا به ما عشت؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- مات وأنت علي أمير, وفضَّله على ولده في العطاء، جعل له خمسة آلاف، ولولده ألفين. وقال: أبوه أحب إلى رسول الله من أبيك, وهو أحب إليه منك، له مائة وثمانية أحاديث كما في سيرة الشامي3، وكان أسامة ممن اعتزل الفتنة, وتوفي آخر أيام معاوية4.   1 البخاري "5/ 32". 2 متفق عليه: البخاري "5/ 29"، ومسلم "7/ 131". 3 تقدم. 4 أسامة بن زيد بن حارثة, حِبُّ رسول الله وابن حِبِّه: ترجمته في الإصابة "1/ 49"، والاستيعاب "1/ 75"، وأسد الغابة "1/ 64". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 ترجمة أبو سعيد الخدري سعد بن مالك الأنصاري الخزرجي ... ترجمة أبو سعد الخدري سعد بن مالك الأنصاري الخزرجي: من صغار الصحابة, استصغر بأحد فلم يشهدها لكونه كان ابن ثلاث عشرة، واستشهد بها أبوه، وشهد ما بعدها من المشاهد، وهو أفقه صغار الصحابة كما قال حنظلة بن أبي سفيان1 عن أشياخه، ومن أكثرهم حديثًا. ومن الحفاظ المتقنين الفضلاء العلماء العقلاء، وأخباره تشهد بذلك، وهو من الذين بايعوا النبي -صلى الله عليه وسلم- على أن لا تأخذهم في الله لومة لائم، وهو الذي روى عن النبي -صلى الله عليه وسلم: "لا يمنعن أحدكم مخافة الناس أن يتكلموا بالحق إذا رآه أو علمه" 2، قال أبو سعيد: فحملني ذلك على أن ركبت إلى معاوية فملأت أذنيه ثم رجعت. ومن فتياه في زمن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه أخذ الجعل على رقية رجل لدغته عقرب, وكان الجعل رءوسا من الغنم, ولما قدم على النبي -صلى الله عليه وسلم- أمضى فتواه وقال: "إن أحق ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله" 3، توفي سنة نيف وستين أو نيف وسبعين4.   1حنظلة بن أبي سفيان الأموي المكي, أخذ عن طاوس وسالم والقاسم ومجاهد، ت سنة 151، خلاصة الخزرجي 96. 2 أحمد في المسند "3/ 44". 3 تقدم تخريجه. 4 أبو سعيد الخدري: سعد بن مالك الأنصاري الخزرجي. ترجمته في الإصابة "3/ 78"، والاستيعاب "2/ 602"، وأسد الغابة "2/ 289". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 ترجمة عمرو بن العاص القرشي السهمي : أسلم مع خالد بن الوليد، وهو أحد القواد المشهورين في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم- وبعده, بعثه -صلى الله عليه وسلم- في سرايا قائدًا، من جملته سرية ذات السلاسل, وتحت إمرته أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح، ومن اجتهاده ما في الموطأ: أنه أصبح جنبًا فتيمم وصلّى بهم وهم خمسمائة, فلما قدموا وأخبروا النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له: " أتصلي إمامًا وأنت جنب" ولم يأمرهم بالإعادة1، فدلّ على صحة صلاتهم مع كراهة، وولاه النبي -صلى الله عليه وسلم- على عمّان, فلم يزل بها إلى الوفاة النبوية، حضر فتوح الشام، وهو الذي فتح مصر والإسكندرية، وبدأ في فتوح أفريقيا، ففتح طرابلس سنة "22"، وهو من عقلاء العرب ودهاتهم، وبدهائه خرجت الخلافة من يد علي بن أبي طالب وتولاها معاوية2، فهو ممن أسس الدولة الأموية الكبرى، مات بمصر سنة نيف وأربعين عن تسعين سنة3.   1 تقدَّم تخريجه. 2 هذه عبارة غير محققة، فالخلافة أولًا لم تخرج من يد علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- حتى استشهد، وثانيًا إنما آلت الخلافة بعده إلى معاوية -رضي الله عنه- بعدة عوامل وأسباب, كان من أهمها تنازل الحسن سبط رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو الذي نوّه به الرسول -صلى الله عليه وسلم- حين قال: "ابني هذا سيد, ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين" أخرجه البخاري "5/ 32"، "عبد العزيز القارئ". 3 عمر بن العاص القرشي السهمي: أبو عبد الله، مات سنة 43، مسند أحمد "4/ 202"، طبقات ابن سعد "4/ 254"، تاريخ البخاري "6/ 303"، والمستدرك "3/ 452"، تاريخ الطبري "4/ 557"، جامع الأصول "9/ 103"، وأسد الغابة "4/ 115"، تاريخ الإسلام "2/ 235"، البداية والنهاية "4/ 263"، والمغازي "2/ 741"، شذرات الذهب "1/ 53". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 ترجمة أبو قتادة الحارث بن ربعي الأنصاري السلمي الخزرجي 4: فارس رسول الله، شهد أحدًا فما بعدها، ومن فقه في الحياة النبوية صيده وهو حلال, وأطعم منه المحرمين, فأكل بعضهم دون بعض, فأجاز -صلى الله عليه وسلم- فتواه5. روى عنه أبو سيعد الخدري فقال: أخبرني من هو خير مني. توفي سنة نيف وخمسين6.   1 تقدَّم تخريجه. 2 هذه عبارة غير محققة، فالخلافة أولًا لم تخرج من يد علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- حتى استشهد، وثانيًا إنما آلت الخلافة بعده إلى معاوية -رضي الله عنه- بعدة عوامل وأسباب, كان من أهمها تنازل الحسن سبط رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو الذي نوّه به الرسول -صلى الله عليه وسلم- حين قال: "ابني هذا سيد, ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين" أخرجه البخاري "5/ 32"، "عبد العزيز القارئ". 3 عمر بن العاص القرشي السهمي: أبو عبد الله، مات سنة 43، مسند أحمد "4/ 202"، طبقات ابن سعد "4/ 254"، تاريخ البخاري "6/ 303"، والمستدرك "3/ 452"، تاريخ الطبري "4/ 557"، جامع الأصول "9/ 103"، وأسد الغابة "4/ 115"، تاريخ الإسلام "2/ 235"، البداية والنهاية "4/ 263"، والمغازي "2/ 741"، شذرات الذهب "1/ 53". 4 قال المؤلف -رحمه الله: ربعي -بكسر الراء وسكون الباء الموحدة، والسلمي بفتحتين. 5 تقدَّم تخريجه. 6 أبو قتادة الحارث بن ربعي الأنصاري السلمي الخزرجي: ترجمته في الإصابة "7/ 327"، والاستيعاب "1/ 289"، وأسد الغابة "5/ 274". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 ترجمة قتادة بن النعمان الأنصاري الأوسي : عقبي، بدري، شهد المشاهد كلها، وهو الذي أصاب سهم حدقته يوم أحد حتى تعلقت بالعرق، فأرادوا قطعها, ثم أتوا النبي -صلى الله عليه وسلم- فدفعها بيده حتى وضعه بيده موضوعها, ثم غمزها براحته وقال: "اللهم اكسها جمالًا" فكانت أحسن عينيه وأحدها نظرًا, وما مرضت بعد1، كان من فضلاء الصحابة، وكان أخا أبي سعيد الخدري لأمه. كان أبو سعيد في سفر، ولما قدم قدَّموا له لحم أضحية بعد ثلاث، فقال: لا أذوقه حتى أسأل أخي قتادة: فأتاه وسأله, فأخبره بأن النهي عن أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث نسخ, وأن النبي -صلى الله عليه وسلم- رخَّص في ذلك, والقصة في الصحيح2، ومن فقهه أنه بات يقرأ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} يقوم الله بها، فسمعه أبو سعيد الخدري، وكان يتقالهّا, أي: يعدها قليلة، فأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "إنها تعدل ثلث القرآن" والقصة في الصحيح3، وكانت وفاته سنة نيف وعشرين4.   1 ذكره ابن حجر في الإصابة وبين طرفة "5/ 417". 2 البخاري "7/ 133". 3 البخاري "6/ 223". 4 قتادة بن النعمان الأنصاري الأوسي: ترجمته في الإصابة "5/ 416"، والاستيعاب "3/ 1274"، وأسد الغابة "4/ 195". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 ترجمة أم سلمة أم المؤمنين هند بنت أمية : أسدية، هاجرت إلى الحبشة مع زوجها أبي سلمة بن عبد الأسد، وتوفي هناك فهاجرت للمدينة، وتزوجها النبي -صلى الله عليه وسلم. كانت من الفقيهات الحافظات السيدات الكريمات المحسنات، ومن اجتهادها المصيب في الزمن النبوي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دخل عليها عندما تمَّ الصلح بينه وبين كفار قريش في الحديبية متغيرًا لما أمر الصحابة أن يتحللوا من إحرامهم وينحروا هديهم, فتوانو إذ لم يستحسنوا الصلح ورأوا القتال أفضل، فأشارت على النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يحلق رأسه وينحر هديه, فإنهم لا محالة يقتدون به، ففعل1، وهذا من كمال عقلها إذ فهمت أنهم استصعبوا   1 ذكره الحافظ في ترجمتها في الإصابة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 التحلل من النسك قبل استيفاء المناسك, وأن البيان بالفعل أقوى من القول, فكان الأمر كما فهمت. وفي صحيح مسلم عن ابنها عمر بن أبي سلمة, أنه سأل النبي -صلى الله عليه وسلم: أيقبل الصائم؟ قال: "سل هذه" لأم سلمة, فأخبرتها أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصنع ذلك1. الحديث، ولها أقوال وآراء في الفقه مشهورة، لها ثلاثمائة وثمانية وسبعين حديثًا، توفيت سنة "59" تسع وخمسين، وهي آخر أمهات المؤمنين وفاةً -رضي الله عنهنّ جميعًا2.   1 أخرجه مسلم في الصوم "3/ 137". 2 أم سلمة أم المؤمنين هند بنت أمية: ترجمتها في الإصابة "8/ 150، 221"، والاستيعاب "4/ 1920، 1939"، وأسد الغابة "5/ 650، 588"، وفي الطبعة المغربية، بنت أبي خزيمة وهو خطأ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 ترجمة أم المؤمنين زينب بنت جحش ... ترجمة أم المؤمنين زينبت بنت جحش: هي التي تولى الله تزويجها لرسوله في آية الأحزاب: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ} 1, كانت صوّامة قوامة، كثيرة الإحسان والصدقة، تعمل بيدها دباغة الجلود وتخرزها, وتبيع وتتصدق على الأيتام والأرامل، كان خراجها اثني عشر ألفًا تتصدق به كله, فبلغ ذلك عمر فقال: هذه امرأة يراد بها خير, فبعث لها بألف درهم تستبقيها, فتصدقت بها أيضًا, فعلت ذلك في العام الأول، ثم قالت: اللهم لا يدركني هذا المال من قابل فإنه فتنة. ممن فقهها أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يومًا يقسِّم الفيء في رهط من المهاجرين, فتكلَّمت في ذلك، فانتهزها عمر، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: " خل عنها فإنها أواهة" 2 ولما حضرتها الوفاة سنة "20" عشرين قالت: إني أعددت كفني, وإن عمر سيبعث إلي بالكفن, فتصدقوا بأحدهما, وإن استطعتم أن تتصدقوا بحقوي فافعلوا, فكفنوها في كفن عمر وتصدّقوا بكفنها. قالت فيها عائشة: لم تكن امرأة خيرًا منها في الدين وأتقى لله وأوصل للرحم وأعظم صدقة وأشد تبذلًا لنفسها في العمل الذي تتصدق وتتقرّب إلى الله3.   1 الأحزاب: 37. 2 ذكره الحافظ في ترجمتها في الإصابة. 3 أم المؤمنين زينب بن جحش الأسدية: ترجمتها في الإصابة "7/ 667"، والاستيعاب "4/ 1849"، وأسد الغابة "5/ 463". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 صناعة التوثيق في العهد النبوي : غير خفي أن التوثيق من مستتبعات الفقه، وهاك مثالًا مما كان عليه التوثيق في العهد النبوي: روى الترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وابن الجارود، وابن منده بإسناد حسن1، ولفظ ابن ماجه: حدثنا محمد بن بشار, حدثنا عبّاد بن ليث صاحب الكرابيسي, حدثنا عبد المجيد بن وهب قال: قال لي العداد بن خالد بن هوذة: ألا نقرئك كتابًا كتبه لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟ قال: قلت: بلى، فأخرج لي كتابًا فإذا فيه: $"هذا ما اشترى العداء بن خالد بن هوذة من محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم, اشترى منه عبدًا أو أمة، لا داء، ولا غائلة، ولا خبئة, بيع المسلم للمسلم" وأورده أبو الحسن الطوسي2 في الأحكام، و"الغائلة": قال سعيد بن أبي عروبة3: الإباق والسرقة والزنا: "الخبثة" بكسر الخاء وبالمثلثة هو: أن يكون من قوم لا يحل سبيهم, وقيل: سوء الخلق، وقوله: "بيع المسلم" الأشهر فيه النصب أي كبيع المسلم. وفي أبي داود4: عن يحيى بن سعيد عن صدقة عمر بن الخطاب قال: نسخها في عبد الحميد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب5: "بسم الله الرحمن   1 خبر كتاب العداء بن خالد بن هوذة: أخرجه البخاري تعليقًا في البيع "3/ 76"، والترمذي "3/ 511"، وابن ماجه "2/ 756:، وليس في النسائي. 2 لم أعرفه. 3 اسم مهران اليشكري مولاهم أبو النضر البصري الحافظ العلم, أخذ عن الحسن والنصر بن أنس حديثًًا واحدًا, وأبي التياح ومطر الوراق، ت سنة 156 هـ. خلاصة الخزرجي 141. 4 أبو داود في الوصايا "3/ 117". 5 في السنن عبد الحميد بن عبد الله بن عمر، وقال الخزرجي في الخلاصة، عبد الحميد بن عبد الله بن عبيد الله بن عمر المدني, روى كتاب صدقات عمر. خلاصة الخزرجي 222. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 الرحيم، وهذا ما كتب عبد الله عمر في ثمغ أنه لا يباع أصلها، ولا يوهب، ولا يورث للفقراء والقربى والرقاب وفي سبيل الله، وابن السبيل, لا جناح على من ولهيا أن يأكل منها بالمعروف، ويطعم صديقًا غير متأثل مالًا, فما عفا عنه من ثمره فهو للسائل والمحروم، وإن شاء وليٌّ ثمغ اشترى من ثمره فهو للسائل والمحروم, وإن شاء وليٌّ ثمغ اشترى من ثمره رقيقًا لعمله. وكتب معيقيب1. وشهد عبد الله بن الأرقم2، وزاد فيها لما حضرته الوفاة: "بسم الله الرحمن الرحيم, هذا ما أوصى به عبد الله أمير المؤمنين إن حدث بي حدث, أن ثمغا وصرمة بن الأكوع والعبد الذي فيه, والمائة التي بخيبر ورقيقة, والمائة التي أطعمه محمد -صلى الله عليه وسلم- بالوادي, تليه حفصة ما عاشت, ثم يليه ذو الرأي من أهلها, لا يباع ولا يشترى, ينفقه حيث رأى من السائل والمحروم وذي القربى، ولا حرج عى وليه إن أكل أو آكل أو اشترى رقيقًا منه". فانظر صورة ما كان عليه التوثيق من فصاحة واختصار مفيد جامع، الأصل الذي بني عليه التوثيق، وتفرّع عنه هو آية البقرة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ} الآية3. انتهى القسم الأول من كتاب الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي، ويليه القسم الثاني. أوله: الطور الثاني للفقه طور الشباب.   1 لعله معيقيب بن أبي فاطمة الدوسي، كان على بيت المال لعمر بن الخطاب. انظر ترجمته في الإصابة "6/ 193". 2 عبد الله بن الأرقم بن أبي الأرقام القرشي الزهري, كان على بيت المال أيام عمر. انظر ترجمته في الإصابة "4/ 4". 3 البقرة: 282. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 القسم الثاني: من الفكر السامي مدخل ... بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله عليه سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. القسم الثاني من الفكر السامي: في الطور الثاني للفقه وهو طور الشباب؛ حيث صار الفقه شابًّا قويًّا كاملًا سويًّا، وذلك بعد الوفاة مدة قرنين إلى آخر القرن الثاني، إذ أصوله كملت في الزمن النبوي وكثير من فروعه, ولم يبق إلّا التفريع والاستنباط بالاجتهاد المطلق ثم المقيد قبل شيوع التقليد في العلماء. وفي هذا العصر امتدَّ الإسلام وكثرت الفتوح، واتسعت المملكة الإسلامية من الهند إلى الأندلس, واختلطت بأمم كثيرة دخلت فيه أفواجًا كفارس والروم، ودخلت الحضارة والرفه الفارسي والرومي للعرب، فكثرت النوازل، وظهر الفقهاء المفتون والقضاة العادلون, فصار للفقه مكان واعتبار؛ إذ فتحت الأقطار ومصِّرت الأمصار واتسعت بالإسلام الديار، عصر التمدن العربي والتقدم الإسلامي، فنزلت النوازل وظهرت جزئيات النصوص التي كانت كامنة بين العموم والخصوص، فاجتهد الفقهاء واستنبطوا الآراء وأسَّسوا المبادئ وقعَّدوا وأطلقوا. ورووا السن وفسَّروا القرآن الكريم فعمَّموا وخصَّصوا وقيَّدوا وأطلقوا. واستعانوا عليه بالآثار فجمعوها وفحصوها, وانقتدوا ما انتقدوا منها, وبينوا ما يصلح للدلالة وما فيها قادح، ومارسوا كيفية اندراج الجزئي في الكلي, والخاص تحت العام، وقاسوا لنظيره والشبيه على شبيهه، وصيروا هذه الأصول علومًا وصناعات تحتاج لمزيد الممارسات، لتنضبط بذلك الفقه وينتظم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 أمر الاجتهاد الذي يتوقّف عليه تقدم الأمة وصون حقوقها. كل المجتهدين كان يقصد غاية واحدة, وهي استنباط أحكام الوقائع من القرآن والسنة على ما يقتضيه روح التشريع الإسلامي متوخِّين الوصول إلى مراد الشارع، لا قصد لواحد منهم سوى هذا، لكنهم قد تنوعت أفكارهم ومبادئهم في كيفية الوصول إلى هذه الضالة المنشودة، كما سنورد لك بيانه. ففي هذا العصر بلغ الفقه غايته, وأدرك أوان الشباب وترعرع, فأصبح شابًّا قويًّا غضًّا طريًّا, يتناول الفقيه أحكام الفروع من أغصان الكتاب والسنة والإجماع والقياس، لم تذبل نضرته بالتقليد المحض وسرد الفروع مسلَّمة كما تسرد الأعمال يوم العرض، بل ازدهى ثمر ثمره الغض إذ كان النمو، وقوته تزداد كمالًا بالاجتهاد، وحرية الفكر مطلقة العنان لكل الأفراد، ولم يكن حجاب التقليد سدًّا حيينًا بين العلماء وبين الكتاب والسنة كما هو في متأخر الصعور التي لم يبق عند أهلها لتلاوة القرآن نفع إلّا على أصحاب القبور, ومنعوا انتفاع الأحياء من فهمه, والاستطلاع على عجائب علمه، بل كان أصحاب القرنين الأولين يستصبحون بمصباح السنة والكتاب ويسيرون بمعيارهما، لا حائل، ولا مانع، فلا ينال إذ ذاك لقب عالم إلا المجتهد، وما كان القليد إلّا للعوام، ولهذا بقي من اصطلاح الفقهاء أن المقلد عامي ولو عاش في العلم مائة عام. ففي هذه العصر أصبح الفقه علمًا عظيمًا وكنزًا مهمًّا جسيمًا, فامتدت فروعه وتنوعت أبوابه وفصوله ونضج واستوى, وألفت فيه مصنفات عظام يفتخر بها الإسلام, جامعة بين الفرع وأصلها, وافية بالمقصود كله في مدة لا تبلغ قرنين، مع أن دولة الرومان التي هي أرقى دولة قبل الإسلام ما ضبطت شريعتها إلّا بعد ما مضى من أيامها ما ينيف عن ثلاثة عشر قرنًا. وهذا مما لم يتفق لغير الإسلام من الأمم ذوات الشأن وذلك لأمرين: متانة أصولة الشرعية وأحكامها لكونها بأمر إلهي، ونباهة العرب ونهضتهم التي بهرت العالم في كل باب طرقوه، ونشاطهم الذي لم يشبه ملل ولا كلل في الاعتناء بالعلوم وتدوينها، لا سيما الفقه الذي هو قانونهم الأساسي وزمام قضائهم، وصراط العدل الذي لا حياة لأمة دونه، مع شدة تمسكهم بالدين وتعظيمهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 للقرآن لأنه كلام رب العالمين. ولنبدأ بزمن الصحابة الذي هو نحو مائة سنة من لدن وفاته -صلى الله عليه وسلم, إلى آخر القرن الأول، نعم بوفاة معاوية انقرضت الخلافة من الصحابة -رضي الله عنهم, وأصبحت في التابعين، أما ابن الزبير الذي تولّى بعده في مكة والعراق ومصر فإنه لم تتمّ له الخلافة مع قصر مدته, وكونه من صغار الصحابة المتقاربين في الرواية مع كبار التابعين؛ إذ جلّ مروياتهم عن الصحابة الكبار. واعلم أن عصر الصحابة عصران: عصر الخلفاء، وهو ثلاثون سنة من ولاية أبي بكر إلى تنازل الحسن بن علي لمعاوية، والعصر الثاني عصر معاوية وبني أمية إلى آخر المائة الأولى. وقد روى البخاري وغيره عن ابن عمر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن على رأس مائة سنة لا يبقى على وجه الأرض ممن هو عليها أحد" 1، وهو عبارة عن انخرام القرن, وأن كل من كان حيًّا تلك الساعة لا يزيد على مائة سنة منها وكذلك وقع، فإن آخر الصحابة موتًا أبو الطفيل عامر بن واثلة الكناني, ولد عام أحد, وأثبت مسلم وابن عدي2 صحبته، وهوآخر من مات من جميع الصحابة على الإطلاق، توفي سنة مائة وقيل عشر ومائة، ولذا اعتبرنا آخر القرن الأول آخر عصر الصحابة تقريبًا، وعن عبد الله بن مسعود مرفوعًا: "تدور روحى الإسلام لخمس وثلاثين أو لست وثلاثين أو لسبع وثلاثين, فإن يهلكوا فسبيل من هلك, وإن يقم لهم دينهم يقم لهم سبعين عامًا" قلت: أمما بقي أو مما مضى؟ قال: "مما مضى" رواه أبو دواد3.   1 متفق عليه: البخاري في العلم "1/ 39"، ومسلم في فضائل الصحابة "7/ 186". 2 عبد الله بن عدي الجرجاني أبو أحمد صاحب الكامل. 3 أبو داود في الفترة "4/ 98". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 تاريخ إجمالي لعصر الخلفاء من الصحابة : بعد وفاته -صلى الله عليه وسلم- بويع أبو بكر الصديق بإجماع الصحابة إلّا من شذَّ، فقام بالأمر أكمل قيام، وكان بعض العرب ارتدَّ وبعضهم منع الزكاة, فأجبر الكل على الرجوع إلى الجادة بقوة إيمان المؤمنين، وثباته وحكمته، وجمع الكلمة وأزال كل خلاف داخلي، ثم شرع في فتوح الشام والعراق، وجمع القرآن في المصحف بإشارة من عمر، وذاك أهم أصول الفقه، توفي بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- بسنتين وثلثة أشهر وثمانية أيام. وعهد بالخلافة لعمر: فوقع إجماعهم عليه أيضًا، وتبع خطته في الفتح والعدل والشورى، توفي بعد عشر سنين وستة أشهر ونصف من ولايته شهيدًا, بعدما أوصل الإسلام من نهر مرو في الشرق إلى طرابلس الغرب في أفريقيا، وتقدَّم لنا في ترجمته تنظيماته لدولة الإسلام، ويأتي في اجتهاده شيء آخر. وتولى بعده بإجماع من الصحابة عثمان بن عفان الأموي. فزادت الفتوح شرقًا وغربًا, شمالًا وجنوبًا، وبقي في الخلافة اثنتي عشرة سنة غير عشرة أيام. وهو الذي عدَّد نسخ القرآن في المصاحف وفرَّقه على عواصم الإسلام كما يأتي، ووقعت حركة ثورية، في شطر أيامه الأخير بسبب جعله الولايات في بني أمية, وظهور بعض الظلم من بعضهم بغير شعور منه لكبر سنه, فتألَّب بنو هاشم ضدهم، كما تألّبت جماعات شريرة سرية من الفرس واليهود حسدوا الإسلام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 الذي أخرج أمرهم من يدهم واستولى على ملكهم، وكان رئيسهم عبد الله بن سبأ اليهودي، فاجتمعوا من العراق ومصر بالمدينة, وحاصروه بداره إلى أن قتلوه ظلمًا -رحمه الله. وتولَّى بعده علي بن أبي طالب ابن عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم, وزوج فاطمة ابنته -عليها السلام. واختلفت عليه الصحابة فثار عليه أولًا الزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله, وعائشة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم، والتفّوا حولها في البصرة مطالبين بدم عثمان؛ حيث أن قتلته انضمّوا لعلي في جملة من بايعه، فتوجّه علي إلى الكوفة، وجرَّد سيف فأخضعهم وسكَّن فتنتهم، ورجعت عائشة للمدينة، واستشهد طلحة والزبير -رحمهما الله، وكان للكل في ذلك رأي يعذر به، والمجتهد إذا أخطأ كان له أجر واحد. كما ثار معاوية في الشام مطالبًا بدم عثمان أيضًا, ومعه عمرو بن العاص وكثير من الصحابة، فوقعت وقائع صفين في حدود الشام والعراق، وانجلت عن فوز معاوية وتضعضع علي وحزبه. وثار عليه الخوارج من حزبه فوقع الانشقاق عليه من أهل جبيشه وشيعته بسبب التحيكم الذي كان معاوية طلبه، وساعده علي بطلب من حزبه، وقبوله التحكيم مع كونه الإمام الشرعي, فشلٌ في السياسة وقبولٌ للخلع حقيقة كما لا يخفى، لذلك لما اجتمع الحكمان في دومة الجندل وهما أبو موسى الأشعري من جهة علي، وعمرو بن العاص من جهة معاوية, أعلن أبو موسى حكمه بعزل علي ومعاوية معًا وتولية عبد الله بن عمر بن الخطاب طبق ما أعلم به هو عمرو بن العاص في السر, لكن عمرو سكت ولم يصرّح له بقبول ولا ردّ, وإن راجعه أولًا وطلب منه تولية ولده عبد الله، فلم يقبل أبو موسى متعللًا بأنه اشترك معه في حرب صفين، غير أنه لما نطق عمرو بن العاص بحكمه أعلم بعزل علي, ولكن أقر معاوية، وحصل تشاجر بين الحكمين، ثم ذهب عمرو للشام وبايع معاوية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 وبايعه الناس, ولم يزل أمره في ازدياد وعصبيته في قوة، وتفرّق أصحاب عليٍّ ثلاث فرق: فرقة ضده وضد معاوية وهم الخوارج, ينقمون على عليٍّ التحكيم, وعلى عثمان أثرته لأهل بيته بالولايات حتى تسبَّب عن ذلك صيرورة الخلافة إلى ملك وعصبية، وعلى معاوية ما كان له العصبية, ويرون أن الخلافة تكون شوريّة النظر فيها لعقلاء الأمة, لا تتعين في بيت ولا شخص, ولا يعترفون بالسلطة الشخصية، وهؤلاء يردون الأحاديث الورادة من طريق عثمان وعلي ومعاوية ومَنْ كان مِنْ حزبهم، كما يردون أقوالهم في الفقه ولا يعملون إلا بقليل من السنة، ولهم أقوال فقهية ومسائل على مقتضى مبدئهم؛ يجوزن الخروج عن الأئمة لمجرد الفسق, بل يكفرون بالمعاصي. وفرقة شيعة علي المتغالون فيه وفي أهل بيته, حتى وإن منهم من وصفه بالنبوءة، ومنهم من قال بألوهيته, وهؤلاء لا يقبلون إلّا ما ورد عن علي وآل بيته من أحاديث وفقه ويردون سواها، ولهم فقه مخصوص بهم, ووضعوا أحاديث كثيرة تؤيد مذهبهم، وهؤلاء أكثر كذبًا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من غيرهم، وأكثرهم كفار روافض. الفرقة الثالثة: هم الجمهور الذين كانوا مع علي ومعاوية ثم معاوية بعده, وهم الذين تمسّكوا بالسنن الصحيحة، وفضحوا كذب الكذابين, ومحَّصوا الحق وذبُّوا عن الشريعة حتى أبقوها سالمة لم تؤثر عليها خيالات الضالين ولا انتحال المبطلين. وبقي أمر معاوية يشتد إلى أن قُتِلَ علي في الكوفة غدرًا بعد أربع سنين وتسعة أشهر وعشرة أيام. وبويع لولده الحسن سبط الرسول. ثم تنازل بعد ستة أشهر، واجتمعت الكلمة لمعاوية، وبايعه الكافّة في ريبع الأول سنة إحدى وأربعين, هذا زمن الخلافة التي هي أشبه بجمهورية مؤقتة بوفاة الرئيس الذي قال فيه -عليه السلام- فيما رواه أحمد، والترمذي، وأبو داود، والنسائي، وابن حبان، وغيرهم, عن سفينة مولى النبي -صلى الله عليه وسلم- مرفوعًا: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 "الخلافة ثلاثون سنة ثم ترجع ملكًا" , ثم يقول سفينة: أمسك خلافة أبي بكر سنتين، وخلافة عمر عشرة، وعثمان اثنتي عشرة سنة، وعلي ستة1. وروى الدرامي عن أبي عبيدة ومعاذ مرفوعًا: "إن هذا بُدِئ نبوة ورحمة, ثم يكون خلافة ورحمة, ثم ملكًا عاضًّا, ثم يكون جبرية وعتوًّا وفسادًا في الأرض" الحديث2. وروى أحمد والبيهقي عن النعمان بن بشير مرفوعًا: "تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها الله تعالى, ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها الله, ثم تكون ملكًا عاضًّا فيكون ما شاء الله أن كون ثم يرفعها الله تعالى، ثم تكون جبرية فيكون ما شاء الله أن يكون ثم يرفعها الله تعالى, ثم تكون خلافة على منهاج النبوة" ثم سكت النبي -صلى الله عليه وسلم. الحديث انظر المشكاة وشرحها3. وقد بقى معاوية ملكًا تعضدة عصبية بني عبد شمس إلى وفاته سنة ستين, مدة عشرين سنة، فهذا زمن خلافة الصحابة, أما زمن وجودهم فيعتبر ممتدًا إلى آخر المائة الأولى, ويأتي إجمال تاريخ بقيته.   1 الترمذي في الفترة "4/ 503"، وقال: حديث حسن، وأبو داود في السنة "4/ 211"، وأحمد في مسنده "2205"، ولم أجده في النسائي. 2 وراه الدرامي في الأشربة من سننه "2/ 39"، عن أبي عبيدة بن الجراح، وروي عن معاذ وابن عباس. انظر مجمع الزوائد "5/ 189". 3 أحمد "4/ 273"، ورواه البزار والطبراني، قال الهيثمي: رجاله ثقات "5/ 189". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 الفقه زمن الخلفاء الراشدين : الخلفاء كان أمرهم شورى بينهم كما أمر الله في القرآن, وكان نظامهم دستوريًّا، ودستورهم الأساسي هو الفقه، فكان الفقه مدار سياستهم وروح حياتهم وبه تدبير ملكهم، وبصيانة الحقوق والوقوف عند حد الشريعة كانت حركة الإسلام سريعة حتى عمَّ لمشارق والمغارب كما سبق. فكان الفقه زمن الخلافة أعظم مكانة مما هو عليه الحقوق عند الأمم المتمدنة الآن، كان الفقهاء هم أصحاب الشورى، وبيدهم التدبير وزمام كل أمر، ولا يصدر أمر قليل أو جليل إلّا بوفق الشريعة وعلى مقتضى الحق الذي لا مرية فيه، وللأمة منتهى ما يتصور من السيطرة والرقابة على متابعة الخلفاء لنصوص الشريعة وإشارة الفقهاء، وتحري اتباع الحق والواضح، والمحجبة البيضاء، ولم يثبت في تاريخ عربي ولا أجنبي انتفاد منتقد لهم بظلم أو سوء تصرف، بل اعترف الكل بأن عدلهم وحسن سلوكهم وصراحة طريقتهم هي التي أقادت لهم نواصي الأمم حتى ثُلَّت عروش ملوكها وخُرِّبَت دور دولها، لتبنى بها عظمة الإسلام، المتعشقين لعدله ونزاهة حكامه وخلفائه وعفتهم ورفقهم وتمشيهم خلف أوامر شرعهم لا يعدونه، وكانت نصوص الشريعة غضَّة طرية لم يدخلها كثرة التأويلات وتمحلات الفهوم المتكلفة. كما أن حالة الإسلام الاجتماعية زمن الخلفاء لم يدخلها رفه كبير ولا ميل إلى الشمم والبذخ والملاذ والسفاسف التي ينشأ عنها تشغيب الأحكام وكثرة النوازل التي هي منشوء التأويلات، ولا سيما في زمن الخلفاء الأربعة، وبالخصوص زمن الاثنين الأولين, فإن عمر لما استقضاه أبو بكر مكث سنة لم يحضره خصمان متداعيان. ولما وفد ذو الكلاع أحد ملوك اليمن على أبي بكر بثياب فخرة وتاج وبرود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 وحلي وألف وصيف، ورأى زي أبي بكر ورثاثة ثيابه مع الهيبة التي آتاه الله، نبذ ذلك كله وتشبه بالخليفة، وقضية الهرمزان لما أوفدوه أسيرًا على عمر، فوجده نائمًا في المسجد دون حارس ولا شرطي, وقال له: عدلت فأمنت فنمت. معلومة، ولهذا لم يتغيّر الفقه عن سذاجته كثيرًا إلّا بعد ذلك1. كان أبو بكر إذا نزلت به نازلة ولم يجدها في صريح كتاب الله أو سنة رسول الله جمع الفقهاء واستشارهم، روى أبو عبيد2، في كتاب "القضاء" عن ميمون بن مهران قال: كان أبو بكر إذا ورد عليه الخصم نظر في كتاب الله, فإن وجد فيه شيئًا قضى بها وإلا, فإن علم شيئًا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قضى به, فإن أعياه خرج فسأل المسلمين هل علمتم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قضى في ذلك بقضاء؟ فربما اجتمع إليه النفر كلهم يذكرون عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيه قضاء، فيقول أبو بكر: الحمد لله الذي جعل فينا من يحفظ علم نبينا. فإن أعياه جمع رءوس الناس وخيارهم واستشارهم, فإذا اجتمع رأيهم على أمر قضى به، وكان عمر يفعل ذلك, فإذا أعياه أن يجد ذلك في الكتاب والسنة يسأل: هل كان أبو بكر قضى فيه بقضاء، فإن كان لأبي بكر قضاء قضى به وإلا جمع علماء الناس واستشارهم, فإذا اجتمع رأيهم على شيء قضى به. وعن شريح3 أن عمر كتب إليه: إن جاءك شيء في كتاب الله فاقض به، ولا يلفتك عنه الرجال, فإن جاء ما ليس كتاب الله ولا سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم, ولم يتكلم فيه أحد قبلك, فاختر أي الأمرين شئت, إن شئت أن تجتهد برأيك فتقدم, وإن شئت أن تتأخر, ولا أرى التأخير إلّا خيرًا لك4. وعن عبد لله بن مسعود قال: أتى علينا زمان لسنا نقضي ولسنا هنالك, وإن الله قد قدَّر من الأمر أن قد بلغنا ما ترون, فمن عرض له قضاء فليقض فيه بما في كتاب الله -عز وجل, فإن جاءه ما ليس في كتاب الله فليقض فيه بما قضى به رسول الله -صلى الله عليه وسلم, فإن جاء ما ليس في كتابه الله ولم يقض فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم, فليقض بما قضى به الصالحون, ولا يقل لي إني خائف وإني أرى, فإن الحرام بيِّنٌ والحلال بيِّنٌ, وبين ذلك أمور متشبهة, فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك5. خرج هذه الآثار الدرامي. وانظر تاريخ الخلفاء تجده مملوءًا بالقضايا الدالة على ما سبق.   1 الساذج معرب: ساده, وهو يقصد بعده عن التكلف، لكن اللفظة غير لائقة. 2 القاسم بن سلام الهروي. 3 ابن الحارث أبو أمية القاضي الكوفي في المشهور. 4 الدرامي "1/ 55". 5 الدارمي: "1/ 54". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 تحليق الناس لدرس العلم في المسجد : إن إلقاء المسائل بحيث يكون واحد يلقي والناس يسمعون على هيئة الدرس قد بدأ في عصر الصحابة، فقد حلّق أبو هريرة وعبد الله بن عباس وغيرهما، كما قال ابن ناجي في ترجمة أبي محمد بن التبان من "معالم الإيمان" رادًّا على ما زعمه ابن التبان المذكور من كون ذلك بدعة بالإجماع، قال: ولا أعرفه "يعني الإجماع" لغيره. قلت: وأول من قصَّ على الناس تميم الداري في خلافة عمر كما في الإصابة، على أن اجتماع الصحابة على نبي الله في المسجد النبوي كان للفقه والدين، وقد قالت عائشة -رضي الله عنها، إنه عليه الصلاة والسلام لم يكن يسرد الحديث كسردكم هذا، ولكن كان يقول كلامًا فاصلًا, وكان يعيد الكلمة ثلاثًا لتفهم عنه، هذا هو المعروف من سيرته -عليه السلام- في الصحاح وغيرها، نعم المبتدع هو حفظ الدرس والتكلف فيه والتصنع والاحتفال في إلقائه لما فيه من رياء وسمعة وشهوة خفية، وعليه يحمل ما حكاه ابن التبان من الإجماع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 أمثلة من اجتهاد الخلفاء رضي الله عنهم اجتهاد أبي بكر ... أمثلة من اجتهاد الخلفاء -رضي الله عنهم: اجتهاج أبي بكر: ولما توفي النبي -صلى الله عليه وسلم- قام عمر واستلَّ سيفه وقال: مَنْ قال إن محمدًا قد مات ضربت عنقه, فجاء أبو بكر وخطب قائلًا: من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، واستدلّ بالقرآن: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} فزال الخلاف1. تحيروا فيمن يتولّى أمر المسلمين بعده، حيث لم يوص لأحد بعينه نصًّا، فذهبوا لسقيفة بن ساعدة، فقال الأنصار: منا أمير ومن قريش أمير، فخطب أبو بكر وقال: إنا لا ننكر فضلكم ونصرتكم, ولكن الله قدمنا عليكم، فقال: للمهاجرين والأنصار، وقام عمر وأبو عبيدة واستدلَا على أحقية أبي بكر بالخلافة كتابًا وسنة بما هو معلوم, وبالقياس أيضًا، قالَا: رضيه لديننا أفلا نرضاه لدنيانا، قاسا إمامة الدنيا على إمامة الدين، وبايعاه فبايعه الناس وزال الخلاف2. قالوا: أين ندفن رسول الله, فقال أبو بكر في المحل الذي قُبِضَ فيه، واستدلّ على ذلك بالسنة, فأذعنوا وزال الخلاف3.   1 البخاري في فضائل الصديق "5/ 8". 2 نفس المصدر. 3 الترمذي في الجنائز "3/ 329"، عن عائشة, وفي سنده عبد الرحمن بن أبي بكر الميكي، قال الترمذي: يضعف من قبل حفظه، وقال: وقد روي هذا الحديث من غير هذا الوجه, فرواه ابن عباس عن أبي بكر الصديق عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أيضًا. قلت: رواه ابن ماجه في الجنائز "1/ 520"، وفي سنده الحسين بن عبد الله الهاشمي، ضعَّفه ابن معين، وأبو حاتم وقال النسائي: متروك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 قالوا: كيف نصلي عليه، قال: تدخل كل طائفة وتصلي وتخرج, فأذعنوا وزال الخلاف1. طلبت مولاتنا فاطمة ميراثها من أبيها، والعباس ميراث ما بقي، فروى أبو بكر وغيره حديث: "نحن معاشر الأنبياء لا نورث, ما تركنا صدقة" وحكم بأنه مخصَّص لآية الميراث فزال الخلاف2. منع فريق من العرب الزكاة فأراد أبو بكر قتالهم، وخالفه عمر، فاستدلّ أبو بكر بقياسهم على من امتنع من الصلاة, فزال الخلاف وقاتلهم وجمع الكلمة3. قال عمر: نجمع القرآن فخالفه أبو بكر، وقال: شيء لم يفعله النبي -صلى الله عليه وسلم, ثم رجع لقول عمر لما فيه من المصلحة, ولأن النبي -صلى الله عليه ومسلم- كان يكتب كتابه كل ما ينزل, فغاية ما في جمعه حفظه, فأذعن وزال الخلاف4. نزلت بأبي بكر نازلة الجدة التي جاءت تسأل ميراثها, فقال لها: لا أجد لك في كتاب الله شيئًا، ولكن سأسأل الناس, فخرج وسأل الصحابة: أيكم سمع من رسول الله شيئًا في الجدة؟ فقال المغيرة بن شعبة: نعم, أعطاها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- السدس، فقال له: أيعلم ذلك غيرك؟ فقال محمد بن مسلمة: صدق, فأعطاها السدس5. ومن اجتهاده السديد لما حضرته الوفاة أوصى بالخلافة لعمر, وذلك أنه رأى أنه صاحب الحل والعقد, فله أن يولي من ظهرت له أهليته, ذلك على توليته أهل الحل والعقد له نفسه، أو قاسه على رعاية الماشية وحفظ الأمانة، فقد روى   1 ابن ماجه في الجنائز "1/ 520"، وفي سند الحسين بن عبد الله المذكور آنفًا. 2 متفق عليه: البخاري في الخمس "4/ 96"، وفي الفرائض "8/ 185"، ومسلم في الجهاد "5/ 155" وفي الحديث أن فاطمة -رضي الله عنها- هجرت أبا بكر -رضي الله عنه- حتى ماتت بسبب هذه المسألة، فقول المؤلف أن الخلاف زال، غير محقق. 3 متفق عليه: البخاري في الزكاة "2/ 131"، ومسلم في الإيمان "1/ 38". 4 البخاري في فضائل القرآن "6/ 225". 5 الترمذي "4/ 419"، وأبو داود "3/ 121"، وابن ماجه "2/ 909". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 مسلم عن عبد الله بن عمر أنه دخل على أبيه حين احتضر فقال: زعموا أنك غير مستخلف، وأنه لو كان لك راعي إبل أو غنم ثم جاءك وتركها, أرأيت قد ضيّع, فرعاية الناس أشد، قال: فوافقه قولي, فوضع رأسه ساعة ثم رفعه إلي، فقال: إن الله -عز وجل- يحفظ دينه, وإني لئن لا أستخلف, فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يستخلف، وإن أستخلف فإن أبا بكر قد استخلف، قال: فوالله هو إلا أن ذكر رسول الله وأبا بكر عملت أنه لم يكن ليعدل برسول الله -صى الله عليه وسلم- أحدًا, وأنه غير مستخلف1. فابن عمر كأبي بكر قاس رعاية الناس على رعاية الغنم والإبل، لكن عمر فرّق ببيهما بما رأيت، ورأى أن النبي -عليه السلام- لما لم يستخلف, ففي الأمر سعة، فقدَّم السنة على القياس. ولا يقال: إن هذا ليس بقول ولا فعل ولا تقرير حتى يقال فيه سنة, لأنا نقول: إن بعض الأصوليين يقول: إن الترك هو من قبيل الفعل، على أنه إنما استدلَّ بالترك على جواز الترك, وأن ما دلَّ عليه القياس من الوجوب غير لازم, وأن فعل أبي بكر إنما كان اختيارًا لأحد شقي الجائز لمصلحة رآها والله أعلم.   1 مسلم في الإمارة "6/ 5". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 اجتهاد عمر مدخل ... اجتهاد عمر: وكان عمر كأبي بكر يجمع علماء الصحابة الماهرين في النوازل ويستشيرهم ويأخذ بمرويهم, فإن لم يجد فبرأي أغلبهم؛ لأن ديننا منبيٌّ على الشورى، قال تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} 1، {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} 2 ففي البخاري أن القراء كانوا أصحاب مجالس عمر ومشارواته, كهولًا كانوا أو شبابًا، وأن الحر بن قيس كان منهم3. وفي مسلم أن نافع بن الحارث, يعني: الخزاعي, لقي عمر بعسفان, وكان عمر   1 آل عمران: 159. 2 الشورى: 38. 3 البخاري في تفسير الأعراف: "6/ 76". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 يستعمله على مكة فقال: من استعملت على أهل الوادي؟ قال: ابن أبزى. قال: ومن ابن أبزى؟ قال: مولى من موالينا, قال: فاستخلفت عليهم مولى؟ قال: إنه قارئ لكتاب الله -عز وجل, وإنه عالم بالفرائض. قال عمر: أما إن نبيكم -صلى الله عليه وسلم- قد قال: "إن الله يرفع بهذا الكتاب اقوامًا ويضع به آخرين" 1. ولا تظن أن القرّاء كقراء زماننا يحفظون وقلما يفهمون، فكيف يجتهدون، بل كانوا أهل اللسان، ومعرفة باللغة غريزية, فيفهمون من مغامز القرآن ما لا يفهمه أمهر علماء الوقت. فمن آراء عمر في صلاة تروايح رمضان, وليس له فيها إلّا جمع الناس عليها في المسجد بإمام واحد، وإلّا فالنبي -صلى الله عليه وسلم- حضَّ على قيام رمضان بقوله: "من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدَّم من ذنبه" 2، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقومه في المسجد, فلما رآهم اجتمعوا عليه خاف أن يفرض عليهم, فلم يعد للخروج إليهم، ولما أمن ذلك بموته -عليه السلام- ندبهم عمر إلى الاجتماع، فليست بدعة شرعية بل لغوية فقط3. ومن مجتهداته مسائل ميراث الجد، والعول، وضرب الجزية على أهل السواد بأرض الفرس، وتنظيم بيت المال للمسلمين، وتدوين الدواوين، وجعل التاريخ من الهجرة، ومثل هذين أخذهما عن الروم والفرس، لما كان له من الفكر الواسع فلم يكن يأنف من أخذ ما فيه مصلحة عن غيره من الأمم, ولو كانت كافرة، وجعل الأرزاق للجند على اختلاف4 مراتبهم في السابقية, وجليل   1 مسلم في فضائل القرآن "2/ 201". 2 متفق عليه: البخاري في الإيمان "1/ 17"، ومسلم في صلاة المسافرين "2/ 176". 3 فعل عمر في صلاة التروايح, أخرجه البخاري في الصوم, باب فضل من قام رمضان "3/ 85", ومالك في الموطأ في كتاب الصلاة في رمضان. 4 قال المؤلف -رحمه الله: مخالفًا في ذلك ما رآه أبو بكر من التسوية فيه محتجًّا بأنه لا يجعل العطاء ثمنًا لأعمالهم التي عملوها لله، وقال عمر: والله الذي لا إله إلا هو, ما أجد أحدًا إلّا وله في هذا المال حق أعطيه أو منعه, وما أجد أحق به من أحد إلّّّّّا عبد مملوك, وما أنا إلّا كأحدكم, ولكنا على منازلنا من كتاب الله -عز وجل، وقسمنا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم, فالرجل وتلاده في الإسلام, والرجل وغناءوه في الإسلام، والرجل وحاجته في الإسلام، فرتَّب العطاء لأزواج النبي -صلى الله عليه وسلم, لكل واحدة اثنا عشر ألف درهم في السنة، ومثلها العباس، ثم = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 الأعمال، إلى غير هذا, كل ذلك كان يستشير فيه أعلام الصحابة ويطبقه على نصوص القرآن والسنة والاستنباط, فما اتفق عليه جمهورهم أمضاه, وصار فقهًا مسلمًا, فيحفظه من حضر ويبلغه لمن غاب. أمثله ذلك: روى أبو بكر بن أبي شيبة1 عن رفاعة بن رافع قال: بينما أنا عند عمر إذ دخل عليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين, هذا زيد بن ثابت يفتي الناس في المسجد برأيه في الغسل من الجنابة، فقال عمر: عليَّ به. فجاء زيد فلما رآه عمر قال: أي عدو نفسه، قد بلغت أن تفتي الناس برأيك, فقال: يا أمير المؤمنين, والله ما فعلت, ولكن سمعت من أعمامي حديثًا فحدَّثت به من أبي أيوب، ومن أُبَيّ بن كعب، ومن رفاعة بن رافع، فقال عمر: عليَّ برفاعة بن رافع، فقال: قد كنتم تفعلون ذلك إذا أصاب أحدكم المرأة فأكسل أن يغتسل؟ قال: قد كنا نفعل ذلك على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم, لم يأتنا فيه عن الله تحريم، ولم يكن فيه عن رسول الله شيء، فقال عمر: ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعلم ذلك؟ قال: ما أدري. فأمر عمر بجمع المهاجرين والأنصار فجمعوا وشاروهم فأشار الناس أن لا غسل إلّا ما كان من معاذ وعلي، فإنهما قال: إذا جاوز الختان الختان وجب الغسل، فقال عمر: هذا وأنتم من أصحاب بدر قد اختلفتم, فمن بعدكم أشد اختلافًا، فقال عليّ: يا أمير المؤمنين, إنه ليس أحد أعلم بهذا من شان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أزواجه, فأرسل إلى حفصة فقالت: لا علم لي، فأرسل إلى عائشة فقالت: إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل. فقال: لا أسمع برجل فعل ذلك إلّا أوجعته ضربًا. صح من الجزء الأول عدد 24 أعلام الموقعين2.   =لمن شهد بدرًا خمسة آلاف, وألحق بهم الحسن والحسين، وأربعة آلاف لمن لم يشهدها، وكان أسلم إذا ذاك، وألحق بهم أسامة بن زيد حب رسول الله، وابن حبه، وثلاثة آلاف لأبناء المهاجرين والأنصار كعمر بن أبي سلمة، وابن عمر وطبقتهما، ألفين لمن دونهم, وثمامائة لأهل مكة, وأربعمائة إلى ثلاثمائة لسائر الناس، ولنساء المهاجرين والأنصار من ستمائة إلى مائتين، وفرض لأمراء الجيش وحكام القرى من سبعة آلاف إلى تسعة آلاف، وفرض للصبيان من عشرة إلى مائتين على اختلاف أسنانهم، وأبلغ رزق معاوية إلى ألف دينار في السنة أكثر من رزق الخليفة نفسه، لما رأى من المصلحة في ذلك. 1 أخرجه أحمد في مسنده "5/ 115"، والطحاوي في معاني الآثار "1/ 35"، وانظر تعليق الشيخ أحمد شاكر في سنن الترمذي "1/ 187". 2 "1/ 56" ط. الكليات الأزهرية 1388 هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 أعمال عمر في تنظيم المالية : كان عمر لما فتحت العراق وغيرها, رأى أن لا يقسِّم الأرض بين الفاتحين غنيمة, بل يجعلها وقفًا قائلًا لهم: كيف بمن يأتي من المسلمين يجد الأرض قد قسِّمت وورثت عن الآباء ما هذا برأي. يعني: والله تعالى يقول في بيان من يأخذ الفيء: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ، وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} الآية2. ولا يتصور بقاء شيء لمن يأتي بعدهم إذا قسمت الأرض على الغانمين, فأكثروا عليه وقالوا: تقف ما أفاء الله علينا بأسيافنا على قوم لم يحضروا ولم يشهدوا, ولأبناء قوم ولأبناء أبنائهم لم يحضروا. وقال عبد الرحمن بن عوف: ما الأرض والعلوج الذين بها إلّا ما أفاء الله على المسلمين، يعني: فهي داخلة في مفهوم قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} الآية3. فقال عمر: ما هو إلا كما تقول ولست أرى ذلك. فقالوا: استشر، فاستشار المهاجرين الأولين فاختلفوا، فقال ابن عوف: تُقسم كما سبق، وقال عثمان، وعلي وطلحة وابن عمر: توقف. فأرسل إلى عشرة   1 الحشر:" 8. 2 الأنفال: 41. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 من الأنصار، خمسة أوس وخمسة خزرج، من كبرئهم وأشرافهم، وقال لهم: إني لم أزعجكم إلا لأن تشتركوا في أمانتي فيما حملت من أموركم, فإني واحد كأحدكم, وأنتم اليوم تقرون بالحق, خالفني من خالفني, ووافقني من وافقني, ولست أريد أن تتبعوا هذا الذي هواي معكم من كتاب الله ينطق بالحق, فوالله إن كنت نطقت بأمر أريده, ما أريد به إلا الحق. قالوا: قل نسمع يا أمير المؤمنين، قال: قد سمعتم كلام هؤلاء القوم الذين زعموا أني أظلمهم حقوقهم, وإني أعوذ بالله أن أركب ظلمًا, لئن كنت ظلمتهم شيئًا هو لهم وأعطيته غيرهم لقد شقيت، ولكن رأيت أنه لم يبق شيء يفتح بعد أرض كسرى، وقد غنمنا الله أموالهم وأرضهم وعلوجهم, فقتسمت ما غنموا من أموال بين أهله, وأخرجت الخمس فوجهته على وجهه, وقد رأيت أن أحبس الأرضين بعلوجها, وأضع عليهم الخراج, وفي رقابهم الجزية يؤدونها فتكون فيئًا للمسلمين المقاتلة والذرية ولمن يأتي من بعدهم, أرأيتم هذه الثغور لا بُدَّ لها من رجال يلزمونها, أرأيتم هذه المدن العظام كالشام والجزيرة والكوفة والبصرة ومصر لا بُدَّ لها أن لا تشحن بالجيوش وإدرار العطاء عليهم, فمن أين يعطى هؤلاء إذا قسمت الأرضين والعلوج. فقالوا جميعًا: الرأي رأيك, فنعم ما قلت وما رأيت, إن لم تشحن هذه الثغور وهذه المدن بالرجال وتجري عليهم ما يتقوون به رجع أهل الكفر إلى مدنهم. فقال: قد بان لي الأمر، وقرّر إبقاء الأرض بأيدي أهلها وضرب الخراج عليهم. وهذا من سداد الرأي, وقد سكت المخالفون اتباعًا للرأي الغالب, وعند ذلك نفَّذ رأيه, فوجَّه مندوبين من قبله مسحا أرض السواد فبلغت "36000000" ستة وثلاثين مليونًا جريبًا، وظَّف عليها الخراج مقادير معينة من الدراهم والأطعمة حسبما رآه المندوبان، من درهمين إلى عشرة دراهم على الجريب، فجريب الشعير درهمان، وجريب الكرم والنخل عشرة دراهم، وفي رواية ثمانية فقط، وجريب الحنطة أربعة دراهم أو درهم وقفيز، وجريب الخضر ثلاثة، وجريب الرطبة والسمسم والقطن خمسة دراهم، وجريب القصب يعني قصب السكر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 ستة دراهم، وقد بلغت جباية السواد قبل وفاة عمر بعام مائة مليون درهمًا، وهذا من رأيه الصائب، انظر كتاب الخراج لأبي يوسف، والجريب ستون ذراعًا بذراع الملك في مثلها. قال الماوردي في الأحكام السلطانية: إن ذراع الملك يزيد على الذراع السوداء بخمس أصابع وثلثي إصبع, فتكون ذراعًا وثمنًا وعشرًا، وعليه فيكون الجريب نحو: اثني عشر مائة مترًا مربعًا، وبهذا تعلم أن ما كان يؤدى على الأرضين غير مجحف ولا مضرٍّ بأهلها1. ومن اجتهاد عمر أنه كتب إليه أبو موسى الأشعري أن تجارًا من قِبَلِنا من المسلمين يأتون أرض الحرب فيأخذون منهم العشر, فكتب إليه عمر: خذ أنت منهم كما يأخذون من تجار المسلمين, وخذ من أهل الذمة نصف العشر, ومن المسلمين من كل أربعين درهمًا درهمًا, وليس فيما دون المائتين شيء، فإذا كانت مائتين ففيها خمسة دراهم، وما زاد فبحسابه، وروي أن منبج قوم من أهل الحرب وراء البحر كتبوا إلى عمر: دعنا ندخل أرضك تجارًا وتعشرنا. فشاور عمر الصحابة في ذلك، فأشاروا عليه به, فكانوا أوّل من عُشِّر من أهل الحرب، وبعث زياد بن جدير الأسدي على عشور العراق والشام, فصار ذلك سنَّة في المرور بأموال التجارة خاصة, وما يرد منها من الحرب وأهل الذمة سبيله سبيل الخراج، أما ما يرد من المسلمين فسبيله سبيل الصدقات، ولذلك إذا قال المسلم: قد أديت زكاة هذا المال الذي في يدي، صُدِّق بيمينه2. هذا ما أحثه عمر في نظام المالية عن احتهاد موفق.   1 راجع في هذا الموضع، الخراج لأبي يوسف، الأموال لأبي عبيد، الخراج للدكتور محمد ضياء الدين الريس، منهج عمر بن الخطاب في التشريع للدكتور محمد بلتاجي. 2 الخراج لابي يوسف "69"، والأموال لأبي عبيد "534". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 عمله في القضاء : كان عمر من أنفذ الصحابة بصيرة في الفقه والاجتهاد في القضاء, موفقًا مسددًا, أو هو أمهر مجتهدي الأمة وأكثرهم توفيقًا وتسديدًا, ومن فقهه العظيم كتابه إلى أبي موسى الأشعري وهو قاضٍ من قِبَلِه في البصرة ونصه: "أما بعد, فإن القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة، فافهم إذا أدلي إليك, فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاد له، آس بين1، 2 الناس في وجهك وعدلك ومجلسك3، 4, حتى لا يطمع شريف في حيفك, ولا ييأس ضعيف من عدلك، البينة على من ادَّعى5، 6، واليمن على من أمكر. والصلح جائز بين المسلمين إلّا صلحًا أحلَّ حرامًا أو حرَّم حلالًا7، 8، ولا يمنعك قضاء قضيت9، 10 بالأمس فراجعت فيه عقلك وهُدِيت لرشدك أن ترجع إلى الحق, فإن الحق قديم, ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل11، 12. الفهم الفهم فيما تلجلج في صدرك مما ليس في كتاب ولا سنة، ثم أعرف الأشباه والأمثال، وقس الأمور عند ذلك, واعمد إلى أشبهها بالحق.   1، 2 قال المؤلف -رحمه الله: في إعلام الموقعين بإسقاط لفظ: بين. 3، 4 قال المؤلف -رحمه الله: في إعلام الموقعين: في مجلسك ووجهك وقضائك. 5، 6 قال المؤلف -رحمه الله: في إعلام الموقعين: على المدعي. 7، 8 قال المؤلف -رحمه الله: في إعلام الموقعين بعد قوله: حلالًا: ومن ادعى حقًّا. غائبًا أو بينة, فاضرب له أبلغ في العذر وأجلى للعلماء, ولا يمنعك.. إلخ. 9، 10 قال المؤلف -رحمه الله: لفظ الإعلام. قضيت فيه اليوم فراجعت فيه رأيك, فهديت فيه لرشدك أن تراجع فيه, فإن الحق قديم لا يبلطه شيء ومراجعة الحق ... إلخ. 11، 12 قال المؤلف -رحمه الله: لفظ الإعلام بعد قوله في الباطل: والمسلمون عدول بعضهم على بعض, إلا مجربًا عيله شهادة زور, أو مجلودًا في حد, أو ظنينًا في ولاء أو قربة, فإن الله تولى من العباد السرائر, وستر عليهم الحدود إلّا بالبينات والأيمان, ثم الفهم الفهم فيما أدلي إليك مما ورد عليك مما ليس في قرآن ولا سنة, ثم قايس الأمور عند ذلك, واعرف الأمثال, ثم اعمد فيما ترى إلى أحبها إلى الله وأشبهها بالحق, وإياك والغضب والقلق والضجر والتأذي بالناس والنكر عند الخصومة أو الخصوم "شك أبو عبيد يعني روايه" فإن القضاء في مواطن الحق مما يوجب الله به الأجر, ويحسن به الذكر, فمن خلصت نيته في الحق ولو على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس, ومن تزين بما ليس في نفسه شأنه الله, فإن الله تعالى لا يقبل من العباد إلّا ما كان خالصًا, فما ظنك بثواب عند الله في عاجل رزقه وخزائن رحمته, والسلام عليك ورحمة الله. قال أبو عبيد: فقلت لكثير: هل أسنده جعفر. قال: لا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 واجعل لمن ادَّعى حقًّا غائبًا أو بينة أمدًا ينتهي إليه, فإن أحضر بينته أخذت له بحقه، وإلّا استحللت عليه القضية, فإنه أنفى للشك وأجلى للعماء. المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلودًا في حدٍّ, أو مجربًا عليه شهادة زور, أو ظنينًا في ولاء أو نسب، فإن الله تولى منكم السرائر ودرأ بالأيمان والبينات. وإياك والقلق والضجر والتأذي بالخصوم والتنكر عند الخصومات, فإن الحق في مواطن الحق يعظم الله به الأجر, ويحسن به الذخر, فمن صحَّت نيته وأقبل على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومن تخلق للناس بما يعلم الله أنه ليس من نفسه شأنه الله، فما ظنك بثواب الله -عز وجل- في عاجل رزقه وخزائن رحمته, والسلام. بنقل القاضي الباقلاني في إعجاز القرآن1. وهذا الكتاب كافٍ في معرفة سعة مدارك عمر في الفقه والتشريع وأحكام الضوابط، وفيه التنصيص على أصول مهمة كقياس الشبه، وتقديم الكتاب على السنة، ثم هي على الرأي، ولذلك خصّ بالشرح, وشرحه في أعلام الموقعين بنحو ثلاثة أسفار فانظره تر ما استنبط منه من الأحكام والأسرار، ومنه استنبطت كيفية القضاء وأحكامه، قال في أعلام الموقعين: وهذا كتاب جليل تلقاه العلماء بالقبول وبنوا عليه أصول الحكم والشهادة, والحاكم والمفتي أحوج شيء إليه وإلى تأمله والتفقه عليه. وتقدَّم نصّ ما كتب به إلى قاضيه بالكوفة شريح، كما تقدَّم لنا زيادته في حد الخمر، مما يدل على أنه لم يكن يرى أن كل شيء تعبدي، ولا يستحسن الجمود في الأحكام, بل يتبع المصالح وينظر للمعاني التي هي مناط التشريع -رضي الله عنه، وقد أسلفنا في ترجمته تنظيمات وأعمالًا أخرى لهذا الخليفة العظيم، وبالجملة فعمر سيد أهل الفقه والاجتهاد والتقوى في هذه الأمة, ولم يلحقه في ذلك أحد. قال ابن خلكان في ترجمة الثوري: يقال كان عمر في زمانة رأس الناس, وبعده عبد الله بن عباس في زمانه, وبعده الشعبي, وبعده سفيان الثوري. ومع هذا   1 أخرجه الدراقطني من طريقين في سننه "4/ 206". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 كله فقد كان أكثر الناس إنصافًا لمن هو دونه, وأكثر المفتين والأمراء انقيادًا للحق علي أي لسان ظهر, لا يستنكف من إظهار الإنصاف واعتراف بالقصور, وهو في الحقيقة كمال وفضل، وانصياع للحق، فقد خفي عليه توريث الزوجة من دية زوجها, حتى كتب إليه الضحاك بن سفين الكلابي وهو أعرابي من أهل البادية, أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمره أن يورِّث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها1. وخفي عليه أن المجوس تكون لهم ذمة, وتؤخذ منهم الجزية, حتى أخبره عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أخذها من مجوس هجر2. وخفي عليه سقوط طواف الوداع عن الحائض, فكان يردّهن حتي يطهرن ثم يطفن, حتى بلغه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- خلاف ذلك فرجع3، وكان يفاضل بين الأصابع في الدية حتى بلغته السنة بالتسوية فرجع إليها4، وكان ينهى عن متعة الحج ثم رجع لما بلغه أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بها5. وأعجب من هذا أنه نهى عن التسمّي بأسماء الأنبياء, مع أن محمد بن مسلمة من أشهر الصحابة، وأبا أيوب وأبا موسى, حتى أخبره طلحة بن عبيد الله أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كناه أبا محمد فرجع6. ومثل ذلك ما وقع فيه في الوفاة النبوية في قوله: من قال إن محمدًا قد مات ضربت عنقه, ولما سمع من أبي بكر تلاوة قوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ} الآية قال: والله كأني ما سمعتها7.   1 أخرجه الترمذي وقال: حسن صحيح "4/ 426". 2 سبق تخريجه. 3 في فتح الباري "3/ 380" ما يفيد أنه -رضي الله عنه- لم يرجع عن رأيه في هذه المسألة، إنما الذي ثبت رجوعه ابنه عبد الله. 4 انظر نيل الأوطار "7/ 75". 5 ادّعاء المؤلف أن عمر -رضي الله عنه- رجع عن نهيه من متعة الحج غير محرر، انظر التعليق. 6 لم أجد هذا الأثر، لكن في مجمع الزوائد "8/ 48" عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أن محمد بن طلحة أخبره أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سمّاه محمدًا. "7 حديث عائشة في وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم, أخرجه في المغازي "6/ 17"، وليس فيه ذكر مقالة عمر هذه، وأخرجه ابن ماجه "1/ 520"، وأحمد "6/ 220", وفي روايتهما أنه -رضي الله عنه- قال: والله ما مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم, ولا يموت حتى يقطع أيدي أناس من المنافقين كثير وأرجلهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 ومنع من زيادة المهور على خمسمائة درهم صدقات أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- وبناته, حتى احتجّت عليه امرأة بقوله تعالى: {وَآَتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} الآية. قال: كل أحد أفقه منك يا عمر حتى النساء1, فهذا عمر الذي وافق ربه في بضعة عشر موضعًا, وهو سيد الفقهاء والمجتهدين, وهو من المحدثين الملهمين, وقع له مثل هذا ولا غضاضة عليه في ذلك. ومع إنصافه مَنْ دونه لا يعظم امرؤ أمامه في الحق, فإنه يواجهه به ولا يبالي، ففي الصحيح أن عثمان دخل يوم الجمعة وعمر يخطب فجلس، فقال له: أية ساعة هذه؟ فقال عثمان: ما هو إلّا أن سمعت النداء فتوضأت وأتيت، فقال له: والوضوء أيضًا, ألم تعلم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر بالغسل يوم الجمعة2, فلم تمنعه جلالة عثمان الذي هو أجلّ الناس بعده إذ ذاك من الإنكار عليه على رءوس الأشهاد. ومع علمه الواسع خرج من الدنيا وهو يشكو جهل ثلاثة أحكام, ويتمنى أن لو عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- فيها: ميراث الجد، والكلالة، وأبواب من الربا، والحديث في الصحيح وقد خطب بذلك على الملأ قبيل وفاته رحمه الله3.   1 أما نهي عمر -رضي الله عنه- عن المغالاة في المهور فروه أبو داود "2/ 235"، والترمذي "3/ 413"، والنسائي "6/ 96"، وابن ماجة "1/ 706" وأحمد "1/ 40، 48"، كلهم عن أبي العجفاء السلمي قيل اسمه هرم بن نسيب، وثقه ابن حبان والدراقطني، وقال البخاري: في حديثه نظر، قلت: ورواه أيضًا الحاكم عن سعيد بين المسيب. المستدرك "3/ 175"، أما زيادة إنكار المرأة على عمرو احتجاجها بآية النساء فرواها الخطيب البغدادي بإسناده عن مسروق بن الأجدع. الفقه والمتفقه "1/ 141، 142 " ط. دار إحياء النبوية "1395هـ" وذكرها القرطبي في تفسير قوله تعالى: {وَآَتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} "5/ 99". 2 متفق عليه: البخاري "2/ 2"، ومسلم "3/ 2". 3 مسلم في الفرائض "5/ 61". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 اجتهاد عليٍّ -رضي الله عنه 1: تقدَّمت لنا بعض أحكام وفتاو وقعت منه في الزمن النبوي واستصوبها عليه السلام, وكفى دليلًا على موفقيته في الاجتهاد, شهادته له عليه السلام بقوله: "أقضاكم عليّ" 1، ومن قضاياه الشهيرة عند الفقهاء ذكرها الزرقاني في الفرائض في الفريضة المنبرية أنه كان على المنبر يخطب وهو ييقول: الحمد لله الذي يحكم بالحق قطعًا، ويجزي كل نفس بما تسعى، وإليه المعاد والرجعى. فوقف سائل وقال: زوجة وأبوان وابنتان, كيف نقسم التركة؟ فأجاب على البديهة: صار ثمنها تسعًا، في محفله العظيم من غير تأمل ولا تردد, ثم استرسل في خطابه. وقضاياه كثيرة, وكم من قضية ردَّ فيها على عمر بن الخطاب فيرجع لرأيه إنصافًا ووقوفًا مع الحق, وبعض ذلك مذكرو في كتاب "الطرق الحكمية" لابن القيم فانظره، ومنها قضية المجنونة التي أمر عمر برجمها لأنها وضعت لستة أشهر, فردَّ عليه عليٌّ وقال: إن الله يقول: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} 2 وقال: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} 3 فيؤخذ منها معًا أن أقلَّ الحمل ستة أشهر, وقال له: إن الله رفع القلم عن المجنون. فكان عمر يقول: لولا علي لهلك عمر, وأصلها في الصحيح، فهو أول من تفطّن لدلالة الاقتران وهو الجمع بين الدليلين واستخراج مدلولٍ من مجموعهما لا يدل عليه الواحد منهما بانفراده، ولذا كان لا يمضي أمرًا في المسائل ذات الشأن إلّا بعد مشاورته لما هو معروف من باعه وغزارة علمه. ومن اجتهاده ما رواه حمَّاد بن سلمة عن حميد بن الحسن أن رجلًا تزوج امرأة وأراد سفرًا, فأخذه أهل امرأته فجعلها طالقًا إن لم يبعث نفقتها إلى شهر، فجاء الأجل ولم يبعث إليها بشيء، فلمَّا قدم خاصموه إلى عليّ فقال: اضطهدتموه حتى جعلها طالقًا, فردَّها عليه4. فظاهر الأثر أنه كان يحكم   1 كان ينبغي تقديم اجتهاد عثمان -رضي الله عنه- لسلك الجادة. 2 سبق تخريجه. 3 الأحقاف: 15. 3 البقرة: 233، وقضية المجنونة أخرجها البخاري تعليقًا "8/ 852", ومالك من بلاغاته في الموطأ "2/ 825". 4 انظر أعلام الموقعين "4/ 98". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 بعدم لزوم الطلاق لمن حلف أو عاقد على شرط, وبه تمسّك الظاهرية وبعض الحنابلة, قال ابن حزم في "المحلى": اليمين بالطلاق لا يلزم سواء برَّ أو حنث, ولا يقع به طلاق إلّا كما أمر الله, ولا يمين إلّا كما شرع الله -تبارك وتعالى- على لسان رسوله. قال: فهؤلاء علي بن أبي طالب, ولا يعلم له مخالف من الصحابة، وشريح1، وطاووس2, كما رواه عبد الرزاق في مصنفه عنهما، لا يقضون بالطلاق على من حلف فحنث3, قال في "أعلام الموقعين": وممن روي عنه ذلك عكرمة مولى ابن عباس4. قال: ومن تأمَّل المنقول عن السلف وجد منه ما هو صريح في عدم وقوع الطلاق، وهو عكرمة، وطاووس، وظاهر فقط وهو المنقول عن عليّ وشريح، وصريح في التوقف وهو ابن عيينة5، وأما الصريح في الوقوع فلا يؤثر عن صحابي واحد إلّا فيما هو محتمل لإرادة الوقوع عند الشرط كالمنقول عن أبي ذر، بل الثابت عن الصحابة عدم الوقوع في صورة العتق الذي هو أولى بالنفوذ من الطلاق, ولهذا ذهب إليه أبو ثور6. وقال: القياس أن الطلاق مثله إلّا أن تجتمع الأمة عليه, فتوقف في الطلاق لتوهم الإجماع، قال: وهذا عذر أكثر الموقعين للطلاق, وهو ظنهم أن الإجماع على الوقوع مع اعترافهم أنه ليس في الكتاب والسنة والقياس الصحيح ما يقتضي الوقوع، ثم أطال في تقوية ذلك فانظره في عدد "366" من السفر الأخير7. قلت: أثر علي الذي ذكره معلوم, فإن حمَّاد بن سلمة لم يحتج به البخاري, وحميد والحسن مدلسان, ومراسيل الحسن كالريح فهو ضعيف, وحجة جمهور الأئمة القياس الصحيح على اليمين, وأن من التزم شيئًا منها لزمه كالإقرار, والطلاق تعلّق به حق المرأة كي تزول عنه سيطرة الرجل, فقياس الطلاق على   1 ابن الحارث أبو أمنة القاضي الكوفي. 2 ابن كيسان. 3 أعلام الموقعين "4/ 98". 4 .... البربري أبو عبد الله المدني. 5 سفيان. 6 إبراهيم بن خالد أبو ثور البغدادي. 7 "4/ 98". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 اليمن, وعلى الإقرار صحيح خلافًا لابن القيم والله أعلم. وأما قول ابن القيم: إنه لا يؤثر عن صحابي، فيرده ما في الموطأ في ما جاء في يمين الرجل بطلاق ما لم ينكح بلاغًا عن عمر وابنه وابن مسعود إذا حلف الرجل بطلاق امراة قبل أن ينكحها, ثم أثم أن ذلك لازم له إذا نكحها1. فيفهم منه أنه إذا كان نكحها يلزمه اليمين, من باب أحرى إلّا على رأي ابن حزم الذي ينكر القياس الأحروي, وهو غاية الشذوذ, وابن القيم نفسه من المنكرين عليه, قال القفال2 موجهًا قول الشافعي: إن أقوال الخلفاء حجة إلّا عليًّا؛ لأنه لما آل إليه الأمر خرج إلى الكوفة, ومات كثير من الصحابة الذين كان الثلاثة يستشيرونهم, كما فعل الصديق في مسألة الجدة, وعمر في مسألة الطاعون, فكان قول كل من الثلاثة قول كثير من الصحابة يخلف علي. نقله المحلي3 في مبحث قول الصحابي.   1 الموطأ في كتاب الطلاق "2/ 584" 2 لعله محمد بن علي الشاشي أبو بكر القفال. 3 جلال الدين محمد بن أحمد المحلي الشافعي. شارح جمع الجوامع في الأصول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 اجتهاد عثمان -رضي الله عنه: كان عثمان ذا قدم راسخة في الاجتهاد والفتوى, وقضاياه أيضًا مشهورة في الصحاح وغيرها. فهو الذي رأى جمع الناس على مصحف واحد بحرف واحد وترتيب واحد, وترك بقية الحروف السبعة سدًّا للذريعة وتوحيدًا للكلمة وقطعًا للنزاع في القرآن1، فوقع إجماعهم على ذلك, ثم عدَّد منه نسخًا وفرقه في عواصم الإسلام, وحرق ما سواه إلّا مصحف ابن مسعود, أبى حرقه, فأغضى عنه فتركه الناس بعد2. وهو الذي امر بزكاة الدين على منبر, فانقعد الإجماع السكوتي على ذلك, والقصة في الموطأ3, وهي الأصل الذي اعتمد الفقهاء في زكاة الديون. وكان أعلم الصحابة بالمناسك, وكان ابن عمر بعده في ذلك، وهو الذي رأى توريث المبتوتة في مرض الموت معاملة للزوج الذي بتها بنقيض قصده فوافقه الصحابة4. ومن فتاويه ما رواه مالك أن ضوال الإبل كانت في زمن عمر إبلًا مرسلة تناتج لا يمسها أحد5. لحديث الصحيحين عن زيد بن خالد الجهني, أن رجلًا سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن اللقطة فقال: "عرفها سنة, ثم أعرف عفاصها ووكاءها, ثم استمتع بها, فإن جاء ربها فأدها إليه" فقال: فضالة الغنم؟ قال: "خذها فإنما هي   1 لم يترك عثمان -رضي الله عنه- شيئًا من الأحراف السبعة الثابتة في العرضة الأخيرة، وما ذكره المؤلف وإن كان قد ذهب إليه عدد من الأئمة إلّا أنه باطل، انظر التعليق المتقدم. 2 سبقت الإشارة إلى معارضة ابن مسعود لمشروع العثماني وتحقيق المسألة. 3 الموطأ "1/ 253". 4 الموطأ في كتاب الطلاق "2/ 571". 5 الموطأ في الأقضية "2/ 759". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 لك أو لأخيك أو للذئب" , قال: فضالة الإبل؟ فقال: "مالك ولها معها حذاؤها حتى يلقاها ربها" حتى إذا كان زمن عثمان أمر بمعرفتها وتعريفها ثم تباع, فإن جاء صاحبها أعطي ثمنها1. وهذا أخذ منه بالمصالح المرسلة, مع أنها في مقابلة النص السابق؛ لأنه رأى الناس مدوا أيديهم إلى ضوال الإبل, فجعل راعيًا يجمعها ثم تباع بالمصلحة المرسلة العامة, وهذا من حجج مالك في ذلك, على أن مالكًا لا يأخذ بها مع وجود نص يخالفها. ومن فتاويه أن تقصير الصلاة أيام الحج ليس من النسك بل هو لأجل السفر, فمن كان متأهلًا بمكة فلا قصر عليه, فكان عثمان يتمم الصلاة لما له من الأهل بمكة, وخالف في ذلك رأي من قبله من الخلفاء2. وله فتاوٍ وآراء في الاجتهاد كثيرة, وكيف لا وهو من الخلفاء الذين قال فيهم عليه السلام: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين من بعدي" الحديث3، وإن كان عثمان لم يكن من المكثرين فقهًا ولا تحديثًا, لكنه ذو سداد في الاجتهاد, وترجمته شهيرة -رضي الله عنه, وقد يجمع الصحابة ويشاورهم في الأمور الهامة، فقد استشار عليًّا في حد الوليد لما شهدوا عليه بالشرب بحده أربعين4، وقضاؤه في بعض الأمر دون شورى هو الذي كان من جملة أسباب الثورة ضده كما يُعْلَم من التاريخ، وتقديم عليّ -كرم الله وجهه- في الفقه عليه لا يلزم منه التقديم في غيره, فتلك مزية لا تقتضي التفضيل. وقد اشتهر في زمن الخلفاء عدد من الصحابة بل والتابعين بالفقه والافتاء:   1 حديث زبد بن خالد الجهني: متفق عليه, البخاري "3/ 163"، ومسلم "5/ 133". 2 رواه أحمد في مسنده "1/ 62"، وفي إسناده عكرمة بن إبراهيم، انظر تعليق الشيخ أحمد بن شاكر على المسند "1/ 443" ط. دار المعارف، ونيل الأوطار "3/ 211". 3 أبو داود "4/ 201"، والترمذي "5/ 44"، وابن ماجة "1/ 16". 4 الذي استشار عليًّا في حد الخمر هو عمر -رضي الله عنه, كما جاء في الموطأ "2/ 842"، أما حد الوليد بن عقبة ففي مسلم "5/ 126"، وفيه: أن عثمان أمر عليًّا أن يجلده, وليس فيه أنه استشاره، فجلده عليّ أربعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 من اشتهر بالفتية من الصحابة والتابعين، زمن الخلفاء : ترجمة عائشة، وحفصة : فمنهم عائشة الصديقية: بنت أبي بكر الصديق -رضي الله عنهما, وزوج رسول الله -صلى الله عليه وسلم، أعلم نساء الأمة التي روت لنا شطر الدين، ملأت فتاويها كتب الصحاح، بل العالم الإسلامي شرقًا وغربًا. وكان كبار الصحابة وأعلامهم يستفتونها ويرجعون لرأيها، وكانت تناظر علماءههم وترد عليهم, فكم من مرة ردَّت على أبي هريرة وعبد الله بن عمر وابن عباس وغيرهم، ولم لا, وهي أحب أزواج الرسول إلى الرسول، حضرته سفرًا وحضرًا, بل شاهدت وعلمت ما لم يطَّلع عليه غيرها، وكان لها الرأي الصائب في الفتوى والاستنباط، حافظة لأشعار العرب وأيامهم. وقد قال فيها عروة بن الزبير: لم يكن أحد أعلم بقضاء ولا فرائض ولا بأيام الجاهلية، ولا بطب ولا شعر من عائشة -رضي الله عنها. وهي أحد المكثرين للحديث النبوي, جاوزوا الألف العارفين بالسنة والفقه. وترجمتها واسعة لا يسعها هذا المحل، توفيت سنة "57" سبع وخمسين, ولاشتهار فتاويها زمن الخلفاء وإحرازهم لمقامٍ عظيم زينا هذا العصر بترجمتها, وإلا فهي بالعصر قبله أحق1. حفصة بنت عمر بن الخطاب: أم المؤمنين -رضي الله عنها، لها نحو ستين حديثًا ترويها عن زوجها الرسول -عليه السلام، ولها فتاوٍ مذكورة في كتب الحديث، ومن اجتهادها ما في صحيح مسلم عن أم مبشر أنها سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول عند حفصة: "لا يدخل النار   1 عائشة الصديقة بنت أبي بكر الصديق: الكنية أم المؤمنين, أم عبد الله, التيمية: الثقات "3/ 323"، أسد الغابة "7/ 188"، أعلام النساء "3/ 9"، والاستيعاب "4/ 1881"، الإصابة "8/ 16"، تجريد أسماء الصحابة "2/ 286"، تقريب التهذيب "2/ 606"، تهذيب الكمال "3/ 387"، حلية الأولياء "2/ 43"، طبقات ابن سعد "8/ 39"، والنجوم "1/ 150". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 إن شاء الله من أصحاب الشجرة أحد" قالت: بلى يا رسول الله, فانتهزها، فقالت: "وإن منكم إلا واردها" فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "قد قال الله -عز وجل: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} " 1, تمسكت بعموم الوعيد فأرشدها النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المخصَّص وهو إرشاد إلى أصل مذهب أهل السنة, وأن عمومات الوعيد مخصَّصة خلافًا للمعتزلة. كانت صوامة قوامة, كما قال جبريل -عليه السلام- للنبي -صلى الله عليه وسلم- حين طلَّقها وأمره برجعتها فردها2، وهي التي ائتمنها عمر على المصحف حين حضرته الوفاة، توفِّيت سنة إحدى وأربعين، وكانت كاتبة قارئة, ولها مصحف -رضي الله عنها- غير المصحف المذكور3.   1 مريم: 72, والحديث أخرجه مسلم في فضائل أصحاب الشجرة "7/ 169". 2 سبق تخريجه. 3 حفصة بنت عمر بن الخطاب: ترجمة حفصة في: الإصابة "7/ 581"، والاستيعاب "4/ 811"، وأسد الغابة "5/ 435". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 ترجمة أنس، أبي هريرة : أنس بن مالك الأنصاري الخزرجي النجاري: خادم رسول الله -صلى الله عليه وسلم, في البخاري أنه شهد خيبر وهو مراهق, وشهد ما بعدها، وهو أحد المكثرين الذين تجاوزت أحاديثهم الألف، من حفّاظ الصحابة وأعلامهم, وكيف لا يكون كذلك وقد خدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عشر سنين في زمن التعليم؛ إذ كان ساعة استخدامه ابن عشر سنين، مات سنة تسعين أو بعدها, وهو آخر من مات من الصحابة بالبصرة1. أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر: أسلم عام خيبر، وفيه هاجر، وشهدها، من أعلام الصحابة الذين حفظوا سنة رسول الله وشريعة الإسلام، له خمسة آلاف حديث وثلاثمائة وأربعة وسبعون حديثًا، فهو أكثر الصحابة رواية على الإطلاق، قال البخاري:   1 أنس بن مالك الأنصاري الخزرجي النجاري: ترجمة أنس في الإصابة "1/ 126"، والاستيعاب "1/ 108"، وأسد الغابة "1/ 127". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 روى عنه من الثقات الحفاظ ثمانمائة نفس, فانتشر حديثه؛ إذ كان غالب مقامه بالمدينة, وكان مقصد الطلاب من الآفاق، ونقل عن أبي هريرة فتاوٍ وأحكام مذكورة في كتب الحديث والسير, فهو معدود من المفتين والفقهاء, وإن لم يكن مكثرًا في الفقه بل في الرواية, خلافًا لمن زعم من الحنفية أنه ليس من الفقهاء, ولا يضر الشمس أن لا يراها عليل. وكان مروان بن الحكم يستخلفه على المدينة إذا عنَّ له سفر، توفي سنة "59" تسع وخمسين، عن ثمان وسبعين سنة1.   1 أبو هريرة: عبد الرحمن بن صخر: ترجمة أبي هريرة في الإصابة "4/ 316"، والاستيعاب "4/ 176"، وأسد الغابة "5/ 315"، والمغني "6365". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 ترجمة عبد الله بن عمرو بن العاص السهميّ القرشي: أسلم قبل أبيه, وكان من عبّاد الصحابة وعلمائهم وحفاظهم، له سبعمائة حديث، وقد ضاع كثير من علمه بمقامه بمصر التي لم تكن دار طلب العلم إذ ذاك، مع اشتغاله بالسياسة مع أبيه، وما دخلت السياسة في شيء إلّا أفسدته، قالت عائشة -رضي الله عنها- لعروة بن الزبير: يا ابن أختي, بلغني أن عبد الله بن عمرو مارٌّ بنا إلى الحج, فالقه فاسأله, فإنه قد حمل عن النبي -صلى الله عليه وسلم- علمًا كثيرًا. الحديث في الصحيحين1. وعن أبي هريرة: إني أكثرهم حديثًا إلّا ما كان من عبد الله بن عمرو, فإنه كان يكتب ولا أكتب2. توفي سنة "65" خمس وستين3.   1 متفق عليه: البخاري ط1/ 36"، ومسلم، واللفظ له "8/ 60". 2 سبق تخريجه. 3 عبد الله بن عمرو بن العاص السهمي القرشي: طبقات ابن سعد "2/ 373"، "4/ 261"، "7/ 494"، التاريخ الكبير "5/ 5"، المعرفة والتاريخ "1/ 251"، والجرح والتعديل "5/ 116"، والمستدرك "3/ 525"، الحلية "1/ 283"، تهذيب الأسماء واللغات "1/ 1/ 281"، تاريخ الإسلام "3/ 37"، تذكرة الحفاظ "1/ 39"، تهذيب التهذيب "2/ 169". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 ترجمة أبي أيوب، أم المؤمنين ميمونة، سعد بن أبي وقاص : أبو أيوب الأنصاري الخزرجي النجاري: عقبي بدري، شهد المشاهد كلها مع النبي -صلى الله عليه وسلم, وبداره نزل النبي -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة, إلى أن بني منزله الشريف, وكان يأكل طعامه. له فتاوٍ وأقوال فقهية، معدود من أعلام الصحابة ومفتيهم، ورى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- مائة وخمسين حديثًا، وتوفي سنة "52" اثنين وخمسين, ودفن خارج القسطنطينية غازيًا، وقبره بها معروف بهذا العهد1. أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث الهلالية: آخر امرأة تزوجها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ودخل بها, وفيها نزلت: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} .2 الآية، وهي التي عقد عليها النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو محرم, كما في الصحيح, فقيل: إن ذلك خصوصية له, وقيل له ولغيره, مزيد كلام في الموضوع، توفيت سنة نيف وأربعين, وقيل غير ذلك3. سعد بن أبي وقاص الزهري القرشي: سابع سبعة في الإسلام، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، وآخرهم موتًا, وأول من رمى بسهم في سبيل الله، وأحد قواد الإسلام وفوارسه المشهورين، وبطل القادسية, مبيد دولة الفرس, ومؤس الكوفة وفاتح العراق، هاجر قبل النبي -صلى الله عليه وسلم, وشهد بدرًا وما بعدها, لها مائتا حديث وخمسة عشر حديثًا، وهو أحد الستة الذين جعل عمر الخلافة شوى بينهم، توفي سنة خمس وخمسين بعد ما كان اعتزل الفتنة في بيته مدة حرب علي ومعاوية4.   1 أبو أيوب الأنصاري الخزرجي النجاري: في الإصابة "7/ 26"، والاستيعاب "4/ 1606"، وأسد الغابة "5/ 143". 2 الأحزاب: 50. 3 أم المؤمنين: ميمونة بنت الحارث الهلالية: الإصابة "8/ 126"، والاستيعاب "4/ 1914"، وأسد الغابة "5/ 550". 4 سعد بن أبي وقاص الزهري القرشي: الإصابة "3/ 88"، والاستيعاب "2/ 606"، وأسد الغابة "2/ 290". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 ترجمة سعيد بن زيد، الزبير بن العوام : سعيد بن زيد العدوي القرشي: ابن عم عمر بن الخطاب وصهره على أخته, كما أن عمر صهره على أخته، أسلم قبل عمر، وهو سبب إسلام عمر, فقد أسلم في بيته، كان من المهاجرين الأولين، لم يشهد بدرًا, ولكن ضُرِبَ له بسهم فيها، وشهد ما بعدها، وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة، ولم يدخله عمر في ستة الشورى الذين جعل الخلافة بينهم لقرابته منه, كما رواه الطبري, أراد أن لا تصير الخلافة وراثية, بل تبقى شورية انتخابية بتمام الحرية، توفي سنة نيف وخمسين1. الزبير بن العوام الأسدي القرشي: حواريّ النبي -صلى الله عليه وسلم, وابن عمته، أحد العشرة المبشرين بالجنة، هاجر الهجرتين، ولم يتخلف عن غزوة غزاها رسول الله -صلى الله عليه وسلم, وهو أوّل من سلَّ سيفًا في سبيل الله. والحواريون في الإسلام اثنا عشر رجلًا وهم: حمزة، وجعفر بن أبي طالب، وعثمان بن مظعون، والعشرة ما عد سعيد بن زيد، والزبير أحد لستة الذين جعل عمر الخلافة شورى بينهم, الذين توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو عنهم راضٍ، وهو أحد المحظوظين, والأغنياء المشهورين الذين نفعوا الإسلام بمالهم وأمانتهم وصدقاتهم وبرهم. له ثمانية وثلاثون حديثًا, توفى سنة "36" ست وثلاثين غدرًا بوادي السباع قرب البصرة, زمن حرب علي وعائشة2.   1 سعيد بن زيد العدوي القرشي: الإصابة "3/ 103"، والاستيعاب "2/ 614"، وأسد الغابة "2/ 306". 2 الزبير بن العوام الأسدي القرشي: الإصابة "2/ 553"، والاستيعاب "2/ 510"، وأسد الغابة "2/ 196". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 ترجمة طلحة بن عبيد الله، جابر بن عبد الله، عتبة بن غزوان ... ترجمة طلحة بن عبد الله، جابر بن عبد الله، عتبة بن غزوان: طلحة بن عبيد الله التيمي القرشي: ثامن من أسلم, وأحد العشرة المبشرين بالجنة, وأحد الستة الشوريين، لم يشهد بدرًا لعذر، فضُرِبَ له بسهم، وأبلى بلاءًا عظيمًا, وفدى النبي -صلى الله عليه وسلم- بنفسه, وقد تعرَّض بيده لسهم ضربوا به النبي -صلى الله عليه وسلم, فكانت شلاءًا، وهو أحد الأغنياء المحظوظين الذي نفعوا الإسلام بأعمال البر وبالسيف معًا، توفي في وقعة الجمل سنة "36" ست وثلاثين. وكانت غلته ألف درهم بغلي كل يوم، وكان جوادًا عظيمًا يضرب بجوده المثل حتى سمّاه النبي -صلى الله عليه وسلم- طلحة الفياض, وطلحة الجود1. جابر بن عبد الله بن عمرو الأنصاري الخزرجي: شهد العقبة الثانية، وغزا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- تسع عشرة غزوة، من علماء الصحابة وحفاظهم المكثرين, له ألف حديث وخمسمائة وأربعون حديثًا, وكانت له حلقة في المسجد النبوي يؤخذ عنه العلم, توفي سنة "78"، ثمان وسبعين، عن أربع وتسعين وقد كُفَّ بصره2. عتبة بن غزوان المازني: كان سابع ستة في الإسلام، في السابقين الأولين، هاجر الهجرتين وصلى للقبلتين، شهد بدرًا وغيرها، وهو الذي أسَّسَ البصرة زمن عمر وكان واليها، وخطبته فيها شهيرة, أشار لها في الشمائل, وفي الاستيعاب ومنها: كنت سابع سبعة مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وما نأكل إلّا ورق الشجر, حتى إن أحدنا ليطرح كما تطرح الشاة أو البعير, وما منا من أحد إلّا وهو أمير مصر من الأمصار, وستجربون الأمراء بعدنا ... إلخ. توفي سنة "17" سبعة عشر3.   1 طلحة بن عبد الله التيمي القرشي: ترجمة طلحة في: الإصابة "3/ 5296"، والاستيعاب "2/ 264"، وأسد الغابة "3/ 59"، الجمع بين رجال الصحيحين رقم "859". 2 ترجمة جابر بن عبد الله بن عمرو الأنصاري الخزرجي: أبو عبد الله -أبو عبد الرحمن- أبو الحمد، ت سنة 73، السلمي الأنصاري. تصحيفات المحدثين: "657"، التاريخ الكبير "2/ 207"، تراجم الأخبار "1/ 217"، التاريخ الصغير "1/ 21، 115، 161، 190، 193", العبر "1/ 41، 193"، الأعلمي "14/ 220". 3 عتبة بن غزوان المازني: ثقات "5/ 250"، التاريخ الكبير "6/ 520"، الطبقات الكبرى "2/ 11"، "3/ 556"، "4/ 362"، البداية والنهاية "7/ 49"، تنقيح المقال "7727", العبر "1 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 ترجمة بلال، عقبة بن عامر : بلال بن رباح الحبشي: مؤذِّن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأمين نفقته، أوّل من أسلم من العبيد ومن الحبشة, ممن عذبته قريش في ذات الله على حجر مكة في الظهيرة وهو يبرّد لظاها بقوله: أحد أحد, حتى اشتراه منهم أبو بكر وأعتقه، من زهّاد الصحابة وعبّادهم، شهد بدرًا والمشاهد كلها، ثم سكن دمشق غازيًا ومعلمًا. قال عمر: أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا, وامتنع من الأذان بعد وفات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا مرَّةً قدم فيها المدينة, فلما أذّن علا الضجيج والبكاء فلم يتمها، توفي سنة "20" عشرين2. عقبة بن عامر الجهني: الصحابي المشهور، روى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- كثيرًا، وروى عنه جماعة من الصحابة كابن عباس، كان قارئًا، أحد مَنْ جمع القرآن، وله مصحف على غير تأليف عثمان، وكان عالمًا بالفرائض والفقه، شاعرًا فصيح اللسان، كاتبًا بليغًا، تولى مصر زمن معاوية، وحضر فتوح الشام وأفريقية وغيرها، ومن كلامه في صحيح البخاري: تعلّموا قبل الضانين. يعني: الذين يتكلمون بالظي. توفي سنة "58" ثمان وخمسين3.   1 بلال بن رباح الحبشي: الإصابة "1/ 362"، والاستيعاب "1/ 178", وأسد الغابة "1/ 206". 2 عقبة بن عامر الجهني: الإصابة "4/ 520"، والاستيعاب "3/ 1073"، وأسد الغابة "3/ 417". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 ترجمة عقبة بن عمرو، عمران بن حصين، معقل بن يسار : عقبة بن عمرو الأنصاري الخززجي: أبو مسعود البدري، شهد العقبة وبدرًا على ما قال الزهري وأحدًا وما بعدها، سكن الكوفة واستخلفه عليٌّ عليها بعد خروجه لصفين، وهو معدود من أعلام الصحابة وفقهائهم. توفي سنة أربعين1. عمران بن حصين الخزاعي أبو نجيد -مصغرًا: أسلم أيام خيبر وشهد غزوات، وكان من علماء الصحابة وفقهائهم وقضاهم، روى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- مائة وثلاثين حديثًا، بعثه عمر ليفقِّه أهل البصرة، ثم استقصاه زياد بها, ثم استعفى فأعفاه، قال ابن سيرين: لم يكن تقدَّم على عمران أحد من الصحابة ممن نزل البصرة. وهو ممَّن اعتزل الفتنة، توفي سنة "52" اثنين وخمسين2. معقل بن يسار المزني أبو علي: من أهل بيعة الرضوان, وممن استقصاه النبي -صلى الله عليه وسلم- كما سبق3، روى أربعة وثلاثين حديثًا، روى عنه عمران بن حصين وغيره، نزل البصرة, وهو الذي حفر ترعة هناك يقال لها وادي معقل بأمر عمر.   1 عقبة بن عمرو الأنصاري الخزرجي: أبو مسعود البدري، الإصابة "4/ 524", والاستيعاب "3/ 1074"، وأسد الغابة "3/ 419". 2 عمران بن حصين الخزاعي أبو نجيد: أبو نجيد الخزاعي صاحب رسول الله: مسند أحمد "4/ 426"، التاريخ "ابن معين" "436"، طبقات ابن سعد "4/ 287", طبقات خليفة "106، 187"، التاريخ الكبير "6/ 408"، أخبار القضاة "1/ 291، 292"، الجرح والتعديل "6/ 296"، المستدرك "3/ 470"، سير النبلاء "2/ 508"، والعبر "1/ 57"، مجمع الزوائد "9/ 125". 3 سبق تخريجه. 4 معقل بن يسار المزني أبو علي: الإصابة "6/ 184"، والاستيعاب "3/ 1433"، وأسد العابة "4/ 398". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 ترجمة أبي بكرة الثقفي : أبو بكرة 1 نفيع بن الحارث بن كلدة الثقفي: صحابي جليل, أول من نزل إلى النبي-صلى الله عليه وسلم- من الطائف عند حصاره له، فكنَّاه أبا بكرة لذلك، له مائة واثنان وثلاثون حديثًا، من علماء الصحابة، قال الحسن البصري: لم يسكن البصرة أحد من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أفضل من عمران بن حصين وأبي بكرة, وكان ممن اعتزل الفتنة، توفي سنة "51" إحدى وخمسين1.   1 قال المؤلف -رحمه الله: بكرة بفتح الباء، وسكون الكاف، ونفيع مصغر, وكلدة بثلاث فتحات. 2 أبو بكرة نفيع بن الحارث بن كلدة الثقفي: مولى الرسول، صحابي، نفيع ويقال نافع بن الحارث بن كلدة، وهال ابن مسروح، أبو داود -أبو بكرة السبيعي: الأعمى الوارمي الكوفي النخعي القاضي. تقريب التهذيب "2/ 303"، تهذيب "10/ 470"، تهذيب الكمال "3/ 1423"، الكاشف "3/ 208"، لسان الميزان "7/ 413"، التاريخ الصغير "8/ 2"، الضعفاء الكبير "4/ 306". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 التابعون الذين اشتهروا بالفتوى أيام الخلفاء الراشدين وقريبا من ذلك ترجمة القاضي ... التابعون الذين اشتهروا بالفتوى أيام الخلفاء الراشدين وقريبًا من ذلك: شريح القاضي: منهم: أبو أمية شريح بن الحارث الكندي 1: مخضرم، استقصاه عمر على الكوفة، ثم عليّ من بعده، ولم يزل قاضيًا حتى زمن الحجاج مدة ستين سنة، وقال ابن خلكان: مدة خمس وسبعين, لم يتعطّل فيها سوى ثلاث سنين, امتنع فيها من الحكم في فتنة ابن الزبير, ثم استعفى الحجاج فأعفاه, ولم يقض بين اثنين إلى أن مات, وهذه مدة طويلة في الحكم لم يكن مثلها لقاضٍ بعده. كان من جلة العلماء وأذكى العالم، سبب تولية عمر إياه أن عمر اشترى فرسًا من رجل على سوم فعطب, فخاصمه الرجل, فقال عمر: اجعل بيني وبينك رجلًا, فقال الرجل: إني أرضى شريحًا العراقي. فقال شريح: أخذته صحيحًا سليمًا فأنت له ضامن حتى ترده صحيحًا سليمًا, فأعجبه حكمه فوجَّهه قاضيًا وأوصاه قائلًا: ما استبان لك من كتاب الله فلا تسأل عنه, فإن لم يستبن لك في كتاب الله فمن السنة, فإن لم تجده في السنة فاجتهد رأيك. قال الشعبي: كان أعلم الناس بالقضاء، وكان أيضًا شاعرًا فصيحًا، وتقدَّم بعض ما كتب به عمر إليه2، كان يناظر الصحابة, وقد رجع عليّ إلى رأيه في بعض المسائل، وحكم يومًا بميراث أم الوليد لوالده مستدلًا بقوله تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} 3, فكتب إليه ابن الزبير وهو يرد عليه ويأمره يجعل الميراث لمولاها, فلم يرجع عن قضائه وقال: أعتقها جنين بطنها. رواه الطبري في آخر الأنفال من تفسيره. ونزاهته وفضله شهير، توفي سنة "80" ثمانين, وقيل: سنة "87" سبع وثمانين، عن مائة سنة، وقيل غير ذلك4.   1 قال المؤلف -رحمه الله: الكندي: بكسر الكاف وسكون النون نسبة إلى كندة, قبيلة من قحطان. 2 في ترجمة عمر. 3 الأنفال: 75. 4 أبو أمية شريح بن الحرث الكندي: القاضي الكندي: دائرة الأعلمي "20/ 48". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 ترجمة علقمة النخعي، مسروق : علقمة بن قيس النخعي: فقيه العراق، مخضرم، تفقَّه على ابن مسعود، وكان أنبل أصحابه، قال قابوس1: أدركت ناسًا من الصحابة يسألونه ويستفتونه، مات سنة "61" إحدى وستين، عن تسعين سنة2. مسروق بن الأجدع الهمداني الكوفي: الإمام القدوة، روى عن أبي بكر، وعمر، وعلي، وغيرهم، هو راوية عمر, والناقل للكثير من فقهه وقضاياه، كان أعلم بالفتوى من شريح وكان يستشيره، توفي سنة "63" ثلاث وستين3.   1 ابن أبي ظبيان. 2 علقمة بن قيس النخعي: أبو شبل النخعي الكوفي، مات سنة 60، أو 61، 70, بعد 42 سنة. معجم طبقات الحفاظ "129"، تاريخ الثقات "339"، تاريخ بغداد "12/ 296"، تذكرة "1/ 48"، شذرات الذهب "1/ 586"، طبقات ابن سعد "6/ 75"، الحلية "2/ 98"، النجوم "1/ 175"، تراجم الأحبار "3/ 63" تبصير المنتبه "3/ 985". 3 مسروق بن الأجدع الهمداني الكوفيّ, أبو عائشة الهمداني الوادعي الكوفي: توفي سنة 62. تقريب التهذيب "2/ 242"، تهذيب التهذيب "10/ 109"، تهذيب الكمال "3/ 1320"، الكاشف:"3/ 136"، الخلاصة "3/ 21"، الأنساب "13/ 427، 424"، تراجم الأحبار "3/ 330"، جامع المسانيد "2/ 550"، الحلية "2/ 95"، العبر "1/ 68"، الأعلمي "274/ 241". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 ترجمة الأسود النخعي، عبد الرحمن بن غنم، أبي إدريس الخولاني، عبيدة السلماني : الأسود بن يزيد بن قيس النخعي الكوفي: مخضرَم، أحد الفقهاء الكبار، أخذ عن ابن مسعود وغيره، وعنه إبراهيم1 وغيره، وثَّقه ابن معين وغيره، توفي سنة "74" أربع وسبعين2. عبد الرحمن بن غنم الأشعري: قيل: إن له صحبة, بعثه عمر إلى الشام ليفقِّه الناس, وقال ابن عبد البر: أفقه أهل الشام, وعليه تفقّه التابعون بها، توفي سنة "78" ثمان وسبعين3. أبو إدريس الخولاني عائذ الله: قاضي أهل الشام، ومن أشهر أعلامها، توفي سنة "80" ثمانين4. عبيدة -بالفتح- بن عمرو السلماني 5: مات النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو في الطريق قادمًا إلى المدينة، أخذ عن عليّ وابن مسعود وغيرهما، قال ابن عيينة: كان يوازي شريحًا في القضاء والعلم, وكان قاضيًا لعلي, فقال له يومًا: اجتمع رأيي ورأي عمر في أمهات الأولاد أن لا يبعن, ثم رأيت بيعهن, فقال له عبيدة: رأيك مع رأي عمر في الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك في الفرقة، مات سنة "72" اثنين وسبعين6.   1 ابن يزيد النخعي. 2 الأسود بن يزيد بن قيس النخعي الكوفي: حلية الأولياء "2/ 102"، وتذكرة الحفاظ "1/ 48"، وتهذيب التهذيب "1/ 342". 3 عبد الرحمن بن غنم الأشعري الشافعي الأشعري: صاحب معاذ، توفي سنة 78، أو 98. در السحابة "786"، تقريب التهذيب "1/ 494"، تهذيب التهذيب "6/ 250"، تهذيب الكمال "2/ 810"، الكاشف "12/ 18", الخلاصة "2/ 148"، المعرفة والتاريخ "2/ 309"، الثقات "5/ 78"، التاريخ الصغير "1/ 190", تراجم الأحبار "2/ 424"، البداية والنهاية "9/ 26". 4 أبو إدريس الخولاني عائذ الله: حلية الأولياء "5/ 122"، وتذكر الحفاظ "1/ 53"، وتهذيب التهذيب "5/ 85". 5 قال المؤلف -رحمه الله: عبيدة كنطيحة مكبره. 6 عبيدة بن عمرو السلماني: أبو عمرو, أبو مسلم السلماني- الكوفي - الهمداني- المرادي، أسلم ولم ير النبي -صلى الله عليه وسلم، مات قبل سنة 70، أو 72 أو بعدها. شذرات الذهب "1/ 78"، طبقات ابن سعد "6/ 62"، طبقات القراء "1/ 498"، العبر "1/ 89"، اللباب "1/ 552", التاريخ لابن معين "3/ 387"، تقريب التهذيب "1/ 547"، تهذيب التهذيب "7/ 84"، تهذيب الكمال "2/ 898"، الكاشف "2/ 242", الخلاصة "2/ 207"، تراجم الأحبار "3/ 17، 93". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 ترجمة سويد بن غفلة، عمرو بن شرحبيل، عبد الله بن عتبة : سويد بن غفلة الجعفي الكوفي 1: أحد كبار التابعين وأعلامهم، قَدِمَ المدينة حتى نفضت الأيدي من دفنه -عليه السلام، روى عن الخلفاء الأربعة، وهي فضيلة عظمى، توفي سنة "80" ثمانين2. عمرو بن شرحبيل الهمدني: أبو ميسرة الكوفي, روى عن عمر وعلي وغيرهما، مات قديمًا3. عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلي: أبو عبيد الله، له رؤية قال ابن سعد, كان ثقة فقيهًا، مات سنة "74" أربع وسبعين4.   1 قال المؤلف -رحمه الله: سويد مصغر, وغفلة بفتحتين, والجعفي بضم الجيم. 2 سويد بن غفلة الجعفي الكوفي: تهذيب التهذيب "4/ 278". 3 عمرو بن شرحيل الهمداني: أبو ميسرة - الهمداني الكوفي. طبقات ابن سعد "6/ 106"، طبقات خليفة "ت1069"، تاريخ البخاري "6/ 341"، الجرح والتعديل القسم الأول المجلد الثالث "237"، الحلية "4/ 141"، تهذيب الكمال ص"1040"، تاريخ الإسلام "3/ 56"، تذهيب التهذيب "3/ 100" غاية النهاية "ت2453"، الإصابة "ت6488"، تهذيب التهذيب "8/ 456". 4 عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلي: تراجم الأحبار "4/ 624"، تهذيب التهذيب "5/ 311". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 ترجمة عمرو بن ميمون، زر بن حبيش، الربيع بن خيثم : عمرو بن ميمون الأودي: أبو يحيى الكوفي، أدرك حياة النبي -صلى الله عليه وسلم, ولم يثبت له صحبة، روى عن عمر ومعاذ، قال الذهبي في كتاب العلو: من كبار علماء الكوفة, حج مائة حجة وعمرة، وثَّقه ابن معين, واتَّفق عليه الستة, مات سنة "74" أربع وسبعين1. زر بن حبيش -مصغر- الأسدي الكوفي: مخضرم، روى عن الخلفاء عدا أبا بكر، وعن العباس وغيرهم، وثَّقه ابن معين، أخرج له الستة. توفي سنة "82" اثنين وثمانين2. الربيع بن خيثم: بمعجمة مفتوحة فياء تحتية فمثلثة مفتوحة، الثوري الكوفي، مخضرم، كان لا ينام الليل كله، قال له ابن مسعود: لو رآك النبي -صلى الله عليه وسلم- لأحبك, توفي سنة "64" أربع وستين3.   1 عمرو بن ميمون الأودي: طبقات ابن سعد "6/ 117"، طبقات خليفة "ت1050"، تاريخ البخاري "6/ 367"، الحلية "4/ 148"، تاريخ عساكر "13/ 322"، أسد الغابة "4/ 134"، تاريخ الإسلام "3/ 197"، النجوم "1/ 195"، سير النبلاء "4/ 158"، العقد الثمين "6/ 417"، تهذيب التهذيب "8/ 109"، الاستيعاب "ت1959". 2 زر بن حبيش الأسدي الكوفي: أبو مريم - الأسدي الكوفي القاضري، توفي سنة 81، 82، 83: تقريب التهذيب "1/ 259"، تهذيب الكمال "1/ 428"، تهذيب التهذيب "3/ 321"، الخلاصة "1/ 358"، جامع المسانيد "2/ 456"، الكاشف "1/ 321"، العبر "1/ 95"، نسيم الرياض "3/ 147"، تراجم الأحبار "1/ 447"، البداية والنهاية "9/ 66"، سير النبلاء "4/ 166". 3 الربيع بن خيثم: تهذيب التهذيب "3/ 242". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 ترجمة عبد الملك بن مروان، الأسود بن هلال : عبد الملك بن مروان بن الحكم الأموي: الخليفة المشهور, مجدد الإسلام ووحدته، كان قبل خلافته معدودًا من الفقهاء المشار إليهم بالفتوى كما في أعلام الموقعين، وقال ابن سعد: كان قبل الخلافة من النساك. توفي سنة "86" ستة وثمانين، وهو تابعي, روى عن أبي هريرة وأم سلمة، وروى عنه الزهري وعروة وغيرهما، أخرج حديثه البخاري في الأدب المفرد1. الأسود بن هلال المحاربي: أبو سلّام الكوفي، الفقيه الجليل، مخضرم، روى عن عمر ومعاذ والمغيرة وغيرهم، مات سنة "84" أربع وثمانين2. فهؤلاء المشاهير في كبار التابعين ومن دونهم كثير.   1 عبد الملك بن مروان بن الحكم الأموي: أبو الوليد الأموي المدني القرشي الدمشقي، مات سنة 86. در السحابة "793"، التحفة اللطيفة "3/ 90"، الثقات "5/ 120"، التاريخ الكبير "5/ 429"، تقريب التهذيب "1/ 532"، تهذيب التهذيب "6/ 422"، تهذيب الكمال "2/ 862"، الخلاصة "2/ 180"، التاريخ لابن معين "3/ 375"، الميزان "2/ 664"، سير النبلاء "4/ 246"، دائرة الأعلمي "21/ 269"، العبر "1/ 518" فهرس. 2 الأسود بن هلال المحاري: تهذيب التهذيب "1/ 342". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 ما تمّيز به فقه عصر الخلفاء الراشدين: أولًا: بنزول نوازل لم تنزل في العهد النبوي, فأظهروا أحكامًا بالاستنباط, وذلك تابع لاتساع دائرة الإسلام, ودخول كثير من الأمم فيه, وابتداء عصر التمدُّن العربي, فكان الفقه تابعًا لذلك, فبذلك ابتدء التوسع في التفريع والاستباط. ثانيًا: فروعهم التي فرَّعوها كانت أقل من فروع مَنْ بعدهم لزيادة توسع دائرة الأمة بعدهم، ثم لعدم فرضهم الصور العقلية كي يجتهدوا في استنباط أحكامها, وإ نما استنبطوا حكم ما ينزل من النوازل بالفعل, كما كان ذلك في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم, وكانوا يرون أن فرض الصور واستنباط أحكامها من التمحل في الدين وضياع الوقت النفيس. ثالثًا: أن السياسة كانت تابعة للفقه، ولم يكن الفقه تابعًا للسياسة، كما وقع في الأزمان المتأخرة؛ لأن الأمة كانت شورية دستورية، فمهما نزلت نازلة فزعوا إلى الشورى, فلم تصدر الفتوى والحكم إلّا عن تبصر وحكمة، ولذلك قلَّّما يبقى الخلاف. بخلاف الزمن النبوي الذي كان الخلاف فيه معدومًا، وبخلاف عصر مَنْ بعدهم الذي كثر فيه الخلاف لانعدام الشورى في غالبه، فمجلس أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ كان مجلس تشريع وفقه واستنباط ومشاورة، وخصوصًا الأولان منهم. رابعًا: كان الفقه في زمن الخلفاء هو دستور الأمة، وللأمة نهاية ما يكون من السيطرة على مراقبة أتباعه وتنفيذ نصوصه, فكان للفقه والفقهاء من السيطرة ما ليس للحقوقيين الآن عند الأمم الراقية كما سبق. خامسًا: وقوع الإجماع واتفاق الآراء في عصرهم غالبًا للأسباب التي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 قدمنا وأهمها الشورى. ولهذا قال أحمد وغيره من العلماء بتعذّر الإجماع بعدهم, لافتراق الأهواء بالشيعة والخارجية وفرقهما، ثم بتفرق العلماء والصحابة في الأقطار الشاسعة، فصار الخلاف إذا وقع بعدهم استحكم ولا يزول، لانبنائه غالبًا على سياسة قطر أو عادته, أو مبدأ من مبادئ الفرق وأحوال السياسة، فكل فريق يتعصب لنظريته، وقلَّما يتنازل عنها، فلا تجتمع الكلمة ولا يزول الخلاف؛ إذ ليس المقصود تبين الحق وإظهار حكم الله في مسألة, ولكن هي السياسة, يريدون تطبيق الفقه والدين عليها, وتحوير الفقه لأجلها لا تطبيقها وتحويرها على الفقه. وذلك لم يكن منه شيء زمن الخلفاء الراشدين، بل كان الفقه أصلًا وحكمًا, والسياسة فرع ومحكومة له. ومما زاد الدين صيانةً والفقه صراحةً زمن عمر, أنه كان منع المهاجرين وكبار الصحابة الخروج والانتشار في الأقطار التي فتحت، كما رواه الطبري عن الشعبي1، فما كان يسمع لهم في مفارقتهم المدينة إلّا برخصة منه مؤقتة لضرورة, فكانوا أهل شوراه، وبسبب ذلك قلَّ الخلاف وتيسَّر الإجماع في كثير من المسائل، أما عثمان فرخَّص لهم في الانتشار, وبه بدأ الخلاف والنزاع في الدين والسياسة معًا. ولا ندَّعي أنه لم يقع خلاف زمن الخلافة, وإنما كان قليلًا: فقد خالف عمر أبا بكر في أشياء، كاسترقاق أهل الردة, فإن أبا بكر استرقَّهم, أما عمر فإنه رأى خلاف ذلك، وبلغ خلافه إلى أن ردَّهن حرائر إلى أهلهن إلّا ما ولدت لسيدها منهن نقض حكم أبي بكر في ذلك، ومن جملتهن خولة الحنفية, أم محمد بن علي, الذي يقال له محمد بن الحنفية. وخالفه في أرض العنوة؛ إذ قسمها أبو بكر ووقفها عمر، وفي العطاء كان أبو بكر يقسمه سوية, وفاضل فيه عمر على حسب السابقية. وقد استخلف أبو بكر عمر، والنبي -صلى الله عليه وسلم- لم يستخلف, وفي الأمر سعة،   1 تاريخ الطبري "4/ 397". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 لكن عمر توسَّط فتركها شورى بين ستة, بمعنى أنه أوصى بها لواحد منهم, يسميه خمسة منهم بأغلبية الأصوات. كما أن عثمان خالف عمر في مسائل، وعليًّا خالفهما في مسائل يطول جلبها, وربما بعضها جملًا اعتراضية إن شاء الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 صورة وقوع الخلاف في عهد الخلفاء الراشدين : وقع ذلك على أنواع: الأول: أن يسمع صحابي حكمًا في قضية لم يسمعه الآخر فيجتهد برأيه، وهذا على وجوه: منها: أن يقع اجتهاده وفق الحديث، ففي الصحيحين قضية ذهاب عمر إلى الشام, فسمع بوجود الطاعون وهو بسَرْغ, وأراد الرجوع بالمسلمين، فقال له أبو عبيدة: أتفِرّ من قدر الله، فقال له عمر: لو غيرك قالها، نعم نفِرُّ من قدر الله إلى قدره, أرأيت لو كان لك إبل فهبطت واديًا له عدوتان؛ إحداهما خصبة والأخرى جدبة, أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله. ثم جاء عبد الرحمن بن عوف وروى الحديث: "إذا كان في أرض فلا تقدموا عليها" الحديث فحمد الله عمر ثم انصرف1. وروى مثله أسامة، وسعد بن أبي وقاص، وخزيمة بن ثابت، كما في صحيح مسلم2. ورى الترمذي والنسائي وغيرهما: أن ابن مسعود سئل عن امرأة مات زوجها ولم يفرض لها صداقها، فقال: لم أر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقضي في ذلك. فاختلفوا إليه شهرًا وألحول فاجتهد برأيه, وقضى بأن لها مهر نسائها لا وكس ولا شطط, وعليها العدة ولها الميراث، فقام معقل بن يسار فشهد بأنه صلى الله عليه وسلم قضى بمثل ذلك، ففرح ابن مسعود فرحة لم يفرحها قط3، وكان سيدنا علي يخالفه في   1 متفق عليه: البخاري "8/ 168"، ومسلم "7/ 26". 2 متفق عليه أيضًا: البخاري "7/ 168"، ومسلم "7/ 26". 3 أخرجه الترمذي "3/ 441"، وأبو داود "2/ 237"، والنسائي "6/ 98"، وابن ماجه "1/ 609". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 الصداق، ويقول: لا صداق لها, ولا نقبل قول أعرابي من أشجع على كتاب الله، قال تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} 1، لكن الآية في الطلاق، فقاس عليه الموت, فقدَّم القياس على خبر الواحد كما هو مذهب الحنفية2. ومنها: أن يكون عند صحابي علم بناسخ لم يكن عند الآخر: كتطبيق اليدين في الركوع, أخذ به ابن مسعود ولم يطَّلع على أنه منسوخ, واطَّلع سعد بن أبي وقاص على ناسخه فرواه, وأخذ به جمهور الفقهاء, والحديثان في الصحيح3. ومنها: أن يقع بينهم المناظرة ويظهر الحديث بالوجه الذي يقع به غالب الظن, فيرجع عن اجتهاده إلى المسموع. منه: ما رواه الأئمة من أن أبا هريرة كان يرى أنَّ من أصبح جنبًا لا صوم له, أخبرته بعض أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- بخلاف مذهبه فرجع4. ومنه حديث البخاري عن هزيل -بالزاي- بن شرحبيل قال: سئل أبو موسى الأشعري عن ابنة وابن ابنة وأخت، فقال: للابنة النصف، وللأخت النصف، وائت ابن مسعود فسيتابعني, فسئل ابن مسعود وأخبر بقول أبي موسى فقال: لقد ضللت إذًَا وما أنا من المهتدين، أقضي فيها بما قضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم؛ للابنة النصف، ولابنة الابن السدس تكلمة الثلثين، وما بقي فللأخت. فأتينا أبو موسى فأخبرناه بقول ابن مسعود، فقال: لا تسألوني ما دام هذا الحبر فيكم5. قال ابن عبد البر: لم يخالف في ذلك إلّا أبو موسى وسلمان بن ريبعة   1 البقرة: 236". 2 انظر نيل الأوطار "6/ 172". 3 البخاري في الأذان: "1/ 189"، ولم أجده في مسلم. 4 البخاري "3/ 38"، من حديث أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، ولكن لفظه.. " .... كذلك حدثني الفضل بن عباس وهو أعلم ... ", ورواية أخرى: " ... وهن أعلم", وبينهما فرق شاسع، وقد حقّق ذلك الحافظ في الفتح فانظره "4/ 103". 5 البخاري "8/ 188". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 الباهلي، وقد رجع أبو موسى، ولعل سلمان بن رجع كأبي موسى، وهو مختلف في صحبته, وله أثر في فتوح العراق أيام عمر وعثمان، واستهشد في زمنه, فأخذ أبو موسى باجتهاده قبل البحث عن النص، ويؤخذ منه وجوب الرجوع لخبر الواحد بعد معرفته, وأن حكم الحاكم ينقض إذا خالف نصًّا، إلى غير ذلك. ومنه ما وقع لعمر حيث قضى في دية الإبهام والتي تليها بخمس وعشرين ناقة, حتى أخبر أن في كتاب آل عمرو بن حزم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قضى فيها بعشر عشر، فترك قوله ورجع إليه1. وكذلك خفي عليه رجوع المستأذن إذا استأذن ثلاثًا، فلم يؤذن له، حتى أخبره به أبو موسى، وأبو سعيد وأُبَيّ بن كعب, كما في الصحيح2، وتقدَّمت أمثلة من هذا الباب في آخر اجتهاد عمر. ومنها اختلاف أبي بكر وعمر في مانعي الزكاة, هل يقَاتَلون أم لا، لقوله عليه السلام: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله" الحديث، أخذ عمر بعمومه, فقلب أبو بكر الحجة التي هي هذا الحديث نفسه على عمر, ورأى قياسهم على من امتنع من الصلاة فقال: والله لأقاتلن من فرّق بين الصلاة والزكاة3. وقتال الممتنعين من الصلاة كان معلومًا لعمر؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا سمع الأذان كفَّ عن القتال وإلا قاتل, وقال في المتخلفين عن الجماعة: "لقد هممت أن أحرّق عليهم بيوتهم" 4، وتحرق البيوت اعتادوا أن يكون في القتال, ولا يهم -صلى الله عليه وسلم- بما لا يجوز، ودلّ تسليم عمر لقياس أبي بكر أن القياس يخصِّص العموم، ويؤيد أبا بكر ظاهر القرآن أيضًا, قال تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} 5، فجعل إيتاء الزكاة شرطًا في عصمة الدم،   1 انظر نيل الأوطار "7/ 57". 2 متفق عليه: وسبق تخريجه. 3 روى المناقشة أبو هريرة وحديثه في البخاري في الزكاة "2/ 131"، ومسلم في الإيمان "1/ 38". 4 متفق عليه: البخاري في الأذان "1/ 158"، ومسلم في المساجد "3/ 123". 5 التوبة: 11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 والأخوة في الدين، ومفهومه أن مانعها ليس كذلك، وفي الآية الأخرى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} 1، ثم ظهر حديث ابن عمر وأبي هريرة وغيرهما بزيادة: "ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة"، كما في الصحيح2، ولم يكن عمر يعلم هذه الزيادة, ولو علمها ما بقي محل للنزاع, ولو علمها أبو بكر ما استدل بها، فما وقع في النسائي من طريق أنس بإثباتها في مجادلتها غير محفوظ3، والمحفوظ ما في الصحيحين، وعلى ثبوتها أمارتان، فيكون دليلًا لمن أجاز من الأصوليين اجتماع دليلين على مدلولواحد؛ لأنهما أمارتان, ولمن أجاز اجتماع القياس والنص الموافق له. ومنها: أن يبلغه الحديث ويجد له معارضًا من القرآن بحسب اجتهاده فيطعن فيه، ومنه ما رواه أصحاب الأصول من أن فاطمة بنت قيس شهدت عند عمر بن الخطاب أنها كانت مطلقة الثلاث, فلم يجعل لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نفقة ولا سكنى, فردّ شهادتها، وقال: لا نترك كتاب الله, أعني: قوله تعالى: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} 4 لقول امرأة لا ندري أحفظت أم نسيت لها النفقة والسكنى5. وقالت عائشة: لا خير لها في ذكر هذا الحديث. وفي مسلم قالت فاطمة: يا رسول الله, أخاف أن يقتحم علي. قال: "أخرجي" 6، وفي البخاري عن عائشة: كانت في مكان وحش فخيف عليها7، وقالت فاطمة: بيني وبينكم كتاب الله، قال الله تعالى: {لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} 8، أي: أمر يحدث بعد الثلاث9، فتبيَّن أن الآية في تحريم الإخراج, والخروج إنما هي في الرجعية وصدقت، وهكذا هو في الآية   1 التوبة: 5. 2 متفق عليه: البخاري "1/ 14"، ومسلم "1/ 39". 3 النسائي "8/ 96". 4 الطلاق: 1. 5 مسلم "4/ 198". 6 مسلم "4/ 197". 7 البخاري: "7/ 74". 8 الطلاق: 1. 9 متفق عليه: البخاري "7/ 74، ومسلم واللفظ له "4/ 197". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 الأولى بدليل آخرها وهو: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} 1، غير أن عمر رأى القياس على أصل القرآن القطعي مقدَّمًا على خبر الواحد, لكن ثبت ذلك أيضًا في المبتوتة من الآية الأخرى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} 2, وتبيَّن أن صراحة القرآن إنما هي في السكنى دون النفقة, ولذلك أوجب مالك السكنى للمطلقة مطلقًا, والنفقة للرجعية فقط دون البائن جمعًا بين الأدلة, إلّا إذا كانت حاملًا ما لم يمت المطلِّق, فلا نفقة ولا سكنى للرجعية في التركة لإرثها بخلاف البائن, فالسكنى لها دين في التركة, وتنقطع الحامل بالوضع أو الموت أو بلوغ أقصى الحمل. ومن هذا المعنى حكم عثمان بأن المختلعة لا عدَّة عليها، وإنما تستبرأ بحيضة، ذاهبًا إلى أن الخلع فسخ لا طلاق، محتجًا بأن زوجة ثابت بن قيس بن شماس لما اختلعت منه أمرها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن تتربَّص حيضة واحدة كما في النسائي والترمذي وحسنه3، وفي الترمذي أيضًا أن الربيع بنت معوذ اختلعت على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم, أو أمرت أن تعتدَّ بحيضة. قال الترمذي: الصحيح أنها أمرت أن تعتد بحيضة4, ولعله يشير إلى ما رواه ابن سعد أن الذي أمرها عثمان في حصاره سنة خمسة وثلاثين5، أما من لا يرى تخصيص القرآن القطعي بالخبر الظني بل تقديم القرآن عليه, ويرى أن الخلع طلاق, فيفتي بلزوم العدة وهو مذهب المالكية، وهذا من المسائل التي قدَّم فيها مالك ظاهر القرآن، ورآه قادحًا في خبر الآحاد ويعضده حديث: "أتردين عليه حديقته" قالت: نعم، قال: "فطلقها طلقة واحدة" 6، ومهما كان طلاقًا لزمت العدة لقوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} 7. ومن ذلك ما رواه الشيخان أن عمر كان يرى التيمم بدلًا عن الوضوء لا الغسل, فالجنب لا يتيمم, فروى عنده عمار بن ياسر أنه كان في سفر فأصابته جنابة   1 الطلاق: 6. 2 الطلاق: 2. 3 أخرجه الترمذي في الطلاق "3/ 482"، وأما رواية النسائي فليس فيها أنه أمرها أن تتربص حيضة واحدة "6/ 140"، والحديث أصله في الصحيح. البخاري "7/ 60". 4 الترمذي "3/ 482". 5 طبقات ابن سعد. 6 أخرجه البخاري في الطلاق عن ابن عباس "7/ 60". 7 الطلاق:1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 ولم يجد ماء فتمعَّك في التراب, فذكر ذلك لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "كان يكفيك تفعل هكذا, وضرب بيده الأرض, فمسح وجهه ويديه" فلم يقبل منه عمر، وقال له: نوليك من ذلك ما توليت1. ولم ينهض عنده حجة تقاوم ما رآه من أن الملامسة في آية التيمم الملاعبة التي هي من نواقض الطهارة الصغرى, حتى استفاض الحديث في الطبقة الثانية من طرق كثيرة, واضمحلَّ وهم القادح فأخذوا به. النوع الثاني: أن لا يوجد نص فيختلفوا في الاجتهاد، كالزوج العبد إذا طلق الحرة طلقتين، قال عثمان، وزيد بن ثابت: لا تحل حتى تنكح زوجًا غيره اعتبارًا بحال الزوج، وخالفهما عليٌّ فقال: لا تحرم حتى يطلقها ثلاثًا اعتبارًا بحال الزوجة، وترجّح الأول؛ لأن الزوج هو الذي بيده عقدة النكاح. وقد يُستدل للثاني بأن الله وضع عن الرقيق نصف العذاب، وهذا زيادة عذاب فلا يقاس على الحد2. ومنه فتوى عثمان بإرث الزوجة من الزوج الذي طلق في مرض الموت ولو انتقضت العدة، وروي عن عمر تقييده بما لم تنقض العدة. النوع الثالث: اختلافهم في استعمال اللغة، فقد أفتى ابن مسعود ووافقه عمر بأن المطلقة لا تخرج من عدتها إلّا إذا اغتسلت من الحيضة الثالثة، وأفتى زيد ابن ثابت بخروجها بمجرد ما تحيض, فالأول مبني على أن القرء في الآية الطهر، والثاني: الحيض. ومن ذلك قول أبي بكر: إن الجد أب, فأنزله في الميراث منزلته في كل الأحوال مستدلًا بنحو قوله تعالى: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي} 3, قال البخاري: ولم يذكر أن أحدًا خالفه في زمانه وأصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- متوافرون، قال: ويذكر عن عمر وعلي وابن مسعود وزيد أقاويل مختلفة, يعني: بعده، فرأوا أن إطلاق الأب عليه مجاز, ولو سلمنا بأنه حقيقة فلا يلزم من الإطلاق اللغوي استحقاق   1 متفق عليه: البخاري "1/ 89"، ومسلم "1/ 193". 2 انظر نيل الأوطار "6/ 238". 3 يوسف: 38. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 الإرث, والمسألة تراجع في محلها1. النوع الرابع: اختلافهم في التمسُّك بأصل من الأصول، كتزوج مطلقة في العدة بغير الزوج المطلِّق, فقد حكم عمر بتأبيد الحرمة معاملة له بنقيض القصد, وزجرًا عن مخالفة أمر الله, ومحافظة على النسل, أخذًا بالمصالح المرسلة، وخالفه علي تمسكًا بالبراءة الأصلية, ولا نصَّ في القرآن لواحد منهما، وقد تقدَّم هذا. كما تقدَّم استحسان عمر جعل الأرض العنوية حبسًا، وإيقاع الثلاث على من تلفَّظ بها في مرة واحدة أخذًا بالمصلح المرسلة2. وروى الإمام أحمد عن سلامة بنت معقل قلت: كنت للحباب ابن عمرو ولي منه غلام, فقالت لي امرأته: الآن تباعين في دينه، فأتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فذكرت ذلك له, فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "من صاحب تركة الحباب"؟ فقالوا: أخوه أبو اليسر كعب بن عمرو, فدعاه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: " لا تبيعوها وأعتقوها, فإذا سمعتم برقيق قد جاءني فائنوني أعوضكم" 3, ففعلوا, فاختلفوا بينهم بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم, فقال قوم أم الولد مملوكة لولا ذلك لم يعوضهم، وقال بعضهم: هي حرة حيث أعتقها, فمن ثَمَّ كان الاختلاف. فهذه أمثلة من كيفية اجتهاد الخلفاء الراشدين ومخالفة من خالفهم, فهي الأصل الذي حذا حذوه المجتهدين والفقهاء بعدهم، وقد رأيت أن جلّ ما كان يقع من الخلاف يضمحل لمكان الشورى، وتوفر جمهور الصحابة لديهم, فتظهر السنة ويعتمدونها فيضحمل الخلاف، ويعلم ذلك بتتبع كتب الصحاح وممارسة كتب الفقه القديمة كموطأ مالك والمدونة والأم للشافعي ونحوها.   1 البخاري "8/ 188". 2 سبق. 3 أحمد في مسنده "6/ 360". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 عصر صغار وكبار التابعين بعد الخلفاء الراشدين إلى آخر المائة الأولى : فلذلكة تاريخية: تقدَّم أن الخلافة عام أحد وأربعين أفضت إلى معاوية، فقام بها أحسن قيام، وبموته افترقت الأمة على ولده يزيد الذي عهد له بالخلافة ولم يرضوه، فثار أهل المدينة، ولكن أخضعهم يزيد ونكّل بهم، فمات في وقعتها التي تسمَّى وقعة الحرة كثير من الصحابة من أهل بدر وغيرهم, وكان ذلك مؤثرًا على الفقه أيضًا، وقام سيدنا الحسين في العراق فقتله أيضًا، فحقدت الأمة أجمع على بني أمية بسبب قتل سبط الرسول، وزاد الشيعة تألبًا واحتدامًا، وثار ابن الزبير بمكة وبقي كذلك، ومات يزيد، فتولّى ولده معاوية، ثم مروان بن الحكم بن العاص، ثم ولده عبد الملك الإمام الداهية الفحل الذي به اجتمعت الأمة, ولكن بقوة واستبداد الحجاج بن يوسف الثقفي الذي أسرف في سفك الدماء وقتل كثيرًا من علماء التابعين، ثم تولّى ولده الوليد بن عبد الملك أعظم ملوك بني أمية, وأوسع ملوك الإسلام ممكلة على الإطلاق، ثم سليمان بن عبد الملك، ثم عمر ابن عبد العزيز بن مروان, الإمام العدل الذي رجع بالخلافة إلى أصلها وأحييى الشورى، ولكنه عاجلته المنية سنة "101" مائة وواحد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 الفقه زمن معاوية فمن بعده: إن معاوية لم يؤسس خلافته على ما كانت مؤسسة عليه قبله من رابطة الشورى الحقيقية، بل أسسها على قاعدة العصبية والملك، وهي عصبية فريق من الأمة لا كلها، وذلك الفريق هم بنو عبد شمس من قريش ومواليهم الذين كان معاوية ولَّاهم ثغور الشام ومدنه وأوطنهم إياه, وجعل لنفسه هناك صنائع من غيرهم، والعصبية داعية إلى الأثرة والاستبداد، فتغيَّر الحال عَمَّا كان عليه من قبل، فبعد ما كانت قوة نفوذ الخليفة مستمدَّة من الجامعة الإسلامية قاطبة, ومن عموم الأمة الذي يجب عليه أن يرضيه بالمساوة والمشورة والاشتراك في الرأي، أصبحت مستمدَّة من فريق من الأمة, يجب عليه أن يؤثرهم ويرضيهم ولا عليه في الباقي، فتغيَّر الفقه عمَّا كان عليه من قبل، ولولا فضل معاوية وحسن سياسته لوقع القضاء على الأمة والفقه، إلا أن وقوع الاستبداد أثَّر على الفقه كثيرًا، وإليك مثالًا من ذلك: كتب مروان إلى أسيد بن حضير الأنصاري وكان عاملًا على اليمامة, بأن معاوية كتب إليه أن الرجل الذي تسرق منه سرقة فهو أحق بها حيث وجدها، فكتب أسيد إلى مروان: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- قضى بأنه إذا كان الذي ابتاعها من الذي سرقها غير متَّهم يخيَّر سيدها, فإن شاء أخذ الذي سرق منه بثمنه, وإن شاء اتبع سارقه, ثم قضى بذلك أبو بكر وعمر وعثمان, فبعث مروان بكتاب أسيد إلى معاوية، فكتب معاوية إلى مروان: إنك لست أنت ولا أسيد تقضيان علي, ولكني أقضي فيما وليت عليكما, فأنفذ ما أمرتك به, فبعث مروان بكتاب معاوية إلى أسيد فقال: لا أقضي ما وليت بما قال معاوية. رواها النسائي في البيوع1. ومن تأمَّل هذه القصة يعلم مبدأ الاستبداد في أمر الأمة, وتغيُّر ما كانت عليه   1 النسائي "7/ 275". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 الحال من أمر الشوى, وإن كان جلالة أسيد وسابقيته، وبالأخص عصبيته الأنصارية وقفت دون الاستبداد, وفتحت له طريق التصلب في الحق، لكن لو كان والٍ غيره ليس له تلك الحيثية, فإنه يذهب مع التيار الأغلب, وهذا أمر لا شك أنه مؤثر على الفقه، وكلٌّ يعلم أن الاستبداد ماحٍ للاجتهاد موجب للتقليد. ومن أسباب تغير الفقه تفرُّق الصحابة في الأقطار الإسلامية للفتح والغزو, ثم التعليم والتهذيب والاستيطان للحراسة والرباط، وكل صحابي كان يحضر ويشهد مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما لم يحضره غيره, ولا يحضر بقية الأقضية والنوازل، فكان كل واحد يأخذ بما شهده, ويترك ما غاب عنه, فنشأ الاختلاف والمذاهب, وتعدَّدت الروايات عند العراقيين والحجازيين والشاميين واليمنيين والمصريين والخراسانين، وهلمَّ جرا, وتقدَّم أن انتشارهم كان زمن عثمان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 مشاهير أهل الفتوى في هذا العصر من الصحابة -رضي الله عنهم: ترجمة ابن عباس : هم كثيرون تقدَّم بعضهم بتراجمهم, ويأتي في الترجمة بعد هذه سرد عدد وافر منهم، وهنا نذكر تراجم أربعة منهم مشاهير على سبيل التبرك؛ لتعلم أن هذا العصر كان بهم مزدانًا, وهم أحق أن يقدموا قبل التابعين السابقين، بل الأولان منهم أحق أن يقدَّما على كثير من الصحابة السابقين, كما يعلم من تراجمهم, لكنا تسامحنا في الترتيب, وفي مثل ذلك لا يناقش لبيب. الإمام أبو العباس عبد الله بن عباس: فهو ابن عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم, انتهت إليه الرياسة في الفتوى والتفسير بعد عصر الخلفاء ببركة دعائه -صلى الله عليه وسلم- حيث قال: "اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل"1، قال ابن حزم: هو أكثر الصحابة فتيا على الإطلاق. وقد جمع فتاويه أبو بكر محمد بن موسى بن يعقوب بن الخليفة المأمون, أحد أئمة الإسلام في العلم والحديث في عشرين مجلدًا2، وهو عندي أحق من يصدق عليه حديث: "عالم قريش الذي يملأ الأرض علمًا" وإن كان الحديث متكلمًا فيه3، وانظر إلى تلاميذه الذين تخرجوا به: كعكرمة مولاه4، وسعيد ابن جبير، ومجاهد5، وعطاء6، وكريب7 مولاه أيضًا، ....   1 متفق عليه: البخاري في الوضوء واللفظ له "1/ 47"، ومسلم في فضائل الصحابة "7/ 158". 2 ت سنة 342 هـ، انظر الأعلام للزركلي "7/ 339". 3 انظر المقاصد الحسنة للسخاوي "1/ 198". 4 عكرمة البربري أبو عبد الله المدني. 5 ابن جبر المكي أبو الحجاج. 6 ابن أبي رباح أبو محمد المكي. 7 ابن أبي مسلم الهاشمي مولاهم أبو رشدين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 وأبي الشعثاء1، وطاوس2، وسعيد بن المسيب، وكثير غيرهم. كلهم ملأوا الأرض علمًا ونورًا وفقهًا وتفسيرًا, وكانوا صفوة أهل الأرض في زمنهم -رضي الله عنهم, وهو معدود أيضًا من المكثرين في رواية الحديث, فقد روى "1660" حديثًا, لكن الذي رواه منها سماعًا "25", والباقي عن الصحابة, كذا قال البزدوي3، ونوزع في ذلك. وعلى كل حالٍ فإن جلّ مروياته عن كبار الصحابة كعمر وزيد وأمثالهما، قال ابن عباس: لما مات النبي -صلى الله عليه وسلم, قلت لرجل من الأنصار: هلمَّ بنا نسأل الصحابة, فإنهم اليوم كثير، قال: واعجبًا لك, أترى الناس يحتاجون إليك؟ قال: فترك ذلك وأقلبت أسأل. قال: إن كان ليبلغني الحديث عن رجل فآتي بابه وهو قائل, فأتوسَّد رداءي على بابه يسفي الريح علي من التراب, فيخرج فيراني فيقول: يا ابن عم رسول الله, ما جاء بك, هلا أرسلت إلي فآتيك، فأقول: لا, أنا أحق أن آتيك, فأسأله عن الحديث, فعاش الرجل الأنصاري حتى رأني وقد اجتمع الناس حولي يسألوني فقال: هذا الفتى كان أعقل مني. ويعد أول من فسَّر القرآن, ولذلك يقال له ترجمان القرآن, وقد فسَّره غيره قبله كعمر وعلي, لكن في زمن ابن عباس بدأ اختلاط اللغة, واحتاج القرآن للمفسِّر، فتكلَّم في ذلك ابن عباس كثيرًا واستعان عليه بكثرة ما روى من السُّنَّة وأشعار العرب الذين نزل بلغتهم, وأظن أنه أوّل من أخذ تفسير القرآن من الشعر العربي وأمثالهم وخطبهم. وروي عنه تفسير مطبوع بأسانيد معروفة في فهارس العلماء، قال أبو جعفر النحاس في معاني القرآن بإسناده إلى أحمد بن حنبل، قال: بمصر صحيفة في التفسير رواها علي بن أبي طلحة, لو رحل رجل فيها إلى مصر قاصدًا   1 جابر بن زيد الأزدي. 2 ابن كيسان اليماني. 3 فخر الإسلام علي بن محمد بن الحسين، من أئمة الحنفية، ت سنة 482هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 ما كان كثيرًا. قال في فتح الباري: وهذه النسحة كانت عند أبي صالح كاتب الليث, رواها عن معاوية بن صالح, عن ابن أبي طلحة, عن ابن عباس, وهي عند البخاري عن أبي صالح, وقد اعتمد عليها كثيرًا في صحيحه، وهي عند الطبري وابن أبي حاتم وابن المنذر بوسائط بينهم وبين أبي صالح, من أول سورة الحج. فإذا أنصفنا جزمنا بأن ابن عباس هو واضع علم التفسير ومخرجه من العدم, وأول من ألّف فيه قبل مالك وغيره, فهو حَبْر الأمة، وهو ممن ظهر فيه النبوغ العربي في هذا العصر بأكثر معانيه علمًا وفصاحة وكمالًا. وألمعيته يُضْرَبُ بها المثل، كما قال الحريري في المقالة السابعة: إذًا ألمعيتي ألمعية ابن عباس, وفراستي فراسة إلياس، قال عطاء: ما رأيت أكرم من مجلس ابن عباس؛ أصحاب الفقه عنده, وأصحاب القرآن عنده, وأصحاب الشعر عنده, يصدرهم كلهم من وادٍ واسع، قال مسروق1: إذا رأيت ابن عباس قلت أجمل الناس, فإذا نطق قلت: أفصح الناس, فإذا تحدث قلت: أعلم الناس. قال ابن المديني2: إن ابن عباس وان مسعود وزيد بن ثابت كان لكلٍّ منهم أتباع في الفقه يدون في علمهم وفيتاهم قولهم. نقله السخاوي في شرح ألفية العراقي، وتوفي بالطائف حوالي سنة 68 ثمان وستين3.   1 ابن الأجدع. 2 علي بن عبد الله. 3 الإمام أبو العباس عبد الله بن عباس: مروج الذهب "3/ 370"، وأسد الغابة "3/ 524"، تهذيب الأسماء "1/ 1/ 312"، تاريخ الإسلام "2/ 304"، والعبر "1/ 36"، وتهذيب التهذيب "2/ 265"، ومرآة الجنان "1/ 130"، والبداية والنهاية "8/ 90"، العقد الثمين "5/ 309". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 ترجمة ابن عمر : عبد الله بن عمر بن الخطاب: من السابقين للإسلام, حتى قيل إنه أسلم قبل أبيه ولم يصح، شهد مع النبي -صلى الله عليه وسلم- الخندق وما بعدها, ولم يقبل في أحد لكونه لم يبلغ خمس عشرة من عمره إذ ذاك. كان من زهَّاد الصحابة وعبَّادهم وأعلامهم وأجوادهم وعقلائهم, رشحه أبوه لرئاسة الشورى شرفيًا, وجعله فيها مستشارًا, ولم يجعل له صوتًا لئلّا تصيبه الخلافة, فكان فيها رئيسًا منفذًا. أقام يفتي المسلمين نحو ستين سنة, فلو جمعت فتاويه لكانت مجلدًا ضخمًا، وعلمه وفضله أشهر من أن يذكر. وهو من المكثرين في الحديث، وقد تخرّج به تلاميذه؛ كولده سالم، ومولاه نافع، وغيرهما, وعن مذهبه في الفقه تفرَّع مذهب المدنيين، ثم مالك وأتباعه كما ترى ذلك في الموطأ والمدونة، على قلة ما كان له من الاستنباط في الفقه؛ إذ كان تعويله فيه على لفظ الحديث, فهو في الرتبة الثانية من حيث الإكثار بعد ابن عباس من أهل هذه الطبقة، وعدّه ابن سلطان1 في شرح المشكاة من أهل الفتوى على العهد النبوي. قال ميمون بن مهران: ما رأيت أورع من ابن عمر ولا أعلم من ابن عباس، وقال جابر: ما منا أحد إلّا مالت به الدنيا ومال بها ما خلا عمر وابنه عبد الله، توفي سنة 73 ثلاث وسبعين، عن أربع وثمانين2.   1 الملا علي بن سلطان القاري, ت سنة 1014. الأعلام "5/ 166". 2 عبد الله بن عمر بن الخطاب: الإصابة "4/ 181"، والاستيعاب "3/ 950",، وأسد الغابة "3/ 227". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 ترجمة معاوية بن أبي سفيان الأموي : الخليفة السادس في الإسلام, بويع البيعة العامَّة عام إحدى وأربعين، وكان إسلامه قبل الفتح, وإنما أظهره في الفتح، وكان من الكتبة الحسبة الفصحاء, حليمًا وقورًا ذا عقل رصين ودهاء مكين، وكفاه أن توصّل به وبجده وسابق القدر للخلافة, مع وجود علي وسعد بن أبي وقاص من أهل الشورى, وابن عمر وأمثالهم، وكان وجيهًا في الإسلام إذ كتب للنبي -صلى الله عليه وسلم, وولاه عمر الشام، ثم أقرَّه عثمان، ولم يبايع عليًّا بل حاربه, ثم استقلّ بالخلافة لما تنازل الحسن عنها له, ولمَّ شعث الإسلام وجمع الكلمة بعد الفرقة, وسكَّن الثائرة, وأعاد مجد الإسلام غزوًا وفتحًا وعظمة، عاش عشرين سنة خليفة، وعشرين سنة قبلها واليًا، ثم مستبدًا, ومن فقهه ما في الصحيح عن عكرمة, قلت لابن عباس: إن معاوية أوتر بركعة؟ قال: إنه فقيه1. وخطب الناس بالمدينة فأمرهم بإخراج صدقة الفطر, وأفتاهم أن يخرجوا من القمح نصف صاع أو صاعًا من شعيرًا أو تمر2، وبه أخذ الحنفية فصارت زكان الفطر تُقوَّم عندهم. قال ابن عباس: ما رأيت أحدًا أحلى للملك من معاوية, وكان رزقه أيام عمر ألف دينار في كل سنة, فكان رزقه أعظم من رزق الخليفة وغيره بكثير، ومن أقبح ما يذكر في تاريخه سبَّه لعلي -رضي اله عنه, ولولا أنه في صحيح مسلم ما صدقت بوقوعه منه, وما أدري ما وجه اجتهاده فيه, حتى كانت سنة من بعده, والله يغفر له, وليست العصمة إلا للأنبياء. وهو أوّل من صيَّر الخلافة ملكًا وراثيًّا, وسنَّ السلطة الشخصية في الإسلام؛ إذ جعل ولده ولي عهده، وما كانت قبله إلّا شورى بالاستحقاق، وكان الخليفة شوريًّا مقيدًا، فصار هو مطلقًا، فهو أول من سنَّ الإطلاق وهدم أساس الشورى التي كانت موجودة في الإسلام ولم يتم نظامها، فهدم مبادئ الديمقراطية وأسَّس بيت الملك بعدما كانت خلافة عن الرسول في إقامة العدل بمعونة الشورى، فصيرها عصبية استبدادية في بيت بني أمية, وأمات ما كان في الأمة من حياة الديمقراطية والشورى، وخدَّرها بسطوة الملك والعصبية، فبقيت به نائمة إلى الآن. وهو الذي أسَّس دولة الأمويين العظمى التي هي أعظم دولة للإسلام في المشرق، وعنها تكونت دولة الأمويين في الأندلس التي هي أعظم دولة إسلامية في الغرب، ونال ذلك بفضله وعلمه وحلمه وفصاحته وجوده وحسن تدبيره وسياسته، ولا تنكر له فتوحات وخدمات في الإسلام -رضي الله عنه وعن الصحابة أجمعين، توفي سنة "60" ستين3.   1 البخاري في فضائل أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم, باب ذكر معاوية -رضي الله عنه "5/ 35". 2 رواه أبو سعيد الخدري، متفق عليه: البخاري "2/ 162"، ومسلم "3/ 69". 3معاوية بن أبي سفيان الأموي: الإصابة "6/ 151"، والاستيعاب "3/ 1416"، وأسد الغابة "4/ 385". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 ترجمة عبد الله بن الزبير القرشي الأسدي : أول مولود وُلِدَ للمهاجرين بالمدينة بعد الهجرة, فهو من صغار الصحابة, هاجر في بطن أمه، والده ابن عمة رسول الله، وأمه أسماء بنت أبي بكر، وربته عائشة في بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم, وقد اكتنفته كنانة النبوة. كان من أعلام الصحابة وفقهائهم ومفتيهم وشجعانهم، دعا لنفسه بعد موت معاوية، ثم بعد موت يزيد بالخلافة، فبايعه أهل الحجاز والعراق ومصر، عدا أهل الشام بايعوا مروان بن الحكم, إلى أن كان ما كان من قتل الحجاج له, واقتحام دخول مكة عنوة، كان صوامًا قوامًا فصيحًا لسنًا إلّا أنه نقصته بعض الخلال الأخلاقية الواجبة في الخليفة؛ كالحلم، والكرم، فتفرّق الناس عنه وخذلوه على فضله وعلمه ومجد آبائه وأمهاته. ولذا قال مالك: إنه أولى بالأمر من مروان وابنه, فهذه أولوية شرعية, أما الأولية السياسية فهي ما قد علمت1، وكان قتله بالبيت الحرام سنة "73" ثلاث وسبعين، وبقي في الخلافة تسع سنين, وفي الملك ثلاث عشرة سنة, وهو آخر خليفة من الصحابة2.   1 تفريق المؤلف في هذا المقام الأولوية الشرعية والأولوية السياسية مردود، فإن الأولى تتضمن الأخرى، فأبو ذر الغفاري الذي قال فيه النبي -صلى الله عليه وسلم:$"ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق ولا أوفى من أبي ذر, شبه عيسى بن مريم -عليه السلام ... " الترمذي "5/ 669" لم يعتبره النبي -صلى الله عليه وسلم- لائقًا بالإمارة فقال له: "يا أبا ذر, إنك ضعيف, وإنها أمانة, وإنها يوم القيامة خزي وندامة, إلّا من أخذها بحقها وأدَّى الذي عليه فيها" وفي رواية: "إني أراك ضعيفًا, وإني أحب لك ما أحب لنفسي, لا تأمرنَّ على اثنين ولا تولين مال يتيم" أخرجه مسلم "6/ 7"، ولذلك لم يكتف العلماء في شروط الإمام بالعدالة والعلم حتى تتوفر فيه من الصفات ما تتحق به الأهلية السياسية, وتجد هذا المبحث في الأحكام السلطانية للماوردي، ولأبي يعلى، وفي غيرهما في المراجع. "عبد العزيز القارئ". 2 عبد الله بن الزبير القرشي الأسدي: أبو بكر، الحميري، الأسدي، المكي، القرشي مات سنة 119، 219، أو 220. تهذيب التهذيب "5/ 216، 215"، تهذيب الكمال "2/ 682"، تقريب التهذيب "1/ 415"، الكاشف "2/ 86"، الخلاصة "2/ 56"، جامع المسانيد "2/ 515"، تراجم الأحبار "1/ 293، 2/ 278"، الجرح والتعديل "5/ 264"، نسيم الرياض "3/ 539"، الثقات "8/ 341". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 مراتب الصحابة في الإكثار من الفتوى : فأكثرهم على الإطلاق عبد الله بن عباس كما سبق، ويليه خمسة وهم: عمر، وابنه، وعلي، وابن مسعود، وزيد بن ثابت، وإن كان عمر سيد الفقهاء وسيد أهل الفتوى على الإطلاق, لما له من الموفَّقيّة والمبتكرات في الاجتهاد. فهؤلاء خمسة من الصحابة في رتبة واحدة من حيث كثرة الفتوى، هكذا نقل الشيخ الطالب بن الحجاج في الأزهار الطيبة, النشر عن ابن جزي -بجيم مضمومة وآخره ياء,1 وقد راجعت قوانين ابن جزي2 فلم أجد فيها ذلك, ولعله تصحيف عن ابن حزم -بالحاء المهملة المفتوحة وفي آخره ميم, ففي أول الإصابة ما نصه: أكثر الصحابة فتوى مطلقًا سبعة: عمر، وعلي، وابن مسعود، وابن عمر، وابن عباس، وزيد بن ثابت، وعائشة، فزاد عائشة. قال ابن حزم: ويمكن أن يجمع من فتيا كل واحد من هؤلاء مجلد ضخم. قال: ويليهم عشرون: أبو بكر، وعثمان، وأبو موسى، معاذ بن جبل، وسعد بن أبي وقاص، أبو هريرة، أنس بن مالك، عبد لله بن عمرو بن العاص، سلمان الفارسي، جابر بن عبد لله الأنصاري، أبو سعيد الخدري، طلحة بن عبيد الله، الزبير بن العوام، عبد الرحمن بن عوف، عمران بن حصين، أبو بكرة، عبادة بن الصامت، معاوية بن أبي سفيان، عبد الله بن الزبير، أم   1 محمد الطالب بن حمدون الحاج، ت سنة 1273هـ، ترجم له المؤلف في القسم الرابع. 2 محمد بن أحمد. الدرر الكامنة "3/ 446". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 سلمة, ويجمع من فتاوي كل واحد مجلد صغير. قال: وفي الصحابة نحو من مائة وعشرين نفسًا مقلون في الفتيا جدًّا، لا يروى عن الواحد منهم إلّا المسألة والمسألتان والثلاثة, ويمكن أن يجمع من فتياهم جميعهم جزء صغير بعد البحث؛ كأُبَيّ بن كعب، وأبي الدرداء، وأبي طلحة، والمقداد، وغيرهم، وسرد الباقين. وسردهم في أعلام الموقعين فزاد أبا اليسر، وأبا سلمة المخزومي، وأبا عبيدة بن الجراح، وأبا مسعود البدري، وسعيد بن زيد، والحسن والحسين ابني علي، والنعمان بن بشير، وأبا أيوب الأنصاري، وأبا ذر الغفاري، وأم عطية، وصفية أم المؤمنين، وأم حبيبة أم المؤمنين، وأسامة بن زيد، وجعفر بن أبي طالب، والبراء بن عازب، وقرظة بن كعب، ونافعًا أخا أبي بكرة لأمه، وأبا السنابل بن بعكك، والجارود العبدي، وليلى بنت فانف، وأبا محذورة، وأبا شريح الكعبي، وأبا برزة الأسلمي، وأسماء بنت أبي بكر، وأم شريك، والحولاء بنت تويت، وأسيد بن الحضير، والضحاك بن قيس، وحبيب بن مسلمة، وعبد الله بن أنيس، وحذيفة بن اليمان، وثمامة بن أثال، وعمار بن ياسر، وعمرو بن العاص، وأبا الغادية الجهني، وأم الدرداء الكبرى، والضحاك بن خليفة المازني، والحكم بن عمرو الغفاري، ووابصة بن معبد الأسدي، وعبد الله بن جعفر الهاشمي، وعوف بن مالك، وعدي بن حاتم، وعبد الله بن أبي أوفى, وعبد الله بن سلام, وعمرو بن عبسة, وعتاب بن أسيد, وعثمان بن أبي العاص، وعبد الله بن سرجس، وعبد الله بن رواحة، وعقيل بن أبي طالب، وعائذ بن عمرو، وأبا قتادة، وعبد الله بن معمر العدوي، وعمي بن سعلة، وعبد الله بن أبي بكر الصديق، وعبد الرحمن أخوه، وعاتكة بنت زيد بن عمرو، وعبد الله بن عوني الزهري، وسعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، وأبا منيب، وقيس بن سعد، وعبد الرحمن ابن سهل، وسمرة بن جندب، وسهل بن سعد الساعدي، وعمرو بن مقرن، وسويد بن مقرن، ومعاوية بن الحكم، وسهلة بنت سهيل، وأبا حذيفة بن عتبة، وسلمة بن الأكوع، وزيد بن أرقم، وجرير بن عبد الله البجلي، وجابر بن سمرة، وجويرية أم المؤمنين، وحسان بن ثابت، وحبيب بن عدي، وقدامة بن مظعون، وعثمان بن مظعون، وميمونة أم المؤمنين، ومالك بن الحويرث، وأبا أمامة الباهلي، ومحمد بن مسلمة، وخباب بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 الأرت، وخالد بن الوليد، وضمرة بن الفيض، وطارق بن شهاب، وظهير بن رافع، ورافع بن خديج، وسيدة نساء العالمين فاطمة بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم, وفاطمة بنت قيس، وهشام بن حكيم بن حزام، وأبا حكيمًا، وشرحبيل1 بن السمط، وأم سليم، ودحية بن خليفة الكلبي، وثابت بن قبيس بن الشماس، وثوبان مولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم, والمغير بن شعبة، وبريدة بن الخصيب الأسلمي، ورويفع بن ثابت، وأبا حميد الساعدي، وأبا أسيد، وفضالة بن عبيد، ومسعود بن أوس -روينا عنه وجوب الوتر، وزينب بنت أم سلمة، وعتبة بن مسعود، وبلالًا المؤذن، وعروة بن الحارث، وسياه بن رواح أو روح بن سياه، والعباس بن عبد المطلب، وبشر بن أرطاة، وصهيب بن سنان، وأم أيمن، وأم يوسف، والغامدية، وماعزًا، وأبا عبد الله البصري، فهؤلاء من نقلت عنهم الفتوى من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم. قال بن القيم: وما أدري بأي طريق عدَّ ابن حزم معهم الغامدية وماعزًا, ولعله تخيَّل أن إقدامهما على جواز الإقرار بالزني من غير استئذان لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو فتوى منهما لأنفسهما بجواز الإقرار, وقد أقرا عليها, فإن كان تخيل هذا فما أبعده من خيال, أو لعله ظفر عنهما بفتيا في شيء من الأحكام. قلت: وقد عدَّ سعد بن معاذ وعثمان بن مظعون وجعفر بن أبي طالب وغيرهم ممّن توفي في حياة رسول الله -صلى الله عليه وسلم, بناء على ما قدمناه من اجتهادهم في حياة رسول الله -صلى الله عليه وسلم؛ كاجتهاد سعد في حكمه على بني قريظة بإذنٍ من رسول الله -صلى الله عليه وسلم, ولم أقف على الإصابة على عبد الله بن معمر العدوي، والتحقيق أنه أنقلب للناسخ, وأنه معمر بن عبد الله بن نضلة العدوين, ففي مسلم عن سعيد بن المسيب عنه, أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يحتكر إلا خاطيء" فقيل لسعيد: إنك تحتكر، فقال: إن معمر الذي كان يحدث بهذا الحديث كان يحتكر2, وهذا من اجتهاد معمر فلا إشكال، وكذلك عمي بن سعلة لم يذكره في الإصابة.   1 قال المؤلف -رحمه الله: شراحيل بوزن مفاتيح. 2 مسلم في المساقاة "5/ 75". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 قلت: وفي ذكر أُبَيّ كعب، وأبي الدرداء، وعبد الله بن سلام وأمثالهم, فيمات لا تروى عنهم إلا المسألة والمسألتان نظر، وقد تقدَّم لنا أن بعضهم من أهل الطبقة التي قبل هذه، وبقي عليه كثير مثل: عقبة بن عامل الجهني, والفضل بن عباس، والمسور بن مخرمة، وعبد الله بن مخرمة، وعبد الله بن مغفل، والسائب بن يزيد، وعبد الرحمن بن سهل، وسهل بن حنيف، وأبي أمامة الأوسي، وإن كان هذا لم يدرك من الحياة النبوية إلا سنتين، ولم يصح له سماع, ولكنه من علماء وفقهاء كبار التابعين صحابي بالمولد، وأمثالهم ممن رويت عنه المسألة والمسألتان, أكثر ولم تكن رتبتهم في كثرة الفتوى على قدر رتبتهم في الرواية, فإن أبا هريرة له أحاديث "5374", وهو أقل فتوى من ابن عباس الذي ليس له من المرويات مباشرة إلا "25" حديثًا على ما قيل، حتى إن الحنفية لا يعدون أبا هريرة فقيهًا، وإنه لعجيب، ثم هؤلاء الصحابة تفرقوا في الأقطار التي فتحها الإسلام معلمين وولاة, فأفتوا وحكموا في النوازل التي تجددت, كل واحد على حسب ما سمع وحفظ من السنة, أو شاهد من أحكام النبي -صلى الله عليه وسلم, ثم الخلفاء بعده، ومن لم يجد فيما حفظ نصًّا اجتهد برأيه في العلة التي أدار النبي -صلى الله عليه وسلم- الحكم عليها في منصوصاته, فطرد الحكم حيث وجدها، لا يألون جهدًا في موافقة غرض الشرع الشريف، مراعين في ذلك أحوال وقتهم ومكانهم وأعراف بلدانهم، فوقع الاختلاف بينهم على أنواع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 صور من الخلاف الواقع في هذا العصر: منها: اختلافهم في تعارض عامَّين ما الذي يُقَدَّم منهما، ومثاله: عدة الحامل إذا وضعت, هل تنتهي بالوضع أو لا بُدَّ من أقصى الأجلين, بحيث إذا وضعت ولم تتم أربعة أشهر وعشرًا فلا بُدَّ من إتمامها؟ لعموم آية: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} 1, وإذا مضت الأربعة وعشر وهي حامل بقيت معتدة حتى تضع. أفتى بهذا ابن عباس فخصَّص عموم آية سورة الطلاق بعموم آية البقرة, فبلغ ابن مسعود فقال: من شاء لاعنته ما أنزلت: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} 2 إلّا بعد آية المتوفى عنها التي في البقرة, كأنه ذهب إلى النسخ فنسخ بعموم هذه الآية عموم البقرة لتأخرها, وأيضًا إن عموم: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ} بالذات فيقدَّم, وعموم: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْن} بالعرض, وأيضًا الحكم في ذوات الأحمال معلل بخلافه في الأخرى فإنه تعبدي، والتحقيق أن لا نسخ وإنما هو تخصيص العموم الثاني بالأول لقوته، على أن حكمه -عليه السلام- في قضية سبيعة الأسلمية بأن العدة وضع الحمل أزال الخلاف, وبيَّن المخصَّص منهما، وهي في الصحيح وفي النسائي مبسوطة3. ومنها: أن لا يصل الحديث الصحابي أصلًا: أخرج مسلم أن ابن عمر كان يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقضن رءوسهن, فسمعت عائشة بذلك، فقالت: عجبًا لابن عمر, كنت أغتسل أنا ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- من إناء واحد وما أزيد على أن أفرغ على رأسي ثلاث إفراغات4, وقد ردَّت عليه أيضًا لما قال: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- اعتمر في رجب5، وقدموا نفيها على إثباته مع   1 البقرة: 234. 2 الطلاق: 4. 3 البخاري في الطلاق "7/ 73"، ومسلم "4/ 201"، والنسائي "6/ 156". 4 مسلم "1/ 179". 5 متفق عليه: البخاري "3/ "، ومسلم "3/ 60". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 أن المثبت مقدَّم لكونه سمع إنكارها, وسكت بعد ذلك رجوعًا منه، كما أنه أنكر أن يكون النبي -صلى الله عليه وسلم- اعتمر من الجعرانة، وغيره يثبت ذلك وهو الصحيح1، ومع كون ابن عمر أشهر الصحابة معرفة بالمناسك خطّؤوه فيهما. ومن ذلك ما ذكره الزهري من أن هندًا لم تبلغها رخصة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المستحاضة, فكانت تبكي لأنها كانت لا تصلي2. ومنها اختلافهم في التمسك بظواهر النصوص أو بالمعني المقصود من تشريع الحكم: فقد أخذ ابن عباس بالأول حيث قال: إذا هلكت هالكة عن زوج وأبوين, فللزوج نصف التركة, وللأم ثلثها, وللأب ما بقي، تمسكًا بظاهر قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} 3. وقال زيد وبقية أعلام الصحابة: لها ثلث ما بقي عن الزوج نظرًا للمعني؛ لأنها هي والأب ذكر وأنثى ورثا بجهة واحدة, فللذكر مثل حظ الأنثيين كالأولاد والإخوة، ولابن عباس أن يقول: إن جهة الأمومة غير الأبوة, بدليل الفروق الكثيرة بين الجدة والجدد, وبين الإخوة لأم والأشقاء, وبأن الأخوة لأم ليس للذكر منهم حظ أنثيين وقوفًا مع لفظ شركاء في القرآن, فكيف لا تقفون مع لفظ أصرح وهو فلأمه الثلث، ومع هذا فمذهب الجمهور خلافه، وقال ابن عباس أيضًا: إن الأم لا يحجبها من الثلث للسدس أخوان أو أختان, وإنما يحجبها ثلاثة لقوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُس} 4، وقال غيره: بل الأخوان والأختان في معنى الثلاثة, بدليل قوله تعالى في آيتي الكلالة: {فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} 5, وقوله: {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ} 6، والكل في الإخوة فلا   1 عمرته -صلى الله عليه وسلم- من الجعرانة, رواها أبو داود "2/ 206", والترمذي "3/ 265" كلاهما عن محرش الكعبي، قال الترمذي: هذا حديث غريب ولا نعرف لمحرش الكعبي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- غير هذا الحديث. قلت: وفي ابن ماجه عن ابن عباس أنه -صلى الله عليه وسلم- اعتمر أربع عمرات، وذكر منها العمرة من الجعرانة، ابن ماجه "2/ 999"، وأما إنكار ابن عمر لها ففي الصحيحين: البخاري "3/ 3"، ومسلم "3/ 60". 2 مسلم: "1/ 181". 3 النساء: 11. 4 النساء: 11. 5 النساء: 12. 6 النساء: 176. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 ومنها: اختلافهم في النسخ وعدمه. كنكاح المتعة حيث رخَّص فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل خيبر, ثم نهى عنه في فتح مكة، ورخَّص فيه في أوطاس بعدها ثلاثة أيام، ثم نهى عنه، فاختلفوا في الجمع بين هذا الاختلاف, فقال ابن عباس: كانت الرخصة لضرورة, والنهي لانقضائها, والحكم باقٍ, فإذا تحقَّقَت الضرورة جاز. وحمل الجمهور وذلكعلى النسخ وانمحاء حكم الرخصة بالكلية, كما محي حكم الربا وشرب الخمر وأكل الخنزير, تمسك المبتدعة القائلون بحليتها مطلقًا لضرورة وغيرها بقوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} 1, وبقراءة ابن مسعود الذي زاد بعد قوله منهم: {إِلَى أَجَل} لكنها شاذة ولا يحتج بها إذ لم تثبت عنه, ويعارضها ما سيرد عليك مما هو أصح منها رواية، وإذا لم تصح فلا دلالة في الآية للمنع ولا للجواز. ففي صحيح مسلم عن الربيع بين سبرة أن أباه غزا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فتح مكة، قال: فأقمنا خمس عشرة فأذن لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في متعة النساء، فخرجت أنا ورجل من قومي ولي عليه فضل في الجمال, وهو قريب من الدمامة2, مع كل واحد منا برد فبردي خلق، أما براد ابن عمي فبرد جديد غض، حتى إذا كنا بأسفل مكة أو بأعلاها فتلقتنا فتاة مثل البكرة العطنطة3 فقلنا: هل لك أن يستمتع منك أحدنا, قالت: وماذا تبذلان، فنشر كل واحد منا برده، فجعلت تنظر إلى الرجلين ويراها صاحبي تنظر إلى عطفها، فقال: إن يرد هذا خلق وبردي جديد غض، فتقول: برد هذا لا بأس به, ثلاث مرار أو مرتين, ثم استمتعت منها فلم أخرج حتى حرَّمها رسول الله -صلى الله عليه وسلم. وفي مسلم عن سبرة أيضًا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إيها الناس, إني قد كنت   1 النساء: 24. 2 قال المؤلف -رحمه الله: الدمامة بالمهملة أوله: الحقارة وقبح المنظر. 3 قال المؤلف -رحمه الله: البكرة: الفتية الشابة, والعطنطة: طويلة العنق وهي بفتح العين والطاء المهلمة بعدها نون فطاء, وفي رواية عيطاء بمعناها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 أذنت لكم في الاستمتاع من النساء, وإن الله قد حرَّم ذلك إلى يوم القيامة, فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيله, ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئًا" 1. وفي مسلم أيضًأ: أن ابن الزبير قام بمكة فقال: إن ناسًا أعمى الله قلوبهم كما أعمى أبصارهم يفتون بالمتعة، يعرِّض برجل2, فناداه فقال: إنك لجلف جاف, فلعمري لقد كانت المتعة تفعل على عهد إمام المتقين -يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له ابن الزبير: فجرب بنفسك, فوالله لئن فعلتها لأرجمنك باحجارك3. وفي مسلم عن جابر: كنا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر, حتى نهى عنه عمر في شأن عمرو بن حريث، وفي سنن ابن ماجه عن ابن عمر قال: لما ولي عمر بن الخطاب خطب الناس فقال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أذن في المتعة ثلاثًا ثم حرمها، والله لا أعلم أحدًا تمتَّع وهو محصن إلا رجمته بالحجارة, إلا أن يأتيني بأربعة يشهدون أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحلَّها بعد إذ حرمها4، 5. وفي مسلم عن علي بن أبي طالب أنه سمع ابن عباس يلين في متعة النساء، فقال: مهلًا يا ابن عباس, فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عنها يوم خيبر, وعن لحمم الحمر الإنسية6. قيل: إن ابن عباس رجع لما قال له على ذلك، وعلى هذا مشى الترمذي، والتحقيق أنه رجع عن إباحتها مطلقًا, إلى إباحتها في حال الضرورة فقط, مستدلًّا بما وقع في عام الفتح الذي هو بعد خييبر بلا شك, ويدل على ثبات ابن عباس على   1 مسلم في النكاح "4/ 131". 2 قال المؤلف -رحمه الله: هو ابن عباس وحاشاه، إنما هو اجتهاده منه لحجة ظهرت له, ولا نقص يلحقه في ذلك, ومقامه أجل من أن يقال فيه هذا, كما أن ابن الزبير كذلك, وإنما الواقع منهما جميعًا الغيرة على الدين. 3 مسلم "4/ 133". 5 ابن ماجه في النكاح "1/ 631"، وفي سنده أبو بكر بن حفض واسمه إسماعيل الإبائي. 6 قال المؤلف -رحمه الله: لم يأخذ المالكية بالرجم في المشهور عنهم لمكان الشبهة, وحملوا كلام عمر وابن الزبير على التغليظ. 7 مسلم في النكاح "4/ 134". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 فكره, وأنه لم يرجع لقولٍ على ما وقع بينه وبين ابن الزبير, وكان ذلك بعد وفاة علي بكثير، وغير خفي أن محل المنع عند المالكية إذا صرَّح بالأجل في العقد, أما إذا لم يصرح به وإن نواه فالعقد ماض على ما صرّح به الزرقاني في شرح المختصر وسُلِّمَ له1. ومنها: اختلافهم في الحكم, هل هو خصوصية أم لا: مثل: النهي عن استقبال القبلة عند الحاجة، فقد ورد فيه حديث عام تشريعًا لعموم الأمة في الصحيح: "لا تستقبلوا القبلة ببول وغائط ولا تستدبروها" 2. وروى جابر أنه رآه -عليه السلام- يبول قبل الوفاة النبوية بسنة مستقبل القبلة3. فقال: إنه ناسخ لتأخره، وكذلك حديث ابن عمر الذي رآه مستدبر القبلة مستقبل الشام, عليه ظهر بيت حفصة4، وذهب قوم إلى أن النهي مختص بالصحراء, بخلاف المراحيض التي رئي -صلى الله عليه وسلم- فيها مستقبلًا، وذهب قوم إلى أن فعله -عليه الصلاة والسلام- خصوصية له ليس ناسخًا، ولا مخصصًا, تقديمًا للتشريع العام على القضايا العينية، والتحقيق التخصيص جمعًا بين الأحاديث والنسخ والخصوصية لا بُدَّ لهما من دليل. فعن هذه المسائل وأمثالها نشأ تشعب الفقه واختلاف الفقهاء, وتمسك أهل كل قطر بأصل يعتمدون عليه ومذهبٍ يتدينون به.   1 عبد الباقي بن يوسف له ترجمة في خلافة الأثر للمحبي "2/ 287". 2 رواه أبو أيوب، متفق عليه البخاري "1/ 47"، ومسلم "1/ 154". 3 الترمذي "1/ 15". 4 متفق عليه: البخاري "1/ 48"، ومسلم "1/ 155". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 صور من الخلاف الواقع في هذا العصر ... فرق، ومن مثل هذا نشأ مذهبا الظاهرية، وأصحاب الرأي. ومنها: ما رواه أصحاب الأصول من نزوله -عليه السلام- بالأبطح عند النّفر من الحج، فذهب أبو هريرة وابن عمر إلى أنه من النسك, فجعلاه من سنن الحج، وذهب ابن عباس وعائشة إلى أن كان اتفاقيًّا وليس من السنن, وهكذا الرمل في الطواف، كان ابن عباس يراه اتفاقيًّا لقول المشركين: حطمتهم حمى يثرب. وليس من النسك, فذهب حكمه لزوال سببه, وذهب غيره إلى السنية. ومنها: اختلاف الوهم: مثاله: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- حج، فاختلفوا هل أفرد أو قرن أو تمتع، وفي هذا اختلاف عظيم بين الرواة الأثبات, ومعظم ذلك في الصحاح، حتى طعن بعض الملاحدة في السنة، لكن الذي مال لترجيحه الحافظ1، وابن القيم ما رواه بضعة عشر صحابيًّا, وهو أنه -عليه السلام- كان قارنًا، ورجَّح مالك أنه كان مفردًا حيث روته عائشة، ورحَّج ابن حنبل أنه متمتع، والمسألة فيها اختلاف عظيم كتب فيها الطحاوي2 ألف ورقة. ثم اختلفوا: هل أهلّ من مسجد ذي الحُلَيْفَة أو حين استقلت به راحلته، أو على شرف البيداء، فقال ابن عباس: أهلَّ في تلك المواضع كلها، وكان الناس يتلاحقون, فمن سمعه أهلَّ في موضع ظنَّ أنه ابتدأ منه، وايم الله لقد أوجب في مصلاه بذي الحليفة, وإني لأعلم الناس بذلك. رواه أبو داود3. ومنها: اختلافهم في علة الحكم، مثاله: القيام للجنازة هل لتعظيم الملائكة فيخص بالمسلم, أو لهول الموت فيقام للمؤمن والكافر, أو لكونهم مروا بجنازة يهودي فقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كراهية أن تعلو فوق رأسه فيكون القيام لها خاصًّا بالكافر.   1 ابن حجر في الفتح. 2 أحمد بن محمد بن سلامة أبو جعفر. الجواهر المضية "1/ 102". 3 أبو داود في المناسك "2/ 150". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 هل كان الصحابة كلهم مجتهدين : إلى هذا نحى البوصيري1 في همزيته إذا يقول: كلهم في أحكامه ذو اجتهاد, وأبقاه الهيتمي2 وغيره على ظاهره, والذي يقتضيه كلام ابن خلدون في المقدمة, أن منهم من بلغ رتبة الاجتهاد ومنهم من لم يبلغها, فكان يقلد من بلغها؛ إذ كان منهم من لم يسمع منه -عليه السلام- إلّا الحديث الواحد، ومنهم من لم يسمع، ومنهم أهل البدو الذين كانوا بعيدين عن مركز العلم، وهو الذي صرّح به السيوطي في كتابه الرد على من أخلد إلى الأرض3، ونحوه قال السخاوي في شرح ألفية العراقي, نقلًا عن ابن المديني أن المذاهب المقلدة أربابها من الصحابة ثلاثة: عبد الله بن مسعود، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن عباس، قال: وكان لكلٍّ منهم أتباع في الفقه يدوّن علمهم وفتواهم وقولهم. قلت: والصحابة من جملة من دخل في خطاب: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} 4، فيقضي أن بعضهم يسأل غيره من أهل الذكر, والمجتهد لا يقلد غيره, وذلك دليل أن فيهم من ليس مجتهدًا، وقال والد العسيف الذي زنى بامرأة مستأخره: وإني سألت أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام. الحديث5، وقال عمر لأبي بكر: رأينا لرأيك تبع, وقال مسروق: كان ثلاثة من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدعون قولهم لقول ثلاثة، كان عبد الله يدع قوله لقول عمر، وأبو موسى يدع قوله لقول علي، وزيد يدع قوله   1 هو محمد بن سعيد شرف الدين الصنهاجي المصري أبو عبد الله، ت سنة 696هـ، له ترجمة في فوات الوفيات "2/ 412". 2 أحمد بن أحمد بن محمد بن حجر شهاب الدين المصري الشافعي، له ترجمة في الكواكب السائرة "3/ 111". 3 .... وجهل ان الاجتهاد في كل عصر فرض، هدية العارفين "5/ 539". 4 النحل: 43، والأنبياء 7. 5 سبق تخريجه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 لقول أُبَيّ بن كعب، وقال جندب: ما كنت أدع قول ابن مسعود لقول أحد. وقال عليه السلام: "اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر, واهتدوا بهدي عمار، وتمسكوا بعهد ابن أم عبد" 1، وتقدَّم أن بعض الصحابة كانوا يفتون على عهد رسول الله2، وتقدَّمت أسماؤهم3، وذلك تقليد لهم من غيرهم. ويظهر لي في وجه الجمع بين القولين أن مراد البوصيري بكونهم مجتهدين, أن من شأنهم ذلك في قوتهم واستطاعتهم لا أن الجميع مجتهد بالفعل، فالصحابة كانوا في عصرٍ لم تختلط فيه اللغة, فكانت قواعد الاجتهاد مرتكزة في نفوسهم, فلا يعوزهم إلّا حفظ نصوص الشريعة, أو كمال فقاهة النفس، إذ لا شك أن بعضهم لم يبلغها بدليل قوله -عليه السلام- لعدي بن حاتم لما جعل تحت وسادته خيطًا أبيض وآخر أسود: "إنك لعريض القفا, إنما هو الفجر والليل" 4، وقوله لآخر: "إنك لضخم" 5. فمن كانت له فقاهة النفس ومزيد حفظ بلغ رتبة الاجتهاد بالفعل كالخلفاء، وزيد بن ثابت، وأمثالهم، ومن لم يكن معه اطلاع كان مجتهدًا بالقوة، بدليل أنه -عليه السلام- ولى عتاب بن أسيد إمرة مكة بمجرد إسلامه، وهو ابن عشرين سنة، وعمر بن العاص غزاة ذات السلاسل، وأسامة جيشًا فيه الشيخان وأبو عبيدة بمجرد إسلامه أيضًا، وأمثالًا لوجود صفة الاجتهاد فيهما, وان احتاجا للنصوص كان معهما القراء والحفاظ الحاملون لذلك، ومما لا نزاع فيه تفاوتهم   1 الترمذي وابن ماجه. 2 سبق. 3 متفق عليه: البخاري في تفسير سورة البقرة "6/ 31"، ومسلم في الصوم "3/ 31". 4 الحديث في مسلم في صلاة المسافرين "2/ 174"، لكنه من كلام ابن عمر وليس مرفوعًا كما تفيد عبارة المؤلف. 5 إن كان يقصد بقوله -بمجرد إسلامه- عمرو بن العاص، فصحيح لأنه أسلم في صفر سنة ثمان ووجهه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في جمادى الآخرة من نفس السنة إلى السلاسل، على رأس ثلاثمائة, كما في الاستيعاب "3/ 1186"، وأما إن كان المقصود أسامة بن زيد, فقد ولد أسامة في الإسلام، وأمه أم أيمن مولاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم, وكان قد زوجها من زيد بن حارثة مولاه وحبه -صلى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 في العلم, فليس العشرة، وأُبَيّ، وزيد, وعائشة، وابن عمر، وابن مسعود، وابن عباس، وأبو هريرة، وعبادة، وسلمان، وأبو ذر, وأمثالهم ممن تقدَّمت لنا تراجمهم كغيرهم ممن تقدَّم لنا سرد أسمائهم في ترجمة مراتب الصحابة في الإكثار من الفتوى، ثم هؤلاء ليسوا كغيرهم ممن لم نذكر أسماءهم، وقد أشار الأبِّي1 في شرح مسلم في أحاديث فضل الشهادة, إلى أن علماءهم كانوا مجتهدين دون غيرهم، وقد أشرت لكل آنفًا إلى أن من لم يكن بلغ رتبة الاجتهاد فله قوة علية بشرط, وبهذا يزول الخلاف. لكن التقليد لم يكن قط في الإسلام بمعنى تقليد إمام في جميع أقواله كأنه نبي معصوم، بل في الصدر الأول ما كان التقليد إلّا أن يأخذ بقول هذا الإمام تارة, وبقول هذا أخرى, ويأتي مزيد الكلام في الموضع إن شاء آخر الكتاب. تنبيه: يستدل بعض الناس هنا بحديث: "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم" , ولا دلالة فيه للمقام, وقد روى ابن عبد البر بسنده عن البزار: هو كلام لا يصح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم2.   1 هو محمد بن خلفة. 2 قال في كشف الخفاء، رواه البيهقي, وأسنده الديلمي عن ابن عباس "1/ 147"، وانظر جامع بيان العلم لابن عبد البر "2/ 90-92". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 عدالة الصحابة : وهي من متممات المسألة السابقة، قد اتفق الجمهور من أهل العلم على عدالتهم وصدقهم في كل ما نقلوه عن الرسول, سواء من خاض الفتنة أو اعتزلها إلّا من ارتدّ، لا طعن يلحقهم، ولا يحتاج إلى البحث عن أحوالهم, ولا إلى تعديلهم، مع تفاوتهم في وصف العدالة، كتفاوتهم على العلم على أوزان ما سبق، بخلاف التابعين ومن بعدهم؛ لأن الله عدَّلهم في القرآن في غير ما موضع، قال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ} 1 الآية.   1 الفتح: 29. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 وقال: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ، وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا} إلى قوله: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون} 1 إلى غير هذا من الآيات المصرحة بالثناء عليهم وتعديلهم، لكن من كان منهم بهذه الصفات التي في القرآن. ولا يشكل على ذلك قضية عائشة وحفصة اللتين تظاهرتا على النبي -صلى الله عليه وسلم, وقالتا له: نجد منك ريح مغافر ولم يكن فيه مغافر. ولا قوله لهلال بن أمية لما لاعَنَ زوجته: "أحدكما كاذب"، وهو صحابي بدري، وإقامته الحد على حسان وحمنة بنت جحش ومسطح بن أثاثة البدري أيضًا لما خاضوا في الإفك، وحدُّ عمر لقدامة بن مظعون إذ شرب الخمر متأولًا وهو يدري أيضًا. وحده لأبي بكرة ومن معه لما شهدوا على المغيرة بن شعبة بالزنا ورجع بعضهم, وكل ذلك في الصحيح، كذلك قضية كتاب حاطب بن أبي بلتعة الذي قال فيه النبي -صلى الله عليه وسلم: "لعل الله قد اطَّلع على أهل بدر فقال افعلوا ما شئتم فقد غفرت لكم" 2؛ لأن هذه القضايا نادرة, ولأنا لم ندع لهم عصمة فهم كغيرهم يصدر منهم الذنب ويتدراكهم الله بالتوبة، وكل هؤلاء ثبتت توبتهم وفضلهم فلا قدح، والشريعة معصومة, والله كلفهم بتبليغها إلينا, واختارهم وعدلهم وصدقهم وأذهب كل حرج من صدرونا نحوهم، فمحلهم الثقة والصدق والأمانة والحمد لله رب العالمين.   1 الحشر: 8. 2 متفق عليه: البخاري في المغازي, باب: فضل من شهد بدرًا "5/ 99"، ومسلم في فضائل الصحابة "7/ 167". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 مشاهير أهل الفتوى في هذا العصر من التابعين ترجمة سعيد بن المسيب ... مشاهير أهل الفتوى في هذه العصر من التابعين: ترجمة سعيد بن المسيب: فمنهم: سعيد بن المسيب بن حزن 1: المخزومي القرشي المدني, رأس علماء التابعين وفردهم وفاضلهم وفقيههم وسندهم، ومن الطراز الأول، جمع الحديث إلى الفقه، والزهد والعبادة والورع، سمع من عمر وهو راويته وحامل علمه, كما في أعلام الموقعين، وحديثه عنه في السنن الأربعة، وروى عن علي، وعثمان، وسعد بن أبي وقاص، وأبي هريرة، وغيرهما من أعلام الصحابة، دخل على أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- وسمع منهن، وكان زوج بنت أبي هريرة, وحافظ المسند من حديثه، قال عراك1: أفقه أهل المدينة وأعلمهم بقضايا أبي بكر وعمر وعثمان, وأعلمهم بما مضى عليه الناس, وبقضايا رسول الله -صلى الله عليه وسلم. وقال عليه عبد الله بن عمر: إنه أحد المفتين أو المقْتَدَى بهم, وقال فيه: لو رآه النبي -صلى الله عليه وسلم- لسُرَّ به, وربما جاءه من يستفتي فبعثه إليه، وقال فيه ابن المديني2: لا أعلم أحدًا في التابعين أوسع من سعيد علمًا, هو عندي أجلّ التابعين. وكانت الفتوى إذا جاءت المدينة لا يزل عالم يردها لآخر إلى أن تصل إليه فيفتي. وكان يقال له الجرئ لجرأته على الفتوى بسعة علمه وحفظه، وكان لا يقبل جوائز السلطان, دعي إلى نيف وثلاثين ألفًا ليأخذها فقال: لا حاجة لي فيها ولا في   1 قال المؤلف -رحمه الله: المسيب -بفتح الياء، فيما اشتهر، وكان سعيد يقول: سيب الله من سيب أبي، وحزن -بفتح الحاء المهملة وسكون لزاي. ابن خلكان. 1 ابن مالك الغفاري. 2 علي بن عبد الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 بني مروان، وخطب ابنته عبد الملك ابن مروان ليزوجها لولده الوليد فأبى, وزوجها لأبي وداعة على درهمين أو ثلاثة دراهم، وألزمه عبد الملك أن يبايع لولي عهده الوليد ثم سليمان فأبى, وقال: نهى -صلى الله عليه وسلم- عن بيعتين, فأمر به فضرب بعد ما جُرِّدَ من ثيابه التي كانت من شعر, وصُبَّ عليه الماء في يوم بارد, وطيف به في أسواق المدينة, وعرض على السيف وهو على إبائه صابر محتسب. قال الجاحظ في رسالته في التجارة: هل كان في التابعين أعلم من سعيد بن المسيب أو أنبل, وقد كان تاجرًا يبيع ويشتري, وهو الذي يقول: ما قضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي قضاءًا إلّا وقد علمته. وكان أعبر الناس للرؤيا, وأعلمهم بأنساب قريش, وكان يفتي والصحابة متوافرون، ولمَّ بعد علم بأخبار الجاهلية والإسلام، مع خشوعه وشدة اجتهاده وعبادته، وأمره بالمعروف، وجلالته في أعين الخلفاء، وتقدمه على الجبارين، حج أربعين حجة، وما تخلف عن الصف الأول خمسين سنة، قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: لما مات العبادلة عبد الله بن عباس وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن عمرو بن العاص, صار الفقه في جميع أقطار الأرض إلى الموالي, فكان فقيه مكة عطاء بن أبي رباح, واليمن طاوس, واليمامة يحيى بن أبي كثير, والكوفة إبراهيم النخعي, والبصرة الحسن, والشام مكحول, وخرسان عطاء الخراساني, إلّا المدينة فإن الله خصَّها بقرشي سعيد بن المسيب غير مدافع. نقله في أعلام الموقعين. وكان الحسن البصري إذا أشكل عليه شيء كتب إليه يسأله، وهو جذيل المدنيين المحكك وعذيقهم المرجَّب، أصل أصولهم ومهد فروعهم، ومذهبه أصل مذهب مالك في المدينة، كما أن إبراهيم النخعي أصل مذهب الحنفية بالعراق، وتوفي سنة "93" ثلاث وتسعين, وهو أحد الفقهاء السبعة الذين نشروا الفقه والفتوى والعلم والحديث, واشتهروا في زمنهم بالحديث والفقه والورع من علماء المدينة المجموعين في قوله بعضهم: فخذهم عبيد الله عروة قاسم ... سعيد أبو بكر سليمان خارجه1   1 سعيد بن المسيب بن حزن: طبقات ابن سعد "5/ 88"، وحلية الأولياء "2/ 161"، وتهذيب التهذيب "4/ 84". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 ترجمة عبيد الله بن عبد الله، عروة بن الزبير، القاسم بن محمد : عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود: قال الزهري: كنت أطلب العلم من ثلاثة: ابن المسيب وكان أفقه الناس، وعروة وكان بحرًا لا تكدره الدلاء، وعبيد الله, ولا تشاء أن تجد عنده طريقة من العلم لا تجدها عند غيره إلّا وجدتها. وقال أبو زرعة1: ثقة إمام مأمون, وقال العجلي2: كان جامعًا للعلم، توفي سنة "94" أو "98" أو "99"3. عروة بن الزبير بن العوام الأسدي: تفقَّه على خالته عائشة، حافظ ثبت، قال عراك4: أغزر الناس حديثًا, وهو ممن أجمع على جلالته، توفي سنة "94" أربع وتسعين5. القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق: تفقَّه على عمته عائشة أيضًا، وهي التي ربته، وقال أبو الزناد6: ما رأيت فقيهًا أعلم من القاسم, وما رأيت أحدًا أعلم بالسنة منه, وقال عمر بن عبد العزيز: لو كان لي من الأمر شيء استخلفته. توفي سنة "106" ست ومائة7.   1 الرازي: عبيد لله بن عبد الكريم. 2 أحمد بن عبد الله بن صالح. 3 عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود: هو عبيد الله بن عبد الله بن عباس الهذلي المدني الأعمش الأعمى أبو عبد الله، مات سنة 194، 99، 98. التحفة اللطيفة "3/ 120"، تقريب التهذيبل "1/ 535"، تهذيب التهذيب "7/ 23"، تهذيب الكمال "2/ 880"، الخلاصة "2/ 194"، الكاشف "2/ 228"، تراجم الأحبار "3/ 93، 154، 175"، الطبقات الكبرى "2/ 382، 383، 5/ 215، 334". 4 ابن مالك الغفاري. 5 عروة بن الزبير بن العوام الأسدي أبو عبد الله: الفقيه المدني الأسدي القرشي، ولد سنة 22، ومات سنة 94، 95، 99. البداية والنهاية "3/ 101"، معجم طبقات الحفاظ "127"، الجرح والتعديل "6/ 2207"، التحفة اللطيفة "3/ 183"، تقريب التهذيب "2/ 19"، الخلاصة "2/ 226" تهذيب التهذيب "7/ 180"، تهذيب الكمال "2/ 927"، الكاشف "2/ 262"، الأنساب "1/ 217". 6 هو عبد الله بن ذكوان المدني. 7 القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق: الجرح والتعديل "24/ 3ص118"، وحلية الأولياء "2/ 183"، وتهذيب "7/ 333". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 ترجمة أبي بكر المخزومي، سليمان بن يسار، خارجة بن زيد : أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي: قال أبو الزناد: هو أحد الفقهاء السبعة, قال ابن خراش: هو أحد أئمة المسلمين, وقال الواقدي: كان ثقة فقيهًا عالمًا كثير الحديث. توفي سنة "94" أربع وتسعين في الأصح1. سليمان بن يسار مولى ميمونة أم المؤمنين: قال النسائي: أحد الأئمة, وقال فيه الحسن بن محمد: إنه عندنا أفهم من ابن المسيب, ولم يقل أفقه ولا أعلم. روى عن ابن عباس وأبي هريرة، وأم سلمة -رضي الله عنهم, وروى عنه الزهري وغيره من الأكابر، وكان المستفتي إذا أتى ابن المسيب يقول له: اذهب إلى سيمان بن يسار فإنه أعلم من بقي اليوم، توفي سنة "100" مائة2. خارجة بن زيد بن ثابت: أحد الفقهاء السبعة، أدرك زمن عثمان بن عفان، وقد علمت من هو والده صحبة وعلمًا، مات سنة "100" مائة3.   1 أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزمي. خلاصة الخزرجي "444"ط. بولاق، وتهذيب التهذيب "12/ 30". 2 سليمان بن يسار مولى ميمونة أم المؤمنين -رضي الله عنها. خلاصة الخزرجي "155"، تهذيب التهذيب "4/ 228". 3 خارجة بن زيد بن ثابت الأنصاري المدني النجاري، الوزير: ت سنة 100، أو 69، أو 99. تقريب التهذيب "1/ 210"، تهذيب التهذيب "3/ 74"، تهذيب الكمال "1/ 348"، الكاشف "1/ 265"، تراجم الأحبار "1/ 376"، الحلية "2/ 9189، نسيم الرياض "2/ 117"، التاريخ الصغير "1/ 42، 215"، التمهيد "2/ 260"، سير النبلاء "4/ 437". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 ترجمة سالم بن عبد الله، أبي سلمة بن عبد الرحمن، إبراهيم النخعي : سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب العدوي المدني: الفقيه، أحد السبعة، وقيل: السابع أبو سلمة بن عبد الرحمن، وقيل: أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث، قال أبو الزناد1: قال ابن إسحاق: أصح الأسانيد الزهري عن سالم عن ابن عمر. مات سنة "106" ست ومائة2. أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف: أحد الأعلام، قال ابن سعد: كان ثقة فقيهًا كثير الحديث, ونقل الحاكم أبو عبد الله أنه أحد السبعة عن أكثر أهل الأخبار، مات سنة "94" أربع وتسعين, أو "104" أربع ومائة3. إبراهيم بن يزيد بن قيس النخعي الكوفي 4 الفقيه: في مسند الإمام أحمد أنه كان يدخل على عائشة مع خاله الأسود بن يزيد النخعي, وكان للأسود معها إخاء وود، وقال ابن خلكان: لم يثبت له منها   1 عبد الله بن ذكوان. 2 سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب العدوي المدني: أبو عمرو - ابن عمرو - أو عبد الله، أبو عبد لله، القرشي العدوي المدني العمري، أبو المنذر، مات سنة 106، 107. تقريب التهذيب "1/ 280"، تهذيب التهذيب "3/ 436"، تهذيب الكمال "1/ 460"، الكاشف "3/ 344"، تهذيب تهذيب الكمال "6/ "، جامع المسانيد "2/ 464"، الثقات "4/ 35"، تراجم الأحبار "2/ 15"، الجرح والتعديل "4/ 797"، التاريخ الكبير "4/ 115"، البداية والنهاية "9/ 234". 3 أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف: خلاصة الخزرجي "451" ط. بولاق، وتهذيب التهذيب "12/ 115". 4 قال المؤلف -رحمه الله: النخعي: نسبة إلى النخع -بفتح النون والخاء بعدها عين مهلمة- قبيلة كبيرة من مذحج باليمن. ابن خلكان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 سماع. قلت: إذا لم يثبت له سماع فليس بتابعي, قال الشعبي1: ما ترك إبراهيم بعده أعلم منه, قال أبو بكر بن شعيب بن الحبحاب: ولا الحسن ولا ببن سيرين, قال: ولا الحسن ولا ابن سيرين ولا من أهل البصرة ولا من الكوفة ولا من أهل الحجاز, وفي رواية: ولا الشام. قال المغيرة2: كنا نهاب إبراهيم كما يهاب الأمير، وهو شيخ حماد بن أبي سليمان الذي هو شيخ أبي حنيفة، وعن مذهب إبراهيم الأخذ بالقياس, تفرع مذهب الحنفية, فهو في العراق كسعيد بن المسيب في الحجاز، مات سنة "96" ست وتسعين, وله تسع أو ثمان وأربعون سنة3.   1 عامر بن شراحيل. 2 ابن مقسم الضبي. 3 إبراهيم بن يزيد بن قيس النخعي الكوفي الفقيه: طبقات ابن سعد "6/ 188"، وحلية الأولياء "4/ 219"، وتهذيب التهذيب "1/ 177"، وغاية النهاية للجزري "1/ 29". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 ترجمة أبو عمرو عامر بن شراحيل الشعبي 1 الحميري: الإمام العالم، ولد لست خلت من خلافة عمر، قال: أدركت خمسمائة من الصحابة, قال أبو مجلز2: ما رأيت فيهم أفقه من الشعبي. وكان فقهه مؤسسًا على الآثار لا الرأي, فهو ضد إبراهيم النخعي مع عراقيته، قال ابن سيرين: لقد رأيته يستفتى والصحابة متوافرون, وقال ابن عيينة: الناس تقول ابن عباس في زمنه, والشعبي في زمنه. واستقصاه عمر بن عبد العزيز, قال الزهري: العلماء أربعة: ابن المسيب بالمدينة, والشعبي بالكوفة, والحسن بالبصرة, ومكحول بالشام. وكان الشعبي ضئيلًا نحيلًا، وقال الشعبي: ما كتبت سوداء في بيضاء، توفي سنة "103" ثلاث بعد مائة3.   1 قال المؤلف -رحمه الله: شراحيل بوزن مفاتيح. 2 اسمه لاحق بن حميد. 3 أبو عمرو عامر بن شراحيل الشعبي الحميري: مات سنة 103: تاريخ بغداد "12/ 227"، تهذيب التهذيب "5/ 65"، حلية الأولياء "4/ 310". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 ترجمة أبي العالية، حميد الحميري، مطرف بن عبد الله : أبو العالية البراء -مشددًا: واسمه زياد بن فيروز البصري، روى عن ابن عباس وابن عمر وجماعة، موثّق، أخرج له البخاري ومسلم والنسائي، مات سنة "90" تسعين1. حميد بن عبد الرحمن الحميري البصري: روى عن أبي هريرة وأبي بكرة, قال ابن سيرين: هو أفقه أهل البصرة, متفق عليه2. مطرف بن عبد لله بن الشخير العامري البصري: أحد سادات التابعين، روى عن علي وعثمان وأبي ذر وجماعة، قال ابن سعد: له فضل وعقل وورع وأدب, ومن كلامه: عقول الناس على قدر زمانهم، فضل العلم أحب إلي من فضل العبادة, وخير دينكم الورع، مات سنة "95" خمس وتسعين3.   1 أبو العالية البراء: خلاصة الخزرجي "453"، وتهذيب التهذيب "12/ 143". 2 حميد بن عبد الرحمن الحميري البصري: الحميري البصري، ت سنة 100. تقريب التهذيب "1/ 203"، تهذيب التهذيب "3/ 46"، تهذيب الكمال "1/ 338"، الكاشف "1/ 257"، ديوان الضعفاء "1/ 117"، جامع المسانيد "2/ 423"، التاريخ لابن معين "3/ 137"، الأعلمي "17/ 75"، سير النبلاء "4/ 293". 3 مطرف بن عبد الله بن الشخير العامري البصري: أبو عبد الله العامري البصري الحرشي. تقريب التهذيب "2/ 253"، تهذيب التهذيب "10/ 173"، تهذيب الكمال "3/ 1335"، الكاشف "3/ 150"، الخلاصة "3/ 33"، الحلية "2/ 198"، تراجم الأحبار "3/ 325"، الثقات "5/ 430"، الأنساب "8/ 69"، التاريخ الكبير "7/ 396"، الجرح والتعديل "8/ 1446". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 ترجمة زرارة بن أوفى، أبان بن عثمان، أبي قلابة : زرارة بن أوفى الحرشي -بفتح المهملتين- البصري: قاضيها، روى عن أبي هريرة والمغيرة وعبد الله بن سلام وغيرهم، متفق عليه، توفي سنة "93" ثلاث وتسعين1. أبان بن عثمان بن عفان الأموي: أبو عبد الله المدني, روى عن أبيه وزيد بن ثابت، قال القطان: فقهاء المدينة عشرة, وعدَّه منهم، أخرج حديثه الستة إلّا البخاري, ففي الأدب المفرد، موثَّق، توفي سنة "105" خمس ومائة2. أبو قلابة عبد الله بن زيد الجرمي: بجيم وقلابة بكسر القاف، إمام البصرة في الفقه والفتوى وأحد الأعلام، نزل الشام، قال الذهي في كتاب العلو للعلي الغفار: وأين مثل أبي قلابة في الفضل والجلالة, هرب من تولية القضاء من العراق إلى الشام, ورى عن عائشة وأبي هريرة وحذيفة وغيرهم, قال أيوب3: هو من الفقهاء ذوي الألباب, وقال ابن سعد: ثقة كثير الحديث: مات سنة "104" أربع مائة، متفق عليه4.   1 زرارة بن أوفى الحرشي البصري: أبو حاجب العامري الحرشي البصري, ت سنة 93. تقريب التهذيب "1/ 259"، تهذيب التهذيب "3/ 322"، تهذيب الكمال "1/ 428"، الكاشف "1/ 321"، الخلاصة "1/ 335"، نسيم الرياض "2/ 444", تراجم الأحبار "1/ 460"، البداية والنهاية "9/ 9، 93" حلية الأولياء "2/ 258", سير النبلاء "4/ 515". 2 أبان بن عثمان بن عفان الأموي. تهذيب التهذيب "1/ 79". 3 السختياني. 4 أبو قلابة عبد الله بن زيد الجرمي: أبو قلابة، أبو كلابة، البصري، الجرمي الأزدي، ت سنة 204، أو 104. تقريب التهذيب "1/ 417"، تهذيب التهذيب "5/ 224"، الكاشف "2/ 88"، الخلاصة "2/ 58"، تهذيب التهذيب "5/ 224"، الكاشف "2/ 88"، الخلاصة "2/ 58"، تهذيب الكمال "2/ 684"، الميزان "2/ 425، 426"، دائرة الأعلمي "21/ 193"، البداية والنهاية 9/ 231"، الثقات "5/ 2"، التاريخ الصغير "1/ 203"، الوافي بالوفيات "17/ 185". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 ترجمة أبي الشعثاء، رفيع بن مهران، علي بن الحسين: أبو الشعثاء جابر بن زيد: من أصحاب ابن عباس, وقال فيه: إنه من العلماء, وقال فيه عمر بن دينار: ما رأيت أعلم بالفتيا منه، مات سنة "93" ثلاث وتستعين أو "103"1. رفيع بن مهران -بالتصغير- الرياحي البصري: مخضرم، إمام من أئمة المسلمين، ثقة, مجمَع على ثقته، توفي سنة "90"2. علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب زين العابدين المدني: قال الزهري: ما رأيت هاشميًّا أفضل منه, وما رأيت أفقه منه, وقال ابن أبي شيبة3: أصحّ الأسانيد الزهري عنه عن أبيه عن جده, وقال ابن المسيب: ما رأيت أورع منه، توفي سنة "92" بعد أن قاسم الله ماله مرتين4.   1 أبو الشعثاء جابر بن زيد: أبو الشعثاء اليحمدي، البصري الحرقي - الأعور- الأزدي - الجوفي، ت سنة 193 أو 200. تقريب التهذيب "1/ 122"، تهذيب التهذيب "2/ 38"، تهذيب الكمال "1/ 178", الكاشف "1/ 176"، تهذيب تهذيب الكمال "1/ 156"، الأنساب "4/ 130، 310" "1/ 222". 2 رفيع بن مهران الرياحي البصري, ت سنة 90 هـ. خلاصة الخزجي "119"، تهذيب التهذيب "2/ 38". 3 هو عبد الله بن محمد بن أبي شيبة، تهذيب التهذيب "6/ 2". 4 علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب زين العابدين المدني, أبو الحسن، زين العابدين، الهاشمي القرشي المدني الأكبر: أبو محمد أو أبو عبد الله، مات سنة 93، أو 94، أو 95 أو 92 أو 100. تقريب التهذيب "2/ 35"، تهذيب التهذيب "7/ 304"، الكاشف "2/ 282"، تهذيب الكمال "2/ 961"، الخلاصة "2/ 245"، طبقات ابن سعد "5/ 156"، النجوم "1/ 229"، البداية والنهاية "9/ 103"، الثقات "5/ 160" ثلاثيات أحمد "2/ 648" المعرفة والتاريخ "1/ 360/ 544"، سير النبلاء "4/ 386". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 ترجمة مجاهد بن جبر، عكرمة مولى ابن عباس : مجاهد بن جَبَر مولى السائب بن أبي السائب: المكي المقرئ الفقيه الإمام المفسر مؤلف تفسير مشهور، عرض القرآن على ابن عباس ثلاثين مرة "كذا في خلاصة التهذيب", وفي كتاب العلو عدد "246": قرأت على ابن عباس القرآن من أوله لآخره ثلاث مرات أقفه عند كل آية أسأله. فهو أجل المفسرين في زمانه وأجلّ المقرئين, تلا عليه ابن كثير1، وأبو عمرو2، وابن محيصن3، مات وهو ساجد سنة "103" ثلاث ومائة4. عكرمة مولى ابن عباس المغربي البربري: الذي قال فيه الشعبي: ما بقي أحد أعلم بكتاب الله منه. وهو أحد الأئمة الأعلام, قال له ابن عباس: انطلق فأفت الناس. وما تمكله ابن عباس إلّا وهو والٍ بالبصرة لعلي، ولما مات تركه على الرق بعد إن علَّمه, ووصل لمقام الإفتاء، وباعه ولده علي بأربعة آلاف دينار, فأتاه وقال له: بعت علم أبيك، فاستقال من بيعه وأعتقه، وكان أفقه أهل وقته، ومن مشاهير القراء، والمعبِّرين، وكان جوالًا في الآفاق، رموه بأنواع من البداعة، لكن قال العجلي5: ثقة بريء مما يرميه الناس به, ووثَّقة أيوب السختياني وأحمد وأبو حاتم6 وابن معين7, ولذلك أخرج له جميع الستة وقرنه مسلم بآخر، مات سنة "105" خمس ومائة عن نيف وثمانين8.   1 عبد الله. 2 ابن علالاء واسمه زبان. 3 محمد بن عبد الرحمن المكي. 4 مجاهد بن جبر مولى السائب بن أبي السائب: جامع التحصيل "336"، التاريخ الصغير "1/ 242، 245"، المستبين "275"، علل الحديث للمديني "20، 26، 48، 49، 54، 60"، حلية الأولياء "3/ 279"، تهذيب التهذيب "10/ 42"، وغاية النهاية "2/ 41". 5 أحمد بن عبد الله بن صالح. 6 الرازي محمد بن إدريس. 7 يحيى. 8 عكرمة مولى ابن عباس المغربي البربري: أبو عبد الله: القرشي الهاشمي البربري - المدني, مات سنة 107 أو 105. الخلاصة "2/ 240", تقريب التهذيب "2/ 30"، تهذيب التهذيب "7/ 263"، تهذيب الكمال "2/ 950"، الكاشف "2/ 276"، لسان الميزان "7/ 308"، الحلية "3/ 326"، سير النبلاء "5/ 12"، الضعفاء الكبير "3/ 373"، طبقات المفسرين "1/ 380"، وفيات الأعيان "1/ 319"، الكامل "5/ 1905"، وأصبهان "2/ 25"، جامع المسانيد "2/ 495". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 ترجمة عطاء بن أبي رباح، سعيد بن جبير : عطاء بن أبي رباح الجندي 1 اليماني: نزل مكة، مولى قريش، أحد الفقهاء والأئمة، انتهت إليه الفتوى بمكة، قال فيه ابن عباس: يا أهل مكة تجتمعون علي وفيكم عطاء, كان أعلم الناس بالمناسك حتى كان ينادي أيام الحج لا يفتي أحد إلّا عطاء. وينقلون عنه أنه يقول: يجوز وطء الجواري بإذن مالكهن، ومنهم من يقول: إنه يجوز إعارتهن للوطء، وهذا شيء لا يصح عنه, وقد أنكره صاحب روح المعاني وغيره، صفته: كان أسود أعور أفطس أشل أعرج مفلفل الشعر ثم عمي، فالعبرة بالأرواح لا بالأشباح: النفس أنفس ما لديك فهذبًا ... بالنفس أنت مسود لا بالشبح توفي سنة "114" أربع ومائة عن نحو مائة سنة2. سعيد بن جبير الواليي الكوفي: الفقيه أحد الأعلام في الفقه والتفسير والدين، قال الألكائي3: ثقة إمام حجة، قتله الحجاج سنة "95" كهلًا4.   1 قال المؤلف -رحمه الله: الجندي: بفتحتين نسبة إلى الجند عاصمة اليمن. 2 عطاء بن أبي رباح الجندي اليماني، ويقال: عطاء بن الزيات. تقريب التهذيب "2/ 22"، خلاصة الخزرجي "266"، وتهذيب التهذيب "7/ 199". 3 هو أبو القاسم الطبري هبة الله بن الحسن. تاريخ بغداد "14/ 70". 4 سعيد بن جبير الوالبي الكوفي: أبو عبد الله محمد، الأسدي الكوفي الوالبي الفقيه، قُتِلَ سنة 195 ولم يكمل 50 سنة. تقريب التهذيب "1/ 292"، تهذيب التهذيب "4/ 11"، تهذيب الكمال "1/ 479"، الكاشف "1/ 356"، الأنساب "12/ 274"، جامع المسانيد "2/ 467"، العبر "1/ 109، 112"، دائرة الأعلمي "19/ 168". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 ترجمة الحسن البصري، محمد بن سيرين : الحسن بن أبي الحسن سيار أو يسار: بتقديم المثناة أو تأخيرها، البصري، مولى زيد بن ثابت، أو أم سلمة والربيع بنت النضر, الإمام، أحد أئمة الهدى والسنة. روى عن نحو مائة وعشرين من الصحابة منهم: عثمان، وحضر معه يوم الدار, وعلي على خلاف فيه, ورجَّح السيوطي في فتاويه سماعه منه، وأدرك سبعين بدريًّا أكثر لباسهم الصوف كما قال في الحلية, ألف ابن الجوزي في مناقبه كتابًا. قال ابن سعد: كان إمامًا جامعًا رفيعًا ثقة مأمونًا عابدًا ناسكًا كثير العلم فصيحًا جميلًا وسيمًا من أشجع أهل زمانه, وعدَّه عياض في المدارك من الأئمة أصحاب المذاهب المقلدة المدونة، قال في أعلام الموقعين: قد جمع بعض العلماء فتاويه في سبعة أسفار ضخمة, وكانوا يرون أن ما ظهر عليه من غزارة العلم ببركة رضاعه من ثدي أم سلمة أمن المؤمنين -رضي الله عن الجميع, توفي سنة "110" عشر ومائة1. محمد بن سيرين مولى أنس بن مالك: أبو بكر البصري، إمام وقته، أحد الفقهاء من أهل البصرة المشهورين بالورع، قال ابن سعد: كان ثقة مأمونًا عاليًا رفيعًا فقيهًا إمامًا كثير العلم، وهو ممن أنكر القياس كما سبق، وقال أبو عوانة2: رأيته في السوق فما رآه أحد إلّا ذكر الله تعالى, وقال بكر المزني3: والله ما أدركنا أورع منه. روي عن أبي هريرة وابن عمر وابن الزبير وعمران بن حصين وأنس -رضي الله عنهم, وكان بزازًا، وحبس في دين كان عليه، وتوفي وعليه ثلاثون ألف درهم قضاها عنه ولده، وكان أنس بن مالك لما احتضر أوصى أن يصلي عليه ابن سيرين, فلما مات أتوا الأمير فأذن له, فخرج وصلى عليه ثم رجع لسجنه كما هو، ولم يذهب لأهله وفاءا بحق الأمانة رحمه الله، توفي بعد الحسن بمائة يوم4.   1 الحسن بن أبي الحسن سيار أو يسار: حلية الأولياء "2/ 131"، وتهذيب التهذيب "2/ 263". 2 اسمه: الوشاح بن عبد الله. 3 ابن عبد الله بن عمرو وأبو عبد الله. 4 محمد بن سيرين مولى أنس بن مالك: أبو بكر الأنصاري البصري الأنسي مولى أنس بن مالك، مات سنة 110 أو بعدها: المعرفة والتاريخ "2/ 54"، والفهارس "751"، در السحابة "3/ 8"، المعين "327"، البداية والنهاية "9/ 267"، الوافي بالوفيات "3/ 146"، الكاشف "3/ 51", الخلاصة "2/ 412"، نسيم الرياض "2/ 408"، الطبقات الكبرى "9/ 174"، الثقات "5/ 349"، الأعلمى "26/ 283". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 ترجمة الحكم بن عتيبة، قتادة السدوسي : أبو عبد الله الحكم بن عتيبة -مصغرًا- الكندي: مولاهم الكوفي، أحد الأعلام، ثقة ثبت، من فقهاء أصحاب إبراهيم1، صاحب سنة واتباع، توفي سنة "115" خمس عشرة ومائة2. أبو الخطاب قتادة بن دعامة السدوسي 3 البصري: الأكمه، أحد الأئمة الأعلام الحفاظ، قال ابن سيرين: قتادة أحفظ الناس. وهو معدود من صغار التابعين ومن كبار الفقهاء المفسرين المقرئين المحدثين المكثرين، قال أبو عبيدة4: ما كنا نفقد كل يوم راكبًا من ناحية بني أمية ينيخ على باب قتادة, فيسأله عن خبر أو نسب أو شعر, وكان قتادة أجمع الناس، توفي سنة "117" سبع عشرة ومائة5.   1 ابن يزيد النخعي. 2 أبو عبد الله الحكم بن عتيبة الكندي: خلاصة الخزرجي "89"، وتهذيب التهذيب "2/ 434". 3 قال المؤلف -رحمه الله: السدوسي: بفتح السين المهملة وضم الدال المهملة نسبة إلى سدوس بن شيبان قبيلة عربية, ودعامة بكسر الدال والمهملة. 4 معمر بن المثنَّى النحوي. 5 أبو الخطاب قتادة بن دعامة الدوسي البصري: تذكر الحفاظ "1/ 115". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 ترجمة مكحول، رجاء بن حيوة، عمرو بن دينار : مكحول بن أبي مسلم شهراب بن شادل: من أهل هرات1، الدمشقي، قال أبو حاتم: ما أعلم بالشام أفقه منه. وقال الزهري2: العلماء ثلاثة, وذكر مكحولًا منهم, قال تلميذه الأوزاعي:3 ما نسب إليه من التكلم في القدر باطل. توفي سنة "113" ثلاث عشرة ومائة4. رجاء بن حيوة الكندي الفلسطيني: أحد الأعلام، قال ابن سعيد: كان ثقة فاضلًا كثير العلم, وقال مطر الوراق5: ما رأيت شاميًّا أفضل منه إلا أنك إذا حركته وجدته شاميًّا، مات سنة "112" اثنى عشر ومائة6. عمرو بن دينار الجمحي 7: مولاهم، أبو محمد المكي الأثرم، أحد الأعلام وأئمة الإسلام، روى عن العبادلة8 وغيرهم، وعنه السفيانان، والحمادان9، وخلق، مات سنة "115" خمس عشر ومائة10.   1 مدينة بخراسان. 2 محمد بن مسلم. 3 عبد الرحمن بن عمرو. 4 مكحول بن أبي مسلم، شهراب بن شادل: حلية الأولياء "5/ 177"، وتذكرة الحفاظ "1/ 101"، وتهذيب التهذيب "10/ 289". 5 ابن طهمان أبو رجاء الخراساني. 6 رجاء بن حيوة الكندي الفلسطيني, مات سنة 112. تذكرة الحفاظ "1/ 211", وحلية الأولياء "5/ 170". 7 قال المؤلف -رحمه الله: الجمحي: بضم الجيم وفتح الميم نسبة إلى جمح قبيلة عربية. 8 وهم: عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، والتهذيب "3/ 265"، وعبد الله بن عمرو بن العاص. 9 السفيانان: سفيان بن سعيد الثوري، وسفيان بن عيينة، والحمادان: حماد بن زيد، وحماد بن سلمة. 10 عمرو بن دينار الجمحي: طبقات ابن سعد "5/ 479"، طبقات خليفة "281"، التاريخ الكبير "6/ 328"، التاريخ الصغير "169"، تاريخ الفسوي "2/ 1/، 207", الجرح والتعديل "6/ 231"، تذهيب التهذيب "3/ 97/ 2"، تاريخ الإسلام "5/ 114"، العقد الثمين "6/ 374"، طبقات القراء "1/ 60"، سير النبلاء "5/ 300". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 ترجمة محارب بن دثار، عمر بن عبد العزيز : محارب بن دثار 1 السدوسي أبو مطرف الكوفي: مولاهم أبو محمد المكي الأثرم, أحد الأعلام أئمة الإسلام، روى عن العبادلة1 وغيرهم، وعنه السفيانان، والحمادان، وخلق، مات سنة "115" خمس عشرة ومائة2. عمر بن عبد العزيز بن مروان الأموي: الخليفة العدل، المجمَع على عدالته، الإمام الحافظ، أمير المؤمنين، قال ميمون بن مهران: ما كانت العلماء عند عمر إلّا تلامذة, قال الحسن البصري لما جاء نعيه: مات خير الناس. كان رجاء بن حيوة الكندي يجالسه, فبات عنده ليلة فهمَّ السراج أن يخمد فقام إليه ليصلحه, فأقسم عليه عمر ليقعدنَّ وقام عمر فأصلحه, قال: فقلت له: تقوم أنت يا أمير المؤمنين؟ فقال: قمت وأنا عمر وجلست وأنا عمر, قال: وأمرني أن أشتري له ثوبًا بستة دراهم فأتيته به فجسَّه وقال: هو ما أحب لولا أن فيه لينًا. قال: فبكيت, قال: فما يبكيك؟ قال: أتيك وأنت أمير بثوب بستمائة درهم فجسسته وقلت: هو ما أحب لولا أن فيه خشونة, وأتيك وأنت أمير المؤمنين بثوب بستة دراهم فجسسته وقلت: هو ما أحب لولا أن فيه لينًا. فقال: يا رجاء, إن لي نفسًا تواقة, تاقت إلى الخلافة فأدركتها, وقد تاقت إلى الجنة فأرجو أن أدركها إن   1 قال المؤلف -رحمه الله: دثار بكسر الدال وفتح الثاء المثلثة. 2 الرازي عبيد الله بن عبد الكريم. 3 محارب بن دثار السدوسي أبو مطرف الكوفي، أو المطرف السدوسي الكوفي القاضي, مات سنة 116 أو 108. المعرفة والتاريخ "2/ 674"، وفهارس "3/ 741"، سير النبلاء "2/ 230"، تهذيب التهذيب "10/ 49"، حاشية الإكمال "1/ 226"، الإكمال "7/ 345"، تهذيب الكمال "3/ 1306"، الجرح والتعديل "8/ 1899"، التمهيد "3/ 224"، الأعلمي "26/ 96". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 شاء الله تعالى. قال: وقوّمت ثيابه وهو يخطب باثني عشر درهمًا, وكانت قباء وعمامة وقميصًا وسروايل ورداء وخفين وقلنسوة. ولزهد هذا الإمام وعلمه حق علينا أن نذكره في سلك هؤلاء الأعلام, وهو معدود أول العلماء والأمراء المجددين على رأس المائة كما عدَّه السيوطي وغيره، وحق له ذلك، ويأت لنا عمل هذا الإمام في ابتداء تدوين الفقه الذي به استحقّ أن يكون مجددًا, جزاه الله خيرًا، مات سنة "101" إحدى ومائة بعد سنتين من ولايته1.   1 عمر بن عبد العزيز بن مروان الأموي: طبقات ابن سعد "5/ 330"، تاريخ خليفة "321، 322"، التاريخ الكبير "6/ 174", تاريخ الفسوي "1/ 568"، الطبري "6/ 565", الجرح والتعديل "6/ 122"، الأغاني "9/ 254"، حلية الأولياء "5/ 253"، فوات الوفيات "3/ 133"، طبقات ابن الجوزي "1/ 593"، تهذيب التهذيب "7/ 475"، سير النبلاء "5/ 114". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 ترجمة مرثد اليزني، قيس بن أبي حازم : مرثد بن عبد الله الحميري اليزني: بفتح الياء وزاي وخفقة، المصري الفقيه، مفتي المصريين، توفي سنة "90" تسعين1. قيس بن أبي حازم الأحمسي الكوفي: أحد كبار التابعين وأعيانهم، مخضرم، أخذ عن الخلفاء الأربعة وهي فضيلة عظيمة، وتقدَّم أن سويد بن غفلة كذلك روى عنهم، مات سنة 98" ثمان وتسعين2.   1 مرثد بن عبد الله الحميري اليزني: أبو الخير - اليزني البصري الحميري, ت سنة 90: تقريب التهذيب "2/ 236"، تهذيب التهذيب "10/ 82، تهذيب الكمال "3/ 1314"، الكاشف "3/ 130"، الجرح والتعديل "8/ 1380"، الخلاصة "3/ 1314"، التاريخ الكبير "7/ 416"، تراجم الأحبار "3/ 428"، تذكرة الحفاظ "1/ 73"، الأنساب "13/ 497"، العبر "1/ 105"، الإكمال "7/ 229". 2 قيس بن أبي حازم الأحمسي الكوفي, مات سنة 98: تهذيب التهذيب "8/ 386"، خلاصة الخزرجي "317". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 ترجمة شقيق بن سلمة، أبي بردة، طاوس : شقيق بن سلمة أبو وائل الأسدي الكوفي: روى عن الخلفاء الأربعة أيضًا، وهو من سادة التابعين، تعلَّم القرآن في سنتين، قال ابن معين: ثقة لا يسأل عن مثله، مات حوالي سنة "100" مائة1. أبو بردة عامر بن أبي موسى الأشعري: الفقيه التابعي الشهير، قاضي الكوفة بعد شريح، وكان أبوه قاضيًا, وقاضي البصرة كما سبق، وكان ولده بلال قاضي البصرة, فبلال قاضٍ ابن قاضٍ ابن قاضٍ، ثلاثة على نسق, كان أبو بردة ذا مكارم وفضائل كافية وكذلك ولده، توفي أبو بردة سنة "103" ثلاث ومائة2. طاوس بن كيسان اليماني الجندي: قيل من الأبناء وقيل مولى همدان، الإمام العلم، قيل اسمه ذكوان، قال: أدركت خمسين من الصحابة، قال ابن عباس: إني لأظن طاوسًا من أهل الجنة, وقال عمرو بن دينار: ما رأيت مثله، مات سنة "106" ست ومائة بمكة3.   1 شقيق بن سلمة أبو وائل الأسدي الكوفي: أبو وائل، الشقيقي الأسدي الكوفي، ابن أسد خزيمة، وُلِدَ سنة 1، ت سنة 82، أو 99: دائرة معارف الأعلمي "20/ 80"، الأنساب "8/ 134"، در السحابة "779"، تقريب التهذيب "1/ 354"، تهذيب التهذيب "4/ 317", تهذيب الكمال "2/ 587"، الخلاصة "1/ 452"، الكاشف "2/ 15"، جامع المسانيد "2/ 476"، سير النبلاء "4/ 161"، تاريخ بغداد "9/ 268"، التمهيد "5/ 73". 2 أبو بردة عامر بن أبي موسى الأشعري: طبقات ابن سعد "6/ 268"، الجرح والتعديل "6/ 325"، تاريخ ابن عساكر "371، 392"، وفيات الأعيان "3/ 10، 12" تذكرة الحفاظ "1/ 95"، تهذيب التهذيب "4/ 199"، تاريخ الإسلام "4/ 216"، العبر "1/ 128"، الوافي بالوفيات "14/ 142"، تهذيب التهذيب "12/ 18"، النجوم "1/ 199، 252"، سير النبلاء "5/ 5". 3 طاوس بن كيسان اليماني الجندي: أبو عبد الرحمن، الأنبادي الخولاني الهزاني الجندي اليماني الحميري الفاسي اليمني, توفي سنة 106 أو 105 معجم طبقات الحفاظ "104"، الأنساب "3/ 351، 1/ 200", دائرة الأعلمي "20/ 272"، الأعلام "3/ 224", الجرح والتعديل "4/ 2203", سير النبلاء "5/ 38"، والحاشية، تقريب التهذيب "1/ 377"، تهذيب التهذيب "5/ 8"، تهذيب الكمال "2/ 632"، الكاشف "2/ 4"، الخلاصة "2/ 15". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 ومن جملة من حمل نعشه عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب -رضي الله عنهم, حتى سقطت قلنسوة كانت على رأسه, ومزق رداؤه من خلفه, وما أمكنهم خروج جنازته إلّا بإعانة حرس والي مكة، وكان ولده عبد الله من الأعلام أيضًا, دخل يومًا على المنصور العباسي هو ومالك، فالتفت إلى ابن طاوس وقال له: حدثني عن أبيك, فقال: حدثني أبي أن أشد الناس عذابًا يوم القيامة رجل أشركه الله في سلطانه, فأدخل عليه الجور في حكمه. فأمسك المنصور ساعة، قال مالك: فضممت ثيابي خوفًا أن يصيبني دمه, ثم قال له المنصور: ناولني تلك الدواة. ثلاث مرات، فلم يفعل، فقال له: لِمَ لَمْ تناولني؟ فقال: أخاف أن تكتب به معصية فأكون قد شاركتك فيها, فلما سمع ذلك قال: قوما عني, قال: ذلك ما كنا نبغي. قال مالك: فما زلت أعرف لابن طاوس فضله من يؤمئذ1.   1 عبد الله بن طاوس بن كيسان: تهذيب التهذيب "5/ 267"، وفيه وفاته سنة 132، وقيل 131. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 ترجمة أبي عبد الرحمن الحبلي، إسماعيل بن عبيد : أبو عبد الرحمن الحبلي: رئيس البعثة العلمية التي بعثها عمر بن عبد العزيز إلى أفريقية للتعليم والتهذيب، من فقهاء التابعين، مشهور بالعلم والفضل، شهد فتح الأندلس، وسكن القيروان، وكانت البعثة عشرة من علماء التابعين1. إسماعيل بن عبيد: المعروف بتاجر الله، توفي غازيًا في صقلية سنة "106" ست ومائة, وهو من البعثة المذكورة أيضًا2.   1 أبو عبد الرحمن الحبلي: معالم الإيمان "1/ 180"، وتهذيب التهذيب "6/ 81". 2 إسماعيل بن عبيد: معالم الإيمان "1/ 191"، وتهذيب التهذيب "1/ 328". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 ترجمة خالد بن معدان، مسلم بن خالد، عبد الرحمن بن رافع، عبد الله بن أبي زكريا : خالد بن معدان الكلاعي: أبو عبد الله الحمصي، من فقهاء التابعين وأعيانهم, قال: أدركت سبعين صحابيًّا، كان يسبح أربعين ألف تسبيحة في اليوم, وبقي يحرك أصبعه بعد موته سنة "103" ثلاث ومائة1. مسلم بن خالد المخزومي: مولاهم المعروف بالزنجي، إمام مكة في الفقه، شيخ الشافعي وغيره, وقد تكلَّم فيه في الحديث، توفي سنة "108" ثمان ومائة2. عبد الرحمن بن رافع التنوخي المصري: قاضي أفريقية، مات سنة "113" ثلاث عشرة ومائة3. عبد الله بن أبي زكريا الخزاعي: أبو يحيى الشامي الفقيه، مفتي الشام، روى عن أبي الدرداء، وسلمان مرسلًا. قال أبو زرعة: لم يلق أحدًا من الصحابة. وعنه قال: ما حسبت دينارًا ولا درهمًا ولا اشتريت شيئًا ولا بعته قط, قال بن زياد: كان له إخوة يكفونه، مات سنة "117" سبع عشرة ومائة4.   1 خالد بن معدان الكلاعي: أبو عبد الله، الكلاعي الحمصي الشامي, توفى سنة 103، أو 104: قريب التهذيب "1/ 218"، تهذيب التهذيب "3/ 118"، تهذيب الكمال "1/ 363"، الكاشف "1/ 274"، تهذيب تهذيب الكمال "1/ 284"، الأنساب "11/ 186"، الموضوعات "3/ 5"، تذكرة الحفاظ "1/ 91"، تراجم الأحبار "1/ 377". 5 مسلم بن خالد المخزومي: أبو عبد الله أبو خالد، المخزومي المكي الزنجي, ت سنة 172 أو 180: تقريب التهذيب "5/ 245"، تهذيب التهذيب "10/ 128"، تهذيب الكمال "3 "، الكاشف "3/ 140"، الخلاصة "3/ 24"، التاريخ لابن معين "3/ 561"، معرفة التاريخ "3/ 51، 354"، البداية والنهاية "10/ 177"، الكامل "6/ 2310". 3 عبد الرحمن بن رافع التنوخي المصري: أبو الجهم، التنوخي المصري, قاضي أفريقية, توفي سنة 113. تقريب التهذيب "1/ 479"، تهذيب التهذيب "6/ 186"، تهذيب الكمال "2/ 785"، الكاشف "2/ 163"، رياض النفوس "2/ 131"، لسان الميزان "7/ 9"، ضعفاء ابن الجوزي "7/ 279"، الميزان "2/ 560"، المغني رقم "3562". 4 عبد الله بن أبي زكريا الخزاعي: أبو يحيى الخزاعي الشامي الدمشقي, مات سنة 117: تقريب التهذيب "1/ 416"، تهذيب التهذيب "5/ 218"، الكاشف "2/ 87"، تهذيب الكمال "2/ 683"، الخلاصة "2/ 75"، الجرح والتعديل "5/ 285، 35", الوافي بالوفيات "17/ 181"، التاريخ لابن معين "3/ 308"، سير النبلاء "5/ 96". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 ترجمة سليمان بن موسى، نافع مولى ابن عمر : سليمان بن موسى الأموي الدمشقي: الأشدق الفقيه، روى عن واثلة1 وغيره، توفي سنة "119" تسع عشرة ومائة2. نافع مولى عبد الله بن عمر بن الخطاب: أصابه مولاه من سبي الديلم، فعلَّمه وهذَّبه، سمع منه، ومن أبي هريرة وعائشة، وأبي سعيد الخدري، وغيرهم، وكان من أعلام فقهاء المدينة, وهو أحد رجال السلسلة الذهبية التي قال البخاري فيها: أصح الأسانيد مالك عن نافع عن ابن عمر، مات سنة "120" عشرين ومائة3. ولنقتصر على هؤلاء السادة, فإنهم أشهر مَنْ كان في عصر صغار الصحابة, أعني: آخر القرن الأول من المفتين المجتهدين المشهورين بالفقه في الحجاز والعراق والشام ومصر واليمن وأفريقية الذين تجد أسماءهم غالبًا في كتب الخلافيات مهما ذكرت مسألة من مسائل الخلاف.   1 ابن الأسقع. 2 سليمان بن موسى الأموي الدمشقي: أبو أيوب - أبو هاشم الأشدق الأسدي الأموي الدمشقي، مات سنة 195: تقريب التهذيب "1/ 331"، تهذيب التهذيب "4/ 226"، تهذيب الكمال "1/ 547"، الكاشف "1/ 401", ترغيب "4/ 571"، الخلاصة "1/ 420"، مجمع الزوائد "4/ 107"، تراجم الأحبار "2/ 75"، الحلية "6/ 87"، لسان الميزان "7/ 238". 3 نافع مولى عبد الله بن عمر بن الخطاب, مات سنة 120: تهذيب التهذيب "4/ 226"، خلاصة الخزرجي "155". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 الفرق بين هذا العصر والذي قبله : إذا تأملت في العصر الذي قبله، أعني: عصر الخلفاء الراشدين, تجد الشهرة والكثرة هي للصحابة، أما التابعون الذين هم لهم الظهور معهم في العلم والفتوى فإنهم قليلون من تلاميذهم, وغالبهم مخضرمون أدركوا الجاهلية والإسلام، أما عصر صغار الصحابة فقد انعكس الحال, وصارت الغلبة والكثرة والشهرة للتابعين لقلة الصحابة وموت كباهم، واشتغال صغارهم بالسياسة؛ إذ كانوا يتبركون بتوليتهم ويقدمونهم لذلك على غيرهم, لشدة أمانتهم وعدلهم في أحكامهم وصرامتهم، وبقية الفروق تدركها من مراجعة الأمور الأربعة المبينة في ترجمة عصر صغار الصحابة وكبار التابعين, فعليك بها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 حالة الفقه في زمن صغار الصحابة وكبار التابعين -رضي الله عنهم: افتراق الأمة إلى مذاهب الخوارج والشيعة وغيرهم, وظهور الكذب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم: إن افتراق الأمة إلى شيعة، وخوارج، وغيرهم، قد قدمنا الكلام عليه في التاريخ الإجمالي لعصر الخلفاء الراشدين، وإن كان معاوية سكَّن ثائرتهم بعصبيته وكرمه وحلمه ودهائه، لكنهم بقوا يدبرون الثورة سريًّا, وينشرون تعاليمهم، ووضع الشيعة أحاديث توافق مشربهم وتؤيد دعواهم، فنشأ عن ذلك الكذب على النبي -صلى الله عليه وسلم، وانتشار هذه الطائفة التي جلها ممن غُلِبَ على أمره من اليهود وفارس والروم ومن بقية الأمم التي قهرها المسلمون، فدبروا حيلة الدسائس الدينية وبناء مذهبهم على التمويه بالإصلاح الديني, وتغيير المنكر, والأمر بالمعروف, وجعل مبادئهم التي هي سياسة يراد بها قلب الدولة مذاهب دينية وضعوا لها أصولًا من الأحاديث المكذوبة, وتأولوا القرآن على حسبها؛ إذ كانوا يعلمون أنه قلَّما تقوم للعرب دولة إلا على دعوى دينية. فقد قال المختار الثقفي لبعض أصحاب الحديث: ضع لي حديثًا على النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه كائن بعده خليفة مطالب بثأر ولده الحسين, وهذه عشرة آلاف درهم وخلعة ومركوب وخادم, فقال له: أما عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فلا, ولكن اختر من شئت من الصحابة. وقال حمَّاد بن زيد: وضعت الزنادقة أربعة آلاف حديث ليفسدوا على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 الناس شريعتهم. وقال الحاكم أبو عبد الله1: كان محمد بن القاسم الطائكاني من رؤساء المرجئة يضع الحديث على مذهبهم. وعن ابن لهيعة2 قال: سمعت شيخًا من الخوارج تاب, فجعل يقول: إن هذه الأحاديث دين فانظروا عمَّن تأخذون دينكم, فإنا كنا إذا هوينا أمرًا صيرناه حديثًا. وأكثر الطوائف كذبًا الشيعة قاتلهم لله، وبسبب ذلك حصلت الريبة في النصوص بكذب الرواة وظهور التأويل. ولذلك تصدَّى أعلام الأمة للتمحيص والتنقيب ونبذ الزائف وتحقيق الحق، وقد وجد الحال الكثير من الصحابة وأعلام الأمة متوافرين فناهضوهم بالحجة في الحين. ففي صحيح مسلم في الزكاة قال معاوية: إياكم وأحاديث إلّا حديثًا كان في عهد عمر, فإن عمر كان يخيف الناس في الله -عز وجل. الحديث، قال محمد بن سيرين: لم يكونوا يسألون عن الإسناد فلمَّا وقعت الفتنة قالوا: سموا لنا رجالكم, فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم, وينظر إلى أهل البدعة فيترك حديثهم. وقال جرير بن عبد الحميد: لقيت جابر بن يزيد الجعفي, فلم أعتقد به لأنه كان يؤمن بالرجعة3. وقال سفيان4: سمعته يحدّث بنحو ثلاثين ألف   1 محمد بن عبد لله النيسابوري. 2 اسمه عبد الله. 3 ابن عيينة. 4 قال المؤلف -رحمه الله: الرجعة: أول من انتحل هذه العقيدة وأدخلت للإسلام عبد الله بن سبأ, المدعو ابن السوداء, من يهود حمير, أظهر الإسلام زمن عثمان، وكان زعيم جمعية سرية تعمل لإفساد الإسلام، وإيقاد الفتن بين أهله, فبثَّ بين جهلة المسلمين القول بالرجعة والوصاية قائلًا لهم: العجب ممن يصدق برجعة عيسى ولم يصدق برجعة محمد -صلى الله عليه وسلم, وأن لكل نبي وصيًّا, ووصي محمد علي بن أبي طالب. بهذه المبادئ توصَّل لقلب خلافة عثمان وقتله, ولهذا لما سُئِلَ علي كما في الصحيح: هل أوصى لكم النبي -صلى الله عليه وسلم؟ أنكره، كما أنكرته عائشة وغيرها، ولما قُتِلَ علي قال لهم: لو أتيمونا بدماغه لم نصدق بموته, فلا بُدَّ أن يرجع ويملأ الأرض عدلًا كما ملئت جورًا, هكذا انتشرت هذه الخرافات بين الضالين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 حديث, ما أستحلُّ أن أذكر منها شيئًا, ولو كان لي كذا وكذا. وقيل: إن جابرًا له سبعون ألف حديث يرويها عن محمد الباقر بن علي بن الحسين بن علي، ومثل جابر أبو داود الأعمي وأبو جعفر الهاشمي، في كثير من أمثالهم، أشار إلى هؤلاء المتهمين وفضحوا عُمْلتهم، وحذَّروا من كل واحد باسمه، ولم يقبلوا شيئًا مما حدثوا به, وبينوا أعيان الأحاديث التي وضعوها والأغراض التي حملتهم على ذلك، حتى سلَّم الله الشريعة من كيدهم، ولذلك جعلوا من جملة شروط قبول الحديث أن لا يكون فيه راوٍ بدعي داعٍ إلى بدعته، وأن لا يستحلّ الكذب، وأن لا تصل بدعته إلى حد الكفر، كما هو مقرر في مصطلح الحديث. وهذا هو السبب في اعتناء المسلمين بتاريخ حياة الرجال, وكشف الستر عن سيرهم وأحوالهم, وهو ما يسمَّى علم الجرح والتعديل، وأول من تكلم فيه شعبة بن الحجاج، كذا قال بعض العلماء، والذي في مقدمة صحيح مسلم أن أيوب السختياني ممن انتقد الأسانيد وهو من أشياخه، بل جاء بشير العدوي إلى ابن عباس وجعل يحدثه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم, فجعل ابن عباس لا يأذن لحديثه فقال له: ما لي أراك لا تسمع لحديثي؟ فقال له ابن عباس: إنا كنَّا إذا سمعنا رجلًا يحدِّث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ابتدرته أبصارنا, وأصغينا إليه بآذاننا, فلما ركب الناس الصعبة والذلول لم نأخذ من الناس إلّا ما نعرف. وأُتِيَ ابن عباس أيضًا بكتابٍ فيه قضاء علي, فجعل يكتب منه أشياء, ويمر بالشي فيقول: والله ما قضى بهذا إلّا أن يكون ضل, وبمثل ابن عباس وطبقته وتلاميذه وتلاميذهم ابتدأ نقد الرجل ونقد حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم, فأنقذ الله دينه وشريعته أن يقع فيها ما وقع في الشرائع قبلها. وتسلسل ذلك في علماء الأمة، قال محمد بن إسحاق بن خزيمة، ما دام أبو حامد بن الشرقي1 في الأحياء لا يتهيأ لأحد أن يكذب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم, وعن ابن المبارك2 لما قيل له هذه الأحاديث المكذوبة قال: تعيش لها   1 هو أحمد بن الحسن، انظر تاريخ بغداد "4/ 427". 2 عبد الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 الجهابذة. وكان الدراقطني1 يقول: يا أهل بغداد لا تظنوا أن أحدًا يكذب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنا حي. وقد تكلم في الأسانيد أيضًا الحسن البصري، وطاوس3، وسعيد بن جبير، وطلق بن حبيب، وإبراهيم النخعي3، والشعبي4، وسليمان التيمي، كما في الترمذي، وابن عون5، ومالك كما في مقدمة مسلم، وممَّن تكلَّم في الرجال السفيانان6، ويحيى بن سعيد القطان، وابن المبارك، وابن مهدي7، ثم ابن معين8، وابن المديني9، والشافعي، وابن حنبل، وهلم جرَّا، وانظر آخر جامع الترمذي، وقد ألفوا في ذلك تآليف مهمة في تاريخ الرجال وتعديلهم وجرحهم، ككتب ابن معين، وابن أبي حاتم10، والبخاري ومَن بعدهم، إلى الخطيب، ثم الذهبي، فابن حجر العسقلاني، وأضرابهم. وعنه تولَّد تمحيص الأحاديث والحكم عليها بالصحة أو الحسن أو الضعف أو الوضع بحسب رواتها، وأقسام الكذَّابين وأسباب الكذب مبسوط في كتب علوم الحديث، كألفية العراقي وشروحها، وكتب ابن الصلاح، والنووي، وغيرهم، وإن شئت أن تعلم بعض ما وقع في هذا الباب فانظر: موضوعات ابن الجوزي، وتعقب السيوطي على البعض منها، تجدها مرتَّبة على أبواب الفقه، وكل ذلك يزيد وظيفة الفقه صعوبة وأهمية، ومزيد حفظ واطلاع وتبخر وتنقيب، ومع ذلك كله فقد أثَّر افتراق الأمة إلى طوائف: شيعة، وخوراج، وغيرهم، على الفقه كثيرًا، وأصبح لكل طائفة فتاوٍ وآراء وشعب وجدل، وأصبح الحق لا يتبيِّن إلا بتجشم مشاق.   1 علي بن عمر. 2 ابن كيسان اليماني. 3 ابن يزيد. 4 عامر بن شراحيل. 5 عبد الله بن عون بن أبي عون. 6 وهما سفيان بن سعيد الثوري وسفيان بن عيينة. 7 عبد الرحمن. 8 يحيى. 9 علي بن عبد الله. 10 أحمد محمد بن الحسن، انظر تاريخ بغداد "4/ 427". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 افتراق الفقهاء إلى عراقيين وحجازيين : إن ابن مسعود استوطن الكوفة، ونشر فيها علمه، وأفتى بما شهده من أقضية رسول الله -صلى الله عليه وسلم, أو سمعه من حديثه، فأصبح أهل العراق تابعين لرأيه وروايته, معتمد عليها، في حال أن هناك أقضية وأحاديث لم يشهدها، لكن أهل العراق يزعمون أن السنة هي ما عندهم. فإن الكوفة والبصرة تمصَّرتا لأول خلافة عمر، وأول ما عظم جيش الإسلام بهما، وبهما كثر جمعهم، قال في إعلام الموقعين "آخر المجلد الثاني": انتفل أليهما نحو ثلاثمائة من الصحابة ونيف، وإلى مصر والشام قال: وأكثر علماء الصحابة صار إليهما وإلى الشام, فمنهما فتحت سائر الأمصار من خراسان وما وراءها. وأول ما انتفلت الخلافة إلى العراق زمن علي بن أبي طالب، وكان فيها قبله ابن مسعود، وسعد بن أبي وقاص، وعمار بن ياسر، وأبو موسى الأشعري، والمغيرة بن شعبة، وأنس بن مالك، وحذيفة، وعمران بن حصين، وكثير من الصحابة الذين كانوا من حزب علي ومعه كابن عباس، ولهذا لم يزاحم أهل الحجاز علي زعامة الفقه إلّا علماء العراق دون الشام ولا مصر ولا أفريقية أو غيرها. إذ لم يقع لغير العراق من تلك الأمصار, فخالفوا أهل المدينة في كثير من الفقه زعمًا منهم أن السنة انتقلت إليهم، لكن الذي صار إلى العراق قل من جل، فالصحابة الذين بقوا في المدينة جمهورهم وأعلمهم كعمر بن الخطاب، وأبي بكر، وعلي في أول أمره، وعثمان، وزيد بن ثابت، وعائشة، وأم سلمة، وحفصة، وبقية الأزواج، وابن عمر، وأُبَيّ، وطلحة بن عبيد الله، وعبد الرحمن بن عوف، وأبي هريرة، وغيرهم، كما كان بحمص سبعون بدريًّا، وبمصر الزبير بن العوام، وأبو ذر، وعمرو بن العاص، وابنه، وفي الشام معاذ, وأبو الدرداء ومعاوية وكثير غيرهم، وفي أفريقية عقبة بن عامر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 الجهني، ومعاوية بن حديج1 السكوني، وأبو لبابة، ورويفع بن ثابت الأنصاري، وغيرهم، هكذا أصحاب رسول الله تفرَّقوا في عواصم الإسلام المستجدة, معلمين مهذبين ناشرين للسنة والدين والفقه، وتقدَّم أن عثمان هو الذي رخَّص لهم في الانتشار في الآفاق, فأخذ أهل كل بلد برواية معلمهم من الصحابة وبرأيه، فكان ذلك أول تشعُّب الفقه، واختلاف البلدان والأقطار فيه، وتعصُّب كل قطر إلى فقههم، وما جرى به علمهم وحكم به قضاتهم, وأفتى به مفتوهم، وإن كانت المناظرة العظمى والمعركة الكبرى إنما حميت في هذا العصر بين العراقيين والحجازيين، أو قل الكوفيين، والمدنيين، وعلى كل حالٍ فالمدينة المنورة محل الجمهور من الصحابة وكبار التابعين، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد رجوعة من حنين ترك بها اثني عشر ألفًا من الصحابة، مات بها عشرة آلاف، وتفرَّق ألفان في سائر أقطار الإسلام، هكذا قال مالك وغيره، وروى عنه ابن عبد الحكم1: إذا جاوز الحديث الحرتين2 ضعفت شجاعته. وروى عنه ابن وهب2 قال: كان عمر بن عبد العزيز يكتب إلى أهل الأمصار يعلمهم السنن والفقه, ويكتب إلى أهل المدينة يسألهم عمَّا مضى وأن يعلموه بما عندهم، كتب إلى أبي بكر بن حزم أن يجمع السنن ويكتب بها إليه، فتوفي عمر وقد كتب ابن حزم كتبًا ولم يبعث بها إليه بعد، وكان أبو بكر هذا قاضيًا بالمدينة, ثم كان واليًا بها. وقال: إذا رأيت أهل المدينة مجتمعين على أمر فلا شك أنه الحق, فكان أهل الحجاز يرون أن حديثهم مقدَّم على غيرهم, بل يرون أن حديث العراقيين أو الشاميين إذا لم يكن له أصل عند الحجازيين فليس بحجة، حتى قال قائلهم: نزِّلُوا حديث العراقيين منزلة حديث أهل الكتاب لا تصدقوهم ولا تكذبوهم. وقيل لحجازي حديث سفين3 عن منصور4 عن إبراهيم5 عن علقمة6 عن   1 قال المؤلف -رحمه الله: حديج بالحاء المهملة مصغر, والسكوني بفتح السين المهملة وتخفيف الكاف. 2 عبد الله. 3 قال المؤلف -رحمه الله: الحرتين: تشبه حره بفتح الحاء المهملة وتشديد الراء, حجارة سود متراكمة خارج المدينة المنورة على ساكنها -أفضل الصلاة والسلام. 4 عبد الله بن وهب. 5 ابن سعيد الثوري. 6 ابن المعتمر أبو عتاب الكوفي. 7 ابن يزيد النخعي. 8 ابن قيس النخعي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 ابن مسعود -وهذا من أصح إسناد يوجد في العراق, فقال: إن لم يكن له أصل في الحجاز فلا. ذلك لاعتقادهم أن أهل الحجاز ضبطوا السنة فلم يشذ عنهم منها شيء، وأن أحاديث العراقيين فيها اضطراب أوجب التوقف فيها. وكان أبو العباس السفاح استعمل بالعراق ربيعة بين أبي عبد الرحمن وزيرًا ومشيرًا, غير أنه تأفَّفَ من ذلك واستعفاه كراهية لأهل العراق، فاعفاه وانصرف للمدينة، فقيل له: كيف رأيت العراق وأهلها؟ فقال: رأيت قومًا حلالنا حرامهم وحرامنا حلالهم، وتركت بها أكثر من أربعين ألفًا يكيدون هذا الدين، وقال: كأن النبي الذي بُعِثَ إلينا غير الذي بعث إليهم، وقال لأبي العباس: إن بلغك أني أفتيت بفتيا أو حدثت بحديث ما كنت بالعراق فاعلم أني مجنون. وقال وكيع1: والله لكأنَّ النبي الذي بُعِثَ بالحجاز ليس بالنبي الذي بُعِثَ إلى أهل العراق. وقال في الكوفة: إنها دار الضرب, وقال عمر بن عبد العزيز لإسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة لما استأذنه في الخروج للعراق: أقرهم ولا تستقرهم, وعلمهم ولا تتعلم منهم, وحدثهم ولا تسمع حديثهم, وقال ابن شهاب2: يخرج الحديث من عندنا شبرًا فيعود في العراق ذراعًا. ومثل هذا من المدنيين في ذم العراقيين كثير, لكنه محمول عندي على أهل الأهواء؛ لأنها دار الخوارج ومنبع الشيعة ومستقر البدع، أما أهل السنة ففيهم علم وفضل وسنة، ولذلك اتفق الجمهور على ترك التضعيف بهذا، فمتى كان الإسناد جيدًا كان الحديث حجة حجازيًّا أو عراقيًّا أو شاميًّا أو غيرها، وكم من حديث في الصحيحين المجمع على قبول ما فيهما كل رواته عراقيون، لكن أحاديث المدنيين أقوى. قال في أعلام الموقعين: هي أم السنة, وهي أشرف أحاديث الأمصار, ولذلك تجد البخاري أول ما يبتدئ في الباب به ما وجدها كمالك عن نافع عن ابن عمر، وابن شهاب عن ابن المسيب عن أبي هريرة، هذا, وإن أهل كل بلد أعلم بعوائد بلدهم, وأحوال سلفهم, وسنن آبائهم, وقضايا حكامهم, دون من   1 ابن الجراح. 2 محمد بن مسلم بن عبيد الله الزهري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 سواهم من غير أهل بلدهم، وممن يأتي بعدهم هذا مما لا ينازع فيه منصف ولا تقوم بغيره حجة لمتكلف، فلذلك تمسك أهل كل بلد بما عندهم من سنة أو رأي أو قضاء, وأعرضوا عمَّا سواه، وكان الأمر بلغ شدة في آخر أيام بني أمية في الاختلاف، وتمسك كل بلد بما عندهم، وإصرار أهل العراق على الرأي وما روي عندهم من السنن، واشتد الخلاف بينهم وبين أهل الحجاز، فكان أهل الحجاز يطعنون فيهم بظهور المبتدعة في العراق، ووضع الزنادقة الأحاديث، ومنه ظهرت فتنة عثمان، وإن اشترك معهم فيها أهل مصر، وبه وقعت الملاحم العظام بين المسلمين في وقعة الجمل ثم صفين1, ومنه خرجت الخوارج, واعتزلت المعتزلة والجهمية، وبها كان المختار بن أبي عبيد الثقفي الكذاب، والحجاج بن يوسف مبيد العلماء والفضلاء، ومقتل الحسين، وتشيع الشيعة. وبها كان مبدأ دين القرامطة مجوس هذه الأمة، وهذا كله بسبب الجمعيات السرية التي تألَّفت من أعداء الإسلام المغلوبين لأهله من فرس ويهود، وابتدأ ذلك في زمن عمر بن الخطاب، ففيه كان ظهور شهادة الزور حتى قال: والله لا يؤمر رجل من المسلمين بغير عدول. وكثر الطعن منهم على الولاة الأخيار, فقد اشتكى أهل الكوفة سعد بن أبي وقاص بأنه لا يحسن الصلاة، والحال أنه الذي علَّمها لهم, وهو من هو علمًا ودينًا, فعزله وأوصى به, وجعله من أهل الشوى المرشَّحين للخلافة بعده لما يعلم من براءته، ثم ولي عمَّار بن ياسر, وناهيك به، فشكوه وقالوا: إنه غير عالم بالسياسة, ولا كافٍ, ولا يدري على ما استعملته، فعزله وولّى أبا موسى الأشعري بعدما طلبوه منه, فما أقام إلا سنة وشكوه طالبين عزله وقالوا: إن غلامه تجر في حبسنا1، فعزله وأعياه أمرهم حتى قال: ممن عذيري من مائة ألف لا يرضون بوالٍ, ولا يرضى عنهم والٍ. فولّى عليهم المغيرة بن شعبة وأوصاه بقوله: ليأمنك الأبرار وليخفك الأشرار, ثم كان من شأنهم ما هو معلوم معه حتى رموه بفعل الفاحشة، ثم كان منهم مع عثمان وولاية الوليد, ورميهم له أيضًا بشرب الخمر، إلى أن عزله ثم   1 قال المؤلف -رحمه الله: صفين -بكسر الصاد المهملة وتشديد الفاء المكسورة: اسم موضع بين العراق والشام, وقعت فيه ملاحم عظيمة بين علي ومعاوية -رضي الله عنهما. 2 في تاريخ الطبري .... في حشرنا "4/ 165". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 حدَّه، ثم كان منهم ما كان من الثورة وقتل عثمان. ثم لما خرج إليهم عليٌّ لقي من اختلافهم الشدائد, وافترقوا عليه إلى خوراج, وأنكروا عليه التحكيم بعد أن أجبروه عليه باختلافهم، وتخاذلوا عن نصرته, واستهانوا بخلافته, وضاق ذرعه بهم حتى كان يقول: اللهم أبدلني خيرًا منهم, وأبدلهم شرًّا مني, فأجاب الله دعاءه ونقله للرفيق الأعلى. ثم قاموا ببيعة الحسن وعاهدوه, لكنهم لأول صيحة من الجيش نهبوا خباءه من غير وقوع قتال, حتَّى ألجأوه للتخلي لمعاوية عن الأمر، وصار أهل العراق تبعًا لأعدائهم أهل الشام. ثم لما مات معاوية طلبوا سيدنا الحسين وبايعوه, وهم نحو عشرين ألفًا، ثم خذلوه وأسلموه وأهل بيته، فلما قُتِلَ وفات الأمر في نصرته أظهرو الندم والتحسُّر، فعادوا في طلب دمه, مع أنهم أولى من يطالب به، فقاموا مع المختار الكذاب، وفتحوا للبغي كل باب, إلى أن سلط الله عليهم الحجاج, فأقام فيهم عشرين سنة لا يراقب فيهم إلًّا ولا ذمَّة، يأخذهم بالظنة ويعاقب البريء بجريرة المذنب ولا يقبل من محسن, ولا يتجاوز عن مسيء, قتل الأخيار والعلماء والأبرار, وبقي على ذلك إلى أن أهلكه الله. فهذه الفتن وأشباهها لا شك أنها توجب انحطاط العلم بذهاب العلماء، وإياها عني -صلى الله عليه وسلم بقوله: "الفتنة ها هنا حيث يطلع قرن الشيطان" كما في الصحيحين1 مشيرًا إلى جهة العراق، وذلك من أعلام نبوته، ثم في آخر زمن بني أمية ظهرت الشيعة من مكامنها أيضًا وكثرت الفتن، ومن تلك النواحي بدأت، حتى أقبل جيش خراسان الذي كان شيعة لبني العباس, وتغلَّب على الأمر في أول المائة الثانية, ولما أراد بنو العباس نقل عاصمة الملك إلى بغداد بالعراق لم يجدوا في العراق ما يكفي لنشر السنة إلّا بأن أتوا من المدينة بعلماء مهَّدوا السبيل، كربيعة بن أبي عبد الرحمن، ويحيى بن سعيد، وارتحل إليهم هشام بن عروة، وعبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون، ومحمد بن إسحاق صاحب المغازي. ومن حينئذ بدأ ظهور السنة هناك على ما سنذكره في محله, هذا ما أوجب تغيُّر الفقه في هذا العصر عن الحال التي كان عليها في عصر الخلفاء الراشدين.   1 متفق عليه عن ابن عمر: البخاري في الفترة "9/ 67"، ومسلم "8/ 180". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 النزاع بين أهل الحديث والرأي ... النزاع بين أهل لحديث والرأي: وفي هذا العصر بدأ النزاع بين أهل الحديث وأهل الرأي، وافترق الفقهاء حزبين؛ حزب السنة والأثر، وحزب الرأي الذي صار فيما بعد يسمَّى بالقياس، فأهل السنة والأثر هم أهل الحجاز, ورئيسهم سعيد بن المسيب السابق الذكر، ثم تفرعوا فيما بعد إلى مالكية وشافعية وحنابلة وظاهرية وغيرهم، كل هؤلاء يزعم التمسُّك بالأثر, ولا ينتمون للرأي. أما أهل العراق فكانوا يميلون للرأي, ورئيسهم حامل لوائه هو إبراهيم النخعي، ولهذا يقال لأصحاب الرأي عراقيون، وبعد زمن أبي حنيفة صار يقال لهم الحنفية، على أنه يوجد فيهم من لا يقول به كالإمام الشعبي عامر بن شراحيل، وابن سيرين1، وسبق ذلك، كما يوجد في المدنيين من يقول بالرأي كربيعة بن أبي عبد الرحمن شيخ مالك, حتى لقبوه بربيعة الرأي، ولعله اكتسب ذلك من إقامته بالعراق وزيرًا لأبي العباس السفَّاح، ويأتي ذلك في ترجمته. ففي النصف الثاني من القرن الأوَّل اشتد النزاع بين الفقهاء في هذا المبدأ, وهو من أمهات المسائل, وإذا شئت أن ترى عجبًا وتتصور صورة هذا النزاع بصورة مكبرة فانظر. أعلام الموقعين أثناء شرحه لكتاب عمر إلى أبي موسى الأشعري عند قوله: واعرف الأشباه والنظائر, فإنه أورد لمناظرة بين القياسيين وبين أهل الأثر, وأورد حجة كل فريق مما يقتضي منه العجب, وأورد أمثلة كثيرة من الأقيسة الفاسدة المناهضة للنصوص الشرعية فانظره. ولا بُدَّ2 على التحقيق الذي لا شك فيه أنه ما من إمام منهم إلّا وقد قال بالرأي, وما من إمام منهم إلّا وقد تبع الأثر, إلّا أن الخلاف وإن كان ظاهره في المبدأ, لكن في التحقيق إنما هو في بعض الجزئيات، يثبت فيها الأثر عند الحجازيين دون العراقيين, فيأخذ به الأولون ويتركه الآخرون لعدم اطلاعهم عليه, أو وجود قادح عندهم.   1 محمد بن سيرين. 2 أعلام الموقعين "1/ 227-337". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 ومن جملة ما اعتبروه قادحًا أن لا يعمل به علماء بلدهم، فيقولون: لولا أن هناك قادحًا لعملوا به واشتهر، وهو قادح ضعيف كما لا يخفى، فيصير الأولون يذمون الآخرين بنبذ السنة واتباع الرأي، والأخيرون يذمّون الأولين بالجمود وضعف الفكر. وفي زمن ابن المسيب وإبراهيم النخعي كثرت الفروع في جميع أبواب الفقه؛ إذ كان كلٌّ منهما ممن جمعها حفظًا لا خطًّا, ووقوعًا لا تقديرًا، بمعنى أنهم في هذا العصر ما كانوا يفرضون المسائل التي لم تقع ويستنبطون لها حكمًا, وإنما كانوا يحفظون أحكام ما وقع في زمنهم وزمن من قبلهم، فابن المسيب وأصحابه كانوا يرون أن أهل الحرمين الشريفين أثبت الناس في الحديث والفقه، ولذلك جمع فتاوي أبي بكر، وعمر، وعثمان، وأحكامهم, وفتاوي علي قبل الخلافة، وعائشة، وابن عباس، وابن عمر، وزيد بن ثابت، وأبي هريرة. وقد اعتمد ابن المسيب مسند أبي هريرة كثيرًا, وقضايا قضاة المدينة، وحفظ من ذلك شيئًا كثيرًا، ونظر فيه نظر اعتبار وتفتيش وتحقيق وتطبيق، فما كان مجمعًا عليه من علماء المدينة عضَّ عليه بالنواجذ هو وأصحابه لا يتجاوزنه، وهو الذي يقول فيه مالك في الموطأ: السنة التي لا اختلاف فيه عندنا, أو يقول: وهو الأمر المجتمع عليه عندنا. وما اختفلوا فيه أخذ بالأقوى دليلًا وشهرة، وهو الذي يقول فيه: هذا أحسن ما سمعت، ومن هنا نشأ عمل أهل المدينة الذي جعله مالك أصلًا أصيلًا لمذهبه، وهو الذي يقول في الموطأ: وعليه الأمر عندنا. ولم يقل له الحنفية ولا بقية المذاهب وزنًا, متعللين بأن أهل المدينة ليسوا محل العصمة, وإذا لم يجد المدنيون لمن قبلهم النص على حكم مسألة بعينها, خرجوا وتتبعوا الإيماء والاقتضاء, فأخذوا بالرأي أيضًا, ولكن عند الضرورة وهو عدم وجود الأثر, فكان ذلك قولًا لهم واجتهادًا، وكان إبراهيم النخعي وأصحابه يرون أن عبد الله بن مسعود أثبت الناس في الفقه لقوله -عليه السلام: "تمسكوا بعهد ابن أم عبد" 1، وهو سادس ستة في الإسلام كما سبق. وقال علقمة2 يومًا لمسروق3: لا أجد أثبت من عبد الله، على أن ابن   1 الترمذي وابن ماجه، وقد سبق. 2 ابن قيس النخعي. 3 ابن الأجدع الهمداني الكوفي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 مسعود كان يذم الرأي كثيرًا. ونقل في فتح الباري أنه كان ينكر القياس، كما اخذ إبراهيم بفتاوي علي وأحكامه مدة خلافته بالكوفة، وأبي موسى الأشعري، وسعد بن أبي وقاص، وقضايا شريح، إذ كان يستشير فيها عمر، وعثمان, فعمل إبراهيم في آثار هؤلاء مثل ما عمل سعيد في آثار أهل المدينة، وخرَّج على فقههم بالقياس والاستنباط فيما لم ينصو فيه، واتخذ قضاياهم أصلًا له, فكان سعيد بن المسيب لسان فقهاء المدينة والمخطط لبنائهم، وكان إبراهيم لسان العراقيين والمؤسس لمذهبهم, فإذا اختلفت أقوال الصحابة والتابعين فالمختار عند كل عالم مذهب أهل بلده وشيوخه؛ لأنه أعرف بالصحيح من أقاويلهم من السقيم, وقبله أميل إلى فضلهم وأوعى للأصول المناسبة لها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 هل أحكام الشرع معقول المعنى ... هل أحكام الشرع معقولة المعني: كان إبراهيم النخعي يرى أن أحكام الشرع معقولة المعنى، مشتملة على مصالح, راجعة إلى الأمة، وأنها بُنِيَت على أصول محكمة, وعلل ضابطة لتلك الحكم فُهِمَت من الكتاب والسنة، وشرعت الأحكام لأجلها لينتظم بها أمر الحياة، فكان يجتهد في معرفتها ليدير الحكم لأجلها حيث درات، وإن العقل يمكن أن يدركها ويدرك حسنها وقبح ضدها؛ لأن الشرع أرشد إليها, لا أن العقل له استقلال في ذلك كما يقول المعتزلة, وإنما المراد أن العقل يدرك حُسْنَ الحَسَن وقبح القبيح، فيمدح على الأول ويذم على الثاني, لا أنه يستقل بإدراك الثواب على الأول والعقاب على الثاني، فإن الثواب والعقاب إنما يعرف من قِبَلِ الشرع، فأحكام الله لها غايات, أي: حِكَمٌ ومصالح راجعة إلينا. يدل لذلك القرآن، قال الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} 1, وقال: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} 2، وقال: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} 3 إلى غير هذا، وهاتان مسألتان مبينتان في   1 البقرة: 220. 2 البقرة: 219. 3 البقرة: 185. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 من مناظراتهم في ذلك ... من مناظرتهم في ذلك: أخرج عبد الرازق من طريق الشعبي قال: جاء رجل إلى شريح1 فسأله عن دية الأصابع, فقال: في كل إًبع عشرة إبل, فقال: سبحان الله, هذه وهذه سواء, الإبهام والخنصر. فقال: ويحك, إن السنة منعت القياس, اتبع ولا تبتدع، وأخرجه ابن المنذر وسنده صحيح. وأخرج مالك في الموطأ عن ربيعة: سألت سعيد بن المسيب: كم في أصبع المرأة؟ قال: عشرة من الإبل، قلت: ففي أصبعين؟ قال: عشرون، قلت: ففي ثلاث؟ قال: ثلاثون. قلت: ففي أربع؟ قال: عشرون، قلت: حين عظم جرحها واشتدت مصيبتها نقص عقله؟ فقال له سعيد: أعراقي أنت؟ فقال ربيعة: بل عالم مستثبت, أو جاهل متعلم، فقال سعيد: هي السنة. لأن مذهب أهل الحجاز أن المرأة تكون ديتها كدية الرجل إلى ثلث الدية, لما رواه عمر بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "عقل المرأة مثل عقل الرجل حتى تبلغ الثلث من ديتها" رواه النسائي2, فإذا زادت على   1 ابن الحارث بن قيس أبو أمية الكوفي. 2 النسائي في القسامة "8/ 39". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 ذلك كانت ديتها على النصف من ديته, فأجري ذلك على ظاهره ولو أدَّى إلى نتيجة غير معقولة؛ إذ لا شأن للعقل في التشريع الذي فيه نص, فالأربعة الأصابع ديتها أكثر من الثلث, ولذلك ترد إلى النصف من دية الرجل فتصير عشرين، فلم يفهم ربيعة وجه ذلك, فلذلك سأله فلم يعجبه سؤاله، فقال له: أعراقي أنت؟ لقول العراقيين: إن ديتها على النصف مطلقًا، وهو مذهب أبي حنيفة، والشافعي، والليث، والثوري، وجماعة، وكان الشعبي1 مع كونه كوفيًّا ضد أهل الرأي، وما يؤثر عنه قوله: أرأيت لو قتل الأحنف2 بن قيس وقتل معه صغيرًا, أكانت ديتهما واحدة أم يفضَّل الأحنف لعقله وحلمه؟ قالوا: بل سواء, قال: فليس القياس بشيء. وانظر كتاب الحيل في صحيح البخاري وشروحه, وما قيل في حديثي المصراة والمزابنة في البيوع, تقف على أقول الفريقين وتعلم أن الأمة بعدما افترقت طوائف من خوراج وشيعة وفرقهما، افترق بعد ذلك الجمهور أيضًا الذين لم يمسّهم ابتداع إلى أهل رأي وحديث، وكم من مسألة يظن بأهل العراق فيها أنهم قد نبذوا النصّ وأخذوا بحكم العقل والنظر, وحاشاهم أن يعتمدوا ذلك, وإنما سبب ذلك وجود قادح عندهم في النصّ لم يطَّلع عليه الحجازيون، أو لم يصلهم الحديث، أو وصلهم حديث آخر قد عارضه فرجحوه، مثاله: اجتمع الأوزاعي3 بأبي حنيفة بمكة، فقال الأوزاعي: ما بالكم لا ترفعون أيديكم عند الركوع والرفع منه؟ فقال أبو حنيفة: لم يصحّ عن رسول الله في ذلك شيء. فقال الأوزاعي: كيفل وقد حدَّثني الزهري4 عن سالم5 عن أبيه6 عن رسول   1 عامر بن شراحيل. 2 قال المؤلف -رحمه الله: لطيفة: كان الأحنف أعور أطلس أحنف، والأطلس من لم تنبت له لحية، والحنف الاعوجاج في الرجل إلى داخل، ومع ذلك كان إذا ركب يركب معه ثمانون ألفًا من بني تميم لفضله وجوده وعقله وحلمه، لا يعتبرون بنقص حسّه، بل بكمال معناه، وكانوا يقولون: لوددنا أن نشتري له لحية بعشرين ألفًا، ثم إن الحجة التي احتجّ بها الشعبي على نبذ القياس ليست بشيء؛ لأن القرآن زال الفرق بين الأحنف والصبي في القصاص, وعلّق الحكم على النفس فقال: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} , وقال: {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ} الآية. إلّا ما استثني عند من يراه. 3 عبد الرحمن عمرو 4 محمد بن مسلم بن عبد الله. 5 ابن عبد الله بن عمر. 6 عبد الله بن عمر بن الخطاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 الله -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يرفع يديه إذا افتتح الصلاة وعند الركوع وعند الرفع منه, فقال أبو حنيفة: حدَّثنا حمَّاد1 عن إبراهيم2 عن علقمة3, والأسود4 عن ابن مسعود أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان لا يرفع يديه إلّا عند افتتاح الصلاة, ولا يعود لشيء من ذلك. فقال الأوزاعي: أحدثك عن الزهري عن سالم عن أبيه, وتقول: حدثني حمّاد عن إبراهيم, فقال له أبو حنيفة: كان حماد أفقه من الزهري، وكان إبراهيم أفقه من سالم، وعلقمة ليس بدون ابن عمر إن كان لابن عمر صحبة, أو له فضل صحبة, فالأسود له فضل كثير، وعبد الله هو عبد الله. فسكت الأوزاعي، فهذا دليل على وقوف الكل عند حد السنة في نظره، قال الإمام الشافعي كما في أعلام الموقعين: أجمع المسلمون على أن من استبانت له سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يكن له أن يدعها لقول أحد.   1 ابن أبي سليمان الأشعري الكوفي. 2 ابن يزيد النخعي. 3 ابن قيس النخعي. 4 ابن يزيد النخعي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 من أحوال الفقه في هذه الطبقة : أنه كان محفوظًا في الصدور ومضبوطًا بالحفظ لا مخطوطًا مضبوطًا بالتدوين، ويأتي بيان وقت ابتداء تدوينه، إلّا ما كان من تدوين القرآن ونزر يسير في السنة وقد سبق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 اختلاط اللغة ومصيرها وتأثيره على الفقه, وشيء من تاريخ مشاهير علمائها: ترجمة أبي الأسود الديلي : اعلم أن اختلاط العربية بلغات الأعاجم الداخلين في حظيرة الدين الإسلامي كان في هذه الأعصر من أقوى الأسباب الداعية التي تغيُّر حال الفقه وصعوبته ثم انحطاطه, ففي زمن خلافة علي -كرم الله وجهه- في الكوفة كثر ذلك, وشاع اللحن في اللغة فجاءه: قاضي البصرة أبو الأسود الديلي التابعي الكوفي 1: الشهير المتوفى سنة "69" تسع وستين, وقال له: إن لغتنا فسدت, فإني دخلت على ابنتي فقالت: ما أشدُّ الحرِّ3, فضع لنا ما نحفظ به لغتنا، ففكَّر مليًّا ثم قال له: الكلام اسم وفعل وحرف، انح على هذا النحو، فصار أبو الأسود يضع القواعد لتلاميذه مثل يحيى بن يعمر التابعي الشهير المتوفى سنة "129" تسع وعشرين ومائة2، وغيره, وهم يأخذونها، وزادوا عليها بعده, فصار علم النحو يكمل شيئًا فشيئًا، فلم يكن أبو الأسود يتقن كل أبواب النحو, ولا تكلَّم إلّا في بعضها. قال في بغية الوعاة: مات الكسائي وهو لا يحسن حدَّ نعم وبئس, وإن المفتوحة والحكاية، ولم يكن الخليل يحسن النداء، ولا سيبويه يدري حدّ التعجب، وهكذا كل العلوم تتدرج في ترقيها ثم تتدحرج، ففي أواسط القرن الأول بدأ علم النحو واللغة في الظهور في العربية من التأخر, ثم زاد وشاع في أول القرن الثاني حيث زمن   1 أبو الأسود الديلي التابعي الكوفي, قاضي البصرة: طبقات ابن سعد "7/ 99"، ونزهة الألباء "6"، ومسبح الأعشى "3/ 161"، وتهذيب التهذيب "12/ 10"، وبغية الوعاة "2/ 22". 2 قال المؤلف -رحمه الله: بضم الدال من أشد وجر الراء من الحر, وكان حقها أن يفتح الجميع. 3 يحيى بن يعمر: طبقات ابن سعد "7/ 367"، ونزهة الألباء "16"، وتهذيب التهذيب "11/ 305"، وبغية الوعاة "2/ 345". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 ترجمة أبي عمرو المازني، الخليل بن أحمد، سيبويه : أبي عمرو بن العلاء المازني: النحوي المقرئ، أحد السعبة، والرواة الثقات، إمام أهل البصرة، روى عن أنس بن مالك وغيره، وكان أعلم الناس بالعربية والقراءات وأيام العرب، توفي سنة "154" أربع وخمسين ومائة1. الخليل بن أحمد الأزدي الفراهيدي: سيد علم الأدب الإمام العظيم، المتوفَّى سنة "170" سبعين ومائة، الذي كان في عصر مالك، وهو أحد مفاخر العرب, فقد اخترع علم العروض بعد تمهره في علم الموسيقى، وبه استعان عليه وهو أول من ألف في اللغة، له كتاب العين الشهير، وباختراعه لصنيعه تهيأ ضبط اللغة، ولولاه لضاعت، لكن بعض تلاميذه أفسدوه بعده، ولذا ينكر الناس نسبته إليه، كان من أزهد العلماء في الدنيا وأكثرهم تواضعًا، وذكاؤه يضرب به المثل, وحكاياته فيه غريبة2, ثم تلميذه: أبو بشر عرو بن عثمان بن قنبر الملقب "سيبويه": فارسي الأصل، مولى بني الحارث، أعلم منْ تقدَّم أو تأخَّر بالنحو، وصاحب الكتاب الذي لم يؤلف مثله في فنه، اشتمل على ألف ورقة، وعامة ما يحكيه من غير تعيين صاحبه, كقوله: سألته أو قال, فهو عن الخليل، ولا يعلم أحد سمع منه كتابه إذ مات صغير السن كبير العلم، عن اثنين وثلاثين بشيراز سنة "180" ثمانين ومائة, وفي زمنه نضج النحو3.   1 أبي عمرو بن العلاء المازني: نزهة الألباء "34"، وبغية الوعاة "2/ 231"، وغاية النهاية للجزري "1/ 288". 2 الخليل بن أحمد الأزدي الفراهيدي: نزهة الألباء "45"، وتهذيب التهذيب "12/ 178"، وبغية الوعاة "1/ 557". 3 أبو بشر عمر بن عثمان بن قنبر, الملقب بسيبويه: طبقات النحويين "66-72", الفهرست لابن النديم "1/ 51، 52"، تاريخ بغداد "12/ 195"، معجم الأدباء "16/ 114-127"، إنباه الرواة للقفطي "2/ 346-360"، وفيات الأعيان "1/ 487، 488"، العِبَر "1/ 287", بغية البغاة "2/ 229"، النجوم "2/ 88"، مفتاح السعادة لطاش كبرى "1/ 128"، شنذرات الذهب "1/ 252". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 ترجمة الكسائي، معاذ بن أبي مسلم الهراء، الفراء : الكسائي أبو الحسن علي بن حمزة: الفارسي الأصل الأسدي, مولاهم إمام الكوفة، نظير قرنه بالبصرة، وهو أحد القراء السبعة، والرواة الثقاة، توفي سنة "189"، تسع وثمانين ومائة, في يوم واحد ومحمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة، فقال الرشيد لما دفنهما بالريّ: دفنت النحو والفقه في يوم واحد1. معاذ أبو مسلم الهرّاء الكوفي: وهو أستاذ الكسائي، وهو الذي وضع علم الصرف، وعمّر طويلًا, توفي سنة "190" تسعين ومائة2. أبو زكريا يحيى بن زياد المعروف "بالفراء": إمام نحاة الكوفة، ومن فقهائها، ومنجميها وأطبائها وأدبائها، له كتب كالحدود وغيرها أملاها من حفظه، توفي سنة "207" سبع ومائتين, ناهيك من إمام اختاره الرشيد لتعليم الأمين والمأمون, وكانا يتسابقان لتقديم فعله3.   1 علي بن حمزة الكسائي, أبو الحسن، مات سنة 189: نزهة الألباء "67"، بغية الوعاة "2/ 162"، غاية النهاية "1/ 535". 2 معاذ أبو مسلم الهراء الكوفي, المتوفَّى سنة 190: نزهة الألباء "52"، بغية الوعاة "2/ 290". 3 أبو زكرياء يحيى بن زياد, المعروف بالفراء, أبو زكريا، الأسدي الكوفي الأسلمي النحوي الفراء، مات سنة 207، وعمره 63 سنة: العبر "1/ 354"، تقريب التهذيب "2/ 348"، تهذيب التهذيب "11/ 212"، نسيم الرياض "1/ 182"، الأنساب "10/ 155"، معجم المؤلفين "13/ 198، 199"، والحاشية، تنقيح المقال "13022"، تاريخ بغداد "14/ 149". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 ترجمة الأصمعي، المبرد، ثعلب : أبو سعيد عبد الملك بن قريب الباهلي, المعروف "بالأصمعي": البصري البغداد، له تصانيف كثيرة في اللغة وغيرها، توفي سنة "217" سبع عشرة ومائتين1. أبو العباس محمد بن يزيد المبرد: المتوفى سنة "286" ست وثمانين ومائتين2. أبو العباس أحمد بن يحيى, المعروف "بثعلب": المتوفى سنة "291" إحدى وتسعين ومائتين3.   1 أبو سعيد عبد الملك بن قريب الباهلي, المعروف بالأصمعي, أبو سعيد، الباهلي البصري الأصمعي، ولد سنة 123، ومات سنة 216، أو 210، أو 215، أو 217: تقريب التهذيب "1/ 521"، تهذيب التهذيب "6/ 415"، تهذيب الكمال "2/ 859"، الكاشف "2/ 213"، الخلاصة "2/ 179"، التاريخ لابن مين "3/ 374"، الميزان "2/ 662"، الأنساب "1/ 288"، أصبهان "2/ 130"، التنكيل "146، 329"، الجرح والتعديل "5/ 1710"، سير النبلاء "10/ 175"، العبر "1/ 367، 370". 2 أبو العباس محمد بن يزيد المبرد, أبو العباس الشمالي الأزدي، الشهرة "المبرد"، ولد سنة 210، ومات سنة 285: المنتظم "6/ 9"، نسيم الرياض "2/ 112"، الأنساب "3/ 146"، تاريخ بغداد "3/ 380"، معجم المولفين "12/ 114، 115"، لسان الميزان "5/ 430"، وفيات الأعيان "4/ 313"، الأعلمي "27/ 142". 3 أبو العباس أحمد بن يحيى, المعروف بثعلب: نزهة الألباء "228"، وبغية الوعاة "1/ 396". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 ترجمة ابن دريد، القالي، الجرجاني، الفارسي : أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد: البصري المتوفى "321" إحدى وعشرين وثلاثمائة1. ولكل هؤلاء تصانيف في الفنون اللغوية مفيدة يطول ذكرها. أبو علي إسماعيل بن القاسم القالي: صاحب كتاب الأمالي، وغيرها، المتوفى سنة "356" ست وخمسين وثلاثمائة2. أبو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني: واضع علم المعاني والبيان الذي أبرزه من العدم وخصَّه بالتأليف، له دلائل الإعجاز، وأسرار البلاغة، وإن سبقه أبو عبيدة معمر بن المثنَّي, المتوفى سنة "211" إحدى عشرة ومائتين لمجاز القرآن وغيره، لكن عبد القاهر أصَّل قوانينه ورتَّب حججه وبراهينه، وبالغ في كشف حقائقه وإعلام طرائقه، توفي سنة "366" ست وستين وثلاثمائة3. الحسن بن أحمد بن عبد الغفار, أبو علي الفارسي: الشهير، أوحد زمانه في العربية، يقدمه تلاميذه على المبرد, وأنجب تلاميذ عظامًا، له الإيضاح في النحو, والتكملة في الصرف، وله غيرهما كثير, توفي سنة "773" سبع وسبعين وثلاثمائة4   1 أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد: الدوسي اللغوي، ولد سنة 223، ومات سنة 321: تاريخ بغداد "2/ 195"، الأنساب "5/ 342"، الميزان "3/ 520"، لسان الميزان "5/ 132"، وفيات الأعيان "4/ 323"، معجم المؤلفين "9/ 189"، ديوان الضعفاء "3669"، الأعلمي "26/ 214". 2 أبو علي إسماعيل القالي: إنباه الرواة "1/ 204"، وبغية الواعاة "1/ 453". 3 أبو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني, مات سنة 366: بغية الوعاة "2/ 106"، نزهة الألباء "363". 4 الحسن بن أحمد بن عبد الغفار أبو علي الفارسي: مات سنة 377: نزهة الألباء "315"، وبغية الوعاة "1/ 496". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 ترجمة الرماني، ابن جني، الجوهري : علي بن عيسى بن علي الروماني: وبه شُهِرَ، كان إمامًا في العربية، وهو أوّل من أدخل المنطق في النحو, فجعل فيه الحدود والحجج والمنطقية، وألّف كتابي الحدود الأكبر والأصغر، قال الفارسي: إن كان النحو ما يقول الرماني فليس معنا منه شيء, وإن كان ما نقوله فليس معه منه شيء. قال أبو حيان التوحيدي: لم ير مثله قط علمًا بالنحو, وله تأليف كثيرة، توفي سنة "384" أربع وثمانين وثلاثمائة2. أبو الفتح عثمان بن جني: مملوك رومي، من أهل الموصل، أحذق أهل الأدب وأعلمهم بالعربية, صاحب كتاب الخصائص، ومحاسن العربية، وسر الصناعة، وغيرها، وعلمه بالتصريف أقوى من النحو، توفي سنة "392" أربع وتسعين وثلاثمائة3. أبو النصر إسماعيل بن حماد الجوهري: التركي الفارابي، مؤلف كتاب الصحاح الذي هو بمنزلة البخاري عند المحدثين في اللغة، توفي سنة "394" أربع وتسعين وثلاثمائة4.   1 الحسن بن أحمد بن عبد الغفار أبو علي الفارسي, مات سنة 377: نزهة الألباء "315"، وبغية الوعاة "1/ 496". 2 علي بن عيسى بن علي الروماني, أبو الحسن الروماني النحوي المتكلم صاحب العربية، ولد سنة 296، مات 384، أو 382: الأنساب "6/ 165"، نسيم الرياض "1/ 222"، معجم الؤلفين "7/ 162"، المنتظم "7/ 176"، وفيات الأعيان "3/ 299"، تاريخ بغداد "12/ 16"، دائرة الأعلمي "23/ 288-289"، تبصير المنتبه "2/ 632، الإكمال "4/ 125"، الميزان "3/ 149"، لسان الميزان "4/ 248". 3 أبو الفتح عثمان بن جني: وفيات الأعيان "3/ 246"، بغية الوعاة "2/ 132". 4 أبو النصر إسماعيل بن حمّاد الجوهري: نزهة الألباء "344"، وبغية الوعاة "1/ 446". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 ترجمة الزمخشري، ابن خروف، الجياني، ابن منظور : أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري: الملقب جار الله، صحاب التصانيف البديعة كالمفصل، وأطواق الذهب، والأساس, وتفسيره الكاشف البديع المثال في فن البلاغة، وكان معتزليًّا, توفي سنة "538" ثمان وثلاثين وخمسمائة1. أبو الحسن علي بن محمد بن خروف: الأشبيلي، إمام العربية، ذو تصانيف مفيدة، وله في نيل مصر: ليست زيادته ماء كما زعموا ... وإنما هي أرزاق وأرواح توفي سنة "609" تسع وستمائة2. أبو عبد الله محمد بن مالك الطائي الجياني: ثم الدمشقي جمال الدين، صاحب التسهيل، والكافية، والألفية, واللامية، وغيرها من المؤلفات التي جمع بها علم النحو والصرف، إلّا أنه ممَّن بالغ في الاختصار، ولما وصل النحول إلى دوره فسد بسب الاستغلاق وإدخال علم البيان إليه, وصيرورته صعبًا، توفي "672"، اثنين وسبعين وستمائة3. أبو الفضل محمد بن مكرم الأنصاري: جمال الدين, المعروف بابن منظور الأفريقي المصري، صاحب كتاب لسان العرب في اللغة، ومختصر الأغاني، وغيرها، توفي سنة إحدى عشرة وسبعمائه4.   1 أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري جار الله: نزهة الألباء "391"، بغية الوعاة "2/ 279". 2 أبو الحسن علي بن محمد بن خروف الحضرمي الأشبيلي: الكني للقمي "1/ 276"، وفيات بدقنفد "304"، بغية الوعاة "2/ 203"، إرشاد الأريب لياقوت "5/ 420". 3 أبو عبد الله محمد بن مالك الطائي الجياني, مات سنة 672: بغية الوعاة "1/ 130". 4 أبو الفضل محمد بن مكرم الأنصاري: أبو الفضل، الأنصاري الأفريقي المصري، ولد سنة 630، مات سنة 711: الدرر الكامنة "5/ 31"، فوات الوفيات "2/ 542"، الأعلمي "27/ 120"، حسن المحاضرة "1/ 388". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 ترجمة ابن هشام، الفيزوز آبادي، الزبيدي : أبو محمد عبد الله بن يوسف بن هشام الأنصاري: جمال الدين لمصري الحنفي، إمام النحاة في عصره، مؤلف مغني اللبيب وغيره، قال فيه ابن خلدون: ما زلنا نسمع ونحن بالمغرب أنه ظهر بمصر عالم بالعربية أنحى من سيبيويه, يقال له ابن هشام، توفي سنة "761" إحدى وستين وسبعمائة1. أبو طاهر محمد بن يعقوب الفيروز آبادي: مؤلف القاموس وغيره من التصانيف في فنون متنوعة، توفي سنة "816" ست عشرة وثمانمائة2. أبو الفيض محمد مرتضى الحسين الواسطي الزبيدي: الحنفي، ننزيل مصر محب الدين، صاحب شرح القاموس, وغيره من المؤلفات الضخمة، توفي سنة "1205" خمس ومائتين وألف3   1 أبو محمد عبد الله بن يوسف بن هشام الأنصاري, مات سنة 816: بغية الوعاة "2/ 68". 2 أبو طاهر محمد بن يعقوب الفيروز آبادي: أبو طاهر الشيرازي الفيروز آبادي الشافعي، ولد سنة 729، مات 817: الأعلمي "27/ 145"، العقد الثمين "2/ 392"، التاج المكلل "466"، إنباء الغمر "3/ 47"، الضوء اللامع "10/ 79". 3 أبو الفيض محمد مرتضى الحسين الواسطي الزبيدي الهندي المولد الزبيري, مات سنة 1205: الأعلام للزركلي "7/ 297". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 ترجمة أحمد فارس بن يوسف الشدياق اللبناني : كان مارونيًّا ثم أسلم، صاحب نهضة الشرق، له التآليف الغراء، كالجاسوس على القاموس، وغيره، وصاحب جريدة الجوائب، وشيخ الصحافة العربية شرقًا وغربًا، توفي سنة "1305"، خمس وثلاثمائة وألف1. واللغويون والنحاة كثيرون، وبعضهم يندرج في تراجم الفقهاء الآتية، كابن الحاجب، غير أن أصحاب القرون الوسطى أفسدوا علم النحو وضخَّموه فهرم، ويأتي الإلمام بذلك في الخاتمة إن شاء الله، بل قال ابن درستويه2: كان الكسائي يسمع الشاذّ الذي لا يجوز إلّا في ضرورة فيجعله أصلًا ويقيس عليه, فأفسد النحو بذلك، ولقد تبع الكوفيون كسائيهم فوسَّعوا النحو حتى قيل: لو توسعتم في اللغة ما لحَّنْتم أحدًا, فوقع في النحو بسبب هذا الاختلاف بين الكوفيين والبصريين الذين أخذوا بالأفصح من اللغات ونبذوا سواها. فكان البصريون مثل المدنين في الفقهاء, والكوفيون هم الكوفيون, وحمي الوطيس بين أهل البلدين على تقاربهما, وألف كل من علمائهما تآليف، كل ينتصر لمذهبه، فضخَّم النحو بكثرة الخلاف والجدل والتوجيهات التي لا تفيد، فاستحال الأمر إلى فساد, وزاده المتأخرون فسادًا بإدخال علم الببيان في علله, والأبحاث اللفظية والتعاريف, ثم الاختصار والمنطق, حيث صعَّبوا علمًا كان الواجب تسهيله إلى درجة يشارك فيها العوام بقدر ما يحصل به التفاهم، فلم يزد تكبيره إلّا تصغيرًا لمدراك الأمة, وتأخرًا في رقيها. قال الجاحظ3 في رسالة التجارة: وأما النحو فلا تشغل قلب ولدك منه   1 أحمد بن فارس الشدياق اللبناني: الأعلام "1/ 184". 2 هو عبد الله بن جعفر أبو محمد: انظر تاريخ بغداد "9/ 428". 3 عمرو بن بحر بن محبوب أبو عثمان: تاريخ بغداد "12/ 212". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 إلا بقدر ما يؤديه إلى السلامة من فاحش اللحن في كتابٍ كتَبَه, أو شعر أنشده, أو شيء وصفه, وما زاد على ذلك فهو مشغلة عمَّا هو أولى به, ومذهلة عمَّا هو أنفع منه من رواية المثل الشاهد والخبر الصادق والتعبير البارع, وإنما يرغب في بلوغ غايته من لا يحتاج إلى تعرف مسميات الأمور, ومن ليس له حظ غيره, ولا معاش سواه, وعويص النحو لا يجدي في المعاملات, ولا يضطر إلى شيء منه, أفمن الرأي أن يعمل به في حساب العقد دون حساب الهند, ودون الهندسة, وعويص ما يدخل في المساحة, وعليك في ذلك بما يحتاج إليه, إلى آخر ما قال. ولنعد إلى الموضوع: إن تغير اللغة العربية أثر على الفقه أكثر من كل ما قبله؛ إذ العربي الذي رضع قوانين اللغة في ثدي أمه, وتعلم دقائقها من محاورة أهله, ما كان يتوقَّف في بلوغ درجة الاجتهاد إلّا على حفظ النصوص ووجود فقاهة في نفسه، وتوقَّد في ذهنه, أما في هذا العصر فقد أصبح متوقفًا على مزاولة علوم وصناعات وممارسات كثيرة وخبرة واسعة. ومع هذا كله فلم يتأخَّر الفقه بل رأيناه زاد تقدمًا, وما زادته تلك الصعوبات إلا تنشيطًا، لما كان في صدر الأمة من النشاط وحب العمل وعلوِّ الهمة، وهكذا شأن الشعوب في ابتداء يقظتها لا تزيدها المصاعب إلا تنشيطًا، نعم قد ارتكبوا غلطًا في ذلك العصر؛ حيث لم يجعلوا تعليم اللغة إلزاميًّا, ولم يمنعوا التكلم باللغة الفاسدة, وذلك من عوامل الانحطاط، ولا سبيل لتقدم العرب إلّا بهذا, نسأل الله التوفيق، وقد كان حذَّاق المتقدمين تفطنوا لهذا, فكانوا يوجهون أولادهم للبادية يتربون هناك, لتعليم اللغة الفصحى من أعراب البادية, والتمرس على الشجاعة وصحة البدن، والشافعي تربَّى في البادية لأجل هذا، وأمثاله كثير, جعلوها بمنزلة مدراس للغة, إذا كان فساد اللغة إنما طرأ على الحواضر التي وقع فيها الاختلاط، أما البوادي فلم تزل لغتهم سليمة من الخطأ فهذا:   1 أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري الهروي, مات سة 370: نسيم الرياض "4/ 50"، نزهة الألباء "323"، وبغية الوعاة "1/ 19". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 ترجمة أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري الهروي : الذي توفي سنة "370" سبعين وثلاثمائة1، إنما مهر في اللغة لما أسرته القرامطة, وأقام في صحراء الدهناء والصمان، فلذلك التاريخ كانت اللغة لم تفسد في أعراب البادية كما ذكره في كتاب التهذيب ونقله عنه ابن خلكان، لكن الظاهر عندي أن المراد أنها لم تفسد تمامًا, لينفق مع ما هو منصوص لهم من أن نقل الجوهري عن عرب زمانه ليس بحجة لدخول الفساد في لغتهم, وكان عصره مقاربًا للعصر السابق، ولا زالت في البوادي بقية الفصاحة إلى زماننا هذا, ولغتهم أرقى من الحواضر وأقرب إلى لغة القرآن في مغربنا الأقصى، ورغمًا عن جميع ما تقدَّم, فالفقه بقي متقدمًا في عنفوان شبابه لم يتأخر مدة المائة الأولى، نعم وظيفة الفقيه زادت صعوبة, وصار الفقيه محتاجًا إلى حفظ واسع وفكر وقّاد، وتقدَّمت علة ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 المائة الثانية الهجرية، مجمل التاريخ السياسي : تقدَّم أن عمر بن عبد العزيز توفي على رأسها, وهو آخر خليفة وقع الإجماع على عدله، فتولى بعده يزيد بن عبد الملك، ثم الوليد بن يزيد، ثم يزيد بن الوليد، ثم مروان بن محمد، وهو آخرهم، قُتِلَ في ربيع سنة "132" اثنين وثلاثين ومائة, وبه ختمت دولة بني أمية في المشرق, وسبب سقوطهم شيعة بني هاشم التي كانت نارها لا تخمد ولا تنام عن ثأر علي والحسين وأبنائهما. ثم بعدهم انتصبت الدولة العباسية، ووجدت الإسلام ممتد الأطراف من حدود الهند إلى حدود فرنسا في الأندلس، لكنهم لم يبقوا متمسِّكين بالبدواة بل دخلتهم الحضارة، وأسَّسوا بغداد دار ملكهم، فبلغت حضارة بغداد إلى درجة لا يتصورها إلّا من طالع ودقَّق أخبارهم, فتبع الفقه ذلك، واتسعت دائرة الخيال والجدل فيه، وكثرت النوازل أيضًا بزيادة الترف والمال وأنواع الرفه والملذات والمتاجر والمصانع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 تعريب كتب الفلسفة : ثم إن المنصور العباسي عرَّب كتبًا كثيرة من كتب اليونان والروم وغيرهم، وسرت أفكارهم إلى أفكار علماء الإسلام, واطلع أهل الإسلام على كثير من أحوال الأمم الأخرى وقضاياهم وأحكامهم، فانسلخ الفقه عن حلة البداوة التي كان متحليًا بها إلى غيرها، إلّا ما كان من فقه مالك الذي قطن في أفريقية ولم تكن مهدًا لتلك العلوم, فإنه قد بقي متمسِّكًا ببدويته، بخلاف مذهب الحنفية, فإنه صار فقهًا معقولًا أكثر منه منقولًا، لكن لما انتقلت العاصمة إلى بغداد نقل بنوا العباس علماء جلة من الحجاز إلى العراق لنشر السنة، منهم ربيعة بن أبي عبد الرحمن، ويحيى بن سعيد، وهشام بن عروة، ومحمد بن إسحاق صاحب المغازي، وغيرهم، فعند ذلك بدأ امتزاج مذهب العراق بمذهب الحجاز وتقاربا، ثم زاد التقارب برحلة أصحاب أبي حنيفة كأبي يوسف1، ومحمد بن الحسن إلى مالك والأخذ عنه، كما أن أفكار العراقيين انتقلت إلى الحجاز مع هؤلاء, وقبلهم أيضًا برجوع ربيعة بن أبي عبد الرحمن من العراق للمدينة, فزالت النفرة شيئًا ما.   1 يعقوب بن إبراهيم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 الفقه وابتداء تدوينه في عصر صغار التابعين ومن بعدهم إلى آخر المائة الثانية هجرية : تقدَّم لنا أن عمر بن عبد العزيز الخليفة العدل أخذت حياته سنة من هذه المائة، وقد ذكر المؤرخون أنه على رأس المائة أصدر أمرين أثَّرا على الفقه كثيرًا بالرقي العظيم، الأول: أمر بتفريق العلماء في الآفاق لتعليم الأمة وتهذيبها ونشر الدين ومحاسن الأخلاق والمعتقدات، جريًا على سنة عمر وغيره من صالحي الخلفاء، ومن جملتهم عشرة من التابعين أرسلهم إلى أفريقية لتعليم أهلها الفقه والدين, فانتشرت الفقه وعمَّ التعليم، وفي ذلك من ارتقاء ما لا يخفى. الثاني: أمره بكتابة العلم وتدوينه، ففي الموطأ رواية محمد بن الحسن: مالك عن يحيى بن سعيد بأن عمر بن عبد العزيز كتب إلى أبي بكر محمد بن عمرو بن حزم, أن انظر ما كان من حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو سنة, أو نحو هذا فاكتبه لي, فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء. علقه البخاري في صحيحه1. وأخرجه أبو نعيم في تاريخ أصبهان بلفظ: كتب عمر إلى الآفاق: انظروا حديث رسول الله فاجمعوه؛ هكذا بدأ تدوين الحديث الذي هو المادة الواسعة للفقه، فقد ذكروا أن أبا بكر كتب كتبًا, وتوفي عمر قبل أن يبعثها إليه، بل وبه بدأ تدوين الفقه أيضًا إذا أدخلت التراجم وأقوال السلف في كتب الحديث، وكلها   1 البخاري في العلم "1/ 35"، ولم أجد في الموطأ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 فقه, كما تجد ذلك في الموطأ وصحيح البخاري وأبي داود والترمذي والنسائي وغيرها، وكان قبل عمر بن عبد العزيز تدوين الحديث والفقه ممنوعًا على العلماء لئلّا يتَّكِلُوا على الكتابة فيكسلوا عن الحفظ، ولما صحَّ في مسلم وغيره عنه -عليه السلام: "لا تكتبوا عني غير القرآن" 1. وروى الترمذي عن أبي سعيد: استأذنا النبي -صلى الله عليه وسلم- في الكتابة فلم يأذن لنا2. وتقدَّم بسط ذلك في ترجمة كتابة السنة3، وهذا الرأي الذي رآه ابن عبد العزيز كان عمر بن الخطاب رآه قبله واستخار الله فيه شهرًا ثم قال: ذكرت قومًا كتبوا كتابًا فأقبلوا عليه ثم تركوا كتاب الله, فرجع عن نظره, ويعني بالقوم: أهل الكتاب، رواه ابن سعد والهروي4 وغيرهما، قال في كشف الظنون: كان ابن عباس ينهى عن كتب العلم ويقول: إنهم إذا كتبوا اعتمدوا على الكتابة وتركوا الحفظ, فيعرض للكتاب عارض فيفوت علمهم, وإن الكتابة يمكن فيها الزيادة والنقص, وما حفظ لا يتغير, والحافظ يتكلم بالعلم, والمخبر عن الكتابة مخبر بالظن. وقد قال الشعبي5 على سعة علمه وكثرة محفوظاته: ما كتبت سوداء في بيضاء, ومثله الإمام الزهري6 الذي قلَّ أن يوجد مثله في اتساع المعلومات, سأله مالك: أكنت تكتب العلم؟ قال: لا. قال: فقلت: أكنت تسألهم أن يعيدوا عليك الحديث؟ قال: لا. وثبت عنه أنه قال: ما استودعت قلبي شيئًا فنسيته، وقضية أبي هريرة مع مروان بن الحكم معلومة, وذلك أنه أحضره يومًا واستملاه فأملى أحاديث كثيرة, والكاتب يكتب وراءه بحيث لا يراه، وبعد سنة أحضره واستملاه تلك الأحاديث, فأملاها بلفظها لم يغيِّر منها حرفًا، وقد ثبت عنه في الصحيح أنه قال: لم يكن أحد أكثر مني حديثًا إلّا ما كان من عبد الله بن عمرو بن العاص, فإنه كان يكتب ولا أكتب7، ومثال هذا كثير، وذلك أن الأمة كانت بدوية أمية, فعلمها في صدروها لا تتَّكِلُ إلّا على حفظها مع قلة مواد الكتابة؛ إذ لم يكن لهم كاغد, وإنما كانوا يكتبون غالبًا في العظام واللخاف وفي الجلد الذي لا يتيسر إلّا لمن له قدرة مالية, وفي منسوجات الكتان ونحوها، ثم لما ابتدأ الترف والميل للراحة, فبالضرورة يقل الحفظ, فلذلك أمر ابن عبد العزيز بالكتابة تلافيًا لما عسى أن يقع، فأمره هذا كان ضروريًّا اقتضته طبيعة الحال، وتسبب عنه ارتقاء عظيم للفقه وحفظ للسنة.   1 مسلم في الزهد "8/ 229". 2 أخرجه الترمذي في العلم "5/ 38"، من رواية سفيان بن وكيع بن الجراح الرواسي أبي محمد الكوفي، قال البخاري، يتكلمون فيه. انظر تهذيب التهذيب "4/ 123". 3 تقدَّم. 4 لعله عبد بن أحمد بن محمد, أبو ذر. 5 عامر بن شراحيل. 6 محمد بن مسلم بن عبيد الله. 7 البخاري في العلم "1/ 38"، والترمذي "5/ 40". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 أوَّل من دوَّن الحديث 1 الذي هو مادة الفقه: ترجمة ابن شهاب الزهري : أول من دوَّنه ممتثلًا أمر ابن عبد العزيز كما رواه أبو نعيم عن مالك1 هو الإمام: محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب: الزهري، أبو بكر المدني، أحد الأئمة الأعلام، وعالم الحجاز والشام، انتهت إليه رياسة العلم والفتيا في وقته, فكان نظير ابن المسيب قبله، قال الليث3: ما رأيت عالمًا قط أجمع من الزهري. وقال أيوب3: ما رأيت أعلم منه, وقال مالك: ما له في الناس نظير. وهو معدود من صغار التابعين، أدرك عشرة من الصحابة، كما في ابن خلكان، وكان عمرو بن دينار يقول: أيّ شيء عند الزهري، لقد لقيت ابن عمر وابن   1 قال المؤلف -رحمه الله: هذه أولية تدوين الحديث, أمَّا مطلق التدوين فكان قبل هذا التاريخ, فقد روي عن ابن عباس تفسير, وروايته صحيحة اعتمدها البخاري وغيره كما تقدَّم في ترجمته، وكذلك مجاهد بن جبر له تفسير كذلك، بل أول تدوين على الإطلاق ما كتبه عبد الله بن عمرو بن العاص إلّا أنه ضاع. 2 في الحلية أن الذي أمر الزهري بذلك هو هشام عبد الملك "3/ 261"، وأما عمر بن عبد العزيز فإنما أمر أبا بكر محمد بن حزم المدني, كما سبق أن ذكر المؤلف، وفي الحلية أيضًا "3/ 260"، عن صالح بن كيسان قال: اجتمعت أنا والزهري ونحن نطلب العلم، فقلنا: نكتب السنن، فكتبنا ما جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم, قال: نكتب ما جاء عن أصحابه فإنه سنة، فقلت أنا: ليس بسنة فلا أكتبه، قال: فكتب فأونجح وضيعت. 3 ابن سعد. 4 ابن أبي تميمة السختياني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 عباس ولم يلقهما، فقدم الزهري مكة، فقال عمرو: احملوني إليه، وكان قد أقعد، فلم يأت أصحابه إلّا بعد ليل، كيف رأيته؟ فقال: والله ما رأيت مثل هذا القرشي قط, وكيف لا وقد حفظ علم الفقهاء السبعة, وكتب عمر بن عبد العزيز إلى الآفاق عليكم بابن شهاب, فإنكم لا تجدون أحدًا أعلم بالسنة الماضية منه. وهو من علماء الدين والسياسة معًا، فقد خدم عبد الملك بن مروان وولده هشامًا، ولبس لباس الجند، واستقضاه يزيد بن عبد الملك، وذكر في أعلام الموقعين أن محمد بن نوح جمع فتاويه في ثلاثة أسفار ضخمة على أبواب الفقه، مات سنة "124" أربع وعشرين ومائة عن اثنين وسبعين1. أخرج الهروي2 في ذم الكلام عن عبد الله بن دينار قال: لم يكن الصحابة ولا التابعون يكتبون الأحاديث, إنما كانوا يؤدونها لفظًا لفظًا، ويأخذونها حفظًا، إلّا كتاب الصدقات والشيء اليسير الذي يقف عليه الباحث بعد الاستقصاء، حتى خيف عليه الدروس, وأسرع في العلماء الموت, فأمر عمر أبا بكر الحزمي أن انظر ما كان من سنة أو حديث فاكتبه.   1 محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب: أبو بكر، القرشي -الزهري- الأيكلي، المدني, ولد سنة 50، وتوفي سنة 123، أو 124، أو 125: تقريب التقريب "2/ 207"، تهذيب التهذيب "9/ 445"، تهذيب الكمال "3/ 1269"، الكاشف "3/ 96، الخلاصة "2/ 457"، المعرفة والتاريخ "1/ 375، 390"، الجرح والتعديل "8/ 318"، التاريخ الكبير "1/ 220"، نسيم الرياض "3/ 401، 103"، الألعمي "27/ 116". 2 عبد الله بن محمد بن علي الأنصاري الهروي أبو إسماعيل الحنبلي، ت سنة 481هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 ترجمة أبو بكر محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري المدني : ولي القضاء ثم الإمارة بالمدينة, ورياسة موسم الحج لسليمان بن عبد الملك, ثم لعمر بن عبد العزيز, وهو الذي أمره بكتب الحديث، فكتب من ذلك ما تيسَّر له كما سبق، روى عن ابن عباس، وعمر، والسائب، وغيرهم، وكان من أعلام المدينة وفقهائها، قالت امرأته: ما اضطجع على فرشه بالليل أربعين سنة, توفي "120" سنة عشرين ومائة1. وبيتهم بيت علم وفضل بالمدينة، ومن ذلك الوقت شاعت كتابة الصحف, فلا تجد أحدًا من أهل الرواية إلّا وله تدوين أو صحيفة أو نسخة. ومن هذا القبيل ما كتبه ابن شهاب، فقد ذكروا أنه لم يكن مبوبًا مفصّلًا, ثم تلاه:   1 أبو بكر محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري المدني: خلاصة الخزرجي "445"، وتهذيب التهذيب "12/ 38". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 ترجمة الربيع بن صبيح، سعيد بن أبي عروبة : الربيع بن صبيح -بالفتح فيهما- السعدي البصري: المتوفى سنة "160" ستين ومائة1. وسعيد بن أبي عروبة مهران اليشكري البصري: الحافظ العلم، المتوفَّى سنة "156" ست وخمسين ومائة2. وغيرهما, فصنَّفوا في كل باب على حدة، إلى أن قام كبار أهل الطبعة الثالثة في منتصف القرن الثاني فدونوا الأحكام.   1 الربيع بن صبيح السعدي البصري: ميزان الاعتدال "2/ 41"، وتهذيب التهذيب "3/ 247". 2 سعيد بن أبي عروبة مهران اليشكري البصري: أبو النصر -اليشكري البصري العدوي الطهري، مات سنة 156، أو 157: تقريب التهذيب "1/ 302"، تهذيب التهذيب "4/ 63"، تهذيب الكمال "1/ 499"، تذهيب التهذيب الكمال "1/ 386"، الكاشف "1/ 368"، الميزن "2/ 151"، جامع المسانيد "2/ 469"، لسان الميزان "7/ 230"، سير أعلام النبلاء "6/ 413"، الأعلمي "19/ 164". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 الموطأ : فصنَّف مالك الموطأ، وتوخَّى فيه القوي من حديث أهل الحجاز، ومزجه بأقوال الصحابة وفتاوى التابعين، وبوَّبه على أبواب الفقه فأحسن ترتيبه وتبويبه، فكان كتابًا حديثيًّا فقهيًّا, جمع بين الأصل والفرع. فهو أول تدوين يعتبر في الحديث والفقه؛ إذ أقبل الخلق عليه وانتفعوا منه لتحريه في النقل, وانتقاء أحاديثه ورجاله، وفصاحة عبارته, وحسن أسلوبه الذي استحسنه كل من بعده إلى الآن، وهو أول من تكلم في أصول الفقه, وفي الغريب من الحديث, وفسَّر كثيرًا منه في موطأه هذا1. ووصل كتابه تواترًا إلى الآفاق في حياة مؤلفه، قال في كشف الظنون: قيل: إنه هو أول كتاب أُلِّفَ في الإسلام، وقد أقام في تأليفه وتهذيبه نحو أربعين سنة، ولذلك تلقاه علماء الأمصار بالقبول, وهوأول من وضع اسمًا لكتابه فسماه الموطأ؛ لأنه وطأه ومهده, أو واطأه عليه علماء وقته، فقد قال: إنه وافقه عليه سبعون عالمًا من علماء المدينة، وكان أكبر مما هو عليه الآن بكثير، قيل: كانت أحاديثه عشرة آلاف فصار يهذّبه وينقص منه كل ما فيه طعن من الأحاديث والرجال, وما لم يقع به عمل الأئمة, إلى أن صارت أحاديث المسندة المتصلة نيفًا وخمسمائة. قال مالك: لقيني أبو جعفر المنصور -يعني في الحج- فقال لي: إنه لم يبق عالم غيري وغيرك، أما أنا فقد اشتغلت في السياسة, فأما أنت فضع للناس كتابًا في السنة والفقه تجنب فيه رخص ابن عباس وتشديدات ابن عمرو وشواذ ابن مسعود ووطئه توطئًا، قال مالك: فعلمني كيفية التأليف، يعني: دله على طريق الاعتدال التي هي أقوم طريق في التأليف والفتوى، وقد أقبلت الأمة وعلماؤها عليه في حياة مالك وأعجبوا به, ورحلوا إليه لأخذه عنه من جميع أقطار الإسلام، وانظر أول شرح الزرقاني على الموطأ تعلم أسماء من رحلوا إليه وأخذوا عنه من أعيان علماء الأفاق، ومن أسباب إقبالهم عليه أن أبا جعفر أو الرشيد قال له   1 قال المؤلف -رحمه الله: فلذلك اعتبره بعض الناس واضع التفسير، وتقدَّم في ترجمة ابن عباس رده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 يومًا: أردت أن أعلق كتابك هذا في الكعبة وأفرقه في الآفاق وأحمل الناس على العمل به حسمًا لمادة الخلاف, فقال له مالك ما معناه: لا تفعل, فإن الصحابة تفرقوا في الآفاق, ورووا أحاديث غير أحاديث أهل الحجاز التي اعتمدتها, وأخذ الناس بذلك, فاتركهم على ما هم عليه. فقال له: جزاك الله خيرًا يا أبا عبد الله. فانظر اتساع مالك، ترك للناس حريتهم, ولم يجعل للسياسة دخلًا في كتابه، فأقبلوا عليه باختيارهم. قال ابن العربي: الكتاب الأول واللباب: الموطأ، والثاني: صحيح البخاري، ولقد كان مالك أوثقهم إسنادًا وأعلمهم بقضايا عمر، وأقاويل ابنه، وزيد بن ثابت، وعائشة, وأصحابه من الفقهاء السبعة, وبه وبأمثاله قام علم الرواية، قال ابن رشد في المقدمات، وابن العربي وغيرهما: الموطأ مقدّمة في الفقه على المدونة1. ومناقب الموطأ كثيرة, ودليلها في نفسها, فليقرأها من أراد اليقين, وكفى أنها المادة العظمى للكتب الستة وغيرها من كتب الحديث المعتمدة، حتى قيل: إن الكتب الستة مستخرجات عليها، ولذلك يعتبر مالك حائزًا قصب السبق في تأليف الفقه وأصله الحديث, ومخرجهما إلى عالم التدوين، وقد خطَّ خطًّا في التأليف لعلماء الإسلام استحسنوه فتبعوه واهتدوا بنور مصباحه، وموطأه تواترات في حياته واتصلت إلينا أسانيدها, والتفت وجوه العالم الإسلامي نحو أسانيدها, ودام النفع بها نحو اثني عشر قرنًا إلى زماننا هذا, لم تخلق على طول المدى، وكل المذهب تحتاج إليها وتعتمدها, ولم يكتسب تقادم العصر صنيعها, إلا طلاوة وقبولًا, وبظهور أفكار الإمام فيها زاد الأئمة تبصرًا واهتداءً، وكانت سببًا في انتشار مذهبه في الدنيا, وقد اعتدل الحنفية لما رحلوا إليها وأخذوها.   1 قال المؤلف -رحمه الله: هذا رأي هذين الإمامين, ولكن هما أنفسهما مع بقية المالكية خالفوها في مسائل, واعتمدوا رواية أبي القاسم في المدونة في مسائل معدودة عند المالكية, أفردت بالتأليف تقليدًا منهم لعمل أهل الأندلس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 من ألفوا في عصر مالك : وقد ألف في عصر مالك الإمام عبد الملك بن جريح1 بمكة، والأوزاعي2 بالشام، وسفيان الثوري3 بالكوفة، وحمّاد بن سلمة بالبصرة, وهشيم4 بواسط، ومعمر5 باليمن، وابن المبارك6 بخراسان، وجرير بن عبد الحميد بالريّ، وكل هؤلاء في عصر واحد, فلا يُدرى أيهم أسبق، ثم تلاهم كثير من أهل عصرهم في النسج على منوالهم، وقال أبو طالب7 في القوت: إن هذه الكتب حادثة بعد سنة عشرين أو ثلاثين ومائة، ويقال: أول من صنَّف ابن جريح بمكة في الآثار وحروف من التفسير, ثم معمر باليمن، ثم الموطأ بالمدينة، ثم ابن عيينة8 الجامع والتفسير في أحرف من علم القرآن, وفي الأحاديث المتفرقة، وجامع سفيان الثوري صنَّفه أيضًا في هذه المدة، وقيل: إنها صنفت سنة ستين. وفي آخر جامع الترمذي ما نصه: إنا وجدنا غير واحد من الأئمة تكلفوا من التصنيف ما لم يسبقوا إليه، منهم هشام بن حسان، وعبد الملك بن عبد العزيز بن جريح، وسعيد بن أبي عروبة، ومالك بن أنس، وحماد بن سلمة، وعبد الله بن المبارك، ويحيى بن زكريا بن أبي زائدة، ووكيع بن الجراح، وعبد الرحمن بن مهدي، وغيرهم من أهل الفضل والعلم، صنَّفوا فجعل الله في ذلك منفعة كثيرة, فنرجوا لهم بذلك الثواب الجزيل مما نفع الله به المسلمين, فهم القدوة فيما صنفوا.   1 ابن عبد العزيز بن جريج. 2 عبد الرحمن بن عمرو. 3 ... ابن سعيد الثوري. 4 ... ابن بشير بن القاسم أبو معاوية. 5 ... ابن راشد الأزدي. 6 عبد الله. 7 هو محمد بن علي بن عطية، ت سنة 386هـ، تاريخ بغداد "3/ 89". 8 سفيان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 الفقه الأكبر : وممن دوَّن في هذا العصر الإمام أبو حنيفة النعمان، ألَّف كتابه الفقه الأكبر, ولا شك أنه سبق الإمام مالكًا، غير أن كتابه الفقه الأكبر وإن كان عظيمًا حتى قيل: إنه حوى ستين ألف مسألة، وقيل أكثر, لكن اختفلوا هل تصحّ نسبته إليه, أو هو من تأليف أصحابه، ولم يقع له من الإقبال وتواتر الرواية والقبول ما وقع لموطأ مالك، على أنه لم يذكره في كشف الظنون مع أنه حنفي المذهب، وإنما ذكر له الفقه الأكبر الموضوع في علم الكلام، وهذا قد طبع في حيدر أباد الدكن بالهند سنة "1321", فيه صفحات "4" فقط من الرباعي, وليس فيه فقه, وإنما هو عقيدة سلفية، شرحه المغنيساوي1، وأصغر منه فقه آخر أكبر له، وعليه شرح منسوب للإمام الماتريدي2, المتوفى سنة "332", ولا أظن هذه النسبة صحيحة؛ لأنه يحتج على الأشعرية ولهم، ولم يمت الأشعري إلا سنة "332" أو "334", وطبع شرح آخر على الأول لعلي بن سلطان3 في مصر سنة "1321", وتوجد وصية منسوبة لأبي حنيفة مطبوعة مع شرحها لملا حسين الحنفي4 في حيدر أباد الدكن بالهند سنة "1321"، وهي عقيدة أيضًا صغيرة، كما أن مسنده صغيرًا أيضًا, كما يعلم بالوقوف عليه, ولم تصح نسبته إليه أيضًا, كما يأتي في ترجمته.   1 هو أحمد بن محمد المغنيساوي، انظر بروكلمان "3/ 238". 2 هو محمد بن محمد بن محمود أبو منصور الماتريدي، الجواهر المضية "2/ 130". 3 علي بن سلطان بن محمد القاري، له ترجمة في البدر الطالع للشوكاني "1/ 445". 4 هو حسين بن إسكندر الرومي, ت سنة 1084هـ تقريبًا، هدية العارفين المجلد الأول "323"، واسم شرحه: الجواهر المنفية في شرح وصية أبي حنيفة، أو الجوهرة المغنية، انظر بروكلمان "3/ 242". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 المذاهب الفقهية التي دونت في هذا العصر مدخل ... المذاهب الفقهية التي دونت في هذا العصر: قال في الأزهار الطيبة النشر1: المذاهب المقلدة أربابها المدونة كتبها بعد الصحابة ثلاثة عشر مذهبًا، على ما تحصل من كلام عياض في باب ترجيح مذهب مالك من المدراك، والسخاوي في شرح ألفية العرابي، والسيوطي في فتاويه، بزيادة ونقصان بعضهم على بعض، ولنذكر تراجم من كانوا منهم في هذه المائة مختصرة, ثم نأتي بتراجم الباقي في محله بحول الله تعالى: أولهم الإمام أبو سعيد الحسن بن أبي الحسن البصري, تقدَّمت ترجمته في الطبقة قبل هذه.   1 تأليف محمد الطالب بن الحاج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 ترجمة أبي حنيفة مدخل ... ترجمة أبي حنيفة: ثانيهم: الإمام الأعظم أبو حنيفة النعمان بن ثابت بن زُوطَي1 بن ماه، الفارسي الكوفي, مولى تيم الله بن ثعلبة, وهو من رهط حمزة الزيات, وجده زوطي كان عبدًا فعُتِقَ وولد ثابت على الإسلام، وقيل: لم يمسهم رق، وأدرك ثابت علي بن أبي طالب وهو صغير, فدعى له ولذريته، أما أبو حنيفة فمن أتباع التابعين, وأدرك زمن أربعة من الصحابة وهم: أنس بالبصرة، وعبد الله بن أبي أوفى بالكوفة، وسهل بن سعد الساعدي في المدينة، وأبو الطفيل عامر بن واثلة بمكة، ولم يلق أحدًا منهم، ويزعم أصحابه أنه لقي جماعة من الصحابة، وروى عنهم ولم يثبت ذلك عند أهل النقل كما في ابن خلكان، وقال الذهبي في الكاشف تبعًا للخطيب في تاريخ بغداد: إنه رأى أنس بن مالك، ونحوه للسيوطي، وقال الإمام ابن عبد البر في كتاب جامع العلم2, عن أبي يوسف قال: سمعت أبا حنيفة يقول: حججت مع أبي سنة 93 ثلاث وتسعين, ولي ست عشرة سنة, فإذا شيخ قد اجتمع عليه الناس فقلت لأبي: من هذا الشيخ؟ فقال: هذا رجل صحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقال له عبد الله بن الحرث بن جزء3. فقلت لأبي: قدمني إليه حتى أسمع منه، فتقدَّم بين يدي, وجعل يفرج   1 قال المؤلف -رحمه الله: زوطي -بضم الزاي، وفتح الطاء المهملة مقصورًا- كما في ابن خلكان وابن سلطان في شرح المشكاة. 2 قال المؤلف -رحمه الله: الذي رأيته في مسند أبي حنيفة رواية الحصفكي هو ما نصه: قال أبو حنيفة: ولدت سنة ثمانين, وحججت مع أبي سنة ست وتسعين وأنا ابن ست عشرة سنة، فلما دخلت المسجد الحرام، ورأيت حلقة, فقلت لأبي حلقة من هذه؟ فقال: حلقة عبد الله بن الحرث بن جزء, صاحب النبي -صلى الله عليه وسلم, فتقدَّمت فسمعته يقول: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: $"من تفقه في دين الله كفاه الله همَّه, ورزقه من حيث لا يحتسب". 3 ترجمته في الإصابة "4/ 46". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 الناس حتى دنوت منه، فسمعته يقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "من تفقَّه في دين الله كفاه الله همَّه, ورزقه من حيث لا يحتسب" 1، قال أبو عمر بن عبد البر: ذكر محمد بن سعد الواقدي2 أن أبا حنيفة رأى أنس بن مالك، وعبد الله بن جزء الزبيدي. وقوله: محمد بن سعد الواقدي, لعله كاتب الواقدي، وأما الواقدي فهو محمد بن عمر بن واقد الواقدي, أو لعله بتر, والأصل محمد بن سعد عن الواقدي3، وقال الشيخ سليمان: رصد في تاريخ الأزهر أنه أدرك واحدًا وعشرين صحابيًّا, روى عن تسعة منهم, وذلك في عهدته، لكن وقفت في فهرسة سيدي محمد بن عبد الرحمن بن عبد القادر الفاسي4, المسماة بالمنح البادية, على روايته من طريق ابن النجار عن أبي حنيفة, عن أنس بن مالك حديث: "طلب العلم فريضة على كل مسلم" 5، ورأيت في فهرسة محمد بن محمد بن سليمان السوسي الروداني, إمام الحرمين والمغرب في وقته ومسندهما عن الشيخ قدروة الجزائري6 أنه يروي جزء عن أبي معشر الطبري7 في رواية أبي حنيفة عن الصحابة. فانظرها. حديث أبو حنيفة عن عطاء بن أبي رباح، ونافع مولى ابن عمر، وقتادة8، وحماد بن أبي سليمان لازمه عشرة سنة, وعنه أخذ الفقه عن   1 لم أعثر له على أصل آخر. 2 هو محمد بن سعيد بن منيع, أبو عبد الله, كاتب الواقدي وصاحب الطبقات، له ترجمة في تاريخ بغداد "5/ 321". 3 الاحتمال الذي ذكره المؤلف لا حاجة إليه؛ لأن محمد بن سعد لما روى الخبر المذكور عن سيف بن جابر كما في مناقب أبي حنيفة للذهبي ص8، وأما عن سماع الإمام من الصحابة، فقد نقل السيوطي عن جزء لأبي معشر الطبري أحاديث سمعها أبو حنيفة من: أنس، وواثلة بن الأسقع، وعبد الله بن أنيس، وعبد الله بن أبي أوفى، وعائشة بنت عجرد، فانظره في تبييض الصحيفة في مناقب الإمام أبي حنيفة من ص4-7. 4 ترجم له المؤلف في القسم الرابع. 5 انظر تبيض الصحيفة ص5. 6 ترجم له المؤلف في القسم الرابع. 7 هو عبد الكريم بن عبد الصمد. طبقات الشافعية للسبكي "5/ 152". 8 ابن دعامة السدوسي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 إبراهيم النخعي عن علقمة1، والأسود بن يزيد عن ابن مسعود, هكذا يقول الحنفية، وهو عندي محمول على غير الفقه المبني على القياس والرأي، فقد ثبت أن ابن مسعود كان يذم الرأي ولا يقول بالقياس, وأخذ عنه أبو يوسف2، ومحمد بن الحسن، وزفر3، وروى عنه وكيع بن الجراح، وابن المبارك4، وخلق غيرهم، وكان إمام أهل العراق وفقيه الأمة، وقال عياض5: هو ممن سلم لهم حسن الاعتبار وتدقيق النظر والقياس وجودة الفقه، والإمامة فيه, لكن ليس له إمامة في الحديث, ولا استقلال بعلمه, ولا يدعيه ولا يُدَّعى له، ولذلك لا يوجد له في أكثر المصنفات الحديثة ذكر, ولا أخرج له أهل الصحيحين منه ولو حرفًا. قلت: بل أخرج له النسائي في السنن، والبخاري في جزء القراءة، والترمذي في الشمائل، وثَّقه ابن معين كما في خلاصة تذهيب التهذيب، وقال ابن خلدون في المقدمة: وحاشاه أن يكون جاهلًا بالسنة. وكيف يتصور جهله بها مع إمامته المسلمة في الفقه، وكيف يأخذه عنه جمهور من الأمة، وإنما الذي نفاه عياض الإمامة والتبرز فيه, حتى يكون مثل مالك وابن حنبل مثلًا، وكان في أول أمره تاجرًا يبيع الخز ودكانه معروف، ذا صدق في المعاملة واللهجة، ألّف كتاب الفقه الأكبر, وتقدَّم الكلام عليه.   1 ابن قيس بن عبد الله النخعي أبو شبل. 2 اسمه: يعقوب بن إبراهيم. 3 ابن الهذيل العنبري. 4 عبد الله. 5 ابن موسى أبو الفضل اليحصبي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 مسند أبي حنيفة : قال ابن حجر العسقلاني في كتاب تعجيل المنفعة بزوائد رجال الأئمة الأربعة: أما مسند أبي حنيفة فليس من جمعه, والموجود من حديث أبي حنيفة إنما هو كتاب الآثار التي رواها محمد بن الحسن عنه، ويوجد في تصانيف محمد بن الحسن وأبي يوسف قبله من حديث أبي حنيفة أشياء أخرى, وقد اعتنى الحافظ أبو محمد الحارثي1 وكان بعد الثلاثمائة بحديث أبي حنيفة فجمعه في مجلدة ورتَّبه   1 هو عبد الله بن محمد بن يعقوب الحارثي البخاري، الجواهر المضية "1/ 289". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 على شيوخ أبي حنيفة، وكذلك خرَّج منه المرفوع الحافظ أبو بكر بن المقري1، وتصنيفه أصغر من تصنيف الحارثي، ونظيره مسند أبي حنيفة للحافظ أبي الحسن بن المظفر2، وأما الذي اعتمد أبو زرعة بن أبي الفضل بن الحسين العراقي الحسيني3 على تخريج رجاله, فهو المسند الذي خرَّجه الحسين بن محمد بن خسرو4، وهو متأخر، وفي مسند ابن خسرو زيادات عمَّا في مسند الحارثي وابن المقري. وقد طبع مسند منسوب إلى أبي حنيفة من رواية الحصفكي5 سنة 1309 تسع وثلاثمائة وألف على يد مفتي المدينة المنورة عبد السلام الداغستاني, طبع الآستانة بهامش الأدب المفرد للإمام البخاري, وهو عندي صغير الحجم, قريب من مراسيل أبي داود, فلا أدري هل هو أحد الأربعة، ويظهر أنه غيرها، وفي كشف الظنون: مسند الإمام الأعظم رواه حسن بن زياد اللؤلؤ6، ورتَّب المسند المذكور الشيخ قاسم بن قطوبغا7 برواية الحارثي على أبواب الفقه, وله عليه الأمالي في مجلدين، ومختصر المسند المسمى بالمعتمد لجمال الدين محمود بن أحمد القونوي8 الدمشقي, المتوفَّى سنة 770 سبعين وسبعمائة, ثم شرحه وسمَّاه المستند، وجمع زوائده أبو المؤيد محمد بن محمود الخوارزمي9, المتوفى سنة 665 خمس وستين وستمائة، قال: وقد سمعت في الشام عن بعض الجاهلين بمقداره ما ينقصه ويستصغره ويستعظم غيره, وينسبه إلى قلة رواية الحديث، ويستدل على ذلك بمسند الشافعي وموطأ مالك، وزعم أنه ليس لأبي حنيفة مسند, وكان لا يروي إلّا عدة أحاديث, فلحقني حمية دينية فأردت أن أجمع بين خمسة عشر من مسانيده "15" التي جمعها له فحول علماء الحديث: الأول: الإمام الحافظ أبو القاسم طلحة بن محمد بن جعفر الشاهد العدل10، الثاني:   1 محمد بن إبراهيم بن علي بن زاذان الأصبهاني أبو بكر بن المقري، ت سنة 381هـ. 2 محمد بن المظفر بن موسى أبو الحسين. 3 البلخي ت سنة 222، الجواهر المضية "1/ 218". 4 المتوفى سنة 522هـ. 5 هو موسى بن زكريا صدر الدين، الجوهر المضية "2/ 185". 6 تأتي ترجمته. 7 ترجمته في الضوء اللامع "6/ 184"، والبدر الطالع "2/ 45". 8 له ترجمة في: تاج التراجم لابن قطوبغا: "70"، وفيه وفاته سنة 771هـ. 9 له ترجمة في الجواهر المضية "2/ 132. 10 له ترجمة في تاريخ بغداد "9/ 351". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 الإمام الحافظ أبو محمد بن عبد الله بن محمد بن يعقوب الحارثي البخاري, المعروف بعبد الله الأستاذ1. الثالث: الإمام الحافظ أبو الحسن محمد بن المظفر بن موسى بن عيسى بن محمد2. الرابع: الإمام الحافظ أبو نعيم الأصبهاني الشافعي3. الخامس: الشيخ أبو بكر محمد بن عبد الباقي بن محمد الأنصاري4. السادس: الإمام أبو أحمد عبد الله بن عدي الجرجاني5. السابع: الإمام الحافظ عمر بن حسن الشيباني6. الثامن: أبو بكر أحمد بن محمد بن الخالد الكلاعي7. التاسع: الإمام أبو يوسف القاضي8، والمروي عنه يسمى بنسخة أبي يوسف. العاشر: الإمام بن حسن الشيباني9 ويسمّى بنسخة محمد. الحادي عشر: ابنه الإمام حماد10. والثاني عشر: الإمام محمد أيضًا, وروى معظمه عن التابعين, ويسمى الآثار. الثالث عشر: الإمام الحافظ أبو القاسم عبد الله بن أبي العوام السعدي11. الرابع عشر: الإمام الحافظ أبو عبد الله حسين بن محمد بن خسرو البلخي12، المتوفى سنة 523 ثلاث وعشرين وخمسمائة. وقد خرَّجه تخريجًا حسنًا, ولم يحدِّث إلا بالسير وهو في مجلدين. الخامس عشر: الإمام المارودي13، فجمعتها على ترتيب أبواب الفقه بحذف المعاد وترك تكرير الإسناد, واختصره جملة من الأئمة ذكرهم في كشف الظنون. فانظر تمامه14.   1 له ترجمة في الجواهر المضية "1/ 289". 2 ترجمته في تاريخ بغداد "3/ 262". 3 هو أحمد بن عبد الله. 4 البغدادي الحنبلي, ويعرف بابن قاضي المارستان, ت سنة 535 هـ, له ترجمة في لسان الميزان "5/ 241". 5 صاحب الكامل في الضعفاء والمتروكين، ت سنة 365هـ. 6 المعروف بالأشناني، ت سنة 339هـ. 7 اسمه الكامل: أحمد بن محمد بن خالد بن خلي الكلاعي، ترجم له الخوارزمي في جامع المسند "2/ 392". 8 تأتي ترجمته. 9 تأتي ترجمته. 10 انظر الجواهر المضية "1/ 226". 11 ابن محمد بن أبي العوام. 12 انظر الجواهر المضية "1/ 218". 13 هو علي بن محمد بن حبيب. 14 كشف الظنون "2/ 1680". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 قلت: وقد طبع بمصر سنة "1326" هذا المسند الذي جمعه أبو المؤيد من خمسة عشر مسندًا, فكان في نحو "800" صحيفة كبيرة. وبهذا الاختلاف الواقع في مسند هذا الإمام الجليل تعلم فضل الموطأ، وتعلم أن ما يقال: إن أبا حنيفة لم يصح عنده, أو لم يُبْنَ مذهبه إلّا على سبعة عشرة حديثًا قول باطل، فقد وقفت في الفتوحات الإلهية لمولانا السلطان المقدسي, سيدي محمد بن عبد الله العلوي1 فيما انتقاه من مسانيد الأئمة الأربعة على ترجمة الأحاديث التي انفرد بها أبو حنيفة, فكانت "مائتين وخمسة عشر حديثًا" دون ما اشترك في إخراجه هو مع بقية الأئمة، ولقد وقفت على مسنده الذي من رواية الحصفكي1, فوجدته في باب الصلاة وحدها روى "مائة وثمانية عشر" حديثًا, وفي بقية الأبواب كثير. ولد أبو حنيفة سنة "80" ثمانين, وتوفي سنة "150" خمسين ومائة ببغداد -رحمه الله، وسبب موته أن المنصور العباسي ضربه وسجنه امتحانًا له ليتولى القضاء؛ لأنه كان في زمن سقوط الدولة الأموية وثورة الشيعة وظهور بني العباس, فكانوا يمتحنون من يظنون أنه ليس من شيعتهم من العلماء باسم ولاية القضاء وغيرها، كما امتحن مالك والشافعي وابن حنبل، فما من واحد من الأئمة الأربعة إلّا امتُحِنَ وسجن -رحمهم الله3.   1 ترجم له المؤلف في القسم الرابع. 2 هو موسى بن زكريا صدر الدين: الجواهر المضية "2/ 185". 3 الإمام أبو حنيفة النعمان: تاريخ بغداد "13/ 323-423"، والانتقاء لابن عبد البر "122-171"، والجواهر المضية "1/ 26"، وخلاصة الخزرجي "402"، والبداية والنهاية "10/ 107"، وتذكرة الحفاظ للذهبي "1/ 151"، وميزان الاعتدال "4/ 265"، تهذيب التهذيب "10/ 107"، والنجوم الزاهرة "2/ 12"، وقد ألف الحافظ الذهبي جزءًا مفردًا في مناقبه, نشرته لجنة المعارف النعمانية بحيدر أباد, وطبع بمصر، وألف الموفق المكي كتابًا كبير في جزئين, وطبع بحيدر أباد سنة 1321هـ، وألف البزار الكردري كذلك في مناقبه, وطبع مع كتاب المكي، وألف الحافظ السيوطي كتابه تبييض الصحيفة بمناقب أبي حنيفة، وطبع بحيدر أباد سنة 1317هـ، وهناك كتب أخرى مخطوطة، انظر بروكلمان "3/ 236". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 ثناء الناس عليه : قال الشافعي: الناس عالة في الفقه على أبي حنيفة، وقال النضر بن شميل: كان الناس نيامًا عن الفقه حتى أيقظهم أبو حنيفة بما فتَّقَه وبينه, وقال ابن المبارك1: ما رأيت في الفقه مثل أبي حنيفة, وما رأيت أورع منه، وقال مكي2: أعلم أهل زمانه, وقال القطان3: ما سمعنا أحسن من رأي أبي حنيفة. وأما زهده وورعه وطول صلاته وصيامه فمعلوم، انظر شرح المشكاة, وكتاب العلم من الإحياء، وذكر الخطيب في تاريخه له مناقب كثيرة يطول سردها, ثم أعقبها بذكر ما كان الأليف تركه؛ إذ مثل هذا الإمام لا يشك في دينه وورعه وتحفظه، وكان يعاب بقلة العربية، فمن ذلك ما روي أن أبا عمرو بن العلاء سأله عن القتل المثقل, فقال: لا قود فيه. فقال أبو عمرو: ولو قتله بحجر المنجنيق؟ فقال أبو حنيفة: ولو قتله بأبا قبيس, يعني: الجبل الذي بمكة، وقد اعتذروا عن أبي حنيفة بأنها لغة في الأسماء الخمسة، ابن مالك: وقصرها من نقصهن أشهر. انظر ابن خلكان.   1 عبد الله. 2 ابن إبراهيم. 3 يحيى بن سعيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 عقيدته : واعلم أن أبا حنيفة سُنِّي الاعتقاد، ومن أئمة الهدى، وقد خالفه الأشعري1 في مسائل من علم الكلام, ذهب فيها مذهب الماتريدي2 وهو إمام سنة أيضًا، ولكنه خلاف فرعي لا أصلي, لا يلزم منه تبديع أصلًا، ولتاج الدين السبكي3 منظومة في ذلك يقول في أولها: يا صاح إن عقيدة النعمان ... والأشعري حقيقة الإيمان وكلاهما والله صاحب سنة ... بهدي نبي الله مقتديان لا ذا يبدّع ذا ولا هذا وإن ... تحسب سواه وهمت في الحسبان   1 علي بن إسماعيل أبو الحسن. طبقات الشافعية للسبكي "3/ 347"، والجواهر المضية "1/ 353". 2 هو محمد بن محمد بن محمود أبو منصور، الجواهر المضية "2/ 130". 3 عبد الوهاب بن علي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 وهي طويلة نقلها في عدد "174" من المجلد الثاني من رحلة العياشي1، وعقيدة أبي حنيفة مبينة في كتابه الفقه الأكبر عقيدة سنيَّة سلفية -رحمه الله. ولكن الإمام الأشعري في الإبانة نسبه للتبديع، وهو القول بخلق القرآن, نسب له ذلك في باب ما ذكر في الرواية في القراءة، ونسب إليه ابن أبي ليلى2 امتحنه في ذلك وتاب. لكن أنكر ذلك الحسن بن أحمد النعمان، وقال: إنه لم يصح عن أبي حنيفة شيء من ذلك ولا له أصل، وكتاب الفقه الأكبر دليل على نفيه فانظره، وهذا هو الظن بأئمة الإسلام -رحمهم الله، على أن مسألة خلق القرآن كانت سياسية أكثر منها دينية، وخلافها لفظي لا يوجب بدعة والحمد لله3.   1 هو عبد الله بن محمد بن أبي بكر أبو سالم، ت سنة 1090. الأعلام "4/ 274". 2 هو محمد بن عبد الرحمن. 3 القول بخلق القرآن بدعة منكرة، وفتنة عظيمة، فعبارة المصنف زلة منه عجيبة، مع أنه سلفي العقيدة كما يقول عن نفسه، كيف وقد روى عن بعض أئمة السنة والجماعة تكفير من قال بخلق القرآن، ففي المدراك للقاضي عياض "1/ 390"، قال الربيع: قال الشافعي: القرآن كلام الله غير مخلوق، ومن قال مخلوق فهو كافر، وفي الانتقاء لابن عبد البر ص"106"، وعن أحمد بن حنبل أنه كان يقول: من قال القرآن مخلوق فهو جهمي, ومن قال القرآن كلام الله، ولا يقول غير مخلوق ولا مخلوق فهو واقفي، ومن قال: لفظي بالقرآن مخلوق فهو مبتدع، وقد أنصف المؤلف في دعاه عن الإمام أبي حنيفة -رحمه الله، فجزاه الله عن أئمة الإسلام خيرًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 مقدرة أبي حنيفة وسرعة خاطره : إن أبا حنيفة قد توسَّع في القياس والاستنباط بما كان له من جودة الفكر الوقّاد، وحسن الاعتبار الصحيح، وسرعة الخاطر، وتدقيق النظر، وكمال الإمامة فيه، فلذلك استنبط فروعًا وبيَّنَ أحكامها، فحصل على شهرة طبقت الآفاق، روي أنه جاءه رجل فقال: إن ابن أبي ليلى -وكان قاضيًا بالكوفة- جلد امرأة مجنونة قالت لرجل: يا ابن الزاني حدَّين بالمسجد، وهي قائمة, فقال أبو حنيفة بداهة: أخطأ من ستة أوجه. قال ابن العربي: وهذا الذي أدركه بداهة لا يدركه بالروية إلّا العلماء الماهرون، وذلك أن المعاني المتعلقة بهذه المسالة ستة: الأولى: إن المجنون لا حدَّ عليه؛ لأن الجنون يسقط التكليف, هذا إذا كان القذف في حال الجنون, أما إذا كان يجن مرة ويفيق أخرى, فيحد حال إفاقته إذا قذف حال إفاقته أيضًا. الثاني: قولها: يا ابن الزانيين, جلدها لأجلها حدَّين لكل أب حد, فخطَّأه أبو حنيفة بناء على مذهبه أن حد القذف لا يتداخل؛ لأنه حق لله عنده كحد الخمر والزنى، أما الشافعي ومالك فإنهما يريانه حقًّا للآدمي, فيتعدد بتعدد المقذوف. الثالث: أنه حَدَّ بغير مطالبة المقذوف, ولا يجوز إقامة حد القذف إلّا بعد المطالبة بإقامته, بإجماعٍ ممن يقول أنه حق آدمي أو حق لله، وبهذا يتمسك من يقول: إنه حق آدمي؛ إذ لو كان حق الله ما توقف على المطالبة. الرابع: أنه والى بين الحدين, ومن وجب عليه حدان لم يوال بينهما, بل يترك بعد الحد الأول حتى يندمل الضرب, ويستبل المضروب ثم يقام عليه الحد الآخر. الخامس: أنه حدها قائمة, ولا تحد المرأة إلا جالسة مستورة، وقال بعض الناس في زنبيل. السادس: أنه أقام الحد في المسجد، ولا يقام فيه الحد إجماعًا، وفي إقامة القصاص والتعزيز فيه خلاف من الأحكام سورة ص. غير أن ابن خلكان نقل القصة ببعض مغايرة في ترجمة محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى؛ إذ لم يقل إن المرأة كانت مجنونة, وجعل مكان الاعتراض بالجنون الاعتراض عليه برجوعه من مجلسه بعد ما قام منه، ولا ينبغي للقاضي الرجوع بعد أن قام في الحال، وزاد أن ابن أبي ليلى شكا للوالي بأن بالكوفة شابًا يعارضني في الأحكام, ويشنّع على بالخطأ, فبعث إليه الوالي ومنعه من الفتوى فلازم بيته. وروى أن ابنته استفتته يومًا بأنها خرج من أسنانها دم وهي صائمة فبصقته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 حتى عاد الريق أبيض, فهل تفطر إذا بلعت الريق, فأمر ولده حمادًا أن يفتيها, وقال لها: إن الوالي منعني من الإفتاء, وهي من مناقبه في حسن تمسكه بالطاعة لأولي الأمر. ومن فقه أبي حنيفة, قال محمد بن الحسن: أتوه في امرأة ماتت، وفي بطنها ولد يتحرك, فأمرهم فشقوا جوفها واستخرجوه, وكان غلامًا فعاش حتى طلب العلم, وكان يتردد إلى مجلسه, وسموه ابن أبي حنيفة، صحَّ من ترجمة محمد بن الحسن بن ابن خلكان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 إحداث أبي حنيفة للفقه التقديري : كان الفقه في الزمن النبوي هو التصريح بحكم ما وقع بالفعل، أما مَنْ بعده من الصحابة وكبار التابعين وصغارهم فكانوا يبينون حكم ما نزل بالفعل في زمنهم, ويحفظون أحكام ما كان نزل في الزمن قبلهم, فنما الفقه وزادت فروعه نوعًا، أما أبو حنيفة فهو الذي تجرّد لفرض المسائل وتقدير وقوعها وفرض أحكامها, إما بالقياس على ما وقع, وإما باندراجها في العموم مثلًا، فزاد الفقه نموًّا وعظمة, وصار أعظم من ذي قبل بكثير، قالوا: إنه وضع ستين ألف مسالة، وقيل: ثلاثمائة ألف مسألة، وقد تابع أبا حنيفة جل الفقهاء بعده, ففرضوا المسائل وقدَّروا وقوعها, ثم بينوا أحكامها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 حكم الله في ذلك : اختلفوا أولًا: هل يجوز فرض المسائل واستنباط أحكامها، فقال ابن عبدان: لا يجوز، كما في جمع الجوامع، مستدلًا بقوله تعالى: {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} 1، وروى ابن عبد البر عن ابن عمر قال: لا تسألوا عمَّا لم يكن, فإني سمعت عمر يلعن من يسأل عمَّا لم يكن2. واحتجوا أيضًا بحديث سهل وغيره في الصحيح, أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كره المسائل   1 المائدة: 101. 2 جامع بيان العلم "2/ 139". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 وعابها1, وبقوله عليه السلام في الصحيح أيضًا: "إن الله يكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال" 2، وقد تردَّد مالك في حمل الحديث على ذلك أو على الاستعطاء، وفي صحيح مسلم عن الزهري, عن سعد بن أبي وقاص قال: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أعظم المسلمين في المسلمين جرمًا من سأل عن شيء لم يحرّم على المسلمين, فحرم عليهم من أجل مسألته" 3، لكن هذا قد انتهى حكمه بموت الرسول -عليه السلام- لانقطاع تجدد الأحكام، ومنه حديث: "إن الله فرض أشياء فلا تضيعوها, وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة لكم من غير نسيان, فلا تبحثوا عنها" 4 رواه الإمام أحمد وغيره. وأنكر جماعة من الصحابة والتابعين السؤال عمَّا لم يقع من النوازل, ورأوا أن الاشتغال بذلك من الغلوِّ والتعمق في الدين. قال ابن المنير5: كان مالك لا يجيب في مسألة حتى يسأل, فإن قيل نزلت أجاب عنها, وإلّا أمسك، ويقول: بلغني أن المسألة إذا وقعت أعين عليها المتكلم, وإلا خُذِل المتكلِّف, وهذا ينافي ما روي عنه من المسائل الكثيرة التي هي في الموطأ والمدونة والموازنة والعتبية وغيرها، ويأتي في ترجمة المعيطي من أصحابه الأندلسيين أنه أفرد أقواله هو وأبو عمر الإشبيلي فكانت مائة مجلد، ويبعد كل البعد أن تكون المسائل كلها واقعة في زمنه، ومن ذلك قول النووي6 أيضًا: روينا أن الأوزاعي أفتى في سبعين ألف مسألة. وقال الجمهور بالجواز, مستدلين بحديث الصحيح عن المقداد بن الأسود، قلت: يا رسول الله, أرأيت إن لقيت رجلًا من الكفار فقاتلني فضرب إحدى يدي   1 متفق عليه: وهو جزء من حديث اللعان: في البخاري "7/ 69"، ومسلم "4/ 205". 2 من حديث المغيرة بن شعبة: متفق عليه, البخاري "2/ 153"، ومسلم في الأقضية "5/ 131". 3 من حديث سعد بن أبي وقاص، متفق عليه: البخاري في الاعتصام "9/ 117"، ومسلم في الفضائل "7/ 92". 4 أخرجه أبو نعيم عن أبي ثعلبة الخشني، الحلية "9/ 17"، ولم أجده في مسند أحمد، وانظر في هذا الفقيه والمتفقه "2/ 7". 5 هو عبد الواحد بن منصور، الديباج المذهب "2/ 62". 6 يحيى بن شرف أبو زكريا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 بالسيف فقطعها ثم لاذ بشجرة فقال: أسلمت لله، أفأقتله يا رسول الله بعد أن قالها؟ فقال: "لا تقتله, فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله, وإنك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال" 1، ففي الحديث لم ينهه عن فرض مسألة لم تقع بل أجابه، وبيَّن له الحكم فدلَّ على الجواز. ويدل له أيضًا حديث عويمر العجلاني في صحيح مسلم: أنه سأل عن اللعان فنزل الوحي بجوابه, ثم ابتلي به, ولم ينكر عليه السؤال عمَّا لم يقع، لكن في الحديث نفسه أنه كره المسائل, غير أنه نزل الجواب قبل الوقوع بلا شك, كما هو صريح مسلم في الصحيح2، وأجابو عن آية: {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ} بأن هناك شرطًا وهو: {إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} 3 فمفهومه: إن لم تكن مساءة في إبدائها فلا نهي: قاله ابن العربي في الأحكام. ومثال ما فيه المساءة قضية عبد الله بن حذافة, سأل النبي -صلى الله عليه وسلم: من أبي؟ فقال: "أبوك حذافة" , قالت له أمه: لو كانت الجاهلية تقترف أكنت تفضحني؟ رواه مسلم في الصحيح4، فعن مثل هذا وقع النهي في الآية. وقال البغوي5 في شرح السنة المسائل على وجهين؛ أحدهما: ما كان على وجه التعليم لما يحتاج إليه من أمور الدين, فهو جائز بل مأمور به لقوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ} 6، وعلى ذلك تتنزل أسئلة الصحابة عن الأنفال والكلالة وغيرهما، ثانيهما: ما كان على وجه التعنُّت والتكلُّف وهو المراد بحديث: "دعوني ما تركتكم, فإنما أهلك مَنْ قبلكم كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم" 7، قال الحافظ العسقلاني8: ويؤيده ورود الزجر في الحديث عن   1 متفق عليه: البخاري في المغازي، غزوة بدر "5/ 109"، ومسلم في الإيمان "1/ 66". 2 متفق عليه: البخاري "7/ 69"، ومسلم "4/ 205". 3 المائدة: 101. 4 مسلم في الفضائل "7/ 93". 5 هو عبد الله بن محمد أبو القاسم. 6 النحل: 43, والأنبياء: 7. 7 أخرجه الستة إلّا أبا داود, تقدَّم تخريجه. 8 أحمد بن علي بن حجر صاحب الفتح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 ذلك وذم السلف, فعند أحمد من حديث معاوية أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن الأغلوطات1، قال الأوزاعي: هي شواذ المسائل, وقال أيضًا: إن الله أراد أن يحرم عبده بركة العلم ألقى على لسانه المغاليط, فلقد رأيتهم أضلّ الناس علمًا. وقال ابن العربي: كان النهي في الزمن النبوي عن السؤال خشية أن ينزل ما يشق عليهم, أما بعده فقد أمن ذلك، لكن أكثر النقل عن السلف بكراهة الكلام في المسائل التي لم تقع، قال: وإنه لمكروه إن لم يكن حرامًا إلا للعلماء, فإنهم مهدوا وفرّعوا, فنفع الله من بعدهم بذلك, ولا سيما مع ذهاب العلماء ودروس العلم, وقد أشار في أعلام الموقعين إلى أن الإكثار من تفريع المسائل وردِّ الفروع بعضها على بعض قياسًا دون ردِّها على أصولها والنظر في عللها واعتبارها, واستعمال الرأي فيها قبل أن تنزل كل ذلك, داخل في دائرة النهي؛ إذ الإكثار من ذلك عنه تسبب ترك السنة والكتاب وترك الأصول؛ لأن الأعمار قصيرة لا تفي بهذا وهذا. وقال في الجزء الأخير من أعلام الموقعين: إذا سأل المستفتي عن مسألةلم تقع, فهل يستحب إجابته أو تكره أو يخير؟ فيه ثلاث أقوال, إلى أن قال: والحق التفصيل, فإن كان في المسألة نص من كتاب أو سنة أو أثر عن الصحابة لم يكره الكلام فيه، وإلّا فإن كانت بعيدة الوقوع أو مقدَّرة لا تقع لم يستحب له الكلام فيه، وإن لم تكن نادرة وغرض السائل الإحاطة بعلمها ليكون منها على بصيرة استحب له الجواب بما يعلم, لا سيما إن كان السائل يتفقَّه بذلك, ويعتبر بها نظائرها, ويفرع عليها, فحيث كانت مصلحة الجواب راجحة كان هو الأولى2. وقال الحافظ العسقلاني3: وينبغي أن يكون محل الكراهة للعالم إذا شغله ذلك عمَّا هو أهم منه, وينبغي تلخيص ما يكثر وقوعه مجرًا عمَّا يندر, ولا سيما في المختصرات ليسهل تناوله. "صح من كتاب التوحيد"، وقال الأبي4 في شرح مسلم: إن مما زاد الفقه صعوبة ما اتسع فيه أهل المذهب من التفريعات   1 أخرجه أبو داود عن معاوية في العلم "3/ 321"، وأحمد عن رجل من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم "5/ 435". 2 أعلام الموقعين "4/ 221". 3 أحمد بن علي بن حجر. 4 هو محمد بن خلفة بن عمر، ت سنة 827. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 والفروض, حتى إنهم فرضوا ما يستحيل وقوعه عادة، فقالوا: لو وطيء الخنثى نفسه فولد, هل يرث ولده بالأبوة أو الأمومة أو هما، ولو تزايد له ولد من بطنه وآخر من ظهره لم يتوراثا؛ لأنهما لم يجتمعا في بطن ولا ظهر، وفرضوا مسألة الستة حملاء، واجتماع عيد وكسوف، مع أنه مستحيل عادة، واعتذر بعضهم عن ذلك بأنهم فرضوا ما يقتضيه الفقه بتقدير الوقوع، وردَّه المازري1 بأنه ليس من شأن الفقيه تقدير خوارق العادة، قال السنوسي2 بعده: ولو اشتغل الإنسان بما يخصه من واجب ونحوه, ويتعلَّم أمراض قلبه وأدويتها, وإتقان عقائده, والتفقه على معنى القرآن والحديث, لكان أزكى لعلمه وأضوا لقبله, لكن النفوس الرديّة وإخوتها من شياطين الإنس والجن لم تترك العقل أن ينفذ لوجه مصلحة, ولا حول ولا قوة إلا بالله. واعلم أن أهل المائة الثالثة قد أكثروا من فرض مسائل لا يتصور العقل السيلم وقوعها، فأكثروا من التفريع, وهم أصحاب أبي حنيفة والشافعي ومالك، وغالبهم أهل المائة الثالثة، فبسبب ذلك ضخم علم الفقه, واستغرقت الفروع النادرة الوقت عن النظر في الأصول، فتلخّص أن أبا حنيفة أول من فرض المسائل الغير الواقعة وبيَّن أحكامها, عساها إن نزلت ظهر حكمها، فزاد علم الفقه اتساعًا ومجاله انبساطًا، غير أن المتأخرين من أصحابه ومن غيرهم, أكثروا باتساع دائرة الخيال، لا سيما في مسائل الرقيق، وفي الطلاق، والأيمان، والنذور، والردة، وكلها مسائل تفنى الأعصار ولا تقع واحدة منها، وإنما تضيع أعمار العلماء، حتى أدَّى الأمر إلى الخيال، وأوجب تأخر الفقه ودخلوه في طور الكهولة, ثم الشيخوخة، ولا غرابة في كون الزيادة في الشيء تؤدي إلى نقصانه، لكن لا في هذا العصر بل بعد المائة الثالثة والرابعة, وما قرب منهما كما يأتي، أما في هذا العصر فكان لم يزل في شبابه.   1 محمد بن علي بن عمر، ت سنة 536. 2 لعله محمد بن يوسف بن عمر. الأعلام "8/ 29". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 اقتباس مذهب أبي حنيفة : إذا أردت أن تعرف اقتباس مذهبه فانظر كتاب "الآثار" لمحمد بن الحسن1،وجامع عبد الرازق، ومصنف ابن أبي شيبة، ولخَّص منها أقوال إبراهيم النخعي، ثم قسها بالفقه الأكبر تجده لا يخرج عن محجنه إلا المواضع اليسيرة, أو التي لم يتكلم عليها إبراهيم واستنبطها أبو حنيفة, قاله الدهلوي.   1 طُبِعَ الأول منه بتحقيق أبي الوفاء الأفغاني, ونشرته لجنة إحياء المعارف النعمانية بحيدر آباد الدكن سنة 1385هـ، أما نسخة المخطوطة فانظر بروكلمان "3/ 254". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 قواعد مذهب أبي حنيفة في الفقه : مبدؤه ما قاله هو عن نفسه: إني آخذ بكتاب الله إذا وجدته، فما لم أجده فيه أخذت بسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم, والآثار الصحاح عنه التي فشت في أيدي الثقات، فإذا لم أجد في كتاب الله ولا سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم, أخذت بقول أصحابه من شئت, وأدع قول من شئت، ثم لا أخرج عن قولهم إلى قول غيرهم، فإذا انتهى الأمر إلى إبراهيم والشعبي وابن المسيب -وعدَّد منهم رجالًا, فلي أن أجتهد كما اجتهدوا. وأصول مذهب الحنفية كثيرة استوعبها أصحابه في كتبهم، كالإمام البزدوي1، وبعده محب الله بن عبد الشكور2, وفي كتابه مسلم الثبوت في أصول الحنفية والشافعية, المتوفَّى سنة "119" وغيرهما، ولا يمكننا استيعابها, وإنما ذكرنا هنا الأصول الأولية التي تفرَّعت عنها تلك الأصول الأخرى، والحق أن هذه الأصول الثانوية مخرَّجة ومستنبطة من كلامه, ولا نصَّ عليها بالتعيين عنه. مثلًا قولهم: إن من أصول مذهبهم أن العام قطعي الدلالة كالخاص، وأن مذهب الصحابي علي خلاف العموم مخصص له، وأن العادة في تناول بعض خاص مخصِّصة أيضًا، وأن الخاص مبيّن ولا يلحقه البيان، وأن الزيادة على النصّ نسخ، وأن لا ترجيح بكثرة الرواة، ولا يجب العمل بحديث غير الفقيه إذا انسد باب الرأي، ولا عبرة بمفهوم الشرط والوصف أصلًا، وأن موجب الأمر هو الواجب البتة. وأمثال هذه القواعد لا تصح بها رواية عنه ولا عن صاحبيه, وإنما أخذها   1 هو علي بن محمد بن الحسين، الجواهر المضية "1/ 372". 2 له ترجمة في أبجد العلوم لصديق حسن خان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 البزدوي وأمثاله بالاستقراء. وليست المحافظة عليها, والجواب عن كل ما يرد عليها مما يخالفها من فقه متقدميهم بأولى من المحافظة على أضدادها, والجواب عمَّا يرد تلك الأضداد، وعلى نمطها ألَّف القرافي1 قواعده في المذهب المالكي، وعياض2، والمقري3، والونشريسي4، والزقاق5، وأمثالهم. فتلك القواعد إنما هي مأخوذة بالاستقراء من كثير من الفروع لا من كلها. وهكذا في مذهب الشافعية والحنابلة ألَّف أصحابهما على هذا النمط بيان الأصول التي عليها مبني جل المسائل، أخذوها من صنيع الإمام وأصحابه في استنباطهم، بل كثير من الأحكام اجتهدوا واستنبطوا لها عللًا لم ينصّ عليها الإمام ولا عليه أصحابه، فيفتحوا بها بابًا للاجتهاد والاستنباط على مذهب الإمام.   1 هو أحمد بن إدريس، الديباج المذهب "1/ 236". 2 عياض بن موسى أبو الفضل اليحصبي. 3 محمد بن محمد بن أحمد أبو عبد الله التلمساني، شذرات الذهب "6/ 193". 4 أحمد بن يحيى بن محمد الونشريسي التلمساني، الإعلام "1/ 255"، وذكره في الاستقصاء "4/ 165". 5 هو علي بن قاسم بن محمد التجيبي، ت سنة 912 هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 خبر الواحد عند أبي حنيفة : إن أبا حنيفة يعمل به، لكن بشرط أن لا يخالفه راويه، فإن خالفه فالعمل بما رأى لا بما روى، لأنه لا يخالف مرويه إلّا وقد اطَّلع على قادح استند فيه لدليل، قلنا في ظنه، وقد سبقه إلى هذا الأصل سعيد ابن المسيب، ففي صحيح مسلم عنه عن معمر بن عبد الله قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "من احتكر فهو خاطيء" فقيل لسعيد: إنك تحتكر؟ فقال: إن معمر الذي كان يحدث بهذا الحديث كان يحتكر1، قال الترمذي بعد روايته: إنما روي عن سعيد بن المسيب أنه كان يحتكر الزيت والحنطة ونحو هذا2.   1 مسلم في المساقاة "5/ 75". 2 الترمذي "3/ 558". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 ويشترط أيضًا أن لا يكون مما تعمّ به البلوى, فإن عموم البلوى يوجب اشتهاره أو توافره، فإذا روي آحادًا فهو علة قادحة عنده، كحديث: "من مس ذكره فليتوضأ" 1، وقال غيره: كل ذلك غير لازم ولا قادح. ويشترط أن لا يخالف القياس, وأن يكون روايه فقيهًا، فإن خالف القياس ولم يكن راويه فقيهًا فثالثها، في معارض القياس إن عرفت العلة بنصٍّ راجح على الخبر, ووجدت قطعًا في الفرع لم يقبل خبر الواحد المعارض للقياس, أو ظنًّا فالوقف وإلا قُبِلَ، مثال المعارض للقياس حديث الصحيحين: "لا تصروا الإبل ولا الغنم, فمن ابتاعها بعد فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها, إن شاء أمسك, وإن شاء ردها, وصاعًا من تمر" 2 فردّ التمر بدل اللبن مخالف للقياس, فيما يضمن به من المتلف من مثله أو قيمته، انظر جمع الجوامع. فإذا توفرت هذه الشروط في خبر الواحد ولو ضعيف السند3 فإنه يأخذ به، ويقدّمه حتى على القياس، ولا يلتفت لسنده الخاص، ولا لكونه على وفق عمل أهل المدينة أو خلافهم، بل مشهورًا عند فقهاء العراق، فإذا لم يكن كذلك اعتبره شاذًّا, وذهب إلى القياس وترك الحديث ولو كان صحيحًا, أوعمل به أهل المدينة أجمع، وتقدَّمت لنا مقالة أبي يوسف صاحبه وردّ الشافعي لها آخر ترجمة السنة النبوية في القسم الأول من هذا الكتاب4.   1 أبو داود "1/ 46"، والترمذي "1/ 126"، كلاهما عن بسرة بنت صفوان، وللشيخ أحمد شاكر تعليق مسهب في تخريج الحديث في الترمذي، ورواه النسائي "1/ 83"، ومالك في الموطأ "1/ 422"، وابن ماجه "1/ 161"، كلهم عن بسرة، وروي أيضًا عن أم حبيبة وأبي أيوب عند ابن ماجه. 2 البخاري "3/ 92"، ومسلم "5/ 6" كلاهما عن أبي هريرة. 3 قال المؤلف -رحمه الله: بأن كان من رواية مجهول بناء على أصله من أن المسلمين كلهم عدول حتى يثبت الجرح, ويأتي عن ابن سلطان ما يقيده. 4 تقدم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 القياس عند أبي حنيفة : مذهب الحنفية أوسع المذاهب وأكثرها تسامحًا على وجه الإجمال وأيسرها للمتجهد الماهر استنباطًا لانبنائه على الفلسفة والنظر لحكم الأحكام والعلل، لا سيما في المعاملات التي القصد منها مصالح العباد وعمارة الكون، فالحنفي أحوج إلى النظر من النقل والأثر؛ إذ من قواعد مذهبه الأخذ بالقياس والتوسع فيه في غير الحدود والكفَّارات والتقديرات الشرعية، وتقدَّم لنا في مبحث القياس من القسم الأول من الكتاب أن القياس المخصوص بأهل الاجتهاد والذي هو ميدان المعترك هو تخريج المناط، أما تحقيق المناط وتنقيحه فهما مبذولان للمجتهد وغيره, ويقول بهما جلّ من لا يقول بالقياس على التحقيق. وتقدَّم لنا هناك استدلال بعض أهل الأصول بحديث: "حكمي على الواحد كحكمي على الجماعة"1، وفاتنا هناك التنبيه عليه، فقد نصَّ الكمال ابن أبي شريف2 على أنه لا يعرف له أصل بهذ اللفظ, والمعروف حديث الترمذي, وقال حسن صحيح، والنسائي، وابن ماجه وابن حبان، وهو قوله -عليه السلام- في مبايعة النساء: "إني لا أصافح النساء, وما قولي لامرأة واحدة إلا كقولي لمائة امرأة" انظره عند قول جمع الجوامع, والأصح أن خطاب الواحد لا يتعداه، في مبحث النهي. ثم القياس عند أبي حنيفة مقدَّم على الخبر الصحيح المعارض له من كل وجه, الذي فيه قادح من القوادح السابقة عنده، وقد فعل ذلك في حديث المصراة، وحديث العواري، وحديث الشاهد واليمن، وغيرها، قال أبو حنيفة: علمنا هذا رأي, وهو أحسن ما قدرنا عليه، ومن جاءنا بأحسن منه قبلناه. ويعضد أبا حنيفة ما جاء في صحيح مسلم وأبي داود والترمذي, من أن عمر استشار الصحابة في حدِّ الخمر، فقال عبد الرحمن بن عوف: أرى أن تجعله كأخفِّ الحدود, يعني: ثمانين3. وفي الموطأ أن عليًّا بن أبي طالب رأى ذلك قائلًا: إن من سكر هذى, ومن هذى افترى4.   1 تقدَّم. 2 هو محمد بن محمد بن أبي بكر بن علي بن أبي شريف أبو المعالي، الأعلام للزركلي "7/ 281". 3 مسلم "5/ 125"، وأبو داود "4/ 163"، والترمذي "4/ 48". 4 الموطأ "2/ 842". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 وروى الطبراني وغيره أن الزبير وطلحة رأيا ذلك أيضًا1 فأمضاه عمر بمحضر جمهور، فكأنه إجماع سكوتي حيث أخذوا به، وبه كانوا يحكمون بقية أيامه وصدر أيام عثمان، ففي هذه القصة الأخذ بقياس حد الخمر على أخف الحدود, الذي هو القذف وصيرورته ثمانين, وتقديمه على السنة التي كانت في زمنه -عليه السلام- المقدَّرة في زمن أبي بكر بأربعين, الثابتة في الصحيح أيضًا. لكن يرد على أبي حنيفة أنه لا يقول بالقياس في الحدود، ويعضده أيضًا حكم عثمان في ضوالّ الإبل أنها لقطة كغيرها، وقدَّم ذلك على نصِّ الحديث، وتقدَّم بيان ذلك في اجتهاد عثمان في القسم الأول من هذا الكتاب2. ويرد على أبي حنيفة حديث مسلم: عن عبد الله بن عمر في قضية استخلاف عمر، وقد تقدَّم في اجتهاد أبي بكر3، فابن عمر استدلّ بالقياس على رعاة المواشي, وعمر ردَّ عليه بتقديم السنة بناءً على أن الترك سنة كالفعل, فتأمل ذلك. وأمثاله كثير كثير في تقديم السنة, بل الرجوع عن الرأي إليها, وتقدمت أمثلة من ذلك, غير أن الإنصاف أنه لا يخلو مذهب من ترك العمل ببعض السنن الثابتة لأعذار يبديها الأتباع، قبلها من قبلها وردَّها مَنْ ردها. كترك مالك العمل بحديث الصحيحين, وهو رجمه -عليه السلام- ليهودي ويهودية زنيا4, المتضمِّن لحكمنا بينهم إذا ترافعوا إلينا, واعتبار إحصان الكتابيّ، ومالك لا يرى الأمرين معًا، واعتذر أصحابه بأعذار لا تقبل عند غيرهم، على أن أبا حنيفة قد يأخذ بظاهر النصِّ ويترك القياس على نسق أهل الظاهر، ولكن ذلك قليل، من ذلك قوله في الحمارية والمشتركة: إن الإخوة الأشقاء لا يقاسمون الإخوة للأم تمسُّكًا بظاهر حديث: "ألحقوا الفرائض بأهلها" 5، ولم ينظر   1 لم أجده، ولكن في مسلم أن عمر -رضي الله عنه- لما استشار الناس في حد الخمر, قال عبد الرحمن بن عوف: أخف الحدود ثمانين, في آخر خلافته, ثم جلد عثمان أربعين, ثم جلد معاوية ثمانين "6/ 279". 2 تقدَّم. 3 تقدم. 4 متفق عليه: البخاري "8/ 214"، ومسلم "5/ 121". 5 متفق عليه: البخاري "8/ 187"، ومسلم "5/ 59". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 أن السبب الذي توصَّل به الإخوة للأم هو بعينه موجود في الأشقاء، ولذلك نظائر في مذهبه، على أن ترك ظاهر قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} 1 في الغراوين, وقال كغيره من بقية الأئمة: ليس للأم إلّا ثلث الباقي أخذًا بالقياس، وهو أن الذكر والأنثى إذا ورثا من جهة واحدة فللذكر مثل حظ الأنثيين، غير الإخوة لأم. قال في البائع يجد سلعته عند المفلس بعينها لا يأخذها, وهو أسوة الغرماء أخذًا بالأصل الذي هو انعقاد البيع وانتقال الملك، وخالفه المالكية وغيرهم أخذًا بحديث أبي هريرة, أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قضى بها للبائع. رواه أبو داود والموطأ2 وغيرهما. على أن أبا حنيفة قد يقدِّم الحديث الضعيف على القياس كما سبق.   1 النساء: 11. 2 متفق عليه: البخاري في الاستقراض "3/ 155"، ومسلم في المساقاة "5/ 31"، وهو في أبي داود "3/ 286"، والموطأ "2/ 678". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 الاستحسان في المذهب الحنفي : ومن مذهبه أيضًا الاستحسان، وقد ثبت أنه قال: أستحسن وأدع القياس, وكذا ثبت عن صاحبه محمد بن حسن، وذلك أنه إذا وجد أثرًا يخالف القياس يترك القياس ويعمل بالأثر، أو يرجع إلى أصول عامة, وهو ما يُعْرَفُ عند الأقدمين بالرأي, فيترك القياس على أصل معين, ويرجع لتلك الأصول العامة، أو إلى آخر معين، وتقدَّم لنا ذلك في الاستحسان والمصالح المرسلة في القسم الأول من الكتاب فراجعه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 تألب الأثريين ضده : بقدر اتساع شهرته وفشوِّ فتاويه ازداد تألبُّ الحجازيين ضده, ورموه تارة بنبذ السنة وعدم الاعتراف بها، وتارة بقصور الباع فيها، وحاشاه منهما معًا, إمام من أئمة المسلمين الهداة، آخذ بالسنة، وروى منها كثيرًا كما سبق، وقد قال الشافعي: أجمع الناس على أن من استبانت له سنة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس, فكل ما يوجد في مذهب أبي حنيفة من مخالفةالسنن, فإما أن يكون لم يطَّلع عليها لكونه أخذ بأحاديث العراقيين دون الحجازيين والشاميين إلّا ما قلّ، وفي هذه الصورة يتعين ترك مذهبه، والتمسُّك بالسنة, وفي مثل هذه الصورة يذم التقليد في جميع المذاهب, ويتعين الخروج من ربقته؛ لأن الإحاطة بالعلم إنما هي لله، والعصمة إنما هي لمقام النبوة. وليس أبو حنيفة أو مالك برسل بعثوا, وإنما هم مجتهدون يخطئون ويصيبون، وإما أن يكون اطَّلع على قادح أو معارض فتركها، وهنا يحتدم الجدال بين أرباب المذاهب في القادح, هل هو مؤثِّرٌ أم لا، وفي المعارض هل هو مقدَّم أم لا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 انتقاد القياس والاستحسان وجوابه : لقي مذهبه صدمتين عظيمتين من فئتين عظيمتين، هما جمهور علماء الإسلام في القرن الثاني، وهما المحدثون والمتكلمون من أهل السنة، شنّوا عليه غارة شعواء، فأهل الحديث يرون أن السنة أصل مكين في التشريع, مكمل للقرآن من غير أن ننظر إلى علل الأحكام, فنقيس عليها ولا إلى أصول عامة فنستحسن، ومن المحدِّثين نشأ أهل الظاهر الجامدون على نصوص الشرع بالحرف, غير ناظرين إلى مقاصدها وعللها, فإذا لم يجدوا نصًّا قالوا: لا ندري, وأحجموا عن الفتوى زاعمين أن مذهب الكوفيين فلسفة فارسية صيّرت الفقه الذي هو شرع وتعبُّد عمليًّا وضعيًّا من أوضاع البشر. وقالوا: إننا إذا نظرنا إلى المعنى أو العلل صرنا مُشرِّعين بفكرنا, لا ممتثلين متعبدين, ولزم انحلال الشريعة وعدم الوقوف عند حدها، مع أنَّا نرى القوانين البشرية لا يتجاسر عليها, بل يوقف عند حد منطوقها ومفهومها، فكيف بما هو شرع إلهي. ولولا الوقوف عند نصوص الشرائع ما انضبط حكم, بل كان ذريعة للحكم بالهوى, فكل من كان له غرض وكان له فضل بيان ونظر, أمكنه أن يدَّعي القياس والعلل, ويعجز من لم يكن ذا قدرة على البيان عن الحجة، ولذا قال عليه السلام: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 "فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض" 1, فاتباع النظر والقياس انخلاع عن قيد الشرع. وكم لهم من عبارة قاسية ضد أهل الرأي, حتى إنهم إذا عابوا أحدًا قالوا: إنه عراقي أو من أهل الرأي، وانضاف إليهم المتكلمون من أهل السنة, فرأوا أن الشريعة تعبُّد محض لا نظر فيه ولا مجال للقياس والرأي، فكل ما ثبت عن الشرع لزم التعبد به؛ لأنا إذا قلنا: إن هناك عللًا ومصالح لزم تعليل أفعال الله، والله منزَّه عن الغرض وأن يصله نَفْعٌ من خلقه، ويلزم أيضًا التحسين والتقبيح العقليان، وهذا مدار الخلاف بين أهل السنة والمعتزلة, وإن خالف المتكلمون المحدثين في كون السنة أصلًا من أصول التشريع، ولهذا نجد بعض أتباع أبي حنيفة من رءوس المعتزلة؛ كبشر "156" بن غياث المريسي, الذي تنسب إليه المريسية, طائفة من المرجئة, المتوفى سنة "267" سبع وستين ومائتين2. ومحمد "175" بن شجاع الثلجي, المتوفى سنة "267" سبع وستين ومائتين3 وغيرهما. وكل هذه العواصف تلقَّاها الحنفية بصدر رحيب ولم يؤثر عليهم، فإنهم رأوا أن الشريعة ليست شريعة جمود وآصار، بل وضعت عنا الآصار التي كانت على مَنْ قلنا كما بينه القرآن، وهي شريعة عامَّة دائمة, ولا تدوم ولا تعم الأمم إلّا إذا كانت معقولة المعنى, ويتطور كثير من أحكماها بتطور الأحوال والأزمان والأمم، وقد عاينَّا في آيات وأحاديث الإرشاد إلى العلل والقياس كما سبق لنا ذلك. وعلى كل حالٍ لا ينكِرُ القياس في الدين إلّا جامد جاهل به, والقرآن مملوء من الاستدال به على الكفار في العقائد, فأحرى الفروع.   1 رواه الجماعة: البخاري في الأحكام "9/ 89"، ومسلم في الأقضية "5/ 129"، وأبو داود "3/ 301"، والترمذي "3/ 615"، والنسائي "8/ 205"، وابن ماجه "2/ 777". 2 انظر ترجمته: في تاريخ بغداد "4/ 56"، وميزان الاعتدال "1/ 322"، ولسان الميزان "2/ 29"، والنجوم الزاهرة "2/ 228". 3 ترجمة الثلجي في: تاريخ بغداد "5/ 305"، والجواهر المضية "2/ 60"، وتذكرة الحفاظ "2/ 184"، وميزان الاعتدال "3/ 577"، وتهذيب التهذيب "9/ 22". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 قال الله تعالى: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَة} 1 الآية، وقد فطر الله عباده على أن حكم النظير حكم نظيره, وحكم الشيء حكم مثيله، وعلى إنكار التفرقة بين المتماثلين والجمع بين المختلفين، والعقل والميزان الذي أنزله شرعًا يأبى ذلك، وقد جعل الجزاء من جنس العمل، فمن أقال نادمًا أقال الله عثرته يوم القيامة، لا توكي فيوكي الله عليك، ومن ضارَّ مسلمًا ضارَّ الله به، إلى غير ذلك، وشريعتنا الحكمية منزَّهة عن أن تكون أوامرها ونواهيها مجرَّدة عن دفع المضارِّ وجلب المصالح، وكيف تأمر بشيء لمصلحة أو تنهى عن شيء لمفسدة، ثم تبيح ما هو مشتمل على تلك المفسدة، وكيف لا تأمر بشيء توجد فيه تلك المصلحة، أو ما هو أكثر منها. هذا لا يعقل، لذلك فالقول بالقياس ليس مخصوصًا بالحنفية, بل هو عند سائر الأئمة إلّا قليلًا. وإنما الحنفية لهم نوع توسع عيب عليهم الإغراق فيه فقط، قال المزني2: الفقهاء من عصر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى يومنا, وهلمَّ جرَّا, استعملوا المقاييس في الفقه في جميع الأحكام في أمر دينهم, وأجمعوا بأن نظير الحق حق, ونظير الباطل باطل, فلا يجوز لأحد إنكار القياس, وذلك كله لا ينافي كون السنة أصلًا أصيلًا إذا وجدت وتوفرت فيها الشروط, أما عند فقدها فالقياس أصل يرجع إليه إذا وجد له أصل معين يُقَاسُ عليه، وإلّا فنرجع للأصول العامة وهو الاستحسان. أما ما اعتبرناه عللًا فليس هو ما يقصدون من تعليل أفعال الله حتى يكون فاعلًا بالعلة والاضطرار, لجعلكم العلل عقلية, فحاشاه من ذلك -جلَّ وعلا، وإنما هي علل شرعية, علَّلَ الشارع الحكم بها وأداره عليها وجودًا وعدمًا, ونصبها أمارات عليه، فلا غرض ولا علة لأفعال الله، ثم هناك مصالح وحكم راجعة إلينا لا إليه تعالى. كذلك مسألة التحسين والتقبيح لا مساس لها بمسألتنا, وإنما ذلك خيال ومغالطة؛ لأن التحسين والتقبيح الذي ينكره الجميع هو استقلال العقل بالتحليل والتحريم, والثواب والعقاب, قبل الشرع وحكمه بالإيجاب عليه تعالى، وهذا   1 البقرة: 259. 2 إسماعيل بن يحيى. الانتقاء "111". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 نذمه, ولا نقول به. وإنما نقول نحن: إن العقل يمكنه أن يدرك حسن الأحكام التي سنَّها الشرع وقبَّح ما نهى عنه، ثم يعتبر ويقيس الحسن الذي اشتمل على مصلحة الواجب فيوجبه، والقبيح المشتمل على مفسدة الحرام فيحرمه، ولا نقول: إنه جامد لا ينظر في شيء، والله يقول: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا} 1, ويقول: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} 2, ويقول: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ} 3, و {لِأُولِي النُّهَى} 4 ويقول: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} 5.   1 الأعراف: 184، والروم: 8. 2 الحجر: 75. 3 لعله يعني آية آل عمران: 190، ونصها: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} ، ووردت صيغة أخرى في سورة الزمر: 21 {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ} . 4 طه: 54، 128. 5 النساء: 83. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 الحيل عند الحنفية : ومن أصول أبي حنيفة باب الحيل, ويسمونه: المخارج من المضايق. وهو التحليل على إسقاط حكم شرعي أو قبله إلى حكم آخر، وذلك لأن الله سبحانه أوجب أشياء إما مطلقة من غير قيد ولا ترتيب على سبب؛ كوجوب الصلاة والصوم وحرمة الزنى والربا، أو على سبب؛ كالزكاة والكفَّارة وتحريم المطلقة وتحريم الانتفاع بالمغصوب، فإذا تسبب المكلف في إسقاط الوجوب عن نفسه, أو إباحة المحرم عليه بوجه من وجوه التسبب حتى يصير الواجب غير واجب في الظاهر, أو المحرَّم حلالًا في الظاهر أيضًا، فهذا التسبب يسمى حيلة. كما لو دخل رمضان فأنشأ السفر ليأكل، أو كان له مال فوهبه قبل الحول تخلصًا من الزكاة، أو اغتصب جارية ثم ادَّعى موتها فقوِّمت عليه, وأدَّى ثمنها لأجل أن يتوصَّل إلى وطئها، وأمثال ذلك. وقد عابه الكل على أبي حنيفة حتى بعض من يقول بالرأي، ورد عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 البخاري كثيرًا, وعقد لها كتابًا في الجامع الصحيح وعناه بقوله: وقال بعض الناس: قالوا إن أحكام الله شرعت لجلب مصالح إلينا أو دفع مضار, ومن أمحل المحال أن يشرع من الحيل ما يسقط شيئًا أوجبه, ويحل شيئًا حرَّمه, ولعن فاعله, آذنه بالحرب كالربا, ويسوغ التوصل إليه بأدنى حلية. ولو أن المريض تحيَّل فأكل ما نهى عنه الطبيب لكان ساعيًا في ضرر بدنه, وعُدَّ سفيها مفرطًا. ومن أكثر الناس ردًّا للحيل الحنابلة، ثم المالكية، لأنهم يقولون بسد الذرائع، وهو أصل مناقض للحيل تمام المناقضة، والحق أنه لا حقَّ لهم في الإنكار لأصلها، فإنَّ لها أصلًا في الشريعة جملة التوسعة التي فتحها الله على عباده. قال تعالى لنبيه أيوب -عليه السلام: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} 1 إذ حلف أن يضرب زوجه مائة سوط, فأمره أن يجمع مائة من شماريخ ويجعلها ضغثًا, ويضربها مرة واحدة, فكأنه ضربها مائة سوط، فذلك تحلة أيمانه, قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} 2، وقال تعالى: {فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} 3، وقال -عليه السلام: "حتى تذوق عسيلتها وتذوق عسيلتك" 4، ولعن من أفرط في التحيل فقال: "لعن الله المحلِّلَ والمحلَّل له" 5، وفي الصحيحين قال -عليه السلام- لبلال: "بع الجمع بالدراهم, ثم ابتع بالدراهم جنيبًا" 6, والجمع نوع من تمر خيبر رديء, والجنيب نوع جيد, ولم   1 ص: 44. 2 الطلاق: 2. 3 البقر ة: 230. 4 البخاري واللفظ له "7/ 55"، وانظر سنن أبي داود "2/ 294"، والنسائي "6/ 119"، وابن ماجه "1/ 621". 5 رواه علي بن أبي طالب وابن عباس، وانظر: سنن أبي داود "2/ 227"، والترمذي "3/ 218"، والنسائي "6/ 121"، وابن ماجه "2/ 622". 6 الذي في الصحيحين البخاري "3/ 102"، ومسلم "5/ 47"، حديث أبي هريرة وأبي سعيد الخدري أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- استعمل رجلًا على خيبر, فجاءه بتمر جنيب, فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أكل تمر خيبر هكذا"؟ قال: لا والله يا رسوله الله -صلى اله عليه وسلم- إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين والصاعين بالثلاثة، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: " لا تفعل, بع الجميع بالدراهم, ثم ابتع بالدراهم جنيبًا" , وفي رواية عند مسلم أنه -صلى الله عليه وسلم- بعث أخا بني عدي الأنصاري فاستعمله على خيبر .... وذكر الحديث، وأما حديث بلال فأخرجه مسلم عن أبي سعيد "5/ 48"، ولكن بغير هذا السياق، قال رواية الحديث: سمعت أبا سعيد يقول: جاء بلال بتمر برني, فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "من أين هذا"؟ فقال بلال: تمر كان عندنا رديء, فبعت منه صاعين بصاع لمطعم النبي -صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أوه عين الربا, لا تفعل, ولكن إذا أردت أن تشتري التمر فبعه ببيع آخر, ثم اشتر به". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 يفصِّل بين أن يكون البيع من رجلين أو رجل واحد، وحديث بريرة "هو لها صدقة ولنا هدية" 1, وقال لماعز لما أقرَّ بالزنى: "إبك جنون"؟ كما في الصحيح2، وقال للرجل الذي قال له: اقترفت حدًّا: "هل صليت معنا"؟ قال: نعم, قال: "فذلك كفارة ذنبك" كما في الصحيح3، فوجود أصل الحيل في الشريعة مما لا يشك فيه، ولا يخلو مذهب منه، ومن ذلك قول خليلنا: فإن فعلت المحلوف عليه حال بينونتها لم يلزم. وقال الحنابلة: لو نصب شبكة قبل أن يحرم فوقع فيها صيد بعد الإحرام حلَّ له أكله, وما أشبهه بحيلة أهل السبت، لكن المعيب على بعض الحنفية القياس عليها, والاسترسال على أصل مذهبهم حتى أفتوا: من اشترى جارية وأراد وطأها من يومها بدون استبراء أن يتزوجها. ونسب ابن ناجي4 في شرح المدونة الفتوى بها لمالك، وقد انتقدوا عليه نسبتها لمالك، وأفتوا السارق أن يدعي أن الدار داره, وصاحبها عبده, فيسقط الحد، ومن حلف أن يطلق امرأته أبدًا أن يقبِّل أمها فتحرم عليه، فأمثال هذه الفتاوى مستبشع في الدين معاب بلا شك. كما أن الكتب التي ألفها الحنفية في الحيل من هذا النوع عيبت عليهم, وذمها العلماء أبلغ ذمٍّ؛ لأنها حيل ضعيفة المدرك, ويلزم منها انحلال الشريعة وإفساد نصوصها، ونحن نرى أن مثل هذه الحيل لا تُقْبَل حتى عند أصحاب الشرائع البشرية لما تؤدي إليه من الفساد. وأيضًا لوجود ما يدل على النهي عن الاسترسال فيها؛ كلعن القرآن الذين   1 متفق عليه. 2 متفق عليه: البخاري في المحاربين "8/ 205"، ومسلم في الحدود "5/ 116". 3 البخاري في المحاربين "5/ 206". 4 قاسم بن عيسى بن ناجي التنوخي القيرواني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 تحيلوا للاصطياد في السبت1, ولعن السنة الذين حرمت عليهم الميتة فجمَّلوها وأكلوا ثمنها كما في أصح الصحيح2، فالحيلة إذا هدمت أصلًا شرعيًّا أو ناقضت مصلحة شرعيَّة حيلة ملغاة لا يجوز الترخيص فيها، وما ليست كذلك فلا تلغى، فالحيل ثلاثة أقسام: ملغاة بالاتفاق: كحيلة المنافق في إظهار الإسلام وإخفاء الكفر، وغير ملغاة اتفاقًا: كمن نطق بكلمة الكفر وقلبه مطئمن بالإيمان لحقن دمه، والثالث ما لم يتبيّن فيه بدليل قطعيٍّ إلحاقه بالأول ولا بالثاني، وفيه اضطربت أنظار النظار، وهو محل التنازع بين الحنفية وغيرهم، ولذلك فسمها الأئمة إلى الأحكام الخمسة, فمنها جائز وحرام ومندوب ومكروه وواجب، والحيلة الشرعية ما خلصت من المحرم ولم توقع في إثم، وانظر فتح الباري أول كتاب الحيل3، وموافقات الشاطبي آخر الربع الثاني4، وغيرهما. وقد أطلت في ترجمة أبي حنيفة, ولكني في الحقيقة مقصر: أعد ذكر نعمان لنا إن ذكره ... هو المسك ما كرَّرته يتضوَّع5   1 ذكر أهل السبت في خمسة مواضع في القرآن: سورة البقرة "65، 66"، وفي سورة النساء "154، 155"، وفي الأعراف "163"، وفي النحل "124"، أما ذكر لعنهم ففي النساء "47": {أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} . 2 متفق عليه: تقدَّم تخريجه. 3 فتح الباري "12/ 266" ط. الخشاب. 4 الموافقات "2/ 280". 5 هذا الفصل عن الإمام أبي حنيفة من أوضح الأدلة على إنصاف المؤلِّف ودقته العلمية, وله في الحافظ ابن عبد البر المالكي في كتابه "122-171" أسوة حسنة وسلف صالح, رحم الله الجميع وجزاهم خير الجزاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 ترجمة ثالثهم الإمام أبو عمرو عبد الرحمن بن عمر بن يحمد 1 الأوزاعي: إمام أهل الشام في زمنه بلا مدافعة ولا مخالفة، كان يسكن دمشق خارج باب الفراديس, ثم تحوَّلَ إلى بيروت فسكنها مرابطًا إلى أن مات بها، وأصله من ولد سيبان -بفتح السين المهملة قبل الياء, وقال أبو زرعة2: أصله من سبي السند, وكان قد سكن في بني أوزاع بن مرثد, بطن في اليمن فنُسِبَ إليهم، الإمام العلم كان نهَّاءً عن المنكر لا يخاف في الله لومة لائم، قال النووي: قد انعقد الإجماع على جلالته وإمامته وعلوِّ مرتبته وكمال فضيلته، ومقالات السلف مشهورة كثيرة في ورعه وزهده وعبادته, وقيامه بالحق, وكثرة حديثه وفقهه وفصاحته, واتباعه للسنة, وإجلال أعيان أئمة زمانه من جميع الأقطار له, واعترافهم بمزيته، وروينا من غير وجه أنه أفتى في سبعين ألف مسألة. كان يكره القياس ويقف مع السنة، روى عن كبار التابعين كعطاء3، وابن سيرين4، ومكحول5، وخلق، وروى عنه قتادة6، والزهري7، ويحيى بن أبي كثير، وهم تابعون, مع إنه هو من أتباع التابعين فقط، فهو من رواية الأكابر عن الأصاغر، كما روى عنهم هو، وأخذ عن مالك، كما أخذ مالك عنه أيضًا، قال إسحاق8: إذا اجتمع الأوزاعيّ والثوري ومالك على الأمر فهو السنة. وقال ابن سعد: كان ثقة مأمونًا فاضلًا خيرًا كثير الحديث والعلم والفقه, وهو من أئمة المذاهب المدونة، وعلى مذهبه كان أهل الأندلس أولًا لكثرة الداخلين إليها من الشام، وما غلب عليها مذهب مالك إلّا بعد المائتين, زمن بني أمية, وُلِدَ ببعلبك سنة "88" ثمان وثمانين، وتوفي سنة "157" سبع وخمسين ومائة9.   1 قال المؤلف -رحمه الله: يحمد ضبطه في الأزهر -بضم والميم بينهما جاء ساكنة، وضبطه النووي بكسر الياء والميم جميعًا، نقله المسناوي في نصرة القبض، وفي القاموس, ويحمد كيمنع وكيعلم مضارع اعلم أبو قبيلة. اهـ منه. 2 الرازي عبيد الله بن عبد الكريم. 3 ابن أبي رباح. 4 محمد. 5 الشامي أبو عبد الله, أو أبو أيوب, أو أبو مسلم. تهذيب التهذيب "10/ 289". 6 ابن دعامة السدوسي. 7 محمد بن مسلم. 8 ابن إبراهيم بن مخلد "ابن راهويه". 9 أبو عمرو عبد الرحمن بن عمر بن يحمد الأوزاعي: أبو عمرو -الدمشقي، الشامي الأوزاعي- الهمداني. تاريخ أسماء الثقات "821"، تقريب التهذيب "1/ 493"، تهذيب التهذيب "6/ 238"، تهذيب الكمال "2/ 807"، الكاشف "2/ 179"، الخلاصة "2/ 146"، الطبقات الكبرى "7/ 488، 489، 336"، تراجم الأحبار "2/ 392"، لسان الميزان "7/ 283"، الأعلمي "21/ 95"، العبر "1/ 227". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 ترجمة رابعهم الإمام سفيان 1 بن سعيد بن مسروق الثوري: نسبة إلى ثور2 بن عبد مناة, قبيلة من مضر، أحد الأئمة الأعلام، وإمام الكوفة والعراق، من أتباع التابعين، قال فيه ابن عيينة3: ما رأيت أعلم بالحلال والحرام منه, وقال العجلي4: كان لا يسمع شيئًا إلا حفظه, وقال: ما استودعت قلبي شيئًا فخانني فيه. روى عن أعلام التابعين كالأسود بن يزيد، وزيد بن أسلم، وخلائق، وروى عنه من أشياخه الأعمش5، وابن عجلان6، ومن أقرانه شعبة7، ومالك، وقال ابن المبارك8: ما كتبت عن أفضل منه. قيل: روى عن عشرين ألفًا، قال الخطيب9: كان الثوري إمامًا من أئمة المسلمين وعلمًا من أعلام الدين, مجمَعًا على إمامته مع الإتقان والضبط والحفظ والمعرفة والزهد والورع. قال القعقاع بن حكيم: كنت عند المهدي وأتى سفيان الثوري, فلما دخل سلَّم عليه تسليم العامة ولم يسلم بالخلافة, والربيع قائم على رأسه متكئًا على سيفه يرقب أمره, فأقبل عليه المهدي بوجهٍ طلق وقال له: يا سفيان تفر منا ههنا وههنا, وتظن أنا لو أردناك بسوء لم نقدر عليك, فقد قدرنا عليك الآن, أفما تخشى أن نحكم فيك بهوانا. قال سفين: إن تحكم فيَّ يحكم فيك ملك قادر يفرِّق بين الحق والباطل. فقال له الربيع: يا أمير المؤمنين, ألهذا الجاهل أن يستقبلك بمثل هذا, ائذن لي أن أضرب عنقه, فقال له المهدي: اسكت, ويلك, وهل يريد هذا وأمثاله إلّا أن نقتلهم فنشقى بسعادتهم، اكتبوا عهده على قضاء الكوفة على أن لا يتعرَّض عليه   1 قال المؤلف -رحمه الله: سفيان مثلث السين. 2 قال المؤلف -رحمه الله: بفتح المثلثة. 3 سفيان. 4 أحمد بن عبد الله بن صالح. 5 سليمان بن مهران. 6 محمد. 7 ابن الحجاج. 8 عبد الله. 9 أحمد بن علي أبو بكر الخطيب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 في حكم, فكتب عهده ودفع إليه فأخذه وخرج, فرمى به في دجلة وهرب، فطُلِبَ في كل بلد فلم يوجد، ولما تولَّى شريك بن عبد الله بعده قال الشاعر: تحرَّز سفيان وفرَّ بدينه ... وأمسى شريك مرصدًا للدراهم مولده سنة "75" خمس وسبعين, أو سبع وسبعين, وفي ابن خلكان سنة خمس أو ست أو سبع وتسعين، وتوفي بالبصرة متواريًا من السلطان سنة إحدى وستين ومائة. ولابن ملول تأليف في زهده -رحمه الله، وهو من أرباب المذاهب المقلَّدة, له أتباع وأصحاب يفتون بمذهبه كانوا منتشرين، مثل الأشجعي1، والمعافي بن عمران, وصاحبي السن بن حي الزولي، ويجيى بن آدم، وغيرهم، ويأتي بيان زمن انقراضهم2.   1 هو عبيد الله بن عبد الرحمن: "تهذيب التهذيب" "7/ 34". 2 سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري, أبو عبد الله الثوري الكوفي, ت سنة 161، أو 164هـ: تقريب التهذيب "1/ 311"، تهذيب التهذيب "4/ 111"، تهذيب الكمال "1/ 512"، الكاشف "1/ 387"، الخلاصة "1/ 396"، الميزان "2/ 169"، مقدمة الكامل "133"، نسيم الرياض "8/ 337"، الحلية "6-7", "9/ 151". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 ترجمة خامسهم الإمام أبو الحرث الليث بن سعد الفهمي مدخل ... ترجمة خامسهم الإمام أبو الحرث الليث بن سعد الفهمي: بطن من قيس عيلان مولى مولاهم؛ لأنه مولى قيس بن رفاعة, وهو مولى عبد الرحمن بن خالد بن مسافر الفهمي الأصبهاني الأصل, المصري الدار، وُلِدَ بقلقشند -بلام بين قافين مفتوحين فشين معجمة فنون ساكنة فدال مفتوحة, قرية بمصر سنة 94 أربع وتسعين، عالم مصر وإمامها وفقيهها ورئيسها، روى عن عطاء1, والمقبري2، ونافع3، وقتادة4، والزهري5 ومالك، وروى عنه ابن لهيعة6، وابن عجلان7، ................   1 ابن أبي رباح. 2 سعيد بن أبي سعيد المقبري. 3 مولى عبد الله بن عمر أبو عبد الله المدني. 4 ابن دعامة الدوسي. 5 محمد بن مسلم. 6عبد الله. 7 محمد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 وابن وهب1، وخلائق، وثَّقه أحمد، وابن معين، والناس، وقال الشافعي وابن بكير2: هو أفقه من مالك إلّا أنه ضيَّعه أصحابه. ألّف الحافظ ابن حجر جزءًا في ترجمته وفضائله وهو مطبوع، وكان مثريًا محظوظًا في الدنيا, واستغنى بذلك عن الولاية بعد عرض المنصور عليه بولاية مصر فأبى، وكان سريًّا جوادًا, يقال أن دخله كان كل سنة خمسة آلاف دينار يفرقها في الصلات وغيرها، توفي بمصر سنة 175 خمس وسبعين ومائة3.   1 عبد الله. 2 يحيى بن عبد الله بن بكير. 3 أبو الحرث الليث بن سعد الفهمي: تاريخ بغداد "13/ 3"، والجوهر المضية "1/ 416". وتذكرة الحافظ "1/ 207"، والنجوم الزاهرة "2/ 82"، وتهذيب التهذيب "8/ 459". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 440 كتابه لمالك : ولنورد هنا رسالة خاطب بها مالكًا في محاورة علمية، وهو أحسن مثال لأفكار كبار هذا العصر وأدبهم, واحترام بعضهم لأفكار بعض، ونص الحاجة منها بعد الافتتاح من رواية الحافظ أبي يوسف يعقوب بن سفيان الفسوي1 في كتاب التاريخ والمعرفة له قال: حدثني يحيى بن عبد الله بن بكير المخزومي قال: هذه رسالة الليث بن سعد إلى مالك بن أنس, إلى أن قال: وإنه بلغك أني أفتي الناس بأشياء مخالفة لما عليه الناس عندكم, وأنى يحق لى الخوف على نفسي لاعتماد مَنْ قبلي على ما أفتيهم به, وأن الناس تبع لأهل المدينة التي كانت إليها الهجرة, وبها نزل القرآن, وقد أصبت بالذي كتبت به من ذلك إن شاء الله تعالى, ووقع بالموقع الذي تحب, وما أجد أحدًا ينسب إليه العلم, أكره لشواذ الفتيا ولا أشد تفضيلًا لعلماء أهل المدينة الذين مضوا, ولا أخذًا لفتياهم فيما اتفقوا عليه مني, والحمد لله رب العالمين لا شريك له.   1 هو يعقوب بن سفيان الفسوي أبو يوسف، تهذيب التهذيب "11/ 385". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 440 عمل أهل المدينة : وأما ما ذكرت من مقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة ونزول القرآن بها عليه بين ظهري أصحابه, وما علمهم الله منه, وأن الناس صاروا تبعًا لهم فيه فكما ذكرت، وأما ما ذكرت من قول الله: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} 1, فإن كثيرًا من أولئك السابقين الأولين خرجوا إلى الجهاد في سبيل الله ابتغاء مرضاة الله؛ فجنَّدوا الأجناد, واجتمع إليهم الناس فأظهروا بين ظهرانيهم كتاب الله وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم, ولم يكتموهم شيئًا علموه, وكان في كل جند منهم طائفة يعلِّمُون كتاب الله وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم, ويجتهدون برأيهم فيما لم يفسّره لهم القرآن والسنة, وتقدمهم عليه أبو بكر وعمر وعثمان الذين اختارهم المسلمون لأنفسهم، ولم يكن أولئك الثلاثة مضيعين لأجناد المسلمين ولا غافلين عنهم, بل كانوا يكتبون في الأمر اليسير لإقامة الدين, والحذر من اختلاف بكتاب الله وسنة نيبه -صلى الله عليه وسلم, فلم يتركوا أمرًا فسره القرآن أو عمل به النبي -صلى الله عليه وسلم, أو ائتمروا فيه بعده إلا علموهموه، فإذا جاء أمر عمل فيه أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمصر والشام والعراق على عهد أبي بكر وعمر وعثمان, ولم يزالوا عليه حتى قبضوا, لم يأمرهم بغيره, فلا تراه يجوز لأجناد المسلمين أن يُحدثوا اليوم أمرًا لم يعمل به سفلهم من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم, قد اختلفوا بعد الفتيا في أشياء كثيرة, ولولا أني قد عرفت أن قد علمتها كتبت بها إليك. ثم اختلف التابعون في أشياء بعد أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم، سعيد بن المسيب ونظراؤه أشدَّ الاختلاف، ثم اختلف الذين كانوا بعدهم، فحضرتهم بالمدينة وغيرها، ورأسهم يؤمئذ ابن شهاب2، وربيعة بن أبي عبد الرحمن, وكان من خلاف ربيعة لبعض من قد مضى ما عرفتَ وحضرتَ وسمعت، وسمعتُ قولك فيه، وقول ذي الرأي من أهل المدينة، يحيى بن سعيد، وعبيد الله بن عمر، وكثير بن فرقد، وغير كثير، ممن هو أسن منه، حتى اضطرك ما كرهت من ذلك إلى فراق مجلسه, وذاكرتُك أنت وعبد العزيز بن عبد الله بعض ما نعيب به على ربيعة من ذلك, فكنتما من الموافقين فيما أنكرت، تكرهان منه ما أكرهه، ومع ذلك بحمد الله عند ربيعة خير كثير, وعقل أصيل, ولسان بليغ, وفضل مستبين, وطريقة حسنة في الإسلام، ومودة صادقة لإخوانه عامَّة ولنا خاصة، رحمه الله وغفر له وجزاه بأحسن من عمله، وكان يكون من ابن شهاب اختلاف كثير إذا لقينا وإذا كاتبه بعضنا، فربما كتب إليه في الشيء الواحد على فضل علمه ورأيه بثلاثة أنواع ينقض بعضها بعضًا, ولا يشعر بالذي مضى من رأيه في ذلك، فهو الذي يدعوني إلى ترك ما أنكرت تركي إياه.   1 التوبة: 100. 2 محمد بن مسلم الزهري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 الجمع ليلة المطر : وقد عرفت أيضًا عيب إنكار إياه أن يجمع أحد من أجناد المسملين بين الصلاتين ليلة المطر، ومطر الشام أكثر من مطر المدينة بما لا يعلمه إلّا الله، لم يجمع منهم إمام قط في ليلة مطر وفيهم أبو عبيدة بن الجراح, وخالد بن الوليد، ويزيد بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، ومعاذ بن جبل، وقد بلغنا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "أعلمكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل" 1, وقال: "يأتي معاذ يوم القيامة بين يدي العلماء برتوة 2 " 3, وشرحبيل بن حسنة، وأبو الدرداء، وبلال بن رباح، وكان أبو ذر بمصر, والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، وبحمص سبعون من أهل بدر، وبأجناد المسلمين كلها، وبالعراق ابن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وعمران بن حصين، ونزلها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- سنين، وكان معه من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم, فلم يجمعوا بين المغرب والعشاء قط.   1 أخرجه الترمذي، تقدَّم. 2 قال المؤلف -رحمه الله: الرتوة -بفتح الراء وسكون التاء المثناة: الخطوة وما أشرف من الأرض. 3 رواه الحاكم من طريق ابن بكير قال: سمعت أنس بن مالك يقول: أن ماذ بن جبل هلك وهو ابن ثمان وعشرين سنة, وهو أمام العلماء برتوة، ورواه الطبراني ن يحيى بن بكير عن أنس رفعه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم, قال الهيثمي: منقطع الإسناد، ومثله عن محمد بن كعب القرظي، قال الهيثمي: رواه الطبراني مرسلًا, وفيه محمد بن عبد الله بن أزهر الأنصاري ولم أعرفه, وبقية رجاله رجال الصحيح، وفيه: قال ابن بكير: الرتوة: المنزلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 442 القضاء بشاهد ويمين ومؤخر الصداق لا يقبض إلّا عند الفراق: ومن ذلك القضاء بشهادة شاهد ويمين صاحب الحق, وقد عرفت أنه لم يزل يقضي بالمدينة به، ولم يقض به أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالشام وبحمص ولا بمصر ولا بالعراق، ولم يكتب به إليهم الخلافاء الراشدون أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، ثم ولي عمر بن عبد العزيز، وكان كما قد علمت في إحياء السنن والجدِّ في إقامة الدين والإصابة في الرأي والعلم بما مضى من أمر الناس, فكتب إليه زريق بن الحكم1: إنك كنت تقضي بالمدينة بشهادة الشاهد الواحد ويمين صاح الحق، فكتب إليه عمر بن عبد العزيز: إنا كنا نقضي بذلك بالمدينة, فوجدنا أهل الشام على غير ذلك, فلا تقضي إلّا بشهادة رجلين عدلين أو رجل وامرأتين. ولم يجمع بين المغرب والعشاء قط ليلة المطر، والمطر يسكب عليه في منزله الذي كان فيه بخناصرة ساكنًا. ومن ذلك أن أهل المدينة يقضون في صدقات النساء أنها متى شاءت أن تتكلم في مؤخر صداقها تكلمت فدفع إليها، وقد وافق أهل العراق أهل المدينة على ذلك، وأهل الشام وأهل مصر لم يقض أحد من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم, ولا من بعدهم لامرأة بصداقها المؤخَّر إلّا أن يفرِّق بينهما موت أو طلاق, فتقوم على حقها.   1 لعله زريق بن حكيم أبو حكيم الأيلي، تهذيب التهذيب "3/ 273". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 444 الإيلاء بعد الأربعة الأشهر إذا لم يفئ طلاق من غير احتياج إلى تطليق : ومن ذلك قولهم في الإيلاء أنه لا يكون عليه طلاق حتى يوقف إن مرَّت الأربعة الأشهر، وقد حدثني نافع عن عبد الله بن عمر، وهو الذي كان يروي عنه ذلك التوقيف بعد الأشهر أنه كان يقول في الإيلاء الذي ذكر الله في كتابه: لا يحل للمولي إذا بلغ الأجل إلّا أن يفيء كما أمر الله أو يعزم الطلاق. وأنتم تقولون: إن لبث بعد الأربعة الأشهر التي سمَّى الله في كتابه, ولم يوقف لم يكن عليه طلاق. وقد بلغنا أن عثمان بن عفان، وزيد بن ثابت، وقبيصة بن ذويب، وأبا سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، قالو في الإيلاء: إذا مضت الأربعة الأشهر فهي تطليقة بائنة، وقال سعيد بن المسيب وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وابن شهاب1: إذا مضت الأربعة الأشهر فهي تطليقة, وله الرجعة في العدة.   1 محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 444 التمليك تطليق، بعض المسائل : ومن ذلك أن زيد بن ثابت كان يقول: إذا ملك الرجل امرأته فاختارت زوجها في تطليقه, وأن طلقت نفسها ثلاثًا فهي تطليقة، وقضى بذلك عبد الملك بن مروان، وكان ربية بن أبي عبد الرحمن يقوله, وقد كاد الناس يجتمعون على أنها إن اختارت زوجها لم يكن فيه طلاق، وإن اختارت نفسها واحدة أو اثنتين, كانت له عليها الرجعة، وإن طلقت نفسها ثلاثًا بانت منه ولم تحل له حتى تنكح زوجًا غيره. فيدخل بها ثم ثموت أو يطلقها، إلّا أن يرد عليها في مجلسه فيقول: إنما ملكتك واحدة, فيستخلف ويخلي بينه وبين امرأته. إذا تزوَّج أمة ثم اشتراها طلقت ثلاثًا عليه، وعكسه كذلك: ومن ذلك أن عبد الله بن مسعود كان يقول: إيما رجل تزوج أمة ثم اشتراها زوجها فاشتراؤه إياها ثلاث تطليقات، وكان ربيعة يقول ذلك، وإن تزوجت المرأة الحرة عبدًا فاشترته فمثل ذلك، وقد بلغنا عنكم شيء من الفتيا مستكرهًا، وقد كنت كتبت إليك في بعضها فلم تجبني عن كتابي، فتخوفت أن تكون استثقلب ذلك, فتركت الكتاب إليك في شيء مما أنكره. تقديم الصلاة على الخطبة في الاستقساء: وفيما أوردت فيه على رأيك, وذلك أنه بلغني أنك أمرت زفر بن عاصم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 444 الهلالي حين أراد أن يستسقي أن يقدِّم الصلاة قبل الخطبة، فأعظمت ذلك؛ لأن الخطبة والاستسقاء كهيئة يوم الجمعة إلّا أن الإمام إذا دنا من فراغه من الخطبة دعا وحوَّل رداءه ثم نزل فصلى، وقد استسقى عمر بن عبد العزيز، وأبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وغيرهما, فكلهم يقدِّم الخطبة والدعاء قبل الصلاة, فاستهتر الناس كلهم فعل زفر بن عاصم من ذلك واستنكروه. تجب الزكاة على الخليطين: ومن ذلك أنه بلغني أنك تقول في الخليطين في المال: إنه لا تجب عليهما الصدقة حتى يكون لكل واحد منهما ما تجب فيه الصدقة، وفي كتاب عمر بن الخطاب أنه يجب عليهما الصدقة ويترادان بالسوية، وقد كان ذلك يعمل به في ولاية عمر بن عبد العزيز قبلكم, وغيره فيما حدثنا، والذي حدثنا به يحيى بن سعيد, ولم يكن بدون أفاضل العلماء في زمنه, فرحمه الله وغفر له وجعل الجنة مصيره. السلعة توجد عند المفلس: ومن ذلك أنه بلغني أنك تقول: إذا أفلس الرجل وقد باعه رجل سلعة فتقاضى طائفة من ثمنها, أو أنفق المشتري طائفة منها, أنه يأخذ ما وجد من متاعه، وكان الناس على أن البائع إذا تقاضى من ثمنها شيئًا, أو أنفق المشتري منها شيئًا, فليست بعينها. سهم الفرسين: ومن ذلك أنك تذكر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- وعلى آله لم يعط الزبير بن العوام إلّا لفرس واحد، والناس كلهم يحدثون أنه أعطاه أربعة أسهم لفرسين ومنعه الفرس الثالث، والأمة كلهم على هذا الحديث؛ أهل الشام وأهل مصر وأهل العراق وأهل أفريقية، لا يختلف فيه اثنان، فلم يكن ينبغي لك وإن كنت سمعته من رجل يرضى أن يخالف الأمة أجمعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 وقد تركت أشياء كثيرة من أشباه هذا, وأنا أحب توفيق الله إياك, وطول بقائك لما أرجو للناس في ذلك من المنفعة, وما أخاف من الضيعة إذا ذهب مثلك مع استيناسي بمكانك, وإن نأت الدار فهذه منزلتك عندي ورأيي فيك, فاستيقنه ولا تترك الكتاب إليّ بخبرك, ... إلخ". نقل هذه الرسالة المذكورة في المجلد الثالث عدد "82" إلى عدد "86" من أعلام الموقعين1, إلّا أني فصلتها بتراجم تسهيلًا على المطالع، ومحصّل الرسالة أن مالكًا أراد جمع الكلمة على عمل المدينة وحديث أهل الحجاز لقوته بما تقدَّم، لكن الإمام الليث تمسَّك برأيه, وأن ما عليه أهل كل بلد له حجة وأصل. أما ما انتقده الليث من أقوال الإمام فكله أجاب عنه أصحابه في كتب الفقه والخلافيات، وليس المحل لاستقصاء ذلك، وإنما ذلك الكتاب صورة من صور النزاع الذي كان واقعًا في هذا العصر, وصورة من أصول الفقه.   1 أعلام الموقعين "3/ 83". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 ترجمة سادسهم الإمام العلم إمامنا وإمام دار الهجرة وأمام الأئمة مالك بن أنس مدخل ... ترجمة سادسهم: الإمام العلم إمامنا وإمام دار الهجرة وأمام الأئمة مالك بن أنس: ابن مالك بن أبي عامر الأصبحي -بفتح الهمزة والباء, نسبة إلى أصبح, قبيلة من اليمن كبيرة، بيته بيت علم وفضل، فجدُّه الأعلى أبو عامر, صحابي جليل1 شهد المشاهد كلها مع النبي -صلى الله عليه وسلم- خلا بدرًا، وقيل عنه: تابعي مخضرم، وجدُّه الأسفل مالك2, من كبار التابعين وعلمائهم، وهو أحد الأربعة الذين حملوا عثمان ليلًا إلى قبره، وعم الإمام وهو أبو سهيل3، من جُلَّة علماء التابعين وسادتهم, روى عنه في الموطأ، وربما روى مالك عن أبيه عن جدِّه في غير   1 ترجم له ابن حجر في الإصابة "7/ 298"، ولكن قال: ذكره الذهبي في التجريد, ولم أر من ذكره في الصحابة، وقد كان في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم, وانظر المدارك لعياض "1/ 107". 2 أبو أنس أو أبو محمد، تهذيب التهذيب "10/ 19". 3 واسمه نافع بن مالك بن أبي عامر، تهذيب التهذيب "10/ 409". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 الموطأ، أما مالك فهو مجمع على إمامته ودينه وورعه ووقوفه مع السنة، مستغنٍ بشهرته عن التعريف، وقد أورد عياض في المدراك من ثناء الأئمة عليه علمًا ودينًا وعقلًا ورصانة وهدًى وورعًا وجلالة ومهابة ما فيه كفاية، وكذا السيوطي في تزيين الممالك بمناقب مالك. وقال فيه تلميذه الشافعي: مالك حجة الله على خلقه، وقال ابن مهدي1: ما رأيت أحدًا أتمَّ عقلًا ولا أشد تقوى من مالك, وقال: ما بقي على وجه الارض آمن على حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من مالك، وقال الإمام البخاري: أصح الأسانيد مالك عن أبي الزناد2 عن الأعرج3 عن أبي هريرة. وقال أبو داود: أصح الأسانيد مالك عن نافع4 عن ابن عمر, ثم مالك عن الزهري عن سالم5 عن أبيه, ثم مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة. لم يذكر أحدًا غير مالك، وقد أجمع أشياخه وأقرانه فمن بعدهم على أنه إمام في الحديث موثوق بصدق روايته، طبقت مناقبه وفضائله الآفاق. وقال ابن وهب6: سمعت مناديًا ينادي بالمدينة ألَّا لا يفتي إلّا مالك، وابن أبي ذئب7. وكان مهاب الجانب, يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر, وإذا أمر بتأديب أحد امتثل أمره كانه أمير، ولذلك امتحن سنة 147 في قوله بعدم لزوم طلاق المكره, وضُرِبَ بالسياط وانفكّت ذراعه وبقي مريضًا بسلس البول إلى وفاته، وهي مسألة سياسية لأنها راجعة إلى أيمان البيعة التي أحدثوها, وكانوا يكرهون الناس على الحلف بالطلاق عند البيعة, فرأوا أن فتوى مالك تنقض البيعة وتهون الثورة عليهم، وقال ابن يونس8: سأل ابن القاسم مالكًا عن البغاة: أيجوز قتالهم؟ فقال: إن خرجوا على مثل عمر بن عبد العزيز, فقال: فإن لم يكن مثله؟   1 عبد الرحمن. 2 عبد الله بن ذكوان. 3 عبد الرحمن بن هرمز. 4 مولى ابن عمر أبو عبد الله المدني، تهذيب التهذيب "10/ 412". 5 ابن عبد الله بن عمر. 6 اسمه عبد الله. 7 هو محمد بن عبد الرحمن، تهذيب التهذيب "9/ 303". 8 لعله أحمد بن عبد الله بن يونس التميمي اليربوعي، تهذيب التهذيب "1/ 50". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 فقال: دعهم ينتقم الله من ظالم بظالم, ثم ينتقم من كليهما. فكانت هذه الفتوى من أسباب محنته. "انظر أول تاريخ ابن أبي الضياف التونسي"1, ومن كلماته الدالة على تمسكه بالسنة قوله: كلما جاءنا رجل أجدل من رجل تركنا ما نزل به جبريل على محمد -صلى الله عليه وسلم- لجدله. نقله الذهبي في كتاب العلوم. ومع ما بلغه مالك من بعد الصيت والذكر ولا سيما بعد محنته, فما ملك دارًا يسكنها, بل مات في بيت بالكراء مع بسط الدنيا عليه في آخر حياته بالهدايا والصلات والتجارة -رحمه الله. قال الواقدي: كان مجلس مالك مجلس وقار وحلم، وكان رجلًا نبيهًا نبيلًا, ليس في مجلسه شيء من المراء واللغط ولا رفع الصوت، إذا سُئِلَ عن شيء فأجاب سائله, لم يقل: من أين رأيت هذا، وأخرج الخطيب أن شاعرًا دخل على مالك فمدحه بقوله: يدع الجواب لا يراجع هيبة ... والسائلون نواكس الأذقان أدب الوقار وعزُّ سلطان التقى ... فهو المطاع وليس ذا سلطان وكان مالك من أتباع التابعين، إذ لم يلق صحابيًّا على الصحيح، وعدَّه ابن سعد في الطبقة السادسة من التابعين، قالوا: إنه لقي عائشة بنت سعد بن أبي وقاص، والصحيح أنها ليست صحابية؛ لأن التي أدرك مالك هي الصغرى التابعية، وأما عائشة بنت سعد التي قال فيها أبوها للنبي -صلى الله عليه وسلم: لا يرثني غير ابنتي, فهي الكبرى, لم يدركها مالك ولا أهل طبقته، وقد روى عن أبي الزناد2، ونافع، وسالم بن عبد الله بن عمر، وزيد بن أسلم، وهشام بن عروة، وابن المنكدر4، والزهري5، وخلق كثير من التابعين وأتباعهم، أما   1 هو أحمد بن أبي الضياف التونسي، ت سنة 1291هـ، وتاريخه يسمى: "إتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان، طبع في أربعة أجزاء. 2 هو عبد الله بن ذكوان. 3 مولى ابن عمر. 4 محمد. 5 محمد بن مسلم بن عبيد الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 448 الرواة عنه فالحظ الذي حصل لمالك لم يحصل لغيره قط, روى عنه ما ينيف عن ألف وثلاثمائة من أعلام الأقطار الإسلامية من الحجاز والعراق وخراسان والشام ومصر وأفريقية والأندلس، والذين تقدَّمت أسماء بلدانهم رواة حديثه، وروى عنه سواهم كثير، أما رواة الفقه عنه كابن القاسم1، ونافع، وابن وهب2، وغيرهم، فهم أيضًا كثير، ويأتي بعض تراجمهم. وروى الحديث عنه من الأئمة أعلام من أشياخه احتاجوا إليه؛ كالإمام الزهري، وربيعة بن أبي عبد الرحمن الملقب بربيعة الرأي، وموسى ابن عقبة إمام المغازي، ويحيى الأنصار، ويزيد بن عبد الله بن الهاد، ويحيى بن سيدروس. وروى عنه من مات قبله من العلماء كابن جريح3، وشعبة4، والثوري، وخلق، وروى عنه من أرباب المذاهب المدونة أبو حنيفة، والثوري5، والأوزاعي6، وابن عيينة7، والليث، والشافعي، ومن الخلفاء أمير المؤمنين المنصور، والمهدي، والهادي، والرشيد، والأمين، والمأمون، وقد روي عنه أنه قال: ما جلست للفتيا حتى أذن لي في ذلك سبعون من أهل العلم. وقد زاد شهرة بكتابه الموطا، وتقدَّم لنا وصفه وفضيلته في تدوين الفقه، كان من أشد الناس تركًا لشذوذ العلم, وأشدهم انتقادًا للرجال, وأقلهم تكلفًا, وأتقنهم حفظًا، عارفًا بتفسير الغريب من الحديث, وهو أول من فتح بابه كما قال عياض في المدارك، ففتح بموطأه الباب للمؤلفين من علماء الإسلام, وعلَّمَهم كيفية التأليف والتصنيف وحسن التبويب, فاستحسن طريقه كل من أتى بعده ليومنا هذا فلسكوه ففاتهم بالتقدم. فهو إمام كل مؤلف, وقدرة كل مصنف, وإن ألّف غيره قبله, لكن لم يقعوا على ما وقع عليه, ولا تنبهوا إلى ما ألتفت إليه، فصار العلماء المؤلفون له أتباعًا   1 عبد الرحمن بن القاسم العتقي. 2 عبد الله. 3 عبد الله بن عبد العزيز بن جريج. 4 ابن الحجاج. 5 سفيان بن سعيد. 6 عبد الرحمن بن عمرو. 7 سفيان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 والفضل له إجماعًا، وقد حاز الفضل المبين في حديث: "من سنَّ سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها" 1. قال مالك: عرضتها على سبعين من فقهاء المدينة فواطئوني عليها. فمالك له المزية العظمى على العلوم الإسلامية عمومًا, وعلى الفقه خصوصًا بموطئه هذا, فجرزاه الله خيرًا. وله غير الموطأ تآليف بطرق صحاح دلَّت على باعه وكمال اطلاعه, لكن لم يقع لها من الشهرة والإقبال والتواتر ما وقع للموطأ, التي قال فيها الشافعي: إنها أصح كتاب بعد كتاب الله تعالى, فجزى الله مالكًا خيرًا. وكانت له مشاركة في علوم كثيرة الحديث والفقه, فقد ألَّف في علم الأوقات والنجوم، وفي التفسير، وغيره، ذكر في الديباج نقلًا عن المدراك، كل ذلك يدل على سعة مدارك الإمام مالك -رحمه الله. وهو من معجزات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المبشّر به في حديث الترمذي وغيره: "يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل في طلب العلم, فلا يجدون عالمًا أعلم من عالم المدينة" قال الترمذي: حديث حسن2, وصححه عياض في المدارك واستقصى ألفاظه وطرقه فانظره، قال عبد الرزاق كما رواه الترمذي: إنه مالك بن انس، وكذاك قال ابن عيينة عنه: إنه عبيد الله بن عبد الله العمري3، وقال ابن جريج: إنه مالك بن أنس، وهؤلاء كلهم معاصرون لمالك إلّا عبد الرزاق فتلميذه: ومليحة شهدت لها ضراتها ... والفضل ما شهدت به الأقران قال الشافعي: قال لي محمد بن الحسن: إيهما أعلم صاحبنا أم صاحبكم؟ يعني: أبا حنيفة ومالكًا.   1 رواه جرير بن عبد الله, أخرجه مسلم في العلم "8/ 61"، والنسائي "5/ 56"، والترمذي "5/ 43"، وابن ماجه "1/ 74"، وفي الباب عن أبي هريرة وأنس وأبي جحيفة. 2 الترمذي في العلم "5/ 47"، وانظر المدراك "1/ 82". 3 انظر الانتفاء لابن عبد البر "21"، وتهذيب التهذيب "5/ 302". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 450 قال: قلت على الإنصاف؟ قال: نعم، قلت: ناشدتك الله من أعلم بالقرآن, صاحبنا أو صاحبكم؟ قال: اللهم صاحبكم، قال: قلت: ناشدتك الله من أعلم بأقاويل أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المتقدمين, صاحبنا أو صاحبكم؟ قال: اللهم صاحبكم، قال الشافعي: فلم يبق إلّا القياس لا يكون إلا على هذه الأشياء, فعلى أي شيء نقيس. نقله ابن خلكان وهو شافعي المذهب. ونحو هذه القصة سُئِلَ حافظ فاس بل المغرب, عبد العزيز العبدوسي1 عن مالك والشافعي فقال: بينهما ما بين قبريهما. وفي تفضيل مالك يقول عالم صقلية الإمام عمر بن عبد النور الشهير بابن الحكار: تأملت عِلمَ المرتضين أولي النهى ... فأفضلهم من ليس في جده لعب ومَنْ فقهه مستنبط من حديثه ... رواه بتصحيح الرواية وانتخب وما مالك إلا الهدى ولذا اهتدى ... به أمم من سائر العجم والعرب وفقه مالك واجتهاده الذي يوافق فيه روح التشريع المحمدي دالٌّ على صدق الأبيات السابقة، وأمثلة ذلك كثيرة: روى عبد الوارث بن سعيد قال: قدمت مكة فوجدت بها أبا حنيفة وابن أبي ليلى2 وابن شبرمة3 فقلت لأبي حنيفة: ما تقول في رجل باع بيعًا واشترط شرطًا, فقال البيع باطل، والشرط باطل. ثم أتيت ابن أبي ليلى فسألته فقال: البيع جائز والشرط جائز، فقلت: سبحان الله, ثلاثة من فقهاء العراق   1 له ترجمة في "نيل الابتهاج" "179". 2 هو محمد بن عبد الرحمن. 3 عبد الله بن شبرمة الضبي أبو شبرمة الكوفي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 451 اختلفوا في مسألة واحدة, ثم أتيت أبا حنيفة فأخبرته، فقال: لا أدري ما قالا، رسول الله نهى عن بيع وشرط1, ثم أتيت ابن أبي ليلى فأخبرته, فقال: لا أدري ما قالا، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حديث بريرة: "إن الولاء لمن أعتق" 2 البيع جائز والشرط باطل, ثم أتيت ابن شبرمة فأخبرته فقال: لا أدري ما قالا, قال: جابر بن عبد الله: بعت من النبي -صلى الله عليه وسلم- ناقة وشرط لي حلابها وظهرها إلى المدينة3. البيع جائز والشرط جائز. أما مالك فقد عرف الأحاديث كلها, وعمل بجميعها, وقسم البيع والشرط إلى أقسام: شرط يناقض المقصود كشرط العتق فيحذف. وشرط لا تأثير له كرهن أو حميل فيجوز. وشرط حرام كبيع جارية بشرط أنها مغنية فيبطل البيع كله، وغيره لم يمعن النظر ولا حرَّر المناط. ثم إن حديث بريرة وجابر كلٌّ منهما في الصحيح, أما حديث نهي عن بيع وشرط فمتكلَّم فيه, لكنه على شرط أبي حنيفة, وهو الشهرة, والله أعلم.   1 هذا حديث عمرو بن بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعًا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن بيع وشرط وهو صحيح على شرط أبي حنيفة، وسماع شعيب من عبد الله بن عمرو ثابت، قال الدراقطني في السنن "3/ 51" ثنا محمد بن الحسن النقاش نا أحمد بن تميم قال: قلت لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري: شعيب والد عمر بن شعيب سمع من عبد الله بن عمرو؟ نعم، قلت له: فعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده يتكلم الناس فيه؟ قال: رأيت علي بن المديني، وأحمد بن حنبل، والحميدي وإسحاق بن راهويه ويحتجون به، وما يؤيد أبا حنيفة في مذهبه هذا حديث: "لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع" أخرجه النسائي "7/ 259"، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وهذا على تفسير: أن البيع شرو وهذا شرط فيجتمع شرطان. "عبد العزيز القاريء". 2 رواه الجماعة: البخاري في الفرائض "8/ 191"، وفي غيره من الأبواب، ومسلم في العتق "4/ 213"، والنسائي في لطلاق "6/ 132"، وأبو داود في الفرائض "3/ 126"، والترمي في الولاء "4/ 347"، وابن ماجة في العتق "2/ 842". 3 أصل الحديث في الصحيحين: البخاري في الشرط "3/ 248"، ومسلم في المساقاة "5/ 51"، ورواه أيضًا الترمذي "3/ 545"، والنسائي "7/ 261"، وفي أبي داود "3/ 283"، وأحمد "3/ 299": بعت النبي -صلى الله عليه وسلم- بعيرًا واشترطت حملانه إلى أهلي، أما ذكر الحلاب فلم أجد له غير هذا الخبر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 452 قال الحميدي1 في كتاب جذوة المقتبس: حدَّث القعنبي2 قال: دخلت على مالك وهو يبكي في مرض وفاته فقلت: ما يبكيك؟ فقال لي: ومالي لا أبكي, ومَنْ أحق بالبكاء مني, والله لوددت أني ضربت بكل مسألة أفتيت فيها برأي بسوط سوط، وقد كانت لي السعة فيما قد سُبِقتُ إليه, وليتني لم أفت بالرأي أو كما قال. ولم نعرف لمالك رحلة إلّا للحج, لكون العلم وجلّ العلماء مقرهما في الحجاز, وإليه يرحل إذ ذك، لذلك اقتصر على الأخذ عنهم، أو عن مَنْ يرد من علماء الأقطار للحج والزيارة. ولد -رحمه الله- سنة ثلاث أو أربع وتسعين, وتوفى سنة تسع وسبعين ومائة باتفاق، بعد أن ترك أثرًا عظيمًا وعملًا جسيمًا في الفقه الإسلامي, فاز به على مَنْ قبله, واقتفى آثاره فيه من بعده. واعتمده الاحتجاج بموطئه جميع المذاهب من حيث السنة للإجماع على فضله وتحريه وثقته، قال البيهقي3 في المدخل: عن يحيى بن محمد العنبري أنه قال: طبقات أصحاب الحديث خمسة: المالكية والشافعية والحنابلة والراهوية4 والخزيمية أصحاب محمد بن خزيمة5، نقله في أعلام الموقعين6.   1 هو محمد بن فتوح بن عبد الله أبو عبد الله بن أبي نصر. 2 عبد الله بن مسلحة بن قعنب القعنبي الحارثي أبو عبد الرحمن المدني. تهذيب التهذيب "6/ 13". 3 هو أحمد بن الحسين بن علي أبو بكر. 4 نسبة إلى إسحاق بن راهويه. 5 محمد بن إسحاق بن خزيمة. 6 مالك بن أنس بن مالم بن أبي عامر الأصبحي: أبو عبد الله المدني الأصبحي الحميري، جده أبو عامر صحابي، مات سنة 179. المعروفة والتاريخ "1/ 682"، وفهارس "3/ 637"، وسير أعلام النبلاء "8/ 48"، والحاشية التحفة اللطيفة "3/ 442"، تقريب التهذيب "2/ 223"، تهذيب التهذيب "10/ 5"، تهذيب الكمال "3/ 1296"، الكاشف "3/ 112"، الخلاصة "3/ 3"، التقيد "2/ 223"، معجم طبقات الحفاظ "146"، جامع المسانيد "2/ 559". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 453 قواعد مذهب مالك : مبدأ مالك في الفقه هو مبدأ أهل الحجاز الذي أسسه سعيد بن المسيبوسبق بيانه في ترجمته، وفي الديباج في ترجمة عبد الرحمن بن مهدي قال ابن المديني1: كان مالك يذهب إلى قول سليمان بن يسار, وسليمان بن يسار يذهب إلى قول عمر بن الخطاب. وفي الديباج نقلًا عن عياض في مداركه ما نصُّه: إن ترتيب الاجتهاد على ما يوجب العقل، ويشهد له الشرع: تقديم كتاب الله -عز وجل- على ترتيب أدلته في الوضوح من تقديم نصوصه, ثم ظواهره, ثم مفهوماته، ثم كذلك السنة على ترتيب متواترها ومشهورها وآحادها, ثم ترتيب نصوصها وظواهرها ومفهوماتها، ثم الإجماع عند عدم الكتاب ومتواتر السنة، وعند عدم هذه الأصول كلها القياس عليها والاستنباط منها؛ إذ كتاب الله مقطوع به، وكذلك متواتر السنة، وكذلك النص مقطوع به، فوجب تقديم ذلك كله، ثم الظواهر, ثم المفهوم، لدخول الاحتمال في معناها، ثم أخبار الآحاد عند عدم الكتاب والمتواتر منها, وهي مقدَّمة على القياس لإجماع الصحابة على الفصلين, وتركهم نظر أنفسهم متى بلغهم خبر الثقة, وامتثالهم مقتضاه دون خلاف منهم في ذلك، ثم القياس أحرى عند عدم الأصول على ما مضى عليه عمل الصحابة ومن بعدهم من السلف المرضيين -رضي الله عنهم, وأنت إذا نظرت لأول وهلة منازع هؤلاء الأئمة ومآخذهم في الفقه واجتهادهم في الشرع, وجدت مالكًا -رحمه الله- ناهجًا في هذه الأصول مناهجها, مرتِّبًا لها مراتبها ومداركها, مقدمًا كتاب الله -عز وجل- على الآثار, ثم مقدمًا لها على القياس والاعتبار, تاركًا منها ما لم يتحمله الثقات العارفون بما يحملونه أو يحملونه، أو ما وجد الجمهور والجمّ الغفير من أهل المدينة قد عملوا بغيره وخالفوه، ثم كان من وقوفه في المشكلات, وتحريه عن الكلام في المعوصات ما سلك به سبيل السلف الصالح، وكان يرجح الاتباع ويكره الابتداع، وتقدم لنا في مادة الفقه نقل قول ابن العربي في القرآن: هو الأصل. إلخ. فارجع إليه، وكلام ابن العربي كعياض يقتضي تقديم كلٍّ من الكتاب والسنة والإجماع عند التعارض، وتقدَّم لنا في ذلك من الخلاف، وقال أبو محمد صالح2 عالم فاس الشهير فيما نقله عن الفقيه راشد ما نصه:   1 علي بن عبد الله. 2 أبو محمد صالح الهسكوري الفاسي، ت سنة 653، ترجم له المؤلف في أوائل القسم الرابع، والفقيه راشد هو، أبو الفضل راشد الوليدي، نيل الابتهاج "117". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 454 الأدلة التي بنى عليها مالك مذهبه ستة عشر: 1- نص الكتاب العزيز. 2- وظاهره وهو العموم. 3- ودليله وهو مفهوم المخالفة. 4- ومفهومة وهو باب آخر, ومراده مفهوم الموافقه. 5- وتنبيهه وهو التنبيه على العلة كقوله تعالى: {فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا ....... } الآية، وومن السنة أيضًا مثل هذه الخمسة، فهذه عشرة. والحادي عشر: الإجماع, والثاني عشر: القياس، والثالث عشر: عمل أهل المدينة، والخامس عشر: الاستحسان، والسادس عشر: الحكم بسد الذرائع، واختلف قوله في السابع عشر: وهو مراعاة الخلاف, فمرة يراعيه ومرة لا يراعيه، قال أبو الحسن: ومن ذلك الاستصحاب. أ. هـ من بهجة التسولي في باب القسمة: قلت: إنها بلغت عشرين كما يأتي. واعلم أن مراعاة الخلاف ضابطه في المذاهب المالكي إذا كان القول قوي الدليل راعاه الإمام ككثير من الأنكحة الفاسدة يفسخها بطلاق وصداق, ويلحق الولد المتكون منه، وإذا كان ضعيف المدرك جدًّا لم يلتفت إليه كمن تزوج خامسة، وتقدَّم لنا في الاستحسان في الطور الأول أن مراعاة الخلاف من الاستحسان, فليس لنا في الاستحسان في الطور الأول أن مراعاة الخلاف من الاستحسان فليس بزائد عليه, لكن أبو محمد رأى أنَّ الاستحسان الأخذ بأقوى الدليلين, ومراعاة الخلاف أخذ بهما معًا من بعض الوجوه، والأصل في مراعاة الخلاف قوله -عليه السلام- في ابن وليدة زمعة: "هو لك يا عبد بن زمعة, واحتجبي منه يا سودة" 1 لما رأى من شبهه بعتبة بن أبي وقاص, فجعل له حكمًا بين حكمين، ومقتضى كلام أبي محمد هذا كعياض قبله, أن ظاهر القرآن عند مالك مقدَّم على صريح السنة وهو كذلك في حل المسائل؛ كتحريم لحوم الخيل, وتقدَّم لنا   1 البخاري في الحدود "8/ 205"، وفي غيره من الأبواب، مالك في الموطأ "2/ 739", والحديث أخرجه أيضًا أبو داود "2/ 282"، والنسائي "6/ 148"، كلاهما في الطلاق، وابن ماجة في النكاح "4/ 646". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 455 الإشارة إليه في مباحث السنة من الطور الأول، ولكن في كثير من المسائل نجده يعكس, فيقدِّم صريح السنة كحرمة الجمع بين المرأة وخالتها أو عمتها؛ إذ ظاهر قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} 1 الإباحة، لكن لما اعتضدت السنة بالإجماع قدمها وجعلها مخصصة. ومثله قوله في حد الثيب الزاني في نظائر أخرى، فالذي يظهر من فقه مالك أن السنَّة الصريحة إذا اعتضدت بإجماعٍ أو عمل المدينة, قدَّمها كتحريم كل ذي ناب من السباع كما تقدَّم في ترجمة السنة مستقلة في التشريع2، والإجماع لأصله وهو العمل بظاهر القرآن خلافًا لإطلاق من ذكر. وقد يقدَّم القياس على ظاهر السنة كما في إيجاب الدلك في الغسل, فظاهر حديثي ميمونة وعائشة في الصحيح3, فيهما وصف غسله -عليه السلام- بدون ذلك, والقياس على الضوء يقتضي الدلك، هكذا ذكر ابن رشد الحفيد4، والتحقيق أن القياس اعتضد بظاهر القرآن حيث قال: {فَاطَّهَّرُوا} 5 وزيادة المبني لزيادة المعنى، وأيضًا تعميم مغابن البدن الذي هو مجمعٌ عليه, لا يحصل مع قلة الماء إلّا بالدلك, فليس فيه تقديم القياس على ظاهر السنة, بل ظاهر القرآن مع القياس على ظاهر السنة وحده، وتقدَّم في المصالح المرسلة عن ابن العربي أنها من جملة المخصصات في المذهب. وعمل المدينة عنده مقدَّم على القياس, بل على السنة كما ستراه، وحاصله أن ترتيب أبي محمد هذا ذكري فقط لا نسبي فتأمله، وقد قدمنا الكلام على هذه الأصول في القسم الأول من الكتاب فارجع إليه. أما الاستحسان الذي قال إنه من أصول مذهبه فلم يؤثر عن مالك القول به كثيرًا ككثرته عند الحنفية، نعم قد استحسن خمس مسائل لم يسبقه غير إليها وهي: 1- ثبوت الشفعة في بيع الثمار، ولم يجز عمل فاس إلّا في ثمار الخريف دون المصيف. 2- وثبوت الشفعة في أنقاض أرض الحبس، وأرض   1 النساء: 24. 2 تقدم. 3 تقدم. 4 هو محمد بن أحمد بداية المجتهد، وتهافت التهافت، وغيرها من المصفات، ت سنة 595 هـ "الديباج المذهب" "2/ 257". 5 من قوله في المائدة: 6: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456 العارية، والقصاص بالشاهد واليمين، وتقدير دية أنملة الإبهام بخمس من الإبل، وإيصاء المرأة على ولدها المهمل إذا كان المال نحو ستين دينارًا، ونظم ذلك من قال: وقال مالك بالاختيار ... في شفعة الأنقاض والثمار والجرح مثل المال في الأحكام ... والخمس في أنملة الإبهام وفي وصيّ الأم باليسير ... منها ولا وليّ للصغير وقولنا: لم يسبقه غيره إليها يخرج ما هو مسبوق إليه، فقد قال بالاستحسان في مسائل كثيرة، كتضمين الصُّنَّاع، والراعي المشترك، والأكرياء الحاملين للطعام والشراب، فإن طرد القياس يقتضي أمانتهم لكن الضرورة والمصلحة العامة تقتضي تضمينهم وإلّا لأهلكوا أموال الناس مع شدة الضرورة لمعاملتهم، وقد قال بتضمين الصُّنَّاع الخلفاء الراشدون رعيًا للمصالح المرسلة، انظر شراح المختصر1، لدى قوله: وهو أمين فلا ضمان. من باب الإجارة. ومثله جبر صاحب الفرن والرحي والحمام على المواجرة للناس سوية هو استحسان والقياس عدم الجبر، والعمل على الجبر، وأمثاله كثير، وقال السبكي2 في الطبقات: إن أصول مذهب مالك تزيد الخمسمائة، ولعله يشير إلى القواعد التي استُخرجت من فروعه المذهبية فقد أنهاها القرافي3 في فروقه إلى خمسمائة وثمانية وأربعين، وغيرها أنهاها إلى الألف والمائتين كالمقرِّي4 وغيره، لكنها في الحقيقة تفرعت عن هذه الأصول, والإمام لم ينص على كل قاعدة قاعدة, وإنما ذلك مأخوذ من طريقته وطريقة أصحابه في الاستنباط. وتقدَّم لنا الإشارة إلى هذا في مبدأ أبي حنيفة، ولا بُدَّ لمجتهد المذهب من مراعتها بعد إتقانها وجريانه في الاستنباط عليها, وإلا كان خارجًا عن المذهب, ومن هنا صعب الاجتهاد في المذهب المالكي, وقلَّ المجتهدون فيه على كثرتهم عند الشافعية الذين لم يتقيدوا بذلك بل نص الحديث الصحيح عندهم لا يعدل عنه كما يأتي.   1 مختصر خليل في فقه المالكية. 2 هو تاج الدين عبد الوهاب بن علي، الدرر الكامنة "3/ 39". 3 أحمد بن إدريس الصنهاجي، الديباج المذهب "1/ 236". 4 هو محمد بن محمد بن أحمد بن أبي بكر أبو عبد الله القرشي التلمساني، ت سنة 758، شذرات الذهب "6/ 193". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 457 عمل أهل المدينة : هو من أصول مذهب مالك كما سبق، وعمل أهل المدينة إذا جرى في المسألة واتفق عليه علماؤها. يقول مالك بحجيته وتقديمه على القياس, بل الحديث الصحيح، بل عمل جمهورهم يحتج به ويقدّمه على خبر, ويقدمه على خبر الواحد؛ لأنه عنده أقوى منه؛ إذ عملهم بمنزلة روايتهم عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم, ورواية جماعة من جماعة أولى بالتقديم من رواية فرد عن فرد، قال ربيعة1: رواية ألف خير من رواية واحد. وأهل المدينة أدرى بالسنة والناسخ والمنسوخ, فمخالفتهم لخبر الواحد دليل نسخه، وقد نقل مالك إجماع أهل المدينة في موطئه على نيف وأربعين مسألة، ثم عملهم ثلاثة أنواع: أحداها: أن يجمعوا على أمر, ثم لا يخالفهم فيه غيرهم. الثاني: أن يجمعوا على أمر, ولكن يوجد لهم مخالف من غيرهم، وعن هذين القسمين يعبر مالك بقوله2: السنة التي لا اختلاف فيها عندنا. الثالث: ما فيه الخلاف بين أهل المدينة أنفسهم. أما الأول: فهو حجة عند الجميع يجب اتباعه, وممن صرح بذلك ابن القيم وهو من الحنابلة الذين لا يسلمون الإجماع إلّا في قليل من المسائل. أما الثاني والثالث: فمحل نزاع بين المالكية وغيرهم، على أن الذي هو حجة عندهم بلا خلاف هو عمل أهل المدينة النقلي لا الاجتهادي؛ فالنقلي كنقلهم تعيين محل منبره وقبره, ومحل وقوفه للصلاة -عليه السلام، ونقلهم للأعيان كمقدار المد والصاع وأوقية الفضة, وهذا حجة عند الجميع، وقد احتد به مالك على أبي يوسف بحضرة الرشيد, فرجع عمَّا كان يقوله إلى قول مالك، ومن هذا النوع نقلهم الأذان للصبح قبل الفجر، وتثنية الأذان، وإفراد الإقامة، وهذا   1 ابن أبي عبد الرحمن المشهور بربيعة الرأي. 2 أي: في الموطأ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 458 النوع لا نظن أن مالكًا انفرد بالعمل به، بل هو والمجتهدون فيه سواء1. أما عملهم الذي طريقه الاجتهاد والتفقه لا النقل فهو محل نزاع حتى عند المالكية، قال القاضي عبد الوهاب1: فيه ثلاثة أوجه. الأول: أنه ليس بحجة ولا يرجح به أحد الاجتهادين أصلًا على الآخر, وعليه الأبهري2، والقاضي أبو الفرج3 وغيرهما. الثاني: أنه ليس بحجة, ولكن يرجح به اجتهادهم على اجتهاد غيرهم, وبه قال بعض الشافعية. الثالث: أنه حجة كإجماعهم من طريق النقل, ولكن لا تحرم مخالفته, وعليه قوم من أصحابنا كابن المعذل4. وفي رسالة مالك إلى الليث ما يدل عليه، وإلى هذا يذهب جل المغاربة أو جميعهم، قال: ثم إن خبر الأحاد إن كان العمل موافقًا له فهو معضد به بأنواعه السابقة, وإن تعارضا فإن كل العمل من طريق النقل كالصاع والمد وزكاة الخضروات, فالخبر يترك لعمل بلا خلاف عندنا, وإن كان اجتهاديًّا فالخبر أولى عند5 جمهور أصحابنا، إلّا من قال منهم إنّ الإجماع من طريق الاجتهاد   1 قال المؤلف -رحمه الله: ولا اختصاص لأهل المدينة بهذا، فأهل مكة أيضًا إذا أجمعوا على عين شيء كان حجة كنقلهم لنا تعيين حدود محل الوقوف بعرفة، ومحل رمي الجمار، والمزدلفة، وأمثال ذلك، وقد وقفت على احتجاجات الشافعي في الأم بعمل أهل مكة، فأهل المدينة أولى. 2 عبد الوهاب بن علي بن نصر الثعلبي البغدادي. 3 هو أبو بكر الأبهري محمد بن عبد الله، ت سنة 375هـ، تاريخ بغداد "5/ 463". 4 المالكي واسمه عمرو بن محمد بن عمرو الليثي البغدادي, له كتاب اللمع في أصول الفقه، ت سنة 331هـ، الديباج "2/ 127". 5 هو أحمد بن غيلان بن الحكم العبدي، الديباج المذهب "1/ 141". 6 قال المؤلف -رحمه الله: يعضد مذهب الجمهور من تقديم الخبر على العمل الاجتهادي، حديث الصحيحين عن نافع أن ابن عمر كان يكري أرضه مزارعة على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم, وأبي بكر وعمر وعثمان, وصدرًا من إمارة معاوية, حتى بلغه في آخر خلافة معاوية أن رافع بن خديج يحدث فيها بنهي عن النبي -صلى الله عليه وسلم, فدخل عليه وأنا معه فسأله، فقال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينهى عن كراء المزارع, فتركها ابن عمر بعد، وفي مسلم عن رافع بن خديج كنا نكري الأرض على أن لنا هذه ولهم هذه, فربما خرجت هذه, ولم تخرج هذه, فنهانا عن ذلك وأما الورق فلم ينهنا. أهـ وفي أعلام الموقعين أدلة أخرى فانظرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 459 حجة, وإن لم يكن عمل يوافق الخبر أو يخالفه فالواجب المصير إلى الخبر؛ لأنه دليل لا مسقط له ولا معارض، ثم قال: إنهم إذا أجمعوا على شيء نقلًا أو عملًا متصلًا كان متواترًا يحصل به العلم وينقطع العذر, ويجب ترك أخبار الآحاد له؛ لأن المدينة جمعت من الصحابة من يقع العلم بخبرهم فيما أجمعوا عليه, وإن أجمعوا من طريق الاجتهاد فإن العصمة لم تضمّن لهم، ومن هذا القبيل بطلان خيار المجلس، والاقتصار على التسليمة الواحدة، وعلى قنوت الفجر قبل الركوع، وترك رفع الأيدي عند الركوع والرفع منه، وترك السجود في سورة المفصل، ونظائر ذلك. انظر أعلام الموقعين، وراجع ما تقدم في عصر صغار الصحابة في الأمر الثالث من الأمور التي أثَّرت على الفقه في ذلك العصر, مع ما تقدَّم في ترجمة الفقه في العصر المذكور1. إن مسألة العمل احتدم الجدال فيها بين مالك وغيره من أرباب المذاهب, فمالك يرى تقديم عمل المدينة وأنه في الرتبة الثانية للإجماع, ولا يشترط في خبر الواحد أن يعضده العمل بخبر الواحد مهما صحَّ أو حَسُنَ دون شرط شهرة أو غيرها، ومن زعم أن مالكًا يشترط في خبر الواحد موافقة عمل أهل المدينة فقد غلط، وبقية الأئمة الأربعة لا يرى العمل حجة على التفصيل السابق، والمسألة طويلة الذيل، وقد عضد مالكًا أعلام من الأمة. قال عبد الرحمن بن مهدي: السنة المتقدمة من سنة أهل لمدينة خير من الحديث، يعني حديث أهل العراق, وتقدَّم قول أبي بكر بن حزم قاضي المدينة وواليها: إذا وجدت أهل المدينة مجتمعين على أمر فلا تشك أنه الحق, ونقل مثله عن الشافعي، وقال مالك: ما رواه الناس مثل ما روينا, فنحن وهم سواء, وما خالفناهم فيه فنحن أعلم به منهم، قال مالك: العلم أثبت من الحديث، وكان رجال من التابعين تبلغهم عن غيرهم أحاديث فيقولون: ما نجهل هذا, ولكن مضى العمل على غيره. تحقيق هذا كله فيما ثبت فيه عمل جميع أهل المدينة أو جمهورهم, أما قول   1 تقدم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 460 فردَّ منهم ولو كان أعلمهم فلا يقال فيه عمل, ولا يترك له الحديث الثابت, بل يتعيّن العمل بالحديث، ومن هذا قضية القبض, وهو وضع اليد اليمنى على اليسرى في الصلاة, ثبتت به الأحاديث الصحاح السالمة من الطعن في الموطأ وغيرها, وكل من وصف صلاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم, فإما نصَّ على القبض, أو سكت ولم يقل قبض ولا سدل، والساكت عنهما ليس بنص ولا ظاهر في السدل، فجاء بعض المتأخرين مستدلًا بأن عبد الله الكامل1 سدل ورام أن يجعله عملًا مدنيًّا وهيهات هيهات، وهذا سلاح استعمله متأخرو المالكية مهما لم يجدوا في الحديث مطعنًا, ادعوا العمل ولا ينبغي ذلك لهم في دين الله، فإن مالكًا ليس بمعصوم عن الخطأ ولا المدونة كمصحف منزل، وكم من حديث لم يعرف مالك وصح عند غيره، والإنصاف في دين الله أسلم من الاعتساف، ولو كان في ذلك عمل متقرر لنص عليه في الموطأ كعادته, فالعمل إذا نصَّ عليه في الموطأ أو المدونة أو نحوهما من الكتب الثابتة فعمل مقبول يستدل به المالكي بملء شدقيه، أما مجرد مخالفة مالك في المدونة أو غيرها للحديث فلا دليل فيه على العمل أصلًا, بل هي دعوى, وإلى الله الشكوى.   1 أبو سالم عبد الله الكامل الأمراني العلوي الحسني، ت 1321، ترجم له المؤلف في القسم الرابع في المالكية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 461 قول الصحابي : اعلم أن عمل المدينة الاجتهادي لا النقلي له ارتباط وانبناء على العمل بقول الصحابي, فقد احتج به مالك كما سبق, وهو من أصول مذهبه، لكن إن صحَّ سنده وكان من أعلام الصحابة، كالخلفاء، أو معاذ، أو أُبَيّ، أو ابن عمر، أو ابن عباس، أو نظرائهم؛ لأنه يكون عند اجتهاد أو توقيف، ويشترط أن لا يخالف الحديث المرفوع الصالح للحجية، وإلّا فالحديث مقدَّم لا القياس، وقد بالغ الغزالي في المستصفى في الرد لهذا الأصل مستدلًا بأن الصحابة ليسوا محل العصمة ويجوز عليهم الغلط, فلا ينتج قولهم ما يقطع به في الحجية وأطال في ذلك، وهو كلام مردود, فإنا لم ندع العصمة لهم, ولا أن قولهم مما يقطع به, وإنما هو من جملة الأدلة الشرعية التي تفيد الظن؛ لأنه لا يكون من هؤلاء الأعلام إلا ما كان عن توقيف, وهذا واجب الاتباع, أو عن اجتهادهم واجتهادهم أولى بالصواب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 461 من اجتهاد مَنْ بعدهم؛ لقربهم ومشاهدتهم وزيادة معرفتهم باللغة ومواقع الأوامر والنواهي، فلأن نقلدهم خير من أن يجتهد غيرهم بعدهم فنقلده, فالنفس تطمئن إليهم أكثر من غيرهم، وفي ذلك من تقليل الخلاف والآراء ما يخفى على أن الظاهر أن مالكًا بما ظهر له صحة اجتهادهم فيه لا مطقلًا، حتى يكون من التقليد المنهي عنه، فكأنه اعتبر أن قول الصحابي مرجَّح إذا تعارضت الأدلة والله أعلم. وفي إعلام الموقعين أن الصحابي إذا لم يخالف صحابيًّا آخر, فإما أن تشتهر قوله في الصحابة أو لا يشتهر، فإن اشتهر فالذي عليه جماهير الطوائف من الفقهاء أنه إجماع وحجة. وقالت طائفة منهم: هو حجة وليس بإجماع، وقالت شرذمة من المتكلمين وبعض الفقهاء المتأخرين لا يكون إجماعًا وإن لم يشتهر قوله, أو لم يعلم هل اشتهر أم لا، فاختلف الناس هل يكون حجة أم لا، فالذي عليه جمهور الأمة أنه حجة، هذا قول جمهور الحنفية صرَّح به محمد بن الحسن, وذكر عن أبي حنيفة وهو مذهب مالك وأصحابه, وتصرفه في موطئه دليل عليه, وهو قول إسحاق بن راهويه1 وأبي عبيد2, وهو منصوص الإمام أحمد في غير موضوع عنه, واختيار جمهور أصحابه, وهو منصوص الشافعي في القديم والجديد, أما القديم فأصحابه مقرون به, وأما الجديد فكثير منهم يحكي عنه فيه أنه ليس بحجة, وفي هذه الحكاية عنه نظر ظاهر جدًّا, فإنه لا يحفظ له في الجديد حرف واحد أن قول الصحابي ليس بحجة, وغاية تعلقهم أنه حكى أقوالًا لهم ثم خالفهم في الجديد, وهو ضعيف جدًّا؛ فمخالفته لما هو أقوى في نظره لا يدل على أنه لا يراه دليلًا من حيث الجملة, بل صرَّح في الجديد من رواية الربيع عنه بأنه حجة يجب المصير إليه, ثم نقل عن مدخل البيهقي نص الشافعي بذلك أيضًا, ويأتي في قواعد مذهب الشافعي. ثم قال: وذهب بعض المتأخرين من الحنفية والشافعية والمالكية والحنابلة إلى أنه ليس بحجة, وذهب الفقهاء إلى أنه حجة إن خالف القياس, ولو   1 ابن إبراهيم بن مخلد راهويه. 2 القاسم بن سلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 462 خالف صحابيًّا آخر؛ لأنه لا يخالف القياس إلّا عن توقيف، ثم ذكر أدلة من لم يحتج به وردها, فانظره في عدد "381" من الجزء الأخير1، فليس مالك وحده يقول بحجية قول الصحابي بل الجمهور. ومن أصول مذهب مالك المصالح المرسلة، وشرطها ألّا تعارض نصًّا كما تقدَّم في الطور الأول، كالضرب بالتهمة للاستنطاق, قال: فجوَّز مالك وخالفه غيره، ومن ذلك المفقود زوجها, أخذ مالك بقول عمر: تنكح بعد أربع سنين من انقطاع خبره, وتعتدّ على تفصيل في العدة، وتقدَّمت أمثلة ذلك. وبقي عليه2 أيضًا شرع من قبلنا شرع لنا, فراجع الكلام على الأصول في القسم الأول من الكتاب، فصارت الأصول عشرين.   1 أعلام الموقعين. 2 قال المؤلف -رحمه الله: أي: عليّ أبي محمد صالح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 463 ترجمة سابعهم الإمام أبو محمد سفيان بن عيينة : ابن أبي عمران، ميمون الهلالي مولاهم، مولى محمد بن مزاحم أخي الضحاك، الكوفي الأصل المكي الدار، إمام المكيين ومسندهم, وأحد أئمة الحجاز بل الإسلام، وكان أعور، مولده بالكوفة سنة سبع ومائة. كان إمامًا عالمًا زاهدًا ورعًا، مجمَعًا على صحة حديثه وروايته، سمع من سبعين من التابعين، شارك مالكًا في أكثر شيوخه، كزيد بن أسلم، والزهري1، وخلق، وروى عنه شعبة2، ومسعر بن كدام من شيوخه، وابن المبارك4، والثوري5، والأوزاعي6، والأعمش7، من أقرانه، والشافعي، وابن حنبل، وابن معين8، وابن المديني9، وإسحاق10، وأمم. قال الشافعي: العلم يدور على ثلاثة: مالك والليث، وابن عيينة، وقال ابن وهب10: ما رأيت أعلم بكتاب الله من ابن عيينة, وتقدَّم أنه من جملة السابقين إلى التأليف في عصر مالك، له مسند وتفسير، توفي سنة "198" ثمان وتسعين ومائة11.   1 محمد بن مسلم. 2 ابن الحجاج. 3 عبد الله. 4 سفيان بن سعيد. 5 عبد الرحمن بن عمرو. 6 سليمان بن مهران. 7 يحيى. 8 علي بن عبد الله. 9 ابن إبراهيم "ابن راهويه". 10 عبد الله. 11 أبو محمد سفيان بن عيينة: الهلالي، الكوفي، المكي، أبو محمد، وُلِدَ سنة 107، ت سنة 198: تقريب التهذيب "1/ 312"، تهذيب التهذيب "4/ 117"، تهذيب الكمال "1/ 514"، الكاشف "1/ 379"، الخلاصة "1/ 379"، الميزان "2/ 170"، الأنساب "13/ 440"، الثقات "4/ 403". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 463 ترجمة ثامنهم الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس مدخل ... ترجمة ثامنهم الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس ابن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب الشافعي: المطلبي القرشي، يجتمع مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في عبد مناف، وجدّه السائب صحابي1, كان مشركًا في غزوة بدر وأُسِرَ وفدى نفسه وأسلم، كان حامل راية بني هاشم، وولده شافع رأى النبي -صلى الله عليه وسلم2, وُلِدَ الشافعي بغزَّة من أرض الشام سنة "150" مائة وخمسين في وفاة أبي حنيفة على قول، ونشأ بمكة وربِّي في هذيل بالبادية، فهناك تعلَّم الفصاحة والشعر العربي، كان راحلًا برحيلهم نازنلًا بنزولهم، حتى إن الأصمعي3 على جلالته قرأ عليه أشعار الهذليين، وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: ما رأيت رجلًا قط أكمل من الشافعي. ووى عنه أنه قال: لما رجعت إلى مكة من هذيل أنشد الأشعار والآداب وأيام العرب، مرَّ رجل من الزبيديين فقال لي: عزَّ علي أن لا يكون مع هذه الفصاحة والذكاء فقه, فتكون قد سدت أهل زمانك، فقلت: ومن بقي يقصد؟ فقال لي: هذا مالك سيد المسلمين يومئذ، فوقع في قلبي فاستعرت الموطأ   1 ترجم له ابن حجر في الإصابة "3/ 23". 2 ترجم له ابن حجر في الإصابة "3/ 310". 3 عبد الله بن قريب، تهذيب التهذيب "6/ 451". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 464 وحفظته في تسع ليالٍ, ورحلت إلى مالك فأخذت عنه الموطأ، فكان مالك يثني على فهمه وحفظه ووصله بهدية جزيلة لما رحل عنه، وأخذ عن مسلم بن خالد الزنجي, وأذن له في الإفتاء وهو ابن خمس عشرة سنة، وعن ابن عيينة1 بمكة، والفضيل بن عياض, وإبراهيم بن سعد، وعمَّه محمد بن شافع، وغيرهم. وروى عنه أحمد بن حنبل، وأبو بكر الحميدي2، وأبو ثور3، والبويطي4، وطائفة، قال فيه شيخه ابن عيينة: أفضل فتيان زمانه، وكان إذا أتاه شيء من الفتيا أو التفسير أحال عليه، وقال فيه أحمد: كان أفقه الناس في كتاب الله وسنة رسوله, قليل الطلب للحديث. وقال أحمد أيضًا: ما عرفت ناسخ الحديث من منسوخه حتى جالست الشافعي. والثناء عليه كثير وفضله شهير، وقد تكلَّم فيه يحيى بن معين وأكثر القول فيه وأساءه, وكذلك ابن المديني, وقال فيه ابن عبد الحكم5: يروي عن الكذابيين والبدعيين، قال في المدراك: ولعله لذلك لم يدخل أهل الصحيح في كتبهم من حديث ولو حرفًا. قلت: لكن في الخلاصة تهذيب التهذيب رمز إلى أن مسلمًا أخرج له في الصحيح وأصحاب السنن الأربعة, وكيفيما كان فلا خلاف في إمامته في الفقه, وإنما ضعَّف حديثه لروايته عن الضعفاء, وإلّا فهو في نفسه بريء من ذلك، وقد استطرد السبكي في الطبقات الكبرى في ترجمة أحمد بن صالح المصري ما ثلب به الشافعي ورده, وقال عن ابن عبد البر أن ثلب ابن معين للشافعي مما نُقِمَ عليه وعيب به، وذكر قول أحمد: من أين يعرف ابن معين الشافعي ولا ما يقوله الشافعي. وأطال في ذلك فانظره6. قال في المدراك: أما جودة الفقه والإمامة فيه فمسلم له, لكن ليس له إمامة في الحديث ولا معرفته ولا استقلال به ولا يدعيه ولا يدعى له, وقد ضعَّفه فيه أهل   1 سفيان. 2 اسمه عبد الله بن الحميدي الأسدي. تهذيب التهذيب "5/ 215". 3 إبراهيم بن خالد الكلبي البغدادي، تاريخ بغداد "6/ 65". 4 يوسف بن يحيى أبو يعقوب القرشي. 5 عبد الله. 6 طبقات الشافعية للسبكي "2/ 9-22". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 465 الصنعة, وإن كان الشافعي متبعًا للحديث ومفتشًا عن السنة لكن بتقليد غيره والاعتماد على رأي سواه, ولا اعتراف بالعجز عن معرفته, فقد كان يقول لابن مهدي وأحمد: أنتما أعلم بالحديث مني, فما صحَّ عندكما فعرفَّاني به لآخد به, ثم قال: وله في تقرير الأصول وتمهيد القواعد وترتيب الأدلة ما لم يسبقه إليه أحد, وكل من جاء بعده عيال عليه مع التفنن في لسان العرب والقيام بالخبر والنسب1. لكن قوله: إنه ضعَّفه فيه أهل الصنعة, قد علمت ما فيه ولا يلزم من كون أحمد وابن مهدي أعلم منه أنه ضعيف فيه, وحاشاه من الضعف مع إمامته، وغاية الأمر أنه لم يكن في رتبة أحمد ومالك فيه، ثم هو عالم قريش, ففي حديث أبي هريرة عنه -عليه السلام: "اللهم اهد قريشًا, فإن عالمها يملأ طباق الأرض علمًا" كذا في المدراك2، وذكره في الطبقات السبكية بألفاظ أخر فانظرها3، والحديث متكلم فيه ولا نسلم تفسيره بالشافعي, مع وجود ابن عباس قبله كما تقدَّم لنا في ترجمته4. وقد رحل الشافعي إلى العراق لما تولَّى ولاية في اليمن, فاتُّهِمَ بالتشيع لشيعة العلويين زمن الرشيد, فأشخص إلى العراق ثم عفا عنه الرشيد لبراءته، وقد قال للرشيد: أنترك من يقول إني ابن عمه يعني الرشيد, وأصير إلى من يقول: إني عبده, يعني إمام الشيعة, فأثر ذلك في الرشيد وأطلقه, ووصله فاختلط بمحمد بن الحسين الشيباني صاحب أبي حنيفة, واطَّلع على كتب الحنفية وفقههم, بعد ما كان منه من الاطلاع على فقه مالك وحفظه لموطئه, فوقعت مناظرات بينه وبين محمد بن الحسين, مذكورة في كتب الشافعي، وقد رفعت إلى الرشيد وسر منها. من ذلك أنه دخل يومًا على محمد بن الحسن وهو يقرر عند جوازه الزيادة على القرآن ويطعن على أهل المدينة في قضائهم بالشاهد واليمين بأنها زائدة على   1 ترتيب المدراك "1/ 92" 2 كذا في ترتيب المدراك "1/ 390"، وذكره في طبقات الشافعية بألفاظ أخرى "1/ 198"، وقد رواه الخطيب في تاريخ بغداد "2/ 60"، وذكر الأقوال في تأويله، وأبو نعيم في الحلية "9/ 65"، وذكره السخاوي في القواعد الحسنة وتكلَّم عليه "281". 3 "1/ 198". 4 تقدَّم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 466 كتاب الله الذي بيَّن أن القضاء بعدلين أو رجل وامرأتين، فقال له الشافعي: أثبت عندك أنه لا تجوز الزيادة على كتاب الله بخبر الواحد؟ قال: نعم, قال له: فلم قلت: إن الوصية للوارث لا تجوز له -صلى الله عليه وسلم: "لا وصية لوارث" , وقد قال الله: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} 1، الآية، وأورد عليه أشياء من هذا القبيل فانقطع. ثم إن الشافعي عاد إلى مكة واختلط بعلمائها, ومن يفد إليها من علماء الأقطار للحج, وفي سنة "195" خمس وتسعين ومائة عاد للعراق زمن الأمين, فأخذ عنه فيها ابن حنبل وغيره من علمائها، وهناك أملى كتبه التي عبَّر عنها بالقول القديم؛ لأنها كانت على مذهبه القديم، وأقام هناك سنتين. ثم رجع إلى الحجاز, ثم في سنة "198" عاد إلى العراق, وبقي بعض أشهر, ومنه توجَّه إلى مصر, فنزل على عبد الله بن الحكم، وكان مذهب مالك منتشرًا هناك بين علماء مصر التي زهت بأصحاب مالك، مثل ابن وهب2، وابن القاسم3، وأشهب4، وابن عبد الحكم5، ونظرائهم. فنشر مذهبه وأملى كتبه الجديدة التي يعبِّر عنها بالقول الجديد, وهو المذهب الذي تغيَّر إليه اجتهاده بمصر، وترك الشافعي عدة كتب تنسب إليه كالأم، والرسالة، وغيرهما.   1 البقرة: 180. 2 عبد الله. 3 عبد الرحمن بن القاسم العتقي، الديباج المذهب "1/ 465". 4 ابن عبد العزيز أبو عمر القيسي، الديباج "1/ 307". 5 عبد الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 467 مسند الشافعي : إن مسنده الحديثي الذي طُبِعَ أخيرًا, قال ابن حجر العسقلاني في كتابه تعجيل المنفعة: إنما التقطه بعض النيسابوريين من الأم وغيرها من مسموعات أبي العباس الأصم1, التي كان انفرد بروايتها عن الربيع2 وبقي من حديث الشافعي شيء كثير لم يقع في هذا المسند. وقال الأمير3 في فهرسته: إن الذي جمع المسند المذكور محمد بن جعفر ابن مطر النيسابوري لمحمد بن يعقوب الأصم, حيث وقعت له الرواية عن الربيع، وقيل: جمعه الأصم ولم يرتبه فوقع فيه التكرار، توفي الشافعي بمصر سنة "204" أربع ومائتين -رحمه الله4.   1 هو محمد بن يعقوب بن يوسف بن سنان الأموي، تذكر الحفاظ "3/ 73". 2 ابن سليمان المرادي أبو محمد المصري صاحب الإمام الشافعي. 3 لعله محمد بن محمد بن أحمد السبناوي أبو محمد المصري، اشتهر بالأمير, ت سنة 1232 هـ، وترجم له المؤلف في القسم الرابع. 4 أبو عبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع السائب الشافعي: أبو عبد الله، المطلبي، القرشي، المكي، وُلِدَ سنة 150، مات سنة 204: الوافي بالوفيات "2/ 171"، تقريب بغداد "2/ 65"، التحفة اللطيفة "3/ 515"، الجرح والتعديل "7/ 1130"، تقريب التهذيب "2/ 143"، تهذيب التهذيب "9/ 25"، تهذيب الكمال "3/ 1161"، الخلاصة "2/ 377"، الكاشف "3/ 17"، الأعلمي "26/ 164"، الأعلام للزركلي "6/ 249"، طبقات الحنابلة "204"، وتذكر الحفاظ "1/ 329"، والبداية والنهاية "10/ 251"، وغاية النهاية للجزري "2/ 95"، حيلة الأولياء "9/ 63"، وطبقات الشافعية للعبادي "ص6". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 468 قواعد مذهب الشافعي : مبدؤه ما قال في الأم ونصها: الأصل قرآن وسنة1, فإن لم يكن فقياس عليهما، وإذا اتصل الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم, وصحَّ الإسناد منه فهو سنة2، والإجماع أكبر من الخبر المفرد، والحديث على ظاهره, وإذا احتمل المعاني فما أشبه منها ظاهره أو لاها به، وإذا تكافأت الأحاديث فأصحها إسنادًا أولاها، وليس المنقطع بشيء ما عدى منقطع ابن المسيب، ولا3 يقاس على أصل ولا يقال للأصل لم وكيف, وإنما يقال للفرع لم, فإذا صحَّ قياسه على الأصل صحَّ وقامت به الحجة "أ. هـ بلفظه" نقله النووي بالسند المتصل في المنهاج.   1 قال المؤلف -رحمه الله: أو سنة كذا في رواية الأصم عن أبي حاتم عن يونس بن عبد الله الأعلى, نقلها في أعلام الموقعين بلفظ أو. 2 قال المؤلف -رحمه الله: في لفظ أبي حاتم: وصحَّ الإسناد به فهو المنتهى. 3 قال المؤلف -رحمه الله: ولا يقاس أصل على أصل، كذا في رواية أبي حاتم. انظر عدد "465" من أعلام الموقعين الجزء الأخير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 468 فهذا النص منه يتبين لك أن القرآن والسنة عنده في التشريع سواء, ولا يشترط ما شرطه أبوحنيفة من شهرة الحديث إذا عمَّت به البلوي وغير ذلك مما سبق، ولا ما اشترطه مالك من عدم مخالفته لعمل أهل المدينة. وإنما شرط الصحة والاتصال دون المرسيل إلّّّّا مرسل ابن المسيب الذي وقع الاتفاق على صحته، والشافعي هو أول من طعن في المراسيل, مخالفًا في ذلك لمالك والثوري ومعاصريهما الذين كانوا يحتجون بها, كما في رسالة أبي داود لأهل مكة، وترك الاستحسان الذي قال به المالكية والحنفية, بل أنكره وقال: إن من استحسن فقد شرّع، وألف فيه كتابه إبطال الاستحسان, وتقدَّم لنا البحث معه في ذلك في مبحث الاستحسان، ولم يعمل إلّا بقياس له علة منضبطة. كما ردَّ المصالح المرسلة أيضًا, وأنكر الاحتجاج بعلم أهل المدينة, وأطال في الأم للاحتجاج ضده بما ردَّه عليه المالكية, وقد استدلَّ هو بعمل أهل مكة, تقف على ذلك في جامع الترمذي وفي الأم، كما أنكر على الحنفية تركهم لكثير من السنن بدعوى عدم الشهرة. وقال الشافعي: أيضًا: إذا رفعت الواقعة للمجتهد فليعرضها على نص القرآن، فإن لم يجد عرضها على أخبار الآحاد، فإن لم يجد عرضها على ظاهر القرآن، فإن وجد ظاهرًا بحث على المخصِّص من خبر أو قياس، فإن لم يجد مخصصًا حكم به, فإن لم يعثر على لفظ قرآن أو سنة نظر في المذهب, فإن وجد فيها إجماعًا اتبعه، وإن لم يجد إجماعًا خاض في القياس. "ابن التلمساني" وليس في كلامه متعقب إلا تأخره بالإجماع وهو مقدَّم. وتقدَّم قوله في الأم: والإجماع أكبر من الخبر المفرد، وبه يجمع بين كلاميه، وبهذا الأخير تعلم أن نص خبر الواحد عنده مقدَّم على ظاهر القرآن, وهو عمومه خلاف ما تقدَّم لمالك، وأن لا يعمل بالعام إلّا بعد البحث عن المخصص، وأن القياس لا يعمل به إلّا لضرورة عدم نصٍّ أو ظاهر، كما علم من كلامه الأول أن النصَّ لا يبحث معه عن العلة، وقال في أعلام الموقعين: قال الشافعي: الحجة كتاب الله وسنة رسوله واتفاق الأئمة. وقال في كتاب اختلاف مع مالك: والعلم طبقات: الأولى: الكتاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 469 والسنة. الثانية: الإجماع فيما ليس كتابًا ولا سنة. الثالثة: أن يقول الصحابي فلا يعلم له مخالف من الصحابة. الرابعة: اختلاف الصحابة. الخامسة: القياس, فقدَّم النظر في الكتاب والسنة على الإجماع, ثم أخبر أنه إنما يصار إلى الإجماع فيما لم يعلم في كتاب ولا سنة وهذا هو الحق "أهـ منه"1. فنُسِبَ له أنه يقدِّم القرآن والسنة الصحيحة على الإجماع عند التعارض، وهذا مذهب الحنابلة أيضًا، والذي يظهر في "جمع الجوامع" أن الإجماع مقدَّم عليهما عند التعارض باتفاق، وتقدَّم لنا عند الكلام على الإجماع فارجع إليه2، ويدل لما ذهب إليه الحنابلة ظاهر قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا} 3، والآية، وقوله: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} 4 وقوله تعالى: {لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} 5 الآية، وقوله: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} 6، وقوله: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّه} 7 إلى غير ذلك. وقال البيهقي في المدخل: قال الشافعي في كتاب اختلافه مع مالك: ما كان الكتاب والسنة موجودين فالعذر على مَنْ سمعه مقطوع إلا بإتيانه, فإن لم يكن ذلك صرنا إلى أقوال الصحابة أو واحد منهم، ثم كان قول الأئمة أبي بكر وعمر وعثمان إذا صرنا إلى التقليد أحب إلينا, وذلك إذا لم نجد دلالة في الاختلاف تدل على أقرب الاختلاف من الكتاب والسنة. وقال أيضًا: إذا قال الواحد منهم القول لا يحفظ عن غيره له موافقة ولا خلاف, صرت إلى اتباع قوله إذا لم أجد كتابًا ولا سنة ولا إجماعًا ولا شيئًَا في معناه يحكم له بحكمه أو وُجِدَ معه قياس. انظر عدد "380" من السفر الأخير من أعلام الموقعين8.   1 أعلام الموقعين "4/ 121". 2 تقدَّم. 3 الأحزاب: 36. 4 النور: 51. 5 الحجرات: 1. 6 الأعراف: 3. 7 الأنعام: 75، يوسف: 40، 67. 8 أعلام الموقعين "4/ 121". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 470 سبب انتشار مذهب الشافعي : إذا تأمل المتأمِّلُ في تاريخ حياة الشافعي وعمله في الفقه وفلسفة فكره, وجده صادف معركة هائلة واقعة بين العراق والحجاز في مسألة تقديم الرأي على السنة أو العكس، ووجد مذهب الحنفية آخذًا في الظهور بالعراق وما وراءه, وفي عاصمة الإسلام العظمى بغداد، وخلفاؤها وعلماؤها وقضاتها وولاتها يدينون به، وقاضي القضاة لهم أبو يوسف, ومن بعده يدين به وينشره, ولا يولي قاضيًا إلّا إذا كان آخذًا به من خراسان إلى إفريقية. ووجد مذهب مالك وأنصار الحديث آخذًا في مزاحمته, متغلبًا مع ظهور الدولة الأموية بالأندلس وما قرب منها, ولا يُولَّى قاضٍ هناك إلّا بإشارة يحيى بن يحيى الليثي الذي كان رأس علماء الأندلس، وقاضي القيروان أسد بن الفرات كذلك ينشره، وأحمد بن المعذل1 وأصحابه ينشرونه في العراق وما رواءه. في حال أن معركة أخرى هائلة قائمة بين المحدِّثين وبين كل من المذهبين, يعيبون مذهب الحنفية بترك كثير من الأحاديث التي هي في نظر المحدثين يجب العمل بها ولا يحل تركها بالرأي. والمالكية في تركهم بعض الأحاديث الصحيحة لعمل أهل المدينة، كما عاب هو العمل بالمرسل إذ تبيَّن من الفحص أن بعض المراسيل لم تصح؛ لأن مالكًا بنى مذهبه في الاحتجاج بالمرسل كالحنفية على حسن الظن بالتابعين, وأنهم لا يقولون: قال رسول الله إلّا إذا سمعوه من صحابي, والصحابة كلهم عدول، ثم تبيَّن أن بعض التابعين سمع بعض المراسل ممن دون الصحابي ممن هم مجروحون. ووجد الشافعي لأئمة الحديث الظهور العظيم، كأحمد، وإسحاق2، وابن المديني3، وابن معين4، وابن مهدي5، ونظرائهم، جمعوا السنة المتفرقة في الأقطار, وأوعبوها جمعًا وحفظًا ونقدًا, ولم يقتصروا كمالك على   1 هو أحمد بن غيلان بن الحكم العبدي، الديباج المذهب "1/ 141". 2 ابن إبراهيم راهويه". 3 علي بن عبد الله. 4 يحيى. 5 عبد الرحمن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 471 حديث الحجاز في غالب, بل أخذوا أحاديث وجدت في خراسان وفي العراق والشام ومصر وغيرها من أقطار الإسلام رويت عن من كان هناك من الصحابة وأتباعهم. فتلطَّف الشافعي في انتحال طريقة تجمع الفكر العام أو فكر الجمهور على الأقل, فأسس أصلًًا وهو الأخذ بالسنة مهما توفّرت شروط الأخذ بها, ومنها: أن لا يثبت أنها منسوخة، وترك شرط الحنفية للشهرة فيما تعمّ به البلوى, وشرط المالكية وهو عدم مخالفة العمل، وأخذ حتى بأحاديث غير الحجازيين, ولم يشترط إلّا الصحة أو الحسن، وترك المرسل والمنقطع والمعضل ما لم يثبت اتصاله كمراسيل ابن المسيب، ولم يحتجّ بأقوال الصحابة؛ لأنها يحتمل أن تكون عن اجتهاد يقبل الخطأ، ولم يعتبر ترك الصحابي أو مَنْ دونه أو أهل بلد أو قطر للحديث قادحًا فيه؛ إذ قد يكون لغفلة عنه, وعدم حفظه لما رآه من اجتهاد الصحابة في مسائل كثيرة, ثم يظهر الحديث يوفقها، فيفرحون أو بضدها فيرجعون، كما تقدَّم لنا أمثلة من ذلك في القسم الثاني. وهكذا أخذ الشافعي بحديث القلتين، وخيار المجلس، وغيرهما، وتركهما المالكية والحنفية قبله، اللهم إذا صرَّحوا وبيَّنوا العلة القادحة في الحديث, أما مطلق عدم العمل به فليس بقادح، والتمسُّك بأمر محقق خير من أن نقول: عسى, ولعل هناك قادحًا، فالتف حوله أهل الحديث الذين كان لهم الكلمة العليا وهو أنصار السنة, حتى إنهم سموه في بغداد: ناصر السنة، قال الزعفراني1: كان أصحاب الحديث رقودًا حتى جاء الشافعي فأيقظهم فتيقظوا. وأخذ بالقياس فيما لم يكن فيه نصّ, فربح غنيمة المعركتين معًا، واستمال كثيرًا من أهل الفئات الثلاث, ووقع له ظهور عظيم بنشره لكتبه ومذهبه في العراق ومكة بنفسه, ثم بمصر أيضًا. بهذا انتشر مذهب الشافعي سريعًا بين علماء الأمة بغير تعضيد أهل السياسة له، ومن غير أن يحصل على جلالة مثل جلالة مالك في العلم والاشتهار والفضل والمكانة في قلوب الأمة؛ إذ كان في ذلك وسطًا من الأمر, ولم تكن الأمة جامدة تنظر إلى الأشخاص فقط فتقدمها, بل تنظر إلى قيمة الأقوال فتزنها وتمحصها، وكان مع ذلك محظوظًا خدمه, وأشاع مذهبه, وتلمذ له من هو أجلّ منه.   1 هو الحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني، تهذيب التهذيب "2/ 318". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 472 اختراع الشافعي لعلم أصول الفقه الذي هو كفلسفة الفقه: لما وجد الشافعي أن الذين رحلوا من المحدثين واستقصوا السنة وجمعوها من الأقطار كإسحاق1، وأحمد، وابن وهب2، ونظائرهم، اجتمع لديهم منها شيء كثير يعدُّ بمئات الآلاف, بعد أن كانت طبقة مالك وابن عيينة ونظرائهم لا يجتمع لها منها إلّا الألف والأربعة الآلاف إلى عشرة أو عشرات الألوف لاقتصارهم على سنن بلدهم، فوقع التضارب والتعارض بين ظواهر تلك السنة الكثيرة. فاخترع الشافعي طريقة للجمع والتوفيق وتبيين كيفية استعمال المجتهد له, وقوانين الاستنباط منها ومن الكتاب العزيز ليمكِّنه تخليص مذهبه وتأسيسه على أساس متين، وفي القواعد التي سميت علم الأصول، وأوجب عليه القيام بهذا العمل دخول الدخيل في لسان العرب, وامتزاج اللغة بلغة الأعاجم، وضعف المدراك عن فهم مقاصد الشريعة بسبب ذلك، وسهل له ذلك ما كان وقع قبله من تدوين علوم اللسان وتمهيدها كالنحو والصرف. فبذلك تمكَّن من وضع قواعد تجمع بين الأحاديث التي ظاهرها التعارض, وكان الشافعي نفسه على جانب من المهارة في علوم اللسان, ومعرفته ببلاغة القرآن، يعرف له ذلك الخاص والعام، مع ما أوتيه من فضل بلاغة التعبير عمَّا يختلج في الضمير, كما يشهد لذلك شعره البليغ وكتبه، ومن شعره قوله: إن الولاية لا تدوم لواحد ... إن كنت تنكر ذا فأين الأول   1 ابن إبراهيم "ابن راهويه". 2 عبد الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 473 فاجعل من الذكر الجميل صنائعًا ... فإذا عُزِلْت فإنها لا تعزل وقوله: الجد يدني كل أمر شاسع ... والجد يفتح كل باب مغلق فإذا سمعت بأن مجدودًا حوى ... عودي فأثمر في يديه فحقق وإذا سمعت بأن محرومًا أتى ... ماء ليشربه فغاض فصدق وأحق خلق الله بالهمِّ امرؤ ... ذو همة يبلى بعيش ضيق1 وقوله وقد صدق: ولولا الشعر بالعلماء يزري ... لكنت اليوم أشعر من لبيد كان الشافعي يجتلب ألباب الكبار بفصاحته ومهارته, وناهيك برجل اجتذب الإمام أحمد، وعبد الرحمن بن مهدي، أن يكون من تلاميذه، ويأخذا عنه في حال أنه محتاج إليهما في فنهما, مستعينًا بهما على ما يعانيه من الفتيا والفقه. قال السيوطي: الإجماع على أنه أول واضع لعلم الأصول؛ إذ هو أوَّل من تكلَّم فيه وأفرده بالتأليف, وكان مالك في الموطأ أشار إلى بعض قواعده, وكذلك غيره من أهل عصره كأبي يوسف ومحمد بن الحسن؛ إذ هو من العلوم المركوزة في طباع العرب, مأخوذ من استعمالاتهم في محاورتهم, وقد دوَّن الشافعي فيه رسالته المشهورة. قال ابن خلدون في المقدمة: تكلَّم فيها على الأوامر والنواهي, والبيان والخبر والنسخ, وحكم العلة المنصوصة من القياس, وهي رسالة من أبدع ما ألف وأحسن ما صنف, وله غيرها. وبهذا خدم الشافعي الفقه خدمة تذكر له فتشكر, وقرَّب بقواعده طريق الاجتهاد لمن يريده, وجعل قواعد الأصول منارًا يهتدى بها في بحر الكتاب والسنة, يؤمَن معها من الزلل, والخروج على الجادَّة, والله يجازيه   1 الأبيات في طبقات الشافعية للسبكي "1/ 304". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 474 خيرًا, إلّا أن المتأخرين لم يستعملوا الأصول لما وضع له من الاستنباط مع إيضاح الحق ليعمل به, بل استعملواه آلة جدال وغمتٍ للحق، فتجد الرجل يستدل لنفسه بالعام, فإذا ما استدلَّ به خصمه ردَّ عليه فقال: إن دلالته ظنية, وإنه لا يُعْمَل به قبل البحث عن المخصِّص, وإن كان عام دخله التخصيص، وتجده يستدل بالخاص, فإذا ما استدلَّ به خصمه رد عليه بأنه قضية عين لا عموم لها، وتجده يستدل بفعله -عليه السلام, فإذا استدلَّ به خصمه قال له: يحتمل أنه خصوصية, وما احتمل, واحتمل سقط به الاستدلال، وهكذا أكثروا من القواعد وعارضوا بعضها ببعض, ليتوصَّل كل واحد إلى أن يتمسَّك بما هو عليه لا يحيد عنه, ولم يبق عندهم استدلال إلّا الجدال, لا لظهور حقٍّ وإبانة باطل, وما اختلفوا إلّا من بعد ما جاءهم العلم سنة الله في الأمم. هنا انتهى بنا الكلام على المجتهدين الثمانية الذين ألَّفت مذاهبهم من أهل القرن الثاني، وقد بينا لك بوجه إجمالي واضح قريب من التفصيل كيف كان الفقه في هذا العصر, والدرجة التي حصل عليها, وهذا عنفوان شبابه, وإن كان في القرن بعده وجد فيه مجتهدون آخرون, وخمسة منهم مَنْ دونت مذاهبهم أيضًا، ولكن الفقه دخل فيه في طور الكهولة كما نقرر، ولنذكر من كان من هذا العصر من مشاهير المجتهدين اجتهادًا مطلقًا غير ما سبق، ثم أصحاب أبي حنيفة ومالك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 475 ترجمة أبو واثلة إياس بن معاوية بن قرة بن إياس المزني ... ترجمة واثلة إياس بن معاوية بن قرة بن إياس المزني: اللسن البليغ الألمعي المصيب، ويكفي دلالة على علمه وفضله أنه كتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن أرطأة: أن أجمع بين إياس بن معاوية والقاسم ابن ربيعة الحرشي, فولّ قضاة البصرة أنفذهما, فلمَّا جمعهما قال إياس: أيها الأمير, سل عني وعن القاسم فقيهي المصر الحسن البصري، وابن سيرين. وكان القاسم يأتيهما وإياس لا يأتيهما, فعلم القاسم أنه إن أشارا به، فقال له: لا تسأل عني ولا عنه, فوالله الذي لا إله إلّا هو, إنه لأفقه مني وأعلم بالقضاء, فإن كنت كاذبًا فما يحل لك أن توليني وأنا كاذب, وإن كنت صادقًا فينبغي لك أن تقبل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 475 قولي. فقال له إياس، إنك إن أتيت برجل أوقفته على شفير جهنم فنجَّي نفسه منها بيمين كاذبة يستغفر الله منها وينجو مما يخاف, فقال عدي: أما إذ فهمتها فأنت لها واستقضاه، كان إياس صادق الظن لطيفًا في الأمور مشهورًا بفرط الذكاء، يُضْرَب به المثل إلى وقتنا هذا؛ إذ هو أحد العقلاء الدهاة الفضلاء، قضاياه في ذلك خصَّت بالتأليف في حسن الفراسة وسرعة الانتقال من الملزومات إلى لوازمها, والدوالّ إلى مدلولاتها، اتَّخذه مَنْ بعده من القضاة قدوة في ذلك، توفي سنة "125", وقال خليفة1 سنة "122" ومن كلامه: من عُدِمَ فضيلة الصدق فقد فُجِعَ بأكرم أخلاقه, وقال: كل ديانة أسست على غير ورع فهي هباء، وروى عن أنس وغيره، وثَّقه ابن سعد، وابن معين، وروى عنه الأعمش، وأيوب، والحمّادان2، وأخرج له البخاري في تعاليقه3.   1 ابن خياط. 2 حماد بن سلمة وحماد بن زيد. 3 ترجمة إياس في: حلية الأولياء "3/ 123"، وميزان الاعتدال "1/ 283"، وتهذيب التهذيب "1/ 390". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 476 ترجمة ثابت البناني، السبيعي : ثابت بن أسلم البناني 4: مولاهم البصري، أحد الأعلام، روى عن أنس وغيره، وروى عنه شعبة والحمَّادان، توفي سنة "127" سبعة وعشرين ومائة عن ست وثمانين "86"5. أبو إسحاق عمرو بن عبد الله الهمداني السبيعي: الكوفي، أحد الأعلام التابعين, روى عنه جرير البجلي، وعدي بن حاتم, وجابر بن سمرة، والبراء، وغيرهم، ثقة يشبه الزهري في الكثرة، أجمعت الستة عليه، توفي سنة "127" سبع وعشرين ومائة, وسبيع مصغير بطن من همدان، قيل إنه رأى عليًّا يخطب6.   1 قال المؤلف -رحمه الله: البناني بضم الباء نسبة إلى بنانة, زوجة سعد بن لؤي بن غالب "قسطلاني من كتاب الأشربة". 2 ثابت بن أسلم البناني: حلية الأولياء "2/ 197"، تهذيب التهذيب "2/ 2". 3 أبو أسحاق عمرو بن عبد الله الهمداني السبيعي: أبو إسحاق، الهمداني -الكوفي- السبعي - السبيعي: مات سنة 129 أو 127 أو 126: تقريب التهذيب "2/ 73"، تهذيب التهذيب "8/ 63"، تهذيب الكمال "2/ 39"، الخلاصة "2/ 290" الكاشف "2/ 334", الجراح والتعديل "6/ 1347"، الحلية "4/ 338"، الأنساب "7/ 7", ثقات "5/ 177"، المغني "4671". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 476 ترجمة عبد الرحمن بن القاسم، يزيد الأزدي، يحيى بن أبي كثير : عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق: المدني، أحد أئمة المسلمين، روى عنه مالك، وغيره، وثقوه، توفي سنة "126" ست وعشرن ومائة1. يزيد بن أبي حبيب مولى شريك بن الطفيل الأزدي: أبو رجاء، المصري، إمامها وعالمها، تابعي، ورى عن عبد الله بن الحارث بن جزء، قال الليث، يزيد عالمنا وسيدنا، وقال ابن سعد: ثقة كثير الحديث، توفي سنة "128" ثمان وعشرين ومائة2. أبو النصر يجيى بن أبي كثير الطائي مولاهم: فقيه اليمامة، أحد أعلام الإسلام الحفاظ، أجمعت عليه الستة، روى عن أنس، وجابر، وغيرهما، وروى عنه الأوزاعي، وغيره، قال شعبة: يحيى أحسن حديثًا من الزهري، توفي سنة "129" تسع وعشرين ومائة3.   1 عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق: أبو محمد، القرشي التميمي المدني، مات سنة 126 أو بعدها, أو سنة 120: تقريب التهذيب "1/ 495-497"، تهذيب التهذيب "6/ 254، 264، 8/ 322"، تهذي الكمال "2/ 814-911-1111"، الكاشف:2/ 181-194"، الخلاصة "2/ 149، 151"، تذكرة الحفاظ:"1/ 19"، تراجم الأحبار "2/ 404، 3/ 285". 2 يزيد بن أبي حبيب مولى شريك بن الطفيل الأزدي: أبو رجاء -أبو عبد الرحمن- أبو عثمان، المصري سويد الأزدي: ولد سنة 53، توفي سنة 128: طبقات علماء أفريقية وتونس 46، تاريخ الإسلام "5/ 184"، تقريب التهذيب "2/ 363"، تهذيب التهذيب "11/ 318"، الخلاصة "3/ 167"، تهذيب الكمال "3/ 1531"، الكاشف "3/ 275"، الثقات:"5/ 564"، نسيم الرياض "3/ 391"، الجرح والتعديل "9/ 1122"، تراجم الأحبار "4/ 243"، الموضوعات "1/ 138". 3 يحيى بن أبي كثير, أبو النصر الطائي مولاهم: أبو النصر أو أبو كثير -الطائي- اليمامي العطاء: ت سنة 129 أو 132: البداية والنهاية "10/ 34"، الجرح والتعديل "9/ 599"، لسان الميزان "6/ 274"، تقريب التهذيب "2/ 356"، تهذيب التهذيب "11/ 268"، الكاشف "3/ 266"، ابن سعد "5/ 404"، تذكرة الحفاظ "1/ 150"، الخلاصة "3/ 159". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 477 ترجمة محمد بن المنكدر، أبي الزبير المكي : أبو عبد الله محمد بن المنكدر القرشي المدني: أحد الأئمة الأعلام، روى عن عائشة، وأبي هريرة، وغيرهما، وعنه زيد بن أسلم، والزهري، وغيرهما، من الأئمة، حافظ موثَّق، توفي سنة "130" ثلاثين ومائة, وله ترجمة في الحلية عظيمة1. أبو الزبير محمد بن مسلم الأسدي المكي: أحد الأئمة الأعلام في الحديث والفتوى، توفي سنة "128" ثمان وعشرين ومائة2.   1 أبو عبد الله محمد بن المنكدر المدني: أبو عبد الله، التيمي المدني القرشي، ت سنة 130هـ. التعديل والتجريح رقم "492"، تقريب التهذيب "2/ 210"، تهذيب التهذيب "9/ 473"، تهذيب الكمال "3/ 1276"، الكاشف "3/ 100"، الخلاصة "2/ 460"، إسعاف المبطأ "213"، نسيم الرياض "3/ 399"، تراجم الأحبار "4/ 20"، المعين "428"، نسيم الرياض "2/ 34". 2 أبو الزبير محمد بن مسلم الأسدي الكوفي: القرشي الأسدي المكي، أبو الزبير، توفي سنة 125 أو 126 أو 128: تقريب الهذيب "2/ 207"، تهذيب التهذيب "9/ 440"، تهذيب الكمال "3/ 1267"، الكاشف "3/ 95"، الخلاصة "2/ 456"، المعرفة والتاريخ "2/ 22"، لسان الميزان "7/ 370"، الكامل "6/ 2133"، تراجم الأحبار "4/ 13"، سير النبلاء "5/ 380". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 478 ترجمة مالك بن دينار، أيوب السختياني : أبو يحيى مالك بن دينار السامي -بمهملة: الناجي أو القرشي، مولاهم، البصري، الإمام العلم والزاهد الكثير الورع والعلم، كان لا يأكل إلّا من كسب يده, يكتب المصاحف بأجرة، ومناقبه شهيرة, ورى عن أنس، وغيره، توفي سنة ثلاثين أو إحدى وثلاثين ومائة "131"1. أيوب بن أبي تميمة كيسان2 السختيان العنزي: أبو بكر البصري، الفقيه، أحد الأئمة الأعلام، قال الذهبي في كتاب العلوّ: سيد أهل البصرة وعالمهم. روى عنه ابن سيرين من شيوخه، قال شعبة2: حدثنا أيوب: والله سيد الفقهاء، وقال حماد بن زيد: أفضل من جالسته وأشده اتباعًا للسنة. وقال ابن عيينة: ما لقيت مثله في التابعين. وقال ابن سعد: كان ثقة ثبتًا حجة جامعًا كثير العلم، توفي سنة "131" إحدى وثلاثين ومائة عن خمس وستين3.   1 أبو يحيى: مالك بن دينار السامي: الناجي أو القرشي: مالك بن دينار بن الأسود أبو يحيى، أبو هاشم، البصري الزاهد القرشي الناجي الشامي، مات سنة 130 أو 132، أو 123 أو 127: تقريب التهذيب "2/ 224"، تهذيب التهذيب "10/ 14"، الكاشف "3/ 113"، تهذيب الكمال "3/ 1298"، الخلاصة "3/ 4"، در السحابة "1/ 8"، المغني "5139"، التاريخ الصغير "1/ 317"، ديوان الضعفاء رقم "3509"، الجرح والتعديل "8/ 619"، تاريخ الثقات "418"، تراجم الأحبار "3/ 417". 2 ابن الحجاج. 3 قال المؤلف -رحمه الله: كيسان -بفتح الكاف, والسختيان -بفتح المهملة وكسرها بعدها معجمة ساكنة ثم مثناة: نسبة إلى عمل الجلود. 4 أيوب بن أبي تميمة كيسان السختيان العنزي: تهذيب التهذيب "1/ 379"، والخلاصة "42". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 479 ترجمة عبد الله بن ذكوان، عطاء الخراساني، عطاء الثقفي : عبد الله بن ذكوان الأموي: مولاهم، أبو الزناد المدني، أحد الأئمة الكبار التابعين، رأى نحو عشرين صحابيًّا كأنس، وابن عمر، وأكثر مروياته عن الأعرج1، وبه تخرَّج مالك، قال أبو حاتم: ثقة فقيه صاحب سنة. قال البخاري: أصح الأسانيد أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة، مات سنة "131" إحدى وثلاثين ومائة2. عطاء بن أبي مسلم الخراساني: معدود في البصريين، لكن دخل خراسان وأقام بها, ثم رجع إلى البصرة، ونزل الشام أيضًا، مولى المهلب بن أبي صفرة، كان من خيار عباد الله وأحد الأعلام، روى عن أبي الدرداء، ومعاذ، وابن عباس مرسلًا، وغيرهم، وثقه الأعلام، ورى عن أبي الدرداء، ومعاذ1، وابن عباس مرسلًا، وغيرهم، وثَّقه ابن معين، وابن أبي حاتم، وقال الواقدي: ما أعرف لمالك رجلًا يروي عنه يستحق أن يترك حديث غير عطاء الخراساني؛ لأن عامة أحاديثه مقلوبة. وقد اعتمده مسلم والأربعة, وعلى كل حال كان من أعلام الفقهاء، توفي سنة "135"، خمس وثلاثين ومائة3. عطاء بن السائب الثقفي: أبو محمد الكوفي الإمام الفقيه، أحد الأعلام، روى عن أنس، وابن أبي أوفى, وغيرهما، اختلط في آخر عمره، لذلك قرنه البخاري بآخر، توفي سنة "136" ست وثلاثين ومائة4.   1 هو عبد الرحمن بن هرمز. 2 عبد الله بن ذكوان الأموي: تهذيب التهذيب "5/ 203"، والخلاصة "196". 3 عطاء بن أبي مسلم الخراساني: وُلِدَ سنة 50، مات سنة 135: تهذيب التهذيب "7/ 190"، طبقات ابن سعد "7/ 379"، التاريخ الكبير "6/ 474"، التاريخ الصغير "2/ 37"، المجروحين "2/ 130"، الجرح والتعديل "6/ 334-335"، تاريخ الإسلام "5/ 279"، ميزان الاعتدال "3/ 73-75"، العبر "1/ 182"، النجوم الزاهرة "1/ 331"، العقد الثمين "1/ 379"، شذرات الذهب "1/ 192". 4 عطاء بن السائب الثقفي: أبو محمد الكوفي، أبو زيد الثقفي الكوفي: علل "2/ 181، 3/ 42"، ومراسيل الرازي "157"، جامع التحصيل "290"، الطبقات الكبرى "6/ 37، 223، 242، 7/ 328"، علوم الحديث لابن الصلاح "1/ 352، 353"، التاريخ الصغير "2/ 39، 41، 45"، تلخيص المستدرك "1/ 207، 224"، ضعفاء ابن الجوزي "2/ 177". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 480 ترجمة العلاء الحضرمي، يونس بن عبد، خالد بن مهران : أبو محمد العلاء بن الحارث الحضرمي: الدمشقي، أحد الأئمة الكبار، المتوفَّى سنة "136" ست وثلاثين ومائة1. يونس بن عبد العبدي مولاهم: أبو عبد الله البصري، أحد الأئمة المفتين بها، قال هشام بن حسان: ما رأيت أحدًا يطلب العلم يبتغي به وجه الله إلّا يونس بن عبيد، مات سنة "140"، أربعين ومائة2. خالد بن مهران المجاشعي مولاهم الحذاء: البصري الحافظ، متفق عليه، توفي سنة 141" إحدى وأربعين ومائة3.   1 أبو محمد بن العلاء بن الحارث الحضرمي: تهذيب التهذيب "8/ 177". 2 يونس بن عبد الأعلى بن موسى بن ميسرة بن حفص: أبو عبد الله، أبو عبيد، العبدي الكوفي البصري: ت سنة 139: تقريب التهذيب "2/ 385"، تهذيب التهذيب "11/ 442"، تهذيب الكمال "3/ 1568"، الكاشف "3/ 304"، الخلاصة "3/ 93"، الجرح والتعديل "9/ 1020"، تراجم الأحبار "4/ 277"، التاريخ الكبير "8/ 402"، التاريخ الصغير "2/ 49". 3 خالد بن مهران المجاشعي مولاهم الحذاء، أبو المنازل، البصري الحذاء المجاشعي أو القرشي: تقريب التهذيب "1/ 219"، تهذيب التهذيب "3/ 120"، تهذيب الكمال "1/ 365"، الكاشف "1/ 274"، تهذيب الكمال "1/ 284"، الميزان "1/ 643"، المغني "4/ 188". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 481 ترجمة أشعث الحمراني، أبي معتمر، إسماعيل بن أمية، عبد الله بن شبرمة : أشعث بن عبد الملك الحمراني: مولى عثمان بن عفان، البصري, فقيهها ومفتيها، مات سنة "132"1. أبو المعتمر سليمان بن طرخان: التيمي, نزل فيهم، البصري، أحد سادات التابعين علمًا وعملًا، روى عن أنس وغيره، ولم يضع جنبه للأرض عشرين سنة. توفي سنة "143" ثلاث وأربعين ومائة2. إسماعيل بن أمية: ابن عمرو بن سعيد بن العاص الأموي المكي، أحد العلماء والأشراف، روى عنه أبيه، وأيوب3، وعنه السفيانان4 وغيرهما. توفي سنة "144" أربع وأربعين ومائة5. عبد الله بن شبرمة 6: الضبي: شبرمة الكوفي قاضيها، أحد الأعلام، روى عن أنس، وأبي الطفيل، الشعبي، وطائفة، وعنه شعبة، والسفيانان، وابن المبارك، وخلق. قال العجلي7: كان فقيهًا عاقلًا عفيفًا ثقةً شاعرًا حسن الخلق جوادًا. وقال الثوري: فقهاؤنا ابن أبي ليلى وابن شبرمة. مات سنة "144" أربع وأربعين ومائة8.   1 أشعث بن عبد الملك الحمراني: تهذيب التهذيب "1/ 357"، والخلاصة "39". 2 أبو المعتمر سليمان بن طرخان: أبو المعتمر، التيمي، البصري الدار، توفي سنة 143، وهو ابن 97: تقريب التهذيب "1/ 326"، تهذيب التهذيب "4/ 201"، تهذيب الكمال "1/ 540"، الكاشف "1/ 396"، الخلاصة "1/ 414"، الميزان "2/ 212"، الثقات "4/ 300"، الأنساب "3/ 142"، تراجم الأحبار "2/ 31". 3 سفيان بن صفوان الأنصاري. 4 سفيان بن سعيد الثوري، وسفيان بن عيينة. 5 إسماعيل بن أمية: التهذيب "1/ 283". 6 قال المؤلف -رحمه الله: بضم الشين والراء. 7 أحمد بن عبد الله بن صالح. 8 عبد الله بن شبرمة الضبي: أبو شبرمة، الضبي الكوفي القاضي, ولي قضاء اليمن، مات سنة 144: تقريب التهذيب "1/ 422"، تهذيب الكمال "2/ 792"، تهذيب التهذيبل "5/ 250"، الكاشف "2/ 95"، الخلاصة "2/ 64"، الميزان "2/ 438، 3/ 10"، الوافي بالوفيات:17/ 207"، العبر للذهبي "1/ 197"، الثقات "7/ 6". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 482 ترجمة هشام بن عروة، أبي عبد الله سوار القاضي : أبو المنذر هشام بن عروة بن الزبير: ابن العوام الأسدي، أحد أئمة الإسلام والعلماء الأعلام، معدود من الطبقة الرابعة من التابعين، سمع من عمه عبد الله بن الزبير وابن عمر، ورأى جابر بن عبد الله، وأنسًا، وسهل بن سعد، وقدم الكوفة فسمع منه أئمتها، كما أخذ عنه أئمة الحجاز كالزهري، ومالك، وغيرهم، توفي ببغداد سنة "145" خمس وأربعين ومائة، قال إبراهيم الذهلي1: وُلِدَ هشام بن عروة وعمر بن عبد العزيز، والزهري، وقتادة، والأعمش، ليالي قتل الحسين سنة "161"2. أبو عبد الله سوار القاضي 3: ابن عبد الله القاضي ابن سوار القاضي ابن عبد الله بن قدامة التميمي   1 ذكره ابن حجر عن عبد الله بن داود، تهذيب التهذيب "11/ 51". 2 أبو المنذر هشام بن عروة بن الزبير: أبو المنذر، أبوبكر، أبو عبد الله، الزبيري المدني العوام الأسدي القرشي، توفي سنة 145 أو 146: تقريب التهذيب "2/ 319"، تهذيب التهذيب "11/ 48"، تهذيب الكمال "3/ 1442"، الكاشف "3/ 223"، الخلاصة "3/ 115"، در السحابة "823"، البداية والنهاية "10/ "، تاريخ الثقات "458"، جامع المسانيد "2/ 567"، الميزان "4/ 301"، نسيم الرياض "4/ 29". 3 قال المؤلف -رحمه الله: سوار -بتشديد الواو- نقله الزهوني عن اختصار البرزلي في الإجازة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 483 العنبري، تسلسل في بيتهم القضاء بالبصرة، توفي سنة "145" خمس وأربعين ومائة، وفي المعيار1 شهد رجل عند سوَّار القاضي فقال: مؤدب الصبيان فلم يقبل شهادته، قال: لأنك تأخذ على القرآن أجرًا فقال له: وأنت تأخذ على القضاء أجرًا، فقال له: إني أكرهت على القضاء، فقال له: فهل أكرهت على أخذ الدراهم, فقال له: هات شهادتك, فأجازها. قال في اختصار البرزلي2: كان بالبصرة أربعة, كل واحد منهم لا يُعْلَمُ في زمانه في الأمصار مثله: سوَّار عدله وتحريه للحق، والحسن في زهده وفصاحته وسخائه وموضعه من قلوب الناس، والمهلَّب ابن أبي صفرة في عقله ورأيه وطاعته، والأحنف بن قيس في حلمه وعفافه ومنزلته من علي3.   1 جامع الميعار المعرب عن فتاوي أفريقيا والأندلس والمغرب، تأليف الونشريسي. 2 البرزلي: هو أبو الاقسم بن أحمد بن محمد المعتل البلوي القيرواني، سنة 844، ترجم له المؤلف في القسم الرابع. 3 أبو عبد الله بن سوَّار القاضي التميمي العنبري: تاريخ بغداد "9/ 210"، وتهذيب التهذيب "4/ 268". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 484 ترجمة أبو عثمان عبيد الله بن عمر بن حفص : ابن عاصم بن عمر بن الخطاب العمري المدني، أحد العلماء الأثبات والفقهاء الكبار، وما وقع في الخلاصة من أنه أحد الفقهاء السبعة, فلعله تصحيف؛ لأن الفقهاء كانوا في آخر المائة الأولى, وتقدَّمت تراجمهم، والذي هو معدود منهم هو عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود كما سبق، مات سنة 147 سبع وأربعين ومائة1.   1 أبو عثمان بن عبيد الله بن عمر بن حفص "ابن عاصم بن عمر بن الخطاب": أبو عثمان، العمري المدني، القرشي العدوي، مات سنة بضع وأربعين ومائة: تاريخ الإسلام "6/ 98"، التاريخ الكبير "5/ 395"، تذكرة الحفاظ "10/ 151"، 152"، التحفة اللطيفة "3/ 172"، تقريب التهذيب "1/ 537"، تهذيب التهذيب "7/ 38"، تهذيب الكمال "2/ 885"، الأنساب "9/ 375"، تراجم الأحبار "2/ 378"، التاريخ الصغير "1/ 322"، سير "6/ 304"، دائرة الأعلمي "21/ 307، 303". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 484 ترجمة الحجاج بن أرطأة، جعفر الصادق، عمرو بن الحارث، ابن أبي ليلى : أبو أرطأة الحجاج بن أرطأة الكوفي النخعي: قاضي البصرة، أحد الأعلام، توفي سنة 147 سبع وأربعين ومائة1. جعفر الصادق: ابن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الهاشمي المدني, الإمام وأحد أئمة الإسلام، قال الذهبي في كتاب العلوّ: سيد العلوين في زمانه, وأحد أئمة الحجاز، لم يلحق الصحابة، روى عن أبيه، وعن جده لأمه القاسم بن محمد وغيرهم، وروى عنه مالك وغيره، أخرج له أصحاب الستة إلّا البخاري ففي الأدب المفرد، وثَّقوه، توفي سنة 148 ثمان وأربعين ومائة2. عمر بن الحارث بن يعقوب الأنصاري: مولاهم، أبو أمية المصري الفقيه المقري، أحد الأئمة، قال ابن وهب3: لو بقي لنا عمر ما احتجنا إلى مالك, وثَّقه ابن معين، وأخرج له الستة, تُوفِّي سنة 148 ثمان وأربعين ومائة4. محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى: الأنصاري، أبو عبد الرحمن، قاضي الكوفة مدة ثلاثة وثلاثين، وليها للأمويين ثم للعباسيين، أحد الأعلام، روى عن الشعبي5، وعطاء6،   1 أبو أرطأة الحجاج بن أرطأة الكوفي النخعي: تاريخ بغداد "8/ 230"، وتهذيب التهذيب "2/ 196". 2 جعفر الصادق: تهذيب الأسماء "1/ 149"، وتهذيب التهذيب "2/ 103". 3 عبد الله. 4 عمرو بن الحارث بن يعقوب الأنصاري: أبو أيوب، أبو أمية الأنصاري المصري -المؤدِّب: مات سنة 150 أو 148 أو 149، أو 147: تاريخ الإسلام "6/ 105"، الجرح والتعديل "6/ 1252"، تقريب التقريب "2/ 67"، تهذيب التهذيب "8/ 14"، تهذيب الكمال "2/ 1028"، الخلاصة "2/ 282"، الكاشف "2/ 326"، التحفة اللطفية "3/ 293"، الثقات "7/ 228"، التاريخ لابن معين "3/ 441". 5 عامر بن شراحيل. 6 ابن أبي رباح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 485 ونافع1، وعنه شعبة2، والسفيانان3، ووكيع4, وثَّقوه وتكلَّموا فيه من جهة حفظه، قال العجلي5: كان فقيهًا صاحب سنة جائز الحديث, توفي سنة "148" ثمان ومائة6.   1 مولى ابن عمر أبو عبد الله المدني. 2 ابن الحجاج. 3 سفيان بن سعيد الثوري وسفيان بن عيينة. 4 ابن الجراح. 5 أحمد بن عبد الله بن صالح. 6 محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري: أبو عبد الرحمن الأنصاري الكوفي القاضي الفقيه، الشهرة بن أبي ليلى، مات سنة 148: وفيات الأعيان "4/ 179"، تاريخ الإسلام "6/ 123"، در السحابة "814"، الجرح والتعديل "7/ 1739"، غاية النهاية "2/ 165"، تقريب التهذيب "2/ 184"، تهذيب التهذيب "9/ 301"، الكاشف "3/ 69"، تهذيب الكمال "3/ 1231"، الكاشف "3/ 69". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 486 ترجمة هشام بن حسان، زكريا بن أبي زائدة : أبو عبد الله هشام بن حسان القردسي: بالضم، الأزدي مولاهم، البصري، أحد الأعلام، المتوفَّى سنة 148 ثمان وأربعين ومائة7. أبو يحيى زكريا بن أبي زائدة خالدب بن ميمون: الوادعي الكوفي الحافظ، اتَّفق عليه الستة، توفي سنة "148" ثمان وأربعين ومائة8.   1 أبو عبد الله هشام بن حسان القردسي: أبو عبد الله، البصري الأزدي القردوسي، المالكي، البصري الأسدي: توفي سنة 146 أو 147 أو 148: تقريب التهذيب "2/ 318"، تهذيب التهذيب "11/ 35"، تهذيب الكمال "3/ 437"، الكاشف "3/ 221"، الخلاصة "3/ 113"، الكامل "7/ 2570"، تاريخ الثقات "4057"، التعديل والتجريح "1399"، الضعفاء الكبير "4/ 334"، المغني "6745". 2 أبو يحيى زكريا بن أبي زائدة خالد بن ميمون "الوادعي الكوفي": أبو يحيى، الكوفي البلخي اللؤلؤي البزاز: ت سنة 132 أو 133: تقريب التهذيب "1/ 262"، تهذيب التهذيب "3/ 335"، تهذيب الكمال "1/ 432"، الكاشف "1/ 324"، الخلاصة "1/ 338"، العبر 1/ 362"، الأعلمي "19/ 25"، تاريخ بغداد "8/ 455". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 486 ترجمة أبو محمد سليمان بن مهران الأعمش الكاهلي : مولاهم، الكوفي، أحد الأعلام الحفاظ القراء، رأى أنس بن مالك يبول، وروى عن عبد الله بن أبي أوفى حديثًا، وقيل لم يسمع منه، وزيد بن وهب، وأبي وائل1، وغيرهم من كبار التابعين، وروى عنه شعبة الثوري، ووكيع، وغيرهم، اتفقوا عليه، قال ابن المدني2: له نحو ألف وثلاثمائة حديث، قال عمرو بن علي: كان يسمَّى المصحف لصدقه. توفي سنة 148 ثمان وأربعين ومائة، عن أربع وثمانين3، كان يقارب بالزهري في الحجاز، بعث إليه هشام بن عبد الملك أن يكتب له مناقب عثمان ومساوئ عليّ فأجابه: لو كان لعثمان مناقب أهل الأرض ما نفعتك, ولو كان لعليّ مساوئ أهل الأرض ما ضرتك, فعليك بخويصة نفسك والسلام. ومن فقه الأعمش الذي شذَّ فيه إباحته الأكل بعد طلوع الفجر وقبل طلوع الشمس, ويجتج بأن انتهاء اليوم من غروب الشمس, فيقاس عليه ابتداؤه من طلوعها, وذلك وقت كمال تبين الخيط الأبيض من الأسود، وكان في الأعمش دعابة؛ دخل عليه أبو حنيفة يعوده فقال له الأعمش: إنك لثقيل على قلبي وأنت في بيتك, فكيف إذا زرتني, فسكت عنه أبو حنيفة، فلما خرج قيل له: لم سكت عنه, قال: وماذا أقول في رجل ما صام ولا صلى في دهره, يعني به: أكله بعد الفجر الثاني قبل طلوع الشمس, وكان لا يغتسل من الإنزال, نقله الفخر الرازي في سورة البقرة من تفسيره.   1 شقيق بن سلمة. 2 علي بن عبد الله. 3 أبو محمد بن سليمان بن مهران الأعمش الكاهلي: أبو محمد، الأسدي الكاهلي الكوفي الأعمش. تقريب التهذيب "1/ 331، 332"، تهذيب التهذيب "4/ 222", تهذيب الكمال "1/ 546، 469"، الكاشف "1/ 401"، الخلاصة "1/ 419"، الطبقات الكبرى "6/ 243"، التاريخ الصغير "2/ 91"، الميزان "2/ 224"، جامع المسانيد "2/ 466"، الأنساب "5/ 380، 302". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 487 ترجمة عبد الملك بن عبد العزيز، عبد الله بن عون، محمد بن إسحاق : عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الأموي: مولاهم، أبو الوليد المكي، الفقيه، أحد الأعلام، توفي سنة 150 خمسين ومائة1. أبو عون عبد الله بن عون بن أرطبان المزني: مولاهم: الخراز البصري، أحد الأعلام المفتين بها، قال ابن مهدي: ما أحد أعلم بالسنة بالعراق من ابن عون، مات سنة 151 إحدى وخمسين ومائة2. أبو عبد الله محمد بن إسحاق المطلبي: مولى قيس بن مخرمة المدني، أحد الأعلام, لا سيما في المغازي والسير, رأى أنس بن مالك، قال فيه ابن شهاب: لا يزال بالمدينة علم جمٌّ ما دام فيه ابن إسحاق. قال ابن عبد البر: لا يتلفت إلى من تكلم فيه. مات سنة 151 إحدى وخمسين ومائة3.   1 عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الأموي: أبو الوليد، أبو خالد، ابن جرير، الرومي، القرشي، المكي، وُلِدَ سة 80، ت سنة 150، أو 149: تفسير الثوري "455"، تاريخ الإسلام "6/ 69"، دائرة الأعلمي "21/ 266"، لسان الميزان "7/ 292"، الكاشف "2/ 210", الخلاصة "2/ 187"، التاريخ لابن معين "3/ 371"، نسيم الرياض "1/ 363"، الثقات "7/ 93"، جامع المسانيد "2/ 511"، الإكمال "2/ 66-67"، وفيات الأعيان "3/ 163"، سير النبلاء "6/ 325". 2 أبو عون عبد الله بن عون بن أرطبان المزني: أبو عون، الخرار، البصري المزني مولى مزينة، وُلِدَ سنة 66، مات سنة 150 أو 151: المعرفة والتاريخ "2/ 248"، وفهارس "3/ 647"، تقريب التهذيب "1/ 439"، تهذيب الكمال "2/ 719"، تهذيب التهذيب "5/ 346، 649"، الخلاصة "2/ 86"، الكاشف "2/ 116"، تراجم الأحبار "2/ 248، 381"، التاريخ لابن معين "3/ 324"، التمهيد "1/ 34، 8/ 141". 3 أبو عبد الله محمد بن إسحاق المطلبي: أبو عبد الله، المطلبي، مات سنة 151 أو 150 أو 152: نسيم الرياض "1/ 152"، التمهيد "2/ 159"، تاريخ بغداد "1/ 214"، وعيون الأثر "1/ 10"، تذكرة الحافظ "1/ 163". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 488 ترجمة معمر بن راشد، مسعر بن كدام : مَعْمَر -بإسكان العين- بن راشد الأزدي: مولاهم، عبد السلام بن عبد القدوس أبو عروة البصري، ثم اليماني, أحد الأعلام، روى عن الزهري، وهمَّام بن منبه، وعنه أيوب1، والثوري2، توفي سنة 153 ثلاث وخمسين ومائة3. مسعر بن كدام -بكسر أولهما- ابن ظهير بن عبيدة: ابن الحرث الهلالي العامري الرواسي -بفتحهما مثقلتين، أبو سلمة الكوفي، أحد الأعلام الفقهاء، كان عنده ألف حديث، قال القطان4: ما رأيت مثله من أثبت الناس, قال شعبة5: كان يسمَّى المصحف لإتقانه. قال النووي: متفق على جلالته وحفظه وإتقانه, توفي سنة 153 ثلاثة وخمسين ومائة6.   1 السختياني. 2 سفيان بن سعيد. 3 معمر بن راشد الأزدي: أبوعروة، البصري الأزدي، الحرَّاني الصنعاني المهلبي, وقيل بصري، مات سنة 154 أو 153 وهو ابن 58 سنة: "تاريخ الإسلام "6/ 397"، تقريب التهذيب "2/ 266"، تهذيب التهذيب "10/ 243"، تذكرة الحفاظ "1/ 178"، تهذيب الكمال "3/ 1355"، الكاشف "3/ 164"، الجرح والتعديل "8/ 1165"، الخلاصة "3/ 47"، الأنساب "12/ 506"، جامع الرواة "2/ 253"، نسيم الرياض "1/ 483، 740". 4 يحيى بن سعيد بن فروخ أبو سعيد القطان. 5 ابن الحجاج. 6 مسعر بن كدام بن ظهير بن عبيدة "الهلالي العامري": أبو سلمة، الكوفي الهلالي العامري الأحوال: ت سنة 153 أو 155: تقريب التهذيب "2/ 243"، تهذيب التهذيب "10/ 113"، تهذيب الكمال "3/ 1321"، الخلاصة "3/ 22"، الكاشف "3/ 137"، جامع المسانيد "2/ 555"، الجرح والتعديل "8/ 1685"، المعرفة والتاريخ "2/ 856"، الحلية "7/ 209"، تراجم الأحبار "3/ 117"، الأنساب "9/ 153". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 489 ترجمة سعيد بن أبي عروبة، حيوة بن شريح، ابن أبي ذئب : سعيد بن أبي عروبة مهران اليشكري: مولاهم أبو النضر البصري الحافظ العلم، توفي سنة 156 ست وخمسين ومائة1. حيوة بن شريح -مصغر- ابن صفوان التجيبي: أبو زرعة المصري، الزاهد العابد الفقيه، أحد الأئمة الأعلام، روى عن يزيد بن أبي حبيب، وحميد بن هاني، وطبقتهم, روى عنه الليث وابن وهب2، وابن المبارك، وأمثالهم، قال ابن وهب، كان يأخذ عطاء ستين دينارًا كل سنة, ثم يتصدق بها, فإذا أتى منزله وجدها تحت فراشه, وكان له ابن عم فعل ذلك مرة ثم جاء فراشه فلم يجد شيئًا, فشكا حيوة, فقال له حيوة: أني أعطيت ربي بيقين, وأنت أعطيت ربك بتجربة. توفي سنة 158 ثمان وخمسين ومائة3. أبو الحرث محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن الحرث بن أبي ذئب: هشام القرشي العامري المدني، أحد الأئمة المشاهير، قال أحمد: يشبه بابن المسيب, وهو أصلح وأورع وأَقْوَلُ بالحق من مالك.   1 سعيد بن أبي عروبة مهران اليشكري: ميزان الاعتدال "2/ 151"، وتهذيب التهذيب "4/ 63". 3 عبد الله. 4 حيوة بن شريح بن صفوان التجيبي: أبو زرعة، الكندي النخعي المصري، ت سنة 158، أو 159، أو 153، أو 155: تقريب التهذيب "1/ 208"، تهذيب التهذيب "3/ 69"، تهذيب الكمال "1/ 346"، الكاشف "1/ 263"، التاريخ الكبير "3/ 120"، العبر "1/ 229"، الأعلام "2/ 291 أو 292"، سير النبلاء "6/ 404"، التاريخ الصغير "2/ 96". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 490 ولما دخل المهدي العباسي المسجد النبوي عام حجَّ قال له المسيب بن زهير: قم هذا أمير المؤمنين, فقال ابن أبي ذئب، إنما يقوم الناس لرب العالمين, فقال المهدي: اتركه, فلقد قامت كل شعرة في رأسي. ولما سأل المنصور مالكًا عمَّن بقي من المشيخة قال له: ابن أبي ذئب وابن أبي سلمة1، وابن أبي سبرة2. وكان بينه وبين مالك ألفة أكيدة، توفي سنة 159 تسع وخمسين ومائة عن ثمان وسبعين3.   1 الماجشون عبد العزيز بن عبد الله. 2 أبو بكر بن عبد الله، تهذيب التهذيب "12/ 27". 3 أبو الحارث محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن الحارث بن أبي ذئب: تاريخ بغداد "2/ 296"، وتهذيب التهذيب "3/ 303"، والنجوم الزاهرة: "2/ 35". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 491 ترجمة شعبة بن الحجاج، وشعيب بن أبي حمزة : أبو بسطام شعبة بن الحجاج بن الورد العتكي: مولاهم الحافظ، أحد أئمة الإسلام, الواسطي، نزل البصرة، قال فيه أحمد: إنه أمة وحده، وقال ابن معين إمام المتقين، مات سنة 160 ستين ومائة1. أبو بشر شعيب بن أبي حمزة الأموي: مولاهم الحمصي, أحد الأثبات المشاهير، توفي سنة 163 ثلاث وستين ومائة2.   1 أبو بسطام شعبة بن الحجاج بن الورد العتكي: أبو بسطام, العتكي، الواسطي، البصري الأزدي المعلم، مولى بني عتبة، وُلِدَ سنة 82 أو 83، مات سنة 160: الطبقات الكبرى "9/ 93"، البداية والنهاية "10/ 132"، الخلاصة "1/ 449"، الكاشف "2/ 11"، تقريب التهذيب "1/ 351"، تهذيب التهذيب "4/ 338"، تهذيب الكمال "2/ 581"، جامع المسانيد "2/ 2/ 378"، الأنساب "9/ 229"، الأعلام "3/ 164". 2 أبو بشر شعيب بن أبي حمزة الأموي: أبو حمزة، أبو بشر "بشكر" الأموي الحمصي الكاتب القرشي مولى بن أمية، مات سنة 162 أو 163: الأنساب "4/ 249"، تقريب التهذيب "1/ 352"، تهذيب التهذيب "4/ 351"، تهذيب الكمال "2/ 585، الخلاصة "1/ 450"، الكاشف "2/ 12" البداية والنهاية "10/ 146"، الأعلام "3/ 166"، سير النبلاء "7/ 187" العبر "1/ 242، 385". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 491 ترجمة همام بن يحيى، عبد العزيز بن أبي سلمة : أبو عبد الله همَّام بن يحيى الأزدي: مولى بني عوذ منهم -بذال معجمة- البصري، أحد الأئمة، مات سنة "164"، أربع وستين ومائة1. عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة: الماجشون، التميمي, مولاهم، المدني, مفتيها وعاملها في عصر مالك، قال الذهبي في كتاب العلوّ: كان من بحور العلم بالحجاز, نودي مرة بالمدينة بأمر المنصور لا يفتي الناس إلّا مالك وعبد العزيز بن الماجشون, ثقة, كان يرى القدر ثم رجع عنه. قال الذهبي: سُئِلَ عمَّا جحدت به الجهمية فقال: أما بعد سألت فيما تتابعت الجهمية في صفة الرب العظيم الذي فاتت عظمته الوصف والتقدير, وكلَّت الألسن عن تفسير صفته, وانحسرت دون معرفة قدره, فلم تجد العقول مساغًا, فرجعت خاسئة حسيرة, وإنما أُمروا بالنظر والتفكير فيما خلق, وإنما يقال كيف لمن لم يكن مرة ثم كان, أمأ مَنْ لا يحول ولا يزول وليس له مثيل, فإنه لا يعلم كيف هو إلّا هو. إلى أن قال: فالدليل على عجز العقول عن تحقيق صفته عجزها عن تحقيق صفة أصغر خلقه, لا تكاد تراه صغرًا يحول ويزول, ولا يرى له بصر ولا سمع, فاعرف غناك عن تكلف صفة ما لم يصف الرب من نفسه, بعجزك عن معرفة قدر ما وصف منها, فإذا لم تعرف قدر ما وصف فما تكلفك علم ما لم يصف, هل يستدل على شيء من طاعته, أو تنزجر به عن شيء من معصيته، فأما الذي جحد   1 أبو عبد الله همام بن يحيى الأزدي: أبو عبد الله، أبو بكر العوذي البصري المحملي الأزدي الشيباني: تقريب التهذيب "2/ 321"، تهذيب التهذيب "11/ 67"، تهذيب الكمال "3/ 1449"، الكاشف "3/ 225"، الضعفاء الكبير "4/ 376"، الجرح والتعديل "9/ 457"، الميزان "4/ 310"، الكامل "7/ 2590"، سير النبلاء "7/ 296"، الطبقات الكبرى "7/ 302". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 492 ما وصف الرب من نفسه تعمقًا وتكلفًا, فقد استهوته الشياطين في الأرض حيران, فعمي عن البين بالخفى, ولم يملي له الشيطان حتى جحد قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ, إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} 1 فقال: لا يرى يوم القيامة وقد قال المسلمون لنبيهم -صلى الله عليه وسلم: هل نرى ربنا؟ فقال: "هل تضارون في الشمس؟ " 2 الحديث, وقال: "لا تملأ النار حتى يضع الجبار فيها قدمه" 3, وقال لثابت بن قيس: "لقد ضحك الله مما فعلت بضيفك البارحة" 4. وذكر جمعًا طويلًا في هذا المعنى، نقلت هذا لتعلم كلام هذه الطبقة في العقائد الإسلامية, وإن لم يكن من موضوع الكتاب، توفي سنة 164 أربع أو ست وستين ومائة5.   1 القيامة: 22، 23. 2 متفق عليه: البخاري في التوحيد "9/ 156"، ومسلم في الإيمان "1/ 112". 3 الحديث في البخاري في تفسير سور ق "6/ 173"، عن أبي هريرة ولفظه: "فيضع الرب -تبارك وتعالى- قدمه عليها فتقول: قط قط" , وفي رواية أخرى: "فأما النار فلا تمتليء حتى يضع رجله فتقول: قط قط, فهنالك تمتليء ويزوي بعضها إلى بعض.." الحديث، رواه الترمذي عن أنس "5/ 390". 4 لعله يعني حديث أبي هريرة في الصحيحين, ولفظه كما في البخاري في مناقب الأنصار "5/ 43": "ضحك الله اللية أو عجب من فعالكما" , وأخرجه مسلم في الأطعمة "6/ 127"، وليس في البخاري ذكر لاسم الأنصاري، وأما في مسلم ففي رواية عنده: "فقام رجل من الأنصار يقال له أبو طلحة" وفي ذلك إشكال ذكره الحافظ في الفتح، وانظر تفسير سورة الحشر في القرطبي. 5 عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون: تاريخ بغداد "10/ 436"، تذكرة الحفاظ "1/ 206"، وتهذيب التهذيب "6/ 343". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 493 ترجمة حماد بن سلمة بن دينار القرشي : مولاهم، أبو سلمة البصري، أحد الأعلام، أخذ عنه شعبة ومالك وغيرهما، قال الذهبي في كتاب العلوّ: كان من أئمة المسلمين رأسًا على العلم والعمل، توفي سنة 167 سبع وستين ومائة1.   1حماد بن سلمة بن دينار القرشي: أبو سلمة، أبو صخر، الحافظ البكائي الربعي الخزاز القرشي التميمي، توفي سنة 167: تقريب التهذيب "1/ 197"، تهذيب التهذيب "3/ 11، 16", تهذيب الكمال "1/ 325"، مجمع الزوائد "2/ 227"، تراجم الأحبار "1/ 334"، التاريخ الكبير "3/ 22"، الميزان "1/ 590"، الأنساب "5/ 11"، لسان الميزان "7/ 203". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 493 ترجمة التنوخي، عبد الله بن الحسن، الحسن بن صالح، جرير بن حازم : أبو محمد سعيد بن عبد العزيز التنوخي الدمشقي: الفقيه، قال الحاكم: هو لأهل الشام كمالك لأهل المدينة, توفي سنة 167 سبع وستين ومائة1. عبد الله بن الحسن العنبري: فقيه البصرة وقاضيها، المتوفَّى سنة 168 ثمان وستين ومائة. الحسن بن صالح بن مسلم الهمداني الثوري: أبو عبد الله الكوفي، الفقيه، أحد الأعلام الكبار، قال أبو زرعة: اجتمع فيه حفظ وإتقان وفقه وعبادة. وقال الثوري: يرى السيف على الأئمة. وهو من معاصري أبي حنفية في الفقه والفتيا، توفي سنة "169" تسع وستين ومائة2. أبو النضر جرير بن حازم الأزدي البصري: أحد الأعلام، المتوفَّى سنة 170 سبعين ومائة3.   1 أبو محمد سعيد بن عبد العزيز التنوخي الدمشقي: أبو محمد، التنوخي الدمشقي الشامي، ت سنة 167، أو 168، وله بضع وسبعون: تقريب التهذيب "1/ 301", تهذيب التهذيب "4/ 59"، تهذيب الكمال "1/ 479"، الكاشف "1/ 366"، الميزان "2/ 149"، تراجم الأحبار "2/ 73", العبر "1/ 250", دائرة الأعلمي "19/ 175"، التاريخ لابن معين "3/ 203"، التمهيد "1/ 46"، 6/ 302". 2 الحسن بن صالح بن مسلم الهمداني الثوري: تهذيب التهذيب "2/ 285". 3 أبو النضر جرير بن حازم الأزدي البصري: أبو النصر، الجهني البصري الأزدي العتكي، ت سنة 170 أو 167: "تقريب التهذيب "1/ 127"، تهذيب التهذيب "2/ 69"، تهذيب الكمال "1/ 187"، الكاشف "1/ 181"، تهذيب التهذيب الكمال "1/ 162"، المغني "1113". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 494 ترجمة الوضاح بن عبد الله، ابن لهيعة، القاسم بن معن، شريك القاضي : أبو عوانة الوضاح بن عبد الله اليشكري: الواسطي، أحد الأعلام، المتوفَّى سنة 176 ست وسبعين ومائة1. أبو عبد الرحمن عبد الله بن لهيعة 2 بن عقبة: الحضرميّ الغافقي، قاضي مصر وعالمها ومسندها، وهو أول قاضٍ ولاه الخليفة بمصر, وإنما كان ولاتها يولون القضاة، وهو أول قاضٍ حضر لنظر الهلال في رمضان, واستمر القضاة على ذلك إلى الآن، وأوّل قاضٍ بها أجريت له الجراية وكانت ثلاثين دينارًا، توفي سنة 174 أربع وسبعين ومائة2. القاسم بن معين بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود: الهذلي, أبو عبد الله الكوفي، أحد الأعلام الأئمة الفقهاء، مات سنة 175 خمس وسبعين ومائة3. شريك بن عبد الله بن أبي شريك النخعي الكوفي: أبو عبد الله، قاضي الكوفة والأهواز، روى عن سلمة بن كهيل،   1 أبو عوانة الوضاح بن عبد الله اليشكري، تاريخ بغداد "1/ 392"، وتذكرة الحفاظ "1/ 291"، وتهذيب التهذيب "11/ 126". 2 قال المؤلف -رحمه الله: لهيعة بوزن ربيعة. 3 أبو عبد الرحمن بن عبد الله بن لهيعة بن عقبة: أبوعبد الرحمن، الأعدولي، الحضرمي، وُلِدَ سنة 897، ومات سنة 174: تقريب التهذيب "1/ 444"، تهذيب التهذيب "5/ 3743" 379"، تهذيب الكمال "2/ 727"، الكاشف "2/ 122"، الخلاصة "2/ 92"، الميزان "2/ 475، 483"، تراجم الأحبار "2/ 248"، الضعفاء الكبير "2/ 293"، لسان الميزان "7/ 268"، الأنساب"1/ 304، 10/ 7". 3 القاسم بن معن بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود: الجواهر المضية "1/ 42"، وتذكرة الحفاظ "1/ 220"، وتهذيب التهذيب "8/ 338". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 495 وسماك1، وأبي إسحاق السبيعي2 ومالك، وخلق، وعنه هشيم3، وعلي بن حجر، وابن المبارك، وأمم، وثقوه وتكلموا فيه من جهة حفظه، كان عالمًا فقيهًا فهمًا ذكيًّا. خرج يومًا إلى أصحاب الحديث ليسمعوا منه فشمّوا منه رائحة النبيذ فقالوا له: والله لو كانت هذه الرائحة لاستحيينا, فقال: لأنكم أهل ريبة. ودخل يومًا على المهدي العباسي: فقال لا بُدَّ أن تجيبني إلى خصلة من ثلاث: أن تلي القضاء, أو تحدث ولدي وتعلمهم, أو تأكل عندي أكلة، ففكَّر ساعة ثم قال: الأكلة أخفها على نفسي, فقدَّم إليه الطعام فأكل، فقال الطباخ: والله يا أمير المؤمنين, ليس يفلح الشيخ بعد هذه الأكلة أبدًا, فقال الفضل بن الربيع: فحدثهم والله وعلَّم أولادهم وولي القضاء لهم وكان عادلًا في حكمه كثير الصواب حاضر الجواب، توفي سنة "177" سبع وسبعين ومائة4.   1 ابن حرب الذهلي أبو المغيرة الكوفي. 2 عمرو بن عبد الله. 3 ابن بشير الواسطي. 4 شريك بن عبد الله بن أبي شريك النخعي الكوفي: أبو عبد الله، النخعي الكوفي القاضي، ولد سنة 75 أو 95، ومات سنة 177 أو 178: المعرفة والتاريخ الفهارس "581"، الخلاصة "1/ 448"، تقريب التهذيب "1/ 351"، تهذيب التهذيب "4/ 333"، تهذيب الكمال "2/ 580"، الكاشف "2/ 410"، والطبقات الكبرى "5/ 417، 6/ 412"، لسان الميران "7/ "، مجمع الزوائد "3/ 211، 5/ 321"، تراجم الأحبار "2/ 147". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 496 ترجمة أبو محمد سليمان بن بلال التيمي : مولاهم, محتسب المدينة المنورة، أحد الأئمة الأعلام، وقال الذهبي في كتاب العلو: من أئمة البصرة علمًا وعملًا، توفي سنة "177" سبع وسبعين ومائة1.   1 أبو محمد سليمان بن بلال التيمي: أبو محمد، التميمي القرشي المدني, أبو أيوب، ت سنة 177 أو 176: تقريب التهذيب "1/ 322"، تهذيب التهذيب "4/ 175"، تهذيب الكمال "1/ 532"، الكاشف "1/ 391"، الخلاصة "1/ 409"، طبقات الحفاظ "1/ 65، 99"، اللآليء "1/ 425"، تراجم الأحبار "2/ 19"، الجرح والتعديل "4/ 460"، التاريخ لابن معين "3/ 228". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 496 ترجمة أبي وهب، أبي عبيدة التميمي، ابن المبارك : أبو وهب عبد الله بن عمرو بن أبي الوليد الأموي: مولاهم الجزري الرقي, أحد الأئمة، توفي سنة "180" ثمانين ومائة1. أبو عبيدة عبد الوارث بن سعيد التميمي: مولاهم البصري، أحد الأعلام، قال الحافظ الذهبي: أجمع المسلمون على الاحتجاج به، توفي سنة "180" ثمانين ومائة2. أبو عبد الرحمن عبد الله بن المبارك الحنطلي: مولاهم المروزي، أحد الأئمة الأعلام وشيوخ الإسلام، كتب عن أربعة آلاف شيخ, عن ألف منهم، طاف البلاد وهجر الوساد في جمع السنة، وقال فيه ابن عيينة: عالم المشرق والمغرب وما بينهما، ومن شعره: رأيت الذنوب تميت القلوب ... وقد يوث الذلّ إدمانها وترك الذنوب حياة القلوب ... وخير لنفسك عصيانها وهل أفسد الدين إلا الملوك ... وأحبار سوء ورهبانها توفى "181" إحدى وثمانين ومائة3.   1 أبو وهب عبد الله بن عمرو بن أبي الوليد الأموي: التاريخ لابن معين "1/ 384"، تهذيب الكمال "1/ 891"، تذهيب التهذيب "3/ 20/ 2"، تذكرة الحفاظ "1/ 241"، العبر "1/ 276"، تهذيب التهذيب "7/ 42"، خلاصة تذهيب الكمال "1/ 252". 2 أبو عبيدة عبد الوارث بن سعيد التميمي: أبو عبيدة، البيروتي العنبري التنوري البصري التميمي الضرير، مات سنة 180: البداية والنهاية "10/ 176"، تقريب التهذيب "1/ 527"، تهذيب التهذيب "6/ 441"، تهذيب الكمال "2/ 868"، الكاشف "2/ 219"، التاريخ الكبير "6/ 118"، الجرح والتعديل "6/ 386"، جامع المسانيد "2/ 519"، لسان الميزان "7/ 294"، تراجم الأحبار "2/ 476"، الضعفاء الكبير "3/ 98". 3 أبو عبد الرحمن عبد الله بن المبارك الحنظلي: أبو عبد الرحمن، مولى حنظلة، المروزي، الزاهد الحنظلي، التميمي، ولد سنة 118, ومات سنة 181: إفادة التصحيح "3"، تقريب التهذيب "1/ 445"، تهذيب التهذيب "5/ 382، 387"، تهذيب الكمال "2/ 730"، الكاشف "2/ 123"، الخلاصة "2/ 93"، تذكرة الحافظ "1/ 250"، الحلية "8/ 162، 190", الثقات "8/ 7", العبر "1/ 280، 281", تذكرة الحفاظ "1/ 274، 279". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 497 ترجمة يزيد بن زريع، إبراهيم بن سعد، هشيم : أبو معاوية يزيد بن زريع -مصغرًا- التميمي: العيشي -بمثناة تحتانية- البصري, الإمام الحافظ أحد الأعلام، توفي سنة 182، اثنين وثمانين ومائة1. إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن عوف: الزهري المدني، نزيل بغداد وقاضيها، أحد الأعلام، توفي سنة "183" ثلاث وثمانين ومائة، عن ثلاث وسبعين سنة2. أبو معاوية هشيم -مصغرًا- ابن بشير -كفطيم: السلمي الواسطي، نزيل بغداد، الحافظ، أحد الأعلام، قال الدورقي3: كان عنده عشرون ألف حديث, قال ابن سعد: ثقة حجة إذا قال أخبرنا, اتَّفق عليه الستة، توفي سنة "183" ثلاث وثمانين ومائة4.   1 أبو معاوية يزيد بن زريع التميمي: أبو معاوية العابس العيشي العائش، التميمي الرملي البصري، ولد سة 101, ومات سنة 182, أو بعدها 183، 186: تقريب التهذيب "2/ 364"، تهذيب التهذيب "11/ 325"، تهذيب الكمال "3/ 1532"، الكاشف "3/ 277"، الخلاصة "3/ 196"، جامع المسانيد "2/ 577"، الثقات "7/ 632"، نسيم الرياض "3/ 131" تراجم الأحبار "4/ 234". 2 إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن عوف: تاريخ بغداد "6/ 81"، وتهذيب التهذيب "1/ 121". 3 هو يعقوب بن إبراهيم بن كثير. 4 أبو معاوية هشام بن بشير -كفطيم "السلمي الواسطي": هشيم، أبو معاوية الخفي السلمي الواسطي المعلم, وُلِدَ سنة 104، توفي سنة 183: تقريب التهذيب "2/ 320"، تهذيب التهذيب "11/ 59"، تهذيب الكمال "3/ 1446"، الكاشف "3/ 224"، الخلاصة "3/ 124"، حاشية التحبير "2/ 179"، تاريخ بغداد "14/ 85-94"، أربع رسائل "27/ 89/ 164"، تذكرة الحفاظ "1/ 229"، جامع المسانيد "2/ 569". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 498 ترجمة أبي إسحاق الغزاري، المعتمر التيمي، الفضيل : أبو إسحاق إبراهيم بن محمد الفزاري: الكوفي ثم المصيصي، الحافظ، أحد الأعلام، كثير الحديث، فقيه روى عن مالك، وموسى بن عقبة، وطبقتهما، وعنه الأوزاعي3، والثوري من شيوخه، ومحمد بن عقبة، وغيرهم، توفي سنة "185"، خمس وثمانين ومائة1. أبو محمد المعتمر بن سليمان التيمي: نزل بهم، البصري، أحد الأعلام، توفي سنة "187" سبع وثمانين ومائة2. أبو علي الفضيل 3 بن عياض بن مسعود التميمي: الخراساني الزاهد، شيخ الحرم، وأحد أئمة الهدى والسنة، روى عنه   1 أبو إسحاق إبراهيم بن محمد الفزاري: تذكرة الحفاظ "1/ 251"، وتهذيب التهذيب "1/ 153". 2 أبو محمد المعتمر بن سليمان التيمي: تذكرة الحفاظ "1/ 245"، وتهذيب التهذيب "10/ 227". 3 قال المؤلف -رحمه الله: فضيل بالتصغير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 499 سليمان التيمي1، ومنصور2، وعنه السفيانان3، وابن المبارك، وسري السقطي4، ثقة مأمون لا أورع منه، كثير الحديث، وهو شيخ مشائخ الصوفية. وكان في أول أمره قاطع الطريق بي أبيورد وسرخس، وعشق جارية، فبينما هو يرتقي جدارًا إليها سمع تأليًا يقرأ: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} 5 فقال: يا رب قد آن, ورجع فكان من أمره ما كان. قال سيفان بن عيينة: دخلنا يومًا على الرشيد وفي آخرنا الفضيل, فقال: في أيهم أمير المؤمنين؟ فقلت: هذا, فأقبل عليه وقال: يا حسن الوجه, أنت الذي أمر هذه الأمة بيدك وعنقك, لقد تقلدت عظيمًا, فبكى، ثم أعطى كل واحد منا بدرة فقبلها إلا الفضيل, فقال له: إن لم تستحلها فأعطها ذا دين, أو أشبع بها جائعًا أو عاريًا، فقال: أعفني منها, فلما خرجنا قلت له: أخطأت, هلَّا صرفته في أبواب البر, فأخذ بلحيتي وقال: أنت فقيه البلد, وتغلط في مثل هذا, لو طابت لأولئك لطابت لي. توفي سنة "187"، سبع وثمانين ومائة6.   1 ابن بلال أبو محمد المدني. 2 ابن المعتمر أبو عتاب الكوفي. 3 سفيان بن سعيد الثوري, وسفيان بن عيينة. 4 هو السريّ بن المغلس أبو الحسن، تاريخ بغداد "9/ 187". 5 الحديد: 16. 6 أبو علي بن الفضيل بن عياض بن مسعود التميمي: حلية الأولياء "8/ 84"، والجواهر المضية "1/ 409"، وتذكرة الحفاظ "1/ 225"، وتهذيب التهذيب "8/ 294". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 500 ترجمة بشر بن المفضل الرقَّاشي مولاهم البصري: العابد، أحد الحفاظ الأعلام، عن يحيى بن سعيد، وحميد1، وخلق, وعنه أحمد، وإسحاق2، توفي سنة "187" سبع وثمانين ومائة3.   1 ابن أبي حميد الطويل. 2 ابن إبراهيم "ابن راهويه". 3 بشر بن المفضل الرقاشي مولاهم البصري: أبو إسماعيل، الرقاشي البصري، ت سنة 186 أو 187: تقريب التهذيب "1/ 101"، تهذيب التهذيب "1/ 458"، تهذيب الكمال "1/ 151"، الكاشف "1/ 157"، التهذيب "1/ 128"، الجرح والتعديل "2/ 1410"، الثقات "6/ 79"، الأنساب "6/ 150"، جامع المسانيد "2/ 413". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 500 ترجمة عبد العزيز بن محمد، السبيعي، أبي بشر الأسدي : عبد العزيز بن محمد بن عبيد الجهني: أو القضاعي, مولاهم الدراوردي، أحد الأعلام، المتوفَّى سنة "189" تسع وثمانين ومائة1. عيسى بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي: الكوفي، أحد الأعلام، الفقيه بن الفقيه بن الفقيه، كما قال فيه ابن عيينة، أخرج له الجميع، توفي سنة "191"، إحدى وتسعين ومائة2. أبو بشر إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم الأسدي: مولاهم البصري، ابن علية وهي أمه وبه شهر، الحفاظ، أحد الأئمة الأعلام، قال شعبة: هو ريحانة الفقهاء، توفي سنة "193"، ثلاث وتسعين ومائة3.   1 عبد العزيز بن محمد بن عبيد الجهني: أبو محمد، الداروري الجهني المدني الداروردي، مات سنة 186، 187، أو 180: أصبهان "2/ 125"، التحفة اللطيفة "3/ 31"، الطبقات الكبرى "5/ 4214"، تقريب التهذيب "1/ 512"، تهذيب التهذيب "6/ 353"، تهذيب الكمال "2/ 842"، الكاشف "2/ 28"، الخلاصة "2/ 169"، الضعفاء الكبير "3/ 20", الثقات "7/ 116"، لسان الميزان "7/ 289". 2 عيسى بن يونس بن إبي إسحاق السبيعي: أبو بكر - أبو عمرو، السبيعي الكوفي "السبقي" الهمداني، مات سنة 187، أو سنة 189: تذكرة الحفاظ "1/ 257"، تذكرة "1/ 279", جامع المسانيد "2/ 507"، التاريخ الكبير "6/ 406"، الثقات "7/ 238"، الميزان "3/ 328"، الأعلام "5/ 111", تراجم الأحبار "3/ 9"، التاريخ الصغير "2/ 43"، العبر "1/ 300"، الجرح والتعديل "6/ 1618"، تاريخ بغداد "11/ 152"، الكاشف "2/ 382". 3 أبو بشر إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم الأسدي: تاريخ بغداد "6/ 229"، وتذكرة الحفاظ "1/ 296"، وتهذيب التهذيب "1/ 275". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 501 ترجمة عبد الله بن إدريس، أبي بكر الخياط، مطرف بن مازن : عبد الله بن إدريس بن يزيد الأوردي: الزعافري أبو محمد، الكوفي، أحد الأعلام، كان عديم النظير في زمانه، قال أبو حاتم: ثقة حجة, إمام من أئمة المسلمين, وقال ابن عمار1: كان من الصالحين، توفي سنة "192"، اثنين وتسعين ومائة2. أبو بكر سالم بن عياش بن سالم الخياط: الأسدي الكوفي، محدِّث واسط، كان من أرباب الحديث والعلماء المشاهير، وهو أحد رواة القرآن عن عاصم، وكان مولى واصل بن حِبَّان الأحدب, قال الذهبي في كتاب العلو: كان من بحور العلم, عاش أربعًا وتسعين سنة, لكنه ليِّن الحديث، توفي سنة "193"، ثلاث وتسعين ومائة3. مطرف بن مازن اليمني: قاضي صنعاء، معدود من الفقهاء وإن تكلَّم فيه المحدثون، ولا ذكر له في الكتب الستة، روى عنه الشافعي، قال ابن خلكان: توفي سنة "193" ثلاث وتسعين ومائة4.   1 هو محمد بن عبد الله بن عمار بن سوادة الأزدي. 2 عبد الله بن إدريس بن يزيد الأودي: أبو محمد، الزعافري -الحافظ العابد الأودي الكوفي- الزعفراني، وُلِدَ سنة 110 أو 120، أو 115، مات سنة 192، أو 191: تقريب التهذيب "1/ 401", تهذيب التهذيب "5/ 144"، تهذيب الكمال "2/ 665"، الكاشف "2/ 71"، الخلاصة "2/ 39"، الجرح والتعديل "5/ 24"، الثقات "7/ 60", جامع المسانيد "2/ 508"، الأنساب "6/ 196"، التاريخ الصغير "1/ 271". 3 أبو بكر سالم بن عياش بن سالم الخياط: أبو بكر الخياط الأموي الكوفي، توفي سنة 193، وله 98 سنة: التاج المكلل "49"، الوافي بالوفيات "15/ 89"، دائرة معارف الأعلمي "19/ 107"، وفيات الأعيان "2/ 79، 153". 4 مطرف بن مازن اليمني "قاضي صنعاء": أبو أيوب، الصنعاني الكناني القيسي، ت سنة 191: تنزيه الشريعة "1/ 118"، تعجيل المنفعة "404"، المجروحين "3/ 29"، الضعفاء الكبير "4/ 226"، الميزان "4/ 125"، الكامل "6/ 2273"، التاريخ الكبير "7/ 398"، مجمع الزوائد "1/ 199، 253"، الطبقات الكبرى "5/ 546"، والجرح والتعديل "8/ 1452"، لسان الميزان "6/ 47". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 502 ترجمة عبد الوهاب بن عبد المجيد، الوليد بن مسلم، وكيع : أبو محمد عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي البصري: أحد الأئمة، توفي سنة "194" أربع وتسعين ومائة1. أبو العباس الوليد بن مسلم الأموي: مولاهم، الدمشقي عالم الشام، توفي سنة "195" خمس وتسعين ومائة2. وكيع بن الجراح الروءاسي الكوفي: الحافظ، أحد الأئمة الأعلام، عن هشام بن عروة، وشعبة، وخلائق, وعن أحمد، وإسحاق، وابن معين، وأمم، قال أحمد: كان إمام المسلمين في وقته، توفي سنة "196"، ست وتسعين ومائة3.   1 أبو محمد بن عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي البصري: أبو محمد الثقفي البصري، وُلِدَ سنة 110، ومات سنة 194، أو 184: الكواكب النيرات "38"، معجم طبقات الحفاظ "124"، لسان الميزان "4/ 88"، تقريب التهذيب "1/ 528"، تهذيب التهذيب "6/ 449"، تهذيب الكمال "2/ 870"، الكاشف "2/ 221"، الخلاصة "2/ 186"، الجرح والتعديل "6/ 361"، الميزان "2/ 680". 2 أبو العباس الوليد بن مسلم الأموي: تذكرة الحفاظ "1/ 287"، وتهذيب التهذيب "6/ 449", 3 وكيع بن الجراح الروءاسي الكوفي: أبو سفيان الروابيلي الرواسي الكوفي، وُلِدَ سنة 129، توفي سنة 196: تقريب التهذيب "2/ 331"، تهذيب التهذيب "11/ 123"، الكاشف "3/ 237"، تهذيب الكمال "3/ 146"، الخلاصة "3/ 128"، البداية والنهاية "10/ 240"، الأنساب "6/ 180"، طبقات ابن سعد "6/ 275"، تذكرة الحفاظ "1/ 282"، جامع المسانيد "2/ 566". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 503 ترجمة حماد بن زيد، هشام بن يوسف، سماك بن الفضل : حماد بن زيد بن درهم الأزدي أبو إسماعيل الأزرق: البصري الحافظ، مولى جرير بن حازم، أحد الأعلام، قال أحمد: أحد أئمة المسلمين، توفي سنة "197" سبع وتسعين ومائة، عن إحدى وثمانين سنة، وقد تأسَّس به بيت عظيم في العلم والرئاسة, كما في ترجمة إسماعيل بن إسحاق القاضي1. أبو عبد الرحمن هشام بن يوسف الأنباري: قاضي صنعاء، من فقهاء اليمن، قال ابن معين: هو أثبت من عبد الرزاق في ابن جريج, وأعلم منه بحديث سفيان، وقال أبو حاتم: ثقة متقن، توفي سنة "197"2. سماك بن الفضل الخولاني اليمني: صاحب الفتوى, روى عن مجاهد، وروى عنه شعبة، ومعمر3، وثَّقه النسائي, ولم أقف على وفاته، لكن ذلك في أعلام الموقعين أنه من عصر من قبله4.   1 حماد بن زيد بن درهم الأزدي أبو إسماعيل الأزرق: أبو إسماعيل، الأزرقي الأدني الجهضمي، البصري، وُلِدَ سنة 98، ت سنة 179: تقريب التهذيب "1/ 197"، تهذيب التهذيب "3/ 9"، تهذيب الكمال "1/ 324"، الكاشف "1/ 251", تذهيب تهذيب الكمال "1/ 251"، نسيم الرياض "1/ 40"، شذرات "1/ 292"، العبر "1/ 274"، سير النبلاء "7/ 456"، من الحاشية. 2 أبو عبد الرحمن هشام بن يوسف الأنباري: أبو عبد الرحمن اليماني الصنعاني الأنباري, قاضي صنعاء: تقريب التهذيب "2/ 32"، تهذيب التهذيب "11/ 75"، تهذيب الكمال "3/ 1446"، الكاشف "3/ 224"، الخلاصة "3/ 116"، جامع المسانيد "2/ 569"، الجرح والتعديل "9/ 271", الكامل "7/ 2569"، المعين "727"، الموضوعات "1/ 141"، الثقات "9/ 232", تراجم الأحبار "4/ 168". 3 ابن رشد الأزدي. 4 سماك بن الفضل الخولاني اليمني: تقريب التهذيب "1/ 332"، تهذيب التهذيب "4/ 235"، تهذيب الكمال "1/ 550"، الكاشف "1/ 403"، الخلاصة "1/ 422"، الثقات "6/ 426"، الجرح والتعديل "4/ 1207"، سير النبلاء "5/ 249"، الأعلمي "19/ 258". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 504 ترجمة بقية بن الوليد، عبد الرحمن بن مهدي : أبو يحمد -بضم المثناة تحت- بقية بن الوليد الحميري: الكلاعي الحمصي، أحد الأعلام، توفي سنة "197" سبع وتسعين ومائة1. أبو سعيد عبد الرحمن بن مهدي بن حسَّان الأزدي: مولاهم البصري اللؤلؤي الحافظ الإمام العلم، روى عن مالك وشعبة، وأمثالهم، وعن ابن حنبل، وابن معين، قال القواريري2: أملى علينا عشرين ألفًا من حفظه، قال فيه ابن المديني3: هو حافظ الأمة لو حلفت بين الركن والمقام لحلفت أني ما رأيت أعلم من ابن مهدي، مات بالبصرة سنة "198" ثمان وتسعين ومائة4.   1 أبو يحمد بقية بن الوليد الحميري: أبو يحمد، أبو يحمد الحضرمي الكلاعي الهيثمي الحميري، ت سنة 197، أو سنة 177هـ: تقريب التهذيب "1/ 1105"، تهذيب التهذيب "1/ 473"، تهذيب الكمال "1/ 155"، الكاشف "1/ 160"، التهذيب "1/ 144", الجرح والتعديل "2/ 728، 1/ 135", الميزان "1/ 331"، مجمع الزوائد "7/ 187، 335". 23 هو عبيد الله بن عمرو بن ميسرة الجشمس القواريري أبو سعيد البصري. 3 علي بن عبد الله. 4 أبو سعيد عبد الرحمن بن مهدي بن حسان الأزدي:" أبو سعيد، البصري -الأزدي العنبري اللؤلؤي، وُلِدَ سنة 135، ومات سنة 298: البداية والنهاية "10/ 244"، تقريب التهذيب "1/ 499"، تهذيب التهذيب "6/ 279"، تهذيب الكمال "2/ 819"، الكاشف "2/ 187"، الخلاصة "2/ 154"، الأنساب "11/ 230"، تراجم الأحبار "2/ 406"، تاريخ بغداد "10/ 240", الأعلمي "25/ 315". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 505 ترجمة يحيى القطان، ابن الجارود : أبو سعيد يحيى بن سعيد بن فروخ التيمي: الأحول القطان، البصري، الحافظ، أحد أئمة الجرح والتعديل، قال أحمد: ما رأت عيناي مثله، وقال ابن معين: هو أثبت من ابن مهدي، وقال الذهبي في كتاب العلو: هو سيد الحفاظ، توفي سنة "198: ثمان وتسعين ومائة1. أبو داود سليمان بن داود بن الجارود الفارسي: مولى آل الزبير، الطيالسي البصري، أحد الأعلام الحفاظ، قال فيه وكيع25: هو جبل العلم، روي أنه حدَّث بأربعين ألف حديث من حفظه, ومسنده أول مسند وُضِعَ في الإسلام كما في "المنح البادية"3 قال في كشف الظنون: والذي حمله على هذا تقدم عصره على من صنَّف المسانيد, وليس هو من تصنيفه, وإنما بعض الحفاظ الخراسانيين جمع فيه ما رواه يوسف بن حبيب خاصة عن أبي داود, ولأبي داود أخرى قدره أو أكثر. قلت: وهذا بحث مردود, وإن قاله البقاعي4, ففي "المنح البادية" رواية المسند عن غير يوسف إدريس أيضًا, فقد رواه بأسانيد عن محمود بن غيلان عن أبي داود, وعن الحسين بن إدريس بن محمد بن راشد عنه وعن يونس بن حبيب عنه أيضًا, والمثبت مقدَّم, وكون محفوظه أكثر مما في المسند لا دليل فيه, فقد كان أحمد بن   1 أبو سعيد يحيى بن سعيد بن فروخ التيمي: أبو سعيد -أبو زكريا، الأموي القطان التميمي البصري الأحول، وُلِدَ سنة 120، ت سنة 198: طبقات ابن سعد "7/ 47 قسم2"، تهذيب التهذيب "11/ 216"، تقريب التهذيب "2/ 348"، تهذيب الكمال "3/ 1498"، الكاشف "3/ 256"، الخلاصة "3/ 149"، تذكرة الحافظ "1/ 247" الثقات "5/ 521". 2 ابن الجراح. 3المنح البادية في الأسانيد العالية للشيخ محمد بن عبد الرحمن الفاسي، ت سنة 1144هـ، انظر ذيل كشف الظنون "2/ 576". 4 هو إبراهيم بن عمر بن حسن الرباط البقاعي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 506 حنبل يحفظ أضعاف ما في مسنده, والله أعلم. وقد طُبِعَ مسنده بمطبعة دائرة المعارف النظامية بحيدر أباد الدكن، بالهند سنة "1321", وهو مشتمل على أحاديث "2767" سبعة وستين وسبعمائة وألفين حديثًا. على أن فيه بترًا اعترف به مصححه, وأنه سقط منه ثمانية مسانيد: العباس ابن عبد المطلب, وابن الفضل, وغيرهما، وفي أول النسخة العتيقة التي صححوا عليها ما نصه الجزء الأول من المسند الصحيح, تأليف الإمام أبي داود سليمان بن داود بن الجارود الطيالسي, مولى قريش عن مشايخه -رحمهم الله, رواية أبي بشر يونس بن حبيب بن عبد القاهر العجلي عنه، رواية أبي محمد بن عبد الله بن جعفر بن أحمد بن فارس عنه، رواية أبي نعيم أحمد بن عبد الله بن إسحاق الحافظ عنه، بسماع مالكه الصدر عفيف الدين أبي إبراهيم إسحاق بن يحيى بن إسحاق الآمدي الحنفي, أسبغ الله ظله. بطرق مختلفة. ورواه الأمير في فهرسته بسنده إلى الحافظ أبي نعيم قال: ثنا عبد الله بن جعفر بن أحمد بن فارس القاضي أبو المكارم أحمد بن محمد بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن قيس اللبان, المتوفى في سابع حجة سنة "597"، المعدل قراءة عليه وأنا أسمع بأصبهان في سنة "592" اثنين وتسعين وخمسمائة, قيل له: أخبركم أبو علي الحسن بن أحمد بن الحسن الحداد المقري قراءة عليه, وأنت تسمع في محرم سنة "512" فأقربه به, قال: أخبرنا الإمام أبو نعيم أحمد بن عبد الله بن أحمد بن إسحاق قراءة عليه، وأنا أسمع في المحرم سنة "422", قال: حدثنا أبو بسر يونس بن حبيب قال: حدثنا أبو داود الطيالسي أحاديث أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- إلخ الكتاب. وبهذا كله تعلم ما وقع لصاحب كشف الظنون، من سيء الظنون، توفي سنة "204"، أربع ومائتين، عن ثمانين سنة1.   1 أبو داود سليمان بن داود بن الجارود الفارسي: أبو داود, القرشي الطيالسي البصري الجاردي، ت سنة 204: تقريب التهذيب "1/ 323"، تهذيب التهذيب "4/ 182"، تهذيب الكمال "1/ 534"، الكاشف "1/ 392"، الخلاصة "1/ 410"، التاريخ الصغير "2/ 229", الميزان "2/ 203"، الأنساب "9/ 113"، سير النبلاء "9/ 278"، لسان الميزان "7/ 237". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 507 ترجمة يحيى بن آدم، يزيد بن هارون، الحسن بن موسى : يحيى بن آدم الأموي مولاهم الكوفي: أحد الأعلام، مات سنة "206" ست ومائتين1. أبو خالد يزيد بن هارون السلمي الواسطي: أحد الأعلام الحفاظ المشاهير، قال أبو حاتم، إمام لا يُسْأَل عنه مثله، وقال يجيى بن أبي طالب: اجتمع في مجلسه سبعون ألفًا. قال الذهبي في كتاب العلو: هو شيخ الإسلام, ومن كلامه: من زعم أن الرحمن على العرش استوى على ما يقر في قلوب العامة فهو جهمي, والذي وقر في قلوبهم من الآية هو ما دلَّ عليه الخطاب مع يقينهم بأن المستوي ليس كمثله شيء, هذا الذي وقر في فطرهم السليمة وأذهانهم الصحيحة, ولو كان له معنى وراء ذلك لتفوهوا به, ولما أهموله, ولو تأوّل أحد منهم الاستواء لتوفّرت الهمم على نقله, ولو نقل لاشتهر, فإن كان في جهلة الأغبياء من يفهم من الاستواء ما يوجب نقصًا أو قياسًا للشاهد على الغائب, وللخالق على المخلوق, فهو نادر, فمن نطق بذلك زُجِرَ وعُلِّمَ, وما أظن أحدًا من العامة يقر في قلبه. توفي سنة "256" ست وخمسين ومائتين2. أبو علي الحسن بن موسى البغدادي الأشيب: قاضي حمص وطبرستان والموصل، المتوفى سنة "209" تسع ومائتين3.   1 يحيى بن آدم مولاهم الكوفي: تهذيب التهذيب "11/ 175". 2 أبو خالد يزيد بن هارون السلمي الواسطي: أبو خالد، السلمي الواسطي، وُلِدَ سنة 117 أو 118: البداية والنهاية "10/ 259"، تاريخ الثقات "481"، تقريب التهذيب "2/ 372"، تهذيب التهذيب "11/ 266"، تهذيب الكمال "3/ 1544"، الكاشف "3/ 287"، الخلاصة "3/ 178"، أربع رسائل "91/ 166"، التاريخ الصغير "2/ 307، 309"، اللآليء "2/ 147"، جامع المسانيد "2/ 577". 3 أبو علي بن موسى البغدادي الأشيب: تاريخ بغداد "7/ 426"، وتهذيب التهذيب "3/ 323". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 508 ترجمة عبد الرزاق، عبد الله بن داود : عبد الرزاق بن همَّام الحميري الصنعاني 1: أحد الأئمة الأعلام الحفَّاظ، عن مالك، وابن جريج2، وأمثالهما، وعنه أحمد، وإسحاق3، وأمثالهما، قال ابن عدي4: رحل إليه أئمة المسلمين, قال أبو سعد السمعاني5: قيل: ما رحل الناس إلى أحد بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما رحلوا إليه, ورى عنه من شيوخه ابن عيينة، توفي سنة "211" إحدى عشرة ومائتين، عن خمس وثمانين سنة، ومن كلامه: فذاك زمان لعبنا به ... وهذا زمان بنا يلعب6 عبد الله بن داود بن امر الهمداني الشعبي: أبو عبد الرحمن الكوفي الخُريسي -مصغرًا- نسبة إلى محلة بالبصرة سكنها، أحد الأعلام المشاهير، ثقة عابد ناسك، توفي سنة "213" ثلاث عشرة ومائتين7   1 قال المؤلف -رحمه الله: نسبة إلى صنعاء عاصمة اليمن على غير قياس. 2 عبد الملك بن عبد العزيز 3 ابن إبراهيم بن مخلد بن راهويه. 4 هو عبد الله بن محمد بن عدي, أبو أحمد الجرجاني صاحب كتاب الكامل في الضعفاء، انظر طبقات الشافعية "3/ 215". 5 هو عبد الكريم بن محمد بن منصور صاحب الأنساب، له ترجمة في طبقات الشافعية للسبكي "7/ 180". 6 عبد الرزاق بن همام الحميري الصنعاني: أبو بكر الحميري الصنعاني اليماني الإمام، مولى حمير اليماني، وُلِدَ سنة 126، ومات سنة 211: تقريب التهذيب "1/ 505"، تهذيب التهذيب "6/ 310"، تهذيب الكمال "2/ 829"، الكاشف "2/ 194"، الخلاصة "2/ 161"، الجرح والتعديل "6/ 204"، جامع المسانيد "2/ 512"، سير النبلاء"9/ 563"، العبر "1/ 360"، النجوم "2/ 202". 7 عبد الله بن داود بن عامر الهمداني الشعبي: أبو عبد الرحمن، أبو عبد الله، الحافط, الزاهد، الكوفي، الهمداني، الحريني، البصري الشعبي، مات سنة 213، أو 113: تقريب التهذيب "5/ 199"، تهذيب الكمال "2/ 677"، الكاشف "2/ 83"، الخلاصة "2/ 53"، التاريخ لابن معين "3/ 303"، الثقات "7/ 60", الأنساب "5/ 107"، التاريخ الصغير "2/ 324"، تراجم الأحبار "2/ 300"، البداية والنهاية "10/ 267". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 509 ترجمة أبو بكر عبد الله بن الزبير الحميدي الأسدي المكي : أحد الأعلام، توفي سنة "219" تسع عشرة ومائتين، وهو أول رجل ذكر في صحيح البخاري، ومن جلة شيوخه القرشيين الفقهاء المحدثين الأثبات, مفتي مكة وعالمها بعد شيخه ابن عيينة، قاله الذهبي1.   1 أبو بكر عبد الله بن الزبير الحميدي الأسدي المكي: أبو بكر، الحميدي الأسدي، المكي القرشي، مات سنة 119، أو 219، أو 220: تهذيب التهذيب "5/ 215، 216"، تهذيب الكمال "2/ 682"، تقريب التهذيب "1/ 415"، الكاشف "2/ 86"، الخلاصة "2/ 56"، جامع المسانيد "2/ 515"، تراجم الأحبار "1/ 293"، 2/ 278"، الجرح والتعديل "5/ 264"، نسيم الرياض "3/ 539"، الأنساب "4/ 262". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 510 الذين نشروا مذهبه في القرن الثاني منهم: ترجمة أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري : من وَلَدِ سعد من حبتة1 الصحابي المشهور، روى عن هشام بن عروة، وعطاء بن السائب، وطبقتهما، وتفقه أولًا بابن أبي ليلى2، ثم انتقل إلى أبي حنيفة، فكان أكبر تلاميذه وأفضل معين له، كما أن أبا حنيفة كان يواسيه حال الطلب لفقير والديه, ولولاه لم يتعلم، وقد كان فقيهًا عالمًا حافظًا، قال طلحة بن محمد3في تاريخ القضاة: كان أفقه أهل عصره, ولم يتقدمه أحد في زمانه, وكان النهاية في العمل والحكم والرئاسة والقدر مشهور الأمر ظاهر الفضل. قال ابن عبد البر4: كان يحفظ خمسين أو ستين حديثًا في السماع الواحد, ثم يقوم فيمليها على الناس، وكان كثير الحديث, لكن غلب عليه رأي أبي حنيفة،   1 قال المؤلف -رحمه الله: سعد بن حبتة -بفتح المهملة وسكون الموحدة بعدها مثناة- هي أمه، وبها شهر، وأبوه بجير هو بجلي حليف للأنصار, شهد أحدًا، انظر الإصابة. 2 محمد بن عبد الرحمن قاضي الكوفة. 3 أبو القاسم الشاهد، معتزلي، "تاريخ بغداد "9/ 351". 4 يوسف بن عبد الله أبو عمر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 510 وهو أول من صنَّف الكتب في مذهبه, ونشر علمه في جميع الأقطار, ولولاه لم يكن له ذكر ولا لابن أبي ليلى, لا سيما بعدما تولَّى قاضي قضاة بني العباس, وأصبح تسمية القضاة راجعة إليه من خراسان إلى إفريقية، وهو أوَّل من كان له هذا المنصب الخطير الذي هو بعض حقوق الخلافة الإسلامية؛ إذ كان الخليفة يباشر بنفسه فأسنده إليه، وهي التي انحلت فما بعد إلى مشيخة الإسلام. وقد تولى القضاء لثلاثة من الخلفاء: المهدي والهادي والرشيد الذي كان يجله كثيرًا، ويقال: إنه أول من اتخذ هذا الزي الذي يلبسه العلماء إلى وقتنا هذا, وكان ملبوس الناس قبله شيئًا واحدًا، قاله ابن خلكان، وكان له الفكر العالي في الاجتهاد والفقه, سأله يومًا شيخه الأعمش1 عن مسألة فأجابه, فقال له: من أين أخذتها؟ فقال: من حديثك الذي حدثتنا به, وأملاه عليه، فقال له: إني لأحفظه قبل أن يجتمع أبواك وما عرفت تأويله حتى الآن. وكان الفقه أقل علومه, فإنه كان يعلم التفسير والمغازي وأيام العرب وغيرها، ولم يكن في أصحاب أبي حنيفة مثله، رحل أبو يوسف إلى مالك وأخذ عنه بعد أن ناظره في مسائل كان يقول فيه بمذهب العراقيين كزكاة الخضر، ومسألة مقدار المد والصاع، فرجع عنها لقول مالك. ثم رجع إلى العراق بأفكار أهل الحجاز, فمزجها بمذهب العراقيين، ورجع عن كثير من المسائل إلى رأي مالك, فهو أوَّل من قرَّب بين المذهبين وأزال الوحشة، وبعد أخذه عن مالك وأمثاله اعتبره أهل الحديث محدثًا وأثنوا عليه، قال ابن معين2: ليس في أصحاب الرأي أكثر حديثًا ولا أثبت من أبي يوسف، وقال فيه أيضًا: إنه صاحب حديث وصاحب سنة، واتفق ابن معين وابن حنبل وعلي بن المديني على توثيقه، قال ابن جرير الطبري: وتحامى قوم حديثه من أجل غلبة الرأي عليه من صحبة السلطان وتقلده القضاء, وتكلم فيه ابن المبارك، ووكيع، ويزيد بن هارون، والبخاري، والدراقطني، وغيرهم، بما ينبو عنه السمع، وذكر ذلك الخطيب في تاريخه. قلت: لذلك لم يمكن له ذكر في الكتب الستة، وكانت ولايته القضاء سنة   1 سليمان بن مهران أبو محمد. 2 يحيى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 511 166 ست وستين ومائة، ومات قاضيًا -رحمه الله- واندثر جلّ كتبه، نعم رسالته في الخراج التي ألَّفها للرشيد, طبعت بمصر فهي بأيدي الناس، وبعض كتبه ينقل جلها الإمام الشافعي في الأم وهي مطبوعة, فانظر فيها ما كان من الجدال بين ابن أبي ليلى، وأبي حنيفة، وأبي يوسف، والشافعي، وكيفية الاستدلال في ذلك. ومن مراجعاته مع الرشيد يومًا: بلغنتي أنك تقول: إن هؤلاء الذين يشهدون عندك وتقبل أقوالهم, إنما هم متصنعة، فقال: نعم يا أمير المؤمنين. قال: وكيف ذاك؟ قال: لأن من صحَّ ستره وخلصت أمانته لم يعرفنا ولم نعرفه, ومن ظهر أمره وانكشف خبره لم يأتنا ولم نقبله, وبقيت هذه الطبقة وهم هؤلاء المتصنعة الذين أظهورا الستر وأبطنوا غيره، فتبسَّم الرشيد وقال: صدقت. وُلِدَ سنة "113", وتوفي سنة "183" ثلاث وثمانين ومائة1.   1 أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري: أبو يوسف، الأنصاري الكوفي، وُلِدَ سنة 113، توفي 182 أو 192": التاج المكلل "148"، جامع المسانيد "2/ 578"، الثقات "7/ 645"، تاريخ جرجان "487"، وفيات الأعيان "6/ 378"، سير النبلاء "8/ 535"، الأعلام "8/ 193"، والحاشية، معجم المؤلفين "13/ 240". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 512 ترجمة محمد بن الحسن الشيباني : ومنهم محمد بن الحسن بن فرقد الشيباني: مولاهم، نشأ بالكوفة، ثم سكن بغداد في كنف العباسيين، طلب العلم في صباه, فأخذ عن أبي حنيفة طريقته، ولم يجالسه كثيرًا لوفاة أبي حنيفة وهو حدث, فأتم الطريقة على أبي يوسف، وكان ذا عقل وفطنة, فنبغ نبوغًا كبيرًا حتى صار مرجع أهل الرأي في حياة أبي يوسف، فنشأت بينهما وحشة إلى وفاة أبي يوسف. وقد رحل إلى المدينة وأخذ عن مالك، وله رواية خاصة في الموطأ, وموطأه التي أخذها عن مالك مشهورة1، يعقب أحاديثها بما عليه العمل عند   1 طبع في لكنو بالهند سنة 297هـ، ومعه شرح لعبد الحي اللكنوي, وبهامشه شرح آخر لملا علي القاري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 512 أبي حنيفة, ويبين السبب الذي من أجله وقع الخلاف، وأخذه عن مالك كبح جماحه عن التغالي في الرأي، فأدخل بسبب ذلك تعديلًا كبيرًا على أهل الرأي، ثم كذلك احتكاكه بالشافعي، لما كان في العراق، فقد ناظره في مسائل كثيرة مذكورة في الأم وغيرها من كتب الشافعي، وتقدَّمت لنا مناظرتهما في مسألة الزيادة على مدلول القرآن، قال الشافعي: حملت من علم محمد بن الحسن وقر بعير. وكتبه التي بقيت بأيدي الحنفية ومستندهم في مذهب أبي حنيفة، وهي على قسمين: كتب رويت عنه واشتهرت حتى اطمأنت إليها نفوسهم, وتعرف بكتب "ظاهر الرواية", وهي: كتب الجامع الصغير، رواه عنه عيسى بن أبان1، ومحمد بن سماعة2، وكان لم يبوبه, وإنما هو مشتمل على أربعين كتابًا, فبوبه القاضي أبو طاهر محمد بن الدباس3، ورتَّبه ليسهل على المتعملين, وهو كتاب فروع مجرد عن الأدلة والجدال، وله كتاب الجامع الكبير أطول من الصغير4، وله كتاب ثالث وهو كتاب المبسوط، ويعرف عندهم بالأصل, وهو أطول كتاب كتبه محمد بن الحسن, وهو أهم كتاب عند الحنفية القدماء, حتى إنه لا يبلغ عندهم درجة الاجتهاد من لم يحفظه5، وله كتاب السير الكبير, وكتاب السير الصغير، وكلها في الفقه6، وكتاب الرد على أهل لمدينة, ونقله الشافعي في الأم, وتعقَّب عليه كثيرًا من ردوده7، وله كتاب الآثار التي يحتج بها الحنفية8، والقسم   1 له ترجمة في الجواهر المضية "1/ 401". 2 له ترجمة في الجواهر المضية "2/ 85". 3 هو محمد بن محمد بن سفيان، الجواهر المضية "2/ 116"، وقد طبع كتاب الجامع الصغير على هامش الخراج، في بولاق بمصر سنة 1302هـ. 4 الجامع الكبير، نشرته لجنة إحياء المعارف النعمانية بحيدر أباد, وطبع بمصر سنة 1356هـ. 5 الأصل، نشرت إدراة المعارف العثمانية بحيدر أباد منه جزءًا واحدًا سنة 1386هـ، وانظر بروكلمان "3/ 247". 6 السير الكبير، طُبِعَ باستنبول سنة 1241هـ، وبحيدر أباد سنة 1335هـ، ثم طبع بالقاهرة سنة 1971م، في خمسة أجزاء نشره معهد المخطوطات بجامعة الدول العربية. 7 ويسمَّى: الحجة أو الحجج أو الاحتجاج على أهل المدينة. توجد منه نسخة في المكتبة المحمودية بالمدينة المنورة، وطُبِعَ منه جزء بحيدر أباد. 8 نشرت لجنة إحياء المعارف النعمانية بحيدر أباد منه جزءًا بتعليق أبي الوفاء الأفغاني, وذلك سنة 1385هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 513 الثاني: لم تشتهر عنه, وهي الكتب التي تعرف عندهم بالنوادر كالكيسانيات، وكتاب الزيادات، وكتاب زيادة الزيادات، وهي في درجة ثانية في الاعتماد عندهم، وبالجملة, فكتب محمد بن الحسن أعني: القسم الأول هي أساس مذهب الحنفية, وهي التي اشتغل بها علماؤهم, وعليها عوَّلوا شرحًا وتعليقًا. وُلِدَ بواسط سنة "132", وتوفي ببغداد أو الري سنة "189" تسع وثمانين ومائة1.   1 محمد بن الحسن بن فرقد الشيباني: أبو عبد الله, أبو الحسين، الأزدي، الكوفي الدمشقي حرستا: وُلِدَ سنة 132، مات 187، أو 189: السابق واللاحق "254", الأنساب "8/ 200"، سير النبلاء "9/ 134"، تاريخ بغداد "2/ 172"، الضعفاء الكبير "4/ 52"، معجم المؤلفين "9/ 207-208"، وفيات الأعيان "4/ 184"، الأعلمي "26/ 227". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 514 ترجمة زفر بن الهذيل، الحسن اللؤلؤي : زفر بن الهذيل 1 بن قيس الكوفي العنبري: وأبوه كان على أصبهان، كان زفر ممن جمع بين العلم والعبادة، ومن أهل الحديث، ثم غلب عليه الرأي حتى كان أكثر أصحاب أبي حنيفة أخذًا بالقياس، كما أن أبا يوسف أكثرهم اتباعًا للحديث، وابن الحسن أكثرهم فروعًا واستنباطًا، توفي "158"، ثمان وخمسين ومائة، فهو أقدم أصحابه موتًا2. الحسن بن زياد اللؤلؤي الأنصاري: مولاهم، الكوفي، القاضي، أخذ عن أبي حنيفة, ثم أبي يوسف, ثم محمد بن الحسن، وصنَّف كتبًا عديدة في مذهب أبي حنيفة؛ ككتاب أدب القاضي، وكتاب الخصال، وكتاب النفقات، وكتاب الخروج، وكتاب   1 قال المؤلف -رحمه الله: زفر -بضم الزاي وفتح الفاء وبعدها راء- والهذيل مصغر بذال معجمة, وابن خلكان. 2 زفر بن الهذيل بن قيس الكوفي العنبري: أبو الهذيل، الكوفي العنبري البزاتي التميمي البصري، وُلِدَ سنة 110، ت 158: المغني "2186"، الميزان "2/ 71"، الأنساب "2/ 200"، جامع المسانيد "2/ 460"، لسان الميزان "2/476"، تراجم الأحبار "1/ 479"، الجرح والتعديل "3/ 2757"، التمهيد "1/ 137"، الأعلمي "20/ 22"، سير النبلاء "8/ 38". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 514 الفرائض، وكتاب الوصايا، غير أن كتبه وآراءه في درجة ثانية عندهم، والمعتمد كتب محمد بن الحسن، كما أن درجته عند أهل الحديث كذلك، توفي سنة "204" أربع ومائتين1. وكلٌّ من زفر والحسن بن زياد يعتبر مجتهدًا مطلقًا كأبي يوسف، ومحمد بن الحسن، ولم تكن نسبتهم إلى أبي حنيفة إلّا كنسبة الشافعي إلى مالك, أو ابن حنبل إلى الشافعي, إلّا أن هذين كتبت أقوالهما مفردة ولم يخلط قول أحد منهم بمن قبله, بخلاف الأربعة مع أبي حنيفة, فإنها قد امتزجت، وإن كان بعض الحنفية يزعم أنهم مقلدون لأبي حنيفة، نعم كلٌّ أربعة يقال فيه مجتهد منتسب لانتسابه لإمامه انتساب المتعلم للمعلم لا المقلد المقلده؛ إذ التقليد لم يكن انتشر بين العلماء إذ ذاك، أشار لذلك الدهلوي2، وغيره، فهؤلاء الأربعة أشهر الذين نشروا مذهب أبي حنيفة ودونوا أقواله, وقاموا بنصرة البعض أو الجل منها.   1 الحسن بن زياد اللؤلؤي الأنصاري: تاريخ بغداد "7/ 314"، والجواهر المضية "1/ 193"، وميزان الاعتدال "1/ 491". 2 شاه ولي الله الدهلوي, واسمه أحمد بن عبد الرحمن، البدر الطالع للشوكاني "1/ 72". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 515 ترجمة أبو إسماعيل حمَّاد بن أبي حنيفة: الإمام السابق، كان على مذهب أبيه، وكان من الصلاح والخير على قدم عظيمة، كانت وفاته سنة 176 ست وسبعين ومائة1. وولده إسماعيل كان أيضًا من العلماء الفضلاء، واستقضى بالبصرة، وكانت له سيرة حسنة, وهو الذي خلفه يحيى بن أكثم -رحمهم الله2.   1 أبو إسماعيل حمَّاد بن أبي حنيفة، ترجمته في الجواهر المضية "1/ 226"، وميزان الاعتدال "1/ 590". 2 إسماعيل بن حمَّاد بن أبي حنفية: تاريخ بغداد "6/ 243"، والجواهر المضية "1/ 148"، وميزان الاعتدال "1/ 226"، وتهذيب التهذيب "1/ 290". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 515 أصحاب مالك في القرن الثاني ترجمة عبد الله عبد الرحمن بن القاسم العتقي ... أصحاب مالك في القرن الثاني: نعني أصحابه الذي أخذوا عنه الفقه ونشروا مذهبه، لا أصحاب الحديث, فإنهم كثيرون كما تقدَّم. أولهم وأثبتهم في الفقه الإمام: ترجمة أبو عبد الله عبد الرحمن بن القاسم العتقي: مولاهم -بضم العين وفتح التاء المثناة فوق قاف- المصري الفقيه, روى عن مالك، والليث، ونافع، القاري1، وبكر بن مضر، وعبد العزيز الماجشون، ومسلم بن خالد الزنجي شيخ الشافعي، وغيرهم، وروى عنه أصبغ بن الفرج، ومحمد بن سلمة المرادي، وطالت صحبته لمالك عشرين سنة, ولم يخلط علمه بغيره, حتى قيل: إنه لم يخالفه إلّا في أربع مسائل, ذكرها ابن ناجي2 في الزكاة من شرح المدونة، قال فيه يحيى بن يحيى3: أعلمهم بعلم مالك وآمنهم عليه، قال أبو زرعة4: عنده ثلاثمائة مجلد عن مالك مسائل مما سأله أسد بن الفرات المغربي. ولهذا شرط أهل قرطبة قطب مدن الأندلس علمًا في سجلاتهم أن لا يخرج القاضي عن قول ابن القاسم ما وجده. قال النسائي: ثقة مأمون، وقال فيه مالك: مثله مثل جار مملوء مسكًا, أخرج له البخاري حديثًا واحدًا في سورة يوسف، والنسائي كثيرًا وأثنى عليه كثيرًا، هو وغيره علمًا وضبطًا ودينًا، قال: ولم يرو أحد الموطأ عنه أثبت من ابن القاسم، وخرَّج له غيرهما خارج الستة. توفي سنة "191" إحدى وتسعين ومائة، وكان لا يقبل جوائز السلطان, شديد الورع والضبط والتقوى -رحمه الله، وعمره يوم مات ثلاث وستون سنة5.   1 نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم، غاية النهاية للجزري "3/ 330". 2 قاسم بن عيسى التنوخي القيرواني. 3 ابن بكر الليثي. 4 الرازي واسمه عبيد الله بن عبد الكريم. 5 أبو عبد الله عبد الرحمن بن القاسم العتقي: أبو عبد الله البصري العتقي الفقيه، وُلِدَ سنة 128، أو 123، مات سنة 191: تقريب التهذيب "1/ 495"، تهذيب التهذيب "6/ 256"، تهذيب الكمال "2/ 811"، وفيات الأعيان "1/ 276"، الكاشف "2/ 181"، الخلاصة "2/ 148"، حسن المحاضرة "1/ 303"، العبر "1/ 307". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 516 هل كان ابن القاسم مجتهدًا مستقلًّا: قد اختلف فيه شيوخ تلمسان أهل المائة الثامنة, فزعم أبو زيد بن الإمام1 أن ابن القاسم مقلد لمالك، ونازعه أبو موسى عمران المشذالي البجائي2, وادَّعى أنه مطلق الاجتهاد، واحتجَّ بمخالفته مالكًا في كثير، قال: فلو قلَّده لم يخالفه, واحتجَّ أبو زيد بأن نصرًا الشرف التلمساني مثَّل لمجتهد المذهب بابن القاسم في مذهبنا، والمزني في مذهب الشافعي، ومحمد بن الحسن في مذهب أبي حنفية، فأجاب أبو عمران بأنه مثال, والمثال لا يحتج به ولا يلزم صحته، واستدلَّ ابن عبد السلام الهواري3 أيضًا على اجتهاده الطلق بنحو ما قال أبو عمران، وبحث فيه ابن عرفة4 بأن ابن القسَّام مزجي البضاعة في الحديث، وقال أبو عبد الله ابن الغازي5 بقوله: كيف يثبت الاجتهاد لشيوخه كابن عبد السلام, وينفيه عن ابن القاسم بعبارة فظيعة, مع أنه شيخ هداية المالكية. قلت: بل المالكية في الحقيقة قاسميون, وابن عرفة نفسه قاسمي مقلد له, ومع ذلك ينفي عنه الاجتهاد، قال أحمد بابا السوداني6: والعجب من ابن عرفة يثبت الاجتهاد لابن دقيق العيد7، ونظرائه، ويقول: وفي المازري8 نظر، هل لحقه أم لا، ومعلوم أن ابن عبد السلام وابن دقيق العيد لا يبلغان درجة المازري،   1عبد الرحمن بن الإمام، الديباج "1/ 486". 2 انظر نيل الابتهاج "215". 3 محمد بن عبد السلام قاضي الجماعة بتونس, الديباج "2/ 329". 4 محمد بن محمد بن عرفة الورغمي، نيل الابتهاج "274". 5 محمد بن أحمد بن محمد، نيل الابتهاج "333". 6 مؤلف نيل الابتهاج، ت سنة 1036هـ. 7 محمد بن علي بن وهب أبو الفتح. 8 محمد بن عي بن عمر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 517 قال: والذي يظهر أن الاجتهاد المذهبي درجة واسعة تتفاوت بقوة التمكّن وضعفه, فبالاتصاف بأدنى درجاتها يدعيها, ومع اتساع الحفظ ومعرفة الأحاديث ربما يخيّل لصاحبها درجة الاجتهاد المطلق. مع كون من فوقه في تمكن النظر وقوة التفقّه ومعرفة المذهب ومدراكه لا يدعي تلك الرتبة لعدم اتساعه في لحفظ ومعرفة الأحاديث, فهذا قاسم العقباني1، والمسناوي, والبجائي2، من أهل المائة التاسعة، يصرحون ببلوغ درجة الاجتهاد، والإمام الشاطبي3, والحفيد ابن مرزوق4، ينفون ذلك عن أنفسهما، ومعلوم أنهم أقوى علمًا وأوسع باعًا من الذين ادعوها، فتأمَّل ذلك, هذا ما قاله في ترجمة أبي عمران المشذالي. وقال في ترجمة عيسى بن الإمام عنه، إن ابن القاسم مجتهد المذهب فقط مقلد لمالك, وأما اجتهاده في بعض المسائل فإمَّا من باب تجزء الاجتهاد، كما أن المجتهد المطلق قد يقلد غيره في بعض المسائل، وأطال في ذلك بأدلة لاتفيد ظنًّا فضلًا عن اليقين، وبعضها ينقض بعضًا، والإنصاف أن ابن القاسم خالف مالكًا في مسائل كثيرة قبلها منه من بعده, ولم ينكرو عليه, بل أخذوا بقوله, وتركوا قول الإمام وأصحابه في كثير من المسائل، وذلك دليل الاجتهاد المطلق المنتسب لا المستقبل, إما يقينًا أو ظنًّا, ولولا توفر شروط الاجتهاد فيه ما قبلوا منه مخالفة الإمام. نعم إن ابن القاسم كان منتسبًا لمالك متبعًا له في كثير من قواعد مذهبه, مفتيًا على مقتضاها, إما وافق نظره نظر الإمام, وإما قلده بناء على تجزء الاجتهاد, وهو الأصح. وشروط الاجتهاد ليست بمتعذرة في مثل الإمام ابن القاسم, بل ادعاها مَنْ هو دونه بمراحل، ووجدت في تلاميذ تلاميذه, ومن لازم مالكًا سنين "20" كيف لا يدرك رتبة الاجتهاد، وقد صرَّح الحنفية بأن محمد بن الحسن، وأبا يوسف،   1 قاسم بن سعيد العقباني التلمساني، نيل الابتهاج "223". 2 أبو موسى عرمان المشذالي البجائي، نيل الابتهاج "215". 3 إبراهيم بن موسى، صاحب الموافقات والاعتصام. 4 محمد بن أحمد بن محمد، نيل الابتهاج "293". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 518 كانا مجتهدين اجتهادًا مطلقًا كما عند الدهلوي1 في رسالته في الاجتهاد والتقليد وغيره، وإنما مذهبهما دُوِّنَا ممتزجين بمذهب أبي حنفية فنسب الكل إليه, والله أعلم. ويأتي في خاتمة الكتاب كلام في الاجتهاد وأقسامه, وعساك إن راجعت تلك الشروط وطبَّقتها على ابن القاسم يتبين لك صحة ما قلناه, والله أعلم. وفي حاشية البغدادي على المحلي2 ما يقتضي أن مثل ابن القاسم لا يُعَدّ من أهل الاجتهاد المطلق, يعني: المستقل, وأن المجتهد المطلق يعني المستقل هو من يستقل بتأسيس أصوله وقواعده من الكتاب والسنة. وقد عقد الشاطبي في موافقاته مبحثًا في أنه لا يلزم المجتهد في الأحكام الشرعية أن يكون مجتهدًا في كل علم يتعلق بالاجتهاد على الجملة، وقال فيه: إن ابن القاسم، وأشهب، ومحمد بن الحسن، وأبا يوسف، والمزني، والبويطي، اتُّبِعَت أقوالهم وعمل على وفقها مع مخالفتهم لأئمتهم وهم مقلدون لهم في أصول مذهبهم, واجتهادهم مبني على مقدمات مقلد فيها, فإذًا لا ضرر على الاجتهاد مع التقليد في بعض القواعد المتعلقة بالمسألة المجتهد فيه. فكلامه آيل إلى ما قلناه من أنه مجتهد اجتهادًا مطلقًا منتسبًا لا مستقلًا.   1 شاه ولي الله الدهلوي أحمد بن عبد الرحيم، البدر الطالع للشوكاني "1/ 72". 2 المحلي هو جلال الدين محمد بن أحمد, له شرح على جمع الجوامع للسبكي في الأصول، وشرح على ورقات الجويني، والعبادي هو ابن قاسم، وحاشية على شرح المحلي على الورقات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 519 ترجمة أبو محمد عبد الله بن وهب بن مسلم الفهمي القرشي ... ترجمة أبو محمد عبد الله بن وهب، عثمان بن الحكم: أبو محمد عبد الله بن وهب بن مسلم الفهمي القرشي: مولاهم المصري الإمام، وأحد الأئمة الأعلام، روى عن مالك وطبقته, وتفقَّه على الليث، ومالك وصحبه من سنة 148 إلى أن توفي، كان مالك يكتب إليه: إلى فقيه مصر، وإلى أبي محمد المفتي, ولم يكن يحلي غيره بهذا، وقال فيه: إنه عالم وإنه إمام، وقال في ابن القاسم: إنه فقيه. قال فيه أصبغ: إنه أعلم أصحاب مالك بالسنن والآثار, إلّا أنه يروي عن الضعفاء. وكان يسمَّى ديوان العلم، وما من أحد إلّا زجره مالك إلّا ابن وهب, فإنه كان يحبه ويعظمه، قال أحمد: ما أصح حديثه، وقال ابن معين: ثقة، وقال ابن حبان: حفظ على أهل مصر والحجاز حديثهم، وقال أحمد بن صالح: حدَّث بمائة ألف حديث, روى عنه شيخه الليث، وابن مهدي1، وسعيد بن أبي مريم، وسعيد بن منصور، وخلائق. أخرج له الستة جميعًا، وصنف الموطأ الكبير، والموطأ الصغير، ومصنفات في الفقه معروفة، قال ابن خلكان: ولي القضاء فاستخفى في بيته, فأطلَّ عليه أسد بن سعد وهو يتوضأ, فقال له: ألا تخرج تقضي بين الناس بكتاب الله وسنة رسوله؟ فقال له: إلى هنا انتهى عقلك, إن العلماء يحشرون مع الأنبياء، والقضاة مع السلاطين. وسبب موته أنه قرأ عليه كتاب الأهوال من جامعه, فأخذه شيء كالغشي فحُمِلَ إلى داره, فلم يزل كذلك إلى أن مات سة "199" تسع أو سبع وتسعين ومائة، عن أربع وسبعين2. عثمان بن الحكم الجذامي: أوَّل من أدخل علم مالك مصر، لم تنبت مصر أفضل منه، روى عن مالك، وموسى بن عقبة، وعنه ابن وهب3، وغيره، توفي سنة "163" ثلاث وستين ومائة4.   1 عبد الرحمن بن مهدي أبو سعيد. 2 أبو محمد بن عبد الله بن وهب بن مسلم الفهمي القرشي: أبو محمد المالكي، القرشي، المصري، الفهري, مولى بني فهر، مولى زمانة، الشهرة ابن وهب، مات سنة 297، أو 197: تاريخ أسماء الثقات "641"، تقريب التهذيب "1/ 460"، تهذيب التهذيب "6/ 71، 74", تهذيب الكمال "2/ 753", تذكرة الحفاظ "1/ 306، 279، 281، 308"، الثقات "8/ 346"، الكاشف "2/ 141"، الخلاصة "21/ 110"، التاريخ لابن معين "3/ 336"، لسان الميزان "7/ 273". 3 عبد الله. 4 عثمان بن الحكم الجذامي: الجزامي، المصري, مات سنة 163: تقريب التهذيب "2/ 7"، تهذيب التهذيب "7/ 110"، تهذيب الكمال "2/ 906"، الخلاصة "2/ 213"، الكاشف "2/ 248"، الإكمال "1/ 330"، الميزان "3/ 32"، المغني "4013"، الثقات "8/ 452"، مجمع الزوائد "4/ 202"، الجرح والتعديل، "6/ 810"، التمهيد "2/ 145"، تراجم الأحبار "3/ 218"، لسان الميزان "7/ 310. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 520 ترجمة علي بن زياد، المغيرة بن عبد الرحمن، عبد الله بن نافع : أبو الحسن علي بن زياد التونسي: روى عن مالك، والليث، وطبقتهما، وسمع أسد بن الفرات، وسحنون1، وعليه تعلَّم الفقه، ولم يكن في إفريقية مثله في زمنه، توفي سنة "183" ثلاث وثمانين ومائة2. المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث المخزومي: إمام جليل، أخذ عن مالك, وشاركه في كثير من شيوخه كأبي الزناد3 وهشام بن عروة، وغيرهما، كان فقيه المدينة بعد مالك، وله كتب فقه قليلة، خرَّج له البخاري، وأبو داود والنسائي، وابن ماجه، توفي سنة "186" ست وثمانين ومائة4. عبد الله بن نافع مولى بني مخزوم: المعروف بالصائغ, تفقَّه على مالك ونظرائه، قال ابن غانم5: قلت لمالك: من لهذا الأمر بعدك؟ قال: ابن نافع. وكان ابن نافع مفتي المدينة بعد مالك، وكان أصمّ أميًّا، قال: صحبت مالكًا أربعين سنة ما كتبت عنه شيئًا، سمع منه سحنون وكبار أصحاب مالك، وهو قرين أشهب في سماع العتبية, فيعبر عنهما بالقرينين.   1 عبد السلام سحنون بن سعيد بن حبيب، الديباج "2/ 3". 2 أبو الحسن بن علي بن زياد التونسي: أبو الحسن، العيسى التونسي، مات 183: الأنساب "3/ 112"، التمهيد "6/ 21"، شجرة النور الزكية "60"، رياض النفوس "1/ 158"، الإكمال "1/ 524". 3 عبد الله بن ذكوان. 4 المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث المخزومي: ترتيب المدارك "1/ 282"، والديباج "2/ 343"، ولسان الميزان "6/ 226"، وتهذيب التهذيب "10/ 264". 5 هو عبد الله بن عمر بن غانم: المدارك "10/ 316". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 521 قال أشهب1: ما حضرت مجلسًا لمالك إلا وحضره ابن نافع، وما سمعت إلّا وقد سمع, فكان أشهب يكتب لنفسه, وله جلس مجلس مالك بعد ابن كنانة، وله تفسير على الموطأ رواه عنه يحيى بن يحيى2، وهو في الحديث مُخْتَلَف فيه، توفي سنة "186" ست وثمانين ومائة3.   1 ابن عبد العزيز أبو عمر، الديباج "2/ 307". 2 ابن بكير الليثي، المدارك "2/ 534". 3 عبد الله بن نافع مولى بني مخزوم: أبو محمد، مولى بني مخزوم، المدني، الصائغ، المخزومي: مات سنة 206 أو بعدها: تقريب التهذيب "1/ 456"، تهذيب التهذيب "6/ 51، 52"، تهذيب الكمال "2/ 748"، التاريخ الكبير "5/ 213"، التاريخ الصغير "2/ 309"، تراجم الأحبار "2/ 276"، التحفة اللطيفة "2/ 429"، شذرات الذهب "2/ 15"، دائرة الأعلمي "21/ 250"، التمهيد "5/ 27". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 522 ترجمة عبد الله بن نافع الأصغر، موسى بن قرة : عبد الله بن نافع الأصغر الزبيدي: الأسدي, ثقة صدوق، أخرج له مسلم وغيره، وهو أصغر سنًّا من الأول، توفي سنة "216" ست وعشرة ومائتين1. موسى بن قرَّة بن طارق السكسكي: أبو محمد الجَنَدي -بفتحتين- ناحية باليمن, وقيل: إنه من زبيد من أهل الخصيب, قاضيتهم، روى عن مالك ما لا يحصى حديثًا ومسائل، وروى عنه الموطأ، وله كتابه الكبير وكتابه المبسوط، وسماع معروف في الفقه عن مالك يرويه عنه علي بن زياد الحجبي2، وذكره أبو عمرو المقري3 في القراء, فقال: إنه قرأ على نافع, وروى عن موسى بن عقبة، وابن جريج4، وابن عيينة5، وروى عنه ابن حنبل، وابن راهويه6، ثقة محلة الصدق, أثنى عليه ابن حنبل، ولم يذكر وفاته, فهو من أصحاب مالك الذين نشروا علمه في اليمن7.   1 عبد الله بن نافع الأصغر الزبيدي: أبو محمد، الشهرة الأصغر، مات سنة 216: شجرة النور الزكية "56"، ميزان الاعتدال "2/ 514"، والديباج "1/ 411"، وتهذيب التهذيب "6/ 50". 2 لعله علي بن زياد التونسي أبو الحسن. 3 هو أبو عمرو عثمان بن سعيد الداني، ت سنة 444هـ. 4 عبد الملك بن عبد العزيز. 5 سفيان. 6 إسحاق بن إبراهيم بن مخلد. 7 موسى بن قرَّة بن طارق السكسكي: ترتيب المدارك "1/ 396"، والديباج "2/ 334". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 522 ترجمة زياد القرطبي، معن بن عيسى، سعيد المعافري : أبو عبد الله زياد بن عبد الرحمن القرطبي: الملقب بشبطون، سمع من مالك الموطأ، وهو أول من أدخلها للأندلس، وله كتاب معروف بسماع زياد، أخذه عن مالك، وروى عن الليث، وابن عيينة، وغيرهم، رحل إلى مالك رحلتين، وقد نبَّه بيته بقرطبة فكان فيهم العلم والقضاء والخير، توفي سنة "193" ثلاث وتسعين ومائة1. معن بن عيسى القزاز: روى عن مالك وجماعة، وكان ربيبه، وهو الذي قرأ الموطأ للرشيد والأمين والمأمون على مالك، وخلف مالكًا في الفقه بالمدينة، له سماع معروف عن مالك، وكان أشد الناس ملازمة له, يتكيء عليه عند خروجه للمسجد حتى قيل: عصية مالك، ومن كبار أصحابه، خرَّج له الجماعة, وهو أحد أئمة الحديث، قال أبو حاتم: هو أوثق أصحاب مالك وأثبتهم، توفي سنة "198" ثمان وتسعين ومائة، سمع من مالك أربعين ألف مسألة، قاله في الديباج2. سعيد بن عبد الله بن سعد المعافري: من كبار أصحاب مالك، تفقَّه عليه ابن وهب، وابن القاسم، ثقة فاضل مأمون، توفي بالإسكندرية سنة "193" ثلاث وتسعين ومائة3.   1 أبو عبد الله بن عبد الرحمن القرطبي: ترتيب المدارك "1/ 349"، والديباج "1/ 370". 2 معن بن عيسى القزاز: أبو يحيى، الأشجعي، المدني القزاز، مات سنة 198: العبر "1/ 327"، أربع رسائل "127"، الجرح والتعديل "8/ 1271"، تقريب التهذيب "2/ 267"، تهذيب التهذيب "10/ 252"، تهذيب الكمال "3/ 1358"، الكاشف "3/ 166"، الخلاصة "3/ 48"، الثقات "9/ 181"، تراجم الأحبار "3/ 361-458"، الأنساب "1/ 263"، التاريخ لابن معين "3/ 578"، سير النبلاء "9/ 304". 3 سعيد بن عبد الله بن سعد المعافري: ترتيب المدارك "1/ 311"، واسمه فيه: سعد، تهذيب التهذيب "10/ 252". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 523 ترجمة أشهب بن عبد العزيز بن داود القيسي : بالقاف، العامري، أبو عمرو الفقيه المصري، صاحب مالك, وأحد الأعلام، يروي عن الليث، ويحيى بن أيوب، وابن1 لهيعة، وعنه الحارث بن مسكين قاضي مصر، ويونس بن عبد الأعلى، ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم، وتفقّه بمالك والمدنيين والمصريين. وقال الشافعي: مارأيت أفقه منه, انتهت إليه الرئاسة بمصر, وقال ابن عبد البر: كان فقيهًا حسن الرأي, وتقدَّم حكاية الخلاف في كونه كابن القاسم مجتهدًا مطلقًا أو مقيدًا, وهما بالنسبة لمالك كمحمد بن الحسن وأبي يوسف، وقال في أعلام الموقعين: مكانه من العلم والإمامة غير مجهول, ذكر ابن عبد البر في الانتقاء عن محمد بن عبد الحكم أنه أفقه من ابن القاسم مائة مرة، وأنكر ابن لبابة ذلك، قال: ليس عندنا كما قال, وإنما قاله لأن أشهب شيخه ومعلمه، وقال ابن عبد البر: كلٌّ منهما شيخه, وهو أعلم بهما لكثرة مجالسته وأخذه عنهما. صحَّ من عدد 364 من المجلد2، توفي سنة "204" أربع ومائتين، بعد الشافعي بقليل، عن أربع وستين2 سنة. فهؤلاء أشهر من نشر علم مالك بمصر, ومنها تسرَّب إلى إفريقية والأندلس.   1 عبد الله. 2 أشهب بن عبد العزيز بن داود القيسي: ترتيب المدارك "2/ 447"، والديباج "1/ 307"، وتهذيب التهذيب "1/ 359". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 524 منها إدخال الفلسفة، والعقل في الأحكام الفقهية من حيث كونها بنيت على جلب مصالح واتقاء مضار، فنشأ عن ذلك الاختلاف في مبادئ وأصول: كمسألة القياس، والاستحسان، والمصالح المرسلة، وأنواع الاستدلال، وخبر الواحد وما يشترط فيه من الشهرة أو عدم مخالفة عمل المدينة. كذلك النزاع في الإجماع هل يتحقق بعد عصر الصحابة أم لا، وإذا تحقَّق فهل هو حجة أم لا، وفي الاحتجاج بالمرسَل، وبمذهب الصحابي، إلى غير ذلك، لكن كل ذلك لم ينقص من قوة الفقه، بل زادت قوته قوة, وقدمه رسوخًا, بدخوله في طور التدوين, وخروجه من طور التكوين, لما وجد في أهله من ألَّف وصنَّف بعدما كان عرضة للتلف, وبرز في السطور بعد الاحتجاب في خدور الصدور، وكان هذا العصر زاهيًا زاهرًا بسادات كبار أساطين الاجتهاد، تقدَّمت تراجمهم مختصرة، وكانت لهم أخلاق عالية وكمالات نفسانية, فلم يكن خلاف بعضهم لبعض مؤديًا لتحقير أو تعصيب أو تقاطع وتدابر, بل كانوا يثنون على المخالف لهم بالثناء الجميل. وتقدَّم ذلك في تراجمهم، وغاية ما كان ينشأ عن الخلاف أن يعتقد أن خصمة مخطيء في تلك المسألة بعينها, لما قام عنده من الدليل على خطئه في ظنِّه لا في كل المسائل، ويعتقد أنه معذور لما أداه إليه دليله, لا نقص يلحقه في ذلك, ويعرفون لكل عالم حقه ويقرون له بالفضل ويحترمون فكره. وكان جميع العلماء مجتهدين لم يكن بينهم مقلد، ولا يقلد إلّا العوام، فلم يكن الخلالف ضارًّا لهم ولا مشينًا, بل كان سعيًا وراء إظهار الحقيقة، فلذلك عددنا الفقه فيه شابًّا قويًّا، نعم في هذ العصر، أعني: عصر أتباع التابعين، كثر الموالي وفسدت اللغة, واحتاجوا لعلومها كما سبق, واعتبر بتراجم العلماء السابقين تجد الجل منهم مولى أو موالي الموالي؛ كنافع مولى ابن عمر، وعكرمة، وكريب مولى ابن عباس، وعطاء بن أبي رباح الحبشي، والحسن البصري النوبي، وابن سيرين، ومكحول، وطاوس، والنخعي، وميمون بن مهران، والضحاك بن مزاحم، وغيرهم. وذلك هو الطامَّة الكبرى على الشعب العربي العظيم الذي امتدت فتوحاته من الهند إلى وسط أوربا، حيث اشتغل العرب بالسياسة وبهرجتها فغلبهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 525 مواليهم على المناصب العلمية التي هي في الحقيقة أصل المناصب السياسية، فانحلت العصبية العربية إلّا قليلًَا بأحراز المناصب العلمية، وكان ذلك مؤذنًا بانحلالها في المناصب السياسية، وهو ما وقع في العصر بعده كما سنبينه إن شاء الله. انتهى القسم الثاني من كتاب الفكر السامي, ويليه القسم الثالث: أوله الطور الثالث للفقه طور الكهولة. والحمد لله أولًا وآخرًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 526 الفهارس : فهرس أبواب القسم الأول من الفكر السامي : الصفحة الموضوع 3 مقدمة التحقيق 9 ترجمة المؤلف 25 ترجمة الكتاب 59 تقدمة المؤلف 61 التمهيد الأول 63 التمهيد الثاني 68 التمهيد الثالث 73 بداية القسم الأول 78 مادة الفقه الإسلامي 83 القرآن العظيم 88 كتابة القرآن 91 تكاليف القرآن 100 السنة النبوية 104 السنة مستقلة في التشريع 110 شروط العمل بالسنة 113 تدوين السنة 116 أخذ أحكام الفقه الخمسة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 529 123 لإجماع 127 القياس 130 هل استعمل الصحابة القياس 132 الفرق بين تخريج وتحقيق المناط 135 هل وقع القياس من النبي -صلى الله عليه وسلم 142 الشرعية الإسلامية 144 الاستدلال في زمنه -صلى الله عليه وسلم 155 المصالح المرسلة 162 سد الذرائع 164 قول الصحابي 165 البراءة الأصلية 167 أًصول أخرى عامة 168 تاريخ تشريع بعض الأحكام المنصوصة 169 الصلاة 174 النكاح 174 القتال 177 تحريم التطفيف 177 الصيام 178 صلاة العيدين، زكاة الفطر، التضحية 179 الزكاة المالية 180 تحويل القبلة 181 الغنائم, النفل، فداء الأسرى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 530 182 الميراث 184 الطلاق والرجعة 185 قصر الصلاة 186 الرجم من الزنا، الإقطاع في الأراضي، صلاة الخسوف، التيمم 188 حد القذف، الحجاب 189 الحج والعمرة 191 صلاة الاستسقاء 192 الإيلاء، أحكام الصلح 193 أحكام المحصر، جزاء الصيد 194 تحريم الخمر 196 المسابقة 197 الوقف، حد الحرابة 198 تحريم الحمر الإنسية، المزارعة، حرمة مكة 199 القصاص 200 منع بيع الخمر 201 الحدود والتعازير 205 زيارة القبور 206 الآداب الاجتماعية 207 اتخاذ المنبر، وستر العورة 209 التوبة، اللعان 211 صلاة كسوف الشمس، حديث جبريل 212 حرمة الدماء، لا وصية لوارث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 531 213 الوصية بالثلث، أبواب المعاملات 216 الذكاة والصيد 218 الكلالة في الميراث 219 كمال الشريعة 220 وقوع الاجتهاد في العصر النبوي 228 القضاة والحكام في عهد النبوة 231 المفتون على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم 236 ترجمة أبي بكر الصديق 237 ترجمة الفاروق عمر 241 ترجمة ذي النورين عثمان 242 ترجمة أمير المؤمنين علي 245 ترجمة عبد الرحمن بن عوف، ابن مسعود 247 ترجمة زيد بن ثابت 249 ترجمة معاذ بن جبل 250 ترجمة أُبَيّ بن كعب 251 ترجمة أبي موسى الأشعري 252 ترجمة أبي الدرداء 253 ترجمة عبادة بن الصامت 254 ترجمة عمَّار بن ياسر، حذيفة بن اليمان 255 ترجمة أبي ذر 256 ترجمة سلمان الفارسي 260 ترجمة أبي عبيدة بن الجراح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 532 261 ترجمة مصعب بن عمير، سالم بن معقل 262 ترجمة سعد بن معاذ، عثمان بن مظعون 263 ترجمة جعفر بن أبي طالب 264 ترجمة زيد بن حارثة 265 ترجمة خالد بن سعيد، خبيب بن عدي، عبد الله بن جحش 266 ترجمة حمزة، وسيدتنا فاطمة الزهراء 267 ترجمة خزيمة بن ثابت 268 ترجمة خالد بن الوليد 269 ترجمة عبد الله بن رواحة 270 ترجمة أسامة بن زيد 271 ترجمة أبي سعيد الخدري، عمرو بن العاص 272 ترجمة أبي قتادة 273 ترجمة قتادة بن النعمان، أم المؤمنين أم سلمة 274 ترجمة أم المؤمنين زينب 275 صناعة التوثيق في العهد النبوي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 533 فهرس أبواب القسم الثاني من كتاب الفكر السامي : الصفحة الموضوع 278 تمهيد للقسم الثاني 281 تاريخ إجمالي لعهد الخلفاء 285 الفقه زمن الخلفاء الراشدين 287 تحليق الناس لدرس العلم 288 أمثلة من اجتهاد الخلفاء 288 اجتهاد أبي بكر 290 اجتهاد عمر 293 أعمال عمر في تنظيم المالية 295 عمله في القضاء 300 اجتهاد علي 303 اجتهاد عثمان 304 من اشتهر بالفتية من الصحابة والتابعين، زمن الخلفاء 305 ترجمة عائشة، وحفصة 306 ترجمة أنس، أبي هريرة 307 ترجمة عبد الله بن عمرو بن العاص 308 ترجمة أبي أيوب، أم المؤمنين ميمونة، سعد بن أبي وقاص 309 ترجمة سعيد بن زيد، الزبير بن العوام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 535 310 ترجمة بلال، عقبة بن عامر 311 ترجمة عقبة بن عمرو، عمران بن حصين، معقل بن يسار 312 ترجمة أبي بكرة الثقفي 313 التابعون الذين اشتهروا بالفتوى أيام الخلفاء 314 شريح القاضي 314 ترجمة علقمة النخعي، مسروق 315 ترجمة الأسود النخعي، عبد الرحمن بن غنم، أبي إدريس الخولاني، عبيدة السلماني 316 ترجمة سويد بن غفلة، عمرة بن شرحبيل، عبد الله بن عتبة 317 ترجمة عمرة بن ميمون، زر بن حبيش، الربيع بن خيثم 318 ما تميَّز به فقه عصر الخلفاء الراشدين 323 عصر صغار الصحابة وكبار التابعين بعد الخلفاء الراشدين 330 الفقه زمن معاوية 331 مشاهير أهل الفتوى في هذا العصر 333 ترجمة ابن عباس 335 ترجمة ابن عمر 336 ترجمة معاوية بن أبي سفيان 338 ترجمة عبد الله بن الزبير 339 مراتب الصحابة في الإكثار من الفتوى 343 صور من الخلاف الواقع في هذا العصر 349 هل كان الصحابة كلهم مجتهدين؟ 351 عدالة الصحابة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 536 353 مشاهير أهل الفتوى في هذا العصر من التابعين 353 ترجمة سعيد بن المسيب 355 ترجمة عبيد الله بن عبد الله، عروة بن الزبير، القاسم بن محمد 356 ترجمة أبي بكر المخزومي، سليمان بن يسار، خارجة بن زيد 357 ترجمة سالم بن عبد الله، أبي سلمة بن عبد الرحمن، إبراهيم النخعي 358 ترجمة الشعبي 359 ترجمة أبي العالية، حميد الحميري، مطرف بن عبد الله 360 ترجمة زرارة بن أوفى، أبان بن عثمان، أبي قلابة 361 ترجمة أبي الشعثاء، رفيع بن مهران، علي بن الحسين 362 ترجمة مجاهد بن جبر، عكرمة مولى ابن عباس 363 ترجمة عطاء بن أبي رباح، سعيد بن جبير 364 ترجمة الحسن البصري، محمد بن سيرين 365 ترجمة الحكم بن عتيبة، قتادة السدوسي 366 ترجمة مكحول، رجاء بن حيوة، عمرو بن دينار 367 ترجمة محارب بن دثار، عمر بن عبد العزيز 368 ترجمة مرثد اليزني، قيس بن أبي حازم 369 ترجمة شقيق بن سلمة، أبي بردة، طاوس 370 ترجمة أبي عبد الرحمن الحبلي، إسماعيل بن عبيد 371 ترجمة خالد بن معدان، مسلم بن خالد، عبد الرحمن بن رافع, عبد الله بن أبي زكريا 372 ترجمة سليمان بن موسى، نافع مولى ابن عمرن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 537 373 الفرق بين هذا العصر والذي قبله 374 حالة الفقه زمن صغار الصحابة وكبار التابعين 378 افتراق الفقهاء إلى عراقين وحجازيين 383 النزاع بين أهل الحديث والرأي 385 هل أحكام الشرع معقولة المعنى؟ 388 من أحوال الفقه في هذه الطبقة 389 اختلاط اللغة ومصيرها, وتأثيره على الفقه 389 ترجمة أبي الأسود الديلي 390 ترجمة أبي عمرو المازني، الخليل بن أحمد، سيبويه 391 ترجمة الكسائي، معاذ بن أبي مسلم الهراء، الفراء 392 ترجمة الأصمعي، المبرد، ثعلب 393 ترجمة ابن دريد، القالي، الجرجاني، الفارسي 394 ترجمة الرماني، ابن جني، الجوهري 395 ترجمة الزمخشري، ابن خروف، الجياني، ابن منظور 396 ترجمة ابن هشام، الفيروز آبادي، الزبيدي 397 ترجمة الشدياق اللبناني 398 ترجمة الأزهري 400 المائة الثانية الهجرية، مجمل التاريخ السياسي 400 تعريب كتب الفلسفة 401 الفقه وابتداء تدوينه 402 أول مَنْ دون الحديث 403 ترجمة ابن شهاب الزهري الجزء: 1 ¦ الصفحة: 538 404 ترجمة أبي بكر بن حزم الأنصاري 405 ترجمة الربيع بن صبيح، سعيد بن أبي عروبة 406 الموطأ 408 مَنْ ألَّفوا في عصر مالك 409 الفقه الأكبر 409 المذاهب الفقهية التي دونت 410 ترجمة أبي حنيفة 412 مسند أبي حنيفة 415 ثناء الناس على أبي حنيفة 416 عقيدته 417 مقدرة أبي حنيفة وسرعة خاطره 419 إحداث أبي حنيفة للفقه التقديري 423 اقتباس مذهب أبي حنيفة 424 قواعد مذهب أبي حنيفة 425 خبر الواحد عند أبي حنيفة 426 القياس عند أبي حنيفة 429 الاستحسان 429 تألب الأثريين ضده 430 انتقاد القياس والاستحسان 439 ترجمة الليث بن سعد 440 كتابه لمالك 440 عمل أهل المدينة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 539 442 الجمع ليلة المطر 442 القضاء بشاهد ويمين 443 مؤخر الصداق 443 الإيلاء بعد الأربعة الأشهر 444، 445 التمليك تطليق، بعض المسائل 446 ترجمة الإمام مالك 453 قواعد مذهب مالك 458 عمل أهل المدينة 461 قول الصحابي 463 ترجمة ابن عيينة 464 ترجمة الشافعي 467 مسند الشافعي 468 قواعد مذهب الشافعي 471 سبب انتشار مذهب الشافعي 473 اختراع الشافعي لعلم أصول الفقه 475 ترجمة المزني 476 ترجمة ثابت البناني، السبيعي 477 ترجمة عبد الرحمن بن القاسم، يزيد الأزدي، يحيى بن أبي كثير 478 ترجمة محمد بن المنكدر، أبي الزبير المكي 479 ترجمة مالك بن دينار، أيوب السختياني 480 ترجمة عبد الله بن ذكوان، عطاء الخراساني، عطاء الثقفي 481 ترجمة العلاء الحضرمي، يونس بن عبد، خالد بن مهران الجزء: 1 ¦ الصفحة: 540 482 ترجمة أشعث الحمراني، أبي معتمر، إسماعيل بن أمية، عبد الله بن شبرمة 483 ترجمة هشام بن عروة، أبي عبد الله سوار القاضي 484 ترجمة عبيد لله بن عمر 485 ترجمة الحجاج بن أرطأة، جعفر الصادق، عمرو بن الحارث، ابن أبي ليلى 486 ترجمة هشام بن حسان، زكريا بن أبي زائدة 487 ترجمة الأعمش 488 ترجمة عبد الملك بن عبد العزيز، عبد الله بن عون، محمد بن إسحاق 489 ترجمة معمر بن راشد، مسعر بن كدام 490 ترجمة سعيد بن أبي عروبة، حيوة بن شريح، ابن أبي ذئب 491 ترجمة شعبة بن الحجاج، وشعيب بن أبي حمزة 492 ترجمة همَّام بن يحيى، عبد العزيز بن أبي سلمة 493 ترجمة حمَّاد بن سلمة 494 ترجمة التنوخي، عبد الله بن الحسن، الحسن بن صالح، جرير بن حازم 495 ترجمة الوضاح بن عبد الله، ابن لهيعة، القاسم بن معن، شريك القاضي 496 ترجمة التيمي 497 ترجمة أبي وهب، أبي عبيدة التميمي، ابن المبارك 498 ترجمة يزيد بن زريع، إبراهيم بن سعد، هشيم 499 ترجمة أبي إسحاق الفزاري، المعتمر التيمي، الفضيل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 541 500 ترجمة بشر بن المفضل 501 ترجمة عبد العزيز بن محمد، السبيعي، أبي بشر الأسدي 502 ترجمة عبد الله بن إدريس، أبي بكر الخياط، مطرف بن مازن 503 ترجمة عبد الوهاب بن عبد المجيد، الوليد بن مسلم، وكيع 504 ترجمة حماد بن زيد، هشام بن يوسف، سماك بن الفضل 505 ترجمة بقية بن الوليد، عبد الرحمن بن مهدي 506 ترجمة يحيى القطان، ابن الجارود 508 ترجمة يحيى بن آدم، يزيد بن هارون، الحسن بن موسى 509 ترجمة عبد الرزاق، عبد الله بن داود 510 ترجمة عبد الله بن الزبير الحميدي 511 الذين نشروا مذهبه منهم، أبو يوسف الأنصاري 512 ترجمة محمد بن الحسن الشيباني 514 ترجمة زفر بن الهذيل، الحسن اللؤلؤي 515 ترجمة حماد بن أبي حنيفة 516 أصحاب مالك في القرن الثاني 516 ترجمة عبد الرحمن بن القاسم العتقي 517 هل كان ابن القاسم مجتهدًا مستقلًا؟ 519 ترجمة عبد الله بن وهب 520 ترجمة عثمان بن الحكم 521 ترجمة علي بن زياد، المغيرة بن عبد الرحمن، عبد الله بن نافع 522 ترجمة عبد الله بن نافع الأصغر، موسى بن قرة 523 ترجمة زياد القرطبي، معن بن عيسى، سعيد المعافري الجزء: 1 ¦ الصفحة: 542 524 ترجمة أشهب بن عبد العزيز 524 بيان حالة الفقه في القرن الثاني 527 الفهارس: 529 فهرس القسم الأول 535 فهرس القسم الثاني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 543 المجلد الثاني القسم الثالث: في الطور الثالث للفقه وهو طور الكهولة مدخل ... القسم الثالث: في الطور الثالث للفقه وهو طور الكهولة تطور الفقه في طور الكهولة من مبدأ المائة الثالثة إلى منتهى الرابعة، إذ وقف في قوته، ولم يزد قوة، ومال إلى القهقرى، ولكن لم يسرع إليه الهرم، ولا وصل إلى طور الانحلال، بل حفظ قوته الأصلية زمن قرنين بسبب ما ظهر فيه من الحفاظ، والمجتهدين الكبار، والتآليف العظام. وفي هذا العصر اختلط فيه المجتهدين بغيرهم، فكان يوجد أهل الاجتهاد المطلق، ولكن غلب التقليد في العلماء، ورضوا به خطة لهم، ولا يزال في هذا العصر يزيد التقليد، عالة على فقه أبي حنيفة ومالك والشافعي وابن حنبل وأضرابهم ممن كانت مذاهبهم متداولة إذ ذلك، وانساقوا إلى اتخاذ أصول تلك المذاهب دوائر حصرت كل طائفة نفسها بداخلها لا تعدوها، وأصبحت أقوال هؤلاء الأئمة بمنزلة نصوص الكتاب والسنة لا يعدونها. وبذلك نشأت سدود بين الأمة، وبين نصوص الشريعة ضخمت شيئا فشيئا إلى أن تنوسيت السنة، ووقع العبد من الكتاب بازدياد تأخر اللغة، وأصبحت الشريعة هي نصوص الفقهاء وأقوالهم لا أقوال النبي، الذي أرسل إليهم، وصار الذي له القوة على فهم كلام الإمام، والتفريع عليه مجتهدا مقيدا، أو مجتهد المذهب، وتنوسي الاجتهاد المطلق. حتى قال النووي في "شرح المذهب" بانقطاعه من رأس المائة الرابعة، فلم يمكن وجوده، وهو كلام غير مسلم. وحتى قال عياض في "المدراك": إن لفظ الإمام يتنزل عند مقلده بمنزلة ألفاظ الشارع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 7 بل قال عبيد الله الكرخي1 ومن الحنفية: إن كل آية أو حديث يخالف ما عليه الأصحاب مؤولة أو منسوخة فكأنه جعل نصوص مذهبه هي الجنس العالي، والأصل الأصيل، حاكمة على نصوص السنة والتنزيل معيارا يعرض عليه كلام رب العالمين والرسول الأمين، فإنا لله وإنا إليه راجعون. ودونك جزئية تريك ما وراءها يقول الحنفية: إن الفاتحة ليست فرضا في الصلاة؛ لعدم وجود قاطع يدل على ذلك2، ولكن لما ثبت في السنة "لا صلاة لمن لم يقرأ الفاتحة" 3 فهي واجبة يأثم بتركها، ولا تبطل الصلاة. قال في "فتح الباري": ولا ينقضي عجبي ممن يتعمد ترك قراءة الفاتحة منهم، وترك الطمأنينة، فليصلي صلاة يريد أن يتقرب إلى الله بها، ولو يتعمد ارتكاب الإثم فيها مبالغة في تحقيق مخالفته لمذهب غيره أهم. ومن أقوال متعصبيهم: إن المهدي المنتظر إذا ظهر بل عيسى بن مريم إذا نزل آخر الزمن، فإنهما يقلدان أبا حنيفة، ولا يخالفانه في شيء. فسدوا بهذه الأفكار التي تحكمت من نفوس العلماء والأمراء باب النظر في الكتاب والسنة، ومراجعة أقوال المذاهب عسى أن يكون فيها خطأ إلى هنا انتهى بهم الانحطاط في الرضى بخطة التقليد. وهذا التقليد بعدما كان قليلا في المائة الثالثة، صار غالبا في الرابعة، بل أصبح جل علمائها مقلدين متعصبين مع أن الكل يعلم أن لكل إمام هفوة   1 انتهت إليه رياسة الحنفية بالعراق، وهو من المجتهدين في المسائل من مؤلفاته "المختصر" و"شرح الجامع الصغير" و"شرح الجامع الكبير" وكلمته هذه إن صحت عنه تعد زلة من عالم لا يعول عليها ولا يقتدى بها. توفي سنة 340هـ. انظر "طبقات الحنفية" "ص108، 109" للكنوي، و"لسان الميزان" "4/ 98، 99". 2 وجهة نظر الحنفية أن الله تعالى أمر بقراءة مطلق القرآن في الصلاة {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} والسنة أمرت بقراءة الفاتحة، فعملوا بدليلي القرآن والسنة، فقالوا بوجوب قراءتهما في الصلاة، وعدوا من يترك قراءة أحدهما عمدا آتيا بمكروه تحريما يوجب إعادة الصلاة ما دام في الوقت. 3 رواه البخاري 2/ 199، 200، ومسلم رقم "394" وأبو داود "822"، والترمذي "247" والنسائي 2/ 137، 138، وابن ماجه "837"، والشافعي 1/ 75. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 8 وسقطة، بل سقطات، فما من إمام وقد ثبت عنه قول أو فعل خفي عليه فيه السنة والخطأ به في الاجتهاد. قال بعض العلماء: لا يجوز لنا أن نقلد المكيين ولا الكوفيين في المتعة1 والدرهم بالدرهمين، وشرب أقل مما يسكر من النبيذ، ولا بعض المدنيين في مسألة إتيان النساء في أدبارهن2، ولا الشاميين والمدنيين في حلية المعازف3 ولا الشافعي في قول له بإباحة تزوج الرجل ببنته من الزنى، ولا الحنفي في أن من تزوج أمه لا حد عليه، فإن أحمد يقول: إن من تزوج بنته من زنى قتل. وقال علماء الحديث: من شرب النبيذ المختلف فيه، حد، وعند المالكية تسقط شهادته. وهذا كله باعتبار الغالب، وإلا فقد كان يوجد في علماء الأمة من   1 كان نكاح المتعة مباحا في أول الإسلام، ثم نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عنه عام الفتح، وحرمه إلى يوم القيامة كما ثبت في صحيح مسلم رقم "1406" "21" من حديث عبد الله بن سبرة، وقد اتفق العلماء على تحريمه وهو كالإجماع بين المسلمين.. "فتح الباري 9/ 148. 2 ورد عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحادث صحاح وحسان شهيرة رواها غير واحد من الصحابة كلها متواترة على تحريم وطء الرجل زوجته في دبرها، فعن خزيمة بن ثابت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله لا يستحيي من الحق لا تأتوا النساء في أدبارهن" أخرجه أحمد 2/ 213، والطحاوي 2/ 25، وإسناده صحيح، وصححه ابن حبان "1299"، ووصفه الحافظ في الفتح 8/ 143 بأنه من الأحاديث الصالحة الإسناد، وأخرج أحمد، "9731" وأبو داود "2162" وابن ماجه "1923" بسند صحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ملعون من أتى امرأة في دبرها" وللترمذي "1165" من حديث ابن عباس مرفوعا "لا ينظر الله إلى رجل أتى امرأة في الدبر" وسنده حسن، وصححه ابن حبان "1302" وله شاهد من حديث أبي هريرة عند ابن ماجه "1923" وأخرج الطحاوي 2/ 23، والطبري "4329" بسند صحيح أن ابن عمر سئل عن إتيان المرأة في الدبر؟ فقال: وهل يفعل ذلك أحد من المسلمين؟! وقد اتفق أهل العلم على أن إتيان الرجل امرأته في دبرها حرام، وأن فاعله يعزر إذا كان عالما بالتحريم، فلا ينبغي لمؤمن بالله واليوم الآخر أن يعرج في هذه المسائل على الأقوال الشاذة الضعيفة المخالفة للنصوص الصحيحة الصريحة. 3 هي آلات الملاهي، أخرج البخاري في "صحيحه" 10/ 48، بشرح الفتح تعليقا ووصله غيره بسند صحيح من حديث أبي عامر أبو أبي مالك الأشعري مرفوعا "ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الخز والحرير والخمر والمعازف". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 9 يجتهد كأبي القاسم الداركي الشافعي1 وابن ميسر2 والطحاوي3 كما تراه في تراجمهم، بل كان في عوام تلك القرون من ينتقد ويستدل قال الشعراني في "الميزان": إن مغنيا كان عند الخليفة العباسي، فدخل بعض أهل العلم، وأنكر ذلك، فقال: إن مالكا يمنع سماع الغناء، فقال المغني: ما تعبدنا الله بقول مالك، ولا أوجب علينا تقلده، فهات دليلا من الكتاب أو السنة، فالله يقول: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} 4 فانقطع العالم، ولم ينكر عليه الخليفة، قال الشعراني: فهذا دليل ما كان لهم من التعلق بكتاب الله وسنه بينه -صلى الله عليه وسلم- وإبائتهم التقليد حتى في المغنين. ا. هـ. وذكر في "المدارك" في ترجمة 204 محمد بن عبد الله بن يحيى المعروف   1 هو عبد العزيز بن عبد الله الداركي من القرن الرابع انتهى التدريس إليه ببغداد، قال الخطيب البغدادي في "تاريخه": وسمعت عيسى بن أحمد بن عثمان الهمذاني يقول: كان عبد العزيز الداركي إذا جاءته مسألة يستفتى فيها، تفكر طويلا، ثم أفتى فيها، وربما كانت فتواه خلاف مذهب الشافعي وأبي حنيفة، فيقال له في ذلك، فيقول: ويحكم حدث فلان عن فلان، عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بكذا وكذا، والأخذ بالحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أولى من الأخذ بقول الشافعي وأبي حنيفة إذا خالفاه. "تهذيب الأسماء واللغات" ص"263، 264". 2 هو أحمد بن ميسر بن محمد بن إسماعيل القرطبي، قال ابن فرحون في "الديباج المذهب" "ص34": كان يميل إلى النظر والحجة، وربما أفتى بمذهب مالك، وكان إذا استفتي ربما يقول: أما مذهب بلدنا فكذا، وأما الذي أراه فكذا. توفي سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة. 3 هو أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الأزدي الطحاوي المحدث الفقيه كان يقتدي بأبي حنيفة في التفقه، ويرى منهجه أمثل المناهج إلا أنه لم يمنعه ذلك من مخالفته وترجيح ما ذهب إليه غيره من الأئمة قال ابن زولاق: سمعت أبا الحسن علي بن أبي جعفر الطحاوي يقول: سمعت أبي يقول وذكر فضل أبي عبيد حربويه وفقهه، فقال: كان يذاكرني في المسائل، فأجبته يوم في مسألة، فقال لي: ما هذا قول أبي حنيفة، فقلت له: أيها القاضي أوكل ما قاله أبو حنيفة أقول به! قال: ما ظننتك إلا مقلدا، فقلت له: وهو يقلد إلا عصبي، فقال لي: أو غبي، قال فطارت هذه بمصر حتى صارت مثلا، وحفظه الناس. توفي رحمه الله سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة، ترجمته في "الفوائد البهية" ص"31، 32" و"الحاوي في سيرة الطحاوي" للكوثري. 4 سورة الزمر الآية: 55. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 10 بابن عيسى قاضي قرطبة المتوفى سنة 339 تسع وثلاثين وثلاثمائة أنه كان مارا في موكب حافل بمدينة ألبيرة أيام قضائه بها، إذ رأى فتى يتمايل سكرا، فلما شعر بالقاضي أراد الفرار، فخانته رجلاه، فاستند إلى الحائط، وأطرق، فلما دنا منه القاضي رفع رأسه وأنشأ يقول: ألا أيها القاضي الذي عم عدله ... فأضحى به في العالمين فريدا قرأت كتاب الله ألفين مرة ... فلم أر فيه للشروب حدودا فإن شئت أن تجلد فدونك منكبا ... صبورا على ريب الزمان جليدا وإن شئت أن تعفو تكن لك منَّة ... تروح بها في العالمين حميدا وإن أنت اخترت الحدود فإن لي ... لسانا على هجو الرجال حديدا فلما سمع القاضي شعره، أعرض عنه، ولم يأمر باستنكاهه، ومضى لشأنه كأن لم يره. فانظر إلى هذا الفتى كيف دافع عن نفسه بأن حد الشارب ليس في القرآن وإن كانت شبهة داحضة لثبوته بالسنة، ولحصول الإجماع من الصحابة على الحد إجمالا وإن اختلفوا في قدره كما تقدم لنا في وقوع النسخ بالسنة إلا ما روي عن ابن عباس كما سبق. وقال ابن العربي في "الأحكام": كان أبو الفضل المراغي يقرأ بمدينة السلام، فكانت الرسائل تأتي إليه من بلده، ويقطعها في صندوق، ولا يقرأ منها شيئا مخافة أن يطلع فيها على ما يزعجه، ويقطعه عن طلبه، فلما كان بعد خمسة أعوام، قضى غرضا من الطلب، وعزم على الرحيل، شد رحله منها يقرؤها في وقت وصولها ما تمكن بعدها من تحصيل حرف من العلم، فحمد الله تعالى، وخرج إلى باب الحلبة طريق خرسان، وتقدمه الكري بالدابة، فوقف على فامي1 يبتاع منه سفرته، فبينما هو يحاول ذلك معه، إذ سمعه يقول لفامي آخر: أما سمعت الواعظ يقول: إن ابن عباس يجوز الاستثناء في اليمين   1 الفامي بائع الخبز أو غيره نسبة إلى الفوم على غير قياس، والسفرة بالضم: طعام المسافر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 11 ولو بعد سنة لقد اشتغل بالي بذلك، وظللت فيه متفكرا، ولو كان ذلك صحيحا، لما قال الله لأيوب عليه السلام {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} 1 وما الذي منعه من أن يقول له: قل: إن شاء الله2 قال المراغي: قلت لنفسي: بلد يكون الفاميون به من العلم بهذه المرتبة أخرج عنه إلى المراغة لا أفعله أبدا، واقتفى الكري، وحلله من الكراء، وصرف رحله، وأقام بها حتى مات رحمه الله فهذه وأمثالها دليل أن الاجتهاد. لم يمت دفعة واحدة، وإنما كان ذلك تدريجيا بكثرة الجهل، وتراكم الفتن على الإسلام، وكثرة الدول والانقسام الموجب للتأخر والانحطاط، ولنتكلم في هذا القسم على بقية المجتهدين أصحاب المذاهب المدونة، وهم خمسة بعد تقديم ما يتعلق بالتاريخ السياسي إجماليا.   1 الصافات الآية: 38. 2 قوله وما الذي منعه: يقال عليه: لعله لم يكن الاستثناء شريعة له وأنه من خصائص شرعنا لكن الخصوصية لا بد لها من دليل. ا. هـ. "المؤلف". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 12 مجمل التاريخ السياسي للمائة الثالثة والرابعة: إن في أول المائة الثالثة كانت دولة بني العباس في عنفوانها وعلى رأسها الخليفة المأمون بن الرشيد فتى العلم، والمؤسس لنهضته العامة في الإسلام ولم يلحقه خليفة في الولوع بالعلم ونشره، وهو الذي نشط العلماء للإكثار من ترجمة كتب فلاسفة اليونان والروم والهند، وابنتى المدارس، والمستشفيات للطب والحكمة، وشيد المراصد للنجوم، وظهرت في زمنه الفلسفة العقلية في الإلهيات والنبوءات التي أدت إلى حدوث انشقاق في علماء الأمة زيادة عما كان من انشقاق الخوارج والشيعة، فقد انحلت طائفة الخوارج إلى مذهب الاعتزال، وأيدهم المأمون لكونهم ضد الشيعة في كثير من مبادئهم وخرافاتهم، ليقلل من قيمة الشيعة التي كانت للعلويين ضد بني العباس، فأدخلوا في العقائد التي يجب اعتقادها في حق الله وحق الرسل الفلسفة العقلية التي اقتبسوها من الكتب المترجمة عن الأفكار اليونانية والرومانية، وتجرءوا على الكلام في ذلك بما أتوا من المهارة في الفلسفة المذكورة، وكشفوا القناع للكلام فيما كان السلف لا يتجرءون عليه، ويقفون عند حد التسليم والتفويض. وأهم المسائل التي خالف بعض المعتزلة فيها هي القول بنفي القدر، وأن الله لا يعلم الأشياء قبل إيجادها، ولا يقدرها وأن الأمر أنف1. والثانية2: القول بخلق القرآن أما الأولى، فحدثت قبل هذا التاريخ   1 أي: مستأنف لم يتقدم فيه قدر ولا مشيئة، يقال: روضة أنف: إذا لم ترع. 2 قال عبد الرحيم بن محمد الخياط المعتزلي في كتاب الانتصار له: ليس يستحق أحد اسم الاعتزال حتى يجمع القول الأصول الخمسة التوحيد والعدل والوعد والوعيد والمنزلة بين المنزلتين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ا. هـ. منه مؤلف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 13 بالبصرة قالها معبد الجهني وهي مكفرة لمن قالها بلا نزاع، ولم يقل بها المأمون بل انقرض القائلون بها، وإنما الذي حدث أيام المأمون القول بخلق العبد أفعال نفسه، وهي بنت المقالة السابقة، ولم يقلها المأمون أيضا. نعم قال بخلق القرآن، وبسبب ذلك تشعبت مذاهبهم، وكثر الجدال وظهر التعصب المذهبي حتى أدى لسب السلف الصالح، وصار لكل فرقة فقه وأحكام لا تقول بما يخالفها، فجاء المتوكل بعده، وانتصر للسنة، وأوقع المحن بالمعتزلة، وقضى على مذهبهم، ولو أن الخليفتين تركا الحرية التامة لأهل العلم، فأطلقوا عنان أفكارهم في البحث عن الحق لظهر، ورجعت الطائفتان إلى وفاق، فتداخل أهل السياسة في أمثال هذا هو سدل لجلباب الليل على الحقائق، وسد حاجز عن تقدم العلم، كذلك بداخل العوام مع العلماء في هذه الميادين، كما أن العلماء لا يستعينون بالخلفاء أو العامة إلا إذا قصرت خطاهم، وخافوا ظهور خطئهم. وفي أيام المأمون بدأ انحلال العصبية العربية، وكمل ذلك في عهد الواثق الذي لم يبق في ديوان جنده جندي عربي، وصارت العصبية فارسية؛ إذ كان المأمون معاشرا لنشأة فارسية مع أن هذا بدا في أول دولتهم؛ إذ كانت العصبية التي اعتمدت عليها في قلب الدولة الأموية هي الفرس بخراسان وغيرها تحت إمرة أبي مسلم الخراساني كما هو معلوم. ثم في أيام أخيه المعتصم بعده تحولت إلى عصبية الموالي من الترك، واستولى الترك على المملكة العربية، فزاد اختلاط اللغة وهو أعظم سبب في انحطاط الفقه وإن بقي للعرب انتشار اللغة المختلطة والرئاسة الدينية للخلفاء، ولم يبق بيد الخليفة إلا الأمور الرسمية، وأبهة الخلافة والقصر في القصر، وتم ذلك في دولة المنتصر الخليفة الحادي عشر منهم، وكان حصر افتراق آخر أيام الرشيد قبل ذلك حيث اعترف بدولة بني أمية في الأندلس، وأعطى الاستقلال الداخلي لبني الأغلب اختيارا منه بل زرع جذور دولتهم بيده، وجعل الإمارة فيهم وراثية حيث عجز عن اخضاع خوارج أفريقية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 14 ففي العشرة الثامنة من القرن الثاني بدأ انفصال المماليك الأفريقية والأندلس عن المملكة الشرقية بظهور دولة الأدارسة في المغرب، وبنى مدرار في سجلماسة، وبنى رستم في القطر الجزائري، وبنى أمية في الأندلس ثم بنى الأغلب بالقيروان. ثم ظهرت في أيام المأمون الدولة الطاهرية بخراسان، ثم العلوية بطبرستان، والدولة السامانية فيما وراء النهر، ثم بعد الدولة الزيارية بجرجان، والدولة الصفارية بفارس. وفي أيام المتوكل بن المعتصم بن الرشيد سنة سبع وأربعين ومائتين ضعفت الخلافة الإسلامية بل الوحدة الملية، وظهرت سياسة التغلب في ولاة الأقاليم، وصار الإسلام إلى ملوك طوائف أشبه منه بخلافة، فتغلبت الدولة الطولونية بمصر والشام، ثم دولة بني بويه الديلم بالعراق التي امتدت إلى أن استولت على نفس بغداد، كما أنه في آخر المائة الثالثة ظهرت دولة الشيعة بأفريقية، واستولت على المغرب الأقصى والجزائر، ثم امتدت إلى مصر والحرمين والشام وزاحمت بني العباس حتى في العراق وبني أمية دولة الأندلس التي كانت قد عظمت جدا في آخر الثالث وفي الرابع، وتسمي أميرها بأمير المؤمنين. فصارت الخلافة الإسلامية في القرن الرابع يدعيها ثلاث دول عظمى: بنو العباس الذين هم تحت سيطرة الديلم في بغداد، والشيعة في مصر وأفريقيا والحجاز والشام، وبنو أمية في الأندلس وكل هذا مؤثر على الفقه كما لا يخفى على كل لبيب لانقطاع الصلات بين هذه الأقطار بالحروب وأنت تعلم أن العلم كان ناميا بالراحلة وحصول السباق بين علماء أقطار الإسلام، فتحول ذلك إلى النزاع السياسي، وانتحل كل خليفة من الخلفاء الثلاثة مذهبا يخالف غيره، فأصبح الفاطميون1 يوجهون دعاتهم من الشيعة لنشر مبادئهم ضد بني العباس وبني أمية وكانوا يجعلون قاضي القضاة بمصر على مذهبهم الذي هو مذهب   1 ويعرفون بالعبيدين نسبة إلى جدهم عبيد الله المهدي المتوفى سنة 322هـ وراجع في تحقيق نسبهم ما كتبه الكوثري في رسالته "من عبر التاريخ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 15 الإسماعيلية يقسم المواريث، يعقد الأنكحة وغيرها، كذلك جعلوا مرتبات لمن يدسه وينشره قصدا لنشر الدعوة، وقد أضافوا إلى ذلك عمل داعي الدعاة وأعوانه ليجذبوا الجمهور إلى التمذهب بمذهب الإسماعيلية ضد مذهب مالك الذي عليه بنو أمية وأبي حنيفة والشافعي الذي كان عليه بنو العباس: وكان عملهم كله هباء؛ لأن هذه المذاهب حلت من قلب الجمهور في سويدائه، كان محمود بن سبكتكي1 ونظام الملك2 في العراقيين على مذهب الشافعي، ينشرانه، ويتعصبان له، وعلماء الأندلس بل وعلماء القيروان وأفريقيا مع كونهم تحت قهر الشيعة ينشرون مذهب مالك وعلماء هذه المذاهب دائبون على نشرها لم تؤثر عليهم تلك العوامل سوى التفرقة والنفرة والبغضاء، وأصبح بنو أمية وبنو العباس يطعنون في نسب الفاطميين، ويحكمون بابتداعهم، بل بكفرهم وتوجيه الدعاة ونشر الدعوة موجب لقطع الصلاة، موجب لتفرق آراء العلماء وتدابرهم، وكل ذلك مؤثر على الفقه تأثيرا عظيما، ومن التعصب السياسي نشأ التعصب المذهبي، وبه تأيد وتأبد.   1 الغزنوي فاتح الهند، وأحد كبار القادة امتدت سلطته من أقاصي الهند إلى نيسابور، وكانت عاصمتهم غزنة، كان حازما، صائب الرأي، يجالس العلماء ويناقشهم وله التصانيف في الفقه والحديث والخطب والرسائل وله شعر جيد، ومن تصانيفه كتاب "التفريد" على مذهب أبي حنيفة مشهور في بلاد غزنة وهو في غاية الجودة وكثرة المسائل.. مات سنة إحدى وعشرين وأربعمائة فيما ذكره الذهبي في وفاته "الجواهر المضية" 2/ 157. 2 هو الحسن بن علي بن إسحاق الطوسي من جلة الوزراء، كان مجلسه عامرا بالقراء والفقهاء أنشأ المدارس بالأمصار ورغب في العلم، وسمع الحديث وأسمعه توفي سنة 485هـ ترجمته في "وفيات الأعيان" 2/ 128، 131، وطبقات الشافعية 3/ 135، 145. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 16 حدوث مادة الكاغد وتأثيره على الفقه : اعلم أنه زمن الدولة العباسية اخترع الفضل بن يحيى البرمكي أوراق الكاغد أو الكاغيط، وكان استعماله في الرسائل الرسمية أيام الخليفة المأمون العباسي، وفي أيامه كتبت فيه الكتب، وكان من أعظم التسهيلات لنشر العلم وتدوينه، ولذلك كانت المائة الثالثة زمن ظهور الدواوين الكبار في الإسلام ذات الجزء: 2 ¦ الصفحة: 16 المائة مجلد، بل المئات في مختلف العلوم تاريخيا وحديثا وفقها وغيرها، وما كانوا قبل ذلك قادرين على شيء من ذلك، لقلة المواد، فاختراع الكاغد مما أعان على ضخامة الفقه وعظمة تآليفه، والتوسع في أصوله وفروعه وخلافياته، ومما يتعلق بالآلة الموصلة إليه، كالحديث والنحو وغيرهما، وما دخلت صناعة الورق لأوروبا إلا بعد ذلك بقرون، فأول ما عرف بها في القرن الحادي عشر المسيحي الموافق للخامس الهجري، ولقد كان حدوث الطباعة أواسط القرن الخامس عشر المسيحي الموافق لأواسط القرن التاسع الهجري من أعظم العوامل على ترقية العلوم كافة في المعمور كله وانتشارها، ولقد سبقونا للمطبعة عند تأخرنا، كما سبقناهم للكاغد، فلم تستعمل الطباعة عندنا إلا بعدهم بأربعة قرون، لكن لا سبيل إلى الانتفاع بها لولا هذا الاختراع المهم الذي هو أعظم رقي قديم وحديث، فلولا الكاغد ما انتشرت الكتب والعلوم في الأقطار، ولا تبودلت الأفكار، فالفضل كل الفضل للفضل البرمكي، قالوا وكانت صناعة الكاغد معروفة في الصين قبل المسيح بسنين 1700، لكن الصين كان مغلقا لم ينتفع غيره منه بشيء فالفضل في انتشار هذه الصناعة للإسلام والعرب، وقد انتشرت عندهم سريعا، وجعلوا له المعامل في بغداد والشام ومصر وفاس والأندلس في شاطبة وبلنسية وطليطلة، ومن الأندلس دخلت صناعته لأوروبا بعد ظهوره عند العرب بأحقاب ويوجد الآن في مكتبة ليدن كتاب "غريب الحديث" يظن أنه كتب أوائل القرن الثالث الهجري في الكاغد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 17 الأئمة المجتهدون أصحاب المذاهب المدونة في هذا العصر : وتقدم في العصر قبله ثمانية: 262- تاسعهم الإمام إسحاق بن إبراهيم بن مخلد بن إبراهيم بن مطر التميمي الحنظلي 1 المروزي: أبو محمد أو أبو يعقوب الملقب بابن راهويه بضم الهاء وفتح الياء أو فتح الهاء والواو، نزيل نيسابور وعالمها، بل أحد أئمة الدين وأعلام المسلمين، وهداة المؤمنين، الجامع بين التقوى والفقه والحديث، الحفظ والصدق والورع والزهد. روى عن ابن عيينة، والدراوردي، ومعتمر بن سليمان، وابن علية، أحمد، وابن معين من أقرانه، وخلق بالحجاز، الشام والعراق وخراسان. وروى عنه البخاري، ومسلم، وأبو داود والترمذي والنسائي، وأخرجوا له جميعا إلا ابن ماجه، وروى عنه خلق كثير، منهم يحيى بن آدم من شيوخه، وأحمد بن حنبل، وابن معين، ومحمد بن يحيى الذهلي، وخلق كثير، آخرهم موتا أبو العباس السراج. وثناء الفضلاء عليه كثير قال فيه الإمام أحمد: لا أعلم لإسحاق نظيرا   1 ترجمته في تهذيب ابن عساكر 2/ 409، "وتهذيب التهذيب" 1/ 216 "وحلية الأولياء" 9/ 234، وتاريخ بغداد 6/ 345. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 18 إسحاق عندنا من أئمة المسلمين، وإذا حدثك أمير المؤمنين، فتمسك به، وقال: لم يعبر الجسر إلى خراسان مثله، وقال: لا أعرف له بالعراق نظيرا. وقال ابن حجر في الفصل الأول من "مقدمته": هو أمير المؤمنين في الفقه والحديث، وتناظر مع الشافعي في مسائل انظرها في ترجمته من "الطبقات" قال الخفاف: أملى علينا من حفظه أحد عشر ألف حديث، ثم قرأها في كتاب، فما زاد ولا نقص، وقال إبراهيم بن أبي طالب: أملى المسند1 كله من حفظه. وقال البخاري: توفي بنيسابور سنة 238 2 ثمان وثلاثين ومائتين عن سبع وسبعين سنة. 263- عاشرهم الإمام أبو ثور إبراهيم بن خالد بن اليمان: الكلبي البغدادي الفقيه أحد الأئمة المجتهدين3 روى عن ابن عيينة، وابن مهدي، والشافعي، ووكيع، وعنه الإمام مسلم خارج الصحيح، وأخرج له في الصحيح بواسطة، كما أخرج له أبو داود، وابن ماجه. وقال الذهبي في كتاب "العلو": أخذ عنه سفيان بن عيينة والكبار، قال أحمد: هو عندنا في مسلاخ4 الثوري أعرفه بالسنة منذ خمسين سنة وكفى بهذا شهادة. قال ابن حبان: كان أحد أئمة الدنيا فقها وعلما وورعا وفضلا وخيرا ممن صنف الكتب، وفرع على السنن، وذب عنها، وقمع مخالفيها. قال الخطيب: كان أولا يتفقه بالرأي حتى قدم الشافعي بغداد، فاختلف   1 يعني مسنده هو. 2 جاء في ترجمته في "طبقات الحنابلة" ص68: ولادته سنة 166، ووفاته سنة 243. 3 ترجمته في "تذكرة الحفاظ" 2/ 87، وتاريخ بغداد 6/ 65، وتهذيب التهذيب 1/ 118، وطبقات الشافعية 1/ 118، 119، وشذرات الذهب 2/ 93، ولسان الميزان 1/ 35. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 19 إليه، ورجع عن الرأي إلى الحديث. وقال ابن عبد البر: كان ثقة فيما يروي، وحسن النظر إلا أنه له شذوذا خالف في الحديث، بل في مسائل الفقه التي أغرب فيها. وقوله: وقد عدوه. هو جار مجرى الاعتذار عنه فيما شذ فيه، وأنه بحيث لا يعاب عليه الاجتهاد وإن أغرب فيه، فإنه أحد أئمة الفقهاء. ومن جملة شذوذ قوله بتقديم الوصية على الدين في التركة لتقدمها في القرآن قال تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} 1 وخالف في ذلك سائر الأئمة وقوفا مع ظاهر الآية من غير التفات إلى المعنى. وذكر له في "الطبقات السبكية" مسائل أخرى توفي ببغداد سنة 240 أربعين ومائتين وقد عده السبكي على عدته من المقلدين للشافعي، والذي صرح به غير واحد أنه كان مجتهدا مستقلا، فنسبته إليه نسبه المتعلم للمعلم لا المقلد للمقلد، فقد كان له مذهب مدون وأتباع كما قال في "المدارك" قال في "الديباج": إن أصحابه لم يكثروا، ولا طالت مدتهم، وانقطوا بعد ثلاثمائة. 264- حادي عشرهم الإمام أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل: العدناني الشيباني المروزي2 البغدادي الإمام الشهير الجليل المنفرد في زمانه بغاية الورع والزهادة، والمبرز على أقرانه بحفظ السنة النبوية، والذب عنها، جمع شتاتها، يدل على ذلك تلاميذه الذين تخرجوا به، وكتبه الكثيرة، وأشهرها "المسند" الذي اعتمده معاصروه ومن بعده بحيث إن الحديث إذا لم يوجد له أصل في "المسند" فلا صحة له غالبا، وجميع أصحاب المذاهب محتاجون إليه، معولون عليه.   1 سورة النساء الآية: 11. 2 المروزي نسبة إلى مرو الشاهجان وهي إحدى كراسي خراسان الأربعة: نيسابور، وهرات، وبلخ، وهناك مرو الروذ النسبة إليها مرو المروذي بخلاف مرو، فالنسبة إليها مروزي بزيادة الزاي، كما زادوها في الري، فقالوا: الرازي للفرق، والله أعلم. من ابن خلكان 1/ 27 و69 بتصرف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 20 رحل إلى الكوفة والبصرة ومكة والمدينة والشام والجزيرة، وروى عن هشيم، وإبراهيم بن سعد، وجرير بن عبد الحميد، وعمرو بن عبيد، ويحيى بن أبي زائدة، وعبد الرزاق، وابن علية، والوليد بن مسلم: ووكيع وابن مهدي، والقطان، وابن عيينة وخلائق، وروى عنه البخاري في باب ما يحل من النساء وما يحرم، وفي المغازي بواسطة، وكأنه لم يكثر عنه؛ لأن البخاري في رحلته الأولى لقي أشياخه، فاستغنى عنه بهم، وفي الأخيرة كان أحمد قطع التحديث، فروى عن أقرانه ابن المديني، وأكثر عنه فمن دونه. وروى عنه ولداه السيدان الحفاظان صالح وعبد الله، ومسلم، وأبو داود وغيرهم، بل روى عنه الشافعي، وابن مهدي، الأسود بن عمر، ويزيد بن عمر من شيوخه، وابن معين، وابن المديني من أقرانه، وأبو زرعة، والأثرم، والكوسج وخلق آخرهم موتا أبو القاسم البغوي. وقد أفردت ترجمته ومناقبه بالتصنيف قال أبو زرعة: إنه كان يحفظ ألف ألف حديث، والذي له في المسند نحو ثلاثين ألف حديث، وفي التفسير مائة وعشرون ألفا. قال أبو زرعة: حزرت كتب أحمد يوم مات، فكانت اثني عشر حملا وعدلا، وكل ذلك يحفظه عن ظهر قلب. قال عبد الله ولده، قال لي أبي: خذ أي كتاب شئت من كتب وكيع، فإن شئت أن تسألني عن الكلام حتى أخبرك عن الإسناد، أو عن الإسناد حتى أخبرك عن الكلام. ولد أحمد سنة 164 أربع وستين ومائة، وامتحن في رمضان سنة 220 عشرين ومائتين، وتوفي ببغداد سنة 241 إحدى وأربعين ومائتين رحمه الله. ثناء الناس عليه: أما ثناء الناس عليه، فكثير: قال في "المدارك": وأما زهده وورعه فأشهر من أن يذكر، وقد حاز هو والثوري في ذلك قصب السبق، ومزيد الشهرة، وإن كان لبقية الأئمة من ذلك الحظ الأوفر، والنصيب الأكبر، قال الشافعي: خرجت من بغداد وما خلفت فيها أفقه ولا أورع ولا أزهد ولا أعلم من ابن حنبل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 21 محنته وظهور حزبه: قال ابن المديني: إن الله أعز الإسلام برجلين: أبي بكر يوم الردة وابن حنبل يوم المحنة، وكفاك بابن المدين شاهدا عدلا، قال بشر الحافي قام أحمد مقام الأنبياء قد تداولته أربعة من الخلفاء بالضراء تارة، وبالسراء، أخرى، وهو معتصم بربه: المأمون، والمعتصم، والواثق، بالضرب والحبس وبعضهم بالإخافة والإرهاب، فما ترك دينه لشيء من ذلك، وبذلك صار زعيم حزب عظيم من أحزاب الإسلام حتى إن العلم إذا وضعه أحمد، لم يرتفع، وإذا رفعه، لم ينحط، وإذا قال في علم: نعم، صار مقبولا محبوبا ثم امتحن في أيام المتوكل بالتكريم والتعظيم، وبسط الدنيا، فما ركن إليها، ولا انتقل عن حالته الأولى، وذلك أنه امتحن محنة عظيمة ليقول بخلق القرآن ثمانية وعشرين شهرا وهو في العذاب ثابت محتسب، وكان ثباته سببا في الإفراج عنه وعن المسلمين. جاءه المروذي يوما، وقال: يا أستاذ هؤلاء قدموك للضرب، والله يقول: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} فقال: يا مروذي اخرج وانظر قال: فخرجت ونظرت في رحبة دار الخليفة، فرأيت خلقا كثيرا، والصحف والأقلام في أيديهم، فقلت: أي شيء تعملون؟ فقالوا: ننظر ما يقول أحمد، فنكتبه، فرجع إلى أحمد وأخبره، فقال: يا مروذي أضل هؤلاء، كلا بل أموت ولا أضلهم، قال المروذي: رجل هانت عليه نفسه في الله. وقد ناظر ابن أبي دؤاد وهو في قيوده، فغلبه بالحجة، فانكشفت بسببه تلك الظلمة عن علماء السنة رحمهم الله، على أن محنته فيما يظهر كانت سياسية أكثر منه دينية، فإنها بإشارة من ابن أبي دؤاد الذي كان قاضيا، وله الحظوة التامة عند الخلفاء الثلاثة الأول، فلما كانت أيام المتوكل وغضب عليه وعلى ولده، وعزله عن القضاء والمظالم، وصادر ماله، أفرج عن أحمد، وبمراجعة ترجمة ابن أبي دؤاد في ابن خلكان1 وغيره يظهر لك ما قلناه.   1 1/ 81، وانظر تاريخ بغداد 4/ 141، 156، ولسان الميزان 1/ 17. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 22 وقد تولى المتوكل نشر مذهب أهل السنة، ونصره وإيقاع المصائب بالمعتزلة أكثر مما أوقع سلفه بأهل السنة، فالمسألة كانت سياسية أكثر منها دينية بدليل أن الخلاف الذي هولوا به في مسألة الكلام تبين أنه لفظي؛ إذ الصفة القائمة بذاته تعالى قديمة، والمعتزلة لا يقرون بقيام الصفات بالقديم فرارا من تعدد القدماء والحروف والأصوات التي ننطق بها نحن حادثة وتعصب بعض المنتسبين لابن حنبل، فقالوا بقدمها، بل قالوا: إن الجلد وغلاف المصحف أزليان وهو جهل أو عناد، ومثله لا يعد في آراء أهل العلم. فتبين أنه لا خلاف إلا في إثبات قيام الصفات به تعالى، وهكذا جل الخلاف المنسوب للمعتزلة وأهل السنة آيل إلى هذا فهي مسائل حزبية سياسية لا مذهبية دينية1. ومن أعجب ما يراه الناظر المتبصر في هذه المسألة أن ابن حنبل وحزبه تحرجوا أن يقولوا: إن القرآن مخلوق؛ لأنه لم يرد عن النبي -صلى الله عليه وسلم، ولا عن السلف الصالح وأنعم وأكرم بالوقوف عند حد ما ورد، لكنهم أنفسهم لم يقفوا عند حد ما ورد، بل قالوا: إنه غير مخلوق، وإنه قديم، وكلا اللفظين لم يردا أيضا، فكان الاعتراض مشترك الإلزام، بل ورد في القرآن: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} 2 الآية، ولعمري أنه لا فرق بين محدث ومخلوق، بل الذي يقول: إنه قديم، وإنه غير مخلوق هو الذي بظاهر كلامه يناقض الوارد وإن كان قصده صحيحا؛ لأنه يريد المعنى القديم الذي هو صفة الحق سبحانه وهي قديمة كما أن من قال: مخلوق ومحدث يريد الأصوات والحروف، وعلى كل حال كل من كان حر الضمير واللسان يقف باهتا كيف وقع هذا الخلاف، وسفكت لأجله دماء، واستبيحت أعراض في لا شيء ما ذاك إلا أنها مسائل سياسية طليت   1 بل دينية أولا. فإن المعتزلة زعموا أن صفات الله تعالى غير ذاته، وسواه سبحانه مخلوق، فقالوا تبعا لهذا الزعم: إن القرآن وهو كلام الله مخلوق، وأهل السنة قائلون: إن صفات الله تعالى قديمه بقدمه سبحانه ومن تلك الصفات الكلام فنقول تبعا لهذا: إن القرآن هو كلام الله قديم غير مخلوق، وهو الحق. 2 سورة الأنبياء: 3 قال القرطبي: محدث يريد في النزول تلاوة جبريل على النبي -صلى الله عليه وسلم- فإنه كان ينزل سورة بعد سورة، وآية بعد آية. تفسير القرطبي: 11/ 266. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 23 بطلاء الدين تمويهًا على المغفلين. عقيدته: قد رموه هو وأصحابه بالحلول وبالتجسيم وبالجهة حيث قال بالفوقية والعلو الواردين في النصوص والاستواء، ونسبوا إليه القول بقدم الحروف والأصوات، وكل ذلك غير صحيح، وإنما هم سلفيون يقتصرون على الوارد، ولا يخوضون في علم الكلام، ولا التأويل، بل يفوضون ويعتقدون في نحو الاستواء واليد والعلو أنها صفات لا نعلم كنهها مع كمال التنزيه عن سمات الحدوث. وهذا محض التوحيد الحق، فإن القدر الوارد في الكتاب والسنة القطعية من صفات الباري يجب أن يكون حدا مانعا يوقف عنده ويفوض في فهمه، ولا يتطلع إلى ما سواه، فاجناب أعظم من أن يقاس {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 1 نعم حملتهم على الأشعرية وعلماء الكلام من أهل السنة، وتنديد من ندد بهم منهم كالذهبي حملة غير مستحسنة، فالحنابلة رأي استصوبوه لا يسوغ لهم التنديد بأعلام الأمة فيما سلكوه من التأويل الذي لم يجزموا بأنه مراد، بل طرقوه احتمالا، لا سيما تنديدهم بهم في ذبهم عن عقائد السنة بالبراهين القطعية، وهدم بناء الاعتزال بالأسلحة التي بها كان بناؤه، ولولا ذلك لبقي سائدا إلى اليوم، فإن جمود الحنابلة لم يكن مفيدا في هدم قواعد الاعتزال، والذي أفاد في هدمها هو الإمام الأشعري الذي فل الحديد بالحديد كما يأتي لنا في ترجمته، نعم إن جهلة الحنابلة أداهم الجمود على الظاهر إلى بعض معتقدات فاسدة ففي تاريخ ابن العبري إن الخليفة الراضي العباسي لما وقع تشغيب من الحنابلة خرج توقيع بما يقرأ عليهم، ومنه: إنكم تارة تزعمون أن صورة وجوهكم القبيحة السمجة على مثال رب العالمين، تذكرون الكف والأصابع والرجلين والنعلين الذهب والشعر القطط والنزول إلى الدنيا، فلعن الله شيطانا زين لكم هذه المنكرات ما أغواه إلخ ... انظر عدد 283 منه وإلى هذه المعتقدات   1 سورة الشورى: الآية: 11. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 24 يشير الزمخشري في نظم رمز فيه إلى ما تلمز به المذاهب الأربعة، وهو: لئن سألوا عن مذهبي لم أبح به ... وأكتمه كتمانه لي أسلم فإن حنفيا قلت قالوا بأنني ... أبيح الطلا وهو النبيذ المحرم وإن مالكيا قلت قالوا بأنني ... أبيح لهم أكل الكلاب وهو هم وإن شافعيا قلت قالوا بأنني ... أبيح نكاح البنت والبنت تحرم وإن حنبليا قلت قالوا بأنني ... ثقيل حلولي بغيض مجسم تحيرت من هذا الزمان وأهله ... ولا أحد من أهله قط يسلم وعلى كل حال فالإمام أحمد والجلة من أصحابه براء من تلك المعتقدات الزائغة1. قواعد مذهب ابن حنبل في الفقه: مبدؤه قريب من مبدإ الشافعي؛ لأنه تفقه عليه حتى إن الشافعية يعدونه شافعيا، ولكن الحق أنه مذهب مستقل وأن نسبته للشافعي كنسبة أبي يوسف لأبي حنيفة غير أن مذهب أبي يوسف ألف مع مذهب أبي حنيفة، فامتزجا بخلاف أحمد، فقد ألف مذهبه مستقلا. قاله الدهلوي. قال في "إعلام الموقعين": فتاوى أحمد بن حنبل مبنية على خمسة أصول أحدها: النصوص القرآن والحديث المرفوع، فإذا وجده، أفتى بموجبه ولم يلتفت إلى ما خالفه ولا من خالفه كائنا من كان، ولهذا لم يلتفت إلى خلاف عمر في المبتوتة لحديث فاطمة بنت قيس2 وساق أمثلة من ذلك، قال: وهذا كثيرا جدا،   1 يحسن مراجعة "دفع شبه التشبيه" لابن الجوزي في هذا الباب. 2 هو في صحيح مسلم 2/ 1118 رقم "46" ولفظه عن أبي إسحاق قال: كنت مع الأسود بن يزيد جالسا في المسجد الأعظم ومعنا الشعبي فحدث الشعبي بحديث فاطمة بنت قيس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يجعل لها سكنى ولا نفقة ثم أخذ الأسود كفا من حصى، فحصبه، فقال: ويلك تحدث بمثل هذا، قال عمر: لا نترك كتاب الله، وسنة نبينا -صلى الله عليه وسلم- لقول امرأة لا ندري لعلها حفظت أو نسيت لها السكنى والنفقة، قال الله عز وجل: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 25 ولم يكن يقدم على الحديث الصحيح عملا ولا رأيا، ولا قياسا، ولا قول صحابي، ولا عدم علمه بالمخالف الذي يسميه كثير من الناس إجماعا، ويقدمونه على الحديث الصحيح، وقد كذب أحمد من ادعى هذا الإجماع، ولم يسغ تقديمه على الحديث الصحيح، وكذا الشافعي في رسالته الجديدة ولفظه: ما لا يعلم فيه خلاف، فليس إجماعا قال: ونصوص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أجل عند أحمد وسائر أئمة الحديث من أن يقدموا عليها توهم إجماع مضمونه عدم العلم بالمخالف، لو ساغ، لتعطلت النصوص، وساغ لكل من لم يعلم خلافا أن يقدم جهله بالمخالف على النصوص. الأصل الثاني: فتاوى الصحابة، فإذا وجد لأحدهم فتوى لا يعرف لها مخالفا منهم فيها لم يعدها إلى غيرها، ولم يقل: إن ذلك إجماع، ولا يقدم على هذا عملا ولا رأيا ولا قياسا. الأصل الثالث: إذا اختلف الصحابة، تخير من أقوالهم أقربها إلى الكتاب والسنة ولم يخرج عن أقوالهم، فإن لم يتبين له موافقة أحد الأقوال حكى الخلاف ولم يجزم بقول، ويأتي عنه أنه قد يقدم قول الصحابي على الحديث المرسل. الأصل الرابع: الأخذ بالمرسل والحديث الضعيف إذا لم يكن في الباب شيء يدفعه وهو الذي رجحه على القياس، وليس المراد عنده بالضعيف الباطل، ولا المنكر، ولا ما في روايته متهم بحيث لا يسوغ الذهاب إليه، بل هو عنده قسيم الصحيح، وقسم من أقسام الحسن، ولم يكن يقسم الحديث إلى صحيح وحسن وضعيف، بل إلى صحيح، وضعيف، وللضعيف عنده مراتب، فإذا لم يجد في الباب أثرا يدفعه، ولا قول صاحب، ولا إجماع على خلافه، كان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 26 العمل به أولى من القياس، ولا أحد من الأئمة إلا وهو موافقة على هذا الأصل في الجملة، ثم ضرب أمثلة من كلام الشافعي وأبي حنيفة ومالك. الأصل الخامس: القياس وهو عنده مستعمل للضرورة بحيث إذا لم يجد حديثا، ولا قول الصحابي، ولا مرسلا ولا ضعيفا قال به. فهذه الأصول الخمسة من فتاويه، وعليها مدارها، ويتوقف إذا تعارضت الأدلة، وكان شديد الكره والمنع للفتوى في مسألة ليس فيها أثر عن السلف، ويسوغ إفتاء فقهاء الحديث وأصحاب مالك، ويدل عليهم، ويمتنع من إفتاء من يعرض عن الحديث. ا. هـ. منه. وليست أصول أحمد محصورة فيما ذكر، بل من أصوله سد الذرائع الذي هو أحد أرباع التكليف كما قال ابن القيم نفسه في عدد "136" من الجزء الثالث وأطال في الانتصار له، واستدل له بتسعة وتسعين دليلا، فانظره، وله أصول أخرى تقدمت الإشارة إليها في مبحث الاستدلال أول الكتاب ومن أصوله إبطال الحيل إلا ما خلص من المحارم، ولم يوقع في المآثم، وتقدمت الإشارة إليه. هل يعتد بمذهب أحمد في الخلافيات: لم يعتبر ابن جرير الطبري في الخلافيات مذهب ابن حنبل وكان يقول إنما هو رجل حديث لا رجل فقه، وامتحن ذلك، وقد أهمل مذهبه كثير ممن صنفوا في الخلافيات كالطحاوي والدبوسي1 والنسفي في منظومته، والعلاء السمرقندي والفراهي2 الحنفي أحد علماء المائة السابعة في منظومته ذات العقدين، وكذلك أبو محمد عبد الله بن إبراهيم الأصيلي المالكي في كتابه "الدلائل" والغزالي في "الوجيز" وأبو البركات النسفي في "الوافي" ولم يذكره   1 بتخفيف الباء كما في حاشية الكمال على المحلى في القياس قال نسبة إلى دبوس قرية من قرى سمرقند. ا. هـ. مؤلف. 2 اسمه مسعود بن أبي بكر بن حسين توفي سنة 640هـ مترجم في "الجواهر المضية" 2/ 172. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 27 ابن قتيبة في "المعارف" وذكره المقدسي في "أحسن التقاسيم" في أصحاب الحديث فقط مع ذكره داود الظاهري في الفقهاء، واعتبره كثير من المتقدمين كالإمام الترمذي في جامعه، فإنه مع عدم ذكره لأبي حنيفة وصاحبه إلا نادرا أو في جملة عموم الكوفيين ينص على مذهبه بالخصوص، واعتبره كثير من المتأخرين أيضا منهم ابن هبيرة الحنبلي في كتابه "الإشراف في مذاهب الأشراف" الذي ألفه في مسائل الخلاف بين الأئمة الأربعة وغيره. وقال في "المدارك" إنه دون الإمامة في الفقه وجودة النظر في مأخذه عكس أستاذه الشافعي. لكن أصحابه لا يسلمون ذلك، بل يعتبرون من الرعيل الأول في الفقه والاستنباط قال في "إعلام الموقعين": جمع الخلال نصوص أحمد في "الجامع الكبير" فبلغ عشرين سفرا أو أكثر، ورويت فتاويه ومسائله وحدث بها قرنا بعد قرن قال: وكتب من كلامه وفتاويه أكثر من ثلاثين سفرا ومن الله علينا بأكثرها فصارت إماما وقدوة لأهل السنة على اختلاف طبقاتهم حتى إن المخالفين لمذهبه بالاجتهاد والمقلدين لغيره يعظمون نصوصه وفتاويه، ويعرفون حقها وقربها من النصوص، وفتاوى الصحابة، ومن تأمل فتاويه وفتاوى الصحابة رأى مطابقة رأي الجميع كأنها تخرج من مشكاة واحدة حتى إن الصحابة إذا اختلفوا على قولين جاء عنه في المسألة روايتان حتى إنه ليقدم فتاويهم على الحديث المرسل. أتباع أحمد: قال الغزالي: كان سفيان وابن حنبل من أشهر الأئمة بالورع وأقلهم أتباعا، وأما الآن بعد الخمسمائة، فمذهب سفيان متروك، وقد أجمع المسلمون على الأربعة المعلومين الذين منهم أحمد بن حنبل. يعني إلا ما كان من زيدية اليمن والشيعة بفارس، وعلى كل حال فلم يزل أتباعه أقل من أتباع بقية الأربعة إلى الآن، ولو لم يكن له الفضل إلا جمعه السنة المتفرقة في الأقطار وتدوينها في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 28 مسند لكفاه شرفا، فجزاه الله عن المسلمين خيرا. 265- ثاني عشرهم الإمام أبو سليمان داود بن علي 1 بن خلف: الأصبهاني الأصل البغدادي الدار، المشهور بداود الظاهري نسبة إلى ظاهر الكتاب والسنة لتمسكه به، أحد أئمة المسلمين وهداتهم كان ورعا ناسكا زاهدا، روى عن إسحاق بن راهويه، وأبي ثور وغيرهما. انتهت إليه رئاسة العلم ببغداد في وقته، قيل: كان يحضر مجلسه أربعمائة طليلسان أخضر، ووصفه في "المدارك" بما وصف به أحمد من معرفته الحديث وإن فاقه أحمد فيه دون الإمامة في الفقه وإلى جودة النظر في مأخذه؛ إذ لم يتكلما في نوازل كثيرة كلام غيرهما، وميلهما لظاهر السنة، لكن داود نهج اتباع الظاهر ونفي القياس قائلا: إن في عمومات الكتاب والسنة ما يفي بما في الشريعة من وجوب وحرمة وغيرها، وما لم نجد نصا على حكمه ظاهرا، فقد تجاوز الله عنه. قال الشهرستاني في "الملل": إنه لم يجوز القياس والاجتهاد في الأحكام قائلا: إن الأصول الكتاب والسنة والإجماع فقط ومنع أن يكون القياس أصلا من الأصول، وقال: أول من قاس إبليس. ا. هـ. فخالف السلف والخلف وما مضى عليه عمل الصحابة فمن بعدهم حتى قال بعض العلماء: إن مذهبه بدعة ظهرت بعد المائتين، وأنكر عليه إسماعيل القاضي أشد إنكار، وقال إمام الحرمين: إن المحققين لا يقيمون للظاهرية وزنا، وخلافهم لا يعتبر. قال التاج السبكي: ومحمله عندي على ابن حزم وأمثاله من نفاة القياس،   1 أبو سليمان داود بن علي بن خلف الأصبهاني: أبو سليمان الظاهري الأصبهاني البغدادي ت"270". ديوان الضعفاء "1331"، الميزان "2/ 14"، الأنساب "9/ 129"، نسيم الرياض "4/ 492"، لسان الميزان "1/ 422"، البداية والنهاية "11/ 47"، تاريخ بغداد "8/ 369"، سير النبلاء "13/ 97"، ضعفاء ابن الجوزي "1/ 266". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 29 وأما داود، فمعاذ الله أن يقول إمام الحرمين أو غيره: إن خلافة لا يعتبر، فلقد كان جبلا من جبال العلم والدين، له من سداد الرأي والنظر، وسعة العلم ونور البصيرة ما يعظم وقعه، وقد دونت كتبه، وكثرت أتباعه، وذكره الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في "طبقاته" من الأئمة المتبوعين، وقد كان مشهورا في زمن إمام الحرمين وبعده بكثير لا سيما في بلاد فارس شيراز وما والاها إلى ناحية العراق، وفي بلاد المغرب الأندلس. كان داود من عقلاء العالم حتى قال فيه ثعلب: عقله أكثر من علمه، ومن كلامه: خير الكلام ما دخل الأذن من غير إذن. ولد بالكوفة سنة 200 مائتين، وتوفي ببغداد سنة 270 سبعين ومائتين في رمضان، وكان له أتباع في بغداد وشيراز وما والاها يقال لهم: الظاهرية، ووصل مذهبه إلى الأندلس، ثم انقرضوا بعد الخمسمائة. أصول مذهب الظاهرية: مبدؤهم هو التمسك بظواهر آيات القرآن والسنة، وتقديمها في التشريع على مراعاة المصالح والمعاني التي لأجلها وقع تشريع الحكم. وأصلهم هذا قد خالفوا فيه جمهور أهل المذاهب الأربعة الذين أخذوا بالقياس وغيره من بقية الأصول السابقة، فإن الجمهور لم يقطعوا النظر عن روح التشريع، ومراعاة المعاني، ولم يجمدوا على الظواهر، بل نظروا إلى المقاصد، ورأوا أن ألفاظ الشرع وسائل لتلك المعاني وإن اختلفت مراتبهم في ذلك حتى إن منهم من يقدم القياس على خبر الواحد كما سبق، فكان الظاهرية ضدهم جميعا إلا أن الضدية اشتدت بينهم وبين الحنفية المغرقين في القياس، ثم المالكية، ثم الحنابلة، ثم الشافعية، ولا شك أن مذهب أهل القياس أقرب إلى الترقيات العصرية، وتطورات الزمان والمكان، والحال بخلاف مذهب الظاهرية، فإنه مخالف لناموس العمران والمكان، والاجتماع البشري المبني على النظر للمصالح العامة، متباعد عن اعتبار الحكم التي شرعت الشريعة لأجلها وحقائق روح التشريع في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 30 الأحكام. ومن أصول داود الظاهري ما نص عليه في رسالة الأصول ونصها: الحكم بالقياس لا يجب، والقول بالاستحسان لا يجوز، ثم قال: ولا يجوز1 أن يحرم النبي -صلى الله عليه وسلم، فيحرم محرم غير ما حرم؛ لأنه يشبهه إلا أو يوقفنا على علة من أجلها وقع التحريم مثل أن يقول: حرمت الحنطة؛ لأنها مكيلة، واغسل هذا الثوب؛ لأن فيه دما، واقتل هذا لأنه أسود يفهم بهذا أن الذي أوجب الحكم من أجله هو ما وقف عليه، وما لم يكن كذلك، فالتعبد فيه ظاهر، وما جاوز ذلك، فمسكوت عنه، داخل في باب ما عفي عنه. ا. هـ. نقله في "الطبقات" فهو على هذا لا يسلم من القياس إلا ما كان منصوص العلة نصا صريحا على أن الذي يظهر من كلامه أنه مع النص على العلة لا يجب العمل به، وإنما يجوز فتأمل ذلك. قال ابن السبكي: والذي صح عند الشيخ الإمام الوالد أنه لا ينكر القياس الجلي، وإن نقل إنكاره عنه ناقلون، وإنما ينكر الخفي منه، ومنكر القياس مطلقا الخفي والجلي طائفة من أصحابه زعيمهم ابن حزم، وفي الاعتداد بخلاف الظاهرية في الفروع. ثالثها: ما لا يخالف القياس الجلي انظر الطبقات غير أن ما نقله عن والده ليس هو أول من قاله، بل وجدت نحوه للغزالي في "المستصفى"، ونصه: فلا يظن بالظاهري المنكر القياس إنكار المعلوم والمقطوع به من هذه الإلحاقات، لكن لعله ينكر المظنون منه، ويقول: ما علم قطعا أنه لا مدخل له في التأثير، فهو كاختلاف الزمان والمكان، والسواد والبياض، والطول والقصر، فيجب حذفه   1 مراده بهذه الجملة المنع من قياس الشبه بمعنى أنه إذا ورد نص بتحريم الحمر الأنسية فلا يجوز لنا أن نقيس عليها بتحريم البغال لشبهها بها إلا أن يوقفنا على العلة التي من أجلها وقع تحريم الخمر بأن تكون العلة منصوصة نصا صريحا، فهو يقر بالقياس في الجملة، ولكن لا يثبت من مسالكه إلا مسلك النص دون الإيماء أو المناسبة أو الشبه مثلا هذا حاصل كلامه وعلى هذا فمن نسب إليه القول بنفي القياس مطلقا لم يصب، وكذا من قال: إنه يقول بقياس الأحرى. ا. هـ. "مؤلف". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 31 عن درجة الاعتبار، أما ما يحتمل، فلا يجوز حذفه بالظن. قال الغزالي: وإذا بان لنا إجماع الصحابة أنهم عملوا بالظن، كان ذلك دليلا على نزول الظن منزلة العلم في وجوب العلم؛ لأن المسائل التي اختلفوا فيها، واجتهدوا كمسألة الحرام ومسألة الجد وحد الخمر والمفوضة وغيرها من المسائل ظنية وليست قطعية. ا. هـ. منه "عدد 276 من جزء الثاني". ومن أصولهم عدم العمل بخبر الواحد؛ لأنه ظني زاعمين أنهم لا يعملون بدليل ظني وقد خالفهم الجمهور من الأمة فعملوا بالدلائل الظنية في الفروع. تصوير مناظرة الظاهرية وغيرهم: قد عاب أصحاب المذاهب الأربعة مذهب الظاهرية كثيرا وأنحوا عليهم باللائمة، ورموهم بالجمود وعدم النظر للمعاني المقصودة من روح التشريع كما تقدم لنا بعض ذلك في الكلام على القياس، وفي ترجمة أبي حنيفة، ومن جملة ما استدلوا به عليهم قوله تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} 1 فإذا كان الله ينعى على الكفار اقتصارهم على فهم ظواهر الدنيا، فكيف بمن اقتصر على ظواهر الشريعة. وقال تعالى: {أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ} 2 وقال الظاهرية: إن القصد من الشريعة هو التعبد، وظهور سر الامتثال، أما التعمق في القياس والعلل، فيخرجها من حد التشريع الإلهي إلى التشريع الوضعي البشري. ولا ننكر أن هناك عللا ومصالح للأحكام إذا نص عليها، أو قطع بعدم الفارق، أما عند عدم ذلك، فتطلعنا وتكلفنا لاستخراج الخفي منها يخرجها إلى أن تكون ألغازا ومحاجاة، فمن أين يستفاد أن العلة في تحريم الربا هي الاقتيات والادخار أو الطعمية أو الكيل والوزن كما يقول أهل القياس.   1 سورة الروم الآية: 7. 2 سورة الرعد الآية: 33. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 32 ومن أين يفهم وجوب الدم على من قطع من جسده ثلاث شعرات من قوله تعالى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} 1. ومن أين تدل الآية على ذلك، ومن أين يستفاد من قوله عليه السلام: "الولد للفراش" 2 أنه لو قال له الولي بحضرة الحاكم: زوجتك ابنتي وهو بأقصى الشرق وهي بأقصى الغرب، فقال: قبلت هذا التزويج وهي طالق ثلاثا، ثم جاءت بولد لأكثر من ستة أشهر أنه ابنه، وقد صارت فراشا بمجرد قوله: قبلت ومع هذا لو كانت له أمة يطؤها ليلا ونهارا لم تكن فراشا له، ولو أتت بولد، لم يلحقه إلا أن يدعيه ويستلحقه مع أن حديث "الولد للفراش" ورد في الأمة. ومن أن يفهم من قوله عليه السلام: "ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم فإن لم يكن له مخرج فخلوا سبيله فإن الإمام أن يخطئ في العفو خير له من أن يخطئ في العقوبة" 3 أن من عقد على أمه أو ابنته أو أخته ووطئها، فلا حد عليه، وأنه في معنى الشبهة التي تدرأ الحد وهي الشبهة في المحل، أو الفاعل، أو الاعتقاد، ولو عرض هذا على فهم من عرض عليه من العالمين، لم يفهمه من هذا اللفظ بوجه من الوجوه، وأن من يطأ خالته أو عمته بملك اليمين، فلا حد عليه مع علمه بأنها خالته أو عمته وبتحريم الله لذلك، ويفهم هذا كله من "ادرءوا الحدود بالشبهات".   1 سورة البقرة الآية: 196. 2 رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه. 3 رواه ابن ماجه "3545" بلفظ "ادفعوا الحدود عن عباد الله ما وجدتم لها مدفعا"، وفي سنده إبراهيم بن الفضل المخزومي وهو ضعيف أما في الكتاب فرواية الترمذي "1424" من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها، ثم قال الترمذي: لا نعرفه مرفوعا إلا من حديث محمد بن ربيعة عن يزيدن بن زياد. ويزيد ضعيف وأسند في العلل عن البخاري: يزيد منكر الحديث ذاهب، وصححه الحاكم وتعقبه الذهبي به، قال: والموقوف أقرب إلى الصواب، انظر فتح القدير شرح الهداية "4-116". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 33 وأضعاف أضعاف هذا مما لا يكاد ينحصر. فهذا التمثيل والتشبيه هو الذي ننكره وننكر أن يكون في كلام الله دلالة على فهمه بوجه من الوجوه ومن أين يفهم من قوله: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً} 1، ومن قوله: {فَاعْتَبِرُوا} 2 تحريم بيع الكشك باللبن، وبيع الخل بالعنب، ونحو ذلك، وقد قال الله تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} 3 ولم يقل إلى آرائكم وأقيستكم، ولم يجعل الله آراء الرجال وأقيستها حاكمة بين الأمة أبدا، وقال: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} 4 فإنما منعهم من الخيرة إذا كان حكم لله أو لرسوله لا أقيسة القياسين. هذه عيون ألة الظاهرة وهي كثيرة. الردود عليهم: قال القياسيون: أما قوله تعالى: {فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} فلا حصر فيه على أن القياس على كلام الله وكلام رسول الله في معنى حكم الله وشرعه وإن كنا لا نقول فيه: قال الله، لعدم تنصيصه عليه بالخصوص، وقد أمر الله بحكم الصيد في أقل قليل في الدرهم والدرهمين، وحكم الزوجين فكيف بالأمور العظام، فإذا وقعت الفأرة، نجست ما حولها، وإذا وقع خنزير، فكيف لا نقيسه على الفأرة، وكيف لا نقيس البنتين على الأختين في استحقاق الثلثين مع تنبيه الله لنا على علة الإرث بقوله {آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا} 5 والقرآن لم يصرح بالثلثين، بل سكن عن حكم البنتين حيث قال: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ} 5 وظاهرة أن الاثنتين لهما أقل من الثلثين، فلو أخذنا بهذا الظاهر، لكان الأختان أقرب من البنتين وأمثال هذا كثير. فالنظر إلى المقاصد التي هي اللب واجب وراجع ما تقدم لنا في ترجمة   1 سورة النحل الآية: 66. 2 سورة الحشر الآية: 2. 3 سورة الشورى الآية: 10. 4 سورة الأحزاب الآية: 36. 5 سورة النساء الآية: 11. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 34 "هل أحكام الشرع معقولة المعنى". وأما ما اعترضوا به من التمحلات في الأحكام لسابقة، فهو وارد على تمحل في بعض تلك الجزئيات، ولا يلزم من عدم إصابة البعض في بعض جزئيات القياس بطلان القياس كليا، وقد مهد الناس مسالك التعليل، وبينوا المقبول من المردود، والصحيح من الفاسد، وبينوا القوادح كذلك بما تكفلت به كتب الأصول، فذلك ميزان الاعتدال يفيد المقبول قوة وغيره ضعفا، وعلى حال المجازفة برد القياس أو غير الجلي منه لا يقبله من له إمعان في موارد الشريعة، وما كان عليه السلف الصالح في طرق اجتهادهم، وإن شئت بسطا في ذلك، فانظر أول المجلد من "إعلام الموقعين". وعلى كل حال، فإن مذهب الظاهرية أثار في هذه المدة حربا عوانا تلاطمت أمواج حججة بين أهل القياس والظاهرية، وقد ارتفع عجاج المعترك إلى أقصى المغرب وأقصى المشرق، وأتى كل حزب بما لا يسعه المجال هنا من الحجج التي تتضاءل لها أفكار النظار الكبار على أننا قدمنا الإشارة إلى أنها وإن كانت في الظاهر خلافا في المبدإ، لكنها ترجع إلى الخلاف في المسائل والجزئيات، وإلا فالقياس لا بد منه وذلك مبني على أصل نبينه: هل لله في كل مسألة حكم؟ وهل النصوص وافية بالأحكام؟ قد انقسم المجتهدون في هاتين المسألتين ثلاثة أحزاب: حزب القياسيين يقولون: إن النصوص لا تحيط بأحكام الحوادث، وغلا بعضهم فقال: ولا بعشر معشارها، قالوا: وكل مسألة لا بد من حكم لله فيها وعليه، فالحاجة إلى القياس فوق الحاجة إلى النصوص، وحجتهم أن النصوص متناهية، وحوادث العباد غير متناهية، وإحاطة المتناهي بغير المتناهي محال، لكن لا نسلم أن الحوادث غير متناهية؛ إذ هي داخلة الوجود حالا أو استقبالا، وكل ما كان كذلك فهو متناه، سلمنا عدم التناهي في الأفراد، لكنها تنضبط بالأنواع، فيحكم لكل نوع بحكم تندرج فيه الأفراد غير المتناهية مثلا المنكوحات من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 35 الأقارب نوعان: بنات العم والعمة والخال والخالة وهذا مباح، وما سواهن من القريبات حرام، وما ينقض الوضوء محصور بالعد، فما سواه لا ينقض، وما يفسد الصوم وما يوجب الغسل، وما يوجب العدة، وما يمنع المحرم وأمثال ذلك، وإذا كان أرباب المذاهب يحصرونها بضوابط وجوامع تحيط بما يحل أو يحرم، أو يباح إلخ مع قصور بيانهم، فالله الذي بعث رسوله بجوامع الكلم أولى بذلك وأقدر سبحانه عن أن تكون هناك مشاركة في قدرة أو علم. وكم جاء في الكتاب والسنة من كلمات جامعة وهي قواعد عامة لأنواع من المسائل، وتدل دلالتين: دلالة طرد، ودلالة عكس، كما سئل -صلى الله عليه وسلم- عن أنواع من الأشربة كالبتع والمزر، فقال: "كل مسكر حرام" 1 و "كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد" 2 و"كل قرض جر نفعا فهو ربا"3 و "كل شرط ليس في كتاب الله، فهو باطل" 4 و "كل المسلم على المسلم حرام؛ دمه وماله وعرضه" 5 و"كل أحد أحق بماله من ولده ووالده والناس أجمعين"6 وسمى النبي -صلى الله عليه وسلم- هذه الآية جامعة فاذة: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} 7 وقال تعالى: {قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} 8 فدخل كل طيب مطعوم أو مشروب   1 أخرجه البخاري "10/ 35"، ومسلم "2001" من حديث عائشة، وأخرجه مسلم "2003" من حديث ابن عمر بلفظ "كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام"، وأخرج أبو داود والنسائي وصححه ابن حبان من حديث جابر مرفوعا "ما أسكر كثيره، فقليله حرام" وللنسائي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وسنده حسن. 2 أخرجه أحمد "6/ 270"، والبخاري "5/ 221"، ومسلم "1718" "18"، وفي رواية لمسلم "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه، فهو رد". 3 أخرجه الحارث بن أبي أسامة في مسنده من حديث علي وفي سنده سوار بن مصعب وهو متروك كما قال أحمد والدارقطني، ولذا قال السخاوي: إسناده ساقط. 4 أخرجه مالك "2/ 780، 781" والبخاري "4/ 315"، ومسلم "1504". 5 أخرجه مسلم "2563" و"2564". 6 أخرجه البيهقي من حديث حبان الجمحي، وقال الذهبي في "المهذب": لا يصح لانقطاعه. 7 أخرجه البخاري "8/ 558"، ومسلم "987" من حديث أبي هريرة. 8 المائدة الآية: 4. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 36 أو منكوح، ودخل في قوله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} 1 الآية كل فاحشة ظاهرة أو باطنة. الحزب الثاني الظاهرية الذين قالوا: إن النصوص وافية الأحكام، ونفوا القياس، وأنكر غلاتهم كابن حزم حتى الجلي منه، فقالوا: كل قياس باطل محرم، وفرقوا بين المتماثلين، وزعموا أن الشارع لم يشرع شيئا لحكمة، ونفوا تعليل أوامره ونهيه، وجزموا بأنه يفرق بين المتماثلين، ويقرن بين المختلفين، فكما أن فعله وخلقه منزه عن العلة والغرض والغاية كذلك تكاليفه وأوامره. ولما أغلقوا على أنفسهم باب التعليل والتمثيل، واعتبار المصالح والحكم الإلهية الراجعة منافعها إلينا، ضاقت عليهم النصوص، ولم توف لهم بحاجة النوازل، فوسعوا الظاهر والاستصحاب، وحملوها أكثر مما هو ممكن، ومع كونهم أحسنوا في الاعتناء بنصوص السنة ونصرتها، والمحافظة عليها، والبحث عنها، فقد وقع لهم فساد كبير، فإنهم مهما فهموا من النص حكما أثبتوه، ولم يبالوا وراءه، وحيث لم يفهموه، ادعوا استصحاب البراءة الأصلية، أو استصحاب حكم الإجماع في محل النزاع، أو استصحاب الوصف المثبت للحكم الشرعي حتى يثبت خلافه، وقالوا: ما لم نجد عليه نصا؛ فقد تجاوز الله عنه، لما ورد في2 حديث أحمد وغيره "إن الله فرض   1 الأعراف الآية: 33. 2 هذا الحديث أخرجه الترمذي أيضا بمعناه عن سلمان مرفوعا في كتاب اللباس قال: سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن السمن والجبن والفراء فقال: "الحلال ما أحل الله في كتابه، والحرام ما حرم الله في كتابه، وما سكت عنه، فهو مما عفا عنه" قال: وفي الباب عن المغيرة وهذا حديث غريب لا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه، وروى سفيان وغيره عن سليمان التيمي عن أبي عثمان عن سلمان قوله، وكأن الحديث الموقوف أصح، وسألت البخاري عن هذا الحديث فقال: ما أراه محفوظا، روى سفيان عن سليمان التيمي عن أبي عثمان عن سلمان موقوفا، قال البخاري: وسيف بن هارون البرجمي الراوي عن سليمان التيمي مقارب الحديث، وشيخ الترمذي فيه هو إسماعيل بن موسى الفزار يقال: حدثنا سيف بن هارون البرجمي، عن سليمان التيمي، عن أبي عثمان، عن سلمان قال: سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الحديث قلت: وإسماعيل بن موسى أخرج له أصحاب السنن عدا النسائي، قال فيه: ليس به بأس، وقال ابن عدي: أنكروا منه الغلو في التشيع. قلت: والحديث المذكور مع الحديث الذي أخرجه أحمد قصاري أمرهما خبر آحاد، وإجماع الصحابة ومن بعدهم على الاجتهاد والبحث عن حكم كل مسألة أقوى منهما، على أن هذا القسم السكوت عنه في الحديث يمكن حمله على المشتبهات التي ذكرت في الحديث فلا متمسك للظاهرية في الحديث والله أعلم. "المؤلف". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 37 عليكم فرائض فلا تضيعوها، وحد حدودا فلا تعتدوها، ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان، فلا تبحثوا عنها"1 قال الله تعالى: {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} 2 فإذا استعملنا القياس بطل القسم الثالث المعفو عنه، ويكفينا التمسك باستصحاب البراءة الأصلية، فإذا اعتبرتم هذا هو حكم الله في المسألة، فذاك وإلا، فلا دليل يصرح بأن لله في كل مسألة حكما، وهذا الحديث ناطق بأن هناك قسما قد عفا عنه، ولم يبينه، بل سكت عنه رحمة غير نسيان. وقد عاب جمهور الأمة عليهم أمورا، وشنعوا عليهم فيها. الأول: رد القياس الصحيح لا سيما المنصوص على علته التي يجري عليها مجرى النص على التعميم، فكيف يتوقف عاقل أن قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} 3 أنه نهى عن كل رجس، فيدخل شحمه وبعره وشعره كما لا يستريب مسلم أن قوله عليه الصلاة والسلام في الهرة "ليست بنجس، إنها من الطوافين عليهم والطوافات" 4 أن ما كان من   1 حديث حسن أخرجه الدارقطني ص205، والحاكم 4/ 15، والبيهقي 10/ 12، 13 من طرق عن داود بن أبي هند، عن مكحول، عن أبي ثعلبة ألا إن مكحول لا يصح له سماع منه، لكن يشهد له حديث أبي الدرداء بلفظ "الحلال ما أحل الله والحرام ما حرم الله في كتابه، وما سكت عنه، فهو مما عفا عنه" ثم تلا هذه الآية {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} أخرجه الحاكم وصححه والبيهقي 10/ 12، وقال الهيثمي في "المجمع" 7/ 75، بعد أن عزاه للبزار: ورجاله ثقات، وحديث سلمان الفارسي عند الترمذي "1726" وابن ماجه "3367" والحاكم 4/ 115، والبيهقي "9/ 320، 10/ 12" قال: سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن السمن والجبن والفراء فقال: "الحلال ما أحل الله في كتابه، والحرام ما حرم الله في كتابه، وما سكت عنه، فهذا مما عفا عنه"، وسنده ضعيف. 2 سورة المائدة الآية: 101. 3 سورة الأنعام الآية: 145. 4 أخرجه مالك 1/ 23، وأحمد 5/ 303، وأبو داود "75" والترمذي "92" والنسائي 1/ 55، وابن خزيمة، وابن حبان "121"، والحاكم 1/ 159، 160، ونقل البيهقي تصحيحه عن البخاري والدارقطني. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 38 الطوافين؛ فليس بنجس، وهل يستريب أحد أن الطبيب إذا قال: لا تأكل هذا الطعام فإنه مسوم، ولا تشرب هذا فإنه مسكر، إنه نهاه عن كل طعام مسموم، وكل شرب مسكر. وهذا إنما يرد على ابن حزم وغلاتهم، وإلا فجمهورهم أخذ بالقياس الجلي كما سبق، بل قالوا بالقياس في مواضع لم يقل به غيرهم فيها، فقد نقل أبو عمر بن عبد البر في "الاستذكار" عنهم أنهم أجازوا مسائل في الإجازة منعها غيرهم، كإعطاء دابة لرجل يسقي عليها بنصف ما يرزق بسعيه عليها، وأن يعطي الحمام لمن ينظر فيه بجزء مما يحصل من غلته كل يوم، وأمثال هذا من المجهولات في الإجارة قياسا على القراض والمساقاة، وعلى ما أباحه الله من إجارة المرضع، وما يأخذ الصبي من لبنها مجهول لاختلاف أحوال الصبي ولبن المرضع، والقرآن أجازه، نقله المواق في أول الإجارة، فها أنت تراهم قاسوا على المرضع والقراض والمساقاة، أما غيرهم، فلم يقس على ذلك، ورآها رخصة لا تتعدى محلها، وهم لم يروها رخصة، بل رأوها أصلا يقاس عليه لقطعهم بنفي الفارق، فيرونه قياسا جليا رغما عما يرونه من أن الأصل في العقود الفساد، فهذا يرونه أصلا خالف الأصل وهو من الغريب. الثاني: تقصيرهم في فهم النصوص، فكم من حكم دل عليه النص ولم يفهموا دلالته، لحصرهم الدلالة في مجرد ظاهر اللفظ دون إيمائه وتنبيهه وإشارته وعرفه عند المخاطبين، فلم يفهم غلاتهم كابن حزم من قوله تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} 1 ضربا ولا سبا ولا إهانة غير لفظة أف فقصروا في فهم كتاب الله، كما قصروا في اعتبار ميزانه الذي هو القياس. الثالث: أنهم حملوا الاستصحاب فوق ما يستحق، وجزموا بموجبه لعدم علمهم بالناقل، ولا يلزم من عدم علمهم به عدم وجوده، وليس عدم العلم   1 سورة الإسراء الآية: 23. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 39 علما بالعدم، ولا يجوز الاعتماد على الاستصحاب إلا إذا قطع المستدل بعدم الناقل، كالقطع ببقاء شريعة سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم، وقد قدمنا الكلام على أقسام الاستصحاب، فارجع إليه. الرابع: اعتقادهم أن عقود المسلمين وشروطهم ومعاملاتهم كلها على البطلان حتى يقوم دليل على الصحة، فإذا لم يقم عندهم دليل، استصحبوا بطلانه، فأفسدوا كثيرا من معاملات الناس وعقودهم وشروطهم بدون برهان من الله بناء على هذا الأصل الذي أصلوه، وجمهور أهل الاجتهاد على خلاف هذا، وأن الأصل في العقود والشروط الصحة إلا ما أبطله الشرع أو نهى عنه، ولا شك أن حكمهم بالبطلان حكم بالحرمة والتأثيم، ومعلوم أنه لا حرام إلا ما حرمه الله ورسوله {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ} 1 فكما أن الأصل في العبادات هو البراءة حتى يقوم دليل على الأمر والتكليف؛ لأن الله لا يعبد إلا بما شرعه على ألسنة رسله، فكذلك الصلة في المعاملات الصحة حتى يقوم دليل على خلافها؛ لأن البطلان والتأثيم تكليف واستبعاد، والأصل انتفاؤه إلى أن يرد شرعه على لسان رسوله، فإذا لم يرد، فهو من قسم ما سكت عنه رحمة منه تعالى غير نسيان كما تقدم في الحديث، كيف والله صرح بأنها على الإباحة فقال: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} 2 وفي السنن مرفوعا "المسلمون عند شروطهم" 3 وأما حديث "كل شرط ليس في كتاب الله، فهو باطل وإن شرط مائة شرط" 4 فمراده بكتاب الله حكمه، كقوله تعالى: {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} بدليل أن الحديث في الولاء، وكون الولاء لمن أعتق ليس هو في القرآن، وإنما   1 سورة يوسف الآية: 4. 2 سورة المائدة الآية: 1. 3 حديث قوي أخرجه الترمذي "1352" وابن ماجه "2352" من حديث عمرو بن عوف، وفي سنده كثير بن عبد الله وهو ضعيف عند الأكثر إلا أن البخاري ومن تبعه كالترمذي وابن خزيمة يقوون أمره، للحديث شاهد من حديث أبي هريرة بسند حسن عند أحمد 2/ 366، وأبي داود "3594" والحاكم 2/ 49، وصححه ابن حبان "1199"، وفي الباب عن عائشة وأنس عند الحاكم. 4 تقدم تخريجه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 40 هو في السنة، فالشرط المناقض لما أصله الكتاب والسنة باطل كشرط الولاء لبائع العبد الذي جعلته السنة لمن أعتق، وما سوى ذلك، فعلى البراءة الأصلية بدليل قوله في آخر الحديث "شرط الله أحق وأوثق". الخامس: أن عدم تسليمهم أن لله في كل حادثة حكما معينا مبني على تصويب المجتهدين كلهم فيما لا قاطع فيه، وقد برهن على ضعفه في الأصول. الحزب الثالث الذين توسطوا، فتمسكوا بالنصوص ظاهرها وإشاراتها وإيماءاتها واقتضاءاتها ومفاهيمها، فإذا لم يجدوا دلالة من الدلالات، تمسكوا بالقياس أو غيره من بقية الأدلة السابقة، فعملوا بكل الأدلة القوية التي عضدتها القرائن واللغة وموارد كلام العرب، وطريق الصحابة في استدلالاتهم وفهمهم وأحكامهم، لا يخرجون عن ذلك، ولا يغرقون في القياس، ولا يتناقضون فيه، ولا يغرقون في التمسك بالظاهر والجمود عليه. وهذه الطريقة عليها سير الجمهور من أئمة المذاهب الثلاثة والمعتدلين من الحنفية إلا أنه افترقت أفكارهم في تطبيقها على الحوادث والمسائل، ولكل وجهة ولو شاء الله ما اختلفوا، وهذا الحزب يقول أيضا: لكل مسألة حكم، وفي النصوص كثير من الأحكام، ولا غنى عن القياس، وبقية الأدلة لكن عند عدم النص، واستدلوا على أن لله في كل مسألة حكما بقوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} 1 وبقوله: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} 2 وقوله: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ} الآية3 {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} 4 وأن الصحابة كانوا يسألون عن كل ما يقع لهم، وبأن رسالته عليه السلام عامة، فلتكن شريعته عامة. وهذه كلها أدلة إقناعية والله أعلم.   1 سورة الأنعام: 38. 2 سورة الشورى: 10. 3 سورة النساء: 82. 4 سورة النحل: 89. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 41 وقد رأيت يوما في المنام أني استدل على أن لله في كل مسألة حكما بقوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} 1 الآية فإن الآية نصت على الأعضاء المذكورة، وسكتت عن غيرها، والأمة مجمعة على ترك غسل ما سواها فتأمله، وما كان خطر لي هذا في اليقظة قط. تصانيف الإمام داود الظاهري: صنف كتبا كثيرة في أبواب الفقه على عادة السلف في تخصيصهم كل باب بكتاب مستقل، فله كتاب "إبطال القياس" وكتاب "خبر الواحد" وكتاب "الخبر الموجب للعلم" وكتاب "الحجة" وكتاب "الخصوص والعموم" وكتاب "المفسر والمجمل" وكتاب "إبطال التقليد" وله كتب غيرها. بعض الفوائد عنه: حكى داود الظاهري قال: حضر مجلسي أبو يعقوب الشريطي من أهل البصرة وعليه خرقتان، فتصدر وجلس إلى جانبي من غير أن يرفعه أحد، وقال لي: سل يا فتى عما بدا لك، فكأني غضبت منه، فقلت له مستهزئا: أسألك عن الحجامة، فبرك أبو يعقوب، ثم روى طريق "أفطر الحاجم والمحجوم" 2 ومن أرسله ومن أسنده، ومن وقفه، ومن ذهب إليه من الفقهاء، ثم روى طريق احتجام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- احتجم بقرن وذكر أحاديث صحيحة في الحجامة ثم ذكر الأحاديث المتوسطة مثل "ما مرت بملإ من الملائكة" 3 ومثل "شفاء أمتي في   1 سورة النساء: 6. 2 أخرجه الشافعي 1/ 257، وأبو داود "2369" والدارمي 2/ 4، وابن ماجه "168" وعبد الرازق "7520" والطحاوي من 249 والحاكم 1/ 428، والبيهقي 4/ 262 وإسناده صحيح، وصححه غير واحد من الأئمة، لكن ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- نسخه بخبر أبي سعيد وغيره انظر "نصب الراية" "2/ 472، 473" وفتح الباري "4/ 153، 156"، وتلخيص الحبير "2/ 191، 194". 3 حديث صحيح أخرجه الترمذي "2053" من حديث ابن مسعود مرفوعا أنه -صلى الله عليه وسلم- لم يمر على ملإ من الملائكة إلا أمروه أن مر أمتك بالحجامة، وله شاهد من حديث أنس عند ابن ماجه "3479"، وآخر من حديث ابن عباس عند الحاكم، وثالث من حديث ابن عمر عند البزار. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 42 ثلاث" 1 وما أشبه ذلك، وذكر الأحاديث الضعيفة مثل قوله عليه السلام: "لا تحتجموا يوم كذا ولا ساعة كذا"2 ثم ذكر ما ذهب إليه أهل الطلب في الحجامة في كل زمان وما ذكروه فيه، ثم ختم كلامه بأن قال: وأول ما خرجت الحجامة من أصفهان3 فقلت: والله لا أحقرن بعد أحدا. نقله ابن خلكان4. فهذا مثال يريك محاورة أهل تلك القرون وما كان لهم من ملكة الاستحضار في الفقه والحدي. 266- أبو بكر أحمد بن عمرو بن أبي عاصم الشيباني5: قاضي أصفهان وحافظها، وصاحب التصانيف الشهيرة، منها كتاب السنة الكبير، وله في ثلاثيات شيخ الظاهرية بأصفهان، كما أن داود شيخهم بالعراق روى عن أصحاب شعبة وحماد بن سلمة مات سنة 287 سبع وثمانين ومائتين أدرك جده لأمه موسى بن إسماعيل التبوذكي، ولم يلحق جده أبا عاصم النبيل قاله الذهبي في كتاب "العلو" قال: وبنته عاتكة فقيهة عالمة تروي عنه.   1 أخرجه البخاري "10/ 116" من حديث ابن عباس بلفظ "الشفاء في ثلاثة: في شرطة محجم، أو شربة عسل، أو كية بنار، وأنهى أمتي عن الكي". 2 في سنن أبي داود "3862" بسند ضعيف عن أبي بكر، أنه كان ينهى أهله عن الحجامة يوم الثلاثاء، ويزعم عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يوم الثلاثاء يوم الدم، وفيه ساعة لا يرقأ وراجع "فتح الباري" "10/ 126". 3 فيه تنكيت لطيف لأن داود الظاهري أصبهاني "المؤلف". 4 "2/ 256، 257". 5 ترجمته في "تذكرة الحفاظ" ص"640، 641" وسير أعلام النبلاء "9/ 101، 103" وشذرات الذهب "2/ 195، 196"، والبداية والنهاية "11/ 84". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 43 بعض أصحاب داود الظاهري: 261- فمنهم ولده أبو بكر محمد 1: ممن نشر مذهبه وألف فيه جلس في حلقة أبيه بعده، واستصغروه، فدسوا له من سأله عن السكر ما هو؟ فقال: "إذا عزبت عنه الهموم، وباح بسره المكتوم" فاستحسن ذلك منه وعلم موضعه من العلم، وله شعر رائق وهو القائل: أنزه في روض المحاسن مقلتي ... وأمنع نفسي أن تنال محرما ومن تآليفه "الوصول إلى معرفة الأصول" توفي سنة 297 سبع وتسعين ومائتين. 262- أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم 2: الأندلسي الإمام العلم الأشهر وحيد دهره، صاحب الكتب العظيمة التي منها "المحلى" ذكر فيه مسائل الظاهرية قال ابن بشكوال: ابن حزم أجمع أهل الأندلس قاطبة لعلوم الإسلام وأوسعهم معرفة مع توسعه في علم اللسان، ووفور حظه من البلاغة والشعر، ألف في علم الحديث والمسندات كثيرا، وألف في فقه الحديث "الإيصال إلى فهم الخصال الجامعة لجمل شرائع الإسلام في الواجب والحلال والحرام والسنة والإجماع" وكتاب "إبطال القياس والرأي" وكتاب "الإجماع ومسائله على أبواب الفقه" وله غيرها من النفائس قال ولده: إنها نحو أربعمائة مجلد في ثمانين ألف ورقة بخطه، وكان ورعا شديد التمسك   1 أبو بكر محمد: ترجمته في تاريخ بغداد "5/ 256"، وشذرات الذهب "2/ 226"، ووفيات الأعيان "4/ 259، 261". 2 أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم: الشهرة علي بن حزم اليزيدي الأندلسي الظاهري، توفي سنة 450: صيانة صحيح مسلم ص"47، 82"، التمييز والفصل "2/ 810"، التبصرة والتذكرة "1/ 20، 278"، الصمت وآداب اللسان ص"276". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 44 بالدين كان أولا شافعيا، ثم صار ظاهريا إلا أنه أكثر الوقيعة والتشنيع على علماء عصره انتصارا لمذهب الظاهرية الذي لم يكن مقبولا لديهم، وكانت فيه حدة، ولسان ماض مع وفرة المادة وطغيان العلم، فكان سببا لنبذ الناس له, ونبذه للناس في بادية لبلة بالأندلس إلى أن توفي سنة 456 ست وخمسين وأربعمائة وهو القائل مفتخرا بمذهبه: ألم ترأني ظاهري وأنني ... على ما بدا حتى يقوم دليل وقد عده في "مطمح الأنفس" من فحول شعراء الأندلس، ولم تكن له رحلة، ومع ذلك حصل هذه الدرجة، فلذلك عدوه نادرة وقته. وأصحاب داود أكثر من أن نحيط بعدهم على قلة عددهم وقد شذ هو وأصحابه في مسائل مذكورة في كتب الفقه والخلاف، وقد انقرضوا وانقرض الآن مذهبهم. 269- ثالث عشرهم الإمام أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الطبري 1: ثم الآملي بضم الميم أحد أئمة الدنيا علما ودينا حتى إن الإمام ابن خزيمة على جلالته كان يحكم بقوله ويرجع لرأيه لمعرفته وفضله، وقال فيه: ما أعلم أحدا على أديم الأرض أعلم من محمد بن جرير. قال الخطيب البغدادي: وجمع من العلوم ما لم يشاركه فيه غيره، كان حافظا لكتاب الله، عارفا بالقراءات، بصيرا بمعانيه، فقيها بأحكامه، عالما بالسنة وأحكامها وصحيحها وسقيمها، وبالناسخ والمنسوخ وأقوال الصحابة ومن بعدهم، يدل لذلك تفسيره الكبير الذي لم يؤلف مثله، وقد طبع.   1 أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الطبري: أبو جعفر الطبري القمي الأملي، الشهرة ابن جرير الطبري، ولد سنة "220" أو "224"، أو "225" ومات سنة "310": جامع الرواة "2/ 82"، المعين رقم "1216"، الوافي بالوفيات "3/ 284"، الميزان "3/ 498، 499"، الأنساب "9/ 39"، نسيم الرياض "4/ 138"، لسان الميزان "5/ 100، 103"، البداية والنهاية "11/ 145"، تاريخ بغداد "2/ 162"، سير النبلاء "14/ 267". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 45 عارفا بأيام الناس وبسيرهم وأحوالهم يدل لذلك تاريخه العديم النظير، وقد طبع أيضا. طاف البلاد في طلب العلم حتى فاق الأقران، بل الشيوخ، وصار من أعلام أهل المعرفة والرسوخ مع الزهد التام، سمع من أناس كثيرون كابن وهب وأشهب، فلذلك ذكره في "المدارك" من أصحاب مالك وكيونس بن عبد الأعلى الذي سمع من ابن عيينة، وعن الشافعي، ولذا عده في "الطبقات السبكية" من الشافعية كما أنه أخذ فقه العراقيين عن أبي مقاتل بالري والتحقيق أنه مجتهد مطلق، وكان له أتباع انقطعوا بعد الأربعمائة كما في "الديباج" ومن أصحابه المتفقهين على مذهبه: 270- علي بن عبد العزيز الدولابي: مؤلف كتاب الرد على ابن المغلس الظاهري. 271- وأبو بكر محمد بن أحمد بن محمد بن أبي الثلج 1. 272- وأبو الحسن أحمد بن يحيى المنجم المتكلم: مؤلف كتاب "المدخل في إلى مذهب الطبري". 273- وأبو الحسن الدقيقي الحلواني. 274- وأبو الفرج المعافى بن زكرياء النهرواني: مصنف الكتب العديد على مذهبه وغيرهم. وفي إتقان السيوطي بعدما تكلم على طبقات المفسرين، وذم تفاسير منها: فإن قلت: أي تفسير ترشد إليه؟ قلت: تفسير الإمام الطبري أجمع العلماء المعتبرون أنه لم يؤلف في التفسير مثله. وفي "المنح البادية" قال أبو حامد الإسفراييني: لو رحل إلى الصين في   1 أبو بكر محمد بن أحمد بن محمد بن أبي الثلج: الشهرة الكاتب الثلجي ابن أبي الثلج، يقال محمد بن أحمد بن عبد الله بن إسماعيل، ولد سنة "238"، مات سنة "322 أو 325": تاريخ بغداد "1/ 338"، الأنساب "3/ 145"، معجم الثقات "101"، دائرة معارف الأعلمي "26/ 159"، جامع الرواة "1/ 63"، معجم المؤلفين "9/ 9"، والحاشية تنقيح المقال "10346". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 46 تحصيله لم يكن كثيرا، وله في فن الحديث كتاب "تهذيب الآثار" لم يؤلف مثله في بابه، وهو موجود في مكتبة الآستانة، وله كتاب "اختلاف الفقهاء وجد منه شيء يسير في المكتبة الخديوية طبع في برلين سنة 1320 موافقة سنة 1902. وأول كتاب صنف في الخلاف المجرد كتاب "المحرر في النظر". 275- لأبي علي الحسين بن القاسم الطبري الشافعي: المتوفى سنة 305 خمس وثلاثمائة ببغداد قاله ابن خلكان: فهو قابل كتاب الطبري هذا الذي هو سبب محنته، وذلك أنه ذكر فيه اختلاف مالك والأوزاعي والثوري والشافعي وأبي حنيفة مع أبي يوسف ومحمد بن الحسن وغيرهم، ولم يذكر أحمد بن حنبل قيل: إنه سئل عن ذلك، فقال: لم يكن أحمد فقيها إنما كان محدثا، وما رأيت له أصحابا يعول عليهم. فأساء ذلك الحنابلة، ورموه بالرفض بسبب قوله بالمسح على القدمين وهو قول رافضي، وقيل إنه يقول بالمسح والغسل معا، وأهاجوا عليه العامة يوم دفنه، فمنعوا دفنه نهارا، ومنعوا الناس من الدخول إليه في حياته وقيل: إنهم سألوه عن حديث الجلوس على العرش؛ فقال: إنه محال وأنشد: سبحان من ليس له أنيس ... ولا له في عرشه جليس فمرموه بمحابرهم وكانوا ألوفا، فدخل داره، فرموه بالحجارة حتى صار على بابه كالتل العظيم، وركب نازوك صاحب الشرطة في عشرات الألوف من الجند يمنع العامة، ووقف على بابه إلى الليل، وأمر برفع الحجارة عنه، وكان كتب على بابه البيت السابق، فمحاه نازوك، وكتب أبياتا في مدح ابن حنبل، فخلا بداره، وعمل كتابه المشهور في الاعتذار إليهم، وذكر مذهبه واعتقاده، ولم يخرج كتابه اختلاف الفقهاء حتى مات، فوجوده مدفونا في التراب، فأخرجوه ونسخوه. وأما الإلحاد الذي نسبوه إليه فهو أنه قال في قوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} 1   1 سورة المائدة: 64. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 47 يداه نعمتاه، فنسبوه لمذهب جهم قال في "منتخب تاريخ البرزالي" ولذا دفن بداره، وحاشاه من كل ما نسب إليه، فقد كان أحد أئمة الإسلام، وقد نقل الذهبي في كتاب "العلو" عنه عقيدة سلفية كعقيدة الحنابلة. وقال السبكي في "الطبقات": إن ابن جرير أجل من أن يمنعه الحنابلة الخروج للناس على قلتهم وإنما هو اعتزل بنفسه. قال جامعه: وهذا يرده ما في تاريخ "مختصر الدول" لابن العبري1 وغيره أنه في سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة عظم أمر الحنابلة ببغداد، وقويت شوكتهم، وصاروا يكبسون دور القواد والعوام، وإن وجدوا نبيذا أراقوه، وإن وجدوه مغنية ضربوها، وكسروا آلة الغناء، فأرهجوا بغداد ... إلخ ما في عدد 283 منه، فانظره توفي في آخر شوال سنة 310 عشرة وثلاثمائة رحمه الله. الطبري أحرز قصب السبق في التصنيف كثرة في إتقان مع عموم النفع: ذكر أبو محمد الفرغاني في كتاب "الصلة" الذي وصل به تاريخ ابن جرير الكبير: أو قوما من تلاميذه لخصوا أيام حياته من لدن بلغ الحلم إلى أن توفي وهو ابن ست وثمانين سنة، ثم قسموا عليها أوراق مصنفاته، فصار لكل يوم أربع عشرة ورقة، وهذا لا يتهيأ لمخلوق إلا بكرم وعناية الباري سبحانه وتأييده. قاله في تاريخ "المعجب في تلخيص أخبار المغرب" وفي "المنح البادية" أنه مكث أربعين سنة يكتب كل يوم أربعين ورقة، ونحوه في كتاب "العلو" للذهبي. وقد خلف في مصنفاته ما يقرب من ثلاثمائة ألف ورقة وخمسين ألف ورقة، وهذه أغنى التركات العلمية فيما بلغنا، فتبارك الله أحسن الخالقين، فبذلك حاز المعلى والرقيب2 فلم يكن أحد من المتقدمين يبلغ مداه في الكثرة مع الإتقان وعموم النفع لوقتنا هذا، فلم يتفق هذا لغيره فيما أظن فيصح أن يقال: إنه أعظم مؤلف في الإسلام.   1 وفاته "685هـ" واسمه غريغوريوس بن هارون الملطي من نصارى اليعاقبة مؤرخ حكيم لاهوتي. انظر الأعلام "5/ 308، 309. 2 المعلى: سابع سهام الميسر، والرقيب: الثالث. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 48 استطراد بعض المكثرين من التأليف : قالوا: إن الإمام أبا الفرج ابن الجوزي جمعت الكراريس التي كتبها، وحسبت مدة عمره، وقسمت الكراريس على المدة فكان ما خص كل يوم تسع كراريس. قال في "جلاء العينين": وهذا شيء عظيم لا يكاد يقبله العقل، ويقال: إنه جمعت براية أقلامه التي كتب بها حديث رسول الله وأوصى أن يسخن له بها الماء الذي يغتسل به فكفت، وفضل منها. وقد عدت مؤلفات جمال الدين الحافظ، وقسمت على عمره، فبلغ كل يوم تسع كراريس كما في ابن خلكان. ويأتي لنا في ترجمة إسماعيل القاضي بيان بعض مؤلفاته العجيبة، وأنه من أعلى طبقة المؤلفين. وفي "الديباج" أن القاضي أبا بكر محمد بن الطيب الباقلاني كان ورده كل ليلة عشرين ترويحة، ولا ينام حتى يكتب خمسا وثلاثين ورقة من حفظه تصنيفا. وترك ابن أبي الدنيا ألف تأليف، وابن عساكر ألف تاريخه في ثمانين مجلدا، ويوجد منه بمكتبة ابن يوسف بمراكش سبعة وعشرون مجلدا من تجزئة نيف وثلاثين ضخمة، وقفت عليه بنفسي هذا أحد تواليفه. وقال السيوطي: منتهى التصانيف في الكثرة ابن شاهين صنف ثلاثمائة وثلاثن مصنفا منها التفسير في ألف جزء، والمسند خمسة عشر مائة، والتاريخ مائة وخمسون مجلدا، ومداد التصانيف ألفا قنطار وثمانمائة قنطار وسبعة وسبعون قنطارا. قال السيوطي: وهذه من بركات طي الزمان كالمكان من وراثة الإسراء وليلة القدر. نقله في "المنح البادية" ومثله في "فهرسة الأمير" إلا أن التاريخ قال: إنه مائة وخمس مجلدات، ولعل هناك تصحيفا في عد قناطير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 49 المداد، أو لعلها أرطال، بل أواق. وقد ترك الإمام أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم عدة كتب في الفقه والحديث والتاريخ منها كتابه المسند في ألف جزء ذكره في "الطبقات السبكية" وألف أبو عبد الله الحاكم المعروف بابن البيع ما يبلغ ألفا وخمسمائة جزء منها تخريج الصحيحين "والعلل" و"الأمالي" و"فوائد الشيوخ" و"المستدرك" على الصحيحين وغيرها. وبلغت كتب الإمام الأشعري خمسين بين كبير وصغير، وأكثرها في الرد على الطوائف الضالة، وهذا من أصعب شيء في التأليف يحتاج إلى زمن كثير. وألف الإمام تقي الدين ابن تيمية ثلاثمائة مؤلف في فنون مختلفة ضمن نحو خمسمائة مجلد، وتلميذه الإمام ابن قيم الجوزية نحو الخمسين مجلدا بين ضخم ولطيف، وبلغ كتاب "الفنون" الذي ألفه أبو الوفاء ابن عقيل الحنبلي أربعمائة مجلد، وقيل: ثمانمائة. وألف الإمام البيهقي ألف جزء كلها تآليف محررة نادرة المثال، كثيرة الفوائد، وأقام يصوم ثلاثين سنة. وترك محمد بن سحنون الأفريقي الشهير كتابه الكبير في مائة جزء في الفقه والسير والتاريخ وفنون من العلم، وكتاب "أحكام القرآن" أيضا وغيره من الكتب. وألف الإمام أبو بكر بن العربي المعافري دفين فاس تفسيره الكبير في ثمانين جزءا، وله تآليف أخرى كشرح الترمذي، و"الموطأ"، "وأحكام القرآن" الكبرى، والصغرى، "والقواصم والعواصم"، و"المحصول في الأصول"، كلها تصانيف من أعلى طبقه. وهذا غريب الوجود. وألف الإمام أبو جعفر الطحاوي تآليف كثيرة، وكتب في مسألة واحدة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 50 وهي: هل كان حجة على الإسلام بقران أو إفراد أو تمتع ألف ورقة، وكم لذها من نظير في علماء الإسلام. وقد بلغت تآليف أبي عبيدة مائتين في علوم مختلفة وبلغت مؤلفات ابن سريج أربعمائة. 276- والقاضي الفاضل مائة واحدة، وبلغت مؤلفات عبد الملك بن حبيب عالم الأندلس ألف كتاب. ذكره في "نفخ الطيب" وكانت تواليفهم تحوي مجلدات، فكتاب "مرآة الزمان" في التاريخ لسبط. 277- ابن الجوزي أربعون مجلدا "وتاريخ بغداد" للخطيب أربعة عشر، والأغاني عشرون مجلدا. 278- وكامل ابن الأثير12. وشرح النبات 279- لأبي حنيفة الدينوري بلغ ستين مجلدا. وبلغت تآليف يعقوب بن إسحاق الكندي فيلسوف العرب 280- في الفلسفة والطب والهندسة وعلوم كثيرة، لكن مجلداتهم تختلف من عشر ورقات إلى مائة هذا مع صعوبة نيل مواد الكتابة في تلك الأزمان، أما المتأخرون، فتوفرت المواد لديهم، ومع ذلك لم يبلغ مبلغ من تقدم مثل الحافظ ابن حجر صاحب "الفتح" و"الإصابة" وغيرهما والذهبي والسيوطي الذي نافت تآليفه على أربعمائة، فإن جلها صغير الحجم إلى الورقة والورقتين وأكثر من الشيخ أبو الفيض محب الدين محمد مرتضى الحسيني الواسطي الزبيدي الحنفي نزيل مصر، وكفى بشرحه القاموس، وشرح الإحياء دليلا على ذلك، وقد عم نفعهما، ووقع إقبال العالم الإسلامي عليهما مع تحرير وإتقان وأكثر أهل عصرنا تأليفا فيما أظن الشيخ فريد وجدي المصري صاحب "دائرة المعارف" و"كنز العلوم واللغة" وغيرهما والله يحفظه فقد افتخرت به مصر على غيرها. استنتاج حالة الفقه في المدة الماضية: قد كان خمس من المجتهدين المستقلين من الذين دونت مذاهبهم في مائة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 51 سنة تقريبا، ولم يصل إلى أول المائة الرابعة إلا الأخير كما رأيت، فكانت المائة الثالثة مزادنة بالأئمة الكبار على قلتهم بالنسبة للمائة قبلها بخلاف الرابعة التي فشا فيها التقليد، وصار العلماء للجدال في أي المذاهب أفضل، وأيها يرجح وأن المجتهدين مع كونهم في المائة الثانية أكثر وأوفر كانوا أجل وأعظم، فمثل جلالة مالك العلمية والرحلة إليه من أطراف الدنيا، واتجاه الرأي العام الإسلامي من جميع المعمور إليه لم يوجد في هذه الثالثة، كل ذلك تصديق لقوله: "خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم" 1. ففي القرن الثالث كان آخر المجتهدين اجتهادا مستقلا مطلقا ولم يصل للرابع إلا قليل. وكانوا في هذه القرون الثلاثة على ترتيب القرون الثلاثة في الحديث لكثرة وجلالة كما سبق. فهذه إشارة هذا الحديث ومعجزته الظاهرة، وذلك أن الاجتهاد في نظري هو كنور الشمس النافع الذي به حياة الأرض وما فيها، والتقليد هو كنور القمر الذي يحكي نور الشمس فقط، ونفعه قليل الجدوى، إذ القمر كوكب ميت كما يقولون، ومظلم لا نور له، نعم هو صقيل كالمرآة إذا قابل نور الشمس، انعكست منه الأشعة على الأفق كالمرآة ترتسم فيها أنوار الشمس، وتنعكس منها أشعة قليلة الجدوى، فالمقلد وإن بلغ من العلم ما بلغ، إنما هو كنوز القمر، لكونه مقيدا مغلولا عن الوصول إلى الدليل من الكتاب والسنة ومسالك التعليل، ولذلك اعتبره الأئمة عاميا ولا يقال: عالم إلا لمجتهد. وحدث في هذه المدة قول الظاهرية بنبذ القياس أو غير الجلي منه، كما تقدم وهو قول وإن كان موجودا من قبل لكنه لم يقل به إلا نزريسير، وكان النزاع في تقديم بعض الأدلة على بعض كتقديم الحنابلة الحديث على الإجماع مخالفين في ذلك للمالكية وغيرهم، وتقديم مذهب الصحابي على القياس مخالفين للحنفية   1 أخرجه البخاري "5/ 191" ومسلم "2535" من حديث عبد الله بن مسعود بلفظ "خير الناس قرني" وبلفظ: "خير أمتي" ولهما من حديث عمران بن حصين بلفظ "إن خيركم قرني ... ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 52 وغيرهم1. وتقديم الحديث المرسل على القياس مخالفين للشافعية، وقد جعلوا القياس في آخر درجة من الأدلة ولم ينبذوه بخلاف الظاهرية فراجع ما تقدم من أصول أحمد والظاهرية. ثم هناك أمر يوجب مزيد الاهتمام والاستغراب وهو أن هؤلاء الخمسة من المجتهدين قد ابتعدوا عن القول بالرأي، ومالوا إلى الظاهر، والعمل بالسنة رغما عن انتشار العلوم الفلسفية في الإسلام حتى دخلت في علوم المعتقدات ولكنها في الفقه لم تؤثر، بل زاد الفقهاء تباعدا بل جمودا مع أن المظنون عكس ذلك. ولعل جمع السنة التي كانت متفرقة، وظهور العدد الكثير من الأحاديث تسبب عنها فكرة أن في المنقول ما يكفي عن المعقول، وفي نصوص الشريعة ما لا يحتاج معه إلى القياس والاستحسان، وما لم نجد له في النصوص حكما، فذلك مما عفي عنه، فليس لكل مسألة حكم على أنه لا غنى عن الرأي، ولا رأي إلا برواية، ولا رواية إلا برأي. وهناك سبب آخر في الابتعاد عن الرأي وهو ما ظهر في المعتزلة من التجرؤ على العقائد، والتكلم، في صفات الإله، وذاته المقدسة بسبب الفلسفة وما أدى إليه أمرهم من الفتنة في الدين، لذلك ترك السلف الفلسفة ظهريا، ولجئوا إلى التفويض، ونبذ طريق الفكر والعقل، وعلى هذا المذهب في العقائد كان مالك وأحمد بن حنبل وأتباعهم، فهذا سبب ضعف مذهب الرأي في تلك العصور إلى أن جاء الأشعري، وحارب المعتزلة بنفس السلاح الذي ظهروا به وهو الفلسفة،   1 مذهب الحنفية تقديم قول الصحابي على القياس. قال الإمام أبو حنيفة: آخذ بكتاب الله تعالى فإن لم أجد فبسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإن لم أجد في كتاب الله ولا في سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أخذت بقول الصحابة آخذ بقول من شئت منهم وأدع قول من شئت منهم ولا أخرج عن قولهم إلى قول غيرهم فإذا انتهى الأمر وجاء إلى إبراهيم والشعبي وابن سيرين والحسن وعطاء وسعيد بن المسيب "وعدد رجالا" فقوم اجتهدوا فاجتهد كما اجتهدوا. ا. هـ. انتقاء لابن عبد البر ومناقب الموفق المكي "1-82". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 53 فعند ذلك انتشرت الفلسفة حتى بين أهل السنة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 54 الاختلاف في مظنة الاتفاق : ومن أعجب ما لاحظته في هذا العصر وبعض الذي قبله أنهم اختلفوا في أشياء لا يتصور الاختلاف فيها إلا مع التعجب الشديد، كاختلافهم في ألفاظ الأذان والإقامة، التي تتكرر كل يوم خمس مرات، وفي مسح الرأس في الوضوء هل يتكرر أم لا؟ وهل يعمم أم لا؟ على كثرة مشاهدة من يتوضأ كل يوم، وهل تجب النية في الوضوء أم لا؟ وهل يعمم أم لا؟ على كثرة مشاهدة من يتوضأ كل يوم، وهل تجب النية في الوضوء أم لا؟ وهل يجهر بها أم لا؟ وهل يجب الدلك في الغسل أم لا؟ وهل تقبض الأيدي وترفع في الركوع والرفع منه أم لا؟ وهل تجب البسملة أو تكره في الصلاة ولو جهرية أم لا؟ وهل يقرأ المأموم أم لا، وهل يقول المصلي: السلام عليكم ورحمة الله مرتين أو السلام عليكم مرة واحدة؟ إلى غير هذا مما يتحير الفكر فيه هل كان القوم يحضرون المساجد والجماعات، ويأخذون الأعمال بالمشاهدات أم لا، هذا في الأمور التي تتكرر كل يوم. ثم انظر اختلافهم في النقل حال خروج الإمام للجمعة وبعد صلاتها، وفي كيفية الخطبة، وفي إثبات الصوم بعدلين أو عدل أو المستفيضة، وفي قدر زكاة الخضر ودفع البدل في زكاة الماشية والحبوب، وفي زكاة الفطر، وفي وقت وقوف عرفة الذي هو أهم أعمال الحج، وفي لزوم الأيمان بالطلاق، وفي النكاح، وفي البيوع كخيار المجلس وسائر أبواب الفقه في المسائل التي هي ضرورية الوقوع والتكرر، ولم يحصر الاتفاق إلا في الشيء اليسير نسبيا، ولا يعلم ما دندنا عليه إلا من له إلمام بالأصول والخلافيات على أن في الأقاويل المذهبية أنموذجا من ذلك. ومع أن خلافهم في الفروع رحمة إلا أن وصوله لهذا الحد أحدث فرقة وشغبا وقلقا في النفوس. وقد يقال: إن الأمر كان فيه سعة، فضيقه المتأخرون بالتعصبات المذهبية، فألفاظ الأذان والإقامة مثلا التي وقع الخلاف فيها كلها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 54 واردة، وكل أخذ بما صح في بلده، فجاء من بعده، فرجحوا أو اختاروا، ثم ضيقوا ومنعوا، لكن هناك فروع يصرح هذا الإمام بمنع ما يوجبه أو يجوزه الآخر، وذلك مرجعه الاجتهاد والرأي، وجله يرجع إلى اختلاف الأحاديث، أو عدم وضوح دلالة النصوص، فتختلف الأنظار في فهمها وكل هذه الأجوبة لا تزيل الحيرة والاستغراب، ولو شاء الله ما اختلفوا، ولكن الله يفعل ما يريد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 55 حدوث علم التصوف ومجمل تاريخه وأطواره : التصوف: هو العلم بتجريد القلب لله وخلوه مما سواه بمعنى تصفية النفس من رعوناتها، والقيام بالورع في الدين، وترك ما يريب إلى ما لا يريب، مع الإكثار من العبادات والذكر، وعدم الغفلة عن الله، وصون الوقت أن يذهب إلا فيما يفيد، ومحاسبة النفس على الأنفاس، ومدار المقصود منه التخلق بأخلاق الأنبياء عليهم السلام. قال أبو الفتح البستي: تنازع الناس في الصوفي واختلفوا ... فيه وظنوه مشتقا من الصوف ولست أمنح هذا الاسم غير فتى ... صفا فصوفي حتى لقب الصوفي فهو زبدة العمل بالشريعة إذا خلا عن حظوظ النفس، وهذا قديم في الإسلام وهو طريق النبي -صلى الله عليه وسلم، والعلية من أصحابه خصوصا من اشتهر منهم بالزهد كسلمان الفارسي وأبي ذر، وأبي الدرداء، وأصحاب الصفة وأمثالهم بل والخلفاء كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وبعدهم التابعون كأويس القرني سيدهم المتوفى في صفين مع علي، روى عمر مرفوعا "إن خير التابعين رجل يقال له: أويس وله والدة وكان به بياض، فمروه فليستغفر لكم" 1. وكان عمر يلتمس منه الدعاء، ثم في أتباع التابعين الثوري الذي سئل عن التصوف فقال: هو الموت الأحمر، ورابعة العدوية المتوفاة سنة 135 خمس وثلاثين ومائة أو خمس وثمانين وهي القائلة: استغفارنا يحتاج لاستغفار، والقائلة: إلهي تحرق بالنار قلبا يحبك.   1 أخرجه مسلم في صحيحه "2542"، "224". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 55 بعض تراجم الصوفية مدخل ... بعض تراجم الصوفية: ثم 281- إبراهيم بن أدهم: المتوفى سنة 162 اثنين وستين ومائة، ثم الفضيل بن عياض المتوفى سنة 187 سبع وثمانين ومائة. ثم 282- شقيق البلخي1: المتوفى سنة 195 خمس وتسعين ومائة. ثم 283- معروف الكرخي2: بفتح فسكون المتوفى سنة 200 وهو القائل: التصوف الأخذ بالحقائق واليأس مما في أيدي الناس، وكان أبواه نصرانيين يعلمانه النصرانية، فأبى، وأسلم، فأسلما. وهذا أول ما عرفت أمثال هذه المقالات في الإسلام ثم "277" بشر بن الحارث الحافي3 المروزي المتوفى سنة 226 ست وعشرين ومائتين القائل للمحدثين: أدوا زكاة هذا الحديث قالوا: وما زكاته؟ قال: أن تعملوا بخمسة أحاديث من كل مائتي حديث. ثم 284- أبو حاتم الأصم: المتوفى سنة 232 اثنين وثلاثين ومائتين. ثم 285- ذو النون المصري أبو الفيض ثوبان بن إبراهيم: المتوفى سنة 245 خمس وأربعين ومائتين عن سن عالية أوحد أهل زمانه علما وورعا وأدبا وحالا شيخ الديار المصرية وواعظهم، روى "الموطأ" عن مالك وهو عبد نوبي من مصر، وله مناقب ومقالات، وذو النون المصري هو أول   1 شقيق البلخي: عن إسرائيل، الميزان "2/ 279"، لسان الميزان "3/ 151". 2 معروف الكرخي: أبو محفوظ مات سنة "200 أو 204" الفيروزاني الكرخي. الأنساب "11/ 74"، العبر "1/ 335"، الثقات "9/ 206"، الحلية "9/ 360"، البداية والنهاية "11/ 13"، تاريخ بغداد "13/ 199"، وفيات الأعيان "5/ 231"، الأعلمي "28/ 34". 3 بشر بن الحارث الحافي المروزي: أبو نصر مات سنة "227" الحافي الزاهد المروزي البغدادي. دائرة المعارف الأعلمي، تقريب التهذيب "1/ 98"، تهذيب التهذيب "1/ 444" تهذيب الكمال "1/ 145" ميزان الاعتدال "1/ 328" التذهيب "1/ 125" مجمع الزوائد "5/ 7" ثقات "8/ 143". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 56 من تكلم بمصر في ترتيب الأحوال ومقامات الأولياء، كما في "المنح البادية". 286- وأبو تراب عسكر بن الحصين النخشبي1: شيخ عصره بلا مدافعة الذي روى كثيرا من الحديث والفقه، ثم تزهد وساح، وله مقامات، وكرامات وأحوال ظاهرة. وفي وقته حدثت مسألة التجلي وهو ما فوق المعرفة ولم يصل لرؤية العين توفي سنة 245. ثم 278- سرى السقطي2: المتوفى سنة 251 وفي عصر هؤلاء في أواسط القرن الثالث دخلت فلسفة الفلاسفة اليونان الإشراقيين، وفلسفة الهنود في علم التصوف، فجاء الحارث المحاسبي شيخ الجنيد، وألف في التصوف التواليف العجيبة والكتب المشهورة كالرعاية التي نسج على منوالها الغزالي وغيرها وهو أول من تكلم في الصفات توفي سنة 243 ثلاث وأربعين ومائتين، وأنكر عليه الإمام أحمد3 كثيرا تكلمه في علم الكلام حتى اختفى ولم يحضر جنازته إلا أربعة، واختلف العلماء فيما كان يفسر به القرآن، فمنهم من قبله، ومنهم من أعرض عنه، وكذلك كتبه. ثم 288- أبو يزيد طيفور بن عيسى البسطامي4:   1 أبو تراب عسكر بن الحصين النخشبي شيخ عصره: مات سنة "245"، الأنساب "13/ 61"، العبر "1/ 445"، أصبهان "23/ 146"، تاريخ بغداد "12/ 315"، دائرة الأعلمي "22/ 23". 2 سري السقطي: لم أجد إلا السقطي هذا: أبو الحسن السقطي البغدادي الزاهد مات سنة "253". لسان الميزان "3/ 13" تاريخ بغداد "9/ 187"، الحلية "10/ 116"، سير النبلاء "12/ 185"، الأعلمي "19/ 141". 3 مع أن أول ما عرف أذعان الفقهاء للصوفية إذعان ابن حنبل وشيخه الشافعي لشيبان الراعي حين سألاه عمن نسي صلاة لا يدري عينها فأجابهما هذا رجل غفل عن الله فجزاؤه أن يؤدب "مؤلف". قلت في ثبوت ذلك نظر فقد قال ابن تيمية فيما نقله عنه السخاوي في "المقاصد الحسنة" ص"480": ما اشتهر من أن الشافعي وأحمد اجتمعا بشيبان الراعي وسألاه فباطل باتفاق أهل المعرفة؛ لأنهما لم يدركاه. 4 أبو يزيد طيفور بن عيسى البسطامي: المشهور شيخ الصوفية وهو البسطامي الأصغر الزاهد= الجزء: 2 ¦ الصفحة: 57 المتوفى سنة 261 إحدى وستين ومائتين أو أربع وستين ومائتين. 289- ثم سهل بن عبد الله التستري البصري 1: القائل: أصولنا التمسك بالقرآن، والاقتداء بالسنة، وأكل الحلال، وكف الأذى والتوبة، وأداء الحقوق. وهو القائل: إنما سمي الزنديق زنديقا؛ لأنه وزن دق الكلام بمخبول عقله، المتوفى سنة 283 ثلاث وثمانين ومائتين. 290 - ثم أبو سعيد أحمد بن عيسى البغدادي الخراز: المتوفى سنة 286 ست وثمانين ومائتين وهو أول من تكلم في الفناء والبقاء، وعبر بعض الصوفية عن الفناء، فقال: أخذ مني أنا، فبقيت أنا بلا أنا، أي ما بقي إلا اسم أنا. 291- ثم حمدون القطار 2: شيخ الملامتية بنيسابور، وعنه اشتهر مذهبهم المتوفى سنة 291 إحدى وتسعين ومائتين. 292- ثم الإمام الجنيد 3: شيخ الطريقة وإمامها، كان ورده كل يوم ثلاثين ألف تسبيحة وثلاثمائة ركعة، وما نزع ثيابه للفراش أربعين سنة، ويأكل مرة في الأسبوع قيل له يوما: ممن استفدت هذا العلم؟ فقال: من جلوسي بين يدي ربي ثلاثين سنة، وهو القائل: العارف من نطق عن سرك وأنت ساكت، وكان يقول: مذهبنا هذا مقيد بالأصول: الكتاب والسنة. ورئي يوما في يده سبحة، فقيل له: أنت مع شرفك تأخذ في يديك سبحة   1 سهل بن عبد الله التستري البصري: أبو أحمد، توفي سنة "283": المشتبه ص"76"، دائرة الأعلمي "19/ 296". 2 حمدون القصار شيخ الملامتين بيسابور: أبو صالح حمدون بن أحمد بن عمارة بن رستم القصار النيسابوري. الأنساب "10/ 434"، الوافي بالوفيات "13/ 165". 3 الإمام الجنيد: ترجمته في وفيات الأعيان "1/ 373" والحلية "10/ 255" وتاريخ بغداد "7/ 241" وطبقات الشافعية "2/ 28، 37". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 58 فقال: طريق وصلت بها إلى ربي1 لا أفارقها. قال في "جوامع الجوامع" ونرى أن طريق الجنيد سيد الصوفية علما وعملا وصحبة طريق مقوم، فإنه خال من البدع، دائر على التسليم والتفويض والتبرؤ من النفس ومن كلامه: الطريق إلى الله مسدود على الخلق إلا على المقتفين آثار الرسول، ومن كلامه أقرب ما تقرب به المتقربون عمل خفي بميزان وفي، ولا التفات لمن رماهم في جملة الصوفية بالزندقة عند خليفة السلطان حتى أمر بضرب أعناقهم فأمسكوا إلا الجنيد، فإنه تستر بالفقه.   1 ويروى هذا الكلام عن علي، ولم يثبت بل ما عرف في الإسلام إشهار السبحة إلا في أيام الجنيد وقريب منها وكانت ولا تزال مستعملة عند رهبنة النصارى، فهي من البدع الإسلامية إلا أنها مستحسنة، وحيث ثبت في السنة تحديد بعض الأذكار بعد ثلاث وثلاثين، وبعضها بالمائة مثلا، فالسبحة نظام لهذه الأعداد، فلا تنكر على من استعملها في محل الذكر، أما من أشهره في عنقه، واتخذها شعارا في الأسواق تتميز بها طائفة دون أخرى، فلإنكارها عليه وجه وجيه؛ إذ لا يخلو عمله من رياء ظاهر أو خفي مع إحداث ما لم يكن في الصدر الأول، وتفريق الجامعة الإسلامية إلى غير ذلك. نعم قد روى الإمام أحمد بن محمد بن سليمان الروداني عالم الحرمين في المسلسلات من فهرست سلسلة السبحة إلى الجنيد عن سرى السقطي، عن معرو فالكرخي، عن بشر الحافي، عن عمر المكي، عن الحسن البصري وقد سئل عنها فقال: هذا شيء استعملناه في البدايات ما نتركه في النهايات أن أحب أن أذكر الله بقلبي ويدي ولساني قال أبو العباس الرداد: يتبين من قول الحسن أن السبحة كانت مستعملة زمن الصحابة لأن بداية الحسن من غير شك كانت معهم فإنه ولد لسنتين بقيتا من خلافة عمر ورأى عثمان وعليا وعمران بن حصين ومعقل بن يسار وأبا بكرة وأبا موسى وابن عباس وجابر وخلقا كثيرا من الصحابة، والخلاف في روايته عن علي مشهور. ا. هـ. كلام الروداني قلت الذي في ابن خلكان هو نسبة ما ذكر للجنيد وقد تكلم الأئمة في المسلسلات فالاستدلال بها من حيث السند غير ناهض على أن قول الحسن استعملناه في البدايات لا يلزم منه استعمالها وقت الصحابة، ولا تنهض حجة بذلك. وغاية ما يقال: إنها نظام الأعداد الواردة كما سبق. وأما حديث الترمذي أن صفية دخل عليها النبي -صلى الله عليه وسلم- وبين يديها أربعة آلاف نواة تسبح بها، فقال: "ألا أعلمك أكثر مما سبحت؟ " فقلت: علمني، فقال: "سبحان الله عدد خلقه". فهو حديث ليس إسناده بمعروف، وكذا ما رواه أيضا: "وأعقدن بالأنامل، فإنهن مسئولات مستنطقات" فقال فيه الترمذي: إنه غريب لا يعرف إلا من حديث هانئ بن عثمان. ا. هـ. "مؤلف". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 59 وكان يفتي على مذهب أبي ثور شيخه، وبسط لهم النطع، فتقدم من آخرهم أبو الحسن النوري للسياف، فقال له: لم تقدمت؟ فقال أوثر أصحابي بحياة ساعة فبهت وأنهى الخبر للخليفة، فردهم إلى القاضي، فسأل النوري عن مسائل فقهية، فأجابه عنها، ثم قال: وبعد فإن لله عبادا إذا قاموا قاموا لله، وإذا نطقوا نطقوا بالله ... إلخ فبكى القاضي، وأرسل يقول للخليفة: إن كان هؤلاء زنادقة فما على وجه الأرض مسلم، فخلى سبيلهم. توفي الجنيد سنة 297 سبع وتسعين ومائتين. ومن تلاميذه: 293- أبو مغيث الحسين بن منصور الحلاج 1: الزاهد المشهور الذي نقلت عنه2 مقالات أبيح بها دمه ببغداد سنة 309 تسع وثلاثمائية انظرها في "ذيل تاريخ الطبري" وابن خلكان. قال زروق: رمي جماعة بالقول بالحلول والظهور مع أنه كفر3 كالحلاج والشردي وابن أحلى وابن قسي وابن ذو سكين والعفيف التلمساني والعجمي الأيكي والأقطع   1 ترجمته في طبقات الصوفية ص"307"، والبداية والنهاية "11/ 132"، ولسان الميزان "2/ 314"، ووفيات الأعيان "2/ 140"، وتاريخ بغداد "8/ 112، 141". 1 قال ابن حوقل في كتاب "المسالك والممالك": وقد انتحل قوم من الفرس ديانات خرجوا بها عن المذاهب المشهورة، فممن اشتهر وطار ذكره في الآفاق الحسين بن منصور الحلاج من أهل البيضاء، وكان حلاجا ينتحل النسك والتصوف، فما زال يرتقي بها طبقا عن طبق حتى انتهى به الحال أن زعم أن من هذب في الطاعة جسمه، وشغل بالأعمال الصالحة قلبه، وصبر على مفارقة اللذات، وملك نفسه بمنعها عن الشهوات، ارتقى إلى مقام المقربين، ومنازل الملائكة الكرام الكاتبين، ثم لا يزال يتردد في درجة المصافاة حتى يصفو عن البشرية طبعه، فإذا لم يبق فيه من البشرية نصيب. حل فيه روح الله الذي كان منه في عيسى بن مريم، فيصير مطالعا لا يريد شيئا إلا كان من جميع ما كان ينفذ فيه أمر الله تعالى. وأن جميع أفعاله حينئذ فعل الله وأمره. وكان يتعاطى هذا ويدعوه إلى نفسه بتحقيق ذلك كله حتى استمال جماعة من الوزراء وطبقات من حاشية السلطان وأمراء الأمصار وملوك العراق والجزيرة والجبال وما والاها. ا. هـ. "المؤلف". 3 انظر لتوضيح فكرة وحدة الوجود وإبطالها ومن يقول بها كتاب "وقف العلم والعالم" لشيخ الإسلام مصطفى صبري الجزء الثالث من الصفحة "85"، إلى الصفحة "315". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 60 والششتري وابن عربي، وابن الفارض، وابن سبعين وآخرين ذكره بذلك أبو حيان. والظن بهم البراءة مما رموا به، ولكن ضاقت بهم العبارة عن حقائق صريح العلم، فأدت بظاهرة ما يتوهم أنه برآء منه. هذا معتقدنا فيهم وعند الله الموعد. ا. هـ. وقال ابن خلدون: إن سلفهم كانوا مخالطين الإسماعيلية من الرافضة الدائنين بإلهية الأئمة وبالحلول، فظهر في كلام المتصوفة القول بالقطب، أي رأس العارفين الذي لا يساويه أحد، ويورث مقامه لعارف آخر، وقد أنكر ذلك ابن سينا في كتاب "الإشارات" وقال: جل أن يكون جناب الحق شرعة لكل وارد، أو يطلع عليه إلا الواحد بعد الواحد، ولا دليل على معتقدهم، وإنما هو بعينه ما تقوله الرافضة في الإمام المعصوم، ثم قالوا بترتيب وجود الأبدال بعد القطب كما قال الرافضة في النقباء حتى إنهم لما أسندوا لباس الخرقة الذي جعلوه أصلا لطريقتهم، رفعوه إلى علي كرم الله وجهه، وفيه من الإشارة واقتفاء أثر الرفض ما لا يخفى، وإلا فعلي لم يختص من بين الصحابة بطريقة في لباس ولا حال، والصحابة كلهم أسوة في الزهد والمجاهدة، ومثله ما ملئوا به كتبهم عن الفاطمي ولم يكن في كلام الصوفية المتقدمين، وإنما هو عن الرافضة. ا. هـ. بخ لكن الأبدال وعدهم أربعون وارد في بعض أحاديث ذكرها في "المواهب" وشرحها ومجموعها يفيد أن لذلك أصلا في الجملة عن النبي -صلى الله عليه وسلم1. أما وجود قطب يتصرف في الأكوان مقيد بشورى جمع يصرف الأوامر في ديوان، فلم نقف على أصله في السنة النبوية ولا ورد عن الصحابة والتابعين، ولعله خيال لبعض الإمامية أو الصوفية ينبهون بتمثيل روايته أفكار المسلمين في تلكم الأعصر إلى نظام ينبغي أن تكون عليه الحكومات الإسلامية، والله مستبد بملكه غني عن الشورى، وعمن يتصرف له في مملكته، بل قلوب الخلائق وخطراتهم في قبضته لا يسأل عما يفعل وهم يسألون. وقد أوسعنا الكلام في ذلك في كتابنا "برهان الحق" فانظره.   1 وانظر طرقه في "المقاصد الحسنة" ص"8، 10". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 61 والذي يمعن النظر في تاريخ الفقه والتصوف يرى أن الناس في القرن الثالث قد تضلعوا في الفقه واشتغلوا بالكماليات وهي التصوف كما هو شأن الأشياء التي تصل إلى عنفوان العمر الطبيعي كالدول التي تدخل في طور الرفه واتساع الحال، وذلك أن التصوف فلسفة كمالية لعلمي التوحيد والفقه منزل منهما منزلة علم البديع من علمي المعاني والبيان من جملة المكملات التحسينية، والأصل فيه حديث جبريل في سؤاله عن الإحسان الذي هو إتقان الإيمان والإسلام، فالتصوف عملي رياضي أكثر منه علمي. قال محمد بن المنكدر: كابدت نفسي أربعين سنة، فاستقامت. هذا أساس التصوف، قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} 1 وقال عليه السلام: "رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر" 2 والغاية منه إتقان العبادة، وإحسانها بالإخلاص فيها وتخليص النفس من رعونات النقائص، وتحليتها بالكمالات، وفهم أسرار العقائد والعبادات ودقائقها كما ينبغي، وبذلك يصل العارف إلى ربه، ومعناه أن يكون دائم الحضور لا تحصل له غفله حتى لا يخرج سياج الشريعة، ولا يخرج عن دائرة الامتثال كما قيل: تركت للذات البهائم أهلها ... وهمت بما يعني به عالم المعنى ثم هذه المجاهدة تنتج ذوقا في فهم كلام الله سبحانه، لكن بعد تحصيل الأدوات، وملازمة الخلوات، وتطهير القلب من الآفات، كما تنتج أيضا مشاهدة وكشفا عن عوالم غائبة، وذلك ما يعبرون عنه بالعلم اللدني أو علم الأذواق، أما إن لم تكن تقوى ولا اتباع طريق السنة والمجاهدة فإنما هي واردات ظلمانية،   1 العنكبوت: 69. 2 قال ابن حجر في "تسديد القوس": هو مشهور على الألسنة، وهو من كلام إبراهيم بن عبلة. ا. هـ. وقال العراقي: رواه البيهقي بسند ضعيف عن جابر ورواه الخطيب في "تاريخه" عن جابر بلفظ قدم النبي -صلى الله عليه وسلم- من غزاة فقال -صلى الله عليه وسلم: "قدمتم خير مقدم وقدمتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر" قالوا: وما الجهاد الأكبر؟ قال: "مجاهدة العبد هواه" والمشهور على الألسنة "رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر" دون باقية فقيه اختصار. كشف الخفاء ص"42". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 62 وشقاشق شيطانية. لما ظهرت الحركة العلمية في العالم الإسلامي، دونوا علم التصوف في جملة ما دون من العلوم، وقد وضعوا في ذلك كتبا مهمة تعد مكملة للفقه والعقائد كرسالة القشيري. و"قوت القلوب" للإمام أبي طالب 294- محمد بن علي المكي: المتوفى سنة 389 تسع وثمانين وثلاثمائة، ثم إحياء الغزالي وتأتي ترجمته في الشافعية. وغنية الإمام شيخ الإسلام 295- وسيد الوعاظ أبي محمد عبد القادر بن أبي صالح بن جنكي دوست الجيلاني الحنبلي: شيخ العراق، قال فيه عز الدين بن عبد السلام: ما نعرف أحدا كراماته متواترة مثله توفي سنة 561 إحدى وستين وخمسمائة. ومن كلام الجيلاني هذا: كثير من الرجال إذا دخلوا إلى القضاء والقدر أمسكوا، وأنا انفتحت لي في روزنة، فنازعت أقدار الحق بالحق للحق، والولي من يكون منازعا للقدر، لا من يكون موافقا له نقله ابن تيمية في رسالته إلى نصر المنبجي. وجميع الطرق الموجودة في وقتنا هذا ترجع إليه أو إلى 296- الشيخ الإمام أبي الحسن علي الشاذلي1: المغربي ثم المصري الإسكندري الضرير الزاهد الكبير المقدار تلميذ الإمام ابن مشيش وغيره صاحب الأحزاب العجيبة في التوحيد والفناء وذو الكرامات والفضائل العديدة المتوفى سنة 656 ست وخمسين وستمائة، أو إلى 297- الشيخ خواجه بهاء الدين نقشبند محمد بن محمد البخاري2: الذي ترجع إليه السلسلة النقشبندية المنتشرة بالمشرق والروم وما وراء النهر المتوفى سنة 791 إحدى   1 أبو الحسن علي الشاذلي المغربي. وجدته في وفيات ابن منقذ "1/ 323". 2 خواجه بهاء الدين نقشبند محمد بن محمد البخاري: توفي سنة "120": ثبت الكزبري "60". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 63 وتسعين وسبعمائة. وكتب 298- الإمام أحمد بن محمد بن عبد الكريم بن عطاء الله الإسكندري: المتوفى سنة 709 تسع وسبعمائة والإمام أحمد بن زروق الفاسي محتسب الطريقة وآخر من سلك فيها السنة وتأتي ترجمته. وتراجم الصوفية كثيرة انظر اليسير منها في طبقات الشعراني وغيره، لكن غير هؤلاء توسعوا في ذلك بالتكلم عن مواجد القلوب وإشارات تفننوا في أخذها عن الكتاب والسنة، واقتبسوا من فلسفة الفلاسفة الإشراقيين، وفلاسفة الهنود كثيرا لما ترجمت كتبهم، وأسلم بعض من هو آخذ بها من رهبنة النصارى وغيرهم، وأكثر من الإشارات، وتلوين العبارات حتى إن الإمام ابن دقيق العيد قال: إني جلست مع: 299- ابن سبعين عبد الحق بن إبراهيم الإشبيلي الرقوطي1: المتوفى بمكة سنة 669 تسع وستين وستمائة في ضحوة إلى قريب الظهر وهو يسرد كلاما تعقل مفرداته ولا تفهم مركباته. وتفوق عليه في ذلك 300- ابن عربي الخاتمي: المتوفى سنة 638 ثمان وثلاثين وستمائة كما يعلم من فتوحاته وفصوصه. فالتصوف كان في مبدإه رياضة وزهدا وورعا وعملا وإكثارا من الذكر والعبادة وتصفية النفس، فصار فمن علم الرسوم والتلوينات وفلسفة اعتقادية ولسانية، وفصاحة وكلاما فيما وراء الحس. وإن شئت بسطا في هذا المقام فانظر تفسيرنا لسورة الإخلاص. قال ابن   1 ابن سبعين عبد الحق بن إبراهيم الإشبيلي الرقوطي: أبو أحمد مات، المرسي العتكي المريوطي الغافقي سنة "669": معجم المؤلفين "5/ 90"، فوات الوفيات "1/ 516"، والأعلمي "21/ 55"، لسان الميزان "3/ 392"، العقد الثمين "5/ 326". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 64 خلدون في المقدمة: والحق أن الكلام مع المتصوفة في أربعة مواضع: الأول: المجاهدات والمقامات، وما يحصل من الأذواق والمواجد في نتائجها، ومحاسبة النفس على التقصير في أسباب تلك الأذواق التي تصير مقاما، ويترقى منه إلى غيره، وهذا لا مدفع فيه لزحد، وأذواقهم فيه صحيحة، والتحقق بها عين السعادة. والثاني الكرامات كالكشف والتصرفات في الأكوان بخوارق العادات، وهذا غير منكر وإنكار ليس من الحق، وقول الأستاذ الإسفراييني: إنه يلتبس بالمعجزة. فلا لبس؛ إذ الفرق هو التحدي، والوجود شاهد بوقوع الكثير من الكرامات للصحابة، وكثير من السلف، وإنكارها مكابرة. الثالث: حقائق العلويات، وترتيب صدورها، والحقائق لمدركة من علم الغيب كالصفات الربانية، كل موجود غائب، وأكثر كلامهم فيه من نوع من المتشابه إذ هو وجداني عندهم، وفاقد الوجدان بمعزل عن أذواقهم فيه، واللغات لا تعطي دلالة على مرادهم؛ لأنها لم توضع إلا للمتعارف، وأكثره محسوسات، فينبغي أن يعامل كلامهم معاملة المتشابه. الرابع: ألفاظ موهمة الظاهر صدرت من كثير من أئمتهم يعبر عنها بالشطحات تدل على خلاف المعتقدات كالحلول والاتحاد، ووحدة الوجود، فأما من علمت إمامته وثبت فضله ومتانة دينه، فالإنصاف أنهم أهل غيبة عن الحس، والواردات تملكهم حتى ينطقوا بما لا يقصدونه، فالمجبور معذور، والعبارة عن المواجد صعبة لفقدان الوضع لها كما وقع لأبي يزيد وأمثاله. وأما من لم يعلم فضله، ولا اشتهر، فمؤاخذ بما يصدر عنه ما لم يتبين لنا ما يحملنا على تأويل كلامه، وكذلك من تكلم بمثلها وهو حاضر لم يملكه الحال ولو من أئمتهم وأفاضلهم فإنه مؤاخذ أيضا ولذا أفتى الفقهاء وأكابر المتصوفة بقتل الحلاج لأنه تكلم في حضور وهو مالك لحاله، وسلف المتصوفة من أهل رسالة القشيري لم يكن لهم حرص على كشف الحجاب وإنما همهم الاتباع والاقتداء ما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 65 استطاعوا، ومن عرض له شيء من ذلك، أعرض عنه ورآه من العوائق وفر منه، فلا ينطقون بما يدركون، ومنعوا من يكشف له الحجاب من أصحابهم عن الخوض والوقوف عنده، بل يلتزمون طريقتهم كما كانوا في عالم الحس قبل الكشف. ا. هـ. بخ. لكن خلف من بعدهم خلف صار القصد عندهم هو هذه الأمور الثانوية التكلميلية، وقصروا في المقصد، فصار كشفهم ظلمانيا ووجدانهم شيطانيا مع كثرة الطرق وتشعبها حتى إنك إذا بحثت في أي مدينة أو قرية في غالب الممالك الإسلامية، تجد زواياها أكثر من مساجدها ومن المدارس. ولا تكاد تجد عائلة إلا وهي آخذة طريقة من الطرق تتعصب لها برجالها ونسائها وصبيانها على أنه ربما تجد في العائلة طالبا واحدا للعالم ولا تجد فيها من يحسن الكتابة حتى التجأت الدولة الإسلامية أن تعتبر رؤساء الطرق بمنزلة الموظفين، وتسميهم كما تسمي موظفيها لتختار من لا يكون ضدها وفي بعض الأقاليم تجعل رئيسا عاما على جميع المشايخ تسمية شيخ المشايخ. وأول من أحدث هذه الوظيفة السلطان صلاح الدين الأيوبي بمصر، وكان لا يولي عليها إلا أعاظم الرجال كابن حمويه مع ما كان له من الوزارة والإمارة وقيادة الجيش وتدبير الدولة، وذي الوزارتين ابن بنت الأعز. وما زال الحال على ذلك إلى أن توحدت رئاسة الصوفية بمصر في القرن التاسع الهجري، فجعلت لشمس الدين البكري الذي وصفه الشعراء بأنه أعلم أهل زمانه، ولا تزال في البيت البكري إلى الآن. وهذه وظيفة لم تكن في المغرب قط، نعم كان عندنا في المغرب شيوخ عظماء في عملهم وتدينهم معروف فضلهم إلا أن الذين أدركنا غالبهم لا يحسنون الأشقاشق وألفاظا نوعوها، وليس عندهم من الذوق إلا ذوق شيطاني ظلماني أعماهم الجهل، ونصبوا الشباك بالدين ليأكلوا أموال المغفلين، فصدق عليهم قوله تعالى: {إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 66 وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} 1 باعوا الملة والدين ببخس، والله يتولى الانتقام من كل دجال. على أن حدوث التصوف وتطوراته أدخل وهنًا على الفقه كثيرا بل وعلى الفقهاء، وقد كان الإكثار من ذلك بعد القرن السابع من أسباب هرم الفقه؛ إذ خرجوا عن المقصود إلى ما ليس بمقصود، والزيادة في الشيء نقصان، تركوا الأصول والفروض الدينية إلى كثرة النوافل، والتظاهر بالزهد مع الحرص الباطني على الدنيا على أن جل من رأينا أجهل الناس بالدين، وأعرفهم بالتحيل في نصب الحبائل للدرهم والدينار، وجعل المخرقة شبكة للاصطياد يقع في شراكها المغفلون. حتى صار الأمر إلى طرق صورية لا صوفية، لها رقص وغناء ولهو وشطحات وشطح، وتواجد اللسان، وجمود الجنان في كل واد يهيمون ويصفون ما هم عنه ببطونهم غائبون، ويقولون ما لا يفعلون، فرقوا دينهم وصاروا شيعا، وأفضى الحال اليوم إلى فساد كبير، فصار الآخذون به كسالى يزعمون أنهم متوكلون، وإنما هم متواكلون عالة على المسلمين كالعضو الأشل في جماعة المؤمنين يسلبون أموالهم باسم الدين، وما أبعدهم عن الدين. قال الإمام أبو الطيب طاهر الطبري في آخر كتابه في ذم السماع: فمن حظه من التصوف الإلحاح في الطلب، وكثرة الأكل، وسهر الليل، وسماع الغناء، والفرقعة بالأصابع، ودق الرجل والطقطقة بالقضيب، فإنما هو راكب ظلماء، وخابط عشواء قد أسرته شهوته، وأهلكه هواه، وغلبته نفسه، وقطعته الغفلة عن الاهتمام بالدين وسياسة النفس، وكان من الهالكين إلا أن يتوب الله عليه. ولله در أبي الحسن علي بن عبد الرحيم إذ يقول: أهل التصوف قد مضوا ... صار التصوف مخرقه صار التصوف سبحة ... وتواجدا وخطبقة   1 سورة التوبة: الآية 34. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 67 مضت العلوم فلا علو ... م ولا قلوب مشرقة كذبتك نفسك ليس ذا ... سنن الطريق الملحقة حتى تكون بعين من ... عنه العيون محدقة تجري عليك صروفه ... وهموم سرك مطرقه غيره: ليس التصوف لبسا لتصوف ترقعه ... ولا بكاؤك إذا غنى المغنونا بل التصوف أن تصفو بلا كدر ... وتتبع الحق والقرآن والدينا والطامة الكبرى هي أن جل من ينتسب للعلم من أهل زماننا يتسابقون للأخذ عن تلك الطرق البدعية، ويتحزبون لها، ويعضدونها، وهي تمدهم لا مجالة بنزر المتاع، ولكنها في الحقيقة هادمة لمجدهم الديني لانحرافها عن جادته، وذلك بسبب جهلهم بأصل الدين وسنة سيد المرسلين، ومن لم يأخذ عنهم، نظروا له شزرا، وعدوه بدعيا ظاهرا حتى فرقوا علماء الأمة إلى فرقتين: الفقهاء وهم أهل الظاهر أو أهل الرسول وهم أحق بذلك لم يبق إلا رسم الفقه، ومتصوفة وهم أهل الباطن، وإن حققت، قلت أهل بطون قال أبو مدين وهو من أهل القرن السادس: واعلم بأن طريق القوم دراسة ... وحال من يدعيها اليوم وكيف ترى وقال الحضرمي: قد انقطعت التربية بالاضطلاح من جميع بقاع الأرض سنة 824 أربع وعشرين وثمانمائة. وقال تلميذه زروق محتسب الطائفتين: قد تتبعت الطرق في هذا الزمان فلم أجد طريقا حقيقيا ولا اصطلاحيا، وإنما مجرد النسبة وإذا شئت أن تعرف ما آلت إليه الطرق والتصوف منذ قرون فانظر كتاب "موازين القاصرين" للشعراني، ففيه كفاية، وكل ذلك أثر على الفقه وعلى الفقهاء، ولكل أجل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 68 كتاب. وليكن آخر كلامنا في تاريخ التصوف نظم عز الدين بن عبد السلام الذي لا ينعقد إجماع دونه ونصه: ذهب الرجال وحال دون مجالهم ... زمر من الأوباش والأنذال زعموا بأنهم على آثارهم ... ساروا ولكن سيرة البطال لبسوا الدلوق مرقعا وتقشفوا ... كتقشف الأقطاب والأبدال قطعوا طريق السالكين وأظلموا ... سبل الهدى بجهالة وضلال عمروا ظواهرهم بأثواب التقى ... وحشوا بواطنهم من الأدغال إن قلت قال الله قال رسوله ... همزوك همز المنكر المتغالي ويقول قلبي قال لي عن خاطري ... عن سر سري عن صفا أحوالي عن حضرتي عن فكرتي عن خلوتي ... عن جلوتي عن شاهدي عن حالي عن صفو وقتي عن حقيقة حكمتي ... عن ذات ذاتي عن صفا أفعالي دعوى إذا حققتها ألفيتها ... ألقاب زور لفقت بمحال تركوا الشرائع والحقائق واقتدوا ... بطرائق الجهال والضلال جعلوا المرا فتحا وألفاظ الخنا ... شطحا وصالوا صولة الإدلال وترصدوا أكل الحرام تخادعا ... كتخادع المتلصص المحتال فهناك طاب المخلصون وأصبحوا ... متسترين بسورة الأنفال فهم عباد الله أية يمموا ... والذاكرون الله في الآصال القانتون الخاشعون لربهم ... الناطقون بأصدق الأقوال التاركون حظوظهم ونفوسهم ... المؤثرون بخالص الأحوال ما شأنهم في شأنهم دعوى ولا ... عملوا لقصد مراء أو لجدال عملوا بما علموا وجادوا بالذي ... وجدوا وما بخلوا بفضل نوال يمشون بين الناس هونا كلما ... صد الجهول بدوه بالإجمال فإذا بدا ليل سمعت أنينهم ... وحنينهم بتضرع وسؤال وعيونهم تجري بفيض دموعهم ... مثل انهمال الوابل الهطال متفاوتين بقربهم لحبيبهم ... كتفاوت العمال في الأعمال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 69 في الليل رهبان لخدمة ربهم ... وتراهم في الحرب كالأبطال تاهوا على كل الملوك وإنهم ... لهم الملوك بعزة الإقبال ولرب أشعث حقرته دلوقه ... ولدى المليك هو العزيز الغالي بوجوههم أثر السجود لربهم ... وبها أشعة نورها المتلالي خمص البطون وما بهم من فاقة ... شعث الرءوس لروعة الأهوال لم تخل أرض منهم قد حكموا ... ذات اليمين بهما وذات شمال مثواهم بين الثريا والثرى ... والفرش والعرش الرفيع العالي لا ينظرون إلى سوى محبوبهم ... شغلوا به عن سائر الأشغال فهم إليك وسيلتي يا سيدي ... إلا وصلت حبالهم بحبالي وا خيبة الآمال إن اقصيتني ... عن بابهم وا خيبة الآمال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 70 انقراض مذاهب المجتهدين "13" إل ا أربعة منها: اعلم أن تلك المذاهب الثلاثة عشر قد انقرضت كلها مع ما تقدم من تدوينها، ولم يبق إلا أتباع أبي حنيفة ومالك والشافعي وابن حنبل صار الناس إليها في جميع أقطار الأرض الإسلامية، وغلب كل مذهب منها على جهة من أقطار الإسلام. قال الإمام عياض في "المدارك": قد وقع إجماع المسلمين في أقطار الأرض على تقليد هذا النمط، أي: بعض الأئمة "13" السابقة وأتباعهم، ودرس مذاهبهم دون من قبلهم من مذاهب الصحابة والتابعين مع الاعتراف بفضل من قبلهم وسبقه ومزيد علمه، ثم اختلفت الآراء في تعيين المقلد منهم على ما نذكره، فغلب كل مذهب على جهة. فمذهب مالك بن أنس بالمدينة. وأبي حنيفة والثوري بمصر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 70 وأحمد بن حنبل بعده ببغداد، وكان لأبي ثور هناك أتباع أيضا. ثم نشأ ببغداد أبو جعفر الطبري، وداود الأصبهاني، فألفا الكتب، واختاروا في المذاهب على رأي أهل الحديث، واطرح دواد منها القياس، وروى عن كل واحد منهم أتباع وسرت جميع هذه المذاهب. فغلب مالك على أهل الحجاز والبصرة ومصر وما والاها من بلاد إفريقية والأندلس وصقلية والمغرب الأقصى إلى بلاد من أسلم من السودان إلى وقتنا هذا، وظهر ببغداد ظهورا كثيرا، وضعف بالبصرة بعد خمسمائة سنة، وغلب في خراسان على قزوين وأبهر وظهر بنيسابور أولا، وكان بها وبغيرها له أئمة ومدرسون، وكان ببلاد فارس، وانتشر باليمن وكثير من بلاد الشام. وغلب مذهب أبي حنيفة على الكوفة والعراق، وما وراء النهر وكثير من بلاد خراسان إلى وقتنا هذا، وظهر بإفريقية ظهورا كثيرا إلى قريب من أربعمائة سنة، فانقطع منها، ودخل منه شيء قديما بجزيرة الأندلس، وبمدينة فاس، وغلب مذهب الأوزاعي على الشام، وعلى جزيرة الأندلس إلى أن غلب عليها مذهب مالك بعد المائتين فانقطع. وأما مذهب الحسن والثوري، فلم يكثر أتباعهما، ولم يطل تقليدهما وانقطع مذهبهما عن قريب. وأما الشافعي رحمه الله، فكثر أتباعه وظهر مذهبه ظهور مذهب المالكية، ثم بالعراق وبغداد وغلب عليهما وعلى كثير من بلاد خراسان والشام واليمن إلى وقتنا هذا، ودخل وراء النهر وبلاد فارس، ودخل شيء منه إفريقية والأندلس بأخرة بعد ثلاثمائة سنة. وأما مذهب أحمد بن حنبل، فظهر ببغداد، ثم انتشر بكثير من بلاد الشام وغيرها، وضعف الآن. وأما أصحاب الطبري وأبي ثور، فلم يكثروا ولا طالت مدتهم وانقطع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 71 أتباع أبي ثور بعد ثلاثمائة سنة، وأتباع الطبري بعد أربعمائة. أما أتباع داود الظاهري، فقد كثروا وانتشروا ببغداد وبلاد فارس، وقال به قوم قليل بأفريقية والأندلس وضعف الآن. فهؤلاء الذين وقع إجماع الناس على تقليدهم مع الاختلاف في أعيانهم، واتفق العلماء على اتباعهم، والاقتداء بمذاهبهم، ودرس كتبهم، والتفقه على مآخذهم، والتفريع على أصولهم، وصار الناس اليوم في أقطار الأرض على خمسة مذاهب: مالكية وحنفية وشافعية وحنبلية وظاهرية. ا. هـ. بخ على نقل "الديباج" هذا كلام عياض عن انتشار المذاهب في القرن السادس. وقد ابن سلطان: أول "شرح المشكاة": إن بلاد ما وراء النهر، وولاية الهند والروم لا يعرفون إماما غير أبي حنيفة، ولا يعلمون مذهبا سوى مذهبه، وأتباعه أكثر من أتباع جميع الأئمة بحيث يكونون ثلثي المؤمنين بالتثنية. ا. هـ. بخ. أما الظاهرية الآن، فقد انقرضوا، وما بقي إلا المذاهب الأربعة أو الزيدية في اليمن فإفريقية بسودانها ملك لمالك عدا مصر فللشافعي، وبها المالكية وغيرهم قليل، وبالحجاز والشام كذلك، وفيه بعض الحنابلة وخصوصا بالقدس والجزيرة، وكذلك أهل نجد الوهابيون حنابلة وبعض العراق. أما بلاد الترك، فللحنفية مع بلاد العجم والهند، أما بلاد الأفغان فشافعية، وأما مملكة إيران الفارسية فشيعة. قال السيوطي في "فتاويه": إن انحصار المذاهب في الأربعة إنما كان بعد الخمسمائة بسبب موت العلماء، وقصور الهمم، وانقراض العارفين بغيرها نقله في "الأزهار" وقال في "الطبقات السبكية" قال أهل التجربة: إن هذه الأقاليم المصرية والشامية والحجازية متى كان اليد فيها لغير الشافعية خربت، ومتى قدم سلطانها غير شافعي زالت دولته سريعا، وكأن هذا السر فعل الله في هذه البلاد. وكما جعله لمالك في بلاد المغرب، ولأبي حنيفة فيما وراء النهر، ونقل عن الشيخ الإمام والده عن ابن المرجل أنه ما جلس على كرسي مصر غير شافعي إلا وقتل سريعا إلخ. ما ذكره في الورقة عدد 134 من الجزء الخامس. وما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 72 قصدي صحة هذا الكلام أو بطلانه عقلا أو شرعا، وقد تبين أنها أوهام أوقعوها في عقول المغفلين، فقد كانت تلك البلاد بلادا قبل تلك المذاهب وبقيت بلادا عامرة لما حل الأتراك بها، وولوا الحنفية ولا وقع شيء مما كانوا يتوعدون أو يتطيرون، وإنما قصدي أن تعلم البلاد التي توجد فيها تلك المذاهب نافذة الأمر وأسباب نفوذها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 73 الزيدية في اليمن : هم أتباع زيد بن علي1 زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب وإمامهم زيد المذكور، أخذ عن واصل بن عطاء شيخ الاعتزال، فلذلك دخلت لهم بعض عقائدهم. وهم يقولون بإمامة أولاد علي من فاطمة، ويجوزون خروج إمامين في قطرين إذا استجمعا خصال الإمامة من علم وزهد، وشجاعة وسخاء، وبعضهم يزيد صباحة الوجه، ومن مبادئ زيدهم جواز إمامة المفضول مع وجود الأفضل لمصلحة أو تقية كإمامة أبي بكر وعمر مع وجود علي ورضاه، ولما بلغت مقالته الشيعة، رفضوه، فكل طوائف الشيعة روافض إلا الزيدية.   1 ترجمته في تهذيب ابن عساكر "6/ 15"، والكامل "5/ 74"، والطبري في وفيات سنة "121 وسنة 122". وللشيخ الفاضل محمد أبي زهرة رحمه الله كتاب كبير في ترجمته وأخباره، وفقهه وآرائه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 73 بعض تراجم الزيدية : قال 301- السيد الشريف: المتوفى سنة 816 ست عشرة وثمانمائة في "شرح المواقف" ما نصه: أكثر الزيدية في زماننا مقلدون يرجعون في أصول الدين إلى الاعتزال وفي الفروع إلى مذهب أبي حنيفة إلا في قليل من المسائل. ا. هـ. ونقله في "الأزهار" وسلمه. وقال بعضهم: أهل الأصول التي خالفوا فيها السنة أربعة: القول بإمامة زيد، ثم أولاد فاطمة، وبوجوب الخروج على الظلمة، وهذا أخذوه عن الخوارج والقول بالعدل والتوحيد بالمعنى المشهور عند المعتزلة، أما في الفقه، فالتحقيق أنهم لا يتقيدون بمذهب وأئمتهم يدعون الاجتهاد، ولكن لا يخرجون عن المذاهب الأربعة غالبا، فمذهبهم خليط بين اعتزال. وتشيع باعتدال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 73 قال في "صبح الأعشى": ومن أئمة الزيدية سلطانهم: 302- يحيى بن سعيد الزاهد بن القاسم الرسي 1: بويع بالإمامة سنة 288، وتوفي بصعدة سنة 298، وله مصنفات في الحلال والحرام كان مجتهدا في الأحكام الشرعية، وله في الفقه آراء غريبة وتآليف بين الشيعة مشهورة، قال ابن حزم: ولم يبعد في الفقه عن الجماعة كل البعد. ا. هـ. ومن أئمتهم: 303- الحسن بن علي بن الحسن بن زيد بن عمر بن علي بن الحسين بن علي: صنف الكتب على مذهب الزيدية، ويلقب بالإمام الناصر للحق. ومنهم 304- الحسن بن زيد بن محمد بن إسماعيل بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي: وهو الذي ثار في طبرستان وملكها في سنة 250 خمسين ومائتين وتوفي سنة 270 له كتاب جامع في الفقه، وكتاب "البيان". ومنهم 305- القاسم بن إبراهيم العلوي البرسي: صاحب صعدة، وإليه تنسب الزيدية القاسمية توفي سنة 280 ثمانين ومائتين ومنهم 306- أبو الحسن علي بن محمد بن علي الصليحي2: كان فقيها على مذهبهم مستبصرا في علم التأويل، ملك اليمن سنة 455 خمسة وخمسين وأربعمائة، ولكنه قتل سنة 743 ثلاث وسبعين وأربعمائة، ومنهم   1 يحيى بن الحسين الزاهد بن القاسم الرسي: يحيى بن الحسين بن القاسم بن الحسن بن زيد بن علي. لسان الميزان "6/ 248"، دائرة معارف الأعلمي "30/ 89". 2 أبو الحسن علي بن محمد بن علي الصليحي: مات سنة "84" دمية القصر "1/ 51، 53"، الأنساب "8/ 87"، سير الأعلام "18/ 359"، المنتظم "8/ 165" اللباب "2/ 246"، الكامل "9/ 614" تاريخ ابن خلدون "4/ 214" البداية والنهاية "12/ 96" النجوم الزاهرة "5/ 58" المختصر "1/ 554، 557". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 74 علامتهم المتفنن إمامهم المهدوي: 307- أحمد بن مرتضى الحسين المهدوي: الذي بويع بإمامتهم العظمى لما مات صلاح الدين الأيوبي سنة 793 ثلاث وتسعين وسبعمائة، وقد حبس بعد ذلك سبع سنين، فألف في أثنائها متن "الأزهار" وشرحه "الغيب المدرار" في فقه الزيدية، ثم خرج من السجن، وذهب إلى الإمام الهادي، واتفقا، وتم له الأمر بعده، قال المقبلي صاحب "العلم الشامخ" الإمام المهدي هو الذي أخرج مذهب الزيدية إلى حيز الوجود. ومن أئمتهم المقلدين: 308- أبو الحسن عبد الله بن مفتاح: الذي شرح كتاب الأزهار بشرح سماه "المنتزع المختار من الغيث المدرار" انتزعه من شرح المصنف اعتنى فيه بتحقيق الراجح في مذهبهم، وبذكر خلاف علماء الأمصار كأبي حنيفة والشافعي ومالك وابن حنبل توفي سنة 877 سبع وسبعين وثمانمائة، ومنهم الإمام: 309- إسماعيل بن القاسم بن محمد: ينتهي نسبه إلى إبراهيم بن الحسن المثني، وهو المتوكل على الله الزيدي ولي اليمن بعد وفاة أخيه محمد المؤيد وخلع أخيه أحمد سنة 1055، وسار سيرة حسنة ودانت له أقاليم اليمن. كان عالما متضلعا أخذ عن كثير من علماء الزيدية والشافعية، وألف تواليف رائقة منها شرحه على جامع الأصول وجمع أربعين حديثا تتعلق بمذهب الزيدية، وشرحها شرحا مستوعبا، وله رسالة في التحسين والتقبيح العقليين، وكان باحثا مناظرا يعظم الشرع، ولا يخرج عن حكمه، ولكن ذكر بعضهم أنه استولى سنة 1070 على حضرموت فأمرهم أن يزيدوا في الأذان: حي على خير العمل، وترك الترضي على الشيخين، وكان شاعرا رقيقا توفي سنة 1087 سبع وثمانين وألف عن سبعين سنة. ا. هـ. بخ "خلاصة الأثر". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 75 ومنهم: 310- الإمام محمد بن علي بن محمد الشوكاني الصنعاني 1: إمام علماء اليمن في القرن الثالث عشر حديثا وأصولا ومشاركة رواية ودراية، معروف بالتحرير، وجودة التأليف، قاضي القضاة موصوف عندهم بالاجتهاد، المستقل، وقد أنكروه عليه في أول أمره، ونازعوه فيه وحصلت من ذلك فتنة ولكن في آخر الأمر أذعنوا لعلمه وسعة اطلاعه، وله تآليف تدل على باع وحسن اطلاع ككتابه "نيل الأوطار" الذي شرح به أحاديث الأحكام التي جمعها الإمام مجد الدين عبد السلام بن عبد الله الحراني الشهير بابن تيمية2 وهو مطبوع، وله شرح الأزهار في فقه الزيدية سلك فيه رد الفروع لأصلها مبينا أدلة الأقوال سالكا سبيل التعادل والتراجع على طريقة كتابه "نيل الأوطار" غير مقيد بمذهب وله كتاب "إرشاد الفحول" في علم الأصول مطبوع أيضا من أحسن مختصرات هذا الفن جمع فيه لبه في أسلوب لطيف غير أنه يميل للاعتزال3 إذ مذهب الزيدية مبني على ذلك، وله تآليف غير ذلك. حاصلة نادرة القرن الهجري الماضي ما أظن أنه كان فيه مثله. هذه كلمة حملني عليها الإنصاف توفي سنة 1250 خمسين ومائتين وألف، وللزيدية أئمة آخرون يطول بنا ذكرهم.   1 محمد بن علي بن محمد الشوكاني الصنعاني -إمام علماء اليمن: أبو عبد الله ولد سنة "1173"، مات سنة "1250": الشوكاني الصنعاني الخولاني: التاج المكلل ص"43، 458"، معجم المؤلفين "11/ 53". 2 المتوفى سنة "653هـ" واسم كتابه "المنتقى من أخبار المصطفى" وهو جد شيخ الإسلام ابن تيمية ترجمته في "ذيل طبقات الحنابلة" "2/ 249، 254" لابن رجب الحنبلي. 3 فيه نظر، فإنه رحمه الله كان على مذهب السلف كما يعلم ذلك من كتابه "التحف بمذهب السلف" وقد صرح في ترجمته نفسه في "البدر الطالع" "2/ 214، 225"، بأنه ترك التقليد واجتهد رأيه اجتهادا مطلقا غير مقيد.. هذا والحق أنه كان زيديا في أول أمره، ثم ترك المذهب كما يظهر في نيل الأوطار رحمه الله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 76 فقه الشافعية ... فقه الشيعة: قد ألف 311- يعقوب بن كلس: وزير العزيز الفاطمي بمصر كتابا يتضمن الفقه على ما سمعه من المعز لدين الله وابنه العزيز، وقد بوبه على أبواب الفقه، فبلغ حجمه نصف حجم صحيح البخاري حشاه فقه الطائفة الإسماعيلية، ولقد بذل الفاطميون جهدهم في نشره. حتى كان الوزير المشار إليه يجلس بنفسه لقراءته على الطلبة وبين يديه الخواص والعوام وسائر الفقهاء والأدباء وجعله مرجع القضاء والفتوى، فأفتى الناس به، ودرسوه في جامع عمرو بن العاص. ورغب خلفاؤهم الناس في حفظه ببذل العطاء، فأجرى العزيز الرزق على 35 فقيها ليحضروا مجلس الوزير وأكثر في هذا الباب بما يطول، ثم تعقب من يطالع غيره. ولقد وجدوا "الموطأ" عند رجل يوما فضربوه وطافوا به تأييدا لهذه السياسة التي ربطوها بالدين. ولقد كان يعقوب الوزير هذا يهوديا فأسلم، وأحسن في خدمة العزيز، وقد مرض يوما فعاده، وقال له: لو أنك تباع، لاشتريت حياتك بملكي، انظر ابن الأثير. ولقد صار خلفاؤهم على هذا المنوال حتى إن الظاهر منهم قد أخرج المالكية من مصر سنة 411 وغيرهم من الفقهاء وشددوا على الناس في حفظ دعائم الإسلام ومختصر الوزير المذكور انظر المقريزي وغيره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 77 ومذهب الشيعة هو السائد في مملكة إيران بأرض فارس إلى وقتنا هذا، وفيهم علماء وفقهاء كثيرون، ولبعدهم عن أوطاننا وانقطاع الصلات العلمية وغيرها بيننا وبينهم لم نتعرض لتراجمهم، وليست مملكة إسلامية في المعمورة على هذا المذهب سواهم فيما أظن. أما الإسماعيلية، فهم بنواحي الشام، ويعتبرهم العالم الإسلامي كفارا مارقين من الجامعة الإسلامية، ويسمون الملاحدة والباطنية من بقايا القرامطة، وأصحاب حسن بن صباح تغلبوا في أواسط القرن الخامس على حصون بقرب قزوين، وقوم منهم بسورية وجبال طرسوس وبقيت سلطتهم إلى أواسط القرن السابع ولا زالت منهم بقية إلى الآن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 78 تراجم المجتهدين في القرن الثالث والرابع مدخل ... تراجم المجتهدين في القرن الثالث والرابع غير ما تقدم: 312- الأول أبو نعيم الفضل بن دكين1: الحافظ العلم مولى آل طلحة بن عبيد الله الكوفي الملائي الأحول قال أحمد: ثقة يقظان، وقال الفسوي: أجمع أصحابنا أنه كان غاية في الإتقان توفي سنة "219" تسع عشرة ومائتين. 313- أبو أيوب سليمان بن داود بن علي2: ابن عبد الله بن عباس الهاشمي البغدادي الفقيه توفي سنة "219" تسع عشرة ومائتين.   1 أبو نعيم الفضل بن دكين: ترجمته في تاريخ بغداد "12/ 346"، وتهذيب التهذيب "8/ 270، 276". 2 أبو أيوب سليمان بن داود بن علي بن عبد الله بن عياش الهاشمي البغدادي الفقيه: الهاشمي العباسي توفي "219": التاريخ الكبير "4/ 10"، تاريخ بغداد "9/ 31"، الوافي بالوافيات "15/ 389"، العبر "1/ 376، 377"، دائرة الأعلمي "19/ 237". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 78 314- أبو عثمان عفان بن مسلم 1 بن عبد الله الأنصاري: مولاهم البصري الصفار أحد الأئمة الأعلام. توفي سنة "220" عشرين ومائتين. 315- أبو عبد الرحمن عبد الله بن مسلمة بن قعنب2: القعنبي الحارثي المدني نزيل البصرة أحد الأعلام في العلم والعمل راوي "الموطأ" وقال الذهبي: من أئمة الهدى حتى تغالى فيه بعض الحفاظ، وفضله على مالك الإمام، توفي سنة إحدى وعشرين ومائة. 316- أبو أيوب سليمان بن حرب الأزدي3 الواشحي بمعجمة فمهملة البصري قاضي مكة أحد الأعلام الحافظ، قال أبو حاتم: حضرت مجلسه ببغداد، فحزروا من فيه بأربعين ألف رجل توفي سنة "224" أربع وعشرين ومائتين.   1 أبو عثمان عفان بن مسلم بن عبد الله الأنصاري مولاهم البصري الصغار: الباهلي البصري الأنصاري الصغار مات بعد سنة "219 أو 220": تاريخ بغداد "12/ 269"، تاريخ الثقات "336"، الثقات "8/ 522"، تذكرة "1/ 379"، تقريب التهذيب "2/ 25"، تهذيب التهذيب "7/ 230"، تهذيب الكمال "2/ 941"، الخلاصة "2/ 234"، الكاشف "2/ 270"، شذرات "2/ 47"، سير النبلاء "10/ 242"، الأعلام "4/ 238"، دائرة الأعلمي "22/ 52"، لسان الميزان "7/ 306". 2 أبو عبد الرحمن عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي الحارثي المدني: التميمي وقيل: التيمي القعنبي الحارثي المدني البصري مات سنة "221": تقريب التهذيب "1/ 451"، تهذيب التهذيب "6/ 31، 33"، تهذيب الكمال "2/ 742"، الخلاصة "2/ 100"، الجرح والتعديل "5/ 839"، الكاشف "2/ 131"، الديباج المذهب "1/ 411، 413"، الأنساب "1/ 468"، ثقات "8/ 353"، العبر للذهبي "1/ 382، 383"، تاريخ الثقات "9/ 21". 3 أبو أيوب سليمان بن حرب الأزدي الواشحي البصري الأسدي قاضي مكة: تقريب التهذيب "1/ 322"، تهذيب التهذيب "4/ 178"، تهذيب الكمال "1/ 533"، الكاشف "1/ 391"، الخلاصة "4/ 410"، جامع المسانيد "2/ 474"، الأنساب "13/ 261"، تراجم الأحبار "2/ 36"، البداية والنهاية "10/ 291"، سير النبلاء "10/ 330". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 79 317- أبو عبيد القاسم بن سلام 1: الأزدي مولاهم البغدادي صاحب التصانيف وأحد أعلام الأئمة حديثا وفقها ولغة قال إسحاق بن راهويه: أبو عبيد أفقه ومن الشافعي وأحمد أعلم، وقال الدارقطني: جبل إمام، وفي "أعلام الموقعين" أنه جبل نفخ فيه الروح علما وجلالة، ونبلا وأدبا وقال الذهبي في كتاب "العلو": إنه من أئمة الاجتهاد توفي سنة "224" أربع وعشرين ومائتين ولي قضاء طرسوس 18 سنة وهو أول من صنف في الغريب، وكتبه تنيف عن عشرين. 318- أبو زكريا يحيى بن يحيى بن بكير بن عبد الرحمن التميمي 2: الحنظلي النيسابوري أخذ عن مالك وأقرانه "الموطأ" وغيرها، وعن خارجة بن مصعب والكبار، وعنه يرويها البخاري ومسلم، وهو غير يحيى بن يحيى الأندلسي السابق، له رحلة طويلة أثنى عليه العلماء كثيرا. قال الذهبي: عالم المشرق، وإليه المنتهى في الإتقان والورع والجلالة بنيسابور قل أن ترى العيون مثله، وأهدى لمالك هدية عظيمة باع ورثته بقيتها بثمانين ألفا، كان من العلماء الأجواد الثقاة. توفي سنة "226" ست وعشرين ومائتين.   1 ابن سلام بتشديد اللام، ترجمته في تذكرة الحفاظ "417"، ووفيات الأعيان "4/ 60"، وتهذيب التهذيب "7/ 315". 2 أبو زكريا يحيى بن يحيى بن بكير بن عبد الرحمن التميمي الحنظلي النيسابوري: التميمي المنقري النيسابوري الحنظلي. سير النبلاء "10/ 512"، والحاشية تهذيب التهذيب "11/ 296"، الأنساب "12/ 460"، تهذيب الكمال "3/ 1524"، الجرح والتعديل "9/ 823"، الكاشف "3/ 271"، الخلاصة "3/ 163"، نسيم الرياض "2/ 12"، التاريخ الصغير "2/ 354". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 80 319- أبو الوليد هشام بن عبد الملك الباهلي مولاهم الطيالسي 1: البصري الإمام الحافظ الحجة قال أحمد: متقن وهو اليوم شيخ ما أقدم عليه أحدا من المحدثين، وقال أبو حاتم: كان إماما فقيها عاملا ثقة حافظا ما رأيت في يده كتابا قط توفي سنة "227" سبع وعشرين ومائتين. 320 - أبو عثمان سعيد بن منصور بن شعبة الخراساني 2 كان حافظا جوالا صنف السنن جمع فيها ما لم يجمعه غيره، قال حرب الكرماني: أملى علينا عشرة آلاف حديث من حفظه توفي سنة "227" سبع وعشرين ومائتين. 321- أبو عبد الله محمد بن سعد بن منيع الزهري 3: كاتب الواقدي هو من موالي الحسين بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب   1 أبو الوليد هشام بن عبد الملك الباهلي مولاهم الطيالسي: الباهلي البصري الكوفي الطيالسي ولد سنة "133" توفي "227": تقريب "2/ 319"، تهذيب التهذيب "11/ 45، 47"، الكاشف "3/ 223"، الخلاصة "3/ 15"، تهذيب الكمال "3/ 441"، الثقات "7/ 571"، الميزان "4/ 301"، تراجم الأحبار "1534"، الأنساب "3/ 449"، "9/ 114"، التاريخ الصغير "2/ 355". 2 أبو عثمان سعيد بن منصور بن شعبة الخرساني: الخراساني الجورقاني المروزي الطالواني الجوزجاني: مات سنة "227" أو "229": تقريب التهذيب "1/ 306"، تهذيب التهذيب "4/ 89"، الكاشف "1/ 373"، الميزان "2/ 159"، العبر "1/ 399"، لسان الميزان "7/ 232"، سير النبلاء "10/ 86"، الأعلمي "19/ 182". 3 أبو عبد الله محمد بن سعيد بن منيع الزهري "كاتب الواقدي": أبو عبد الله الأشجعي البصري الزهري كاتب الواقدي البغدادي الشهرة غلام الواقدي. مات "سنة 230": تقريب التهذيب "2/ 163"، تهذيب التهذيب "9/ 182"، الكاشف "3/ 46"، تهذيب الكمال "3/ 1201"، الخلاصة "2/ 406"، تاريخ بغداد "5/ 321"، الجرح والتعديل "7/ 1433"، لسان الميزان "7/ 359"، سير النبلاء "10/ 664"، الأعلمي "26/ 275". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 81 أحد الأئمة الأعلام النبلاء الأجلاء، صحب الواقدي زمنا، وكتب له، وعرف به، روى عن ابن عيينة وطبقته، وروى عنه أبو بكر بن أبي الدنيا وغيره، وصنف كتابا في طبقات الصحابة والتابعين والخلفاء إلى وقته، فأجاد فيه وأحسن في نحو 15 مجلدا، وقد وقفت على ثلاثة أجزاء منها تجزئة ثمانية وهي الجزء الثالث والخامس والثامن طبعت في مدينة ليدن طبعها مدير المدرسة الشرقية في برلين سنة 1321 إلى 1322 هجرية، فلا أدري هل كملت كلها أم لا وهي مطبعة غاية الإتقان، وله طبقات صغرى، وكان ثقة مأمونا عمدة عند من أتى بعده بخلاف شيخه الواقدي، فقد تكلموا فيه حتى رموه بالكذب، وكان غزير العلم، كثير الكتب في الفقه والحديث وغيرهما، أثنى عليه الخطيب البغدادي وغيره.. توفي سنة "230" ثلاثين ومائتين. 322- يحيى بن معين بن عون المري البغدادي الحافظ 1: المشهور كان إماما عالما حافظا متقنا قال الذهبي: هو سيد الحفاظ النجاد، حامل راية الحديث لا يحتاج إلى تعريف، كان أبوه على خراج الري، فترك له ألف ألف وخمسين ألف درهم، فأنفقها على الحديث، ونقل عنه قال: كتبت بيدي ستمائة ألف حديث، قال راوي هذا الخبر أحمد بن عقبة: وإني أظن أن المحدثين كتبوا له ستمائة ألف حديث. كان رفيق ابن حنبل وأليقه في الحديث، وأخذ عنه أمثال البخاري ومسلم وأبي داود وروى عنه ابن حنبل وأبو خيثمة من أقرانه، وقال فيه أحمد: كل حديث لا يعرفه، فليس بحديث قال ابن المديني: انتهى العلم بالبصرة إلى   1 يحيى بن معين بن عون المري البغدادي الحافظ: أبو زكريا العطاني البغدادي المري. ولد سنة "158" توفي سنة "233" أو سنة "203" عن "77" سنة: وفيات الأعيان "6/ 139"، معجم المؤلفين "13/ 232"، والحاشية تذكرة الحفاظ "2/ 16"، تاريخ الثقات "475"، تقريب التهذيب "2/ 358"، تهذيب التهذيب "11/ 280"، تهذيب الكمال "3/ 1519". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 82 يحيى بن أبي كثير وقتادة، وعلم الكوفة إلى إسحاق والأعمش، وعلم الحجاز إلى ابن شهاب، وعمرو بن دينار، وصار علم هؤلاء الستة بالبصرة إلى سعيد بن أبي عروبة وشعبة ومعمر وحماد بن سلمة وأبي عوانة، وبالكوفة إلى سفيان الثوري وابن عيينة، وبالحجاز إلى مالك، وبالشام إلى الأوزاعي، وانتهى علم هؤلاء إلى محمد بن إسحاق وهشيم، ويحيى بن سعيد، وابن أبي زائدة ووكيع، وابن المبارك وهو أوسع هؤلاء علما، وابن مهدي ويحيى بن آدم، وصار علم هؤلاء جميعا إلى يحيى بن معين، وقال ابن الرومي: ما رأيت أحدا يقول الحق في المشايخ غير يحيى بن معين، أما غيره، فكان يتحامل بالقول، وكان يحيى كثيرا ما ينشد: المال يذهب حله وحرامه ... طرا ويبقى في غد آثامه ليس التقي بمتق لإلاهه ... حتى يطيب شرابه وطعامه ويطيب ما يحوي ويكسب كفه ... ويكون في حسن الحديث كلامه نطق النبيء لنا به عن ربه ... فعلى النبي صلاته وسلامه توفي يحيى سنة "233" ثلاث وثلاثين ومائتين بالمدينة المنورة. 323- أبو الحسن علي بن عبد الله بن جعفر بن نجيح التميمي السعدي 1: مولاهم البصري الحافظ إمام المحدثين قال البخاري: ما استصغرت نفسي إلا بين ابن المديني، وأكثر عنه في صحيحه، وكان ابن عيينة يسميه حية الوادي،   1 أبو الحسن علي بن عبد الله بن جعفر بن نجيح التميمي السعدي مولاهم البصري الحافظ: أبو الحسن البصري السعدي ابن المديني. مات سنة 234 أو 208: تقريب التهذيب "2/ 39"، تهذيب التهذيب "7/ 349"، الكاشف "2/ 288"، تهذيب الكمال "2/ 978"، الخلاصة "2/ 251"، التحفة اللطيفة "3/ 23"، الميزان "3/ 138"، تاريخ بغداد "11/ 458"، تذكرة "2/ 428"، شذرات "2/ 81"، العبر "1/ 418"، تراجم الأحبار "3/ 79-192". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 83 وقال القطان: كنا نستفيد منه أكثر مما يستفيد منا، وقد أجاب إلى القول بخلق القرآن ولذلك تكلم فيه أحمد والعقيلي، وأنت تعلم أن من وضعه أحمد سقط، إلا أنه رجع، على أنها قولة سياسية أكثر منها دينية، ولعله لذا لم يذكره مسلم في صحيحه. توفي سنة "234" أربع وثلاثين ومائتين. 324- أبو عبد الرحمن محمد بن عبد الله بن نمير 1: مصغر الهمداني الكوفي الحافظ أحد الأعلام توفي سنة "234"، أربع وثلا ثين ومائتين. 325- أبو جعفر عبد الله بن محمد بن علي القضاعي 2: النفيلي الحراني عالم الجزيرة، الحافظ أحمد الأئمة، قال الذهبي: من أركان الدين يُنظر بابن حنبل، قال أبو داود، ما رأيت أحفظ منه، توفي سنة "234"، أربع وثلاثين ومائتين عن سن عالية. 326- أبو بكر عبد الله بن محمد بن إبراهيم بن أبي شيبة 3: العبسي بموحدة مولاهم الكوفي الحافظ أحد الأعلام صاحب   1 أبو عبد الرحمن محمد بن عبد الله بن نمير مصغر الهمداني الكوفي الحافظ: أبو عبد الرحمن الهمداني الكوفي المخارفي الإمام مات سنة 234: المعرفة والتاريخ انظر الفهارس صفحة "756"، تهذيب التهذيب "2/ 180"، "9/ 282"، الكاشف "3/ 65"، التاريخ الكبير "1/ 144"، تراجم الأحبار "4/ 25"، نسيم الرياض "1/ 260"، سير النبلاء "11/ 455"، الأنساب "5/ 10". 2 أبو جعفر عبد الله بن محمد بن علي القضاعي النفيلي الحراني عالم الجزيرة: تهذيب التهذيب "6/ 16، 18"، أخرج حديثه البخاري وأصحاب السنن، دائرة الأعلمي "21/ 239". 3 أبو بكر عبد الله بن محمد بن إبراهيم بن أبي شيبة العبسي مولاهم الكوفي: الكوفي العبسي أبو بكر مات سنة 235: المعرفة والتاريخ الفهارس صفحة "651"، تاريخ أسماء الثقات "689"، تقريب التهذيب "4/ 445"، رجال صحيح مسلم "1/ 385"، رقم "852"، تهذيب التهذيب "1/ 421"، العبر "1/ 421"، دائرة الأعلمي "21/ 226"، الميزان "2/ 490"، تراجم الأحبار "2/ 295"، البداية والنهاية "10/ 315". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 84 "المصنف" مات سنة "235" خمس وثلاثين ومائتين. 327 - أبو إسحاق إبراهيم بن المنذر بن عبد الله الأسدي 1: الحزامي المدني أحد كبار العلماء المحدثين مات سنة "236" ست وثلاثين ومائتين. 328- أبو عمرو خليفة بن خياط بن خليفة العصفري 2: البصري المعروف بشباب، صاحب "الطبقات" الحافظ العارف بالتاريخ وأيام الناس، غير الفضل والعلم، شيخ البخاري وطبقته. قال ابن عساكر: توفي سنة "240" أربعين ومائتين، وقال غيره: سنة ثلاثين. 329- أبو محمد يحيى بن أكثم 3 بن محمد التيمي: المروزي ثم البغدادي من ولد أكثم بن صيفي حكيم العرب، كان فقيها   1 أبو إسحاق إبراهيم بن المنذر بن عبد الله الأسدي الحزامي المدني: تهذيب التهذيب "1/ 166، 167". 2 أبو عمرو خليفة بن خياط بن خليفة العصفري البصري: أبو هبيرة، العصفري الليثي الحافظ البصري، مات سنة 160: تقريب التهذيب "1/ 227"، تهذيب التهذيب "3/ 161"، لسان الميزان "2/ 49"، الثقات "6/ 59"، التمهيد "8/ 365"، الجرح والتعديل "3/ 1727، 1726"، العبر "1/ 15". 3 أبو محمد يحيى بن أكثم بن محمد التيمي المروزي البغدادي: القاضي الخراساني، مات سنة 242، 243 عن 83 سنة: ضعفاء ابن الجوزي "3/ 191"، تقريب التهذيب "2/ 342"، الكاشف "3/ 250"، تهذيب التهذيب "11/ 179"، تهذيب الكمال "3/ 1487"، الجرح والتعديل "9/ 549"، جامع الرواة "2/ 326". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 85 عالما بصيرا بالأحكام محدثا سياسيا سنيا، روى عنه الترمذي وغيره عظمه أحمد وغيره، وتكلم فيه ابن معين وغيره حيث سمع من ابن المبارك وهو صغير، وقال إسماعيل القاضي: كان يحيى أبرأ إلى الله من أن يكون فيه شيء مما يرمى به، ولكنه فيه دعابة. وقال ابن حبان: لا يشتغل بما يروى عنه أكثرها لا يصح. قال طلحة بن محمد: إنه أحد أعلام الدنيا، واسع العلم والأدب والفقه، حسن العارضة، قائم بكل معضلة. ونقل الخطيب في تاريخه عن الإمام أحمد أنه ذكر له ما يرمونه به فقال: سبحانه الله من يقول هذا، وأنكر إنكارا شديدا. ولي القضاء بالبصرة سنة "202" اثنين ومائتين. قال محمد بن منصور: كنا مع المأمون في طريق الشام، فنادى بتحليل المتعة، فقال يحيى: لي ولأبي العيناء: بكرا إليه غدا، فإن رأيتما للقول وجها، فقولا، وإلا فاسكتا إلى أن دخل، قال: فدخلنا عليه وهو يستاك ويقول وهو مغتاظ: متعتان كانتا على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعلى عهد أبي بكر وأنا أنهى عنهما ومن أنت يا جاهل حتى تنهى عما فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأومأ أبو العيناء إلى ابن منصور يقول رجل يقول في عمر بن الخطاب ما يقول كيف نكلمه، فجاء يحيى وجلس، فقال المأمون: ما لي أراك متغيرا؟ فقال: لما حدث في الإسلام، قال: وما حدث؟ قال النداء بتحليل الزنى، قال: الزنى؟! قال: نعم، المتعة الزنى، قال: ومن أين قلت هذا؟ قال: من كتاب الله وحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال الله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} إلى قوله: {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} 1 يا أمير المؤمنين زوجة المتعة ملك يمين؟ قال: لا، قال: فهي الزوجة التي عند الله ترث وتورث وتلحق الولد ولها شرائطها؟ قال: لا، قال: فقد صار متجاوز هذين من العادين، وهذا الزهري يا أمير المؤمنين روى عن عبد   1 سورة المؤمنون الآية: 1-7. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 86 الله والحسن ابني محمد بن الحنفية عن أبيهما عن علي كرم الله وجهه "أمرني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن أنادي بالنهي عن المتعة وتحريمها بعد أن كان أمر بها، فالتفت إلينا المأمون، وقال: أمحفوظ هذا من حديث الزهري؟ فقلنا: نعم رواه جماعة منهم مالك بن أنس، فقال: أستغفر الله، نادوا بتحريم المتعة، فنادوا بها. قال أبو إسحاق وإسماعيل بن حماد القاضي: كان يحيى بن أكثم يوم في الإسلام لمن يكن لأحد مثله، وذكر هذا اليوم. وكانت كتب يحيى في الفقه أجل كتب، فتركها الناس لطولها وله كتب في الأصول، وله كتاب أورده على العراقيين سماه "التنبيه"، وبينه وبين داود الظاهري مناظرات كثيرة، وكان يحيى من أدهى الناس، وأخبرهم بالأمور، ولا يعلم أحد غلب على سلطانه في زمانه إلا يحيى بن أكثم وأحمد بن أبي داود حتى لم يتقدمها أحد عنده، وكان المأمون ممن برع في العلوم، فعرف حال يحيى وعلمه وعقله ما أخذ بمجامع قلبه حتى قلده قضاة القضاء، وتدبير أهل مملكته، فكانت الوزراء لا تعمل في تدبير الملك شيئا إلا بعد مطالعة يحيى. قيل: إن المأمون استوزره، وقيل: إنما كان مستشارا، وقد قاد له الجيوش، وغزا معه الروم، فهو فقيه وقائد ووزير وقاض. سئل بعض البلغاء عنه وعن ابن أبي داود؟ فقال: إن يحيى يهزل مع خصمه وعدوه، وابن أبي داود يجد مع ابنته وجاريته، ولم يقل يحيى بخلق القرآن، ولا بشيء من هوس المعتزلة. ولما ولي قضاء البصرة كان ابن عشرين سنة، فجاء بعضهم إليه وقال: كم سن القاضي؟ فأجاب بديهة: ولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عتاب بن أسيد مكة أصغر مني، وأنا أكبر من معاذ لما وجهه إلى اليمن، ومن كعب بن سوار لما وجهه عمر قاضيا على البصرة، فكان جوابا وحجة، وولي قضاء مصر لما قدمها مع المأمون ثلاثة أيام وقد سخطه آخر عمره، وأوصى أخاه أن لا يركن إليه ولا يستوزره، وكان وجهه من مصر مغضوبا عليه كما في "مروج الذهب"، ولكن تولى قضاء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 87 القضاة أيام المتوكل بعد محمد بن أحمد بن أبي داود، ثم عزل، وتوفي سنة "242" اثنين وأربعين ومائتين، بالربذة وقيل: ثلاث وأربعين. انظر ابن خلكان وقد تنازع فيه الشافعية والحنفية، فكل يدعي أنه من مقلديهم. وكل يدعي وصلا بليلى ... وليلى لا تقر لهم بذاك 330- أحمد بن منيع البغوي 1: أبو جعفر الأصم صاحب "المسند" وروى عنه أئمة الصحيح كلهم. توفي سنة "244" أربع وأربعين ومائتين عن سن تناهز 84. 331- أبو عبد الله أحمد بن نصر بن أبي زياد القرشي 2: النيسابوري المقرئ الزاهد الفقيه الحافظ أحد الأئمة الكبار، فقيه أهل الحديث في عصره، صاحب سنة. توفي سنة "245" خمس وأربعين ومائتين عن 84 سنة. وهو غير 332- أحمد بن نصر بن مالك الخزاعي3: الذي قتله الواثق بيده لامتناعه من القول بخلق القرآن سنة "231" إحدى وثلاثين ومائتين. 333- أبو بكر محمد بن بشار العبدي الملقب بندار 4: أحد أوعية السنة مجمع على فضله.   1 أحمد بن منيع البغوي: ترجمته في تذكرة الحفاظ "2/ 481"، تهذيب التهذيب "1/ 84". 2 أبو عبد الله أحمد بن نصر بن أبي زياد القرشي: ترجمته في تهذيب التهذيب "1/ 85، 86". 3 أحمد بن نصر بن مالك الخزاعي: ترجمته في تهذيب التهذيب "1/ 87"، وطبقات الحنابلة صفحة "45"، وتاريخ بغداد "5/ 173". 4 أبو بكر محمد بن بشار العبدي الملقب بندار: البصري، الشهرة: بندار: ولد سنة 167 مات سنة 252: تقريب التهذيب "2/ 147"، تهذيب التهذيب "9/ 70"، تهذيب الكمال "3/ 1177"، الخلاصة "2/ 384"، الكاشف "3/ 23"، الجرح والتعديل "7/ 1187"، الميزان= الجزء: 2 ¦ الصفحة: 88 توفي سنة "252"، اثنين وخمسين ومائتين. 334- أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن بن الفضل بن بهرام الدرامي 1: السمرقدني الحافظ أحد الأعلام صاحب "المسند" الذي هو أحق أن يعد من الكتب الستة والتفسير والجامع، روى عنه مسلم في الصحيح، والبخاري خارجه، وأبو داود والترمذي وغيرهم. قال أحمد: إمام زمانه، قال ابن حبان: كان ممن حفظ وجمع وتفقه، وصنف وحدث وأظهر السنة في بلده، ودعا إليها، وذب عن محارمها، وقمع مخالفيها. مات سنة "255" خمس وخمسين ومائتين والدارمي نسبة إلى دارم بطن من بني تميم كما قال التفتازاني على الأربعين النووية. 335- أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخاري 2: الجعفي مولاهم ولاء إسلام، أمير المؤمنين في حديث سيد المرسلين الحافظ   1 أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن بن الفضل بن بهرام الدارمي السمرقدني: التميمي، ولد سنة 181، مات سنة 255: معجم المؤلفين "6/ 71"، تقريب التهذيب "1/ 492"، تهذيب التهذيب "5/ 294"، تهذيب الكمال "2/ 703"، الكاشف "2/ 103"، الخلاصة "2/ 74"، مرآة الجنان "2/ 161"، العبر للذهبي "2/ 8"، تاريخ بغداد "10/ 92، 33، الإعلام "4/ 95، 96"، التاريخ "8/ 364"، الأعلمي "21/ 206". 2 أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخاري مولاهم ولاء إسلام: أبو عبد الله الجعفي، البخاري، ولد سنة 194، مات سنة "265: تقريب التهذيب "2/ 144"، تهذيب التهذيب "9/ 47"، تهذيب الكمال "3/ 1169"،= الجزء: 2 ¦ الصفحة: 89 الحجة الذي كان يتوقد ذكاء، الورع التقي الكبير الشأن عديم النظير، المجمع على فضله وثقته وحفظه من الرأي العام الإسلامي من زمنه إلى الآن. له رحلتان من خراسان إلى العراق والجزيرة والحجاز والشام وإلى مصر، كتب عن أكثر من ألف شيخ من نخبة علماء وقته. لقي مكي بن إبراهيم بخراسان، وأبا عاصم النبيل بالبصرة، وعبد الله بن موسى بالكوفة والمقرئ بمكة، والفريابي بالشام، وأحمد بن صالح بمصر. وألف الجامع الصحيح الذي لا يحتاج في التنويه به إلى الزيادة على أكثر من ذكر اسمه الذي هو أعظم مواد الفقه، الحاوي لنفائس دقائقه، وبديع فلسفته، وبارع استنباطه، وأغزر موارده تفريقا وتأصيلا، انتخبه من زهاء ستمائة ألف حديث، فكان نحو ألفين وخمسمائة فقط، كلها مسندة متصلة دون ما فيه من التعاليق، وأقوال السلف وغيرها، وقد رواه عنه في حياته نحو تسعين ألفا من علماء الأقطار المتنائية. أما ثناء العلماء عليه، وذكر مناقبه، فشيء كثير، وقد خصت بتآليف كيف لا وهو مفخرة من مفاخر الإسلام، وجامعه حجة الله في الأنام، اتفقت الأمة أنه أصح كتب الدين الإسلامي من بعد المصحف الكريم لا يقدم عليه أي كتاب غيره للثقة العامة الحاصلة بصاحبه. قال فيه شيخه أحمد بن حنبل: هو فقيه هذه الأمة، توفي سنة "256" ست وخمسين ومائتين عن اثنين وستين سنة، وله تآليف عظام في التاريخ وغيره لا زالت حجة ومفخرة على مر الأيام منذ اثني عشر قرنا لم يتبدل فكر الأمة فيها. 336- أبو عبد الله الزبير بن بكار الأسدي 1: قاضي مكة   1 أبو عبد الله الزبير بن بكار الأسدي: ترجمته في تاريخ بغداد "8/ 467"، ووفيات الأعيان "2/ 311، 312"، وفي مقدمة الأستاذ محمود شاكر لجمهرة نسب قريش ترجمة واسعة له. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 90 وعالم أنساب قريش، وعمدة الناس في ذلك على كتبه، كان ذا فضل وعلم، روى عن ابن عيينة وغيره، ووثقه الدارقطني، والخطيب: وأخرج له ابن ماجه، وابن أبي الدنيا. توفي بمكة وهو قاضيها سنة "256" ست وخمسين ومائتين، عن أربع وثمانين سنة. 337- أبو عبد الله محمد بن يحيى بن عبد الله الذهلي 1: النيسابوري الحافظ: أحد الأعلام الكبار إمام أهل خراسان بعد إسحاق بلا مدافعة، وكان رئيسا مطاعا، كبير الشأن، وهو الذي كان سببا في إخراج البخاري من بلده ووفاته مغتربا، ومع ذلك روى له في صحيحه، متفق عليه، له رحلة واسعة جمع أحاديث الزهري في مجلدين، توفي سنة 258 ثمان وخمسين ومائتين. 338- أبو الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري 2: النيسابوري الحافظ الحجة أحد أئمة الإسلام، ومفخرة الأعلام، ويكفي   1 أبو عبد الله محمد بن يحيى بن عبد الله الذهلي النيسابوري: أبو علي، الزهري، مات سنة 258 أو سنة 252 أو سنة 259: معجم المؤلفين "12/ 105"، الأنساب "6/ 351"، حاشية الأنساب "8/ 194"، الوافي بالوفيات "5/ 186"، تقريب التهذيب "2/ 271، 218، 222"، تهذيب التهذيب "9/ 511"، تهذيب الكمال "3/ 1286"، الكاشف "3/ 107"، الخلاصة "2/ 467، 468"، نسيم الرياض "2/ 84"، تراجم الأحبار "4/ 79". 2 أبو الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري: النيسابوري، ولد سنة 204، مات سنة 261: تقريب التهذيب "2/ 245"، تهذيب التهذيب "10/ 162"، تهذيب الكمال "3/ 1342"، الكاشف "3/ 140"، الخلاصة "3/ 24"، العبر "1/ 547"، الجرح والتعديل "8/ 797"، الأنساب "10/ 426"، نسيم الرياض "1/ 345"، التقييد "2/ 250"، البداية والنهاية "11/ 33"، والأعلمي "72/ 264". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 91 في ترجمته أن نقول: هو مسلم مؤلف الصحيح الذي هو توءم صحيح البخاري، وله كتاب "الطبقات" وغيرهها، أجمعت الأمة على قبول صحيحه كصحيح البخاري، والتدين بما فيهما، والتبرك بكتابيهما، وأنهما في الدرجة الثانية صحة وتشريعا بعد كتاب الله سبحانه، وتلقتهما بالقبول وكمال الثقة، واعتبارهما ركنين مكينين للشريعة المطهرة لا يتم تشريع لفقيه دونهما للثقة العامة الحاصلة لمؤلفيهما، لزيادة التحري والإتقان. رحل مسلم إلى أقطار الأرض، وأخذ عن أعلام كيحيى بن يحيى النيسابوري والبخاري وعبد الله القعنبي، وأحمد، وابن راهويه، وقدم بغداد غيره مرة، فسمع منه أعلامها. قال محمد الماسرجسي: سمعت مسلم بن الحجاج يقول: صنفت الصحيح من ثلاثمائة ألف حديث مسموعة، وقال أبو علي النيسابوري الحافظ: ما تحت أديم السماء أصح من كتاب مسلم، وكان مسلم حر الضمير واللسان. ولما وقع من محمد بن يحيى الذهلي ما وقع في جانب البخاري حيث قال: إن لفظي بالقرآن حادث، وأمر الذهلي كل من يحضر مجلسه ألا يذهب إلى البخاري، قام مسلم من مجلس الذهلي، ووجه إليه بكل ما روى عنه، ولم يتخلف عن البخاري. توفى سنة 261 إحدى وستين ومائتين عن سبع وخمسين سنة، وقال ابن خلكان: عن خمس وخمسين. 339- أبو زرعة عبيد الله بن عبد الكريم المخزومي مولاهم الرازي 1 إمام أهل الحديث في زمانه الحافظ المشهور في أقطار الأرض أحد الأئمة   1 أبو زرعة عبيد الله بن عبد الكريم المخزومي مولاهم الرازي: أبو زرعة مولى عباس بن مطرف الأزدي، المخزومي، ولد سنة 200، مات سنة 264: تاريخ بغداد "10/ 326"، تقريب التهذيب "1/ 536"، تهذيب التهذيب "7/ 30"،= الجزء: 2 ¦ الصفحة: 92 الأعلام. قال أحمد: ما عبر جسر بغداد أحفظ من أبي زرعة، وكان من الأبدال الذين تحفظ بهم الأرض، وقال: يحفظ هذا الشاب سبعمائة ألف حديث. نقله الذهبي في كتاب "العلو" وقال بعده: قلت: كان رأسا في العلم والعمل ومناقبه جمة. وقال إسحاق: كل حديث لا يعرفه أبو زرعة، فليس له أصل، وقال صالح بن محمد عنه: إنه قال: أحفظ عشرة آلف حديث في القرآن، وقال: ما سمع أذني شيئا من العلم إلا وعاه قلبي، توفي سنة 264 أربع وستين ومائتين. 340- أبو عبد الله محمد بن ماجه بن يزيد الربعي القزويني 1: إمام من أئمة المسلمين، متقن مقبول باتفاق، ألف السنن المعدودة من الكتب الستة عند كثير من المتأخرين. وله تفسير، رحل رحلة واسعة، توفي سنة 273 ثلاث وسبعين ومائتين. 341- أبو داود سليمان بن الأشعث 2 بن إسحاق بن بشير الأزدي السجستاني: نزل بغداد، ثم البصرة آخرا، الإمام الحافظ الحجة المجتمع على فضله وعلمه، الرحال، أحد أئمة الدنيا فقها وعلما وحفظا، ونسكا وورعا وإتقانا،   1 أبو عبد الله محمد بن ماجه بن يزيد الربعي القزويني: أبو عبد الله، حافظ قزوين: المعين رقم "1177"، من أخطأ علي الشافعي ص"99". 2 أبو داود سليمان بن الأشعث بن إسحاق بن بشير الأزدي السجستاني" السحزي، ولد سنة 202، مات سنة 275: تقريب التهذيب "1/ 321"، تهذيب التهذيب "4/ 169"، تهذيب الكمال "1/ 530"، الكاشف "4/ 169"، الخلاصة "1/ 408"، نسيم الرياض "1/ 40"، والأنساب "7/ 84"، طبقات الحفاظ "26"، الجرح والتعديل "4/ 456"، التقييد "2/ 4"، التمهيد "1/ 216"، العبر "1/ 500". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 93 كتابه السنن من كتب الحديث المقبولة عند الأمة، وهي في الرتبة الأولى بعد الصحيحين، ومن مواد الفقه العظيمة حيث خصصها بأحاديث الأحكام، لا يستغني عنها فقيه، بها نيف وأربعة آلاف حديث، عرضها على الإمام أحمد، فاستحسنها واستجادها. وكان يقول: كتبت خمسمائة ألف حديث انتخبت منها ما ضمنته السنن توفي سنة 275 خمس وسبعين ومائتين عن تسع وثمانين سنة، ودفن بالبصرة. 342- أبو عبد الرحمن بقي بن مخلد القرطبي 1: الحافظ الإمام المولود سنة 201 الزاهد المجاهد، حضر سبعين غزوة، وكان يختم القرآن في كل ليلة بثلاث عشرة ركعة، له مسند وتفسير وغيرهما. قال ابن حزم: ما ألف مثل تفسير بقي بن مخلد أصلا، توفي سنة 276 ست وسبعين ومائتين صح من "المنح". 343- أبو حاتم محمد بن إدريس بن المنذر الحنظلي 2: مولاهم الرازي الحافظ الكبير: قال الخطيب: كان أحد الأئمة الحفاظ الأثبات، ومن كبار أئمة الأثر، أدرك أبا نعيم والأنصاري وطبقتهما، وحدث عنه   1 أبو عبد الرحمن بقي بن مخلد القرطبي: أبو عبد الرحمن، القرطبي الأندلسي، ولد سنة 201، ومات سنة 273: معجم طبقات الحفاظ "67"، نسيم الرياض "1/ 372"، بغية الملتمس "245"، البداية النهاية "11/ 56، 86"، الصلة "1/ 116"، الوافي بالوفيات "10/182"، الأعلام "2/ 23"، العبر "2/ 56"، المعرفة والتاريخ "3/ 273"، التمهيد "1/ 97، 4/ 254". 2 أبو حاتم محمد بن إدريس بن المنذر الحنظلي: الحفظي، الغطفاني، الأزدي، ولد سنة 195، ومات سنة 277: الفلاكة "82"، المعين "1120"، السابق واللاحق "323"، الجرح والتعديل "7/ 1133"، تقريب التهذيب "2/ 143"، تهذيب التهذيب "9/ 31"، تهذيب الكمال "3/ 1264"، الكاشف "3/ 18"، الخلاصة "2/ 378"، الثقات "9/ 137". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 94 أبو داود والكبار، توفي سنة 277 سبع وسبعين ومائتين، وقال في "المدارك": ذكره الباجري في أئمة المالكية. 344- أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة السلمي الترمذي 1: الحافظ الضرير المولود أكمه سنة 209 تسع ومائتين. كان أحد الأئمة الأعلام، صاحب الجامع المعدود من الكتب الستة المتعمدة، والتي هي من مواد الفقه العظمى المقبولة لدى الأمة، جمع فيه فنونا من علوم الحديث التي تفيد الفقيه، فانفرد بها، فإنه يذكر الحديث وغالبه في أحكام الفقه، فيذكر أسانيده، ويعدد الصحابة الذين رووه، ويصحح ما صح، ويضعف ما ضعف، ويتكلم على الرجال والعلل، ويبين من أخذ بالحديث من الفقهاء ومن لم يأخذ به، فجامعه أجمع السنن لهذه الفوائد العظيمة وغيرها، وأنفعها للمحدث والفقيه، وله التفسير والشمائل وغيرها توفي سنة 279 تسع وسبعين ومائتين. 345- أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا 2: القرشي الأموي مولاهم البغدادي حافظ الدنيا المشهور ذو التصانيف. قال أبو حاتم: صدوق، توفي سنة "281" إحدى وثمانين ومائتين. قال في "المنح البادية": له ألف تأليف، وله الثلاثيات، وكان إذا جالس أحدا إن شاء أضحكه، وإن شاء أبكاه في آن واحد لتوسعة في العلم والأخبار.   1 أبو عيسى محمد بن سورة السلمي الترمذي: أبو عيسى، الضرير البوغي الترمذي الضرير السلمي أو الضحاك أو السكي: عاش بصيرا ورحل وكتب وإنما أضر كما قال الخطيب آخر عمره وتوفي سنة 275: الأنساب "2/ 361"، الثقات "9/ 153"، الميزان "3/ 678"، سير النبلاء "13/ 270"، الأعلمي "14/ 46"، الخلاصة "2/ 447"، تهذيب الكمال "3/ 1255"، جمع الزوائد "7/ 350"، لسان الميزان "7/ 371. 2 أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا القرشي الأموي: تاريخ بغداد "10/ 89"، وطبقات الحنابلة "1/ 192"، وتهذيب التهذيب "6/ 12"، وتذكرة الحفاظ "2/ 677". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 95 346- أبو عبد الرحمن بن شعيب النسائي 1: الخراساني القاضي الرحالة أحد الأئمة الحفاظ، وأئمة الإسلام المشهور اسمه وكتابه، صاحب السنن الكبرى والصغرى المسماة بالمجتبى2 المعدودة من الكتب الستة المعتمدة في السنة. سمع من قتيبة بن سعيد، وإسحاق بن راهويه، وخلق كثير من الأعلام، وروى عنه الدولابي وابن السني، وأبو القاسم الطبراني وخلق. أثنى عليه الطحاوي، والدارقطني، وأبو علي النيسابوري بالإمامة والإتقان، وقال الذهبي: إنه أحفظ من الإمام مسلم، وقد نسب للتشيع، وامتحنوه، فمات مقتولا لتفضيله عليا على معاوية رضي الله عنهما. ولد سنة "215" وتوفي سنة "304"، أربع وثلاثمائة وهو شافعي المذهب على ما قيل. النسائي هو آخر أصحاب الكتب الستة موتا، وقد استوفيناهم، ويكفيهم فضلا بقاء شهرتهم منذ اثني عشر قرنا في أقطار الإسلام الشاسعة لا يزيدون إلا اشتهارا ورفعة، ولا يزالون كذلك إن شاء الله. 347- أبو مسلم إبراهيم بن عبد الله البصري الكجي 3: الحافظ الكبير، مسند العصر، لقي أبا عاصم الأنصاري، وعمر   1 أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي الخراساني القاضي: تذكرة الحفاظ "2/ 698"، ووفيات الأعيان "1/ 77، 78"، وطبقات الشافعية "2/ 83"، والشذرات "2/ 239". 2 قال الذهبي في سير أعلام النبلاء: ورقة 172: وجه أول تعليقا على قول ابن الأثير: وسأل أمير أبا عبد الرحمن عن سننه أصحيح كله؟ قال: لا، قال: فاكتب لنا منه الصحيح، فجرد المجتبى: قلت: هذا لم يصح، بل المجتبى اختيار ابن السني تلميذ النسائي، وقال أيضا في ورقة 173 وجه أول: الذي وقع لنا من سننه هو الكتاب المجتبى منه انتخاب أبي بكر بن السني. 3 أبو مسلم إبراهيم بن عبد الله البصري الكجي: تذكرة الحفاظ "2/ 62، 621"، وشذرات الذهب "2/210". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 96 دهرا، وألف السنن المعروفة توفي سنة "292" اثنين وتسعين ومائتين. 348- أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة 1 بن المغيرة النيسابوري: الملقب بإمام الأئمة، وحافظ نيسابور وفقيهها. قال أبو علي النيسابوري: ما رأيت مثله، كان يحفظ الفقهيات من حديثه، كما يحفظ القارئ السورة. وقال الذهبي: كان رأسا في السنة، رأسا في الفقه، من دعاة السنة، وغلاة المثبتة، له جلالة عظيمة بخراسان، أخذ الفقه عن المزني قال في "أعلام الموقعين": لم يكن مقلدا، بل إماما مستقلا، له أصحاب ينتحلون مذهبه، كما ذكره البيهقي في "مدخله"، وكان مذهبه مؤسسا على الأثر. ولد سنة "323" سمع في صغره من ابن راهويه، ومحمد بن حميد الرازي، وحدث عن خلق كمحمود بن غيلان، وعلي بن حجر، وأحمد بن منيع، وروى عنه البخاري ومسلم خارج الصحيح وغيرهما، له رحلة عظيمة، وعلم واسع، وفضل كبير، وألف جامعا صحيحا مشهورا وغيره، تزيد تواليفه على مائة وأربعين تأليفا. توفي سنة "311" إحدى عشرة وثلاثمائة عن "88" ثمان وثمانين سنة. 349- أبو العباس محمد بن إسحاق الثقفي 2: النيسابوري السراج من حفاظ الحديث، وصنف المسند على الأبواب، عمر دهرا   1 أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة بن المغيرة النيسابوري: أبو بكر، السلمي الخزيمي، النيسابوري، الشافعي إمام الأئمة، ولد سنة 223، 424، 222، مات سنة 311، 511: الإكمال "3/ 243"، والأنساب "5/ 124"، المعين "1219"، ثقات "9/ 156"، سير النبلاء "14/ 365"، التقيد "1/ 16"، معجم المؤلفين "9/ 39، 40"، الوافي بالوفيات "2/ 196"، المنتظم "6/ 184"، الجرح والتعديل "7/ 1103". 2 أبو العباس محمد بن إسحاق الثقفي النيسابوري السراج: اسمه محمد بن إسحاق بن إبراهيم بن مهران، أبو العباس، السراج، الثقفي النيسابوري الحراساني، ولد سنة 216 أو 218، مات سنة 313: السابق اللاحق "325"، تاريخ بغداد "1/ 248"، الوافي بالوفيات "2/ 187"، الأنساب "7/ 112"، المعرفة والتاريخ "3/ 338"، العبر "2/ 157"، طبقات السبكي "2/ 129"، سير النبلاء "14/ 188"، الأعلمي "26/ 166". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 97 طويلا. توفي سنة "313" ثلاث عشرة وثلاثمائة. 350- أبو بكر محمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري 1 نزيل مكة أحد أعلام الأمة وأحبارها، كان إماما مجتهدا حافظا ورعا، له التصانيف السائرة، ككتاب السنن، وكتاب الإجماع، وكتاب الإشراف في الاختلاف. قال الذهبي: كان على نهاية من معرفة الحديث والأخلاق، وكان مجتهدا لا يقلد أحدا. وقال السبكي: المحمدون أربعة: محمد بن نصر، ومحمد بن جرير الطبري، ومحمد بن المنذر، ومحمد بن خزيمة؛ بلغوا مراتب الاجتهاد، ولا يخرجهم ذلك عن كونهم من أصحاب الشافعي المخرجين على أصوله المتمذهبين بمذهبه، لو فاق اجتهادهم اجتهاده، بل ادعى من بعدهم من أصحابنا الخلص كالشيخ أبي علي أنه وافق رأيهم رأي الإمام الأعظم، فتبعوه، ونسبوا إليه؛ لأنهم مقلدون فما ظنك بالأربعة فإنهم لم يخرجوا في أغلب المسائل. توفي ابن المنذر بعد سنة "316" ست عشرة وثلاثمائة.   1 أبو بكر محمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري: أبو بكر، النيسابوري الكسائي، مات 309 أو 310: نسيم الرياض "3/ 450"، العبر "3/ 30". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 98 351- أبو محمد يحيى بن محمد بن صاعد 1: حافظ بغداد. من أئمة هذا الشأن، لحق أصحاب مالك، وحماد بن زيد، وصنف، وجمع. توفي سنة "318" ثمان عشرة وثلاثمائة، وله تسعون سنة. 352- أبو بشر محمد بن أحمد بن حماد الدولابي 2: الوراق الرازي ممن يشار إليهم في الحديث والتاريخ. وله التصانيف المفيدة التي اعتمدها كل من بعده، أخذ عنه الطبراني وابن حبان وغيرهما. توفي سنة "320" عشرين وثلاثمائة بالعرج. والدولاب بضم الدال وفتحها: نسبة إلى قرية بالري، والعرج بفتح العين: عقبة بين مكة والمدينة. 353- أبو نعيم عبد الملك بن محمد بن عدي الجرجاني الإسترابادي: أحد أئمة المسلمين فقها وحديثا، له رحلة واسعة، وصار يرحل إليه في الفقه والحديث، وهو غير أبي نعيم الأصبهاني   1 أبو محمد يحيى بن محمد بن صاعد حافظ بغداد: أبو محمد، مولى أبي جعفر المنصور، الأشمي، البغدادي، ولد سنة 228، توفي سنة 318: فهرست النديم "288"، جامع المسانيد "2/ 585"، العبر "2/ 173"، سير النبلاء "14/ 501"، الحاشية، طبقات الحفاظ "325"، السابق واللاحق "373"، التمهيد "3/ 230"، تاريخ بغداد "14/ 231". 2 أبو بشر محمد بن أحمد بن حماد الدولابي الرازي: أبو بشر، الدولابي، الحافظ والرازي، الوراق، الناسخ، من أهل الرأي والأنصاري بمصر، ولد سنة 224، مات سنة 310 أو سنة 320: الميزان "3/ 459"، لسان الميزان "5/ 41"، المغني "5/ 525"، التاج المكلل "124"، معجم المؤلفين "8/ 255"، والحاشية، وفيات الأعيان "4/ 352، 642"، المعين "1230"، ميزان الاعتدال "3/ 17"، تذكرة الحفاظ "2/ 32"، سؤالات حمزة "83"، العبر "2/ 145"، سير النبلاء "14/ 903"، والحاشية، الأعلام "5/ 308"، والحاشية، نسيم الرياض "3/ 43"، طبقات علماء إفريقية وتونس ص97، دائرة معارف الأعلمي "26/ 147"، ديوان الضعفاء "3566"، الأنساب "5/ 413"، والوافي بالوفيات "2/ 36". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 99 الآتي في تراجم الشافعية. توفي سنة "323" ثلاث وعشرين وثلاثمائة. 354- أبو حفص عمر بن أحمد بن عثمان بن شاهين 1: وبه شهر البغدادي، صاحب التواليف العظيمة، قال السيوطي: منتهى التصانيف في الكثرة ابن شاهين، صنف ثلاثمائة وثلاثين مصنفا، منها التفسير في ألف جزء، والمسند خمسة عشر مائة، والتاريخ مائة وخمسون. توفي سنة "335" خمس وثلاثين وثلاثمائة. 355- أبو بكر بن أحمد بن إسحاق الصبغي 2: النيسابوري عديم النظير في الفقه، بصير بالحديث، كبير الشأن. توفي سنة "342" اثنين وأربعين وثلاثمائة. 356- أبو حاتم محمد بن حبان البستي 3: التميمي السمرقندي الإمام الحافظ الجليل، صاحب التصانيف الشهيرة في الحديث   1 أبو نعيم عبد الملك بن محمد بن عدي الجرجاني الإسترابادي: الحوال والفقيه، ولد سنة 242، ومات سنة 323، أو 320: الأنساب "1/ 199"، الأعلام "4/ 162"، سير النبلاء "14/ 541"، البداية والنهاية "11/ 183"، تاريخ بغداد "10/ 428"، تذكرة "3/ 816"، شذرات "2/ 299"، مرآة الجنان "2/ 287"، طبقات الشافعية "3/ 335"، العبر "2/ 198"، النجوم "3/ 251". 2 أبو حفص عمر بن أحمد بن عثمان بن شاهين: البغدادي الواعظ، ولد سنة 297: تاريخ بغداد "11/ 265، 268"، المنتظم "7/ 182، 183"، تذكرة الحفاظ "3/ 987، 990"، العبر "3/ 29، 30"، دول الإسلام "1/ 234"، مرآة الجنان "2/ 426"، البداية والنهاية "11/ 316، 317"، نهاية النهاية "1/ 588"، لسان الميزان "4/ 283، 285"، النجوم "4/ 172". 3 أبو حاتم محمد بن حبان البستي التميمي السمرقندي: أبو حاتم، التميمي، الحنظلي البستي، الدارمي الحباني ولي قضاء سمرقند. مات سنة 353 أو 354: الميزان "3/ 506"، الأنساب "2/ 225"، "4/ 39ط، لسان الميزان "5/ 112"، المعين "1268"، المغني رقم "5378"، الأكمال "2/ 316"، "1/ 432"، التقييد "1/ 51"، در السحابة ص61، حاشية التجبير "1/ 147ط، المشتبه ص"112". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 100 والجرح والتعديل، رحل من الشام إلى الإسكندرية، فكتب عن ألفي شيخ، بل أكثر، فصارت إليه الرحلة من أقطار الأرض. كان ثقة نبيلا، وربما غلط الغلط الفاحش. ولي قضاء سمرقند، وكان من فقهاء الدين، وحفاظ الأثر، عالما بالنجوم والطب واللغة ومن عقلاء الناس، صنف الصحيح والضعفاء، والثقات، وفقه الناس بسمرقند. توفي سنة "354" أربع وخمسين وثلاثمائة. 357- أبو بكر محمد بن الحسين الآجري 1: المحدث الأثري ذو التصانيف الحسان، ككتاب الشريعة في السنة، وجاور مدة بمكة. توفي سنة "360" ستين وثلاثمائة. 358- أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب بن مطير اللخمي الطبراني 2: الإمام الشهير الحافظ، رحل في طلب الحديث من الشام إلى العراق والحجاز واليمن ومصر وبلاد الجزيرة الفراتية، وأقام في الرحلة ثلاثا وثلاثين سنة، وسمع الكثير من الحديث وعدد شيوخه ألف شيخ. وله المصنفات الممتعة النافعة الغريبة منها المعاجم الثلاثة الكبير، والأوسط، والصغير، وهي أشهر كتبه، روى عنه الحافظ أبو نعيم وخلق كثير   1 أبو بكر بن الحسن الآجري الأثري: ترجمته في تذكرة الحفاظ "3/ 936"، وسير أعلام النبلاء "10/ 178"، وتاريخ بغداد "2/ 243"، ووفيات الأعيان "4/ 292"، والبداية "11/ 270"، طبقات الحنابلة "332"، طبقات الشافعية "2/ 150"، الشذرات "3/ 35". 2 أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب بن مطير اللخمي الطبراني: أبو القاسم الأصبهاني الطبراني الشامي الشيباني اللخمي، ولد سنة "260" ومات سنة "360": دايون الضعفاء "1725"، المغني "2557"، الميزان "2/ 195"، الأنساب "9/ 35"، نسيم الرياض "1/ 440"، لسان الميزان "3/ 73"، سير النبلاء "16/ 119"، معجم المؤلفين "4/ 253". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 101 مولده بطبرية الشام سنة ستين ومائتين، وسكن أصبهان إلى أن توفي بها سنة "360" ستين وثلاثمائة. قال في "المنح البادية": كان ثقة صدوقا واسع الحفظ، بصيرا بالعلل، إليه المنتهى في كثرة الحديث. تكلم ابن مردويه في أخيه، فأوهم أنه فيه، وليس فيه، بل هو ثبت، صنف المسند الكبير، ولم يذكر فيه مسند أبي هريرة، فإنه أفرده بمصنف، ويشتمل المعجم الكبير على ستين ألف حديث تجزئة اثني عشر مجلدا، وفيه قال ابن دحية: هو أكبر مسانيد الدنيا. ا. هـ. بخ. وقال الذهبي في كتاب "العلو": إنه محدث الدنيا، وانتهى إليه علو الإسناد في الدنيا، عاش مائة سنة وأياما، وصنف كتبا كثيرة تدل على حفظه وبراعته وسعة روايته. ا. هـ. منه. 359- أبو محمد عبد الله بن محمد بن جعفر بن حيان: بفتح المهملة وتشديد المثناة تحت يلقب بأبي الشيخ1، له تواليف كثيرة، توفي سنة "367" سبع وستين وثلاثمائة عن ثلاث وسبعين سنة، كذا في "المنح البادية" وفي كتاب "العلو": إنه توفي سنة تسع وتسعين وهو في عشر المائة، وقال فيه: إنه محدث أصبهان، وكان إماما في الحديث، رفيع الإسناد، له كتاب السنة، وفضائل الأعمال، والسنة الكبير، وغير ذلك ككتاب "العظمة".   1 أبو محمد عبد الله بن محمد بن جعفر بن حيان "ملقب بأبي الشيخ": الأصبهاني الحياني، ولد سنة "274"، مات سنة "369": معجم المؤلفين "6/ 114"، والحاشية الأنساب "4/ 322، 323"، سير النبلاء "16/ 276"، العبر "2/ 351/ 352"، السابق واللاحق "77"، أصبهان "2/ 90"، التنكيل "129/ 308"، والوافي بالوفيات "17/ 485"، تذكرة الحفاظ "3/ 945، 947"، الأعلام "4/ 120"، الأكمال "5/ 95". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 102 360- أبو بكر محمد بن إبراهيم بن إسماعيل الإسماعيلي 1: إمام أهل جرجان، قال الذهبي: كان من مشايخ الإسلام رأسا في الحديث والفقه، قال أبو إسحاق في "طبقات الشافعية": جمع بين الفقه والحديث، ورئاسة الدين والدنيا، وله تصانيف كثيرة، منها "المستخرج على الصحيح" و"المعجم"، وله مسند كبير في نحو مائة مجلد، قال الشيرازي: وهو يدل على غزارة علمه، فإنه على شرط البخاري، وله تصانيف على البخاري ومسلم. توفي سنة "371" إحدى وسبعين وثلاثمائة عن أربع وستين سنة. 361- الإمام أبو عبد الله محمد بن إسحاق بن محمد بن يحيى بن منده 2: العبدي الأصفهاني محدث الشرق له كتاب "معرفة الصحابة" وغيره من التصانيف الجيدة. توفي سنة "395" خمس وتسعين وثلاثمائة عن بضع وثمانين سنة. فهؤلاء بعض من حضرتني تراجمهم من المجتهدين وهم قل من جل، والإتيان على جميعهم أو جلهم يحتاج لأسفار، كما أننا لم يمكننا أن نوفيهم حقهم في التحلية والأوصاف، بل أسماؤهم كافية عن ذلك لشهرتهم، فهم   1 أبو بكر محمد بن إبراهيم بن إسماعيل: ترجمته في سير أعلام النبلاء "10/ 219"، والبداية "11/ 298"، وتذكرة الحفاظ "3/ 947"، وطبقات الشافعية "2/ 71"، والشذرات "3/ 75". 2 أبو عبد الله محمد بن إسحاق بن محمد بن يحيى بن منده العبدي الأصفهاني: أبو عبد الله العبدي الأصبهاني الجوال، ولد سنة "311 أو 316" ومات سنة "395": حاشية التحبير "1/ 86"، لسان الميزان "5/ 70"، سير النبلاء "17/ 28"، أصبهان "2/ 306"، الوافي بالوفيات "2/ 190"، الأعلام "6/ 29"، معجم المؤلفين "9/ 42، 43"، العبر "3/ 59"، وفيات الأعيان "6/ 168"، الأعلمي "26/ 169"، الميزان "3/ 479". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 103 نخبة الأمة وقادتها. وقد يقول قائل: إن بعضهم لم يشتهر كل الاشتهار بالفقه والفتوى، ومنهم من نسب إلى تقليد الشافعي أو غيره، لكن لما كانت لهم خدمة جليلة في الفقه بسبب خدمة الحديث الذي هو مادته أو التفسير كذلك، لذلك تعين إيرادهم، ونسبتهم للتقليد غير مضرة إما لعدم ثبوتها، أو لكونهم بلغوا ربتة الاجتهاد، فتقليدهم في بعض المسائل بمعنى موافقه الاجتهاد لا يعد تقليدا، والمقلدون الذين نسبوهم للتقليد يكثرون بهم سوادهم والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 104 تراجم الحنفية في القرن الثالث والرابع : أعني بعض المشاهير الذين نشروا مذهبه وبرزوا فيه أو دونوه وقاموا بنصرته. 362- إبراهيم بن رستم المروزي 1: مؤلف كتاب "النوادر" للحنفية المتوفى سنة "211"، إحدى عشرة ومائتين. تفقه على أسد البجلي، وروى عن محمد بن الحسن، وسمع من مالك وغيره. 363- عيسى بن أبان 2: القاضي المحدث. توفي سنة "221" إحدى وعشرين ومائتين. قال هلال بن يحيى: ما في الإسلام قاض أفقه من عيسى، وله كتاب في الحج. 364- محمد بن سماعة 3: التميمي، له كتاب "النوادر" أيضا. توفي سنة "233" ثلاث وثلاثين ومائتين.   1 إبراهيم بن رستم المروزي: ترجمته في "الفوائد البهية" ص"9، 10". 2 عيسى بن أبان القاضي: أبو موسى الفقيه القاضي القاساني، مات سنة "221": الميزان "3/ 310"، المشتبه "495"، تبصير المنتبه "3/ 1146"، الأنساب "1/ 304"، جامع المسانيد "2/ 526"، تاريخ بغداد "11/ 157"، دائرة الأعلمي "23/ 105". 3 محمد بن سماعة التميمي: أبو عبد الله التميمي الكوفي القاضي الحنفي، توفي "233 أو 223 أو 236": تهذيب التهذيب "2/ 167"، تهذيب التهذيب "9/ 204"، دائرة معارف الأعلمي "26/ 281"، الطبقات الكبرى "5/ 433"، العبر "1/ 284، 414"، الأعلام "6/ 153"، معجم المؤلفين "10/ 57"، سير النبلاء "1/ 646"، الوافي بالوفيات "3/ 139". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 105 365- الوليد الكندي قاضي بغداد: المتوفى سنة "238" ثمان وثلاثين مائتين. 366- هلال بن يحيى بن مسلم الرأي 1: البصري أحد الذين رووا عن محمد بن الحسن كتبه. توفي سنة "245" خمس وأربعين ومائتين وأخذ عن أبي يوسف، وزفر، له مصنف في الشرط وأحكام الوقف. 367 - أحمد بن عمر الخصاف 2: مصنف كتاب "الحيل"، وكتاب "الأوقاف"، وهو مشهور متداول وكتب غيره. توفي سنة "261" إحدى وستين ومائتين عن نحو ثمانين سنة. 368- أبو بكرة بكار بن قتيبة 3: ابن أسد بن أبي بردعة الثقفي قدم مصر متوليا قضاءها من قبل المتوكل سنة "246"، وظهر من حسن سيرته، وجميل طريقته ما هو مشهور، كان من أفقه أهل زمانه في المذهب، وله كتب جليلة، وكان له مع أحمد بن طولون صاحب مصر وقائع مذكورة، وكان يدفع له كل سنة ألف دينار خارجا عن المقرر، فيتركها بختمها، فلما دعاه إلى خلع الموفق بن المتوكل والد المعتضد من ولاية العهد، أبى، فاعتقله، ثم طالبه بجملة المبلغ السنوي، فأحضره بختمه ثمانية   1 قيل له الرأي لسعة علمه وكثرة فهمه كما قيل: ربيعة الرأي كذا في الفوائد البهية للكنوي ص"223"، وهو مترجم في "الجواهر المضية" "2/ 207". 2 الخصاف بمعجمة فصاد مهملة وآخره فاء بوزن شداد كان يأكل من صنعته وخصفه النعال. ا. هـ. من "الفوائد البهية في تراجم الحنفية" ص"29"، وترجمه أيضا صاحب الجواهر المضية "1/ 87". 3 أبو بكرة بكار بن قتيبة بن أسد بن أبي بردعة الثقفي: أبو بكر البكراوي الثقفي البصري، توفي "270": التمهيد "2/ 123"، وفيات الأعيان "1/ 279"، الثقات "8/ 152"، تراجم الأحبار "1/ 149"، العبر "2/ 275، 276"، سير النبلاء "12/ 99"، والحاشية العبر "2/ 44"، الأعلام "2/ 60، 61". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 106 عشر كيسا، فاستحيي ابن طولون، وأمره أن يسلم القضاء إلى محمد بن شاذان الجوهري ففعل، فكان كخليفة عنه وهو في السجن مدة سنين، وشكى أصحاب الحديث انقطاع السماع بسجنه، فكان يحدث من طاق في السجن إلى أن توفي سنة "270" سبعين ومائتين. كما أرخه السيوطي في "حسن المحاضرة" وبقيت مصر بلا قاض ثلاث سنين بعده. 369- أبو جعفر أحمد بن أبي عمران 1 قاضي مصر مؤلف كتاب "الحجج" تفقه بمحمد بن سماعة، وأخذ عنه أبو جعفر الطحاوي المحدث الشهير. توفي سنة "280" ثمانين ومائتين، كذا في "الكفوي" وفي "حسن المحاضرة" سنة خمس وثمانين. 370- أبو حازم عبد الحميد بن عبد العزيز 2 البصري القاضي بالشام والكوفة المتوفى سنة "292" اثنين وتسعين ومائتين له كتاب "المحاضرة" و"السجلات" و"أدب القاضي" و"الفرائض". 371- أبو سعيد أحمد بن الحسن البردعي 3 أخذ الفقه عن إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة عن أبيه عن جده، وعن أبي علي الدقاق، عن موسى بن نصير، عن محمد، وكانت له مناظرة مع داود الظاهري وغيره، ذهب للحج، فقتله القرامطة سنة "317" سبع عشرة وثلاثمائة.   1 أبو جعفر بن أبي عمران: ترجمته في "الفوائد البهية" ص"14". 2 أبو حازم عبد الحميد بن عبد العزيز البصري القاضي: أبو حازم السكوني البصري البغدادي الحنفي القاضي، توفي سنة "292": جامع المسانيد "2/ 531"، تراجم الأحبار "2/ 509"، سير النبلاء "13/ 539"، تاريخ بغداد "11/ 62"، دائرة الأعلمي "21/ 58"، تلخيص المتشابه "702". 3 أبو سعيد أحمد بن الحسن البردعي: بكسر الباء وسكون الراء وفتح الدال: بلدة من أقصى بلاد أذربيجان. وانظر "الفوائد البهية" ص"20". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 107 372- أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الأزدي الطحاوي 1: إمام جليل، ولد سنة "229" تسع وعشرين ومائتين، وتفقه على المزني تلميذ الشافعي؛ لأنه خاله ثم أحمد بن أبي عمران، وأبي حازم قاضي الشام، وغيرهم. كان شافعيا، ثم بدل مذهبه، وصار حنفيا، كان إماما في الفقه والحديث، وكتبه فيهما شهيرة، فاق بها أهل عصره وعده ابن كمال باشا من طبقة2 من يقدر على الاجتهاد فيما لا رواية فيه عن الإمام، ولا يقدر على مخالفته في الفروع، ولا في الأصول. قال صاحب "الفوائد البهية" في تعليقه: وهو منظور فيه، فإنه له درجة عالية خالف بها صاحب المذهب في كثير من الفروع والأصول. كما يدل له "شرح معاني الآثار" وغيره من مصنفاته، فالحق أنه من المجتهدين المنتسبين. وبالجملة فهو من محاسن أهل المائة الثالثة انتهت إليه رئاسة الحنفية بمصر، له تاريخ مهم، و"أحكام القرآن" و"اختلاف العلماء" و"معاني الآثار" و"الشروط" وغيرها من الكتب المفيدة. توفي سنة "321" إحدى وعشرين وثلاثمائة. 373- أبو منصور محمد بن محمد بن محمود الماتريدي 3: إمام المتكلمين مصنف التصانيف الجليلة، والراد للعقائد الباطلة، ككتاب "التوحيد" وكتاب "أوهام المعتزلة" و"مآخذ الشرائع" في الفقه، و"الجدل" في أصول الفقه، وغير ذلك.   1 الطحاوي بفتح الطاء نسبة إلى طحا قرية بمصر. ا. هـ. ابن خلكان. 2 كلام ابن كمال باشا في طبقات الفقهاء تعقبه الشهاب المرجاني في ناظوره الحق نقله عن الشيخ الكوثري رحمه الله في ترجمة أبي يوسف ص"101، 115". وهو تعقب جيد فيه من التحقيقات والفوائد ما يعز نظيره، فارجع إليه. 3 أبو منصور محمد بن محمد بن محمود الماتريدي: ترجمته في الفوائد البهية ص"195". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 108 مات سنة "333" ثلاث وثلاثين وثلاثمائة. وماتريدي بضم المثناة فوق: نسبة إلى محلة بسمرقند خلافا للكمال بن أبي شريف حيث ضبطها بالفتح. صح من "الفوائد البهية" وسنة وفاته قريبة من سنة وفاة الأشعري. 374- أبو الحسن عبيد الله بن الحسين الكرخي 1: رئيس الحنفية بالعراق معدود عندهم من المجتهدين، مؤلف "المختصر" و"شرح الجامعين" الكبير، والصغير، لمحمد بن الحسن. توفي سنة "340" أربعين وثلاثمائة. 375- أبو أحمد بن علي البرازي الجصاص 2: البغدادي تلميذ الكرخي الحائز للرئاسة بعده، شرح مختصري الطحاوي والكرخي، وله كتب أخرى في الأصول وغيره. توفي سنة "370" سبعين وثلاثمائة وقد عد من مجتهدي المذاهب3. 376- أبو الليث نصر بن محمد السمرقندي 4: المشهور بإمام الهدى، له تصانيف وشروح وتفسير.   1 أبو الحسن عبيد الله بن الحسين الكرخي رئيس الحنفية بالعراق: الكرخي الحنفي. لسان الميزان "4/ 98". 2 الجصاص صيغة مبالغة من الجص نسبة إلى عمله قاله السمعاني وهو لقب له. 3 وتصنيف ابن كمال باشا له بأنه من أصحاب التخريج من المقلدين الذين لا يقدرون على الاجتهاد أصلا ظلم في حقه، وتزيل له عن محله، ومن تتبع تصانيفه، والأقوال المنقولة عنه علم أن الذين عدهم من المجتهدين كشمس الأئمة وغيره كلهم عيال عليه، فهو أحق بأن يجعل من المجتهدين في المذهب كما قال المؤلف رحمه الله. 4 أبو الليث نصر بن محمد السمرقندي "إمام المهدي": أبو الليث السمرقندي الحنفي، توفي "373": سير النبلاء "16/ 322"، والحاشية معجم المؤلفين "83/ 91"، والحاشية دائرة معارف الأعلمي "29/ 112"، المشتبه "143". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 109 توفي سنة "373" ثلاث وسبعين وثلاثمائة. 377- أبو عبد الله يوسف بن محمد الجرجاني 1: مؤلف "خزانة الأكمل" في ست مجلدات أحاطت بجل مصنفات الحنفية. توفي سنة "398" ثمان وتسعين وثلاثمائة. 378- أبو بكر محمد بن موسى الخوارزمي 2: ثقة فقيه ما شاهد الناس مثله في التقوى وحسن التدريس، وقد عد من المجددين على رأس المائة، وكان لا يقبل من أحد برا ولا صلة. توفي سنة "403" ثلاث وأربعمائة. وغير هؤلاء من الحنفية بالأقطار الإسلامية كثيرة.   1 أبو عبد الله يوسف بن محمد الجرجاني: ترجمته في "الفوائد البهية" ص"221". 2 أبو بكر بن موسى الخوارزمي: ترجمته في "الفوائد البهية" ص"201/ 202". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 110 أشهر أصحاب مالك في المائة الثالثة والرابعة : 379- أبو مروان عبد الملك بن عبد العزيز بن عبد الله 1: ابن أبي سلمة الماجشون مولى قريش، والماجشون مثلث الجيم كلمة فارسية معناها: المورد، سمي بذلك جده أبو سلمة لحمرة في وجهه، وبيتهم بيت علم بالمدينة، كيعقوب بن أبي سلمة وولديه عبد العزيز ويوسف وعبد العزيز بن عبد الله، روى عبد الملك عن أبيه وإبراهيم بن سعد ومالك، وتفقه به وبأبيه وغيرهما. كان فقيها فصيحا، دارت عليه الفتيا في أيامه إلى أن توفي، وعلى أبيه قبله بالمدينة، تأدب بالبادية في كلب أخواله. قال يحيى بن أكثم: عبد الملك بحر لا تكدره الدلاء، وأثنى عليه سحنون وفضله، وهم أن يرحل إليه ليعرض عليه "المدونة" وأثنى عليه ابن حبيب، وفضله في الفهم على كثير من أصحاب مالك. وتفقه عليه خلق كثير، كأحمد بن المعذل، وسحنون، وابن حبيب،   1 أبو مروان عبد الملك بن عبد العزيز عبد الله بن أبي سلمة الماجشون: أبو مروان صاحب مالك الماجشون المدني التميمي الفقيه، توفي سنة "213 أو 212 أو 214": التحفة اللطيفة "3/ 85"، تقريب التهذيب "1/ 520، 522"، تهذيب التهذيب "6/ 407، 418"، تهذيب الكمال "2/ 857، 861"، الكاشف "2/ 211"، الخلاصة "2/ 178"، الميزان "2/ 658"، لسان الميزان "7/ 292"، نسيم الرياض "4/ 459"، تراجم الأحبار "2/ 525"، دائرة الأعلمي "21/ 266"، سير النبلاء "10/ 359"، العبر "1/ 363". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 111 وغيرهم. وروى عنه سليمان بن داود، والمهدي، وعمر بن علي، أخرج له النسائي وابن ماجه. توفي سنة "212" اثني عشر ومائتين وهو ابن بضع وستين سنة. 380- عيسى بن دينار القرطبي 1: فقيه الأندلس ومعلمهم الفقه، وكان أفقه من يحيى بن يحيى على جلالته وعظم قدره، أخذ عن ابن القاسم، وكان ابن القاسم يجله. توفي بطليطلة سنة "212" اثنتي عشرة ومائتين، وله كتاب سماع. 381- أسد بن الفرات 2: النيسابوري الأصل التونسي الدار سمع مع مالك موطأه وغيره، ورحل للعراق، فسمع من أبي يوسف، ومحمد بن الحسن، وتفقه بهم. وأخذ عنه أبو يوسف "الموطأ" كما أخذ هو عنه فقه الحنفية مجردة، وذهب إلى ابن القاسم، فتلقى عنه أحكامها على مذهب مالك أو مذهبه، وسمع من أشهب وغيرهما وذلك هو أصل "المدونة" التي تجمع ستة وثلاثين ألف مسألة كما في "الديباج" في ترجمة ابن عبد الحكم، ورجع به للقيروان فنشرها. وكان قاضيا هناك. ثم ولي أمير الجيش الذي وجهه ابن الأغلب لغزو صقلية، فمات هناك شهيدا محاصرا لسرقوسة سنة "213" ثلاث عشرة ومائتين.   1 عيسى بن دينار القرطبي "فقيه الأندلس": أبو محمد القرطبي الغافقي. جذوة المقتبس "298"، ترتيب المدارك "3/ 16، 20"، العبر "1/ 363"، الديباج المذهب "2/ 64، 66"، تاريخ ابن الفرضي "1/ 331"، شذرات الذهب "2/ 28". 2 أسد بن الفرات: ترجمته في رياض النفوس "1/ 172، 189"، وقضاة الأندلس "54". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 112 382- أبو محمد بن عبد الله بن عبد الحكم 1: ابن أعين بن الليث المصري مولى امرأة من موالي عثمان بن عفان رضي الله عنه. أخرج له النسائي وسمع من مالك، والليث، وعبد الرزاق، والقعنبي، وابن عيينة، وغيرهم، وروى عنه ابن حبيب، وأحمد بن صالح، وابن نمير، وابن المواز، وغيرهم. كان فقيها صدوقا، عارفا بمذهب مالك، عاقلا حليما، تفرد برئاسة مصر بعد أشهب، وقد نبه بيته بمصر، وبلغوا مجدا لم يبلغه أحدا وكان صديقا للشافعي، ونزل عليه لما ورد مصر، ومات بداره ودفن في مقبرته، وقد بالغ في بره وإكرامه. وله "المختصر الكبير" اختصر فيه كتب أشهب، وفيه ثماني عشرة ألف مسألة. وله "الأوسط" ويرى عنه أوسطان: أحدهما: من رواية ابنه محمد وسعيد بن حسان، والثاني: من رواية القراطيسي فيه زيادة الآثار على الأول وفي الأوسط أربعة آلاف مسألة. وله "المختصر الصغير" قصره على علم الموطأ فيه ألف مسألة ومائتان. فمن هذا التاريخ بدأت فكرة الاختصار، وظهر الملل وكلل في القرائح بسبب كثرة الفقه التقديري، وله كتب أخرى. توفي سنة "214" أربع عشرة ومائتين عن ستين سنة. وأبوه: 383- عبد الحكم: روى عن مالك مسائل أيضا. وتوفي سنة "171".   1 أبو محمد عبد الله بن عبد الحكم بن أعين بن الليث المصري: ولد سنة 155: تهذيب الكمال لوحة "701"، تبصرة المنتبه "3/ 1192"، تهذيب الكمال "702"، حسن المحاضرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 113 384- مطرف بن عبد الله بن مطرف 1: ابن سليمان بن يسار الهلالي اليساري، أبو مصعب المدني الفقيه، تفقه على خاله مالك بن أنس، وعبيد الله بن عمر، وروى عن البخاري في الصحيح، والذهلي، وأبو حاتم، وثقه الدارقطني، وغيره. توفي سنة "220" عشرين ومائتين، فهو وابن الماجشون المتقدم إمامان جليلان أشهر من نشر علم مالك بالمدينة، ورحل الناس إليهما فيه، وهما المشهوران في كتب المذاهب بالأخوين. 385- أبو عبد الله أصبغ بن الفرج 2: ابن سعيد بن نافع مولى عبد العزيز بن مروان سكن الفسطاط، روى عن الدراوردي ويحيى بن سلام وابن وهب، وأشهب، وكان فقيه البلد ماهرا في فقهه، طويل اللسان، حسن القياس، نظارا من أفقه هذه الطبقة، أجل أصحاب ابن وهب، وكان كاتبا له، صدوقا ثقة. قال ابن وهب: لولا أن تكون بدعة، لسورناك كما تسور الملوك يا أصبغ. وقال ابن الماجشون: ما أخرجت مصر مثله، قيل له: ولا ابن القاسم؟ قال: ولا ابن القاسم. روى عنه البخاري وأبو حاتم وغيرهما، وتفقه عليه ابن المواز وابن حبيب وغيرهما.   1 مطرف بن عبد الله بن مطرف بن سليمان بن يسار الهلالي اليساري أبو مصعب المدني: أبو مصعب اليساري الأصم المدني النيسابوري الهلالي الحارثي، توفي 220: الأكمال "7/ 443"، تهذيب التهذيب "10/ 175"، تقريب التهذيب "2/ 253"، تهذيب الكمال "3/ 1335"، الكاشف "3/ 150"، الخلاصة "3/ 34"، ثقات "9/ 183"، الميزان "4/ 1324"، الكامل "6/ 2375"، ديوان الضعفاء "4145"، نسيم الرياض "3/ 532، 405"، لسان الميزان "7/ 389"، الأعلمي "27/ 297". 2 أبو عبد الله أصبح بن الفرج: ترجمته في وفيات الأعيان "1/ 240"، والديباج المذهب ص"97"، وتهذيب التهذيب "1/ 361". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 114 قيل لأشهب: من لنا بعدك؟ قال: أصبغ. وكان يستفتى معه ومع غيره من أشياخه، عارفا برأي مالك مسألة مسألة، وله تآليف حسان ككتاب "الأصول" في عشرة أجزاء، وسماعه من ابن القاسم اثنان وعشرون كتابا وغيرها. توفي سنة "225" خمس وعشرين ومائتين. وأصبغ بغين معجمة بوزن أفضل. 386- عبد الله بن أبي حسان اليحصبي 1: من أشراف أفريقية، صاحب فقه وأدب، رحل إلى مالك، وأخذ عنه، وعن ابن أبي ذئب، وابن عيينة. ثقة روى عن سحنون، كان غاية في فقه مالك، وهو راوية أخبار إفريقيا وحروبها، وكان ذابا عن السنة. توفي سنة "227" سبع وعشرين ومائتين. 387- يحيى بن يحيى بن كثير الليثي 2: مولاهم البربري المصمودي من مصمودة طنجة الأندلسي القرطبي الفقيه أبو محمد، أحد الأعلام راوي "الموطأ عن مالك غير أبواب من الاعتكاف شك فيها، ورواها عن شبطون السابق. قال ابن عبد البر: كان إمام أهل بلده، ثقة عاقلا، وقال غيره: انتهت إليه رئاسة العلم بالأندلس، وبسببه دخل المذهب المالكي إليه؛ إذ كان في زمن بني   1 عبد الله بن أبي حسان اليحصبي "من أشراف إفريقية": أبو محمد اليحصبي ولد سنة 140، توفي سنة 226: طبقات علماء إفريقية وتونس ص"155"، معالم الإيمان "2/ 58"، رياض النفوس "1/ 199". 2 يحيى بن يحيى كثير الليثي "مولاهم البريري المصمودي": أبو محمد أو أبو عيسى أو أبو مروان البربري الليثي القرطبي المصمودي، توفي سنة 233 أو 234، عن 85 عام: تقريب التهذيب "2/ 360"، تهذيب التهذيب "11/ 300"، الخلاصة "3/ 163"، الأكمال "7/ 141"، المعين "1034"، نسيم الرياض "2/ 12 و4/ 463"، الأنساب "12/ 296"، الوفيات "172". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 115 أمية الذي يريدون تغيير رسوم بني العباس التي منها مذهب أهل العراق، فكان يحيى مستشارهم في تعيين القضاة، ولا يشير عليهم إلا بمن كان مالكيا، فانتشر المذهب بذلك. توفي سنة "334" أربع وثلاثين ومائتين. وليس هو الذي يروي عنه البخاري ومسلم والموطأ، فذاك: 388- يحيى بن يحيى بن بكر الحنظلي التميمي الخراساني: أجل من هذا في الحديث، وكانا في عصرنا واحد، ولا ذكر للمترجم في كتب الحديث لبعد بلده عن محل الرواية التي كان محلها الحجاز والعراق وخراسان والشام ومصر إذ ذاك. قال الأمير في "فهرسته": قيل لهذا الليثي؛ لأن جده رسلان أسلم على يد يزيد بن عامر الليثي. 389- عبد الرحمن بن موسى الهواري 1: من أهل إستجه بالأندلس لقي مالكا وابن عيينة والأصمعي، وغيرهم، واستقضي ببلده كان إذا قدم قرطبة، لم يفت عيسى بن دينار، ولا يحيى بن يحيى، ولا سعيد بن حسان إجلالا له حتى يرحل. 386- عبد الملك بن حبيب بن سلميان السلمي 2: أصله من   1 عبد الرحمن بن موسى الهواري "من أهل إستجه بالأندلس": أبو موسى الهواري الإستجي: تاريخ علماء الأندلس ص"258" دائرة الأعلمي "21/ 107". 2 عبد الملك بن حبيب بن سلمان السلمي "من طليطلة": أبو مروان الأندلسي القرطبي المرداسي السلمي، ولد سنة 170، توفي 236 أو 238: تقريب التهذيب "1/ 518"، تهذيب التهذيب "6/ 389"، الخلاصة "2/ 175"، دائرة الأعلمي "2/ 175"، لسان الميزان "4/ 59"، الميزان "2/ 652"، نسيم الرياض "3/ 519، 461"، التمهيد "2/ 45"، نفح الطيب "2/ 7"، معجم المؤلفين "6/ 181، 182"، بغية الملتمس "377". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 116 طليطلة، وانتقل جده لقرطبة، سمع مطرفا وابن الماجشون، وكان ذا علم واسع رتبة الأمير عبد الرحمن بن الحكم في طبقة المفتين بقرطبة، وانفرد بالرئاسة بعد يحيى بن يحيى، وهو مؤلف كتاب "الواضحة" أحد الكتب الجامعة في المذهب غير أنه مضعف في الحديث، له مؤلفات شتى. قال ابن الفرضي: كان متفننا في ضروب من العلم فقيها مفتيا نحويا لغويا نسابة مؤرخا عروضا شاعرا محسنا مترسلا حاذقا مؤلفا متقنا. ولما دنا من مصر في رحلته، وجد جماعة من العلماء يتلقون الرفقة على عادتهم كما أطل عليهم ذو هيئة، تفرسوا فيه حتى رأوه، وكان جميل المنظر، فقال قوم: فقيه، وقال آخرون: بل شاعر، وآخرون: بل طبيب، وآخرون خطيب، فتقدموا إليه وأخبروه بما قالوا، فقال لهم كلكم قد أصاب، وإني أحسن كل ذلك، والخبرة تكشف الحيرة، فجاءه أصحاب الفنون، فأجابهم عن كل ما سألوه، فأخذوه عنه، وعطلوا دروسهم حتى ارتحل تعظيما له. توفي سنة "238" ثمان وثلاثين ومائتين. 391 - سحنون عبد السلام بن سعيد التنوخي 1: صليبة من العرب الأفريقي، قدم أبوه في جيش حمص إلى القيروان، وسحنون اسم طائر جديد لقب له لحدته في المسائل. أفردت ترجمته بالتأليف، أخذ العلم عن علماء القيروان إذ ذاك أبي خارجة، وبهلول، وعلي بن زياد، وابن أبي حسان المتقدم، وابن غانم، وابن أبي كريمة، وأخيه، وابن أشرس، ومعاوية الصمادحي، وأبي زياد الرعيني، أدرك مالكا، ومنعه الفقر من الوصول إليه، فسمع من ابن القاسم، وأشهب، وابن وهب، وطليب بن كامل، وعبد الله بن الحكم، وابن عيينة، ووكيع،   1 سحنون عبد السلام بن سعيد التنوخي "صليبة": أبو سعيد أو أبو محمد سحنون قاضي أفريقية، توفي سنة 240: الإكمال، ودائرة الأعلمي "21/ 120". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 117 وابن مهدي، وحفص بن غياث، وأبي داود الطيالسي، وخلق من أهل ذلك العصر. كان ثقة حافظا، فقيه البدن اجتمعت خصال فيه قلما تجتمع لغيره الفقه البارع، والورع الصادق، والصرامة في الحق، والزهد في الدنيا، والتخشن في الملبس والمطعم والسماحة. قال ابن القاسم، وأشهب وابن أبي الغمر: لم يقدم علينا من أفريقية من هو أفقه من سحنون أخذ "مدونة" أسد، وذهب بها إلى ابن القاسم، وصححه عليه، فرجع عن أشياء فيها، ثم قدم بها القيروان، ونشرها في تلك الأصقاع إلى الأندلس، وبها تم انتشار مذهب مالك، فنسخت مدونة أسد التي امتنع صاحبها من تغييرها، فتركها الناس، وفض سحنون حلق المخالفين لمذهبه من العراقيين، ولم يكن يقبل إلا فتوى المالكيين، وبه صارت أفريقية ملكا لمالك. ولي القضاء بأفريقية على عهد بني الأغلب الذين كانوا مستقلين في داخليتهم عن المشرق، فصدع بالحق، وأقام قسطاس العدل على الأمير فمن دونه، وذلك سنة "234" أربع وثلاثين ومائتين، ولم يأخذ شيئا على القضاء قط، ولا يقبل من السلطان عطاء، ويأخذ مؤنة قضاته ونوابه وأعوانه من جزية أهل الكتاب، بل كان يعالج فلاحة بعض زيتونه بيده، ويأكل من كسبه فقط، ولا يأكل حتى من أملاكه، وكان سحنون من أيمن عالم دخل المغرب، كأنه مبتدأ عصره محا ما قبله، وكان أصحابه الذي أخذوا عنه مصابيح في كل بلد، وقد بلغوا سبعمائة. رأى الناس يوما يقبلون يد ابن الأغلب الأمير، فقال له: لم تعطيهم يدك لو كان هذا لقربك من الجنة ما سبقونا إليها. توفي سنة "240" أربعين ومائتين عن ثمانين سنة رحمه الله وخلف ولده. 392- محمد بن سحنون 1: وله درجة عالية في الفقه والتآليف العظيمة في المذهب المالكي، والخصال الجليلة، ألف في فنون كثيرة كالحديث   1 محمد بن سحنون عبد السلام بن سعيد التنوخي، أبو عبد الله التنوخي الفقيه المالكية القيرواني. رياض النفوس "1/ 345"، الديباج المذهب "234"، شجرة النور الزكية "700"، سير النبلاء "13/ 86"، الوافي بالوفيات "3/ 86". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 118 والفقه والتاريخ، وأدب المناظرة والخلافيات التي ابتلي بها ذلك العصر، وقد ألف كتابه الكبير في مائة جزء. توفي سنة "256" ست وخمسين ومائتين، ويقال في المذهب المالكي: المحمدان الأفريقيان له، ولمحمد بن عبدوس، والمحمدان المصريان: محمد بن عبد الحكم ومحمد بن المواز، والجميع كانوا في عصر واحد، ولم يجتمع مثلهم في عصر لمذهب مالك. وهؤلاء السادات أشهر من نشر علم مالك في أفريقية وصقلية رحمه الله. 393- أبو عمرو الحارث بن مسكين 1: ابن محمد بن يوسف، مولى الأمويين قاضي مصر، سمع ابن القاسم، وأشهب وابن وهب، ودون أسمعتهم وبوبها، وبهم تفقه، وعد في أكابر أصحابهم، وله كتاب فيما اتفق عليه رأي الثلاثة. روى عن ابن عيينة، ورأى الليث، حدث ببغداد ومصر، روى عنه أو داود والنسائي، ووثقه، وعبد الله بن الإمام أحمد، وابن وضاح، وأثنى عليه الإمام أحمد خيرا. وقال ابن وضاح: هو ثقة الثقات، وأكثر عنه النسائي في سننه مع إقامة الحارث له عن مجلسه، كان فقيها نزيها ورعا، صادق اللهجة، عدلا في قضائه، محمود السيرة، وكان ابن أبي داود يحسن ذكره، ويعظمه جدا، ويكتب الوصاة به. توفي سنة "250" خمسين ومائتين.   1 أبو عمرو الحارث بن مسكين: ترجمته في تاريخ بغداد "8/ 216"، وتذكرة الحفاظ "2/ 514"، وتهذيب التهذيب "2/ 156". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 119 394- أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد العزيز بن عتبة 1: العتبي مولى لآل عتبة بن أبي سفيان، قرطبي سمع من يحيى بن يحيى، وسعيد بن حسان، ورحل، فسمع من أصبغ، وسحنون، كان حافظا جامعا للمسائل، له كتاب "المستخرجة" التي قال فيها ابن حزم: لها عند أهل أفريقية القدر العالي، والطيران الحثيث، وتكلم فيها محمد بن عبد الحكم قال: رأيت جلها كذبا ومسائل لا أصول لها. توفي سنة "254" أربع وخمسين ومائتين. 395- أبو زيد عبد الرحمن بن إبراهيم الأموي 2 مولاهم القرطبي، الشهير بأبي زيدن مؤلف الثمانية المشهورة في المذهب، وهي ثمانية كتب من أسئلة المدنيين سمع من يحيى بن يحيى، وابن الماجشون، ومطرف، وابن كنانة، وأصبغ، وأخذ عنه ابن لبابة وغيره. توفي سنة "258" ثمان وخمسين ومائتين. 396- محمد بن إبراهيم بن عبدوس بن بشير 3: أصله من العجم من موالي قريش، وهو من كبار أصحاب سحنون وأئمة وقته، وكان ثقة إماما في الفقه.   1 أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد العزيز: ترجمته في جذوة المقتبس ص"36، 37"، وشذرات الذهب "2/ 92"، والديباج المذهب ص"238". 2 أبو زيد عبد الرحمن بن إبراهيم الأموي مولاهم القرطبي الشهير بأبي زيد: أبو زيد القرطبي. معجم المؤلفين "5/ 113، 114"، الإكمال "1/ 258". 3 محمد بن إبراهيم بن عبدوس بن بشير: أبو عبد الله. الإكمال "1/ 296"، شجرة النور الزكية "70"، رياض النفوس "10/ 3060". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 120 قال ابن الحارث: "كان حافظا لمذهب مالك والرواة من أصحابه، إماما مبرزا فقيها في ذلك خاصة. غزير الاستنباط، جيد القريحة، ناسكا عابدا متواضعا، مستجاب الدعوة، وألف كتابا شريفا سماه "المجموعة" أعجلته المنية قبل إتمامه، وله كتب التفاسير فسر فيها أصولا من العلم كالمرابحة والمواضعة والشفعة، وله أربعة أجزاء في شرح مسائل من المدونة وغيرها من الكتب. توفي سنة "260" ستين ومائتين. 397- أبو عبد الله بن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم 1: تفقه على أبيه، وأشهب، وابن وهب، وابن القاسم، وغيرهم من أصحاب مالك، وصحب الشافعي، وروى عن أبي فديك، وأنس بن عياض، وحرملة، وغيرهم، وروى عنه ابن أبي حاتم، وابن جرير الطبري، وغيرهما، كان من العلماء الفقهاء مبرزا نظارا، وإليه الرحلة من الأندلس والمغرب، وانتهت إليه رئاسة مصر في فقه مالك، وكان ماهرا في مذهب الشافعي، فإذا تبينت له الحجة فيه، اختار قوله. له كتب حسان كأحكام القرآن، والوثائق، والشروط، وكتاب الرد على الشافعي فيما خالف فيه الكتاب والسنة، وكتاب اختصار كتب أشهب، وكتاب النجوم، وكتاب المولدات، وغيرها. توفي سنة "268" ثمان وستين ومائتين.   1 أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن عبد الحكم: أبو عبد الله المصري، توفي سنة "268 أو 269": نسيم الرياض "3/ 451"، أربع رسائل "183". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 121 398- أبو عبد الله بن إبراهيم الإسكندري 1: المعروف بابن المواز، تفقه على أصبغ وهو عمدته، وعلى ابن الماجشون، وابن عبد الحكم، وغيرهم، كان راسخا في الفقه والفتيا، وكتابه المشهور بالموازية أجل كتاب ألفه المالكيون وأصحه وأوعبه، وأبسطه، رجحه القابسي على سائر الأمهات قائلا: إن صاحبه قصد بناء فروع المذهب على أصوله، وغيره إنما قصد جمع الروايات. توفي بدمشق سنة "269" تسع وستين ومائتين. 399- أبو بكر محمد بن زكرياء الوقار 2: بتخفيف القاف أخذ عن أصبغ، وابن عبد الحكم، وغيرهما، وله مختصران أكبرهما في سبعة عشر جزءا، وأهل القيروان يفضلون مختصره على مختصر ابن عبد الحكم. توفي سنة 269 تسع وستين ومائتين. 400- أبو الفضل أحمد بن المعذل 3: "بالذال المعجمة" العبدي البصري، من الطبقة الأولى الذين انتهى إليهم فقه مالك ممن لم يره من أهل العراق، فقيه متكلم، تفقه بابن الماجشون، ومحمد بن مسلمة، وإسماعيل بن أبي أويس، وغيرهم، وعنه أخذ إسماعيل بن إسحاق القاضي، وأخوه حماد، وعبد العزيز بن إبراهيم، وغيرهم.   1 أبو عبد الله محمد بن إبراهيم الإسكندري المعروف بابن المواز: الإسكندراني المالكي، توفي سنة "281": نسيم الرياض "3/ 451"، المعين "1188"، العبر "2/ 66". 2 أبو بكر محمد بن زكرياء الوقار: أبو بكر الوقار المصري المالكي، توفي سنة "269": معجم المؤلفين "9/ 8" والحاشية. 3 أبو الفضل أحمد بن المعذل: ترجمته في سير أعلام النبلاء "8/ 138، 139"، وشذرات الذهب "2/ 95، 96". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 122 أثنى عليه أبو حاتم، وقال أبو سليمان الخطابي: إنه يعد في زهاد البصرة وعلمائها، وقال غيره: كان فقيها بمذهب مالك، ذا فضل وورع ودين، نبيلا شاعرا أديبا فصيحا نظارا، غاية في الزهد فيما بأيدي الناس، لم يكن لمالك في العراق أرفع منه، ولا أعلى درجة، وأبصر بمذهب أهل الحجاز منه، ولم يذكر في "الديباج" وفاته، وإنما قال: توفي وقد قارب الأربعين سنة. 401- أبو إسحاق إسماعيل بن إسحاق 1: بن حماد بن زيد بن درهم بن لامك الجهضمي الأزدي مولى آل جرير بن حازم كما تقدم لنا في ترجمة حماد. وأصل إسماعيل من البصرة، واستوطن بغداد، روى عن سليمان بن حرب، وحجاج بن منهال، ومسدد، وابن المديني، وسمع من أبيه إسحاق، وأبي بكر بن أبي شيبة، وتفقه بابن المعذل السابق، وكان يقول: أفخر على الناس برجلين: ابن المعذل يعلمني الفقه، وابن المدين يعلمني الحديث. وروى عنه ابنه أبو عمر القاضي، وأخوه، وأبو القاسم البغوي، وابن أخيه إبراهيم بن زيد، وعبد الله بن الإمام أحمد، وإبراهيم بن عرفة النحوي، وغيرهم، كالنسائي وخلق عظيم، وتفقه عليه أهل العراق من المالكية. قال أبو بكر الخطيب: كان فاضلا عالما متفننا، فقيها في مذهب مالك، شرح مذهبه، ولخصه، واحتج له، وصنف المسند، وكتبا عديدة، من علوم القرآن، منها كتاب "أحكام القرآن" لم يسبق لمثله، وكتابه في القراءات كتاب جليل القدر، عظيم الخطر، وكتاب في معاني القرآن، وهذان كتابان شهد بتفضيله فيهما المبرد، وله إعراب القرآن في خمسة وعشرين جزءا، وله كتاب المبسوط في الفقه، ومختصره، وله كتب عديدة في أبواب من الفقه، وفي الرد   1 أبو إسحاق إسماعيل بن إسحاق: ترجمته في سير أعلام النبلاء "9/ 79"، وتاريخ بغداد "6/ 284، 290"، وطبقات القراء "2/ 162"، وتذكرة الحفاظ "2/ 180، 181"، ومعجم الأدباء "6/ 129"، 140"، وشذرات الذهب "2/ 178". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 123 على محمد بن الحسن والشافعي وأبي حنيفة، وله كتاب الموطأ، وكتاب شواهد موطأ مالك في عشر مجلدات، وله مسانيد في الحديث كثيرة، فهو معدود من أعلى طبقة في المؤلفين وجمع حديث مالك، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وأيوب السختياني، وثابت البناني، وأبي هريرة. وقال أبو إسحاق الشيرازي: كان إسماعيل جمع القرآن، وعلوم القرآن والحديث، وآثار العلماء والفقه والكلام والمعرفة بعلم اللسان، وكان من نظراء المبرد في علم كتاب سيبويه، وكان المبرد يقول: لولا اشتغاله برئاسة الفقه والقضاء، لذهب برئاستنا في النحو والأدب، وحمل من البصرة إلى بغداد، وعنه انتشر مذهب مالك بالعراق. وكان ثقة صدوقا، وذكر الإمام الباجي من بلغ درجة الاجتهاد، وجمع العلوم فقال: ولم تحصل هذه الدرجة بعد مالك إلا لإسماعيل القاضي ومن شعره: ومسرة قد أقبلت ... من حيث تنتظر المصائب فاعجب لما هو كائن ... إن الزمان أبو العجائب ولي قضاء بغداد، وجمعت له في وقت واحد، ولم تجمع لأحد قبله، وأضيف إليه قضاء المدائن والنهروانات، ثم ولي قضاء القضاة، فحاز المالكية قضاء عواصم الإسلام في القرن الثالث، إذ كان إسماعيل قاضي القضاء الأعلى ببغداد، والحارث بن مسكين بمصر، وسحنون قاضي القضاة بالقيروان، وممالك أفريقية، ويحيى بن يحيى مستشارا في تعيين قضاة الأندلس في عصر متقارب. قال ابن الخطيب: أقام إسماعيل على القضاء نيفا وخمسين سنة ما عزل إلا سنتين وفي ذلك خلاف، كان عفيفا صلبا فهما فطنا، وأما سداده فيه، وحسن مذهبه، وسهولته عليه فيما كان يلتبس على غيره، فشهير. ولد سنة مائتين وتوفي سنة 282 اثنين ومثانين ومائتين. ورث خطته من الإمامة في الدين بنو عمه، وعهد إلى ابنه الحسن وكان بيت آل حماد أشهر بيت في العراق لكثرة رجاله المشهورين بالعلم والثراء، أئمة الفقه ومشيخة الحديث رؤساء نبهاء أصحاب سنة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 124 وهدى ودين. روى عنهم علماء انتشروا في أقطار الأرض، فانتشر ذكرهم ما بين المشرق والمغرب، وتردد العلم في طبقاتهم وبيتهم نحو ثلاثمائة سنة من لدن جدهم حماد بن زيد وأخيه سعيد المولودين على نحو المائة إلى وفاة آخر من وصف منهم بالعلم وهو ابن أبي علي المتوفى قرب أربعمائة. قال الفرغاني: لا نعلم أحدا بلغ ما بلغ آل حماد بن زيد، ولم يبلغ أحد ممن تقدم من القضاة من اتخاذ المنازل والضياع والكسوة والآلة، ونفاذ الأمر في جميع الأقطار، وحسبك أن لهم ببادرويا ستمائة بستان غير ما لهم بالبصرة وغيرها، وكان فيهم على اتساع الدنيا رجال صدق وخير وأبهة وورع وعلم وفضل. فانظر وتأمل، رحمك الله كيف كانت بيوت العلم في الإسلام. 402- أبو بكر جعفر بن محمد بن الحسن الفريابي 1: الإمام العلم، أحد أوعية العلم، وذوي الاتساع فيه والفهم، طاف البلاد شرقا وغربا، ولقي الأعلام سمع بخراسان وما وراء النهر والعراق والشام والحجاز ومصر والجزيرة، ثم استوطن بغداد، قاضي الدينور. أخذ عن أيوب وابن المديني وابن أبي شيبة وغيرهم، وروى عنه ابن المبارك وطبقته، كان ثقة ثبتا حجة، له كتاب السنن، وكتاب مناقب مالك، وحزروا من يحضر مجلسه للسماع بثلاثين ألفا، وكان المستملون ثلاثمائة وستة عشر مستمليا، ويكتب الحديث في مجلسه عشرة آلاف دون من لا يكتب. توفي سنة 301 إحدى وثلاثمائة عن أربع وتسعين سنة صح من "الديباج" باختصار.   1 أبو بكر جعفر بن محمد بن الحسن الفريابي: أبو بكر الفريابي التركي، ولد سنة "217"، توفي سنة "301": تذكرة "5/ 2/ 692"، العبر "2/ 119"، اللباب "2/ 211"، تاريخ بغداد "7/ 199"، طبقات الحفاظ "301"، المعين "1207"، الأنساب "10/ 129، 206"، الأعلام "2/ 128"، الوافي بالوفيات "11/ 146"، السابق واللاحق "170"، التمهيد "1/ 66". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 125 403- أبو عبد الله محمد بن بسطام بن رجاء الضبي 1: ثقة مأمون، كثير الرواية والكتب، أدخل لأفريقية كتبا غريبة من كتب المالكية ككتاب المغيرة بن عبد الرحمن، وكتاب ابن كنانة، وكتاب ابن دينار، ولم يكن في عصره أكثر كتبا منه في الفقه والآثار. توفي سنة 313 ثلاث عشرة وثلاثمائة بسوسة. 404- أبو عبد الله محمد بن عمر بن لبابة القرطبي 2: دارت عليه الأحكام نحن ستين سنة مع نزاهة وتصاون وتقشف وتواضع، وفصاحة، وحفظ للشعر وأخلاق جميلة، مأمونا ثقة. توفي سنة 314 أربع عشرة وثلاثمائة. 405- أبو عبد الله محمد بن فطيس 3: كان من حفاظ المذهب، وأعلم من كل من بعده. توفي سنة 319 تسع عشرة وثلاثمائة.   1 أبو عبد الله محمد بن بسطام بن رجاء الضبي، أبو عبد الله الضبي السوسي البصري الأصل، توفي سنة "130": طبقات علماء إفريقية وتونس ص"54". 2 أبو عبد الله محمد بن فطيس: ترجمته في الديباج المذهب ص"245". 3 أبو عبد الله محمد بن فطيس: أبو عبد الله الغافقي الأندلسي الألبيري، ولد سنة "229"، توفي سنة "319"، عن "90" سنة: الأعلام "6/ 332"، التمهيد "1/ 80، 5/ 52"، تاريخ علماء الأندلس ص"40"، معجم المؤلفين "11/ 131"، سير النبلاء "15/ 79، العبر "2/ 177"، نفح الطيب "2/ 62"، الوافي بالوفيات "4/ 337". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 126 406- أبو سلمة فضل بن سلمة بن جرير بن منخل الجهني 1: مولاهم البجاني2 كان من أعلم الناس بمذهب مالك، وله مختصر المدونة، ومختصر الواضحة، زاد فيه من فقهه وتعقب فيه على ابن حبيب كثيرا من قوله، وهو أحسن كتب المالكيين، وله مختصر لكتاب ابن المواز، وكتاب جمع فيه مسائل المدونة والمستخرجة والمجموعة، وله جزء في الوثائق مفيد حسن. توفي سنة 319 تسع عشرة وثلاثمائة. 407- أبو عمر أحمد بن ميسر يعرف بابن الأغبش القرطبي 3: كان ميالا للنظر والحجة، وكان إذا استفتي ربما يقول: أما مذهب أهل بلدنا فكذا، وأما الذي أراه، فكذا. توفي سنة 328 ثمان وعشرين وثلاثمائة. 408- أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري 4: البصري من ولد أبي موسى الأشعري الصحابي الجليل، كان هذا الإمام فقيها نظارا، وإماما حافظا مكثارا، أخذ الفقه عن أبي إسحاق المروزي في جامع المنصور ببغداد، ولهذا عده السبكي من الشافعية والذي عليه عياض وغيره أنه   1 أبو سلمة فضل بن سلمة بن جرير بن منخل الجهني: أبو سلمة البجاني الجهني، توفي سنة "319"، وقيل "317": حاشية الأنساب "2/ 87"، تاريخ علماء الأندلس "352"، شجرة النور الزكية "82". 2 البجاني نسبة إلى بجانة بنون كما في "المدارك" في غير ما موضع بلد في الأندلس "المؤلف". 3 أبو عمر أحمد بن ميسر القرطبي: ترجمته في الديباج المذهب ص"37". 4 أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري البصري: أبو الحسن الأشعري، توفي سنة "334": شجرة النور الزكية "79"، وفيات الأعيان "3/ 284"، دائرة الأعلمي "22/ 225"، تاريخ بغداد "11/ 346". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 127 مالكي المذهب، واستدل على ذلك انظر "المدارك" ولا بعد في أن يكون مجتهدا لا هو شافعي ولا مالكي لما كان عليه من العلم الواسع، والفكر الشاسع، ويبعد أن يكون مثله مقلدا في ذلك العصر. كان أول أمره معتزليا، أخذ عن أبي علي الجبائي، وأقام على ذلك ثلاثين سنة وهو من فحولهم المناضلين عن شبههم المشهورين بذلك، ماهرا في فلسفتهم العقلية المقتبسة من كتب اليونان والهنود وغيرهم، والتي كانوا بها ظاهرين مفحمين لأهل السنة مدة قرن ونصف، غير أنه لسعة أفكاره وعدم اقتصاره على شبههم وتآليفهم وأقوالهم، بل كان ماهرا مطلعا على أقوال السنة وكتبها، عارفا بأصولها لم يكن ضيق الفكر مزرر القميص لا يخرج عما ألقي إليه في صغره، بل أجال فكره في السنة والاعتزال معا، فرأى أن السنة هي الحق، وأن الاعتزال سفسطة وضلال، فلما تبين له ذلك بالبراهين العظام فكر فكرا عظيما، وأسس مبدأ جسيما وهو هدم قواعد الاعتزال بالآلات التي بنيت بها، وقتال أهلها بسلاحها الذي كان به ظهورها وهو الفلسفة نفسها، والبراهين العقلية الصحيحة، وضمها إلى نصوص الشريعة خلاف ما كان السلف عليه من نبذ الفلسفة التي كانت سبب ضلال المعتزلة، والاقتصار على قتالهم بالنصوص، والوقوف عن الخوض في بحر الفكر والنظر، فإن ذلك وإن نفع في الجملة، لكن لم يحسم داءهم العضال، وانظر إلى مالك لما سئل عن قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 1 أجاب بأن الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة وسلك طريق التفويض، وهو أسلم. أما أبو الحسن الأشعري، فإنه بفضل ما مهر فيه من علوم الشريعة والفلسفة معا اخترع لهم سلاحا من نوع ما غلبوا به، فصعد يوم الجمعة كرسيا بمسجد البصرة التي هي كرسي المعتزلة ومنبعهم، ونادى: من عرفني، فقد عرفني، ومن لم يعرفني، فأنا فلان كنت أقول بخلق القرآن، وأن الله لا تراه الأبصار، وأن أفعال الشر أنا أفعلها، وأنا تائب معتقد للرد على المعتزلة مخرج لفضائحهم.   1 سورة طه الآية: 5. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 128 قال ابن حزم: له خمسة وخمسون مصنفا في الرد عليهم وعلى الملاحدة والجهمية والرافضة والخوارج وسائر المبتدعين. قال أبو بكر الصيرفي: كانت المعتزلة رافعي رءوسهم حتى أظهر الله الأشعري، فحجزهم في أقماع السمسم. يعني حيث قاتلهم بنفس سلاحهم، فاضمحلت بسببه شبهتهم، ولهذا اعترف له من بعده من السنيين بالفضل حتى إنهم انتسبوا إليه مع أن مذهب السنة كان ظاهرا، وكانوا قبله يسمون المثبتة. صنف ابن عساكر مجلدا في مناقبه، وأثنى الأئمة عليه كثيرا كابن أبي زيد القيرواني، والقابسي، ولا يلتفت لكلام المعتزلة فيه من الحنفية، ولا لكلام الحنابلة الذين ليسوا على مذهبه كالإمام الذهبي، وقد رد عليه تلميذه السبكي كثيرا، وكابن حزم في بعض كتبه وإن أثنى عليه في كتابه "الفصل" كما أثنى عليه الذهبي في كتاب "العلو" كثيرا. حاصله طعن فيه من لا يرى رأيه وذلك معلوم. ومن غريب ما في "الطبقات السبكية" أنه تردد أولا فيمن يعده من المجددين في المائة الثالثة هل الإمام الأشعري أو ابن سريج الشامي، ثم أداه التعصب المذهبي إلى أن قال: إن الأشعري وإن كان أيضا شافعي المذهب إلا أنه رجل متكلم، كان قيامه للذب عن أصول العقائد دون فروعها، وكان ابن سريج فقيها يذهب عن الفروع، فكان أولى بهذه المرتبة. فتأمل قوله وإن كان شافعيا. كأن الدين الذي يجدد هو مذهب الشافعي، وما سواه لا عبرة به. وتأمل ما أدى إليه التعصب من تقديم الفروع على الأصول عكس المعقول والمنقول. وكم لهذا من نظير عنده على أننا لا نسلم عدم معرفته بالفروع، ففي "المنح البادية" عن عبد الله بن محمد بن طاهر الصوفي قال: رأيت أبا الحسن الأشعري وقد أبهت المعتزلة في المناظرة، فقال له بعض الحاضرين: قد عرفنا تبحرك في الكلام، فإنا نسألك عن مسألة ظاهرة في الفقه ما تقول في الصلاة بغير فاتحة الكتاب؟ فقال: ثنا زكريا بن يحيى السراج، ثنا عبد الجبار، ثنا سفيان، ثني الزهري، عن محمود بن الربيع عن عبادة بن الصامت مرفوعا "لا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 129 صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" أخرجه أحمد والشيخان وأصحاب السنن، وحدثنا زكريا، ثنا بندار ثنا يحيى بن سعيد عن جعفر بن ميمون ثني أبو عثمان عن أبي هريرة قال: أمرني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنا أنادي في المدينة: "إنه لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب" قال: فسكت السائل. فهذا يدل على مقامه في الحديث والفقه، وإن لم يكن بالمقلد البحت. وإن شئت أن تعرف ما كان عليه الأشعري في المعتقد، فانظر ترجمته من كتاب "العلو" للذهبي وانظر كتاب "الإبانة" فكل منهما مطبوع، وبذلك تعلم أنه سلفي العقيدة وفيه مخالفة كثيرة لما في "السنوسية" "والمرشد المعين" الموضوعين في مذهب الأشعري. توفي سنة 334 أربع وثلاثين وثلاثمائة وقيل 333 ثلاث وثلاثين وثلاثمائة ودفن بالبصرة. 409- أبو بكر محمد بن محمد بن وشاح 1 بن اللباد: شيخ المالكية في وقته بالقيروان، مولى لموالي موسى بن نصير القائد الشهير، سمع من جميع شيوخ وقته كيحيى بن عمرو البغامي، وحمديس القطان، وأبي عمران البغدادي، ومحمد بن المنذر، وغيرهم وأخذ عنه ابن أبي زيد، والقابسي، ودارس بن إسماعيل، وغيرهم. أثنى عليه تلاميذه وغير واحد من الأفاضل كابن حارث، وابن العربي وغيرهم ووصفوه بالحفظ والإتقان والتقوى وسعة العلم والزهد. وهو ممن امتحنه الشيعة في دولة بني عبيد، ولما أدخلوه السجن تلقاه المراودي فأعرض عنه حيث كان سجن لسب النبي -صلى الله عليه وسلم، فقال: والله إني لأبغضك يا أبا بكر قديما، فقال له: الحمد لله يا فاسق الذي لم يجعل في قلبك بغض النبي   1 أبو بكر محمد بن محمد بن وشاح بن اللباد: أبو بكر القيرواني الشهرة ابن اللباد، توفي سنة "333": شجرة النور الزكية "84". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 130 -صلى الله عليه وسلم- وحبي ثم سرح، ولزم داره، فكان ابن أبي زيد وغيره من الطلبة يأتونه خفية، ويجعلون الكتب في أوساطهم حتى تبتل بعرقهم. ومن كلامه: أزهد الناس في العالم أهله وجيرانه، وقوله: ما قرب الخير من قوم قط إلا زهدوا فيه. توفي سنة 333 ثلاث وثلاثين وثلاثمائة صح ملخصا من "المدارك" وكان له أصحاب نشروا فقهه شبهوهم بأصحاب مالك، فمحمد بن نظيف القيرواني، ثم المصري بابن القاسم، وابن أبي زيد بأشهب، وابن أخي هشام بابن نافع، وابن التبان بابن بكير. 410- أحمد بن محمد بن خالد بن ميسر أبو بكر الإسكندراني: انتهت إليه الرئاسة بمصر بعد ابن المواز وهو راوي كتبه، وكان يوازيه في الفقه، ألف كتاب الإقرار والإنكار توفي سنة 339 تسع وثلاثين وثلاثمائة، وضبطه عياض ميسر بفتح السين كذا في "الديباج"1. 411- أبو محمد قاسم بن أصبغ 2 بن محمد بن يوسف المرواني: ولاء القرطبي الشهير بالبياني نسبة إلى بيانة من عمل قرطبة. سمع من بقي بن مخلد والخشني وغيرهما، ورحل العراق وغيرها فسمع من إسماعيل القاضي وغيره، وانصرف للأندلس بعلم كثير، فكان له بقرطبة قدر كبير. وسمع منه عبد الرحمن الناصر، وولي عهده، وطال عمره، فلحق فيه الأصاغر بالأكابر،   1 أحمد بن محمد بن خالد بن ميسر أبو بكر الإسكندراني ص"37"، وهو مترجم أيضا في سير أعلام النبلاء "9/ 213"، وحسن المحاضرة "1/ 255". 2 أبو محمد قاسم بن أصبغ بن محمد بن يوسف المرواني: ترجمته في تذكرة الحفاظ "853"، وبغية الوعاة ص"375"، والديباج المذهب ص"222"، ومعجم الأدباء "16/ 236"، ولسان الميزان "4/ 458". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 131 وكانت الرحلة إليه بالأندلس. كان ثبتا صادقا مأمونا من أئمة المالكية، وله مصنفات في الحديث حسنة خمسة، منها "المصنف" المخرج على كتاب أبي داود، واختصاره المسمى "المجتبى" على نحو كتاب ابن الجارود "المنتقى" وكان قد فاته السماع منه فألف مصنفا على أبواب كتابه خرجه عن شيوخه، ومنها مسند حديثه عن غرائب مالك، ومسند حديث مالك رواية يحيى، وله أحكام القرآن، والناسخ والمنسوخ وغيرها توفي سنة 340 أربعين وثلاثمائة عن اثنين وتسعين سنة، وتغير ذهنه قبل وفاته بثلاث سنين. 412- محمد بن يحيى التمار 1 الأسواني أبو الذكر الفقيه: صاحب التصانيف في الأصول والفروع، نزل مصر، وبها توفي سنة 344 أربع وثلاثمائة. 413- بكر بن العلاء القشيري 2 أبو الفضل: بصري وخرج عنها إلى مصر، فأدرك بها رئاسة عظيمة. أثنى عليه غير واحد، ألف كتبا جليلة، اختصر كتاب القاضي إسماعيل وزاد عليه، وله كتاب الرد على المزني وكتاب الأشربة، رد على الطحاوي، وكتاب أصول الفقه، وكتاب القياس، وكتاب في مسائل الخلاف، وكتاب الرد على القدرية، وغيرها. توفي سنة 344 أربع وأربعين وثلاثمائة. ا. هـ. بخ من "المدارك". 414- أبو الحسن علي بن جعفر السلفاني: أحد مشيخة المالكية بمصر وكان أهل جزيرة أقرطيش "كريت" طلبوا من مصر أن يوجهوا لهم من يفقههم ويتقلد حكمهم، فوقع الاتفاق عليه، وأقام بها إلى أن دخلها الروم   1 محمد بن يحيى التمار: ترجمة في نيل الابتهاج ص"227". 2 بكر بن العلاء القشيري أبو الفضل "بصري": أبو الفضل المصري القشيري البصري، توفي سنة "344": شجرة النور الزكية "79" ترجمة "139". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 132 سنة 350 خمسين وثلاثمائة، وملكوها، فأسر فيمن أسر، وذهب للقسطنطينية أسيرا ذكره في "المدارك"1 ولم يذكر وفاته، وذكر مناظرة وقعت بينه وبين ملكها فانظرها. 415- أبو إسحاق محمد بن القاسم بن شعبان العنسي 2: من ولد عمار بن ياسر، أحفظ علماء وقته لمذهب مالك في مصر ورأس علمائها، متفنن في سائر العلوم إلا العربية وكان يلحن مع التدوين والورع. ألف كتاب الزاهي المشهور وغيره إلا أن له غرائب من أقوال مالك وأقوالا شاذة عن قوم لم يشتهروا بصحبته لم يروها الثقاة. توفي سنة 355 خمس وخمسين وثلاثمائة، ووافق موته دخول العبيديين لمصر، وكان شديد الكره لمذهبهم الرافضي، فكان يدعو على نفسه بالموت قبل دولتهم، فأجيبت دعوته وقد ناف الثمانين. 416- أبو إبراهيم إسحاق بن إبراهيم بن مسرة التجيبي 3: مولاهم الطليطلي الأصل القرطبي الدار، كان حافظا لفقه مالك متقدما فيه، صدرا في الفتيا، يناظر في الفقه، ولم يكن له كبير علم بالحديث، متين الدين، بعيدا عن السلطان، لا تأخذه في الله لومة لائم، قدم للشورى إشارة من   1 "3/ 295". 2 أبو إسحاق محمد بن القاسم بن شعبان العنسي من ولد عمار: أبو إسحاق، الشهرة ابن القرطبي المصري المالكي، توفي سنة "355": الميزان "4/ 14"، المعتز "5913"، لسان الميزان "5/ 348"، التمهيد "2/ 181". 3 أبو إبراهيم إسحاق بن إبراهيم بن مسرة التجيبي: التجيبي نسبة إلى تجيب بصيغة المضارع من أجاب اسم امرأة أم قبيلة نسب إليها أولادها. ا. هـ. ابن خلكان، وترجمته في سير أعلام النبلاء "10/ 163"، والديباج المذهب ص"96". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 133 ولي العهد الحكم بن الناصر الأموي، وبه كملت عدتهم ستة عشر مستشارا ولم يكن في عصره أكثر منه خيرا ولا أكمل ورعا. له كتاب "النصائح" مشهور، وكتاب "معالم الطهارة" وكان صليبا قليل الهيبة للملوك، راوده الحكم المستنصر أن يأتيه يوما بولده أحمد وكان صغيرا، وعزم عليه في ذلك، فاعتذر إليه، وقال: لا يقول الناس هذا الشيخ المرائي استجلب بولده دراهم السلطان، فأعفاه من ذلك. وكان عند والده الناصر "أعذار" واحتفل في استدعاء وجوه الناس، ولم يتخلف إلا أبو إبراهيم، فساءه، وكتب إليه يعتبه ويطل بمنه وجه عذره. فأجابه بما نصه: سلام على الأمير سيدي ورحمة الله قرأت أبقى الله الأمير سيدي كتابك وفهمته، ولم يكن توقفي لنفسي إنما كان لأمير المؤمنين سيدنا أبقاه الله ولسلطاته لعلمي بمذهبه وسكوني إلى تقواه، واقتفائه لأثر سلفه الطيب رضي الله عنهم، فإنهم كانوا يستبقون من هذه الطبقة بقية لا يمتهنونها بها يشينها ويغض منها، ويطرق إلى تنقيصها يستعدون بها لدينهم، ويتزينون بها عند رعاياهم ومن يفد عليهم من قصادهم، فلهذا تخلفت، ولعلمي بمذهبه وفقه الله. فلما قرأ الكتاب الحكم، أعلم أباه الناصر، فاستحسن اعتذاره. توفي أبو إبراهيم بطليطلة خرج مع الحكم غازيا سنة 355 اثنين أو أربع أو خمس وخمسين وثلاثمائة عن خمس وسبعين سنة، ولما علم الحكم بموته وكان فتح عليه حصن قال: لا أدري بأي الفرحتين أسر بأخذ الحصن، أو موت إسحاق؛ لخوفه منه، وطوع العامة له. ا. هـ. بخ "المدارك" فانظر رحمك الله كيف كان عز الورع وعز الصلابة في الدين، وخوف الخلفاء من العلماء. 417- أبو ميمونة دراس بن إسماعيل الجراوي 1 الفاسي المشهور بالمحدث، كان فقيها حافظا للرأي، له رحلة للمشرق   1 أبو ميمون دراس بن إسماعيل الجراوي الفاسي "المحدث": أبو ميمونة الفقيه الفاسي. حاشية الإكمال "7/ 81"، تاريخ علماء الأندلس "46". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 134 فسمع من علي بن مطر بالإسكندرية كتاب ابن المواز، وأخذ بالقيروان عن أبي بكر بن اللباد، وقرأ عليه أبو الحسن القابسي، وابن أبي زيد وغيرهما، وتكرر دخوله للأندلس مجاهدا، وسمع منه فيها غير واحد، وهو الذي أدخل مذهب مالك إلى فاس، بل المغرب الأقصى، وكانوا قبله على مذهب الحنفية. قال أبو بكر المالكي: كان من الحفاظ المعدودين والأئمة المبرزين من أهل الفضل والدين. وفي "المدارك" لما طرأ القيروان، اطلع الناس من حفظه على أمر عظيم حتى يقال: ليس في وقته أحفظ منه، وكان نزوله على ابن أبي زيد وأظهر تفسيره لعلماء القيروان، وشفوفه على كثير منهم. ا. هـ. توفي سنة 357 سبع وخمسين وثلاثمائة على ما في ابن الفرضي، وفي تاريخ الأفارقة ثمان وخمسين، وقبره خارج باب الجيزيين بفاس مشهور وله مسجد بمصموده بفاس معروف إلى الآن من أقوم مساجدها قبلة. 418- أبو عبد الله محمد بن حارث الخشني 1: الأفريقي، ثم القرطبي وقد دخل سبتة وهو الذي حقق قبلة جامعها، وتولى ببجاية المواريث، له التآليف الحسنة ككتاب "الاتفاق والاختلاف" في مذهب مالك، وكتاب "رأي مالك الذي خالفه فيه أصحابه" وكتاب "طبقات المالكية" وتاريخ وصلت كتبه مائة ديوان. توفي سنة 361 إحدى وستين وثلاثمائة.   1 أبو عبد الله محمد بن حارث الخشني الأفريقي ثم القرطبي: أبو عبد الله الخشني القيرواني المغربي المحاسبي الشهرة ابن حارث، توفي سنة "371 أو 370": سير النبلاء "16/ 165"، معجم طبقات الحفاظ ص"154"، تراجم المؤلفين التونسيين "2/ 205"، تاريخ علماء الأندلس ص"112"، العبر "2/ 324"، معجم المؤلفين "9/ 168". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 135 419- أبو حنيفة النعمان بن محمد الداعي بن منصور بن أحمد بن حيون 1: أحد الأئمة الفضلاء المشار إليهم بالفقه والدين والنبل، وله تصانيف منها كتاب "اختلاف أصول المذهب" وكتاب "الأخبار" في الفقه، وكتاب "الاقتصار" فيه أيضا، وكتاب "ابتداء الدعوة للعبيديين" وكان مالكي المذهب، ثم انتقل إلى مذهب الإمامية. قال ابن زولاق في كتاب "أخبار قضاة مصر": إنه كان في غاية الفضل من أهل القرآن والعلم بمعانيه، عالما بوجوه الفقه واختلاف الفقهاء والشعر، وأيام الناس مع العقل والإنصاف، وألف أهل البيت من الكتب آلافا من الأوراق بأحسن تأليف. وله ردود على أبي حنيفة ومالك والشافعي وابن سريج، وكتاب "اختلاف الفقهاء" وشعر لأهل البيت، وله القصيدة المنتخبة في الفقه، وكان ملازما صحبة المعز أبي تميم الفاطمي، قدم أفريقية معه كان قاضيه بها. وتوفي سنة 363 ثلاث وستين وثلاثمائة وقد ولي القضاء بمصر ولده علي أشركه إياه المعز مع أبي طاهر محمد الذهلي، وزاد لعلي دار الضرب والنظر في الجامعين، ثم استقل بالقضاء وحده على الديار المصرية والشام والحرمين والمغرب وجميع مملكة العزيز الفاطمي والخطابة والإمامة والعيار في الذهب والفضة والموازين والمكاييل، وبقي القضاء في بيتهم مدة طويلة، فتولى أخوه وولده وولد أخيه إلى آخر القرن الرابع. وكان فيهم علم على ما كان من مذهب الإمامية الآخذين به، والناشرين له. انظر ابن خلكان.   1 أبو حنيفة النعمان بن محمد: ترجمته في سير النبلاء "10/ 182"، ولسان الميزان "6/ 167"، وشذرات الذهب "3/ 47". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 136 420- أبو بكر محمد بن عبيد الله المعيطي الأندلسي 1: من أبناء الأشراف، كان حافظا للفقه، عالما بمذهب مالك، وكان الحكم الأموي أمير المؤمنين كلفه هو وأباه عمر الإشبيلي بإتمام كتاب "الاستيعاب" الذي كان ابتدأه بتأليف بعض أصحاب القاضي إسماعيل في العراق جعله ديوانا جامعا لقول مالك خاصة دون أصحابه، ولم يكمل منه إلا خمسة أجزاء، وفتح لهما خزائنه، فجمعا الأسمعة حيث كان من رواية المدنيين والمصريين والشاميين والعراقيين والأفريقيين، فأكملاه في مائة جزء، ولما رفعاه للحكم، سر به وأمر لهما بألفي دينار لكل واحد، وكسوة، وقدمهما للشورى. قال في "المدارك": رحل المعيطي إلى المشرق وهو ابن ثلاثين وكان ورعا زاهدا، وفي آخر عمره تبتل ولبس الصوف، وتوسد الأرض، واعتزل امرأته باختيارها، فصار لا يجالس أحدا البتة بعد ما كان ذا رياسة في العلم والخير، وشور وعظم جاهه، وكان تبتله سبعة عشر شهرا مات فيها وهو ينيف على الأربعين فقط قبل أقرانه. وصلى عليه أبوه سنة 367 سبع وستين وثلاثمائة. 421- أبو طاهر محمد بن أحمد بن عبد الله بن نصر الذهلي 2: السدوسي البغدادي، ولي قضاء بغداد وواسط ودمشق ومصر. دخلها   1 أبو بكر محمد بن عبيد الله المعيطي الأندلسي: ترجمته في الديباج المذهب ص"266، 267". 2 أبو طاهر محمد بن أحمد بن عبد الله بن نصر الذهلي السدوسي البغدادي: يقال محمد بن أحمد بن عبد الله أبو الطاهر، الذهلي القاضي المالكي البجيري البغدادي، ولد سنة "279"، توفي سنة "367": تاريخ بغداد "1/ 313"، الأنساب "2/ 97"، الوافي بالوفيات "2/ 45"، الإكمال "1/ 196"، سير النبلاء "16/ 204"، الأعلام "5/ 311"، التمهيد "8/ 286"، العبر "2/ 344". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 137 سنة 340 أربعين وثلاثمائة، ولم يتول قضاءها أحد تولى قضاء بغداد غيره وغير يحيى بن أكثم اعتنى به أبوه في صغره، فسمع من عبد الله ابن الإمام أحمد وعلي بن محمد السمار وغيرهما. وقال عن نفسه: إني كتبت العلم بيدي ولي تسع سنين، وسمع منه عامة أهل مصر، والحافظ الدارقطني، وأبو شامة الهروي، وخلائق. كان ثقة كثير السماع جليلا في الحديث والقضاء متفننا في علوم، وكان يذهب إلى قول مالك، ألف كتابا أجاب فيه عن مسائل مختصر المزني على مذهب مالك، وربما اختار خلافه كعدم الحكم بالشاهد واليمين، ويحكى أن أباه وإسماعيل القاضي كانا مالكيين، ولا يحكمان به. ومما استحسن من كلامه أنه تلقى الخليفة المعز العبيدي ثم الفاطمي بالإسكندرية، وكان معه قاضيه النعمان بن محمد، فسأله المعز: كم رأيت من خليفة؟ قال: واحد فقال: ومن هو؟ قال: أنت والباقي كلهم ملوك، ثم قال له: أحججت؟ قال: نعم، قال: وزرت؟ قال: نعم، قال: سلمت على الشيخين، قال شلغني عنهما النبي -صلى الله عليه وسلم، كما شغلني أمير المؤمنين عن ولي عهده، فأرضى الخليفة وتخلص من ولي عهده؛ إذ كان لم يسلم عليه بحضرة الخليفة، فازداد الخليفة به عجبا، وخلع عليه، وأبقاه على ولايته التي كان ولاه إياه جوهر الكاتب، وأجازه بعشر آلاف درهم، وأقام قاضيا بها ست عشرة سنة، لكن أشرك معه أبا الحسن علي بن أبي حنيفة بن حيون القيرواني كما سبق. ولد سنة تسع وسبعين ومائتين وهي سنة النجباء التي ولد بها جعفر بن الفرات، والحسن بن القاسم بن عبيد الله وغيرهما. توفي سنة 367 سبع وستين وثلاثمائة، ومن قصته هذه تعلم أخلاق القضاة في ذلك الزمان، وما كانوا يقاسونه في الضغط على الفكر من الأمراء الجائرين، وكيف يتخلصون. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 138 422- عبد الله بن الحسن بن الجلاب 1: وفي "المدارك" عبيد الله بالتصغير وكناه أبا القاسم أو أبا الحسين، وحكى عن الشيرازي أن اسمه عبد الرحمن، والصواب عبيد الله بصري تفقه بالأبهري، وكان من أحفظ أصحابه، وأخذ عنه أبو محمد عبد الوهاب بن نصر القاضي وغيره، له كتاب في مسائل الخلاف، وكتاب التفريع في المذهب مشهور. توفي سنة 378 ثمان وسبعين وثلاثمائة. 423- أبو بكر محمد بن أحمد بن عبد الله الشهير بابن خويز منداد 2: روى عن ابن أبي داسة، وتفقه بالأبهري، وأبو الحسن المصيصي، وغيرهم، وله كتاب كبير في الخلاف، وآخر في الأصول، وآخر في أحكام القرآن، وله أقوال في المذهب وآراء انفرد بها كقوله: إن التيمم يرفع الحدث، ولا يعتق على الرجل إلا آباوه وأبناؤه، ويقول في الأصول: إن خبر الواحد يوجب القطع، وإن العبيد لا يدخلون في خطاب الأحرار، ومن أجل هذا قال عياض: إنه ليس بالقول في الفقه، ولم يذكر وفاته، نعم ذكره في أواخر القرن الرابع. 424- محمد بن الحسن بن عبد الله بن مذحج الزبيدي 3: قاضي إشبيلية وعالم الأندلس وإمام اللغة في وقته، كان مع حفظه في   1 عبد الله بن الحسن بن الجلاب: "ملحوظة: في "المدارك" عبيد الله وكناه أبا القاسم". أربع رسائل "15"، وفيات ابن منقذ "234". 2 أبو بكر بن أحمد بن عبد الله الشهير بابن خويز منداد: أبو عبد الله أبو بكر، مات في حدود الأربعمائة. نسيم الرياض "14/ 141". 3 محمد بن الحسن بن عبد الله بن مذحج الزبيدي قاضي إشبيلية: أبو بكر الزبيدي الإشبيلي، ولد سنة "316"، توفي سنة "379": معجم المؤلفين "9/ 198، 199"، والحاشية، وفيات الأعيان "4/ 372". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 139 الفقه وإتقانه أعلم أهل زمانه باللغة والأدب والشعر. قال ابن حيان: لم يكن له في هذا الباب نظير في الأندلس مع افتتان في علوم كثيرة، من فقه وحديث وفضل واستقامة، وكان ابن زرب يقدمه ويفضله ويزوره، له كتاب الأبنية، وكتاب لحن العوام، ومختصر العين، وزيادة كتاب العين، وكتاب غلط صاحب العين، وله كتاب في الرد على محمد بن مسرة. توفي سنة 377 سبع وسبعين وثلاثمائة. 425- أبو محمد عبد الله بن أبي زيد النفزي 1: نسبا القيرواني إمام المالكية في وقته، وجامع مذهب مالك، وشارح أقواله والمنتصر له، واسع العلم، فصيح القلم واللسان، شاعر متفنن مع الصلاح والعفة والورع. كانت له الرحلة من الآفاق ونجب أصحابه، وملأت البلاد تآليفه، حتى قيل فيه: مالك الصغير. وهو وطبقته آخر المتقديم وأول المتأخرين، فكان تاريخ هذه الطبقة فاصلا بين التاريخين للفقه. قال فيه حافظ المغرب أبو الحسن بن عبد الله القطان: ما قلدته حتى رأيت النسائي يقلده، واستجازه ابن مجاهد من بغداد وغيره، وقال فيه تلميذه القابسي: إنه إمام موثوق به في ديانته وروايته. سمع من خلق كثير كابن اللباد والأبياني والقطان، وابن الأعرابي وخلق كثير، وعنه أبو بكر بن عبد الرحمن والبراذعي، وأبو بكر بن موهب وغيرهم من أهل أفريقية، والأندلس، والمغرب، له كتاب "النوادر" و"الزيادات على المدونة" أوعب فيه الفروع المالكية، فهو في المذهب المالكي كمسند أحمد عنه   1 أبو محمد عبد الله بن أبي زيد النفزي: ترجمته في سير أعلام النبلاء "11/ 3"، وطبقات الفقهاء ص"139" للشيرازي، وتذكرة الحفاظ "3/ 211"، والديباج المذهب ص"136"، وشذرات الذهب "3/ 131". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 140 المحدثين إذا لم توجد فيه المسألة فالغالب أن لا نص فيها، ينيف على المائة جزء، وله "مختصر المدونة" وعلى هذين معول المالكية في عصور بعده وفي عصره، وله "الرسالة" المتداولة الآن بين أيدي أهل المشرق والمغرب، وكتب أخرى كثيرة يطول عدها، فهو من الطبقة العالية في المؤلفين وعندي أنه أحق من يصدق عليه حديث "يبعث الله على رأس كل مائة عام من يجدد لهذه الأمة أمر دينها" 1 هذا في أفريقيا وما قرب منها وفي المشرق القاضي أبو بكر الباقلاني لسان الفقهاء والمتكلمين، وقيل: الأستاذ سهل الصعلوكي، وقيل: أبو حامد الإسفراييني، وتقف على تراجم الكل في هذا المؤلف. ولك أن تقول: إن ابن أبي زيد لم يصل إلى رأس المائة. قلنا: إلغاء الكسر معلوم في كثير من موارد الشريعة المطهرة، وما قارب الشيء يعطي حكمه على رأس المائة يحتمل أنه من المبعث أو الهجرة أو من الوفاة النبوية؛ لأن اصطلاح عد التاريخ من الهجرة إنما كان زمن عمر، ولا يحكم بالمتأخر على المتقدم والله أعلم. على أنه لا مانع أن يعد القيروان في قطره، والأصيلي في قطره، والقاضي عبد الوهاب في قطره، والباقلاني في قطره، وغيرهم، وعلى كل حال، فالذي يصلح لهذه المزية في هذه المائة كثيرون كالقاضي ابن محسود الهواري بفاس، وغيره، و"من" في الحديث تصدق بالواحد والجماعة. والله أعلم. توفي ابن أبي زيد سنة 386 ست وثمانين وثلاثمائة. 426- أبو بكر محمد بن يبقى بن محمد بن زرب 2: قاضي قرطبة، ومفتيها، الموصوف بسعة العلم والنظر والنزاهة والفضل، من   1 أخرجه أبو داود "4291" من حديث أبي هريرة مرفوعا بلفظ $"إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها" وإسناده صحيح، وصححه الحاكم والعراقي. قال ابن كثير: قد ادعى كل قوم في إمامهم أنه المراد بهذا الحديث، والظاهر أنه يعم جملة من العلماء من كل طائفة وكل صنف من مفسر ومحدث وفقيه ونحوي ولغوي وغيرهم. 2 أبو بكر محمد بن يبقى بن محمد بن زرب: ترجمته في جذوة المقتبس "93"، والشذرات "3/ 101"، والديباج المذهب "268، 269". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 141 أحفظ أهل زمانه لمسائل مالك، وكان القاضي بن السليم يقول له: لو رآك ابن القاسم لعجب منك، مشارك في الفنون العربية، ورع عفيف، له كتاب "الخصال" في الفقه عارض به كتاب "الخصال" الحنفي، فجاء غاية في الإتقان، ولما ولي القضاء، وجاء الناس لتهنئته، كشف لهم عن صندوق من المال، وقال لهم: إن فشا من مالي ما يناسب هذا، فلا لوم، وإن ظهر علي أكثر منه، وجب مقتي. توفي سنة 381 إحدى وثمانين وثلاثمائة، وفي "الديباج" إحدى وثلاثين وهو تصحيف. 427- أبو محمد عبد الله بن إبراهيم بن محمد بن عبد الله 1: ابن جعفر الأصيلي من كورة شذونة الأندلسي، ونشأ بأصيلا مرسى قرب طنجة من المغرب الأقصى، وطلب بها العلم، وأبوه من مسلمة أهل الذمة كما في "المدارك" وتفقه بقرطبة على اللؤلؤي وأبان بن عيسى وغيرهم، ورحل للمشرق، فلقي بأفريقية عبد الله بن أبي زيد، والأبياني، وبمصر ابن شعبان، وبمكة أبا بكر الآجري، ولقي بالعراق الأبهري وغيرهم ورجع للأندلس، فانتهت إليه رئاسة المالكية بها، وألف في المذاهب كتبا. قال الدارقطني؛ لم أر مثله، وقال غيره: كان من حفاظ مذهب مالك والتكلم على الأصول وترك التقليد، ومن أعلم الناس بالحديث، وأبصرهم بعلله ورجاله، وولي قضاء سرقسطة، وكان نظير ابن أبي زيد في القيروان،   1 أبو محمد عبد الله بن إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن جعفر الأصيلي بن كورة: أبو محمد الأصيلي الأندلسي الفقيه، توفي سنة "392": الوافي بالوفيات "17/ 7"، تذكرة الحفاظ "3/ 1024"، العبر للذهبي "3/ 52"، تاريخ علماء الأندلس ص"249"، الديباج المذهب "1/ 433، 434"، شذرات الذهب "3/ 140"، نسيم الرياض "2/ 44"، معجم المؤلفين "6/ 18، 19"، بغية المقتبس ص"340"، حاشية الأنساب "1/ 296". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 142 وعلى هديه لولا ضجره الشديد وقت غيظه. ومن فتاويه لابن أبي عامر جواز الصلاة في العمارية التي كان يلزم الصلاة الفريضة فيها في أسفاره، وكان يصلي إيماء للنقرس الذي أصاب قدميه وهي إحدى روايتي ابن القاسم في "المدونة" ومنع ذلك حتى يباشر الأرض أرجح قاله في "المدارك" قال: وكان ينكر الغلو في كرامات الأولياء، ويثبت منها ما صح سنده، ومن كراماته هو ولا ولده، وأمن من كان في المجلس، فأجيب دعاؤه. توفي سنة 392 اثنين وتسعين وثلاثمائة. وتوفي ولده بعده بأعوام قبلها، وكان في سنة 400 من الفتن والمحن وخراب الأندلس ما كان. 428- أبو بكر محمد بن عبد الله التميمي الشهير بالأبهري 1: البغدادي ذو التآليف الكثيرة في شرح مذهب مالك والاحتجاج له وناشره في العراق وراء النهر والجبل. أقام ستين سنة على الفتوى والتدريس بجامع المنصور ببغداد، ولم ينجب أحد بالعراق من المالكية بعد إسماعيل القاضي ما أنجب أبو بكر الأبهري، فقد روى عنه الدارقطني والباقلاني والأصيلي، وأجاز لابن أبي زيد وغيرهم، كما أنه لا قرين لهما في المذهب بقطر من الأقطار إلا سحنون في طبقتهما، بل هو أكثر، ثم أبو محمد بن أبي زيد في هذه الطبقة وكان من المقرئين المجودين، وله شرحان على المختصر، وكتاب الأصول، وكتاب إجماع أهل المدينة، وكتاب العوالي في الحديث والأمالي، وغيرها كثير. ومن كلامه: الدين عز، والعلم كنز، والحلم حرز، والتوكل قوة.   1 أبو بكر محمد بن عبد الله التميمي الشهير بالأبهري البغدادي: ثقات "7/ 425"، مجمع زوائد "3/ 98"، التاريخ الكبير "1/ 136"، الجرح والتعديل "7/ 1686"، لسان الميزان "5/ 238"، الميزان "3/ 612". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 143 وعرض القضاء على الأبهري فامتنع، وبعد موته وتلاحق أصحابه به خرج القضاء عن المالكية إلى الشافعية والحنفية، وضعف مذهب مالك في العراق، وقل طالبه؛ لأن الناس تابعون لمذهب الحكومة. توفي الأبهري سنة 395 خمس وتسعين وثلاثمائة والذي في "المدارك" خمس وسبعون بالموحدة بعد السين والعين عن ثمانين ونحوها. ومن أقرانه أبو الفرج عمر بن محمد الليثي، وابن بكير، وأبو بكر محمد بن أحمد بن الجهم وطبقتهم. 429- أبو الحسن علي بن أحمد البغدادي 1: الشهير بابن القصار صاحب كتاب "مسائل الخلاف" الذي لا أكبر منه عند المالكية، استقضي ببغداد وكانت وفاته سنة 398 ثمان وتسعين وثلاثمائة. 430- أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن عيسى بن أبي زمنين 2: بفتح الزاي والميم وكسر النون المري البيري، من مفاخر غرناطة، وكبار المحدثين، والفقهاء الراسخين أجل أهل وقته فقها وحديثا، متفننا عارفا باختلاف العلماء، متضلعا في الأدب والأخبار والنحو وقرض الشعر، متبتلا متقشفا، دائم الصلاة والبكاء، كثير الصدقة مواسيا بجاهه وماله فصيحا، آخذا بالأفئدة حسن التأليف، له تفسير للقرآن، وشرح للمدونة واختصار لها، ليس في مختصراتها مثله باتفاق، وله كتاب "المنتخب" في الأحكام شهير، واختصار شرح الموطأ لابن مزين، وأصول الوثائق، وكتب مهمة غيرها. توفي بالبيرة سنة 399 تسع وتسعين وثلاثمائة عن خمس وسبعين، ولا   1 أبو الحسن علي بن أحمد البغدادي الشهير بابن القصار: البغدادي. إفادة النصيح "ص40"، الديباج المذهب "199". 2 أبو عبد الله محمد بن عبد بن عيسى بن أبي زمنين المري البيري: سير أعلام النبلاء "11/ 42، 43"، وجذوة المقتبس "53"، وشذرات الذهب "3/ 156"، والديباج المذهب "269". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 144 يبعد عده من المجددين بقطره. 431- أحمد بن سعيد بن إبراهيم الهمداني 1 المعروف بابن الهندي، واحد عصره في علم الشروط، وأقر له بذلك فقهاء الأندلس طرا، وكتابه في ذلك مفيد جامع يحتوي على علم كثير، وعليه اعتمد حكام الأندلس والمغرب، سلك فيه الطريق الواضح، وتكلم فيه ابن حيان بأنه عديم المروءة، أحد من لاعن زوجته في الأندلس. وذكر في كتابه أشياء منكرة انظر "المدارك" توفي سنة 399 تسع وتسعين وثلاثمائة. 432- أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الله المعروف بابن العطاء 2: رئيس الموثقين، كان متفننا في علوم الإسلام، عارفا بالشروط، أملى فيها كتابا، عليه عول أهل زماننا اليوم، وكان يفضل الفقهاء بمعرفته اللسان والنحو، وكان يزري بأصحابه المفتين، ويعجب بما عنده إلى أن تمالئوا عليه بالعداوة، وحملوا قاضي قرطبة ابن زرب على سخطه بجميع أنواع الجراح، وأمضاها ابن أبي عامر، وأمره بملازمة داره، وقطع شوراه، فناله مكروه عظيم، ثم رده إلى الشورى، وأفرده في الشورى ما بين العمال والرعية. توفي في عقب ذي الحجة سنة 399 تسع وتسعين وثلاثمائة. 433- أبو محمد عبد الله بن محمد بن محسود الهواري: قاضي فارس وإمامها الإمام الزاهد الذي يضرب المثل بورعه وعدله، أخذ عن ابن أبي زيد القيراوني، وأخرج زيادات مختصرة على المدونة وكان شديدا في   1 أحمد بن سعيد بن إبراهيم الهمداني المعروف بابن الهندي: المغرب في حلي المغرب "112"، والديباج المذهب "38". 2 أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الله "ابن العطار": الوافي بالوفيات "2/ 53". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 145 أحكامه، أقام الحدود القتل فما دونه. ومن ورعه لم يثبت أنه عامل أحدا بفاس، بل كان القمح يأتيه من بلده هوارة، والإدام يشترى له من مكناسة، وامرأته تغزل ثيابه، ولم يوجد في تركته سوى حصير الصلاة وإناء الوضوء ومصحف التلاوة. وفي "الأنيس" أنه توفي سنة إحدى وأربعمائة 401 رحمه الله. وإني لأعده من المجددين على رأس المائة بقطره. 434- أبو عمر أحمد بن عبد الملك المعروف بابن المكوي 1: الإشبيلي، مولى بني أمية شيخ الأندلس في وقته حتى صار فيها بمنزلة يحيى بن يحيى، واعتلى على الفقهاء، ونفذت الأحكام برأيه، لا يداهن السلطان، ولا يدع قول الحق، القريب والبعيد عنده سواء. استفتاه ابن أبي عامر في قتل عبد الملك بن منذر البلوطي مستظهرا بكتاب بخط يده دال على مؤامرة على قتله، وأفتى بعض الفقهاء بالقتل، فقال ابن المكوي: رجل هم بسيئة ولم يعملها، ولم يجرد سيفا ولا أخاف سبيلا مع أنه ممن قال فيهم عليه السلام: "اقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم" 2 فلا أرى عليه شيئا ولما صلبه المنصور بن أبي عامر، انقبض ابن المكوي بداره شهرين عن الفتوى إنكارا لما جرى. كان أحفظ الناس لقول مالك وأصحابه، وهو الذي جمع للحكم مع أبي   1 أبو عمر أحمد بن عبد الملك المعروف بابن المكوي الإشبيلي: سير أعلام النبلاء "11/ 46"، وجذوة المقتبس "123"، والديباج المذهب "39"، وشذرات الذهب "3/ 161". 2 أخرجه أحمد "6/ 181"، وأبو داود "4375"، والطحاوي في "مشكل الآثار" "3/ 129" عن عائشة، وأخرجه من طريق آخر البخاري في الأدب المفرد ص"456"، وابن حبان "1520"، وله شاهد من حديث ابن مسعود عند الخطيب في تاريخ بغداد "10/ 85، 86"، وأبي نعيم في "تاريخ أصبهان" "2/ 234"، وآخر من حديث ابن عمر عند السهمي في تاريخ جرجان ص"122"، فالحديث صحيح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 146 بكر المعيطي كتاب "الاستيعاب". ابنه ابن الشقاق على قبره بقوله: رحمك الله، فلقد فضحت الفقهاء في حياتك بقوة حفظك، ولتفضحهم بعد مماتك أشهد أني ما رأيت أحفظ للسنة منك، ولا علم أحد من وجوهها ما علمت. وكان في ابتداء أمره بزازا بحانوته بسوق البزازين، فلما شهر في الناس حذقه، واحتاجوا لفتواه، قلده الحكم الشورى برأي القاضي ابن السليم سنة خمس وستين، فانثال الناس عليه، وانقطع تجره، وضعفت حاله، فأخرج له الحكم ألف دينار. توفي سنة 401 إحدى وأربعمائة. 435- أحمد بن نصر الداوودي الأسدي 1: أبو جعفر مسيلي أو بسكري الأصل، وسكن طرابلس، ثم نزل تلمسان، وبها توفي، فقيه متقن فاضل مشارك في الحديث والنظر واللسان، له شرح الموطأ، والداعي في الفقه، والنصيحة في شرح البخاري، والإيضاح في الرد على القدرية. توفي سنة 402 اثنتين وأربعمائة. 436- القاضي أبو بكر محمد بن الطيب المعروف بالباقلاني 2 البصري المتكلم المشهور، كان على مذهب الإمام الأشعري، ناصرا طريقته، سكن بغداد، وصنف التصانيف الكثير في علم أصول الدين وغيره، أوحد أهل زمانه، وانتهت إليه رياسة مذهبه، معروف بحسن الاستنباط وسرعة الجواب إذا كان في المناظرة كأنه خطيب، لم ير مثله في فصاحة اللسان، وقوة   1 أحمد بن نصر الداوودي الأسدي أبو جعفر مسيلي: الديباج المذهب "35". 2 القاضي أبو بكر محمد بن الطيب المعروف الباقلاني البصري "المتكلم": أبو بكر الباقلاني البصري المتكلم المعتزلي الأشعري، مات سنة "403"، وقيل سنة "393": الأنساب "2/ 52"، نسيم الرياض "2/ 298، 4/ 149"، تاريخ بغداد "5/ 379"، سير النبلاء "17/ 190"، معجم المؤلفين "1/ 109، 110"، وفيات الأعيان "4/ 269"، الأعلمي "26/ 294". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 147 الجنان، وسهولة التعبير عما في الضمير. قال ابن ناجي في "معالم الإيمان": إنه كان يقرئ المذاهب الأربعة، ويذكر كل مذهب وحجته، ثم يرجح مذهب مالك. ا. هـ. عدد 69 من الجزء الثالث توفي سنة 403 ثلاث وأربعمائة. والباقلاني بكسر القاف، وفي لامه لغتان، فمن شددها، قصرها، فحذف الألف، ومن خففها، زاد الألف نسبة إلى الباقلاء قصرا ومدا، وزيادة النون في هذه النسبة شذوذ قيل قياس على صنعاني، وقد اعترضها الحريري في "درة الغواص" بأن زيادة النون في صناعني غير مقيس فانظره. وفي فهرسة محمد بن محمد بن سليمان الروداني الحرمي إمام أهل المغرب والحرمين عن تذكرة الذهبي أن أبا الوليد الباجي قال لأبي ذر الهروي: من أين تمذهبت بمذهب مالك ورأي الأشعري مع أنك هروي؟ فقال: قدمت بغداد، فكنت ماشيا مع أبي الحسن الدارقطني، فلقينا القاضي الباقلاني، فالتزمه الدارقطني، وقبل وجهه وعينه، فلما افترقا، قلت: من هذا؟ قال: هذا إمام المسلمين، والذاب عن الدين القاضي الباقلاني، وفي رواية، هذا سيف السنة، فمن ذلك الوقت تقربت إليه وتمذهبت بمذهبه. ا. هـ. 437- أبو الحسن علي بن محمد بن خلف المعافري 1: القيرواني الشهير بابن القابسي، قال في "المدارك": ولم يكن قابسيا، بل هو قسرابي الأصل، وإنما كان عمه يشد عمامته شد القابسيين سمع مع أبي العباس الأبياني، ودارس بن إسماعيل الفاسي وطبقتهما، ورحل للمشرق، فسمع من أبي زيد المروزي وغيره كثير، وكان واسع الرواية عارفا بالحديث وعلله ورجاله، والفقه والأصول، متكلما مؤلفا مجيدا، صالحا متقيا، وكان أعمى،   1 أبو الحسن علي بن محمد بن خلف المعافري القيرواني الشهير بابن القابسي: أبو الحسن، المعافري القابس القروي الشهرة ابن الحسن، ولد سنة "324"، مات سنة "403": إفادة النصح ص"83"، والأنساب "10/ 286"، طبقات الحفاظ "419"، نسيم الرياض "1/ 145، 4/ 342"، العبر "3/ 85"، سير النبلاء "17/ 158"، تذكرة "3/ 1079"، الأعلام "4/ 326"، وفيات الأعيان "3/ 320"، معجم المؤلفين "7/ 194، 195"، شجرة النور الزكية "97". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 148 ومع ذلك كان من أصح الناس كتبا، وأجودهم ضبطا ضبط له سماعه البخاري من ابن أبي زيد رفيقه أبو محمد الأصيلي، أخذ عنه أبو عمران الفاسي وغيره، وجلس مجلس ابن شبلون بعد وفاته. وكان في حياته أبي الفتوى، وسد بابه دون الناس، فقال لهم أبو القاسم بن شبلون: اكسروا عليه بابه؛ لأنه وجب عليه فرض الفتيا؛ لأنه أعلم من بقي بالقيروان، فلما رأى خرج إليهم وأنشد: لعمر أبيك ما نسب المعلى ... إلى كرم وفي الدنيا كريم ولكن البلاد إذا اقشعرت ... وصوح نبتها رعي الهشيم له كتب عديدة كمخلص الموطأ، وكتاب "الممهد" في الفقه، و"أحكام الديانة" وكتاب "المنقذ من شبه التأويل"، و"المنبه للفطن عن غوائل الفتن" والرسالة المفصلة لأحوال المتقين، وكتاب "أحمية الحصون" وكتاب "رتب العلم وأحوال أهله" وغيرها. توفي سنة 403 ثلاث وأربعمائة عن تسع وسبعين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 149 بعض أصحاب الشافعي الذين نشروا مذهبه في القرنين الثالث والرابع : 438- أولهم أبو يعقوب يوسف بن يحيى القرشي البويطي 1: المصري الفقيه، صاحبه وخليفته في حلقته، روى عن ابن وهب، وعنه الربيع، وأبو حاتم، وقال: صدوق، قال الخطيب، حمل إلى بغداد ليقول بخلق القرآن، فامتنع، فحبس إلى أن مات، وكان صالحا متعبدا زاهدا، وهو صاحب المختصر المشهور الذي اختصره من كلام الشافعي، وكان الشافعي يحيل عليه الفتيا إذا جاءته المسألة، وقد تخرج به جماعة نشروا مذهب الشافعي في الآفاق. توفي سنة 231 إحدى وثلاثين ومائتين. 439- أبو حفص حرملة بن يحيى 2 بن عبد الله بن حرملة بن عمران التجيبي المصري: روى عنه الشافعي، وابن وهب قيل: إنه روى عنه مائة ألف حديث. روى   1 أبو يعقوب يوسف بن يحيى القرشي البويطي المصري: أبو يعقوب، القرشي البويطي المصري، توفي سنة "231" أو سنة "232": تقريب التهذيب "2/ 383"، تهذيب التهذيب "11/ 327"، تهذيب الكمال "3/ 1563"، الكاشف "3/ 301"، الخلاصة "3/ 190"، العبر "1/ 411"، الجرح والتعديل "9/ 988". 2 أبو حفص حرملة بن يحيى بن عبد الله بن حرملة بن عمران التجيبي المصري: أبو عبد الله،= الجزء: 2 ¦ الصفحة: 150 عنه مسلم والنسائي وابن ماجه. تكلم فيه أبو حاتم وغيره، وأثنى عليه ابن معين وغيره. صنف "المبسوط" و"المختصر" توفي سنة 243 ثلاث وأربعين ومائتين. 440- أبو علي الحسين بن علي بن يزيد 1 الكرابيسي: الفقيه البغدادي، أشهرهم بانتياب مجلس الشافعي وأحفظهم لمذهبه، وله تصانيف كثيرة، أجازه الشافعي بكتب الزعفراني. توفي سنة 245 خمس وأربعين ومائتين. 441- أبو علي الحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني 2: البغدادي أثبت رواة القول القديم للشافعي الذي كان يذهب إليه في العراق، والكتاب العراقي منسوب إليه، كان قارئ الشافعي في مجلسه ببغداد. روى عن ابن عيينة وعبيدة بن حميد، ويحيى بن عباد وغيرهم، وروى عنه البخاري في "الصحيح" وأصحاب السنن الأربعة وثقه النسائي، وأبو الحسن بن المنادي، وذكره ابن حبان في "الثقاة" قال ابن مخلد: توفي سنة 260 ستين ومائتين.   1 أبو علي الحسين بن علي بن يزيد الكرابيسي الفقيه البغدادي: سير أعلام النبلاء "8/ 164"، تاريخ بغداد "8/ 64"، ووفيات الأعيان "2/ 132"، وتهذيب الأسماء واللغات "2/ 84"، وتهذيب التهذيب "2/ 359"، وطبقات الشافعية "1/ 251". 2 أبو علي الحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني البغدادي: وفيات الأعيان "2/ 73"، وتاريخ بغداد "7/ 407"، وتهذيب التهذيب "2/ 318"، وتذكرة الحفاظ "525"، وطبقات الشافعية "1/ 250". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 151 442- أبو إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزني المصري 1: كان زاهدا عالما مجتهدا محجاجا غواصا على الدقائق، إمام الشافعية وأعرفهم بأقوال إمامهم، مؤلف الكتب التي عليها مدار مذهب الشافعي، لكن الشافعية يعتبرونه مجتهدا مطلقا، ويعدون اختياراته خارجة عن المذهب على قلتها. توفي سنة 364 أربع وستين ومائتين. 443- أبو موسى يونس بن عبد الأعلى بن موسى بن ميسرة بن حفص الصدفي 2: المصري أحد الأعلام، روى عنه الشافعي الحديث والفقه، وابن عيينة، وابن وهب، وطائفة. روى عنه مسلم والنسائي وابن ماجه وغيرهم. قال فيه يحيى بن حسان: ركن من أركان الإسلام، ولم يتكلم فيه أحد، ولا نقموا عليه إلا روايته عن الشافعي حديث "لا مهدي إلا عيسى"3 الذي تفرد به الشافعي عن شيخ مجهول وهو محمد بن خالد الجندي، وانفرد بإخراجه ابن ماجه عن يونس المذكور. أقام يونس يشهد ستين سنة، وكان القاضي بكار صاحبا له، فسأله يوما من أين المعيشة؟ فقال: ومن وقف وقفة أبي، فقال بكار: أيكفيك؟ قال: تكفيت به. وقد سألني القاضي، فأريد أن أسأله، قال: سل، قال: هل ركب القاضي دين   1 أبو إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزني المصري: طبقات الشافعية "1/ 238"، ووفيات الأعيان "1/ 267". 2 أبو موسى يونس عبد الأعلى بن موسى بن ميسرى بن حفص الصدفي المصري أحد الأعلام: تهذيب التهذيب "11/ 440"، وغاية النهاية "2/ 406"، وطبقات الشافعية "1/ 279". 3 أخرجه ابن ماجه "4049"، عن يونس بن عبد الأعلى، عن الشافعي، عن محمد بن خالد الجندي، عن أبان بن صالح، عن الحسن، عن أنس، ومحمد بن خالد الجندي مجهول، والحسن قد عنعن، وقال الذهبي في ميزان الاعتدال في ترجمة يونس بن عبد الأعلى: انفرد عن الشافعي بحديث "لا مهدي إلا ابن مريم" وهو منكر جدا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 152 بالبصرة حتى تولى بسببه القضاء؟ قال: لا، قال: فهل رزق ولدا أحوجه إلى ذلك؟ قال: لا ما نكحت قط، قال: فهل لك عيال كثيرة؟ قال: لا، قال: فهل أجبر كالسلطان، وعرض عليك العذاب وخوفك؟ قال: لا، قال: فقد ضربت أيها القاضي آباط الإبل من البصرة إلى مصر لغير ضرورة ولا حاجة، لا دخلت عليك أبدا فقال: يا أبا موسى أقلني، قال أنت بدأت المسألة، ولو سكت لسكتنا ولم يعد إليه. وقال الشافعي يوما: هل رأيت بغداد؟ قال: لا، قال له: ما رأيت الدنيا ولا رأيت الناس. توفي سنة 264 أربع وستين ومائتين. 444- أبو محمد الربيع بن سليمان بن عبد الجبار المرادي 1: مولاهم المصري، مؤذن الفسطاط، وصاحب الشافعي، وراوي كتب الأمهات عنه، وعنه أبو داود والنسائي، وابن ماجه وهو أثبت عن الشافعية من المزني في نقل أقوال الشافعي على عظم مكانته؛ لأن الشافعي قال فيه: الربيع راويتي وما خدمني أحد ما خدمني الربيع. وكان يقول له: لو أمكنني أن أطعمك العلم، لأطعمتك، وهو آخر من روى عن الشافعي بمصر. توفي سنة 370 سبعين ومائتين. 445- أبو القاسم عثمان بن سعيد الأحول الأنماطي 2: من كبار الشافعية، كان السبب في نشاط الناس في كتاب الشافعي ببغداد وتحفظها. توفي سنة 288 ثمان وثمانين ومائتين.   1 أبو محمد الربيع بن سليمان بن عبد الجبار المرادي مولاهم المصري: طبقات الشافعية "1/ 259"، ووفيات الأعيان "2/ 292". 2 أبو القاسم عثمان بن سعيد الأحوال الأنماطي: أبو القاسم، مات سنة "288"، ببغداد: تاريخ بغداد "11/ 292، 293"، وفيات الأعيان "3/ 241"، عبر المؤلف "2/ 81"، طبقات الشافعية للسبكي "2/ 301، 302"، البداية والنهاية "11/ 285"، شذرات الذهب "2/ 198". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 153 446- أبو جعفر محمد بن أحمد بن نصر الترمذي 1: لم يكن للشافعية في وقته أرأس منه، ولا أورع ولا أكثر تقللا سكن بغداد، وكان ثقة زاهدا. توفي سنة 295 خمس وتسعين ومائتين بعد أن اختلط. 447- أبو عبد الله محمد بن بن يحيى بن منده 2: بفتح الميم العبدي الحافظ المشهور، صاحب كتاب "تاريخ أصبهان" أحد الثقاة الكبار، له الشهرة التي يستغنى بها عن التعريف. توفي سنة 301 إحدى وثلاثمائة، وليس هذا صاحب كتاب معرفة الصحابة، بل ذاك هو حفيد هذا، وهو محمد بن إسحاق بن محمد بن يحيى وتقدمت ترجمته في المجتهدين. 448- أبو زرعة محمد بن عثمان بن إبراهيم بن زرعة الثقفي 3: مولاهم قاضي دمشق، يقال إنه أول من أدخل مذهب الشافعي إلى دمشق، وأنه كان يهب لم يحفظ مختصر المزني مائة دينار، ولي مصر سنة   1 أبو جعفر محمد بن أحمد بن نصر الترمذي: أبو جعفر، الفقيه الشافعي الترمذي، ولد سنة "200"، مات سنة "295": تاريخ بغداد "1/ 365"، الأنساب "3/ 44"، الوافي بالوافيات "2/ 70"، تهذيب الأسماء للنووي "683"، سير النبلاء "13/ 545"، وحاشية التاج المكلل "109"، وفيات الأعيان "4/ 195"، ودائرة معارف الأعلمي "26/ 163، 143". 2 أبو عبد الله محمد بن يحيى بن منده العبدي: أبو عبد الله، العبدي الأصبهاني، الشهرة ابن منده، مات سنة "301": الأعلام "7/ 135"، الوافي بالوفيات "5/ 189"، أصبهان "2/ 222"، معجم طبقات الحفاظ ص"170"، التاج المكلل ص"118"، سير النبلاء "14/ 188"، معجم المؤلفين "12/ 111"، وفيات الأعيان "4/ 289"، العبر "3/ 120"، الأعلمي "8/ 564"، تبصير المنتبه "3/ 846"، الجرح والتعديل "8/ 564". 3 أبو زرعة محمد بن عثمان بن إبراهيم بن زرعة الثقفي: أبو زرعة، الثقفي الدمشقي - القاضي: سير النبلاء "14/ 231"، والحاشية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 154 284، وكان يذهب إلى قول الشافعي، ويوالي عليه، وكان له مال كثير وضياع كبار بالشام. توفي سنة 302 اثنين وثلاثمائة. 449- أبو علي الحسن بن القاسم الطبري البغدادي 1: له كتاب "المحرر" في النظر، وهو أول كتاب صنف في الخلاف المجرد، وكتاب "الإفصاح" في الفقه، وكتاب "العدة" في عشرة أجزاء وكتاب في الأصول، وآخر في الجدل. توفي سنة 305 خمس وثلاثمائة. 450- أحمد بن عمرو بن سريج 2: القاضي بشيراز ثم بغداد أحد عظماء الشافعية وأئمة الإسلام يقال له: الباز الأشهب، بلغت كتبه أربعمائة، تفقه على الأنماطي والزعفراني وأبي داود السجستاني، وتفقه عليه أبو القاسم الطبراني، وغيره، قال المطوعي: هو سيد طبقته بإطباق الفقهاء، وعده السكبي في "الطبقات" مجددا على رأس المائة. وعندي أن أحق من يعد مجددا القاضي إسماعيل، والإمام أبو الحسن الأشعري، الأول في الفروق، والثاني في الأصول، راجع ترجمتهما؛ إذ كل منهما خدم الدين خدمة عامة تعود بالخير على جميع المذاهب الإسلامية، وقد اختار ابن عساكر شافعي أيضا، وعن ابن سريج: يؤتى يوم القيامة بالشافعي، وقد تعلق بالمزني يقول: رب هذا أفسد علومي فأقول أنا: مهلا بأبي إبراهيم، فإني لم أزل في إصلاح ما أفسده. فتأمل هذا كيف يسوغ أن يقال: يؤتى بفلان يوم القيامة يقول كذا، ومثله لا يقال بالرأي، وكم من هذه الخرافات في "الطبقات" وأيضا منها تعلم ما وقع في   1 أبو علي الحسن بن القاسم الطبري البغدادي: سير أعلام النبلاء "10/ 159 9"، ووفيات الأعيان "2/ 76"، وطبقات الشافعية "2/ 217"، وتاريخ بغداد "8/ 78"، وشذرات الذهب "3/ 3". 2 أحمد بن عمر بن سريج: سير أعلام النبلاء "9/ 189"، وتاريخ بغداد "4/ 287"، ووفيات الأعيان "1/ 66"، وطبقات الشافعية "2/ 87"، وتذكرة الحفاظ "811". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 155 المذاهب في هذا القرن من الإفساد على قرب عهده بالمؤسس، وأصل الفساد الاختصار مع أن مختصر المزني الصغير يعول الشافعية في مذهبهم، كما أن مختصر البراذعي عند المالكية معتمد، وكل منهما قد أفسد مواضع بسبب الاختصار على أن اختصارهما تطويل بالنسبة لاختصار خليل. توفي ابن سريج سنة 306 ست وثلاثمائة. 451- أبو عوانة يعقوب بن إسحاق النيسابوري 1: ثم الإسفراييني، الحافظ صاحب المسند الصحيح المخرج على كتاب مسلم. كان من المحدثين العظام، والفقهاء الأعلام طاف الشام ومصر، والبصرة، والكوفة، وواسط، والحجاز، والجزيرة واليمن وأصبهان والري وفارس، وسمع من أعلامها كيونس بن عبد الأعلى والزعفراني والإمام مسلم، ومحمد بن يحيى الذهلي وغيرهم، وأخذ عنه أعلام، أثنى عليه الإمام الحاكم وغيره. قال عمر بن الصفار: إن أبا عوانة هو الذي أظهر مذهب الشافعي بإسفرايين، وبها توفي سنة 316 ست عشرة وثلاثمائة، وعوانة بفتح العين المهملة وبعد الألف نون قاله ابن خلكان. 452- أبو علي الحسين بن صالح بن خيران 2: من أفاضل الشيوخ المتورعين عرض عليه قضاء بغداد فلم يقبل، فوكل الوزير أبو الحسن بن عيسى بداره مترسما من الجند، فقيل له: إن العلماء سواه   1 أبو عوانة يعقوب بن إسحاق النيسابوري الإسفراييني: أبو عوانة، النيسابوري الإسفراييني المهرجان، توفي سنة "316": الأنساب "1/ 223"، التاج المكلل ص"15"، التقييد "2/ 316"، در السحابة "828"، سير النبلاء "14/ 416"، والحاشية، الأعلام "8/ 196"، والحاشية، وفيات الأعيان "6/ 393"، معجم المؤلفين "13/ 242". 2 أبو علي الحسين بن صالح بن خيران: تاريخ بغداد "8/ 53". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 156 كثير، فقال: قصدنا أن يقال: إن في زماننا من وكل بداره ليتولى القضاء فلم يقبل، وكان يعاتب ابن سريج على تولية القضاء، ويقول: هذا الأمر إنما كان في الحنفية. توفي سنة 320 وصحح الدارقطني والخطيب أنها سنة عشر وثلاثمائة، وخيران بفتح الخاء المعجمة. 453- أبو عبد الله محمد بن يوسف بن مطر الفربري 1: الإمام الحافظ راوية الإمام البخاري، وآخر من سمع منه، رحلوا إليه من أقطار الأرض. توفي سنة 320 عشرين وثلاثمائة عن تسع وثمانين سنة، وفربر بفتح الفاء والراء: بلدة على نهر جيجون مما يلي بخارى. 454- أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم بن إدريس بن المنذر 2: ابن داود الحنظلي حافظ الري وابن حافظها، الإمام ابن الإمام، له المصنفات العظيمة مثل التفسير في أربع مجلدات، كله آثار مسندة، وكتاب الجرح والتعديل في مجلدات، وكتاب المسند في ألف جزء، وكتاب العلل، وله كتب أخرى في الفقه وغيره. انظر "الطبقات" كان مشهورا بالزهد والورع، والحفظ والإتقان، وله رحلتان استفاد فيهما علما عظيما، إحداهما مع أبيه. توفي سنة 327 سبع وعشرين وثلاثمائة.   1 أبو عبد الله محمد بن يوسف بن مطر الفربري: أبو عبد الله، الحمومي الغربوي الفريري: الأنساب "4/ 259، 10/ 170"، الإكمال "7/ 84"، عنوان الدراية "139"، التمهيد "2/ 65"، سير النبلاء "15/ 10"، المعين "1232"، حاشية التحبير "1/ 166"، وفيات الأعيان "4/ 290، 3/ 217"، التقييد "1/ 131"، الوافي بالوفيات "5/ 245"، الأعلمي "27/ 148". 2 أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم بن إدريس بن المنذر بن داود الحنظلي: تذكرة الحفاظ "3/ 46"، وفوات الوفيات "1/ 360"، وطبقة الحنابلة "2/ 55". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 157 455- أبو سعيد الحسن بن أحمد الإصطخري 1: كان من نظراء أبي العباس بن سريج وأقران ابن أبي هريرة، له مصنفات حسنة في الفقه، ككتاب "الأقضية" وتولي حسبة بغداد، وكان ورعا متقللا، استقضاه المقتدر على سجستان، فوجد معظم أنكحتهم بدون ولي، فأبطلها عن آخرها. توفي سنة 328 ثمان وعشرين وثلاثمائة والإصطخر بكسر الهمزة وسكون الصاد وفتح الطاء المهملة وسكون الخاء المعجمة من بلاد فارس. 456- أبو بكر محمد بن عبد الله الصيرفي 2: الإمام الأصولي كان يقال: إنه أعلم خلق الله بالأصول بعد الشافعي، تفقه على ابن سريج وغيره. ومن تصانيفه كتاب في الأصول عجيب، وشرح رسالة الشافعي، وكتاب الإجماع وغيره. توفي سنة 330 ثلاثين وثلاثمائة، وهو أول من صنف من الشافعية في علم الشروط يعني التوثيق. 457- الإمام محمد بن علي بن إسماعيل القفال الكبير الشاشي 3: الإمام الجليل أحد أئمة الدهر، ذو الباع الواسع في العلوم، له مصنفات كثيرة ليس لأحد مثلها، وهو أول من صنف الجدل من الفقهاء يعني الشافعية،   1 أبو سعيد الحسن بن أحمد الإصطرخي: تهذيب الأسماء "2/ 237"، ووفيات الأعيان "2/ 74"، وتاريخ بغداد "7/ 268"، وشذرات الذهب "2/ 312". 2 أبو بكر محمد بن عبد الله الصيرفي الإمام الأصولي: تاريخ بغداد "5/ 449"، ووفيات الأعيان "4/ 199"، وطبقات الشافعية "2/ 169"، وتهذيب الأسماء "2/ 193". 3 محمد بن علي بن إسماعيل القفال الكبير الشاشي: أبو بكر، القفال الشاشي، الكبير الشافعي، ولد سنة "291"، مات سنة "663" أو "365" أو "371": الأنساب "8/ 14، 10/ 470"، نسيم الرياض "4/ 546"، الوافي الوفيات "4/ 112"، التاج المكلل ص"110"، سير النبلاء "16/ 283"، معجم المؤلفين "10/ 308"، وفيات الأعيان "4/ 200"، الأعلمي "27/ 58". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 158 وتقدم أن ابن سحنون أول من ألف فيه من المالكية قبله، وعنه انتشر فقه الشافعي بما وراء النهر. سمع من عبد الله المدائني، وابن خزيمة، وابن جرير الطبري، وأبي القاسم البغوي، وروى عنه ابن منده والحليمي كان معتزليا أولا، ثم صار سنيا أشعريا. توفي سنة 336 ست وثلاثن وثلاثمائة والإمام الشاشي هو الذي أجاب عن القصيدة التي وردت من نقفور عظيم الروم بالقسطنطينية التي قول في أولها: من الملك الطهر المسيحي رسالة ... إلى قائم بالملك من آل هاشم إلى أن قال: ملكنا عليكم حين جار قويكم ... وعاملتكم بالمنكرات العظائم قضاتكم باعوا جهارا قضاءهم ... كبيع ابن يعقوب ببخس دراهم شيوخكم بالزور طرا تشاهدوا ... وبالبز والبرطيل في كل عالم فأجاب القفال بقصيدة فاخرة من أحسن ما يرد به، وقال مجيبا على القول المذكور: وقلتم ملكناكم بجور قضاتكم ... وبيع أحكامهم بالدراهم وفي ذاك إقرار بصحة ديننا ... وأنا ظلمنا فابتلينا بظالم فانظر القصيدة الأصلية وجوابها في "الطبقات" السبكية ففيها عبرة، وبها تعلم ما كان الإسلام مبتلى به في القرن المذكور من الرشا والظلم والزور، وبيع المناصب، فإن الشاشي ما أجاب بالمنع، بل بالتسليم والاعتراف الصريح، وبتأملها تعلم ما كان الروم متصفين به من الغلظة وما كانوا المسلمون موصوفين به من الإنسانية وصدق اللهجة في تلك القرون. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 159 458- أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد المروزي 1: إمام عصره في العراق بعد ابن سريج الذي هو شيخه أقام بالعراق دهرا طويلا على نشر المذهب الشافعي حتى أنجب من تلاميذه عدد كثير، وفي آخر عمره ارتحل لمصر. توفي سنة 340 أربعين وثلاثمائة. 459- أبو أحمد محمد بن سعيد بن محمد بن عبد الله 2: ابن أبي القاضي الإمام الكبير أخذ عن أبي إسحاق المروزي والصيرفي وبيته علم بخوارزم شهير، له كتاب "الحاوي" و"العمدة" القديمان في الفقه الشافعي وغيرهما، ولم يذكر في طبقة المحدثين. توفي سنة 340 أربعين وثلاثمائة. 460- أبو بكر محمد بن أحمد المعروف بابن الحداد 3: كان بحرا واسعا في الفقه واللغة والغوص في المعاني الدقيقة والاستنباط، له كتاب الباهر، وكتاب أدب الأقضية، ولد يوم مات المزني. توفي سنة 345 خمس وأربعين وثلاثمائة. 461- أبو علي الحسن بن الحسين بن أبي هريرة 4: القاضي الإمام الجليل كان أحد شيوخ الشافعيين ببغداد. توفي سنة 345 خمس وأربعين وثلاثمائة، له شرح مختصر المزني، ومسائل في الفروع، وتخرج به   1 أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد المروزي: وفيات الأعيان "1/ 26"، تاريخ بغداد "6/ 11". 2 أبو أحمد محمد بن سعيد بن محمد بن عبد الله بن أبي القاضي: طبقات الشافعية "2/ 159". 3 أبو بكر محمد بن أحمد المعروف بابن الحداد: أبو بكر، الحداد، مات سنة "344": المتظم "6/ 379"، سير أعلام النبلاء "10/ 110"، ووفيات الأعيان "4/ 197"، وطبقات الشافعية "2/ 112"، وشذرات الذهب "2/ 317". 4 أبو علي الحسن بن الحسين بن أبي هريرة: وفيات الأعيان "2/ 75"، طبقات الشافعية "2/ 206"، وتاريخ بغداد "7/ 298". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 160 خلق كثير. 462- أبو السائب عتبة بن عبيد الله بن موسى 1: أول من ولي قضاء القضاة ببغداد من الشافعية. توفي سنة 350 خمسين وثلاثمائة. 463- أبو حامد أحمد بن بشر العامري المروزي 2: أحد رفعاء المذهب الشافعي وعظمائه، وصدر من صدور الفقه من أصحاب أبي إسحاق، وله كتاب "الجامع" أحاط بالأصول والفروع، وهو عمدة من عمد المذهب. توفي سنة 362 اثنين وستين وثلاثمائة. 464- أبو سهل محمد بن سليمان العجلي 3: المعروف بالصعلوكي الأصبهاني، النيسابوري الدار، فقيه مفسر متكلم شاعر جامع للمكارم، درس في البصرة سنين، ثم بأصبهان كذلك. ولما مات عمه أبو الطيب، ورد نيسابور، فجلس للعزاء، فحضر الرؤساء والفقهاء، وعقد مجلس المناظرة كالعادة، فلم يبق موافق ولا مخالف إلا وأذعن لفضله، وفضله أبو الوليد على أبي بكر القفال. توفي سنة 369 تسع وستين وثلاثمائة. 465- أبو زيد محمد بن أحمد المروزي القاشاني 4 من الأئمة الجلة له وجوه غريبة في المذهب. قال الخطيب: هو أجل من روى   1 أبو السائب عتبة بن عبيد الله بن موسى: أبو السائب، الهمذاني: تاريخ بغداد "12/ 320"، دائرة الأعلمي "21/ 316". 2 أبو حامد أحمد بن بشر العامري المروزي: وفيات الأعيان "1/ 69"، طبقات الشافعية "2/ 82"، وشذرات الذهب "3/ 40". 3 أبو سهل محمد بن سليمان العجلي "الصعلوكي الأصبهاني": الحنفي، النيسابوري، الشهرة الصعلوكي: سير النبلاء "16/ 235" والحاشية، وفيات الأعيان "4/ 204"، حاشية التحبير "1/ 97"، دائرة معارفة الأعلمي "26/ 279". 4 أبو زيد محمد بن أحمد المروزي القاشاني: وفيات الأعيان "4/ 208"، تاريخ بغداد= الجزء: 2 ¦ الصفحة: 161 البخاري عن الفربري. توفي سنة 371 إحدى وسبعين وثلاثمائة. 466- أبو القاسم عبد العزيز بن عبد الله الدراكي 1: من كبار فقهاء الشافعية، وأبوه محدث أصبهان في وقته، نزل أبو القاسم نيسابور، ودرس فيها سنين، ثم بغداد إلى حين وفاته. أخذ عنه عامة شيوخ بغداد وغيرهم كان يدرس، وله حلقة فتوى ونظر، وله وجوه جيدة في المذهب دالة على متانة علمه على ما يتهم به من الاعتزال. قال أبو حامد الإسفراييني: ما رأيت أفقه منه وكان إذا جاءته مسألته، فكر طويلا، ثم يفتي بها، وربما أفتى بما يخالف الإمامين الشافعي وأبا حنيفة، فيقال له في ذلك، فيقول الأخذ بحديث رسول الله أولى من الأخذ بقولهما. توفي سنة 375 خمس وسبعين وثلاثمائة وكان ثقة أمينا. والدارك بفتح الراء وبعدها كاف قال السمعاني: أظنها قرية بأصبهان، قاله ابن خلكان. 467- أبو الحسن علي بن عمر البغدادي الدارقطني 2: الحافظ المشهور، والفقيه المحدث المنفرد بإمامة الحديث في وقته من غير منازع العارف باختلاف الفقهاء الحافظ لأشعار العرب، له كتاب "السنن"   1 أبو القاسم عبد العزيز بن عبد الله الداركي: أبو القاسم، الفقيه الداركي، الشافعي، مات سنة "375": المنتظم "7/ 129"، وفيات الأعيان "3/ 188"، العبر "2/ 370"، تاريخ بغداد "10/ 463"، دائرة الأعلمي "21/ 132"، الأنساب "5/ 277". 2 أبو الحسن علي بن عمر البغدادي الدارقطني: المقرئ، الشافعي، ولد سنة "306"، مات سنة "385": معجم المؤلفين "7/ 157، 158"، وفيات الأعيان "3/ 297"، المنتظم "7/ 181، 183"، الأنساب "5/ 273"، تذكرة "3/ 991"، البداية والنهاية "11/ 317"، تاريخ بغداد "12/ 34"، نسيم الرياض "3/ 354، 361"، النجوم الزاهرة "4/ 172"، سير النبلاء "16/ 449"، شذرات "3/ 116". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 162 و"المختلف والمؤتلف" وغيرهما، وخرج هو والحافظ عبد الغني بن سعيد مسندا ألفاه لابن خنزابة وزير كافر الإخشيدي، كان متفننا في علوم كثيرة، وإماما في علوم القرآن. توفي سنة 385 عن تسع وسبعين سنة. والدارقطني نسبة لدارقطن محلة بغداد. 468- أبو الحسن محمد بن علي الماسرجسي 1: أحد الأئمة بخراسان، وأعرفهم بالمذهب وترتبيه وفروعه، وكان يخلف ابن أبي هريرة في مجالسه ببغداد ودرس بنيسابور، وعنه أخذ فقهاؤها. توفي سنة 374 أربع وثمانين وثلاثمائة. 469- أبو الطيب سهل بن محمد بن سليمان الصعلوكي 2 النيسابوري مفتيها وابن مفتيها، أخذ الفقه عن والده المعروف بالإمام متفق عليه، عديم النظر في علمه وديانته، جمع رئاسة الدين والدنيا. توفي سنة 387 سبع وثمانين وثلاثمائة. 470- أبو القاسم عبد الواحد بن الحسين الصيمري 3 حافظ المذهب، صاحب "الإفصاح" و"الكفاية" وغيرها. توفي سنة 386 ست وثمانين وثلاثمائة. 471- أبو سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم بن خطاب الخطابي البستي 4 كان إماما في الفقه والحديث، له "معالم   1 أبو الحسن محمد بن علي الماسرجسي: وفيات الأعيان "4/ 202"، وشذرات الذهب "3/ 110"، وعبر الذهبي "3/ 26". 2 أبو الطيب سهل بن محمد بن سليمان الصعلوكي النيسابوري: العجلي الحنفي، مات سنة "387"، "404": العبر "3/ 88"، سير النبلاء "17/ 207" والحاشية، وفيات الأعيان "2/ 435"، دائرة الأعلمي "19/ 297". 3 أبو القاسم عبد الواحد بن الحسين الصيمري: سير أعلام النبلاء "11/ 4"، والجواهر المضية "1/ 333"، وطبقات الشافعية "2/ 243". 4 أبو سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم بن خطاب الخطابي البستي: أبو سليمان، الخطابي= الجزء: 2 ¦ الصفحة: 163 السنن" شرح أبي داود وغيره. توفي سنة 388 ثمان وثمانين وثلاثمائة. 472- أبو علي الحسين بن شعيب السنجي 1: عالم خراسان، وأول من جمع بين طريقتي العراق وخراسان شرح المختصر، وهو الذي يسميه إمام الحرمين المذهب الكبير. توفي سنة 403 ثلاث وأربعمائة، وقال ابن خلكان: سنة نيف ولاثين وأربعمائة. 473- القاضي يوسف بن أحمد بن كج الكجي 2: بفتح الكاف الدينوري أحد أئمة الشافعية الذين يرحل إليهم من الآفاق، وله وجه في مذهبهم. قال له أبو علي السنجي بعد ما قدم من عند أبي حامد الإسفراييني ورأى علم يوسف: إن الاسم لأبي حامد، والعلم لك، فقال له: ذاك رفعته بغداد، وحطتني الدينور. قتل بها عام 405 خمس وأربعمائة. والدينور بكسر الدال المهملة وسكون الياء المثناة وفتح النون والواو: بلدة من بلاد الجبل، وقال السمعاني: بفتح الدال، والأصح الكسر قاله ابن خلكان. 474- أبو بكر محمد بن الحسن بن فورك 3: بضم الفاء الإمام النظار، سيف السنة، وقامع المبتدعة، الأصولي المتكلم   1 أبو علي الحسين بن شعيب السنجي: البداية "2/ 57"، وتهذيب الأسماء "2/ 261"، ووفيات الأعيان "2/ 135". 2 القاضي يوسف بن أحمد بن كج الكجي الدينوري: أبو القاسم، الدينوري الكجي الشهيد قتل سنة "405": الأنساب "11/ 51"، وفيات الأعيان "7/ 65"، المشتبه ص"545". 3 أبو بكر محمد بن الحسن بن فورك: أبو بكر، الأنصاري الأصبهاني الواعظ، النحوي الأديب المتكلم الفوركي، مات سنة "406":= الجزء: 2 ¦ الصفحة: 164 الأصبهاني، أقام ببغداد، ثم بالري، فسعت به المبتدعة، فالتمس منه أهل نيسابور أن يأتيهم، وبنوا له مدرسة ودارا، وأحيى الله به هناك علوما، بلغت مصنفاته في أصول الدين والفقه، ومعاني القرآن قريبا من مائة. ومات مسموما سنة 406 ست وأربعمائة، دفن بالحيرة بكسر الحاء. 475- أبو حامد أحمد بن محمد الإسفراييني 1: شيخ طريقة العراق إمام المذهب، انتهت إليه رئاسة الدين والدنيا ببغداد. قال ابن السبكي: ما جاء بعد أبي العباس بن سريج من اشتهرت كتبه، وكثرت تلاميذه، واتسعت أقواله وبعد عن القرين في زمنه كأبي حامد. وقال فيه القدوري: هو أفقه وأنظر من الشافعي نفسه. توفي سنة 408 ثمان وأربعمائة. 476- عبد الله بن أحمد المعروف بالقفال الصغير 2: من كبار فقهاء خراسان طريقته أمتن طريقة وأكثرها تحقيقا في المذهب وهو بخراسان نظير أبي حامد الإسفراييني ببغداد. توفي سنة 417 سبع عشرة وأربعمائة وغيرهم كثير.   1 أبو حامد أحمد بن محمد الإسفراييني: سير أعلام النبلاء "11/ 43"، ووفيات الأعيان "3/ 46"، والبداية "12/ 2"، وشذرات الذهب "3/ 178"، وتاريخ بغداد "4/ 368". 2 عبد الله أحمد المعروف بالقفال الصغير: وفيات الأعيان "3/ 46"، وطبقات السبكي "3/ 196". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 165 أشهر أصحاب الإمام أحمد بن حنبل في القرن الثالث والرابع : 477- أبو يعقوب إسحاق بن منصور بن بهرام التميمي الكوسج المروزي 1: ثم النيسابوري الحافظ، صاحب مسائل الإمامين أحمد وإسحاق، رحال جوال واسع العلم، روى عن ابن عيينة خلق، وعنه أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجه. قال الحاكم: هو أحد الأئمة المتمسكين بالسنة. مات سنة 251 إحدى وخمسين ومائتين. 478- محمد بن عبد الله بن إسماعيل البغدادي 2: صاحب الإمام أحمد، روى عنه البخاري والترمذي، وابن أبي حاتم وقال: صدوق. توفي سنة 257 سبع وخمسين ومائتين. 479- أبو الفضل صالح ابن الإمام أحمد الحنبلي 3: قاضي أصبهان المتوفى سنة 266 ست وستين ومائين عن ثلاث وستين سنة، وهو   1 أبو يعقوب إسحاق بن منصور بن بهرام التميمي الكوسج المروزي: طبقات الحنابلة "1/ 113". 2 محمد بن عبد الله بن إسماعيل البغدادي: تهذيب التهذيب "9/ 247". 3 أبو الفضل صالح بن الإمام أحمد الحنبلي "قاضي أصبهان": أبو الفضل، الشيباني البغدادي، ولد سنة "203"، مات سنة "266" أو "265": سير النبلاء "12/ 529"، العبر "2/ 30"، الإكمال "7/ 32"، أصبهان "1/ 348"، التمهيد "1/ 29"، تاريخ بغداد "9/ 317"، حاشية الإكمال "2/ 564"، دائرة الأعلمي "20/ 156". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 166 ممن نقل فقه أبيه عنه. 480- أبو عبد الرحمن عبد الله ابن الإمام أحمد بن حنبل البغدادي الحافظ 1: روى عن أبيه المسند والتفسير، وروى عن يحيى بن معين وخلائق، ولم يكتب عن أحد إلا بأمر أبيه، وعنه النسائي حديثين. وثقه الخطيب. توفي سنة 290 تسعين ومائتين عن تسع وتسعين سنة. 481- أبو علي حنبل بن إسحاق 2: توفي سنة 293 ثلاث وتسعين ومائتين. 482- أبو بكر أحمد بن محمد بن هانئ الطائي أو الكلبي 3: الأثرم الخراساني البغدادي الإسكافي الفقيه الحافظ أحد الأعلام، وصاحب السنن في الفقه على مذهب أحمد. روى عنه وعن أبي نعيم والقعنبي وخلق، وعنه النسائي. قال ابن حبان في الثقات: كان من خيار عباد الله. مات بعد السبعين ومائتين.   1 أبو عبد الرحمن عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل البغدادي: أبو عبد الرحمن، ولد، سنة "213": الجرح والتعديل "5/ 7"، تاريخ بغداد "9/ 375، 376"، طبقات الحنابلة "1/ 180، 188"، المنتظر "6/ 39، 40"، تهذيب التهذيب "2/ 129"، تذكرة الحفاظ "2/ 665"، البداية والنهاية "11/ 96، 97". 2 أبو علي حنبل بن إسحاق: أبو علي، بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني، ولد سنة "193"، مات سنة "273": التبصرة والتذكرة "20/ 121" الموضوعات "1/ 214"، تاريخ بغداد "8/ 286"، البداية والنهاية "11/ 52"، تذكرة "2/ 600"، العبر "2/ 51"، طبقات الحنابلة "1/ 143"، سير النبلاء "13/ 51"، التقييد "1/ 314". 3 أبو بكر أحمد بن محمد بن هانئ الطائي أو الكلبي: تاريخ بغداد "5/ 110"، وتذكرة الحفاظ "2/ 135"، وشذرات الذهب "2/ 141". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 167 483- أبو بكر المروزي 1: ممن نقل الفقه عن الإمام أحمد. توفي سنة 275 خمس وسبعين ومائتين. 484- أبو إسحاق إبراهيم الحربي 2: إمام في الحديث، له مصنفات كثيرة، وممن نقل فقه أحمد، توفي سنة 285 خمس وثمانين ومائتين. 485- أبو الحسين علي بن عبد الله الخرقي 3: توفي سنة 299 تسع وتسعين ومائتين. 486- أبو بكر أحمد بن هارون الخلال 4: له مصنفات كثيرة في الفقه، كالجوامع، توفي سنة 311 إحدى عشرة وثلاثمائة. 478 - أبو الحسن علي بن محمد بن بشار الزاهد 5: كان يروي مسائل صالح. توفي سنة 313 ثلاث عشرة وثلاثمائة. 488- أبو بكر عبد الله بن أبي داود الأزدي السجستاني 6: إمام وابن إمام المحدثين من أكابر حفاظ بغداد، شارك أباه في   1 أبو بكر المروذي: طبقات الحنابلة "1/ 56"، تاريخ بغداد "4/ 423"، والمنهج الأحمد ص"172". 2 أبو إسحاق إبراهيم الحربي: تاريخ بغداد "6/ 27"، ومعجم الأدباء "1/ 112"، وتذكرة الحفاظ "2/ 147"، طبقات الحنابلة "1/ 50"، وطبقات الشافعية "2/ 26". 3 أبو الحسين علي بن عبد الله الخرقي: طبقات الحنابلة "2/ 45"، والمنهج الأحمد "2/ 3". 4 أبو بكر أحمد بن هارون الخلال: طبقات الحنابلة "2/ 12"، وشذرات الذهب "2/ 261"، والعبر "2/ 148". 5 أبو الحسن علي بن محمد بن بشار: أبو الحسن، مات سنة "313": طبقات الحنابلة أبو يعلى "320"، دائرة الأعلمي "22/ 303". 6 أبو بكر عبد الله بن أبي داود الأزدي السجستاني: ابن الأشعث، الإمام الحافظ شيخ بغداد: أخبار أصبهان "2/ 66، 67"، تاريخ بغداد "9/ 464"، طبقات الحنابلة "2/ 51، 55"، تاريخ ابن عساكر "9/ 185"، وفيات الأعيان "2/ 404، 405"، لسان الميزان "3/ 293"،= الجزء: 2 ¦ الصفحة: 168 أكثر شيوخه بمصر والشام، وسمع ببغداد وغيرها. قال الذهبي: ما هو بدون أبيه. صنف التصانيف، وانتهت إليه رئاسة الحنابلة ببغداد، وهو صاحب العقيدة المشهورة: تمسك بحبل الله واتبع الهدى ... ولا تك بدعا لعلك تفلح انظرها في عدد 264 من كتاب "العلو" له، وكتاب المصابيح وغيره. قال الإمام ابن سليمان الروداني في فهرسته: كان بعض من عاصره يتكلم فيه بما لم يثبت، ولا التفات لذلك، ولقول والده فيه: إنه كذاب، وقد ذكره السبكي في الشافعية تبعا للعبادي وهو حنبلي فيما أظن قاله الشمس ابن طولون، قال: وله كتاب مسند عائشة. وقد احتج به من صنف في الصحيح كأبي على النيسابوري الحافظ، وابن حمزة الأصفهاني، توفي سنة 316 ست عشرة وثلاثمائة. 489- أبو القاسم عمر بن الحسين الخرقي البغدادي 1: فقيه شديد الورع، له مصنفات كثيرة، وصاحب "المختصر" في مذهبهم، وله تخريجات في المذهب، خرج من بغداد لما ظهر سب السلف، وتوفي بدمشق سنة 334 أربع وثلاثين وثلاثمائة والخرقي بكسر الخفاء المعجمة نسبة إلى بيع الثياب، نص عليه في "الفوائد البيهية" في تراجم الحنفية عدد 92. 490- أبو بكر عبد العزيز بن جعفر بن يزداد 2:   1 أبو القاسم عمر بن الحسين الخرقي البغدادي: أبو القاسم، الخرقي البغدادي الحنبلي، مات سنة "334": معجم المؤلفين "7/ 282، 283"، وفيات الأعيان "3/ 441"، دائرة الأعلمي "23/ 27"، التمهيد "1/ 212، 6/ 406". 2 أبو بكر عبد العزيز بن جعفر بن يزداد: أبو بكر، الشهرة غلام الخلال الغلام، مات سنة "363": الأعلام "4/ 15"، معجم المؤلفين "5/ 244"، مختصر طبقات الحنابلة ص"334"، دائرة= الجزء: 2 ¦ الصفحة: 169 صاحب الخلال، له مصنفات في الفقه. توفي سنة 363 ثلاث وستين وثلاثمائة. 491- أبو الحسين أحمد بن جعفر بن المنادي 1: توفي سنة 336 ست وثلاثين وثلاثمائة. 492- أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد المعروف بابن شاقلا 2: مات سنة 369 تسع وستين وثلاثمائة. 493- أبو الحسين علي بن عبد العزيز بن الحارث التميمي 3: توفي سنة 391 إحدى وتسعين وثلاثمائة. 494- أبو عبد الله الحسن بن علي بن مروان حامد 4: توفي سنة 403 ثلاث وأربعمائة. ومن أصحابه أيضا: 495- القاضي أبو يعلى 5. 496- والقاضي أبو علي بن أبي موسى 6: شارح   1 أبو الحسين أحمد بن جعفر بن المنادي: طبقات الحنابلة "2/ 3". 2 أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد المعروف بابن شاقلا: طبقات الحنابلة "2/ 128"، شذرات الذهب "3/ 68". 3 أبو الحسين علي بن عبد العزيز بن الحارث التميمي: طبقات الحنابلة "2/ 139"، والمنهج الأحمد "2/ 66". 4 أبو عبد الله الحسن بن علي بن مروان حامد: طبقات الحنابلة "2/ 171"، والمنتظم "7/ 263"، وشذرات الذهب "3/ 166". 5 القاضي أبو يعلى: ترجمته في المذهب الأحمد "2/ 105"، والمنتظم "8/ 243"، العبر "3/ 243"، وشذرات الذهب "3/ 306". 6 أبو علي بن أبي موسى: ترجمته طبقات الحنابلة "2/ 182"، والمذهب الأحمد "2/ 95". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 170 "الإرشاد"، وهذان كانا يدعيان رتبة الاجتهاد المنتسب بحيث لم يقلدان في حكم ولا دليل، وإنما سلكا طريقه في الاجتهاد كما في "إعلام الموقعين". فهؤلاء العلماء الذين قدمنا تراجمهم من المذاهب الأربعة من أشهر من ألف تلك المذاهب ونشرها، واحتج لها كل لمذهبه في القرنين المذكورين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 171 صنعة التوثيق المسمى قديما عقد الشروط في هذا العصر ... صنعت التوثيق المسمى قديما عقد الشروط في هذا العصر: هو من فروع علم الفقه ودونك بعض أمثلة من وثائق هذا العصر، تتبين منها حاله. قال الإمام النسائي في سننه1: كتابة مزارعه على أن البذر والنفقة على صاحب الأرض، وللمزارع ربع ما يخرج الله عز وجل منها: هذا كتاب كتبه فلان بن فلان في صحة منه وجواز أمر، لفلان بن فلان إنك دفعت إلي جميع أرضك التي بموضع كذا في مدينة كذا مزارعة وهي الأرض التي تعرف بكذا، ويجمعها حدود أربعة يحيط بها كلها وأحد تلك الحدود بأسرة لزيق كذا والثاني والثالث والرابع دفعت إلى جميع أرضك هذه المحدودة في هذا الكتاب بحدودها المحيطة بها وجميع حقوقها وشربها وأنهارها وسواقيها أرضا بيضاء فارغة لا شيء فيها من غرس، ولا زرع سنة تامة أولها مستهل شهر كذا من سنة كذا، وآخرها انسلاخ شهر كذا من سنة كذا على أن أزرع جميع هذه الأرض المحددة في هذا الكتاب الموصوف موضعها فيه هذه السنة المؤقتة فيها من أولها إلى آخرها كلما أردت وبدا لي أن أزرع فيها من حنطة وشعير وسماسم وأرز وأقطان وأرطاب وباقلا وحمص، ولوبيا وعدس ومقاتي ومباطخ وجزر وسلجم وفجل وبصل وثوم وبقول ورياحين وغير ذلك من جميع الغلات شتاء وصيفا ببزورك وبذرك وجميعه عليك دوني على أن أتولى ذلك بيدي وبمن أردت من أعواني وأجرائي وبقري وأدواتي، وإلى زراعة ذلك وعمارته والعمل بما فيه نماؤه ومصلحته وكراب أرضه وتنقية حشيشه وسقي ما يحتاج إلى سقيه مما زرع،   1 "7/ 51، 52 و54، 55، 58، 59". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 172 وتسميد ما يحتاج إلى تسميده وحفر سواقيه وأنهاره، واجتناء ما يجتني منه والقيام بحصاد ما يحصده منه وجمعه، ودياسة ما يداس منه، وتذريته بنفقتك على ذلك كله دوني، واعمل فيه بيدي وأعواني دونك على أن لك جميع ما يخرج الله عز وجل من ذلك كله في هذه المدة الموصوفة في هذا الكتاب من أولها إلى آخرها فلك ثلاثة أرباعه بحظ أرضك وشربك وبذرك ونفقاتك، ولي الربع الباقي من جميع ذلك بزراعتي وعملي وقيامي على ذلك بيدي وأعواني، ودفعت إلى جميع أرضك هذه المحدودة في هذا الكتاب بجميع حقوقها ومرافقها، وقبضت ذلك كله منك يوم كذا من شهر كذا من سنة كذا، فصار جميع ذلك في يدي لك، لا ملك لي في شيء منه ولا دعوة، ولا طلبة إلا هذه المزارعة الموصوفة في هذا الكتاب في هذه السنة المسماة فيه، فإذا انقضت، فذلك كله مردود إليك، وإلى يدك ولك أن تخرجني بعد انقضائها منها، وتخرجها من يدي ويد كل من صارت له فيها يد بسببي أقر فلان وفلان وكتب هذا نسختين. ا. هـ. منه. وبسنده إلى سعيد بن المسيب إذا دفع رجلا إلى رجل مالا قراضا، فأراد أن يكتب عليه بذلك كتابا كتب: هذا كتاب كتبه فلان بن فلان طوعا منه في صحة وجواز أمره لفلان بن فلان: إنك دفعت إلي مستهل شهر كذا من سنة كذا عشرة آلاف درهم وضحا جيادا وزن سبعة قراضا على تقوى الله في السر والعلانية وأداء الأمانة على أن أشتري بها ما شئت من كل ما أرى أن أشتريه، وأن أصرفها أو ما شئت منها فيما أرى أن أصرفها فيه من صنوف التجارات، وأخرج بما شئت منها حيث شئت وأبيع بما أرى أن أبيعه مما اشتريه بنقد رأيت أم بنسيئة، وبعين أم بعض على أن أعمل في جميع ذلك كله برأيي، وأوكل في ذلك من رأيت، وكل ما رزق الله في ذلك من فضل وربح بعد رأس المال الذي دفعته المذكور إلي المسمى مبلغه في هذا الكتاب، فهو بيني وبينك نصفين، لك منه النصف بحظ رأس مالك، ولي فيه النصف تاما بعملي فيه، وما كان فيه من وضيعة، فعلى رأس المال، فقبضت منك هذه العشرة آلاف درهم الوضح الجياد مستهل شهر كذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 173 في سنة كذا، وصارت لك في يدي قراضا على الشروط المشترطة في هذا الكتاب أقر فلان وفلان وإذا أراد أن لا يطلق له أن يشتري ويبيع بنسيئة، كتب وقد نهيتني أن أشتري أو أبيع بنسيئة. ا. هـ. منه. فتأمل رعاك الله الوثيقة الثانية التي كانت من إملاء ابن المسيب الذي كان آخر القرن الأول والأولى من إملاء النسائي الذي كان آخر القرن الثالث لا تجد بينهما كبير فرق فالتوثيق مدة ثلاثة قرون لم يدخل عليه كبير تغيير. وفي النسائي أيضا بعد ما تقدم قبيل كتاب عشرة النساء ما نصه: تفرق الزوجين عن مزاوجتهما، قال الله تبارك وتعالى: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آَتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلاَّ أَنْ يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} 1 الآية هذا كتاب كتبته فلانة بنة فلان بن فلان في صحة منها، وجواز أمر لفلان بن فلان أني كنت زوجة لك، وكنت دخلت بي، فأفضيت إلي، ثم إني كرهت صحبتك، وأحببت مفارقتك من غير إضرار منك بي، ولا منعي لحق واجب لك علي، وإني سألتك عندما خفنا أن لا نقيم حدود الله أن تخلعني، فتبينني منك بتطليقة بجميع ما لي عليك من صداقي، وهو كذا وكذا دينارا جيادا مثاقيل، وبكذا وكذا دينارا جيادا مثاقيل أعطيتكها على ذلك سوى ما في صداقي، ففعلت الذي سألتك منه، فطلقتني تطليقة بائنة بجميع ما كان بقي لي عليك من صداقي المسمى مبلغه في هذا الكتاب، وبالدنانير المسماة فيه سوى ذلك، فقبلت ذلك منك مشافهة لك عند مخاطبتك إياي به، ومجاوبة على قولك من قبل تصادرنا عن منطقنا ذلك ودفعت إليك جميع هذه الدنانير المسمى مبلغها في هذا الكتاب الذي خالعتني عليها وافية سوى ما في صداقي، فصرت بائنة منك مالكة لأمري بهذا الخلع الموصوف أمره في هذا الكتاب، فلا سبيل لك علي ولا مطالبة ولا رجعة، وقد قبضت منك جميع ما يجب لمثلي ما دمت في عدة منك، وجميع ما احتاج إليه بتمام ما يجب للمطلقة التي تكون في مثل حالي على زوجها الذي يكون في مثل حالك، فلم يبق لواحد منا قبل صاحبه حق ومن دعوى ومن طلبة بوجه من   1 سورة البقرة، الآية: 229. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 174 الوجوه، فهو في جميع دعواه مبطل، وصاحبه من ذلك أجمع بريء، وقد قبل كل واحد منا ما أقر له به صاحبه، وكل ما أبرأه منه مما وصف في هذا الكتاب مشافهة عند مخاطبته إياه قبل تصادرنا عن منطقتنا وافتراقنا عن مجلسنا الذي جرى بينننا فيه. أقرت فلانة وفلان. ا. هـ. منه. وهي وثيقة قريبة الألفاظ والمعاني مما قبلها، وفيها دلالة أن النساء كن يكتبن بأيديهن، ويعقدن عقودهن بأنفسهن، وانظر فيه عقد الشركات والعتق وما يلحق به تجد ذلك متقاربا في ذلك العصر. ثم نبغت نوابع من علماء ذلك العصر وما بعده في فن الشروط نقحوا وثائقهم من التطويل والتكرير، وزادوها احتياطا وإحكاما بنسبة ما تجدد من الأحوال المناسبة لوقتهم ودرجتهم من الرقي والرفه. ومن أول من ألف فيها في المذهب المالكي الإمام ابن أبي زمنين الأندلسي، وممن كان خصيصا فيها بعصره وبلده ابن العطار وابن الهندي وغيرهم، وفي المذهب الحنفي هلال الرأي وأبو حازم عبد الحميد وغيرهما، وهكذا بقية المذاهب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 175 استنتاج من حالة الفقهاء في المدة السالفة : إذا أمعنت النظر في تراجم هؤلاء الرجال، علمت صدق ما قلناه من دخول الفقه مدة القرنين الثالث والرابع في طور الكهولة، ولا سيما في الرابع وذلك لأمور. أولها: شيوع التقليد بين العلماء حتى اضمحل الاجتهاد المطلق من الأمة شيئا فشيئا آخر القرن الثالث، ولم يبق في جل الرابع مجتهد مطلق كما تقدم في كلام النووي وإن ادعاه أحد، أنكر عليه، ونوزع فيه وتقدم بسط ذلك أول هذا القسم. الثاني: ظهور فساد الأخلاق، وراجع نظم عظيم القسطنطينية في ترجمة الققال الشاشي من الشافعية يتبين لك ما ظهر إذ ذاك من التكالب على الدنيا بالرشا والزور وضياع الحقوق، بل كانوا يضمنون القضاء بمعنى أنهم يولونه من يضمن أن يدفع قدرا من المال كل سنة أو كل شهر كما فعلوا في بقية الولايات، وأول من ضمن القضاء 497- عبد الله بن الحسن بن أبي الشوارب: سنة 350 أيام معز الدولة بن بويه سماه قاضي القضاة في بغداد على أن يؤدي مائتي ألف درهم كل سنة، ثم صار ذلك أمرا مألوفا، كما صاروا يضمنون الحسبة والشرطة، فمن هناك ابتدأ خراب الفقه، بل الإسلام، وفساد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 176 الدين الطمع، وصلاحه الورع، وهاك قضية وقعت في الأندلس أيام الخليفة الثامن لبني أمية عبد الرحمن الناصر في القرن الرابع، وذلك أنه احتاج إلى تعويض أرض قبالة منزله يجعلها منتزها كانت حبسا توضع فيها الأزبال. فراود الفقهاء في أن يعوضها بأحسن منها بكثير ثمنا وغلة، فامتنعوا كليا، فلما أيس منهم، بعث إليهم وقاضيه ابن بقي معهم الذي هو رئيسهم، وخرج إليهم بعض وزرائه موبخا لهم بقوله: يقول أمير المؤمنين: يا مشيخة السوء، يا مستحلي أموال الناس، يا أكلة أموال الأيتام ظلما، يا شهداء الزور، يا آخذي الرشا، وملقني الخصوم، وملحقي الشرور، وملبسي الأمور، وملتمسي الروايات لاتباع الشهوات تبا لكم ولآرئاكم، فهو -أعزه الله- واقف على فسوقكم قديما وخونكم الأمانة، مغض عنكم صابرا، ثم احتاج إلى دقة نظركم في حاجته مرة في دهره، فلم يسع نظركم للتحليل عليه ما كان هذا ظنه فيكم، ليقارضنكم من يومه، وليكشفن ستوركم، وليناصحن الإسلام فيكم، وكلاما في مثل هذا. فبدر منهم شيخ ضعيف المنة إلى الاعتراف، واللياذ بالعفو والاستقالة والتوبة، فالتفت إليه كبيرهم محمد بن إبراهيم بن حيونة وكان ذا منة، فقال: عم تتوب يا شيخ السوء نحن براء إلى الله من مقامك، ثم أقبل على الوزير المخاطب لهم، فقال: بئس المبلغ أنت، وكل ما ذكرته على أمير المؤمنين مما نسبته إلينا، فهو صفتكم معاشر خدمته أنتم الذين تأكلون أموال الناس بالباطل، وتستحلون ظلمهم بالإخافة، وتجيعون معايشهم بالرشا والمصانعة، وتبغون في الأرض بغير الحق، أما نحن، فليست هذه صفاتنا ولا كرامة لا يقوله لنا إلا متهم في دينه، فنحن أعلام الهدى، وسرج الظلمة بنا يتحصن الإسلام، ويفرق بين الحلال والحرام، وتنفذ الأحكام، وبنا تقام الفرائش، وتثبت الحقوق، وتحصن الدماء، وتستحل الفروج، فهلا إذ عتب أمير المؤمنين بشيء لا ذنب فيه لنا وقال بالغيظ ما قاله تأنيت بإبلاغنا، وسألته بأهون من إفحاشك، وعرضت لنا بإنكاره، ففهمنا عنك، وأجبناك عنه بما يجب، فكنت تزين على السلطان، ولا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 177 تفشي سره، وتستحيينا قليلا، فلا تقابلنا بما استقبلنا به، فنحن نعلم أن أمير المؤمنين أيده الله لا يتمادي على هذا الرأي فينا، وأنه سيراجع بصيرته في تعزيزنا، فلو كنا عنده على الحال التي وصفتها عنه -ونعوذ بالله من ذلك- لبطل عليه كل ما صنعه وعقده وحله من أوله خلافته إلى هذا الوقت، فما ثبت له كتاب حرب ولا سلم، ولا بيع ولا شراء، ولا صدقة ولا حبس، ولا هبة ولا عتق، ولا غير ذلك إلا بشهادتنا هذا ما عندنا والسلام. ثم قام وتبعه أصحابه منصرفين، فوجه من ردهم وأكرمهم، وجبر خواطرهم، واعتذر عما فعله الوزير، وأمر لهم بكسوة وصلة لكل واحد علامة رضاه عنهم، وانصرفوا. وكان أحد الفقهاء وهو محمد بن يحيى بن لبابة معزولا عن الشورى، فبعث للسلطان يقول: لو لم أكن معزولا لترخصت لمولانا وأفتيته بالجواز، وتقلدت ذلك، وناظرتهم بالحجة، فقد حجروا واسعا، فرده الناصر للشورى، ثم رفع إليهم مسألة ثانيا، فأصر الجميع على المنع، وتصدى ابن لبابة فقال: إن قول مالك هو الذي قاله الفقهاء، وأما العراقيون فلا يجيزون الحبس أصلا وهم علماء أعلام يهتدي بهم أكثر الأمة، وحيث دعت الحاجة أمير المؤمنين، فما ينبغي أن يرد عليه، وله في المسألة فسحة وأنا أقول بقول العراقيين، وأتقلد ذلك. فقال الفقهاء: سبحان الله تترك قول مالك الذي أفتى به أسلافنا، ومضوا عليه، واعتقدناه وأفتينا به لا نحيد بوجه عنه وهو رأي أمير المؤمنين ورأي الأئمة آبائه، فقال ابن لبابة: ناشدتكم الله ألم تنزل بأحدكم ملمة بلغت بكم إلى الأخذ بقول غير مالك ترخصا لأنفسكم؟ قالوا: بلى، قال: فأمير المؤمنين أولى، فسكتوا فقال للقاضي: أنه إلى أمير المؤمنين فتياي، فجاء جوابه بتنفيذ فتوى ابن لبابة، وعوض بأملاك عظيمة القدر تزيد أضعافا، وتولى ابن لبابة خطة الوثائق، وعقد المعاوضة، وأمضى القاضي فتواه، وحكم بها، فلم يزل متقلدا خطتي الشورى والوثائق إلى أن مات رحمه الله سنة 336 ست وثلاثين وثلاثمائة ومنزلته كما هي لطيفة من السلطان. صح باختصار من "المدارك" لعياض. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 178 وبهذه القضية وأمثالها يتبين أمامك ما آل إليه أمر الفقهاء، وتستنتج منها أحوال الأمراء إلا أن فقهاء الأندلس لم يقروا بخلاف فقهاء المشرق، فقد أقر الشاشي كل ما نسبه عظيم القسطنطينية لهم، وذلك لأن بني العباس كانوا في دور الانحطاط ببغداد بخلاف الأمويين بقرطبة، وما وقع من الناصر دليل أحوال ذلك الوقت، وإن السياسة غلبت الفقه، فصار تابعها لها على أنه أفضل من كل أمير بعده إلى زمن يوسف بن تاشفين اللمتوني. وظهر في هذين القرنين أيضا كثرة الجدل بين علماء المذاهب لا بقصد إظهار الحق، ثم اتباعه، بل للاستطالة والحظوة أمام الحكام، فقد كانت المجالس تعقد لذلك في المساجد وأمام الوزراء والحكام بقصد التفاخر والتغالب والفلج. وقد بسط حالهم الإمام الغزالي في "الإحياء" وبين آفات الجدل والمناظرة، وما المقصود منها في صدر الإسلام كزمن مالك والشافعي ومحمد بن الحسن وأمثالهم من إظهار الحق، ثم اتباعه؛ إذ لم يكونوا مقيدين بمذهب ملزمين به، بل لهم الحرية التامة في أفكارهم يميلون إلى الحق حيثما ظهر. وقد صار الحال في التاريخ السابق إلى غير ذلك، وهو الانتصار للمذهب بأي طريقة كانت مع التقيد به، فكان العالم في بلاد المشرق من الشافعية، أو الحنفية غالبا إذا مات له قريبه، جلس بمسجد قريب من منزله، فيأتيه الناس للعزاء سبعة أيام يجتمعون عليه إما لتلاوة أو لمناظرة في المسائل، والانتصار لمذهب من المذاهب، فربما نشأ عن ذلك مشاجرات، بل لما كانوا يتناظرون في العقائد، كانت تقع مقاتلات، وتنشأ الحروب، فنبذوا ذلك، واقتصروا على المناظرة في المسائل الفرعية، لكن على الوجه المذكور. ومن هنا نشأ علم المناظرة، وصار علما خاصا ويسمى بآداب البحث، وألفت فيه تآليف، وممن ألف فيه محمد بن سحنون في القرن الثالث، والقفال الكبير الشافعي في الرابع، كما سبق وغيرهما، وكان الملوك والوزراء يعقدون المجالس للمناظرة بحضرتهم ليعلموا حال علماء وقتهم ومن يستحق التقديم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 179 منهم، ثم صار المقصود الافتخار بذلك ليقال: إن مجلس السلطان أو الوزير مجلس علم ومناظرة، ولله در خفاجة إذ يقول عن أهل وقته: درسوا العلم ليملكوا بجدالهم ... فيها صدور مراتب ومجالس وتزهدوا حتى أصابوا فرصة ... في أخذ مال مساجد وكنائس وقال الإمام الأوزاعي: إذا أراد الله بقوم سوءا أعطاهم الجدل، ومنعهم العمل. ومن تتبع تاريخ مجالس المناظرات العلمية التي ينال صاحب الظهور فيها رياسة أو جائزة أو ظهورا، لا يجدها قط جاءت بفائدة إظهار الحق، ومحو الخلاف، بل تكون بالعكس، فبسببها يزداد الخلاف تصلبا وثبوتا؛ إذ الفصاحة والبلاغة لا تعد مناسجها إيجاد أثواب تغطي وجه الحق إذا دعمت بعيدان النفوذ، وطليت بطلاء السياسة. ومتنت بأطناب الرياسة والأغراض، ولينظر العاقل للمجالس المحدث عنها ماذا كانت نتيجتها، وإلى المجالس التي كان المأمون العباسي يعقدها في إثبات خلق القرآن وغيرها وغيرها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 180 علم الخلافيات : وعن الجدل نشأ علم الخلافيات، وممن ألف فيه ابن جرير الطبري حتى كان سبب محنته مع الحنابلة وغيره وغيره، راجع ترجمته. وقد بين الإمام الغزالي آفات الاشتغال بعلم الخلاف وما يدخل به من الرزايا كالحسد والحقد والكبر والغيبة والتجسس بتتبع العورات والفرح لمساءة الناس والنفاق والرياء والاستنكاف عن الحق، لكونه ظهر على لسان الخصم والمخاتلة فيه مع تيقنه به إلى غير ذلك، وبين شروط جواز الاشتغال به وهي: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 180 أن لا يترك ما هو أهم منه من فروض العين أو فروض الكفاية؛ إذ الفروض الكفائية تتفاوت بحسب حاجة الأمة إليها. وأن يكون مجتهدا مطلقا حرا في فكره بحيث إذا ظهر له الحق، اتبعه أما إذا كان مقيدا بمذهب من المذاهب لا يخرج عنه، فلا فائدة فيه، وصار كالعبث، بل وبالا؛ لأنه يطلع على الحق، ولا يقدر أن يتبعه، ولكن هذا الشرط ليس بمسلم، فقد يعمل في خاصة نفسه إذا كان لا يقدر ألا يفتي للناس به. وتقدم أن أحمد بن ميسر كان يقول في فتواه: إن الذي أذهب إليه كذا، وإن مذهب أهل بلدنا كذا؛ لأنهم مقيدون في الفتوى والحكم بمذهب معين لضياع الثقة، وظهور الرشا، فلم يكونوا يجعلون للحاكم أو المفتي حرية الاجتهاد؛ إذ ربما يجعلها في قضاء غرضه. الشرط الثالث: أن يناظر في مسألة واقعة أو قريبة الوقوع لا نادرة، ولا يشتغل بما لا يقع ويترك ما يقع. الرابع: أن تكون المناظرة في الخلوة أحب إليه، ولكنهم بالعكس، فإنهم في الخلوة لا يتناظرون وإنما تكون مناظرتهم أمام الملوك، وفي المجامع لتحصيل الشهرة ومعلوم ما في ذلك. الخامس: أن يكون قصده طلب حق ولو على لسان خصمه، فيتبعه ويجازيه ولا يماريه، ولا يخاتله، وأن لا يمنعه من الانتقال من دليل إلى دليل أوضح منه أو قوي، بل يعينه. السادس: أن يناظر من يتوقع منه الاستفادة. وقد ذكر الغزالي أن جل تلك الشروط كانت مفقودة في زمنه وعند الناس الذين أدركهم وفيما يقرب منه، فكيف بزماننا. وهذا أمر يقع كثيرا في العراق وفيما وراء النهر بين الحنفية والشافعية. الأمر الثالث: أنه في القرن الرابع بدأت فكرة الاختصار والإكثار من جمع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 181 الفروع بدون أدلة، وشرح تلك المختصرات، فبعد ما كانوا في القرن الثالث مصنفين مبتكرين كأسد بن الفرات وسحنون، وابنه، والبويطي، ومحمد بن الحسن، وأمثالهم، صار الحال في القرن الرابع إلى الشرح، ثم الاختصار والجمع، فانظر الفضل بن سلمة وابن أبي زمنين، وابن أبي زيد والبراذعي اختصروا "المدونة" في عصر متقارب، وهكذا نظراؤهم في عصرهم من المذاهب الأخرى كالمزني حيث اختصر مذهب الشافعي والاختصار لا يسلم صاحبه من آفة الإفساد والتحريف، فقد اعترض عبد الحق الإشبيلي مواضع من مختصر ابن أبي زيد القيرواني والبراذعي أفسدها الاختصار، وهكذا المزني اعترض عليه ابن سريج كما سبق في ترجمته. ولا يخفى أن الاشتغال بإصلاح ما فسد هو غير الاشتغال بالعلم نفسه، فالرزية كل الرزية في الاشتغال بالمختصرات، فالاختصار والتوسع في جمع الفروع من غير التفات للأدلة هو الذي أوجب الكهولة بل القرب من الشيخوخة التي دخل فيها الفقه في القرون الآتية، فالفقه بقي مدة القرنين متماسكا كهلا قويا، ولله عاقبة الأمور. وفي القرن الثاني والثالث ابتلي الفقه والفقهاء بداهية دهياء وهي التنافس المذهبي الناشء عن الخلافيات والجدل، وانتصار كل أهل مذهب لمذهبهم، كأنه دين مخالف لدين أهل المذهب الآخر. يدلك على ذلك وقائع من التاريخ في المشرق والمغرب، وغالب ذلك له محرك، وهو التنافس على نوال الرياسة والقضاء. ففي "معالم الإيمان" جزء في عدد 116 أن محمد بن عبدون لما ولي القضاء بعد موت سحنون بالقيروان، ضرب طائفة من أهل العلم والصلاح أصحاب سحنون، وطيف بهم على الجمال بغضا منه في مذهب مالك وأصحابه، منهم أبو إسحاق بن المضا، وأبو زيد بن المديني، فماتا على الجمال، وأحمد بن معتب وابن مفرج، وكان ابن عبدون حنفيا حتى قال الأمير إبراهيم: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 182 لو ساعدته فيمن يشكوه لجعلت له مقبرة. ثم في آخر القرن الرابع دهى الفقه المالكي في المغرب والقيروان داهية دهماء أدهى وأمر من كل ما مر وهي ظهور الشيعة الذين قتلوا أعيان علماء الملة الذين كانوا حاملين لواء العلم والدين، وحملوهم على الرجوع عن مذهب مالك وعن السنة، والتمسك بالرفض، فأبوا فقتلوهم شر تقتيل. وانظر في "مدارك" عياض ترجمة أبي بكر بن هذيل وأبي إسحاق بن البرذون ومن عاصرهما كيف قتلا وسحبا في أذناب الدواب لعدم إفتائهما بمذهب جعفر بن محمد الذي سموه مذهب أهل البيت كسقوط طلاق البتة وإحاطة البنات بالميراث من أجل أن تكون سيدتنا فاطمة أحاطت بإرث أبيها مولانا رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وأي فائدة في هذا بعد ذهاب أربعة قرون حتى يضرب العلماء ويقتلوا لأجله. وكم فعلوا من أفاعيل في القيروان، ثم بمصر لما غلبوا عليها، قتلوا العلماء، ومنعوا من أبقوه من التحليق في المساجد، ونشر العلم والفتيا إلا بمذهبهم. وقد قتلوا في وقعة أبي زيد مخلد بن كيداد خمسة وثمانين من نخبة علماء القيروان حول المهدية رحمهم الله، وجعلوا دعاة لمذهبهم فرقوهم في الآفاق، كل ذلك توصل للسياسة والرئاسة، فكان من يأخذ عن العلماء إنما يأخذ سرا وعلى حال رقبة وخوف. ومع هذا الضغط لم يقضوا على المذهب المالكي، بل بقي سرا ينتشر؛ لأن إرادة الشعب كانت خلاف إرادة الدولة، ولما تمكنت الأمة من المناهضة، محت دولة الرفض مرة واحدة، وظهر المذهب المالكي أتم ظهور، لكن بعد مرور نصف قرن وهو في التأخر والنقصان، وفي طي الخفاء، وهكذا كل شيء تلقته الأمة عن كره لا يكون له دوام ولا قرار، فالانتصار والانتشار إنما هو في حرية الأفكار. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 183 انتهاء تاريخ الفقه القديم: إن آخر القرن الرابع يعد آخر العلماء المتقدمين، وأول المتأخرين، فهو الفاضل بين التاريخ القديم للفقه والتاريخ الجديد بدليل ما ذكروه في ترجمة ابن زيد القابسي أنهما أول المتأخرين، وآخر المتقدمين. انتهى القسم الثالث من الكتاب، ويليه القسم الرابع أوله الطور الرابع للفقه طور الشيخوخة والهرم والحمد لله أولا وآخرا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 184 القسم الرابع: في الطور الرابع للفقه وهو طور الشيخوخة والهرم المقرب من العدم مدخل ... القسم الرابع: في الطور الرابع للفقه وهو طور الشيخوخة والهرم المقرب من العدم هذا الطور مبدؤه من أول القرن الخامس إلى وقتنا هذا الذي هو القرن الرابع عشر، وذلك أنه وصل إلى منتهى قوته في القرون الأربعة السابقة، وتم نضجه، فزاد بعد حتى احترق، وذهبت عينه، ولم يبق إلا مرقه في القرن الخامس وما بعده إلى أن صار الآن أثرا بعد عين، وذلك لأسباب منها: قصور الهمم عن الاجتهاد إلى الاقتصار على الترجيح في الأقوال المذهبية، والاختيار منها، ولله در سعيد بن الحداد الفقيه القيرواني إذ يقول: إن الذي أدخل كثيرا من الناس في التقليد نقص العقول، ودناءة الهمم، وكانت وفاة هذا السيد الجليل سنة "330" ثلاثين وثلاثمائة كما في "المدارك" ثم قصروا عن ذلك في هذه الأزمان، واقتصروا على النقل عمن تقدم فقط، وانصرفت همتهم لشرح كتب المتقدمين وتفهمها، ثم اختصارها، وفكرة الاختصار ثم التباري فيه مع جمع الفروع الكثيرة في اللفظ القليل هو الذي أوجب الهرم، وأفسد الفقه، بل العلوم كلها كما يأتي إيضاحه؛ إذ صاروا قراء كتب لا محصلي علوم، ثم في الأخير قصروا عن الشرح، واقتصروا على التحشية والقشور، ومن اشتغل بالحواشي ما حوى شيء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 189 مجمل التاريخ السياسي لهذه القرون : في أول القرن الخامس كانت الدولة الإسلامية في حال افتراق كما أسلفناه من قبل، فبنو العباس وخليفتهم القادر بالله بن المقتدر ببغداد، لكن تحت سيطرة الديلم من بني بويه وسلطانهم بهاء الدولة، وكانت دولة بني بويه في حالة هرم، وبجانبها دولة السلجوقيين الأتراك الذين تغلبوا فيما بعد على بغداد سنة 447، وعلى كثير من بلاد الإسلام والروم ما بين البحر المتوسط إلى بلاد الهند، وكان في مصر الحاكم بأمر الله الفاطمي ذو المخرقة التي نقل التاريخ منها كثيرا عنه، حتى إنه ادعى الألوهية، وكانت أحواله متناقضة وهو الذي أسس المكتبة الشهيرة بمصر، دعاها دار العلم، واستجلب لها الكتب الثمينة من خزائن قصور المعمور عوض مدرسة بغداد، وبنى مدارس كثيرة، ثم خربها. وكان في الأندلس آخر الدولة الأموية سليمان المستعين، ثم المهدي محمد بن هشام ثم هشام المؤيد ثلاثة من الخلفاء تولوا في سنة واحدة، والدولة الأموية في النزع في آخر رمق بعد تغلب الدولة العامرية عليها كما فعل الديلم في بغداد. وأعقب ذلك فتنة البربر في الأندلس التي أهلكت الحرث والنسل، وأخنت على ما كان تأسس هناك من معاهد علمية، وتقدم عظيم، وأعقبها ملوك الطوائف، وافتراق الأمة حتى صارت كل مدينة لها متغلب سمى نفسه ملكا أو خليفة، وكان ذلك الداء قد تأصل في الممالك الإسلامية في ذلك القرن الخامس، سواء في الأندلس أو الممالك الإفريقية والشرق بما يطول سرده، وبسبب ذلك سقطت جزيرة صقلية بيد النرمان، وذهب ما كان بها من التمدن العربي والحضارة الإفريقية والأندلسية سنة 464 أربع وستين وأربعمائة، وتفرق علماؤها في الأقطار، ومنها طمع النرمان في السواحل الإفريقية، واحتلوها بعد خراب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 190 القيروان، واختلال دولة صنهاجة بها إلى أن استنقذها الموحدون، وهذه الفتن كلها موجبة لانقطاع الصلة بين علماء القطار والرحلة التي تعين على تبادل الأفكار، واحتكاك الأنظار. ثم أحيا الله الدولة الإسلامية في المغرب الأقصى والأندلس بالخليفة الأعظم يوسف بن تاشفين اللمتوني الذي جمع شمل تلك الممالك، وأقام العدل، ونصر الدين، وأظهر الفقه، وكان مالكي المذهب، فصارت للفقهاء في وقته ووقت ولده "علي" من نصف القرن الخامس إلى الربع الأول من السادس الكلمة النافذة، وعاد للمذهب المالكي هناك شبابه إلا أنه سقط في القيروان، والقطر التونسي، ثم الجزائري سقوطا كليا باستيلاء المتبربرين من الأعراب الجفاة الذين صبهم الفاطميون من مصر على أفريقية كالصاغة سوط عذاب، فخربوا القيروان سنة "449" وجلا علماؤها إلى الأقطار، ومات منهم كثير. قال في "معالم الإيمان": وفي آخر القرن الخامس إلى انقضائه لم يبق بالقيروان من له اعتناء بتاريخ لاستيلاء مفسدي الأعراب على إفريقية وتخريبها، وإجلاء أهلها عنها إلى سائر بلاد المسلمين، وذهاب الشرائع بعدم من ينصرها من الملوك إلى أن مَنَّ الله بظهور دولة الموحدين، فوضحت بها معالم الدين، وسبل الحق، ورسوم الشرع، فظهر بظهورها بأفريقية العلماء والصلحاء، وذلك في سنة الأخماس سنة 555 خمس وخمسين وخمسمائة. ا. هـ. وظهور الموحدين كان قبل ذلك بالمغرب، لكن الظهور الحربي، أما الظهور العلمي، ورجوع الحركة العلمية لمعتادها بأفريقية كان في التاريخ المتقدم حين استتب الأمر لعبد المؤمن بن علي، ثم ولده يوسف، ثم حفيده يعقوب المنصور وهو الذي حرق كتب المالكية، وترك الفروع، وألزم العلماء بالاجتهاد، فظهر في وقته حفاظ وعلماء ومجتهدون يلحقون الفرع بأصله، أو هم ظاهرية كما يأتي مثل أبي الخطاب بن دحية، وأخيه أبي عمرو، ومحيي الدين بن عربي الحاتمي نزيل دمشق وغيرهم. وبموت المنصور انطفأت تلك الجذوة، ثم بالإدالة بالدوة المرينية رجع الناس إلى فروع المالكية، ونسوا الأصول؛ إذ كان تخليهم عن الفروع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 191 إلزاميا لا اختياريا، وكانت الهمم قد أصابها ما أصابها من القهقرى إلى وراء، والاقتناع بالتقليد وسرد الفروع فقط. وبقي الحال في المغرب تأخرا إلى تأخر إلى وقتنا هذا الذي صار الفقه إلى ما هو عليه الآن، بل صار إلى فقهين، وإن شئت فقل ثلاثة: فقه المالكية الأصلي المذكور في "الموطأ" و"المدونة" وغيرهما، وفقه العمليات وهو ما حكم به القضاة مقلدين لقول ضعيف مخالفين للراجح والمشهور لأمر اقتضاه، ثم ازداد الآن فقه آخر وهو: ما يتأسس بالأوامر المولوية، والظهائر السلطانية بالعدلية وغيرها كما تأسس بالمجلة التونسية وقد صار هذا أيضا فقها يدرس في مدارس الحكومة، ولا يسمى فقها في عرف الشرع لعدم وجود شروطه التي سبقت لنا في تعريفه صدر الكتاب. أما في الشرق، فقد دهمه في القرن الخامس ما دهم الغرب من الافتراق كما سبق، وكل جهة لها خليفة أو سلطان، وتسلط الصليبيون على الشام وبيت المقدس، وكانت هناك الحروب الهائلة التي سببها الحاكم بأمر الله الفاطمي لما خرب كنائس النصارى واليهود، ونقض ما كان معهم من العهود مع فساد اعتقاده، وفكره، وضعفت دولة الفاطميين بمصر، وذلك في القرن السادس لما كان الموحدون في المغرب ظاهرين منصورين والإسلام متقدم كما سبق. وهذا من عجائب تاريخ الإسلام قلما تجده ينحط ويتقهقر في جهة إلا ويتقدم في أخرى، ففي وسط الخامس سقط في تونس، ونهض في المغرب الأقصى والأندلس، وفي وسط السادس نهض في جميعها، وسقط بمصر والشام إلى أن قيض الله صلاح الدين الأيوبي الذي أنقذ جل الشام من أيدي الصليبيين مع بيت المقدس، وطهر مصر من بقية الفاطميين الذين كانوا رافضة يسبون السلف، وتعصبوا بمذهب الباطنية الذي كان قد ظهر في تلكم النواحي، ثم ضعف أمرهم حتى لم يبق لهم إلا الخطبة التي كان قطعها من مصر على يد صلاح الدين سنة 567 سبع وستين وخمسمائة وصيرها باسم المستضيء العباسي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 192 أما العراق ودار الخلافة وهي بغداد، فبعد تسلط الديلم، وانقسام تلك الممالك إلى دول صغيرة في القرن الرابع كما تقدم قد نزلت بها الداهية الدهياء التي لم ينزل بالإسلام مثلها منذ نشأ إلى الآن وهو تسلط التتر على دار الخلافة، وقتل الخليفة المستعصم العباسي سنة 656 ست وخمسين واستولى أميرهم هولاكو على بغداد وما وراءها إلى الهند وما أمامها إلى دمشق الشام، وقتل الملايين من المسلمين، وفعل أفاعيل المتوحشين مما لا يقدر أي قلم على وصفه ولا أي ذهن على تحمل تصوره إلا أن تغلبه العبرة، وصارت الممالك العظيمة عبرة بعد ما كانت ملأى بالمدارس والمكاتب والمراصد والمستشفيات والمصانع، وذهب بذلك علم الإسلام وعلماؤه بالقتل، وكتبه وذخائره ورجاله بالحرق والغرق، وتمدنه وحضارته، وكان هولاكو وقومه مشركين، ولذلك يعتبر دخولهم بغداد فاصلا بين تاريخ الإسلام القديم والجديد، ولكنه لم تأت سنة 700 سبعمائة حتى أسلم ملك التتار قازخان بن طرخان بن هولاكو وأسلم معه مائة ألف مقاتل من التتر، لكن بعد ما خربوا مدن الإسلام من سمرقند وخراسان وخوارزم إلى دمشق الشام، وأذهبوا زهرة مدينة العرب والأتراك والفرس وغيرهم من الأجناس الإسلامية، فإذا أضفت ذلك إلى سقوط صقلية ومدنها بيد النولارمان، وخراب القيروان بيد البدو وكل منهما في أواسط القرن الخامس كما سبق، ودخول البربر لقرطبة في آخر القرن الرابع، وفيه ابتداء سقوطها الذي انتهى سنة 623 ثلاث وعشرين وستمائة بدخول إسبانيا لها، ثم بعدها إشبيلية، تعلم مقدار ما رزئ به الإسلام والفقه في هذه القرون الخامس والسادس والسابع، ثم في آخر القرن الثامن ظهر تيمورلنك من بقايا التتر المسلمين، ففتح جل آسيا كبلاد الهند وخراسان وإيران والعراق والشام وآسيا الصغرى وشرع في فتوح الصين، وملك نصف الدنيا، لكن خرب من معالم الإسلام ما بقي وفعل بدمشق الشام ما فعله سلفه ببغداد. أما في المغرب، فضعفت الدولة الإسلامية الموحدية، وكثرت الفتن ما بين سقوطها وبين نهوض الحفصية بتونس والزناتية بتلمسان، والمرينية بالمغرب في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 193 المائة السابعة. هذه الدول الثلاث كانت تتنازع البقاء بينها وكل منها يريد الاستحواذ على غيره، ثم سقوطها أيضا بعد ذلك، وذهاب دولة بني الأحمر التي كانت بقيت بسيف البحر في الأندلس، واستيلاء العدو على غرناطة وجميع الأندلس، وخروج الإسلام من جنوب أوربا الغربي، وذلك في القرن العاشر الهجري، ولم تأت سنة 1011 إحدى عشرة وألف حتى لم يبق في الأندلس إلا من تنصر جبرا، وأتلفت المدارس والمكاتب والمعاهد وكل آثار التمدن العربي حتى الكتب، فقد حرق الكردنيال كسمينس ثمانين ألف مخطوط عربي في ساحات غرناطة، وأصدر أمره بإبادة الكتب العربية في إسبانيا قاطبة، فبقي إتلافها مسترسلا مدة نصف قرن. بهذه الحوادث الهائلة ذهبت علوم أهل إفريقيا والأندلس، لكن كانت دولة الأتراك قد ظهرت في أول القرن السابع بآسيا الصغرى، وصارت تعظم شيئا فشيئا إلى أن استولت على معظم آسيا تقريبا وممالك من شرق أوروبا وإفريقية إلى أن بلغت إلى حدود المغرب الأقصى بل كان المغرب تحت سيطرتها أيام السعديين في القرن العاشر. واستجدت للإسلام عظمته التي فقدها منذ قرون، بل فتحوا القسطنطينية العظمى التي عجزت عنها دول الإسلام قبله من يد الروم الشرقية سنة 857 سبع وخمسين وثمانمائة، وفتحوا شرق أوربا كبلاد اليونان والبلغار والجبل الأسود والبوسنة والهرسك وكثير من بلاد الروس، وبلاد المجر، وهنكاريا، وكان لهم قدم عظيم في الفتح واتساع الممالك أنسى من قبلهم، وبنوا على أنقاض ممالك الإسلام الساقطة من التتر وغيره مملكة عظمى، ففتحوا الحجاز بما فيه مكة والمدينة، وصاروا حماة الحرمين الشريفين، وفتحوا العراق والشام واليمن ومصر، وتنازل لهم الخليفة العباسي الذي كان بها عن لقب الخلافة، فصار ملوكهم خلفاء الإسلام منذ سنة 923 ثلاث وعشرين وتسعمائة. ومن العجب أنه في السنة قبلها تم استيلاء الإسبان على الأندلس نهائيا ثم إن الأتراك فتحوا تونس والجزائر، وأحاطوا بالبحر الأبيض إحاطة الهلال بالنجم، فكان لهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 194 من اتساع الملك ما لم يكن لغيرهم قبلهم ولا بعدهم يبلغ ثلاثة أرباع العالم، وكان لهم الأسطول الضخم، والنظام الأتم، فكان الإسلام بينما هو يسقط في غرب أوربا إذا به يتقدم في شرقها، لكن لم يؤثر ذلك على الفقه بالتقدم، بل بالتأخر؛ لأن العواصم التي كانت مهد الفقه كبغداد وخراسان وسمرقند ودمشق ومصر والبصرة والكوفة والقيروان وتونس ومراكش وفاس وقرطبة وإشبيلية، ثم غرناطة، منها ما استولى عليه العدو أو الخراب، ومنها ما صارت ثانوية غير عواصم بل تابعة لدار الخلافة التي صارت هي القسطنطينية وأنت تعلم أن لسان الدولة المسيطرة هو التركية فلم يكن للعربية تقدم، بل تأخر، والفقه الإسلامي تابع للعربية في تقدمها وتأخرها؛ لأن مادته القرآن والسنة وهما عربيان، والعلماء الذين تصدروا للقضاء والإفتاء لسانهم أعجمي لا قبل لهم بفهم بلاغة القرآن والسنة، فلذلك لم يشتغلوا بالاجتهاد والاستنباط، بل بالتقليد والاقتصار على الشرح والتحشية، والاختصار لمؤلفات وجدوها سهلة، وجل ما ألفوه كانت اللكنة والصعوبة مستولية عليه كما يعلم ذلك بمطالعة كتب علماء هذه العصور. وقد جعلوا مركز مشيخة الإسلام في القسطنطينية وتمذهبوا بمذهب أبي حنيفة مقلدين، وكان القضاة والمفتون يتمذهبون به، فنال انتشارا عظيما أكثر مما كان زمن بني العباس؛ إذ لم يكونوا ملتزمين له كل الالتزام كما يعلم بمراجعة تراجم من تقدم في الطور الثالث قبله وفيما يأتي، وبقي الحال والإسلام على ذلك إلى أن رجع الترك القهقرى، وتسلط الروس والنمسا وغيرهما على بلاد الترك بالغزو والغارة، وانتزاع الممالك منهم، وفصل العناصر الأجنبية عنهم وغير الأجنبية، ثم أمم أوربا التي نهضت لمناهضتهم وهي أمم الاستعمار والفتح كالإنكليز وغيرهم، فصارت ممالك تركيا تنتهب، ويستقل البعض منها والباقي دخلته الفتن والثورات، وانفصمت العرى، وحلت المصائب بالبلاد الإسلامية فزاد الفقه والعلوم العربية تأخرا وهرما إلى وقتنا هذا الذي لم يبق فيه من الدين إلا اسمه، ومن القرآن إلا رسمه، ولله عاقبة الأمور. والله المسئول أن يجدد لهذه الأمة عصرا جديدا، وشرفا مجيدا آمين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 195 إحياء الاجتهاد على عهد الدولة الموحدية بالمغرب والأندلس في القرن السادس : اعلم أنه برقت بارقة على الفقه سنة 550 خمسين وخمسمائة تحرك بها حركة لكن كانت أشبه بحركة الموت، وذلك أن عبد المؤمن بن علي لما غلب المغرب ووجد العلماء انهمكوا في الفروع راضين خطة التقليد الذي يقضي على الفقه، فكر فكرة في إلزام العلماء الاجتهاد، وترك التقليد فقيل: إنه أبرزها إلى حيز العمل، فحرق كتب الفروع كلها، وأمر بوضع كتب أحاديث الأحكام ذكر ذلك في القرطاس وهو حجة ثبت وثقه ابن خلدون وغيره وأنكر ذلك التميمي في "المعجب" وقال: إن عبد المؤمن إنما فكر في ذلك، وإن الذي أبرزه هو حفيده أبو يوسف يعقوب المنصور المتوفى سنة 595 خمس وتسعين وخمسمائة قال: إن في أيامه انقطع علم الفروع، وخافه الفقهاء وأمر بإحراق كتب الفروع بعد أن يجرد ما فيها من حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والقرآن، فأحرق منها جملة في سائر البلاد كمدونة سحنون، وكتاب ابن يونس ونوادر ابن أبي زيد ومختصره، والتهذيب للبراذعي، وواضحة ابن حبيب، قال: لقد شهدت منها وأنا بفاس يومئذ يؤتى منها بالأجمال فتوضع ويطلق فيها النار، وتقدم إلى الناس في ترك الاشتغال بعلم الرأي والخوض في شيء منه وتوعد على ذلك بالعقوبة الشديدة وأمر جماعة ممن كان عنده من العلماء المحدثين بجمع أحاديث من المصنفات العشرة وهي الكتب الخمسة والموطأ ومسند البزار، ومسند ابن أبي شيبة، وسنن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 196 الدارقطني، وسنن البيهقي في الصلاة وما يتعلق بها على نحو الأحاديث التي جمعها ابن تومرت في الطهارة، فأجابوه لذلك، وجمعوا ما أمرهم بجمعه، فكان يمليه على الناس بنفسه، ويأخذهم بحفظه، وانتشر هذا المجموع في جميع المغرب، وحفظه الناس من العوام والخاصة، فكان يجعل الجعل السني من الكساء والأموال، وكان قصده في الجملة محو مذهب مالك من المغرب جملة واحدة، وحمل الناس على الظاهر من الكتاب والسنة، وهذا المقصد بعينه كان مقصد أبيه وجده إلا أنهما لم يظهراه، وأظهره يعقوب هذا، يشهد لذلك عندي ما أخبرني به غير واحد ممن لقي أبا بكر بن الجد أخبرهم قال: لما دخلت على أمير المؤمنين يعقوب أول دخلة دخلتها عليه، وجدت بين يديه كتاب ابن يونس، فقال لي: يا أبا بكر أنا أنظر في هذه الآراء المشعبة التي أحذثت في دين الله أرأيت يا أبا بكر المسألة فيها أربعة أقوال أو خمسة أو أكثر، فأي هذه الأقوال هو الحق، وأيها يجب أن يأخذ به المقلد، فافتتحت أبين له ما أشكل عليه من ذلك، فقال لي وقطع كلامي: يا أبا بكر ليس إلا هذا وأشار إلى المصحف، أو هذا وأشار إلى سنن أبي داود عن يمينه، أو السيف، فظهر في أيامه ما خفي في أيام أبيه وجده، ونال عنده طلبة الحديث ما لم ينالوه في أيام أبيه وجده. ا. هـ. وقال ابن خلكان: أمر يعقوب المنصور الموحدي برفض فروع الفقه، وأحرق كتب المذهب وأن الفقهاء لا يفتون إلا من الكتاب والسنة النبوية، ولا يقلدون أحدا من الأئمة المجتهدين، بل تكون أحكامهم بما يؤدي إليه اجتهادهم من استنباط القضايا من الكتاب والحديث والإجماع والقياس، قال: ولقد أدركنا جماعة من مشايخ المغرب وصلوا إلينا وهم على ذلك الطريق مثل أبي الخطاب1   1 أبو الخطاب هو عمر بن الحسن بن علي يرفع نسبه إلى دحية الكلبي الصحابي الجليل وبقية النسب في ابن خلكان قال: إنه من بلنسية من أعيان العلماء ومشاهير الفضلاء أتقن فن الحديث وما يتعلق به من اللغة وأيام العرب وأشعارها، طلب الحديث في بلده الأندلس، ورحل منها إلى مراكش وأفريقيا والشام والعراق وخراسان وفازندران وأصبهان ونيسابور وهو في كل ذلك يطلب الحديث، ويؤخذ عنه، وقدم أربل سنة 604، فوجد مظفر الدين الملك المعظم صاحبها يحتفل للمولد، فعمل له كتابا سماه "التنوير في مولد السراج المنير" وهو أول ما ألف في الباب، ودفع له الملك ألف دينار، وله عدة تصانيف، وتوفي بالقاهرة= الجزء: 2 ¦ الصفحة: 197 بن دحية، وأخيه أبي عمر، ومحيي الدين بن عربي الحاتمي نزيل دمشق وغيرهم. ا. هـ. ولا يخفى ما هناك من المخالفة بثني كلامي "لمعجب" "وابن خلكان"، فالأول يقتضي أنه ألزمهم بالظاهر، والثاني يقتضي حرية الاجتهاد حتى في العمل بالقياس، ويظهر لي أن الحق ما قاله صاحب "المعجب" لأنه حضر الوقعة وفي بلده كانت، فهو أحرى أن يحقق الواقع. وعندي أنه لو أعطاهم حرية الاجتهاد، ما تركوه، ولا رجعوا للتقليد عند اضمحلال دولته، وأن الذي أوجب نبذهم لعمله هو أنه ألزمهم بالانتقال من تقليد مالك إلى تقليد الظاهرية في الحقيقة، وإن كان في اللفظ ألزمهم بالاجتهاد ولا معنى لإبدال مذهب يرون صوابيته، وعليه وجدوا آباءهم وأجدادهم إلى مذهب ظهر له وحده حقيته. ويدل لما في "المعجب" ما قاله سيدي عبد الرحمن بن عبد القادر الفاسي   = سنة 633، ثلاث وثلاثين وستمائة عن سبع وثمانين سنة 516، أما أخوه أبو عمر عثمان، فكان أسن منه حافظا للغة العرب قيما بها، وعزل الملك الكامل أبا الخطاب عن دار الحديث التي كان أنشأها بالقاهرة، ورتب مكانه أخاه أبا عمر، ولم يزل بها إلى أن توفي سنة 634 أربع وثلاثين وستمائة. ا. هـ. ابن خلكان بخ 517 أبو بكر محمد محيي الدين بن علي بن محمد الحاتمي الطائي الأندلسي شهر بابن عربي ويزاد لام التعريف ولد بمرسية سنة 560 ثم طاف البلدان من الأندلس والمغرب والشام، ودخل بغداد، وحدث بها شيء من مصنفاته، ودخل بلاد الروم والمشرق، وله مؤلفات كثيرة كالتفسير والفتوحات المكية المشهورة في النوادي العلمية وتآليفه تدل على عقل وفلسفة عظيمة ومعرفة نادرة وخيال واسع وتمكن من العلوم والمعرفة إلا أن أرباب البصائر حذروا من الاشتغال بكتبه لما فيها من المقالات التي لا ينبغي أن يشتغل بها لمخالفتها ظاهرا لما عليه جمهور الأمة، توفي بدمشق سنة 638 ثمان وثلاثين وستمائة وله اختيارات في الفقفه شاذة لاجتهاده منها قوله بمسح الرجلين في الوضوء من غير خف، وجواز السجود في التلاوة إلى أي جهة، وجواز إمامة المرأة، والقول بإيمان فرعون، وعبور الجنب المسجد والإقامة فيه وقراءته القرآن، وأن الطهارة لا تشترط في صلاة الجنازة في احتيارات أخر يطول ذكرها والقول الفصل ما قال جلال السيوطي: اعتقاد ولايته، وتحريم النظر في كتبه وابن عربي نفسه حرم النظر فيها. ا. هـ. مؤلف. قلت: وراجع أيضا ما نقله الحصفكي في الدر المختار "3/ 303"، من معروضات أبي السعود العمادي من وجوب ترك مطالعة كتب ابن عربي، وقد صدر أمر سلطاني بذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 198 في تأليف له في بيوتات فاس ونصه: "إن مهدي الدولة الموحدية وأتباعه من ملوكها كانوا ينكرون الرأي، وانتحلوا مذهب الظاهرية، وهو العمل بظاهر القرآن والسنة، وحملوا الناس على ترك الفروع الفقهية، وحرقوا كتب الفروع كلها، ولم تزل كتب الفروع منبوذة عنده، وعند عبد المؤمن بن علي وأولاده، بل حرقوها ووضعوا في السنن أوضاعا، وأوقعوا المحن بذوي الفروع، وقتلوهم وضربوهم بالسياط، وألزموهم الأيمان المغلظة من عتق وطلاق على أن لا يتمسكوا بشيء من كتب الفقه، ولما جاءت الدولة المرينية، نقضت ذلك كله، وجددت كل الفروع، فأملى الفقيه أبو الحسن علي بن عشرين "المدونة" من حفظه، ووجدوا نسخة قوبلت عليها النسخة التي أملاها، فلم تختلف إلا بواو أو فاء. ا. هـ. وفي "نيل الابتهاج" أن عبد الله بن محمد بن عيسى التادلي الفاسي كتب "المدونة" من حفظه بعد أن أمر الموحدون بحرقها. ا. هـ. وفي قوانين ابن جزي عند ذكره الخلفاء الموحدين: وكان المنصور أبو يوسف يعقوب عالما محدثا ألف كتاب الترغيب في الصلة، وحمل الناس على مذهب الظاهرية، وحرق كتب المالكية. ا. هـ. وهذا كله يؤيد ما ارتأيناه، فتبين أن لسرعة انهدام ما أسسه الموحدون أسبابا: الأول: جعلهم ذلك إجباريا، وكل ما كان كذلك لا يقبل، ويسرع زواله ولو كان حقا لأنفه النفوس من كل ما تلزم به جبرا. الثاني: أنهم سموه اجتهادا، وإنما هو إبدال الرأي بمذهب الظاهرية الذي هو جمود لم يستسحنه الجمهور، ومثل هذا وقع لابن حزم عاب على الناس تقليد مالك، وقلد داود الظاهري، وإن كان المفتي على مذهبهم لا بد له من اجتهاد، ورجوع للأصول من كتاب أو سنة، ولذلك استفاد الفقه من عمل الموحدين فائدة عظمى بظهور حفاظ وعلماء كبار تآليفهم تآليف مهمة في الحديث وغيره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 199 الثالث: انقضاء دولتهم وإتيان دولة أخرى تريد تخريب مجد ما قبلها لتشيد مجدا جديدا، ثم إن الداعي لما فعله الموحدون ليس نصرة مذهب ظهر لهم صوابيته فقط، بل مع الانتقام من الفقهاء المالكية الذين أدركوا شأوا بعيدا أيام لمتونة قبلهم فيما يظهر لي. قال في "المعجب": قد أدرك الفقهاء في أيام علي بن يوسف بن تاشفين وهي الثلث الأول من القرن السادس مبلغا عظيما لم يبلغوا مثله في الصدر الأول من فتح الأندلس، ولم يزل الفقهاء على ذلك وأمور المسلمين راجعة إليهم، وأحكام كبيرها وصغيرها موقوفة عليهم طول مدته، فعظم أمر الفقهاء كما ذكرنا، وانصرفت وجوه الناس إليهم، فكثرت أموالهم، واتسعت مكاسبهم. وفي ذلك يقول أبو جعفر بن البني الجياني: أهل الرياء لبستم ناموسكم ... كالذئب أدلج في الظلام العاتم فملكتم الدنيا بمذهب مالك ... وقسمتم الأموال بابن القاسم وركبتم شهب البغال بأشهب ... وبأصبغ صبغت لكم في العالم إلى أن قال: ولم يكن يحظى عند أمير المسلمين إلا من علم علم الفروع على مذهب مالك، فنفقت في ذلك الزمن كتب المذهب، وعمل بمقتضاها ونبذ ما سواها، وكثر ذلك حتى نسي النظر في كتاب الله وحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فلم يكن أحد من مشاهير أهل ذلك الزمن يعتني بهما كل الاعتناء. ا. هـ. المراد. قال الخطابي في "معالم السنن" المتوفى سنة 388 ثمان وثمانين وثلاثمائة ما نصه: رأيت أهل العلم في زمننا قد انقسموا1 فرقتين: أصحاب الحديث، وأصحاب الفقه، وكل فرقة لا تنفك محتاجة إلى ما عند الأخرى؛ إذ الحديث   1 بلغ بهم الأنقسام إلى التنازع والخصام ذكر عياض في مداركه أن عيسى بن سعادة الفاسي لما توفي سنة 355 تنازع فيه علماء فاس فيمن يصلي عليه الفقهاء والمحدثون كل يدعيه ويقول: إنه أحق بالصلاة عليه، وهذا نظير ما وقع بعد الصدر الأول من انسحاب القراء عن صف الفقهاء والمحدثين، وما وقع في هذا العصر من انفراد الصوفية عن الفقهاء وكثرة الفرق داعية إلى التلاشي والانحطاط ولله عاقبة الأمور. ا. هـ. مؤلف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 200 أساس، والفقه بناء، وكل بناء على غير أساس فمنهار، وكل أساس لا بناء عليه فخراب، وعلى ما بينهما من التداني، وشدة الحاجة بل الفاقة اللازمة لكل منهما إلى صاحبتها، فهما أخوان متهاجران على أنه يجب عليهما التناصر والتعاون، فأهل الأثر وكدهم الرواية، وجمع الطرق، وطلب الغريب والشاذ الذي أكثره موضوع ومقلوب، لا يراعون المتون، ولا يتفهمون المعاني، ولا يستخرجون ركازها وسرها، وربما عابوا الفقهاء، وتناولوهم بالطعن، وادعوا عليهم مخالفة السنن، ولا يعلمون أنهم قاصرون عن مبلغ العلم بالسنن، وآثمون بسوء القول. وأما أهل الفقه، فإن أكثرهم لا يعرجون إلا على أقل قليل من الحديث، ولا يكادون يميزون بين سقيمه من صحيحه، ولا يعبئون أن يحتجوا بالسقيم إذا وافق آراءهم وقد اصطلحوا على قبول الضعيف والمنقطع إذا ما اشتهر عندهم، وتعاورته الألسنة من غير تثبت فيه أو يقين علم به، فكان ذلك ضلة في الرأي وغبنا فيه، ولو حكي لهم عن أئمة مذاهبهم قول، لتثبتوا واستبرءوا له العهدة، فتجد أصحاب مالك لا يعتمدون إلا رواية ابن القاسم أو أشهب أو أضرابهما من نبلاء أصحابه، فإذا جاءت رواية عبد الله بن عبد الحكم، لم يكن عندهم طائلا، وترى أصحاب أبي حنيفة يتثبتون، ولا يقبلون إلا رواية محمد بن الحسن أو أبي يوسف والعلية من أصحابه، فإذا جاء عن الحسن بن زياد اللؤلئي وذوي روايته قول بخلافه، لم يقبلوه، وكذلك تجد أصحاب الشافعي إنما يعولون على رواية المزني والربيع بن سليمان المرادي، فإذا جاءت رواية حرملة والجيزي وأمثالهما لم يلتفتوا إليها وهكذا كل فرقة من الفقهاء في مذهب أئمتهم لا يقتنعون1 إلا بالثقة الثبت، فإذا كان هذا في الفروع، فكيف يجوز لهم أن يتساهلوا في الأمر الأهم، والخطب الأعظم وهو الرواية عن رسول رب العزة الواجب حكمه، اللازم طاعته، الذي يجب التسليم لأمره، والانقياد لحكمه حتى لا نجد في أنفسنا حرجا   1 قوله: لا يقتنعون إلا بالثقة الثبت إلخ هذا مع وقوع الاختلاط في المذاهب، وكثرة الروايات والرواة، فأصحاب الشافعي البغدادي ينقلون أقوالا غير ما ينقله المصريون، وهكذا المالكية لهم طريقة العراقيين والحجازيين والمصريين والقرويين، نص على ذلك صاحب "المعيار" نقلا عن ابن مرزوق في نوازل الصلاة. ا. هـ. مؤلف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 201 مما قضاه؟ وإذا جاز للإنسان أن يتسامح في حق نفسه، فيقبض الزائف، ويغضي عن العيب، فلا يجوز له أن يفعل ذلك في حق غيره إذا كان نائبا عنه كولي اليتيم الضعيف، ووكيل الغائب، فإذا فعل، كان خيانة للعهد، وإخفارا للذمة، ولكن قوما استوعروا طريق الحق، واستطابوا الدعة، فاختصروا طريق العلم، واقتصروا على نتف وحروف منتزعة عن معاني أصول الفقه سموها عللا، وجعلوها شعارا لأنفسهم في الترسم برسم العلم، واتخذوها جنة عند لقاء خصومهم، ونصبوها ذريعة للخوض والجدل يتناظرون بها. هذا وقد دس لهم الشيطان حيلة لطيفة، وبلغ منهم مكيدة بليغة، فقال لهم: هذا الذي في أيديكم علم قصير، وبضاعة مزجاة لا تفي بمبلغ الحاجة والكفاية، فاستعينوا عليه بالكلام، وصلواه بمقطعات منه، واستظهروا بأصول المتكلمين، يتسع للمرء مذهب الخوض ومجال النظر، فصدق عليهم إبليس ظنه، وأطاعه كثير منهم واتبعوه إلا فريقا من المؤلفين. فيا للرجال ويا للعقول أين يذهب بهم وأين يخدعهم الشيطان عن حظهم وموضع رشدهم والله المستعان. ا. هـ. بخ. وقال ابن العربي في "القواصم والعواصم": عطفنا عنان القول إلى مصائب نزلت بالعلماء في طريق الفتوى لما كثرت البدع، وتعاطت المبتدعة منصب الفقهاء، وتعلقت أطماع الجهال به، فنالوه بفساد الزمان ونفوذ وعد الصادق -صلى الله عليه وسلم- في قوله: "اتخذ الناس رءوسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا" 1 وبقيت الحال هكذا، فماتت العلوم إلا عند آحاد الناس، واستمرت القرون على موت العلم وظهور الجهل، وذلك بقدر الله تعالى، وجعل الخلف منهم يتبع السلف حتى آلت الحال إلى أن لا ينظر في قول مالك وكبراء أصحابه ويقال: قد قال في هذه المسألة أهل قرطبة وأهل طلنمكة وأهل طليطلة، وصار الصبي إذا عقل وسلكوا به أمثل طريقة لهم، علموه كتاب الله، ثم نقلوه إلى   1 أخرجه البخاري "1/ 174، 175"، ومسلم "2673" من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 202 الأدب ثم إلى "الموطأ" ثم إلى "المدونة" ثم إلى وثائق ابن العطار، ثم يختمون له بأحكام ابن سهل، ثم يقال له: قال فلان الطيطلي وفلان المجتريطي وابن مغيث -لا أغاث الله ثراه، فيرجع القهقرى، ولا يزال يمشي إلى وراء، ولولا أن الله مَنَّ بطائفة تفرقت في ديار العلم، وجاءت بلباب منه كالقاضي أبي الوليد الباجي، وأبي محمد الأصيلي، فرشوا من ماء العلم على هذه القلوب الميتة، وعطروا أنفاس الأمة الذفرة، لكان الدين قد ذهب، ولكن تدارك الباري تعالى بقدرته ضرر هؤلاء بنفع هؤلاء، وربما سكنت الحال قليلا، والحمد لله. ا. هـ. نقله في "الاستقصا". وقد وضعناه أمامك لتستفيد كيف كان تعلم أهل الأندلس في القرن الخامس والسادس، وتعلم أن رحلة العلماء من منعشات العلم، وتعلم أن الفقه إذ ذاك قد أخذ في دور التأخر. وقال القرافي في الفرق الثامن والسبعين: يجب على أهل المذاهب أن يتفقدوا مذاهبهم، فكل ما وجوده على خلاف الإجماع أو القواعد أو النص أو القياس الجلي السالم من المعارض يحرم عليهم الفتيا به، ولا يعرى مذهب من المذاهب عنه. قف على آخر كلامه. وإن رمت التوسع في هذا المقام، فعليك بـ"إعلام الموقعين" فإنه أخنى بلائمة كثيرة على العلماء في تركهم الاجتهاد، وميلهم لظل التقليد وذكر في الطبقات السبكية في ترجمة الحافظ أبي طاهر السلفي الإسكندراني أن والد السبكي اعترض عليه في فتوى أفتاها بأن فنه الحديث، وليس من شأنه الإفتاء وإني لأعجب من شافعي يقرر في غير ما موضع أن إمامهم بنى مذهبه على الحديث، وأن أصلهم الأصيل هو الحديث، وأنه أوصاهم بأن الحديث هو مذهبه، ومع ذلك يعترض هذا الاعتراض، وكم لهذه القضية من نظير في تلك القرون. وفي "إعلام الموقعين" عدد 457 من الجزء الرابع: لا يجوز أن ينسب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 203 للشافعي قول يخالف الحديث، وأنه يجوز للمفتي أن يفتي من الصحيحين أو السنن أو غيرهما من كتب الحديث الموثوق بها فانظره. فتبين لكم من هذا ما حصل في هذه الأزمان من استقلال الفقه عن الحديث، والحديث عن الفقه مع ما كانا عليه من التلازم في القرون الأولى، ففي آخر الشمائل الترمذية عن ابن المبارك: إذا ابتليت بالقضاء، فعليك بالأثر. وعن ابن سيرين: إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذهم. وقد أراد الموحدون في أفريقيا والأندلس الرجوع إلى الأصل الأول، لكنهم لم ينجحوا، ولم يدم عملهم للأسباب التي بيناها لكم ولله عاقبة الأمور. قال السبكي في "الطبقات" عدد 169 من الجزء الأول ما نصه: ثم أفضى الأمر إلى طي بساط الأسانيد رأسا وعد الإكثار منها جهالة ووسواسا، ولا يهون الفقيه أمر ما نحكيه من غرائب الوجوه، وشواذ الأقوال، وعجائب الخلاف قائلا: حسب المرء ما عليه الفتيا، فليعلم أن هذا هو المضيع للفقه أعني الاقتصار على ما عليه الفتيا، فإن المرء إذا لم يعرف علم الخلاف والمأخذ لا يكون فقيها إلى أن يلج الجمل في سم الخياط، وإنما يكون ناقلا مخبطا حامل فقه إلى غيره لا قدرة له على تخريج حادث بموجود، ولا قياس مستقبل بحاضر، ولا إلحاق غائب بشاهد، وما أسرع الخطأ إليه، وأكثر تزاحم الغلط عليه، وأبعد الفقه لديه، ثم روى حديث: "نضر الله عبدا سمع مقالتي هذه ثم وعاها وحملها، رب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه" الحديث رواه الترمذي1 وغيره. ا. هـ. فانظر رحمك الله تأفف أهل القرن الرابع إلى الثامن من مآل الفقه وترك السنة والاجتهاد والاشتغال بالفروع وهكذا بقيت الحال في نقصان واندحار إلى   1 "2658" وأخرجه أحمد "5/ 83"، وابن ماجه "230"، والدارمي "1/ 75"، من حديث زيد بن ثابت، وصححه غير واحد من المحدثين، وأخرجه من حديث ابن مسعود الشافعي، "1/ 14"، والترمذي "2659"، وابن ماجه "232"، وإسناده صحيح، وأخرجه من حديث جبير بن مطعم أحمد "4/ 81"، وابن ماجه "1/ 75، 76"، وأخرجه من حديث ابن عباس الرامهرمزي في "المحدث الفاصل" ص166. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 204 وقتنا هذا، وربما حصلت حركة في بعض الأعصار لكن يعقبها سكون وجمود. ومما اشتغل به فقهاء هذه العصور تأليف مناقب أئمتهم، وتفاخروا في ذلك حتى صارت مناقب أبي حنيفة والشافعي ومالك وأحمد في مجلدات. انظر حرف الميم من "كشف الظنون". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 205 تراجم الفقهاء في هذه العصور : غير خفي أن عصر شيخوخة الفقه من أول المائة الخامسة إلى الآن عصر طويل كان فيه علماء جلة كثيرون لا يأتي العد على جمهورهم، ولا على القليل منهم، وإنما نأتي بمن استحضرناه على سبيل التمثيل: فمن الحنفية: 498- أبو الحسن أحمد بن محمد القدوري 1: صاحب مختصر الحنفية المشهور الذي هو كمختصر ابن الحاجب عند المالكية وهو الذي شرح مختصر الكرخي، وصنف كتاب "التجريد" في الخلاف بين أبي حنيفة والشافعي مجردا عن الأدلة، وكتاب التقريب الكبير، والصغير، وهو ممن كان يناظر أبا حامد الإسفراييني رأس الشافعية في وقته. توفي سنة 438 ثمان وعشرين وأربعمائة ببغداد. 499- أبو زيد عبد الله بن عمر الدبوسي 2 السمرقندي: هو أول من تكلم في الخلاف من الحنفية، له نظم في الفتاوى، وكان يضر به المثل في النظر، واستخراج الحجج، وله مناظرات ببخارى وسمرقند.   1 أبو الحسن أحمد بن محمد القدوري: سير النبلاء "11/ 128"، وتاريخ بغداد "4/ 377"، ووفيات الأعيان "1/ 78، 79"، وشذرات الذهب "3/ 223"، والجواهر المضية "1/ 93/ 94"، الفوائد البهية ص"30، 31". 2 أبو زيد عبد الله بن عمر الدبوسي السمرقندي: سير النبلاء "11/ 115"، وفيات الأعيان "3/ 48"، والفوائد البهية ص"109"، والجواهر المضية "1/ 339". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 206 توفي سنة 430 ثلاثين وأربعمائة ناظر بعض الفقهاء، فكان كلما ألزمه حجة، ضحك، فأنشد أبو زيد: ما لي إذا ألزمته حجة ... قابلني بالضحك والقهقه إن كان ضحك المرء من فقهه ... فالدب في الصحراء ما أفقهه 500- أبو عبد الله الحسين بن علي الصيمري 1: شيخ الحنفية في زمنه، ومن كبرائهم أيضا. توفي سنة 436 ست وثلاثين وأربعمائة. 501- شمس الأئمة عبد العزيز بن أحمد الحلواني 2 البخاري: مصنف كتاب "المبسوط" إمام أهل بخارى. توفي سنة 448 ثمان وأربعين وأربعمائة، عده ابن كمال باشا من مجتهدي المسائل. 502- علي بن محمد البزدوي 3: فقيه ما وراء النهر، وإمام الدنيا فروعا وأصولا، له كتاب "المبسوط" أحد عشرا مجلدا وهو صاحب كتاب أصول البزدوي المشهور، وتقدمت لنا إشارة إليه، وله كتب غيره. توفي سنة 482 اثنين وثمانين وأربعمائة. 503- أبو عبد الله محمد بن علي الدامغاني 4: انتهت إليه رياسة الحنفية ببغداد، وولي قضاءها، ولد بالدامغان سنة 400، وتوفي سنة 478 ثمان وسبعين وأربعمائة.   1 أبو عبد الله بن الحسين بن علي الصيمري: الفوائد البهية ص"67"، الجواهر المضية "1/ 214". 2 عبد العزيز بن أحمد الحلواني البخاري: أبو أحمد، البخاري الحلواني: المشتبه ص"244"، الإكمال "3/ 111". 3 علي بن محمد البزوي: الأنساب "2/ 188"، معجم البلدان "1/ 409"، اللباب "1/ 146"، الجواهر المضيئة "2/ 594"، مفتاح السعادة "2/ 184"، كشف الظنون "1/ 112"، الفوائد البهية "124، 125". 4 أبو عبد الله محمد بن علي الدامغاني: الفوائد البهية ص"182". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 207 504- شمس الأئمة بكر بن محمد الزرنجري 1: إمام محقق أخذ عن الشمس الحلواني، توفي سنة 512 اثني عشرة وخمسمائة. 505- أبو محمد عمرو بن عبد العزيز 2 بن عمر بن مازه المعروف بالصدر الشهيد: إمام الفروع والأصول من كبار الأئمة، له شرح الجامع، والفتاوى كبرى وصغرى، توفي شهيدا بسمرقند سنة ست وثلاثين وخمسمائة 536 عن ثلاث وخمسين. 506- أبو حفص عمر بن محمد النسفي 3: مفتي الثقلين أحد الأئمة المشهورين، له نحو مائة مصنف في المصنف والحديث والتاريخ، نظم الجامع الصغير، وهو أول كتاب نظم في الفقه، وله تاريخ سمرقند في عشرين مجلدا، والتيسير في التفسير، توفي سنة 537 سبع وثلاثين وخمسمائة. 507- أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري 4 جار الله: إمام عصره بلا مدافعة فقيها لغويا أديبا مناظرا من أكابر الحنفية والمعتزلة،   1 بكر بن محمد الزرنجري: الزرنجري: المشتبه "379". 2 أبو محمد عمرو بن عبد العزيز بن عمر بن مازه: الصدر: الفوائد البهية ص"149"، والجواهر المضية "1/ 56". 3 أبو حفص عمر بن محمد النسفي: أبو حفص، أبو الحسن، النسفي الحنفي السمرقندي، مات سنة "537": التحبير "1/ 527"، لسان الميزان "4/ 327"، معجم المؤلفين "7/ 305، 306"، تبصير المنتبه "3/ 1217"، دائرة الأعلمي "23/ 44"، سير النبلاء "2/ 126". 4 أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري: بفتح الزاي وسكون الحاء وفتح الشين المعجمة قرية= الجزء: 2 ¦ الصفحة: 208 وقد اندثرت آثار المعتزلة إلا تفسيره الكشاف لم يقدروا على إعدامه لشدة الحاجة إليه. وله تصانيف غيرها كلها غرر. توفي سنة 538 ثمان وثلاثين وخمسمائة. 508- شمس الأئمة محمد بن أحمد السرخسي 1: تلميذ شمس الأئمة الحلواني، عدوه من المجتهدين في المسائل بالمذهب الحنفي، أملى كتاب المبسوط نحو خمسة عشر مجلدا وهو مسجون في الجب بأوزجند، وأصحابه يكتبون في أعلى الجب من غير مطالعة كتاب، وسبب سجنه كلمة نصح بها الخاقان. ومبسوطة هذا شرح للكافي، وهو مطبوع في مصر، وأملى به أيضا شرح السير الكبير إلى باب الشروط فأفرج عنه، توفي أواخر القرن الخامس، وله تآلف أخرى. 509- طاهر بن أحمد بن عبد الرشيد البخاري 2: شيخ الحنفية بما وراء النهر، ومن أعلامهم مجتهديهم، مؤلف "خلاصة الفتاوى" وهو كتاب معتمد عند الحنفية، لخصه من كتابيه الواقعات وخزانة الواقعات. توفي سنة 542 اثنين وأربعين وخمسمائة ذكره ابن كمال باشا من طبقة المجتهدين في المسائل التي لا رواية فيها عن صاحب المذهب، ولا يقدرون على مخالفته في الفروع والأصول ذكره في تعليق "الفوائد البهية". 510- أبو إسحاق إبراهيم بن إسماعيل الصفار 3: توفي ببخارى سنة 574 أربع وسبعين وخمسمائة.   1 محمد بن أحمد السرخسي: الفوائد البهية ص"158". 2 طاهر بن أحمد بن عبد الرشيد البخاري: الفوائد البهية ص"84". 3 أبو إسحاق إبراهيم بن إسماعيل الصفار: الفوائد البهية ص"7". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 209 511- أبو بكر بن مسعود بن أحمد الكاساني 1: -بالمهملة والمعجمة- الملقب بملك العلماء، مؤلف كتاب "البدائع" وهو شرح كتاب "تحفة الفقهاء" لشيخه علاء الدين محمد بن أحمد السمرقندي، توفي سنة 587 سبع وثمانين وخمسمائة. 512- فخر الدين حسن بن منصور الأوزجندي 2 الفرغاني: المشهور بقاضي خان إمام كبير من أئمة الحنفية، له الفتاوى المشهورة، والواقعات، والأمالي، والمحاضر، وشرح الزيادات وغيرها. معدود عندهم من مجتهدي المذهب الذين لهم الترجيح في الأقوال، وعده ابن كمال باشا من طبقة الاجتهاد في المسائل، قال قاسم بن قطلوبغا: من يصححه قاضي خان مقدم على تصحيح غيره؛ لأنه فقيه النفس. توفي سنة 592 اثنين وتسعين وخمسمائة. 513- علي بن أبي عبد الجليل المرغيناني 3 برهان الدين: مؤلف كتاب "الهداية" و"المنتقى" وغيرهما. توفي سنة 593 ثلاث وتسعين وخمسمائة والهداية كتاب من أجل كتب الحنفية وفيه قيل: إن الهداية كالقرآن قد نسخت ... ما صنفوا قبلها في الشرع من كتب 514- أبو الفضل محمد بن محمد بن محمد العراقي 4 القزويني ركن الدين الطوسي: إمام فاضل محجاج   1 أبو بكر بن مسعود بن أحمد الكاساني: الجواهر المضية "2/ 244"، وأعلام النبلاء "4/ 305". 2 فخر الدين حسن بن منصور الأوزجندي الفرغاني: الفوائد البهية ص"64، 65". 3 علي بن أبي عبد الجليل المرغياني: برهان الدين، الفوائد البهية ص"141"، وسير النبلاء "13/ 53"، والجواهر المضية "1/ 383". 4 أبو الفضل محمد بن محمد بن محمد العراقي القزويني: مرآة الجنان "3/ 498". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 210 ماهر في علم الخلاف له ثلاث تعاليق في الخلاق، وحلوا إليه إلى همذان وانتشر في الآفاق توفي سنة 600 ستمائة. 515- أبو حامد بن محمد العميدي 1 السمرقندي ركن الدين: كان إماما في الخلاف خصوصا الجست2، وهو أول من أفرده بالتصنيف ومن تقدمه كان يمزجه بخلاف المتقدمين، وهو أحد الأركان الأربعة الذين أخذوا عن رضي الدين النيسابوري، كل منهم ركن الدين، وله "الإرشاد" الذي اعتنى به من بعده، وكتاب "النفائس" وغيرها، وانتفع به خلق كثير. توفي ببخارى سنة 615 خمس عشرة وستمائة والعميدي بفتح العين وبالدال المهملة. 516- عبيد الله بن إبراهيم المحبوبي العبادي 3: -بضم العين- نسبة إلى جده الأعلى عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- شيخ الحنفية بما رواء النهر وأحد من انتهى إليهم معرفة المذهب، عديم النظير في زمنه، له تصانيف ككتاب "الفروق" وشرح الجامع الكبير، وغيرهما يعرف بأبي حنيفة الثاني. توفي ببلده بخارى سنة ثلاثين وستمائة 630. 517- أبو المجاهد جمال الدين محمود بن أحمد البخاري التاجري 4 المعروف بالحصيري: لم يكن في عصره من   1 أبو حامد محمد بن محمد العميدي السمرقندي "ركن الدين": سير النبلاء "13/ 35"، وابن خلكان "4/ 257"، وشذرات الذهب "5/ 64"، والجواهر المضية "2/ 128"، والفوائد البهية ص"200". 2 لفظة فارسية معناها: البحث، وقد أصبحت تطلق على نوع من فروع الخلاف. 3 عبيد الله بن إبراهيم المحبوبي العبادي "نسبة إلى عبادة بن الصامت": العبر "5/ 120"، شذرات الذهب "5/ 137"، وتاريخ الإسلام "أيا صوفيا/ 3012". 4 أبو المجاهد جمال الدين محمود بن أحمد البخاري التاجري "الحصيري": أبو المجاهد، البخاري التاجر، محمود بن أحمد بن عبد الله السيد بن عنان بن نصر:= الجزء: 2 ¦ الصفحة: 211 يقاربه من الحنفية ببلده توفي سنة 636 ست وثلاثين وستمائة بدمشق. 518- الحسن بن محمد بن حيدر الصغاني 1 كان فقيها محدثا لغويا، ذا مشاركة تامة في جميع العلوم، له كتاب "مشارق الأنوار" في الحديث، و"العباب" في اللغة وغيرها، توفي سنة 650 خمسين وستمائة ببغداد، ونقل لمكة والصغاني أو الصاغاني بتخفيف الغين: اسم قرية بمرو. 519- يوسف بن فرغلي البغدادي 2 سبط الحافظ ابن الجوزي كان على مذهب جده حنبليا، ثم رحل إلى الموصل ودمشق وتفقه على الحصيري فصار حنفيا، له "مرآة الزمان" تاريخ في أربعين مجلدا، وتفسير في تسعة وعشرين مجلدا وشرح الجامع الكبير وغيره، توفي سنة أربع وخمسين وستمائة 654. 520- الإمام عبد الله بن أحمد بن محمود أبو البركات حافظ الدين النسفي 3: عديم النظير في زمنه، رأس في الفقه والأصول، بارع في الحديث، له   1 الحسن بن محمد بن حيدر الصغاني: سير النبلاء "13/ 292"، ومعجم الأدباء "9/ 189"، وشذرات الذهب "5/ 250"، والجواهر المضية "1/ 201"، والبدر الطالع "1/ 210". 2 يوسف بن فرغلي البغدادي سبط الحافظ ابن الجوزي: الفوائد البهية ص"230". 3 عبد الله بن أحمد محمود أبو البركات حافظ الدين النسفي: الجواهر المضية "1/ 270"، والدرر الكامنة "2/ 247"، والفوائد البهية ص"101". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 212 تصانيف معتبرة كمتن الوافي، وشرحه الكافي في الفروع، و"المنار" في الأصول وشرحه، و"المصفى" وشرح المنظومة النسفية، و"المدارك" في التفسير وغيرها. توفي بعد عشر وسبعمائة، عده ابن كمال باشا من المقلدين القادرين على تمييز القوي من الضعيف، وعده غيره من مجتهدي المذهب، وقال: إنه ختامهم، انظر تعليق الفوائد. 521- عبيد الله بن مسعود بن محمود المحبوبي العبادي 1: نسبة إلى عبادة بن الصامت صدر الشريعة الإمام المتفق عليه، صاحب شرح الوقاية وغيرها، بارع في الأصول والفروع والخلاف والحديث والتفسير وغيرها. مات سنة 747 سبع وأربعين وسبعمائة، ودفن بمرقد أجداده ببخارى. 522- علي بن عثمان المارديني علاء الدين الشهير بابن التركماني 2: إمام في الفنون النقلية والعقلية، ذو التصانيف الكثيرة في الفقه والأصول والحديث والتاريخ وغيرها توفي بمصر سنة 750 خمسين وسبعمائة. 523 - السيد الشريف الجرجاني 3 علي بن محمد: عالم بلاد المشرق قرن سعد الدين التفتازاني في مجلس تيمور لنك، والمحشي على شروحه، ذو التصانيف المفيدة، كشرح المواقف، وشرح تجريد نصير الدين   1 عبيد الله بن مسعود بن محمود المحبوبي العبادي "نسبة إلى عبادة بن الصامت": الفوائد البهية ص"109". 2 علي بن عثمان المارديني علاء الدين الشهير بابن التركماني: المارديني التركماني، ولد سنة 683، مات سنة 750: معجم المؤلفين "7/ 145، 246"، والحاشية. 3 السيد الشريف الجرجاني علي بن محمد "عالم بلاد المشرق": أبو الحسن، الجرجاني: سير النبلاء "17/ 421"، والحاشية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 213 الطوسي زادت مصنفاته على خمسين، توفي بشيراز سنة 816 ست عشرة وثمانمائة عن مائة واثنتي عشرة سنة من "بغية الوعاة". 524- محمد بن حمزة شمس الدين الفناري 1: إمام كبير نحرير، مجتهد عصره في المذهب، أحد رؤساء الدين الذين انفرد كل منهم على رأس القرن الثامن بكثرة التصنيف، أو فن من الفنون، والفناري انفرد بالاطلاع على كل العلوم، له "فصول البدائع في أصول الشرائع" وغيرها توفي سنة 834 أربع وثلاثين وثمانمائة. 525- الشيخ الإمام بدر الدين محمود بن أحمد العيني المصري 2: قاضي القضاة للحنفية بها، إمام علامة من العلوم العربية والفقه والحديث، له تآليف حسان، كشرح البخاري الكبير مطبوع، وشرح شواهد الرضي كبير وصغير، وكتب في السيرة والتاريخ والفقه وغيرها، عمر مدرسة قرب الأزهر، وحبس بها كتبه، ومآثره جمة، ولد بعين تاب سنة 762، وتوفي بمصر سنة 855 خمس وخمسين وثمانماية. 526- كمال الدين محمد بن عبد الواحد السكندري السيواسي 3: الشهير بابن الهمام، إمام نظار، فقيه محدث أصولي، حافظ مفسر متفنن،   1 محمد حمزة شمس الدين الفناري: بغية الوعاة ص"39"، والشقائق النعمانية "1/ 84"، والفوائد البهية ص"166"، ومفتاح السعادة "1/ 452". 2 بدر الدين محمد بن أحمد العيني المصري: أبو محمد أبو الثناء، العيني القاهرة، ولد سنة 762، مات سنة 855: حاشية الأنساب "9/ 431"، والضوء اللامع، معجم المؤلفين "12/ 150، 151"، والحاشية. 3 كمال الدين محمد بن عبد الواحد السكندري السيواسي: ابن الهمام، السيواسي القاهري الحنفي، ولد سنة 790: الضوء اللامع "8/ 127"، والبدر الطالع "2/ 201"، وشذرات الذهب "7/ 298"، وحسن المحاضرة "1/ 270"، الفوائد البهية ص"180". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 214 له تصانيف معتبرة كفتح القدير والمسايرة والتحرير وغيرها، توفي سنة 861 إحدى وستين وثمانمائة. 527- المولى خسرو محمد بن فراموز 1: رومي الأصل قاضي القسطنطينية بحر زاخر في المنقول والمعقول، له الغرر في الأحكام الفقهية، وشرحها الدرر، و"مرقاة الأصول" وغيرها توفي سنة 885 خمس وثمانين وثمانمائة. 528- أبو العدل زين الدين قاسم بن قطلوبغا المصري 2: إمام علامة قوي المشاركة في الفنون، واسع الباع في مذهبه، متقدم فيه، نظار مفحم لخصومه، تصانيفه كثيرة كشرحي المجمع، ومختصر المنار، وشرح المصابيح، والفتاوى وغيرها من تواليف مفيدة فقهية وحديثية. توفي سنة تسع وسبعين وثمانمائة. 529- الإمام شمس الدين أحمد بن سيلمان بن كمال باشا 3: شيخ الإسلام والمسلمين، ومفتي القسطنطينية، وسبب تولية الإفتاء كما   1 المولي خسرو محمد بن فراموز: قاضي القسطنطينية "رومي الأصل"، الفوائد البهية ص"184". 2 أبو العدل زين الدين قاسم بن قطلوبغا المصري: الضوء اللامع "6/ 184"، والبدر الطالع "2/ 45"، وشذرات الذهب "7/ 326"، والفوائد البهية ص"99". 3 شمس الدين أحمد بن سليمان بن كمال باشا: والفوائد البهية ص"21"، والشقائق النعمانية "1/ 420"، والكواكب السائرة "2/ 107". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 215 في رحلة العياشي أن سلطان العثمانيين سليم الأول استفتى علماء وقته في السلطان الغوري الذي منعه من الميرة بمصر لما كان قاصدا غزو بلاد العجم، متعللا بالغلاء وهو في الحقيقة كان حليفا للعجم، فقال العلماء: لا وجه لغزوه وهو سلطان المسلمين، ولم يمنعك حقا هو لك، فقال ابن كمال باشا: بل تغزوه، وتفتح بلاده وذلك مأخوذ من القرآن، وبما أني أصغر القوم، فلا يمكنني أن أتقدمهم، فأمهلهم ثمانية أيام حتى يطالعوا. فقالوا: ما لنا غير ما أجبنا به، فليتبين جوابك، فقال: لا أجيبك إلا بعد الأيام الثمانية ربما يفتح الله عليكم بشيء فبعد ثمانية أيام جمعهم، فقالوا: ما لنا غير الجواب الأول، فقام ابن كمال، وقال: إن القرآن يوجد فيه دخولك مصر فاتحا لها، فإن الله يقول: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} 1، فقوله: ولقد عدده هو مائة وأربعون مساوية للفظ سليم، فتكون إشارة الكلام سليم، وقوله: من بعد الذكر عدد ذكر بدون لام التعريف هو 920 عشرون وتسعمائة والأرض في الآية الكريمة هي مصر عند كثير من المفسرين، والعباد الصالحون هم جنودك إذ لا أصلح منهم في أقطار الأرض لإقامتهم سنة الجهاد، وفتحهم أكثر البلاد النصرانية، وهم على مذهب أهل السنة والجماعة، وغيرهم من عساكر البلاد إما ممن فسدت عقائدهم كأهل العراق وأكثر اليمن والهند، وإما ممن ضعفت عزائمهم عن إقامة شعائر الإسلام كأهل المغرب، وإما ممن استولت عليهم الدنيا كأهل مصر، وبالغ في تقرير هذا المعنى. وسر السلطان به، وسلم له العلماء الاستنباط ولطف الإشارة إلا أنهم قالوا: هذا لا يكفي في إباحة قتال من لم يخلع يدا من طاعة، ولا حارب أحدا من المسلمين وإن كانت الإشارة القرآنية تدل على أن هذا سيكون، فلا بد من إظهار وجه تعتمده الفتوى الفقهية. فقال ابن كمال: أيها الأمير، قل للغوري: إني عزمت على أداء فريضة الحج، وليس لنا طريق ولا تزود إلا من بلدكم، فنريد أن نمر بها، ونتزود فإنه لا   1 سورة الأنبياء: 105. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 216 محالة مانعك وصادك، وصده محاربة تبيح قتاله، فاستحسن العلماء جوابه لجواز الحيل في مذهبهم الحنفي، فكتب سليم للغوري يطلب المرور والتزود فمنعه، وقال: لا سبيل إلا أن يمر على ظهور الموتى، فوقعت الحرب واستولى سليم على مصر سنة 923، وتم له النصر، وقتل كثيرا من العلماء والصلحاء حتى المجاذيب، وكان أمر الله قدرا مقدورا، واستولى على الخليفة المتوكل العباسي، فسلم إليه حقوقه في الخلافة، ومفتاح البيت الحرام، والآثار النبوية، فانتقلت الخلافة لدار السعادة، وبيت العثمانين الأتراك انتقالا شرعيا والملك لله يؤتيه من يشاء. فقال لابن كمال: اطلب ما شئت من الولايات، فطلب الإفتاء بدار السعادة فوليها، وكان من نخبة العلماء وسادتهم له تآليف محررة شهيرة من أشهرها متن الإصلاح وشرح الإيضاح في الفقه، ومتن في الأصول، وقلما يوجد فن إلا وله فيه مصنف أو مصنفات تنيف مصنفاته على ثلاثمائة، ومنه التفسير الشهير. له في استنباطات ودقائق دالة على كمال فكره وأنه كمال ابن كمال، وقد بلغ فيه إلى سورة الصافات توفي سنة 940 أربعين وتسعمائة. انظر "رحلة العياشي" إلا أن قوله: انتقالا شرعيا غير خفي أن السيف والغلبة تضعف ذلك. 530- أبو السعود محمد بن محيي الدين محمد العمادي 1: عالم نحرير ليس له في العجم ولا العرب نظير، انتهت إليه رياسة الحنفية في زمنه، وكان يجتهد في بعض المسائل ويخرج ويرجح بعض الدلائل، وله في الأصول والفروع قوة كاملة قاضي القسطنطينية وغيرها، ثم ولي الإفتاء بها أكثر من ثلاثين سنة، له التفسير المسمى "إرشاد العقل السليم" مات سنة 982 اثنين   1 أبو السعود محمد بن محيي الدين محمد العمادي: شذرات الذهب "8/ 398"، والبدر الطالع "1/ 261"، والفوائد البهية ص"81". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 217 وثمانين وتسعمائة. 531- محمد بن عبد الله بن أحمد الخطيب التمرتاشي 1 الغزي الحنفي: رأسهم في وقته، لم يبق في آخر أيامه من يساويه رحل لمصر، وأخذ عن أعلامها، وله تآليف مهمة متقنة كتنوير الأبصار تصنيف في الفقه عظيم القدر مشهور وشرحه ومنظومته وشرحها، ومعين المفتي، وفتاوى، وكتب أخرى كثيرة توفي سنة 1004 أربع وألف. 532- الملا علي بن محمد بن سلطان الهروي القاري 2 المكي: علامة الزمان، وعالم بلد الله الحرام، له مصنفات كثيرة كشرح المشكاة الذي هو من مواد الفقه على أحاديث الأحكام، وشرح الفقه الأكبر لأبي حنيفة، وشرح شفاء عياض، وشرح الشمائل، وشرح الشاطبية، وغيرها، وله تآليف لا تحصى كثرة وتآليفه في الفقه والحديث جيدة غاية. توفي بمكة سنة ألف وأربع عشرة 1014 ولما بلغ خبر موته علماء وقته بمصر، صلوا عليه صلاة الغائب في مجمع حافل جمع أربعة آلاف نسمة. ويعد مجددا على رأس الألف رحمه الله. 533- عبد الحليم بن محمد المعروف بأخي زادة 3: القسطنطيني المولد والمنشأ والوفاة أحد أفراد الدولة العثمانية وسراة علمائها متضلع من الفنون، ثاقب الذهن، درس في مدارس عالية بعد ما أخذ عن جلة   1 محمد بن عبد الله بن أحمد الخطيب التمرتاشي الغزي الحنفي: خلاصة الأثر "4/ 18". 2 المنلا علي بن محمد بن سلطان الهروي القاري المكي: خلاصة الأثر "3/ 185"، والبدر الطالع "1/ 445". 3 عبد الحليم بن محمد المعروف بأخي زادة القسطنطيني المولد والمنشأ: خلاصة الأثر "2/ 322". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 218 علماء الروم. ولي قضاء تخت الإسلام وغيرها، وله تآليف كثيرة، منها شرح الهداية، وتعليقات على شرح المفتاح، وجامع الفصولين، والدرر والغرر، والأشباه والنظائر، ورسالة تفسيرية، وله من الآثار العلمية ما لا يجد ولا يحصى، وعلى الخصوص فيما يتعلق بالحجج والصكوك. قال القاضي محب الدين الحنفي: اتفق أهل الروم قاطبة على أنه ما نشأ في إستانبول من أولاد العلماء وغيرهم على رأس الألف أفضل من رجلين شابين أحدهما عبد الحليم هذا والثاني أسعد بن المولى سعد الدين واختلفوا في أيهما أفضل، وبلغني أن عبد الحليم أفقه، وأسعد أعلم بالمعقولات. وبالجملة ففضل عبد الحليم مسلم عند أهل الروم، وليس فيهم من ينكره توفي سنة 1013 ثلاث عشرة وألف عن خمسين سنة من "خلاصة الأثر" ملخصا. 534- صنع الله بن جعفر: شيخ الإسلام1 ومفتي التخت العثماني الإمام الكبير الفقيه الحجة الخير، كان في وقته إليه النهاية في الفقه والاطلاع على مسائله وأصوله، وفتاويه مدونة مشهورة خصوصا في بلاد الروم يعتمدون عليها، ويراجعون مسائله في الوقائع، وكلهم متفقون على ديانته وتوثيقه واحترامه، وقد درس بالمدارس العلية حتى انتهى أمره إلى أن صار قاضي القسطنطينية في رجب سنة ألف، وتقلب في قضاء غيرها، وولي الإفتاء مرارا، وتوفي سنة إحدى وعشرين وألف 1021. 535- عبد الغني بن إسماعيل النابلسي الصالحي 2: إمام كبير، وأستاذ شهير، فقيه وصوفي وشاعر أديب، له "المقصود في وجدة الوجود" وربع الإفادات في العبادات مؤلف جليل في مجلد ضخم في فقه   1 صنع الله بن جعفر شيخ الإسلام: مفتي التخت، خلاصة الأثر "2/ 256". 2 عبد الغني بن إسماعيل النابلسي الصالحي: النابلسي، مات سنة 1143: فهرس الفهارس "2/ 756"، سلك الدرر "3/ 30"، ونفحة الريحانة "2/ 137". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 219 الحنفية، ومؤلفات كثيرة في فنون شتى، وديوان شعر أدبي وآخر صوفي حقائقي. توفي سنة 1143 ثلاث وأربعين ومائة وألف عن ثلاث وتسعين سنة. 536- شهاب الدين أحمد بن محمد الخفاجي 1: قاضي عسكر، إمام العلوم لا سيما الأدبية من غير منازع، شهرته طبقت الأرض والطول والعرض، له شرح الشفاء، وحاشية البيضاوي، وحاشية على فرائض الحنفية وغيرها. توفي سنة 1069 تسع وستين وألف. 537- يحيى بن زكريا بن بيرام: شيخ الإسلام2 بدار الخلافة العظمى، وأوحد علماء الروم باتفاق الأعلام، واحد الزمان وثاني النعمان، درس بمدارس القسطنطينية إلى أن وصل إحدى الثمان منها وفي مدرسة والدة السلطان مراد الثالث بأسكندر، واستقضى في حلب ودمشق ومصر وبروسة وأدرنة ثم القسطنطينية، وقاضي العسكر بأناطولي ثم الروم إيلي، ثم الإفتاء السلطاني، وبنى مدرسته المعروفة قريبا من داره بمحلة جامع السلطان سليم، ولم يتفق لأحد قبله ما اتفق له من طول المدة والاحترام والجلالة، فهو أستاذ الأساتذة، وأعظم الصدور الجهابذة، وقد جمع شيخ الإسلام محمد البورسوي فتاويه التي وقعت في أيامه في كتاب سماه فتاوى يحيى مشهور متداول. وله شعر عربي جيد، وقد خمس البردة بتخميس بارع، انظر بعضه في "الخلاصة" توفي سنة 1053 ثلاث وخمسين وألف عن أربع وخمسين سنة، وقد أرخوا موته بقولهم: في جنة عالية.   1 شهاب الدين أحمد بن محمد الخفاجي قاضي عسكر: خلاصة الأصر "1/ 331"، وفهرس الفهارس "1/ 280". 2 يحيى بن زكريا بن بيرام شيخ: خلاصة الأثر "4/ 467". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 220 538- عبد القادر قاضي العسكر الشهير بقدري 1: هو صاحب الفتاوى المشهورة بفتاوى قدري، ويطلق عليها لفظ المجموعة، وهي الآن عمدة الحكام في أحكامهم، والمفتين في فتاويهم، وهي مجموعة نفيسة أكثر مسائلها وقائع كانت تقع أيام المفتي يحيى بن زكريا، وكان قدري هذا في خدمته موزع الفتاوى، وموزع الفتوى عندهم يجمع للفتاوى التي كتبت أجوبتها، ويفرقها يوم الثلاثاء من كل أسبوع يقف في مكان من دار المفتي، وينادي بأسمائهم التي كتبت على ظهر قرطاس الفتوى، وأمين الفتوى هو الذي يراجع المسائل في محالها، وينزل عليها الوقائع، وكان قدري موصوفا بالتقوى، وفيه صلاح وإنابة، فهو من خيار الموالي العظام، ولي قضاء القسطنطينية وغيرها، وكان عالما فاضلا وقورا عليه مهابة العلم والصلاح، توفي سنة 1083. 539- يحيى بن عمر المنقاري الرومي 2: شيخ الإسلام، وعلامة العلماء الأعلام، أخذ فنون العلم بالروم عن شيخ الإسلام عبد الرحيم المفتي وغيره، وتمكن من التحقيق كل تمكن، ودرس بمدارس القسطنطينية، وولي المناصب العلية، منها قضاء مصر، وعقد بها درسا في تفسير البيضاوي، وحضره أكابر علمائها، وأذعنوا له، ومدحه شعرائها. ثم تولى قضاء مكة، ودرس في المدرسة السليمانية، منها تفسير البيضاوي أيضا، وحضره أكثر العلماء، وطلب من الشمس البالي أن يحضر درسه هو وطلبته، فحضروا وأذعنوا لسعة ملكته وحسن تقريره. وتولى قضاء القسطنطينية، وقضاء العسكر، ثم الفتوى سنة 1073، فكان تاريخها لفظ شيخ الإسلام، وسار أحسن سيرة، وكان دأبه المطالعة والمذاكرة، فلا يرى إلا مستعملا لها، وألف تآليف عديدة في فنون شتى كحاشيته على   1 عبد القادر العسكر الشهير بقدري: صاحب فتاوى قدري، خلاصة الأثر "2/ 473". 2 يحيى بن عمر المنقاري الرومي: خلاصة الأثر "4/ 477". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 221 البيضاوي وغيرها، وانتهت إليه رياسة العلم في وقته، وتوفي سنة 1088 ثمان وثمانين وألف وأرخوه. فرحمة ربنا أرخ ... تؤم الحبر منقاري 540- محمد الشهير بالأنكوري 1: شيخ الإسلام في القسطنطينية، وفقيه الروم وعالمها، وفي القضاء في عددة مدن مهمة كان كبير الشأن صلبا في الحق، مطلعا على النقول والتصحيحات، منقحا لما تشعب من الأقوال والتخريجات، شرح تنوير الأبصار بشرح نفيس انتقد فيه على التمرتاشي انتقادات أكثرها مسلم، أبان فيه عن فضل باهر، توفي سنة 1098 ثمان وتسعين وألف. 541- محمد بن عبد الرحمن بن تاج الدين التاجي 2: مفتي بعلبك الشام له الفتاوي التاجية، توفي شهيدا في بيته سنة 1114 أربع عشرة ومائة وألف. 542- أبو الحسن محمد بن عبد الهادي: السندي3 الأصل والمولد، المدني الدار، نوار الدين الإمام العالم المحقق شهير بالفضل والذكاء والصلاح، محقق في الحديث والفقه والأصول والعربية مع زهد وورع، له حواش على الكتب الستة إلا حاشية الترمذي لم تكمل، وواحدة على مسند أحمد، وأخرى على فتح القدير وصل إلى باب النكاح، وأخرى على الزهراوين للملا علي القاري، وأخرى على البيضاوي، وأخرى على الآيات البينات حاشية شرح جمع الجوامع للعبادي وغير ذلك. توفي سنة   1 محمد الشهير بالأنكوري: شيخ الإسلام في القسطنطينية، سلك الدر "4/ 52". 2 محمد بن عبد الرحمن بن تاج الدين التاجي: مفتي بعلبك، سلك الدرر "4/ 66". 3 أبو الحسن محمد بن عبد الهادي السندي المدني الدار: خلاصة الأثر "4/ 66"، وفهرس الفهارس "1/ 103". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 222 1038 ثمان وثلاثين ومائة وألف. 543- محمد بن محمد الطيب التلافلاتي 1: المغربي مفتي الحنفية بالقدس الشريف علامة عصره، وفائق أقرانه، ونادرة زمانه، فقيه كبير، وأديب شاعر شهير قرأ بالمغرب، ثم بمصر، ورحل للحج وهو صغير، فأسر وناظر الرهبان بمالطة وغلبهم، فأطلقوه انظر مناظرته في "سلك الدرر" وله نحو ثمانين تصنيفا في فنون شتى، توفي سنة 1191 أحد وتسعين ومائة وألف. 544- محمد مرتضى بن محمد بن عبد الرزاق 2: الحسيني الهندي المولد الزبيدي: وبها طلب العلم، وبالنسبة إليها شهر، المصري الدار والوفاة طبق الآفاق علمه وحفظه وإتقانه، وعظم تواليفه، وسعة مروياته، وزهده وورعه وفضله، له شرح الإحياء والقاموس وغيرهما، وأنجب تلاميذ ملئوا الدنيا علما، وبمثله تجددت العلوم الدينية والعربية، وما أحقه أن يعد مجددا في عصره ومصره. توفي سنة 1205 خمس ومائتين وألف. 545- أبو الثناء شهاب الدين محمد أفندي الألوسي 3: الحسيني الأب الحسني الأم مفتي الحنفية ببغداد، كشاف الحقائق، وفضاض المشكلات، صاحب التفسير الكبير المسمى روح المعاني الذي أغنى عن   1 محمد بن محمد الطيب التلافلاتي المغرب: سلك الدرر "4/ 102"، وفهرس الفهارس "1/ 194". 2 محمد مرتضى بن محمد بن عبد الرزاق الحسيني الهندي المولد الزبيدي: فهرس الفهارس "1/ 398"، والجبرتي "2/ 196". 3 أبو الثناء شهاب الدين محمود أفندي الألوسي الحسيني: المسك الأذفر "1/ 5، 25"، وفهرس الفهارس "1/ 97"، وأعلام العراق ص"21"، والتاج المكلل ص"360". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 223 كثير من التفاسير بجمعه وإتقانه، شرق وغرب ذكره، وله تآليف كثيرة. وقد بلغ رتبة الاجتهاد ألف ودرس وهو دون العشرين توفي سنة 1270 سبعين ومائتين وألف عن نحو ثلاث وخمسين سنة، وقد دلنا تفسيره المطبوع السائر في المعمور سير الأمثال على أنه مشارك في علوم الإسلام، متقدم في كثير منها، نادرة القرن الثالث عشر، وكل من يطعن في معتقده، فلا علم به بالكلام، ويعلم ذلك بتتبع تفسيره غير أن الرجل سلفي العقيدة، حر اللسان والجنان. رحمه الله وترجمته الواسعة في أول تفسيره مطبوعة، فلا نطيل بها. 546- محمد المهدي العباسي الحنفي 1: مفتي الديار المصرية وشيخ الأزهر، وهو أول من تقلدها من الحنفية، فأحسن السيرة، وتقدمت كثيرا، وأثرى علماؤها، وأصلح من شأنها، وهو أول من سن امتحان المدرسين، وسن قانونه، وكانت توليته إياها سنة 1287، وقد انصرف عن المشيخة والإفتاء مرتين وعاد إليهما. ومن مؤلفاته "الفتاوى المهدية" المستعملة في أيدي القضاة والمفتين كثيرا. توفي سنة 1315 وقد رثاه كثير من أعلام مصر، ومنها في تاريخ الوفاة. جزاؤك يا مهدي في جنة الخلد، وذلك خمس عشرة وثلاثمائة وألف. 547- حسونة النواوي 2: مفتي الحنفية وشيخ الأزهر بمصر، عالم كبير، ومصلح عظيم، قد تمم أعمال المصلحين قبله، وزاد عليها فسن قانونا لأهل الأزهر، وأسس مجلسا لإدارتها وكان من جملة أعضائه الشيخ محمد عبده الذي كان أكبر عامل فيه، وسن قانونا آخر لإدارته وانتظامه وكيفية التعليم فيه، ونظام المدرسين والمتعلمين   1 محمد المهدي العباسي الحنفي: اكتفاء القنوع ص"495"، وتراجم أعيان القرن الثالث عشر ص"67"، والجبرتي "4/ 233". 2 حسونة النواوي: مفتي الحنفية وشيخ الأزهر بمصر، سبيل النجاح "2/ 67"، ومجلة الزهراء "2/ 485"، وتاريخ الأزهر ص"156". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 224 وكيفية الامتحان وغير ذلك مما أدخل الأزهر في صف الكليات العظيمة ذات النظام المعتبر، ورقاها إلى أوج الفلاح، وأجرى بنفسه ذلك النظام، ورقى جرايات التدريس والمتعلمين، وأدخل علوما عصرية للأزهرية لم تكن تدرس فيها من قبل كالتاريخ والجغرافيا وغيرها، وجعل ستمائة جنيها مكافآت الناجحين سنويا، فتقدمت الأزهر والعلوم الإسلامية في أيامه تقدما عظيما بإعانة محمد عبد المذكور، وفي الحقيقة بإعانة الخديوي المتنور عباس حلمي باشا، وفي أيامه أنشئت الكتبخانة العمومية في الأزهر، وبنى الرواق العباسي، وزيد في مرتبات العلماء ومشايخ الأروقة من الأوقاف، ولكن في أيامه حصل حادث الشوام، فانصرف عن الإفتاء والمشيخة سنة 1317، وله من الكتب كتاب في الفقه الحنفي يدرس به في المدارس الأميرية ألفه على النسق المدرسي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 225 إصلاح القرويين : بمناسبة تكلمنا على ابتداء إصلاح الأزهر، فلنقل كلمة عن أختها القرويين لما عسى أن يكون لهذا المعهد من التأثير على ارتقاء الفقه أو انحطاطه أثناء القرن الجاري؛ لأنه المعهد الأعظم في إفريقيا الشمالية للعلوم العربية والدينية والآداب الإسلامية، لا سيما بعد سقوط الأندلس، فهو الينبوع النمير لهاته العلوم، والقبس النير للدين الحنيف، ومادة حياة القومية المغربية العربية، وبه قوامها، وقائد رشدها، وشمس نورها، وقد بلغ صيت الرعيل الأكبر من المؤلفين المتخرجين منه أقصى المغارب، ولا تزال تآليفهم سراجا وهاجا في الأقطار الشاسعة، ومعاهدها الجامعة. إن القرويين لم يزل على حالة القديم، فمع كونه مسجدا دينيا مقدسا هو محل تطوع مفتح الأبواب لإلقاء الدروس الدينية والعربية، وتلقيها من غير أن يكون به نظام، ولا ترتيب لسير دروسه، ولا للموظفين الدينيين المتخرجين منه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 225 ولم تزل رواتب المدرسين به تافهة على ما وقع في السكة النقدية من الانحطاط حتى صارت لا تسد خلة المدرسين، ولا تسل عن المتعلمين، فصار جل المدرسين يتعاطى حرفة يسد بها رمقه، فتعطلت دروس، وأهملت فنون كانت فيه زاهرة يانعة من قبل. وهكذا بقيت الحال أسيفة إلى أن هيأ الله توظيفي نائب الصدارة العظمى في المعارف والتعليم، وكنت أول من وظف بها إذ لم يكن لوزارة المعارف وجود في المغرب من قبل سنة 1330 ثلاثين وثلاثمائة وألف، فكان أمر القرويين أول ما أهمني قلبا وقالبا؛ لأنهما أمي وظئري، ومن ثديها العذب ارتضعت، وبها أمطيت عني التمائم، وبعد مجهودات صدر أمر شريف سنة 1332 اثنين وثلاثين وثلاثمائة وألف بإدخال نظام إليها تنهض به لائق بمنزلتها من قلب الأمة المغربية، بل الإفريقية، وأسند نظرها إلي فقدمت فاسا صحبة أحد أعضاء الكتابة العامة للدولة الحامية، وهو المستعرب الشهير الذائع الصيت لدى العلماء والعوام مسيو مرسي المكلف بتعضيدي في درس المسألة وإيجاد أسباب حلها إداريا. ولما حللنا فاسا، جمعت علماءها الأعلام كلهم، وشرحت لهم الحال، ورغبتهم في تشكيل لجنة لتحسين حال القرويين من بينهم بالانتخاب على نسق انتخاب المجلس البلدي بفاس؛ إذ كان مرادنا الوقوف على أنظارهم وحاجاتهم، وأن نبدي لهم ما ظهر لي من إدخال نظام مفيد، وإصلاحات مادية مع إصلاحات أدبية في أسلوب التعليم أيضا، وإحياء علوم اندثرت منها كليا، وتتبادل الآراء على عين المكان، ونجعل قانونا أساسيا للقرويين يكفل حياتها ورقيها، ولا نبرم أمرا إلا بعد حصول موافقتهم، بل استحسانهم، فقبلوا ذلك بغاية الارتياح، وشكلوا لجنة من أماثلهم بأغلبية الأصوات تحت اسم مجلس العلماء التحسيني للقرويين تركبت من رئيس وستة أعضاء وثلاثة خلفاء يوم 21 جمادى الثانية عام 1332 وبعد ما وقع احتفال تسميتهم الرسمية بمحضر خليفة السلطان بقصر البطحاء، وأعيان المدينة شرعنا في العمل معهم، فكنا نجتمع يوميا فأطرح عليهم مسألة مما كنت أريد إدراجه من التنظيم والتحسين في القانون الأساسي للقرويين، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 226 ثم التمس آراءهم، واسمع ملاحظاتهم، فيحرر كل واحد ما ظهر له، ويؤخر البت في المسألة إلى جلسة ثانية حتى يطلع المجلس على تلك التحريرات، ثم يقترع على الرأي المقبول، فيثبت في سجل التقريرات أصل المسألة وما أبداه كل واحد فيها، ثم ما وقع عليه رأي الجميع أو الأغلب عليه. وفي الجلسة التي بعدها يسرد عليهم محضر الجلسة قبلها حتى يسلموه، فيثبت في سجل القرارات، وعند ذلك نشرع في إملاء مسألة أخرى، وعلى هذه الخطة كان سيرنا إلى أن تجمع من تلك القرارات مائة مادة ومادتان 102 مقسمة على عشرة أقسام، وهي: القسم الأول: وفيه 22 مادة في نظام المجلس الأساسي، وكيفية تكوينه، وبيان أوقات اجتماعه، وتحديد نظره وتصرفاته، وخصائص الرئيس والأعضاء وخلفائهم، وتكوين أمين صندوق له وكاتب وما يتبع ذلك. الثاني: وفيه 7 مواد في ضابط العالمية وامتحان طالبها، وتنقيح قائمة العلماء التي كانت ملآنة بمن لا يستحق أن يدرج فيها وإدخال من حرم منها مع استحقاقه وطبقاتها المكونة إذ ذاك من 154 عالما ومقرئا. الثالث: وفيه 7 مواد أيضا في كيفية امتحان المدرسين. الرابع: وفيه 15 مادة في إحداث توظيف شيخ للقرويين وناظرين 2 معه، وتحديد نظرهم، وكيفية سير أعمالهم التي أهمها مراقبة الدروس، وسير النظام، وكيفية إدخال النظام التدريجي للدروس والمدرسين والتلاميذ. الخامس: وفيه 27 مادة في ضابط التدريس وامتحان التلاميذ، وتنظيمهم طبقات ابتدائية وثانوية وعالية، وأن لا يقبل واحد في مرتبة إلا بعد نجاحه في امتحان التي قبلها شفاهيا وكتابة، ومدة القراءة في كل طبقة، والصفات التي تؤهل المدرس لنوال هذا الوظيف وشروط قبول المتعلمين الذين يندرجون في النظام. السادس: وفيه 11 مادة في العطلة السنوية، والرخص الاعتيادية وغيرها وضوابط ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 227 السابع: وفيه 5 مواد في المجازات على تأليف الكتب ولا سيما الدراسة، وكيفية امتحان التواليف التي يطلب أصحابها الجوائز. الثامن: وفيه 4 مواد في ضابط التقاعد ومن يستحقه. التاسع: وفيه 3 مواد في الأمور التأديبية لمن خالف الضوابط، أو أساء المعاملة، أو ارتكب ما يخل بناموس العلم والدين. العاشر: يعرض هذا القانون على أنظار الجلالة اليوسفية لتصدق عليه أو تنقحه، ولا يكون قابل لتنفيذ إلا بعد ذلك، وكان الفراغ منه في 22 شعبان العام. ويكفي اللبيب المنصف إمعان النظر في عنوان الأقسام العشرة ليعترف أنه منطبق على مبادئ الدين الحنيفة، والقومية العربية المغربة وشعارها أتم انطباق كيف لا وقد حصلنا على موافقة نخبة علماء فاس، بل المغرب الذين هم هيأه المجلس على الطريقة التي شرحناها آنفا بكل حرية وكل استقامة مما لا يمكن أن يتهمنا فيه أحد بتطرف أو ابتداع. وأقول من غير تمدح أو تبجح: إن ذلك القانون لو خرج من حيز الخيال إلى حيز الأعمال، لكان محييا للقرويين، مجددا لهيئتها التدريسية تجديدا صحيحا متينا؛ إذ ليس له مرمى سوى ترميم ما انهار من هيكلها المشمخر باعثا لعلوم وفنون من أجداثها كان الإهمال أخفاها، وتطاول الأزمان عفاها، مرقيا ومحسنا لما فضل عن أيدي الأوهام والإهمال سائقا لمن تمسك به إلى العروج بذلك المعهد الخطير إلى مستوى نظامي عصري ديني، به يبلغ العلم والدين والثقافة أوج الكمال والفخار. ولكن مع الأسف المكدر تداخل في القضية ذوو الأغراض الشخصية فبينما نحن نبني ونصلح، ونرمم بفاس، وقد شرعوا في الهدم والتخريب في الرباط بغير فاس، وما كدنا نختم القانون المشار إليه حتى صدر أمر شريف برجوعنا، ولم يبق من مشروعنا إلا أن راتب المدرسين ضعف أضعافا، فصار للطبقة الأولى فرنك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 228 100 مائة شهرين وستين للثانية إلخ، هذا بعد المضاعفة، وبه تعلم ما كان قدره قبل التحسين في سالف القرون، وأبقى المجلس صوريا لا حياة له ولا ظهور إلا في الحفلات الرسمية والمقامات التشريفية، وهكذا يفعل التحاسب وحب الأثرة بين نبلاء المغاربة الذين أشربوا في قلوبهم حب إيثار الأغراض الشخصية على المصالح العمومية بل والدينية. أصلح الله القلوب والأحوال، والمتحصل من المسألة أن حالة القرويين لم تزل في جمود ولم تتحسن قط مع ما بذلناه من الجهود، وبل انحطاطها يزداد كل يوم غير أن المدرسين والطلبة قد شعروا الآن، فهم يبثون الشكوى في الإعلان والنجوى ولم تجد إلى يومنا هذا يدا مساعدة، وعسى أن يهيئ لها الحق سبحانه مستقبلا زاهرا، ونصيرا ظاهرا. ولو قدر لها أن تسير على ذلك النظام، لارتقى الفقه عما هو عليه من الانحطاط الكلي عندنا حتى سقطت هيبته وهيبة حملته من القلوب. وفي شرح الحال والتأسف على المآل يقول الشاعر الاجتماعي الإصلاحي الفذ في وقته صاحب التاريخ المشهور محمد السليماني رحمه الله: سلا هل أرجت ريح الخزامي ... وهل سرب المها ألف المقاما وهل شحرورهم يزهو ويشدو ... وينفث من محاسنه انسجاما وهل زهر الخميلة باكرته ... سماء المزن فافتر ابتساما وهل تلك المتالع في سماء ... بأعلا الدوح تنعش مستهاما وهل سعد السعود أتى بشيرا ... بميعاد الأجلة والندامى وهل غصن التمني عاد حقا ... نضيج التمر مخضلا قواما وهل بيت الجعافرة السراة ... كرام العرب صونا واحتراما على ما كان ملجأ للعفاة ... فسيح الرحب مقصودا دواما بنى الحجوي الثقاة لقد أقاموا ... بأكمل وصف من صلى وصاما وكهفهم الوزير أخي المعالي ... أخي الإصلاح همته تساما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 229 أحلال المشاكل مهما عزت ... حماة الضيم تجعلها وئام لأنت العارف المقدام مهما ... مسكت الصولجان غدا قواما وأنت أخو العلوم إذا ادلهمت ... غيوم الجهل تحسبا قتاما سبرت سناءها وفرجت عنها ... وكنت لها وكنت لها إماما رحيب الصدر تنصف كل فرد ... وتقنعه إذا اجترأ اجتراما فكم من دعوة أغنيت فيها ... وعند الصون تنتقم انتقاما وكم من سائس يُدعى رئيسا ... خلبت نهاه واجتزت المراما خدمت العلم حقا فاستضاءت ... معالمه وقوم فاستقاها رددت إلى المعارف كل فخر ... بترتيب أنيق لا يساما غزلت لهم غداة نصحت غزلا ... رقيقا عالجوه فما استقاما وأيقظت النوام بزجر قال ... وتذكير فما فقهوا الكلاما بدا من بعض أهل الزيغ طيش ... فسبب عن صنيعهم انخراما رضوا بالبخس في سوق المعالي ... فظنوها لجهلهم اغتناما رضوا بالطل عجزا ثم قالوا ... دعوا ما كان كيف جرى وداما ألسنا العالمين لدى البرايا ... أتوقظنا وما كنا نياما سبكت لهم سبائك من لجين ... ومن تبر تغالى أن تساما فكان الطرف منهم بعد سبر ... ومعيار غثاء أو رغاما على أن المعارف لا تداني ... أناسا طالما ألفوا عواما فدعهم في غباوتهم ستبلى ... سرائرهم وسنصرموا انصراما وهل تجدي معالجة لميت ... وهل يغني الصريخ لمن تعاما أمير المؤمنين رآك أهلا ... حباك غداة طوقك الوساما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 230 وقدمك افتخارا مستشارا ... لدولته وقلدك الحساما فدم للعز والإقبال شهما ... كريما ماجدا فردا هماما وحقق فيك ما يرجى بنصح ... لمن والوا لدلتنا احتراما وشادوا مجدها وحموا حماها ... وساسوها اقتدارا واحتشاما فاس في 5 ذي القعدة 1332 صديقكم محمد بن الأعرج السليماني الحسني. هذا ولقد كان قال عند العزم على الشروع في التنظيم مهل جمادى الثانية من قصيدة طويلة نص الحاجة منها. عطفا أخي لا تماطل إننا ... متعطشون إلى العلا وجماله يسر لنا طرق النظام وكل ما ... فيه النجاة من الشقا وضلاله ها قد خرجنا م الحوادث جملة ... فاعمد إلى نهج الصلاح وواله إلخ وهي طويلة من غرر قصائده، وذلك كله دال على ما يعلقه فريق مهم من المفكرين على إصلاح ذلك المعهد العظيم. ومن مستتعبات المسالة المتعلقة برقي الفقه ما سعى فيه العبد الضعيف مدة تكليفه السابق من إدخال اللغة العربية ومبادئ الدين من توحيد وفقه وأخلاق للمدارس الابتدائية الدولية والأهلية، ثم الثانوية، ووقعت المساعدة على ذلك من جانب المقيم العام الميرشال اليوطي الذي أنهض المغرب، وكان من الشغف بإحياء مآثر الإسلام بمكان رفيع لائق بما له من سعة المدارك، ونزاهة الأفكار الإصلاحية، فصارت تلك المدارس عربية فرنسوية بعد ما كانت فرنسوية فقط، ووقعت تسمية مدرسين عربيين لتلك العلوم مع معلمين للكتابة العربية والقرآن العظيم، وبسبب ذلك نجحت تلك المدارس نجاحا فوق ما كان يؤمل في تربية النشأة الجديدة المغربية على ثقافة فكرية متينة موافقة للدين والفكر المغربي، ولا عبرة بمن شذ، فأقبل عليها الأهالي حتى البوادي بعد نفورهم الشديد منها، وستكون تلك الناشئة سبب إسعاد بلادها، وتقدم وطنها، وبها سينتعش الفقه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 231 والعلوم العربية التي هي في دور الاحتضار بهذه البلاد. وقد نسج الأهالي على منوالنا لما رأوا من حسن نتائج المدارس الدولية في اللغة العربية لحسن نظامها وسهولة منزع تدريسها، وترتيبها، ففتحوا عدة مدارس على نفقتهم قرآنية تهذيبة عربية في فاس والرباط حول سنة 1338 ثم في سلا والدار البيضاء ومراكش. ولكن واأسفاه، إن أمرها صار إلى التأخر، بل أغلق جلها لارتخاء عزائم الأهالي، وعدم فهم كثير من القائمين بها معنى النظام ما هو، وخطؤهم في استعماله على نهج لا هو قديم ولا حديث مع البخل بالمال الذي هو حياة المشاريع النافعة، وحصول منافسات وغايات مع أن هذه مسألة حياة لا مسألة منافسة أو مباهاة. 548- محمد عبده المصري: مفتي الحنفية بالديار المصرية1 علامة جليل مشارك متبحر مصلح كبير، وأستاذ شهير حر اللسان والضمير، مؤسس نهضة مصر العربية، وصاحب الأيادي البيضاء، وأنفع من أدركنا من علماء الإسلام للإسلام، ترجمته قد خصها تلاميذه بتآليف؛ إذ هو من أشهر رجال الإسلام في العالم. ولد بقرية شبرا بمصر سنة 1366 ست وستين، وشب في طلب العلم بإلزام من أبيه في طنطا، ثم في الأزهر على الشيخ جمال الدين الأفغاني الشهير، ولما تصدر للتدريس والتأليف، ونفع الطلاب، فألف شرحي مقامات البديع ونهج البلاغة، ورسالة في التوحيد وحواشي على الدواني، والإسلام والنصرانية والتفسير وغيرها. وهو من أول من كتب في الجرائد من العلماء المعممين، فكتب في الجريدة الرسمية الوقائع المصرية إذ تولى رياسة قلم المطبوعات، فكان كل يوم يحرر فصلا   1 محمد عبده المصري: تاريخ الأستاذ الإمام، وزعماء الإصلاح ص"280". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 232 في موضوع اجتماعي أو أدبي أو علمي، وينتقد أعمال الحكومة ومنشوراتها لفظا ومعنى، فكان موقظا للنهضة القلمية في الديار المصرية، ولكنه اتهم بمشاركة في الثورة العرابية، فنفي للشام، ثم وقع العفو عنه، ووظف قاضيا، ثم كان كمستشار للخديوي عباس حلمي باشا ذي الأفكار الصائبة في إصلاح مصر ونهضتها، فسعى لديه في تشكل مجلس الأزهر، وانتظم في جملة أعضائه، وكان في الحقيقة هو مديره تحت رياسة الشيخ حسونة السابق، وسعى في تخصيص ألفي جنيه للأزهر من الميزانية وثلاثة آلاف من الأوقاف سنويا، وبذلك تسنى للأزهر أن يصير لما هو عليه الآن، ثم مفتيا للحنفية، ومن لوزامها شيخ رواقهم، فكان أكثر عنايته بالأزهر وبالتدريس فيه. ونشر ما في كتاب الله من أنواع الإرشاد وإيقاظ العباد، وبذلك ظهرت بركة عظيمة علمية وقلمية في القطر المصري نشأت عنها حركة وطنية إصلاحية كان الشيخ محركها الأكبر، وبقي على مبدئه السامي إلى أن لقي مولاه يوم السبت 6 يوليو سنة 1905 موافق ثالث جمادى الأولى سنة 1323. ومن فتاويه حل ذبيحة أهل الكتاب سماه بالفتوى الترنسفالية، وجواز لبس القبعة في بلاد لا يلبس فيها سواها، وخالفه فيها كثير من معاصريه، وشنعوا به، لكنه لم يلتفت. 549- عبد الرحمن البحراوي 1 المصري الأزهري العلامة الشهير ولد سنة 1235، وتصدر للتدريس سنة 1264، وألف عدة تآليف كتقريره على شرح العيني، وله كتابات على أغلب كتب المذهب الحنفي، وتخرج عليه كثير من علماء الأزهر، وتقلب في القضاء والإفتاء عدة مرات، وتولى رياسة المجلس الأول بالمحكمة الشرعية المصرية الكبرى، ثم الإفتاء بالحقانية وغير ذلك.   1 عبد الرحمن البحراوي المصري الأزهري: الخطط التوفيقية "15/ 11"، تاريخ الأزهر ص"171، 172"، والأعلام الشرقية "2/ 121، 122". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 233 550- محمد بخيت المطيعي 1: الإمام العالم الشهير العلامة المحرر الكبير ولد بالمطيعة سنة 1281، واشتغل بالطلب في الأزهر سنة 1281، فأخذ عن عبد الرحمن الشربيني والبحراوي السابق، وجمال الدين الأفغاني، وغيرهم، ودرس سنة 1292، وتقلب في وظائف القضاء بالسويس وبورسعيد وغيرهما، ثم التفتيش في الحقانية، وقضاء الإسكندرية، ورياسة المجلس الشرعي الكبير، وغيرها، ولا زال حيا وقتنا هذا والحمد لله على وجود أمثاله المصلحين. 551- أحمد بيرم: أخونا في الله شيخ الإسلام بتونس الآن لم يزل ما بين الشباب والكهولة، عالم جليل مشارك محرر متقن ممتع متفنن، حلو الشمائل، عذب المذاكرة منصف خلاب بفصاحته ولطف أخلاقه وخلقته ومنطقه، خطيب مصقع، وأديب لكل الفضائل مجمع، جم المزايا والمفاخر أثيل المجد، وافر السعد، وكلما تسمع عنه الأذن تصدقه عند لقي الأعين. أدام الله النفع به، وبأفكاره الراقية، وبارك للإسلام فيه، وفي ذلك البيت الرفيع العماد إلى يوم التناد وهو سابع من تولى من بيتهم مشيخة الإسلام بتونس حفظه الله. وهذه حفنة من رمل الدهناء، أو جرعة من ماء السمك بالنسبة للعلماء الحنفية اكتفينا بها كضرب مثال ممن عجز عن حد جامع لأولئك الرجال.   1 محمد بخيت المطيعي: رياض الجنة "1/ 162"، وصفوة العصر "1/ 504"، وتاريخ الأزهر ص"172"، توفي سنة 1354هـ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 234 أشهر أصحاب الإمام مالك بعد القرن الرابع إلى الآن : 552- أولهم عبد الرحيم بن أحمد الكتامي 1: أبو عبد الرحمن يعرف بابن العجوز الدار، فاسي الوفاة من قبيلة كتامة، ومن كتاب قومه كانت له ولأبيه فيهم وفي المغرب رياسة العلم، وإليه الرحلة من أقطاره، وعليه دارت الفتوى، وأعقب عقبا نجباء في العلم [ ... ] خمسة أئمة إمام ابن إمام، وهم ولده عبد الرحمن، ثم ابنه محمد، ثم ابنه عبد الرحمن وعن هذا أخذ عياض، وكان فيهم القضاء في عواصم المغرب بل والأندلس. وصل عبد الرحيم إلى الأندلس وأفريقية، وأخذ عن الإمام ابن أبي زيد، واختص به، وسمع منه كتبه النوادر، والمختصر، وجاء بهما وبغيرهما إلى سبتة، وعن دراس بن إسماعيل الفاسي والأصيلي، ووهب بن ميسرة الحجازي، وانتفع الناس به، وكان من حفاظ المذهب المالكي الناشرين له. توفي بفاس سنة 413 ثلاث عشرة وأربعمائة. 553- أبو عبد الله محمد بن عمر بن يوسف بن بشكوال 2: المعروف بالحافظ لقبا، ويعرف بابن الفخار قرطبي، كان حافظا للحديث،   1 أولهم عبد الرحيم بن أحمد الكتامي أبو عبد الرحمن "ابن العجور": أبو عبد الرحمن، ابن العجوز، الكتامي، المالكي، سير النبلاء "17/ 374، الحاشية"، الديباج المذهب ص"153". 2 أبو عبد الله محمد بن عمر بن يوسف بن بشكوال: الديباج المذهب ص"171". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 235 عارفا بالحجة والنظر، رحل فاتسعت روايته، فكان أحفظ الناس وأحضرهم للعلم وسرعة الجواب، وأفقههم على اختلاف العلماء كان يحفظ المدونة والنوادر، ويوردها من صدره، آخر الحفاظ الراسخين العارفين بالكتاب والسنة، مجاب الدعوة1، وله اختصار نوادر ابن أبي زيد، رد عليه في مسائل، واختصاره المبسوط لا بأس به، وله رد على رسالة ابن أبي زيد تعسف فيه سماه التبصرة، ورد على وثائق ابن العطار، وله مذاهب أخذ بها في خاصته؛ إذ كان مجتهدا كصلاته الأشفاع خمسا، وتعجيل صلاة العصر جدا، وعدم غسل الذكر كله من المذي. هجر قرطبة عند دخول البربر، وتنقل في الأندلس، وسكن بلنسية، فأقام بها مطاعا إلى أن توفي سنة 419 تسع وعشرة وأربعمائة. وبشكوال بباء أعجمية مخففة مضمومة ويقال: بشكال بألف مقحمة وبغير واو، وقد يكتب بواو ولام ليس بينهما ألف، ومعنى بشكوال عياد؛ لأنه ولد يوم عيد. ا. هـ. من "المنح البادية". 554- القاضي عبد الوهاب بن نصر التغلبي 2: البغدادي مؤلف كتاب المعونة لمذهب عالم المدينة والتلقين، وهو على صغره من خيار الكتب وأكترها فائدة، وكتاب الإشراف على مسائل الخلاف، وكتاب النصرة لمذهب إمام دار الهجرة، وشرح المدونة لم يكمل، وله شرح مختصر ابن أبي زيد، وشرح الرسالة، والإفادة في أصول الفقه، وله كتب بديعة في المذهب والخلاف والأصول. قال فيه ابن بسام في "الذخيرة": كان فقيه الناس، ولسان أصحاب القياس، سمع أبا عبد الله العسكري وابن شاهين والأبهري، وقد رد في "المدارك" على من أنكر سماعه منه وكبار أصحابه كابن القصار، وابن الجلاب،   1 فيه نظر لا يثبت إلا بوحي. 2 القاضي عبد الوهاب بن نصر التغلبي البغدادي: الديباج المذهب ص"159"، وفوات الوافيات "2/ 419"، وشذرات المذهب "3/ 223". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 236 وسمع أبا بكر الخطيب وغيرهم، ولي قضاء الدينور وغيرها من أعمال العراق، ثم ابتلي بالفقر الذي ألجأه لمفارقة بغداد إلى مصر، وقد ودعه جملة موفورة من أعلامها، وطوائف كثيرة، فقال لهم: لو وجدت بين ظهرانيكم رغيفين كل غداة وعشية ما عدلت ببلدكم وأنشد: لا تطلبن من المجبوب أولادا ... ولا السراب لتسقي منه ورادا ومن يروم من الأرذال مكرمة ... كمن يروم من الأتبلن أوتادا قال في "المدارك": ولعل سبب خروجه قصة جرت له لكلام قاله في الشافعي، فخاف على نفسه وطُلِبَ، فخرج فارا عنها. ا. هـ. وتوجه لمصر، فملأ أرضها وسماءها علما، وحمل لواءها، واستتبع سادتها وكبراءها، تناهت إليه الغرائب، وانثالت عليه الرغائب، وولي قضاء المالكية بها؛ إذ في عهد العبيديين صار بها قاضيان شيعي ومالكي، فمات لأول ما دخلها وهو الذي قال في مرض موته: لا إله إلا الله لما عشنا متنا. وقضية القاضي هذه تدل على أن العبيديين لم يتمكنوا من إخضاع أفكار العلماء ولا العامة، وإن أخضعوا سيوف الدولة وقال في بغداد: بغداد دار لأهل المال واسعة ... وللصعاليك دار الضنك والضيق أصبحت فيهم مضاعا بين أظهرهم ... كأنني مصحف في بيت زنديق توفي رحمه الله سنة 422 اثنين وعشرين وأربعمائة عن ثلاث وسبعين. وكما هو من عليه الفقهاء، فهو من أحسن الشعراء، ذكره ابن بسام في "الذخيرة" ومن شعره: متى يصل العطاش إلى ارتواء ... إذا استقت البحار من الركايا ومن يثني الأصاغر عن مراد ... إذا جلس الأكابر في الزوايا وإن ترفع الوضعاء يوما ... على الرفعاء من إحدى الرزايا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 237 إذا استوت الأسافر والأعالي ... فقد طابت منادمة المنايا 555- أبو عمران موسى بن عيسى بن أبي حاج الغفجومي 1: الفاسي بيتهم بفاس مشهور يعرفون ببني حاج، استوطن القيروان، وحصلت له رياسة ورحل إلى المشرق، وكانت له رواية واسعة. قال في "المدارك" جمع من عوالي حديثه مائة ورقة، وقال عنه ابن عمار: إنه مقطوع بفضله وإمامته، أخذ عن الباقلاني وسمع من المستملي وأبي ذر وتفقه في قرطبة على الأصيلي وطبقته، وفي القيروان على القابسي، وكان من أحفظ الناس للحديث والمذهب المالكي، مجودا للقرآن بالسبع عارفا بالرجال، رحلوا إليه من الأندلس وأفريقية له تواليف في الحديث والفقه، وتعليق على المدونة لم يكمل، وكان ما بينه وبين أبي بكر بن عبد الرحمن نفرة، فطمع صاحب أفريقية أن يتوصل بذلك لتقليل نفوذهما على العامة بشهادة أحدهما على الآخر، فتقوم الحجة عليهما معا؛ إذ كانت العامة طوعهما، فلما اختبرها وجد دينهما أمتن مما يظن، وخاب ظنه. قاله في "المدارك". ومن محاسن أجوبته في مسألة: هل الكفار يعرفون الله أم لا؟ التي وقع فيها نزاع عظيم بين العلماء، وتجاوزهم إلى العامة، وكثر التماري فيها حتى خرج عن حد الاعتدال إلى القتال، فقال قائل: لو ذهبنا إلى أبي عمران، لشفانا فجاءه أهل السوق بجماعتهم، وقالوا: نحب جوابا بينا على قدر أفهامنا، فأطرق ساعة، وقال: لا يكلمني إلا واحد، ويسمع الباقون، ثم التفت إلى واحد منهم، فقال: أرأيت لو لقيت رجلا، فقلت له: تعرف أبا عمران الفاسي؟ فقال: أعرفه، فقلت: صفه لي، فقال: هو رجل يبيع البقل والحنطة والزيت في سوق ابن هشام، ويسكن صبرة أكان يعرفني؟ قال: لا، قال: فلو لقيت آخر، فقلت:   1 أبو عمران موسى بن عيسى بن أبي حاج الغفجومي الفاسي: أبو عمران: الغفجومي، حاشية الأنساب "10/ 68"، الديباج المذهب ص"344". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 238 هل تعرف أبا عمران؟ فقال: نعم، فقلت له: صفه لي، فقال: هو رجل يدرس العلم، ويفتي الناس، ويسكن بقرب السماط، أكان يعرفني؟ قال: نعم. قال: فهما مثال الكافر والمؤمن، فإن الكافر إذا قال: إن لمعبوده صاحبة وولدا، أو إنه جسم وقصد بعبادته من هذه صفته، فلم يعرف الله، ولم يصفه بصفته، ولم يقصد بعبادته إلا من هذه صفته وهو بخلاف المؤمن الذي يقول: إن معبوده الله الأحد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحدا، فهذا قد عرف الله ووصفه بصفاته، وقصد بعبادته من يستحق الربوبية سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا. فقامت الجماعة وقالوا: جزاك الله خيرا من عالم، فقد شفيت ما بنفوسنا ودعوا له، ولم يخوضوا في المسألة بعد هذا المجلس. توفي سنة 430 ثلاثين وأربعمائة، وبإشارته توجه عبد الله بن ياسين إلى الصحراء، فأنشأ دولة لمتونه، وإن شئت ذلك، فقف على تاريخنا لأفريقيا الشمالية. 556- أبو القاسم عبد الرحمن بن علي محمد الكتاني: المعروف بابن الكاتب من فقهاء القيروان المشاهير وحذاقهم، تفقه في مسائل مشتبهة من المذهب، قال الطايثي: سألته عن فروق في مسائل مشتبهة من المذهب، وقد أعضل جوابها كل من لقيته من علماء العراق، فأجابني فيها ارتجالا على ماكان عليه من شغل البال بالسفر، وقد وقفت على جوابه في جزء منطو على أحد وأربعين فرقا، له كتاب في الفقه كبير مشهور في نحو مائة وخمسين جزءا ذكره في "المدارك" ولم يذكر له وفاة. 557- أبو عمر أحمد بن محمد الطلمنكي 1: المعافري أصله من طلمنكة بثغر الأندلس الشرقي، ونشأ بقرطب، فكان   1 أبو عمر أحمد بن محمد الطلمنكي المعافري: ابن الكاتب، سير النبلاء "11/ 126"، شذرات "3/ 243"، والديباج المذهب ص"243". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 239 من أعلامها، اتسعت روايته وتفنن في علوم الشريعة، وغلب عليه القرآن والحديث، وألف تواليف نافعة كبار ومختصرة، ككتاب الدليل إلى معرفة الجليل نحو مائة جزء وله تفسير نحو هذا، وكتاب البيان في إعراب القرآن، وفضائل مالك ورجال الموطأ، وكتاب الرد على ابن ميسرة، وكتاب الوصول إلى معرفة الأصول، وغير ذلك، له فضائل حسنة أكثر من أن تحصى وكان سيفا على أهل البدع، توفي ببلده مرابطا سنة 429 تسع وعشرين وأربعمائة وقارب السبعين. 558- أبو إسحاق إبراهيم بن حسن التونسي 1: إمام جليل فاضل صالح منقبض متبتل، عليه تفقه جماعة من الإفريقيين، وله شروح حسنة، وتعاليق مستعملة متنافس فيها على كتاب ابن المواز والمدونة، وفيه يقول عبد الجليل الديباجي: حاز الشريفين من علم ومن عمل ... وقلما يتأتى العلم والعلم وقد وقع له محنة عجيبة بسبب إفتائه بالحق، وإن الشيعة فرقتان غلاة زنادقة تحل دماؤهم، ومؤمنون معصوموا الدم يحل نكاحهم وهم من يفضل عليا على أبي بكر مخالفا في ذلك رأي العلماء والفكر العام من العام حيث تألبوه ضده، وألزموه أن يقر على نفسه بالخطأ، والرجوع عن فتواه في المنبر بحضور الجم الغفير، ففعل. انظر تفضيل ذلك في "المدارك" وغيرها توفي سنة 432 اثنين وثلاثين وأربعمائة. 559- أبو القاسم المهلب بن أحمد بن أسد بن أبي صفرة التميمي 2: سكن المرية من الراسخين في العلم، المتفننين في الفقه والحديث والنظر،   1 أبو إسحاق إبراهيم بن حسن التونسي: الديباج المذهب "88/ 89". 2 أبو القاسم المهلب بن أحمد بن أسد بن أبي صفرة التميمي: الوافي بالوفيات "26/ 117"، والصلة ص"567"، والديباج المذهب ص"368". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 240 صحب الأصيلي، وتفقه معه، وكان صهره، ورحل، فسمع من شيوخ الأندلس والقيروان والمشرق. قال ابن الحذاء: كان أذهن من لقيت وأفهمهم وأفصحهم، وقال أبو الأصبع: به حيي كتاب البخاري بالأندلس، له كتاب "التصحيح في اختصار الصحيح" وعلق عليه شرحا حسنا مفيدا. توفي سنة 433 ثلاث وثلاثين وأربعمائة. 560- أبو بكر أحمد بن عبد الرحمن بن عبد الله الخولاني القيرواني من الطبقة الثانية من أهل أفريقية شيخ فقهائها حافظ المذهب وزعيمه، حاز الذكر، ورياسة الدين مع صاحبه أبي عمران الفاسي حتى لم يكن لأحد معهما في المغرب اسم يعرف، وتفقه عليهما الخلق الكثير، توفي سنة 432 اثنين وثلاثين وأربعمائة. 561- أبو ذر عبد بن أحمد بن محمد الهروي 1: روى صحيح البخاري أخذ عنه الإمام الباجي وغيره، وروايته أتقن الروايات، وله كتابه المخرج على الصحيحين وغيره، وقد أخذ فقه مالك عن ابن القصار وأبي سعد الأبهري، وأخذ عن الباقلاني وابن فورك حظا من السنة، وله الرحلة والواسعة وجاور الحرمين إلى أن مات ناشرا للعلم. وقد سمع الحديث من الدارقطني والإمام الحاكم وأبي إسحاق المستملي وأبي محمد الحموي، وأبي الهيثم السرخسي، وغيرهم، وروى عنه أعلام كثيرون توفي سنة 435 خمس وثلاثين وأربعمائة عن تسع وسبعين سنة.   1 أبو ذر عبد بن أحمد بن محمد الهروي: أبو ذر، ابن السماك، الخراساني، المالكي، الهروي، الأنصاري، ولد سنة 255، مات سنة 434 أو 435: فهرس الفهارس "1/ 157، 2/ 610"، المشتبه "486"، الأعلام "3/ 269"، معجم المؤلفين "5/ 65، 66"، التنكيل "15/ 336"، التقييد "2/ 170"، طبقات الحفاظ ص"425"، نسيم الرياض "1/ 431، 233"، التمهيد "6/ 64"، سير النبلاء "17/ 554"، تاريخ بغداد "11/ 141". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 241 562- أبو محمد مكي بن أبي طالب 1: واسمه محمد، ويقال: حموش بن مختار القيرواني نزيل قرطبة الإمام المقرئ الفقيه الأديب المتفنن في القراءات والتفسير اللغوي النحوي الراوية، ولي الشورى وصنف تصانيف جليلة في علم القرآن ومن أشهر تصانيفه الهداية في التفسير، والكشف في وجوه القراءات، واختصار الحجة للفارسي، وكتاب إعراب القرآن، وكتاب الإيضاح في ناسخه ومنسوخه، وكتاب المأثور عن مالك في الأحكام والتفسير، والتبصرة، والموجز، واختصار أحكام القرآن، والإيجاز واللمع في الإعراب، وانتخاب نظم القرآن للجرجاني، والواعي في الفرائض، قال عياض: وأخبرني شيخنا أبو إسحاق بن جعفر أنه له تصنيفا في الفقه. توفي سنة 437 سبع وثلاثين وأربعمائة وقد نيف عن الثمانين. 563- أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد الحضرمي 2: المعروف باللبيدي مشهور من علماء أفريقية ومؤلفيها، وجه أبو الحسن القابسي لتفقيه أهل المهدية، فحاز رياسة العلم، وألف كتابا جامعا في المذهب أزيد من مائتي جزء كبار في مسائل المدونة وبسطها والتفريع عليها وزيادات الأمهات، ونوادر الروايات، واختصر المدونة، سماه الملخص، وله أخبار شيخه أبي إسحاق الجبنياني وكان شاعرا محسنا توفي سنة 440 أربعين وأربعمائة.   1 أبو محمد مكي بن أبي طالب واسمه محمد ويقال: حموش بن مختار القيرواني: أبو محمد، القيس القرطبي القيرواني، مات سنة 437: نسيم الرياض "3/ 386، 1/ 138"، المعين ص"1408"، إفادة النصيح ص"15"، وفيات الأعيان "5/ 274". 2 أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد الحضرمي: المعروف باللبيدي: الديباج المذهب ص"152". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 242 564- أبو سعيد أو أبو القاسم خلف بن أبي القاسم الأزدي 1: المعروف بالبراذعي من كبار أصحاب أبي محمد بن أبي زيد والقابسي، ومن حفاظ المذهب له تآليف، منها كتاب التهذيب مختصر المدونة تبع فيه طريقة ابن أبي زيد إلا أنه ساقه على نسق المدونة، وحذف ما زاده ابن أبي زيد، وقد حصل عليه الإقبال شرقا وغربا دراسة وشرحا، وتعليقا واختصارا من أئمة المالكية بالأندلس والمغرب، وتركوا به المدونة ومختصراتها، وتشغل دورا مهما قبل ظهور مختصرا ابن الحاجب الفرعي، وقد انتقد عليه عبد الحق الإشبيلي أشياء أحالها في الاختصار عن معناها. قال عياض: وهو مقلد في ذلك لشيخه ابن أبي زيد، فله وقع الغلط، لكن هذا لا يدفع الاعتراض عنه، ولا يخففه كما هو معلوم. وله الشرح والتمامات من مسائل المدونة، واختصار الواضحة، ثم لفظته القيروان إلى صقلية لمناقضته لابن أبي زيد، أو لكونه من شيعة العبيديين، وفيها اشتهرت كتبه. قال عياض: لم تبلغني وفاته، ولكن ذكره بعد اللبيدي وطبقته، فهو من الطبعة الثامنة، وذكر من "معالم الإيمان" أنه مات في صقلية أو القيروان وقد وقفت على نسخة عتيقة من التهذيب ذكر البراذعي أولها أنه روى المدونة عن أبي بكر محمد بن أبي عقبة عن جبلة بن حمود عن سحنون، وأنه فرغ من تأليفه سنة 372 اثنين وسبعين وثلاثمائة، وهذه النسخة من أحباس خزانة قسنطينة أو الجزائر.   1 أبو سعيد أو أبو القاسم خلف بن أبي القاسم الأزدي "البراذعي": أبو القاسم، الأزدي القرطبي الأندلسي، ولد سنة 325، مات سنة 393: الوافي بالوفيات "13/ 364"، تاريخ علماء الأندلس "1/ 136"، شذرات "3/ 144"، طبقات القراء "1/ 272"، سير النبلاء "17/ 113، 241"، الأعلام "12/ 311"، معجم المؤلفين "4/ 107 والحاشية". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 243 565- خلف بن مسلمة بن عبد الغفور 1: فقيه حافظ ألف كتاب الاستغناء في أدب القضاء والحكام، نحو خمسة عشر جزءا، كثير الفائدة والعلم. توفي نحو سنة 440 أربعين وأربعمائة. 566- أبو الحسن علي بن خلف بن بطال البكري 2: يعرف بابن اللحام أصلهم من قرطبة، وخرجته الفتنة إلى بلنسية، أخذ عن أبي عمر الطلمنكي وطبقته، وألف شرحا على البخاري مشهورا كبيرا يتنافس فيه كثير الفائدة. وله كتاب في الزهد والرقائق، وكان نبيلا جليلا متصوفا، توفي سنة 444 أربع وأربعين وأربعمائة. 567- محمد بن محمد بن مغيث الصدفي 3: من أهل طليطلة يكنى أبا بكر، روى عن محمد بن إبراهيم الخشني، وعبدوس بن محمد، وابن أبي زمنين، وأبي عمر الطلمنكي وغيرهم. وكان من جلة الفقهاء، وكبار العلماء، ومقدما في الشورى، ذكيا فطنا قال ابن مظاهر: أخبرني من سمع محمد بن عمر بن الفخار يقول مرات: ليس بالأندلس أبصر من محمد بن مغيث بالأحكام. وتوفي سنة 444 أربع وأربعين وأربعمائة. ا. هـ. من صلة ابن بشكوال.   1 خلف بن مسلمة بن عبد الغفور: الصلة "1/ 169"، الديباج المذهب ص"113". 2 أبو الحسن علي بن خلف بن بطال البكري "ابن اللحام": أبو الحسن، البكري القرطبي البلسي، مات سنة 444، أو 449: التاج المكلل ص"296" عنوان الدراية ص"260"، سير النبلاء "18/ 47"، معجم المؤلفين "7/ 87"، الحاشية، شجرة النور الزكية ص"115"، العبر "3/ 219"، دائرة الأعلمي "22/ 260". 3 محمد بن محمد بن مغيث الصدفي: من أهل طليطلة، الصلة "2/ 533". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 244 568- أبو بكر محمد بن عبد الله بن يونس التميمي 1: نسبا، الصقلي دارا كان فقيها إماما عالما فرضيا، ملازما للجهاد، موصوفا بالنجدة، مشهورا في المذهب المالكي. وهو أحد الأربعة الذين اعتمد الشيخ خليل ترجيحاتهم في مختصره. ألف كتابا جامعا لمسائل المدونة والنوادر، وعليه اعتمد من بعده وكان يسمى مصحف المذهب لصحة مسائله ووثوق صاحبه. توفي سنة 451 إحدى وخمسين وأربعمائة وقبره معلوم في مناستر بأفريقية زرته، وعليه بناء فخم2، وهو الذي يعني ابن عرفة بالصقلي. 569- عبد الله بن ياسين الجزولي 3: مؤسس دولة لمتونة المرابطين بالمغرب، وناشر الدين في الأصقاع الصحراوية، وفي السودان، وناشر المذهب المالكي، والمقيم لدولة عظمى على أنقاض دول كثيرة متلاشية بالمغرب، هذا الرجل من أفضل من يتزين بذكره، ويتحلى بترجمته كتابنا هذا؛ لأنه مجدد للإسلام في إفريقيا الشمالية، ومنها وصل إلى الأندلس، وعنه انتشر النور بعد الظلمة التي أحاطت بهذه الأقطار، وأدخل الحضارة والحياة الإسلامية العربية إلى سكان القفار، وكون إنسانا متمدنا مسلما بشوشا من قوم كانوا وحوشا، ولم شعث الإسلام بعد فتن وافتراق، وكون وحدة أماطت الذل والشقاق. أما أعماله السياسية، فهي مبنية على الاختصار في تاريخنا لإفريقيا الشمالية، كان الرجل من أفضل علماء المغرب الأقصى، وأكثرهم تمسكا بالدين، وقياما بالحق والأمر بالمعروف، وعلى يديه تم إسلام الصحراء والسودان، والذي أشار علي لمتونة به هو شيخه أبو عمران   1 أبو بكر بن عبد الله بن يونس التميمي: الديباج المذهب ص"274". 2 وقد ورد في ما غير حديث صحيح عن المعصوم صلى الله عليه وسلم النهي عن البناء فوق القبور، منها عن جابر رضي الله عنه رواه مسلم وغيره. 3 عبد الله بن ياسين الجزولي: المدارك "4/ 780، 781"، الاستقصا "2/ 7، 19". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 245 الفاسي، وفي "المسالك والممالك" لأبي عبيد البكري إن ما شذ فيه ابن ياسين المذكور أخذه الثلث من الأموال المختلطة، وزعم أن ذلك يطيب باقيها. قلت: وقد شطر سيدنا عمر مال بعض عماله قال البكري: وإذا دخل الرجل في دعوتهم، وتاب، أقاموا عليه الحدود تطهيرا له، فيضرب مائة حد الزنى وثمانين حد القذف، ومثلها حد الخمر، وربما زيد، ومن ثبت عليه القتل، قتل ولو جاء تائبا طائعا، ومن تخلف عن الجماعة، ضرب عشرين، ومن فاتته ركعة، ضرب خمسا في أشياء مثل هذه، وهي إن صحت مسائل سياسية إرهابية أكثر منها أحكاما فقهية؛ لأن الرجل كان يهذب أمة بلغت نهاية ما يتصور من التوحش والجفاء، فهو معذور في شذوذه، ولا يزيل التطرف في الإباحة، وخلع ربقة النظام الديني إلا التطرف في ضده، على أن الرجل نجح نجاحا باهرا في عمله العظيم وهداية تلك الأمة إلى النهج القويم. توفي مجاهدا في البرغواطيين سنة 451 إحدى وخمسين وأربعمائة، ودفن بكريفلة قرب الرباط، وقبره يزار الآن بعد ما مهد الصحراء والسودان والمغرب الأقصى. 570- أبو القاسم عبد الخالق بن عبد الوارث التميمي 1: المعروف بالسيوري، آخر طبقة من علماء أفريقية، وخاتمة أئمة القرويين أخذ عن أبي عمران الفاسي، وأبي بكر بن عبد الرحمن وطبقتهما، وكانت له عناية بالقراءات والحديث، وعلوم اللسان، وأصول الفقه وغيرها. أفرد نفسه للدرس، فانتفع به عالم كبير كان من الحفاظ المعدودين يحفظ المدونة ودواوين المذهب حتى إن من ذكر له قولا غريبا يقول: هذا ليس في ديوان كذا ولا ديوان كذا يعدد أكثر الدواوين من كتب المذهب والمخالفين، وانعدمت   1 أبو القاسم عبد الخالق بن عبد الوارث التميمي "السيوري": الديباج المذهب ص"158". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 246 المدونة يوما من القيروان، فأملاها من حفظه. وكان له ورع شديد، فما كان يأكل ما فيه شبهة، ولما هجم العرب، وخربوا القيروان، واختلطت الأموال بالحرام، ترك أكل اللحم إلا من وحش، واحتذاء النعل إلا من جلد وحش، والكتابة والفتوى إلا في رق وحش، أورق قديم كذا ذكر في "معالم الإيمان" وهذا يدل على عدم وجود الكاغد إذ ذاك مع أنه اخترع في المشرق أيام الرشيد قبل ذلك فعله لم يكن يوجد في أفريقيا لقلة المواصلة، ولهذا لم يعرف له تأليف، وإنما يوجد كراسة تعليق على المدونة، وأما التعليق المنسوب إليه عليها، فإنما كتبه أصحابه عن درسه، ونسبوه إليه، وقد خالف مالكا في بعض المسائل اجتهادا منه. منها جنسية القمح والشعير ألقى يوما لسنور لقمتين إحداهما: قمح، والأخرى: شعير، فشم الشعير وتركها، وأكل القمح، فقال: عجبا حتى الحيوان فرق بين الجنسين، وخالفه في التدمية إذ لم يذكر فيها أثر دم أو قيء، فلم يعول عليها. وقال بخيار المجلس لما قام عنده من الأدلة على رجحان قول المخالف، فحلف بالمشي إلا مكة أن لا يفتي بقول مالك فيها جميعا. توفي سنة ستين وأربعمائة. 571- أبو عمر أحمد بن محمد بن القطان 1: مفتي قرطبة دارت الفتيا عليه وعلى ابن عتاب، كان متفننا فقيها نظارا أحفظ الناس للمدونة والمستخرجة، وأبصر الناس بالتهدي إلى مكنونهما، قائما بتغيير المنكر، وكسر آلات اللهو. وتوفي بباجة سنة 460 ستين وأربعمائة. 572- أبو عبد الله محمد بن عتاب 2: شيخ المفتين بقرطبة الإمام الجليل، المتصرف في كل باب من أبواب العلم،   1 أبو عمر أحمد بن محمد بن القطان مفتي قرطبة: شذرات الذهب "3/ 308". 2 أبو عبد الله محمد بن عتاب: أبو عبد الله، الجزامي الأندلسي، توفي سنة 402: سير النبلاء "18/ 328"، نسيم الرياض، المعين ص"1465"، الوافي بالوفيات "4/ 79"، العبر "3/ 250"، بغية الملتمس ص"115". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 247 الحافظ النظار، البصير بالأحكام والعقود والحديث على سنن أهل الفضل، جزل الرأي، حصيف العقل على منهاج السلف، طلب للقضاء في بلده وغيرها. توفي سنة 463 ثلاث وستين وأربعمائة عن نيف وثمانين. 573- أبو عمر يوسف بن عمر بن عبد البر 1: النمري بفتح الميم نسبة إلى النمرين قاسط بكسرها شيخ علماء الأندلس، وكبير محدثيها في وقته، وأحفظ من كان فيها للسنة، وفاق فيها من تقدمه، وعظم شأنه بها تفقه علي بن المكوي، وابن الفرضي وغيرهما، وأخذ عنه عالم كثير كأبي عبد الله الحميدي، وأبي علي الغساني وغيرهما. قال الباجي: إنه أحفظ أهل المغرب، لم يكن بالأندلس مثله، له كتاب "التمهيد" على الموطأ لم يتقدمه أحمد بمثله في عشرين مجلدا، قال ابن حزم: لا أعلم في الكلام على فقه الحديث مثله، فكيف أحسن منه. وهو مرتب على أسماء شيوخ مالك على حروف المعجم، وله كتاب الاستذكار بمذاهب علماء الأمصار، فيما تضمنه الموطأ من معاني الرأي والآثار شرحها على نسق أبوابها، وكتاب التقصي لحديث الموطأ، وكتاب الإنباه على قبائل الرواة، وكتاب القصد والأمم في أنساب العرب والعجم، وكتاب أسماء المعروفين بالكني في سبعة أجزاء، والاكتفاء في القراءات، وكتاب اختصار التمييز لمسلم، وكتاب الإنصاف فيما في بسم الله من الخلاف، انتصر فيه لمذهب الشافعي بأدلة كثيرة، وزيف أدلة المالكية، وهو عندي في كراستين، واختصار تاريخ أحمد بن سعيد، والإشراف في الفرائض، وله كتاب الاستيعاب مطبوع،   1 أبو عمر يوسف بن عمر بن عبد البر النمير بن قاسط: الديباج المذهب ص"357"، وسير النبلاء "11/ 181"، ووفيات الأعيان "2/ 458"، وبغية الملتمس ص"476"، وجذوة المقتبس ص"344"، والبداية "12/ 104"، وتذكرة الحفاظ "3/ 306"، والشذرات "3/ 314". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 248 وكتاب الكافي في الفقه المالكي، وكتاب جامع بيان العلم وفضله قد طبع مختصره1 وله كتب كثيرة في فنون عدة كان موفقا في التأليف، معانا عليه، وكان مستقل الفكر، بعيدا عن الجمود، مبغضا للتقليد، ناصرا للسنة، تعرب عن ذلك كتبه النافعة، جال في غرب الأندلس وشرقها، وتولى قضاء لشبونة وهي عاصمة البرتغال الآن "أجبوه" وشنترين، وسكن دانية وبلنسية وشاطبة. وبها توفي سنة 463 ثلاث وستين وأربعمائة ربيع الأخير عن خمس وتسعين سنة في السنة التي توفي فيها حافظ المشرق أبو بكر أحمد بن علي البغدادي، وقد رثى نفسه قبل موته بقوله: تذكرت من يبكي على مداوما ... فلم ألف إلا العلم بالدين والخبر علوم كتاب الله والسنن التي ... أتت عن رسول الله في صحة الأثر وعلم الألى قرن فقرن وفهم ما ... له اختلفوا في العلم بالرأي والنظر فابن عبد البر كان من المجتهدين لزهرة الفقه والاجتهاد والأثر. رحمه الله. قال أبو محمد بن حزم: وممن أدركنا من أهل العلم على الصفة التي من بلغها استحق الاعتداد به في الاختلاف مسعود بن سليمان، ويوسف بن محمد بن عبد البر نقله في "إعلام الموقعين" عدد 30 من السفر الأول. 574- أبو حفص عمر بن عبد النور 2: المعروف بالحكار الصقلي عالم فاضل، نظار محقق، حسن الكلام والتأليف، أديب شاعر مجيد، له على المدونة شرح كبير نحو ثلاثمائة جزء، وانتقد على التونسي ألف مسألة واختصر كتاب التمامات ذكره في "المدارك" ولم يذكر له وفاة.   1 وطبع الأصل أيضا في مصر بالمطبعة المنيرية. 2 أبو حفص عمر بن عبد النور الحكار: المدارك "4/ 800". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 249 575- عبد الحق بن محمد بن هارون السهمي 1: القرشي أصله من صقلية، ورحل للمشرق مرتين، له كتاب الاستدراك على تهذيب البراذعي، والنكت والفروق لمسائل المدونة، توفي بالإسكندرية سنة 466 ست وستين وأربعمائة، من كلامه: أرى فتن الدنيا تزيد وأهلها ... يخوضون بالأهواء في غمرة الجهل فما إن ترى من مخلص ذي بصيرة ... وما إن ترى من صادق القول والفعل فيا سوء حالي حين أصبحت فارغا ... ولم ادخر زادا وما زلت في شغل 576- أبو الحسن علي بن محمد الربعي المعروف باللخمي 2: وإنما هو ابن بنت اللخمي، أصله من القيروان، ونزل صفاقص بسبب الفتنة، تفقه بابن محرز والتونسي والسيوري وغيرهم، وأخذ عنه المازري، وأبو الفضل بن النحوي وغيرهما، وكان متفننا في علوم الأدب والحديث والفقه، حسن الفهم، جيد الفقه والنظر، أبعد الناس صيتا في بلده، وبقي بعد أصحابه، فحاز رياسة إفريقية جملة، وصارت فتاويه كل مطار، مشهورا بالفضل وحسن الخلف، له تعليق على المدونة شهر بالتبصرة، حسن مفيد، لكن نقل المعيار عن   1 عبد الحق بن محمد بن هارون السهمي القرشي: المدارك "4/ 774". 2 أبو الحسن علي بن محمد الربعي "اللخمي": من القيروان، الديباج المذهب ص"203"، ومعالم الأيمان "3/ 246"، والحلل السندسية ص"143". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 250 المقري أن اللخمي لم يحرره في حياته، فكان الشيوخ لا يستجيزون النقل منه كما يأتي في آخر الكتاب غير أنني رأيت في "جذوة الاقتباس" أن ابن النحوي لما أخذ عنه، طلب منه تبصرته، فقال له: تريد أن تحمل علمي على كفك إلى المغرب، فهذا يدل على تحريره لها، وأخذهم لها عنهم في حياته، وله اختيارات خالف فيها من تقدمه. قال في "المدارك": وربما اتبع نظره، فخالف المذهب فيما ترجح عنده، فخرجت اختياراته في الكثير عن قواعد المذهب. ا. هـ. وقد ضرب به المثل كما قيل: لقد هتكت قلبي سهام جفونها ... كما هتك اللخمي مذهب مالك واللخمي أحد الأئمة الأربعة المعتمدة ترجيحاتهم في مختصر خليل حتى في اختياره من عنده رغما عما قاله عياض. توفي بصفاقص سنة 478 ثمان وسبعين وأربعمائة هكذا في الحطاب أول شرح المختصر، وفي "معالم الإيمان" وأما ما في "الديباج" من أنه توفي سنة ثمان وتسعين فلعله تصحيف. 577- أبو محمد عبد الحميد بن محمد المقري المعروف بابن الصائغ 1: قيرواني، سكن سوسة أدرك صغيرا أبا بكر بن عبد الرحمن، وتفقه بالعطار وابن محرز والسيوري والتونسي وغيرهم، كان فقيها نبيلا فهما فاضلا أصوليا زاهدا نظارا، جيد الفقه، قوي العارضة، محققا له تعليق على المدونة أكمل به الكتب التي بقيت على التونسي، وبه تفقه المازري وغيره وأصحابه يفضلونه على اللخمي قرينه تفضيلا كثيرا. وأفتى في المهدية زمن قضاء ابن سعلان شرط ذلك عند توليه القضاء، فانتفع الناس به، وجرت عليه محنة حيث سجن تميم بن المعز ولده حتى أعطي مالا لفدائه باع فيه كتبه، فلذلك انقبض عن الفتيا، ورجع إلى سوسة ملازما بيته ستة أعوام لا ينتفع به أحد إلى أن احتل   1 أبو محمد عبد الحميد بن محمد المقري: المعروف بابن الصائع، الديباج المذهب ص"159". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 251 العدو المهدية، وأهين تميم، عند ذلك عاد عبد الحميد إلى الظهور، قاله في "المدارك" وإني لأعجب من انبساطه لا من انقباضه، ولقد فسدت أحوال وأخلاق ذلك الزمان، ولذلك كانت دولة أفريقيا في اضمحلال حيث صارت أفكار أكابر علمائها وأعمال أمرائها إلى ما سمعت. توفي المترجم سنة ست وثمانين وأربعمائة 486. 578- أبو الوليد سليمان بن خلف الباجي 1: -باجة الأندلس- التجيبي القاضي رحل إلى المشرق، فحج أربع حجج، ومكث فيه نحو ثلاثة عشر عاما في بغداد والموصل والشام والحجاز وغيرها، ودرس في كثير من عواصمها، وأخذ عن أبي ذر والخطيب البغدادي وغيرهما، ورجع للأندلس بعلم كثير، ألف تآليف طارت بها الركبان، وحصل بها على الشهرة واتساع الحال بعد ضيقه، فقد كان يؤاجر نفسه ببغداد على حراسة درب هناك، ولما رجع للأندلس كان يضرب ورق الذهب، ويعقد الوثائق، وكان يخرج للإقراء وبيده المطرقة التي يخدم بها، ثم ولي القضاء في مدن هي دون قدره. قال فيه ابن العربي في "القواصم": إن الله تدارك الأمة به وبالأصيلي حيث رحلوا وأفادوا وجاءوا بلباب العلم، فرشوا على القلوب الميتة، وعطروا الأنفاس الذفرة، وله تآليف منها، الاستيفاء على الموطأ لا يدرك ما فيه إلا من بلغ درجته، لم يكمل، وكتاب المنتقى عليها أيضا مطبوع، وله اختصاره واختصره أيضا في كتاب الإيماء قدر ربعه، واختصر المدونة وشرحها بشرح لم يتم، وله   1 أبو الوليد سليمان بن خلف الباجي التجيبي القاضي: أبو الوليد، الباجي، التجيبي القرطبي، ولد سنة 403، وقتل سنة 470: نسيم الرياض "1/ 233"، طبقات الحفاظ ص"440"، المعين ص"1503"، الأنساب "2/ 14"، فوات الوفيات "2/ 64"، والوافي بالوفيات "15/ 372"، الصلة "1/ 187"، وفيات الأعيان "2/ 142"، العبر "3/ 280"، البداية والنهاية "12/ 122"، سير النبلاء "18/ 535". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 252 كتاب في الخلافيات لم يتم، ومختصر المختصر في مسائل المدونة، وكتاب في التعديل والتجريح على صحيح البخاري، وكتابان في الأصول، وكتبه كثيرة مفيدة كما في "المدارك" وهو الذي تصدى لمناظرة ابن حزم الظاهري بعدما عجز أهل الأندلس عنه، وتبعه كثير على رأيه فأفحمه. وقد امتحن لما صدر منه القول بأن النبي صلى الله عليه وسلم كتب تمسكا بظاهر بعض الأحاديث، فعابوا عليه وكفروه. وألف رسالة في ذلك بأن بها علمه وعذره، وقبله منه علماء جلة وإن كان القوم بعدم الكتابة أصوب ومذهب الجمهور، مولده سنة 403 ثلاث وأربعمائة، وتوفي سنة 494 أربع وتسعين وأربعمائة. وفي "المدارك" سنة أربع وسبعين بتقديم السين ويؤيد صحتها ما قال: إنه جاء إلى المرية سفيرا بين رؤساء الأندلس يولفهم على نصرة الإسلام، ويروم جمع كلمتهم مع جنود ملوك المغرب المرابطين على ذلك، فتوفي قبل تمام غرضه. وفي سنة 494 أربع وتسعين كابن ابن تاشفين استأصل جل رؤساء الأندلس كما يعلم من مراجعة التاريخ. 579- أبو عبد الله محمد بن أبي نصر الأزدي 1: الحميدي الأندلسي الميورقي أصله من قرطبة إمام جليل أخذ عن ابن حزم، وابن عبد البر وغيرهما ورحل للمشرق فحج، ودخل الشام ومصر والعراق، واستوطن بغداد فظهر نبله وعلمه وإتقانه وورعه ونزاهته، له كتاب "الجمع بين الصحيحين" وتاريخ الأندلس "جذوة المقتبس" في سفر أملاه من حفظه. توفي سنة 488 ثمان وثمانين وأربعمائة عن نحو سبعين سنة والحميدي مصغر نسبة إلى جدة حميد.   1 أبو عبد الله محمد بن أبي نصر الأزدي الحميدي الأندلسي الميورقي: وفيات الأعيان "4/ 282"، وتذكرة الحفاظ ص"1218"، ونفح الطيب "2/ 112"، والصلة ص"530". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 253 580- أبو علي الحسين بن محمد بن فيره 1: ابن حيوان الصدفي المعروف بابن سكره السرقسطي إمام عصره ووحيد دهره، وآخر أئمة الأندلس من نوعه، حافظ للحديث وأسماء رجاله، إمام في الفقه قرأ على أبي عمرو الداني، ورحل للعراق، فأخذ عن أعلامه كأبي بكر الشاشي، وعلق عنه تعليقته الكبرى وأقام هناك خمس سنين، وسمع من ابن عبد البر والباجي والدولابي ونظراء هؤلاء بالأندلس ومصر والمشرق، وسمع من الحميدي السابق وطبقته وأبي المعالي والطرسوشي، وخلق كثير، وكان كثير الفوائد، غزير العلم، وسمع منه خلق كثير ببغداد والمغرب، واستقر بمرسية، فرحل أناس إليه من الأقطار قال هو يوما لبعض الناس: خذ الصحيح، واذكر أي متن أذكر لك سنده أو أي سند أذكر لك متنه. سمع القاضي عياض، واعتمده في الشفاء وغيرها، وأخذ عنه صهره المتولي لشئونه أبو عمران موسى بن سعادة وعلى نسخته وعلى نسخته صحح وقابل النسخة المسماة في المغرب بالشيحة كما يأتي في ترجمة أبي عمران، كما أجاز أبا طاهر السلفي وابن بشكوال وغيرهم ولد سنة 452 اثنين وخمسين وأربعمائة، وقلد القضاء بطلب من أهل مرسية، فأجاد السيرة، وأقام الحق إلى أن عزل نفسه واختفى، فلم يوقف له على أثر، وفي "المنح البادية" وغيرها أنه توفى سنة 514 أربع عشرة وخمسمائة زاد الخفاجي في سادس ربيع الأول في غزوة كنترة ويقال قنترة بالقاف، واستشهد فيها من المسلمين المتطوعة نحو عشرين ألفا ولم يقتل من العسكر أحد، وكانت على المسلمين.   1 أبو علي الحسين بن محمد بن فيره بن حيون الصدفي: فيره بكسر الفاء وضم الراء المشددة بعدها أصله الأسبان الحديد اسم لجده، وحيون فتح المهملة وضم الياء المثناة المشددة، وسكرة بضم السين المهملة وفتح الكاف مشددة، والصدفي قال شيخنا أبو العباس ابن سودج: بفتحتين نسبة إلى الصدف بفتح فكسر بن سهل وهي قبيلة من حمير كبيرة من خطه على نسخة الصلة لابن بشكوال. ا. هـ. مؤلف. نفح الطبيب "2/ 90"، وتذكرة الحفاظ ص"1253"، وتهذيب ابن عساكر "4/ 359". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 254 581- أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد القرطبي 1: زعيم الفقهاء بالأندلس والمغرب، المعروف بصحة النظر، ودقة الفقه، وجودة التأليف مطبوعا عليه، حافظ المذهب، له المفزع في المعضلات، وكانت الدراية أغلب عليه من الرواية من أخذه منها بالحظ الأوفر، له كتاب البيان والتحصيل لما في المستخرجة من التوجيه والتعليل من كتب المالكية الجليلة القدر المعتمدة عند كل من جاء بعده قال في أوله: ومن جمعه إلى كتابي المقدمات حصل على ما لا يسع جهله من أصول الديانات، وأحكم رد الفرع إلى أصله، وحصل على درجة من يجب تقليده إلخ واختصر المبسوطة، ولخص كتاب "مشكل الآثار" للطحاوي، وله أجزاء كثيرة في فنون مختلفة. تولى قضاء قرطبة، ثم استعفى، وأكب على التأليف، وكانت الرحلة إليه من الأقطار. أخذ عنه القاضي عياض وغيره، وهو أحد الأربعة المعتمد ترجيحهم في مختصر خليل، وذكر عبد الرحمن الغرياني في حاشية المدونة عن الزغبي عن ابن عرفة أنه لا يجوز لأحد أن يقف في مسألة على نص ابن رشيد، ويأخذ فيها بكلام اللخمي، وقد بحث معه الشيخ أحمد بابا السوداني في ترجمة الغرياني المذكور من "نيل الابتهاج" بأن خليلا المبين لما به الفتوى ذهب في مسائل على قول اللخمي مع وقوفه على خلاف ابن رشد فيها. فانظره فالقضية أغلبية لا كلية عند من لا قدرة له على النظر في الأدلة. توفي سنة 520 عشرين وخمسمائة رحمه الله.   1 أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشيد القرطبي: أبو الوليد، الفقيه، القاضي، الماهي، مات سنة 520: التكملة لوفيات النقلة "1/ 261"، والحاشية، إفادة التصحيح ص"63"، العنية ص"112". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 255 582- أبو بكر محمد بن الوليد الفهري الطرطوشي 1: يعرف بابن أبي رندقة2 نشأ بطرطوشة -بضم الطاءين- ورحل لطلب العلم في أقطار الأندلس وصحب أبا الوليد الباجي بسرقسطة وأخذ عنه مسائل الخلاف، وكان يميل إليها، وتفقه به، ثم رحل للمشرق، فدخل بغداد والبصرة، فأخذ عن أبي بكر الشاشي المستظهري وغيره، وسكن الشام مدة، ودرس بها، فبعد صيته وكان راضيا من الدنيا بالقليل لورعه، ثم سكن الإسكندرية. وتزوج امرأة موسرة وهبت له دارا سكن أعلاها، وجعل أسفلها مدرسة للطلبة، وكان نزوله بالإسكندرية بعد قتل بني عبيد لعلمائها، فنشر العلم بها، وأحيا معالمه بعد ما تعطلت دروسه، وكان يقول: إن سألني الله عن المقام بالإسكندرية مع ما هي عليه من تعطيل الجمعة وغير ذلك من المناكر التي كانت أيام العبيديين أقول له: وجدت قوما ضلالا، فكنت سبب هدايتهم. وهكذا ينبغي للعلماء، بل يجب عليهم القيام بهداية الخلق، ولا يجوز لهم الهجرة إلا إذا يئسوا الهداية، أو خافوا الفتنة على أنفسهم أو دينهم، وامتحنه العبيديون بإخراجه منها، وملازمة الفسطاط، وأن لا يأخذ عنه أحد، ثم ألف تواليف مهمة في الأصول ومسائل الخلاف، وله كتاب في البدع، وله سراج الملوك في السياسة. توفي بالإسكندرية سنة عشرين وخمسمائة 520.   1 أبو بكر محمد بن الوليد الفهري الطرطوشي "ابن أبي رندقه" من طرطوشة: أبو بكر، القرشي، الفهري الأندلسي، الطرطوشي، المغرب، مات بعد سنة 516: سير النبلاء "19/ 490"، المعين ص"1655"، الأنساب "19/ 69"، وفيات الأعيان "4/ 262"، التقييد "1/ 119"، ومعجم المؤلفين "12/ 96"، الأعلمي "27/ 132". 2 رندقة بفتح الراء وسكون النون، وفتح الدال المهملة والقاف: لفظة إفرنجية. ابن خلكان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 256 583- أبو بكر محمد بن خلف بن سلمان بن فتحون الأوريولي 1: روى عن أبيه، وابن المفوز والصدفي، وأكثر عنه وعن غيرهم، اعتنى بالحديث كثيرا، له استلحاق على "الاستيعاب" في الصحابة في سفرين، واستمد منه صاحب "الإصابة" وغيره. توفي سنة 520 عشرين وخمسمائة 584- أبو عمران موسى بن سعادة 2: مولى سعيد بن نصر الذي هو مولى الناصر الأموي من أهل بلنسية، وخرج منها بعد "480" لما غلب عليها العدو، وتوطن مرسية. سمع أبا علي الصدفي، ولازمه وصاهره، تولى أشغاله، وله رحلة أخذ فيها عن الطرطوشي وغيره، وعني بالرواية، فكتب النسخة الشهيرة من صحيح البخاري رواية أبي ذر بخطه، ورواها عن صهره المذكور، قرأها عليه مرارا وهي في المغرب المسماة بالشيخة، رواها عن ابن أخيه محمد بن سعادة كما يأتي في ترجمته قال ابن الأبار: لم أقف لأبي عمران على خبر بعد عام 522 اثنين وعشرين وخمسمائة. قال ابن الأبار في جزء "التكملة" المطبوع في الجزائر عدد 40: قرأت بخط أحمد بن خلف المازري شهادته على أبي عمران بن سعادة بتنفيذ وصية صهره الصدفي في صدر رجب من السنة المذكورة.   1 أبو بكر بن خلف بن سليمان بن فتحون الأوريولي: أبو بكر، الأوريولي، مات سنة 519 أو سنة 520: حاشية الأنساب "1/ 386، 387"، المعجم للقضاعي ترجم 93 ص"110"، الوافي بالوفيات "3/ 45، 46"، بغية المتلمس ص"73، معجم المؤلفين "9/ 284". 2 أبو عمران موسى بن سعادة مولى سعيد بن نصر: أبو عمران، المرسى مات سنة 514: شجرة النور الزكية ص"148"، نفح الطيب "2، 221"، بغية الملتمس ص"456". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 257 585- أبو عبد الله محمد بن علي بن عمر التميمي المازري 1: الشهير بالإمام أصله من مازر بفتح الزاي وكسرها مدينة بصقلية، نزل المهدية سواحل أفريقية، فكان إماما لبلاد أفريقية، وهو آخر من اشتغل فيها بتحقيق العلم ورتبة الاجتهاد، ودقة النظر، أخذ عن اللخمي، وعبد الحميد السوسي المعروف بابن الصائغ وغيرهما. ومرض يوما فلم يجد من يداويه سوى طبيب يهودي، فأخذته الحمية واشتغل به، فكان يفزع إليه في الطب كما يفزع إليه في الفتيا. شرح صحيح مسلم، والبرهان لإمام الحرمين، والتلقين لعبد الوهاب في الفقه، وله كتاب "إيضاح المحصول في برهان الأصول" أخذ عنه عياض بالإجازة وغيره، ولم يكن في عصره للمالكية في أقطار الأرض أفقه، ولا أقوم لمذهبه منه. وله مشاكل في علوم كثيرة كالحساب والأدب، فكان أحد رجال الكمال إلى حسن الخلق، وأنس المجلس، وكان قلمه أبلغ من لسانه، وأناف سنة على الثمانين، وتوفي سنة 536 ست وثلاثين وخمسمائة، وهو أحد الأربعة الذين اعتمد خليل ترجيحهم، بل وأقوالهم، ومع إدراكه رتبة الاجتهاد، فلم يكن يفتي الناس إلا بالمشهور رحمه الله. 586- أبو بكر محمد بن عبد الله الشهير بابن العربي المعافري 2: الإشبيلي العلم المتبحر الحافظ كان أبوه من فقهاء إشبيلية، وله حظوة عند   1 أبو عبد الله محمد بن علي بن عمر التميمي المازري "الإمام": أبو عبد الله، التميمي، المازري، المالكي، مات سنة 536: التاج المكلل ص"116"، سير النبلاء "20/ 104"، الحاشية، معجم المؤلفين "11/ 32"، وفيات الأعيان "4/ 285"، المشتبه ص"565"، نسيم الرياض "4/ 202"، الأعلمي "27/ 67"، والوافي بالوفيات "4/ 151". 2 أبو بكر محمد بن عبد الله "ابن العربي المعافري الإشبيلي: وفيات الأعيان "4/ 296"، والديباج المذهب ص"281"، وتذكرة الحفاظ ص"1294"، والوافي "3/ 330"، وشذرات الذهب "4/ 141". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 258 ملوك بني عباد بها، فلما انقضت دولتهم رحل للمشرق بعدا من ولاة لمتونة المستولين بعدهم الذين حجزوا أملاكه، ويقال: إنه ذهب في سفارة من يوسف بن تاشفين اللمتوني بالبيعة لخليفة بغداد سنة خمس وثمانين وأربعمائة، فرحل معه ولده أبو بكر هذا وهو ابن سبع عشرة سنة بعدما تأدب، وقرأ القراءات، فلقي بمصر والشام وبغداد والحجاز أعلاما كبارا كالغزالي والطرطوشي، والصيرفي والأكفاني والشاشي وغيرهم، فاتسع في رواية الحديث والفقه والخلافيات والأصول والأدب والشعر، وكان معدودا من الشعراء المجيدين ومن شعره قوله: من لي بمن يثق الفؤاد بوده ... وإذا ترحل لم يزغ عن عهده يا بؤس نفسي من أخ لي باذل ... حسن الوفاء بقربه لا بعده يولي الصفاء بنطقه لا خلقه ... ويدس صابا في حلاوة شهده فلسانه يبدي جواهر عقده ... وجنانه تغلي مراجل حقده لا هم إني لا أطيق مراسه ... بك أستعيذ من الحسود وكيده ورجع من رحلته، فمات أبوه بالإسكندرية سنة 493 ثلاث وتسعين وأربعمائة. قال ابن بشكوال: وفيها عاد أبو بكر إلى الأندلس، فقدم بلده إشبيلية بعلم كثير لم يأت به أحد ممن كان له رحلة إلى المشرق؛ إذ كان متفننا في العلوم مستبحرا فيها، ثاقب الذهن، واسع الجمع، مقدما في المعارف كلها، متكلما في أنواعها، نافذا في جميعها، حريصا على نشرها مع أدب أخلاق، وكرم نفس، وثبات ود، فجلس للوعظ والتفسير، وتولى الشورى، ثم القضاء ببلده، فكان سيفا للحق صارما. وصنف تصانيف شهيرة، فشرح الموطأ شرحين، وله "عارضة الأحوذي شرح الترمذي" طبع في الهند وأحكام القرآن الكبرى، طبع بمصر وله الصغرى أيضا والقواصم والعواصم، والمحصول في أصول الفقه وتفسيره، بالغ ثمانين جزءا قال هو: إنه ألفه في عشرين سنة ثمانين ألف ورقة، وله كتاب السياسيات، وكتاب المسلسلات، وكتاب النيرين على الصحيحين، وكتاب مشكل القرآن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 259 والسنة، والإنصاف في مسائل الخلاف، عشرون مجلدا، وكتاب أعيان الأعيان، وغير ذلك من التآليف المفتخرة فهو من الطبقة العليا من مؤلفي الإسلام، وله جود البحر يقال: إنه بنى سور إشبيلية بلده بالآجر والجير من ماله الخاص. أخذ عنه القاضي عياض، والإمام السهيلي، وابن باذش، وابن خليل وابن النعمة، وابن حبيش، وغيرهم، وآخر من حدث عنه بسماع أبو بكر بن حسنون وبإجازة أبو الحسن الغافقي الشقوري نزيل قرطبة، وجاء في وفد البيعة لعبد المؤمن الموحدي لمراكش، فتوفى عند منصرفه منها قيل مسموما ولا يبعد ذلك إذا صح أنه بنى سور مدينته من ماله؛ لأن استبداد الملوك يأبى ذلك، ويورث الغيرة. ودفن بفاس وقبره بها مشهور إلى الآن، وذلك سنة 543 ثلاث وأربعين وخمسمائة وعمره خمس وسبعون سنة رحمه الله. وقال ابن خلدون: إن وفاته كانت سنة اثنين وأربعين، وذلك بعد ما قتل ولده عبد الله في هيعة دخول الموحدين إلى إشبيلية من غير قصد، فضاعف الله له الأجر، والأول أصح لأنه ذكره ابن بشكوال الذي لقيه وأخذ عنه، ونقله عنه ابن خلكان وسلمه. 587- أبو الفضل عياض -بكسر العين- بن موسى بن عياض 1 ابن عمرون بن موسى اليحصبي -بضم الصاد- قبيلة من حمير كان أصلهم من الأندلس وانتقلوا لفاس ثم سبتة، وجده عمرون هو الذي انتقل من فاس لسبتة، فهو سبتي الدار والمولد فاسي الأصل، كان مقدم وقته في الحديث والتفسير والأدب والشعر والأصول والفقه والعلوم العربية، مشاركا له الرحلة من الأقطار، وله الرياسة في بلده فتيا وقضاء، خطيبا بليغا شاعرا مجيدا كامل الأخلاق، حليما كريما صلبا في الحق، طلب العلم بالمغرب، ورحل للأندلس سنة سبع وخمسمائة، فأخذ عن أعلامها كأبي علي الصدفي، وابن رشد، وابن   1 أبو الفضل عياض بن موسى بن عياض بن عمرون بن موسى اليحصبي: وفيات الأعيان "3/ 483"، والديباج المذهب "168"، وتذكرة الحفاظ ص"1204"، والإحاطة "2/ 167"، وشذرات الذهب "4/ 138". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 260 العربي وغيرهما، واستقضى بقرطبة، وحمدت سيرته في ولايته كلها. وله تآليف حسنة شهيرة كالشفا في التعريف بحقوق المصطفى، طار ذكرها والإقبال عليها مشرقا ومغربا، وانتقد عليه فيها تساهله في أحاديثها كثيرا، وأجيب بأن ذلك من باب المناقب، قيل: وله فيها ما هو موضوع، ويظهر أنه لم ينقحها مع ما فيها من الإطناب. وقال ابن تيمية: فيه غلو وهو كتاب مع ذلك جليل القدر، عظيم الصيت في الإسلام، ولا يخلو كبير من قادح، قد سلموا له مزية السبق فيه، واستفاد منه الناس مشرقا ومغربا، وله غيرها في الفقه والحديث واللغة وغيرها كمشارقه على الصحيحين، والموطأ، وله شرح مسلم، وكتاب التنبيهات على المدونة، وهو من كتب المالكية المعتمدة إلى الآن، وله كتاب ترتيب المدارك في طبقات أصحاب مالك نقلنا عنه كثيرا في هذا الكتاب تراجم المالكية مباشرة وبواسطة، وقواعد الإسلام وغيرها من تآليف جليلة القدر، عظيمة الخطر. ومن الناس من يعتبره رأس علماء المغرب في الإسلام صدق علمه شهرته داخل المغرب وخارجه، أصابته محنة سياسية بيناها في تاريخنا فراجعها، فغرب من سبتة إلى مراكش فتوفي بها سنة 544 أربع وأربعين وخمسمائة عن ثمان وأربعين سنة، وقبره بها مشهور رحمه الله. 588- عبد الحق بن غالب بن عبد الرحمن بن عطية المحاربي الغرناطي 1: قاضي المرية بالأندلس، له تفسير وكان مشاركا في الفقه والأحكام والحديث والأدب. توفي سنة 546 ست وأربعين وخمسمائة، وفي الصلة سنة   1 عبد الحق بن غالب بن عبد الرحمن بن عطية المحاربي الغرناطي "قاضي المرية": أبو محمد، المحابي، ولد سنة 481، مات سنة 542، وقيل سنة 446: التكملة لوفيات النقلة "1/ 122"، والمعين رقم "1732"، سير النبلاء "19/ 587"، بغية الملتمس ص"389"، الإحاطة في أخبار غرناطة "3/ 539"، الأعلمي "21/ 55"، نفح الطيب "2/ 526". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 261 اثنين وأربعين. 589- عمر بن محمد بن واجب القيسي البلنسي 1: صاحب الأحكام تفقه بأبي محمد بن سعيد، قاضي بلنسية، ولازمه طويلا، وعرض تهذيب البراذعي أربعة عشرة مرة، آخر حفاظ المسائل بشرق الأندلس، محسنا للفتوى، مقدما في الشورى، وأخذ عنه الفقه، ونوظر فيه مع تواضع ونزاهة غلب عليه الفقه دون الحديث. توفي سنة 557 سبع وخمسين وخمسمائة، وبيت بني واجب فيهم علماء كثيرون بالأندلس تجدهم في الصلة وفي ذيلها. 590- علي بن إسماعيل بن محمد بن عبد الله بن حرزهم 2: إمام فاس وعالمها، وصالحها ومتصوفها، وفقيهها ومحدثها، ومسندها الحافظ المدرس النفاع الزاهد الشيخ الواعظ، الدال على الله، المرشد لطريقه، غلب التصوف على فقهه وتبحره، فتاب على يده كثير، وتزهد على يده أمير الوقت، وكيف لا هو بنفسه خرج عن ماله لله لأخيه، فأبى أخوه من قبوله، فقال له: إن لم تقبله، تصدقت به على الجذمى، واقتدى في عمله بقوله عليه السلام لأبي طلحة الأنصاري لما تصدق ببستانه بيرحاء جعلها في الأقربين، وقد قال أبو مدين الغوث: كل ما كنت أسمعه من غير علي بن حرزهم لا أنتفع به، وما كنت أسمعه منه يتعلق بقلبي فأنتفع به، فسألته عن ذلك، فقال: إن الكلام إذا خرج عن صدق من القلب، صادف القلب، فانتفع به. قال: ولازمته، فانتفعت به وكذلك أبو عبد الله التاودي وغيرهما، وقد كثرت أتباعه وتلاميذه، وانتفع الخلق به وبتهذيبه وإصلاحه القلوب. توفي سنة 559 تسع وخمسين وخمسمائة.   1 عمر بن محمد بن واجب القيس البلنسي: نيل الابتهاج ص"194". 2 علي بن إسماعيل بن محمد بن عبد الله بن حرزهم: نيل الابتهاج ص"198". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 262 591- أبو عبد الله محمد بن يوسف بن سعادة 1: مولى سعيد بن نصر مولى عبد الرحمن الناصر، الجامع بين العلم والرواية، والتفنن في المعارف، وكان مائلا إلى التصوف، مؤثرا له، حسن الهدي والسمت والوقار تاليًا لكتاب الله آناء الليل وأطراف النهار، كثير الخشوع في الصلاة، لا يفتر عنها دائما، له حظ من الصوم لا يزال عليه راتبا، سمع من أبي علي الصدفي، واختص به، وأكثر عنه، وإليه صارت دواوينه وأصوله العتاق وإسماع كتبه الصحاح لصهر كان بينهما، وألف كتاب "شجرة الوهم المترقية إلى ذروة الفهم" لم يسبق إلى مثله، وكانت عنده أيضا أصول حسان بخط عمه أبي عمران موسى مع الصحيحين بخط الصدفي في سفرين قال ابن عباد، ولم أر عند شيوخنا مثل كتبه في صحتها وإتقانها وجودتها، توفي أول يوم من سنة 566 ست وستين وخمسمائة وولد سنة 496. ست وتسعين وأربعمائة روى عن عمه أبي عمران موسى بن سعادة صاحب الرواية والنسخة الشهيرة المعتمدة المسماة بالشيخة، كانت من أحباس القرويين وهي بخط أبي عمران المذكور، عليها خط أبي علي الصدفي شاهد بأن أبا عمران قرأها عليه، وقد ضاع السدس الأول منها، قال في "نفخ الطيب": ونسخ صحيح البخاري ومسلم بخطه، وسمعهما على صهره أبي علي، وكانا أصلين لا يكاد يوجد في الصحة مثلهما فنسخة الشيخة ليست من قبيل الوجادة، بل رواية متصلة إلى الصدفي من طريق أبي عمران وولد أخيه المترجم معا إلى البخاري خلافا للتاجمعوعتني. 592- علي بن عبد الله المتيطي 2: وبه شهر نسب إلى قرية من أحواز الجزيرة الخضراء بالأندلس، وبها توطن قرأ بفاس، ومهر في كتاب الشروط والوثائق، وقد ألف الوثائق المشهورة التي تنسب إلى ناب في أحكام إشبيلية، وولي قضاء شريش، توفي سنة 570 سبعين   1 أبو عبد الله محمد بن يوسف بن سعادة مولى سعيد بن نصر مولى عبد الرحمن الناصر: نفح الطيب "2/ 158"، والتكملة ص"505". 2 علي بن عبد الله المتيطي: نيل الابتهاج ص"199". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 263 وخمسمائة. 593- أبو القاسم خلف بن عبد الملك بن مسعود بن موسى بن بشكوال 1: القرطبي إمام حافظ لا سيما في الحديث والتاريخ، له كتاب الغوامض والمبهمات في اثني عشر جزءا على نسق كتاب الخطيب البغدادي، وله كتاب "الصلة" نقلت عنه هنا كثيرا وهو مطبوع بأوروبا وغيره. توفي سنة 578 ثمان وسبعين وخمسمائة عن أربع وثمانين سنة. 494- أبو محمد عبد الحق بن عبد العزيز بن عبد الله الأزدي 2: الإشبيلي، ويعرف بابن الخراط نزل بجاية عند الفتنة الواقعة في إشبيلية على انقراض دولة لمتونة بها، فنشر علمه، وصنف، وولي الخطابة والإمامة بجامعها الأعظم. وكان فقيها حافظا عالما بالحديث وعلله ورجاله، زاهدا عابدا ناسكا ملازما للسنة، والتقلل من الدنيا مشاركا في فنون كثيرة كالأدب والشعر، صنف الأحكام الصغرى والكبرى والوسطى في أحاديث أصل الفقه؛ إذ كان في زمن الموحدين الذين ألزموا الناس بالاجتهاد، واتباع الظهر من الكتاب والسنة، وترك القياس، وقد استمد من كتاب أبي القاسم الزيدوني، وزاد عليه العلل كما ذكر ذلك في أول الأحكام، وقد سبقه إلى صنيعه أبو العباس بن أبي مروان   1 أبو القاسم خلف بن عبد الملك بن موسى بشكوال القرطبي: الديباج المذهب ص"114"، ووفيات الأعيان "2/ 240". 2 أبو محمد عبد الحق بن عبد العزيز بن عبد الله الأزدي الإشبيلي "ابن الخراط": أبو محمد، الأزدي، الإشبيلي، الأندلسي، الشهرة ابن الخراط، ولد سنة 510، مات سنة 581، وقيل سنة 582: عنوان الدراية ص"41"، التاج المكلل ص"161"، أربع رسائل "115، 116"، الديباج ص"175"، شذرات الذهب "4/ 271"، مرآة الجنان "3/ 422"، تذكرة "4/ 1350"، بغية الملتمس ص"178"، سير النبلاء "21/ 198"، الأعلام "3/ 281". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 264 الشهير بلبلة، فحظى عبد الحق بإقبال الخلق على أحكامه دونه، وقد تعقب عليه بعض أحاديثه حافظ المغرب أبو الحسن بن القطان بكتاب سماه "الوهم والإيهام" ولكن رد عليه كثيرا منها ابن المواق، ولعبد الحق كتب كثيرة؛ إذ كان محظوظا في التأليف، مبارك له فيه، فله كتاب تعقب فيه على تهذيب البراذعي أشياء أحالها في الاختصار عن معناها، وله كتب كثيرة في الحديث يطول سردها. انظرها في "الديباج". وعلى كل حال هو من الطبقة العليا في التصنيف المفيد، وأحكامه من الكتب التي ينبغي طبعها، ولا تغني عنها المصابيح ولا المشكاة، ولا ما ألف بعدهما، وقد ظفرت بنحو النصف من أول أحكامه وأظنها الوسطى بلغت إلى وسط كتاب الجهاد كتبت بإتقان، وتصحيح متين بخط مشرقي في سفر ضخم ذكر كاتبها آخرها أنها كملت عام 737 سبع وثلاثين وسبعمائة، وأن السفر الذي يليها أوله باب في التحصر وحفير الخندق، ولو ظفرت بالنصف الثاني لطبعتها. ولعله في الخزانة الخديوية بمصر، وعثرت على بعض أجزاء الصغرى في مكتبة مراكش الحبسية، وله كتب في الوعظ وآخر في اللغة معهم، وفي الأنساب وغيرها من الفنون. تولى القضاء لبني غانية في بجاية، ونالته محنة بعد احتلال الموحدين لها، وعصمه الله منهم؛ إذ كان المنصور نذر دمه فتوفى سنة 582 اثنين وثمانين وخمسمائة كما كان مرقوما على رخامة قبره، وشاهده صاحب "عنوان الدارية" عن سن يبلغ اثنين وسبعين رحمه الله. وأشهر من يسمى عبد الحق في المالكية المغاربة من أهل هذه الطبقة هذا لاشتهار كتبه وخصوصا الأحكام فإذا أطلق هذا الاسم، فإليه ينصرف، وتقدم لنا عبد الحق بن محمد بن هارون الصقلي، وهناك عبد الحق آخر أقل شهرة منهما، وهو عبد الحق بن غالب المحاربي الغرناطي وتقدم. 595- أحمد بن محمد بن أحمد الهلالي الشهير بابن المناصف الغرناطي: يكنى أبا جعفر توفي سنة 585 خمس وثمانين وخمسمائة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 265 596- أبو القاسم أحمد بن محمد بن خلف الحوفي 1: الإشبيلي أصله من حوف مصر بيت علم وعدالة، فقيه حافظ، ذاكر للمسائل، بصير بالشروط والتوثيق، فرضي ماهر، له في الفرائض تصانيف كبير ووسط ومختصر، وكل بلغ في الإجادة الغاية، استقضى بإشبيلية مرتين، فحمدت سيرته نزاهة وجزالة وشدة على أهل الشر، ويقال: إنه [ما] أخذ مرتبا على القضاء، بل كان يصطاد الحوت مرة في الأسبوع يقتات بثمنه حتى خلصه الله من القضاء توفي سنة 588 ثمان وثمانين وخمسمائة. 597- أبو محمد القاسم بن فيره بن أبي القاسم خلف بن أحمد الرعيني الشاطبي 2: الضرير المقرئ كان آية في القراءات والحديث واللغة وغيرها من الفنون. كان إذا قرئ عليه صحيح البخاري ومسلم والموطأ تصحح النسخ من فيه، ويملي النكت على المواضع التي تحتاج إليها وله نظم "حرز الأماني في القراءات" ألف بيت ومائة بيت وثلاثة وسبعون بيتا، أبدع فيها كل الإبداع، سواء من جهة الفن، أو من جهة الأسلوب والرموز التي لم يسبق إليها، وهي عمدة القراء في مشارق الأرض ومغاربها حتى أصبح حفظها قرينا لحفظ القرآن العظيم في مكاتب الإسلام، ومن حفظها وفهم رموزها حصل القراءات السبع من زمنه إلى الآن. سمع الحديث من أبي عبد الله محمد بن يوسف بن سعادة، وأبي الحسن علي بن هذيل وأقرانهما، وانتفع بالأخذ عنه عالم كبير في المشرق والمغرب. كان يجتنب فضول الكلام، ولا ينطق إلا فيما تدعو إليه ضرورة، ولا يجلس للإقراء إلا على وضوء على هيئة حسنة وتخشع واستكانة.   1 أبو القاسم أحمد بن محمد بن خلف الحوفي الإشبيلي: الديباج المذهب ص"54". 2 أبو محمد القاسم بن فيره بن أبي القاسم خلف بن أحمد الرعيني الشاطبي الضرير المقرئ: وفيات الأعيان "4/ 71"، والتكملة رقم "1973"، وغاية النهاية "2/ 20"، والديباج المذهب ص"224"، ومعجم الأدباء "16/ 293"، طبقات الشافعية "4/ 297". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 266 وكان يقول عن نفسه: إنه يحفظ وقر بعير من أوراق العلم. توفي بمصر سنة 590 تسعين وخمسمائة. 598- أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن رشد الحفيد 1: قاضي الجماعة بقرطبة روى عن أبيه أبي القاسم استظهر عليه الموطأ حفظا، وعن المازري وابن بشكوال وغيرهم، وأخذ الطب عن ابن جريول، وكانت الدراية أغلب عليه من الرواية، وله من معرفة الرواية ما يندر في غيره، وله المشاركة في الأصول والكلام ولم ينشأ بالأندلس مثله كمالا وعلما وفضلا، وعلى شرفه كان أشد الناس تواضعا مع شدة حرص على العلم قيل: لم يدع النظر إلا يوم وفاة والده وليلة بنائه بأهله. كثير التصنيف، سود فيما صنف أو ألف نحوا من عشرة آلاف ورقة، وكانت له الإمامة في علوم الأوائل دون أهل عصره يفزع إليه في الفتوى في الطب كالفقه مع العربية والأدب، حافظا لأشعار العرب، له بداية المجتهد المطبوعة المتداولة دالة على باع وكمال اطلاع على اختصارها وبدايته نهاية غيره، وكتاب الكليات في الطب، ومختصر المستصفى في الأصول، والضروري في العربية، تنيف تواليفه على الستين، محمود السيرة في القضاء، لم يصرف وجاهته عند الملوك في ترفيه حاله، بل في مصالح بلاده، ونالته محنة زمن يعقوب المنصور بسبب مهارته في العلوم الفلسفية حيث عادة أهل الأندلس إذاية من خاضها كائنا من كان، ولكن لم يلبث المنصور أن راجع فيه بصيرته، فقربه وأخذها عنه. توفي سنة 595 خمس وتسعين وخمسمائة عن خمس وسبعين سنة رحمه الله.   1 أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن رشد الحفيد قاضي الجماعة: أبو الوليد، الصلة "2/ 553"، قضاة الأندلس ص"111"، والتكملة "1/ 269"، والمعجب ص"442"، وشذرات الذهب "4/ 320". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 267 599- أبو محمد يسكر بن موسى الجورائي ثم الغفجومي 1: من قبيلة بتادلا الفاسي، أحد أشياخ المغرب في الدين والفضل، والزهد والورع والمجاهدة، والتقشف والإيثار، حامل لواء الفقه المالكي في وقته، وله حاشية على المدونة، غزير العلم، لا يتناول مما في أيدي الناس، يتحرى الحلال، فلا يأكل إلا من نتاج غنمه وبلده التي ورثها من أبيه. توفي سنة 598 ثمان وتسعين وخمسمائة. 600- أحمد بن هارون بن أحمد بن عات النفزي الشاطبي 2: من كبار الحفاظ الجامعين بين الفقه والحديث والأدب، وهو بالحديث أشهر متوسط الطبقة في حفظ فروع الفقه، أما الحديث، فيسرد المتون والأسانيد، عدل ثقة مأمون كان أهل شاطبة يفخرون به وبابن عبد البر؛ إذ كان على سنن الصالحين نزاهة ومتانة دين، وتقشفا وخشونة ملبس كان يستظهر عدة كتب. وقال ابن نذير: حضرته في الموطأ والبخاري يقرأ منهما كل يوم نحو عشرة أوراق من لفظه عرضا لا يتوقف في شيء من ذلك، مجيدا للنظم والنثر، مهيب وقور، له تصانيف. وفقد رحمه الله في وقعة العقاب بناحية جيان غازيا سنة 609 تسع وستمائة.   1 أبو محمد يسكر بن موسى الجورائي الغفجومي: نيل الابتهاج ص"160". 2 أحمد بن هارون بن أحمد بن عات النفزي الشاطبي: تذكرة الحفاظ ص"1389"، ونفح الطيب "2/ 601". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 268 601- أبو محمد عبد الله بن نجم بن شاش الجذامي السعدي 1: الفقيه الشهير صاحب "الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة" كتاب جليل فصيح العبارة صنفه على ترتيب وجيز الغزالي، وقد تسرقه طريقته، فيدخل بعض أقوال الشافعية في المذهب المالكي، ومع ذلك، فهو كتاب من أحسن ما صنف المالكية، وكان من أبناء الأمراء توفى مجاهدا في دمياط سنة 610 عشر وستمائة. 602- أبو ذر مصعب بن محمد بن مسعود الخشني 2: أصله من جيان بالأندلس، ويعرف بابن أبي ركب قاضي جيان، ثم استوطن فاس ورحل الناس إليه في طلب العلم، ولا سيما في الحديث والعربية. له شرح غريب سيرة ابن إسحاق وغيره، وكان على سنن السلف، توفي سنة 604 أربعمائة وستمائة. 603- أبو الحسن علي بن إسماعيل الأبياري 3: بفتح الهمزة وسكون الباء بعدها الإسكندري من الأئمة الأعلام، برع في   1 أبو محمد عبد الله بن نجم بن شاشي الجذامي السعدي الفقيه: التكملة للخندري "2" الترجمة "1677"، وفيات الأعيان "3/ 61، 62"، العبرة "5/ 61، 62"، دول الإسلام "2/ 90"، البداية النهاية "13/ 86"، الديباج المذهب "1/ 443"، عقد الجمان للعيني "17/ 399"، حسن المحاضرة "1/ 214"، شذرات الذهب "5/ 69"، شجرة النور "165". 2 أبو ذر مصعب بن مسعود الخشني "من جيان": أبو ذر، الخشني، إفادة النصيح "109"، المشتبه "217"، كتاب الصلة "2/ 700"، حاشية الإكمال "3/ 263". 3 أبو الحسن علي بن إسماعيل الأبياري الإسكندري، أبو الحسن، البياري الربعي، مات سنة 518: حاشية الإكمال "1/ 143"، دائرة الأعلمي "3/ 37"، تبصير المنتبه "1/ 34"، المشتبه ص"8". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 269 علوم كثيرة خصوصا الفقه والأصول، ومنهم من فضله فيه على الفخر الرازي، له كتاب "سفينة النجاة" على نسق الإحياء، فضلها بعض الفضلاء على الإحياء، وله تكملة حسنة على كتاب مخلوف الذي جمع فيه بين التبصرة والجامع لابن يونس والتعليقة لأبي إسحاق تدل على قوته في الفقه وأصوله. توفي سنة 616 ست عشرة وستمائة. 604- أبو الحسن علي بن عبد الملك بن يحيى الكتامي الحميدي 1: من أهل فاس يعرف بابن القطان قرطبي الأصل، شارح أحكام عبد الحق، والمتمم لتحقيق ما يتعلق بنقد أحاديثها والجواب عن بعض ما انتقده عبد الحق منها، وهو صاحب كتاب الإقناع في مسائل الإجماع، وكتاب أحكام النظر، وصاحب كتاب النزاع في القياس، وله مقالات في الأوزان وغيرها من أبصر الناس بالحديث، وأحفظهم لرجاله، وأشدهم به عناية مع تفنن ودراية. أخذ عن أبي ذر الخشني، وعن أبي عبد الله بن الفخار وأكثر عنه وغيرهما، وخدم السلطان بمراكش، ونال دنيا عريضة. وتوفي بسجلماسة قاضيها سنة 628 ثمان وعشرين وستمائة. 605- أبو عمرو عثمان بن أبي بكر المعروف بابن الحاجب 2: الرويني المصري الدمشقي ثم الإسكندري الكردي جمال الدين وكان أبوه حاجبا للملك عز الدين موسك الصلاحي، مشارك في العلوم العربية وأتقنها أي   1 أبو الحسن علي بن عبد الملك بن يحيى الكتامي الحميدي "من أهل ناسي": سير النبلاء "13/ 191"، وتذكرة الحفاظ "4/ 192، 193"، الابتهاج "200، 201". 2 أبو عمرو عثمان بن أبي بكر المعروف بابن الحاجب الرويني المصري: سير النبلاء "13/ 287"، ووفيات الأعيان "1/ 195"، وطبقات القراء "1/ 508"، وشذرات الذهب "5/ 381"، وبغية الوعاة "323". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 270 إتقان بدليل مصنفاته السائرة فيها سير الشعاع ككافيته في النحو، وشافيته في الصرف، وألف في القراءات والعروض وغيرها، والمختصرين له في الأصول، وبرع في مذهب مالك، وصنف فيه مختصره الشهير الذي نسخ ما تقدمه، وشغل دورا مهما وأقبل عليه الناس شرقا وغربا حفظا وشرحا إلى أن ظهر مختصر خليل، وأثنوا عليه ثناء جما منهم نصار الدين المشذالي البجائي، فهو أول من أدخله للمغرب، ورغبهم فيه، فشرحه ثلاثة من أعلام التونسيين في عصر واحد، وهم ابن راشد القفصي، وابن عبد السلام وابن هارون، لكن الأول هو الشارح الحقيقي على أنه استعان بابن دقيق العيد؛ لأنه شيخه، أما الأخيران، فإنما سارا في ضوء نبراسه، لكن أتقن بالشرح شرح ابن السلام الهواري، ثم شرحه بقرب التاريخ الشيخ خليل بمصر مستعينا بابن عبد السلام وصنيع ابن الحاجب في التأليف الذي هو الاختصار وتنافس فيه من بعده، واستحسنوه هو الذي كان سببا في هرم العلوم العربية التعقيد، وتطويل الشروح، وضياع وقت الطالب في المسألة الواحدة زمنا طويلا، ويأتي مزيد بسط لذلك. وابن الحاجب هو الذي مزج النحو بعلم البيان والمعقول، فزاد صعوبة أيضا، وكان حجة ثبتا ورعا ذا أخلاق عالية، ركنا من أركان العلم والعمل. توفي سنة 646 ست وأربعين وستمائة. 606- أبو محمد صالح الهسكوري 1: من أهل فاس بيتهم بيت صلاح وجلالة يضرب به المثل في العدالة، وبه مثل ابن عرفة للمبرز فيها لمزيد شهرته علما ودينا، أخذ عنه أبو الفضل راشد الوليدي وأبو إبراهيم الأعرج الورياغلي صاحب الطرر على المدونة وغيرهما. كان شيخ المغرب علما وعملا، له تقييد على الرسالة توفي سنة 653 ثلاث وخمسين وستمائة، ودفن بفاس وليس هو دفين آسفي، فإن هذا قرشي مخزومي، وقيل: أموي صميم أو مولى، وقيل: دكالي ماجري. ترجمة حفيده صاحب المنهج الواضح في تحقيق كرامات أبي محمد صالح، فالأول من رجال   1 أبو محمد صالح الهسكوري من أهل فاسي: أبو محمد، تنقيح المقال "5653"، جامع الرواة "1/ 404"، دائرة الأعلمي "20/ 155". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 271 العلم، والثاني من أهل التصوف والصلاح، فلا تغتر بما في "الديباج" توفي الثاني هذا سنة 631 إحدى وثلاثين وستمائة. 607- عبد الله بن عبد الرحمن بن عمر المعري 1: الأصل الشارمساحي المولد الإسكندري، ثم البغدادي بحر علم لا تدركه الدلاء، ولي تدريس المستنصرية ببغداد، وكان يحضره جميع المدرسين، وألقى بعض العلماء عليه مسألة من بيوع الآجال، فقال: أذكر فيهما ثمانين ألف وجه، فاستغرب ذلك فقهاء بغداد، فشرع يسرد عليهم إلى أن انتهى إلى مائتي وجه، فاستطالوها وأضربوا عنها، وأذعنوا لفضله وسعة علمه، له اختصار المدونة على وجه غريب سماه نظم الدرر طابق مسماه، وشرحه بشرحين، وكتاب الفوائد، وكتاب التعليق، وهذا في علم الخلاف، وشرح آداب النظر، وشرح الجلاب وغير ذلك. توفي سنة 669 تسع وستين وستمائة. 608- أبو محمد عبد العزيز بن إبراهيم التيمي القرشي 2: الشهير بابن بزيزة التونسي الإمام المشهور في الفقه والحديث والتفسير وأحد رجال المذهب الذين اعتمد خليل ترجيحهم في توضيحه، له الإسعاد في شرح الإرشاد، وشرح الأحكام الصغرى لعبد الحق، وله تفسير جمع فيه بين الزمخشري وابن عطية، وشرح التلقين، ومنهاج العارف، بين فيه أكثر المشكلات، ومختصره إيضاح السبيل إلى مناهج التأويل، توفي سنة 673 ثلاث وسبعين وستمائة.   1 عبد الله بن عبد الرحمن بن عمر المعري: نيل الابتهاج "178". 2 أبو محمد عبد الغزيز بن إبراهيم التميمي القرشي "ابن بزيز التونسي": أبو فارس، التميمي، القرشي، الشهرة ابن بزيزة، ولد سنة 616، مات سنة 662: تراجم المؤلفين التونسين "1/ 127". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 272 609- أبو الفضل راشد بن أبي راشد الوليدي 1: نسبة إلى بني وليد قبيلة قرب فاس الفاسي، إمام جليل فقها وعلما لم يكن في وقته أتبع للحق منه، لا تأخذه في الله لومة لائم، له كتاب الحلال والحرام، وطرر على المدونة، وله الفتاوى، أخذ عن أبي محمد صالح السابق وغيره، وأخذ عنه أبو الحسن الصغير وغيره. ومن كلامه في كتاب الحلال والحرام مما سمعه من أبي محمد عبد الله بن موسى الفشتالي: لا يجوز اليوم اتخاذ شيوخ لسلوك طريق المتصوفة أصلا، فإنهم يخوضون في فروعها، ويتركون شرط صحتها وهو باب التوبة، ولو وجدت تواليف القشيري والغزالي لألقيتها في البحر، ولأتمنى على الله أن أكون معهما في المحشر، بل مع ابن أبي زيد، بل مع أبي محمد يسكر، وكان يقرئ بفاس، فإذا رجع إلى بني وليد يحرث بيده، فيضع ابن يونس على رأس المرجع واللخمي على الطريق الآخر، ويقرأ مسألة من كل واحد إذا وصل يتأملها وقت الحراثة. وانظر في المعيار كثيرا من فتاويه. توفي سنة 675 خمس وسبعين وستمائة. 610- أبو العباس أحمد بن إدريس شهاب الدين 2: الصنهاجي الشهير بالقرافي أحد الأعلام المشهورين في المذهب المالكي وقد انتهت إليه الرياسة وقته فيه وفي العلوم وله التواليف المهمة كالذخيرة والفروق، وشرح التهذيب، وشرح الجلاب في الفقه، والتنقيح في الأصول، وشرح محصول الرازي، وغيرها من الكتب العجيبة الصنع العظيمة الوقع وذكر شمس الدين بن عدلان أنه حرر ثمانية علوم في أحد عشر شهرا أو أحد عشر عاما في ثمانية أشهر. توفي سنة 684 أربع وثمانين وستمائة.   1 أبو الفضل راشد بن أبي راشد الوليدي: نيل الابتهاج "117". 2 أبو العباس أحمد بن إدريس شهاب الدين الصنهاجي الشهير بالقرافي: الديباج المذهب "67"، والمنهل الصافي "1/ 215"، والوافي "5/ 119". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 273 611- أحمد بن محمد بن منصور ناصر الدين 1: الشهير بابن المنير الجذامي الإسكندري إمام بارع في الفقه والأصلين والعربية وفنون شتى ذو الباع الطويل في المناظرة والبلاغة والإنشاء، متبحر في العلوم، موفق فيها خصوصا في التفسير والقراءات ولي الأحباس، وديوان النظر والقضاء والخطابة. روى عن عز الدين قال: الديار المصرية تفتخر برجلين: ابن دقيق العيد، وابن المنير، له تفسير وحواشي الكشاف، ومختصر التهذيب وحاشية على البخاري، وديوان شعر وغير ذلك. توفي سنة 683 ثلاث وثمانين وستمائة. ومنير بضم الميم وفتح النون وكسر الياء المشددة مثناة تحت. 612- علي بن يحيى الصنهاجي الجزيري 2: نزيل الجزيرة الخضراء، فنسب إليها، ودرس بها، وعقد الشروط، وولي قضاءها، له مختصر في الوثائق مفيد جدا سماه المقصد المحمود في تلخيص العقود. توفي سنة 685 خمس وثمانين وستمائة. 613- أبو محمد محمد بن أبي الدنيا 3: حافظ الدنيا وراويتها الفقيه المالكي الشهير ولد بطرابلس الغرب، وبها نشأ، ورحل للمشرق واستقضي بتونس، وبها نشر علمه، وله تصانيف كحل الالتباس في البرد على نفاة القياس وغيره. توفي سنة 684 أربع وثمانين وستمائة.   1 أحمد بن محمد بن منصور ناصر الدين: الشهير بابن المنير الجذامي الإسكندري: فوات الوفيات "1/ 72"، وبغية الوعاة "168"، وشذرات الذهب "5/ 318"، والديباج المذهب "327". 2 علي بن يحيى الصنهاجي الجزيرة: نيل الابتهاج "200". 3 أبو محمد محمد بن أبي الدنيا: أعلام من طرابلس "65"، وإيضاح المكنون "1/ 416". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 274 614- أبو أحمد بن أبي بكر بن مسافر الشهير بابن زيتون 1: ويكنى بأبي الفضل تونسي، ورحل للمشرق، فاستفاد علما عظيما، واستقضي بتونس، وقد ذكر في "المعيار" أنه أدرك رتبة الاجتهاد، وكان إليه المفزع في الفتيا. توفي سنة إحدى وتسعين وستمائة 691 رحمه الله وهو أول من أظهر كتب الفخر الرازي الأصولية بأفريقية. 615- أبو محمد عبد الله بن أبي جمرة 2: الشهير بالعارف، له حواشي على صحيح البخاري مشهورة، وكان إمام سنة صلبا في دينه، بارعا في الفقه والحديث. توفي شهيدا بالأندلس بلده سنة 695 خمس وتسعين وستمائة. 616- أبو الحسن علي بن محمد بن منصور الشهير بابن المنير 3: زين الدين الجذامي الإسكندري بحر علم تفيض أمواجه وغيث سماح لا تغيض لجاجه، ذو المآثر السنية والمفاخر، شرح البخاري شرحا لا نظريا له في تدقيقات مناسبات تراجيمه، وتحرير فقهه وغير ذلك من عجائبه، وهو من مفاخر الإسكندرية. توفي سنة 695 خمس وتسعين وستمائة، وشرحه هذا من أعظم المواد التي استمد منها الحافظ ابن حجر وغيرها، كما استمد من حاشية أخيه السابق.   1 أبو أحمد بن أبي بكر بن مسافر: نيل الابتهاج "140". 2 أبو محمد عبد الله بن أبي جمرة "العارف": الرواة من الإخوة والأخوات "643". ويوجد عبد الله بن حمزة آخر: الزبيدي، مدني، التحفة اللطيفة "2/ 314". 3 أبو الحسن علي بن محمد بن منصور الشهير بابن المنير زين الدين الجزامي الإسكندري: الإسكندراني، الكنى للقمي "1/ 429"، الوافي "12/ 190"، ونيل الابتهاج "203"، المشتبه "507". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 275 617- أبو محمد بن أبي عبد الله محمد بن عمران الشريف الكركي 1: شيخ المالكية والشافعية بالديار المصرية والشامية في وقته قال القرافي: إنه تفرد بثلاثين فنا وحده، وشارك الناس في علومهم. مولده بفاس، وبها أخذ المذهب المالكي عن الشيخ أبي محمد صالح المتقدم، وقدم مصر محصلا للمذهب، فصحب عز الدين بن عبد السلام، وتفقه عليه في مذهب الشافعي، وعنه أخذ القرافي. توفي سنة 698 ثمان وتسعين وستمائة. 618- أبو الفتح محمد بن علي بن وهب القشيري المصري 2: المشهور بتقي الدين بن دقيق العيد المالكي الشافعي، وصفه السبكي بأنه المجتهد المطلق قال: ولم يختلف الشيوخ أنه المبعوث على رأس السبعمائة تفرد بالمشاركة في العلوم والرسوخ في علم الحديث والأصول والعربية، رحل للحجاز والشام، وسمع من كثير، وألف تآليف مهمة كشرح العمدة، وكتاب الإلمام في أحاديث الأحكام، وشرحه شرحا عظيما لم يكمل، وشرح مختصر ابن الحاجب في الفقه لم يكمل، وهو أول من افتض بكارته وغيرها. وأبوه كان شيخ المالكية، وله مزية في إزالة النفرة بين المذاهب حيث كان يفتي على مذهب مالك والشافعي معا جزاه الله خيرا. توفي سنة 702 اثنتين وسبعمائة.   1 أبو محمد بن أبي عبد الله بن محمد بن عمران الشريف الكركي: الديباج المذهب "332". 2 أبو الفتح محمد بن علي بن وهب القشيري المصري تقي الدين: أبو الفتح، القشيري، المنفلوطي القوصي، المصري، الشهرة: ابن دقيق المالكي الشافعي، ولد سنة 625، مات سنة 702: الوافي بالوفيات "4/ 193"، الوفيات "328"، طبقات الحفاظ "513"، المعين "2325"، التاج المكلل ص"461"، الطالع السعيد "567"، معجم طبقات الحفاظ ص"164"، البدر الطالع "2/ 229"، الدرر الكامنة "4/ 210"، فوات الوفيات "2/ 484"، معجم المؤلفين "11/ 70". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 276 619- أبو القاسم القاسم بن أبي بكر اليمني التونسي 1: عرف بابن زيتون مفتي أفريقية والمنظور إليه بها وقطب أصولها وفروعها المرجوع إليه في أحكامها غير مدافع ولا منازع، كلامه كلام ممارس للعلم غير هيوب ولا فرق، طلبه شرقا وغربا وخدمه من لدن شب إلى أن دب، غلبت عليه المسائل، فشغلته عن الرواية، أي الإكثار منها، وإلا فقد ذكر ابن مرزوق وغيره أنه ممن أدرك رتبة الاجتهاد. توفي سنة 703 ثلاث وسبعمائة. 620- أبو الربيع سليمان الونشريسي 2: الفاسي الإمام المقرئ بجامع الأندلس منها كان يقرأ "التفريع" لابن الجلاب و"المدونة" يقوم عليهما أتم قيام، ومن جملة من يحضر مجالسه الإمام خلف الله المجاصي الذي كان يحفظ المقدمات والتحصيل والبيان لابن رشد، وفي بعض دروس الشيخ سليمان نسب مسألة من المسح على الخفين لابن رشد من التقييد والتقسيم، فقال خلف الله: والله ما قال هذا ابن رشد قط. ولحسن خلق الشيخ ما غضب ولا أحمر، بل نزل عن كرسيه وهو يقول: أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحق القيوم، وترك القراءة يومين، وفي اليوم الثالث اجتمع عليه طلبته، وكانوا كل يوم يجتمعون، ويتركون الكلام في ذلك إعظاما له، فقال لخلف الله: يا أبا سعيد تكذبني في النقل نصحتك أعواما كثيرة فما جزائي إلا هذا، فقال: يا سيدي إن ابن رشد ما تكلم على الخفين في مقدماته، ولا ذكر ذلك في بيانه، فأخذ الشيخ الجزء الذي وسمه ابن رشد بالتقييد والتقسيم، ودفعه إليه حتى رأى فيه ما نقله عنه، فقبل حينئذ يده، واعتذر، فقبل عذره. فانظر كيف كان فقهاء المغرب وأخلاقهم توفي سنة 705 خمس وسبعمائة.   1 أبو القاسم بن أبي بكر اليمني التونسي: عنوان الدراية "56". 2 أبو الربيع سليمان الونشريسي الفاسي: أبو الربيع، الجرح والتعديل "4/ 661/ 662"، التاريخ الكبير "9/ 38"، نيل الابتهاج "119". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 277 621- الحسين بن أبي القاسم المعروف بالنبلي 1: عز الدين قاضي القضاة ببغداد الإمام الصدر في العلوم وخصوصا الفقه واللغة مدرس الطائفة المالكية بمستنصرية بغداد بعد سراج الدين الشارمساحي، وكان يدعى قاضي قضاة المماليك، صارما مهيبا شهما، له تآليف مفيدة كالهداية في الفقه واختصر كتاب ابن الجلاب، وله كتاب مسائل الخلاف، والإمهاد في أصول الفقه، وكتاب في الطب. توفي سنة 712 اثنتي عشر وسبعمائة، والنبلي بكسر النون نسبة إلى قرية بالعراق. 622- أبو الحسن علي بن عبد الحق الزرويلي 2: الشهير بالصغير مصغرا ومكبرا، الشهير عند أهل إفريقيا بالمغربي، بيتهم مشهور بفاس انتهت إليه رياسة الفقه بها والأصول، أحد الأقطاب الذين دارت عليهم الفتيا، ولي القضاء بتازا، ثم بفاس، فأقام الحق على الكبير والصغير حتى أمراء بني مرين، ووجد الدين متضعضعا فأقامه، وشدد عليهم كثيرا، ومن تشديداته التي عيبت عليه وهو مذعور فيها أنه نصب من يثق به لاستنكاه وريح الخمر من أفواه من يتهم بشربها، فأقام العدل وقمح الفسق، له شرح على التهذيب للبراذعي قال ابن مرزوق: ونسخه مختلفة جدا، ويقال: إن الطلبة الذين كانوا يحضرون مجلسه هم الذين كانوا يقيدون عنه ما يقوله في كل مجلس، فكل له تقييد، وهذا سبب الاختلاف الموجود في نسخ التقييد والشيخ لم يكتب شيئا بيده وأكثر اعتماد أهل المغرب على تقييد الفقيه الصالح أبي محمد عبد العزيز القروي، فإنه من خيار طلبته علما ودينا. ا. هـ. من نوازل الصلاة "المعيار"، ينسب له شرح على الرسالة قيده عنه تلاميذه أيضا مطبوع. وقال ابن مرزوق فيه: إنه شيخ الإسلام ما عاصره مثله ولا كان مثله فيما قارب عصره وبمقامه في الفقه يضرب المثل قد جمع بين العلم والعمل رحمه الله.   1 الحسين بن أبي القاسم المعروف بالنبلي: الديباج المذهب "106". 2 أبو الحسين علي بن عبد الحق الزرويلي "الصغير": الديباج المذهب "212". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 278 وقال أيضا تواترت عدالته وأمانته وأنه بالمنزلة العليا من الثقة في مكانه وزمانه وإليه انتهت رياسة الفقه بالمغرب الأقصى في زمانه وهو حامل رايته. نقله في "المعيار" في نوازل الصلاة ولا غرابة إذ عد مبعوثا في رأس القرن السابع بقطره. توفي سنة 719 تسع عشرة وسبعمائة. 623- أبو العباس أحمد بن محمد بن عثمان الأزدي المراكشي 1: عرف بابن البناء لحرفة أبيه، إمام فقيه مشارك متفنن في علوم نقلية وعقلية، مبرز في علم التعاليم من حساب وهيئة ونجوم وفلك، مرحولا إليه من شاسع الأقطار، بلغ في تلك العلوم غاية قصوى، ورتبة عليا، تواليفه سارت مسير الشمس في الآفاق، ذكر له في "نيل الابتهاج" عدة تواليف في الفقه وغيره من العلوم الشرعية والتعليم يطول سردها كحاشية الكشاف وتفسير الكوثر والعصر، وتفسير الباء من البسملة، وكتاب التقريب في أصول الدين، ومنتهى السول في علم الأصول، وشرح تنقيح القرافي، ورسالة في الرد على مسائل فقهية ونجومية، وكتاب عمل الفراض وشرح بعض مسائل الحوفي، والروض المربع في صناعة البديع، ومراسم الطريقة في علم الحقيقة، وشرحه، تأليفان لم يُسبق لمثلهما ومقالة في الإقار والإنكار وأخرى في المدبر، وكتاب في الفلاحة وآخر في المساحة ورسالة في المكاييل، وأخرى في الإسطرلاب وأخرى في الأنواء فيه صور الكواكب وقانون في معرفة الأوقات بالحساب، وكتب عديدة في النجوم والهيئة والحساب وغير ذلك من الفنون، فلا يكاد يكون علم مهم إلا ألف فيه. مولده بمراكش سنة 654 أربع وخمسين وستمائة، وتوفي سنة 721 إحدى وعشرين وسبعمائة. 624- وهناك أبو العباس بن البناء مراكشي آخر قاضي أعمات. توفي سنة 724 أربع وعشرين وسبعمائة أدون من هذا.   1 أبو العباس أحمد بن محمد بن عثمان الأزدي المراكشي: الدرر الكامنة "1/ 287"، ونيل الابتهاج "65"، البدر الطالع "1/ 108". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 279 625- وثم أيضا ابن البناء أبو بكر محمد العبيدي: كاتب مشهور إشبيلي توفي بسبتة سنة 646 ست وأربعين وستمائة. 626- عبد الرحمن بن محمد بن عسكر شهاب الدين 1: البغدادي مدرس المدرسة المستنصرية، مشهور بالفقه والزهد والعبادة، له التصانيف المفيدة، منها كتاب المعتمد في الفقه غزير العلم اقتصر فيه على المشهور من الأقوال غالبا، وكتاب العمدة، وكتاب الإرشاد، أبدع فيه كل الإبداع جعله مختصرا وحشاه بمسائل قل أن توجد في المطولات مع إيجاز بليغ وهو الذي شرحه أحمد زروق الفاسي، وله تواليف في الحديث وغيره. توفي سنة 732 اثنين وثلاثين وسبعمائة. 627- قاسم بن عبد الله بن محمد بن الشاط 2: الأنصاري السبتي أبو القاسم والشاط اسم جده، كان طوالا نسيج وحده في أصالة الرأي ونفوذ الفكر، وجودة القريحة، وتسديد الفهم، وحسن الشمائل، مقدم موصوف بالإمامة في الفقه، حسن المشاركة في العربية، كاتب مرسل، ريان من الأدب، له نظر في العقليات، وفي الحلل السندسية قال الحافظ ابن راشد: ما رأيت عالما في المغرب إلا رجلين ابن البناء بمراكش، وابن الشاط بسبتة، وله تواليف منها أنوار البروق في تعقب الفروق، للقرافي مطبوع بتونس، ولي عليه تعقبات كتبتها عليه عند إقرائه. نسأل الله تمامها، وغنية الرائض وتحرير الجواب في توفير الثواب، وفهرسة حافلة توفي سنة 723 ثلاث وعشرين وسبعمائة عن ثمانين سنة.   1 عبد الرحمن بن محمد بن عسكر شهاب الدين البغدادي: الديباج المذهب "151"، والدرر الكامنة "2/ 344". 2 قاسم بن عبد الله بن محمد بن الشاط الأنصاري السبتي أبو القاسم: الديباج المذهب "226"، وفهرس الفهارس "2/ 413". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 280 628- إبراهيم بن حسن عبد الرفيع الربعي 1: التونسي قاضيها وفقيهها النظار من الأئمة الكبار نادرة زمانه، له تواليف كثيرة منها معين الحكام كتاب مشهور غزير العلم كأنه اختصر المتيطية، واختصار أجوبة ابن رشد، والرد على ابن حزم، توفي سنة 734 أربع وثلاثين وسبعمائة. 629- أبو عبد الله محمد بن محمد بن الحاج العبدري 2: الفاسي الأصل، القاهري الدار، الإمام العلم الشهير بالزهد والوقوف مع السنة له طريق في التصوف شهيرة أخذها عن العارف أبي محمد بن أبي جمرة، وينكر على الطرق ما ابتدعوه من البدع التي لا تعلق لها بالسنة، إمام في الفقه، له كتاب المدخل وغيره. توفي سنة 737 سبع وثلاثين وسبعمائة. 630- علي بن محمد بن محمد بن محمد -ثلاثا- بن يخلف المنوفي 3: المصري نور الدين صاحب التصانيف الكثيرة كعمدة السالك على مذهب مالك، ومختصرها، وتحفة المصلي وشرحها، وستة شروح على الرسالة، وشرح القرطبية، وشرح المختصر، لكن لم يكمل بل شرحان، وأربعون حديثا، وشرح البخاري، وشرح مسلم، وشرح ترغيب المنذري، وتواليف أخرى انظر أسماءها في نيل الابتهاج توفي سنة 739 تسع وثلاثين وسبعمائة.   1 إبراهيم بن حسن بن عبد الرفيع الربعي التونسي: الوافي "5/ 26"، والديباج المذهب "89"، المنهل الصافي "1/ 45". 2 أبو عبد الله محمد بن محمد بن الحاج العبدري الفاسي: الدرر الكامنة "4/ 237"، والديباج المذهب "327". 3 علي بن محمد بن محمد بن محمد -ثلاثا- بن يخلف المنوفي المصري نور الدين: ولد سنة 857، مات سنة "939": معجم المؤلفين "7/ 230" والحاشية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 281 631- أبو القاسم محمد بن أحمد بن جزي الكلبي 1: الغرناطي وبيتهم بها، ثم بفاس مشهور بالعلم، كان حافظا قائما على التدريس، مشاركا في الفنون العربية والحديث والتفسير، جامعا للكتب، ملوكي الخزانة، جميل الأخلاق ألف كثيرا في فنون شتى كتهذيب صحيح مسلم، وكتاب القوانين الفقهية في تلخيص مذهب المالكية، والتنبيه على مذهب الشافعية والحنفية والحنبلية، وكتاب تقريب الوصول إلى علم الأصول، وله كتاب الأنواع السنية في الألفاظ السنية، جمع فيه جملة من الأحاديث الصحاح في الأحكام وغيرها في نحو أوراق 36 مخطوط عندي جعله على نسق القضاعي وغيرها. توفي سنة 741 إحدى وأربعين وسبعمائة. 632- أبو زيد بن عبد الرحمن بن عفان الجزولي 2: الفاسي دارا وقرارا حافظ المذهب، وحجته شيخ الرسالة والمدونة المشهور بالعلم والصلاح معا، أعلم الناس بمذهب مالك وأورعهم وأصلحهم، يحضر مجلسه أكثر من ألف فقيه، معظم يستظهر المدونة، قيد الطلبة عنه ثلاثة تقاييد على الرسالة، أحدها المشهور بالمسبع في سبعة أسفار، والمثلث في ثلاثة، وصغير في سفرين، وكلها مفيدة انتفع الناس بها إلا أن أهل المذهب حذرا من النقل عنها، لعدم تحريره لها بيده، وقالوا: إنها تهدي ولا تعتمد، وقد عمر طويلا ولم يقطع التدريس. توفي سنة 741 إحدى وأربعين وسبعمائة ومن ترجمة الرجل تعلم ما كان عليه العلم بفاس في القرن الثامن فلو فرضنا أنه لم يكن بفاس إلا ألف فقيه وهم الذين يحضرون درسه لكان كافيا في الدلالة على تقدم الحالة الفكرية العلمية في ذلك العصر بالنسبة لعصرنا الذي لا يبلغ علماء   1 أبو القاسم محمد بن أحمد بن جزي الكلبي الغرناطي: الدرر الكامنة "30/ 365"، ونفح الطيب "3/ 270"، والديباج المذهب "295"، وفهرس الفهارس "1/ 244". 2 أبو زيد عبد الرحمن بن عفان الجزولي الفاسي: أبو زيد، الجزولي، مالكي، الفاسي، الوفيات "531"، نيل الابتهاج "165، 166". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 282 القرويين المائتين، ولا أظن أنه يوجد في المغرب كله ثلاثمائة فقيه الآن فسبحانك يا مقدم ويا مؤخر. 633- أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله عرف بابن الإمام التلمساني 1: العلامة الجليل المجتهد الكبير، هو وأخوه أبو موسى عيسى مشهوران بالرسوخ في العلم والاجتهاد شرقا وغربا، حافظان جامعان رحلا على المشرق، ودخلا الشام، وناظرا ابن تيمية، وظهرا عليه على ما كان له من سعة العلم والظهور على كل من ناظره، وكانا يذهبان إلى الاجتهاد وترك التقليد، وأن يكون العالم مستقل الفكر لا يجرفه تيار التقليد إن كانت له مقدرة، وكانا على جانب من التقوى والاستقامة. ولما أراد أبو الحسن المريني أن يطلب معونة للجهاد، قال له أبو زيد: لا يصلح هذا حتى تكنس بيت المال وتصلي فيه كما فعل علي بن أبي طالب، ولأبي زيد شرح على فرعي ابن الحاجب. توفي سنة 743 ثلاثي وأربعين وسبعمائة. وتوفي أخوه أبو موسى سنة تسع وأربعين بعدها. 634- أبو عبد الله محمد بن عبد السلام بن يوسف 2: الهواري قاضي الجماعة بتونس كان إماما حافظا متقنا للعلوم العربية، فصيح اللسان صحيح النظر، عالما بالحديث ممن أدرك رتبة مجتهد الفتوى، فكانت له قوة الترجيح من الأقوال. اعتمد ترجيحه خليل معاصره وغيره، ولا تأخذه في الحق لومة لائم، أخذ عنه ابن عرفة وأقرانه، توفي سنة 749 تسع وأربعين وسبعمائة.   1 أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن الإمام التلمساني: تعريف الخلف "1/ 201". 2 أبو عبد الله محمد بن عبد السلام بن يوسف الهواري "قاضي الجماعة بتونس": أبو عبد الله، الهواري التونسي المنستيري، معجم المؤلفين "10/ 171 الحاشية". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 283 635- أبو عبد الله محمد بن علي الرصاع فقيه القيروان ومفتيها المتوفى في السنة المذكورة. 636- أبو فارس عبد العزيز بن محمد القروي 1: الفاسي: الفقيه المدرس النفاع المفتي الصالح الأحوال، أكبر تلاميذ أبي الحسن الصغير، وهو الذي جمع تقييد شيخه المذكور على المدونة بخطه وحبسه بفاس، وهو أحسن تقاييد تلاميذه وأصحها، وقع النقل عنه في "المعيار" في غير ما موضع، وأما التقييد الكبير، فجمعه رجل من صدور الطلبة يقال له: اليحمدي، قال السلطان أبو الحسن المريني للمترجم: وليناك مع عامل الزكاة، فقال له: أما تستحيي من الله تأخذ لقبا من ألقاب الشريعة، وتضعه على مغرم من المغارم، فضربه السلطان بسكين مغمد كان يعتاد حمله بيده، ثم تحلل منه، فسامحه، توفي سنة 750 خمسين وسبعمائة. 637- محمد بن إبراهيم بن أحمد العبدري الشهير بالأبلي 2: نسبة إلى أبلة بالأندلس تلمساني الأصل، فاسي الدار، إمام علامة، مجمع على علمه وإمامته قال فيه المقري: هو عالم الدنيا، وأثنى عليه ابن خلدون كثيرا، وقال: قيل فيه: إنه أعلم العالم في عصره بفنون العلم رحل إلى الحرمين والشام والعراق، ولقي علماء جلة، وأخذ عنه أكابر علماء عصره، طلب للقضاء بتلمسان، ففر إلى فاس، واختفى، وبها قرأ علوم التعاليم، ثم ذهب إلى مراكش، فأخذ عن ابن البناء التعاليم أيضا والحكمة، ثم رجع لفاس، فعظم بها صيته، واجتباه أبو الحسن المريني بمجلسه الخاص، فكان رأسه وحضر معه وقعة طريف في الأندلس، ووقعة القيروان، وهناك أخذ عنه علماء أفريقية كابن   1 أبو فارس عبد العزيز بن محمد القروي الفاسي الفقيه: نيل الابتهاج "179". 2 محمد بن إبراهيم بن أحمد العبدري الشهير بالأبلي تلمساني الأصل فاسي الدار: نيل الابتهاج "245". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 284 عرفة، وابن خلدون، ولد سنة 681 إحدى وثمانين وستمائة، وتوفي بفاس سنة 757 سبع وخمسين وسبعمائة. 638- أبو الحجاج يوسف بن عمر الأنفاسي 1: الفاسي عالمها ومفتيها وإمام القرويين وخطيبه، ذو ورع وزهد وتقشف ومراقبة، وكمال فضل، عظيم الصيت، شهير الذكر في الأقطار الأفريقية، نشر العلم، فانتفع به الخلق، له تقييد على الرسالة قيده عنه الطلبة من أحسن التقاييد وأنفعها، قال زروق: لا يعتمد ما كتبه على الرسالة؛ لأنه إنما هو تقييد قيده الطلبة زمن الإقراء وفي معناه ما قيد عن شيخه عبد الرحمن بن عفان الجزولي، فذلك يهدي ولا يعتمد، وقد سمعت أن بعض الشيوخ أفتى بأن من أفتى من التقاييد يؤدب، قال الخطاب: يريد إذا ذكروا نقلا يخالف نص المذهب وقواعده. نقله في "تكميل الديباج". 639- عبد الله الوانغيلي 2: الضرير مفتي فاس وعالمها، انفرد في وقته بفهم مختصري ابن الحاجب الفرعي والأصلي والمدونة، له في المعيار فتاوى كثيرة وأثني عليه فيه. توفي سنة 779 تسع وسبعين وسبعمائة. 640- عبد الله بن محمد الأوربي 3: الفاسي الصدر العالم المفتي قاضيها، ماهر في العلوم الفقهية والتاريخية والأنساب، فتاويه في "المعيار" أيضا. توفي سنة 782 اثنين وثمانين وسبعمائة.   1 أبو الحجاج يوسف بن عمر الأنفاسي الفاسي: البستان "297، 299". 2 عبد الله بن الوانغيلي الضرير مفتي فاس: نيل الابتهاج "149". 3 عبد الله بن محمد بن الأوربي الفاسي الصدر: نيل الابتهاج "243". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 285 641- أبو الضياء خليل بن إسحاق الكردي المصري 1: الشهير بالجندي وكان من جند الحلقة يلبس زيهم الثياب القصيرة متقشفا زاهدا عالما محيطا بالمذهب المالكي مشاركا، متفننا صدرا في علوم الشريعة واللسان شرح فرعي ابن الحاجب شرحا حافلا سماه التوضيح في ست مجلدات انتقاه من ابن عبد السلام عصريه، وزاد فيه عزو الأقوال، وقد اعتمد اختياراته وأنقاله لعلمه بفضله، وكثيرا ما يرد الفرع لأصله، ثم اختصر ابن الحاجب، وسلك فيه طريق الحاوي عند الشافعية، فجمع الفروع الكثيرة من كتب المذاهب حتى قالوا: إنه حوى مائة ألف مسألة منطوقا ومثلها مفهوما، وإنما ذلك تقريب وإلا ففيه أكثر من ذلك بكثير، بل قال الهلالي: فيه المسألة الواحدة التي تجمع ألف ألف مسألة مع أن مختصر ابن الحاجب قال ابن دقيق العيد: إنه جمع أربعين ألف مسألة. وقال في "المنح البادية": إن ابن الحاجب جمع ستا وتسعين ألف مسألة، وإن تهذيب البراذعي ستة وثلاثون ألف مسألة، وإن في رسالة ابن أبي زيد أربعة آلاف مسألة هذا وقد اقتصر في مختصره على ما به الفتوى من الأقوال، وترك بقيتها، ولم يخرج من المسودة إلا ثلثه الأول إلى النكاح، والباقي أخرجه تلاميذه، ومع ذلك أقام في تأليفه خمسا وعشرين سنة مع أن البخاري أتم تحرير الجامع الصحيح في ست عشرة سنة فقط، والسبب هو أن خليلا بالغ في اختصاره حتى عد من الألغاز، وقد شرحه ربيبه وتلميذه بهرام، واستعان على شرحه بالتوضيح المذكور، وشرحه بثلاثة شروح، كما شرحه البساطي، والسنهوري، والتتائي، والحطاب، والشيخ علي الأجهوري، وتلاميذه الشيخ عبد الباقي الزرقاني، والسيد محمد الخرشي، وشرحه من أهل فاس ميارة وجسوس وابن غازي، وابن عاشر وابن رحال، وحشاه العارف الفاسي والجنان، ومن أهل تلمسان ابن مرزوق وغيرهم، واعتنى الناس مشارقة ومغاربه   1 أبو الضياء خليل بن إسحاق الكردي المصري "الجندي": الدرر الكامنة "2/ 86"، وحسن المحاضرة "1/ 262"، والديباج المذهب "115"، ونيل الابتهاج "112". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 286 به اعتناء زائدا، وقصروا همتهم عليه لكثرة ما فيه من الفروع التي لا تكاد توجد في غيره، فكأنه قد استقصى الصور الخيالية، وهيهات أن تستقصى. ويوجد عليه من الشروح والحواشي ما يزيد على الستين كما قال ابن غازي، هذا في زمنه، فكيف بما زيد بعده. ثم إن الذي أدخل مختصر خليل المغرب هو محمد بن عمر بن الفتوح التلمساني المكناسي سنة 805 خمس وثمانمائة كما في "الروض الهتون" فبعد ذلك حصل إقبال المغاربة عليه، ثم على شرح الزرقاني لما فيه من زيادة فروع والاختصار في الشروح الذي هامت به عقول أهل القرون الوسطى من علماء الإسلام وشدة الاختصار موقعة في الخلل لا محالة، ومع ذلك فمختصر خليل أكثر المؤلفات الفقيهة صوابا رغما عن كون مؤلفه إنما خرجه إلى النكاح كما سبق، وقد وقع للزرقاني أغلاط في النقل وغيره، فاعتنى المغاربة، بتصحيحه، ووضعوا عليه حواشي مستمدة من حواشي الشيخ مصطفى الرمصاي على التتائي وغيرها، منهم الشيخ أبو عبد الله محمد بن الحسن بناني، وشيخ شيوخنا سيدي محمد بن المدني جنون اختصر حاشية الرهوني، والكل مطبوع وأكثر الشروح تحريرا شرح الشيخ أبي عبد الله الحطاب، وشرح أبي عبد الله محمد المواق، وقد طبعا بمصر سنة 1338. وحاصله أنه من زمن خليل إلى الآن زادت العقول فترة والهمم ركودا، وتخدرت الأفكار بشدة الاختصار والإكثار من الفروع التي لا يحاط بها والصورة النادرة، فاقتصروا على خليل وشروحه، حتى قال الناصر اللقاني: إنما نحن خليليون إن ضل ضللنا. قال أحمد السوداني: وذلك دليل دروس الفقه وذهابه، فقد صار الناس من مصر إلى المحيط الغربي خليليين لا مالكية إلى هنا انتهت الحالة. ولو اقتصرنا على ترجمة خليل، ولم نزد أحدا بعده ما ظلمنا جل الباقي؛ لأن غالبهم تابعون له، فمن زمن خليل إلى الآن تطور الفقه إلى طور انحلال القوى، وشدة الضعف، والخرف الذي ما عده إلا العدم، وسيأتي في ترجمة القباب قول الشاطبي وابن خلدون أن ابن شاس، وابن بشير، وابن الحاجب أفسدوا الفقه فإذن خليل أجهز عليه، لكن في الحقيقة أن الذي أجهز عليه هم الذين جعلوه ديوان دراسة للمبتدئين والمتوسطين وهو لا يصلح إلا للمحصلين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 287 على صاحبه قال في أوله مبينا له به الفتوى، ولم يقل جعلته لتعليم المبتدئين، فلا لوم عليه. توفي الشيخ خليل سنة 776 ست وسبعين وسبعمائة وقيل: تسع وستين، وقيل: تسع وستين، وقيل: سبع وستين والأول صححه السوداني، وأما ما في "الديباج" من أنه توفي سنة 749 تسع وأربعين وسبعمائة، فإنما ذلك تاريخ وفاة شيخه المنوفي قاله الخطاب. 642- أبو عبد الله محمد بن هارون الكناني التونسي 1: وصفه ابن عرفه تلميذه بأنه ممن أدرك الاجتهاد المذهبي له شرح على ابن الحاجب الفرعي والأصلي، واختصره المتيطية، وله المشاركة والنزاهة، توفي سنة 570 خمسين وسبعمائة، وفي "درة الحجال" سنة تسع وأربعين. 643- أبو عبد الله محمد بن سليمان السطي 2: نسبة لقبيلة قرب فاس أحد أعلام فاس، بل أعلام أفريقيا كلها مشاركة وتفننا وإتقانا، وحفظا وضبطا، أثنى عليه ابن خلدون، له شرح على المدونة، وشرح على الحوفية وتعليق على جواهر ابن شاس فيما خالف فيه المذهب وغير ذلك. مات غريقا قرب بجاية لما ركب في أسطول أبي الحسن المريني وهو ممن أصيب المغرب بفقده في جملة الأعلام نخبة المغرب غرقوا، وضاعت معهم نفائس الكتب، ورزيء المغرب في أنفس أعلاقه، وأنفس أعلامه، وبموتهم ظهر نقصان بين، وفراغ شاسع في عمارة سوق العلم، وبه أصبحت دياره بلاقع، وأقفرت المدارس والجوامع، وذلك سنة 750 خمسين وسبعمائة أو تسع وأربعين على ما في "درة الحجال".   1 أبو عبد الله محمد بن هارون الكناني التونسي: نيل الابتهاج "239"، والحلل السندسية في الأخبار التونسية "338"، وشجرة النور "311". 2 أبو عبد الله بن سليمان السطي: نيل الابتهاج "243". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 288 644- أبو عبد الله محمد بن الصباغ الخزرجي المكناسي 1: من مكناسة الزيتون ذكره ابن خلدون من تلاميذه وابن غازي أيضا، كان حافظا متقنا لا سيما في علم الفقه، أملى على حديث "يا أبا عمير ما فعل النغير" أربعمائة فائدة في مجلس واحد، وهو الذي أورد على ابن عبد السلام أربعة عشر اعتراضا، فلم ينفصل عن واحد منها على جلالته وحفظه، رحمهم الله جميعا. توفي غريقا في السنة المذكورة. 645- أبو عبد الله محمد بن أحمد بن علي العلواني 2: الشريف التلمساني: إمام المغرب المتفنن الجامع الذي صرح عصريه ابن مرزوق الجد الخطيب ببلوغه درجة الاجتهاد، أقام بفاس مدة، وبها اشتهر علمه وفتاويه، أخذ عنه علماء أفريقية وأفاضلها، ألف كتاب المفتاح في أصول الفقه، وهو كتاب مختصر لطيف، وشرح جمل الخونجي، خصصت ترجمته بالتأليف توفي سنة 771 إحدى وسبعين وسبعمائة عن 61 سنة. 646- أبو عبد الله محمد بن عمر الشهير بابن رشيد مصغرا الفهري 3 السبتي: ثم الفاسي العلامة الحافظ عالم المغرب ومسنده صاحب الرحلة الواسعة، توفي في المحرم سنة 721 إحدى وعشرين وسبعمائة.   1 أبو عبد الله محمد بن الصباغ الخزرجي المكناسي: نيل الابتهاج "243". 2 أبو عبد الله بن محمد بن أحمد بن علي العلواني الشريف التلمساني إمام المغرب: أبو عبد الله، العلواني التلمساني، مات سنة "842": تعريف الخلف "1/ 110"، نيل الابتهاج "255"، والبستان "164". 3 أبو عبد الله محمد بن عمر الشهير بابن رشيد الفهري السبتي ثم الفاسي: أبو عبد الله، الشهرة ابن رشيد الفهري السبتي ولد سنة "657"، مات سنة "721": فهرس الفهارس "1/ 443"، شجرة النور الزكية "216"، الديباج المذهب "310". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 289 647- أبو عمر محمد بن عثمان الشهير بابن المرابط 1 الغرناطي، ثم الدمشقي: مات سنة 752 اثنتين وخمسين وسبعمائة. 648- أبو عبد الله محمد بن أحمد بن محمد بن محمد بن أبي بكر مرزوق العجيسي 2: التلمساني شمس الدين الملقب بالجد نادرة زمانه علما وعملا وحفظا وإتقانا ونبلا، رحل واستفاد، وبلغ من العلوم الإسلامية كل مراد، شرح البخاري، والشفا، وعمدة الأحكام، ترجمته عند الحافظ ابن حجر في "إنباء الغمر" وغيره واسعة، توفي سنة 781 إحدى وثمانين وسبعمائة على ما في "كفاية المحتاج". 649- أبو العباس أحمد بن قاسم القباب الفاسي 3: إمام المغرب بل أفريقية في وقته، انتهت إليه رياسة الفتيا والتوثيق والمشاركة في الفنون مليء "المعيار" من فتاويه، وبها ابتدأ، وله تآليف في فنون كشرح قواعد عياض، وبيوع ابن جماعة، واختصار أحكام النظر، لابن القطان، وله مباحث مع أبي إسحاق الشاطبي شيخ الأندلس، ولما لقي ابن رفعة، وأطلعه   1 أبو عمرو محمد بن عثمان الشهير بابن المرابط الغرناطي ثم الدمشقي: أبو عمرو، الغرناطي، ولد سنة 680"، مات سنة "752": معجم طبقات الحفاظ "162"، طبقات الحفاظ "527"، الدرر الكامنة "3/ 163". الديباج المذهب "305". وشذرات الذهب "6/ 271". 2 أبو عبد الله محمد بن أحمد بن محمد بن محمد بن أبي بكر مرزوق العجيسي التلمساني شمس الدين "الجد": أبو عبد الله العجيسي النحوي شمس الدين التلمساني، الشهرة الحفيد الخطيب ابن مرزوق، ولد سنة 766، ومات سنة 842 أو 781، وقيل: مات بعد 920: فهرس الفهارس "1/ 523"، والحاشية، الإحاطة في أخبار غرناطة "3/ 103"، دائرة معارف الأعلمي "26/ 161"، أعلام الجزائر، "141، 145"، تعريف الخلف "1/ 141". 3 أبو العباس أحمد بن قاسم القباب الفاسي: الديباج "41"، ونيل الابتهاج "72، 73". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 290 على مختصره قال له: ما صنعت شيئا إذ لا يفهمه المبتدي، ولا يحتاج إليه المنتهي، وذلك ما حمله على بسط العبارة وتليين الاختصار في آخره، وهذا كما قال أبو إسحاق الشاطبي: إن ابن بشير وابن شاس وابن الحاجب أفسدوا الفقه، ونحوه لابن خلدون في المقدمة، وبالجملة كان القباب كما قال أحمد بابا من أكابر علماء المذهب حفظا وتحقيقا وتقدما وجلالة، وممن يتحرى أكل الحلال، استقصى أول أمره بجبل طارق، ثم أعفي، وأقبل على نفع العباد، ثم ألزم بقضاء فاس فاختفى إلى أن أعفي، ثم ظهر فأكب على نشر العلم. وله مناظرات مع إمام تلمسان العقباني ألفها العقباني، وسماها "لب اللباب في مناظرات القباب" نقلها الونشريسي في نوازله وغيرها. توفي سنة 779 تسع وسبعين وسبعمائة، وقيل: سنة سبع وتسعين. 650- أبو سعيد فرج بن قاسم بن لقب الثعالبي 1: بالعين المهملة كما في "المنح البادية" شيخ شيوخ غرناطة، ومن انتهت إليه رياسة فتوى الأندلس في وقته، له تآليف مفيدة وفتاويه في المعيار وغيره ذات اعتبار، وكان بينه وبين عصريه ابن عرفة مراجعات فتاو وأحاكم بين غرناطة وتونس. وبالجملة فهو أحد أئمة الأندلس النظار. توفي سنة 783 ثلاث وثمانين وسبعمائة عن إحدى وثمانين سنة. 651- أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي الدار الشهير بالشاطبي 2: الإمام الحافظ الجليل المجتهد من أفراد المحققين الأثبات، وأكابر المتفننين فقها وأصولا وعربية وغيرها، له كتاب "الموافقات" في أصول الفقه طبع بتونس، وكتاب "الاعتصام" في إنكار البدع، يطبع في مصر، وشرح بيوع صحيح   1 أبو سعيد فرج بن قاسم بن لب الثعلبي: شيخ شيوخ غرناطة: الديباج المذهب "220"، وشذرات الذهب "6/ 282"، وبغية الوعاة "372". 2 أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي الدار الشهير بالشاطبي: نيل الابتهاج "46، 50"، وفهرس الفهارس "1/ 134". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 291 البخاري وغيره، وكان شديدا على أهل البدع وله فتاو مهمة مذكورة في "المعيار" وغيره. وكان يناظر ابن عرفة وابن لب، ويظهر عليهما في فتاويه. توفي سنة 790 تسعين وسبعمائة. 652- أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن عباد النفزي 1: المشهور بابن عباد الرندي الأصل، الفاسي الدار الفقيه، الصوفي الزاهد الخطيب المتفنن كان كما قال عصريه ابن الخطيب القسمطيني: على صفة البدلاء الصادقين النبلاء، ومثله يعظ الناس لاتعاظه في نفسه، له أجوبة في مسائل العلم نحو مجلدين، وله الرسائل الكبرى والصغرى، ونظم الحكم العطائية وشرحها، وتآليف في الحديث، وكان له باع في الفقه وغيره من العلوم يقوم على مختصر ابن الحاجب والرسالة وغيرهما. وأحواله أحوال الكمل الأول لم ير بعده مثله كان يخدم نفسه، ولم يملك خادما ولباسه في داره مرقعة يسترها إذا خرج بثوب آخر. توفي سنة 792 اثنتين وتسعين وسبعمائة عن ثلاث وخمسين سنة رحمه الله. 653- عبد الله بن محمد بن أحمد الشريف التلمساني 2: الإمام ابن الإمام الحجة النظار الأعلم من أكابر علماء وقته صاحب الصيت الكبير، نشر العلم ببلده وبالأندلس فقها وحديثا وتفسيرا، وبيتهم بين علم خصت تراجمهم بالتآليف. له فتاو في "المعيار" معروفة. توفي غريقا منصرفه من غرناطة لبلده عام 792 اثنتين وتسعين وسبعمائة.   1 أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن عباد النفزي: نيل الابتهاج "279، 281"، ونفح الطيب "5/ 341، 350". 2 عبد الله بن محمد بن أحمد الشريف التلمساني: نيل الابتهاج "150". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 292 654- أحمد بن عمر بن علي بن هلال الربيعي 1: الإسكندري ثم الدمشقي إمام متفنن في علوم كالفقه والعربية والأصول والحديث. وله رواية واسعة، وتواليف عديدة، منها شرح ابن الحاجب الفقهي في ثمانية أسفار كبار، وكان شرحه شرحا مطولا، ثم تركه وله على مختصره الأصلي شرحان وغيرها. توفي سنة 795 خمس وتسعين وسبعمائة. 655- أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن بن عسكر البغدادي 2: الإمام حامل لواء المالكية ببغداد، كان متفننا في المعقول والمنقول، ولي قضاء بغداد وحسبتها، له الهيبة العظيمة والأخلاق العالية، والهمة السرية مدرس مدرسة المستنصرية، له تآليف كشرح الإرشاد من تآليف والده في مذهب مالك، وشرح مختصر ابن الحاجب الفرعي والأصلي، وله تفسير كبير، وله تعليقه في علم الخلاف، لم يذكر ابن فرحون وفاته، وذكر وفاته أخيه قاضي قضاة المالكية بالشام المصري سنة 796 ست وتسعين وسبعمائة. 656- أبو عبد الله محمد بن محمد بن عرفة 3: الورغمي التونسي: خطيبها ومفتيها المحقق المتفنن النظار، انتهت إليه رياسة المذهب المالكي بالديار الأفريقية آخر عمره، تواليفه سارت مسير الأمثال كمختصره في الفقه محرر الأنقال، شغل دورا مهما بعد ظهوره درسه بنفسه في بلده، وفي المشرق لما حج، وطريقته فيه معروفة وهو في سبعة أسفار، إلا أنه اختصره كثيرا وسلك فيه اصطلاحا خاصا به لا سيما في نصفه الأول صعب على الناس فهمه حتى إنه في آخر عمره صار يصعب عليه هو نفسه بعض المواضع منه   1 أحمد بن عمر بن علي بن هلال الربيعي الإسكندري: الديباج المذهب "82، 83". 2 أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن بن عسكر البغدادي: الديباج المذهب "333". 3 أبو عبد الله محمد بن محمد بن عرفة الورغمي التونسي: الضوء اللامع "9/ 240"، وشذرات الذهب "7/ 38"، وبغية الوعاة "98"، والبدر الطالع "2/ 255". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 293 كما وقع له في تعريف الإجارة، ولذلك بسط عبارته في نصفه الأخير نوعا ما، وكان استغلال عبارته مع كثرة الأقوال المذهبية، داعيا لتركه، وإقبال الناس على مختصر خليل من بعده، وله غيره في المنق والأصول والقراءات وغيرها كثير العبادة والذكر شاغلا لوقته بما يعينه توفي سنة 803 ثلاث وثمانمائة. 657- أبو زكرياء يحيى بن أحمد بن محمد بن حسن المعروف بالسراج 1: النفزي الحميري الرندي الأصل، الفاسي الدار والمولد: الفقيه الرحالة الراوية انتهت إليه رياسة الرواية والحديث بالمغرب قلما تجد كتابا يشار إليه في المغرب ليس عليه خطه وله فهرسة وسماع عظيم، ومع ذلك فهو فقيه صوفي له مع ابن عباد مراسلات، وإليه كان يكتب رسائله المشهورة من سلا، وبيتهم بيت علم ورياسة ونبل في الأندلس شهير مدة طويلة بفاس، ولا زال نسلهم موجودا إلى وقتنا هذا، ولهم نباهة واعتبار توفي سنة 805 خمس وثمانمائة ودفن مع ابن عباد بالباب الحمراء من فاس. 658- أبو البقاء بهرام بن عبد الله الدميري 2: تاج الدين قاضي القضاة بمصر برع في المذهب، وألف "الشامل" في الفقه، وشرح المختصر الخليلي ثلاثة شروح، ومختصر ابن الحاجب الأصلي، وشرح الإرشاد وهو أجل من تكلم على مختصر خليل علما ودينا وتأدبا وتفننا، بل الذي افتض بكارته هو والأقفهسي، وله غير ذلك توفي سنة 805 خمس وثمانمائة.   1 يحيى بن أبي بن حسن "السراج" النفري الحميري: أبو زكريا النفري الحميري الأندلس الفاسي، توفي سنة "805": فهرس الفهارس "2/ 993"، الحاشية، معجم المؤلفين "1/ 184، 185"، دائرة معارف الأعلام "3/ 85". 2 أبو البقاء بهرام بن عبد الله الدميري "تاج الدين": الضوء اللامع "3/ 19"، وحسن المحاضرة "1/ 263"، ونيل الابتهاج "101". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 294 659- محمد بن علي بن علاق 1: وبه يعرف الغرناطي حافظها ومفتيها وقاضيها سبط الإمام ابن جزي، له شرح على مختصر ابن الحاجب الفرعي في عدة أسفار، وشرح فرائض ابن الشاط، وله فتاو في "المعيار" مذكورة. توفي سنة 806 ست وثمانمائة. 660- أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن خلدون 2: الحضرمي الإشبيلي الأصل التونسي المولد إمام المؤرخين وسيد الأخباريين وصدر الفقهاء والكتاب والشعراء والمتفننين الحافظ الثقة الحجة المحدث الفيلسوف مخترع الفلسفة التاريخية وقدوتها، مؤلف التاريخ الكبير والمقدمة التي سارت مثلا في الآخرين، ترجمت إلى سائر اللغات، وأجمعت على استحسانها سائر الأمم، ولخص كثيرا من كتب ابن رشد، وشرح البردة للإمام البوصيري شرحا دل على مقدرته في الأدب والعلوم العربية، وألف في المنطق تأليفا دل على كرامة تصوره ودقة أفكاره، ولخص محصول الفخر الرازي في أصول الفقه، وألف في الحساب وغيره، وله الشعر الرائق والنثر البديع الفائق ذو أسلوب في الإنشاء مطبوع عليه، وكل تاريخه بل تواليفه إنشاء بديع عربي خالص، وكفى بتاريخه آية على فضله، وإحاطة إدراكه بالتواريخ الإسلامية وغيرها، والأنساب العامة والخاصة. هذا مع تقلبه في وظائف مهمة بتونس وفاس والأندلس. حسده عليها معاصروه بما أدى به للجلاء إلى مصر فولى بها قاضي القضاة، ومات بها فجأة سنة 808 ثمان وثمانمائة عن ست وسبعين سنة.   1 محمد بن علي بن علاق "له شرح فرائض ابن الشاط": نيل الابتهاج "281، 282". 2 أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن خلدون الحضرمي الإشبيلي الأصل: أبو زيد، الحضرمي، الإشبيلي، التونسي، ولد سنة "732"، توفي سنة "807": شجرة النور الزكية "227"، الضوء اللامع "4/ 145"، شذرات الذهب "7/ 76"، ونفح الطيب "6/ 171"، ونيل الابتهاج "169"، والبدر الطالع "337". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 295 661- محمد بن علي بن محمد الأنصاري الشهير بالحفار 1: الغرناطي، إمامها ومحدثها ومفتيها الشيخ المعمر ملحق الأحفاظ بالأجداد، له فتاوٍ في "المعيار" مشهورة. توفي سنة 810 عشر وثمانمائة. 662- سعيد بن محمد العقباني 2 التلمساني: إمامها وعلامتها وقاضيها وقاضي بجاية وسلا ومراكش، فقيه متفنن صدر مشهور له شرح على الحوفية لا نظير له، وشرح ابن الحاجب والخونجي وبعض سور من القرآن، وأخذ عنه أئمة كبار. توفي سنة 811 إحدى عشرة وثمانمائة. 663- أبو مهدي عيسى بن أحمد الغبريني 3: التونسي قاضي تونس وفقيهها، وحافظ المذهب بها، انتهت إليه رياستها بعد ابن عبد السلام وابن عرفة، قال ابن ناجي: إنه ممن يظن به حفظ المذهب بلا مطالعة وبالغ في الثناء عليه في غير موضع، وقال تلميذه الأمير أبو عبد الله المدعو الحسن شيخنا ابن عرفة وشيخنا الغبريني ممن يجتهد في المذهب، ولا يحتاج للدليل على ذلك؛ إذ العيان شاهد بذلك. توفي سنة 815 خمس عشرة وثمانمائة. 644- محمد بن خلفة الوشناني 4: التونسي الشهير بالأبي بضم الهمزة وكسر الموحدة مشددة، إمام مدقق بارع رحالة حافظ من أعيان أصحاب ابن عرفة، له إكمال الإكمال شرح مسلم وهو فقهي فروعي، وشرح المدونة، توفي سنة 828 ثمان وعشرين وثمانمائة   1 محمد بن علي بن محمد الأنصاري الشهير بالحفار الغرناطي: نيل الابتهاج "282". 2 سعيد بن محمد العقباني التلمساني: توفي سنة 811: الديباج المذهب "124، 125"، ونيل الابتهاج "125، 126". 3 أبو مهدي عيسى بن أحمد الغبريني التونسي قاضي تونس: نيل الابتهاج "193". 4 محمد بن خليفة الوشتاني التونسي: أبو عبد الله، التونسي، الوشتاني، مات سنة 828: معجم المؤلفين "9/ 287"، والحاشية، البدر الطالع "2/ 169"، ونيل الابتهاج "287". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 296 وخلفة بوزن نعمة وقبضة. 665- عبد الله بن مقداد الأقفهسي 1: القاضي جمال الدين من تلاميذ خليل انتهت إليه رياسة المذهب بمصر، شرح المختصر بشرح كشرح بهرام في ثلاثة مجلدات ضخام، توفي سنة 823 ثلاث وعشرين وثمانمائة. 666- أبو مهدي عيسى بن علال المصمودي 2: مصمودة الهبط، ويقال: الكتامي الفاسي شيخ الجماعة بها وفقيهها وقاضيها، له تعليق على مختصر ابن عرفة الفقهي، ويقال: له استدراكات عليه. وله رحلة وسماع وزهد وورع إمام القرويين وخطيبها، توفي 823 ثلاث وعشرين وثمانمائة. 667- أبو القاسم محمد بن عبد العزيز التازغدري 3: مفتي فاس وخطيبها الإمام الفقيه النظار أكثر ابن غازي من النقل عنه في كتبه، وله تعليق على تقييد أبي الحسن الصغير على المدونة وفتاو كثيرة، ذكر في "المعيار" بعضها، قتل غدرا سنة 832 اثنتين وثلاثين وثمانمائة. 668- أبو بكر محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن عاصم الغرناطي: قاضيها، له مشاركة في الفنون، وكتب مفيدة، منها رجزه في الفقه المسمى "تحفة الحكام في الأحكام" مشهور متداول شرحه المشارقة   1 عبد الله بن مقداد الأقفهسي القاضي جمال الدين: الضوء اللامع "5/ 17"، شذرات الذهب "7/ 160"، ونيل الابتهاج "155". 2 أبو مهدي عيسى بن علال المصمودي ويقال: الكتامي الفاسي: الضوء اللامع "6/ 155"، ونيل الابتهاج "193". 3 أبو القاسم محمد بن عبد العزيز التازغدري: الضوء اللامع "1/ 140". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 297 والمغاربة، وأقبلوا عليه لسهولة لفظه ورقة أسلوبه، وله غيره من التآليف، توفي سنة 829 تسع وعشرين وثمانمائة. 669- عبد العزيز بن موسى بن معطي العبدوسي 1: الفاسي: ثم التونسي الإمام الحافظ المتقن الجامع المتفنن الذي اعترف حفاظ وقته بأنه أحفظ أهل الأرض، وأوسع العلماء علما في الطول والعرض، حامل لواء المذهب في وقته شيخ الإسلام، وابن شيوخ الإسلام بيت اشتهر بفاس فضله، وسلم له الأئمة الأعلام، قد أعجب به علماء تونس وأمراؤها لما ورد عليهم، وعطلت دروس جامع القصر وقت تدريسه، وصار جميع العلماء يحضرون إلقاءه، ويستفيدون منه مدة نحو عشرين سنة. وكان كتب لهم ابن مرزوق الحافظ يقول لهم: يرد عليكم حافظ المغرب، فكان كما قال، بل عجبوا منه، ولا سمعوا بمثله لا في تونس، ولا في بجاية ولا غيرهما، فكان البرزلي مبرزا على أقرانه في حفظ الفقه بتونس، وكان المشذالي في بجاية، وما كان أحد منهما يشبهه فضلا عن أن يدانيه، قال أبو عبد الله الزلديوي المفتي بتونس: تركت درسي، وحضرت درسه، فرأيت شيئا لا يدرك إلا بعناية ربانية، موقوف على من رزقه الله الحفظ، ينفق منه كيف يشاء، قال: لازمناه حضرا وسفرا، وعلمنا طريقه تفكرا ونظرا، فلا يقدر على طريقه إلا من حاز فطنة كاملة الاستواء ممدة من جميع القوى، فمن طريقه إذا قرأ المدونة فاستمع لما يوحى: يبتدئ على المسألة من كبار أصحاب مالك، ثم ينزل طبقة حتى يصل إلى علماء الأقطار من المصريين والأفريقيين والمغاربة والأندلسيين وأئمة الإسلام وأهل الوثائق والأحكام حتى يمل السامع، وينقطع عن تحصيله المطالع، وكذا انتقل إلى الثانية وما بعدها، هذا بعض طريقه في المدونة، وأما إذا ارتقى إلى كرسيه في التفسير، فترى أمرا معجزا ينتفع به من قدر له النفع من الخاصة والعامة يبتدئ بأذكار وأدعية مرتبة لذلك يكررها كل صباح يحفظها الناس، ويأتونها من كل فج عميق   1 عبد العزيز بن موسى بن معطي العبدوسي الفاسي التونسي: نيل الابتهاج "179". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 298 يتسابقون في حفظها وبعد ذلك يقرأ القارئ آية، فلا يتكلم بشيء منها إلا قليلا، ثم يفتتح فيما يناسبها من الأحاديث النبوية وأخبار السلف، وحكايات صوفية، وسير شريفة نبوية وصحابية وأخبار التابعين وتابعيهم، ثم بعدها يرجع للآية، وربما أخذ في نقل الأحاديث فيقول: الحديث الأول كذا، والثاني كذا، والثالث كذا، إلى المائة فأزيد حتى يختمها، ثم كذلك في المائة الثانية، ونشك في المائة الثالثة، ويأتي في نظر ذلك ونقلها بأمر خارق للعادة هكذا فعل في مسجد القصر وغيره، وكان الناس يتسابقون إلى المواضع قبل الصبح رجالا ونساء يتزاحمون عليها، وفي خارج المسجد أكثر مما في داخله وصوته جهير يسمع الكل، ومنع السلطان من يخلط عليه ويحيره من الطلبة. وإلا فطلبة تونس لا يردهم ذلك عمن لا يشاركهم في علومهم يأتونه من قبلها، وما تصدى لمعارضته إلا شيخنا أبو العباس المعقلي حرض الطلبة تحريضا عاما، ويقول: إنا لله خلت تونس حتى صار هذا يتكلم فيها بما يشتهي، ولكن خافوا من السلطان رحمه الله، وهذه الطريق قالوا إن ابن أخيه عبد الله يفعلها بفاس بالقرويين وعملها بمصر، فتعجبوا من حفظه ونقله المتين من الأحاديث وثباته عليها وترتيبه، وتكلموا فيه في العربية، فقرأ لهم ألفية ابن مالك، فسلك مسلكه في المدونة بدأ بالنقل عن أصحاب سيبويه، ثم نزل إلى السيرافي وشراح الكتاب، وطبقات النحويين حتى مل الحاضرون وأذعنوا. ويقال: إنه دخل يوما على البرزلي وكان أعمى، فلما تكلم العبدوسي قال له البرزلي: أهلا بواعظ بلدنا، فقال له العبدوسي: قل وفقيهها، فسكت البرزلي، فعد ذلك من إقدام العبدوسي وسرعة جوابه رحمهم الله نقل هذا في "نيل الابتهاج" باختصار قال: ونقل عنه الإمام أبو زيد الثعالبي في شراح ابن الحاجب وابن ناجي في حواشي المدونة. ومن لطائفه سئل يوما عن الشافعي ومالك فقال: أين قبر مالك، فقالوا: في المدينة، وأين قبر الشافعي، فقالوا: بمصر، فقال: بينهما ما بين قبريهما توفي سنة 837 سبع وثلاثين وثمانمائة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 299 قلت: قد ذكرتني ترجمة هذا الحافظ الكبير ترجمة الإمام أبي الفرج ابن الجوزي الحنبلي البغدادي التي بسطها عن عيان الرحالة ابن جبير الأندلسي في رحلته فلتنظر ولا بد. هذا وما وقع للعبدوسي بتونس لا يستغرب لأن أهل القطر التونسي موصوفون بالإنصاف، ولين العريكة، ومحبة علماء المغرب وتعظيمهم وإكرامهم، وكم من عالم من المغرب ذهب إليهم، فأحسنوا القرى، وأخذوا عنه، وأعظموا جانبه، وقد قدمت لتونس سنة 1336، فاجتمع جماعة من سادتهم، وطلبوا مني إملاء درس تفسيري على نسق دروسي بفاس حيث كان بعضهم حضر دروسي التفسيرية وأعجب بها، ولولا الأدب معهم، لقلت: الحق أنهم قد استسمنوا ذا ورم، وتعينت إجابتهم لما أعلم من حسن قصدهم على ما في الباع من القصر، ولقد أهديت التمر لهجر، فوافق أنني كنت وصلت في التفسير إلى أول سورة قد أفلح المؤمنون، فأمليت بجامع الزيتونة عند باب الشفا درسا في العشر الآي الأول من السورة المذكورة فسرتها من حيث ثمانية عشر علما، وقد حضر أعلامهم الشيوخ العظام مثل رئيس أهل الشورى بالمجلس الشرعي السيد/ أحمد الشريف، والقاضيين المالكي والحنفي، وأهل الإفتاء على كبر سنهم وصغر سني وقلة بضاعتي، وأظهروا من الإجلال للعلم وأهله ما هم أهل له، ثم طلبوا مني أن أكتب لهم الدرس المذكور، فكتبت ما علق بفكري منه، وطبعوه ووزعوه تمتينا للروابط العلمية بين القطرين على علماء تونس والمغرب، وقرظوه ومدحه الأديب الأريب الفاضل العلامة المتفنن سيدي محمد الناصر الصدام بقصيدة ارتجالية هناك، وحين أكملت الدرس استأذنني في إملائها، فقلت له: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- أذن لحسان أن ينشد شعره في المسجد النبوي، فأنشدها وأظهر كل من حضر ما هم له أهل من كمال التجلة والإعظام والإعجاب مما أعلم أني دونه بمراحل. جزاهم الله خيرا آمين والقوم ذوو أخلاق شريفة عالية ونهضة علمية عربية وآداب سامية أنجح الله نهضتهم، وحقق آمالهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 300 670- أبو عبد الله محمد بن أحمد بن علي الحسني الفاسي 1: أصلا المكي الحافظ سبط قاضي القاضي كمال الدين النويري قاضي المالكية بمكة المشرفة ومؤرخها تقي الدين. له ترجمة واسعة في "ذيل طبقات الحفاظ" لابن فهد، وله مصنفات في التاريخ والفقه وغيرهما. توفي سنة 832 اثنين وثلاثين وثمانمائة. 671- أبو الفاضل قاسم بن عيسى بن ناجي 2: الفقيه الحافظ الزاهد الورع، له تفقه عظيم، وقيام على المدونة والرسالة واستحضار للفروع ولي قضاء باجة وجربة وقيروان، وله شرح على الرسالة مطبوع، وشرح على المدونة شتوي في أربعة أسفار وصيفي في سفرين. توفي سنة 837 سبعة وثلاثين وثمانمائة. وله الزيادات على معالم الإيمان في رجال القيروان مطبوع أيضا. 672- أبو الفضل محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن محمد بن أبي بكر بن مرزوق العجيسي 3: التلمساني الشهير بالحفيد الحجة الحافظ المتفنن ذو التآليف والفتاوى السائرة   1 أبو عبد الله محمد بن أحمد علي الحسني الفاسي: ذيل طبقات الحفاظ لابن فهد ص"291، 297". 2 أبو قاسم بن عيسى بن ناجي: نيل الابتهاج "223". 3 أبو الفضل محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن محمد بن أبي بكر مرزوق العجيسي التلمساني: أبو عبد الله، العجيسي، المالكي، التلمساني، ولد سنة 766، مات سنة 842: معجم المؤلفين "8/ 317، 318 الحاشية" دائرة معارف الأعلمي "26/ 157"، الضوء اللامع "7/ 50". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 301 المذكورة في "المعيار" وغيره، وله شرح على "التهذيب"، وشرح على مختصر خليل لم يكملا، وله أراجيز في علم النحو والحديث والقراءات والميقات وغيرها، وشرح على بردة البوصيري، وشرح على صحيح البخاري، وغيره وبيتهم شهير بالعلم في تلمسان وترجمته خصت بالتآليف. توفي سنة 842 اثنتين وأربعين وثمانمائة ووهم في "كشف الظنون" فقال: سنة 781 وهي سنة وفاة جده وقد تقدم. 673- أبو القاسم بن أحمد بن محمد المعتل 1: البلوي القيرواني ثم التونسي الشهير بالبرزلي فقيهها ومفتيها وحافظها صاحب النوازل التي هي من كتب المذهب الأجلة، أجاد فيها ما شاء الله، كان إماما نظارا بحاثا مستحضرا للفقه عارفا بصنعة الفتوى انتهت إليه رياستها في وقته بعد الغبريني وابن عرفه الذي كان ملازما له نحو أربعين سنة، وأخذ عن غيره من شيوخ أفريقية ومصر، فكان شيخ الإسلام في وقته علما وإتقانا. توفي سنة 844 أربع وأربعين وثمانمائة. 674- أبو العباس أحمد بن محمد بن عبد الرحمن الشهير بابن 2 زاغو المغراوي: التلمساني، الإمام المحقق المتفنن العابد، له شرح على التلمسانية في الفرائض، وتفسير على الفاتحة، كثير الفوائد وفتاو في أنواع العلوم، نقل في "المعيار" و"المازونية" جملة منها. توفي سنة 845 خمس وأربعين وثمانمائة.   1 أبو القاسم بن أحمد بن محمد المعتل البلوي القيرواني التونسي "البرزلي": نيل الابتهاج "226"، والبستان "150، 152". 2 أبو العباس أحمد بن محمد بن عبد الرحمن الشهير بابن زاغو المغراوي التلمساني: نيل الابتهاج "78". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 302 675- أبو القاسم محمد بن محمد بن سراج الغرناطي 1: مفتيها وقاضيها حافظ المذهب، وحامل رايته البارع في الفتوى له شرح على مختصر خليل، وأكثر المواق من النقل عنه، وله فتاوٍ كثيرة في "المعيار" توفي سنة 848 ثمان وأربعين وثمانمائة. 676- عمر بن محمد بن عبد الله الباجي 2: باجة تونس، ثم التونسي عرف بالقلشاني قاضي الجامعة بتونس العلامة المحقق النظار الحافظ الإمام المطلع الجليل ممن قل سماح الزمان بمثله علما وجلالة، ومع تبحره في الفقه كان طبيبا أخذه عن الشريف الصقلي وهو صنو أبي العباس القلشاني شارح الرسالة، شرح الطوالع شرحا حسنا وصل فيه إلى الإلهيات، وله شرح عظيم على فرعي ابن الحاجب في غاية الحسن والاستيفاء والجمع مع تحقيق بالغ ينقل كلام ابن عبد السلام ويذيله بكلام غيره كابن راشد وابن هارون والمشذالي وخليل وابن عرفة، وابن فرحون وغيرهم مع البحث معهم. ويطرزها بنقل فحول أهل المذهب كالنوادر، وابن يونس، والباجي، واللخمي، وابن رشد، والمازوني، وابن بشير، وسند، وابن العربي وغيرهم، مع البحث في ألفاظ المتن إفرادا وتركيبا مما يدل على سعة علمه وقوة إدراكه وجودة نظره وإمامته في العلوم، نقل المازوني والمعيار جملة من فتاويه. توفي سنة 848 ثمان وأربعين وثمانمائة.   1 أبو القاسم محمد بن محمد بن سراج الغرناطي: نيل الابتهاج "308". 2 عمر بن محمد بن عبد الله الباجي "القاشاني" بن "باجة": الضوء اللامع "6/ 137"، ونيل الابتهاج "196، 197". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 303 677- عبد الله بن محمد بن موسى بن معطي العيدروسي 1: الفاسي الإمام الحافظ مفتي فاس وخطيبها وعالم الديار المغربية، ومحدثها وصالحها، ولي فتوى فاس والمغرب، وخطابة القرويين، كان رساخ الباع في الحفظ والإتقان، عريق المجد والسخاء، إماما في نصح الأمة، أزال كثيرا من البدع، وأصلح أحوال أهل وقته، أمر بالمعروف، ونهى عن المنكر، وأقام الحدود والحقوق، وكان أكثر علمه فقه الحديث، واسع الأخلاق، وكان أقوى من جده في العمل، وجده أقوى من في العلم، كان يعمل الخوض خفية، ويعطيه لمن لا يعرف أنه له يبيعه، فيتقوت منه في رمضان، ولم يخلف يوم مات إلا ستة أثواب أو ثلاثة لضروري ملبوسه، وكان يشترط في نكاحه العزل فرارا من الولد لفساد الزمان، ولا تفارق كمه الشمائل، وله نظم حسن في شهادة السماع وفتاو كثيرة في "المعيار" وغيره. ومناقبه خصت بالتأليف، وهو من العبادسة بني معطي أعقاب أبي عمران موسى العبدوسي، منهم ولده المحدث الحافظ أبو القاسم الفقيه، وولده الفقيه أبو عبد الله والد صاحب الترجمة، وهم بيت كبير من بيوت العلم أقام العلم ورياسته فيهم زمنا طويلا حتى في نسائهم، وآخرهم أم هانئ العبدوسية وأختها أختا صاحب الترجمة. توفي سنة 849 تسع أو ثمان وأربعين وثمانمائة. 687- محمد بن عمر أقيت المسوفي الصنهاجي 2: قاضي تنبكت أبو الثناء عالم التكرور وصالحها، ومدرسها وفقيهها، وإمامها بلا مدافع، ولي القضاء، فأظهر العدل، وأنصف الرعية من أولي الأمر، وكان السلاطين يزورونه، فلا يقوم إليهم ولا يلتفت إليهم أحيا العلم بتلك   1 عبد الله بن محمد بن موسى بن معطي العيدروسي الفاسي: أخبار مكناس "4/ 502، 503". 2 محمود بن عمر أقيت المسوفي الصنهاجي قاضي تنبكت أبو الثناء: شجرة النور "278". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 304 الأصقاع، وكان أكثر ما يقرئ المدونة والرسالة، وهو أول من أظهر خليلا بتلك النواحي، وقيد عنه تقاييد أخرجوها شرحا في سفرين. توفي سنة 855 خمس وثمانمائة عن سبع وثمانين سنة. 679- أبو القاسم وأبو الفضل قاسم بن سعيد بن محمد العقباني 1: التلمساني الإمام شيخ الإسلام، ومفتي الأنام الفرد العلامة الحافظ القدوة العارف المجتهد المعمر ملحق الأحفاد بالأجداد الرحال، له اختيارات خارجة عن المذهب نازعه عصريه ابن مرزوق الحفيد في كثير منها، وقال فيه القلصادي في فهرسته: مرتقي درجة الاجتهاد بالدليل والبرهان، ولي قضاء تلمسان في صغره، ورأى أمله من ذريته في كبره، ودرس وأفاد الجهابذة النقاد، روى عن الحافظ ابن حجر والبساطي وغيرهما، له تعليق على فرعي ابن الحاجب وأرجوزة تتعلق باجتماع الصوفية على الذكر. وبيتهم بيت علم أبوه ووالده وحفيده. توفي عن سن عالية سنة 854 أربع وخمسين وثمانمائة. 680- أبو عبد الله محمد بن محمد بن أحمد المقري 2: بفتح الميم والقاف المشددة وتخفف القرشي التلمساني الأصل، الفاسي قاضيها، له مشاركة تامة في العلوم، وله كتاب "القواعد" اشتمل على ألف ومائتي قاعدة للمذهب المالكي هي أصوله التي بني عليها، وله كتب في فنون شتى وقال فيه ابن مرزوق: إنه وصل درجة الاجتهاد المذهبي والتخيير والتزييف من الأقوال. توفي سنة 858 ثمان وخمسين وثمانمائة.   1 أبو القاسم وأبو الفضل قاسم بن سعيد بن محمد العقباني التلمساني: الضوء اللامع "6/ 181"، ونيل الابتهاج "223/ 224". 2 أبو عبد الله بن محمد بن محمد بن أحمد المقري القرشي التلمساني الأصل الفاسي: نيل الابتهاج "249". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 305 681- أم هانئ بنت محمد العبدوسي 1: فقيهة فاس الصالحة الأحوال أخت الإمام الحافظ عبد الله العبدوسي هي آخر فقهاء هذا البيت الذي رفع العلم عماده. توفيت سنة 860 ستين وثمانمائة ولها أخت مثلها اسمها فاطمة العبدوسية يشار إليها بالفقه والصلاح. 682- أبو العباس أحمد بن عمر المزجلدي 2: بجيم معقودة بعد الزاي قبيلة بجبال عمارة إمام علم شهير من أئمة فاس كان يحفظ المدونة، ويمليها حفظا، ويملي ألفاظ شراحها كذلك من غير تكلف، ويبين مآخذهم وأنهم إنما شرحوا أولها بآخرها، وآخرها بأولها، ويقول: ما نزل حكم من السماء إلا وهو في المدونة كان نزها زاهدا مهيبا، صلبا في الحق ولا يبالي بالدنيا وأبنائها. توفي سنة 864 أربع وستين وثمانمائة. 683- أبو العباس أحمد بن سعيد التيحميسي 3: الشهير بالحباك المكناسي أصلا، الفاسي الفقيه الإمام الخطيب علامة شاعر متصوف نظم بيوع ابن جماعة التونسي محررة بما وضع عليها الإمام أحمد القباب. توفي سنة 870 سبعين وثمانمائة. 684- سالم بن إبراهيم الصنهاجي المغربي: قاضي القضاة بالشام والقدس مولده بالمغرب، وبه قرأ العلم، أسره الكفار ثم أنجاه الله، ولما ولي الشام سار بسيرة حسنة باحترام وعفة ونزاهة. توفي سنة 873 ثلاث وسبعين وثمانمائة عن نحو مائة سنة.   1 أم هانئ بنت محمد العبدوسي: نيل الابتهاج "348". 2 أبو العباس أحمد بن عمر المزجلدي: نبل الابتهاج "81". 3 أبو العباس أحمد بن سعيد التيجميسي "الحباك" أخبار مكناس "1/ 313، 315". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 306 685- أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن مخلوف الثعالبي 1: الجعفري الهاشمي الزينبي الجزائري الإمام العلم الزاهد القدوة الكامل صاحب الجواهر الحسان في تفسير القرآن، وروضة الأنوار في الفقه، قدر المدونة جمع فيها لباب نحو ستين دواوين المالكية المعتمدة من حصل عليه حصل على خزانة مالكية فقهية، وشرح ابن الحاجب الفرعي في سفرين مع جامع كبير ختمه به في جزء، وجامع الأمهات في أحكام العبادات وغيرها تآليف كثيرة. توفي بالجزائر سنة 875 خمس وسبعين وثمانمائة عن نحو تسعين سنة. ونسبة الثعالبي إلى الثعالبة بوطن الجزائر قبيلة شهيرة به من عرب معقل والجعفري إلى جعفر بن أبي طالب الطيار شهيد مؤته، وينسب أيضا زينبي نسبة إلى زينب بنت علي بن أبي طالب، وفاطمة البتول زوجة عبد الله بن جعفر رضي الله عنهم، وقد بسط القول في هذا النسب الأطهر العلامة أحمد بن خالد الناصري في كتابه "طالع المشتري في النسب الجعفري" فانظره، فإنه مطبوع بفاس. وإلى قبيلة الثعالبة المذكورين ينتسب قبيلنا من حجاوة قال الناصري المذكور: والثعالبة جعافرة صرحاء في النسب المذكور ويأتي في ترجمة أبي مهدي عيسى الثعالبي أنه من هذا القبيل، صرح بذلك في الصفوة وغيرها كما صرح بذلك من ترجموا لأبي زيد المذكور، ويأتي في ترجمة الإمام أبي بكر الحجوي قريبا أنه منهم. 686- أبو عبد الله محمد بن قاسم 2: اللخمي نسبا المكناسي دارا، ثم الفاسي الشهير بالقوري بفتح القاف،   1 أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن مخلوف الثعالبي الجعفري الهاشمي الزينبي الجزائري: أبو زيد، الثعالبي، الجزائري، ولد سنة 786، توفي سنة 875: شجرة النور الزكية "264"، الضوء اللامع "4/ 152"، ونيل الابتهاج "173، 175"، وفهرس الفهارس "2/ 131، 132". 2 أبو عبد الله محمد بن قاسم اللخمي نسبا المكناس دارا: أخبار مكناس "3/ 595، 597". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 307 وتقديم الواو على الراء الإمام المتبحر المفتي، المشاور الحجة الأنزه، آخر حفاظ المدونة بفاس، كان ينقل في درسه لها كلام المتقدمين والمتأخرين وذكر مواليدهم ووفياتهم، وضبط أسمائهم، ويشبع الكلام على الأحاديث التي يستدلون بها، له شرح في مختصر خليل، توفي بفاس سنة 872 اثنين وسبعين وثمانمائة. 687- علي بن عبد الله نور الدين شهر بالسنهوري 1: نسبة إلى قرية من قرى مصر شيخ المالكية بمصر، وكانت حلقته من أجل حلق العلم بها شرح المختصر بشرح جليل لم يكمل، وشرح الآجرومية، وله تعليق على التلقين على ما قيل قال تلميذه زروق: كان حافظا للفقه، عارفا بالنحو والأصول، وقال المنوفي: إنه رأس محقق زمانه. توفي سنة 889 تسع وثمانين وثمانمائة. 688- أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن الحفيد 2: الشهير بابن رشد السجلماني قاضي حلب، ومن انتهت إليه رياستها توفي سنة 789 تسع وثمانين وسبعمائة. 689- علي بن محمد بن محمد بن علي القرشي البسطي 3: نزل غرناطة الشهير بالقلصادي الفقيه العالم المشارك الفرضي الرحلة   1 علي بن عبد الله نور الدين بالسنهوري: أبو الحسن، ولد سنة 814، مات سنة "889": شجرة النور الزكية "258"، الضوء اللامع "5/ 249، 251"، نيل الابتهاج "168". 2 أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن الحفيد "ابن رشد السلجماني قاضي الحلب": أبو زيد، أبو المحاسن، الدمشقي، الشافعي، الكزبري الصغير، أو الكزبري الحفيد، مات سنة "1262": فهرس الفهارس "1/ 484"، معجم المؤلفين "5/ 177، 178"، ثبت الكزبري ص"58، 120". 3 علي بن محمد بن محمد بن علي القرشي البسطي الشهير "القلصادي: أبو الحسن، القرشي البسطي، الأيدلسي، ولد سنة "815"، مات سنة "891": معجم المؤلفين "7/ 230"، شذرات الذهب "6/ 308"، ونيل الابتهاج "168". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 308 الحيسوبي من أئمة الأندلس المشهورين بكثرة التأليف، هاجر عن غرناطة لما نزلت بها المصيبة العظمى إلى أفريقية، وكان على قدم عظيم في الاجتهاد ومداومة التدريس ونشر العلم والتأليف، من تواليفه "أشهر المسالك إلى مذهب مالك"، وشرح مختصر خليل، والرسالة، والتلقين، و"هداية الأنام شرح مختصر قواعد الإسلام"، و"هداية النظار في تحفة الأحكام والأسرار" و"كشف الأسرار عن علم الغبار"، و"كشف الجلباب عن علم الحساب" وشرحان عن التلخيص و"كليات الفرائض"، وشرحها، وشرحان على التلمسانية، وشرح ألفية ابن مالك، والخزرجية في تواليف كثيرة بين شرح وتصنيف، بين بعضها في "نيل الابتهاج" فانظره. توفي بباجة أفريقية سنة 891 إحدى وتسعين وثمانمائة والقلصادي بفتح القاف واللام والصاد المهملة كما في "المنح البادية" وغيرها. 690- أبو عبد الله محمد بن موسى بن محمد بن سند اللخمي1: المصري، ثم الدمشقي، حافظ متقن، وإمام متفنن، له عدة كتب في الحديث وغيره. توفي سنة 792 اثنين وتسعين وسبعمائة. 691- أبو العباس أحمد بن عبد الرحمن الشهير بحلولو2: اليزليتني الطرابلسي له شرحان على المختصر وآخران على جمع الجوامع، واختصر فتاوى البرزلي وغير ذلك. قال السخاوي: كان حيا سنة 895 خمس وتسعين وثمانمائة.   1 أبو عبد الله محمد بن موسى بن محمد بن سند اللخمي المصري ثم الدمشقي: حسن الحاضرة "1/ 203"، والدرر الكامنة "4/ 270"، وشذرات الذهب "6/ 326"، وتذكر الحفاظ "177، 368". 2 أبو العباس أحمد بن عبد الرحمن الشهير بحلولو: الضوء اللامع "2/ 260، 261"، ونيل الابتهاج "83، 84". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 309 692- أبو عبد الله محمد بن يوسف بن عمر السنوسي 1: وبه شهر التلمساني، ونسبته إلى قبيلة قربها من البربر، وأم أبيه شريفة حسنية عالم تلمسان ولسان متكلميها إمام مشهور تواليفه في العقائد على مذهب متأخري الأشعرية، كالكبرى والوسطى والصغرى وشرحها، مع صلاحه وزهده واشتهاره بذلك في الأقطار، ألف تلميذه الملالي تأليفا في التعريف به وبمناقبه وقد لخصه أحمد بابا السوداني في "نيل الابتهاج" قال: وبلغني أنه شرح فرعي ابن الحاجب، وله شرحان على الحوفية، وفتاو وأراجيز، وله تواليف كثيرة في فنون. توفي سنة 895 خمس وتسعين وثمانمائة عن نيف وستين سنة. 693- أبو محمد عبد الله الورياجلي 2: الفاسي علامة مشارك الصدر الأوحد ممن بلغ رتبة الاجتهاد أو كاد، وكان من فحول علماء الدنيا الذين تشد إليهم رحال طلاب العلم يقرئ المذاهب الأربعة، ينتصر لمذهب مالك كأنه المازري، ومن طالع أجوبته يقضي بصحة ذلك؛ إذ لا يذكر إلا الخلاف الكبير، ومن عادته أن يشتغل بالتدريس في فصلي الربيع والشتاء، ويخرج في فصلي الصيف والخريف للرباط، وحراسة ثغور القبائل الهبطية، ونشر العلم بها، وفضائله جمة، تولى رياسة العلم بفاس، وبها استقر إلى أن مات، وما كانت ترفع إليه إلا المعضلات المهمات. توفي سنة 894 أربع وتسعين وثمانمائة، وقيل: في العشر الأولى من القرن العاشر.   1 أبو عبد الله محمد بن يوسف بن عمر السنوسي: السنوسي، التلمساني، الحسيني، ولد سنة "832"، مات سنة "895": معجم المؤلفين "12/ 132، الحاشية". 2 أبو محمد عبد الله الورياجلي الفاسي: نيل الابتهاج "159". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 310 694- أبو مهدي عيسى بن أحمد بن محمد الماواسي البطوئي 1: الفاسي بيتهم بيت علم وجلالة بها، وهو فقيهها ومفتيها وعالمها، أقام يخطب بفاس الجديد نحو ستين سنة، وله فتاوٍ نقل بعضها في "المعيار" تدل على كماله، وولي خطة الفتوى بعد الإمام القوري، ورقي أعلا درجاتها، وكان حافظا محققا من جلة الفقهاء وكبار العلماء توفي سنة 896 ست وتسعين وثمانمائة عن سن عالية. 695- أبو عبد الله محمد بن يوسف العبدري الشهير بالمواق 2: الغرناطي حضر استيلاء الإسبان على غرناطة، له شرح على مختصر خليل شرحه بنقل كلام الفقهاء الذي يؤيده، وما لم يجد له عاضدا سكت عنه، وهو صنيع لطيف يرجع بنا لاستحضار كلام الأقدمين، وقد طبع بمصر سنة 1328 توفي سنة 897 سبع وتسعين وثمانمائة. 696- أبو العباس أحمد بن أحمد بن محمد بن عيسى زروق 3: بوزن تنور البرنسي4 بضم النون الفاسي الإمام الفقيه المحدث الصوفي المشهور في العالم الإسلامي الرحالة، ذو التصانيف العديدة المفيدة، والمناقب   1 أبو مهدي عيسى بن أحمد بن محمد الماواسي البطوئي الفاسي: نيل الابتهاج "194". 2 أبو عبد الله محمد بن يوسف العبدري الشهير بالمواق الغرناطي: نيل الابتهاج "324، 325"، والضوء اللامع "10/ 98"، شجرة النور "262". 3 أبو العباس أحمد بن أحمد بن محمد بن عيسى زروق: نيل الابتهاج "84، 87"، والبستان "45، 50"، وسلوة الأنفاس "3/ 183، 184". 4 البرنسي نسبة إلى البرانس قبيلة بربرية قرب فاس، وزروق يقال لأزرق العينين، ثم صار علما. ا. هـ. "المؤلف". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 311 الحميدة، والزهد والورع، والانكباب على العلم والهداية، له شرحان على الرسالة، وآخر على مختصر خليل، وشرح على إرشاد ابن عسكر، وابن القرطبية، والوغليسية، والغافقية والعقيدة القدسية للغزالي ونيف وعشرون شرحا على الحكم، والنصيحة الكافية، وكتابه القواعد في التصوف، مطبوع، وكتاب عدة المريدين فيه ما أحدثه الصوفية العالية في المؤلفين، بل والمنصفين والمرشدين، ذابا عن السنة، قوالا للحق، وهو آخر المحققين الجامعين بين الفقه والتصنيف، المحتج به عند الطائفتين، أخذ عن شيوخ المشرق والمغرب، وأخذوا عند كذلك. توفي سنة 899 تسع وتسعين وثمانمائة، ودفن بتكرين من أعمال طرابلس الغرب، وقبره هناك مشهور، وله طريقة خاصة في التصوف وأتباع رحمه الله. 697- أبو العباس أحمد بن محمد بن زكري المانوي 1: التلمساني علامتها ومفتيها، وحافظها المتفنن الأصولي الفروعي، المفسر الأبرع، له تآليف في مسائل القضاء والفتيا، وشرح عقيدة ابن الحاجب، والمنظومة الكبرى في علم الكلام تنيف عن ألف وخمسمائة بيت شرحها أئمة أعلام، وله فتاوٍ كثيرة منقولة في "المعيار" توفي سنة 899 تسع وتسعين وثمانمائة. 698- أبو الحسن علي بن قاسم بن محمد التجيبي 2: الشهير بالزقاق الفاسي مؤلف نظم المنهج المنتخب في اصول المذهب،   1 أبو العباس أحمد بن محمد بن زكري المانوي التلمساني: نيل الابتهاج "87، 88"، وفهرس الفهارس "4/ 438، 439". 2 أبو الحسن علي بن قاسم بن محمد التجيبي "الزقاق" الفاسي": أبو الحسن، التجيبي، ولد سنة "625": وادي أشي "65"، الاستقصا "2/ 182"، شجرة النور "274". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 312 ولاميته أيضا شهيرة في أحكام فقهية في مسائل جرى بها عمل فاس، ويكثر حدوثها، ويحتاج القضاة لمعرفتها. توفي سنة عالية سنة 912 اثنتي عشرة وتسعمائة. 699- أبو العباس أحمد بن يحيى بن محمد بن عبد الواحد الوانشريسي 1: التلمساني الأصل، الفاسي الدار، حامل لواء المذهب المالكي بالديار الأفريقية في وقته، وصاحب كتاب المعيار المشتمل على فتاوى فقهاء المغرب والأندلس وأفريقية جمع فأوعى، وهو من التآليف ذات الشأن عند فقهاء الوقت على ما فيه من ضعف بعض الفتاوى طبع بفاس واشتهر في العالم، وله تعليق على مختصر ابن الحاجب، وكتاب في القواعد الفقهية سماه "إيضاح المسالك إلى قواعد الإمام مالك" جمع نحو مائة قاعدة فقهية بني عليها الخلاف المالكي، ولكن كلها أو جلها مختلف فيها. وعن الاختلاف فيها نشأ الاختلاف في فروعها، فهو كفلسفة مفيدة وله وثائق، وكتاب في الفروع، وشرح وثائق الفشتالي وغيرها. توفي سنة 914 أربع عشرة وتسعمائة وفي "دوحة الناشر": في آخر العشرة الأولى في القرن العاشر إلا أن صاحب الدوحة لا يحرر الوفيات. 700- أبو عبد الله بن عبد الله بن محمد اليفرني 2: الشهير بالقاضي المكناسي نسبة إلى قبيلة مكناسة الفاسي قاضيها وإمامها الفقيه الشهير، مكث في قضائها بضعا وثلاثين سنة لعدله وسياسته وكفاءته،   1 أبو العباس أحمد بن يحيى بن عبد الواحد الوانشري التلمساني: نيل الابتهاج "87، 88"، وفهرس الفهارس "4/ 438، 439". 2 أبو عبد الله بن عبد الله بن محمد اليفرني الشهير بالقاضي المكناسي: جذوة الاقتباس "151"، وأخبار مكناس "3/ 599". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 313 بيتهم بيت علم ووجاهة بفاس، وصار عليها سمة ابن القاضي وهو شيخ صاحب "المعيار"، وينقل فتاويه فيه وأحكامه، له تواليف، منها مجالس القضاة والحكام في سفر متوسط، وهو عمدة القضاء إلى الآن والتنبيه والإعلام فيما أفتاه المفتون، وحكم به القضاة من الأوهام، وكان لا يولي أحدا الشهادة إلا بعد اللتيا والتي، ويقول: من طلبها لي، فكأنما خطب ابنتي، وأصاب في ذلك، فإن بعض القضاة كان يقول للشهود: أنتم القضاة ونحن المنفذون، وهكذا كان شأن الشهادة إلى أن تولى عبد الرحمن الطرون، فإنه كسر الباب، وأدخل لها الغث والسمين. توفي سنة 917 سبع عشر وتسعمائة. عن ثمان وسبعين سنة. 701- أبو عبد الله محمد بن أحمد بن غازي العثماني 1: المكناسي الأصل مكناسة الزيتون ثم الفاسي شيخ الجماعة بها والذي انتهت إليه رواية السنة بأفريقية، وفهرسته خير دليل على ذلك، واجتماع علماء المغرب على الأخذ عنه وتوثيقه وقبول روايته، الإمام الحافظ المشارك في الفنون العقلية والنقلية صدرا في القراءات والتجويد، عارفا بوجوهه، وصدرا في الحديث ورجاله، والتفسير والفقه، ورياضي كبير، وكانت إليه الرحلة في الأقطار الإفريقية، غزا بنفسه غير ما مرة، وكان يحرض عليه في خطبه، جامع أشتات الفضائل، ذو التصانيف العجيبة في القراءات والحديث والعربية والحساب والعروض والفقه، خطيب القرويين وإمامها، له تقييد على البخاري، وله شفاء الغليل شرح مختصر خليل، وتكميل التقييد على المدونة، وحل مشكل كلام ابن عرفة، وله المنية منظومة في الحساب وشرحها متداولة بين الناس في سفر ضخم، تدل على أن العلوم الرياضية كانت بالمغرب زاهرة في القرن العاشر، وتآليف أخرى كلها غرر توفي شهيدا ذهب للحراسة بنفسه على شيبته في الثغور المغربية، فمرض وجيء به لفاس عليلا فتوفي سنة 919 تسع عشرة وتسعمائة عن ثمان وسبعين سنة، فقد كان مجددا رحمه الله، وكانت له اليد الطولى في إنقاذ بلده من   1 أبو عبد الله محمد بن أحمد بن غازي العثماني المكناسي الفاسي: نيل الابتهاج "333"، وشجرة النور "267"، وفهرس الفهارس "1/ 210". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 314 الاحتلال البرتغالي والتسلط الأجنبي. 702- أبو عبد الله محمد بن أبي الهبطي الصماتي 1: الفاسي الإمام الفقيه النحوي الفرضي الأستاذ المقرئ وهو الذي يقرأ أهل المغرب بالوقف الذي جعله في القرآن الكريم منذ زمنه إلى الآن مطبقين عليه، وهو أخذه عن الإمام ابن غازي شيخه، وإن كان في بعضه نظر، وإن تلقاه قراء المغرب بالقبول. توفي سنة 930 ثلاثين وتسعمائة. 703- أبو الحسن علي بن هارون المطغري 2: مطغرة تلمسان أصله منها، وانتقل جده إلى فاس إمام علامة مفتي فاس، وحامل راية المذهب بها، راوية فحل من فحولها، جلس إلى الإمام ابن غازي يأخذ عنه الفقه تسعة وعشرين سنة، وإلى الإمام الونشريسي صاحب "المعيار" وغيرهما، وانتهت إليه رياسة الفقه والإفتاء بعدهما والتدريس، ونفع العباد، ونشر الدين والخطابة بالقرويين، وصار شيخ الجماعة في وقته، تشد إليه الرحال، واقرأ المدونة في حياة ابن غازي، وممن أخذ عنه سيدي رضوان الجنوي والمنجور وغيرهما. توفي سنة 951 إحدى وخمسين وتسعمائة، وقد أناف على الثمانين. 704- أبو محمد عبد الواحد بن الإمام أحمد بن يحيى الونشريسي 3: الزناتي الفاسي إمام وقته في الفقه من غير مدافع، متضلع في الأدب   1 أبو عبد الله محمد بن أبي الهبطي الصماتي الفاسي: الصماتي بضم المهملة نسبة إلى صماته قبيلة جبلية بالمغرب الشمالي والهبطي بفتح أوله نسبة بلاد الهبط معروفة هناك. ا. هـ. "المؤلف". 2 أبو الحسن علي بن هارون المطغري مطغرة تلمساني: نيل الابتهاج "212". 3 أبو محمد عبد الواحب بن الإمام أحمد بن يحيى الونشريسي الزناتي الفاسي: نيل الابتهاج "188". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 315 والأصول مشارك في الفنون محقق للجميع مع طلاقة لسان، وحسن بيان وثبات جنان، ولطف وحسن شمائل، وجودة فهم وخط، وشعر لا يقارع فيه، صحيح الدين، متين الورع، معيب وقور، متقدم في الإنشاء وعقد الشروط مجلسه يحضره أكابر العلماء. تولى القضاء ثمان عشرة سنة، ثم الفتيا بعد شيخه ابن هارون، وهو في ذلك مداوم على الدروس، عدل في أحكامه، أخذ عن والده صاحب المعيار وابن غازي وغيرهما، ومن تواليفه نظم قواعد مذهب مالك بن أنس لخص فيه إيضاح المسالك لوالده، وزاد عليه زيادات رائقة، وشرح مختصر ابن الحاجب الفرعي في أربعة أسفار، وشرحه على الرسالة مطول عجيب، ونظم تلخيص ابن البناء في الحساب، وله تعليق حسن على البخاري لم يكمل، وله أزجال وموشحات لرقة طبعه، ومن قوته في الدين أن السلطان أبا العباس المريني أبطأ في الخروج لصلاة العيد حتى حان الظهر، وبعد خرجوه رقي المنبر، فقال: الله آجركم في صلاة العيد، ثم أمر المؤذن أن يؤذن للظهر، فصلى بهم الظهر، وانصرف، ولم يراع سلطان ولا غيره. توفي قتيلا شهيدا سنة 955 خمس وخمسين وتسعمائة عن نحو سبعين سنة. 705- أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن اليسيتني 1: بفتح التحتانية وكسر السين المشددة نسبة إلى قبيلة بربرية الفاسي عالمها ومفتيها الفقيه المشارك المتقدم في العلوم، رحل للأقطار، وأتى بعلوم كانت اندثرت من الديار الأفريقية فأحياها، له شرح مختصر خليل إلى النواقض، وجزء في حقوق السلطان على الرعية وحقوقها عليه، وآخر في الرد على البلبالي في إنكاره القول بطهارة بول المريض الذي صارت له أوصاف الماء بحيث باله كما   1 أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن اليسيتني الفاسي: نيل الابتهاج "338، 339"، وسلوة الأنفاس "3/ 59، 60". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 316 شربه وتواليف أخرى في علم الكلام وغيره. توفي سنة 959 تسع وخمسين وتسعمائة. 706- أبو زيد عبد الرحمن بن علي سقين 1، 2: السفياني العاصمي الفاسي، الفقيه الخطيب، المحدث الراوية الرحالة، لقي بمصر جماعة، منهم برهان الدين القلقشندي، وزكريا الأنصاري القاضي، وابن فهد بمكة، والسخاوي كلهم عن الحافظ ابن حجر العسقلاني، وعنه أخذ المنجور، وأبو راشد البدري ورضوان الجنوي وغيرهم، كل ذلك مبين في أسانيدنا. توفي سنة بفاس سنة 956 ست وخمسين وتسعمائة عن ثلاث وثمانين سنة. 707- عمر بن محمد الكماد الأنصاري القسطنطيني: الفقيه العالم الكبير المتفنن المحقق الراسخ، الصالح الأحوال ألف كتاب البضاعة المزجاة على طريق الطوالع والمواقف في غاية التحقيق والإيضاح، وفتاوى في الفقه وتعليقا على قول "خ": وخصصت نية الحالف، وكتابا حفيلا في الرد على الشبوبية أصحاب المرابط عرفة القيرواني وغيرها توفي سنة 960 ستين وتسعمائة. 708- أبو عبد الله محمد بن أبي الفضل المدعو خروف التونسي الأنصاري: الملقب جار الله الإمام الفقيه الأصولي المحدث الأديب المشارك المتبحر، قرأ   1 سقين مصغر مشدد القاف كما في "المنح البادية". 2 أبو زيد عبد الرحمن بن علي سقين السفياني العاصمي الفاسي: أبو زيد، العاصمي، السفياني، العصري الفاسي، الشهرة سقي، سقير، توفي سنة "956": فهرس الفهارس "2/ 987"، شجرة النور الزكية "279". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 317 بأفريقية ومصر، وأسر، ففداه السلطان أحمد الوطاسي، فاستوطن فاسا، فدد بها سند العلوم المعقولية، وعنه أخذ على الحقيقة، وكان له على المنقولات أيضا سند عال، وهو ممن ضمت فهرستنا سنده الكريم، أخذ بفاس عن سقين وعلي بن هارون، وعبد الواحد الونشريسي وغيرهم، وأخذ عنه سيدي رضوان والمنجور، والقصار، وسيدي يوسف الفاسي وغيرهم. توفي سنة 966 ست وستين وتسعمائة. 709- القاضي حسين المكي 1: نشر العلم بها وفيمن يرد إليها، ويحسن لطلبتها وفقرائها، وعين لقضاء القضاة في المدينة المنورة، ثم صار شيخ الإسلام وناظر المسجد الحرام، وخطيب الموقف. توفي سنة 990 تسعين وتسعمائة. 710- أبو النعيم رضوان بن عبد الله الجنوي 2: الفاسي الفقيه المحدث، أورع أهل زمانه وواحد وقته علما وعملا، شريف الخلال، لطيف الصفات، شديد الاتباع للشروع وآداب السنة، لا يذكر غائب بحضرته إلا بما اقتضاه العلم، ولا يترك أحدا يقبل يده، ويقول: ما مد يده إلا مأذون أو مجنون أو طرمون، ولست بواحد منهم قال فيه الإمام القضار: رضوان الرجل الصالح لو أدركه أبو نعيم لجعله في "الحلية" وقد ألف في مناقبه تلميذه أحمد بن موسى المرابي تحفة الإخوان في مجلد، والشيخ رضوان قد ألف كتابا في الفقه، وله نظم الحلية لأبي نعيم، وتقاييد كثيرة. توفي سنة 991 إحدى وتسعين وتسعمائة عن تسع وسبعين سنة، ولم يخلف بعد تجهيزه ما يورث عنه سوى حصير الصلاة، وخيط يشمر به أكمامه للوضوء لزهده وورعه، وأعجب من ذلك أنهما بيعا بسبعين مثقالا، وحين   1 حسين المكي "القاضي": شذرات الذهب "8/ 419". 2 أبو النعيم رضوان بن عبد الله الجنوي الفاسي: اليواقيت الثمينة "1/ 151، 152"، وفهرس الفهارس "1/ 325، 326". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 318 رفعت لابنته التي لم يترك وارثا سواها أبت من قبولها، وقالت: إنهما لا يساويان هذا القدر، فاشتروا بها بقعة وبنوا بها زاوية هي باسمه إلى الآن بفاس. والجنوي نسبة إلى جنوة بلد بإيطالية أسلم أبوه بها لما رأى فرسه راث ليلا بكنيسة، فجاء الرهبان صباحا وباعوا الروث بمال عظيم بدعوى أن المسيح أتى للكنيسة فراث فرسه، فهجر دينا خرافيا وجاء للمغرب، فأسلم وتزوج يهودية أسلمت، فولد لهما سيدي رضوان رحمه الله. 711- أبو العباس أحمد بن علي المنجور 1: الفاسي الإمام المحصل المشارك عارف بالرجال والحديث والفقه والعربية والتعاليم وله تآليف، منها نظم الفوائد في الكلام، وشرح المنهج المنتخب إلى قواعد المذهب في الفقه وغيرها، وله شعر رائق. توفي سنة 995 خمس وتسعين وتسعمائة. 712- أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن الحطاب الرعيني 2: المغربي الأصل المولود بمكة، له شرح على المختصر الخليلي جليل استمد منه كل من شرحه بعده، وهو أكثر الشروح تحريرا وإتقانا، وعليه اعتمد البناني وابن سودة والرهوني في كثير من تعقباتهم على الزرقاني، وله غيره من المؤلفات الحسنة. توفي سنة 954 أربع وخمسين وتسعمائة.   1 أبو العباس أحمد بن علي المنجور الفاسي: أخبار مكناس "1/ 319، 332"، وسلوة الأنفاس "3/ 60"، نيل الابتهاج "95، 98". 2 أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن الحطاب الرعيني المغربي الأصل: نيل الابتهاج "337، 338". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 319 713- محمد بن عبد الله الوجديجي الملقب شقرون 1: التلمساني وفد على السلطان بفاس، فأكرمه، وولاه الفتوى بمراكش وسائر أقطار المغرب فكان يتردد لنشر العلم بينها وبين فاس وأخذ عنه أعيانهما كان مفننا عارفا بالأصلين والمعقول والحساب والفرائض نافذا في الفروع الفقهية منطبعا معها يحسن النوازل ويقوم على مختصر ابن الحاجب أتم قيام، له شرح على التلمسانية في الفرائض، فكان عالم الزمان وفارس المنابر وعروس الكراسي طلق اللسان منفسح الصدر كثير المعرفة يحضر مجلسه أعيان الفقهاء والسلطان بنفسه وانتفع به العموم. توفي سنة 983 ثلاث وثمانين وتسعمائة عن خمس وسبعين. 714- أبو العباس أحمد بن الحسن بن يوسف الشهير بابن عرضون 2: الزجلي3 باللام الشفشاوني بلد بشمال المغرب قاضيها وعالمها، وفقيهها، له كتاب اللائق في الوثائق حسن في بابه، وآخر في الأنكحة مجلد ضخم. توفي سنة 992 اثنين وتسعين وتسعمائة، وكان أبوه أبو علي الحسن فقيها أيضا له أجوبة في الفقه تؤذن باتساعه في العلم وتأتي ترجمة أخيه أبي عبد الله عرضون.   1 محمد بن عبد الله الوجديجي الملقب شقرون التلمساني: نيل الابتهاج "340"، البستان "261". 2 أبو العباس أحمد بن الحسن بن يوسف الشهير بابن عرضون الزجلي: اليواقيت الثمينة "1/ 18". 3 الزجلي نسبة إلى أزجل على غير قياس مدينة مهمة كانت قرب وزان بجبال الهبط من المغرب الأقصى، فخربت بالفتن، ولا زالت آثارها وهي الآن مدثر. ا. هـ. "المؤلف". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 320 715- يحيى بن محمد الحطاب المكي 1: فقيه مكة وعالمها، متفنن بارع مؤلف، له تواليف في الفقه والمناسك والعروض، منها الالتزامات، كتاب مطبوع وغيرها. توفي بعد ثلاث وتسعين وتسعمائة، وهو حفيد الحطاب السابق. 716- إبراهيم بن علي بن محمد بن فرحون 2: وبه شهر برهان الدين اليعمري الجياني الأصل، المدني المولد والدار، قاضيها وعالمها، جامع للفضائل، ومشارك في الفنون، واسع العلم، فصيح القلم، كثير العبادة، زاهد، رحل إلى مصر والشام وغيرها، وتولى قضاء المدينة المنورة، فأحسن السيرة فيها، لم تأخذه في الله لومة لائم، مات في بيت الكراء وعليه دين كثير. ألف تواليف مهمة كشرح ابن الحاجب، و"درر الخواص"، وهي ألغاز في الفقه لم يسبق لمثله، و"تبصرة الحكام" و"الديباج المذهب في رجال المذهب"، ولخصت عنه كثيرا من التراجم في هذا المجموع وغيرها من التواليف الحسان. انظر ترجمته الحفيلة في "نيل الابتهاج"، توفي سنة 999 تسع وتسعين وتسعمائة. 717- الشيخ محمد بن محمد التبنبكتي 3: عرف ببغيغ بباء موحدة مفتوحة فغين معجمة فياء مثناة مضمومة، فعين مهملة، الفقيه الصالح العابد الناسك من العلماء العاملين قال في "تكميل الديباج" لا يبعد عندي أن يكون هو العالم المبعوث على رأس هذا القرن، وذكر   1 يحيى بن محمد بن الحطاب المكي: حاشية الأكمال "3/ 165"، نيل الابتهاج "360". 2 إبراهيم بن علي بن محمد بن فرحون: الدرر الكامنة "1/ 48"، ونيل الابتهاج "30، 32"، وشذرات الذهب "6/ 357". 3 محمد بن محمد التبنبكتي "عرف ببغيغ": الونكري، التنبكي، ولد سنة "796"، مات سنة "835": معجم طبقات الحفاظ ص"169"، طبقات الحفاظ "545"، الأعلمي "2/ 128". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 321 الرهوني في فصل المباح من الطعام أن علماء السودان يزعمون أنه المبعوث على رأس الألف في نظرهم. ونقل عن أبي العباس المقري أنه رأى له حاشية على المختصر وشراحه تدل على سعة تبحره. وذكر في الصفوة أنه توفي سنة 1002 اثنتين وألف. وقد ترجمه في "تكميل الديباج" و"خلاصة الأثر" وغيرهما. 718- أبو محمد عبد الواحد بن أحمد الحميدي: مصغيرا إمام كبير وعلم شهير، حامل لواء المذهب المكالي بفاس بوقته، بل بالمغرب مع المشاركة في كثير من الفنون، مفتي فاس وقاضيها الذي طالت ولايته أزيد من ثلاثين سنة لم تطل لغيره إلا القاضي المكناسي اليفرني والقاضي بوخريص إلا أن هذا أعفي في آخر عمره، وقد أكثر علماء فاس من نقل العمليات عنه، ووصفه جمهور المؤرخين بالعدل وحسن السيرة، ولا يلتفت لما لمزه به في "الجذوة" نخرج به علماء كثيرون، وزثنوا عليه وعلى أحكامه وقضاياه، وبيتهم بيت علم وجلالة بفاس. توفي سنة 1003 ثلاث وألف. 719- أبو القاسم بن قاسم بن محمد أبي القاسم بن سودة المري الغرناطي الأصل الفاسي العلامة المتفنن المفتي القاضي بتازة، ثم مراكش المشارك وهو ممن نقل عنه أصحاب العمليات وغيرهم، ولعله أول من اشتهر من هذا البيت بفاس، ونشر العلم في المغرب، وأخذ عنه الجمع الكثيرون وهو أخذ عن الحميدي السابق، توفي سنة 1004 أربع وألف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 322 720- يحيى بن محمد بن محمد بن محمد السراج النفزي الحميدي الأندلسي: حفيد يحيى السراج الكبير، علم الأعلام مفتي فاس وخطيبها من العلماء المبرزين المشاركين في الفقه والتفسير، والأصول العارفين المتقنين للنحو والفقه، يعرف المدونة ويدرسها يحفظ مختصر خليل، وله به عناية حتى ألف عليه حاشية، ولما ولي الفتوى، اجتهد وحرر النقول، وتحرى الحق، لا يخرج عن المشهور له تعرف له هفوة قط من صغره. توفي سنة 1007 سبع وألف وما كان يتخذ مأكولا مخصوصا ولا ملبوسا كأبناء جنسه رحمه الله بل يقنع بأقل ما تيسر. 721- بدر الدين محمد بن يحيى المصري الشهير بالقرافي 1: القاضي المالكي بها، له شرح على المختصر، وآخر على القاموس، وتعليق على أوائل ابن الحاجب، وذيل ديباج ابن فرحون في طبقات المالكية ذكر فيه ما ينيف على ثلاثمائة شخص في أربعة كراريس أو خمسة، وشرح الموطأ والتهذيب بين فيه مشهور ما فيه من الخلاف. توفي سنة 1009 تسع وألف. 722- أبو العباس أحمد بن محمد الذهبي 2: المنصور سلطان المغرب والسودان وجوهرة عقد دولة السعديين اليتيمية، كان من أهل العلم والسياسة والكياسة والرياسة، قد ترجمه غير واحد من المؤرخين، ووصفوه بالعلم وحسن التدبير والسياسة، ولنقتصر على نظم منسوب   1 بدر الدين محمد بن يحيى المصري "القرافي" القاضي المالكي: توفي سنة 1009: خلاصة الأثر "4/ 258، 262"، ونيل الابتهاج "342". 2 أبو العباس أحمد بن محمد الذهبي المنصور: الاستقصا في أخبار المغرب الأقصى "3/ 42، 95"، وخلاصة الأثر "1/ 222". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 323 للإمام أبي عبد الله محمد القصار مفتي فاس الشهير ونصه: ولم نجد من جدد الدين سوى ... إمامنا المنصور فالكفر توى بخيله وناره1 أحيا العلوم ... وأهلها وكتبها على العموم في كل يوم جوده على الشريف ... ثم الأسير والفقيه والتريف أما المساجد فكالجنات ... حسنا وتدريسا على الساعات أبقاه ربنا لإحيا الدين ... في قوة وغلب متين وكفى بشهادة مثل هذا الإمام أن جعله مجددا. توفي سنة 1012 اثنتي عشرة وألف. 723- أبو عبد الله محمد بن قاسم القيسي الغرناطي 2: الشهير بالقصار عالم بفاس بل المغرب ومفتيه ورحلته ومحدثه ومعقوليه، وهو الذي أحيا المعقول بفاس هو والإمام المنجور بعدما كان اندثر، واقتصروا على النحو ونحوهما وكذلك رحل ليسيتني، فجاء بشيء من ذلك، فأخذ عنهما المنجور والقصار ونفعا من بعدهما، وإليهما مرجع شيوخ المغرب دراية ورواية، وبقي القصار بعد المنجور، فكان النفع به أكثر. توفي سنة 1012 اثنتي عشرة وألف.   1 أشار بقوله -وناره- لاستعمال الأسلحة النارية البارودية مكاحل ومدافع. ا. هـ. "المؤلف". 2 أبو عبد الله محمد بن قاسم القيسي الغرناطي الشهير بالقصار: أبو عبد الله، القصار، الغرناطي، الفاسي، القيسي، المتوفي سنة 1012: فهرس الفهارس والحاشية "2/ 965"، شجرة النور الزكية "295". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 324 724- أبو عبد الله محمد بن الحسن بن يوسف الشهير بابن عرضون الزجلي الشفشاوني 1: قاضيها وعالمها، متبحر مشارك في العلوم، وكان له شعر رائق، له تواليف حسنة كشرح الرسالة، وشرح حفيدة السنوسي، والممتع المحتاج في آداب الزواج، انتقل لفاس، وبها توفي سنة 1012 اثنتي عشرة وألف. 725- أبو المحاسن يوسف بن محمد بن يوسف بن عبد الرحمن الفاسي الفهري: العالم الإمام النظار، له آثار جليلة توفي سنة 1013 ثلاث عشرة بعد الألف. 726- أبو النجا سالم بن محمد السنهوري 2: شيخ المالكية بمصر في وقته، له حاشية على المختصر لخصها من الخطاب. توفي سنة 1016 ست عشرة وألف عن نحو سبعين خريفا. 727- محمد بن علي بن محمد الشبراملسي 3: المصري إمام المالكية في وقته المتضلع من العلوم، صرف وقته في التحصيل والتأصيل والتفريع، وله مشاركة في العلوم العقلية وألف مؤلفات كثيرة. قال في الخلاصة: كان سنة 1021 إحدى وعشرين وألف موجودا وفي "الصفوة". توفي سنة 1087 سبع وثمانين وألف.   1 أبو عبد الله محمد بن الحسن بن يوسف الشهير بابن عرضون الزجلي الشفشاوني: هدية العارفين "2/ 265". 2 أبو النجا سالم بن محمد السنهوري: توفي سنة "1016": خلاصة الأثر "2/ 204"، واليواقيت الثمينة "1/ 155"، ونيل الابتهاج "126". 3 محمد بن علي بن محمد الشبراملسي المصري: خلاصة الأثر "4/ 44". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 325 728- محمد بن علي بن إبراهيم الإسترابادي 1: نزيل مكة الحافظ صاحب كتب الرجال الثلاثة المشهورة، وله مؤلفات كثيرة، منها شرح آيات الأحكام، وفضله شهير. توفي سنة 1028 ثمان وعشرين وألف. 729- الشيخ أحمد الفاروقي السرهندي 2: النقشبندي من علماء الهند. ذكر النبهاني في "جواهر البحار" أنه المجدد على رأس الألف يعني بقطرة توفي سنة 1034 أربع وثلاثين وألف. 730- أبو العباس أحمد بن أحمد المدعو بابا السوداني 3: من مدينة تمبكتو صنهاجي مسوفي، بيتهم بيت علم من نحو خمسمائة سنة، ألف نحو أربعين كتابا، منها شرح على المختصر، لم يكمل وحاشية على المختصر، أيضا تامة في سفرين، و"نيل الابتهاج" ذيل الديباج في طبقات المالكية، مطبوع كانت له مشاركة في فنون، وامتحن بالأسر، وضياع خزانة كتبه التي كانت تنيف على ألف وستمائة مجلد على أنه أقل عشيرته كتبا لما استولى أحمد المنصور السعدي على بلده، ثم سرح، فنشر العلم بمراكش، وأقبل عليه طلابه بها، بل قضاتها وأعيان علمائها واشتهر ذكره من سوس إلى بجاية ثم عاد لبلاده مسرحا. توفي سنة 1036 ست وثلاثين وألف.   1 محمد بن علي بن إبراهيم الإسترابادي: الميوزا، مات سنة 1028: معجم المؤلفين "10/ 298"، خلاصة الأثر "4/ 96"، دائرة الأعلمي "27/ 54، 69". 2 الشيخ أحمد الفاروقي السرهندي النقشبندي: سبحة المرجان "47". 3 أبو العباس أحمد بن أحمد المدعو بابا السوداني: خلاصة الأثر "1/ 170، 172". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 326 731- عبد الرحمن بن محمد الفهري القصري 1: الشهير بالعارف الفاسي، إمام جليل، أخذ عن أبي المحاسن أخيه والقصار والمنجور وغيرهم، وقد أفرد ترجمته سيدي عبد الرحمن بن عبد القادر بتأليف، له شرح السنوسية، وحاشية على خليل، وأخرى على البخاري، وغيرها. توفي سنة 1036 ست وثلاثين وألف. 732- عبد الواحد بن أحمد بن أحمد بن علي بن عاشر الأنصاري 2: الفاسي منشأ ودارا، عالم محقق مشارك غزا في سبيل الله، وألف تواليف مفيدة، منها نظمه المسمى "المرشد المعين على الضروري من علوم الدين" يحفظه ولدان المغرب، وألف محاذات مختصر خليل، والجمع بين أصول الدين وفروعه، وشرحا على المختصر، التزم نقل لفظ ابن الحاجب والتوضيح لم يكمل، وله حاشية على التتائي، وغير ذلك. توفي سنة 1040 أربعين وألف. 733- أبو علي الحسن بن رحال المعدني 3: المكناسي الأصل، الفاسي الدار، قاضي فاس العليا إمام محقق نقاد فقيه، مفتي فاس حافظ للمذهب المالكي، له على مختصر خليل حاشية في عدة أسفار، وله شرح عليه لم يكمل، وحاشية على شرح ميارة على "تحفة الحكام" مطبوعة بمصر، وله غيرها. توفي سنة 1040 أربعين وألف.   1 عبد الرحمن بن محمد الفهري القصري الشهير "بالعارف" الفاسي: اليواقيت الثمينة "1/ 191"، وخلاصة الأثر "2/ 378، 379". 2 عبد الواحد بن أحمد بن أحمد بن علي بن عاشر الأنصاري الفاسي: ريحان الأدب "8/ 88". 3 أبو علي الحسن بن رحال المعداني المكناسي الأصل الفاسي الدار: اليواقيت الثمينة "1/ 135"، 137"، وأخبار مكناس "3/ 7، 9". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 327 734- أبو العباس أحمد بن محمد المقري 1: شهاب الدين مفتي فاس الرحالة الشهير التلمساني الأصل، الحافظ المتقن، الأديب المؤرخ، أقام مفتيا بفاس 13 سنة، ورحل للمشرق، فحج مرارا، ونشر العلم بمصر والشام والحجاز وبيت المقدس، له كتاب "نفح الطيب" و"زهر الرياض في أخبار عياض"، وغيرهما. توفي بمصر سنة 1041 إحدى وأربعين وألف، وهذا من الرجال الذين خصت تراجمهم بالتأليف. 735- أبو العباس أحمد وعلي ومحمد السوسي 2: والواو في لغة البربر بمعنى ابن فأبوه علي، وجده محمد وهو بو سعيدي هشتوكي صنهاجي أحد الأعلام الزهاد المجتهدين والأئمة المهتدين بارع في العلوم، مشارك زاهد متقشف، ومن زهده كان لا دار له يأوي إليهما، بل في مدرسة المصباحية ثواؤه، وله بلدة وهبها له بعض أهل الخير والدين يحرثها بيده، ويجمع زرعها، فلا يأكل إلا منه يجعله قرصة، ويشويه على النار، وكانت تجبى إليه العطايا من الآفاق لشهرة أمره، فلا يلتفت إليها لئلا تفتنه، ولا يتوسع اقتصارا على الضرورة، وإلا فقد قبل البلد التي كان يحرث فيها للضرورة لتحققه بأصلها، ولما فرش بعض الولاة صحن القرويين بالآجر، ترك المرور به تورعا، وربما داوى الأمراض بدقيقة الذي يتقوت به، ويقول: إن الحلال ترياق الأمراض الصعبة. ولما جاءه تلميذ الشيخ مياره بشرح المرشد الكبير ليكتب عليه، عاب عليه كونه لم يتعرض لشيء من أحوال الآخرة. وإذا عرف بأحد من أشياخه يقول: القطب العارف بالله الزاهد وهذه أمور خفية فمن أين لنا أن نشهد بها وكتب في   1 أبو العباس أحمد بن محمد المقري شهاب الدين: خلاصة الأثر "1/ 302، 311"، وسلافة العصر "589"، فهرس الفهارس "2/ 13، 15"، وريحانة الألبا "293". 2 أبو العباس أحمد وعلي ومحمد السوسي: اليواقيت الثمينة "1/ 31، 32"، فهرس الفهارس "1/ 179". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 328 ذلك رسالة ذكرها ميارة بحروفها آخر الشرح المذكور قائلا: ينبغي للمؤرخ أن يقتصر في أوصاف من يؤرخهم على ما هو ظاهر كالعلم وحسن الإدراك والإتقان ونحو هذا. قلت: ولهذا تجنبت كثيرا من تلك الأوصاف الباطنة إلا إن كانت صادرة عن ثقة أو مشاهدة في نحو الوصف بالزهد والورع، أما الولاية ومراتبها، فتلك أمور لا سبيل لنا لقبول قول قائل فيها، فوكلناه إلى الله سبحانه تحريا للصدق المتعين على أمانة المؤرخ لأنها مشترطة بحسن الخاتمة {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} ومن أين لنا الاطلاع على ذلك كما قال الشيخ المذكور، وللمترجم تواليف "وصلة الزلفي" و"بذل المناصحة" وتأليف في التعريف بالعشرة المبشرين، وبآل بدر، وغالب كلامه في الزهد والورع. توفي سنة 1046 ست وأربعين وألف عن ست وخمسين سنة رحمه الله. 736- إبراهيم بن إبراهيم بن حسن اللقاني 1: له سعة اطلاع في الفقه والفتوى والحديث، وله التآليف المفيد كمنظومته في العقائد، وحاشيته على مختصر خليل، وغيرها في فنون شتى، متفق على جلالته ولم يكن أحد من أهل عصره مثله تلاميذ. توفي سنة 1041 إحدى وأربعين وألف. 737- أبو بكر بن مسعود المراكشي مفتي المالكية بدمشق: ولد بمراكش، وقرأ بمصر، له مشاركة، وتولى تدريس الغزالية. توفي سنة 1032 اثنين وثلاثين وألف. 738- أبو القاسم بن محمد السوسي 2: المغربي نزيل دمشق، ومفتي المالكية بها، فريد عصره في الفتوى، شهم   1 إبراهيم بن إبراهيم بن حسن اللقاني المصري: خلاصة الأثر "1/ 6، 9"، واليواقيت الثمينة "1/ 85، 86"، وفهرس الفهارس "1/ 90". 2 أبو القاسم بن محمد السوسي المغربي: خلاثة الأثر "1/ 145"، واليواقيت الثمينة "1/ 100". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 329 غيور على الدين، مهاب لدى الحكام، مرجوع إليه في المشورة، حدث بالجامع الأموي، فانتفعوا به مع معرفته بالقراءات، له شرح على الشاطبية وعلى النشر. توفي سنة 1038 ثمان أو تسع وثلاثين وألف. 739- أبو الحسن علي بن عبد الواحد بن محمد بن أبي بكر الأنصاري 1 ينسب إلى سعد بن عبادة السجلماني الأصل السلوي الدار، ثم الجزائري نشأ بسجلماسة، وقرأ بفاس، ورحل للمشرق، فأخذ عن علماء مصر، واستوطن سلا، وبها نشر علمه، وألف تآليف كاليواقيت الثمينة نظم في قواعد المذهب، ونظائر الفقه على نسق منهج الزقاق، وقد من الله عليه بتملكه مخطوطا مع شرح أبي القاسم بالرباطي عليه بخط مؤرخ الرباط الضعيف، وشرح على المنهج المذكور، وتفسير لم يكمل، ونظم في السير، وشرح على التحفة، ونظم في الطب والتشريح والأصول، وغير ذلك وأثنى عليه في الصفوة، ونفح الطيب، والبدور الضاوية، وغيرها، وفي آخر أمره استوطن الجزائر. قال العياشي: وهو عمدة أبي مهدي الثعالبي، وعنه أخذ كثيرا، وتوفي بها بالطاعون سنة 1054 أربع وخمسين وألف. 740- أبو مهدي عيسى السكتاني المراكشي 2: مفتيها وقاضيها علامة نظار، خاتمة الكبار، أوحد علماء عصره قال تلميذه محمد بن محمد بن سليمان في فهرسته: إنه مجدد هذا القرن، وإنما ستر الله مقامه بالقضاء، درس التفسير، وجاء العلماء للأخذ عنه من أقطار بعيدة، له   1 أبو الحسن علي بن عبد الواحد بن محمد بن أبي بكر الأنصاري السجلماسي: أبو الحسن، السجلماسي، الجزائري، الأنصاري، مات سنة 1057: شجرة النور الزكية "308"، خلاصة الأثر "3/ 173". 2 أبو مهدي عيسى السكتاني المراكشي: خلاصة الأثر "3/ 235، 236". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 330 مؤلفات، منها حواشيه على أم البراهين للسنوسي. توفي سنة 1062 اثنتين وستين وألف وقد أناف على المائة. 741- أبو الحسن علي الأجهوري 1: المصري أحد شيوخ الفقه والتصوف، والعلوم العربية شيخ المالكية في الدنيا بوقته، بذاك وصفه العياشي في رحلته. شرح مختصر خليل بشرح حفيل، استمد منه كل من جاء بعده على ما فيه من أغلاط اعتنى المغاربة بتصحيحها، وحاشية عليه لطيفة في نحو عشر كراريس من الله علي بملكها. وله شرح على الرسالة في تآليف أخرى. توفي سنة 1066 ست وستين وألف عن نحو مائة سنة. 742- سعيد قدورة بن إبراهيم التونسي 2: الأصل الجزائري المولد والدار، عالم القطر الجزائري في وقته وإمامه، ومسنده ونحريره، وخاتمة محققيه ومحدثيه، يدل لذلك ما في فهرسة تلميذه محمد بن محمد بن سليمان الواسعة، وله عدة مؤلفات منها شرحه على السلم مطبوع. توفي سنة 1066 ست وستين وألف. 743- أبو عبد الله محمد بن أحمد ميارة 3: بفتح الميم وتشديد المثناة تحت، الفاسي دارا وقرارا، فقيه متفنن ألف كتبا مفيدة كشرحيه على المرشد المعين، وشرح التحفة لابن عاصم، ولامية الزقاق، وهي مطبوعة بفاس، وبعضها بمصر، واختصر شرح الحطاب على المختصر وبدأ   1 أبو الحسن علي الأجهوري المصري: خلاصة الأثر "4/ 157، 160"، وفهرس الفهارس "2/ 171، 173". 2 سعيد قدورة بن إبراهيم التونسي: تعريف الخلف "1/ 62"، واليواقيت الثمينة "1/ 162، 163". 3 أبو عبد الله محمد بن أحمد ميارة الفاسي الدار: معجم المؤلفين "9/ 14". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 331 في آخر مطول، فلم يكمل، وله تكميل منهج الزقاق، وتآليفه محررة سهلة فصيحة مقبولة لدى الفكر العام المغربي وغيره. توفي سنة 1072 اثنتين وسبعين وألف. 744- أبو مهدي عيسى بن محمد الجعفري 1: الثعالبي الهاشمي الزينبي المغربي الجزائري: نزيل مكة هو من نسب سيدي عبد الرحمن الثعالبي السابق، وعندي إجازة بخطه نسب نفسه هكذا الثعالبي الجعفري، وقال في الصفوة: الثعالبي نسبة إلى وطن الثعالبة من عماله الجزائر، الجعفري نسبة لجعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، إمام الحرمين، وعالم المغربين والمشرقين. ولد بزواوة2 وبها نشأ، وقرأ بها، وفي الجزائر على سيدي سعيد قدورة وغيره، وأخذ بمصر عن أعلامها، وأخذوا عنه وكذا بالحرمين وتونس وغيرها، وشارك في العلوم الكثيرة وقد أثنى عليه العلماء كثيرا من أقرانه وتلاميذه، منهم العياشي في رحلته حتى قال: لو قيل إن أشياخه كانوا يستفيدون منه أكثر مما يفيدونه ما بعد، وله مؤلفات توفي بمكة سنة 1080 ثمانين وألف. 745- أبو العباس أحمد الحارثي بن أبي بكر الدلائي 3: من آل أبي بكر الصديق، وبيت الدلائيين بيت علم وسياسة أصحاب ملك   1 أبو مهدي عيسى بن محمد الجعفري الثعالبي الهاشمي الزينبي المغربي الجزائري: أبو المهدي، الجعفري، الهاشمي، الثعالبي، الجزائري، المغربي، جار الله، ولد سنة 1020، مات سنة 1080: أعلام الجزائر ص"127"، معجم المؤلفين "8/ 33"، خلاصة الأثر "3/ 240"، تعريف الخلف "1/ 82"، شجرة النور الزكية "311". 2 زواوة: قبيلة من أكبر قبائل البربر ما بين الجزائر وبجاية جبلية وبها قرى كثيرة. ا. هـ. المؤلف. 3 أبو العباس أحمد الحارثي بن أبي بكر الدلائي: اليواقيت الثمينة "1/ 33". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 332 المغرب وزوايتهم بتادلا، وكم كان فيهم من عالم ماهر. كان هذا السيد عالما كبيرا له شرح على مختصر ابن الحاجب وفتاوٍ وغيرها. توفي بفاس بعد الثمانين وألف 1080. 746- أبو سالم عبد الله بن محمد بن أبي بكر العياشي 1: الفاسي الإمام الرحال، صاحب الرحلة المشهورة، ذات الفوائد المشكورة، أخذ عن شيوخ في المغرب ومصر والحجاز، له مؤلفات كمنظومته في البيوع وشرحها، وكتاب الحكم بالعدل والإنصاف في المقلد، وغير ذلك ورحلته مطبوعة بفاس دالة على فضله وباعه. توفي سنة 1090 تسعين وألف. 747- محمد بن سعيد المرغتي 2: السوسي3 نزيل مراكش وإمام جامع المواسين بها، إمام عالم محدث مفسر، عارف بالعربية وغيرها والتنجيم والفلك، بحر لا ساحل له، انتهت إليه رياسة العلم ببلده وزمانه، مكثر من قراءة كتب الحديث، وتخرج عليه عدد لا يحصى، وله كرامات وأحوال طيبة، له منظومة في الفقه، وأخرى في النحو، وأخرى في التنجيم، وأخرى في التصوف، وأخرى في الوفق المخمس الخالي الوسط، وله منظومة وشرحها بشرحين في التوقيت وشهور العام، لها شهرة في المغرب. ومن فتاويه التي شذ فيها أن القبور التي بداخل أسوار المدن لا حرمة لها،   1 أبو سالم عبد الله بن محمد بن أبي بكر العياش الفاسي: اليواقيت الثمينة "178"، وفهرس الفهارس "2/ 211". 2 محمد بن سعيد المرغتي السوسي: المرغتي، ولد سنة "1007"، مات سنة "1089": فهرس الفهارس "2/ 554"، والحاشية. 3 المرغتي نسبة إلى مرغتة، بفتح الميم وسكون الراء وكسر الغين المعجمة مداشر في عداد الأخصاص بسوس الأفضل قاله في "الصفوة". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 333 ويجوز نبشها؛ لأن المدينة حبس على الأحياء، وأنى له أن يثبت هذه المقدمة. كان شاعرا منشئا. توفي بالطاعون سنة 1090 تسعين وألف، وفي الصفوة سنة 1089. 748- أبو محمد عبد القادر بن علي الفهري 1: الفاسي شهرة ودارا علامة المغرب، وشيخ مشايخه، ومسنده مشارك محقق، انتهت إليه رياسة الفتوى بالديار المغربية مع نزاهة وتمسك بالسنة، وبعد الصيت إلى الشموخ المجد في العلم وتأثل المكانة فيه، ورثوه وأورثوه عن الآباء للأبناء الأحفاد، له فقهية وعقيدة شهيرة، وتأليف مختصر في الأصول، وفتاوي وحواشي على الصحيح، الكل مطبوع بفاس. توفي سنة 1091 إحدى وتسعين وألف. 749- محمد بن محمد بن سليمان السوسي الروداني 2: نزيل الحرمين، الإمام الجليل، المحدث المتفنن في كل علم كان بوقته، بل فرد الدنيا في العلوم المالك لمجهولها ومعلومها كذا حلاه في "الخلاصة" وأطنب في وصفه ولد بتارودانت عام 1037 سبعة وثلاثين وألف، وأخذ العلم بالمغرب والجزائر وتونس ومصر والحرمين والشام، وله رحلة واسعة وأسانيد عالية بينها في فهرسته العجيبة، رتب الكتب التي رواها على حروف المعجم، وهي عندي من أعجب الفهارس في مجلد بخط ولده سماها "صلة السلف بموصول الخلف" وبمطالعتها يعلم فضل الرجل.   1 أبو محمد عبد القادر بن علي الفهري الفاس علامة المغرب: أبو السعود، الفاسي، الفهري، ولد سنة "1007"، مات سنة "1091": فهرس الفهارس "2/ 763"، معجم المؤلفين "5/ 295". 2 محمد بن محمد بن سليمان السوسي الروداني: السوسي، الروداني، المغربي، المالكي، مات سنة "1094": خلاصة الأثر "4/ 304". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 334 ولقد أوتي خيرا كثيرا، وعليها اعتمد من أتى بعده من أصحاب الفهارس الممتعة، وله الجمع بين الكتب الخمسة والموطأ على طريق ابن الأثير إلا أنه استوعب الروايات ومختصر التحرير لابن الهمام في أصول الحنفية وشرحه، ومختصر تلخيص المفتاح وشرحه، ومختصر في الهيئة، وحاشية التسهيل، وحاشية التوضيح، وجدول جمع فيه العروض، ومنظومة في الميقات وشرحها، واخترع كرة فلكية عظيمة فاقت السكرة القديمة، وقد أشبع القول في وصفها أبو سالم العياشي في رحلته، وأعجب باختراعها، وذكر بعض رسالة المترجم في كيفية العمل بها، وما هو مصور فيها من الدوائر والرسوم. وذكر أنه كان صناعا يتقن عدة صنائع بيده يتقوت منها، فلا يأكل إلا الحلال كالطرز العجيب والتسفير والخرازة والصياغة وجبر قوارير الزجاج المكسرة، وعمل الإسطرلاب وغيرها، وله في علوم الأدب النهاية، وكان في المنطق والحكمة والطبيعي والإلاهي الأستاذ الذي لا تنال مرتبته بالاكتساب، ويتقن الرياضيات كإقليدس والهيئة والمجسطي والمخروطات والمتوسطات وأنواع الحساب والمقابلة والإرتماطيقي وطريق الخطأين والموسيقى والمساحة معرفة لا يشاركه فيها أحد إلا في ظواهرها دون الدقائق والحقائق، وله في التفسير وأسماء الرجال والعربية يد طولى مع حفظ التواريخ وأيام العرب وأشعارهم والمحاضرات، وكان في الرمل والأوفاق وعلم سر الحرف والسيميا والكيميا حاذقا أتم الحذق، وحصل له في الحرمين شهرة عظيمة حتى عد إمامهما ومع ذلك نفس عليه أمير مكة، فأخرجه منها إلى المدينة المنورة ثم أخرج منها أيضا للشام وبها توفي سنة 1094 أربع وتسعين وألف ورثاه علماء وقته. انظر الخلاصة والصفوة ورحلة العياشي. ومن فتاويه التي شذ فيها أن مصنوعات الصوف التي تجلب من الروم جوخا رائقا شبيها بالحرير في نعومته نجس لا تصح به الصلاة، وهو لباس علماء المشرق إذ ذاك محتجا بأنه استيقن الخبر من أهل البلد المجلوب منه أنه منتوف من الغنم وهي حية، وأن ذلك سبب نعومته وحسن لونه، فيكون نجسا، وراجعه علماء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 335 عصره، فصمم على ذلك فكان سبب وحشة حصلت له منهم ومن غيرهم. 750- أبو زيد عبد الرحمن بن عبد القادر الفهري 1: الفاسي حافظ وقته، المتفنن في المعقول والمنقول لقبه والده بسيوطي زمانه، له تواليف كثيرة تنيف عن مائة في فنون شتى منها الأقنوم، أتى فيه بحدود نحو مائة وخمسين علما، وله جزء نظم فيه النوازل التي جرى بها عمل فاس بالحكم بقول ضعيف نحو ثلاثمائة مسألة، وأقبلوا عليه على ما فيه في بعض المواضع من عدم التحرير وشرحه هو بنفسه، ثم شرحه أبو القاسم بن سعيد العميري وغيره توفي سنة 1096 ست وتسعين وألف. 751- يحيى بن محمد بن محمد النائلي الملياني 2: الجزائري علامة القطر الجزائري الرحلة هو في الفقه إمامه وفي الأصول والعربية والبيان والتفسير وغيرها تتقدم الأعلام أعلامه، ولد بمليانة، وتربى بالجزائر، وقرأ بهما على أعلامها كسعيد قدوره وغيره الحديث والفقه وغيرهما، وعن علماء مصر كالبابلي والشبراملسي وغيرهما، وتصدر بالأزهر، فانتفع به أهلها، وكذا في الشام ثم في الروم، وحضر الدرس الذي تجتمع فيه العلماء للبحث بحضرة السلطان العثماني، فاشتهر علمه، ثم رجع لمصر، واشتغل بالتأليف فألف مؤلفات في الفقه وغيره كشرح أم البراهين، وشرح التسهيل، ومؤلف في النحو لطيف وغيرها، وسافر آخر أمره للحج، فمات بالطريق سنة 1096 ست وتسعين وألف، وبعد دفنه حمل لمصر وأقبر بها رحمه   1 أبو زيد عبد الرحمن بن عبد القادر الفهري الفاسي: أبو زيد، الفاسي، الفهرين المالكي، ولد سنة "1040"، مات سنة "1096": معجم المؤلفين "5/ 145"، التقاط الدرر "1/ 230". 2 يحيى بن محمد بن محمد النائلي الملياني الجزائري: خلاصة الأثر "4/ 486، 488"، وفهرس الفهارس "2/ 446". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 336 الله. 752- الشيخ عبد الباقي بن يوسف الزرقاني 1: بيتهم بيت علم بمصر شهير أبوه وجده وولده وغيرهم، له تواليف مفيدة أجلها شرحه مختصر خليل، الذي نسخ ما قبله من الشروح، ولخصها وبالغ في الاختصار، وجمع الفروع، ولم ينقحه من كثير من الأغلاط، لذلك اعتنى به المغاربة وتتبعوه. توفي سنة 1099 تسع وتسعين وألف. 753- أبو عبد الله محمد بن عبد الله الخرشي 2: المعروف بيتهم بأولاد صباح الخير، فقيه صالح فاضل مصري شهير، أول من تولى مشيخة الأزهر، وانتهت إليه رياسة مصر حتى لم يبق بها إلا تلاميذه، واشتهر في بلاد الإسلام كلها لصلاحه وورعه، له شرحان على المختصر طبع أصغرهما بفاس وبمصر، واعتنى المغاربة والمشارقة بالتحشية عليه، وله غيرهما. توفي رحمه الله سنة 1101 إحدى ومائة وألف، وفي "الصفوة" اثنتين ومائة وألف. 754- الشيخ أبو علي الحسن بن مسعود اليوسي 3: نسبة إلى "آيت يوسي" قبيلة بربرية قرب فاس، إمام فقيه أصولي لغوي أخباري أديب شاعر نظار مشارك ماهر في الفنون، انتهت إليه الرياسة الكبرى في   1 عبد الباقي بن يوسف الزرقاني: توفي سنة "1099": خلاصة الأثر "2872"، اليواقيت الثمينة "1/ 238، 239". 2 أبو عبد الله محمد بن عبد الله الخرشي: أبو عبد الله، الخراشي، البحيري، المصري المالكي، مات سنة "1110": معجم المؤلفين "10/ 210، 211"، والحاشية. 3 أبو علي الحسن بن مسعود اليوسي: فهرس الفهارس "2/ 464، 470"، واليواقيت الثمينة "1/ 133، 135". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 337 العلم في زمنه، وله شهرة ذائعة في المغرب والمشرق كشهرة تواليفه التي منها القانون في العلوم، وحواشي على مختصر السنوسي في المنطق، وأخرى على السنوسية، والمحاضرات، الكل مطبوع، وله ديوان شعر طبع أيضا دال عارضة واتساع فكر واطلاع. ترجمه في صفوة من انتشر وغيرها، وله فتاوٍ فقهية كثيرة، وشرح على جمع الجوامع في الأصول لم يكمل وتواليف في فنون. توفي رحمه الله الله سبنة 1102 اثنين ومائة وألف، ويعتبر مجددا على رأس المائة الحادية عشرة. 755- أبو عبد الله محمد فتحا بن عبد القادر الفاسي 1: إمام نقاد مشارك في العلوم بالغ فيها رتبة الكمال، ناشر لها تدريسا وتأليفا، له شرح مختصر "الحصن الحصين" وغيره، توفي سنة 1116 ست عشرة ومائة وألف. 756- محمد بن عبد الباقي الزرقاني 2: المصري الأزهري الإمام الفقيه المحدث صاحب شرح الموطأ، والمواهب، وغيرهما علامة متقن نحرير توفي سنة 1128 ثمان وعشرين ومائة وألف. 757- أبو عبد الله محمد العربي بن أحمد بردلة 3: الأندلسي ثم الفاسي مولدا ووفاة علامة مشارك شيخ الجماعة بها مشار إليه بالتحقيق والإتقان تولى القضاء والفتيا، والنظارة على الأحباس بها مرارا،   1 أبو عبد الله محمد فتحا بن عبد القادر الفاسي إمام نقاد: دليل مؤرخ المغرب "96، 97". 2 محمد بن عبد الباقي الزرقاني المصري الأزهري: أبو عبد الله، الزرقاني المالكي، المصري، ولد سنة "1055"، مات سنة "1112": فهرس الفهارس "1/ 456"، والحاشية، ومعجم المؤلفين "10/ 124، 125"، والحاشية، شجرة النور الزكية "317". 3 أبو عبد الله محمد العربي بن أحمد بردلة الأندلسي ثم الفاسي: دليل مؤرخ المغرب "490". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 338 وكان موصوفا بالنزاهة والعدل في الأحكام، ممن كان يدرس المدونة وخليلا والبخاري وغيرها، له أجوبة فقهية دالة على اتساع معلوماته. توفي سنة 1133 ثلاث وثلاثين ومائة وألف. 758- أبو عبد الله محمد بن أحمد المسناوي 1: البكري الدلائي الفاسي دارا شيخ الإسلام وشيخ الجماعة، الإمام الصدر الكبير المبرز في المعقول والمنقول الذي سارت فتاويه في المغرب كالمثل السائر، جمعها الفقيه ابن إبراهيم مع فتاوي شيخه محمد بن عبد القادر الفاسي، وله رسالة سماها نصرة القبض أبدأ فيها وأعاد، ولخص بعضها بناني في حواشي الزرقاني على أن كثيرا من حاشيته هذه وحاشية التاودي مأخوذة من طرر المسناوي هذا، وله تواليف أخرى في فنون، وهو ممن نسب إليه أنه ادعى الاجتهاد، وأنه لحقيق به في وقته، وبيت الدلائيين شهير في المغرب لكثرة من تخرج منهم من الأئمة الكبار، ولكن لما دخل بيتهم الرياسة السياسية قضت على آثارهم بذهابها فقضى من خلفهم على سلفهم. توفي سنة 1136 ست وثلاثين ومائة وألف. 759- أحمد بن أحمد بن محمد الشدادي 2: الفاسي متبحر في العلوم فقها وحديثا وعربية، مرجوع إليه في المشكلات والنوازل تصدى للتدريس بفاس وغيرها من حواضر المغرب وبواديه، وتولى قضاء فاس وغيرها، وله فتاوٍ، وشرح لامية الزقاق، وقيد على التحفة. توفي سنة 1140 أو ست أوربعين ومائة وألف.   1 أبو عبد الله محمد بن أحمد المسناوي البكري الدلائي الفاسي: دليل مؤرخ المغرب "105، 106". 2 أحمد بن أحمد بن محمد الشدادي الفاسي: أخبار مكناس "1/ 341، 343"، واليواقيت الثمينة "1/ 46". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 339 760- أبو بكر بن عبد الرحمن الحجوي القندوسي: هذا السيد الجليل هو أبو بكر بن عبد الله بن محمد ضما بن محمد فتحا بن علي بن أبي بكر بن عبد الله بن عبد الرحمن الحجوي الجعفري الزينبي القندوسي هكذا بخطه في إجازته للعلامة التهامي بن المكي الرحموني الفاسي، قال الرحموني في كناشته: ولد شيخنا المذكور سنة 1113 ثلاث عشرة ومائة وألف منسلخ محرم، وذكر في الإجازة المذكورة أنه رحل في طلب العلم في المغرب والمشرق مراكش وفاس وسوس وذرعة وسجلماسة والجزائر وتونس ومصر والحرمين الشريفين والشام واليمن وإستامبول والترك والعراق والبصرة وواسط، فأخذ عن أعلامها وأكابر أئمتها، وحصل على علوم جمة من نحو وعربية وأدب، وفقه وحديث وتفسير، وبيان ومنطق وكلام، وأصول وعروض وسير، وتصوف وتاريخ ونسب وطب وغير ذلك، فصار في البلاد مقصودا، وبلسان أهل العلم محمودا ومن الأئمة الأعلام معدودا، ومد الله له في الأجل، فأدرك سنا عالية، فقصده الأعلام للاستفادة والإجازة، وممن استجازه الرحموني المذكور، وذكر نص إجازته في كناشته، وأوقفني عليها منقولة في كناشته أخونا في الله النابغة البحاث الشيخ عبد الحي الكتاني نقلها من خط الرحموني وأصلها عنده. وقد ترجمه الرحموني بما سبق، وقال: إنه توفي منتصف محرم سنة 1244 أربعين وأربعين ومائتين وألف عن إحدى وثلاثين ومائة، وأفادني الشيخ محمد الأعرج رئيس زاوية محمد بن بوزيان القندوسي وآخره محمد المصطفى مكاتبة أن والد الشيخ المذكور وهو عبد الرحمن الذي دخل من ذرعة إلى القنادسة في القرن الحادي عشر آخره، وبقي للقرن الثاني عشر حيث أناف على التسعين. أخذ الطريق عن الشيخ محمد بن بوزيان، عن مبارك بن عزي الينبوعي ثم السجلماسي عن محمد بناصر الذرعي كان عالما عابدا موصوفا بالخير، مشهورا بالصلاح نشر طريقته بتلك الأصقاع، ولا زالت زاويته هناك مشهورة بزاوية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 340 الحجوي إلى الآن، ثم سلك ولده أبو بكر المترجم طريق والده في نشر العلم والدين والإرشاد، وسلوك الطريق، وكان مثله صالح الأحوال، زكي الخصال، دءوبا على فعل الخيرات، مقصودا لنفع العباد إلى أن توفي، ولا زال قبره مشهورا يزال والعامة تقصده للاستشفاء من الحمى ليومنا هذا على عادتهم1. وقد خلف ولدا وهو محمد بن حسين، وهذا عقب من ولده أبي بكر، وكل منهما كان في سنن أسلافه في صلاح الحال والإرشاد، ونفع العباد، وكان أبو بكر الحفيد هذا مقرئا كبيرا مقصودا في الأصقاع الصحراوية لأخذ القرآن، وعنه تخرج الجم الغفير من القراء إلى أن توفي، وخلف أولاده الذين هم قائمون بالزاوية المذكورة لهذا العهد على سنن أسلافهم الأطهار. هذا مضمون الكتابة المذكورة وقوله في النسب الجعفري نسبة إلى جعفر الطيار بن أبي طالب شهيد مؤتة صنو علي كرم الله وجهه، والزيبني نسبة إلى زينب بنت علي وفاطمة أخت الحسين وهي زوج عبد الله بن جعفر المذكور، وقد بين ذلك الشيخ أحمد بن خالد الناصري السلوي في كتابه "طالع المشتري في النسب الجعفري" كما سبق. فالمترجم هو من قبيلتنا حجاوة النازلين بالصقع الصحراوي من الثعالبة وهؤلاء منهم الثعالبة من عرب معقل قال الناصري: هم جعفرة صرحاء من ذرية جعفر المذكور، وقد رد بحجج قاطعة على ابن خلدون الذي زعم أن الطالبيين   1 وهي بدعة منكرة، وواجب العلماء أن يبينوا نبوها عن الإسلام، وأن الاستشفا إنما يكون من الله تعالى بدعائه بأسمائه الحسنى واللجوء إليه، والاستعانة به وبتعاطي الدواء الذي هو سبب الشفاء، فقد أخرج البخاري في صحيحه "10/ 113"، بشرح "الفتح" من حديث أبي هريرة مرفوعا: "ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء" وخرج مسلم "2204" من حديث جابر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لكل داء دواء، فإذا أصيب دواء الداء، برأ بإذن الله" وفي حديث أسامة بن شريك مرفوعا: "تداووا يا عباد الله، فإن الله لم يضع داء إلا وضع له شفاء إلا داء واحد هو الهرم" أخرجه أحمد والبخاري في "الأدب المفرد" وأصحاب السنن وصححه الترمذي وابن خزيمة والحاكم، وهو كما قالوا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 341 والهاشميين لم يكونوا أهل بادية ونجعة، ولا شك في سقوط هذه الحجة، فكم من أهل حضر صاروا بدوا وبالعكس، ولا زلنا نعاين ذلك بوقتنا هذا لا سيما مع الحوادث التي أوجبت عليهم ذلك زمن بني أمية وبني العباس، وعلى كل حال الناس مصدقون في أنسابهم، وأن هذه الفرقة وهم الثعالبة من عرب معقل ينتسبون إلى جعفر وإلى زينب سبطة الرسول عليه السلام. قال في "زهر البستان في أخوال المولى زيدان" نقلا عن ابن خلدون: لما غلب أبو الحسن المريني على ممالك بني عبد الواد بتلمسان وأرض الجزائر نقل منه الثعالبة الذين كانوا ببسيط متيجة من عمالة الجزائر إلى المغرب ما بين فاس ومكناسة. ا. هـ. بخ وعند دخولهم تفرقوا ففرقة ذهبت لذرعة، وفرقة توجد بدواخل الصحراء بأرض الملثمين لهذا العهد، وفرقة ذهبت ما بين فاس ومكناسة، ولكن محلها الآن هو ضفة نهر سبوا بمشرع الحجر الواقف مقابل أرض الشراردة، ونسبتهم الثعالبة مشهورة لا يعرفون إلا بها، ولا ينازعون في ذلك، ومنهم الإمام أبو زيد عبد الرحمن الثعالبي دفين الجزائر، والإمام أبو مهدي عيسى الثعالبي دفين مكة، وقد تقدم ذلك في ترجمتيهما. وأسلافنا قد انتقلوا قديما من الصحراء إلى فاس، وتوطنوا بها، ثم رحلهم المولى إسماعيل إلى تازة لفتنة كانت بفاس، ثم رجع الجد رحمه الله ثانيا إلى فاس حول 1280. 761- أبو عبد الله محمد يعيش بن الرغاي: بتشديد المعجمة وسكون الياء آخره الشاوي أصلا الفاسي دارا وقرارا، فقيهها وقاضيها، إمام شهير مشارك حافظ للمذهب نقاد، سارت فتاويه سير الشعاع في البلاد، ولي قضاء تازا وإفتاء زرهون وتدريسها، ثم قضاء فاس، وخطابة القرويين، وحمدت سيرته وعدله، له تآليف، منها حواشيه على شرح مياره على التحفة، وكان صلبا في الحق، وبسبب ذلك دخل اللصوص عليه منزله بالدوح، وقتلوه وهو يقاتلهم عن حريمه إذ كان الزمن زمن فتنة سنة 1150 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 342 خمسين ومائة وألف. 762- أبو عبد الله محمد بن أحمد بن محمد التماق الأندلسي الغرناطي أصلا الفاسي: منشأ ودارا يلقب أهله قديما بأولاد السراج، وبيتهم بالأندلس من أشهر البيوتات في العلم والرياسة، علامة فهامة يتقد ذكاء وفطنة، محقق مالك أزمة التعبير عما يريد، واعية محرر جامع لأشتات العلوم، لا يأكل إلا من عمل قلمه، وألزم بالتدريس ونفع العامة عن إكراه، ثم ولي القضاء والخطابة بعد طول امتناع، فأظهر العدل والتحري والورع والمشاورة، وأخر من سنته من غير ريبة، له حواشي على شرح الحصن الحصين، و"إزالة الدلسة عن أحكام الجلسة" وهي ما يسمى بالكراء على التبقية، ويقال: الزينة والجزاء، و"جمع الأقوال في لبس السروال" وله أسئلة مشتملة على مباحث شريفة رفعها لأشياخه وأجوبة ما كان يرفع إليه أكابر الأشياخ وأخرى من نجباء وقته، وأبحاث على التحفة، واللامية، والعمليات لشيخه أبي زيد الفاسي، وكان يدرس هذه المنظومات والموطأ والرسالة وغير ذلك. توفي سنة 1151 إحدى وخمسين ومائة وألف. 763- أحمد بن مبارك: وبه عرف ابن محمد بن علي السجلماسي1 اللمطي الصديقي إمام متبحر نظار صرح بنفسه أنه أدرك الاجتهاد، وله تآليف، منها الإبريز في مناقب الشيخ عبد العزيز الدباغ، انتقدت عليه فيه أمور، كما حرر فيه مسائل لا يستهان بها، لكني وقفت له على ثبت أجاز فيه أحمد المكودي شيخ الإفتاء بتونس ذكر فيه تواليفه، ولم يذكر الإبريز مؤرخ سنة 1143 ثلاث وأربعين توفي سنة 1155 خمس وخمسين ومائة وألف، وفي تاريخ الضعيف سنة 1156 بالوباء.   1 أحمد بن مبارك وبه عرف بن محمد بن علي السجلماسي: اليواقيت الثمينة "1/ 47، 51"، وسلوة الأنفاس "2/ 203، 205". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 343 764- أبو عبد الله محمد بن عبد السلام بناني 1: الفاسي دارا وقرارا، إمام محقق مشارك، مفتي فاس وأديبها وعالمها، له شرح على الاكتفاء للكلاعي في ستة أسفار، وشرح لامية الزقاق في الفقه، واختصار الشهاب على الشفاء، وشرح حزب الشاذلي، وقفت عليه وآخر على المشيشية، وآخر على خطبة مختصر خليل، وشرحان على منظومة أبي زيد الفاسي في الإسطرلاب عندي أحدهما، وتكميل شرح حدود ابن عرفة في الفقه، وشرح على خطبة الألفية وقفت عليه، وفهرسة لشيوخه وفتاوٍ وغير ذلك، ولم تقم له الفتوى ولا التدريس بضرورياته، فإنه رحل عام المسغبة لتطوان. فرتب له عاملها مرتبا، فاشتغل فيها بالتدريس، ثم رجع لفاس، وتوفي سنة 1163 ثلاث وستين ومائة وألف عن نحو ثمانين سنة، وما ذكره الضعيف من كونها سنة اثنين وتسعين غير محرر، وقوله: إنه المحشي على الزرقاني ليس بصواب. 765- أبو عبد الله محمد بن عبد الصادق الدكالي 2: الفرجي مفتي فاس وخطيبها، له شرح على مختصر خليل وآخر على نظم ابن عاشر، وغير ذلك، وكان ينوب عن شيخه يعيش الرغاي في الفضاء توفي سنة 1175 خمس وسبعين ومائة وألف. 766- أبو العباس أحمد بن عبد العزيز الهلالي 3: السجلماسي دفين مدغرة قرب سجلماسة، النظار المتبحر الفقيه اللغوي،   1 أبو عبد الله محمد بن عبد السلام بناني الفاسي: أبو عبد الله، البناني، الفارسي، المالكي، مات سنة "1163": معجم المؤلفين "10/ 168"، فهرس الفهارس "1/ 224". 2 أبو عبد الله بن محمد بن عبد الصادق الدكالي الفرجي: معجم المؤلفين "10/ 72". 3 أبو العباس أحمد بن عبد العزيز الهلالي السجلماسي: اليواقيت الثمينة "19، 20"، فهرس الفهارس "2/ 421". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 344 له مشاركة في الفنون، وله شرح على المختصر لم يكمل طبع ما وجد منه لو كمل لأغنى عن غيره، وله شرح على خطبة القاموس واصطلاحه، وله رسائل في مسائل علمية، ومن أجل تآليفه شرحه لمنظومة القادري في المنطق طبع بفاس قل أن يكون له نظير استقى من بحره من أتى بعده. توفي سنة 1175 خمس وسبعين ومائة وألف. 767- أبو العباس أحمد بن حسن بن محمد المكودي: المعروف بالورشاني شهاب الدين الفاسي نزيل تونس، ورئيس إفتاء المالكية بها وعالمها ومسندها، أخذ عن أحمد بن مبارك اللمطي بفاس، وبه تخرج، وعندي إجازته له، وثبته المشتمل على أسانيده سنة 1143 وقد حلاه فيها بقوله: الفقيه الوجيه المدرس النزيه صاحب الفهم الغواص الذي يعجز عنه كثير من الخواص، وقال: إنه تردد لدروسه الزمن الطويل إلى أن قال: كامل القريحة والهمة، محصلا لأسباب تحصيله المهمة مع جودة الفطنة، وثقوب الفهم، وسلامة الإدراك من غلبة الوهم العارضة لأهل الطيش والخفة الذين يعتمدون أول ما يتلمح لهم، فيخطفون المسائل خطفة فيخطئون أكثر مما يصيبون، ويفسدون أكثر مما يصلحون إلخ. وقد كان المذكور من أعيان المدرسين بتونس وممن يرجع إليهم في مهمات المسائل، عارفا بالعلوم الشرعية التي أهلته لنيل أعلى مقام في رياسة الديوان الشرعي المالكي بتونس، وكان من مهرة العلوم العربية درس مغني ابن هشام والشمسية بشرح القطب، والتسهيل بشرح الباشي، وغير ذلك. توفي سنة 1169 تسع وستين ومائة وألف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 345 768- أبو عبد الله محمد بن قاسم جسوس 1: الفاسي أصلا ودارا فقيه محقق مشارك له شرح على المختصر في تسعة أسفار، وشرح على الرسالة مطبوع بفاس، وآخر على شمائل الترمذي مطبوع بمصر، وشرح على توحيد ابن عاشر مطبوع بفاس وله غيرها. توفي سنة 1182 اثنتين وثمانين ومائة وألف. 769- أبو العلاء إدريس بن محمد بن إدريس العراقي 2: الحسيني الحافظ، وأحد أركان الدين المتبحرين، وأعلم أهل وقته بصنعة الحديث، وله فيه التآليف المفيدة كمستدركه على الجامع الكبير للسيوطي اشتمل على نيف وخمسة آلاف حديث، وشرح الشمائل، وشرح الثلث الأخير من الصغاني، وغيرها، وله طرر على هوامش كتب الحديث كالجامع الكبير والشفاء والقضاعي وغيرها، أخذ عن والده وعن علي الحرشي وغيرهما. قال فيه أبو حفص الفاسي: إنه أحفظ من ابن حجر العسقلاني، وأثنى عليه أشياخه كأحمد بن المبارك، ومحمد جسوس وغيرهم. توفي سنة 1183 ثلاث وثمانين ومائة وألف. 770- أبو حفص عمر بن عبد الله بن عمر بن يوسف الفاسي 3: الفهري إمام نظام، وفقيه مكثار، له الاطلاع الواسع وإتقان العلوم بغير   1 أبو عبد الله محمد بن قاسم جسوس الفاسي: مات سنة "1182": سلوة الأنفاس "1/ 330، 331". 2 أبو العلاء إدريس بن محمد بن إدريس العراقي الحسيني الحافظ: فهرس الفهارس "2/ 199، 205"، واليواقيت الثمينة "1/ 96، 97"، وسلوة الأنفاس "1/ 141، 143". 3 أبو حفص عمر بن عبد الله بن عمر بن يوسف الفاسي الفهري: سلوة الأنفاس "1/ 337،= الجزء: 2 ¦ الصفحة: 346 مدافع، وأظن أنه أعلم وأتقن علماء هذا البيت الفاسي الرفيع العماد، الكثير الأفراد، الذين خدموا العلم خدمة يشكرها لهم التاريخ على مر الأزمان مع عرفوا به من متانة الدين، الترسم برسوم الصالحين رحمه الله، له شرح على التحفة مهم عديم النظير دل على باعه وسعة اطلاعه، وشرح على الزقاقية، وفتاوٍ مهمة للعويصات المدلهمة، وله درجة عالية في الأدب ومشاركة نادرة وهو ممن وصف بالاجتهاد. توفي سنة 1188 ثمان وثمانين ومائة وألف. 771- الشيخ علي العدوي الصعيدي 1: المصري عالم فاضل زكي الأحوال، له حواش كثيرة على الخرشي، وأبي الحسن المصري2 المنوفي على الرسالة وغيرها، أول من تولى مشيخة المالكية بالأزهر، وكان على قدم السلف في التقوى ونشر العلم. توفي سنة 1189 تسع وثمانين ومائة وألف. 772- أبو عبد الله محمد بن الحسن البناني 3: الفاسي أصلا ودارا خطيب الضريح الإدريسي بها وإمامه، فقيه محقق مشارك، له حاشية على الزرقاني متقنة، وشرح على السلم في المنطق، الكل مطبوع دل على خبرة تامة، وقلم صارم مقوم، وله غيرها. توفي سنة 1194 أربع وتسعين ومائة وألف تاريخه: أدخله الله لجنته، وأرخوه أيضا بقولهم: جلال العلم غاب.   1 علي العدوي الصعيدي المصري: لم يوجد عدوي إلا هذا، الشعراني الشروطي الصالحي العلوي البارع العدوي [ابن الكاكري] ولد سنة "646" مات "726". الوافي الوفيات "22/ 105"، تنقيح المقال "2/ 1500" الدر الكامنة "3/ 188". 2 وما تقدم لنا في ترجمة أبي الحسن الصغير المغربي من أن له شرحا على الرسالة مطبوع هو غلط. فالشرح المطبوع هو لأبي الحسن علي بن محمد ثلاثا بن خلف المنوفي بلدا المصري مولدا المتوفي سنة "857": كما في حاشية الصعيدي. ا. هـ. "المؤلف". 3 أبو عبد الله محمد بن الحسن البناني الفاسي: سلوة الأنفاس "1/ 161، 164". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 347 773- أبو العباس أحمد الشريف الثعالبي الجعفري: الشهير بالبرانسي أحد الأعلام، المفتين في المذهب المالكي بالقطر الجزائري من ذرية الإمام عبد الرحمن صاحب التفسير دفين الجزائر كان من المتبحرين تبحر الراسخين، سالكا نهج المهتدين، رئيس المفتين، عفيف لا تأخذه في الله لومة لائم، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر غير مكترث بأحد. توفي سنة 1197 سبع وتسعين ومائة وألف. 774- عبد الكريم بن علي اليازغي أصلا الفاسي 1: مفتي فاس وفقيهها في عصره، سارت فتاويه سير الشعاع، وله في ذلك شهرة ذائعة ومشاركة واطلاع، وصلابة في الحق، لا يزحزحه عن الحق شيء. توفي سنة 1199 تسع وتسعين ومائة وألف. 775- أحمد بن محمد بن أحمد العدوي الشهير بالدردير 2: شيخ الإسلام بمصر، وشيخ مشايخها، إمام في العلوم العقلية والنقلية، له شرح على المختصر، ومتن في الفقه أيضا، وشرحه وتآليف أخر في فنون، وله أخلاق علية وصراحة في الحق. توفي سنة 1201 إحدى ومائتين وألف.   1 عبد الكريم بن علي اليازغي الفاسي: أبو محمد، الذهني. مات سنة "1199": فهرس الفهارس "2/ 115" والحاشية. 2 أحمد بن محمد بن أحمد العدوي: فهرس الفهارس "1/ 293" واليواقيت الثمينة "1/ 56، 57". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 348 776- الأمير أبو عبد الله سيدي محمد بن عبد الله بن إسماعيل 1: العلوي سلطان المغرب الأقصى، عالم السلاطين، وسلطان العلماء في وقته، إمام جليل، وجهبذ نبيل، أحيا من العلم مآثره، وجدد الدولة العلوية بعد أن كانت داثرة، جال بنفسه في المغرب، وتقرى قبائله، وعرف دخائله، وأيقن أن الدين قد كان أن يذهب من أهله باستيلاء الجهل على بطونه وقبائله، فألف لهم تأليفه على نسق رسالة ابن أبي زيد تسهيلا على العوام، ليصلوا من ضروريات دينهم إلى المرام، وهي عندي موجودة ومن ذخائري معدودة. كما ألف بغية ذوي البصائر والألباب في الدرر المنتخبة من تأليف الإمام الحطاب، وله كتاب في الفقه مبسوط أيضا، وكتاب حديثي انتقى فيه من الأحاديث التي أخرجها الأئمة الأربعة في2 مسانديهم مالك أبو حنيفة الشافعي أحمد بن حنبل، ولم يستوعب كل ما فيها، وإنما اختار منها ومن الصحيحين والموطأ ما ظهر له من الأحاديث المتعلقة بالأحكام غالبا، فكان مجلدا متوسطا، وقال: إنه أول من أدخل المسانيد الأربعة للمغرب من الحرم الشريف يعني ما عدا الموطأ، وافتتحه بعقيدة رسالة ابن أبي زيد، وأتى بنخبة مما اتفق عليه الصحيحان، وخاتمه بمناقب آل البيت والخلفاء الراشدين وبقية العشرة، فذلك دليل ما كان له من الاعتناء بإحياء مراسم الدين وسنة جده سيد المرسلين مع ما كان عليه من حفظ الأوطان وتأييد علم الإيمان، كفتحه ثغر الجديدة، وتشييده ثغر السويرة، وسد الثغور، وإظهار الدولة في مظهر العز، وعدم الاتكال على الغرور. وبالجملة، فقد كان من درر هذه الدولة الفاخرة وأنجمها الزاهرة، وقد كان سلفي العقيدة على مذهب الحنابلة، كما صرح بذلك في تآليفه، وغير خفي أن   1 الأمير أبو عبد الله سيدي محمد بن عبد الله بن إسماعيل العلوي سلطان المغرب: الاستقصا "4/ 91، 122". 2 مسند مالك قال في "كشف الظنون" هو للإمام النسائي، وتقدم ما يتعلق بمسند أبي حنيفة والشافعي في ترجمتيهما. ا. هـ. مؤلف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 349 الحنابلة من أئمة السنة كالأشعرية والفرق قريب بينهما، وأهمه أن الحنابلة لا يخوضون بحر التأويل بل يفوضون في غالب المتشابه، ومن مآثره أنه كان يحض على قراءة كتب المتقدمين، وينهى عن المختصرات، ويرى الرجوع للكتاب والسنة، ولو عملوا برأيه، لارتقى علم الدين إلى أوج الكمال، وترجمته واسعة، ومحاسنه شاسعة، منها بناؤه مدرسة باب عجيسة بفاس، ومساجد وقناطر وغير ذلك. توفي رحمه الله سنة 1204 أربع ومائتين وألف. 777- أبو عبد الله التاودي بن الطالب بن سودة 1: المري القرشي الأندلسي الأصلا، الفاسي دارا ومنشأ، فقيه محقق كبير مشارك، انتهت إليه رياسة العلم في المغرب إقراء وإفتاء، ألحق الأبناء بالآباء، وانفرد بعلو الإسناد حتى صار شيخ الشيوخ، والمحرز على قصب السبق في ميدان الرسوخ، وكثير من أسانيدنا في العلوم تدور عليه له رحلة إلى المشرق أخذ عن أعلام في مصر والحجاز، وأخذوا عنه، وله فهرسة جمعت أسماءهم وأسانيدهم، وله حاشية على الزرقاني المتقدم، وحاشية على صحيح البخاري، وشرح على تحفة الحكام لخصه من شرح ميارة وغيره، وشرح على لامية الزقاق في الأحكام كذلك أيضا، وشرح على جامع خليل، الكل مطبوع بفاس إلا الرحلة، وحاشية الزرقاني، وله غير ذلك. توفي سنة 1209 تسع ومائتين وألف. 778- أبو عبد الله محمد بن أبي القاسم السجلماني ثم الرباطي 2: صاحب شرح العمل الفاسي الذي حصل إكباب المفتين والقضاة عليه، وشرح "اليواقيت الثمينة" وغيرهما، وكان فقيها محررا نقادا، وكتبه تدل على   1 أبو عبد الله التاودي بن الطالب بن سودة المري القرشي الأندلسي أصلا: عجائب الآثار "2/ 242". 2 أبو عبد الله محمد بن أبي القاسم السجلماسي ثم الرباطي: "صاحب شرح العمل". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 350 باعه وواسع اطلاعه. توفي في أبي الجعد بالوباء يوم السبت حادي عشر شوال سنة 1214 أربع عشرة ومائتين وألف. 779- أبو عبد الله محمد بن أحمد بنيس 1: فقيه متفنن متقن، له شرح على فرائض المختصر، وشرح على الهمزية. توفي بفاس سنة 1214 أربع عشرة ومائتين وألف. 780- أبو محمد عبد القادر بن أحمد بن العربي بن شقرون 2: الفاسي علم راسخ، ومجد شامخ، وتحقيق وتدقيق ومشاركة في كل طريق، فضاض كل مشكل، ونور كل معقل. قاضي سجلماسة وفاس، حسن السيرة. توفي سنة 1219 تسع عشرة ومائتين وألف. 781- أبو عبد الله محمد الطيب بن عبد المجيد بن كيران 3: عالم محقق نقاد، حامل لواء العلوم المعقولية في المغرب وقته، وحافظ متقن تفرد في وقته بالجمع بين علمي المعقول والمنقول، والفروع والأصول، يعرف أكثر الفنون على أنه مجتهد فيها لا مقلد، وهو ممن حصل رتبة الاجتهاد في زمنه كما وصفه بذلك في "الروض المعطار" وغيره أخذ عن التاودي بن سودة   1 أبو عبد الله محمد بن أحمد بنيس: معجم المطبوعات "593". 2 أبو محمد عبد القادر بن أحمد بن العربي بن شقرون الفاسي: لم يوجد إلا "الكوهن الفارسي" هذا أبو محمد، الشهرة الكومن، مات سنة "1253". فهرس الفهارس "1/ 490" معجم المؤلفين "5/ 1253". 3 أبو عبد الله محمد بن الطيب بن عبد المجيد بن كيران: أبو عبد الله، الفاسي، ولد سنة "1172"، مات سنة "1227": معجم المؤلفين "10/ 109" والحاشية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 351 وبناني وأنظارهما، وأخذ عنه الفقيه أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن الحجرتي الذي هو شيخ بعض شيوخنا له تآليف مفيدة، كالتفسير الذي ليس له نظير من سورة النساء إلى حم غافر، وشرح توحيد المرشد، الذي حشى عليه شيخنا القادري، وشرح الخريدة في المنطق، وحاشية على توضيح ابن هشام، وشرح على حكم العطائية. تواليفه كلها تحقيقات وتحريرات ودرر وغرر، وهي أشهر بين طلبة المغرب من قام زيد. توفي سنة 1227 سبع وعشرين ومائتين وألف عن خمس وخمسين سنة. 782- أبو العلاء إدريس بن زيان العراقي الحسيني الفاسي: الحافظ المشارك سيبويه زمانه، أخذ عن الشيخ التاودي وطبقته وهو مذكور من رجال أسانيدنا الثقاة الجلة. توفي سنة 1228 ثمان وعشرين ومائتين وألف. 783- أبو عبد الله محمد فتحا بن أحمد الحاج الرهوني 1: بضم الراء نسبة لرهونة قبيلة بجبال غمارة من المغرب الوزاني قرارا، أخذ العلم بفاس، وكان حافظا متقنا فقيها متفننا، له حاشية على الزرقاني لخص فيها ما زادته حاشية التاودي على بناني، ولكن لم يستوعب التلخيص، ويقال: إن نسخها مختلفة، واستعان أيضا بطرر شيخه أبي عبد الله محمد بن الحسن الجنوي الحسني الوزاني ثم التطواني، المتوفى بمراكش سنة 1200 مائتين وألف. وهذه الطرر كانت له على الزرقاني والحطاب والمواق والشيخ مصطفى الرماصي والشيخ بناني، فلخصها الرهوني في حاشية المذكورة، وللرهوني تآليف أخرى غيرها، ولكن أهمها الحاشية دلت على فضله وتمكنه من علم الفقه.   1 أبو عبد الله محمد فتحا بن أحمد الحاج الرهوني الوزاني: أخبار مكناس "4/ 181، 186". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 352 فضل تمكن، فلقد أجاد فيها كل الإجادة، وزاد على شيخيه المذكورين كثيرا، فأحسن الإفادة، وسلك في التحقيق طريقا صريحا، ومهيعا صحيحا، ينقل كلام المتقدمين الذي هو الأصل بلفظه مما دل على نشاطه في الاطلاع، وثقوب حفظه، وبسب ذلك فضح أغلاطا كثيرا وقعت لمن قبله في الاختصار والتلخيص أفسدوا بهما كلام المتقدمين، وغيروا الفقه عن مواضعه، فهي مما ادخره للمتأخرين، فكانت حجة على المتقدمين. فجزاه الله خيرا عن عمله وحرية فكره، ووضوح طريق نقده، وأعانه على ذلك ما عثر عليه من الكتب المهمة في المذهب التي لم يظفر بها الأجاهرة ولا من ناقشهم كالرماصي وبناني والتاودي وأمثالهم، غير أن الحاشية طالت، فجاءت في ثمان مجلدات، لكونها تجلب في المعارك الكبرى نصوص المتقدمين بالحرف الواحد، ولذلك جاء شيخ شيوخنا الحاج محمد جنون، واختصرها بحذف النصوص، وحلاها بفوائد يأتي بغالبها أول الأبواب كأصل الباب من السنة أو الكتاب أو نحو هذا مما لا يخلو من فائدة، وقرب على المطالع ما عسى أن يطول عليه من استيعاب نقول الرهوني. وقد طبع الاختصار بهامش الأصل. كان الرهوني من فقهاء وقته النظار، وممن تفتخر به الأعصار، دارت الفتيا عليه في المغرب، وكان ملجأ الملمات في النوازل والأحكام، توفي سنة 1230 ثلاثين ومائتين وألف. 784- أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عرفة الدسوقي 1: المصري محقق عصره ووحيد دهره بالديار المصرية ذو الحواشي البديعة الفصيحة على الدردير شرح المختصر، وعلى السعد شرح التلخيص، وغيرهما. توفي سنة 1230 ثلاثين ومائتين وألف.   1 أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عرفة الدسوقي المصري: عجائب الآثار "4/ 231". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 353 785- أبو العباس أحمد بن التاودي بن سودة المري: قاضي فاس ومفتيها ومن جلة علمائها، وهو من رجال سندنا في الحديث وغيره، له اليد الطولى في العلوم والصرامة في الحق وقد فوض إليه السلطان محمد بن عبد الله في جميع قضاة المغرب، فكان كقاضي القضاة. توفي سنة 1335 خمس وثلاثين ومائتين وألف عن اثنتين وثمانين سنة. 786- أبو محمد محمد بن محمد بن محمد بن أحمد السنباوي 1: الشهير بالأمير المغربي الأصل المصري الإمام الشهير، ذائع الصيت، كبير القدر، مشارك في العلوم له التآليف النافعة كمجموعه الذي حاذى به مختصر خليل وشرحيهما وغيرهما، وكان يدرس فقه مالك الذي هو مذهبه، وفقه الحنفي والشافعي، وله فهرسة جامعة بأسانيده، وهو من رجال سندنا في المصريين. توفي سنة 1232 اثنتين وثلاثين ومائتين وألف. 787- الأمير سليمان بن محمد بن عبد الله العلوي 2: سلطان مغربنا يتيمة عقد الدولة علما وديانة وورعا، موصوف بذلك لدى المؤرخين، وتدل لذلك آثاره العلمية، فله حاشية على الخرشي، وعندي تأليف   1 أبو محمد محمد بن محمد بن محمد بن أحمد السنباوي: عجائب الآثار "54/ 284"، وفهرس الفهارس "1/ 92". 2 الأمير مولانا سليمان بن محمد بن عبد الله العلوي سلطان مغربنا: الاستقصا "4/ 129، 172"، وفهرس الفهارس "2/ 328"، وشجرة النور "380". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 354 له في التجمير بعود الطيب1 في رمضان، ومن خطبة خطبته في ردع رعيته عن بدع المواسم التي تجعل للصالحين نقلتها بلفظها في كتاب برهان الحق، وكان شديد الإنكار لمثل هذه البدع، واقفا مع السنة، شديد التحري. وانظر حوادث أيامه وسيرته في تاريخنا المناظر الجمالية. توفي سنة 1238 ثمان وثلاثين ومائتين وألف. 788- أبو محمد عبد السلام بن أبي زيد بن الطيب الأزمي: بفتح الزاي الحسني السباعي، حامل راية المذهب ومفتي الديار المغربية حافظ مطلع نفاع أحيا الله به الفقه في المغرب ونفع به الجم الغفير من أهل وقته ممن تشد إليه الرحال من أهل العلم والتقشف والزهد والورع والانقباض والعبادة. توفي سنة 1241 إحدى وأربعين ومائتين وألف. 789- أبو عبد الله محمد بن محمد بن إبراهيم المشترائي: شهر بابن إبراهيم، شيخ الإفتاء بالمغرب، وحافظ المذهب بوقته، مفتي فاس وقاضيها، واستقضي بعد أبي العباس بن سودة نحو السنة سارت فتاويه في داني البلاد وقاصيها، وسلم له الرياسة فيها معاصروه. توفي سنة 1241 إحدى وأربعين ومائتين وألف. 790- أبو الفداء إسماعيل التميمي التونسي: شيخ المفتين المالكيين بها، فقيه متبحر، أدرك رتبة الاجتهاد المذهبي، وهو الترجيح كما أخبر عن نفسه، ولم ينكروه. توفي سنة 1248 ثمان وأربعين   1 هذه المسألة تكلم عليها ابن أبي زيد في مختصره، ونقل عن عيسى بن سعادة الفاسي عن ابن الجزار، عن ابن لبابة الكراهة نقله في "المدارك" عن أبي عمران في ترجمة عيسى بن سعادة المذكور في الطبقة الرابعة. ا. هـ. المؤلف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 355 ومائتين وألف. 791- إدريس بن عبد الله بن عبد القادر الودغيري 1: الملقب بالبكراوي حامل راية القراء بفاس وآخر محرريهم، إمام له فيه وفي غيره من العلوم تآليف كحاشية الجعبري، وشرح دالية أحمد بن مبارك السجلماسي، والتوضيح والبيان في مقرئ نافع بن عبد الرحمن، ورجز في الفرائض، وطرر في فرائض خليل، تبلغ تآليفه 18، وكان خطيبا فصيحا، توفي سنة 1257 سبع وخمسين ومائتين وألف. 792- أبو الحسن علي بن عبد السلام الدسولي 2: قاضي فاس وتطوان الأعدل، متبحر، حافظ المذهب، وحامل لوائه، جامع للعلوم له شرح الشامل لبهرام في عدة أسفار، وشرح التحفة، وحاشية شرح الزقاقية، وفتاوٍ في سفرين وغيرها. توفي سنة 1258 ثمان وخمسين ومائتين وألف. 793- أبو العباس أحمد بن محمد بن عبد القادر الشهير ببو نافع 3: الفاسي من أهل فاس العليا وبها دفن، الفقيه الحافظ المحدث، المتفنن   1 إدريس بن عبد الله بن عبد القادر الودغيري: اليواقيت الثمينة "1/ 97"، وسلوة الأنفاس "2/ 343، 345". 2 أبو الحسن علي بن عبد السلام قاضي فاس: الاستقصا "4/ 94". 3 أبو العباس أحمد بن محمد بن عبد القادر الشهير ببو نافع الفاسي: فهرس الفهارس "1/ 84، 85"، واليواقيت الثمينة "1/ 70". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 356 النحرير الأديب الضابط المتقن النزيه يذكر عنه أنه كان يقول: عندي أربعة وعشرون علما لم يسألني عنها أحد، واعترف له أعلام فاس بالإجادة والتحصيل، كشيخنا أبي العباس أحمد السودي الذي قرأ عليه صحيح البخاري مرتين، وذكر عنه أنه قرأه هو على شيخ المغرب التاودي السودي أزيد من ثمان عشرة مرة، وسنده إلى البخاري معلوم في فهرسته. وللمترجم شرح الألفية، وفهرسته لمشيخته وغير ذلك. توفي فجأة سنة 1260 ستين ومائتين وألف عن سن عالية. 794- أبو عبد الله محمد بن أحمد بناني الشهير بفرعون: مدرس نفاع موثق، مفتي مؤلف الوثائق الفرعوينة التي عليها عمل مؤلفي المغرب الآن، وشرحها شيخنا الهواري. توفي عن سن عالية سنة 1261 إحدى وستين ومائتين وألف. 795- عبد الله المدعو الوليد بن العربي بن الوليد العراقي الحسيني 1: نادرة وقته في الحديث وعلمي المعقول والمنقول حافظ ضابط مشارك كثير الإقراء، شديد الزهد والعبادة، كثير الصمت لا يتكلم إلا فيما يعنيه، وله عدة تآليف كالدر النفيس في تاريخ العراقيين بفاس. توفي سنة 1265 خمس وستين ومائتين وألف.   1 عبد الله المدعو الوليد بن العربي بن الوليد العراقي الحسيني: أبو محمد، العراقي الحسيني المعقولي، ولد سنة "1209" مات سنة "1265": معجم المؤلفين "6/ 82" والحاشية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 357 796- بدر الدين محمد بن الشاذلي الحمومي: الفقيه الصالح الأحوال المعمر، مشارك في علوم شتى، وله شرح على "المرشد المعين في الضروري من علوم الدين" وغيره، أخذ عن الشيخ التاودي السودي، وعنه أخذ شيخنا ابن سودة المتقدم، فهو من رجال أسانيدنا العالية، فليس بيني وبين التاودي إلا واستطان من طريقه وطريق بو نافع السابق، وهذا أعلى ما يوجد من الأسانيد في المغرب في عصرنا. توفي رحمه الله سنة 1266 ست وستين ومائتين وألف عن تسع وثمانين. 797- أبو إسحاق إبراهيم بن عبد القادر بن إبراهيم الرياحي التونسي: شيخ المالكية بها، إمام جليل، جامع بين التبحر في العلوم والأدب ومكارم الأخلاق، وجمع شتات المعالي، مدرس مؤلف نفاع، له حاشية على الفاكهي، ونظم في النحو، وعدة رسائل في نوازل وقتية، وزار فاسا سنة 1216 ست وعشرة ومائتين وألف في بعثة من لدن باي تونس لطلب إعانة في مسغبة كانت بتونس، محصل له اشتهار وإقبال من عملاء فاس، ونجح في سفارته، ووصل رحم المملكتين. توفي سنة 1266 ست وستين ومائتين وألف ببلده عن ست وثمانين سنة. 798- أبو عبد الله محمد التهامي بن المكي بن عبد السلام بن رحمون الإدريسي الحسني الفاسي: الفقيه الجلي العدل، الحسيب الأصيل، فارس علم الرواية، ومن له بالسنة النبوية أتم عناية، سيد عصره وقطره، بهجة علماء الدهر، وفخار أهل العصر. توفي بفاس سنة 1263 ثلاث وستين ومائتين وألف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 358 799- أبو عبد الله محمد الطالب بن حمدون بن الحاج السلمي 1: الفقيه النظار اللغوي المتفنن قاضي مراكش وفاس، نزيه ورع، له حاشية على شرح المرشد في الفقه والتوحيد، و"الأزهار الطيبة النشر في المبادئ العشر" وغيرها. توفي سنة 1273 ثلاث وسبعين ومائتين وألف. 800- أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن الفلالي الحجرتي: الإمام المشارك النظار، فارس الفقه المغوار، ومن انتهت إليه رياسة العلم بهذه الديار، شيخ الجماعة بفاس ومفتيها، وزاهدها وناشر العلم في نواديها، أخذ عن عبد السلام الأزمي، وبدر الدين الحمومي، وأبي عبد الله الزروالي، والشيخ الطيب بن كيران، وسيدي حمدون بن الحاج وغيرهم، وعنه أخذ شيخاي سيد أحمد بن الخياط، وسيدي جعفر الكتاني وغيرهما، وجل علماء المغرب، لكونه طال عمره، وانفرد برياسة العلم، عرض عليه القضاء بفاس والإمامة في مسجد الأبارين، فأبى لورعه، وله حواش على الخرشي وغيرها. توفي سنة 1275 خمس وسبعين ومائتين وألف. 801- عبد السلام بن الطائع بن حم بن السعيدي بن عبد الواحد شهر بوغالب الحسني الجوطي: عالم مشارك متفنن، أديب جامع لأشتات المكارم، ذو لطف في طبعه   1 أبو عبد الله محمد بن الطالب بن حمودن ابن الحاج السلمي: فيه أسميين محمد بن حمدون [أبو عبد الله] ولكنه لم يكتب بجواره السلمي، أبو عبد الله ولد بعد سنة 1200: شجرة النور الزكية "401". وفيه محمد بن حمدون، مكتوب بجواره السلمي النيسابوري، ولكن مكتوب بجواره أبو بكر. العبر "3/ 236". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 359 وتقوى وورع، أخذ عنه بعض أشياخنا كأحمد بن الخياط وجعفر الكتاني وغيرهما، وكان معدودا من علماء المعقول، بل من الأئمة الفحول، وكان له ولوع بالموسيقى متقن لألحانها. عرض عليه القضاء فامتنع، وقطعت عنه مرتباته، فصبر واحتسب لورعه وزهده. وفضائله جمة، أخذ عن أبي عبد الله الزروالي، وعليه جل قراءته، وعن حمدون بن الحاج، فسندنا من جهته عال أيضا وفي آخر عمره غلبت عليه أحوال الجذب، فترك التدريس. توفي سنة 1290 تسعين ومائتين وألف أو تسع وثمانين كما في ثبت تلميذه إبراهيم التادلي عن ولده رشيد قائلا وولادته سنة سبع ومائتين وألف. 802- محمد بن أحمد عليش المصري 1: شيخ المالكية بالديار المصرية، بل شيخ مشايخها وعالمها وفقيهها ذو التآليف النافعة كشرح المختصر، والفتاوى، وعليه تخرج جل أهل الأزهر، وكانت له جلالة تهابها الأسود، وكلمة نافذة لتقواه وورعه، فهو نظير الشيج جنون عالم المغرب ومعاصره لا تأخذهما في الله لومة لائم، ونظيرهما الشوكاني في اليمن، والألوسي في العراق. توفي سنة 1299 تسع وتسعين وألف. 803- محمد بن العربي بو حجر: عالم تازة وإمامها ومفتيها، كان فقيها ماهرا في الفروع عارفا بتطبيقها، معروفا بسعة الاطلاع، تأتيه الفتاوى من أقاصي الديار المغربية، فيحسن جوابها، مبرزا على أقرانه متقن متفنن. توفي سنة 1295 خمس وتسعين ومائتين وألف، وهو آخر أهل العلم المشاهير بتازا، وبعده قفرت من العلم إلى الآن.   1 محمد بن أحمد عليش المصري: خطط مبارك "4/ 41"، ومرآة العصر "196" وإيضاح المكنون "1/ 271". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 360 804- أبو السبطين محمد صديق حسن خان بهادر: أمير بهويال الهندي عمدة المسندين، وخديم سنة سيد المرسلين عند غيره فيها، له تآليف طبعت أسماءها مع ترجمته الواسعة ومآثره العلمية المتكاثرة في مفتتح "نيل الأوطار" للشوكاني، وقد خدم السنة النبوية خدمة تذكر له فتشكر في القرن الثالث عشر، وطبع الكثير من تواليفه، وكان من جلة الأمراء المصلحين. ومن تآليفه "حسن الأسوة بما ثبت عن الله ورسوله في النسوة" خصه بالأحكام الخاصة بالنسوة في الشريعة الإسلامية، وله تفسير "فتح البيان" توسط فيه بين المنقول والمعقول، و"لقطة العجلان فيما تمس إليه معرفة الإنسان" قال بيرم في رحلته: هذا العالم الملك من نوادر هذا العصر، فإنه مع اشتغاله بمهام السياسة التي تقلدها بالنيابة عن زوجته سلطانة تلك المملكة قد تبحر في الفنون العلمية سيما الشرعية وآلتها وفصاحته في نسج تآليفه يحمده عليها أهل اللغة العربية، وعلى الخصوص في هذا الزمن الذي كادت أن تتلاشى فيه اللغة والعلوم من الأمة الإسلامية. وعلى كل حال، فهو من مفاخر الأمة في القرن الماضي. ولد سنة سنة 1248 ثمان وأربعين ومائتين وألف، وكان حيا سنة 1301 واحد بعد ثلاثمائة وألف، ولم أقف على وفاته الآن1. 805- أبو عبد الله محمد بن المدني جنون 2: المستاري أصلا، الفاسي مولدا وقرارا، من بيت بني جنون، الرفيع العماد، الأصيل التلاد ينتسبون في رسومهم القديمة إلى قبيلة بني مستارة حوز   1 أبو السبطين محمد صديق حسن خان بهادر أمير بهو بال الهندي: توفي سنة 1307هـ وانظر ترجمته في "التاج المكلل" "381"، وفهرس الفهارس "1/ 269"، وجلاء العينين "30". 2 أبو عبد الله محمد بن المدني جنون المستاري الفاسي: أبو عبد الله المستاوي، مات سنة "1302": الأعلام "7/ 94" والحاشية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 361 وزان، وفيها فرقة بني جنون الأشراف الأدارسة لهذا العهد، وقد ملئت تواريخ المغرب بزخبار دولتهم وللنسابين في ذلك مقال، والناس مصدقون في أنسابهم، وقد أخبرني من أثق به من الطلبة في وزان أن كل بني جنون في بني مستارة أشراف بغير خلافم. هذا الشيخ من أكبر المتضلعين في العلوم الشرعية الورعين، المعلنين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وخاتمهم في المغرب شيخ شيوخنا، وشيخ شيوخ جل المغرب رأس علمائه في القرن الثالث عشر بلا منازع، كان مفتيها محدثا نحويا لغويا معقوليا مشاركا محققا نزيها، قوالا للحق، مطبوعا على ذلك، غير هياب ولا جل، نزيها مقداما مهيبا، عالي الهمة، دءوبا على نشر العلم والإرشاد، والنهي عن المناكر والبدع والتي تكاثرت في أيامه لا يخشى في الحق لومة لائم يحضر مجلسه الولاة والأمراء أبناء الملوك وغيرهم، وهو يصرح بإنكار أحوالهم وما هم عليه مبين لهناتم غير متشدق، ولا متصنع، بل تعتريه حال ربانية، ولكلامه تأثير على سلطان النفوس رزق في ذلك القبول والهيبة على نحول جسمه، ووصلته بذلك أذاية وسجن، لكن بمجرد سجنه اعتصب الطلبة وقامت قيامة العامة فأطلق سبيله لذلك. فهو أحق من يقال في حقه: مجدد لكثرة المنافع به، وانتشار العلم عنه، وعن تلاميذه، وقيامه بالنهي عن مناكر وقته، وكان شديدا على أهل الطرق وما لهم من البدع التي شوهت جمال الدين والمتصوفة أصحاب الدعاوى التي تكذبها الأحوال، وما كان أحد يقدر على الرد عليه مع شدة إغلاظه عليهم وعلى غيرهم وسلوكه في ذلك مسلك التشديد، بل التطرف في بعض المسائل، ومع ذلك هابه علماء وقته ولم يجرءوا على انتقاده؛ لأنه كان يتكلم بالحال لا المقال، وتحققوا خلوص نيته ومطابقة سره لعلانيته. وذكر لي بعض الثقاة أنه سمع من الفقيه أحمد جسوس الرباطي أحد تلاميذه أنه أصبح جنبا، ولما استيقظ، وجد وقت القراءة، فلم يقدر على التخلق خوفا من الشيخ؛ لأنه كسي مهابة وجلالة انعدمت من علماء المغرب بعده، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 362 فذهب للدرس، فما دام جالسا والشيخ ما التفت إلى جهته يقول علنا: أعوذ بالله من وجوه الجنابة، وذلك ما يدل على ما كان له من الكشف الصادق والفراسة النافذة، ولله در من قال: إذا لم يكن العلماء أولياء الله، فليس لله من ولي. وقريب من هذه القصة وقعت لعبد الرحمن بن أحمد التاجنوزي انظرها في "نيل الابتهاج" وله مناقب جمة كان يحكيها لي الوالد رحمه الله. الذي كان ملازما دروسه. وقد حكى لي شيخي أحمد بن الخياط وغيره أن دروس الشيخ كانت أفضل بكثير مما يكتب في تآليفه، وحكى لي هو أيضا أنه سمع منه فوائد ما سمعها من غيره ولا رآها في كتاب قط مما يدل على اطلاع عظيم، له تآليف مفيدة كحاشيته على موطأ مالك، واختصاره لحاشية الرهوني السابق، وتقدم وصفه، وله تآليف كثيرة في مواضع متنوعة، وكثيرا ما ألف في البدع وما نزلت نازلة مهمة إلا وقد خصها بتأليف. وقد طبع بعضها بفاس. توفي رحمه الله على رأس المائة الثالثة عشرة 1302. 806- حسن العدوي الحمزاوي 1: عالم مصر ومفتيها، ذو تآليف مفيدة، كتبصرة القضاء في المذاهب الأربعة، وحاشية البخاري، وأخرى على الشقاء وغيرها. توفي سنة 1303 ثلاث بعد ثلاثمائة وألف. 807- أبو العباس أحمد بن أحمد بناني المقلب بكلا: فقيه علامة مشارك، ولا سيما في علوم اللسان والمعقول والحديث والأصول. قد انتهت إليه الرياسة في ذلك بفاس ونواحيها، وأخذ عنه أعلامها وجل أشياخنا، وأدركته وهو شيخ هرم لا يقدر على الدرس، نعم صليت وراءه   1 حسن العدوي الحمزاوي "تبصرة القضاة في المذاهب الأربعة": الخطط التوفيقية "14/ 37" واليواقيت الثمينة "1/ 126". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 363 بالزاوية التيجانية إذ لم يتأخر عن الإمامة فيها في الفخر وغيره إلى أن عجز آخر عمره. وقد أثنى عليه أشياخنا كمحمد الوزاني والحاج محمد جنون، ومحمد القادري وغيرهم، وكلهم يروي عنه سماعا وإجازة، وكان قد حج معه سنة نيف وتسعين أنه كان يراه قائما متهجدا بكلام الله وهو المركب، والأمواج تلعب بهم، وربما سقط في الركعة الواحدة عدة مرات بميد البحر. توفي سنة 1306 ست وثلاثمائة وألف عن سن عالية. 808- عبد الله بن حمدون بناني 1: فقيه موثق نحوي شهير بفاس. ولي قضاء طنجة وغيرها، ومات فقيرا، فربح الثواب الفاخر، والثناء العاطر، توفي سنة 1307 سبع وثلاثمائة وألف. 809- خفاجي سيف الله بن إبراهيم: عالم الإسكندرية ومسندها، ومن انتهت إليه رياسة العلم فيها وقته، وهو شيخ لكل من بقي بها إلى الآن وفضله عليهم، وخلف أنجالا علماء أفاضل. توفي سنة 1310 عشر وثلاثمائة وألف. 810- أبو عبد الله محمد بن التهامي الوزاني أصلا الفاسي دارا: صدر الصدور الجلة، وعلم أعلام الملة، ركن العلم المحجوج، وبرهانه غير المحجوج، الفارس المجلي في كل ميدان، والمشار إليه بكل بنان، جهبذ راض العلوم الصعاب، وسلك السهول والشعاب، فتملك نواصيها بأوثق الأسباب. ولثقوب ذهنه الرحيب، فلا يرمي إلا بالسهم المصيب، خدم الرجال ذوي الحكمال، وركض في كل مجال، فأحرز المعالي بالعوالين وأصبح تاج الرءوس،   1 عبد الله بن حمدون بناني: أبو عبد الله النديم الكاتب. الكنى للقمي "1/ 267" تنقيح المقال "3/ 42"، ريحانة الأدب "7/ 479". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 364 المفدى بالنفوس، برز على غيره في علوم كالنحو والبيان والفقه توجيه القراءات، فكان فيها لا سيما النحو إذا وطئت أقدام فحوله الثرى، جاوز الثريا يملي تحقيقات دروسه من غير احتياج لكتاب ويشرح متن الألفية أولها بآخرها، ويملي من حفظه قواعدها وشواهدها، ثم شارك في بقية العلوم الإسلامية نقلية وعقلية مع ما أوتي من سهولة التعبير عما في الضمير، ولم يكن له في ذلك نظير، فكانت العويصات لديه ضروريات، فلا يقوم الطالب من درسه إلا محصلا، وبرع في تحصيل قواعد الفنون بشواهدها من كتاب وسنة، متعمق في استنتاج دقائقها العلمية، تارك لكثرة الأبحاث الفارغة اللفظية، جماع للنوادر، مطلع ماهر، يمازج درسه الزاهر بفكاهات تمازح الأفكار، وتذهب بالسآمة، وتصقل الأنظار، إلى لطف أخلاق وهيبة الاستقامة، فكثر النفع به في الأصقاع المغربية حضر وبوادي، وعمرت بمآثره النوادي، فملأت تلاميذه الكراسي والمنابر، وله الفضل على جميع أصحاب المحابر. ولقد كان بطلا لا ترد شباة نقده، ولا تحل مبرمات عقده، بحر زخار نقاد نظار، إن قيل في غيره فضة، فهو النضار، درسه أعظم درس أدركنا، وأمتع ما رأينا، لازمت دروسه نحو خمسين سنين، وكرعت من بحوره الزاخرة باليمين، عربية وفقها وبيانا وفرائض وحسابا وتوحيدا، ومنطقا وحديثا وغيرها. وأول يوم جلست بين يديه كساني نوره، فوجدت من نفسي إدراكا وتحصيلا لم أجده قبله، فكان ذلك اليوم من أسعد أيامي انتقلت فيه من طور إلى طور، كأني كنت حيوانا فصرت إنسان أو كنت نائما، فأصبحت يقظانا، وأمسيت نشيطا جذلانا، اتخذته عمدتي، وأعددته عدتي والله يجازيه خيرا. أما قدمه في الورع والزهد والتبتل والعبادة، ففي المكانة التي ما وراءها وراء، ولم أره مدة ملازمتي له إلا ناشرا للعلم، أو تاليا لكتاب الله بحرف أبي عمرو البصري، أو ذاكرا يقوم الليل تهجدا، وفي النهار تراه في نشر العلم ومطاردة الجهل مجاهدا. تولى قضاء الصويرة، فكان مثال العدل والعفة والاستقامة مع دءوب على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 365 نشر العلم، ولشغفه به، لم يلبث بها إلا قليلا، واستعفى فأعفي، فرجع لفاس طاهرا، وللعلم ناشرا، وله فتاوٍ قليلة، وكان من أهله الشورى في الأحكام، فلم تحفظ له في ذلك فلتة، بل الذكر الجميل، والفخر الجزيل. وقد خرج من الدنيا فقيرا في بيت بالكراء مع تجمل ظاهره، وإظهار النعمة عليه ولعكوفه على ثلاثة دروس يومية فأكثر، قلت نفثات أقلامه، ومع ذلك، فله مؤلفات لا تخلو من فائدة كتأليفه في إيمان المقلد وغيره، وبالجملة تدارك الله به هيكل العلم الذي كان قد انهار بموت العلامة جنون السابق، فكان خير خلف له في اجتهاد في نشره، وبث روح الحياة في أهله، وعند أخذ، وعن بناني كلا السابق وغيرهما. وتوفي بضعف أصابه من كثرة اجتهاد في ليلة 12 شعبان وهو يتلو قوله تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} برواية البصري سنة 1311 إحدى عشرة وثلاثمائة وألف عن نحو ستين سنة، ولم نر مثل جنازته، ورثاه تلاميذه وأقرانه بقصائد عديدة، وكان المصاب به جليلا، ودفن بالقباب خارج باب الفتح رحمه الله، ولم يعقب ذكرا، ولكن عقبه في العلم لا ينقطع. 811- أبو إسحاق إبراهيم بن محمد التادلي: شيخ الجماعة في الرباط في وقته، فقيه حيسوبي، فرضي علامة مشارك، وصفه بذلك تلاميذه، نشر العلم بالرباط بعدما كان صفرا، وصيره زهرا بعدما كان قفرا، طلب العلم بفاس، وأخذه عن شيوخ كعبد السلام بوغالب، والفقيه أبي عبد الله محمد بن عبد الرحمن الحجرتي الفلالي شيخ الجماعة بها وغيرهما، وله تآليف كثيرة كشرحي الألفية، والمختصر، وشرح الرسالة، وشرح المرشد، وغيرها وقد أخبرني مفتي الرباط الفقيه ابن إبراهيم أن الرباط ما كان به من يستحق أن يقال له: عالم قبله، وإنهم كانوا قبل عام 1300 إذا مات أحد لم يعرف عدوله قسم تركته، وإنما يقسمها لهم الطبجية حتى نشره فيهم المذكورة. هكذا قال. توفي سنة 1311 إحدى عشر وثلاثمائة وألف، وما ماتت سمعته الطيبة إلى الآن بالرباط. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 366 812- عبد القادر بن عبد الكريم الورديغي 1: الشفشاوني الخيراني المغربي الأصل المصري الدار، عالم بارع فقيه مدقق قرأ العلم بفاس، وسكن مصر، له مؤلفات منها "سعد الشموس والأقمار، وزبدة شريعة النبي المختار" في المذاهب الأربعة، وهذا هو عين كتاب "القوانين" لابن جزي زاد ذكر آيات وأحاديث صدر التراجم، ولم يعزها لمخرجها، وفيها ما لا يصح الاستشهاد به، أو لم يطابق المرجم له، وختمها برسالة مالك للرشيد، و"المشتاق لأصول الديانة والأذواق" و"نهاية سير السباق" وقد طبعا بمصر في مجلد واحد، وله كتاب "شمس الهداية" في القضاء على المذاهب الأربعة، وغيرهم، وله تواليف أخرى. توفي بمصر سنة 1313 ثلاث عشرة وثلاثمائة وألف. 813- الهاشمي بن محمد بن الهاشمي الحجوي الرباطي الدار: كان علامة دراكة محققا مدرسا، نفاعا ناشرا للعلم، عاكفا عليه جل علماء الوقت بالرباط تلاميذه، وعنه أخذوا، وبه تخرجوا، عالي الهمة، متين الإدراك، نزيه النفس، زكي الأحوال كأبيه وجده رحمهم الله. أخذ عن الفقيه سيدي إبراهيم التادلي وغيره. توفي سنة 1315 خمس عشرة وثلاثمائة وألف. 814- أبو محمد جعفر بن إدريس الكتاني 2: الحسني الفاسي شيخنا الإمام الفقيه العلامة الورع الناسك الواعظ الدال   1 عبد القادر بن عبد الكريم الورديغي الشفشاوي الخيراني المغربي الأصل المصري: اليواقيت الثمينة "1/ 218، 219". 2 أبو محمد جعفر بن إدريس الكتاني الحسني الفاسي: أبو المواهب، أبو الفضل، الكتاني الحسني، توفي سنة 1323: فهرس الفهارس "1/ 186" والحاشية، معجم المؤلفين "3/ 133، 134"، شجرة النور الزكية "433". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 367 على الله بحاله ومقاله، النزيه في أحواله كان ناشرا للعلم متحريا في دينه، متقشفا في عيشه عاكفا على نفع الخلف، صارما في قول الحق من أهل الشورى، المتفق على نزاهته وفضله. أخذ عن شيوخ أشار لهم في كتابه "الشرب المحتضر في بعض أهل القرن الثالث عشر" وله فتاوٍ وتآليف كشرح خطبة شرح ميارة على المرشد المعين، وغيره وقد كان من القوم الذين إذا رُءوا ذكر الله. وبالجملة كان من خيرة من أدركنا نزاهة ودينا عصمه الله من فتنة الدنيا وزخرفها، فأنعم الله عليه بأنجال علماء جلة كسيدي محمد1 الذي رحل إلى المشرق أخينا في الله ونعم الأخ وشهرته كافيه عن إطرائه، وأخيه أحمد وعبد العزيز وعبد الرحمن كلهم من خيار علماء وقتهم وقد توفي الأخيرون رحمهم الله. توفي المترجم سنة 1323 ثلاث وعشرين عن نيف وسبعين، ولما نعوه في مكة صلوا عليه صلاة الغائب، ولم يكن بها أحد من قرابته لماله من طيب الذكر رحمه الله. 815- أبو العباس أحمد بن خالد الناصري 2: السلوي دارا وقرارا ينتهي نسبه إلى الشيخ سيدي محمد بن ناصر الدرعي صاحب زاوية درعة الشهيرة بالمغرب. وهذا الشيخ هو من عرب معقل الداخلين للمغرب في القرن الخامس من فرقة منتمية إلى عبد الله بن جعفر بن أبي طالب من زوجه زينب بنت علي وفاطمة عليهم السلام، ولذلك ينتسبون جعفريين زينبيين، كما حققه المترجم في كتابه "طالع المشتري في النسب الجعفري" رادا على من قال من حفدة الشيخ المذكور: إنهم مقدايون؛ لأن مقداد بن الأسود لم يعقب، ورادا على ابن خلدون الذي اضطرب كلامه في انتساب عرب معقل إلى عبد الله بن جعفر، وقد رد عليه أحسن رد بحجج دامغة، واستدل بأن منهم الثعالبة وهم قبيلنا كما سبق لنا في ترجمة الشيخ عبد الرحمن الثعالبي دفين الجزائر، وهم جعفريون صرحاء كما أثبت ذلك غير واحد من النسابين لما تكلموا على الشيخ   1 توفي ولده سيدي محمد بفاس في 16 رمضان سنة 1345 خمس وأربعين، وقبله أخوه مولاي أحمد سنة أربعين 1340 رحمهم الله. 2 أبو العباس أحمد بن خالد الناصري السلوي: الاستقصا "4/ 50"، وشجرة النور "432". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 368 المذكور، وعلى نسب أبي مهدي عيسى الثعالبي شيخ الحرم المكي. وهو تأليف جيد من أحسن تآليف المترجم، استوفى فيه الكلام على النسب المذكور، وعلى الشيخ بناصر وأولاده وأحواله رضي الله عنه. كان المترجم علامة عصره، مشاركا متفننا حافظا، دراكة، بعيد الغور، عالي الهمة، حسن الأخلاق، له مكارم جمة تنبئ عن شرف أصله، وكرم فضله. له التاريخ الشهير المسمى بـ"الاستقصا في أخبار المغرب الأقصى" وهو مطبوع، وشهرته تغني عن إطرائه. وله القيام بإنكار البدع والرد على الطرق فيما خرجوا فيه عن السنة، وذلك في تاريخه، وفي رسالة له، تعظيم المنة بنصرة السنة، ولا بدع في ذلك، فإن آل بناصر من المشهورين بنصرة السنة، والوقوف عندها وعلى ذلك أسست زاويتهم، كما أفصح بذلك اليوسي وغيره، وكان للشيخ مشاركة في الفقه، واطلاع ينبئ عن ذلك ما تكلم عليه من النوازل في التاريخ المذكور، وله إلمام بالأدب والشعر يدل على مقداره فيه شعره في التاريخ المذكور، وشرحه البديع لقصيدة ابن الونان المسمى بـ"زهر الأفنان" وهو مطبوع وله غير ذلك، ولولا اشتغاله في التوظف بخطة عدالة في الكمارك المغربية بالمراسي، لخلف أكثر من ذلك، ولما كان موظفا بفاس، كان يدرس المختصر درسا أعجب به من أدركه وصناعته في الدرس صناعة نافعة جدا، أخبرني بذلك من قرأ عليه. توفي ببلده سنة 1315 خمس عشرة وثلاثمائة وألف. 816- أبو العباس أحمد بن الطالب السودي 1: القرشي ثم المري الفاسي، شهاب العلم، وقبس التحصيل والفهم، زعيم الفئة، ويتيمة عقد هذه المائة، بقية السلف، وزينة الخلف، شيخ الجماعة بالمغرب، وشيخ أملاكه والبدر في أفلاكه، بحر العلوم العقلية والنقلية الزاخر، وفلكها الدائر، وشمسها التي أخفت النجوم الزواهر إلى المجد الأثيل الباذخ   1 أبوالعباس أحمد بن الطالب السودي القرشي المري الفاسي: إتحاف أعلام الناس "1/ 456". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 369 المؤسس على أساس العلم السانح إذ بيت بني سودة بيت علم أصيل ومجد أثيل، حملوا المحابر، فحملوا على المنابر، ومع ذلك فالشيخ عصامي لا يتكل على مجد عظامي، لذلك حاز قصب السبق على الأقران، وجلي في الميدان، فكان في التحقيقات البدر المنير إذا أدلهم مشكل، أو ناب معضل، إلى كرم نفس، وإصابة حدس، ورقة طبع دونه النسيم، وخلق كريم يسلي الكليم، حليته الإنصاف شأن الأشراف مع فصاحة سحبانية، وكف حاتمية، وذهن وقاد، وقلم سيال نقاد، كثير المطالعة، واسع الاطلاع، معتن بجمع الفوائد والشوارد، وقيد الأوابد. وقفت على جملة من كتبه، فلا تجد واحدا منها إلا وعليه خطه وملاحظته القيمة، جاعلا لها فهارس مقربة، فهو شيخ النحارير النظار في عصره، ولم ندرك في بيتهم من يساويه، ولا في حلبته من يساميه، وكان مع ترأسه مجالس الملك الحديثية قاضي مكناس مدة طويلة إلى أن توفي قاضيا. أخذت عنه بفاس صحيح البخاري وشمائل الترمذي، ولازمت درسه فيهما إلى الختم رواية ودراية، وله سند عال بينته في الفهرس، فكان يأتي بالعجائب البينات، ويصير معضلات العلم بحسن ذوقه، وثاقب فهمه، وحسن أسلوبه في التعبير من الواضحات. كان كثير التقييد يكتب درسه، ويمليه محررا من كراسته، تفرد بهذا العمل لكبر سنه ونحولة جسمه، لكن فكره الوقاد لم يتقمص معه في قميص شيخوخته، بل بقي في عنفوان الشباب يفحم الشباب، ويأتي بفصل الخطاب، راجعته في مسألة كتابة وشفاها، فكان مثال التحقيق والإنصاف بعيدا عن جبروت الولاية والاعتساف. وله عدة تواليف فقهية وحديثية منها حاشية على البخاري، لو طبعت، لكان لها طيران حثيث، ولد سنة 1241 إحدى وأربعين ومائتين وألف. وتوفي عاشر رجب سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة وألف بفاس رحمه الله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 370 817- أبو سالم عبد الله الكامل الأمراني العلوي الحسني 1: بيت المجد الصميم، والفضل العميم، رضع ثدي المعارف على الشيخ جنون الكبير، وطبقته، فكان من الناجحين في حلبته، إلى أخلاق عاليه، ونفس في المكرمات سامية، وتحقيقات للمسائل العلمية بادية، حضرت دروسه الفقهية، فكانت آية الآيات تتضاءل لديه المعضلات مع مشاركة واسعة، وتقوى الله لذلك نافعة، للأدب والتواضع فيه انطباع يجذب الطباع مع رحب باع، وحسن اطلاع، وتحرير عميق يشنف الأسماع، ينثر في درسه الجواهر التي تزري بالزواهر، جلس للدرس بعد وفاة الشيخ الوزاني السابق، فركض في الميدان وجلي، وكان النهار إذا تجلى فلم ينشب أن اقتطفته المنون كهلا سنة 1321 إحدى وعشرين وثلاثمائة وألف. 818- شيخ الإسلام سليم البشري 2: المصري، علامة دراكة جهبذ فاضل محقق، تولى رياسة الأزهر سنة 1317، وكانت ولادته سنة 1248، وأخذ عن الشيخ البيجوري، والشيخ عليش وغيرهما، ودرس وتخرج عليه خلق كثير، وهو معدود من المصلحين، فقد رتب بسعيه سبعة من المدرسين بالجامع الزينبي مدة مشيخته به حتى صار قطعة من الأزهر، وتولى مشيخة المالكية بعد عليش، ولما تولى مشيخة الأزهر أكثر من امتحان طالبي التدريس، فكان سببا في كثرة المدرسين، وقد سار الأزهر في أيامه سير انتظام، وتقدم، وأصبح جل مدرسي الرياضيات متخرجين من الأزهر، وله جملة مؤلفات في التوحيد وغيره، أكثرها حواش كما هي عادة أهل وقته وبلده.   1 أبو سالم عبد الله الكامل الأمراني العلواني الحسني: دائرة معارف الأعلمي "21/ 214". 2 سليم البشري المصري [علامة دراكة] : الكنز الثمين "1/ 106"، ومرآة العصر "2/ 465"، كانت وفاته سنة "1332" هـ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 371 819- أبو عبد الله محمد فتحا بن محمد بن عبد السلام جنون: المستاري أصلا الفاسي مولدا وقرارا، من بيت بني جنون الشهير بفاس، وتقدم هذا السيد تحفة الدهر التي يقل لها الكفاء علما وبراعة، رواية ودراية، تقوي واستقامة، وسمتا وهداية نشأته سحبت من العفاف ذيلا، وغضت الطرف حتى عن الطيف ليلا، شاب نشأ في العبادة والإكباب على العلم، والتكفي بما خلفه أسلافه ذوو المجادة، فلم يزل خدن الصيانة، صلب الديانة في عفاف واستكانة، حافظا لناموس العلم، عالي الهمة، مترفعا عن كل ما لا يليق بذوي الأقدار، حتى يظنه الظان متكبرا معجبا، فإذا فاتحه الكلام، أدهشه ما يجده من تواضع، ومكارم أخلاق، فأيقن أنه فيلسوف حكيم، عرف أهل زمانه ففر بدينه، وأقبل على ما يبقى، وأشاح عما يفنى، وقنع بالكفاف، نظر إلى الدنيا نظر استخفاف. عكف على العلوم، وأعطى كليته إليها، ولم ترض همته إلا باقتنائها والغوص على جواهرها وانتقائها، ومع حداثة سنه حصل على ما عجز عنه الشيوخ، ووسم بمقام الرسوخ، وأعانه صفاء مرآة فكره التي ما كدرها اهتمام بمعيشة، ولا هم رياسة، أو خوض حمأة السياسة، فكان حافظا واعية، ضابطا متقنا، بارعا في سائر العلوم الموجودة في زمنه، بحر لا تساجل لجته، وبرهان لا تراجع حجته، مستقيمة محجته، أمعن في العلوم كل الإمعان، وتمكن من صياصيها تمكن العوائد من طبع الإنسان تحسبه في كل فن واضعه، ولا ينزل عويص إلا كان فارعه. تجلت فيه المواجب الإلهية بأبهى مجاليها، فكنت إذا أردت الموازنة بين دروسه الحديثية والتفسيرة والتجويدية والفقهية إلخ. هل غلب عليه فن منها، فلا تجده إلا بارعا في الكل سواء براعة فحوله العظام وأئمته الأعلام، وذلك ما لم أره في غيره؛ إذ كل من رأينا يغلب عليه فن من الفنون، وهذا لفضل ذكائه، وقوة عارضته واقتداره، لا تجد براعته في واحد منها تنقص عن سواه، فسبحان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 372 من هو على كل شيء قدير. بلغ غاية الغاية في التحقيق، والفهم الدقيق، فكأنه ينظر للغيب من ستر رقيق، بل لا ستر بينه وبين المعارف إلا أن يلتفت إليها، فتتدلى له الأغصان بالقطائف، ولا يجتني إلا اللطائف إلى فصاحة تترك سحبان لو رآه باهتا، وقسا لاستحيائه ساكتا، إذا مررت بدرسه، ترى خطيبا بدون منبر، وبحرا يقذف أنفس الدرر، لم تحفظ عنه لحنة في دروسه الكثيرة في أنواع الفنون، فما كان ينتابها إلا المنتهون والنبهاء والمدرسون، لذلك أقول عن تحقيق: ما رأيت مثله، ولا رأى مثل نفسه فيما أظن حفظا وإتقانا لكل علم توجه إليه، وفصاحة وثبات جنان وطلاقة لسان، وتصرفا في العلوم وورعا واستكانة وعزوفا عن بهرجة الحياة. هذا مع نحول جسمه، ولطافة شكله، وخفة روحه ومهابته، وحسن بزته، وعمارة الوقت بعد نشر العلم بالأذكار والعبادة، قد لازمته بعد موت الوزاني مدة طويلة إلى أن أقعده المرض لم أتمالك على التخلف عن دروسه ومجالسته ومذاكرته، فانتفعت به كثيرا. فجزاه الله أحسن الجزاء فلا أحفظ أني رأيته إلا في عبادة. كانت علوم اندرست أو ضعفت فأحياها، ونفخ روحا جديدة في طلابها، فابتهج محياها، درس علم التجويد بعدما درس، وأحيا قراءة التلخيص بمطول السعد بعدما بعد عهد هذه الديار بتهاطل تلك الأمطار، وذلك كله عطل بموته، وأحيا قراءة التفسير بالبيضاوي، لكن القاصرين لِمَ لَمْ يرق ذلك في أعينهم، فزعموا أنه يتسبب عنه موت السلطان، فشغلوه بولاية قضاء أسفى، ويا أسفي على العلم قضى عليه الحسد، وأذهب الروح وترك الجسد، لكن لم يلبث إلا نحو سنة، ثم استعفى فاعفي مشوقا إلى ما تعود من نشر العلم، طاهر الذيل، قائما بحقوق العدل، فرجع لدروسه تاركا التفسير في دروسه. ولإكباب المترجم على الدروس الكثيرة، وإقبال التلاميذ عليها بإلحاح حيث انتهج في الإلقاء نهج الحفاظ الكبار إملاء كالبحر في مده، وتصرف بديع في التحصيل والبيان، وتبليغ مع تفيهم بليغ، كل من جلس في درسه لا يقدر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 373 على مفارقته، إلا أن يكون قصارا عن فهمه، غير عاشق للعلم، ولا تطربه الفصاحة والبلاغة، لذلك لم تيسر له تواليف مهمة تناسب علمه مع اقتطاف المنون له في زهرة الشباب، ومع ذلك فله تواليف لا تخلو من أهمية كشرحه لخطبة المطول، وتأليفه في البسملة في الصلاة وغيرهما. وكان أكثر أخذه وتخرجه بالفقيه محمد بن العباس العراقي كما أخذ عنه أحمد بناني كلا السابق ونسيبه جنون والوزاني وغيرهم، وأجازه عدة مشارقة في وجهته للحج، كما أشار لبعض ذلك في ثبته الذي أجازني به، وقد ذكرته في الفهرس، وبينه وبين البخاري من بعض الطرق أحد عشر شيخا، وبينه وبين مالك أربعة عشر، وقد بقي على حاله الموصوف إلى أن نزلت به سكتة ألزمته الفراش مدة، ثم وجد بعض الراحة غير تامة، فبقي بين اعتلال وإبلال إلى أن توفي سنة 1326 ست وعشرين وثلاثمائة وألف، ودفن بضريح أبي غالب برأس القليعة من فاس، وانقرض عقبه من الذكور رحمه الله، إلا أن عقبه العلمي لا ينقطع، إذ جل من يشار إليهم في الوقت مستمدون منه، نعم بموته انطفأت تلك النهضة العلمية العربية، والله يعيدها لأحسن ما كانت. 820- أبو محمد عبد السلام بن محمد الهواري: فقيه نقاد، مشارك نفاع، من أساطين العلم الكبر، وأنجمه الدرر، أغر البيان، وبرهانه العيان، فخم مفخم في تدريسه المرتل ألذ من إيقاع المثاني في إلقائه الذي لا يمل، تكسوه جلاله عند الإلقاء لم تكن عند اللقاء، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، استقضى بقصر كتامة ثم السويرة، ثم صار قاضي فاس، أخذت عنه حظا من الفقه والبيان والحديث وغيره وله حواش على شرح لامية الزقاق لابن سودة السابق، وشرح على الوثائق البنانية الكل مطبوع. توفي رحمه الله في أواخر جمادى الثانية عام 1328 ثمانية وعشرين وثلاثمائة وألف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 374 821- أبو محمد الحسن بن العربي الحجوي: هو الحسن بن العربي بن محمد بن أبي يعزى بن عبد السلام بن الحسن الحجوي الثعالبي الجعفري الزينبي التازي مولدا الفاسي دارا وقرارا ووفاة، والدي وعمدتي، وأول شيخ أخذت عنه أول مسألة فقهية، وغذاني بمعارفه، وأسبغ علي برد مطارفه، كما أخذت عنه السير والتاريخ كثيرا وغيرها، وبأدبه تأدبت، وتحت شعاع نوره أدلجت، فلم لو أذكر ترجمته، لكان من إضاعة الحقوق، القريب من العقوق، لكني أختصر، وعلى بعض ما علمت سعد أقتصر، وإلا فلا سبيل أن أوفيه حقه، ولا أذكر إلا ما تيقنت صدقه. نسبه تقدم لنا الكلام عليه في ترجمة أبي زيد عبد الرحمن الثعالبي، دفين الجزائر وأبي بكر الحجوي دفين القنادسة قريبا، نشأ في ظلال والده مترددا بين مصادر العلم وموارده، من نعمة يتفيؤ وارفها، إلى طهارة يسحب مطارفها، وأبوه كجدوده قطب بلده الذي عليه مدارها، ومقام حجها واعتمارها، فسلك للعلم الحزون والسهول، وبز في حداثته الكهول إلى أن تحلى بكل كمال، وبلغ ما تقصر عنه الرجال، من علم وفضل وتقوى، ومكارم طابق سرها النجوى، ونفس زكية سهلة، تريك كامل السراوة لأول وهلة، ما شئت من أخلاق محمدية زلال، وخلال آمنة من الاختلال، يتمنى رقتها النسيم، وسماحة متلقاة دعواها بالتسليم، شهير الإيثار، بعيد عن جمع الاستكثار، محب للمساكين، وآل البيت الطيبين، والعلماء العاملين، مع صحبة الصالحين، وعبادة المخلصين، وإنابة المخبتين، سليم الباطن، مغض عن الأعراض الموجبة للضغائن، متفق على فضله من القاطن والظاعن، صادق اللهجة، دائم البشر، واسع الصدر، ثاقب الفكر، وإنه لحسنة من حسنات الدهر، متواصل الأحزان على أحوال المسلمين المتأخرة في هذه الأزمان، ناصح لكل من اجتمع به منهم، دال على الخير، متمسك لأثر السلف الصالح عملا واعتقادا، لا ينام من الليل إلا قليلا، ولكمال سيرته، وصفاء سريرته، ومطابقة سره لعلانيته، رزق فراسة صادقة ينظر فيها بنور الله، ودعاء مستجابا شأن كل أواه يعرف ذلك من أحواله كثيرون ممن كانوا ينتابون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 375 مجالسه التي لا تؤبن فيها الحرم، ويعدونه له كشفا صادقا كنار على علم، ولو شئت، لذكرت من ذلك قضايا عجيبة كثيرة، لكني أكتفي بعلم كثيرين بها وهم أحياء لغاية كتب هذه الأحرف كي لا يقال: مادح أبيه مادح نفسه. قرأ القرآن على شيخ المقرئين بتازة الذي له الفضل على كل من يمسك القلم بها الأستاذ السيد علال بن كيران، والفقه وغيره على مفتيها بوحجاز السابق لنا ترجمته والمقدم الشاهد، والرجل الصالح الحسن بن حنيني وغيرهم من أعلام تازة، ثم لما حدثت بعض الفتن بمسقط رأسه، ومنبت غرسه، انتقل والده بجميع العائلة الكريمة لفاس في حدود الثمانين من القرن الماضي عائدا لمقر أسلافه الكرام التي نقلوا منها على عهد الدولة الإسماعيلية العلوية، وهناك لازم الفقيه الكبير الحاج محمد بن المدني جنون، والشيخ أحمد بن أحمد بناني كلا، ثم أخذ عن محمد بن قاسم القادري الحديث والسير، وعن غيره من أقرانه، كان آية في الحفظ والاستحضار حكى لي قاضي تازة السيد محمد الخصاصي نزيل طنجة الآن، قال: كان أبوك يحضر مجلس وعظي، فكان يعيد لي كل ما يسمع مني عن ظاهر قلب بالحرف. وفي المدة التي خاض فيها التجارة عرف لغتين الإسبانية والإنكليزية، وتشرف بالرحلة الحجازية أول ما لبس من الحجازية، ولقي مشرقا ومغربا رجالا عارفين فاغترف من بحرهم المعين، وتلقى راية الاختصاص باليمن، ولقد ظهر فضله، وكمل نبله، واستحصل في كل كمال رتبة قصوى، وله في السير والتاريخ اليد البيضاء، وفي علوم الاقتصاد والاجتماع مكانة عليا يعرفها أهلها، ولقد كان أكبر من الزمان وبنيه، وعدم روضه من يجتنيه، درة مغفلة، وخزانة على اللطائف مقفلة، أنظاره في السياسة بعيدة، وأفكاره ذات سهام سديدة، عرضت عليه وظائف مهمة فأبى، ورآها بالنسبة لحرية لسانه كالهبا، ولاستقلال فكره النضيج وحرية ضميره البهيج كان أكره شيء إليه التوصل إلى الدنيا الخسيسة بالدين الشريف، فكان يؤثر في تكسبه التجارة بعدما قضى من الطلب أوطاره، اقتدى بآبائه في الأخذ بالحظين والإرث بالسهمين، فكان محظوظا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 376 شاكرا ملحوظا بعين المهابة والتجلة، مقصودا للملهوفين، محبوبا من أهل الدنيا والدين، وقلبه مع مولاه باطنا، وفي الأسباب ظاهرا، تحلى من الإنصاف بما يحمد به الإنصاف، حتى كان يظهر لمجالسة الأمية، ويخفض لأهل العلم جناح التواضع حتى يظفر بكل أمنية. ومن فوائده المبسوطة على أطراف موائده ذاكرته يوما فيما يقوله بعض المالكية في حكم التجارة بأرض الحرب حيث كان هو يتجر في أوربا، فقال لي: لا جامدا على قول الفروعيين، فإن التجارة المذكورة في قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} 1 كانت بالشام وهي أرض حرب إذ ذاك، وأقرهم عليها القرآن، والنبي -صلى الله عليه وسلم، وقد أتجر عليه السلام بها قبل البعثة بنفسه الكريمة وهو معصوم من المحرم ومن كل ما يقدح في العدالة قبل البعثة وبعدها، على أن أوروبا لم تبق دار حرب، بل هي الآن دار سلام منذ سلم المغرب أصطوله وعقد معها المعاهدات، وتحقق أمن المسلم فيها على دينه وماله وعرضه، وقد أذن الإمام في التجارة بها، وأطال رحمه الله بأدلة لصراحة حكم الجواز بأدلة، وهكذا كانت أجوبته طيب الله ثراه. ولد نعمه الله بتازة سنة 1259 تسع وخمسين ومائتين وألف حسبما أخبرني به، وفي سنة 1320 ترك الاشتغال بالدنيا عن اختيار، وطلقها حال إقبالها بالبتات إلى الممات، وانزوى في بيته، وأقبل على مولاه بكليته من مطالعة إلى تلاوة إلى ذكر إلى مجاهدة ومشاهدة نحو تسع سنين، إلى أن استأثر به من له البقاء المنزه عن التغير والفناء بعد انحراف مزاجه أسبوعا في 21 ربيع النبوي عام 1328 ثمانية وعشرين وثلاثمائة وألف، وسبحان من حجب الفضائل بالتراب، والنجوم بالسحاب، وجعل الحياة كلمع السراب، ومضجعه المنور بزاوية الصقليين أحبابه بباب عجيسة، وعند الله أحتسب مصيبتي به، فإنها أعظم مصاب، وأسأل له الفوز في دار المآب.   1 سورة الجمعة الآية: 11. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 377 822- أبو عبد الله محمد فتحا بن قاسم القادري 1: الحسني الفاسي، الإمام النحرير النقاد، والعلم الذي تتضاءل له الأطواد الفقيه الأصولي المعقولي المشارك في العلوم، وقد تسنم منها الذري التي تقصر عنها الفهوم إذا أظلم ليل عويصه واحتلك، كان فكره شمسا تمحو ذلك الحلك، وهبه الله ذهنا متوقدا، وفكرا متيقظا مهما خطا لا يعرف الخطأ، إلى زهد وعفاف، ورضى بالكفاف، بل طلق الدنيا بالبتات، ووأدها وأد البنات، وقد عين لقضاء السويرة، فاحترم بحرم زرهون تاركا الدنيا لمن رضي بالدون، واعتكف هناك على نشر العلم في بلد كان منه قفرا، فأصبح كروض هتون، إلى أن أعفي، فرجع لفاس متوجا بتاج الزهد الصحيح، والعز الصحيح، وبقي سائر عمره ثابتا في ذلك المقام ما مال قط إلى الحطام، ولا احترف بحرفة أمثاله شهادة ولا فتيا إلى أن جاءه الحمام وقد تجرع من قلة ذات اليد مضاضة ولم تكن عليه فيه غضاضة، وربما سأل ذوي اليسار متعففا شاكرا، ودأب طول عمره للعلم ناشرا، فكان أحد أساطين القرويين العظام الذي عمروها بالروس والتآليف الجسام. أما الثقة به، فكلمة إجماع فهما ودينا من غير نزاع، لازمته مدة طويلة في دروسه المتنوعة فقها وأصولا، وحديثا وسيرا وتوحيدا وغيرها، وناولني بعض تواليفه الممتعة، وسمعت عليه مرتين إلا قليلا حاشيته على شرح ابن كيران على توحيد المرشد البديعة، وله "رفع العتاب والملام عمن قال إن العمل بالضعيف حرام" وتأليف في إيمان المقلد وآخر في السدل وغير ذلك. وقد ترك الدرس بعض أعوام من آخر عمره إلا قليلا لضعف أصابه في جسمه، وكان جسيما ولد سنة 1259 تسع وخمسين ومائتين وألف كما أخبرني به مشافهة. وتوفي سنة 1331 إحدى وثلاثين وثلاثمائة وألف.   1 أبو عبد الله محمد فتحا بن قاسم القادري الحسني الفاسي: رياض الجنة "1/ 52، 55"، وفهرس الفهارس "2/ 292، 293". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 378 824- أبو عيسى المهدي بن محمد بن محمد بن الخضر العمراني 1: نسبا الوزاني أصلا الفاسي دارا وقرارا الحسني، هو الرجل فقها وفروعا، وأحفظ أهل وقته للمذهب المالكي، وقد ظاهر منه دروعا مع مشاركة في العربية والبيان وغيرهما. علم من الأعلام البادية، وشهاب من الشهب الهادية، أخلاقه روض تضوعت نسماته، وبشره صبح تألقت بسماته يقرط أغراض الدعابة ويصميها، ويفوق سهام الفكاهة إلى مراميها، دءوب على نشر العلم بدروس عامرة، وتواليف متكاثرة هو أكثر من أدركنا بالمغرب تأليفا وتصنيفا، له المعيار الكبير في عدة أسفار والصغير، والفتاوى، وجل المفتين والقضاة يلجئون إلى هذه التواليف. وله حاشية على شرح مصطلح الحديث، وأخرى على شرح الجمل، وأخرى على شرح الآجرومية، وأخرى على شرح الاستعارة، إلى غير ذلك. وقد ملأت المغرب فتاويه ودروسه وطروسه، وانتفع به خلق كثير والله يعينه ويسدده2. 825- سالم بو حاجب آل سيدي مهذب 3: التونسي، عالمها ومفتيها وخطيبها، وشيخ الجماعة بها ملحق الأحفاد بالأجداد، والمتفرد فيها بالبرعة وسعة الذكر وعلو الإسناد، ذو الإدراك الدقيق، والطبع الرقيق، والناظر للغيب بسليم إدراكه من ستر رقيق، الغواص النقاد، والمشارك النظار، وشيخ المالكية بهاتيك الديار، طأطأت له رءوس أهل زمانه، وكل من هو الآن بتونس ونواحيها فتلاميذه أو تلاميذ تلاميذه، وإنه لمن المعممين المنورين المفكرين فيما يصلح الدنيا والدين، ومثله قليل في هذا الحين، وله إلمام   1 أبو عيسى المهدي بن محمد بن محمد بن الخضر العمراني: دليل مؤرخ العرب "461". 2 قد توفي رحمه الله آخر يوم من المحرم سنة 1342 اثنين وأربعين وثلاثمائة وألف نحو السبعين فيما أظن، وحصل له فتور آخر عمره. ا. هـ. "المؤلف". 3 سالم بو حاجب آل سيدي مهذب التونسي: شجرة النور "426"، والأعلام الشرقية "2/ 109". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 379 باللغة الإيطالية إذ جلس هناك مدة ليست بالقصيرة في مأمورية دولية، فاستفاد كثيرا، ووقف على غلطنا الكبير الذي ابتليت به الأمة من قديم وهو جهلنا بما عند غيرنا، لذلك كان يرى تعين تعليم علم الأوروبيين وقدم أولاده لذلك، فأنجب منهم أفراد كانوا قدوة لسواهم حصلوا على معلومات قدمتهم لإحراز النصر في معترك الحياة، ونال بهم حظوة كما نالوها، وانتفع بهم وطنهم أي انتفاع، فمنهم ولده الأكبر خليل بوحاجب الذي هو الآن شيخ مدينة تونس، وهذا السيد على جانب عظيم من المزايا والمكارم، له أخلاق أرق من نسيم السحر لقلب من أسحر صيفا، أو مريض ظفر بالشفا، له مائدة حاتمية ومعالي عصامية، تحلى بوقار وسكينة فحل من النفوس بمكانة مكينة، وله معلومات أهلته لنوال منصبه الرفيع يتكلم باللغتين العربية والفرنسية، ويخطب باللسانين، ونال حظوة الدولتين، وله السمعة العاطرة بين قومه، محبوب في عشيرته، ومستقبله أزهر من ماضيه، والله يحفظه ويكثر من أمثاله. وبداره اجتمعت بوالده المذكور مع جملة من أعلام تونس العظام وغيرهم وفرهم الله، وحصلت مذاكرة علمية فاح شذاها، فعطرت النواحي الذفرة، وأحيت القلوب الميتة، وكان ذلك غرة قعدة الحرام عام 1336، وقد أجازني إجازة عامة وخاصة، وناولني جزءا له مطبوعا جمع فيه خطبة الجمعية التي كان يخطب بها بتونس على النسق العصري النافع، حضا لأمته على النهوض، ونفض غبار الخمول، كما هو المفروض. وسألني: هل لا زال خطباؤكم على النسق القديم في خطبهم مقتصرين فيها على من صام رمضان وأتبعه بست من شوال غير مبالين بإنذار قومهم بمن يتهددهم من البوار، وإرشادهم لما فيه صلاح دنياهم التي بها صلاح دينهم وأخراهم؟ فأجبته: لا زال خطباؤنا على الطرز القديم تماما وهم في نومهم كأمتهم تحسبهم جامدين، فتأسف كثيرا. وقال لي: لا ينبغي ولا يحمد من مثلك السكوت، بل يجب عليك إيقاظ قومك فقلت له: والله لقد بذلت ما في الوسع في دروسي وغيرها، ولكن ماذا ينتفع إيقاظ من لا حياة له، إذ تناديه ودور النوم لا زال لم يتم في الأمتين، وأخاف أن لا يستيقظوا إلا وقد فات الإبان الذي تنفع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 380 فيه اليقظة؛ إذ علماء أمتنا أغرق في النوم من عامتنا، نعم علينا الثبات في مبدئنا من غير ملل، وبينما هو يذاكرني، وينثر درر العلوم ودقائق الفهوم إذ هو يتهم فكره بالخرف والهرم، فقلت له: كلا إن فكرك أصح وأدق من فكر كثير من الشبان، ولا زال فكرك في ثوب الشباب القشيب، لم يتقمص معك في شكل الشيخوخة والمشيب لما عليه الشيخ من النزاهة والتقوى، ونشأته البدوية الصحيحة التربية. وقد كان إذ ذاك في عقد التسعين، وعندي إجازة أجاز فيها الشيخ محمد بن عثمان السنوسي مؤرخه 1290 سنة تسعين ومائتين وألف، حفظه الله وبارك في أنفاسه العاطرة1. 826- أبو العباس أحمد بن محمد بن الخياط الزكاري الحسني الفاسي الدار: بل هو مقلتها التي بها تبصر، ولسانها البليغ يسهب أو يختصر، إمام أهل الورع والتقوى، والمشار إليه في المغرب بإتقان العلوم والفتوى والعضو في الشورى، ومبرز ذوي المكانة الدينية العليا، أستاذ الفقهاء والمحدثين، وحامل لواء المفسرين والمحققين والصوفية والمدرسين والمؤلفين، شيخنا وقدوتنا فضاض المشكلات، وبدر المدلهمات، فارس الفقه المجلي، وجامع جوامع أصوله وإمامه المحلي، كشاف التفسير بالسنة، وإضاءة التوحيد في الدجنة، زيد الفرائض، ورافع الحجاب عن علم الحساب، وفائق التوثيق وجنيد المتصوفين من غير ارتياب، ذو التواليف النافعة، والتلاميذ المالئة للأقطار الشاسعة، محظوظ في العلم بالسهمين درسا وتأليفا على تعجب كان يحصل له في الإلقاء، وطالما حضر شورى النوازل القضائية، فنال من العلوم ثناء منيفا، ولقد فشت فتاويه في ديار   1 لقد ورد نعي الشيخ سالم أخيرا بعدما ترقى لرتبة باش مفتي المالكية وهي أعلى رتبة ينالها عالم مالكي بتونس يعني رئيس المجلس الشرعي المالكي، فانتقل من الرتبة الراقية إلى رحمة الله الباقية يوم الأربعاء 3 ذو الحجة عام 1342 اثنين وأربعين وثلاثمائة وألف عن ست وتسعين سنة رحمه الله كما أن ولده سيدي خليل ترقى لأعلى منصب إسلامي هناك وهو الصدارة العظمى وحق له ذلك، فإنه من الرجال الذين يعول عليهم تلك البلاد حقق الله الرجاء فيه وفي بلاده، وأبقاه لها عدة، وفسح له المدة. ا. هـ. "مؤلف". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 381 المغرب، وكان فيها لسان الشريعة المعرب، وما حفظ عنه أنه تناول أجرا على فتوى أو حكم، أو لمز بما يصم، بل ورعه لا تقرب الشبهات حماه، واجتهاد لا يبلغ مرماه، إلى تواضع وخفض جناح، وأخلاق تتأرج منها البطاح. له تصنيف مختصر في التوحيد، وآخر في القلم الفاسي المصطلح عليه عند الموثقين، وحواش على شرح المصطلح الحديثي، والكل مطبوع. وغير ذلك. وقد تناول شيئا من التجارة في أول أمره، ثم تجرد على طريق الصوفية الدرقاوية، ثم رجع لنشر العلم والعكوف على نفع الخلق إلى الآن، قرأ على شيوخ كبار كالشيخ محمد بن المدني جنون وهو عمدته وغيره ممن ذكرته في الفهرسة، وأخذ عنه عموم علماء المغرب المحققين مرحولا إليه، مؤتمن جليل القدر، عظيم الخطر، قرأت عليه كثيرا من الفقه والحديث والتفسير والأصول والسير وغيرها، وانتفعت به، ولازمته أعواما، وإنه لمن أهل الورع والدين المتين الذين أدركنا والحمد لله. ولقد ذاكرته وراجعته في عدة مسائل وقد أجازني إجازة عامة وخاصة شفاهيا، ثم أجازني ثانيا كتابة، وأجاز فيها ولدى محمد وعلي أصلح الله حالهما تجد نصها في الفهرسة، ولما نظمت المجلس العلمي بالقرويين، انتخب هو عضوا أول فيه، وخليفة الرئيس، وقد وازرني فيه بأفكاره الصائبة، ثم لما أستعفيت من رياسته، رشح لها كما سبق لنا ذلك، ولا زال رئيسه إلى الآن، وبمثله تشرف المناصب العظام. أخبرني أنه ولد1 في 16 شعبان عام 1252 اثنتين وخمسين ومائتين وألف والله يزكي عمره للإسلام.   1 قد توفي شيخنا ابن الخياط المترجم بعدما عجز عن الدرس نحو خمس سنين يوم الاثنين 12 رمضان عام 1343 ثلاث وأربعين وثلاثمائة وألف، وكان الرزء به عظيما رحمه الله. ا. هـ. "المؤلف". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 382 827- أبو العباس أحمد بن الجيلاني الأمغاري الحسني كما رأيته بخطه، الفاسي دارا وقرارا، لا أدري كيف أقول في تعريفه وهو العلم وفضله أظهر من أن يطويه القلم؛ إذ هو شيخ فقهاء الوقت الأعلام، والمحقق الضرغام، فارس معقول ومنقول، وأحد النظار الفحول، شهير في كل مصر، وبصير بحال أهل العصر، مشهور العلم والنزاهة والكياسة النباهة، فيلسوف الفقهاء، وشيخ النبلاء، وفقيه المتصوفين، وبقية العاملين والصالحين المتصفين المنصفين، ولسان المناطقة والمتكلمين، ثاقب الفهم، واسع الفكر، بادي البشر، مشارك في الفنون محققها والمعقول والتصوف أغلب عليه ولا سيما علم المنطق، فإنه أعرف أهل المغرب به غير مدافع، قرأته عليه مرات، فكان في لسانه كالحديد في يد داود عليه السلام، كما لازمته في النحو والفقه والكلام وغيرها مدة طويلة، وانتفعت به كثيرا جزي خيرا. تولى عضوية الشورى من لدن الدولة السابقة، فكان مثال النزاهة، طاهر الذيل، ثم انتخب عضوا ثانيا في المجلس العلمي بالقرويين، فكان لي كالعضو الأول مؤازرة، ثم صار خليفة للرئيس السابق، فكان هو المتصرف في أكثر مدته، ثم تولى الرياسة بعده ولا زال شاغلا لهذا المركز المهم في نظر الأمة المغربية، وإنه لحقيق به؛ إذ هو من أجل الشيوخ فضلا، وأكثرهم نفعا، وللمكارم جمعا، وفضل الشيخ كثير، وبحره كبير أنى يفي به قلم العاجز القصير. أخذ عن الشيخ جنون الكبير وطبقته، وبعض تلاميذه كمحمد بن التهامي الوزاني، وقد شاركته في كثير من شيوخه، وأجازني إجازة خاصة وعامة مشافهة، ولا زال والحمد لله بقيد الحياة بمنصبه الرفيع، مواظبا على درسه الفقهي الخليلي، وهو في عقد السبعين فيما أظن، بارك الله في أنفاسه، وأطال في العافية برد لباسه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 383 أشهر مشاهير الشافعية بعد المائة الرابعة إلى الآن : 828- أبو عبد الله الحسين بن الحسن الحليمي 1 الجرجاني: أحد أئمة الشافعية بما وراء النهر. توفي سنة 403 ثلاث وأربعمائة. 829- أبو محمد عبد الغني بن سعيد الأزدي 2: المصري حافظها ألف كتاب "المؤتلف والمختلف" وكتاب "المشتبه" قيل للدارقطني: هل رأيت أحدا يرجى علمه في الحديث؟ قال: شاب بمصر كأنه شعلة من نار، يقال له: عبد الغني. ولما بكى لفراقه المودعون عند خروجه من مصر، قال لهم: قد تركت لكم خلفا، توفي سنة 409 تسع وأربعمائة عن سبع وسبعين. 830- أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد بن حمدويه الحاكم المعروف بابن البيع 3: الضبي الطهماني النيسابوري: كان حافظا جليلا، قال السبكي: اتفق   1 أبو عبد الله الحسين بن الحسن الحليمي الجرجاني: الرسالة المستطرفة "44". 2 أبو محمد عبد الغني بن سعيد الأزدي المصري: أبو محمد، الأزدي، المصري الحجري العامري الحافظ المعدل. ولد سنة "332"، مات سنة "409 أو نيف سنة "410". الأنساب "1/ 181"، طبقات الحفاظ "411"، البداية والنهاية "12/ 7"، تذكرة "3/ 1047"، العبر "3/ 100"، وفيات الأعيان "3/ 223"، معجم المؤلفين "5/ 273، 284"، المنتظم "7/ 291"، دائرة الأعلمي "21/ 142". 3 أبو عبد الله محمد بن عبد الله محمد بن حمدويه الحاكم "ابن البيع": أبو عبد الله، الضبي النيسابوري، العلهماني الحاكم، الشافعي، الشهرة ابن البيع، ولد سنة "321"، مات سنة "405". الأنساب "2/ 400"، المنتظم "7/ 274"، إفادة النصح ص"128"، طبقات الحفاظ "409"، تاريخ بغداد "5/ 473"، التقييد "1/ 64"، لسان الميزان "25/ 232"، نسيم الرياض "3/ 471"، الأعلمي "26/ 312، 27/ 43"، العلل المتناهية "1/ 122". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 384 الأئمة أنه أعظم الأئمة الحفاظ الذين حفظ الله بهم الدين. ا. هـ. وهو صاحب التصانيف الكثيرة بلغت ألفا وخمسمائة جزء، وفي "المنح البادية" إن تواليفه بلغت خمسمائة، ولا منافاة؛ إذ الأول عدد الأجزاء، والثاني عدد التواليف كتاريخ نيسابور أعود التواريخ على الفقهاء بفائدة، و"علوم الحديث" و"الإكليل" و"مزكي الأخبار" وله "المستدرك" على الصحيحين إلا أنه تركه في المسودة، فلذلك لم تتفق نسخه. وقال الذهبي: إنما فيه جملة وافرة على شرطهما، وجملة كبيرة على شرط أحدهما، ولعل مجموع ذلك نحو نصف الكتاب، وفيه نحو الربع صح سنده وإن كان فيه علة، ونحو الربع مناكير وواهيات لا تصح، وفي ذلك موضوعات. وقال في "المناح البادية": وقصد بالمستدرك ضبط الزوائد على الصحيحين مما هو على شرطهما، أو شرط أحدهما وقد أدخل فيه عدة موضوعات حمله على تصحيحها إما التعصب لما رمي به من التشيع وإما غيره فضلا عن الضعيف وغيره، بل يقال: إن السر في ذلك أنه ألفه في آخر عمره، وقد حصلت له غفلة وتغيير، وأنه لم يتيسر له تحليله وتنقيحه، ويدل له أن تساهله في خمسه الأول قليل جدا بالنسبة لباقيه، ولذلك لا يعتمد الحفاظ أحاديث "المستدرك" إلا ما سلم تصحيحه وتحسينه مثل الذهبي أو الحافظ ابن حجر. وله رحلتان مهمتان وشيوخه بنيسابور وحدها نحو ألف شيخ. فانظر رعاك الله ما وصل إليه الإسلام من عدد العلماء. وسمع بغيرها من نحو ألف آخر، وكان مرحولا إليه لسعة علمه، واتفاق الناس على فضله، تولى القضاء مرة بعد مرة، وتولى الوزارة والسفارة، ولقب بالحاكم لتقليده القضاء. توفي بنيسابور سنة 405 خمس وأربعمائة عن أربع وثمانين سنة. والبيع بكسر الياء المشددة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 385 بوزن قيم. 831- أبو إسحاق إبراهيم بن محمد الإسفراييني 1: إمام من أئمة الشافعية بما وراء النهر، له التصانيف الجليلة ككتابه الكبير الذي سماه "جامع الحلي" في أصول الدين والرد على الملحدين، أخذ عنه القاضي أبو الطيب الطبري، وبنيت له المدرسة المشهورة بنيسابور، وهو أحد من بلغ حد الاجتهاد، لتوفر شرط الإمامة والتبحر فيه، توفي سنة 418 ثمان عشرة وأربعمائة. 832- أبو منصور عبد القاهر بن طاهر التميمي 2: البغدادي: إمام كبير كثير العلم لا يساجل في الفقه وأصوله والفرائض والكلام والحساب اشتهر صيته، وعنه أخذ العلم أكثر أهل خراسان، صنف في العلوم، ودرس في سبعة عشر فنا، توفي بإسفرايين بلده سنة 429 تسع وعشرين وأربعمائة، وكان ذا مال وثروة أنفقها في العلم، ولم يكتسب من العلم شيئا. 883- أبو نعيم أحمد بن عبد الله بن أحمد الأصبهاني 3: الحافظ الصوفي، الإمام الجليل جمع الله له علوم الرواية والنهاية في الدراية، له التصانيف العظيمة في الحديث والتاريخ كمستخرج الصحيحين، و"الحلية" وغيرها مرحولا إليه من الآفاق، توفي سنة 430 ثلاثين وأربعمائة.   1 أبو إسحاق إبراهيم بن محمد الإسفرييني: وفيات الأعيان "1/ 28"، طبقات الشافعية "3/ 111، 114"، والبداية "12/ 24". 2 أبو منصور عبد القاهر بن طاهر التميمي البغدادي: وفيات الأعيان "3/ 203"، وطبقات الشافعية "3/ 238"، وتبيين كذب المفتري "253". 3 أبو نعيم أحمد بن عبد الله بن أحمد الأصبهاني الحافظ الصوفي: سير النبلاء "11/ 99"، ووفيات الأعيان "1/ 91، 92"، وتذكرة الحفاظ "1092"، وميزان الاعتدال "1/ 52"، والشذرات "3/ 9245". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 386 834- أبو الطيب طاهر بن عبد الله الطبري 1: انتهت إليه رياسة العلم ببغداد، كان ثقة فاضلا صادقا أديبا ورعا، واسع العلم، وكان له شعر على طريق الفقهاء، ومساجلة مع المعرى، وكان قاضيا بربع الكرخ ورعا. ذكر السمعاني في ترجمة أبي إسحاق علي بن أحمد اليزي أنه كان له قميص وعمامة بينه وبين أخيه إذا خرج قعد هذا في البيت. قال السمعاني: وسمعته يوما يقول، وقد دخلت عليه مع علي بن الحسين الغرنوي الواعظ داره، فوجدناه عريانا متأزرا بمئزر، فاعتذر من العري، وقال: نحن إذا غسلنا ثيابنا نكون كما قال القاضي أبو الطيب: قوم إذا غسلوا ثياب جمالهم ... لبسوا البيوت إلى فراغ الغاسل عاش الطبري مائة سنة وسنتين، لم يختل عقله، ولا تغير فهمه، يفتي ويستدرك على الفقهاء الخطأ، ويقضي ببغداد، ويحضر المواكب في دار الخلافة إلى أن مات. تفقه بشامل، ثم ارتحل لنيسابور، ثم بغداد، وعنه أخذ العراقيون، له كتب كثيرة عديمة النظير في الخلاف والمذهب والجدل، وله مناظرات مع القدوري والطالقاني الحنفيين. توفي سنة 450 خمسين وأربعمائة. 835- أبو الحسن علي بن محمد الماوردي 2: البصري ثم البغدادي: كان واسع التبحر في العلوم سيما الفقه والأصول، والتاريخ والسياسة والأدب، له تآليف نادرة المثال كـ"الحاوي" في الفقه في عشر   1 أبو الطيب طاهر بن عبد الله الطبري: أبو الطيب، القاضي الطبري الفقيه الشافعي، ولد سنة 348، مات سنة 450. الأنساب "9/ 42"، المعين رقم "441"، تاريخ بغداد "9/ 358"، التقييد "2/ 36"، العبر "3/ 222"، المنتظم "8/ 198"، وفيات الأعيان "2/ 512"، روضات الجنات "8/ 304" دائرة معارف الأعلمي "20/ 275". 2 أبو الحسن علي بن محمد الماوردي البصري ثم البغدادي: أبو الحسن، الماوردي القاضي البصري. الإلماع للقاضي عياض "99، 103". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 387 مجلدات، و"الأحكام السلطانية" مثل فيه الهيئة الاجتماعية من الخليفة إلى الوزارة والعمال إلى طبقات العامة فقاس وعلل، وتفلسف ما شاء مما دل على سعة مداركه إلا أن الخيال أغلب عليه من الحقائق، وله قانون الوزارة وسياسة الملك، وأدب الدين والدنيا، متداول، ولي القضاء ببلدان كثيرة، ثم ببغداد، ولم يظهر تصانيفه في حياته، بل دسها على جودتها إلى ما بعد وفاته. وله تفسير مهم توفي سنة 450 خمسين وأربعمائة. 836- أبو عبد الله الحسين بن نصر المعروف بابن خميس 1: الكعبي الموصلي تاج الإسلام، مجد الدين، صاحب التصانيف الكثيرة، توفي ببلده الموصل سنة 452 اثنتين وخمسين وأربعمائة. 837- أبو عاصم محمد بن أحمد الهروي 2: العبادي مؤلف "المبسوط" و"الزيادات" و"الهادي" معروف بتعويض العبارة كأستاذه أبي إسحاق الإسفرايين، وهناك ابتدأ هرم العلوم، توفي سنة 458 ثمان وخمسين وأربعمائة. 838- أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي 3: النيسابوري: أحد أئمة المسلمين، الحافظ الكبير، الناشر للسنة، القانع من الدنيا بالقليل، الذاهب على سيرة السلف، القائم بنصرة مذهب الشافعية فروعا وأصلا، كان جبلا من جبال العلم، روى عن الإمام الحاكم وغيره، له رحلة مهمة، وعلم واسع، ورواية كثيرة، وكتب منتشرة كـ"السنن" و"المعرفة"   1 أبو عبد الله الحسين بن نصر المعروف بابن خميس الكعبي الموصلي: سير النبلاء "12/ 211"، ووفيات الأعيان "2/ 139"، وطبقات الشافعية "4/ 217". 2 أبو عاصم محمد بن أحمد الهروي العبادي: أبو عاصم. الهروي. تبصير المنتبة "3/ 981". 3 أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي النيسابوري: وفيات الأعيان "1/ 75، 76"، والمنتظم "8/ 342"، وطبقات الشافعية "3/ 3، 7"، وتذكرة الحفاظ "1132". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 388 و"المبسوط" نصوص الشافعي، وقد بلغت كتبه ألف جزء كلها غرر، ولا سيما السنن الكبرى والصغرى، و"معرفة السنن والآثار" فهي من الكتب المهمة في الحديث والفقه. قال إمام الحرمين: كل الشافعية للشافعي منه عليهم إلا البيهقي، فله منة على الشافعي. جمع نصوص الشافعي في إحدى عشرة مجلدة، ولد سنة 384، وتوفي سنة 458 ثمان وخمسين وأربعمائة. رحمه الله. 839- أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد الفوارني 1: المروزي: صاحب التصانيف كـ"العمدة" و"الإبانة" شيخ أهل مرو، توفي سنة 461 إحدى وستين وأربعمائة. 840- أبو علي الحسين بن محمد المروزي 2 الشهير بقاضي حسين: كان إماما كبيرا صاحب وجوه غريبة في المذهب، له تعليقة في الفقه شهيرة ومهما قال إمام الحرمين والغزالي: القاضي، فإنما عيناه، أخذ عن القفال وغيره، وصنف في الأصول والفروع والخلاف. توفي سنة 462 اثنتين وستين وأربعمائة. 841- أبو بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي 3: الحافظ الكبير، أحد أعلام الإسلام، ومهرة الحديث، صاحب التصانيف   1 أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد الفوراني المروزي: وفيات الأعيان "3/ 132"، وتهذيب الأسماء واللغات "2/ 280"، وطبقات الشافعية "3/ 225"، ولسان العرب "3/ 433". 2 أبو علي الحسين بن محمد المروروذي: وفيات الأعيان "2/ 134"، وتهذيب الأسماء واللغات "1/ 164، 165"، وطبقات الشافعية "3/ 155". 3 أبو بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي الحافظ الكبير: سير النبلاء "11/ 208"، ووفيات الأعيان "1/ 92"، ومعجم الأدباء "4/ 13"، وطبقات الشافعية "3/ 12"، وتذكرة الحفاظ= الجزء: 2 ¦ الصفحة: 389 المنتشرة. قال فيه شيخه أبو إسحاق الشيرازي: إنه نظير الدارقطني، كانت له ثروة طائلة، وكرم حاتمي، وقف جميع كتبه وماله عند موته. كان حنبليا ثم انتقل شافعيا، توفي سنة 463 ثلاث وستين وأربعمائة. 842- أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري 1: إمام جليل جمع بين علم الفقه والتصوف والتفسير والحديث والأصول والأدب والشعر والكتابة، جامع بين الشريعة والحقيقة أصله من العرب الذين قدموا خراسان رحل إلى نيسابور، فأخذ التصوف عن أبي علي الدقاق وصناعة الوعظ، وأخذ الأصول عن ابن فورك، وأخذ الفقه عن أبي بكر الطوسي، وأبي إسحاق الإسفراييني، وجمع بين طريقتي الإسفراييني وابن فورك، وبرع في العلوم، وصنف التفسير الكبير أجود التفاسير، والرسالة المشهورة المطبوعة في رجال التصوف، وسمع الحديث ببغداد والحجاز، وكانت له مجالس وعظ ومجالس سماع الحديث، وكان ثقة مأمونا، أشعريا شافعيا، توفي سنة 465 خمس وستين وأربعمائة. وكان ولده أبو نصر عبد الرحيم إماما كبيرا، أشبه أباه في علومه ومجالسه، ومن شعر أبي القاسم: ومن كان في طول الهوى ذاق سلوة ... فإني من ليلى لها غير ذائق وأكثر شيء نلته من وصالها ... أماني لم تصدق كخطفة بارق 843- أبو إسحاق إبراهيم بن علي الفيروزآبادي 2: الشيرازي يضرب به المثل في الفصاحة والمناظرة، ويشبهونه بابن سريج   1 أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري: أبو القاسم. القشيري النيسابوري، الخراساني الصوفي. ولد سنة "376"، مات سنة "465". التاج المكلل "75" الأنساب "10/ 427"، نسيم الرياض "2/ 431"، سير النبلاء "18/ 227"، الوفيات "252"، التقييد "2/ 131"، علل "1/ 122"، وفيات الأعيان "3/ 205"، تاريخ بغداد "11/ 83"، دائرة الأعلمي "21/ 152". 2 أبو إسحاق إبراهيم بن علي الفيروزآبادي الشيرازي: سير النبلاء "11/ 201"، وطبقات= الجزء: 2 ¦ الصفحة: 390 في تأصيل الفقه وتفريعه ويحاكيه في انتشار التلاميذ، له مناظرات مع الدامغاني الحنفي، ولاه نظام الملك المدرسة النظامية على شاطئ دجلة، فكان يدرس بها. ألف "التنبيه" و"المهذب" في الفقه. و"النكت" في الخلافيات، و"اللمع" وشرحها، و"التبصرة" في الأصول، و"المعونة" في الجدل، وله الشعر الحسن وفيه يقول عاصم شاعر بغداد: تراه من الذكاء نحيف جسم ... عليه من توقده دليل إذا كان الفتى ضخم المعالي ... فليس يضره الجسم النحيل وكان في غاية من الورع والتشدد في الدرس، وعاش فقيرا صابرا، ومع هذا فهو حسن المجالسة، طلق المحيا، ومحاسنه أكثر من أن تحصى، توفي سنة 476 ست وسبعين وأربعمائة. 844- أبو نصر عبد السيد بن محمد المعروف بابن الصباغ 1: فقيه العراقيين في وقته أول من درس بنظامية بغداد، وبعد عزله منها تولى أبو إسحاق السابق ثم بعد موت أبي إسحاق أعيد لها، وكان يضاهيه وتقدم عليه في معرفة المذهب، وكانت الرحلة إليه من البلاد ثقة حجة صالح كما في ابن خلكان، وانتهت إليه رياسة الشافعية ببغداد، ألف "الشامل" وهو من أجود كتب الشافعية وأصحها نقلا وأثبتها أدلة، و"الكامل" و"عدة العالم"، و"الطريق السالم"، و"كفاية السائل" وغيرها. توفي سنة 477 سبع وسبعين وأربعمائة.   1 أبو نصر عبد السيد بن محمد المعروف بابن الصباغ: أبو نصر، البغدادي الشافعي. مات سنة "477". المعين "1512"، وفيات الأعيان "30/ 217"، العبر "3/ 287"، نسيم الرياض "1/ 55"، دائرة الأعلمي "21/ 123"، حاشية التحبير "2/ 355". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 391 845- أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله الجويني 1: المعروف بإمام الحرمين إمام نيسابور، بل إمام المشرق كله في الفقه والكلام والأصول، جاور بمكة أربع سنين، ومن هنا تلقب بإمام الحرمين، ولما عاد إلى نيسابور بنى له نظام الملك المدرسة النظامية، ألف "البرهان" في الأصول و"النهاية" في الفقه، قال ابن السبكي: لم يؤلف مثلها في المذهب. أثنى عليه معاصره أبو إسحاق الشيرازي وغيره. توفي سنة 478 ثمان وسبعين وأربعمائة. 846- أبو سعد عبد الرحمن بن محمد المتولي 2: صاحب التتمة أحد أئمة رفعاء الشأن، بعيد الصيت، له مصنفات، توفي سنة 478 ثمان وسبعين وأربعمائة. 847- أبو المظفر منصور بن أحمد بن عبد الجبار التميمي المعروف بابن السمعاني 3: كان إماما جليلا، ونوه به الشافعية كثيرا خصوصا حيث كان حنفيا يناضل عن مذهبه ثلاثين سنة، ثم رجع شافعيا، وبرجوعه رجعت العائلة السمعانية كلها شافعية، وعلى كل حال، فهو رفيع القدر، طبق ذكره الآفاق، فقيه محدث له   1 أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله الجويني "إمام الحرمين": أبو المعالي، الجويني النيسابوري إمام الحرمين الضياء. ولد سنة "419"، مات سنة "478". الأنساب "3/ 430"، سير النبلاء "18/ 468"، التحفة اللطيفة "3/ 86"، المعين "1515"، العقد الثمين "5/ 507"، وفيات الأعيان "3/ 167"، طبقات الشافعية للسبكي "3/ 249"، حاشية التحبير "1/ 81"، حاشية الإكمال "2/ 362"، المشتبه "139". 2 أبو سعد عبد الرحمن بن محمد المتولي "صاحب التتمة": سير النبلاء "11/ 282"، ووفيات الأعيان "3/ 133"، وطبقات الشافعية "3/ 223"، والشذرات "3/ 358". 3 أبو المظفر منصور بن أحمد بن عبد الجبار التميمي المعروف بابن السمعاني: نسبة إلى سمعان بطن بن تميم، وترجمته في طبقات الشافعية "4/ 21"، ووفيات الأعيان "3/ 211". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 392 تفسير حسن، و"القواطع" في الأصول، و"البرهان" في الخلاف، به نحو ألف مسألة وغيره وكان رجوعه عن مذهب الحنفية بمحضر أئمة الفريقين في دار والي البلد ملكانك سنة 468، وحصل تشويش للعامة، وأغلق باب الجامع الأقدم، وترك الشافعية الجمعة إلى أن خرج عن مرو إلى نيسابور، فاستقبلوه فيها استقبالا حسنا، وأنزلوه في عزو وتكرمة، ثم بعد سكون الهيعة، عاد إلى مرو، وجلس للتدريس في مدرسة الشافعية، وعلا شأنه، وكان يقول: ما حفظت شيئا فنسيته. توفي سنة 489 تسع وثمانين وأربعمائة. 848- أبو الفتح سهل بن أحمد بن علي الأرغياني 1: الإمام الكبير المقدار علما وزهدا، قرأ على القاضي حسين حتى قال: ما علق أحد طريقتي مثله، وعلى إمام الحرمين، وناظر في مجلسه، وارتضى كلامه. وتقلد قضاء أرغيان بفتح الهمزة وكسر الغين المعجمة، ناحية بنيسابور، ورحل للحجاز والعراق والجبال، وسمع شيوخنا عدة، وسمعوا منه، وأشار عليه الشيخ العارف الحسن السمناني بترك المناظرة، فتركها وعزل نفسه عن القضاء، وبنى للصوفية دويرة من ماله، وأقام بها مشغولا بالتصنيف والعبادة، توفي سنة تسع وتسعين وأربعمائة. 849- أبو المحاسن عبد الواحد بن إسماعيل الروياني 2: يضرب به المثل في الحفظ، وكان نظام الملك يعظمه كثيرا، ألف البحر   1 أبو الفتح سهل بن أحمد بن علي الأرغياني: ألباني الأرغياني. الأنساب "2/ 68"، حاشية الأكمال "1/ 576". 2 أبو المحاسن عبد الواحد بن إسماعيل الروياني: أبو المحاسن. الروياني. ولد سنة "415". قتل شهيدا سنة "502". الروياني "بضم الراء وسكون الواو مثناة تحت نسبة إلى بطبرستان. الأنساب "6/ 198"، إفادة النصح ص"28"، وفيات الأعيان "3/ 198"، حاشية التحبير "1/ 251"، المشتبه ص"327"، دائرة الأعلمي "21/ 276". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 393 جمع فيه فروع الحاوي للماوردي مع فروع تلقاها عن أبيه وجده، قتله الملاحدة ببلد آمل سنة 502 اثنتين وخمسمائة. ويحكى عنه أنه قال: لو احترقت كتب الشافعي لأمليتها من حفظي. 850- أبو حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالي 1: حجة الإسلام، وأشهر الأعلام، برع في المذهب والخلافيات، والجدل والأصلين والمنطق، والحكمة والفلسفة، وصفه شيخه إمام الحرمين بأنه بحر يقذف، تولى تدريس النظامية ببغداد، له في المذهب "البسيط" و"الوسيط"، و"الوجيز" و"الخلاصة"، وفي الأصول "المستصفى" وهو من أحسن ما ألف فيه، حسن الأسلوب، فصيح العبارة وقد طبع، وله فيه أيضا "المنخول" و"بداية الهداية" و"المآخذ" في الخلافيات، و"شفاء الغليل في بيان مسائل التعليل" ومن أفضل مؤلفاته "إحياء علوم الدين" بل من أحسن ما ألف في الإسلام في بابه، وهي في فلسفة علوم الدين. وله كتب غيرها، وقد زهد في آخر عمره، وتجرد للعبادة سنة 488 وحج وذهب للشام، فاشتغل بالدروس، ثم انتقل لبيت المقدس، ثم الإسكندرية، ثم إلى طوس، ثم عاد إلى نيسابور، للتدريس بالنظامية، ثم تزهد في آخر عمره إلى أن مات. ولم يجئ بعده في الإسلام، جامع لأشتات العلوم مثله إلا ما كان من علم الحديث، فلم يكن فيه بالمكانة التي تناسب قدره، ولو أنه لم يتساهل في أحاديث الإحياء، لما وجد الطاعنون إليها سبيلا، ولد بطوس سنة 450 وتوفي بالطابران سنة 505 خمس وخمسمائة.   1 أبو حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالي: وفيات الأعيان "4/ 216"، وطبقات الشافعية "4/ 101"، والمنتظم "9/ 168"، وتبيين كذب المفتري "291، 306". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 394 851- أبو الحسين علي بن محمد الطبري عماد الدين الكيا الهراسي 1: مدرس النظامية ببغداد، كان إماما نظارا محدثا يستعمل الحديث في مناظراته، ويقول: إذا جالت فرسان الأحاديث في ميادين الكفاح، طارت رءوس المقاييس في مهاب الرياح، له باع واطلاع، أخذ عن إمام الحرمين، وكان رفيق الغزالي في الطلب، بل فضلوه عليه علما، توفي سنة 504 أربع وخمسمائة عن نحو مائة سنة، والكيا بكسر الهمزة والكاف وسكون اللام وآخره مقصور، والهراسي كالعبادي بسين مهملة. 852- أبو بكر محمد بن أحمد الشاشي 2: المعروف بالمستظهري الإمام الكبير، ولد بميا فارقين، وكان حافظا للمذهب، ورعا زاهدا، له تصانيف كـ"الشافعي" شرح مختصر المزني و"المستظهري" و"المعتمد" وغيره. توفي سنة 507 سبع وخمسمائة. 853- أبو الفضل محمد بن طاهر بن علي المقدسي 3: الحافظ المشهور المعروف بابن القيسراني، كان أحد الرحالين في طلب   1 أبو الحسين علي بن محمد الطبري عماد الدين الكيا الهراسي: أبو الحسن. الهراسي. مات سنة "504": المعين "161"، شذرات "4/ 8". 2 أبو بكر محمد بن أحمد الشاشي "المستظهري": أبو بكر. مات سنة "507". المعين رقم "1615". 3 أبو الفضل محمد بن طاهر بن علي المقدسي "ابن القيسراني": أبو الفضل. المقدسي الأثري الطاهري، الصوفي الشيباني الحافظ، الشهرة نوباذان. ولد سنة 448. مات سنة "507": التاج المكلل ص"117"، الأنساب "13/ 189"، سير النبلاء "19/ 361"، الميزان "3/ 587"، الأعلام "6/ 171"، التقييد "1/ 56"، الوافي بالوفيات "3/ 166"، الأعلمي "16/ 292"، وفيات الأعيان "4/ 287". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 395 العلم، والحديث لأقطر الأرض، ثم استوطن همذان، له مصنفات غزيرة المادة كـ"الأطراف" التي له على الكتب الستة، وكتاب "الأنساب"، وهو الذي ذيله أبو موسى المدني، وكان له معرفة بالتصوف وتفنن وتأليف فيه. وله الشعر الحسن، أخذ عنه حفاظ وقته، توفي سنة 507 سبع وخمسمائة ببغداد عن تسع وخمسين سنة. 854- أبو القاسم وأبو محمد الحسين بن مسعود الفراء 1 البغوي: محيي السنة، مؤلف "المصابيح" في أحاديث الأحكام، و"شرح السنة"، وهما من مواد الفقه العامة، وفي ما قرب من هذا التاريخ ألف أبو القاسم الزيدوني في الأندلس كتابه في أحاديث الأحكام، وأبو العباس بن أبي مروان، ثم تلاهما عبد الحق الإشبيلي المتوفى سنة 582، ولعل البغوي أسبق لهذه المزية في المتأخرين، وله "التهذيب" و"الفتاوى" وغيرها. كان إماما جليلا فقيها محدثا مفسرا، جامعا بين العلم والعمل، سالكا سبيل السلف، توفي سنة 516 ست عشرة وخمسمائة. وفي "المنح" سنة عشر وخمسمائة عن ثمانين سنة بمرو الروذ محل إقامته. رحمه الله. 855- أبو الحسن عبد الغافر بن إسماعيل الفارسي 2: الحافظ سبط القشيري النيسابوري خطيبها، له "المفهم لشرح غريب مسلم"   1 أبو القاسم وأبو محمد الحسين بن مسعود الفراء البغوي: الفراء نسبة إلى عمل الفراء وبيعها، والبغوي بفتح الباء الموحدة والغين المعجمة نسبة إلى بلدة بخراسان بين مرو وهرات يقال لها بغفشور بفتح الموحدة وسكون المعجمة وضم الشين المعجمة نسبة على غير قياس وترجمته في وفيات الأعيان "2/ 136"، وطبقات الشافعية "4/ 214". 2 عبد الغافر بن إسماعيل الفارسي: أبو الحسن، الفارسي النيسابوري، ولد سنة 451، مات سنة "529". البداية والنهاية "12/ 235"، شذرات الذهب "4/ 93"، طبقات الشافعية "7/ 171"، التقييد "2/ 102"، وفيات الأعيان "3/ 225"، تذكرة "4/ 225"، مرآة الجنان "3/ 259" سير النبلاء= الجزء: 2 ¦ الصفحة: 396 العلم، والحديث لأقطر الأرض، ثم استوطن همذان، له مصنفات غزيرة المادة كـ"الأطراف" التي له على الكتب الستة، وكتاب "الأنساب"، وهو الذي ذيله أبو موسى المدني، وكان له معرفة بالتصوف وتفنن وتأليف فيه. وله الشعر الحسن، أخذ عنه حفاظ وقته، توفي سنة 507 سبع وخمسمائة ببغداد عن تسع وخمسين سنة. 854- أبو القاسم وأبو محمد الحسين بن مسعود الفراء 1 البغوي: محيي السنة، مؤلف "المصابيح" في أحاديث الأحكام، و"شرح السنة"، وهما من مواد الفقه العامة، وفي ما قرب من هذا التاريخ ألف أبو القاسم الزيدوني في الأندلس كتابه في أحاديث الأحكام، وأبو العباس بن أبي مروان، ثم تلاهما عبد الحق الإشبيلي المتوفى سنة 582، ولعل البغوي أسبق لهذه المزية في المتأخرين، وله "التهذيب" و"الفتاوى" وغيرها. كان إماما جليلا فقيها محدثا مفسرا، جامعا بين العلم والعمل، سالكا سبيل السلف، توفي سنة 516 ست عشرة وخمسمائة. وفي "المنح" سنة عشر وخمسمائة عن ثمانين سنة بمرو الروذ محل إقامته. رحمه الله. 855- أبو الحسن عبد الغافر بن إسماعيل الفارسي 2: الحافظ سبط القشيري النيسابوري خطيبها، له "المفهم لشرح غريب مسلم"   1 أبو القاسم وأبو محمد الحسين بن مسعود الفراء البغوي: الفراء نسبة إلى عمل الفراء وبيعها، والبغوي بفتح الباء الموحدة والغين المعجمة نسبة إلى بلدة بخراسان بين مرو وهرات يقال لها بغفشور بفتح الموحدة وسكون المعجمة وضم الشين المعجمة نسبة على غير قياس وترجمته في وفيات الأعيان "2/ 136"، وطبقات الشافعية "4/ 214". 2 عبد الغافر بن إسماعيل الفارسي: أبو الحسن، الفارسي النيسابوري، ولد سنة 451، مات سنة "529". البداية والنهاية "12/ 235"، شذرات الذهب "4/ 93"، طبقات الشافعية "7/ 171"، التقييد "2/ 102"، وفيات الأعيان "3/ 225"، تذكرة "4/ 225"، مرآة الجنان "3/ 259" سير النبلاء= الجزء: 2 ¦ الصفحة: 397 وكانت وفاة أبي جعفر بن هبة الله الراوي عن أبي الوقت وفي بغداد سنة 621 إحدى وعشرين وستمائة. 858- أبو القاسم علي بن أبي محمد الحسن بن هبة الله المعروف بابن عساكر 1: الحافظ الشهير ومن أعيان فقهاء الشافعية له رحلة واسعة جمع فيها ما لم يتفق لغيره، رفيق أبي سعد السمعاني في الرحلة خرج التخاريج وصنف التصانيف، له تاريخ دمشق في ثمانين جزءا، ويوجد منه في خزانة المواسين بمراكش سبعة وعشرون جزءا كبارا من تجزئة نيف وثلاثين. عاينته بنفسي، توفي سنة 571 إحدى وسبعين وخمسمائة عن اثنتين وسبعين. 859- أبو العباس الخضر بن نصر بن عقيل الإربلي 2: الفقيه العارف بالمذهب الشافعي، بنى له الأمير مدرسة بإربل سنة 533، وهو أول من درس بإربل، ونشر فيها المذهب. له تصانيف حسنة في التفسير والفقه، وجمع خطب النبي -صلى الله عليه وسلم- فكانت ستا وعشرين خطبة مسندة، وانتفع بعلمه خلق كثير على ورعه وعبادته وزهده وتقلله، توفي سنة 567 سبع وستين وخمسمائة. 860- أبو المعالي مسعود بن محمود بن مسعود النيسابوري 3: الطريثيثي الملقب قطب الدين. تفقه بنيسابور ومرو، وقدم بغداد ووعظ   1 أبو القاسم علي بن أبي محمد الحسين بن هبة الله المعروف بابن عساكر: أبو القاسم، الدمشقي. تكملة الأكمال حاشية ص"152". 2 أبو العباس الخضر بن نصر بن عقيلي الإربلي: وفيات الأعيان "2/ 237"، وطبقات الشافعية "4/ 218"، والشذرات "5/ 86". 3 أبو المعالي مسعود بن محمد بن مسعود النيسابوري الطريثيثي "قطب الدين": أبو المعالي، النيسابوري. توفي سنة 578". تكملة الكمال الإكمال "83"، وفيات الأعيان "5/ 196"، المشتبه "289"، دائرة الأعلمي "27/ 244". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 398 بها، ودمشق كذلك، ثم تولى التدريس في حلب وهمذان، وتفرد برياسة الشافعية، له كتاب "الهادي" اقتصر فيه على المشهور وما به الفتوى، وجمع عقيدة لصلاح الدين الأيوبي، كان يحفظها ويعلمها أولاده، توفي سنة 578 ثمان وسبعين وخمسمائة. 861- أبو موسى محمد بن أبي بكر عمر المديني الأصبهاني 1: الحافظ المشهور، إمام عصره في الحفظ والمعرفة، له في الحديث وعلومه تواليف مفيدة، وكتاب "المغيث" في مجلد كمل به كتاب "الغربيين" للهروي، واستدرك عليه وهو كتاب مهم رحل رحلة مهمة، ورجع إلى أصبهان بعلم كثير. توفي سنة 581 إحدى وثمانين وخمسمائة عن ثمانين سنة. 862- أبو بكر محمد بن موسى أبي عثمان الحازمي الهمداني 2: زين الدين الحافظ المتقن، العبد الصالح، روى عن أبي الوقت عبد الأول المتقدم وطبقته، ورحل في طلب العلم إلى أقطار بعيدة، وغلب عليه الحديث،   1 أبو موسى محمد بن أبي بكر عمر المديني الأصبهاني الحافظ: أبو موسى، المديني الأصبهاني الشافعي. ولد سنة "501"، مات سنة "581". التكملة لوفيات النقلة "1/ 150"، والحاشية، الأعلام "6/ 313"، والحاشية تذكرة الحفاظ "4/ 128"، الوافي بالوفيات "4/ 246"، التقييد "1/ 78"، البداية والنهاية "12/ 318"، غاية النهاية "2/ 215" طبقات الحفاظ "475"، سير النبلاء "21/ 152". 2 أبو بكر محمد بن موسى أبي عثمان الحازمي الهمداني زين الدين: أبو بكر، الهمداني. ولد سنة "548"، توفي سنة "584". التكملة لوفيات النقلة "1/ 146"، وفيات الأعيان "4/ 294"، معجم طبقات الحفاظ "169"، دائرة الأعلمي "27/ 521"، الوافي بالوفيات "5/ 88"، وسير النبلاء "21/ 167"، معجم المؤلفين "12/ 64"، حاشية الإكمال "4/ 294". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 399 فصنف فيه كتبا مفيدة كـ"الناسخ والمنسوخ" في الحديث، وكتاب "الفيصل في مشتبه النسبة" و"العجالة" في النسب، وكتاب "ما اتفق لفظه وافترق معناه في الأماكن" و"البلدان المشتبهة في الخط" وغير ذلك واستوطن بغداد وتوفي بها سنة 584 أربع وثمانين وخمسمائة عن ست أو سبع وثلاثين سنة في شبابه رحمه الله، وقد فرق كتبه على أصحاب الحديث. 863- أبو عمرو عثمان بن عيسى الماراني 1: ضياء الدين من أعلمهم بالمذهب والأصول، شرح المذهب في عشرين مجلدا ولم يكمله، سماه "الاستقصاء" لم يسبق لمثله، وشرح "اللمع" وغيرها، توفي سنة 602 اثنتين وستمائة. 864- أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسن التيمي البكري 2: فخر الدين الإمام الرازي ابن خطيب الري ذو الشهرة الذائعة، والتصانيف البارعة التي هجرت بها كتب المتقدمين، ذو اليد الطولى في العلوم الفلسفية والفقهية والعربية والوعظ باللسانين العربي والعجمي، ورجع بسببه خلق كثير من الكرامية وغيرهم إلى السنة، شدت إليه الرحلة من الآفاق، له التفسير الكبير العديم النظير و"المطالب العالية" و"نهاية العقول" و"المحصول" وشرح "وجيز" الغزالي، و"سقط الزند" لأبي العلاء المعري، وغيرها في الطب والحكمة والعربية وغير ذلك، وهو ممن يفتخر به الإسلام توفي سنة 606 ست وستمائة بمدينة   1 أبو عمر عثمان بن عيسى الماراني ضياء الدين: أبو عمرو، المازاني الشافعي المنعوت الضياء. مات سنة "602". التكملة لوفيات النقلة "3/ 137" والحاشية، دائرة الأعلمي "21/ 327"، وفيات الأعيان "3/ 242". 2 أبو عبد الله محمد بن عمرو بن الحسن التيمي البكري فخر الدين الإمام الرازي ابن خطيب الري: أبو عبد الله، القدسي التيمي البكري. مات سنة "606": الوفيات "308"، معجم المؤلفين "11/ 79، 80"، وفيات الأعيان "4/ 248". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 400 هرات عن اثنتين وستين سنة، وهو مخترع الترتيب الموجود في كتبه. 865- أبو السعادات مجد الدين المبارك محمد بن محمد الشهابي الجزري المعروف بابن الأثير 1: عالم محقق له تواليف خدم بها الإسلام والفقه، كـ"جامع الأصول" جمع فيه ما في الكتب الستة و"النهاية في شرح الغريب، وكتاب "الإنصاف في الجمع بين الكشف والكشاف" للثعلبي والزمخشري، وشرح مسند الشافعي، كان رئيس ديوان صاحب الموصل عز الدين، تثم إنه أقعد في آخر أيامه، وباشر طبيب مغربي علاجه حتى ظهر له الشفاء غير أنه في الآخر أبى من إتمام العلاج، وصرف الطبيب وأرضاه فلما لامه أخوه. قال: إن المرض أعزني إذ كان لي عذرا عن الوقوف بباب الأمراء، فصاروا يأتونني إن احتاجوا إلي، ولو كنت صحيحا لذهبت إليهم، فالعز مع المرض خير من الذل والعافية، وهو أول من سمعت أنه عمل برنامجا لكتابه "جامع الأصول" على حروف الهجاء، وأتقنه أي إتقان، وذلك أعظم مسهل للانتفاع بالكتب، توفي سنة 606 ست وستمائة2. 866- أبو حامد محمد بن يونس بن محمد بن منعة عماد الدين 3: إمام وقته في الفقه والأصول والخلاف، وكان له صيت عظيم، قصده   1 أبو السعادات مجد الدين المبارك محمد بن محمد الشهابي الجزري المعروف بابن الآثير: وفيات الأعيان "3/ 289"، وطبقات الشافعية "5/ 153"، ومعجم الأدباء "17/ 71"، والشذرات "5/ 22"، الوعاة "386". 2 وابن الآثير ثلاثة أخوة أحدهم، هذا فقيه محدث، والثاني: أبو الحسن علي عالم مؤرخ صاحب "الكامل" وغيرها، والثالث: أبو الفتح نصر الله وكلهم وزراء كتاب. ا. هـ. "المؤلف". 3 أبو حامد محمد بن يونس بن محمد بن منعة عماد الدين: أبو حامد، الأربلي الموصلي. ولد سنة "535". ماتة سنة "608". التكملة لوفيات النقلة "3/ 368"، وفيات الأعيان "4/ 253". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 401 الفقهاء من أقطار شاسعة، وتخرج عليه الأئمة. له "المحيط" وشرح "الوجيز" وغيرها انتهت إليه رياسة الشافعية بالموصل، وهو سبب انتقال نور الدين أتابك الموصلي عن الحنفي إلى الشافعي، توفي سنة 608 ثمان وستمائة. 867- أبو حامد محمد بن إبراهيم السهلي 1: الجاجرمي معين الدين: إمام متقن، له "الكفاية" من أحسن كتبهم، و"إيضاح الوجيز" وغيره. توفي سنة 613 ثلاث عشرة وستمائة. 868- أبو القاسم عبد الكريم بن محمد القزويني الرافعي 2: له تآليف مفيدة كـ"فتح العزيز في شرح وجيز الغزالي"، وهو عند الشافعية لا مثل له وله كتاب المحمود في الفقه. وصل إلى الصلاة فقط في ثمان مجلدات، وشرح مسند الشافعي وغيره، وصل درجة الاجتهاد، توفي سنة 623 ثلاث وعشرين وستمائة. 869- أبو عمرو عثمان بن الصلاح 3: الكردي الموصلي ثم الدمشقي تقي الدين: أحد أئمة المسلمين فقها وحديثا وتفسيرا ودينا. وله تآليف مفيدة مشهورة منها كتاب علوم الحديث وغيره. توفي سنة 643 ثلاث وأربعين وستمائة له الفتاوى المسددة، والمشاركة التامة.   1 أبو حامد محمد بن إبراهيم السهلي الجاجري معين الدين: وفيات الأعيان "4/ 256"، وطبقات الشافعية "5/ 19"، والشذرات "5/ 56". 2 أبو القاسم عبد الكريم بن محدم القزويني الرافعي: أبو القاسم الرافعي القزويني. معجم المؤلفين "6/ 3"، المعين "2058". 3 أبو عمرو عثمان بن الصلاح الكردي الموصلي الدمشقي تقي الدين: أبو عمرو، النصري، الحافظ. حاشية الإكمال "1/ 396، 395". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 402 870- أبو محمد عبد العظيم بن عبد القوي المنذري 1: زكي الدين: حافظ وقته حديثا وفقها، ونخبتهم زهدا وعملا، ذو التصانيف، والعلم الواسع، كان مفتي مصر، فلما دخلها عز الدين بن عبد السلام، قال: لا حاجة للناس في الفتوى، ولا أتقدم أمامه، كما أنا ابن عبد السلام كان يحضر مجلسه لسماع الحديث، توفي سنة 656 ست وخمسين وستمائة. 871- أبو محمد عز الدين عبد العزيز بن السلام السلمي 2: شيخ الإسلام المقدسي، ثم الدمشقي، ثم المصري، الملقب سلطان العلماء الذي قال فيه ابن عرفة: لا ينعقد الإجماع دونه يعني في وقته، وهي شهادة له بالاجتهاد، مطلع على حقائق الشريعة ودقائقها، عارف بمقاصدها، آمر بالمعروف، نهاء عن المنكر، أزال كثيرا من البدع، كدق السيف على المنبر الذي كان الخطباء يفعلونه، وصلاتي الرغائب والنصف من شعبان، ومنع منهما، ولما استعان سلطان وقته بالفرنج وأعطاهم صيدا، أسقطه من الخطبة، وكذلك فعل أبو عمر بن الحاجب، وخرجا من دمشق إلى مصر سنة 609 تسع وستمائة، فأكرمه سلطانه نجم الدين أيوب، وولاه قضاءها، ثم استقال، ولزم بيته، وكل ممتثل الأمر وقضاياه في النهي عن المنكر معه كثيرة في "الطبقات" وغيرها،   1 أبو محمد عبد العظيم بن عبد القوي المنذري زكي الدين: أبو محمد، المنذري، المصري الشامي [زكي الدين المنذري] . ولد سنة 581، مات سنة 656. فوات الوفيات "1/ 610"، معجم المؤلفين "5/ 264، 265"، التاج المكلل "165"، الأعلام "4/ 30"، فهرس الفهارس "2/ 562"، شذرات الذهب "5/ 277"، العبرة "5/ 232"، حسن المحاضرة "1/ 355"، البداية والنهاية "13/ 212"، سير النبلاء "23/ 319". 2 أبو محمد عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام السلمي المقدسي ثم الدمشقي المصري: البداية "13/ 235، 236"، والنجوم الزاهرة "7/ 208"، والشذرات "5/ 301"، وفوات الوفيات "1/ 287". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 403 وبتدبير هزم التتار، وقضيته في بيع المماليك الذين كانوا ملوك مصر الغربية ولما امتنعوا خرج من مصر يريد الشام فتبعه أهلها علماؤهم وكبارهم وصغارهم ونساؤهم حتى تبعه السلطان ورده، وباعهم، وفرق ثمنهم في وجوه الخير، وهذا مما أظنه لم يقع لغيره له تآليف كـ"القواعد الكبرى" واختصارها و"مجاز القرآن" والتفسير، و"الأمالي" في أدلة الأحكام، و"الجمع بين الحاوي والنهاية" و"الفتاوى"، توفي سنة 660 ستين وستمائة. 872- أبو سعد أو أبو سعيد عبد الكريم بن أبي المظفر السمعاني 1: المروزي، واسطة عقد البيت السمعاني، وعينهم الباصرة، ويدهم الناصرة، وبه كملت سيادتهم ورياستهم، رحل إلى شرق الأرض وغربها في طلب العلم، بل شمالها وجنوبها، وأخذ عن أعلامها وجالسهم، واقتدى بهم، تزيد شيوخه على أربعة آلاف، صنف التصانيف المفيدة توفي بمرو سنة 562 اثنتين وستين وخمسمائة. وكان أبوه كذلك محدثا فقيها نظارا له عدة تصانيف، توفي سنة عشر وخمسمائة وتقدمت ترجمة جده أبي المظفر. 873- أبو سعد عبد الله بن محمد بن هبة الله الشهير بابن أبي عصرون 2: التميمي الموصلي: نزيل دمشق، وقاضي القضاة بها، له "صفوة   1 أبو سعد أو أبو سعيد عبد الكريم بن أبي المظفر السمعاني المروزي: أبو سعد، أبو سعيد، التميمي، السمعاني، الخراساني المروزي. المعين "181"، التاج المكلل "76"، التقييد "2/ 132"، سير النبلاء "20/ 456"، التكملة لوفيات النقلة "1/ 78"، الأعلام "4/ 55"، معجم المؤلفين "6/ 4"، دائرة الأعلمي "21/ 147"، وفيات الأعيان "3/ 209". 2 أبو سعد عبد الله بن محمد بن هبة الله الشهير بابن أبي عصرون: أبو سعد، التميمي الموصلي، الحديثي الأصل، الدمشقي الدار الشافعي بدمشق. ولد سنة 492. مات سنة 585. التكملة لوفيات النقلة "1/ 200" والحاشية، وفيات الأعيان "3/ 53". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 404 المذهب" و"الانتصار"، و"المرشد"، و"الذريعة في معرفة الشريعة" وهو غير كتاب "الذريعة إلى مكارم الشريعة" فهو لأبي القاسم الراغب الأصبهاني، وله كتاب "التيسير" في الخلاف وغيره، توفي سنة 585 خمس وثمانين وخمسمائة. 874- أبو الحسن علي بن أبي علي بن محمد التغلبي سيف الدين الآمدي 1: الأصولي المتكلم، كان أول اشتغاله حنبليا، ثم رجع شافعيا قرأ ببغداد، ثم بالشام ولم يكن في زمنه أحفظ منه للمعقول. ثم نزل بمصر، ونشر فيها علمه، قال فيه عز الدين: ما علمنا قواعد البحث إلا منه، وقال: لو ورد على الإسلام متزندق يشكك، ما تعين لمناظرته غير الأمير، ومع ذلك أخرجوه من مصر، وسبب إخراجه أن بعض أهل حرفته العلمية حسدوه، فكتبوا محضرا بزندقته، ثم وضعوا خطوطهم عليه، ولما وصل لبعض الفضلاء الأحرار كتب عليه: حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه ... فالقوم أعداء له وخصوم كتبه فلان، ولما رأى ذلك سيف الدين، خرج مستخفيا إلى حماة، وبها نشر علمه، وله نحو عشرين مؤلفا كـ"الإحكام في أصول الأحكام" من أحسن ما ألف في أصول الفقه و"أبكار الأفكار" في الكلام وغيرهما، وذكر له ابن أبي أصبعية في "طبقات الأطباء" كتبا غريبة لم يذكرها ابن خلكان، فانظرها، ثم رتب في المدرسة العزيزية بدمشق، ثم عزل عنها لسبب اتهم فيه، وبقي منعزلا في بيته إلى أن توفي في دمشق سنة إحدى وثلاثين وستمائة 631 عن نحو ثمانين سنة، وتآليفه سارت بها الركبان، والآمدي نسبة لآمد بكسر الميم مدينة كبيرة   1 أبو الحسن علي بن أبي علي بن محمد التغلبي سيف الدين الآمدي الأصولي: أبو الحسن، التغلبي الآمدي الحنبلي الشافعي. ولد سنة 551. مات سنة 631. معجم المؤلفين "7/ 155"، وفيات الأعيان "3/ 293"، لسان الميزان "3/ 134". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 405 بديار بكر. 875- أبو زكريا يحيى بن شرف بن مري النووي 1: محيي الدين: وإمام المسلمين المولود بنوى سنة 631 إحدى وثلاثين وستمائة، أدرك درجة عالية في الحديث والفقه واللغة، وله التصانيف المفيدة كشرح صحيح مسلم، ومختصر الرافعي، وهو "الروضة" و"الأذكار"، ومختصر الروضة وهو "المنهاج" وله أحزاب وتآليف مهمة في الدين، وقد أدرك رتبة اجتهاد الفتوى وهو الترجيح في الأقوال، كانت وفاته في القرن السابع لم يذكرها في الطبقات. 876- أبو الخير عبد الله بن عمر البيضاوي 2: ناصر الدين: إمام متكلم أصولي فقيه مشارك، مؤلف "الطوالع"، و"المصباح" في أصول الدين، و"الغاية القصوى" في الفقه، و"أنوار التنزيل ,أسرار التأويل"، وزاد على الكشاف علما جما، وشرح "المصابيح" للبغوي في أحاديث الأحكام، ولي قضاء القضاة بشيراز، فكانت له سمعة عالية، ونزاهة كاملة لزهده وورعه، توفي سنة 698 ثمان وتسعين وستمائة. 877- أبو العباس أحمد بن محمد بن علي بن الرفعة 3: الإمام نجم الدين الشافعي زمانه، صاحب التصانيف، له شرح "الوسيط"   1 أبو زكريا يحيى بن شرف بن مري النووي محيي الدين: أبو زكريا، الحزامي الحوراني الشافعي. ولد سنة "631"، توفي سنة "676". الفلاكه "120"، معجم طبقات الحفاظ "187"، المعين "2243"، طبقات الحفاظ "510"، معجم المؤلفين "13/ 202، 203"، والحاشية، دائرة معارف الأعلمي "3/ 110"، الإكمال بالمشكاة "1042"، البداية والنهاية "13/ 278/، 279". 2 أبو الخير عبد الله بن عمر البيضاوي ناصر الدين: طبقات الشافعية "5/ 59"، والبداية "3/ 309"، وبغية الوعاة "286"، ومفتاح السعادة "1/ 436". 3 أبو العباس أحمد بن محمد بن علي بن الرفعة: الدرر الكامنة "1/ 284"، والشذرات "6/ 22"، وطبقات الشافعية "5/ 178" والبدر الطالع "1/ 115". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 406 و"الكفاية"، في شرح "التنبيه" وغيرهما، ومن فتاويه المشددة لما زينت القاهرة سنة 702، حرم النظر إلى تلك قائلا: لأن المقصود منها النظر، توفي رحمه الله سنة 710 عشر وسبعمائة. 878- محمود بن مسعود بن مصلح الفارسي قطب الدين الشيرازي 1: بها ولد ثم سكن تبريز، وكان يتقن فنونا حتى الشعبذة، وصنف شرح مختصر ابن الحاجب الأصلي، وشرح "المفتاح" وكلمات ابن سينا في الحكمة وغيرها، توفي سنة 710 عشر وسبعمائة. 879- إبراهيم بن محمود بن إبراهيم الشهير برضي الدين الطبري 2: المكي، شيخ الإسلام مسند الحجاز، وإمام الشافعية ببيت المقدس، مات بمكة سنة 722 وعشرين وسبعمائة. 880- محمد بن علي بن عبد الواحد كمال الدين الزملكاني 3: قاضي القضاة الإمام العلامة، قال فيه الذهبي: عالم العصر من بقايا المجتهدين، ومن أذكياء أهل زمانه، له التصانيف وتخرج به الأصحاب توفي سنة 727 سبع وعشرين وسبعمائة، انتهت إليه رياسة الشافعية في وقته.   1 محمود بن مسعود بن مصلح الفارسي قطب الدين شيراز: الفاسي الشيرازي الشافعي. ولد سنة "634"، مات سنة "710". الدرر الكامنة "5/ 108". 2 إبراهيم بن محمد بن إبراهيم الشهير برضي الدين الطبري المكي: البداية "14/ 103"، المنهل الصافي "1/ 150"، والشذرات "6/ 56". 3 محمد بن علي بن عبد الواحد كمال الدين الزملكاني [قاضي القضاة] : الدرر الكامنة "4/ 74" وطبقات الشافعية "5/ 251"، والبداية "14/ 131"، والوافي "4/ 214"، والشذرات "6/ 78". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 407 881- أبو محمد القاسم بن محمد بن يوسف البرزالي 1: علم الدين الإشبيلي: ثم الدمشقي إمام محدث، مؤرخ مسند وقته، له تاريخ جليل صلة لتاريخ أبي شامة، له نحو ثلاثة آلاف شيخ في رحلته، وكثير منهم أخذ عنه إجازة، توفي في خليص بين الحرمين سنة 739 تسع وثلاثين وسبعمائة. 882- محمد بن إبراهيم بن سعد الله بن جماعة الكناني 2: الحموي ثم المصري: بدر الدين شيخ الإسلام، وقاضي قضاة بمصر والشام، متميز على معاصريه فقها وتفسيرا، وعني بالرواية، وشارك في العلوم، فتبحر فيها وصنف، وبعد صيته، وحمدت في القضاء بالقطرين سيرته توفي سنة 733 ثلاث وثلاثين وسبعمائة عن أربع وتسعين سنة. 883- أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز التركماني الفارقي الأصل الدمشقي المشهور بالذهبي 3: شمس الدين: شيخ المحدثين، وقدوة الحفاظ والقراء، محدث الشام   1 أبو محمد القاسم بن محمد بن يوسف البرزالي علم الدين الإشبيلي: الدرر الكامنة "3/ 237"، وطبقات الشافعية "6/ 246"، والدارس "1/ 112"، والبدر الطالع "2/ 51"، والشذرات "6/ 122". 2 محمد إبراهيم سعد الله بن جماعة الكناني الحموي ثم المصري بدر الدين شيخ الإسلام: أبو عمر، الكناني الحموي، الشافعي الكناني، الشهرة ابن جماعة. معجم المؤلفين "8/ 201، 202"، والحاشية، فوات الوفيات "2/ 353"، دائرة معارف الأعلمي "26/ 121"، حسن المحاضرة "1/ 359" التاج المكلل "296"، وادي أس "43". 3 أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز التركماني الفارقي الأصل الدمشقي "الذهبي": أبو عبد الله "شمس الدين"، الذهبي، التركماني، الفارقي، المقري، الدمشقي، المتعصب الشافعي. ولد سنة 673، مات 748 "742". الأعلام "5/ 326"، فهرس الفهارس "1/ 417"، الوفيات للسلامي ترجمة "289"، الدرر الكامنة "3/ 426"، حاشية الإكمال "3/ 398"، الوافي بالوفيات "2/ 163"، معجم المؤلفين "8/ 289"، والأعلمي "26/ 152"، البداية والنهاية "14/ 225". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 408 ومؤرخه أخذ عن أزيد من ألف ومائتين من الأعلام، ذكرهم في معجمه الكبير، وعدل وجرح وصحح وعلل، واستدرك وأفاد، وانتقى واختصر كثيرا من كتب المتقدمين، وصنف الكتب المفيدة كـ"تاريخ الإسلام"، و"الميزان"، ومصنفاته تقارب المائة سارت بها الركبان، توفي سنة 748 ثمان وأربعين وسبعمائة. 884- أبو سعيد خليل بن كيكلدي بن عبد الله العلائي 1: صلاح الدين الدمشقي: العلامة الحافظ، النادر المثال حفظا وإتقانا وتأليفا، صاحب التواليف والمصنفات في الحديث والفقه، قف على أسمائها في "ذيل تذكرة الحفاظ" للحسيني، توفي ببيت المقدس سنة 761 إحدى وستين وسبعمائة. 885- أبو الحسن علي بن أيوب بن منصور بن وزير المقدسي 2: علاء الدين الشافعي: شهر بعليان حافظ متقن فقها وحديثا وعربية، أحد فقهاء الشافعية، ومدرس القدس الشريف بالصالحية، اختلط قبل موته بمدة، توفي سنة 748 ثمان وأربعين وسبعمائة، وقد أناف على الثمانين.   1 أبو سعيد خليل بن كيكلدي بن عبد الله العلائي صلاح الدين الدمشقي العلامة الحافظ: أبو سعيد، الشافعي العلائي. ولد سنة "694"، مات سنة "761". طبقات الحفاظ "528"، الوافي بالوفيات "13/ 41"، الدرر الكامنة "2/ 179"، شذرات "6/ 190"، النجوم "1/ 337"، الأعلام "2/ 321"، البدر الطالع "1/ 245". 2 أبو الحسن علي بن أيوب بن منصور بن وزير المقدسي علاء الدين الشافعي: أبو الحسن، المقدسي. ولد سنة "666"، مات سنة "748". لسان الميزان "4/ 207"، الدرر الكامنة "3/ 99"، دائرة الأعلمي "22/ 154". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 409 886- أبو حفص عمر بن مظفر بن محمد الوردي 1: الحلبي الملقب زين الدين: كان متقنا في العلوم، شاعرا من الطبقة العليا، له تصانيف كثيرة. توفي سنة 749 تسع وأربعين وسبعمائة. 887- الحسن علي بن عبد الكافي السبكي 2: المصري الشامي: تقي الدين الفقيه المحدث الأصولي النظار، ترجمه ولده عبد الوهاب في "الطبقات" بورقات، والسيوطي وغيره، وله تآليف وأقوال في المذهب وهو ممن أقر له الفضلاء بالعلم والفضل، ولي قضاء الشام. وتوفي بمصر سنة 756 ست وخمسين وسبعمائة. 888- عضد الدين عبد الرحمن بن عبد الغفار الإيجي 3: العلامة المشهور ذو التلاميذ الكبار كالسعد والضياء الجامي، والتآليف المهمة، كشرح ابن الحاجب الأصلي، "والمواقف" وغيرها، مات سجينا سنة 756 ست وخمسين وسبعمائة.   1 أبو حفص عمر بن مظفر بن محمد الوردي الحلبي الملقب زين الدين: الدرر الكامنة "2/ 90، 92"، والنجوم الزاهرة "10/ 337"، والدارس "1/ 59، 64"، والشذرات "6/ 190"، وطبقات الشافعية "6/ 104"، والبدر الطالع "1/ 245". 2 أبو الحسن علي بن عبد الكافي السبكي المصري الشامي تقي الدين الفقيه: أبو الحسن، السبكي الأنصاري، ولد سنة "683". مات سنة "756". الوفيات للسلامي ترجمة "685"، شذرات "6/ 180"، المشتبه "389"، تذكرة "39، 352"، دائرة الأعلمي "22/ 276"، حسن المحاضرة "1/ 321"، الدرر الكامنة "3/ 134"، البداية والنهاية "14/ 252"، طبقات المفسرين "1/ 412" فهرس الفهارس "2/ 1022". 3 عضد الدين عبد الرحمن بن عبد الغفار الإيجي: الدرر الكامنة "2/ 323"، وطبقات الشافعية "6/ 108"، والشذرات "6/ 174، 175"، والبدر الطالع "1/ 326". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 410 889- أبو عبد الله محمد بن محمد بن أحمد شهر بابن الزملكاني عماد الدين: الصدر الكبير، والعلم الشهير الدمشقي، توفي سنة 762 اثنتين وستين وسبعمائة. 890- أبو عمر عبد العزيز بن بدر الدين بن جماعة الكناني 1: المشهور بالعز بن جماعة، قاضي القضاة المصري، صنف التصانيف الكثيرة، وانتفع الناس به تدريسا وإفتاء وقضاء، له "المنسك الكبير" على المذاهب الأربعة، توفي سنة 768 سبع وستين وسبعمائة. 891- أبو محمد عبد الله بن أسعد بن علي اليماني اليافعي 2: الرجل الصالح، صاحب المصنفات العديدة، والنظم الكثير، توفي بمكة سنة 767 سبع وستين وسبعمائة. 892- تاج الدين عبد الوهاب بن علي السبكي 3: قاضي القضاة، ولد بمصر، وقرأ بالشام على والده وعلى المزي والذهبي وله تآليفه مهمة كشرح "المختصر" و"المنهاج" و"جمع الجوامع" في   1 أبو عمر عبد العزيز بن بدر الدين بن جماعة الكناني المشهور بالعز بن جماعة: الدرر الكامنة "2/ 378"، وذيل تذكرة الحفاظ ص"41". 2 أبو محمد عبد الله بن أسعد بن علي اليماني اليافعي: أبو طالب، اليافعي اليمني المكي. مات سنة "768". دائرة الأعلمي "21/ 171"، الدرر الكامنة "2/ 352"، الوفيات للسلامي ترجمة "845". 3 تاج الدين عبد الوهاب بن علي السبكي قاضي القضاة: أبو نصر، السبكي، ولد سنة "728"، مات سنة "770". الوفيات للسلامي ترجمة "904"، الدرر الكامنة "3/ 39". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 411 الأصول، وجرت عليه محن كثيرة من سجن ونفي، ورمي بالكفر والزندقة، ثم تداركه اللطف على يدي الإسنوي، ولم يجر على قاض من المحن ما جرى عليه، توفي سنة بالطاعون سنة 771 إحدى وسبعين وسبعمائة. 893- عبد الرحيم بن1 الحسن بن علي الأرموي جمال الدين أبو محمد الإسنوي 2: الفقيه الأصولي النحوي العروضي، ذو التآليف البديعة كالمبهمات على "الروضة" وشرح الرافعي، و"الهداية إلى أوهام الكفاية" وشرح "المنهاج" لم يكمل، وأحكام الإخنائي، وشرح منهاج البيضاوي في الأصول، وغيرها في العلوم الثلاثة، توفي سنة 772 اثنتين وسبعين وسبعمائة. 894- جمال الدين محمد بن عيسى اليافعي 3: قاضي عدن وعالمها وإمامها، توفي سنة 775 خمس وسبعين وسبعمائة. 895- عماد الدين إسماعيل بن عمر بن كثير4 البصري ثم الدمشقي: الحافظ الكبير المحدث البارع، حافظ المتون جمع وصنف، وبالفتاوي شنف الأسماع، وبها استهدف، واشتهر بالضبط والتحرير، وانتهت إليه رياسة العلم في التاريخ والحديث والتفسير، وله تاريخ "البداية والنهاية" وجمع   1 وفي ذيل طبقات الحفاظ ص155 لابن فهد: ابن الحسي مصغرا. ا. هـ. "المؤلف". 2 عبد الرحيم بن الحسن بن علي الأرموي جمال الدين أبو محمد الإسنوي: أبو محمد، الإسنوي، الأموي. ولد سنة "704"، مات سنة "772". الدرر الكامنة "2/ 254"، وبغية الوعاة "304"، والشذرات "6/ 223"، والبدر الطالع "1/ 159". 3 جمال الدين محمد بن عيسى اليافعي قاضي عدن: مات سنة "775". ذيل تذكرة الحفاظ "159". 4 عماد الدين إسماعيل بن عمر بن كثير البصري ثم الدمشقي: الدرر الكامنة "1/ 373"، والنجوم الزاهرة "11/ 123"، والشذرات "6/ 31"، والبدر الطالع "1/ 153". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 412 المسانيد العشرة وهي الكتب الستة ومسند أحمد، والبزار، وأبي يعلى، وابن أبي شيبة، و"طبقات الشافعي"، والسيرة، وشرح قطعة من البخاري أخذ عن ابن تيمية، وأخذ عنه الحافظ ابن حجر وقال فيه: أحفظ من أدركنا لمتون الحديث، وأعرفهم بجرحها، وما أعرف أني اجتمعت به على كثرة ترددي إليه استنفدت منه، وقد أفتى برأي ابن تيمية في الطلاق فامتحن، توفي سنة 774 أربع وسبعين وسبعمائة بدمشق. 896- سعد الدين التفتازاني 1: مسعود بن عمر: الإمام العلامة في العلوم اللسانية والعقلية والأصلين والبيان وغيرها، الذي سارت تآليفه مسرى النور في الظلمة، له شرح "التلويح على التنقيح" في الأصول، وشرح الأربعين النووي، وشرحاه المطول والمختصر على "تلخيص المفتاح" وغيرها، مات بسمرقند سنة 791 إحدى وتسعين وسبعمائة. 897- أبو حفص عمر بن رسلان سراج الدين البلقيني 2: الكناني العسقلاني: الإمام الشهير شهد له السيوطي وغيره بالإمامة في الفقه على رأس المائة الثامنة، وعده مجددا، ووصفه بالاجتهاد، وقال فيه   1 سعد الدين التفتازني مسعود بن عمر الإمام العلامة: توفي سنة 797. في عدة من فقهاء الشافعية نظر، فقد ولي قضاء الحنفية، وله في الفقه الحنفي تآليف مذكورة في ترجمته في "الفوائد البهية" "135"، وقد صرح في كتابه "التلويح" بانتسابه إلى المذهب الحنفي في غير ما موضع انظر "1/ 41، 146، 162، 196، 2/ 61، 75، 101، 104، 111، 112، 125". وانظر ترجمته في الدرر الكامنة "4/ 350"، وبغية الوعاة "391" والشذرات "6/ 319"، والبدر الطالع "2/ 303". 2 أبو حفص عمر بن رسلان سراج الدين البلقيني الكناني العسقلاني "شهد له السيوطي": أبو حفص، الكناني الشافعي، العسقلاني البلقيني ولد سنة 724. مات سنة 805 أو 815. الأعلام "5/ 46"، الوفيات "380"، حاشية الأنساب "2/ 317"، طبقات الحفاظ "538"، معجم المؤلفين "7/ 284"، حسن المحاضرة "1/ 329"، الضوء اللامع "6/ 85". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 413 عصرية ابن خلدون في "المقدمة": هو اليوم أكبر الشافعية بمصر، بل أكبر العلماء من أهل العصر، وتولى القضاء شام مدة، له "التدريب" في الفقه لم يتمه، وشرح "المنهاج" وغيرهما. توفي سنة 805 خمس وثمانمائة. 898- أبو الفضل عبد الرحيم بن الحسين الشهير بالحافظ العراقي 1: كردي الأصل ولد برازنان من عمل إربل، ونبغ في مصر، ورحل للشام والحجاز، له تآليف كـ"المغني عن حمل الأسفار في الأسفار" الألفية في علوم الحديث، ونظم السيرة وغير ذلك. توفي بمصر سنة ست وثمانمائة 806 عن نيف وثمانين. 899- سراج الدين عمر بن علي بن أحمد الأنصاري الشهير بابن الملقن 2 أصله من وادي آش بالأندلس ومولده ووفاته بالقاهرة، له نحو ثلاثمائة مصنف في الحديث والتاريخ والفقه وغيرها كشرحه على البخاري، و"وإكمال التهذيب" في الرجال، و"خلاصة الفتاوى" وغيره. توفي سنة 804 أربع وثمانمائة.   1 أبو الفضل عبد الرحيم بن الحسين الشهير بالحافظ العراقي كردي الأصل: أبو الفضل. الكردي، الرازي، المهراني، العراقي المصري. ولد سنة 725، مات سنة 806. بعلبك في التاريخ ص"372"، حسن المحاضرة "1/ 360"، تذكرة "370"، الضوء اللامع "4/ 171"، شذرات "7/ 55"، طبقات الحفاظ "538"، الأعلام "3/ 344، 345"، معجم المؤلفين "5/ 204"، البدر الطالع "1/ 354". 2 سراج الدين عمر بن علي بن أحمد الأنصاري الشهير بابن الملقن أصله وادي آش: الأنصاري الأندلسي الشهرة ابن الملقن. ولد سنة 723، مات سنة 804. معجم المؤلفين "7/ 297، 298"، الضوء اللامع "6/ 100". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 414 900- أبو الحسن علي بن أبي بكر الهيثمي 1: المصري الإمام الأوحد الزاهد الحافظ، نور الدين، له زوائد مسند أحمد والبزار وأبي يعلى، والمعجمين، والمعجم الكبير ثم جمع الكل في كتاب واحد محذوفة الأسانيد مع التصحيح والتعليل سماه "مجمع الزوائد"، وله "موارد الظمآن لزوائد ابن حبان" وزوائد الحارث، وغير ذلك، توفي سنة 807 سبع وثمانمائة عن نيف وستين. 901- أبو حامد محمد بن عبد الله بن ظهيرة المخزومي المكي 2: جمال الدين حافظ الحجاز، والمشار إليه بالإتقان والحفظ على الحقيقة دون مجاز، له التصانيف الممتعة في الفنون، توفي سنة 817 سبع عشرة وثمانماية. 902- محمد بن يعقوب الفيروزبادي 3 مجد الدين: مؤلف كتاب "القاموس" وغيره من التآليف الجامعة، مجده طبق الخافقين وترجمته واسعة، توفي بزبيد وهو قاضيها 20 شوال عام 817 سبعة عشرة وثمانمائة عن نيف وثمانين.   1 أبو الحسن علي بن أبي بكر الهيثمي المصري الإمام الأوحد: أبو الحسن، الهيثمي الشافعي الحافظ. ولد سنة 735، مات سنة 807. التاج المكلل ص"397" طبقات الحفاظ "541"، معجم طبقات الحفاظ ص"130"، تذكرة "372"، حاشية الأنساب "5/ 381"، أنباء العمر "2/ 307، 309"، معجم المؤلفين "7/ 45" الضوء اللامع "5/ 200"، البدر الطالع "1/ 441"، حسن المحاضرة "1/ 362". 2 أبو حامد محمد بن عبد الله بن ظهيرة المخزومي المكي جمال الدين حافظ الحجاز: أبو حامد، الجمال المخزومي المكي الشافعي. ولد سنة 751، مات سنة 817. معجم المؤلفين "10/ 221"، الضوء اللامع "8/ 92"، العقد الثمين "2/ 53"، بعلبك في التاريخ ص"385"، طبقات الحفاظ "542"، أنباء الغمر "2/ 45"، معجم طبقات الحفاظ ص"159". 3 محمد بن يعقوب بن الفيروزبادي مجد الدين مؤلف القاموس: الضوء اللامع "1/ 79"، وبغية الوعاة "117"، والشذرات "7/ 126"، والبدر الطالع "2/ 28". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 415 903- أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن علي المرتضي بن الفضل بن المنصور عرف بابن الوزير 1: اليمني: من كبار حفاظ الحديث، ومن العلماء المجتهدين، ولم نذكره هنا إلا تبعا وإلا فهو مجتهد بإطلاق، له كتاب "إيثار على الخلق" في رد الخلافات إلى المذهب الحق، مطبوع، وكتاب "العواصم من القواصم" في الرد على الزيدية، واختصره، ولد سنة 765، وتوفي سنة 816 ست عشرة وثمانمائة. 904- أبو محمد عبد الله بن إبراهيم شهربان الشرايحي الزبيدي، السنجاري الأصل 2: البعلبكي المولد الدمشقي، كان أميا لا يكتب، ولكنه آية الله في الحفظ والضبط فقها وحديثا، له ترجمة واسعة في "لحظ الإلحاظ"3 كان فقيها فرضيا أوحد الحفاظ المفيدين، أقام بالقاهرة مدة، ثم رجع دمشق إلى أن توفي سنة 820 عشرين وثمانمائة. 905- أبو الحزم خليل بن محمد الأفقهسي 4: الإمام الحافظ الأوحد صلاح الدين الأشقر المصري، توفي سنة 820   1 أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن علي المرتضي بن الفضل بن المنصور "ابن الوزير" اليمني: أبو عبد الله ولد "775" أو "765"، ت"840" التاج المكلل ص"240"، فهرس الفهارس "2/ 1124"، والحاشية. 2 أبو محمد عبد الله بن إبراهيم شهربان الشرايحي الزبيدي السنجاري: أبو محمد التغلبي الزبيدي السنجاري الدمشقي الشهرة ابن الشرايحي، ولد "748"، ت "820" أو "819" أو "821". بعلبك في التاريخ ص"309"، معجم طبقات الحفاظ "114"، تذكرة "374" الضوء اللامع "5/ 3"، طبقات الحفاظ "542"، فهرس الفهارس "2/ 1088"، دائرة الأعلمي "21/ 155". 3 لحظ الألحاظ "ص268، 272"، وحسن المحاضرة "1/ 206". 4 أبو الحزم خليل بن محمد الأفقهسي. الإمام الحافظ الأوحد صلاح الدين الأشقر المصري: ولد سنة "763"، ت "821"، حسن المحاضرة "1/ 363". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 416 عشرين وثمانمائة. 906- أبو زرعة أحمد بن عبد الرحيم العراقي 1: الكردي الرازياني: ثم المصري ولي الدين، حافظ عصره بدون مدافع، رحل في الطلب، وسمع من خلق كثير، وصنف كتبا مهمة كذيل "الكاشف"، و"الأجوبة المرضية" و"تحرير الفتاوي" وغير ذلك، توفي سنة 826 ست وعشرين وثمانمائة. 907- محمد بن موسى المراكشي 2: المكي الحافظ شمس الدين المتوفي سنة 823 ثلاث وعشرين وثمانمائة. 908- شمس الدين محمد بن أبي بكر القيسي 3: الدمشقي الشهير بابن ناصر الدين حافظ الشام بلا منازع، له مصنفات كـ"افتتاح القاري لصحيح البخاري"، و"عقود الدرر في علوم الأثر" وغيرها، توفي سنة 842 اثنتين وأربعين وثمانمائة. 909- شيخ الإسلام أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن حجر العسقلاني 4: شهاب الدين المصري المولد والمنشأ والدار والوفاة، ربي يتيما، واحترف التجارة وهو مع ذلك مغري بالعلم والأدب، فرحل إلى الشام والحجاز واليمن، وجاور بمكة مرارا حتى حصل ضالته التي ينشدها من العلم، وصار أمير المؤمنين   1 أبو زرعة أحمد بن عبد الرحيم العراقي: الضوء اللامع "1/ 336"، والشذرات "7/ 173"، والبدر الطالع "1/ 72"، وحسن المحاضرة "1/ 206". 2 محمد بن موسى المراكشي: لحظ الألحاظ "272، 281". 3 شمس الدين محمد بن أبي بكر القيسي: لحظ الألحاظ "317"، والشذرات "7/ 243"، والضوء اللامع "8/ 103"، والبدر الطالع "4/ 198". 4 شيخ الإسلام أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن حجر العسقلاني: التبر المسبوك "230"، والضوء اللامع "2/ 36"، والبدر الطالع "1/ 87"، وبدائع الزهور "2/ 32". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 417 في الحديث، وأجمع جمهور الأمة على أنه أبو الفضل حافظ الإسلام، وحجة الله على الأنام، صاحب التآليف التي تفتخر بها مصر على غيرها، كشرحه صحيح البخاري والمسمى "فتح الباري"، و"الإصابة" في الصحابة، وتواليف في التاريخ كـ"الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة" و"التقريب" و"نزهة النظر" وغيرها في الفنون، رحل إليه الناس من أقطار الأرض لاقتفائه آثار السلف، فكان زينة الخلف، وهو من عجائب الدهر، فقد كان رأسا في علوم الحديث بأنواعها، متفننا فيها لمتونها ورجالها، عارفا بالعلل والنقد والإتقان في أعلى درجة مع الثقة التامة والتثبيت والضبط، وكذلك هو في فقه الشافعية وفي العلوم العربية واللغة والأدب معدود من الشعراء النوابغ، والكتاب البارعين ومن شعره. ما زلت في سفن الهوى تجري بي ... لا نافعي عقلي ولا تجريبي وهو من قضاة العدل النزهاء، والعلماء الذين خدموا الدين والأدب خدمة جلي، وبرزوا على الأقران التبريز المعترف به من محب ومعاندي، وأن شئت قبول هذا عن برهان، فتتبع "فتح الباري" وغيره من كتبه. ولد سنة 773 ثلاث وسبعين وسبعمائة وتوفي سنة 852 اثنتين وخمسين وثمانمائة وعسقلان بلد بساحل الشام، وانظر استيفاء ترجمته في "لحظ الألحاظ" وغيره. 910- محمد بن أحمد المحلي 1: المصري علامة ماهر، دقيق النظر في التصنيف ودقائق العبارة، آية في الذكاء والفهم دون الحفظ، وكان يقول: فهمي لا يقبل الخطأ، ورع، شديد على الظلمة، لا يلتفت إليهم، له شرح على "جمع الجوامع" شهير، ونصف التفسير. توفي سنة 864 أربع وستين وثمانمائة عن ثلاث وسبعين.   1 محمد بن أحمد المحلي: الضوء اللامع "7/ 39"، والبدر الطالع "2/ 115"، وحسن المحاضرة "1/ 252"، والشذرات "7/ 303". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 418 911- محمد بن محمد بن أبي بكر بن علي بن أبي شريف 1: كمال الدين، علامة محقق نقاد، له حواش على "جمع الجوامع" وغيرها، توفي سنة 903 ثلاث وتسعمائة. 912- أبو زيد عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي 2: جلال الدين المصري: الفقيه الحافظ المحدث، ذو الباع الطويل في العلوم لا سيما العربية، له التواليف الكثيرة قيل: بلغت نحو ستمائة بين مطول في أسفار، ومختصر في ورقتين، والجل من الصغار، وجل تأليفه ملخصه عمن تقدمه، فالتضارب بين أقواله ناشئ عن أفكار من تقدمه، لكثرة ما ألف وضيق وقته عن التمحيص، ادعى رتبة الاجتهاد وهو أحق بها ومن لطائفه: فَوِّض أحاديث صفا ... ت ولا تشبه أو تعطل إن رمت إلا الخوض في ... تحقيق معضلة فأول إن المفوض سالم ... مما تكلفه الموءول ولد سنة 849 تسع وأربعين وثمانمائة، وتوفي سنة 911 إحدى عشرة وتسعمائة، والسيوطي مثلث السين كما في "المنح البادية" قال: ويزداد في أوله همزة تضم وتفتح.   1 محمد بن محمد بن أبي بكر بن علي بن أبي شريف: الضوء اللامع "9/ 65"، والكواكب السائرة "1/ 11"، والشذرات "8/ 99"، والبدر الطالع "2/ 243". 2 أبو زيد عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي جلال الدين المصري: الخضيري السيوطي، أعلام "3/ 301"، القاموس الإسلامي "3/ 622، 621"، المعرفة "13/ 2368"، تاج العروس "3/ 182"، "5/ 164"، بدائع الزهور "4/ 83"، التفسر والمفسرون "1/ 251"، ريحانة الأدب "3/ 148". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 419 913- أحمد بن محمد القسطلاني 1: شهاب الدين القتيبي المصري: عالم فاضل، له "المواهب اللدنية" في السير، وشرح البخاري وغيرهما، توفي سنة 923 ثلاث وعشرين وتسعمائة. 914- أبو العباس شهاب الدين أحمد بن محمد بن علي بن حجر نسبة إلى جد من أجداده الهيثمي 2: السعدي الأنصاري. أقام بمكة، وله تآليف مفيدة كـ"الزواجر"، و"الصواعق"، و"الفتاوى" و"شرح الهمزية" وغير ذلك. توفي سنة 973 ثلاث وفي "المنح" سنة أربع وسبعين وتسعمائة. 915- محمد بن أحمد بن حمزة شمس الدين الرملي 3: المنوفي المصري الأنصاري الشهير بالشافعي الصغير، ذهب جماعة من العلماء إلى أنه مجدد القرن العاشر، ووقع الاتفاق على المغالات بمدحه، وهو أستاذ الأستاذين، وأحد الأساطين محيي السنة، وعمدة الفقهاء في الآفاق، أخذ عن الشيخ زكريا، والبرهان بن أبي شريف، وأحمد بن النجار الحنبلي وغيرهم، وكان عجيب الفهم، غزيز العلم، موصوفا بمحاسن الأوصاف، وقال فيه الشعراني وهو أكبر منه: إن الآن مرجع أهل مصر في تحرير الفتاوي، وأجمعوا على دينه وورعه، وحسن خلقه، وكرم نفسه، وحضر درسه ناصر الدين الطبلاوي في حال كونه من أفراد العلم، ولماليم على ذلك لكونه في مقام   1 أحمد بن محمد القسطلاني: الضوء اللامع "2/ 103"، والشذرات "8/ 121"، والكواكب السائرة "1/ 126"، والبدر الطالع "1/ 102"، وفهرس الفهارس "2/ 318". 2 أبو العباس شهاب الدين أحمد بن محمد بن علي بن حجر: شذرات الذهب "8/ 370"، وفهرس الفهارس "1/ 250"، والبدر الطالع "1/ 109"، وجلاء العينين "137". 3 محمد بن أحمد بن حمزة: خلاصة الأثر "3/ 342". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 420 أبنائه، وسئل عن الداعي لملازمته قال: إني أستفيد منه ما لم يكن لي به علم، ولي عدة مدارس، وإفتاء الشافعية، وألف تآليف نافعة كشرح "المنهاج" وشرح "البهجة" الوردية، و"عمدة الرابح" وشرح منسك النووي، وشرح "الزبد" في كتب عديدة نافعة، وكان له تلاميذ كثيرون، قال الشبلي: والظاهر أنه المجدد؛ إذ لم يشتهر الانتفاع بأحد في قرنه مثله. توفي سنة 1004 أربع بعد الألف عن خمس وثمانين سنة. 916- شمس الدين محمد بن علاء الدين البابلي 1: المصري الحافظ الرحلة، أحد أعلام الفقه والحديث، أحفظ أهل عصره، وأعرفهم بالحديث ورجاله وعلله، واعترف له بدلك شيوخه، وأقرانه له مشايخ كثيرون، وكان من أحسن المشايخ سيرة وصورة، متهجد ورع مشارك، كلما قرأ فنا، ظن السامعون أنه لا يحسن غيره، ولو يكن له اعتناء بالتأليف، ويقول: إن الاشتغال به من ضياع الوقت لا يؤلف أحد إلا في أحد أمور: شيء يخترعه، أو شيء ناقص يكمله، أو مستغلق يشرحه، أو طويل يختصره دون أن يخل بشيء من معانيه، أو مختلط يرتبه، أو مفرق يجمعه، أو شيء أخطأ فيه مصنف فيبينه، قال في "الخلاصة": ويجمعه قول بعضهم: أن يخترع معنى، أو يبتكر مبنى، وله كتاب في الجهاد أبدا فيه وأعاد ألزمه به أمير الوقت، توفي سنة 1077 سبع وسبعين وألف عن سبع وسبعين سنة. 917- أبو إسحاق إبراهيم بن شهاب الدين حسن الشهرزوري 2: الشهراني الكردي الكوراني، محقق العلوم على اختلافها، نادرة الأعصار، أظهر نوعا من المعارف لا يدرك أهل زمانه جنسه، فصار ملة وحده،   1 شمس الدين محمد بن علاء الدين البابلي: خلاصة الأثر "4/ 39". 2 أبو إسحاق إبراهيم بن شهاب الدين حسين الشهرزوري: سلك الدر "1/ 5"، والبدر الطالع "1/ 11"، وفهرس الفهارس "1/ 229". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 421 فقيه الصوفيه، وصوفي الفقهاء، نزيل المدينة المورة توفي سنة 1101 إحدى ومائة وألف. 918- أبو عبد الله محمد بن عبد الرسول بن عبد السيد البرزنجي 1: عالم محقق مدقق نحرير أوحدن ولد بشهرزور، وبها نشأ، ودخل همدان وبغداد والشام وقسطنطنية ومصر والحرمين، وأخذ عن أعلامها، وتوطن المدينة، وبها اشتهر، فكان من رءوس علمائها، وله تآليف عجيبة كشرح تفسير البيضاوي، وخالص تلخيص المفتاح، ورسالة في الجهر بالبسملة، وغيرها، وكانت له قدرة على أجوبة المشكلات بأعذب لفظ وأوجزه، وبالجملة كان من أفراد العالم، توفي سنة 1103 ثلاث ومائة وألف عن ثلاث وستين سنة. 919- محمد بن عبد الرحمن العزي 2: الدمشقي مفتيها وعالمها، وأحد من ازدهت بفضائله وأكنافها فقيه محدث، نحرير متمكن، متضلع أديب شاعر بارع درس في الجامع الأموي وغيره وأفاد، له تاريخ ديوان الإسلام وغيره، توفي سنة 1167 سبع وستين ومائة وألف. 920- أبو محمد عبد الله الشبرواي 3: شيخ الإسلام، وأول من تولى مشيخة الأزهر من الشافعية، له مؤلفات. توفي سنة 1171 إحدى وسبعين ومائة وألف عن ثمانين سنة.   1 أبو عبد الله محمد بن عبد الرسول بن عبد السيد البرزنجي: الشهرزوي المدني، ولد "1040"، ت"1103"، معجم المؤلفين "10/ 165" والحاشية. 2 محمد بن عبد الرحمن العزي الدمشقي: أبو بكر ولد "770" ت"849" الدمشقي الشافعي الشهرة ابن عزى. بعلبك في التاريخ "422". 3 أبو محمد عبد الله الشبراوي: سلك الدرر "3/ 107"، والخطط التوفيقية "4/ 31". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 422 921- أحمد المعروف بشاه ولي الله بن عبد الرحيم الدهلوي 1: عالم القرن الثاني عشر في العالم الإسلامي، ومجدد مجد الحديث، وفخر علماء الإسلام بالهند، وختم المحدثين به، ذو التصانيف الممتعة والأيادي البيضاء، والهمة العليا كحجة الله البالغة، المؤلف في الفلسفة التشريعية، ورسالة "الإنصاف في بيان سبب الاختلاف" وهو مسبوق بها، فقد ألف في ذلك ابن السيد البطليوسي الأندلسي وغيره، توفي 1180 ثمانين ومائة وألف. 922- أبو عبد الله محمد بن سالم الحفناوي 2: أو الحفني شيخ الأزهر، وشيخ الإسلام إمام شهير له مؤلفات كحاشيته على العزيز على "الجامع الصغير" للسيوطي، وأخرى على الشنشوري في الفرائض وغيرها، كان كريم الطبع، واسع الأخلاق، توفي 1181 إحدى وثمانين ومائة وألف. 923- محمد بن سليمان الكردي 3: المدني خاتمة الفقهاء بالحجاز المتضلع من سائر العلوم، تولى إفتاء الشافعية بالمدينة، وألف مؤلفات شهيرة كثيرة كشرح فرائض التحفة، وثلاث حواش على شرح الحضرمية للهيثمي، و"عقود الدرر في بيان مصطلحات تحفة ابن حجر" وحاشية شرح الغاية، و"الفوائد المدنية فيمن يفتي بقوله من أئمة الشافعية" و"فتح الفتاح بالخير في معرفة شروط الحج عن الغير" واختصره، وسماه "فتح القدير"، و"كاشف اللثام في حكم التجرد قبل الميقات بلا إحرام"   1 أحمد المعروف بشاه ولي الله بن عبد الرحيم الدهلوي: أبجد العلوم "912"، وفهرس الفهارس "1/ 125". 2 أبو عبد الله محمد بن سالم الحفناوي أو الحفني شيخ الأزهر: الحفني الخلوتي. أبو المكارم ولد "1101" ت"1181". معجم المؤلفين "10/ 15، 16" والحاشية. 3 محمد بن سليمان الكردي المدني خاتمة الفقهاء: الكردي المدني الشافعي، ولد "1125"، أو "1127"، ت "1194". فهرس الفهارس "3/ 483" والحاشية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 423 و"الثغر البسام عن معاني الصور التي يروج فيها الحكام" و"الدرة البهية في جواب الأسئلة الجارية" وشرح منظومة الناسخ والمنسوخ، و"زهر الربا في بيان أحكام الربا" وفتاوي عدة في مجلدين ضخمين وغير ذلك، توفي سنة 1194 أربع وتسعين ومائة وألف عن سبع وستين سنة. 924- محمد بن الحسن بن محمد بن أحمد المنير السمنودي 1: المصري إمام فقيه محدث مقرئ صوفي، له مؤلفات نافعة كشرح الطيبة، وشرح الدرة، وله تآليف في القراءات والتصوف والفلك وغيرها، وله شعر في الحقائق وهو أول من انتزع مشيخة الأزهر من يد المالكية، توفي سنة 1199 تسع وتسعين ومائة وألف. 925- عبد الله بن حجازي بن إبراهيم الشرقاوي 2: المصري الأزهري، ولي مشيخة الأزهر، له "التحفة البهية في طبقات الشافعية" حاشية على التحرير في الفقه، وغير ذلك، توفي سنة 1227 سبع وعشرين ومائتين وألف. 926- أبو المعالي علي أفندي بن محمد سعيد بن أبي البركات السويدي 3: البغدادي العباسي، من أعرف الناس بالحديث، عارف بالرجال متفنن،   1 محمد بن الحسن بن محمد بن أحمد المنير السمنودي المصري: السمنودي الأحمدي الشافعي الأزهري، ولد "1099"، ت"1199"، معجم المؤلفين "9/ 211، 212" والحاشية. 2 عبد الله بن حجازي بن إبراهيم الشرقاوي المصري الأزهري: الشافعي الأزهري الشهرة الشرقاوي، ولد "1150"، ت"1226" أو "1227"، معجم المؤلفين "6/ 41، 42"، والحاشية ثبت الكزبري "78". 3 أبو المعالي علي أفندي بن محمد سعيد بن أبي البركات السويدي البغدادي العباسي: الشهرة السويدي أبو المعالي، ت"1237". فهرس الفهارس "2/ 1008"، معجم المؤلفين= الجزء: 2 ¦ الصفحة: 424 وافر المادة، توفي بدمشق وهو يقرأ {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ} 1 الآية وجاء تاريخ وفاته. إن المدارس تبكي عند فقد علي. وذلك سنة 1237 سبع وثلاثين ومائتين وألف. 927- إبراهيم بن أحمد البيجوري 2: شيخ الإسلام وشيخ الأزهر بمصر إمام فاضل، وجهبذ كامل مشارك في الفنون، انتهت إليه رياسة الشافعية بمصر، وله تآليف كحاشيته على شرح ابن قاسم في مذهب الشافعي، في مجلدين، و"فتح الفتاح في أحكام النكاح" وحواش في التوحيد، والبيان، وغيرهما مطبوعة وحاشية على "جمع الجوامع" لم تكمل وأخرى على شرح المنهج كذلك، توفي سنة 1277 سبع وسبعين ومائتين وألف. 928- مصطفى بن محمد العروسي 3: شيخ الإسلام وشيخ الأزهر أيضا، من أعلام الأمة المصلحين، تقلد مشيخة الأزهر، فأبطل بدعا كثيرة منها كالشحاذة بالقرآن في الطرقات، وأدخل نوع إصلاح للأزهر، فأقام كثيرا ممن لم يكن له استحقاق التدريس، وعزم على عمل الامتحان، لكن فاجأه العزل شأن كل مصلح في البداءة سنة 1287، وله مؤلفات نفيسة كرسالته في الاكتساب سماها "القول الفصل في مذهب ذوي الفضل"، وشرحها و"الأنوار البهية في أحقية مذهب الشافعية"، وشرح الرسالة القشيرية، وغيرها، توفي سنة 1293 ثلاث وتسعين ومائتين وألف عن   1 سورة مريم: 58. 2 إبراهيم بن أحمد البيجوري: خطط مبارك "9/ 2"، ومقدمة شرح الأم للحسيني، وسبل النجاح "3/ 57". 3 مصطفى بن محمد العروسي: تاريخ الأزهر "146"، وخطط مبارك "16/ 71"، والأزهر في ألف عام "1/ 157". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 425 ثمانين سنة. ولنكتف بهذا النزر من السادات الشافعية، ومن الذي يطمع في نزح البحر الأعظم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 426 مشاهير الحنابلة بعد القرن الرابع : 929- أبو علي محمد بن أحمد بن أحمد بن أبي موسى الهاشمي 1: القاضي كان من أخص الهاشميين بالقادر بالله، حسن الفتيا، له مصنفات حسنة، توفي سنة 428 ثمان وعشرين وأربعمائة، وكان شاعرا مع الفقه. 930- أبو علي الحسن بن شهاب العكبري 2: مات سنة 428 كالذي قبله. 931- أبو طاهر الغباري 3: المتوفي سنة 432 اثنين وثلاثين وأربعمائة. 932- أبو إسحاق إبراهيم بن عمر البرمكي 4: وكان زاهدا يفتي الناس في الجامع، توفي سنة 445 خمس وأربعين وأربعمائة.   1 أبو علي محمد بن أحمد بن أبي موسى الهاشمي القاضي: أبو علي، الهاشمي البغدادي الحنبلي. مات سنة "428". العبر "3/ 167"، الوافي بالوفيات "2/ 63"، تاريخ بغداد "1/ 354"، ابن أبي يعلى ص"368". 2 أبو علي الحسن بن شهاب العكبري: طبقات الحنابلة "2/ 186"، وشذرات الذهب "3/ 241"، وكان يتكسب من الوراقة، وكان سريع الكتابة كتاب ديوان المتنبي في ثلاث ليال. 3 أبو طاهر الغباري: شذرات الذهب "3/ 250". 4 أبو إسحاق إبراهيم بن عمر البرمكي: طبقات الحنابلة "2/ 190". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 427 933- أبو الفرج عبد الواحد بن محمد الشيرازي 1: ثم المقدسي، الإمام العلم، ناشر المذهب الحنبلي بين المقادسة والدمشقيين، ولم يكن يعرف قبله فيهما، توفي بدمشق سنة 486 ست وثمانين وأربعمائة. 934- أبو الوفاء علي بن عقيل 2: ابن محمد الطفري شيخ الحنابلة في وقته ببغداد، حسن المناظرة، سريع الخاطر، له مصنفات منها كتاب "الفنون" الذي يزيد علي أربعمائة مجلد، على ما قال في "الشذرات" وقيل: إنه بلغ ثمانمائة، وكان معتزليا، ثم صار سنيا، توفي سنة 513 ثلاث عشرة وخمسمائة عن ثلاث وثمانين سنة، وقد قال له الكيا الهراسي يوما: ليس هذا الحكم بمذهبك، فقال: أنا لي اجتهاد متى طالبني خصمي بحجة كان عندي ما أدفع به عن نفسي، وأقوم له بحجتي، وقد كان مع ذلك كثير التعظيم لأحمد وأصحابه، والرد على مخالفيهم، بارعا في الكلام، غير تام الخبرة بالحديث. 935- عبد الوهاب بن أبي الفرج عبد الرحمن بن محمد الأنصاري 3: ثم الدمشقي شرف الإسلام، توفي سنة 536 ست وثلاثين وخمسمائة.   1 أبو الفرج عبد الواحد بن محمد الشيرازي المقدسي: أبو الفرج، الخراقي، الدمشقي الشيرازي المقدسي. مات سنة "486". المعين "1543"، سير النبلاء "19/ 51". 2 أبو الوفاء علي بن عقيل بن محمد الطفري شيخ الحنابلة: أبو محمد أبو الوفاء، الطفري الحنبلي الفقيه العقيلي. مات سنة "513". معجم المؤلفين "7/ 151، 152"، الميزان "3/ 146"، لسان الميزان "4/ 243"، حاشية الإكمال "6/ 239"، تبصير المنتبه "3/ 1016"، دائرة الأعلمي "22/ 284". 3 عبد الوهاب بن أبي الفرج عبد الرحمن بن محمد الأنصاري الدمشقي شرف الإسلام: شذرات الذهب "4/ 113". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 428 936- أبو المظفر يحيى بن محمد المعروف بابن هبيرة 1: وزير المقتفي العباسي، صاحب التصانيف له كتاب "الأشراف في مذاهب الأشراف" في المذاهب الأربعة، ذكره في "كشف الظنون" وهو في خزانتي والحمد لله ينقل عنه "فتح الباري" كثيرا، توفي سنة 560 ستين وخمسمائة، كان راتبه مائة ألف دينار، لا يخرج من السنة وفي خزانته منها شيء لجوده، وكان المقتفي والمستنجد يقولان: ما وزر للعباسيين مثله في جميع أحواله، وله اليد الطولى في تدبير الدولة، وضبط المملكة، وقمع آل سلجوق عنها، وهو في آن واحد وزير خطير، ومدبر كبير، وعالم شهير، ومصنف نحرير، وشاعر قدير. 937- أبو محمد عبد القادر بن أبي صالح 2: ابن جنكي دوست الجيلاني الحنبلي شيخ الإسلام، وشيخ العراق، مؤلف كتاب "الغنية" في مجلد وغيرها قال الذهبي: سمعت الحافظ أبا الحسين يقول: سمعت الشيخ عز الدين عبد السلام بمصر يقول: ما نعرف أحدا كراماته متواترة كالشيخ عبد القادر رحمه الله، توفي سنة 561 إحدى وستين وخمسمائة. 938- أبو الفرج عبد الرحمن بن أبي الحسن الشهير بابن الجوزي 3: بفتح الجيم جمال الدين من نسل أبي بكر الصديق رضي الله عنه، الإمام   1 يحيى بن محمد المعروف بابن هبيرة "أبو المظفر" المقتفي العباسي: أبو المظفر، الشيباني. توفي سنة "560". المغني "1805"، التكملة لوفيات النقلة "1/ 318"، والحاشية. 2 أبو محمد عبد القادر بن أبي صالح بن جنكي دوست الجيلاني الحنبلي شيخ الإسلام وشيخ العراق له كتاب "الغنية": أبو محمد، الجيلي. مات سنة سنة "561"، ببغداد. التكملة لوفيات النقلة "6/ 214، 1/ 971"، حاشية الإكمال "3/ 228"، تكملة إكمال الإكمال ص"369"، النجوم الزاهرة "5/ 371"، شذرات الذهب "4/ 198". 3 أبو الفرج عبد الرحمن بن أبي الحسن الشهير بابن الجوزي جمال الدين من نسل= الجزء: 2 ¦ الصفحة: 429 الحافظ الواعظ، ذو التصانيف التي انتهيت إلى ثلاثمائة، وتقدم في الترجمة ابن جرير الطبري ما بلغت أوراقها، له التفسير، "زاد المسير" والتاريخ الكبير، و"مختصر الإحياء"، و"الموضوعات" وغيرها، وإذا شئت أن تعلم قدره علما وفضلا، فانظر رحلة ابن جبير الأندلسي وما شاهده في كيفية تدريسه وإملائه، لتعلم كيف كان العلماء، توفي ببغداد سنة 597 سبع وتسعين وخمسمائة. 939- أبو الفرج عبد المنعم بن أبي الفتح عبد الوهاب 1: شمس الدين الحراني الأصل البغدادي، كان تاجرا وله في الحديث سماعات عالية، وانتهت إليه الرحلة من الأقطار، توفي سنة 596 ست وتسعين وخمسمائة. 940- أبو بكر محمد بن عبد الغني المعروف بابن نقطة 2: من الحفظ المكثرين، له ذيل على إكمال ابن ماكولا، وآخر في الأنساب   1 أبو الفرج عبد المنعم بن أبي الفتح عبد الوهاب شمس الدين الحراني البغدادي: أبو الفرج الحراني البغدادي الحنبلي مات سنة "596". دائرة الأعلمي "21/ 273" التكملة لوفيات النقلة "2/ 203"، التاج المكلل "39"، جامع المسانيد "2/ 537"، التقييد "2/ 150"، البداية النهاية "13/ 23"، ذيل ابن النجار "1/ 166"، وفيات الأعيان "3/ 227"، سير النبلاء "21/ 258". 2 أبو بكر محمد بن عبد الغني المعروف بابن نقطة: أبو بكر، البغدادي الحنبلي. الشهرة ابن نقطة. ولد سنة "576". توفي سنة "629". فهرس الفهارس "1/ 293"، والحاشية، إفادة النصح ص"12، 24"، معجم طبقات الحفاظ ص"128"، تذكرة الحفاظ "4/ 204"، التاج المكلل ص"129"، وفيات الأعيان "4/ 392"، طبقات الحفاظ "496"، معجم المؤلفين "10/ 179" والحاشية، الوافي بالوفيات "3/ 267"، سير النبلاء "22/ 347"، دائرة معارف الأعلمي "26/ 305". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 430 ذيل على كتاب ابن طاهر المقدسي، وأبي موسى الأصبهاني، "والتقييد لمعرفة الرواة والسنن والمسانيد" وكان أحد شعراء العراق المجيدين، توفي سنة 629 تسع وعشرين وستمائة ونقطة بضم النون. 941- أبو عبد الله محمد بن أبي القاسم فخر الدين الشهير بابن تيمية 1: الحراني، والخطيب الواعظ بحران، تفرد في بلده بالعلم، وصنف في المذهب، وله تفسير، توفي سنة 622 اثنتين وعشرين وستمائة. 942- أبو محمد عبد الغني بن فخر الدين ابن تيمية 2: خطيب حران صنف ودرس بها، توفي سنة 639 تسع وثلاثين وستمائة. 943- أبو البركات عبد السلام 3: ابن عبد الله بن أبي القاسم الشهير بمجد الدين ابن تيمية الحراني الإمام المقرئ المحدث الأصولي، الفقيه، المفسر، أحد الحفاظ الأعلام كان جمال الدين بن مالك يقول فيه: ألين له الفقه كما ألين الحديد لداود عليه السلام، له مصنفات منها التفسير، و"المنتقى" في أحاديث الأحكام، الذي شرحه   1 أبو عبد الله محمد بن أبي القاسم فخر الدين الشهير بابن تيمية الحراني الخطيب الواعظ بحران: سير النبلاء "13/ 192"، ووفيات الأعيان "1/ 657"، والبداية "13/ 109"، الشذرات "5/ 102"، وذيل طبقات الحنابلة "2/ 151". 2 أبو محمد عبد الغني بن فخر الدين ابن تيمية خطيب حران: شذرات الذهب "5/ 205"، وذيل طبقات الحنابلة "2/ 222". 3 أبو البركات عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم الشهير بمجد الدين ابن تيمية الحراني الإمام المقرئ: أبو البركات، الحراني، الحنبلي، ابن تيمية، محيي الدين، ولد سنة 590، مات سنة 652. التاج المكلل "241"، المعين "2175"، سير النبلاء "23/ 291"، الأعلام "4/ 6"، معجم المؤلفين "5/ 227"، فوات الوفيات "1/ 570". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 431 الشوكاني بشرح سماه "نيل الأوطار" وهو مطبوع، ولا شك أنه قد سبقه البغوي لهذا النسق من الشافعية، وعبد الحق الإشبيلي من المالكية، وله "المحرر" في الفقه، وغيره، توفي سنة 652 اثنتين وخمسين وستمائة. 944- أبو أحمد عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية 1: نزيل دمشق درس وأفتى وصنف، وصار شيخ البلد بعد أبيه إمام محقق توفي سنة 682 اثنتين وثمانين وستمائة. 945- عبد الرحمن بن عمر بن أبي القاسم البصري 2: الحنبلي، فقيه مفسر كان مفتيا بالبصرة ثم انتقل لبغداد وتولى التدريس بها، له "جامع العلوم" تفسير، و"الحاوي" في الفقه، توفي سنة 684 أربع وثمانين وستمائة. 946- أبو الفرج عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن قدامة المقدسي 3: الجماعيلي فقيه من أعيان الحنابلة، ولد وتوفي في دمشق، وولي القضاء مدة، له "تسهيل في تحصيل المذهب" [في] 4 شرح "المقنع" توفي سنة 682 اثنتين وثمانين وستمائة.   1 أبو أحمد عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية نزيل دمشق: ذيل طبقات الحنابلة "2/ 211"، والشذرات "5/ 376"، والدارس "1/ 74، 75". 2 عبد الرحمن بن عمر بن أبي القاسم البصري الحنبلي: أبو طالب، البصري العبدلياني الحنبلي، الضرير. ولد سنة "624"، مات سنة "684". معجم المؤلفين "5/ 161، 162". 3 أبو الفرج عبد الرحمن بن محمد أحمد بن قدامة المقدسي الجماعيلي: المقدسي الجماعيلي، ولد سنة "597"، توفي سنة "682". التاج المكلل ص"252"، معجم المؤلفين "5/ 169"، فوات الوفيات "1/ 546"، المعين "226". 4 في الأصل: و. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 432 947- أبو الطاهر إسماعيل بن إبراهيم المخزومي 1: المصري شهربابن قريش، إمام جليل، حافظ ضابط، توفي سنة 694 أربع وتسعين وستمائة. 948- أبو عبد الله أحمد بن حمدان بن شبيب الحواني 2: شيخ الفقهاء الحنابلة، توفي سنة 695 خمس وتسعين وستمائة عن اثنتين وتسعين سنة. 949- الحسن بن عبد الله بن أبي عمر بن قدامة المقدسي3 شرف الدين قاضي الحنابلة، توفي في السنة ذاتها عن سبع وخمسين سنة. 950- أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية 4: تقي الدين شيخ الإسلام، وهو أشهر رجل في هذا البيت للمقالات التي تنسب إليه، وقام بإنكارها عليه التقي السبكي وجماعته بما أوجب سجنه إلى أن مات سجينا. كان ابن تيمية من أمهر أهل وقته في علوم الدين، وأعرف الناس بالقرآن العظيم، وأحفظهم للسنة، وأتقنهم للتفسير، ومعرفة ناسخه ومنسوخه،   1 أبو الطاهر إسماعيل بن إبراهيم المخزومي المصري شهربابن قريش: شذرات الذهب "5/ 426". 2 أبو عبد الله أحمد بن حمدان بن شبيب الحراني شيخ الفقهاء الحنابلة: شذرات الذهب "5/ 426". 3 الحسن بن عبد الله بن أبي عمر بن قدامة المقدسي شرف الدين قاضي الحنابلة: شذرات الذهب "5/ 426". 4 أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية تقي الدين شيخ الإسلام: تذكرة الحفاظ "4/ 278"، والبداية "14/ 132"، وفوات الوفيات "1/ 35"، والدارس "1/ 75"، والبدر الطالع "1/ 63"، والدرر الكامنة "1/ 144"، وذيل طبقات الحنابلة "2/ 387". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 433 وتنزيل أحكامه عارفا بالرجال، بصيرا بالأسانيد لا يكاد يشذ عنه الحديث من أحاديث الرسول إلا وعرف مخرجه ورجال سنده، وما هي رتبته قوة وضعفا من أئمة هذا الشأن، متبحر في الأصول والفنون الموصلة لذلك، وبالجملة كان فحلا في العلوم الإسلامية، شديد الرد على الفرق الضالة، وعلى البدع الحادثة في الإسلام، وعلى العلماء المتساهلين وذلك ما أوجب تألبهم عليه. وله تواليف تدل على فضل واسع، ومادة وافرة وبلغت ثلاثمائة في نحو خمسمائة مجلد في الدين وأصوله وفروعه يطول سرد أسمائها، وفتاواه في الفنون تبلغ ثلاثمائة مجلد، وكان قوالا للحق، لا تأخذه في الله لومة لائم ما كان ليتلاعب بالدين، ولا يطلق لسانه بما اتفق، بل يحتج بالقرآن، والحديث والقياس، ويبرهن ويناظر أسوة من تقدمه، تعتريه حدة في البحث زرعت له عداوة في النفوس، ولولا ذلك، لكان كلمة إجماع قاله الشوكاني. وقد خصت ترجمته بتواليف، منها في الإنكار عليه لابن السبكي وفئته إلى السيد النبهاني الموجود في عصرنا، ومن جملة ما أنكروه عليه وعرفوا كيف يؤلبون فكر الجمهور ضده قوله: إنه لا تشد الرحال لزيارة قبر المصطفى عليه السلام، بل للصلاة في المسجد النبوي، وقوله بعدم جواز التوسل بالميت ولو نبيا، وقوله بأن من طلق زوجه ثلاثا في لفظ واحد لا يلزمه إلا واحدة، وقوله بعدم جواز طلب الحوائج من الأولياء الأموات، وتكفيره من يفعل ذلك إلى غير ذلك، وانظر كتابنا "برهان الحق" فقد ألممنا بكثير من هذه المسائل، وبينا أدلته وأدلته خصومه، ووجه الصواب في ذلك. ومنها ما هو في الانتصار له، وتضليل من ضلله وهي كثيرة، ومن أحسنها "الصارم المنكي" لابن عبد الهادي الألوسي البغددي، وهو من أحسن ما ألف، وهناك تنظر ترجمة هذا الإمام، وما قيل فيه، وأجيب عنه وقد ظهرت فضائله بظهور تآليفه، وتبين بها توهين كثير مما نسب إليه وأنه ما كان إلا لحدة لسانه في الرد على خصومه، فافترق الناس فيه فرقتين: مبغض قال يرميه بالعظائم الكفر فما دونه، ومحب غال يفضله على كل ما سواه، وهذا عادة الله في أعاظم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 434 العلماء، ولا سيما من كان منهم مستقل الفكر، حر اللسان ويتألب الناس ضده حياته، ويكون له صدق في الآخرين، وأفكاره في فهم حقيقة الدين الإسلامي وتجريده عن زوائد الابتداع، وإخلاص الدعوة للتوحيد الحق، وترك المغالات في تعظيم المخلوق كي لا يلحق بالخالق هي الأصل في مذهب الوهابية، فتواليفه ومباديه هي الأصول التي يرجعون إليها، ومجمل مذهبهم توحيد خالص، والعمل بالكتاب، والسنة الصحيحة أو الحسنة، وترك تقاليد الأوهام، واستقلال الفكر في فهم الشريعة من كتاب وسنة وقياس، وابتاع السلف، ونبذ المحدثات، على هذا تدور سائر كتبه، وهذا ما كان عليه السلف الصالح رضي الله عنهم، فهو من المجددين، وبسبب محنته تعلق الناس بأفكاره، وبحثوا عنها، وطبعوا كتبه، وبعثوها من خمولها، وتمذهبوا بمباديه، فصار زعيم حزب عظيم في الإسلام، وعم ذكره الآفاق نظير ما وقع للإمام أحمد بن حنبل، ومالك وغيرهما رحمهم الله على أنه كغيره من المجتهدين عرضة للصواب والخطأ والمجتهد مأجور في خطئه كصوابه على أن خطأه مغمور في بحار علومه كما قال الذهبي وغيره والله يغفر له. توفي سنة 728 ثمان وعشرين وسبعمائة. 951- أبو بكر عبد الرحمن بن محمد فخر الدين البعلبكي 1: ثم الدمشقي شهربابن الفخر، ورحل للحديث مرات، وأفاد، توفي سنة 732 اثنتين وثلاثين وسبعمائة. 952- أبو محمد عبد الله بن أحمد بن المحب محب الدين المقدسي 2: الصالحي، إمام حافظ، عني بالحديث، فجمع وخرج، وأفاد، متين الديانة، توفي سنة 737 سبع وثلاثمائة وسبعمائة.   1 أبو بكر عبد الرحمن بن محمد فخر الدين البعلبكي ثم الدمشقي: ابن الفخر، البعلبكي فخر الدين. المعجم المختص بالمحدثين "163". 2 أبو محمد عبد الله بن أحمد بن المحب محب الدين المقدسي الصالحي: أبو محمد، السعدي، المقدسي، الصالحي الحنبلي، [المحب محب الدين] . مات وله أربعون سنة. التاج المكلل ص"248"، أربع رسائل "209"، المعين "2194"، سير النبلاء "23/ 375". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 435 953- أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الهادي 1: ابن قدامة المقدسي الجماعيلي الأصل، ثم الصالحي المقرئ، والمحدث الناقد المتفنن الجبل الراسخ، أفتى ودرس وعد له ابن رجب ما يزيد على سبعين مصنفا، لكن بعضها لم يكمل لاخترام المنية له في سن الأربعين أو أقل، وله "الصارم المنكي في الرد على السبكي" في مسألة شد الرحل لزيارة القبور، توفي سنة 744 أربع وأربعين وسبعمائة. 954- أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب الزرعي 2: ثم الدمشقي شمس الدين الشهير بابن القيم الجوزية، عني بالحديث ورجاله، واشتغل بالفقه، ويجيده والنحو والأصلين، وكان غاية في التفسير والأصول، نشر العلم والسنة وكان على مبدء شيخه ابن تيمية، فحبس معه أيضا لإنكاره شد الرحل لقبر الخليل عليه السلام، وكان على جانب عظيم في التعبد، والتأله، ولعظيم رتبته في العلوم وصف بأنه المجتهد المطلق، وأنه لحقيق بذلك، وأن تواليفه لشاهد عدل لا يقبل الرضا على فضله وعلمه يطول بنا ذكر أسمائها، انظرها في ترجمته من أول كتابه "أعلام الموقعين عن رب العالمين" المطبوع بمصر تنيف على خمسين سفرا، كلها غرر ودرر، وذوقه في الاستنباط، وفهم القرآن وحل المشكلات عجيب مع حفظ راسخ، ومجد شامخ، توفي سنة 751 إحدى وخمسين وسبعمائة.   1 أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الهادي ابن قدامة المقدسي الجماعيلي ثم الصالحي: الدرر الكامنة "3/ 331"، والدارس "2/ 88، 89"، والوافي "2/ 161"، والشذرات "6/ 141"، والبدر الطالع "2/ 108"، وذيل طبقات الحنابلة "2/ 436". 2 أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب الزرعي ثم الدمشقي شمس الدين بابن القيم الجوزية: ذيل طبقات الحنابلة "2/ 447"، الدرر الكامنة "3/ 400، 403" والنجوم الزاهرة "10/ 249"، والوافي "2/ 270، 272"، والبدر الطالع "2/ 143، 146"، والشذرات "6/ 168/ 170". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 436 955- أبو العباس أحمد بن الحسن بن عبد الله 1: ابن قدامة شرف الدين، صدر الأئمة، الإمام المقدسي، ثم الدمشقي، شيخ الحنابلة في وقته شهربابن قاضي الجبل، متفنن عالم بالحديث وعلله، وعلوم العبرية، والفروع الفقهية والأصول، أفتى بإذن ابن تيمية في شبيبته، وتولى القضاء بدمشق إلى أن توفي، قال فيه الذهبي: مفتي الفرق سيف المناظرين، له اختيارات في المذهب، منها بيع الوقف للحاجة، وتبعه على ذلك جماعة، وكلهم تبع لشيخ الإسلام ابن تيمية، توفي سنة 771 إحدى وسبعين وسبعمائة. 956- أبو العباس أحمد الزرعي 2: الدمشقي العالم الزاهد، كان قوي النفس، أمارا بالمعروف، ناهيا عن المنكر، وله إقدام على السلاطين، فأبطل مظالم كثيرة، توفي سنة 762 اثنتين وستين وسبعمائة. 957- أبو الحرم محمد بن محمد بن محمد بن أبي الحرم القلانسي 3 فتح الدين المسند المكثر، توفي بالقاهرة سنة 765 خمس وستين وسبعمائة. 958- أبو الربيع سليمان نجم الدين بن عبد القوي الطوفي 4: الصرصري البغدادي الشهير بابن البوقي، أصولي، متفنن في العربية   1 أبو العباس أحمد بن الحسن بن عبد الله بن قدامة شرف الدين: الدرر الكامنة "1/ 120"، والشذرات "6/ 219، 220"، والبدر الطالع "361، 364"، والدارس "2/ 44، 46". 2 أبو العباس أحمد الزرعي الدمشقي: شذرات الذهب "6/ 197". 3 أبو الحرم محمد بن محمد بن محمد بن أبي الحرم القلانسي فتح الدين المسند المكثر: الفلانسي الحنبلي. ولد سنة "683". مات سنة "765". الدرر الكامنة "4/ 353". 4 أبو الربيع سليمان نجم الدين بن عبد القوي الطوفي الصرصري البغدادي "ابن البوقي": ذيل طبقات الحنابلة "2/ 366"، والدرر الكامنة "2/ 154"، وبغية الوعاة "262"،= الجزء: 2 ¦ الصفحة: 437 والمنطق والأصلين وغيرها، بابن البوقي يسمى "الإشارات الإلهية والمباحث الأصولية" ليس له نظير في بابه، و"والإكسير في قواعد التفسير" وشرح مقامات الحريري في مجلدات، وكان شيعيا حتى إنه قال عن نفسه. أشعري حنبلي وافضي ... هذه إحدى العبر وله كتاب "العذاب الواصب على أرواح النواصب" وقد حبس، وطيف به لأجل ذلك، توفي في بلد الخليل سنة 710 عشر وسبعمائة. 959- أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد بن هلال الزرعي 1: ثم الدمشقي برهان الدين، توفي سنة 741 إحدى وأربعين وسبعمائة عن بضع وخمسين سنة. 960- أبو حفص عمر بن سعد الله الحراني 2: الدمشقي الفقيه، عالم كبير، بصير بالفقه والعربية، توفي سنة 749 تسع وأربعين وسبعمائة. 961- أبو عبد الله محمد بن مفلح 3: ابن محمد بن مفرج المقدسي، ثم الصالحي شمس الدين، أقضى القضاة شيخ الإسلام، وأحد الأئمة الأعلام، درس وناظر، وأفتى وحدث، كان   1 أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد بن هلال الزرعي ثم الدمشقي برهان الدين: شذرات الذهب "6/ 129"، وذيل طبقات الحنابلة "2/ 434". 2 أبو حفص عمر بن سعد الله الحراني الدمشقي: أبو حفص، الحراني، ولد سنة 685، مات سنة "849". الوفيات للسلامي ترجم "546". 3 أبو عبد الله محمد بن مفلح بن محمد بن مفرج المقدسي ثم الصالحي شمس الدين: أبو عبد الله، الراميني الصالحي، ولد سنة "710"، مات سنة "763". الوفيات للسلامي ترجم "771"، معجم المؤلفين "12/ 44، 45". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 438 غاية في مذهب الحنابلة، قال ابن القيم: ما تحت قبة الفلك أعلم بمذهب أحمد منه، وله على "المقنع" نحو ثلاثين مجلدا، وله كتاب على "المنتقى" وكتاب في "الفروع" أربع مجلدات، آخر في أصول الفقه، و"الآداب الشرعية" الكبرى، والوسطى، والصغرى، توفي سنة 763 وستين وسبعمائة. 962- أبو عبد الله محمد بن المنجا 1: ابن عثمان التنوخي الدمشقي إمام فقيه، أفتى ودرس، مشهور بالتقوى والخصال الجميلة، والعلم والشجاعة، توفي سنة 724 أربع وعشرين وسبعمائة. 963- يوسف بن محمد بن مسعود العبادي 2: ثم العقيلي نزيل دمشق الإمام العلامة جمال الدين أبو المظفر، ولد بسرمرا، ولذا ينسب السرمي في رجب 696، له مصنفات في أنواع العلم كـ"غيث السحابة في فضل الصحابة" وغيره، مات سنة 776 ست وسبعين وسبعمائة، وفيها توفي أبو الحسن علي بن محمد بن الكناني3 قاضي القضاة بدمشق علاء الدين عن بضع وستين سنة. 964- أبو الفداء إسماعيل بن محمد بن بردس البعلبكي 4: حافظها الإمام، الحافظ، المكثر، الصالح، متين الدين، والخلق الحسن، له مؤلفات حسنة كنظم طبقات الحفاظ للذهبي، ونظم نهاية ابن الأثير، توفي سنة 786 ست وثمانين وسبعمائة.   1 أبو عبد الله محمد بن المنجا بن عثمان التنوخي الدمشقي: ذيل طبقات الحنابلة "2/ 377". 2 يوسف بن محمد بن مسعود العبادي ثم العقيلي: شذرات الذهب "6/ 249". 3 يوسف بن محمد بن مسعود العبادي: شذرات الذهب "6/ 243". 4 أبو الفداء إسماعيل بن محمد بن بردس البعلبكي: شذرات الذهب "6/ 287"، والرد الوافر "48"، والدرر الكامنة "1/ 378". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 439 965- عبد الرحمن بن أحمد بن رجب 1: البغدادي ثم الدمشقي الإمام الحافظ الحجة، والفقيه، العمدة أحد العلماء الزهاد والأئمة العباد، واعظ المسلمين شهاب الدين أبو العباس، أو أبو الفرج، سمع مؤلفات سديدة، توفي سنة 795 خمس وتسعين وسبعمائة عن نحو ستين سنة. 966- محمد بن خليل المنصفي 2: بضم أوله، وبه شهر التركي الدمشقي الحريري، شمس الدين الحافظ الزاهد الصالح المتقن، الإمام النبيه، الفقيه المحدث، ألف وجمع وتوفي سنة 803 ثلاث وثمانمائة. 967- القاضي برهان الدين إبراهيم بن النقيب 3: المقدسي توفي في التاريخ المذكور. 968- أحمد بن نصر الله بن أحمد الكناني 4 قاضي القضاة بالقاهرة توفي بها في السنة المذكورة.   1 عبد الرحمن بن أحمد بن رجب البغدادي ثم الدمشقي: أبو الفرج. السلامي البغدادي، الدمشقي الحنبلي. ولد سنة "736"، توفي سنة "795". فهرس الفهارس "2/ 236"، تذكرة "367"، أنباء العمر "1/ 460"، الدرر الكامنة "2/ 428"، شذرات "6/ 339"، الأعلام "3/ 295"، معجم المؤلفين "5/ 118"، طبقات الحنابلة "536". 2 محمد بن خليل المنصفي "به شهر التركي الدمشقي الحريري، شمس الدين الحافظ" شذرات الذهب "7/ 35". 3 القاضي برهان الدين إبراهيم بن النقيب المقدسي: شذرات الذهب "7/ 22". 4 أحمد بن نصر الله بن أحمد الكناني: شذرات الذهب "7/ 25، 26". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 440 969- أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن الشهير بابن زريق العمري المقدسي الصالحي 1: ناصر الدين قال فيه ابن حجر العسقلاني: لم أر في دمشق من يستحق اسم الحفاظ غيره، رتب "المعجم الأوسط" للطبراني على الأبواب، وصحيح ابن حبان، توفي في السنة المذكورة. 970- أبو الحسن علي بن محمد بن علي شهر بابن اللحام 2: علاء الدين توفي يوم عيد الأضحى من السنة المذكورة بالقاهرة. 971- عبد المنعم شرف الدين المفتي البغدادي 3: المتوفى سنة 807 سبع وثمانمائة. 972- عبد الرحمن بن سليمان بن عبد الرحمن المقدسي 4: الصالحي الإمام المسند، توفي بدمشق سنة 819 تسع عشرة وثمانمائة عن تسع وسبعين سنة. 973- محمد بن أحمد المقدسي الحريشي 5: قرأ بالأزهر مدة طويلة وحصل على علم غزير، وكان عالما زاهدا عابدا،   1 أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن الشهير بابن زريق العمري المقدسي الصالحي: ديوان الضعفاء "3843"، الميزان "3/ 625"، المغني رقم "5749"، لسان الميزان "5/ 252"، الجرح والتعديل "7/ 1752"، ضعفاء ابن الجوزي "3/ 74". 2 أبو الحسن علي بن محمد بن علي شهر بابن اللحام علاء الدين: شذرات الذهب "7/ 31"، والدارس "2/ 124"، من تصانيفه القواعد الأصولية والأخبار العلمية في اختيارات الشيخ ابن تيمية. 3 عبد المنعم شرف الدين المفتي البغدادي: شذرات الذهب "7/ 68". 4 عبد الرحمن بن سليمان بن عبد الرحمن المقدسي الصالحي: القرشي العامري. المقدسي الحنبلي، ولد سنة "741". مات سنة "819". دائرة معارف الأعلمي "21/ 82"، أنباء العمر "3/ 108"، الضوء اللامع "4/ 82". 5 محمد بن أحمد المقدسي الحريشي: خلاصة الأثر "3/ 340". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 441 انتفع به أهل القدس ونابلس خصوصا في العربية، وكان إمام الحنابلة ومفتيهم، توفي عام 1001 واحد بعد الألف. 974- محمد بن أحمد المرادوي 1: نزيل مصر، وشيخ الحنابلة في عصره كانت وفاته بمصر سنة 1026 ست وعشرين وألف. 975- أحمد بن أبي الوفاء بن مفلح 2: الدمشقي الإمام الكبير فقها وحديثا وورعا، وبيتهم بيت علم هناك، ولا هل دمشق فقيه اعتقاد كبير، وهو أهله، درس في دار الحديث وغيرها، توفي سنة 1038 ثمان وثلاثين وألف. 976- منصور بن يونس صلاح الدين البهوتي 3: شيخ الحنابلة بمصر، وخاتمة علمائهم بها، الذائع الصيت، كان عالما عاملا متبحرا للفروع الفقهية، مرحولا إليه، من الآفاق، لانفراده في عصره بالفقه الحنبلي، له مكارم دارة تأتيه الصدقات، فيفرقها في طلبة العلم، ولا يأخذ منها شيئا وصولا لأهل بلده المقادسة، يمرض مرضاهم في بيته، ويجعل لهم ضيافة كل ليلة جمعة، له تآليف مهمة شرح "الإقناع" ثلاثة أجزاء، وحاشية "الإقناع" وشرح على "منتهى الإرادات" للتقي الفتوحي، وحاشية على "المنتهى" و"شرح زاد المستنقع"، للحجاوي وشرح "المفردات" وهو ممن انتهى إليه الإفتاء والتدريس، توفي سنة 1051 إحدى وخمسين وألف. 977- يس بن علي بن أحمد الحنبلي 4: الفقيه، الفاضل الرحلة، مفتي نابلس، قرأ بمصر على أعلامها فأجازوه، وكان دينا صالحا تقيا   1 محمد بن أحمد المرداوي "نزيل مصر شيخ الحنابلة": خلاصة الأثر. 2 أحمد بن أبي الوفاء بن مفلح الدمشقي: خلاصة الأثر "1/ 165". 3 منصور بن يونس صلاح الدين البهوتي "شيخ الحنابلة بمصر": خلاصة الأثر "4/ 426"، ومختصر طبقات الحنابلة "104". 4 يس بن علي بن أحمد الحنبلي "مفتي نابلس": خلاصة الأثر "4/ 492". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 442 حافظا لكتاب الله وتوفي سنة 1058 ثمان وخمسين وألف. 978- عبد الحي بن أحمد بن محمد المعروف بابن العماد 1: العكري الصالحي الحنبلي، العالم الهمام المنصف، الأديب المتفنن الأخباري، أعرف من كان في عصره بالفنون المتاكثرة، له شرح على متن "المنتهى" في فقههم، وله تاريخ "شذرات الذهب في أخبار من ذهب" وله رسائل وتحريرات، توفي بمكة سنة 1089 تسع وثمانين وألف عن ثمان وخمسين سنة. 979- عبد الرحمن بن يوسف البهوتي 2: المصري الحنبلي خاتمة المعمرين العمدة المتبرك به، محدث فقيه شهير، أخذ الحديث والفقه بالمذاهب الأربعة عن أعلام وقته، وله أسانيد عالية كان في سنة أربعين وألف حيا قاله في "الخلاصة". 980- محمد بن أبي السرور محمد سلطان البهوتي 3 المصري الحنبلي أحد جلة الفقهاء، ذو اليد الطولى فيه، وفيه العلوم المتداولة، وانتفع به خلق كثير بمصر، توفي سنة 1100 مائة وألف. 981- محمد بن أحمد بن علي البهوتي الحنبلي 4: الخلوتي المصري العالم العلم، إمام المعقول، المفتي المدرس كتب كثيرا من التحريرات، فمنها على "الإقناع" حاشية تبلغ اثني عشر كراسا، وأخرى   1 عبد الحي بن أحمد بن محمد المعروف بابن العماد العكري الصالحي الحنبلي: خلاصة الأثر "2/ 340". 2 عبد الرحمن بن يوسف البهوتي المصري الحنبلي: خلاصة الأثر "2/ 405". 3 محمد بن أبي السرور محمد سلطان البهوتي المصري الحنبلي: خلاصة الأثر "3/ 338". 4 محمد بن أحمد بن علي البهوتي الحنبلي الخلوتي المصري: خلاصة الأثر "3/ 391". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 443 على "المنتهى" تبلغ أربعين، توفي سنة 1088 ثمان وثمانين وألف. 982- إبراهيم بن أبي بكر بن إسماعيل الدنابي العوفي 1: الدمشقي الأصل المصري من أعيان الأفاضل، متبحر في الفقه والحساب وغيرهما له شرح على "منتهى الإرادات" في فقه الحنابلة في مجلدات، و"المناسك" في مجلدين، ورسائل كثيرة في الفرائض والحساب ويرجع إليه في الأمور الدينية والدنيوية، توفي سنة 1094 أربعين وتسعين وألف بمصر عن أربع وستين. 983- أبو المواهب تقي الدين عبد الباقي بن عبد القادر الحنبلي 2: البعلي الدمشقي، مفتي الحنابلة بها، عالم بالروايات والحديث والفقه، أخذ عن البابلي والشبراملسي وغيرهما، توفي سنة 1120 عشرين ومائة وألف. 984- عبد القادر بن عمر التغلبي 3: الشيباني الدمشقي إمام عالم فقيه فرضي صالح عابد صوفي زاهد ناسك لا يأكل إلا من كسب يده في تجليد الكتب، ملازم لدروس العلم في الجامع الأموي، وانتفع به خلق كثير له شرح على "دليل الطالب" في المذهب، توفي سنة 1135 خمس وثلاثين ومائة وألف.   1 إبراهيم بن أبي بكر بن إسماعيل الدنابي العوفي الدمشقي الأصل المصري: خلاصة الأثر "1/ 9". 2 أبو المواهب تقي الدين عبد الباقي بن عبد القادر الحنبلي البعلي الدمشقي: خلاصة الأثر "2/ 283"، وفهرس الفهارس "1/ 338". 3 عبد القادر بن عمر التغلبي الشيباني الدمشقي: سلك الدرر "3/ 58"، وفهرس الفهارس "2/ 162". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 444 985- عبد الوهاب بن سليمان بن علي بن مشرق التميمي النجدي: الفقيه من أهل العيينة بنجد وهو والد محمد بن عبد الوهاب إمام حنابلة نجد، وصاحب المذهب المشهور، له في بعض المسائل الفقهية كتابة حسنة توفي سنة 1153 ثلاث وخمسين ومائة وألف. 986- محمد بن مصطفى الطوراني البغدادي: مفتي الحنابلة ببغداد، فقيه عالم صالح بارع، استوطن القسطنطينية، توفي سنة 1184 أربعين وثمانين ومائة وألف. 987- محمد بن أحمد السفاريني 1: النابلسي الفقيه الإمام، الغرة في جبين الأيام، نحرير كامل، علامة فاضل، له تصانيف شهيرة منتشرة كثيرة، ودرس وأفتى، وأفاد، وله الفتاوى الكثيرة لو جمعت لكانت مجلدا وشرح ثلاثيات أحمد في مجلد ضخم، وكتب في السيرة، والحديث، والخصائص، يطول عدها، انظر أسماءها في "سلك الدرر" وله شعر رائق كله غرر توفي سنة 1188 ثمان وثمانين ومائة وألف. 988- مصطفى بن عبد الحق النابلسي الأصل: الدمشقي الدار، الفقيه البارع، الفرضي الحيسوبي، كان كثير الاستحضار للفروع وكاد ينفرد بعلمي الفرائض والحساب في عصره مع تواضع وورع ومناقب جمة، توفي سنة 1153 ثلاث وخمسين ومائة وألف. 989- أبو عبد الله محمد بن عبد الوهاب 2: التميمي النجدي إمام الوهابية الزعيم الأكبر ولد في مدينة العيينة من إقليم   1 محمد بن أحمد السفاريني النابلسي: سلك الدرر "4/ 31". 2 أبو عبد الله محمد بن عبد الوهاب التميمي النجدي إمام الوهابية: التميمي النجدي ولد سنة "1115"، مات سنة "1206". معجم المؤلفين "10/ 269، 270"، دائرة معارف الأعلمي "27/ 48". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 445 العارض بنجد سنة 1106 ست ومائة وألف، وربي بحجر والده تقدمت ترجمته ثم انتقل للبصرة لإتمام دروسه، فبرع في علوم الدين واللسان، وفاق الأقران واشتهر هناك بالتقوى، وصدق التدين. عقيدته السنة الخالصة على مذهب السلف المتمسكين بمحض القرآن والسنة لا يخوض التأويل والفلسفة، ولا يدخلهما في عقيدته. وفي الفروع مذهبه حنبلي غير جامد على تقليد الإمام أحمد ولا من دونه، بل إذا وجد دليلا أخذ به، وترك أقوال المذهب، فهو مستقل الفكر في العقيدة والفروع معا. وكان قوي الحال ذا نفوذ شخصي، وتأثير نفسي على أتباعه، يتفانون في امتثال أوامره غير هياب ولا وجل، لذلك كان يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، وهو منفرد عن عشيرته في البصرة، فتآمروا على قتله، ففر إلى العيينة، واجتذب قلوب قبيلته بالوعظ والإنذار والحجة ووضوح المحجة، فالتفوا عليه وقوي حزبه، وأصبح من الزعماء، لكن لم يخل من أضداد كما هو الشأن، فنسبوا إليه قتل امرأة ظلما، فنفاه أمير الحسا إلى الدرعية، وكان بها أتباع أيضا لشيوع مذهبه، فقبله أميرها محمد بن سعود، وأمره بنشر مبادئه التي أسسها الإمام أحمد بن تيمية الحراني -وقد سلف لنا بيان شيء من ذلك في ترجمته- وأصهر إلى الأمير ابن سعود بابنته، وهي أم الأمير عبد العزيز بن سعود الذي ظهر بمظهر الناشر لمذهبه، الناصر لفكره وهو نبذ التعلق بالقبور، وعدم نسبة التأثير في الكون للمقبور، بل منع التوسل بالمخلوق، وهدم الأضرحة التي تشييدها سبب هذه الفكرة، وقد فصلت ذلك في رسالة بيان مذهب الوهابية وفي كتابي "برهان الحق". وأعظم خلاف بينهم وبين أهل السنة هو مسألة التوصل وتكفيرهم من يتوسل بالمخلوق، فالخلاف في الحقيقة ليس في الأصول التي ينبني عليها التكفير أو التبديع، وإنما هو في أمور ثانوية، وأهمه هذه. ومن جملة مباديهم التمسك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 446 بالسنة، وإلزام الناس بصلاة الجماعة، وترك الخمر، وإقامة الحد على متعاطيها ومنعها كليا في مملكتهم، بل منع شرب الدخان ونحوه مما هو من المشتبهات، ومذهب أحمد مبني على سد الذرائع كما لا يخفى ونحو هذا من التشديدات التي لا يراها المتساهلون أو المترخصون، وكل هذا لا يخالف سنة. وهذا المذهب مؤسسه في الحقيقة ابن تيمية، ولكن حاز الشهرة محمد بن عبد الوهاب، وإليه نسبوا حيث توفق لإظهاره، بالفعل ونشره بالقوة، وتمكن من إحلاله محلا مقبولا من قلوب النجدين الذين قاتلوا عليه، فأصبح ابن عبد الوهاب ذا شهرة طبقت العالم الإسلامي وغيره معدودا من الزعماء المؤسسين للمذاهب الكبرى والمغتربين بفكرهم أفكار الأمم. وابن ابن سعود توصل بنشر هذا المذهب لأمنيته وهي الاستقلال، والتملص من سيادة الأتراك والنفس العربية ذات شمم، فقد بدأ أولا بنشر المذهب، فجر وراءه قبائل نجد وأكثرية عظيمة من سيوف العرب؛ إذ العرب لا تقوم لهم دولة إلا على دعوى دينية، ولما رأى الأتراك ذلك ووقفوا على قصده، نشروا دعاية ضده في العالم الإسلامي العظيم الذي كان تابعها لهم، وشنع علماؤهم عليه بالمروق من الدين، وهدم مؤسساته واستخفافهم بما هو معظم بالإجماع كالأضرحة، وتكفير الإسلام، واستحلال دمائه إلى غير ذلك مما تقف عليه في غير هذا، وشايعهم جمهور العلماء في تركيا والشام ومصر والعراق وتونس وغيرها، وانتدبوا للرد عليه بأقلامهم، وخالفهم المولى سليمان سلطان المغرب، فارتضى مباديه إلا ما كان من تكفير من يتوسل، واستحلال دمه، فلا أظن أنه يقول بذلك حتى مدحه شاعره وأستاذه الشيخ حمدون بن الحاج، وتوجهت القصيدة مع نجل الأمير المولى إبراهيم حين حج مما تقف على ذلك في تاريخنا لإفريقيا الشمالية منقولا عن أبي القاسم الصياني وغيره. ثم حصحص الحق، وتبين أن المسألة سياسية لا دينية، فإن أهل الدين في الحقيقة متفقون، وإنما السياسة نشرت جلبابها، وأرسلت ضبابها، وساعدت الأقلام بفصاحتها، فكانت هي الغاز الخانق، فتجسمت المسألة وهي غير جسيمة، ولعبت السياسة دروها على مسرح أفكار ذهب رشدها، فسالت الدماء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 447 باسم الدين على غير خلاف ديني، وإنما هو سياسي، وقد جردت تركيا له الكتائب، فكسرها، واستولى على الحرمين الشريفين وغيرهما من الأقطار الحجازية، فاستنجدت بأمير مصر محمد علي باشا، فجهز جيشا عرمرما تحت إمرة ولده إبراهيم، فطردهم من الحرمين الشريفين، وأسر الأمير ابن سعود، وحصرهم ضمن بعض نجدهم، وتتبع ذلك في تواريخ الشرق، وعاد اليوم لهم ظهور وانتشار، ووقع التفاهم بين علماء الإسلام وزالت غشاوة كل الأوهام، وعلم كل فريق ما هو حق، وما حاد فيه عن الطريق، وكادت أن لا تبقى نفرة ما بين علماء نجد وبقية علماء الآفاق لا سيما بوجود السلطان عبد العزيز آل سعود سلطان نجد والحجاز والحرمين وملحقاتها الحالي الذي ظهرت منه كفاءة تامة، ونصرة للسنة بعد العهد بها من لدن أهل الصدر الأول، واعتدال في الأفكار، ونشر للأمن، ووحدة الإسلام، والغيرة العربية، والعدل في الأحكام، فهو من أفذاذ ملوك الإسلام العظام ذوي السياسة الإسلامية القويمة، والكعب المعلى في الصرامة والحزم والشدة في الرفق والعزم قبل الضيق، والسير على سنن السلف بما شهد له المحب والعدو أكثر الله في الإسلام أمثاله وأطال عمره، وأطال يده على أعدائه، وزاده تأييدا وتسديدا وثباتا في مبدئه القديم المعتدل، وبلغه مناه حتى نرى الحرمين الشريفين والحجاز أرقى بلاد الشام. توفي محمد بن عبد الوهاب سنة 1206 ست ومائتين وألف. ولنقف عند هذا الحد من تراجم السادة الحنابلة، وذلك جهد المقل القاصر، وهو ما وقفت عليه مفرقا في تراجم المحدثين والحفاظ، وبعض كتب التراجم الشرقية كـ"سلك الدرر" ولم أقف لهم على طبقات مستقلة أستقي منها ما يروي الظمأ. وإني أقدم إليهم اعتذاري ولا سيما علماء نجد الأماثل وغيرهم، فإن فيهم فطاحل أود لو تزين كتابي هذا بنخبة من أعيانهم، آسفا جد الأسف على فقد الصلات العلمية بين الأقطار الإسلامية1.   1 أورد المؤلف ترجمته في نهاية هذا المختصر، وقد قمنا برسمها في أول الكتاب من زبر قلمه، فلا حاجة للإعادة "المحقق". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 448 تجديد الفقه : إن تجديد الفقه إلى أن يعود لشبابه ممكن بعلاج، وبالكشف عن الداء يعرف الدواء، ولهذا نبين ما صار إليه في هذه القرون، ثم نتكلم على التقليد الذي هو السبب الأعظم في هرمه، ثم الاجتهاد الذي به الحياة. وأقول هنا كلمة مختصرة في كيفية تجديده وهي إصلاح التعليم فلنترك عنا الدراسة بكتب المتأخرين المختصرة، المحذوفة الأدلة المستغلقة ولنؤلف كتبا دراسية فقهية للتعليم الابتدائي، ثم الثانوي، ثم الانتهائي، كل بحسب ما يناسبه، ولنرب نشأة جديدة تشب على النزاهة والأمانة ومكارم الأخلاق تربية صحيحة دينية كتربية السلف الصالح، ولنمرنها على أخذ الأحكام من الكتاب والسنة مباشرة، والاشتغال بكتب الأقدمين التي كان يتمرن بها المجتهدون كـ"الموطأ" و"البخاري" و"الأم" للشافعي ولنجعل كتبا دراسية لأصول الفقه أيضا على نسق ما بينا في كتب الفقه، وهكذا النحو وسائر الفنون العربية، ولنجعل من جملة التعليم للفقهاء كتب الأحكام القرآنية والحديثية، وكأحكام ابن العربي والجصاص، وبلوغ المرام لابن حجر والمكشاة للتبريزي وأحكام عبد الحق، ويقع امتحانهم على ذلك، فبهذا يتجدد مجد الفقه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 449 ما صار إليه الفقه من القرن الرابع إلى وقتنا إجمالا : إذا تأملت تراجم من سطرنا أمامك من الفقهاء، وتدحرج الفقه في تلك الأزمان تبين لك أن المجتهد المطلق لم يوجد من لدن القرن الرابع كما قال النووي، وإنما هو أهل الاجتهاد المقيد، وهم مجتهدوا المذهب الذين لهم القوة على استنباط المسائل من الكتاب والسنة، وبقية الأصول، لكنهم مقيدون بقواعد مذهب إمامهم، وآخر هذا النوع كان في القرن الخامس كاللخمي والسيوري، والمازني وابن العربي، وابن رشد، ومعاصريهم من المذاهب الأخرى، يظهر أن آخرهم في المغرب الإمام عياض في أواسط السادس، ونشأ أئمة مجتهدون بالإطلاق زمن الموحدين كأبي الخطاب بن دحية وأخيه، وابن عربي الحاتمي، لكنهم قليلون، ولم يتضح لنا إطلاقا من كل وجه، فربما كانوا مقيدين بمذهب أهل الظاهرة، وقد صرح بذلك بعض من ترجم لهم، ففي "نفح الطيب" لما ترجم لابن عربي الحاتمي قال: إنه كان ظاهريا، وتقدم لنا ما يفيد ذلك. وقد يوجد من يزعم الاجتهاد بإطلاق كابن وزير اليمني المتوفى سنة 816، وتقدم في الشافعية وغيره قليل، ثم تحولت الحال لمجتهدي الفتوى أصاحب الترجيح في الأقوال الذين ليس لهم أن يستنبطوا حكما لمسألة، وحسبهم أن ينقلوا ما استنبطه المتقدمون، ويرجحوا ما اختاروه من الخلاف بالحجج التي وصلوا إليها باجتهادهم المذهبي فأقول لهم: إنما يعبر عنها خليل وغيره بالتردد، ولو مع عدم نص المتقدمين كابن شاش وابن الحاجب وهذه الطبقة قد انتهت أواسط الثامن، ولم يبق بعدها إلا أهل التقليد المحض غالبا بمعنى أنهم قد حجروا عليهم ألا يأخذوا بكتاب ولا سنة ولا قياس، بل حسبهم أقوال المتقدمين من أهل مذهبهم وتطبيقها على الوقائع الوقتية، فنصوص مذهبهم قامت مقام نصوص الشارع، ويأتي مزيد بسط لهذا في ترجمة "هل انقطع الاجتهاد أم لا" ومن المتأخرين بعدهم من ادعى رتبة الترجيح والاختيار كأبي الفداء إسماعيل التميمي التونسي السابق وأمثاله، وذلك نادر. ويوجد نوع آخر من الفقهاء نادر وهو من يمهر في أكثر من مذهب واحد، فيفتي لأهل مذهبين فأكثر، كالإمام ابن دقيق العيد، كان يفتي على مذهبي مالك والشافعي، ومثله الإمام محمد بن عمران المعروف بالكركي، وبابن الدلالات الفاسي الأصل المولود بها سنة 627 المصري الوفاة كما في "بغية الوعاة" وكان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 449 الشيخ أحمد بن عبد المنعم الدمنهوري المصري شيخ الأزهر المتوفى سنة 1193 اثنتين وتسعين ومائة وألف يفتي على المذاهب الأربعة، وألف فيها جميعا، وذلك نادر. ومن المتأخرين من ادعى رتبة الاجتهاد المطلق كالشوكاني في اليمن، ولكن لم يسلموه له، وأوذي بسبب ذلك، وعلى كل حال، فغالب العلماء من المائة الثامنة إلى الآن لم يحفظ لهم كبير اجتهاد، ولا لهم أقوال تعبير في المذهب أو المذاهب، وإنما هم نقالون اشتغلوا بفتح ما أغلقه ابن الحاجب، ثم خليل وابن عرفة، وأهل القرون الوسطى من المذاهب الفقهية؛ إذ هؤلاء السادة قضوا على الفقه، أو على من اشتغل بتواليفهم، وترك كتب الأقدمين من الفقهاء بشغل أفكارهم بحل الرموز التي عقدونها، فجنت الأفكار، وتخدرت الأنظار بسبب الاختصار فترك الناس النظر في الكتاب والسنة والأصول، وأقبلوا على حل تلك الرموز التي لا غاية لها ولا نهاية، فضاعت أيام الفقهاء في الشروح، ثم في التحشيات والمباحث اللفظية، وتحمل الفقهاء آصارا وأثقالا بسبب إعراضهم عن كتب المتقدمين، وإقبالهم على كتب هؤلاء، وأحاطت بعقولنا قيود فوق قيود،، وآصار فوق آصار، فالقيود الأولى التقيد بالمذاهب وما جعلوا لها من القواعد، ونسبوا لمؤسسيها من الأصول، الثانية أطواق التآليف المختصرة المعقدة التي لا تفهم إلا بواسطة الشروح، واختصروا في الشروح، فأصبحت هي أيضا محتاجة لشروح وهي الحواشي، وهذا هو الإصر الذي لا انفكاك له، والعروة التي لا انفصام لها، أحاطوا بستان الفقه بحيطان شاهقة، ثم بأسلاك شائكة، ووضعوه فوق جبل وعر بعدما صيروه غثا، وألقوا العثرات في طريق ارتقائه، والتمتع بأفيائه، حتى يظن الظان أن قصدهم الوحيد جعل الفقه حكرة بيد المحتكرين، ليكون وقفا على قوم من المعممين، وأن ليس القصد منه العمل بأوامره ونواهيه وبذله لكل الناس، وتسهيله على طالبيه، بل القصد قصره على قوم مخصوصين، ليكون حرفة عزيزة، وعينا من عيون الرزق غزيرة، وحاشاهم أن يقصدوا شيئا من هذا لأنه ضلال في الدين، وإنما حصل من دون قصد، فيا لله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 451 أين نحن من قوله عليه السلام: "سددوا وقاربوا" 1، وقوله: "بلغوا عني ولو آية، فرب مبلغ أوعى من سامع" 2 وقوله: "لأن يهدي الله بك رجلا خير مما طلعت عليه الشمس وغربت" 3 ولله در عبد العزيز اليحصبي الأخبش حيث قال: "هذه الأعمار رءوس أموال يعطيها الله للعباد يتجرون فيها، فرابح أو خاسر، فكيف ينفق الإنسان رأس ماله النفيس في حل مقفل كلام مخلوق مثله، ويعرض عن كلام الله ورسوله الذي بعث إليه". ا. هـ. وليتنا نمرن طلبة الفقه على النظر في الآيات القرآنية المتعلقة بالأحكام وحفظها وفهمها فهما استقلاليا يوافق ما كان يفهمه منها قريش الذين نزل بلغتهم، وعلى النظر في السنة الصالحة للاستدلال وحفظها وإتقانها وفهمها، كذلك، ونمرنهم على قواعد العربية. وأصول الفقه، ثم نترك لهم حرية الفكر والنظر كما كان عليه أهل الصدر الأول، ولن يصلح آخر الأمة إلا ما صلح عليه أولها، وهذا العمل أنجح من السعي في توحيد المذاهب، أو ترجيح أحدها.   1 أخرجه أحمد "5/ 282"، والدارمي "1/ 168"، من حديث الوليد بن مسلم ثنا ابن ثوبان، حدثني حسان بن عطية، عن أبي كبشة السلولي عن ثوبان، وهذا سند حسن، وصححه ابن حبان "164"، وله شاهد عند الطبراني من حديث عبد الله بن عمر. 2 الحديث ملفق من حديثين، أولهما. حديث عبد الله بن عمر بن العاص أخرجه البخاري "6/ 361"، بشرح الفتح بلفظ "بلغوا عني ولو آية وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب علي متعمدا، فليتبوأ مقعده من النار" والثاني حديث أبي بكر أخرجه البخاري "3/ 459" بشرح الفتح وفيه "فليبلغ الشاهد الغائب، فرب مبلغ أوعى من سامع" وأخرجه مسلم "1679"، بلفظ مقارب. 3 أخرجه الطبراني من حديث أبي رافع، وفي سنده مجهول وأخرجه البخاري في صحيحه "7/ 366، 367" بشرح الفتح ومسلم "2406" من حديث سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلي رضي الله عنه حين أعطاه الراية في غزوة خيبر "فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 452 مناظرة فقيهين في القرن الخامس : قال ابن العربي في "الأحكام"1: ورد علينا بالمسجد الأقصى سنة 487 سبع وثمانين وأربعمائة فقيه من عظماء أصحاب أبي حنيفة يعرف بالزوزني، فحضرنا في حرم الصخرة المقدسة طهرها الله معه، وشهد علماء البلد، فسئل على العادة عن قتل المسلم بالكافر، فقال: يقتل به قصاصا، فطولب بالدليل: فقال: الدليل عليه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} 2 وهذا عام في كل قتيل، فانتدب معه للكلام ففيه الشافعية بها وإمامهم عطاء المقدسي، وقال: ما استدل به الشيخ الإمام لا حجة له فيه من ثلاثة أوجه: أحدها: أن الله سبحانه قال: كتب عليكم القصاص فشرط في المجازات، ولا مساوات بين مسلم وكافر، فإن الكفر منزلته ووضع مرتبته. الثاني: أن الله ربط آخر الآية بأولها، وجعل بيانها عند تمامها، فقال: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} فإذا نقص العبد عن الحر بالرق وهو من آثار الكفر، فأحرى وأولى أن ينقص عنه الكافر. الثالث: قال: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} ولا مؤاخاة بين المسلم والكافر، فدل على عدم دخوله. فقال الزوزني: بل ذلك دليل صحيح، وما اعترضت به لا يلزمني منه شيء، أما شرط المساواة في المجازات فمسلم، وأما دعواك أن المساوات بين   1 "1/ 67". 2 سورة البقرة: 178. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 453 المسلم والكافر في القصاص غير معروفة فغير صحيح، فإنهما متساويان في الحرمة التي تكفي للقصاص، وهي حرمة الدم الثابتة على التأبيد، فالذمي محقون الدم على التأبيد كالمسلم وكلاهما صار من أهل دار الإسلام، والذي يحقق ذلك أن المسلم يقطع بسرقة مال الذمي، فيدل على مساواة ماليهما فدل على مساواة دمهما؛ إذ المال إنما يحرم بحرمة مالكه. وأما ربط آخر الآية بأولها فغير مسلم فأولها عام، وآخرها خاص، وخصوص آخرها لا يمنع عموم أولها، بل كل على حكمه، وأما أن الحر لا يقتل بالعبد، فلا أسلمه بل يقتل به عندي قصاصا، فتعلقت بدعوى لا تصح لك، وأما من عفي له من أخيه يعني المسلم، فكذلك أقول ولكن خصوص هذا في العبد لا يمنع عموم القصاص، فهما قضيتان متباينتان لا يمنع خصوص هذه عموم تلك. ا. هـ. ولنضع أمامك مثالا تفهم به ما امتحن به طلاب العلم بعد القرون الوسطى: عرف ابن عرفة الذبائح بكلمات وهي: الذبائح لقبا لما يحرم بعض أفراده من الحيوان لعدم ذكاته أو سلبها عنه ما يباح بها مقدورا عليه. ا. هـ. وهو تعريف أشبه كما ترى بلغز منه بمسألة علمية، فاحتاج بعض أهل العصر في شرحه إلى كراس كامل، فإذا كان تعريف لفظ واحد من ألفاظ الفقه التي حدث الاصطلاح الشرعي فيها يحتاج شرحه إلى هذا، وبالضرورة لا بد من درسين أو ثلاثة دروس تذهب فيه، فكيف يمكن أن يمهر الطالب في الفقه، وكيف يمكن أن ترتقي علومنا؟ وأي حاجة بطلبة العلم إلى هذه التعاريف، فلقد كان مالك وأضرابه علماء وما عرفوا ذبيحة ولا نطيحة. وهذه "الموطأ" و"المدونة" شاهدتان بذلك، وهكذا بقية المجتهدين، ولهذا كانت المجالس الفقهية في الصدر الأول مجالس تهذيب لجميع أنواع الناس عوامهم وطلبتهم، فأصبحت اليوم لا ينتابها إلا الطلبة، فإذا جلس عامي حولها، لم يستفد منها شيئا، فيفر عنها، ولا يعود إذ يجدهم يحلون مقفلات التآليف بأنواع من القواعد النحوية المنطقية التي لا مساس له بها، ولو أنه وجدهم يقرءون تأليفا من تآليف الأقدمين فقهيا محضا مبينا فيه الفرع وأصله من الكتاب والسنة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 454 لاستفاد، وأفاد أهله. ومن هو مسئول عن تعليمهم فهذا سبب نقصان العلم في أزماننا، وغلبة الأمية على رجالنا ونسائنا، وحصول التأخر في سائر علومنا حتى النحو وغيره من العلوم العربية مع أن النحو ضروري لارتقاء أمتنا الأدبي. إذ لا سبيل لأن نصير أمة معدودة من الأمم الحية إلا بتعميم القراءة والكتابة بين الحواضر والبوادي، وتعميم التعليم الابتدائي حتى يصير جل أفرادها رجالا ونساء يقرءون ويكتبون باللسان العربي الفصيح، بحيث يعرفون مطالعة الكتب البسيطة السهلة يستفيدون منها دينهم ودنياهم، ومطالعة الجرائد، وأخبار ما يقع في العالم. ليستوي الناس في إدراك ما لهم وما عليهم، ويتساوي السوقي والعالم، والوزير والصانع في معرفة ما هو الضار للهيئة الاجتماعية، وما هو نافع لها ليحسوا جميعا بالألم، ويعرفوا موضعه، ويتطلبوا أدواءه، فينهضوا بأجمعهم لنفعهم ودفع ضرهم ويفهموا ما يلقى إليهم من الخطاب، وما هي عليه حياة غيرهم من الأمم ليجاورها في معترك الحياة. وهذا القدر لا نتوصل إليه إلا بتأليف كتب نحوية في غاية البساطة والسهولة تعليمية لأبناء المدارس الابتدائية وأن يكون اهتمامنا بأولادنا، وأول ما يمرنون عليه الكتابة والقراءة باللغة العربية الأصلية، وتثقيف أذهانهم بالآداب والتهذيب الديني الصحيح الخالي من كل وهم وخيال، وبث العقائد الصحيحة فيهم والضروري من الفقه. ولا سبيل لذلك إلا بوضع كتب على نسق كتب المتقدمين يمكن للصغار فهمها بحيث لا يصل التلميذ إلى العاشرة من عمره إلا وهو عارف بالعقائد والضروري من الذين، ولا يصل الثانية عشرة حتى يحصل على القدرة على فهم الكتب السهلة ومطالعتها على الأقل ويحصل على القدرة على الإبانة عما في ضميره بقلمه ولسانه، وفهم ظواهر الكتاب والسنة، وكتب الشريعة السهلة التي هو متدين بها، وداء الأمية هو الذي أمرض العالم الإسلامي وحده، وبقدر ضعفه يقوى الإسلام ولو بعد حين، وهو قديم في الأمة، وسببه علماء النحو. أوصى الجاحظ إمام الأدب بعض أحبابه، فقال له: علم ولدك من النحو ما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 455 يعرف أن يميز به بين العبارة الصحيحة والعبارة الفاسدة، وإياك أن تكثر عليه من النحو فإنه خبال، وبعكس هذا سأل رجل ابن خالويه المتوفى سنة 370 صاحب التصانيف العجيبة في اللغة والأدب، فقال له: أريد أن أتعلم من العربية ما أقيم به لساني، فأجابه: أنا منذ خمسين سنة أتعلم النحو ما تعلمت ما أقيم به لساني. فانظر رحمك الله أن العامي يبحث عن مصلحة عامة أهم المصالح، وكيف جواب العالم له، وكيف لم يتفطنوا من ذلك التاريخ لمحق هذا الداء بتأليف ما يزيل عجمة عموم الأمة، والهداية بيد الله ولقد ألفت كتب دراسة سهلة كجمل الزجاجي، ولسوء حظ المسلمين تركت، ثم اشتغلوا بكل ما هو مغلق ككتب ابن مالك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 456 غوائل الاختصار وتاريخ ابتدائه : لما ألفت المتقدمون دواوين كبارا كـ"المدونة" و"الموازية" و"الواضحة" وأمثالها، عسر على المتأخرين حفظها لبرودة وقعت في الهمم، فقام أهل القرن الرابع باختصارها، فأول من وقف عليه اختصر "المدونة" فضل بن سلمة الجهني الأندلسي المتوفى سنة 319 وكما اختصرها غيرها كما تقدم لنا في ترجمته، ثم في قريب من زمنه الإمام محمد بن عبد الله بن عيشون الطليطلي له مختصر مشهور، واختصر "المدونة" إلا الكتب المختلطة منها توفي سنة 341 إحدى وأربعين وثلاثمائة كما في "المدارك" ثم محمد بن عبد الملك الخولاني المعروف بالنحوي البلنسي الأصل، وسكن بجانة الأندلس الفقيه النظار له مختصر مشهور على "المدونة" توفي سنة 364 أربع وستين وثلاثمائة ذكره في "المدارك"1 ثم ابن أبي زمنين الذي اختصره "المدونة" في الأندلس كما اختصرها ابن أبي زيد في القيروان، وكانا في عصر متقارب. فقيل: إن مختصر ابن زمنين أفضل المختصرات، واختصرها أيضا أبو القاسم اللبيدي بعده وغيرهم كما تقدم في تراجم هؤلاء الفقهاء كما اختصروا غيرها وتقدم في ترجمة ابن عبد الحكم أنه ألف مختصرا قبل ذلك، لكن الذي وقع تداوله بين الأعلام من مختصرات "المدونة" هو مختصر ابن أبي زيد السابق، ثم جاء البراذعي وألف "التهذيب" اختصر مختصر ابن أبي زيد، وأتقن تربيته، واشتهر كثيرا حتى صار من اصطلاحهم إطلاق لفظ "المدونة" عليه، ثم جاء أبو عمرو بن الحاجب واختصر تهذيب البراذعي في أواسط السابع، ثم جاء خليل في أواسط الثامن واختصره. وهناك بلغ الاختصار غايته؛ لأن مختصر خليل   1 "4/ 572". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 457 مختصر مختصر المختصر بتكرر الإضافة ثلاث مرات، وإن أخل بالفصاحة، وكاد جل عبارته أن يكون لغزا، وفكرتهم هذه مبنية على مقصدين وهما تقليل الألفاظ تيسيرا على الحفظ، وجمع ما هو في كتب المذهب من الفروع، ليكون أجمع للمسائل، وكل منهما مقصد حسن لولا حصول المبالغة في الاختصار التي نشأت عنها أضرار. فمنها أن اللغة لنا فيها مترادفات متفاوتة المعنى، وفيها المشترك والتراكيب ذات الوجهين، والوجوه مع حدوث لغة ثانية وهي مصطلحات شرعية، وعربية، فأصبحت الجملة الواحدة تحتمل احتمالات، فلما اختصروا أحالوا أشياء عما قصد بها، وتغيرت مسائل عن موضعها، وتقدم لنا ما انتقده عبد الحق الإشبيلي على مختصر البراذعي ثم ما انتقده شراح ابن الحاجب، وشراح خليل، بل حتى الشراح اختصر بعضهم بعضا، فوقع لهم ذلك الغلط. وكم في شروح التتائي والأجهوري والزرقاني والخرشي من ذلك حتى التجأ المغاربة لإصلاح أغلاطهم، ولذلك ألف مصطفى الرماصي وبناني والتاودي، وابن سودة، والرهوني حواشيهم لهذا الغرض. وقد التزم ابن عاشر الفاسي نقل عبارة المتقدمين بلفظها في شرحه، وكذا المواق يشرح بنقل عبارتهم فقط، فحصل الطول وضاع الفقه الحقيقي، كما ضاع جل وقت الدرس والمطالعة في حل المقفل وبيان المجمل. قال الإمام أبو عبد الله المقري: لقد استباح الناس النقل عن المختصرات الغربية، ونسبوا ظواهر ما فيها لأمهاتها وقد نبه عبد الحق في التعقيب على منع ذلك، وقد ذيلت تعقيبه بمثل مسائله، وانقطعت سلسلة الاتصال، فكثر التصحيف، وصارت الفتاوى تنقل عن كتب لا يدري ما زيد فيها مما نقص منها لعدم تصحيحها، وكان أهل المائة السابعة لا يسوغون الفتوى من تبصرة اللخمي لعدم تصحيحها على مؤلفها. والآن كثر ما يعتمد هذا النمط ثم انضاف إلى ذلك عدم اعتبار الناقلين، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 458 فصار يؤخذ من كتب المسخوطين كالأخذ من كتب المرضيين، بل لا تكاد تجد من يفرق بين الفريقين، ثم كل أهل هذه المائة عن حال من قبلهم من حفظ كبار الأصول فاقتصروا على حفظ ما قل لفظه، ونزر خطه، وفأفنوا أعمارهم في حل رموزه، وفهم لغوزه، ولم يصلوا لرد ما فيه لأصوله بالتصحيح فضلا عن معرفة الضعيف والصحيح، بل حل مقفل وفهم مجمل. فهذه جملة تهديك إلى أصل العلم، وتريك ما غفل الناس عنه، ونقل عن شيخه الأبلي: لولا انقطاع الوحي، لنزل فينا أكثر مما نزل في بني إسرائيل الذين حرفوا الكلم عن مواضعه، إذ ذاك لم يكن بتبديل اللفظ إذ لا يمكن ذلك في مشهورات كتب العلماء المستعملة فضلا عن كلام الله، وإنما هو بالتأويل، كما قال ابن عباس وغيره. ا. هـ. بخ نقله أو عبد الله الأندلسي في "الحلل السندسية". ومنها: أنهم لما أغرقوا في الاختصار، صار لفظ المتن مغلقا لا يفهم إلا بواسطة الشراح، أو الشروح والحواشي، ففات المقصود الذي لأجله وقع الاختصار وهو جمع الأسفار في سفر واحد، وتقريب المسافة وتخفيف المشاق، وتكثير العلم، وتقليل الزمن، بل انعكس الأمر؛ إذ كثرت المشاق في فتح الأغلاق، وضاع الزمن من غير ثمن، فإذا ابن عرفة ألف مختصره مسابقا ابن الحاجب وخليلا في مضمار الاختصار، ففاتهما في الإغلاق في الاستغلاق، ولما كان يدرس هو منه تعريف الإجارة وهو قوله: بيع منفعة ما أمكن نقله غير سفينة ولا حيوان لا يعقل بعوض غير ناشئ عنها بعضه يتبعض بتبعيضها. وأورد عليه بعض تلاميذه أن زيادة لفظ "بعض" تنافي الاختصار، فما وجهه؟ فتوقف يومين وهو يتضرع إلى الله في فهمها، وأجاب في اليوم الثاني بأنه لو أسقطها، لخرج النكاح المجعول صداقه منفعة ما يمكن نقله، وناقشه تلميذه الوانوغي وغيره بما يطول جلبه. فتأمل وانظر أفكار الشيخ والتلاميذ التي اشتغلت هذا الزمن الكثير في حل عويصة وهي إقحام لفظ واحد لا أهمية له تفريعا ولا تأصيلا يومين، بل وبعده الجزء: 2 ¦ الصفحة: 459 اشتغل غيره أياما، ولا زلنا نشتغل كذلك، فذلك دليل أن الوقت ليس له عندهم ثمن، فالحمد لله الذي لم يتعبوا غيرهم فقط، والحمد لله الذي أخذوا حقهم مما أوقعونا فيه. وأما من حيث المواد، وتقليل الأسفار، فقد وقع لهم غلط فيما أملوه وصرنا من جمع القلة إلى الكثرة، وذلك أن "المدونة" مثلا فيها نحو ثلاثة أسفار ضخام، وهي مفهومة بنفسها لا تحتاج لشرحها في غالب مواضعها لكن خليل لا يمكننا أن نفهمه ونثق بما فهمنا منه إلا بستة أسفار للخرشي، وثمانية للزرقاني، وثمانية للرهوني الجميع اثنان وعشرون سفرا مع طول الزمن المتضاعف في الدروس والمطالعة في تفهم العبارات المغلقة فلم يحصل المقصود من الاختصار، بل انعكس الأمر، وأصبحنا في التطويل، فأصبح علم الفقه يستغرق عمر الطالب، والمدرس لا يبقى مع فراغ لعلم غيره لمن يريد إتقانه، وتوقي الغلط فيه والطامة الكبرى هي عدم الوثوق بما فهمناه؛ لأن الاختصار تذهب عنه متانة الصراحة، وتأتي مرونة الإجمال والإبهام والإيهام حى صار يضرب المثل لكل عبارة إجمالية تحتمل احتمالات، فيقال: عبارة فقهية أو عدلية. وقد ختم المختصر بعض أشياخنا تدريسا في نحو أربعين سنة، ومع هذا فإنما يحرر الفروع، ويسردها مسلمة، وأما الاطلاع من كتاب وسنة وإجماع وقياس، وعلة الحكم التي لأجلها شرع، وفهم أسرار الفقه، وما هناك من أفكار السلف، وكيفية استنباطهم ومداركهم، فكل ذلك فاتنا بفوات كتب الأقدمين الحلوية لذلك. ولقد فاتنا خير كثير، وقد كان تعليمه يعين على الملكة الصحيحة في الفقه، والفقيه الذي يستحق لقب فقيه هو العارف بذلك، أما الذي يسرد آلافا من مسائله غير عارف بأصلها فإنما حاك نقال. ولقد كان أهل القرون الثامن والتاسع والعاشر يتبعون أكثر منا في تحصيل الفقه كانوا لا بد لهم من قراءة عدة كتب: تهذيب البراذعي الذي يقال له "المدونة" في تلك العصور، ومختصر ابن الحاجب وشروحه، ومختصر خليل وشروحه، وهكذا نجدهم في فهارسهم يذكرون كفهرسة الشيخ خروف التونسي الذي تقدمت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 460 لنا ترجمته في المالكية، فإنه ذكر أنه قرأ الفقه بهذه المتون كلها وغيرها، وكذلك غيره من أهل ذلك العصر لقرب عهدهم بتأليف تلك الكتب وتداولها. وذلك محض تكرار ممل مضيع للعمر. أما نحن فقد صرنا خليليين بالمرة والحمد لله. ومن الغريب في أحوال القرون الأخيرة أن النحو الذي لا تدعو ضرورة لإقامة أدلة على قواعده، افتعلوا له أدلة، فضخموه وصعبوه، والفقه الذي يتأكد بمعرفة أدلته، تركوها وضخموه بكثرة الاختصار، وكثرة المسائل النادرة، وإن إفناء العمر في المسائل النادرة التي تمضي الأعمار ولا تقع واحدة منها قليل الجدوى، وهي غالب ما زاده المختصر على "المدونة" على أن في "المدونة" من المسائل بل الأبواب النادرة الوقوع كثير وغير خفي أن الاشتغال في دراستها لمن ليس بحافظ، ولا يبقى على باله منها إلا القليل ضياع للعمر، فطلاب الفقه محتاجون إلى كتاب بين الصراحة واضح لا يحتاج إلى شرح جامع للمسائل الكثيرة الوقوع من كل باب دون الندارة أو المستحيلة، فبهذا تكون الدراسة والتعلم، وهذا الذي يفيد المبتدئين، بل والمتوسطين، وإن كثيرا من الناس تراهم يحفظون المختصر عن ظاهر قلب، وليسوا فقهاء، بل إذا احتاجوا في العبادة لمسألة راجعوا الشراح أو الفقهاء لعدم فهم ألفاظه إلا بشرح في كثير من أبوابه وتجد كثيرا من الناس فقهاء، ولا يحفظونه كما أن حفاظ القرآن نجدهم يحفظونه، وليسوا علماء لجهلهم بالنحو واللغة، وكم من فقيه لا يحفظ من القرآن إلا الضروري، لكن يدرك في عدم فهم القرآن علينا لتقصيرنا في تعليم اللغة التي نزل بها، ولكثرة التأويلات لتشعب الطوائف، والنحل أمن عدم فهم المختصر، فسببه هو المبالغة في الاختصار حتى صار لغزا لا يفهم ولو لعارف باللغة إلا بالشرح، فهو أصعب من القرآن ألف مرة وإني لا أنقص من قيمته، ولا أقول بتركه للمالكية العظام للفتاوي المقلدين لأنه ديوان وأي ديوان من دواوين المالكية العظام للفتاوي والأحكام، وقد أشار مؤلفه في أوله إلى أنه ألفه للفتوى لا للدرس حيث قال مختصرا مبينا لما به الفتوى، فلا يستغنى عنه ولا يترك، بل يدرس ويمرن عليه المنتهون ليستعينوا به في الفتوى والقضاء للحاجة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 461 الداعية، إليه لجمعه من المسائل ما يندر أن يوجد في غيره، فربما تقع المسألة ولا توجد إلا فيه مع تحريره المسائل واتقانه، وتبيينه للمشهور المعتمد من القولين أو الأقوال. أما المبتدءون والمتوسطون، فما أحوجهم للرسالة القيرواتية، وأمثالها وتقدم لنا ما هو أولى من ذلك كله من التمرن على الكتاب والسنة وكتب الإجماع والفقه القديم وبعد إملاء هذه الفكرة وقفت على مضمنها لملا كاتب جلبي في كتابه كشف الظنون طيب الله ثراه فانظر. ولقد أرتأى السلطان سيدي محمد بن عبد الله إسماعيل هذا الرأي فأمر بترك تدريس المختصر، وألزمهم بالرسالة وأمثالها من كتب المتقدمين السهلة. لكن جاء ولده مولانا سليمان، فألزمهم الناس بالمختصر ثانيا، وأرى غير ما رآه الأول، فكان عمله هذا نظير ما عملت الدولة المرينية في ترك الاجتهاد وإلزام الناس بمذهب مالك والتاريخ يعيد نفسه، ولكن شتان بين العلمين والفكرين، وذلك كله تابع لتطور الأمم، وتطور الأزمان، ولله عاقبة الأمور. وقال الإمام الغزالي في "الإحياء" عند ذكر العلوم: أما فرض الكفاية فكل علم لا يستغنى عنه في قوام الدنيا كالطب وإذا هو ضروري في حاجة بقاء الأبدان، وكالحساب، فإنه ضروري في المعاملات، وقسمة المواريث وغيرها، وهذه هي المعلوم التي لا خلا البلد عمن يقوم بها جرح أهل البلد، ولا تعجب من قولنا: إنها فرض كفاية، بل الفلاحة والخياطة والحجامة، والحياطة أيضا، ولو سألت الفقيه عن اللعان والظهار والسبق والرمي، لسرد عليك مجلدات من التفريعات الدقيقة التي تنقضي الدهور، ولا يحتاج لشيء منها وإن احتيج إليه، لم يخل البلد عمن يقوم به، ويغفل ما هو مهم في الدين، وإذا روجع فيه، لبس على نفسه وعلى غيره بأنه مشتغل بفرض كفاية، والفطن يعلم أنه لو كان غرضه أداء الأمر بفرض الكفاية، لقدم عليه فرض العين، وكثيرا من فروض الكفاية، لم يقم بها أحد، فأصبحت عينا، فكم من بلد ليس فيها طبيب إلا من أهل الذمة، ولا يجوز قبول شهادتهم إلا فيما يتعلق بالأطباء، من أحكام الفقه، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 462 ثم لا ترى أحدا يشتغل به، ويتهافتون على الفقه، والبلد مشحون بالفقهاء، فليت شعري كيف يرخصون في الاشتغال بفرض كفاية قام به جماعة وإهمال ما لا قائم به من سبب إلا أن الطب لا يتوصل به إلى تولي الأوقاف والوصايا وحيازة مال اليتيم، وتقلد القضاء والحكومة، والتقدم به على الأقران، والتسلط على الأعداء، فهيهات هيهات قد اندرس الدين بتلبيس علماء السوء إلى أن قال: لا ينبغي لطلب العلم أن يدع فنا من فنون العلم المحمودة إلا وينظر فيها نظرا يطلع به على مقصوده وغايته، ثم إن ساعده العمر، طلب التبحر فيه، وإلا اشتغل بالاهم منه، واستوفاه، فإن العلوم كثيرة والأعمار قصيرة، وبعض العلوم ترتبط ببعض، وأقل ما يستفيده الانفكاك عن عداوة ذلك العلم، فإن الناس أعداء ما جهلوا. ا . هـ. وصدر كلامه في فرض الكفاية قد ألم به خليل في الجهاد وشروحه فانظره. وقد ذكر السعد في "المواقف" والبيضاوي وغيرها أن من فوائد بعثة الرسل تعليم الصنائع للناس قال تعالى في حق داود: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ} 1 وفي حق نوح عليهما سلام الله جميعا {فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} 2 يقول مقيده عفا الله عنه: إن الفتور أصاب الأمم الإسلامية عموما حتى في العلوم اللغوية والدينية، وسببه الوحيد فيها هو الاختصار والتواليف التي لم تبق صالحة للتعليم، ولا مناسبة لروح العصر، والواقع في الفقه هو الواقع في النحو والصرف والبيان والأصول حتى إن صاحب "جمع الجوامع" لتمكن فكرة الاختصار منه ادعى في آخره استحالة اختصاره، وكل العلوم وقع فيها ذلك وما أصابها في علومها أصابها في صنائعها وتجارتها وفلاحتها، وكل باب من أبواب الحياة، وإذا أراد الله شيئا هيأ له الأسباب، فإن شاءت الأمة النهوض فلتبدأ باصلاح التعليم خصوصا اللسان وأقول: ليس بإنسان من لا قلم له ولا لسان، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.   1 سورة الأنبياء: 80. 2 سورة هود: 37. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 463 عدم تنقيح كتب الفقه : إذا عدم تنقيح كتب الفقه هو من موجبات هرمه أيضا لا سيما في المذهبين الحنفي والمالكي وإذ كان فيهما مجتهدون متفاوتون كثيرون، فلا تزال مسائلهما متشتتة في كتب الفتاوى، فالمفتي محتاج إلى مراجعة أسفار كثيرة، ونظر عميق وربما وجد المسألة في غير مظنتها، فإذا لم يكن له حفظ وباع، ومزيد الاطلاع، وراجع في الفتوى في الغلط والشغب لا محالة، وانظر التقرير المؤرخ بغرة محرم سنة 1286 المصدر به مجلة القوانين التركية تجد فيه الاعتراف بذلك، وتجديد الفقه محتاج لكتب دراسية كما قدمنا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 464 فقه العمليات وتاريخ نشأته وانتشاره : تقدم لنا في ترجمة مالك أن من أصول مذهبه عمل أهل المدينة من أهل القرن الأول والثاني، وليس مالك أول من قال به، بل ثبت عن شيوخه كالإمام الزهري، وربيعة بن أبي عبد الرحمن ومن عاصرهما وشيوخهم كالإمام سعيد بن المسيب، وأبي سلمة بن عبد الرحمن، ومن عاصرهما، كما أخذ الحنفية بعمل علماء العراق، وما اشتهر بينهم من قضاء وفتوى، وكذا الشافعي قد احتج بعمل أهل مكة، وإن كان مالك جعله من أصوله المقدمة حتى على الحديث الصحيح كما سبق، ولما خيم مذهب مالك بالقيروان سرت تلك الفكرة لعلماء أفريقية ثم الأندلس، فكانوا يحتجون بما أفتى به علماؤهم، وقضى به قضاتهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 464 ولما ظهر النبوغ العلمي بفاس وفضل علمائهم الأكياس، أخذوا بتلك التقاليد، ولكن غالب عملهم كان تابعا لعمل الأندلس من لدن تغلب الأمويين على المغرب أخر القرن الثالث وأول الرابع، وكان أهل فاس ميالين لمملكة الأمويين لعدلهم، واعتدال مذهبهم السني منابذين للعبيدين الشيعة بالقيروان، فكانوا يأخذون بعمل الأندلس غالبا ويقدمونه على عمل القيروان، ثم صار لهم عمل مخصوص بهم بعد استقلالهم في السياسة زمن الملثمين، ثم الموحدين، ثم بني مرين ومن بعدهم، فهذا ابتداء ما يسمونه بالعمل الفاسي، وقد كان من موجبات هرم الفقه أيضا، وذلك أن بعض المسائل فيها خلاف بين فقهاء المذهب، فيعمد بعض القضاة إلى الحكم بقول مخالف المشهور لدرء مفسدة، أو لخوف فتنة، أو جريان عرف في الأحكام التي مستندها العرف لا غيرها، أو نوع من المصلحة، أو نحو ذلك فيأتي من بعده، ويقتدي به ما دام الموجب الذي لأجله خالف المشهور في مثل تلك البلد، وذلك الزمن، وهذا مبني على أصول في المذهب المالكي قد تقدمت، فإذا كان العمل بالضعيف لدرء مفسدة فهو على أصل مالك في سد الذرائع، أو جلب مصلحة، فهو على أصله في المصالح المرسلة وتقدم ما فيه من الخلاف وأن شرطه أن لا تصادم نصا من نصوص الشريعة ولا مصلحة أقوى منها أو جريان عرف، فتقدم أنه من الأصول التي بني الفقه عليها، وأنه راجع للمصالح المرسلة أيضا. فيشترط فيه ما اشترط فيه، فتنبه لهذا كله، فإذا زال الموجب، عاد الحكم المشهور؛ لأن الحكم بالراجح، ثم المشهور واجب، وهو من الأصول الشرعية العقلية، ففي "جمع الجوامع" في كتاب التعادل والتراجيح ما نصه: والعمل بالراجح واجب، وقال القاضي: إلا ما رجح ظنا؛ إذ لا ترجيح بظن عنده، وقال البصري: إن رجح أحدهما بالظن، فالتخيير. ا. هـ. والعمل بالضعيف في الفتوى والأحكام حران إلا المجتهد ظهر له رجحانه فلا يبقى ضعيفا عنده، ولا عند من قلده، أو لضرورة دعت المقلد لعمل به في نفسه يوما ما، ويشترط في القاضي الذي حكم به أن يكون فقيها عادلا لا جاهلا ولا جائرا زاد الهلالي في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 465 "نور البصر": وأن يكون من الأئمة المقتدى بهم في الترجيح. ا. هـ. وهو مجتهد الفتوى يعني بحيث يتبين له رجحان القول الذي عمل به بأدلته التي منها المرجحات المذكورة، وإلا فالعمل لا يعتمد إلا إذا جرى بقول راجح، أو من قاض مجتهد الفتوى بين وجه ترجيح ما عمل به؛ لأن المجتهد هو الذي يقدر على تمييز ما هو مصلحة وما هو مفسدة، أو ذريعة إليها ويميز ما هو في رتبة الضرورات أو الحاجبات، وما هو في رتبة التحسينات فما ألجأت إليه المحافظة على النفس أو الدين أو النسل أو المال أو العرض أو العقل. فهو في رتبة الضروريات، ويلحق بهذا ما كان في رتبة الحاجيات فقد نص المواق في شرح خليل أول الإجازة: أن المذهب المالكي مبني على اعتبار الحاجيات، وإلحاقها بالضروريات، أما ما كان في رتبة التحسينات، فلا يعتبر مرخصا في الخروج عن المشهور، وعلى كل حال لا يقدر على نقد مثل هذا إلا من بلغ رتبة الاجتهاد المذهبي، أما من لم يبلغها، ليس له رخصة في أن يترك المشهور إلى الشاذ في الفتوى والحكم أصلا، فالباب دونه مسدود وقد أنهى الهلالي في شرح المختصر شروط خروج القاضي عن المشهور إلى الضعيف إلى خمسة. فانظر فيه بقيتها. وقد ذكر الشيخ خليل في مختصر بعض المسائل نصل فيها على العمل كقوله في آخر باب القضاء: وهل يدعى حيث المدعى عليه وبه عمل إلخ فجاء ابن عاصم الغرناطي، ونص يدعى حيث على مسائل من ذلك أيضا في تحفته ثم جاء بعده علي بن قاسم الزقاق، ونص في لاميته على نحو العشرين مسألة منها ثم جاء أبو العباس أحمد بن القاضي الفاسي مؤلف "الجذوة" و"درة الحجال" و"المنتقى" وغيرها المتوفى سنة 1025، خمس وعشرين وألف فألف كتاب "نيل الأمل فيما به بين الأئمة جرى العمل" وتلاه سيدي العربي الفاسي المتوفى سنة 1052، فألف تأليفا فيما جرى به العمل من شهادة اللفيف خاصة، وهي مسألة لا تنطبق إلا على أصول الحنفية الذين يعتبرون المسلمين كلهم عدولا، ويقبلون شهادة مجهول الحال لا مجهول العين، فلا تقبل بإجماع، ولا تنطبق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 466 على قول في المذهب على أن الحنفية لا يشترطون اثني عشر رجلا التي جرى بها العمل استحسانا، وجاء الشيخ ميارة الكبير، فألف في مسألة بيع الصفقة وجوزه، وبين شروطه على ما به عمل فاس وهي أيضا لا تنطبق على أصول المذهب، وسوغوها لضرورة كثرة الخصومات في الجزء المشاع، وليتهم لم يضيقوها بكثرة الشروط التي لم نعلم مستندها. ثم جاء الشيخ عبد الرحمن بن عبد القادر الفاسي، ونظم كتابا فيه نحو ثلاثمائة مسألة مما جرى به العمل بفاس بالخصوص وشرحه هو كما شرحه غيره، غير أن حاطب ليل جمع حتى ما جرى به العمل القضاء حورا أو جهلا كترك اللعان مع أنه في كتاب الله، وأن عدة المطلقة ثلاث أشهر لا قروء مخالفا في ذلك للفظ القرآن العظيم، وغير ذلك مما انتقده عليه الهلالي في "نور البصر" وغيره، ومن المسائل التي زعموا جريان العمل فيها أن الطلاق كله بائن مع أن الطلاق إذا أطلق في القرآن، انصرف للرجعي، ولا يكون بائنا إلا بأسباب مهما لم تكن، صار رجعيا، ولي في رد ذلك رسالة فلينظر مريدها. وهناك عمل آخر يسمى العمل المطلق منظوم مشروح، وهو عمل غير مقيد بفاس، ومن هذا ما نص عليه خليل في مختصره، فهو عمل مطلق، فلذلك يحتاج المفتي والقاضي إلى أن تكون عنده هذه الكتب الفقهية المحدثة، ويكون مستحضرا لها متقنا لمسائلها وإلا وقع في الغلط وقد أفتى الفقيه الحافظ القوري بعدم لزوم بيع المضغوط، فكان ذلك سببا في تأخير عن مجلس الشورى. وما به العمل دون المشهور ... مقدم في الأخذ غير مهجور ولذا يكتب في منشور ولاية القاضي عندنا في المغرب الأقصى اقتداء بعمل الأندلس في الجملة: وعليه أن يحكم بمشهور مذهب مالك أو ما به العمل، وغير خفي أن ما به العمل مقدم على المشهور، وهذا مما زاد الفقه صعوبة، فكم من قول مشهور في المختصر وغيره من الدوواين المعتمدة، وهو مهجور لمخالفة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 467 العمل، ولو أفتى به المفتي لردت فتواه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 468 تحرير لمسألة العمل الفاسي : وليتنبه لأمور منها أن عمل فاس قاصر عليها لا يجوز أن يفتي به في غيرها من البلدان إلا إذا كان نص على التعميم، ومن التعميم مسألة شهادة اللفيف والصيد المقتول ببنادق الرصاص وكثيرا ما يكون العمل تابعا للعرف مثل أدوات البيت منها ما يكون للزوج، ومنها ما يكون للزوجة بحسب الأعراف والعوائد، فكل بلد يحكم لها بعرفها، وفي صحيح البخاري: باب من أجرى أمر الأمصار على ما يتعارفون بينهم في البيوع والإجارة والمكيال والوزن وسنتهم على نياتهم ومذاهبهم المشهورة، ثم ساق من الآثار ما يدل لذلك، وللأعراف قيمة في نظر الشرع قال تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} 1 وقال عليه السلام لهند زوج أبي سفيان: "كلي وولدك بالمعروف" ولا يسر عرف بلد على بلد، ولا يحكم بزمن على زمن، فكل زمن يحكم فيه بعرف أهله، وكل ما لم يثبت فيه تعميم، فالواجب على القاضي، والمفتي التمسك بالراجح أو المشهور، وإلا ردت فتواه؛ لأن جريان عمل فاس ليس مرجحا للقول الضعيف، وإنما هو لدرء مفسدة مثلا وجدت بفاس، فإذا لم توجد في غيرها، فلا، والعمل بالراجح من أصول الدين كما سبق، وفي نوازل مازونة عن علي بن عثمان أنه سئل عن الخصم يأتي القاضي بفتوى مخالفة للمشهور هل يعمل بها أم يطرحها؟ فأجاب بأنه يطرحها إلا أن تكون خالفت المشهور لوجه معتبر في الشرع. ا. هـ. نبهنا على هذا؛ لأن بعض المفتين والقضاة يغفلون، ويعممون الحكم، وهو غلط لا يحل السكوت عنه، وقد رأيت الهلالي نص عليه أيضا، ومما يدل له أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أبردوا بالظهر" كما في "الصحيحين" وهي رخصة لزمن   1 سورة الأعراف: 199. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 468 مخصوص، فإذا انقضى زمن الحر، أو كانت البلد باردة، فلا إبراد ويرجع لأول الوقت، وأمثاله كثير، وفي مثل هذا قال العلماء: الرخصة لا تتعدى محلها، وليس معناه أن الرخصة لا يقاس عليها، بل يقاس عليها إذا توفرت شروط القياس، وزالت موانعه خلافا لمن يزعم عدم القياس عليها أصلا، فهو مخالف للأصول، وقد قالوا بالتيمم لضرورة عدم القدرة على الماء قياسا على ضرورة عدمه وأمثاله كثير، فعلم أن القاضي أو المفتي لا يجوز له الاسترسال في الإفتاء بما به العمل، ويظن أنه حكم مؤبد بل هو مؤقت ما دامت المصلحة أو المفسدة التي لأجلها خولف المشهور، فإذا ذهبت، رجع الحكم بالمشهور؛ لأنه واجب، والانتقال عنه رخصة للضرورة، فإذا زالت الضرورة، ذهب الرخصة كالتيمم لعدم الماء، ومنها أنه ليس كل قاض حكم بقول يعد رخصة شرعية حتى نثبت عدالة القاضي واجتهاده في الفتوى، ودون هذا خرط القتاد إلا إذا كان سبب العمل جريان عرف فالعرف يستوي في معرفته المجتهد وغيره، أما ما لم يبن على العرف والعوائد، فلا بد أن يثبت السبب الذي لأجله انتقل عن القول الراجح، أو المشهور، وقد ركب الناس في هذا كل صعب وذلول، وإلى الله المشتكى. ومنها أنهم اعتمدوا كل من قال: جرى العمل بكذا من غير بحث عن عدالة الناقل مع أن العمل لا يثبت إلا بشهادة عدلين على قاض عدل فقيه أنه حكم به، أو ينص عليه مؤلف ثقة. وهناك نوع من العمل آخر وهو أن يختار أحد أئمة الفتوى من مجتهدي المذهب بعض الروايات عن مالك مثلا، ويرجحه خلاف ما هو المشهور في المذهب، ويبين وجه رجحانه، وهذا وقع كثير من ابن عات، وابن سهل، وابن رشد، وابن زرب وابن العربي واللخمي وأنظارهم فيجري حكم القضاة بما اختاروه، فهذا لا كلام لنا فيه؛ لأنه قول مرجح، كما عليه القرافي في "القواعد" وابن رشد في رحلته، ومن هذا ما يشير له خليل: اختير واستظهر ورجح واستحسن، وربما يشير له أيضا بقوله: وبه عمل فهذا فيه تقديم الراجح الجزء: 2 ¦ الصفحة: 469 على المشهور، لا الضعيف على المشهور، فليس مما نحن منتقدوه نعم قد يكون ترجيحهم مبنيا على عرف ونحوه، فإذا ذهب، زال الترجيح والإشكال، ومن هنا تشعبت الخصومات، وصعب التوصل للحق على الأقوياء فضلا عن الضعفاء، فلو أن العلماء المالكية رقعوا هذا الفتق، وحرروا كتابا يفتى به وتصان به الحقائق لقاموا بواجب عيني، ويكون من جماعة تتعاون عليه لا فرد، فإنه إنما يزيد قولا آخر يخالفه فيه غيره، ولا يسلمه خصومه، وهذا أول ما يجب على وزارة العدلية القيام به، ودرء مفاسده، وكل هذا من أسباب هرم الفقه، ومن أسباب ضياع الثقة بالمحاكم الشرعية الإسلامية، فما أحوج محاكمنا إلى التجديد والنظام، وما أحوجنا إلى قضاة ومفتين عدول نزهاء مهذبين تهذيبا دينيا ودنياويا ويقومون بالقسط، وتحصل بهم ضمانه الحقوق، وتكون لهم أفكار واسعة، ومدارك مطابقة لمقتضي عصرهم الحاضر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 470 التقليد وأحكامه : التقليد: هو أخذ القول من غير معرفة دليله، وهو واجب على غير المجتهد في الفروع قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} 1 صح من "جمع الجوامع" ممزوجا، أيضا: والأصح الاكتفاء بخبر الواحد عن علم المجتهد وعدالته. وقال ابن الحاجب في "المنتهي": الاتفاق على استفتاء من عرف بالعلم والعدالة، أو رآه منتصبا، والناس متفقون على سؤاله وتعظيمه وعلى امتناعه في ضده. وقال ابن العربي في "الإحكام: فرض العامي أن يقصد أعلم من في زمنه بلده، فيسأله ويمتثل فتواه، وأن يجتهد في معرفة أهل وقته حتى يتصل له الحديث بذلك، ويقع عليه الاتفاق من الأكثر من الناس، وعلى العالم أن يقلد   1 سورة النحل: 43. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 470 عالما مقله في نازلة خفى عليه فيها وجه الدليل فضاق الوقت عن النظر، وخفيت على العبادة الفوت. ا. هـ. ونحوه في "المدارك" قال سند في "الطراز" الاقتصار على محض التقليد لا يرضى به رشيد، وليس بحرام معرفة الدليل على من هو أهل، ونوجب على العامي العالم وساق أدلة ذلك بواسطة. ا. هـ. بخ. فالتقليد سائغ أو واجب للضرورة، فإذا انتفت الضرورة، وجب نبذه قال ابن عبد البر في قوله عليه السلام: "يذهب العلماء ثم يتخذ الناس رؤساء جهالا يسألون، فيفتون بغير علم، فيضلون ويضلون" 1 هذا نفي للتقليد وإبطال له لمن فهم وهدي لرشده، قال عبد الله بن المعتمر: فلا فرق بين بهيمة تنقاد، وإنسان يقلد، وقال ابن عبد البر: أجمع الناس على أن المقلد ليس معدودا من أهل العلم، وأن العلم معرفة الحق بدليله. ا. هـ. ويدل لذلك آيات قال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} 2 وقال: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا} 3 وقال: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ} 4. ثم التقليد المذموم كما في "إعلام الموقعين" أنواع ثلاثة: الإعراض عن نصوص الشرع، وعدم الالتفات إليها اكتفاء بتقليد الآباء. والثاني: النظر فيها، وظهور أدلتها في حكم من الأحكام، ثم يترك ما أداه اجتهاده إليه مع أهليته للاجتهاد إلى التقليد من هو أهل لأن يقلد.   1 أخرجه البخاري "1/ 174، 175"، في العلم: باب كيف يقبض العلم، وفي الاعتصام: باب ما يذكر من ذم الرأي وتكلف القياس، ومسلم "2673" في العلم: باب رفع العلم وقبضه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤوسا جهالا، فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا". 2 سورة الأعراف: 3. 3 سورة البقرة: 170. 4 سورة البقرة: 170. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 471 الثالث: تقليد من لا يعلم أنه أهل لأن يؤخذ بقوله عند عدم قدرة المقلد على الاجتهاد وكل الثلاثة لا يجوز قال الله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} 1 قال: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا} 2 وذم التقليد في القرآن كثير، وانظر الفرق "76" من فروق القرافي تعلم ما يجوز فيه التقليد من أحد المجتهدين، وما لا يجوز وفي الفرق "78" من يجوز له أن يفتي من المقلدين ومن لا يجوز، فإنه مفيد جدا، وليس من وظيفتنا التعرض لجزئيات ذلك، وقال المسناوي في نصرة القبض، وقيل: إن العالم لا يقلد وإن لم يكن مجتهدا؛ لأنه له صلاحية أخذ الحكم من الدليل بخلاف العامي. ا. هـ. قال مقيده عفا الله عنه: إن العالم المقلد وإن بلغ من العلم ما بلغ، فإنما هو كالقمر نوره مستعار من نور الشمس وهو في حد ذاته جرم ميت مظلم لا نور له، وإنما يحكي نوره غيره كالمرآة ترسل أشعة إذا قابلت أشعة الشمس وهي أشعة كاذبة لا نفع فيها، وإنما هي صورة أشعة الشمس، فالنور الحقيقي هو نور المجتهد الذي يقتبس الحكم من الدليل عارفا بالنصوص وطرق التعليل، ولهذا كان المجتهدون في خير القرون قال عليه السلام: "خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم" 3 وهذه إشارة هذا الحديث الشريف ومعجزته الظاهرة بذهاب المجتهدين بعد الثالث أو الرابع على رواية في الحديث بزيادة ثم الذين يلونهم ثالثة.   1 سورة المائدة: 104. 2 سورة النساء: 59. 3 رواه البخاري ومسلم وغيرهما. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 472 تقليد الإمام الميت : قال في "جمع الجوامع": ويجوز تقليد الميت خلافا للإمام الرازي قال لأنه لا بقاء لقول الميت بدليل انعقاد الإجماع بعد موت المخالف، وتصنيف الكتب في المذاهب بعد موت أربابها لاستفادة طريق الإجماع من تصرفهم في الحوادث وكيفية بناء بغضها، ومعرفة المتفق عليه من المختلف فيه، وعورض بحجية الإجماع بعد موت المجمعين، وقال الشافعي: المذاهب لا تموت بموت أربابها، وثالثها: إن فقد الحي، ورابعها قال الهندي: إن نقله عنه مجتهد في مذهبه. ا. هـ. ولعل محل الخلاف غير القادر على الاجتهاد، وروى أبو عمر بن عبد البر عن علي بن أبي طالب عكس ما للرازي قال: إياكم والاستنان بالرجال، فإن الرجل يعمل بعمل أهل الجنة، ثم ينقلب لعلم الله فيه، فيعمل عمل أهل النار فيموت وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار، فينقلب لعلم الله فيه فيعمل بعمل أهل الجنة، فيموت وهو من أهل الجنة، فإن كنتم لا بد فاعلين، فبالأموات لا بالأحياء، وقال ابن مسعود: من كان منكم مستنا، فليستن بالأموات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، نقله في "إعلام الموقعين" فيكون هذا قولا خامسا يزاد على "جمع الجوامع". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 472 التزام مذهب معين وتتبع الرخص : في "جمع الجوامع" الأصح أنه يجب على من لم يبلغ الاجتهاد التزام مذهب معين يعتقده أرجح. وبعد انحصار المذاهب في الأربعة يجب تقليد واحد منه لا بعينه، لكونها دونت وحررت، ثم في خروجه عنه ثالثها يجوز في بعض المسائل. ا. هـ. وبمثل هذه الأقوال نشأ الجمود، وتأخر الفقه ويأتي لنا قريبا تعقب ما صححه ثم قال: والأصح أنه يمتنع تتبع الرخص في المذاهب بأن يأخذ من كل مذهب ما هو الأهون؛ إذ قد يقع فيما هو مجمع على حرمته، كمن يعقد نكاحا بدون ولي على قول الحنفي، وبدون صداق على بعض السلف، وبدون شهود كذلك، فقد وقع في الزنى بإجماع بحيث لو اجتمع أهل تلك المذاهب التي قلدها، لحكموا جميعا بفساده وعن أبي إسحاق المروزي إن متتبع الرخص الجزء: 2 ¦ الصفحة: 473 يفسق، وعن أبي هريرة لا قال ابن عبد السلام: لا يتعين على العامي أن يقلد إماما في سائر المسائل لأن الناس منذ الصحابة إلى أن ظهرت المذاهب يسألون من ظهر لهم من غير نكير، سواء اتبع الرخص أو العزائم؛ لأن من جعل المصيب واحدا، لم يعينه، ومن قال: كل مجتهد مصيب، فلا إنكار على من قلد في الصواب نقله في "سنن المهتدين" عن ابن عرفة رادا به قول: ابن حم: وأجمعوا على أن متتبع الرخص فاسق قال: وذلك لأن ابن عبد السلام أمام مجمع على صحه وعلمه، فلا ينعقد إجماع دونه، ونقل المواق عن القرافي ما لابن عرفة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 474 المذاهب الأربعة ليست متباعدة : زعم بعض الفرنج أنها متباعدة كتباعد فرق النصارى والكاثوليك والبروتستانت والأرثوذكس، وكتباعد الفرق اليهودية النسطورية والسامرية ونحوها، وهذا ضلال مبين يراد به التضليل، فإن فرق النصارى يكفر بعضهم بعضا، ولا يعده من النصرانية في شيء، ولا يقتدى به حتى إنه لا يصلي هذا في كنيسة ذاك وكذلك فرق اليهود، وكم وقعت بينهم من معارك وسالت من دماء. أما مذاهبنا، فليست كذلك بل يقتدي بعضهم ببعض، ويعتبر كل واحد أخاه مسلما، نعم يعتقد أنه مخطئ في بعض المسائل غير معين على القول بعدم تصويب المجتهدين، أما على القول به، فالكل على صواب في كل المسائل، وليس البون بينهم بعيدا؛ إذ لم يكن بينهم خلاف في العقائد وإنما هو خلاف ثانوي في الفروع فقط التي هي محل الاجتهاد يأخذ فيها كل واحد بما قام عليه الدليل عنده للاكتفاء في أدلتها بالظنيات، ولذلك كان كل واحد من الأئمة يجل الأخر، فقد أخذ أبو حنيفة عن مالك، كما أخذ مالك عنه وأخذ الشافعي عن مالك، وقال فيه: جعلته حجة بيني وبين ربي، وأخذ ابن حنبل عن الشافعي، وأثنى بعضهم على بعض علما ودينا، وهكذا كان جلة أصحابهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 474 بعضم مع بعضهم، ولم يقع بينهم الخلاف في كل فرع، فرع، بل في بعض الفروع التي قامت لكل حجة على رأيه. وقد اتفقوا في مسائل كثيرة، فمنها ما وقع عليه إجماع الأمة معهم ومنها ما خالفهم فيها غيرهم وتلك المسائل التي فيها الاتفاق لا تنسب إلى واحد منهم، فلا يقال في نحو وجوب الزكاة، أو جواز القراض: إنه مذهب مالك والشافعي مثلا، فالسمع يمج ذلك، فلا يضاف لكل واحد منهم إلا ما اختص به، كما نص عليه العلماء، ولذلك كان توحيد هذه المذاهب في هذه العصور صعبا أولا؛ لأن كلا له حجة، وكل أهل مذهب يمكنهم أن يصححوها ولا يلتفتوا لما يقول غيرهم من ضعفاء، ثانيا: هذه المذاهب كل مذهب في قطر إما كله، وإما محصل على أغلبية ساحقة كما تقدم، فلا معنى لأن يطلب من سكان الأقطار ترك مذهب غير مزاحم بغيره، وهو مؤبد في أفكارهم ومعتقداتهم وألفوه من نعومة أظافرهم، والفرض أننا نعتقد صوابيته في الكثير من المسائل، والبعض الآخر الذي وقع فيه الخطأ غير معين، فلذا كنت لا أرتضي فكرة توحيد المذاهب؛ لأنها فكرة لا نتيجة لها ولا تفيد المجتمع الإسلامي إلا شقاق آخر فقط، والصواب عندي هو ما تقدمت الإشارة إليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 475 هل يجوز الخروج عن المذاهب : لضرورة أو مصلحة الأمة وحال القضاء في هذه الأزمان وكيف ينبغي إصلاحه: ما تقدم عن "جمع الجوامع" من وجوب تقليد أحد المذاهب الأربعة قد انتقد العراقي والزركشي عليه تصحيحه، وصحح عدم الوجوب عز الدين والنووي قال القرافي في "شرح المحصول" وكان عز الدين يذكر في هذه المسألة إجماعين: إجماع الصحابة على أنه يجوز للعامي الاستفتاء بكل عالم في مسألة، ولم ينقل عن السلف الحجر في ذلك، ولو كان ممتنعا ما جاز للصحابة إهماله وعدم إنكاره، ولأن كل مسألة لها حكم في نفسها، فكما لم يتعين الأول للاتباع في الأولى إلا بعد سؤاله، فكذلك في الأخرى والثاني: إجماع الأمة أن من أسلم لا يجب عليه اتباع إمام معين، فإذا قلد معينا، وجب أن يبقى ذلك التخير المجمع عليه حتى يحصل دليل على رفعه ولا سيما والإجماع لا يرفع إلا بما هو مثله في القوة، وقال العراقي: نقلا عن النووي: الذي يقتضيه الدليل أنه لا يلزم الشخص التمذهب بمذهب، بل يستفتي من شاء، لكن من غير تتبع الرخص، نقله المسناوي في نصرة القبض. ا. هـ. وقال الشعراني في "الدرر المنثورة" لم يبلغنا عن أحد من السلف أنه أمر أحدا أن يتقيد بمذهب معين، ولو وقع منهم ذلك المجتهد الذي أمر الخلق باتباعه وحده، والشريعة حقيقة إنما هي مجموع ما هو بأيدي المجتهدين كلهم لا بيد واحد منهم، ولم يوجب الله على أحد التزام مذهب معين بخصوصه لعدم عصمته، ومن أين جاء الوجوب، والأئمة كلهم قد تبرءوا من الأمر باتباعهم، وقالوا: إذا بلغكم حديث فاعملوا به، واضربوا بكلامنا عرض الحائط. ا. هـ. بنقل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 476 الألوسي في "جلاء العينين" ونحوه في "إعلام الموقعين" وأطال في ذلك. وعمل الأئمة شرقا وغربا هو على ما قاله ابن عبد السلام، فلا تجد أهل مذهب إلا وقد خرجوا عن مذهب إمامهم، إما إلى قول بعض أصحابه، وإما خارج المذهب؛ إذ ما من إمام إلا وقد انتقد عليه قول أو فعل خفي عليه فيه السنة، أو أخطأ في الاستدلال، فضعفه مذهبه، قال المعتمر بن سليمان، رآني أبي أنشد شعرا، فنهاني فقلت له: إن الحسن وابن سيرين قد انشدا الشعر، فقال: أي بني إن أخذت بشر ما في الحسن وابن سيرين اجتمع فيك الشر كله، فما من إمام إلا وقد خولف مذهبه في بعض مسائل إما دليل، وإما لضرورة أو حاجة، وهذه شهادة اللفيف التي جرى بها العمل وبيع الصفقة وغيرها من المسائل كلها جارية على هذا، كذلك القضايا الجارية على القول الضعيف، وبهذا تعلم أن ما فعلته، الدولة العثمانية من تأليف قانون يدعى المجلة طبع سنة "1305" خمس وثلاثمائة وألف بالأستانة خارجة في بعض مسائله عن مذهب أبي حنيفة سالكة فيه قولا من أقوال أحد أئمة الإسلام، إما من الأربعة أو غيرهم ليس حائدا عن الصواب إذا كان على هذه الصفة. وكان القصد منه ضبط نصوص الأحكام التي يتلاعب بها المفتون والقضاة بأنواع التأويل وتطبيقها على القضايا حسب الأهواء والشهوات والأغراض، حتى إن القضية الواحدة يحكم فيها القاضي اليوم بالإباحة، وغدا بالمنع، ويجد في النصوص فسحة وإجمالا تسوغ له الوصول إلى ما بيد الطالب للإباحة أو الطالب للمنع من غير حياء ولا احتشام. وكم رأينا لهذا من نظير فإذا كان سن أمثال القوانين لضرورة اقتضاها الحال وروح العصر، فمن يقلد عالما لم يذنب، وهكذا ينبغي للأئمة أن يراعوا حالة الضرورات فيما تقضيه النظامات الوقتية، والأحوال العمومية لمجارات الأمم المتمدنة في مضمار الترقيات العصرية، وكثير من أحكام الشرعية لا سيما المعاملات والأحكام الدنيوية فيها مرونة مناسبة لحال التطور لإنبائها على أعراف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 477 وعوائد تتغير بتغيرها، قال تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} 1 وقال عليه السلام: "كلي وولدك بالمعروف" 2 وكل حكم بني على عرف أو عادة فإنه يغير بتغيرها، وفي البخاري في كتاب البيوع: باب من أجرى أمر الأمصار على ما يتعارفون بينهم في البيوع والإجارة ... إلخ وساق أدلة على ذلك. ثم إن الشريعة عامة صالحة لكل أمة، وكل زمان، فلا بد أن تتبع أحكامها الدنيوية الأزمان والأمم، لحفظ المصالح العامة، وحفظ البيضة، وارتقاء نظام المجتمع، وإن لم نعمل بهذا، جنينا على الشريعة جناية لا تغتفر، مثلا الرقيق كان تملكه مباحا لا واجبا في صدر الإسلام حيث كان الإسلام يعامل الأمم الأجنبية بمثل عملها، أما الآن فمنعه واجب لمصلحة عامة، ولا معنى لتعصب بعض العلماء في ذلك، فليس منعه خرقا لقاعدة من قواعد الإسلام الخمس، وأين هو الرقيق الذي يجادلون فيه هو كشيء محال، وكذا أخذ العين عن زكاة الماشية والحبوب جريا على مذهب أبي حنيفة والبخاري وبعض المالكية وأدلتهم من السنة ثابت لا يهدم أصلا من أصول الدين، وقتل المسلم بالكافر المعاهد جريا على مذهب أبي حنيفة، وله أدلة كتابا وسنة، وكفى قوله تعالى: {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} 3 وقبول شهادة المعاهدين بعضهم على بعض جريا على قوله أيضا، وله دليله، بل قبول شهادة الكافر على المسلم، خليل: وقبل للتعذر غير عدول وإن مشركين، فأمثال هذه الأحكام هي جارية اليوم أحب الفقهاء أم كرهوا، فلأن نجعل لها مخرجا وتجري على نظام، وباسم الشريعة خير من تعصب لا فائدة منه سوى العزلة، وسقوط هيبة الإسلام، ونبذ أحكامه كليا. فتأملوا رحمكم الله في أحوال وقتكم، وليس في إمكانكم إدارة الفلك   1 سورة الأعراف: 199. 2 صحيح: أخرجه البخاري "9/ 444، 445"، بشرح الفتح، ومسلم "1714" من حديث عائشة قالت: قالت هند امرأة أبي سفيان للنبي صلى الله عليه وسلم: إن أبا سفيان رجل شحيح، وليس يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم؟ قال: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف". 3 سورة المائدة: 45. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 478 حسب إرادتكم، ولا يجوز للعلماء أن يضيقوا على الأمة أو الدولة فيما لا مندوحة عنه وفيما به حياة الهيئة الاجتماعية "فإن خلاف علماء الأمة رحمة"1 "وإن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يجب أن تؤتى عزائمه" 2 وإذا كان القاضي يحكم بالضعيف لدفع مفسدة، أو خوف فتنة، أو نوع من المصلحة، فالإمام أولى؛ لأن القاضي إنما هو نائبة لكن لا ينبغي الترخيص في ذلك إلا عند التحقيق بمصلحة عامة، لا خاصة إبقاء لهيبة الشرع الأسمى، مثلا الحنفية لا يجوزون القياس في الحدود، وقد دعت ضرورة الوقت لسن زواجر من ضرب وحبس لمن فعل جرائم غير مذكورة في الكتاب والسنة كتأديب وال ارتشى، أو عامل، أو أمين اختلس مال الدولة، أو نحو هذا، فلا بأس بالحنفي أن يقلد مالكيا يرى أن الإمام يعزر لمعصية الله أو آدمي بأنواع التعازير، ثم تقدر تلك التعازير، وتبين بأنواعها، وتكون جارية على القوي والضعيف، لتنضبط الحقوق اقتداء بما فعل عمر من الزيادة في حد الخمر لما لم يبق كافيا بعدما استشار الصحابة، وتقدم ذلك صدر الكتاب، لكن هذا بعد تحقيق الضرورة ووقوعه من أهل الكفاءة والنزاهة والعلم والنظر، كما أن العقوبة بالمال قال بها عدد من الأئمة. وكفى بما كتبه الرزلي فيها وإن أنكره من كرون، فله أدلته، فإن كان الجري على قوله يفيدنا مصلحة أو يدفع مضرة، فالحاجة في المذهب بمنزلة الضرورة، فلا مانع من التمسك بما تمسك به البرزلي ومن قبله، وإذا كانت التعازير تكون في الظهر، وبالسجن باجتهاد الحاكم، فالمال أهون، وفي المذهب المالكي من ذلك بعض فروع كأجرة العون تحمل على المال ولا مانع على أن تقاس عليها صوائر الدعوى كلها إذا تبين لدد الخصم وتشغيبه، فكما أن صوائر هذه الدعاوى لم يكن في الصدر الأول وحدث، قبلتموه، وأكل منه القضاة وعدولهم، بل   1 قال شيخ الإسلام موفق الدين بن قدامة المقدسي صاحب "المغني" في كتابه "لمعة الاعتقاد" إن الاختلاف في الفروع رحمة، والمختلفون فيه محمودون في اختلافهم، مثابون في اجتهادهم رحمة واسعة، واتفاقهم حجة قاطعة. 2 حديث صحيح: أخرجه الإمام أحمد من حديث ابن عمر، وصححه ابن حبان، وله شاهدان من حديث ابن عباس وابن مسعود عند الطبراني. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 479 تمولو فلا مانع من حملها على الظالم، الذي هو أحق بالحمل، ولا موجب لحملها على المظلوم، فهو ضلال في الدين لم يكن في زمنه عليه السلام، ولا زمن الخلفاء ولا الصدر الأول تقيد مقال، ولا تقيد جواب، وإنما كان القضاء كما قال عليه السلام في الصحيح عن أم سلمة: "إنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون أبين بحجته من بعض، فأقضي على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق أخيه شيئا فإنما أقطع له قطعة من نار فلا يأخذها" 1 بعد ذلك حدث تقيد المقال والزيادة فيه، وحصره، وطلب بيانه وحصر الطلب، ورفع طلب البيان للمحكمين، فلا يصل المسكين طالب الحق للجواب حتى يصير شطر ما يطلب فضلا عن الحكم، فكما أحدثتم للحكم أجرة ثم أجرة أخرى لاستئنافه، وأجرة على الفتوى، وعلى الشهادات ونحو ذلك، وأحدثتم الصوائر. فالواجب أن تجعلوها من المبطل الذي تسبب فيها، ولا تضيعوا حق المظلوم، وتحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور، لكني أظن أنه لو جعلت الصوائر على المبطل، لقلت الدعاوى، وكسد القضاة والمفتون، لذلك تركوا ذلك على الطالب، والله أعلم بالحقائق. وهذا كله قد دعت الضرورة أو الحاجة إليه وإلا فلا يجوز الإفتاء ولا القضاء إلا بالمشهور، أو الراجح إلا لضرورة كما سبق، نعم عند تحقق الضرورة أو المصلحة تعينت الفتوى بقول ولو ضعيفا ولأجل الضرورة تذكر الأقوال الضعيفة في الكتب الستة الفقهية، بل قدمنا قبيل ترجمة التقليد أنه يتعين على الأمة الإسلامية تهيئة رجال مجتهدين، وإن ذلك متيسر ليكونوا عونا على تحسين القضاء والأحكام، وسن الضوابط والقوانين النافعة المطابقة للشريعة المطهرة، وروح العصر، وللمصالح العامة، مراعي فيها العدل، وإتقان النظم، ليجددوا للأئمة مجدها، ويسلكوا بها سبيل الرشاد، ويزيلوا عنها قيود الجمود المضر، ويعرفوا كيف يخلصونها من مستنقعات الأوهام، ومزال الأقدام، ويحفظوا بيضتها من الاصطدام، فإنه إن بقي قضاؤنا وأحكامنا على ما هي عليه   1 أخرجه البخاري "5/ 212" بشرح الفتح، ومسلم "1713". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 480 من الفوضى من رقة الديانة، صار الناس إلى القوانين الوضعية، ونبذوا الشريعة ظهريا، وساء ظنهم فيها مع أنه لا ذنب على الشريعة التي فتحت باب الاجتهاد، وباب المصالح المرسلة ونحوها، وإنما الذنب على بعض من العلماء المقلدين الجامدين المتعصبين الذين جعلوا الدين أحبولة، ولا عيب على المتقدمين والسلف الصالح رضوان الله عنهم. وليس مالك أو الشافعي، أو أبو حنيفة برسل بعثوا كل إلى قطر أو مملكة لا تجوز مخالفتهم، كما قال عز الدين بن عبد السلام أولهم في أرض الله مناطق نفوذ لا يعدوها غيرهم، وإنما هي آراء أخذوها بحكم الاجتهاد، وتحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا، وشريعة نبينا صلى الله عليه وسلم ليست شريعة جمود وآصار، كما كانت شريعة بني إسرائيل، ولا هي شريعة مانعة للأمة من الترقي والتطور مع الأحوال، بل شريعة صالحة لكل زمان وكل مكان وكل أمة، فلذا كانت بعثته عليه السلام عامة لسائر الأمم إلى قيام الساعة، وذلك لا يتأتى مع الجمود؛ لأن العالم كله متغير ومتطور. ولذلك كان فيها الناسخ والمنسوخ بسبب ما كان في الزمن النبوي من تغيرات الأحوال، وقد قال ابن عباس في قوله تعالى: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} 1 إن هذه الآية يعود العمل بها في آخر الزمان، ولهذا أيضا كان من أصولها سد الذرائع، والمصالح المرسلة، والقياس، والاستحسان، إلى غير ذلك مما تقدم. وقد أفتى بعض علماء أفريقية بجواز المعاملة الفاسدة إذا عم الفساد، نعم ما هو صريح القرآن والإجماع والسنن المتواترة، أو المجمع عليها أو الصحيحة، والأحكام التي اتفقت الأمة على العمل بها وتأييدها، فلا سبيل للخروج عنه، وكذلك كل ما لم تحوجنا ضرورة للخروج عنه من قول راجح أو مشهور مذهبي، فلا منافاة بين ما هنا وبين ما سيأتي في ترجمة: هل انقطع الاجتهاد؟   1 سورة المائدة: 105. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 481 حكم التصوير ونصب التماثيل بالمدن لعظماء القوم : مما يتصل بما سبق أنه سألني صدر وزراء الدولة التونسية بحضرة سادة أعلام وذوات أعيان سنة 1336 عن حكم التصوير؟ فأجبته: إن تصوير الأرض والشجر والجبال وغيرها من الجمادات لا بأس به، أفتى به ابن عباس كما في "الصحيح"1 ولنترخص للضرورة في التصوير الشمسي كله ولو حيوانا، وإنسان على ما فيه من الخلاف، وقوة القول القائل بالكراهة أو المنع، وقد قال القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق: كل ما لا ظل له فلا بأس باتخاذه كما رواه عنه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح2 وفي صحيح البخاري: إن زيد بن خالد الجهني علق في بيته سترا فيه تصاوير، مستدلا بقوله عليه السلام: "إلا رقما في ثوب" 3 ويدل للجواز أيضا حديث عائشة عند أحمد وغيرها أنها اشترت نمطا فيه تصاوير، فأرادت أن تصنعه حجلة، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "اقطعيه وسادتين" قالت: ففعلت، فكنت أتوسدهما، ويتوسدهما النبي صلى الله عليه وسلم4. ونحوه في الصحيح على اختلاف في الرواية يعلم من كتاب اللباس في البخاري5، وكتاب المظالم، وبدء الخلق، ولنحمل الحديث على العموم كما هو ظاهر، ويدل له ما رواه أحمد أيضا عنها: كان لنا ستر فيه تماثيل طير، فقال رسول الله:   1 أخرجه البخاري "4/ 345" بشرح الفتح في البيوع، باب بيع التصاوير التي ليس فيها روح وما يكره من ذلك. 2 ذكره الحافظ في "الفتح" "10/ 326". 3 أخرجه البخاري "10/ 328"، بشرح الفتح، ومسلم "2106" "85". 4 هو في المسند "6/ 112"، ورجاله ثقات، وسنده حسن. 5 "10/ 325"، "328". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 482 "يا عائشة حوليه، فإني إذا رأيته ذكرت الدنيا" وكانت لنا قطيفة، يلبسها تقول علمها حرير1، فهذا دليل ترخصنا من السنة ومن النظر لما يدعو إليه الحال من ضرورة العصر، فإن التصوير الشمسي، صار ضروريا في الأمور التعليمية بالمدارس، والسياسة والحربية والتاريخية، ومنعه منع للأمة من رقي عظيم، والوقت الحاضر لا يقبله بحال، ولم يكن في الزمن النبوي، فليقلد القول الذي يقول بإباحته بناء على أن الأصل في الأشياء عدم المنع، ولأجل الحاجة أيضا. فقال لي: فما تقولون في الصور المجسمة ذات الظل؟ فإن الأمم المتمدنة يعيبون علينا منعها، وهي تذكار عظماء الرجال فقلت له: يا سيدي قد نهى الشرع عنها نهيا صريحا، وحكى ابن العربي المالكي الإجماع على المنع، ولا ضرورة تلجئنا إليها، نعم ما كان منها داخلا في باب التعليم، فقد يرخص فيه قياسا على ما وردت الرخصة فيه من الصور التي تلعب بها البنات2 لتعلم التربية فقفوا رعاكم الله بنا عند حد الضرورة، ولا تحيوا سنن الوثنية بنصب الهياكل في الميادين العمومية، ولا ضرورة تدعو لذلك أما التنويه بعظماء الرجال، فأعظم تنويه بهم أن نبني مدرسة باسمهم مثلا.   1 هو في المسند "6/ 49" "35"، وسنده صحيح. 2 أخرج البخاري "4/ 175" بشرح الفتح، ومسلم "1136" من حديث الربيع بنت معوذ بن عفراء قالت: أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار التي حول المدينة "من كان أصبح صائما فليتم صومه، من كان أصبح مفطرا فليتم بقية يومه" فكنا بعد ذلك نصومه، ونصوم صبياننا الصغار منهم، نضع لهم اللعبة من العهن، فنذهب به معنا، فإذا سألونا الطعام، أعطيناهم اللعبة تلهيهم حتى يتموا صومهم، وأخرج البخاري "10/ 437" في الأدب: باب الانبساط إلى الناس عن عائشة رضي الله عنها قالت: كنت ألعب البنات عند النبي صلى الله عليه وسلم، وكان لي صواحب يلعبن معي، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل ينقمعن "يتغيبن" منه، فيسربهن، "يرسلهن" إلي فيلعبن معي، وأخرجه مسلم "440". وأخرج أبو داود "4932"، بسند حسن، والنسائي في عشرة النساء "75/ 1" بسند صحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك أو خيبر، وفي سهوتها ستر، فهبت ريح فكشفت ناحية الستر عن بنات لعائشة لعب، فقال: "ما هذا يا عائشة؟ " قالت: بناتي، ورأى بينهن فرسا له جنحان من رقاع، فقال: "ما هذا الذي وسطهن؟ "، قالت: فرس، قال: "وما هذا الذي عليه؟ " قالت: جناحان، قال: " فرس له جناحان"، قالت: أما سمعت أن لسليمان خيلا لها أجنحة؟ قالت: فضحك حتى رأيت نواجذه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 483 والتاريخ كفيل بنشر مآثرهم، وليس التمدن في تقليد المتمدين تقليدا أعمى في كل ما فعلوا، فهذا مذموم، وأنتم تعيبون على مقلدة العلماء، بل الواجب أن نأخذ ما لنا فيه فائدة، وندع ما لا فائدة فيه، وهم نفسهم متضايقون من عوائد وقوانين تمدنية كرفع الحجاب وسهريات الرقص، وها نحن نراهم يمنعون الخمر، ويفكرون في إباحة تعدد الزوجات والطلاق، فأي رقي. وأي ضرورة تلجئنا لنصب تمثال تذكار لوطني نحصل على تذكار بما هو أنفع، بل نصب التماثيل عندهم من الأمور التحسينية لا من الحاجية، ولا من الضرورية. وفي "الصحيح" أن أم حبيبة وأم سلمة رأتا كنيسة ببلاد الحبشة تسمى مارية فيها تماثيل، فقال صلى الله عليه وسلم: "أولئك قوم كانوا إذا مات فيهم الرجل الصالح، صوروا له تلك الصور، هم شرار الخلق عند الله" 1 وليس كل ما يعب يكون عيبا، وليس كل ما عابونا به مما هو عيب تجنبناه، وليس كل ما نفعهم ينفعنا، بل ما لم يهدم أصلا شرعيا، فاستحسن الحاضرون الجواب، بل وكذلك السائل حفظه الله؛ لأنهم ناس منصفون ما رأيتهم بأن الحق إلا وطأطئوا له سراعا، وإني لأرجو نجاحهم لمحاسن أخلاقهم، والله يبقيهم، ويأخذ بيدهم في ترقيتهم. المفتى هل يلزم أن يكون مجتهدا: قد قسم ابن رشد في أجوبته المفتين إلى ثلاثة أقسام: الأول: المجتهد المطلق القادر على أخذ الأحكام من أدلتها الشرعية: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، والاستدلال، وهذا يجوز له الإفتاء عموما، ويولى القضاء وغيره من الولايات. الثاني: طائفة اعتقدت صحة مذهب مالك تقليدا تحفظ مجرد أقواله، وأقوال أصحابه دون معرفة الأدلة، ولا تمييز الصحيح من تلك الأقوال من غيره،   1 أخرجه البخاري "1/ 444" في الصلاة: باب الصلاة في البيعة، ومسلم "528" في المساجد: باب النهي عن بناء المساجد على القبور، واتخاذ الصور فيها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 484 وهذه لا يجوز لها الإفتاء بمجرد التقليد من غير معرفة الدليل؛ لأنه إفتاء بغير علم، نعم يجوز لها أن تعمل في خاصة نفسها إن لم تجد مفتيا مجتهدا، فإن اختلف قول مالك أو أصحابه في مسألة، فيجري حكمه على حكم العامي إذا استفتى العلماء، واختلفوا عليه هل هو مخير أن يأخذ بقول أحدهم، أو يجتهد بقول أعلمهم، أو يأخذ بأغلظ الأقوال تحريا؟ وهذا الذي قاله ابن رشد من حرمة الإفتاء على أهل هذه الطائفة يوجب حرمة الإفتاء على أهل العصر، بل هذه العصور منذ انقطع الاجتهاد فيما زعموا إلى الآن، ولا يخفى ما في ذلك من زيادة إتلاف الدين، والقضاء عليه، وتتعذر الحقوق، وللضرورة يقبل غير العدول، وربما قبل الكافر في الشهادة، فيقاس على ذلك قبول غير المجتهدين في الفتوى من باب أحرى، ولذلك خالفه غيره، فقال بجواز الإفتاء للمقلد عند عدم المجتهد كجواز ولايته القضاء. وعلى هذا درج صاحب "المختصر" في القضاء حيث قال: وإلا فأمثل مقلد، فحكم بقول مقلده. وعلى هذا عياض والمازري، وابن العربي وغيرهم، ولا أظن ابن رشد نفسه يخالفهم حيث اشترطوا في الجواز فقد المجتهد، وعليه فإذا وجد المجتهد، فلا سبيل لإفتاء المقلد ولا لتوليته القضاء؛ لأن المجتهد يحكم عن علم، والمقلد عن جهل. وهذا إذا كان المجتهد مؤتمنا عدلا، وإلا فلا عبرة باجتهاده إلا لنفسه على الصحيح، ونقل ابن عرفة عن ابن زرقون وابن رشيد صحة تولية المقلد قاضيا مع وجود المجتهد، ونقل عن ابن العربي وعياض والمازري عدم الصحة. قال: وهو محكي أئمتنا عن المذهب، قال: ومع فقده جائز، ومع وجوده، فالمجتهد أولى اتفاقا نقله في "الاختصار". الثالث: من يكون مقلدا لمالك وهو يعلم من أقواله وأقوال أصحابه ما هو جار على أصوله، وما هو سقيم غير جار على ذلك، ولكن لم يبلغ معرفة القياس ونحوه من الأدلة بحيث لا يقدر أن يقيس الفروع على الأصول وهذا ما يعرف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 485 بمجتهد الفتوى وهذه الطائفة يجوز لها أن تفتي من الأقوال بما علمت صحته، وتعمل في خاصة نفسها، ولا يجوز لها أن تجتهد لعدم القدرة منها على الاجتهاد لعدم استكمالها لآلته. ابن الحاجب في "المنتهى": اختلفوا في جواز إفتاء من ليس بمجتهد بمذهب مجتهد، فقيل: يجوز، وقال أبو الحسن: لا يجوز، والمختار أنه إن كان مطلعا على مآخذ مجتهده، أهلا للنظر فيها، جاز وإلا فلا، لنا إجماع المسلمين في كل عصر على قبول مثل ذلك. ا. هـ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 486 خصال المفتي : قال في "المنتهى": وأما المفتي: فالعلم بأصول الفقه، وبالأدلة السمعية التفصيلية، واختلاف مراتبها، وما يتوقف العلم بذلك عليه من العقليات كما تقدم. ا. هـ. هذا حد المفتي المجتهد بعدما دونت العلوم، وأما المقلد، فالمشترط فيه أنه لا بد أن يكون متوسطا في العلوم العربية، ماهرا في علوم أصول الفقه، ليعرف تطبيق النصوص على النازل، عارفا بعرف البلد التي يفتي فيها، عالما بما جرى به عملها، مستحضرا لنصوص المذهب الذي يفتي عليه، عارفا بمطلقها ومقيدها، وعامها وخاصها، ماهرا في فهم اصطلاحاتها، واندراج جزئياتها في كلياتها، سالكا سبيل الجد والتبصر، مكثرا من مطالعة أقوال الأئمة الفقهاء. وقد قال أئمة المغرب: على المفتي أن يقرأ مختصر خليل كل سنة، وإلا فلا يوثق بفتواه، ومما يتأكد على المفتي المالكي استحضار قواعد القرافي، ومنهاج الزقاق كقواعد ابن نجيم عند الحنفية، بل هذه نافعة لأصحاب المذاهب كافة، و"إيضاح المسالك" للونشريسي عند المالكية، وقواعد عز الدين بن عبد السلام، والمقري وعياض وأمثاله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 486 وأمثال هذه الكتب في سائر المذاهب هي التي تحصل ملكه الفتوى، وتوسع فكر المفتي، وترشده، وتقية مواقع الزلل. كذلك على المفتي الإكثار من مطالعة كتب الفتاوى والنوازل الواقعة، ليعرف منها كيفية تطبيق الأحكام الكلية على القضايا الجزئية؛ لأن المفتي والقاضي أخص من الفقيه، إن الفقيه كعالم بكبرى القياس من الشكل الأول، والمفتي والقاضي كل منهما عالم بها، وعارف بصغراه وهذا أشق، وفقه القضاء والفتوى محتاج إلى أعمال النظر في الصور الجزئية، وإدراك ما اشتملت عليه من الأوصاف الكائنة فيها، فيلغي ما كان من الأوصاف طرديا، ويعتمد على ما له تأثير في العلة التي شرع الحكم لأجلها، أشار لهذا ابن عرفة، وأصله لشيخه ابن عبد السلام، وفي أحكام ابن العربي عن مالك لا يكون الرجل عالما مفتيا حتى يحكم الفرائض في الدين، وعموم وقوعها بين المسلمين. ا. هـ. والمراد إتقان ذلك وإحكامه، وإلا فالمفتي لا يجوز أن ينتصب للفتوى إلا وله معرفة بأبواب الفقه كلها. وذكر الحافظ ابن بطة عن الإمام أحمد قال: لا ينبغي للرجل أن ينصب نفسه للفتوى حتى يكون فيه خمس خصال: أولاها: النية ليكون على كلامه نور. الثانية: أن يكون له علم وحلم ووقار وسكينة. الثالثة: أن يكون قويا على ما هو فيه، وعلى معرفته. الرابعة: الكفاية وإلا مضغة الناس. الخامسة: معرفة الناس وإلا راج عليه المكر والخداع والاحتيال. ومن آداب المفتي أن يتثبت، ولا يتسرع للجواب، فقد سئل مالك عن مسألة، فقال: لا أدري، فقيل له: إنها مسألة سهلة، فغضب، وقال: ليس في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 487 العلم خفيف، أما سمعت قول الله: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} 1 وقال: لا ينبغي لرجل أن يرى نفسه أهلا لشيء حتى يسأل من هو أعلم منه، وما أفتيت حتى سألت ربيعة ويحيى بن سعيد، فأمراني، ولو نهيهاني، لانتهيت، وقال: من سأل عن مسألة ينبغي له أن يعرض نفسه على الجنة والنار، وكيف يكون خلاصة في الآخرة، ثم يجيب فيها، وقال: ما أفتيت حتى شهد لي سبعون أني أهل لذلك. وهكذا ينبغي لمن انتصب لهذا المنصب الخطير، ولا يجوز للمفتي أن يفتي بضد لفظ حديث أو آية مثل أن يسأل عمن صلى ركعة من الصبح، ثم طلعت الشمس هل يتم صلاته؟ فيقول لا، والنبي صلى الله عليه سلم يقول: "فليتمها" 2 ومثل أن يسأل عمن مات وعليه صوم هل يصوم عنه وليه؟ فيقول: لا، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "صام عنه وليه" 3 وانظر في إعلام الموقعين أمثلة كثيرة من هذا النمط. ولا يجوز للمفتي أن يتبع في فتواه غرضه ومشتهاه، أو يحابي بدين الله.   1 سورة المزمل: 5. 2 أخرجه البخاري "2/ 33" بشرح الفتح، ومسلم "608" من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أدرك أحدكم سجدة صلاة العصر قبل أن تغرب الشمس، فليتم صلاته، وإذا أدرك سجدة من صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس، فليتم صلاته". وبهذا يقول الشافعي وأحمد وإسحاق، وخالف أبو حنيفة، فقال: من طلعت عليه الشمس وهو في صلاة الصبح، بطلت صلاته، وأخرجه مسلم "609" أيضا من حديث عائشة. 3 أخرجه البخاري "4/ 68"، ومسلم "1147" من حديث عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من مات وعليه صيام، صام عنه وليه" قال الحافظ ابن حجر: وقد أجاز الصيام عن الميت أصحاب الحديث وعلق الشافعي في القديم القول به على صحة الحديث، كما نقله البيهقي في "المعرفة" وهو قول أبي ثور، وجماعة من محدثي الشافعية أهل الحديث وقال البيهقي في الخلافيات: هذه المسألة ثابتة لا أعلم خلافا بين صحتها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 488 ما صارت إليه الفتوى في القرون الوسطى : قال الباجي عن بعض أهل زمانه: إنه كان يقول: إن الذي علي لصديقي إذا وقعت له حكومة أو فتيا أن أفتيه بالرواية التي توافقه، وأخبرني من أثق به أنه وقعت له واقعة، فأفتاه جماعة من المفتين بما يضره وكان غائبا، فلما حضر، قالوا: لم نعلم أنها لك، وأفتوه بالرواية الأخرى، قال: وهذا مما لا خلاف بين المسلمين المعتد بهم في الإجماع أنه لا يجوز. وراجع ما تقدم في ترجمة القفال الشاشي وغيره. إلى هذا وصلت الفتوى في زمن الباجي، ولولا الحياء يمنعني، لقصصت عليك ما عاينته حال هذا الوظيف في الجيل الذي أدركته، وكل من طالع حال المتقدمين استحيا أن ينتسب لهذا الجيل الذي ابتلينا به، وإياك أن تكون كما قال: يمدون للإفتاء باعا قصيرة ... وأكثرهم عند الفتاوى يكذلك والمكذلك: هو الذي يكتب تحت فتوى غيره: ما أفتى به المفتي أعلاه صحيح، وعليه يوافق عبد ربه فلان. وذلك لا يجوز تقليدا حتى ينظر في الفتوى، ويتحقق صوابها، ويعلم منزعها وأصلها، وإلا كان من الفتوى بغير علم، وقد حكى الشافعي وغيره الإجماع على حرمتها والله يقول: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} 1. قال ابن حزم: كان عندنا مفت قليل العلم، فكان لا يفتي حتى يتقدمه من يكتب الجواب، فيكتب تحته جوابا مثل جواب الشيخ، فقدر أن اختلف مفتيان في جواب، فكتب تحتهما، جوابي مثل جواب الشيخين، فقيل: إنهما قد   1 سورة الإسراء: 36. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 489 تناقضا فقال: وأنا أيضا تناقضت كما تناقضا. فليست الفتوى بطول الأردان، وإرخاء الذوائب كذنب الأتان، والهذر باللسان، إذا خلا الميدان. فلو لبس الحمار ثياب خز ... لقال الناس يا لك من حمار فهذا من الضرب الذين يستفتون بالشكل لا بالفضل، ويأكلون بالعمائم والأكمام لا بالعلوم والأحكام، تغج منهم الحقوق إلى الله عجيجا وتضج الأحكام من أقلامهم ضجيجا، فمن تجرأ منهم على دين الله، وأفتى أو حكم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم خصمه يوم القيامة، والله الحكم {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} 1.   1 سورة الشعراء: 27. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 490 حال الإفتاء في زماننا : إن الإفتاء في زماننا بيد الفقهاء المعروفين من أهل التقليد، ولا يوجد بينهم في مغربنا بوقتنا هذا من يدعي اجتهادا، أو رتبة ترجيح، أو يقدر أن يفوه بها إلا إن كان معتوها فيما أعلم، ولا أدري هل يوجد بغير المغرب من يدعيه. وغاية ما يشترط الآن فيمن ينتصب للفتوى أو للقضاء في إحدى العواصم الكبار أن يكون له إلمام بقواعد العربية بحيث يميز العبارة الصحيحة من الفاسدة، ويفهم دقائق معاني الكلام بحيث يعرف أن يطالع الكتب، ولا سيما مختصر خليل بشرحيه الخرشي والزرقاني وحواشيه، فإذا عرف مطالعة هذه الكتب وأحرى تدريسها، فإنه الغاية، ويعد نفسه هو ملك المغرب، فصار مختصر خليل بوقتنا وعند أهل جيلنا المنحط قائما مقام الكتاب والسنة مع أن الذي يفهم خليلا ويحصله، ويقدر على أخذ الأحكام الصحيحة منه لا شك عندي لو توجه لكتاب الله وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتمرن عليهما لكان قادرا على أخذ الأحكام منهما، فهذا الذي يشترط في وقتنا في أعلى مدرس، وأعلى قاض أما الأدنى، فكم من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 490 مفت وقاضي لا يعرف ماذا كتب، ولا ما حكم به، ولا يميز بين ما أثبت أو نفى، وإلى الله المشتكى. وكم رأيت وسمعت من فتاو، وأحكام في البوادي والمدن يضحك منها ويبكي على غربة المغرب والدين من أجلها، وإن أصحابه محتاجون للتعليم كثيرا، وقد تأفف أحمد الهلالي في وقته مفتيه، وقبله الباجي وابن حزم بكثير يعلم ذلك من طالع كتب الفتوى والتاريخ، وكل وقت هو كوقتنا هو يوجد المحسن والمتسلط إلا أن وقتنا هذا عظم فيه الجهل، وغلب الفساد، وأصبحت الفتوى بين كل من مديده إليها وتجرأ عليها ولو كانت اليد شلاء، والكف خرقاء ترسم بها من اتخذها مكسبا ومتجرا، ولا تسأل عما جرى كيف جرى. ويجب على من قلده الله أمر الأمة أن يرفع هذا المنصب عن تناول أوساخ الناس، وبيع الشريعة بما بيع به يوسف عليه السلام، فذلك باب عظيم؛ إذ الباذل للمال يتوصل إلى الاستظهار به على استمالة نصوص الشريعة نحوه ولو كان مبطلا فبيع الفتوى هادم للشرع، مفسد للمفتين، وهو مقت عظيم، وخطب جسيم، وها هي تونس أختنا لا يتصدر للفتوى بها إلا من ثبتت مقدرته ونزاهته، ويجعل له الراتب الكافي، ويمنع من تناول كل أجرة وكل هدية وهكذا ينبغي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 491 الكتب التي يفتى منها بالمغرب: إن غالب الفتوى من الكتب المتداولة، وغالب الناس لا تجد لهم رواية متصلة، وأعلى ما يوجد رواية البعض والإجازة في الباقي لبعض من لهم تبصر ومعلوم ما في الإجازة من الخلاف هل هي رواية متصلة إن وجدت؟ وقد اشترط العلماء اشتهار الكتاب الذي يفتى منه على القول بجواز ذلك بدون رواية كمختصر خليل على أن هذا حصل درجة التواتر لكثرة من يحفظه في زماننا إلا أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 491 غالب حفظه أو كلهم ليسوا مفتين، ولا بغلوا رتبة الفقهاء ومن جملة شروحه المتداولة الحطاب والمواق، وهما كتابان معتمدان إلا قليلا، وشرح الدردير، ثم "الرسالة" وشروحها لابن ناجي وزروق، وأبي الحسن، وجسوس وغيرهم. ومن الكتب المعتمدة "الموطأ" لمالك وشرحها للباجي، وشرح محمد الزرقاني وهي أم المذهب، وكذا "المدونة" وطبعت أخيرا بمصر مرتين، فجزاهم الله خيرا. ومع إحدى الطبعتين جل مقدمات ابن رشد، كما طبعوا "الأم" للشافعي، وجزى الله أهل مصر على طبع كتب المتقدمين. ومن كتب الفتوى "التحفة" لابن عاصم الغرناطي وشروحها لسيدي عمر الفاسي والتاودي ابن سودة والدسولي وميارة، وحاشية أبي علي بن رحال عليه، وشروح لامية الزقاق، والعمل الفاسي وشروحه، والعمل المطلق، و"المرشد المعين" وشرحاه لميارة، و"تبصرة" ابن فرحون إلا أن فيه بعض فتاو ضعيفة، وكل ذلك أشرنا إليه في تراجم مؤلفيه. وغالب هذه الكتب التي يفتى منها سرد الفروع بدون دليل إلا ما كان من الموطأ وشروحه والمدونة، وإني ليأخذني العجب عند مطالعة فتاوى المتأخرين يأتون بالحكم موجها بتوجيه فكري ساذج من غير استدلال عليه بنص من نصوص المتقدمين، وهكذا فروع تجدها عند الزرقاني شارح خليل وغيره، وتجد الناس يتلقون ذلك بغاية الارتياح والقبول، ولو أن أحدا أفتى بكتاب أو سنة أو قياس، لقامت القيامة عليه، ورفعت النعال إليه، فإنا لله وإنا إليه راجعون. قد تركت كتب المتقدمين التي تورد الأدلة بمالها أو عليها كمبسوط القاضي إسماعيل، و"المجموعة" لابن عبدوس، و"تمهيد" ابن عبد البر، و"طراز" سند بن عنان شرح "المدونة" و"توضيح" خليل في كثير من مسائله وأمثالها. وعلى كل حال إن الفتوى من الكتب للعدل العارف جائزة أباحها العلماء للضرورة، فانظر حكم ذلك في "نور البصر"، قال: ومن جملة ذلك طرر أبي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 492 إبراهيم الأعرج على "التهذيب" وهي من الكتب المعتمدة وطرر ابن عات على "الوثائق المجموعة" وطرر أبي إبراهيم الأعرج على "التهذيب" وهي من الكتب المعتمدة، وطرر ابن عات على "الوثائق المجموعة" وطرر أبي الحسن الطنجي على "التهذيب"، وحذروا من أجوبة محمد بن سحنون، فلا تجوز الفتوى منها بوجه من الوجه، و"التقريب والتبيين" المنسوب لابن أبي زيد، وأجوبة القرويين وأحكام ابن الزيات، وكتاب "الدلائل" و"الأضداد" قال القوري: كل ذلك باطل وبهتان قال: وقد رأيتها ولا يشبه ما فيها قولا صحيحا، وحذروا من شرحي الجزولي وابن عمر على "الرسالة" لعدم صحة نسبتهما لمؤلفهما، وحذروا من شروح الأجهوري الثلاثة على "المختصر" ألا يعتمد ما انفردت به على أنه لا ينكر فضله، ولا فضل تلاميذه الخرشي والشبرخيتي ولا سيما الزرقاني، ولكن لا يعتمد إلا ما سلمه محشوهم لكثرة الأغلاط فيها. فانظر رحمك الله هذه الأوحال التي أصبح فيها الفقه وكتاب الله بين أيدينا وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم أقرب إلينا وأسهل وأوثق من هذا كله، لو توجد لها أظافر، والله ولي التوفيق، ويأتي في مواد الاجتهاد ما يناسب أن تراجعه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 493 الاجتهاد مدخل ... الاجتهاد: هو استفراغ الفقيه الوسع لتحصيل ظن بحكم شرعي، ومعنى استفراغ الوسع: هو ما أشار إليه الشافعي بقوله: إذا رفعت الواقعة للمجتهد، فليعرضها على نص القرآن، فإن لم يوجد، فعلى نص الأخبار المتواترة، فإن لم يجد، فعلى الآحاد، فإن لم يجد، فعلى ظاهر القرآن إلخ ما تقدم في مبدأ الشافعي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 493 المجتهد، شروطه، أقسامه: هو البالغ الذكي النفس، ذو الملكة التي بها يدرك العلوم، العرف بالدليل العقلي الذي هو البراة الأصلية، وبالتكليف به في الحجية، ذو الدرجة الوسطى لغة وعربية وأصولا وبلاغة، ومتعلق الأحكام من كتاب وسنة: أي1: المتوسط في هذه العلوم بحيث يميز العبارة الصحيحة من الفاسدة، والراجحة من الموجوحة، ليتأتى له الاستنباط المقصود من الاجتهاد، وإن لم يحفظ متون آيات الأحكام وأحاديثها، وقد مات أبو بكر وعمر، وهما لم يتما حفظ القرآن، واختلفت الرواية عن علي هل حفظه أم لا؟ وتوقفوا في كثير من الأحكام حتى روى لهم غيرهم الحديث، فعملوا به. أما علمه بآيات الأحكام وأحاديثها أي مواقعها وإن لم يحفظها، فلأنها المستنبط منه، وأما علمه بأصول الفقه، فلأنه به يعرف كيفية الاستنباط وغيرها مما يحتاج إليه، وأما علمه بباقي العلوم فلأنه لا يفهم المراد من المستنبط منه إلا به؛ لأنه عربي بليغ، ولم يكن هذا مشترطا في الصدر الأول؛ لأنهم كانوا عارفين بالعربية الفصحى البليغة بسليقتهم، ولما فسدت الألسنة، تعين تعلم تلك العلوم على مريد الاجتهاد؛ إذ لا توصل إلا بها.   1 ذكره من الاكتفاء بالتوسط في هذه العلوم هو الصواب خلاف ما وقع لأبي إسحاق الشاطبي في عدد 53 من جـ4 من "الموافقات" من اشتراط بلوغ النهاية في العربية ليكون فهمه حجة، فإنه مقابل، وقد كان مالك وأبو حنيفة من أهل الاجتهاد بإجماع من يعتد به، وقد تكلموا فيهما من جهة العربية، ولم يحيطا علما بالنحو والصرف، وإنما كان عندهما ما يوصلهما لفهم أدلة فهما يوثق به وراجع ما العلماء في ترجمتيهما، ويأتي في مواد الاجتهاد عن ابن عرفة حكاية الإجماع أنه لا تشترط بلوغ درجة الإمامة في العلوم المذكورة. ا. هـ. مؤلف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 494 وقال الشيخ الإمام علي السبكي: يعتبر لإيقاع الاجتهاد لا لكونه صفة فيه كونه خبيرا بمواقع الإجماع لئلا يخرقه والناسخ والمنسوخ، وأسباب النزول، وشرط المتواتر، وخبر الآحاد والصحيح والضعيف، وحال الرواة، ويكفي في زماننا الرجوع إلى أئمة ذلك. ولا يشترط علم الكلام، ولا تفاريع الفقه، ولا الذكورة والحرية، وكذا العدالة على الأصح، لجواز أن يكون لفاسق والمرأة والعبد قوة الاجتهاد. وهذا هو المجتهد المطلق، ودونه مجتهد المذهب، وهو المتمكن من تخريج الوجوه على نصوص إمامه، وقال المحلي في محل آخر: هو القادر على التفريع والتخريج، ودونه مجتهد الفتيا وهو المتبحر المتمكن من ترجيح قول على آخر. ا. هـ. ملخصا من "جمع الجوامع" وشرحه بزيادة. وكلام السبكي مأخوذ من كلام الإمام الشافعي القائل: لا يحل لأحد أن يفتي في دين الله إلا رجلا عارفا بناسخ القرآن ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، وتأويله وتنزيله، ومكيه ومدنيه، وما أريد به، بصيرا بحديث نبي الله صلى الله عليه وسلم، وبالناسخ والمنسوخ، ويعرف من الحديث مثل ما عرف من القرآن، بصيرا باللغة، بصيرا بالشعر وما يحتاج إليه للسنة والقرآن، ويستعمل هذا مع الإنصاف، ويكون بعد هذا مشرفا على اختلاف أهل الأمصار، وتكون له قريحة بعد هذا، فإن كان هكذا، فله أن يفتي في الحلال والحرام، وإلا فلا. وقال الإمام أحمد: ينبغي للرجل إذا حمل نفسه على الفتيا أن يكون عالما بوجوه القرآن، عالما بالأسانيد الصحيحة، عالما بالسنن، وإنما جاء خلاف من خالف لقلة معرفتهم بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقلة معرفتهم بصحيحها من سقيمها، وقال في رواية حنبل: ينبغي لمن أفتى أن يكون عالما بقول من تقدم، وإلا فلا يفتي، وسئل: إذا حفظ الرجل مائة ألف حديث يكون فقيها؟ قال: لا، قال: فمائتي ألف؟ قال: لا، قال: فثلاثمائة ألف؟ قال: لا، قال: فأربعمائة ألف؟ قال بيده هكذا، وحرك يده، قال القاضي أبو يعلى: وظاهر الكلام أنه لا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 495 يكون من أهل الاجتهاد إذا لم يحفظ من الحديث هذا القدر الكثير، وهذا محمول على الاحتياط والتغليظ في الفتوى. ا. هـ. نقله في "إعلام الموقعين" لكن هذا قبل تنقيح أحاديث الأحكام التي هي أهم ما يحتاج إليه المجتهد من السنة، أما حيث أفردت مثل سنن أبي داود ومصابيح البغوي، ومشكاة ولي الدين محمد بن عبد الله الخطيب التبريزي، وأحكام عبد الحق، فقد تيسر أمر الاجتهاد جدا. قال في "إعلام الموقعين": والأحاديث التي تدور الأحكام عليها خمسمائة حديث، وبسطها وتفاصيلها نحو أربعة آلاف حديث. ا. هـ. وليس في سنن أبي داود إلا نحو أربعة آلاف حديث، وقد قال الغزالي وغيره: إنها كافية للمجتهد، وليس في مشكاة التبريزي إلا أقل من ستة آلاف حديث كما يأتي، ومن حصلها، حصل على آلة الاجتهاد بلا شك والحمد لله. أما كلام الشيخ الإمام علي السبكي، فمقابل لما صدر به في "جمع الجوامع" ويمكن رده إليه، وقد أجمع من يعتد بقوله من الفقهاء على إمامة الشافعي، وكان يرجع في كثير من الأحاديث إلى ابن حنبل وابن مهدي وكذلك أبو حنيفة ما كان يعرف كثيرا من أحاديث الحجازيين، وكذا كثير من أئمة العراق كإبراهيم النخعي مع قبولهم في صف أهل الاجتهاد، واعتبار أقوالهم. وقال الدهلوي في رسالة "عقد الجيد": قد صرح الرافعي والنووي وغيرهما ممن لا يحصى كثرة بأن المجتهد المطلق قسمان: مستقل ومنتسب ويظهر من كلامهم أن المستقل يمتاز بثلاث خصال: إحداها: التصرف في الأصول التي عليه بناء مجتهداته. الثانية: تتبع الآيات والآثار بمعرفة الأحكام التي سبق الجواب فيها واختيار بعض الأدلة المتعارضة على بعض، وبيان الراجح من محتملاته والتنبيه لمآخذ الأحكام من تلك الأدلة، والذي نرى والله أعلم أن ذلك ثلثا علم الشافعي. الثالثة: الكلام في المسائل التي لم يسبق بالجواب فيها أحد من تلك الأدلة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 496 والمنتسب من سلم أصول إمامه، واستعان بكلامه كثيرا في تتبع الأدلة، والتنبيه للمآخذ، وهو مع ذلك مستيقن بالأحكام من قبل أدلتها قادر على استنباط المسائل منها، قل ذلك أو كثر، وإنما تشترط الأمور المذكورة في المجتهد المطلق يعني بقسيمه. وأما الذي هو دونه في المرتبة فهو مجتهد في المذهب، وهو مقلد لإمامه فيما ظهر فيه نصه، لكنه يعرف قواعد إمامه وما بنى عليه، فإذا وقعت حادثة لم يعرف لإمامه فيها نصا، اجتهد على مذهبه، وخرجها من أقواله وعلى منواله. ودونه في المرتبة: مجتهد الفتيا وهو المتبحر في مذهب إمامه، المتمكن من ترجيح قول على آخر، ووجه من وجوه الأصحاب على آخر. ا. هـ. فقد زاد رتبة رابعة وهي المجتهد المنتسب كما علمت وهو دون المجتهد المستقل، فالمنتسب له القدرة على الاستنباط من نصوص الكتاب والسنة رأسا، آخذ بقواعد الإمام الذي انتسب إليه، مقلد له فيها ولا ضرر على الاجتهاد مع التقليد في بعض القواعد المتعلقة بمسألة اجتهد فيها كما قال ابن القيم وأبو إسحاق الشاطبي في "موافقاته" في مبحث أنه لا يلزم المجتهد في الأحكام الشرعية أن يكون مجتهدا في كل علم يتعلق به الاجتهاد على الجملة. قال في هذا المبحث: إن العلماء الذين بلغوا درجة الاجتهاد عند عامة الناس كمالك والشافعي وأبي حنيفة كان لهم أتباع أخذوا عنهم وانتفعوا بهم، صاروا في عداد أهل الاجتهاد مع أنهم عند الناس مقلدون في الأصول لأئمتهم، ثم اجتهدوا بناء على مقدمات مقلد فيها، واعتبرت أقوالهم، واتبعت آراؤهم، وعمل على وفقها مع مخالفتهم لأئمتهم وموافقتهم، فصار قول ابن القاسم أو قول أشهب أو غيرهما معتبرا في الخلاف على إمامهم كما كان أبو يوسف ومحمد بن الحسن مع أبي حنيفة والمزني والبويطي مع الشافعي إلخ فانظره غير أنه في العدد 81 من الجزء الرابع تردد فيهم: هل بلغوا درجة الاجتهاد بإطلاق أم لا؟ فانظر وراجع ما تقدم لنا في ترجمة ابن القاسم من الجزء 2 ونحوه لابن القاسم في "إعلام الموقعين" عدد 443 من الجزء الأخير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 497 والصحيح أنه يجوز تجزؤ الاجتهاد بأن يصل لبعض الناس قوة الاجتهاد في بعض الأبواب دون بعض بأن يعلم أدلة ذلك الباب باستقراء منه، أو من مجتهد كامل، وينظر فيها كالفرائض، وقد كان زيد بن ثابت مشهورا بالفرائض، وعبد الله بن عمر بالمناسك، وعلي بن أبي طالب بالقضاء وتوقف مالك وأبو حنيفة في كثير من المسائل، وقالا: لا ندري. انظر "المنتهي" لابن الحاجب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 498 مواد الاجتهاد، تيسر الاجتهاد، الطباعة، كتبه: قال ابن عبد السلام في فصل التحكيم من شرح ابن الحاجب: مواد الاجتهاد في زماننا أيسر منه في زمن المتقدمين لو أراد الله الهداية، ولكن لا بد من قبض العلم على ما أخبر به الصادق صلوات الله عليه. ابن عرفة: ما أشار إليه من تيسر الاجتهاد هو ما سمعته يحكيه عن بعض الشيوخ أن قراءة مثل الجزولية1، والمعالم الفقهية، والاطلاع على أحاديث "الأحكام الكبرى" لعبد الحق ونحو ذلك يكفي في تحصيل الاجتهاد. قال عرفة: يريد مع يسر الاطلاع على فهم مشكل اللغة بمختصر العين و"الصحاح" للجوهري ونحو ذلك من كتب غريب الحديث ولا سيما مع نظر كلام ابن القطان وتحقيق أحاديث الأحكام. وبلوغ درجة الإمامة أو ما قاربها في   1 الجزولية بضم الجيم نسبة إلى الإمام عيسى بن عبد العزيز يللبخت البربري المراكشي الجزولي، كان إماما في العربية لا يشق له غبار، له المقدمة المشهورة وهي حواش على جمل الزجاجي، وقال بعضهم: ليس فيها نحو، وإنما هي منطق لحدودها وصناعتها العقلية توفي سنة 607 سبع وستمائة. ا. هـ. من بغية الوعاة بخ وأما متن ابن التلمساني، فلعله، "مفتاح الوصول إلى بناء الفروع على الأصول" تأليف الشريف أبي عبد الله محمد بن أحمد التلمساني المتوفي سنة 771 إحدى وسبعين وسبعمائة وهو متن من أحسن ما ألف فيه نحو خمس كراريس، أنفع شيء في بابه وأجوده. ا. هـ. المؤلف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 498 العلوم المذكورة غير مشترط في الاجتهاد إجماعا. ا. هـ. وقال أبي في أقضية شرح مسلم ما نصه: وكان ابن عبد السلام يحكي أن من الشيوخ من كان يصعب الاجتهاد، ومنهم من كان يسهل أمره، وإليه كان يذهب الشيخ ابن عرفة، ويرى أنه يكفي من مادته النحوية مثل الجزولية والأصولية متن ابن التلمساني. قال: وأما الحديث، فهو اليوم سهل؛ لأنه قد فرغ من تمييز صحيحه من سقيمه، فإذا نزلت به مسألة أم الولد مثلا، فيكفيه أن يجمع من المصنفات "الأحكام الكبرى" لعبد الحق، وينظر ما فيها، ويكفيه فيه تصحيح مؤلفه، ولا يلزمه نظر ثان في سنده، ولا يكون مقلدا في ذلك. قالوا: ويكتفى في معرفة الإجماع بالنظر في كتب الإجماع الموضوعة فيه كإجماع ابن القطان. وكان الشيخ يقول: إذا أحضر هذه المصنفات للنظر في النازلة، فإنه يجتمع لديه من الأحاديث فيها ما لا يكاد يحضر مالكا، قال: وأنسب من رأيته على هذه الصفة يعني في المشاركة في هذه المواد ابن عبد السلام وابن هارون. ا. هـ. وممن كان يصعب الاجتهاد الإمام الشافعي وأحمد بن حنبل بما شرطاه في ذلك الباب قبله، ونحى نحوهما الشيخ الإمام علي السبكي، وذلك كله مقابل للمشهور الذي صدر به في "جمع الجوامع" واعلم أن مواد الاجتهاد اليوم في القرن الرابع عشر أيسر مما كان في زمن الأبي وابن عرفة ومن قبلهما بسبب أهل الفضل الذين اعتنوا بالمطابع، وطبعوا الكتب المعينة على الاجتهاد، وأن طهور الطباعة نقل العلم من طور إلى طور، وقد كان المتقدمون يعانون مشاق عظيمة في كتب الكتب، ويحتاجون لمادة مالية وزمن طويل أما بعد ظهور الطباعة عندنا أواسط القرن الماضي، فقد تيسر ما كان عسيرا إلا أنها وجدت الأمة في التأخر، والفقه في الاضمحلال، والهمم في جمود، فكأننا لم نستفد منها شيئا، فإذا قسنا ما استفدناه منها، ودرجة الرقي التي حصلت بسبب ظهور الكاغد كما قدمناه في القسم الثالث من هذا الكتاب حكمنا بأننا لم نتقدم خطوة تعتبر، وتناسب ما تقدمه غيرنا من الأمم، ورغما عن ذلك فقد وجدت كتب كانت أعز من بيض الجزء: 2 ¦ الصفحة: 499 الأنوق، وانتشرت ولا سيما كتب الحديث، فقد طبعوا الكتب الستة و"الموطأ" وشروحها، ومسند أحمد، ومعه "كنز العمال" الذين هما من أجمع الكتب لما يحتاج إليه المجتهد من السنة، وطبعوا في الهند "مستدرك الحاكم" وتلخيصه للذهبي، كما طبع مسند أبي داود الطيالسي، وطبقات الإمام ابن سعد، وعلل أبي حاتم، وكتب بالرجال للذهبي وغيره، ومسند الشافعي، والأم مسند أبي حنيفة، وغيرها من كتب المتقدمين ثم "تيسير الوصول إلى جامع الأصول" لابن الديبع وهو وحده كاف، وعمدة الأحكام وشرحها وغير هذا مما يطول تعداده من كتب الحديث المعتمدة وكفى بكتاب المشكاة للتبريزي المشتمل على أحاديث "5495" وهي معظم ما يحتاجه المجتهد وشرحها لعلي القاري، ففيه تحقيق أحاديث الأحكام ومخرجيها، وعلل ما أعل منها، وعلى الناظر فيه أن لا يغتر بتعصبه لمذهبه، بل ينظر فيه نظرا استقلاليا. فإذا ضممت ذلك إلى "تيسير الوصول" السابق تجده كافيا وافيا، وربما لم يحصل عليه مجتهدو العصر الأول إلا بعد عناء كثير، وزمن ليس بيسير. ولو أنه كان متيسرا لكل مجتهد، لقل الخلاف، ولم يبق كثير من الاعتساف، ولا يستهان بـ"بلوغ المرام" وشرحه "نيل الأوطار" للشوكاني، فهناك غاية وطر المجتهد، إلى ذلك من الكتب التي طبعت وسهل تناولها، وجزى الله السادات الهنود خيرا، فقد اعتنوا بكتب السنة وطبعوها وأتقنوا كثيرا منها، ثم المصريين، فلهم جميعا على السنة اليد البيضاء، والمنقبة العصماء، ومن تلك الكتب ما كرر طبعه بمصر والهند وأوربا. وإني لآسف لكون المغرب لم يعتن بطبع كتب الحديث، ولمستشرقي أوروبا فضل في الطباعة معروف في كتب السنة لم يكن مثله للمغرب، وقد كان الواجب أن يضرب بسهم مصيب، وإنما اعتنى بكتب الفروع ونحوها من علوم الآلة، ولم يتقنها، ونسأل الله أن يفتح البصائر. ومن الكتب التي تعين على الاجتهاد جدا أحكام ابن العربي في تفسير وآيات الأحكام الفقهية من القرآن العظيم، وأحكام الجصاص الحنفي، وتفسير ابن جرير الطبري، ونهاية ابن الأثير، وكتاب "بداية المجتهد" لابن رشد الحفيد، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 500 وكتاب "القاموس المحيط" في اللغة وشرحه و"أساس البلاغة" للزمخشري و"فتح الباري" على صحيح البخاري، فهو من مواد الاجتهاد المعتبرة، وكتاب "المنتقى" للباجي الذي يرشد إلى طريق الاجتهاد والتعليل والقوادج وغير ذلك، وكتاب "إعلام الموقعين" لابن قيم الجوزية من أحسن ما يدرب على الاجتهاد، ويوضح طريق الرشاد لولا ما فيه من التحامل على الحنفية والأشعرية، وقد صرح الإمام الغزالي بأن سنن أبي داود السجستاني كافية للمجتهد، مغنية عن غيرها، نقله أول شرح المشكاة لابن سلطان القاري ومن كتب هذا الشأن كتاب "التحقيق" في أحاديث التعليق لابن الجوزي الذي اشترط فيه على نفسه أن يخرج ما ذكره فقهاء المذاهب تعليقا من أحاديث الأحكام، ويتكلم عليها من غير تعصب لمذهب على مذهب، وكتاب "تنقيح التحقيق في أحاديث التعليق" للحافظ شمس الدين أحمد بن عبد الهادي، فإنه مفيد جدا لمن يعني بأحاديث الأحكام فحص به كتاب التعليق، أبدى ما لابن الجوزي من الأوهام. ثم لا بد للمجتهد أن يعرف الناسخ والمنسوخ من القرآن والسنة، أما القرآن فتقدم لنا صدر الكتاب أنه لم يتعين النسخ إلا في بضعة عشر آية قد سلفت مبينة، ولابن حزم كتاب مطبوع في الناسخ والمنسوخ من القرآن، وأما السنة، فقال ابن القيم: إن النسخ الواقع في الأحاديث التي اجتمعت عليها الأمة لا تبلغ عشرة أحاديث البتة، بل ولا شطرها كما سبق، وهذا بحسب نظره ولا يخلو من المبالغة. ولا بد للمجتهد أن يكون له معرفة بمواقع الإجماع لئلا يخرقه كما سبق، فيجب عليه معرفة الكتب المؤلفة فيه لأبي بكر الرازي وغيره وقد تقدم لنا كلام في هذا الموضوع عند الكلام على الإجماع فارجع إليه، ولم أعثر إلى الآن على شيء من كتب الإجماع مطبوعا، وكان الواجب الاعتناء بطبعها سواء "الإقناع في مسائل الإجماع" لأبي الحسن بن القطان، أو كتاب "الإجماع" لابن حزم، أو ابن عبد البر، أو ابن المنذر، وكل منهم ألف في ذلك. وقد حذروا من إجماعات ابن عبد البر نعم إن الإجماعات هي مفرقة في كتب الفقه غير أن الاطلاع على كتب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 501 الفقه ولا سيما الخلافيات قد لا يغني عن تلك الكتب، فالواجب على أهل العلم البحث عنها، وطبع المهم منها، والله الموفق سبحانه. ولقد ظفرت بكتاب "الإشراف" لأبي المظفر الوزير يحيى بن هبيرة في خلافيات المذاهب الأربعة مجردة عن الأدلة، يأتي أولا بما هو متفق عليه من المسائل بين الأئمة الأربعة، ثم بما هو مختلف فيه، وهو أحسن ما ألف وألطف ما صنف في الباب، وسبقت لنا من جملة الحنابلة غير أنه لا يغني عن كتب الخلافيات بالأدلة، ولا عن كتب الإجماع. ومن الكتب المهمة في هذا الباب "مصنف ابن أبي شيبة" فإن الفقه أحوج ما يكون إليه وقد طبع أجزاء منه في الهند. ومن الكتب المفيدة بكثرة فروعها وآثارها مدونة سحنون المعبر عنها عند المالكية بالأمهات، وقد طبعت بمصر سنة "1324" وكرر طبعها بها سنة "1325" مع جل مقدمات ابن رشد عليها والطبعة الأولى أتقن وربما كانت أصح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 502 بحث مهم : قال ابن القيم في "إعلام الموقعين": إذا كان عند الرجل كتاب حديث موثوق بما فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كالصحيحين، فهل له أن يفتي بما فيه؟ فقيل: نعم، بل يتعين كما كان الصحابة يفعلون إذا بلغهم الحديث من غير توقف على رأي أحد، ولا بحث عن المعارض، وهكذا التابعون، وهذا معلوم بالضرورة لمن عرف أحوالهم، وقيل: لا يجوز له ذلك؛ لأنه قد يكون منسوخا أوله معارض والصواب التفصيل، فإن كانت دلالة الحديث ظاهرة بينه لكل أحد، فله أن يعمل، ويفتي به، ولا يطلب له تزكية من قول فقيه، بل الحجة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن خالفه من خالفه وإن كانت دلالته خفية، لم يجز أن يعمل به حتى يسأل، ويتطلب بيان الحديث ووجهه، وإن كانت دلالته ظاهرة كالعام على أفراده، والأمر على الوجوب، والنهي على التحريم، خرج على الأصل وهو العمل بالظواهر قبل البحث عن المعارض، هذا كله إن كان ثم نوع أهلية، ولكنه قاصر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 502 في معرفة الفروع وقواعد الأصول والعربية، وإلا ففرضه ما قاله الله: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} 1. ا. هـ. بخ جزء أخير عدد 495. وأكثر فقهاء الوقت يخالفه، ويقول: الحديث مضلة إلا للفقهاء يعني لأنهم أعرف بطرق الأخذ والاستنباط، وبالحديث السالم من التعليل والمعارض والنسخ وغير هذا مما هو مبسوط في محله من كتب الأصول، والحق أن من حصلت له ملكة في العربية والبيان والأصول، وكانت له فقاهة النفس، ومعرفة بمظان متون أحاديث الأحكام كالتي في "المشكاة" و"المصابيح" مثلا، ومعرفة بكتاب الله ناسخة ومنسوخة قادر على أن يستقل بفهمه وإدراك مرماه، محصل على شروط الاجتهاد السابقة، فالباب مفتوح لمثل هذا أن يجتهد لنفسه في أخذ الأحكام التي يحتاج إليها من غير أن يشوش على الناس، ولا أن يحملهم على ترك مذاهبهم التي هم آخذون بها، وبالله التوفيق. أما القاصر عن ذلك كلا أو بعضا، فهو في عداد العوام، فعليه التقليد ولا يجوز له أن يفتي من نحو "الصحيحين" ولا من القرآن، فالتقليد له أسلم، وكيف يباح لمن كان قاصرا في العربية وقواعد الأصول أن يأخذ الأحكام من الكتاب أو السنة فخطؤه إن لم يكن قطعيا فهو مظنون والله أباح له التقليد بقوله: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} 1 فالصواب ما قال فقهاؤنا لابن القيم، والله أعلم.   1 سورة النحل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 503 هل كل مجتهد مصيب : اعلم أن الأمة لها قولان قيل: إن كل مصيب في الفروع التي لا قاطع فيها، وهو قول ضعيف المدرك كما هو مبين في الأصول، وعليه فكل المجتهدين على هدى من ربهم، والقول الثاني: أن المصيب واحد، قال الشيخ أحمد بن مبارك اللمطي: قد اتفق أصحاب هذا القول على أنه غير معين، فما قاله السبكي في "الطبقات" من أن المصيب هو الشافعي مستدلا بدلائل لا تفيده ليس بصواب، بل مخالف للإجماع المنعقد على أن الصواب إما مع الكل، أو مع واحد بعينه. نعم لكل أهل مذهب أن يرجحوا بما ينقدح في فكرهم من الدلائل، لكن لا يجزمون، ولا يخطئون غيرهم. وأما عياض في "المدارك" فإنه ذهب في الترجيح لمذهب مالك بالوجوه التي بينها دون الجزم بصوابيه واحد، وتخطئة سواه، فهو خرق للإجماع بل ومخالف للمعقول؛ لأنه في المعنى كالوصف بالعصمة لشخص هو نفسه اعتراف بالخطأ في مسائل، فإن الشافعي له القول القديم الجديد، فأيهما أحق بالصواب. هذا مما لا معنى له على أن ترجيح إمام على إمام بحث فيه في "إعلام الموقعين" قائلا: إن هؤلاء الذين يرجحون مقلدون لا خبرة لهم بالأدلة، فكيف يتوصلون لمعرفة الراجح، ولو كانوا مجتهدين، ما ساغ لهم التقليد الذي يوجب عليهم الترجيح. وقد آل الأمر بأرباب المذاهب ذوي التعصب المذهبي إلى تنقيص الأئمة، وخرجوا من دائرة الترجيح إلى الهمز واللمز، وذلك كله تعصب ذميم، ولعل هذا هو سبب ما وقع للسبكي في جانب الإمام تقي الدين ابن تيمية الحنبلي حتى آل الأمر لتسجيله عليه بالكفر وسجنه حتى مات سجينا، كل ذلك سببه التعصب المذهبي مع أن كلا منهما إمام من أئمة المسلمين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 504 اقتداء المذهب بعضهم ببعض ... اقتداء المذاهب بعضهم ببعض: كالحنفي يصلي وراء المالكي وبالعكس: قال خليل: وجاز اقتداء بأعمى، ومخالف في الفروع، وحكى حذاق الأصوليين إجماع الأمة على هذا كما قال المازري، ونقله في التوضيح ونحوه في "إيضاح المسالك" للونشريسي، ونظر ابن عبد السلام فيه بوجود الخلاف عند الشافعية، وقد فصل السبكي منهم، فقال: يجوز الاقتداء بالمخالف ما لم يعلم أنه ترك واجبا في اعتقاد الإمام أو المأموم فتبطل. انظر ترجمة الشيخ علي السبكي في الجزء السادس من "الطبقات" والقول بالبطلان مما تمجه الأسماع، فإن الصحابة كان بينهم اختلاف معلوم، وكان بعضهم يقتدي ببعض وهكذا من تبعهم على أن الجواز عند المالكية هو مع مرجوحية، وما كان أحسن أن لا يقال بهذه المرجوحية؛ إذ المطلوب إزالة النفرة بين الأمة، وأبي الله إلا ما أراد. سئل الشافعي: لم جاز أن يصلي المالكي وراء الشافعي وبالعكس وإن اختلفا في كثير من الفروع. ولم يجز أن يقلد مجتهد غيره في القبلة وفي الأواني، فلم يجب، وأجاب عز الدين بأن الجماعة مطلوبة للشارع، والمنع عن الاقتداء بالمخالف في الفروع يؤدي لتعطيل جماعات بخلاف الاختلافات في القبلة والأواني فهو نادر نقله شارح "اليواقيت الثمينة" على أن الشافعي يوجب البسملة والمالكي يقول بالكراهية، ولكن يقرؤها تحريا والحنفي يقول بعدم الوضوء من مس الذكر، ولا يفعله تحريا وخروجا من الخلاف، ولا يوجب نية في الوضوء، والمالكي يجزم ببطلان صلاة من مس ذكره أو توضأ بغير نية، والحنفي يقول الجزء: 2 ¦ الصفحة: 505 ببطلان صلاة من احتجم ولم يتوضأ، والمالكي والشافعي يريان صحتها، والحنفي يشرب النبيذ، والمالكي والحنبلي يحدونه بشربه، بل الأول لا يقبل شهادة شاربه ولو حنفيا، وكان أبو حنيفة يقول بحليتها تسننا، ولا يشربها تزهدا. على أن مثل هذه الفروع هي التي أوجبت النفرة حتى قال ربيعة: كأن النبي الذي بعث في الحجاز غير الذي يتبعه أهل العراق كما سبق. قال سند: إنما صحب صلاة المذاهب المختلفة، لكونهم يتحرون فيخرجون من الخلاف، فالشافعي يمسح جميع رأسه، وإن لم يوجب إلا مسح شعرة واحدة، والحنفي يقرأ الفاتحة في كل ركعة وأن لم يوجبها إلا في واحدة1 وعندي أن هذا جواب بعيد، فإن الخروج من الخلاف نفسه إنما هو مستحب، ولهم أن يفعلوا. والقول بمراعاة الخلاف عابه جماعة من الفقهاء اللخمي وعياض وغيرهما كما في "إيضاح المسالك" على أن يفعل واجبا ولم ينو الوجوب قد اختلف في أجزائه وعدمه، وتعصب أصحاب المذاهب معلوم ما وصل إليه، فهم يتعمدون خلاف المخالف، ولا يتحرى الخروج من الخلاف الورعون، وقليل ما هم، فالصواب صحة الصلاة مطلقا. وأما قول ابن القاسم: لو علمت أن واحدا يترك القراءة في الأخيرتين، ما صليت وراءه، فهو مقابل، ثم المسألة مبسوطة في الفوق "76" عند القرافي، وزادها بسطا العياشي في العدد 270 من ج2 في رحلته، وحصلت فيها أربعة أقوال، وليتها كانت قولا واحدا، وهو ما حكى المازري عليه الإجماع. وقال العياشي: إنه الأقرب، كان الأمير محمود بن سبكتكين حنفي المذهب، وانتقل إلى مذهب الشافعية لما صلى القفال بين يديه صلاة لا يجوز الشافعي دونها، وصلاة لا يجوز أبو حنيفة دونها، وقد ساق الحكاية القفال في فتاويه، وحكاها بعده إمام الحرمين وغيره كما في "الطبقات السبكي" في ترجمة   1 الذي في كتب الحنفية أن قراءة الفاتحة واجبة في الركعتين الأولين من الفرض وفي جميع ركعات النفل والوتر، انظر "الدر المختار" وحاشيته "1/ 321، 323". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 506 محمود بن سبكتكين1. ومن يطالع طبقات السبكي يعلم مقدار ما حصل في القرون الوسطى من التعصب للمذاهب حتى إن أبا المظفر السمعاني قال: إن سبب رجوعه عن مذهب الحنفية على طول مناظراته فيه ثلاثين سنة أنه رأى ربه في المنام، فقال له: عد إلينا أبا المظفر فاستيقظ، ورجع إلى مذهب الشافعية. وانظر ترجمته تعلم مقدار التعصب المذهبي في تلك العصور، وتعلم أن قولهم خلاف العلماء رحمة لما كانت الأخلاق مهذبة في الصدر الأول زمن الصحابة ومن بعدهم كمالك وابن حنبل وأضرابهما لا في هذا الزمن الذي ظهر فيه التعصب فقد صار الخلاف فيه نقمة وسبب الفرقة، كما أشار العياشي في الرحلة قائلا: من طاف الحجاز والعراق والشام وديار المشرق، ونزلت به نازلة أو نوازل في دينه يأنف أن يسأل من هو شافعي، فيعمل عن جهل، أو يسأل عاميا مثله، فيقول: قد رأيت سيدي فلانا أفتى مثل ما وقع لك بكذا وكذا، فيعمل بقول ذلك العامي الذي لا علم له يميز به بين المماثلة والمخالفية، وهذا ضلال كبير. ا. هـ. وكم من عالم في الشام وغيرها أريد توظيفه في بلد أهلها حنابلة في الفتوى مثلا، فيلزم أن ينتقل من مذهبه الأصلي كالشافعي، ويصير حنبليا كي يكون مفتيا مع أن هذا سهل لا بأس به، ولكنه من أدلة ما كان لهم من التعصب الذميم. وهناك بالمشرق أوقاف خاصة بالشافعية، وأخرى بالحنفية مثلا ومدارس لا ينال التدريس بها إلا من كان مقلدا لأحد المذاهب الأربعة ووظائف كذلك من قضاء وفتوى، فكان هذا العمل مما أوجب بقاء العلماء مقلدين ولو بلغوا درجة الاجتهاد، وقد أشار أبو زرعة العراقي في شرح "جمع الجوامع" إلى أن الإمام السبكي الكبير بلغ رتبة الاجتهاد وما منعه إلا شيء من ذلك، ولله در الشعراني إذ يقول: إن أعدى عدو للإمام المهدي عند خروجه هم الفقهاء؛ لأنهم مقلدون   1 هذه الحكاية غير صحيحة من أصلها، ومحمود بن سبكتكين من فقهاء الحنفية وله تأليف في الفقه الحنفي منها التفريد وهو غاية الجودة وكثرة المسائل كذا في "الجواهر المضية" "2/ 157". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 507 يعتقدون الحق في أئمتهم قد انحصر، معتصبون لهم، وهو مجتهد، ووزراؤه مجتهدون وهو فرع ظريف ناشئ عن فكر لطيف، وإغاظة لقول بعض الحنفية إن الإمام المهدي يتمذهب بمذهبهم. فانظر إلى هذه الهذيانات التي شغلت أفكار الأمة، وقد اقترح أبو سالم العياشي في رحلته أن لو اجتمعت لجنة من المذاهب الأربعة، وحررت كتابا لكل مذهب ببيان المشهور من أقواله تقليلا للخلاف، وأطال في ذلك الاقتراح، فانظره، ولكن ذلك زمان مضى بما فيه، وظهرت الأدلة واتضحت، تبين أن لكل وجهة، وفي كل متمسك، وما أبعد اتفاق المتفقهة أو اجتماع فكرهم حتى على ما هو المشهور عندهم، فالواجب علينا أن لا نسعى وراء توحيد المذاهب؛ لأنه أصعب شيء يعانيه المصلحون بل يجب أن نطرح التعصب، ونعتبر أن كل مذهب فيه صواب وخطأ لم يتعمده قائله، ولكن أداة إليه اجتهاده، ولم تتعين لنا ما هي مسائل الخطأ من الصواب في كل مذهب، وأن المخطئ معذور بالاجتهاد، مأجور على ما بذله من الجهود في إصابة روح التشريع واعتقاده صواب رأيه، ففي الصحيح عن عمرو بن العاص مرفوعا؛ "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد" 1 فلتطرح الأمة عنه التعصب، ولتكن مذهبا واحدا وهو اعتبار جميع المذاهب، والأخذ من كل مذهب بما يوافق الأدلة، ويناسب روح العصر، والوقت والحال والمكان والضرورة؛ لأن تقليد الضعيف عند الضرورة سائغ للجميع، ويروى "إن اختلاف الأمة رحمة" وإن كان الحديث ضعيفا2 فاختلاف مذاهب الفقهاء مفيد لنا إذا كنا نريد أن ننهض متمسكن بالشريعة غير متعصبين للمذاهب والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، والنهضة الحقيقية للأمة والفقه هي أن يوجد في الأمة فقهاء مستقلون في الفكر مجتهدون ويأخذون الأحكام من الكتاب والسنة رأسا، عارفين بهما معرفة كافية لكل خلاف وتقليد.   1 أخرجه البخاري "13/ 368" في الاعتصام، ومسلم "1716" في الأقضية بلفظ "إذا حكم الحاكم فاجتهد، ثم أصاب، فله أجران، وإذا حكم فاجتهد، ثم أخطأ، فله أجر". 2 أورده نصر المقدسي في كتاب "الحجة" ولم يذكر سنده ولا صحابيه والبيهقي في الرسالة الأشعرية بغير سند قال السبكي: وليس بمعروف عند المحدثين، ولم أقف له على سند صحيح ولا ضعيف ولا موضوع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 508 نقض حكم المجتهد : من الأحكام الفقهية الأصولية التي أتعجب منها، ولا أعرف محملها قولهم كما في "جمع الجوامع" وغيره: إذا حكم حاكم مجتهد، فلا ينقض حكمه إلا إذا خالف نصا أو قياسا جليا، ونحوه لخليل، ويمثلون لذلك بأمثلة. منها إذا حكم باستسعاء العبد1 فأقول في نفسي: كيف يمكن أن يعترف لنا مجتهد أنه خالف نصا في استسعاء العبد مع أنه في "الصحيحين" أبي داود والنسائي وغيرهما وإن كان بعضهم ادعى إدراجه من قول قتادة، لكنه مردود كما في "فتح الباري" عدد 114 من الجزء الخامس، فمن الذي خالف النص حينئذ، وكيف يمكن أن يعترف أنه خالف جلي القياس، وباب الاستحسان مفتوح، والمسائل التي خالف الحنفية والمالكية جلي القياس فيها للاستحسان مفتوح، والمسائل التي خالف الحنفية والمالكية جلي القياس فيها للاستحسان أكثر من أن تحصر، وقصير العلم ضيق الفكر هو الذي يعتقد أن أبطل حجة خصمه جازما أنه لا يمكن أن يأتي بحجة أو حجج غيرها والشريعة بحر زاخر، والأنظار ليس لها أول ولا آخر. ومن القواعد الفقهية التي نص عليها ابن نجيم أن الاجتهاد لا ينقض بمثله، وقال الوانشريسي في "إيضاح المسالك": الظن هل ينقض بالظن أم لا، وعليه تغير الاجتهاد في الأواني والثياب والقبله والحكم والفتوى. وقال ابن الحاجب في "المنتهى": لا ينقض الحكم في الاجتهادات منه ولا من غيره باتفاق للتسلسل، فتفوت مصلحة نصب الحاكم، وخالف ذلك في مختصره الفرعي، فحكى عن ابن القاسم الفسخ، وعن ابن الماجشون وسحنون لا يجوز فسخه وصوبه الأئمة. ثم قال الوانشريسي: ينقض حكم الحاكم إذا   1 هو أن يكتسب المال ليتخلص به من الرق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 509 خالف نصا صريحا أو إجماعا أو قياسا جليا أو القواعد. ا. هـ. بخ. فتأمل ذلك فإن الحاكم إذا ثبت اجتهاده وعدالته، تعذر نقض حكمه بدعوى مخالفة ما ذكر؛ لأنه يؤدي إلى التسلسل ونقض ظن بمثله. قال الخطيب في "المحصول": الدلائل السمعية لا تفيد اليقين إلا بنفي تسع احتمالات وما أظن ذلك بموجود نعم مراتب الظنون تقوى وتضعف. ا. هـ. نقله العياشي في رحلته عدد 274 ج2 ولم يقتصر ابن الحاجب في "المنتهى" على ما نقله صاحب الإيضاح، بل زاد بعده، وينقض إذا خالف قاطعا، وهذا الاستثناء لا بد منه، وكان الأولى بالعلماء أن يمضوا حكم المجتهد إذا ثبتت عدالته مطلقا اتفاقا إذا لم يخالف قاطعا وما سوى ذلك إنما هو فتح باب الجدال الذي لا يوجد له مصراع يسد به. وإنما نعلم أن عمر قد نقض حكم أبي بكر في استرقاق سبي بني حنيفة، ولكن لنا أن نقول: إن ذلك كان لسياسية اقتضاها الحال كما أعتق المسلمون في حياته عليه السلام سبي هوازن استصلاحا لهم وليس نقضا لحكمه خلاف ما سبق لنا في عدد 41 و43 ج3 فمثل هذه الجزئية لا تنهض دليلا لمسألة توجب الشغب كهذه. أما المقلد، فينقض حكمه، وتبطل فتواه مهما خالف نصوص مذهبه وعلى هذا عمل المشارق والمغارب في الزمن الحاضر، وعلى كل حال نقض حكم الحاكم المجتهد العدل، إذا خالف نصا، أو جلي قياس، أو إجماعا اختلف فيه، ورجح بناني في حاشية الزرقاني الفسخ مستدلا بأدلة واهية، وسلمها رهوني، والذي يظهر خلافه. وما نسبه في إيضاح المسالك لابن الماجشون نسب بناني له خلافه وهو النقض، ونسب عدم النقض لابن عبد الحكم زاعما أنه تفرد به، وقد علمت عدم تفرده به، بل ليس من المعقول نقض أحكام الحنفية والشافعية والحنابلة المقلدين إذا خالفوا عمل أهل المدينة أو نصا أو جلي قياس في نظرنا، فالقول بالنقض قريب من الهذيان، والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 510 هل انقطع الاجتهاد أم لا، إمكانه، وجوده: قال الإمام النووي في شرح "المهذب": إن الاجتهاد نوعان: مستقل وقد فقد من رأس المائة الرابعة، فلم يمكن وجوده، ومجتهد منتسب وهو باق إلى أن تأتي أشراط الساعة الكبرى، ولا يجوز انقاطعه شرعا لأنه فرض كفاية ومتى قصر أهل مصر حتى تركوه، أثموا كلهم، وعصوا بأسرهم، كما صرح به الماوردي والروياني والبغوي، وغيرهم. قال ابن الصلاح: والذي رأيته من كلام الأئمة مشعر بأنه لا يتأدى فرض الكفاية بالمجتهد المقيد، والذي يظهر لي أنه يتأدى فرض الكفاية في الفتوى، وإن لم يتأد به فرض الكفاية في إحياء العلوم التي منها الاستمداد في الفتوى. ا. هـ. نقله الألوسي في "جلاء العينين". وفي "إعلام الموقعين"1 في الوجه الحادي والثمانين من أوجه الرد على المقلدين: إن المقلدين حكموا على الله قدرا وشرعا بالحكم الباطل جهارا، مخالفا لما أخبر به رسوله فأخلوا الأرض من القائمين لله بحجة، وقالوا: لم يبق في الأرض عالم منذ الأعصار المتقدمة، فقالت طائفة: ليس لأحد أن يختار بعد أبي حنيفة، وأبي يوسف، وزفر بن الهذيل، ومحمد بن الحسن، والحسن بن زياد اللؤلئي، وهذا قول كثير من الحنفية، وقال بكر بن العلاء القشيري المالكي: ليس لأحد أن يختار بعد المائتين من الهجرة، وقال آخرون: ليس لأحد أن يختار بعد الأوزاعي والثوري، ووكيع بن الجراح، وابن المبارك، وقال طائفة: ليس لأحد أن يختار بعد الشافعي، واختلف المقلدون من أتباعه فيمن يؤخذ بقوله من المنتسبين إليه، ويكون له وجه يفتي، ويحكم به ممن ليس كذلك، وجعلوهم ثلاث   1 "2/ 256". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 511 مراتب: طائفة أصحاب وجوه كابن سريج والقفال وأبي حامد، وطائفة أصحاب احتمالات، كأبي المعالي، وطائفة ليسوا أصحاب وجوه ولا احتمالات كأبي حامد وغيره. واختلفوا متى انسد باب الاجتهاد على أقوال كثيرة ما أنزل الله بها من سلطان، وعند هؤلاء أن الأرض قد خلت من قائم لله بحجة، ولم يبق فيها من يتكلم بالعلم، ولا يحل لأحد بعد أن ينظر في كتاب الله ولا سنة رسوله لأخذ الأحكام منها، ولا يقضي ويفتي بما فيها حتى يعرضه على قول مقلده ومتبوعه، فإن وافقه، حكم به، وإلا رده ولم يقبله. وهذه أقوال كما ترى قد بلغت من الفساد والبطلان والتناقض، والقول على الله بلا علم، وإبطال حججه، والزهد في كتابه وسنة رسوله، وتلقي الأحكام منهما مبلغها، ويأبى الله إلا أن يتم نوره، ويصدق قول رسوله أنه لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة1: "ولن تزال طائفة من أمته على محض الحق الذي بعثه به" 2 وأنه "لا يزال يبعث على رأس كل مائة سنة لهذه الأمة من يجدد لها أمر دينها" 3، ويكفي في فساد هذه الأقوال أن يقال لأربابها: فإذا لم يكن لأحد أن يختار بعد من ذكرتم، فمن أين وقع لكم اختيار تقليدهم دون غيرهم؟ وكيف حرمتم على الرجل أن يختار ما يؤديه إليه اجتهاد من القول الموافق لكتاب الله وسنة نبيه، وأبحتم لأنفسكم اختيار قول من قلدتموه، وأوجبتم على الأمة تقليده، وحرمتم تقليد من سواه؟ فما الذي سوغ لكم هذا الاختيار الذي لا دليل عليه من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس ولا قول صحابي ويقال لكم: فإذا كان لا يسوغ الاختيار بعد المائتين عندك ولا عند غيرك من أين ساغ لك وأنت لم توجد إلا بعد المائتين بنحو ستين سنة أن تختار قول مالك دون من هو أفضل منه من الصحابة والتابعين أو من هو مثله من فقهاء الأمصار أو ممن جاء بعده، ويلزمك أن أشهب وابن الماجشون ومطرفا وأصبغ   1 وهم ابن القيم رحمه الله هنا في نسبته إلى رسول الله، فإنه من قول علي رضي الله عنه، كما ذكره هو نفسه في "إعلام الموقعين" "4/ 12". 2 أخرجه مسلم "3/ 1524" في الإمارة من حديث معاوية مرفوعا بلفظ "لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من ضلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون". 3 أخرجه أحمد وأبو داود وهو صحيح وقد تقدم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 512 وسحنونا وابن المعذل وطبقتهم لما انسلخ آخر يوم من ذي الحجة سنة 200 واستهل محرم بعده سنة 201 حرم عليهم ما كان مطلقا لهم من الاختيار. ويقال للآخرين: أليس من المصائب، وعجائب الدنيا تجويزكم الاختيار والاجتهاد لمن ذكرتم من أئمتكم دون حفاظ الإسلام، وأعلم الأمة بكتاب الله وسنة نبيه، وأقوال أصحابه كأحمد بن حنبل والشافعي، وإسحاق والبخاري، وداود الظاهري ونظرائهم من سعة علمهم وورعهم، واتفاق الإسلام على احترامهم واعتبارهم، وأطال في ذلك فانظره. وقال في "جمع الجوامع": ويجوز خلو الزمان عن مجتهد خلافا للحنابلة مطلقا، ولابن دقيق العيد، ما لم يتداع الزمان بتزلزل القواعد، فإن تداعى بأن أتت أشراط الساعة الكبرى، كطلوع الشمس من مغربها جاز الخلو عنه، والمختار لم يثبت وقوع الخلو عنه، وقيل: يقع دليل عدم الوقوع حديث "الصحيحين" بطرق: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يأتي أمر الله" 1، كما صرح بها في بعض الطرق، وقال البخاري: هم أهل العلم أي: لابتداء الحديث في بعض الطرق بقوله: "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين". ويدل للوقوع حديث "الصحيحين" أيضا: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالما، اتخذ الناس رؤساء جهالا، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا" هذا لفظ البخاري2، وفي مسلم حديث: "إن بين الساعة أياما يرفع فيها العلم، ويترك فيها الجهل" 3.   1 أخرجه البخاري "1/ 150، 151" في العلم، ومسلم "1037"، "3/ 1524"، من حديث معاوية قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: $"من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين، وإنما أنا قاسم، والله يعطي، ولن تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله" وأخرجه البخاري "13/ 249" ومسلم "1921" من حديث المغيرة، وأخرجه مسلم "1920" من حديث ثوبان. 2 "1/ 174، 175" من حديث عبد الله بن عمرو بن العاس، وأخرجه مسلم "2673". 3 أخرجه مسلم "2672" من حديث عبد الله بن مسعود وأبي موسى الأشعري. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 513 ونحوه حديث البخاري: "إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم ويثبت الجهل" 1، والمراد برفعه قبض أهله. ا. هـ. ممزوجا. وبعدما حكى خليل في "التوضيح" القولين في جواز خلو الزمان عن مجتهد، قال: وهو عزيز الوجود في زماننا، وقد شهد المازري بانتفائه ببلاد المغرب في زمانه، فكيف بزماننا، وهو في زماننا أمكن لو أراد الله الهداية بنا؛ لأن الأحاديث والتفاسير قد دونت، وكان الرجل يرحل في طلب الحديث الواحد، لكن لا بد من قبض العلم. فإن قيل: يحتاج المجتهد أن يكون عالما بمواضع الإجماع والخلاف وهو متعذر في زماننا، لكثرة المذاهب وتشعبها، قيل: يكفيه أن يعلم أن المسألة ليست مجمعا عليها؛ لأن القصد أن يحترس عن مخالفة الإجماع وهو ممكن. ا. هـ. على نقل الاختصار في باب القضاء. وفي رسالة "الإنصاف" ما نصه: وقد انقرض الاجتهاد المطلق المنتسب في مذهب أبي حنيفة بعد المائة الثالثة، وذلك لأنه لا يكون إلا محدثا جهيرا واشتغالهم بعلم الحديث قليل قديما وحديثا، وإنما كان فيهم المجتهدون في المذهب، وهذا الاجتهاد هو الذي أراده من قال: أدنى شروط المجتهد أن يحفظ "المبسوط" قال: وقل المجتهد المنتسب في المذهب المالكي وكل من كان منهم بهذه المنزلة، فلا يعد تفرده وجها في المذهب كأبي عمر بن عبد البر، والقاضي أبي بكر بن العربي. ا. هـ. قال مقيده: وليس كما قال فأمثال ابن العربي، وابن عبد البر عندنا كثير، بل أعظم منهم، كابن القاسم، وأشهب، وسحنون، وابن حبيب، ثم ابن أبي زيد، وابن اللباد، والقابسي، ثم ابن رشد، وابن يونس، واللخمي، والمازري، وعياض، وغيرهم ممن لا يحصى كثرة، وأقوالهم معدودة من وجوه المذهب المالكي، معمول بها معتمدة، ولو انفردوا، غير أن الإمام مالكا حصلت له شهرة طبقت العالم الإسلامي في وقته، ورفعت إليه الأسئلة من أطراف المعمور، وعمر عمرا طويلا، ففرع كثيرا، وتكلم في سبعين ألف مسألة أو أكثر. وقد تقدم في ترجمة أبي بكر بن   1 أخرجه البخاري "1/ 162"، ومسلم "2671" كلاهما في العلم من حديث أنس ابن مالك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 514 عبد الله المعيطي أنه جمع هو وأبو عمر الإشبيلي أقوال مالك وحده التي صدرت الفتوى عنه بها فكانت مائة جزء، ولذلك ملئت الدفاتر بما نقل عنه من الفقه بما كفى عن أقوال أتباعه في كثير من المسائل مما لم يرو عن الشافعي ولا ابن حنبل اللذين لم يعمرا كعمره، ولا حصل لهما من الشهرة ما حصل. وقدمنا في ترجمة البيهقي من الشافعية أنه جمع أقوال الشافعي في إحدى عشرة مجلدة، فإذا نسبنا الفقه المروي عن الشافعي الذي هو أشهر فيه من ابن حنبل، كان نحو العشر من فقه مالك رحمهم الله، فكان يكفي من انتسب إليه أن يحفظ فتاويه مع أنه لهم اختيارات وإضرابا عن أقواله، فكم خالفه أشهب وابن القاسم، بل واللخمي والمازري كما في تراجمهم، وأقوالهم معدودة من المذهب، وكثيرا مما تتبع، ويترك نص الإمام لتبين حجتها، ورجحان دليلها، فلولا أن من بعدهم بلغ رتبة الاجتهاد ما رجحها وترك قول الإمام، والمتحصل مما تقدم أنهم لم يقطعوا بوجود المجتهد المطلق المستقل من رأس المائة الرابعة مع إمكان وجوده خلافا للنووي، وقال الحنابلة بعدم خلو الزمن منه إلى وقوع علامات قيام الساعة، أما المنتسب، ومجتهد المذهب، فقد علمت وجوده إلى المائة الثامنة، ويمكن وجوده، بل ووجود المجتهد المنتسب والمستقل الآن، لتوفر مواد الاجتهاد، والناس هم الناس، ولا مانع منه عقلا ولا شرعا بل يجب على علماء الأمة القيام بالاجتهاد المطلق المستقل؛ لأنه فرض كفاية كما قال ابن الصلاح وغيره، فأحرى مجتهد الفتوى. قال الإمام السنوسي في شرح مسلم، عن أبي عبد الله بن الحاج: عجائب القرآن والحديث لا تنقضي إلى يوم القيامة، كل قرن لا بد أن يأخذ منها فوائد خصه الله بها لتكون بركة هذه الأمة إلى قيام الساعة، قال عليه السلام: "مثل أمتي كالمطر لا يُدرى أوله خيرا أو آخره" 1.   1 حديث صحيح: أخرجه أحمد "3/ 130، 143" والترمذي "2873" عن أنس، وأخرجه أحمد "4/ 319" عن عمار بن ياسر، وصححه ابن حبان، وأخرجه أبو يعلى عن علي، والطبراني عن ابن عمر، وابن عمرو. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 515 وقال سيدنا علي كرم الله وجهه كما في الصحيح: "لم يترك لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا كتاب الله، وما في هذه الصحيفة، أو فهما أوتيه رجل مسلم"1 وقال الشيخ أبو مدين: للقرآن نزول وتنزيل، فأما النزول، فقد مضى، وأما التنزيل فباق إلى قيام الساعة وأما قوله: لم يدع من مضى للذي غبر ... فضل علم سوى أخذه بالأثر فإنها خيال شاعر ليست حجة عقلية ولا شرعية، أوجبها تأخر الأفكار الإسلامية وركونها للجمود، وقد قال فيه اليوسي في القانون: إنه لا أضر بالعلماء والمتعلمين منه، وتحجير لفضل الله الذي لم يوقت بزمان ولا مكان، ويقابلها قول الشاعر الذي صدقه الأوائل والأواخر: كم ترك الأول للآخر قال زروق في "قواعده" قاعدة: أن النظر للأزمنة والأشخاص لا من حيث أصل شرعي أمر جاهلي حيث قال الكفار: {لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} فرد الله عليهم بقوله: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ} 2 وقالوا: {إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} فرد الله عليهم بقوله: {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آَبَاءَكُمْ} 3 فلزم النظر لعموم فضل الله من غير مبالاة بزمن ولا شخص إلا من حيث ما خصه الله به إلى آخر كلامه. وقال أيضا: إذ حقق أصل العلم، وعرفت مواده، وجرت فروعه، ولاحت أصوله، كان الفهم مبذولا بين أهله، فليس المتقدم فيه بأولى من المتأخر، وإن كان له فضيلة السبق، فالعلم حاكم، ونظر المتأخرين أتم؛ لأنه زائد على المتقدم، والفتح من الله مأمول لكل أحد.   1 أخرجه البخاري "1/ 182" في العلم: باب كتابة العلم، وانظر مسلم "1978"، "45" و"1370". 2 سورة الفرقان: 33. 3 سورة الزخرف "23، 24. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 516 وفي "التسهيل": وإذا كانت العلوم منحا إلهية، ومواهب اختصاصية، فغير مستبعد أن يدخر لبعض المتأخرين ما عسر فهمه على كثير من المتقدمين، أعاذنا الله من حسد يسد باب الإنصاف، ويصد عن حميد الأوصاف، وأشار إلى هذا المعنى في خطبة "القاموس" مستدلا بقول المبرة: ليس بقدم العهد يفضل القائل، ولا بحدثانه يهتضم المصيب ولكن يعطي كل ما يستحق. وفي "المعيار" عن الإمام محمد بن أحمد بن مرزوق أنه كتب على قول عصريه الخطيب الغبريني التونسي: لم يكن بمغربنا هذا كله من القرن الخامس فضلا عن الثامن مجتهد في الأحكام الشرعية مستقل: ما نصه: أما الاجتهاد في الفروع المذهبية، فما خلت منه البلاد، ولا عدمته هذه الأمة، وهذا سبيلك يا سيدنا الخطيب ومن أجله تصدرت، وبه اشتهرت، ولولا النظر في ترجيح الأقوال، والتنبيه على مسالك التعليل، ومدارك الأدلة، وبيان تنزيل الفروع على الأصول، وإيضاح المشكل، وتقييد المهمل، ومقابلة بعض الأقوال ببعض، والنظر في تقوية قويها، وتضعيف ضعيفها لتعطلت الدروس، وخلت المدارس، وأي فائدة للمدارس غير هذا وتعليمه وإيضاحه للطالب ولو لم يكن وظيف إلا سرد الأحكام، ونقل الأقوال، لما افتقر إلى المدارس مفتقر، وهل يجري على تدريسك ولسانك صباحا مساء غير هذا بحثا وإلقاء. إلى أن قال: وقد وقع البحث في هذه المسألة بين علماء الديار المصرية أيام مقامي بها كقاضي القضاة جلال الدين القزويني، وشمس الدين الأصبهاني الدمشقي، وتاج الدين التبريزي ونظرائهم من فحول العلماء، وكبار الأئمة وحفاظ المحدثين، فاتفق رأيهم على أن هذا القرن لم يخل من مجتهد، ولا نقطع بنفيه لاتساع أقطار الأرض، واختلاف أنظار العلماء، وما يصدر عنهم من التصانيف والاختيارات الدالة على ذلك. ولا يتوصل إلى القطع إلا بالاستقراء، واتفقوا على أن الإمام عز الدين بن عبد السلام وتلميذه ابن دقيق العيد بلغا هذه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 517 الدرجة، وذكر بعضهم أن ابن الزملكاني1 الدمشقي بلغ هذه الدرجة من أهل المائة الثامنة، وأثبتها والد الغبريني لأبي القاسم بن زيتون من أهل القرن السابع، وأثبتها بعض أشياخنا لأبي عبد الله بن شعيب، وابن أبي الدنيا، وأثبتها جماعة لناصر الدين أبي علي منصور بن أحمد المشذالي وغيرهم ومن رأى تآليفه وما يصدر عنه من الفتاوى والأجوبة في فنون متباينة، لم يبعد عنه إدراك هذه المرتبة. ويرحم الله بعض أئمتنا إذ يقول: نحن في زمان ثبت بالدليل الواضح فساده، ومن فساده جحد أهله الفضائل، لغلبة الحسد وعدم الإنصاف، فلا يعترف لصاحب هذه المرتبة بها ولو كانت حليته، ويرحم الله ناصر الدين بن المنير إذ يقول: فضل الله واسع، فمن زعم أنه محصور في بعض العصور، فقد حجر واسعا ورمي بالتكذيب، والليالي حبالى تلدن كل غريب. وإذا تأملت ما نفاه الغبريني من الاجتهاد باستقلال مع ما أثبته ابن مرزوق من الاجتهاد المذهبي لم تجد بينهما خلافا وقد جنح الشيخ أحمد بن عبد السلام بناني في "الروض المعطار" إلى إثبات هذه المرتبة لسيدي عمر الفاسي، وسيدي العربي الفاسي، والشيخ الطيب بن كيران من أهل أوائل القرن الثالث عشر الفاسيين، وقد ادعاه بل الاجتهاد المستقل في القرن الماضي أيضا الإمام محمد الشوكاني اليمني الصنعاني، فتألب الزيدية ضده في اليمن، وعدوا إدعاءه خرقا لمذهبهم، ووقعت فتنة بينهم، ثم رجعوا وسلموا أذعنوا لما رأوا من علمه كما ذكر ذلك من ترجموه فيما طبع أول الجزء الأول من "نيل الأوطار". وممن كان يحوم حوله العالم الهندي في القرن الماضي الأمير النواب سلطان بوهبال محمد صديق خان بهادر، وتقدمت لنا ترجمتهما، ويظهر لي أن ندرة المجتهدين أو عدمهم هو من الفتور الذي أصاب عموم الأمة في العلوم وغيرها، فإذا استيقظت من سباتها، وانجلى عنها كابوس الخمول، وتقدمت في مظاهر   1 لعله محمد بن علي بن عبد الواحد بن الزملكاني الذي قال فيه الذهبي، أنه بقية المجتهدين، وتقدمت ترجمته في الشافعية "المؤلف". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 518 حياتها التي أجلها العلوم، وظهر فيها فطاحل علماء الدنيا من طبيعيات ورياضيات وفلسفة، وظهر المخترعون والمكتشفون والمبتكرون كالأمم الأوروبية والأمريكية الحية، عند ذلك يتنافس علماء الدين مع علماء الدنيا فيظهر المجتهدون. وقد قدمنا أن الاستبداد ماح أو مضاد للاجتهاد وحرية الفكر إذ هي من دواعي الاجتهاد، ولا شك أن الأمم الإسلامية لا تشغل مقاما ساميا بين الأمم ما دامت ناقصة في هذه الميادين، وهي محتاجة لمجتهدين بإطلاق، عارفين بعلوم الاجتماع والحقوق يكون منهم أساطين لسن قوانين دنيوية طبق الشريعة المطهرة تناسب روح العصر، وتنطبق على الأحوال المتجددة والترقي العصري كما يوجد عند سائر الأمم لجان من الفطاحل المشرعين في مجالس النواب والشيوخ لهذا الغرض، كان مجلس شورى أبي بكر وعمر قدوة لهؤلاء، فلنسر رويدا في إحياء مآثر سلفنا الصالح رضي الله عنهم، ولا عبرة بأمة لم تعرف حقوقها فتحفظها ولم تأمن عامتها شر خاصتها فذهبت حقوقها، وضاعت ثروتها بين المرتشين والمداهنين، والله يقول لنا: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} 1 وما جعلنا خير أمة إلا للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وهذه مسألة حياة أو موت، وهي واسعة الأكناف، وفي هذه الفذلكة مقنع، وقد أطلت في هذه المقام؛ لأن جل أهل العصر تمكن اليأس من قلوبهم، والجمود من أفكارهم، فيحيلون أن يأتي في الزمان مجتهد، ويظنون أن هناك شروطا لا تمكن، ولا يتصور مع فقدها وجوده. وقد وضعنا أمامكم شروطه، والمواد التي يمكن بها الاجتهاد، ومن وصف به من العلماء لتعلم أن هذه رتبة ممكنة متيسرة سهلة الآن أكثر مما قبل الآن، وإنما المفقود أمران: الأول: عزيمة الطالب على إدراكها، فإذا عزم، ومرن نفسه على استقلال فكره، وشغله بتدبر كتاب الله وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام وترك التمرن على كلام المتأخرين الجامدين، وجعل بدله التمرن على فهم الكتاب والسنة، وكلام أئمة الاجتهاد مثل مالك وأضرابه كما كان أهل القرون الأولى يفعلون إذ كانوا   1 سورة النساء: 135. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 519 يتمرنون على فهم البخاري وتراجمه وأحاديثه، وأحاديث مسلم و"الموطأ" والأم" للشافعي، وفقه أبي حنيفة، ومسند أحمد، وأمثالهم، فإذا رجعنا لما كان عليه المجتهدون في كيفية تربية ملكاتهم صرنا مجتهدين مثلهم. الأمر الثاني: رياضة النفوس على الأخلاق الفاضلة وترك السفاسف لتوجد الخصلة العزيزة وهي النزاهة التي تحصل بها الثقة العامة كما كانت حاصلة بالمجتهدين، فالذي فقد أو كاد هو الثقة وعليه فإنما يعز وجود شرط في الاقتداء لا في الاجتهاد وهو الأمانة التي تنشأ عنها الثقة. أما شروط الاجتهاد، فليست بصعبة، ورأى بعضنا من علماء الوقت لا مانع من توفر تلك الشروط فيهم، وفضل الله غير محجر، بل يجب عليهم رفع همتهم والنهوض لإدراك هذه المرتبة، ونفض غبار الذل عن رءوس أهل العلم، وعليك أيها الناظر المتعطش أن تنظر ما كتبه في "إعلام الموقعين" مناظرة ثمينة على لساني مقلد ومجتهد وأدلتهما، فانظرها واستوعبها، ولا بد لترشد إلى الحق. هذا وإن ما قدمته إنما هو الاجتهاد ليعمل الإنسان في خاصة نفسه، فإنه إذا تبين له الدليل، وجب عليه نبذ التقليد، أما الأحكام القضائية في الحقوق من بيع وطلاق وملك واستحقاق أو أي عقد كان، والإفتاء للغير فالصواب أن لا نشغل أنفسنا بالأماني والخيال، بل علينا النظر للحقائق الراهنة، واعتبار أحوال أهل زماننا الحاضرة وأن نربي رجال الاجتهاد للمستقبل، أما المعول عليه الآن فهو ما عليه الناس من التزام مذهب معين كمالك والشافعي أو غيرهما ممن ظهرت أمانته ومتانة أقواله، وحسن نظره، فلا معدل عن الراجح أو المشهور، أو ما به العمل لقلة الأمانة في الوقت الحاضر؛ إذ لو فتح باب الاجتهاد، لأطلقنا طغمة القضاة على كل تقييد ولاستباحوا أكثر مما ما استباحوا مما وهو واقع مشاهد. لا سيما وباب الحيل قد فتح من قبل مع رقة الديانة، وذهاب الأمانة، ففي القرون الوسطى تحيلوا في إسقاط حد الزنى بالأم والخالة والعمة بأن يعقد عليهن زواجا، وفي إسقاط حد السرقة أن يدعي أن المسروق منه عبده، وأمثال هذا كثير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 520 فكيف بزمانا هذا الذي لم يبق من الدين إلا اسمه. ولقد رأينا الذين يريدون فتح باب الاجتهاد بالفعل من المتفقهين الآكالين للسحت أول ما يبحثون فيه من المسائل أنهم لم يجدوا نصا على نجاسة الخمر، ولا على حرمة شحم الخنزير، وربما زادوا بعره وشعره، ولم يجدوا نصا على حرمة مس المصحف للجنب، وأمثال هذه الفتاوى التي تظهر منها مقاصدهم الصبيانية، فلا معدل لنا عن قول ترجح بتحقيق أمانة قائله إلى قول من هو مشكوك فيه، ومن أين لنا حصول درجة الاجتهاد الآن مع كثرة الدعوى من أهل الجهل المركب، فالصواب والحق هو بقاء الناس على التقليد في الفتاوى وأحكام الدعاوي، بل زيادة التضييق فيه والضبط لتنضبط الحقوق إلا ما سبق في ترجمة جواز الخروج عن المذهب لضرورة أو مصلحة الأمة، أو في عمل الإنسان في نفسه والله المستعان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 521 من أدرك رتبة الاجتهاد : هل يجوز له أن يحكم أو يفتي بمذهب غيره إذا شرط عليه ذلك في عقد التولية: الجواب: نعم على قول قوي، فإن قلت: إذا أدرك الإنسان رتبة الاجتهاد، وتبين له الدليل، فكيف يفتي بالتقليد؟ قلت: نعم يفتي به وفاء بشرط التولية لأن السلطان ما نصه إلا ليفتي أو يقضي بمذهب معين، وقد كان في الأندلس وأفريقيا علماء يفعلون ذلك، فإن المازري كان بالمرتبة العليا من الاجتهاد المذهبي، وطال عمره خمسا وثمانين سنة، وقال: لست أحمل الناس إلا على المشهور المعروف من مذهب مالك وأصحابه؛ لأن الورع قد قل، والتحفظ على الديانات كذلك، وكثرت الشهوات، وكثر من يدعي العلم، ويتجاسر على الفتيا، ولو فتح لهم باب مخالفة المذاهب، لاتسع الخرق على الراقع وهتكوا حجاب هيبة المذهب، وهو من المفسدات التي لا خفاء بها. انظر "الموافقات" وهو مبني على سد الذرائع والمصالح المرسلة وكل ذلك من أصل مالك وتقدم لنا أن أحمد بن ميسر كان يخير المستفتي فيقول: مذهب أهل بلدنا كذا، ومذهبي كذا وكذا، ومذهبي كذا وكذا، وكان منذر بن سعيد البلوطي قاضي القضاة بقرطبة أيام الحكم المستنصر ظاهري المذهب، ولكن لا يقضي ولا يفتي إلا بمشهور مذهب مالك حسب الشرط الذي يشترطه الإمام في منشوره الذي يولي به القاضي بالأندلس، نص على ذلك في القسم الأول من "نفح الطيب" وأمثاله كثير. وقال القفال: لو أدى اجتهادي إلى مذهب أبي حنيفة، لقلت: مذهب الشافعي كذا، لكني أقول بقول أبي حنيفة؛ لأن السائل إنما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 522 يسألني عن مذهب الشافعي، فلا بد أن أعرفه أن الذي أفتيته به غير مذهبه. وقال ابن تيمية: أكثر المستفتين لا يخطر بقلبه مذهب معين، وإنما يسأل عن الحكم، فلا يسع المفتي إلا الجواب بما يعتقده صوابا. والتوفيق بين هذا وما قبله ظاهر، والخلاف في حال أن في المسألة خلافا منصوصا فيما إذا نصب الإمام قاضيا، وشرط عليه الحكم بمذهب ابن القاسم أو مالك مثلا، فقيل: العقد صحيح، والشرط صحيح، وقيل: الكل باطل، وقيل: الشرط باطل، والعقد صحيح، وعلى القول الأول عمل المسلمين مشرقا ومغربا. وأما قول ابن القيم في "إعلام الموقعين": ولو اشترط الإمام على الحاكم أن يحكم بمذهب معين لم يصح شرطه وتوليته، ومنهم من صحح التولية، وأبطل الشرط، فهو مذهب له. والذي عليه عمل مغربنا أنه يكتب في منشور تولية القاضي شرط أن يحكم بمشهور مذهب مالك أو ما به العمل. وذلك أخذوه عن عمل ملوك قرطبة والأمويين، وهو أخذ بسد الذرائع والمصالح المرسلة، وما دامت الأخلاق متأخرة، والمدارك جامدة والثقة مفقودة، فإبقاء الناس على ما هو عليه في القضاء أخذ بأخف الضررين وإن المفتي مثل القاضي سواء، والضرورة قد ألزمت به في وقتنا هذا إلى أن يجدد الله مجد الفقه، ويعيد شبابه باجتهاد الفقهاء وأمانتهم. ولئن خرجت عن الموضوع في بعض ما تقدم من الفصول، لكن العذر بين، وليس في تلك الفصول ما هو من الفضول، وكل ذلك لا يخلو من تصوير حال الفقه في هذه العصور أو مرشد لتجديده بعد الدثور. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 523 ذيل وتعقيبات للمؤلف مدخل ... ذيل وتعقيبات للمؤلف: بما أني فتحت باب النقد على مصراعيه لمن ظهر له أن يبدي لي ملاحظة على الفكر السامي قبل تما طبعه عساني أتدارك هفواتي الكثيرة قبل طبع باب الطبع. لذلك أذيل هذه المجموع بإيراد أبحاث وردت على من بعض السادات الأعلام، وبعد كل بحث جوابه على سبيل الاختصار، تمثيلا للحالة الفقهية، والمناورات القلمية في إفريقيا الشمالية بالوقت الحاضر، وأورد لفظهم بحروفه، ولا ألتزم لفظ جوابي الخاص الذي أرسلته إليهم، فمنها أبحاث لبعض أعيان إخواني العلماء النحارير المشهورين بالتحقيق والفكر المنور الدقيق بالقطر التونسي حفظهم الله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 524 البحث الأول : ونصه: وقع في الصحفة 234 من الجزء الأول من "الفكر السامي" ما نصه: ووقعت حركة ثورية بسبب جعله يعني عثمان بن عفان رضي الله عنه الولايات في بني أمية. أرى أن هذا الكلام اختصر اختصارا قد يفهم منه بعض الضعفاء والذين تروج عليهم أقوال أهل الغايات والأحزاب من المؤرخين أن مستندات الناقمين على عثمان مستندات وجيهة مع أن في علمكم أنها أمور لفقها الطالبون للثورة، المتطلعون على الملك، المستطيلون عمر عثمان، الحاسدون له ولأهله على الخلافة من كل مسعر حرب كمالك الأشتر، وموقظ فتنة كالغافقي، وكائدي الإسلام كابن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 524 سبأ، ومثلكم قدوة لأهل العلم وعامة المسلمين، ونحن في زمان تسربت فيه إلى كثير من أبناء المسلمين عقائد الاستخفاف بالسلف، وبذلك يجر إلى ما وراءه، فأرى أن يعلق جنابكم على هذا الكلام تعليقا عند طبع آخر هذا التأليف، أو في أثناء بقية الكتاب عند وجود المناسبة يشرح به الأسباب شرحا حقيقيا، ويزيف فيه أقوال أهل الأغراض. ا. هـ. بحروفه. وجوابه: إن الباحث لم يستوعب آخر كلامي، ونصه ما تقدم: وظهور بعض الظلم من بعضهم بغير شعور منه لكبر سنه إلى أن قلت: وحاصروه إلى أن قتلوه ظلما رحمه الله، فبعد هذا التصريح لم يبق محل للتوهم الذي أشار إليه الباحث، ولا يظهر شيء من التوهم أصلا وإيثاره لأقاربه لا يبيح لأضداده عزل خليفة عدل مثل عثمان عند أهل السنة فضلا عن قتله، وعثمان رضي الله عنه مجتهد عدل يخطئ ويصيب، وليس بمضمون له العصمة، والذين كانوا ضده فيهم صحابة مجتهدون عدول كعمار بن ياسر، وفيهم غوغاء ضواطرة من نوع ما بينتم، وضعف جل الأسباب التي استندوا إليها المذكورة عند المؤرخين لا شك فيه، والكل مبين في التواريخ المطولة، والأولى أن لا نميل لأحد الخصمين ولا عليه، ونمسك عما شجر بينهم، ونحترم أصحاب رسول الله بأقلامنا وقلوبنا. نعم تقرير ما أثبته كافة المؤرخين واجب، ولا سبيل لكتمه لئلا تضيع الأمانة، والله يتولى هدى الجميع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 525 البحث الثاني : قال: ووقع في صحيفة 226 ج1 حديث "الخلافة ثلاثون سنة" إلخ، وهو حديث في سنن الترمذي عن سعيد بن جمهان عن سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكنه أشار إلى تضعيفه بقوله بعده، قال أبو عيسى: وفي الباب عن عمر وعلي قالا: لم يعهد النبي صلى الله عليه وسلم في الخلافة شيئا، وهذا حديث حسن رواه غير واحد عن سعيد بن جمهان لا نعرفه إلا من حديث سعيد بن جمهان. قلت: وسعيد بن جمهان مختلف فيه وثقه ابن معين وأبو داود وابن حبان والنسائي، وقال ابن أبي حاتم: هو شيخ لا يحتج به، فإذا ضم ذلك إلى انفراده بهذا الحديث مع توفر الدواعي على نقل مثله اتضح ضعف هذا الحديث. ا. هـ. بحروفه. وجوابه: إن الحديث أخرجه أصحاب السنن الأربعة1 ومنهم أبو داود، وسكت عنه وقد نص في رسالته لأهل مكة أنه إذا أخرج حديثا، وسكت عنه، فهو صالح للحجية بل صححه ابن حبان وغيره، وسلم تصحيحه الحافظ في فتح الباري سطر 21 صحيفة 82 ج13، وكفى بتسليم الحافظ حجة في صحة الحديث، وأما ما وهن به الباحث الحديث، فلا ينتج له ضعفه حتى لو لم يصححه الحافظ، فإن   1 أخرجه أبو داود "4646" و"4647"، والترمذي "2227"، وأحمد "5/ 220" و"221"، والطحاوي في مشكل الآثار "4/ 313" وحسنه الترمذي، وصححه ابن حبان "1534، 1535"، والحاكم "3/ 71، 145"، ووافقه الإمام الذهبي، وسعيد بن جمهان وثقه غير واحد من الأئمة منهم الإمام أحمد وابن معين وأبو داود، وقال في التقريب: صدوق له أفراد وللحديث شاهد عند البيهقي في "دلائل النبوة" من حديث أبي بكرة الثقفي وفي سنده علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف الحفظ، وحديثه حسن في الشواهد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 526 قول الترمذي: وفي الباب إلخ عادته أن يقوي بها الحديث، وقول عمر وعلي بعدم العهد لا ينافي مضمون الحديث الذي ليس فيه تعرض للعهد بالخلافة لأحد، والحديث مرفوع مضمنه إثبات وهو مقدم على النفي، وما قاله ابن أبي حاتم في سعيد لا يضره؛ لأنها جرحة غير مبنية، فلا تقبل إزاء العدد من أعلام الفن الذين وثقوه، سلمنا أنه مختلف فيه، فحديث المختلف فيه من قبيل الحسن، فيحتج به كما هو معلوم في فن المصطلح، وكم في "الصحيحين" من رجال اختلف فيهم، وأما انفراد سعيد فلا ضير فيه، إذ الغرابة لا تنافي الصحة كحديث: "إنما الأعمال بالنيات" 1 كما هو معلوم في فنه، وأما توفر الدواعي على نقله، فليس علة عند الجمهور، وقد أعل الحنفية به أحاديث كحديث: "من مس ذكره فليتوضأ" 2 ولم يقبل منهم عند الجمهور.   1 فإنه لم يروه عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا عمر بن الخطاب ولا من عمر إلا علقمة بن وقاص، ولا عن علقمة إلا محمد بن إبراهيم التيمي واشتهر، فرواه جمع من الأئمة، فهو غريب في أوله مشهور في آخره. 2 حديث صحيح: أخرجه مالك "1/ 42"، وأحمد "6/ 406"، وأبو داود "181" والنسائي "1/ 100" وابن ماجه "479"، والترمذي "92" وقال: حديث حسن صحيح، وصححه غير واحد من الحفاظ، يحمل الأمر فيه على الندب لوجود العارف في حديث طلق بن علي الصحيح عند أحمد "4/ 22"، وأبي داود "182" والترمذي "85"، والنسائي "1/ 38" أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن مس الرجل ذكره فقال: " هل هو إلا بضعة منه". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 527 البحث الثالث : قال: وأما حديث: "إن هذا الأمر بدأ نبوة ورحمة" إلخ فلم أقف عليه، ولا على مرتبته، ولعلهما من موضوعات العلويين تحقيرا للدولة الأموية، وشواهد الحال ظاهرة فإن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يذكر الخلافة إلا رمزا في نحو حديث "رؤيا القلب"1 وفي   1 أخرجه البخاري "7/ 32"، في المناقب من حديث ابن عمر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 527 حديث "تجدين أبا بكر"1 ونحوهما. ا. هـ. بحروفه. وجوابه: أتى في الصحيفة نفسها جـ1 قلت: خرجه الدارمي2 وقد أثنى الأئمة على كتابه جدا ونسبه في "المشكاة" للبيهقي في الشعب، وقال ابن سلطان شارحه: كان من حقه أن يخرجه في "دلائل النبوة" ومن البديهي أن أهل هذه الصناعة لا يحكمون على حديث بالوضع إلا عن بينة، وتحقير العلويين للأمويين، وكون الرسول لم يذكر الخلافة إلا رمزا في ظنكم لا يبيح الحكم عليه، ولا على حديث: "الخلافة ثلاثون" بالوضع حيث قلت: ولعلهما من موضوعات العلويين، ولقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم حديث الخلافة صريحا في أحاديث صحيحة منها حديث: "إن هذا الأمر لا ينقضي حتى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة" أخرجه مسلم في صحيحه3، وأبو داود وغيرهما ونحوه في البخاري بلفظ: "يكون اثنا عشرا أميرا كلهم من   1 أخرجه البخاري "7/ 16" في المناقب من حديث جبير بن مطعم قال أئت امرأة النبي صلى الله عليه وسلم، فأمرها أن ترجع إليه، قال: أرأيت إن جئت ولم أجدك! كأنها تقول الموت، قال صلى الله عليه وسلم: "إن لم تجديني فأتى أبا بكر". 2 لم يخرجه الدارمي، وإنما هو عند أبي داود الطيالسي في "مسنده" رقم "228"، من حديث ليث بن أبي سليم، عن عبد الرحمن بن سابط، عن أبي ثعلبة الخشني عن أبي عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل، عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولين سيء الحفظ، وباقي رجالة ثقات وفي حديث النعمان بن بشير عند أحمد "4/ 273"، وأبي داود الطيالسي "438": قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء الله أن يتكون ملكا عاضا، فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون ملكا جبرية، فتكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ... " وإسناده صحيح. 3 "1821" في الإمارة: باب الناس تبع لقريش. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 528 قريش" 1 وفيه أيضا: "إن هذا الأمر في قريش" انظر صفحة 101 ج13 من "فتح الباري".   1 أخرجه البخاري "13/ 181" من حديث جابر بن سمرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 529 البحث الرابع : قال: وفي صحيفة 270 ج1 ذكرتم إباية معاوية من الرجوع إلى قول أسيد في أمر السرقة1 وجعلتموه دليلا على استباحة معاوية، وقد كان في حمله على أنه رأى ما يوجد مخالفة ما رواه أسيد مندوحة هي اللائقة بجلال معاوية دينا وعلما وحرصا على الملة، فإن كثيرا من المجتهدين خالفوا الأحاديث لعلل كثيرة مذكورة في الأصول، ولعل معاوية استند للقياس، وهو مقدم على خبر الواحد عند كثير، منهم إمامنا مالك بن أنس رحمه الله وعليه فأمره لأسيد من باب القاضي يؤمر بأن يقضي بغير اجتهاده، والمسألة معروفة في الفقه، وقد بسطها المازري في شرح التلقين لعبد الوهاب، وللخليفة أن يولي القاضي على أن يقضي بقول فلان، كما اشترط الأندلسيون القضاء بقول مالك، وتقلد القضاة ذلك، ومنهم منذر بن سعيد وهو ظاهري، فكان لا يقضي إلا بقول مالك. ا. هـ. بحروفه.   1 أخرجه عبد الرزاق في المصنف "18829" عن عكرمة بن خالد أن أسيد بن ظهير الأنصاري أخبره أنه كان عاملا على اليمامة وأن مروان كتب إليه إن معاوية كتب إلي: أيما رجل سرق منه سرقة، فهو أحق بها حيث وجدها، وقال: وكتب بذلك مروان إلي، فكتبت إلي مروان، أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بذلك بأنه إذا كان الذي ابتاعها من الذي سرقها غير متهم، يخير سيدها، فإن شاء أخذ الذي سرق منه بثمنه، وإن شاء اتبع سارقه، ثم قضي بذلك بعد أبو بكر وعمر وعثمان، قال: فبعث مروان بكتابي إلى معاوية، قال: فكتب معاوية إلى مروان، إنك لست أنت ولا أسيد بن ظهير بقاضيين علي، ولكني أقضي فيما وليت عليكما، فأنفذ لما أمرتك به فبعث مروان إلي بكتاب معاوية، فقلت: لا أقضي به ما وليت يعني بقول معاوية، وأخرجه أحمد "4/ 226"، والنسائي "2/ 233"، وإسناده صحيح وصححه الحاكم "2/ 36". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 529 وجوابه: إن نسبتي الاستبداد لمعاوية معناه: أنه ترك مجلس الشورى الذي كان يجمعه أبو بكر وعمر إذا نزلت معضلة، كقضية السرقة هنا، وهذا الاستبداد كلمة إجماع من المؤرخين، وقد نسبوا ترك الشورى لعلي وعثمان قبله إلا في قليل من الأحوال، وكم من مستبد يكون عدلا، وكذلك كان هؤلاء السادة كلهم فلا ننقص أحدا منهم رضي الله عنهم أجمعين، والاستبداد اقتضاه اجتهاده أيضا وهو مخطئ فيه بلا شك، وخطأ المجتهد لا وزر عليه فيه، كما أخطأ في اجتهاده حيث اغتصب الخلافة، وهذا مصرح به عند أئمة السنة والمؤرخين، وأخطأ في قلبها من الخلافة إلى الملك والعصبية وفي استئثاره ببيت مال المسلمين وغير ذلك مما كان مبدأ للمصائب التي حدثت بعد، والتاريخ لا يحتشم من أحد بذكر أعماله، وكلهم عن اجتهاد. وجماع القول: إن معاوية مجتهد عدل كبقية الصحابة يخطئ ويصيب، وانتقادي له في عدم العمل بحديث أسيد لا يخرج عن ذلك، وما يرد علي في ذلك وارد على أسيد نفسه الذي لم يطعه، والقياس الذي اعتذرتم به إذا كان في مقابلة النص كما هو في قضية أسيد، كان فاسد الوضع، فلا ينهض عذرا كما هو مقرر في الأصول، وقد بين الأئمة ذلك لما تكلموا على قوله تعالى: {قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} 1 فإن الكفار قاسوا الربا على البيع؛ إذ الكل معاملة، فرد الله عليهم بأنه قياس في مقابلة النص. وأما تقديم القياس على الحديث، فليس أصلا في مذهب مالك، وما وقع   1 سورة البقرة: 275. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 530 للآمدي في "الأحكام" من نسبة ذلك له، فلا أسلمه، واغتر به القرافي في "التنقيح" كما غره بعض فروع في المذهب، كترك مالك للعمل بخيار بيع المجلس1 ونحوه، وليس بواضح، فمالك ترك حديث خيار مجلس لعمل المدينة الذي هو خبر جماعة عن جماعة، فهو أقوى من الحديث وليس فيه تقديم القياس على السنة النبوية أصلا، ومالك نفسه صرح في "الموطأ" بالعمل خلا فما وقع لكم في المراجعة الثانية من أنه قدم القياس، وكل فرع في المذهب أوهم ذلك لو حققته، لوجدت مالكا إما لم يقف على الحديث، ومن ذا الذي يحيط بالسنة، ولذلك يخالفه أصحابه فيرجعون للحديث وإما قدم العمل، أو ظاهر القرآن كـ "أكل كل ذي ناب من السباع، وذي مخلب من الطير" 2 إذ ظاهر القرآن عنده مقدم على خبر الواحد الصريح الصحيح ما لم يعتضد بالعمل نعم مالك يخصص الحديث بالقياس بل وبالمصالح المرسلة، وكل ذلك بينته في الجزء الثاني لما تكلمت في ترجمته على أصول مذهبه، والفرق بين التقديم والتخصيص ظاهر. وأما قول ابن العربي في "العواصم": يرد الأحاديث جماعة منهم مالك في مواضع تعارضها أصول الشرع. ا. هـ. فمراده بالأصول العمل، أو ظاهر القرآن على ما سبق لنا من التفصيل فيه، أما القياس فحاشا مالكا ولا أبا حنيفة أن يردا حديثا صحيحا عندهما سالما من العلة والمعارض الأقوى بالقياس الذي هو رأي لهما مع ما في القياس من احتمالات النقض والفساد المبنية في محلها من "أحكام الآمدي" وغيرها" لأنه يكون فاسد الوضع، وقد حكى الشافعي الإجماع على أن من استبانت له السنة لا يجوز له أن يتركها للرأي، وثبت عن أبي حنيفة أنه عمل   1 أخرج مالك في الموطأ "2/ 671"، والبخاري "4/ 276"، ومسلم "1531" عن عبد الله عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "المتبايعان كل واحد منهما بالخيار على صاحبه ما لم يتفرقا إلا بيع الخيار". 2 أخرجه مسلم في صحيحه "1934" في الصيد والذبائح من حديث ابن عباس، وأخرجه أيضا "1933" من حديث أبي هريرة مرفوعا بلفظ "كل ذي ناب من السباع، فأكله حرام" وأخرجه البخاري في الذبائح باب أكل كل ذي ناب من السباع، ومسلم "1932" من حديث أبي ثعلبة الخشني قال: نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 531 بحديث أبي هريرة في الصائم إذا أكل أو شرب ناسيا1 وقال: لولا الرواية، لقلت بالقياس. والمحققون من الحنفية أن خبر الواحد عندهم مقدم على القياس، وأنكروا على من نقل عنهم خلاف هذا القول انظر عدد 26 من رسالة "الإنصاف" لولي الله الدهلوي وهذا ما أعتقده في أئمة الإسلام. وأما قول الباحث: إن أمره لأسيد من باب القاضي يؤمر بأن يقضي بغير اجتهاده، فليس ذلك كذلك بل أمر معاوية لأسيد أمر له بأن يحكم بخلاف ما رواه عن الرسول الله عليه السلام ولذلك لم يقبله منه ولا أطاعه فيه، وما كان أسيد ليخفى عليه واجب الطاعة لو كان له اجتهاد في المسألة فلا نشك أنه كان يترك اجتهاده لاجتهاد الخليفة المطاع. وأما تولية القاضي لي حكم بقول فلان، فليست مسألة اتفاق، بل فيها أقوال ثلاثة، وتقدمت لنا قريبا في أبواب التقليد، وأما قولكم كما اشترط الأندلسيون القضاء بقول مالك إلخ. فالذي في "نفح الطيب" الذي هو عمدة تواريخ الأندلس في الوقت الحاضر عن أبي الوليد الشقندي هو ما نصه: إن أهل قرطبة لا يولون حاكما إلا بشرط ألا يعدل في الحكم عن مذهب ابن القاسم. ا. هـ. منه عدد 145 ج2 طبع أوروبا فانظره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 532 البحث الخامس : قال في صحيفة 276 سطر 3 ج1: ما ذكرتم من سب معاوية عليا رضي الله عنهما إن كان ذلك ثابتا، فهو أمر ليس بمستغرب؛ إذ السب أقل خطبا من التقاتل   1 أخرجه البخاري "4/ 135"، ومسلم "1155"، والترمذي "721"، وأبو داود "2398" من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 532 واستحلال الدماء، وجميع ذلك ناشئ عن اعتقاد كل فريق أن مخالفة على الباطل، وأنه مخالف لأحكام الدين، وجالب الضرر على المسلمين. ا. هـ. بحروفه. وجوابه: إن سب معاوية عليا في صحيح مسلم1 رأيناه، ورويناه كما في الصفحة 54 نفسها من ج2 من "الفكر السامي" وقد أطبق عليه المؤرخون ابن جرير الطبري وغيره، ووقوعه من إمام عظيم مثل معاوية مستغرب، والشبهة التي استند إليها في هذا الاجتهاد أغرب وأغرب لا سيما بعد موت علي، وتنازل ولده عن الخلافة، زد على ذلك إشهار السب على المنابر، وقرابته يسمعون فأي سياسة تسوغه، وأي شبهة تبرره؛ لأنه سباب مسلم قد مات زيادة عن صحبته وقرابته من النبي صلى الله عليه وسلم وصهره، بل هذا من أقبح ما يستبشع في الدين الحنيفة المتمم لمكارم الأخلاق فأين هذا من قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا} 2 الآية وأنت تعلم ما استنبطه مالك من منع الساب من الفيء، وإنما الذي يهون المسألة بعض الشيء وقوع السب من رجل عظيم لمثله وله شبهة خفيت عنا، ومع هذا فإن استغرابي له كأنه اعتذار عن معاوية المشهور بدهائه السياسي، وفضائله الكثيرة وحلمه، وشهادة النبي صلى الله عليه وسلم له بالجنة. فقد روى البخاري في صحيحه3 في باب ما قيل في قتال الروم من كتاب الجهاد عن أم حرام بنت ملحان أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "أول جيش من أمتي يغزون البحر قد أوجبوا" الحديث ومعاوية أمير أول جيش غزا في البحر زمن عثمان، فقد أوجب، ولكن النقد لا يستلزم النقص، وقد قبل عند الكافة الانتقادات الفقهية في الأمور الاجتهادية ولو على أبي بكر وعمر، فكيف بالسياسة وكل يعلن أن لمعاوية أغلاط وله حسنات، وإنما هو التاريخ يقرر على وجهه، ولا أرى في تقرير المعلوم المحقق محذورا.   1 هو في صحيحه "2404" في فضائل الصحابة من حديث سعد. 2 سورة الحشر: 10. 3 "6/ 74" بشرح الفتح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 533 البحث السادس : قال وفي سطر 26 يعني من صحيفة 276 ج1 في جعل معاوية الخلافة وراثية: أرى لمعاوية في ذلك نظرا سديدا، وذلك أن العهد من الخليفة مشروع بفعل أبي بكر، ففي كون المعهود له ابن العاهد، ولعله رأى أن حالة العرب تبدلت عما عهد منهم في زمن النبوة، والخلفاء وراءهم قد تمكن منهم النزوع إلى العصبيات، فخشي إن هو لم يعهد لابنه أن تتفرق الأمة من بعده وهو الظن بسياسته ونصحه ولو علم غير ذلك لما عرض ابنه لمنصب لا يأمن دوامه، ولابن العربي في "العواصم" كلام نفيس في هذا الغرض. ا. هـ. بحروفه. وجوابه: إن تبرير معاوية في نصبه ولده خليفة المسلمين الذي قال كثير من الأئمة بتضليله ذلك رأي لبعض أهل العلم لا أشاطره إياه، وأرى لو ترك الاختيار لأهل الاختيار كما فعل النبي المختار، أو نصبه عن شورى، وأنى يمكنه ذلك وفي القوم عبد الله بن عمر، وابن الزبير، والحسين، وأمثالهم، وأي عذر حقيقي لإمام مثله في تقديم مصلحة شخصية على الشورى التي هي سنة الإسلام فهلا وسعه ما وسع أبا بكر حيث ترك ابنه، وكان أكثر من يزيد أهلية إلى ما فيه جمع الكلمة والمصلحة الحقيقية، وعمر ترك ابنه، بل ترك ابن عمه سعيد بن زيد أحد العشرة وجعلها شورى بين ستة، وأخرج سعيد وهو أحق الناس بالشورى مخافة أن تصيبه الشورى، فيقال: إن عمر جعلها لابن عمه وأسس بيتا للمسلمين، وهكذا علي لما طعن لم يعهد لولده الحسن، بل ترك الأمر للمسلمين، والحقائق التاريخية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 534 الناصعة، وليس في الحق هوادة على أنه بعدما عهد ليزيد انعقدت بيعته بالعهد، فصار خليفة شرعا ولا إشكال على مقتضى الأصل الشرعي الذي أسسه أبو بكر بعهده لعمر وانعقد الإجماع على قبوله، وهذا ملحظ ابن العربي في "العواصم" حتى نسب إليه أنه قال في الحسين إنه قتل بسيف جده، لكن لسيدنا الحسين اجتهاد رضي الله عنه؛ إذ رأى أنه حيث دعاه معاوية للبيعة ولم يبايع، وتركه، ولم يلزمه، فهو في حل من ذلك العهد، ولذلك حارب يزيدا، وإلا فكثيرا من مشايخنا كان لا يرتضي مقالة ابن العربي مع أنه مسبوق بها على أن العهد الذي عهده أبو بكر لا يقاس عليه عهد معاوية وأمثاله حتى يكون إلزاما للأمة فإن أبا بكر كان يعلم علم يقين، أن أحق الناس بها بعده عمر، ويعلم من المسلمين رضاهم به إذ شاورهم بذلك سرا، وترك قرابته من بني تيم كطلحة بن عبد الله، وترك ولده، وجعلها لبعيد منه في النسب قريب منه في الرتبة والأهلية، وهذه قضية جزئية لها خصوصيات احتفت بها لا تنتج أمرا كليا وهو إلزام جميع أمم الإسلام بكل عهد عهده خليفة ولو كان المعهود له ابنا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 535 البحث السابع : قال: وفي صحيفة 292 ج1 ومذهبه أي سعيد بن المسيب أصل مذهب مالك أن سعيدا من جملة شيوخ مالك مثل محمد بن شهاب الزهري وغيره من فقهاء المدينة، ومالك يوافقهم ويخالفهم، ويزن أقوالهم بحسب دلائل الاجتهاد، وأن أصول مذهب مالك معروفة في كتب أصول الفقه، والأصول القريبة، ولم يعدو فيها قول فقهاء التابعين، ولا يخفى عليكم أن الاجتهاد ينافي اتباع قول آخر. ا. هـ. بحروفه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 535 وجوابه: إن معنى كونه أصله أنه وافق اجتهاده في كثير من المسائل، ولم أقصد أنه من أصول مذهبه، فإن ذكرتها في ترجمته، ولم أذكر مذهب سعيد منها كما أن مذهب سعيد مقتبس عن مذهب زيد بن ثابت، وعمر بن الخطاب، وابنه وأبي هريرة وغيرهم من أعلام الصحابة المدنيين، بل لا غرابة في تقليد مالك لسعيد في بعض المسائل بناء على أن الاجتهاد يتجزأ، وهو الصحيح، ولا في تقليد سعيد لمن قبله، وهل أخذ مالك بمذهب الصحابي وبعمل المدينة في الاجتهادات إلا نوع من التقليد، وأول من يدخل فيهم سعيد؛ لأنه رأسهم وسيد فقهائهم من التابعين، والعبارة هي لغيري قالوا: إن أصل مذهبه مذهبه، وقال ابن المديني: كان مالك يذهب إلى قول سليمان بن يسار، وسليمان يذهب إلى قول عمر بن الخطاب. وأما كون ابن المسيب شيخا لمالك، فهو غير ممكن؛ لأن ولاده مالك في السنة التي توفي فيها أو التي بعدها، كما هو مبين في ترجمتيهما من الفكر السامي الذي وقع التعليق عليه، لكن الشيخ بين في مراجعته الثانية أنه وقع في ذلك غلط للكاتب وأن صواب العبارة هكذا هو من علية شيوخ شيوخ مالك، والأمر سهل، ومثل الشيخ بعيد عن مثل هذا الغلط حفظه الله وأمتع المسلمين بأنفاسه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 536 البحث الثامن : قال: من صحيفة 335 ج1 إلى صحيفة 339 عند ذكر أول من دون الفقه والحديث: أرى أن أول من دون الفقه والحديث والتفسير في مدون مقصود منه عموم الناس هو الإمام مالك بن أنس رحمه الله في موطئه، كما يدل لذلك طلب أبي جعفر المنصور، ثم عزمه على الأمر باتباعه في أمصار الإسلام، وأن ما كتبه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 536 قبل ذلك أبو بكر عمرو بن حزم، وابن شهاب، والربيع بن صبيح، وسعيد بن أبي عروبة، فإنما هي تقاليد قيدوها لأنفسهم، أو لأفراد سألوهم، فلا تعد تآليف ألا ترى أنهم لم ينشروها، وإن شئت أمثال هذه التقاييد، فقديما ما قيد الصحابة أشياء، فهذا عبد الله بن مسعود، وأبي بن كعب كانا يقيدان كل ما سمعاه من قول النبي صلى الله عليه وسلم في مصحفيهما، ومثل هذا يقال فيما ألف زمن مالك. أما الفقه الأكبر المنسوب لأبي حنيفة رحمه الله المؤلف في الفقه، فقد ذكر جنابكم ما في نسبته، وأما المؤلف في العقائد على صورة عقيدة ففي نسبته إليك شك، والحنفية ينكرون منه مسائل، منها مسألة إثبات كفر أبوي الرسول صلى الله عليه وسلم، وحسبك بهذا دليلا على أنه لم ينقل عنه بسند صحيح، فيتطرق الشك في أصول تأليفه. ا. هـ. بحروفه. وجوابه: بتسليم كون أول من دون تدوينا معتبرا في الفقه والحديث والتفسير وانتشر تواترا، وحصل النفع به هو مالك، وذلك ما تفصح عنه الصفحة 335 وما بعدها من الجزء الأول من "الفكر السامي" وقد حكى ذلك في "كشف الظنون" عمن قبلنا من أهل العلم ونقلته هناك، وأما إنكار كون ما ألفه أهل عصره تواليف، وإنما هم قيدوها لأنفسهم، ولم ينشروها، فهذا لا يساعده ما نقلناه في عدد 337 عن الترمذي، و"قوت القلوب" وغيرهما، وكيف ننكر جامع سفيان الثوري، وجامع ابن عيينة، وصحيفة عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده المنشورة في الأمة، والمنقولة عن الأئمة بأسانيد صحيحة لا نشك أنا وأنت في ذلك وغيرها وغيرها، وقال الزهري: لم يدون هذا العلم أحد قبل تدويني، نقله عنه الحافظ أبو بكر محمد بن موسى الحازمي الهمداني أول كتابه "الاعتبار في الناسخ والمنسوخ" وهل ملأ البخاري صحيحه إلا من "الموطأ" ومسندي السفيانين، ومصنف عبد الرزاق، ومسند ابن أبي شيبة، وكذا أبو داود منها، ومن صحيفة عمرو بن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 537 شعيب وغيرهم، ولم تكن خاصة بأنفسهم، بل نشروها في عموم الناس، فانتفعوا بها إلا أنها لم تبلغ مبلغ موطأ مالك فيما بيناه من المزايا والانتشار التواتري. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 538 البحث التاسع : قال: وفي صحيفة 339 ج1 في إدراك أبي حنيفة للصحابة أرى أن جنابكم لم يعط تلك النقول الضعيفة ما تستحقه من التزييف، وكيف يترك كلام أئمة الحديث وأهل العلم بالرجال إلى كلام شذوذ من المتأخرين الذين يحسبون أن الرجل الكامل لا يكون كاملا حتى يثبت له الكمال في كل شيء، وقد ثبت أنه لم يرو إلا سبعة عشر حديثا، فتأول بعض الحنفية ذلك بأن المراد سبعة عشر تأليفا في المسانيد، ومعلوم لفضيلتكم أن الكوفة لم تكن دار حديث، ولا نزلها من فقهاء الصحابة عدد له بال وقد شغلت في زمن الخليفة الرابع بما حولها من الحروب والفتن، ولو كان أبو حنيفة رحمه الله من رجال الحديث، لما ترك معاصروه الرواية عنه والرحلة إليه، وإلا لعد ذلك طعنا في عدالته أما ما لفقه له المتأخرون من المسانيد، فبصر جنابكم فيه حديد ولا أزيد. ا. هـ. بحروفه. وجوابه: إني صدرت أولا بكونه لم يلق صحابيا، ونقلت عن ابن خلكان قوله: لم يثبت ذلك عند أهل النقل، لكني لم يسعني أن أترك ما أثبته الواقدي، والخطيب البغدادي حافظ المشرق، وعصريه ابن عبد البر حافظ المغرب، ثم الذهبي حافظ الشام، ثم السيوطي حافظ مصر، ثم محمد بن عبد الرحمن الفاسي حافظ المغرب في وقته، ومحمد بن سليمان الروداني حافظ الحرمين الشريفين والشام من لقيه لبعض الصحابة، أو رؤيته إياهم، أو روايته عنهم، ولا يخفاكم أن المثبت مقدم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 538 على النافي، وهؤلاء كلهم من أعيان المحدثين الحفاظ الكبار، وعلماء الرجال، فلا أرى بدا في أداء الأمانة من نقله، وأنتم تعلمون أن الإمام مسلما لم يشترط في صحة الحديث اللقي، واكتفى بالمعاصرة؛ لأنها مظنة اللقي، وأن معاصرة أبي حنيفة لبعض منهم لا شك فيها. أما ما ذكر الشيخ رصد في تاريخ الأزهر من لقيه 21 صحابيا، فقد أعطيته ما يستحق بقولي وهو من عهدته، ولا أقدر أن أزيد، وأما قولكم: وقد ثبت أنه لم يرو إلا سبعة عشر حديثا، فدون ثبوت ذلك خرط القتاد كيف يقال: إن إماما يقتدي بأقواله نحو نصف الأمة الإسلامية لا يروي إلا هذا العدد، ولو كانت الإمامة تنال بهذا النزر من السنة، لسهل ادعاؤها على كل مدع، ولما استصعب الأئمة وجود المجتهد المطلق من آخر القرن الرابع؛ لأن الأصل الأول الذي ينبني عليه الاجتهاد هو الكتاب والسنة، والمجتهد لا بد أن يكون حافظا جهيرا للسنة كما قال الدهلوي في "عقد الجيد" ولو على سبيل الكمال، وبعيد كل البعد أن لا يكون أبو حنيفة نال هذا الكمال، واقتصر من رواية السنة على سبعة عشر حديثا ومع ذلك تبعه، وأخذ بمذهبه جمهور الأمة، وترك مذهب من يروي مئات الآلاف من السنة. وعلى الإجمال فهذه المقالة التي حكاها ابن خلدون في "المقدمة" بلفظ: يقال ثم كر عليها بالإبطال، وقد أشرت لشيء من ذلك في الصفحة 123 ج2 وأرى أنها مجازفة لا ترتكز على حقيقة إلا لو ثبت أنه أخبر ذلك عن نفسه ومثلها قولهم: فلان يحفظ ألف ألف حديث. وانظر كم مدة تمكث في سرد صحيح البخاري الذي به نحو أربعة آلاف حديث بالمكرر وغيره، فأي زمن يكفي لحفظ هذا العدد، ثم لروايته ونشره وأصحاب المبالغات دائما بين إفراط وتفريط. وأما قول الباحث: إن الكوفة لم تكن دار حديث، ولا نزلها من الصحابة عدد له بال، فهو غير محرر، ففي الصفحة 88 من الجزء الأول من "الفكر السامي" بينا أنها كانت في صدر الإسلام دار علم، وانتقل أعلام الصحابة إليها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 539 وإلى البصرة والشام أليس ابن مسعود الذي قال فيه عليه السلام: "اهتدوا بهدي ابن أم عبد" 1 انتقل إليها معلما وهاديا زمن عمر، ومكث بها إلى آخر خلافة عثمان. وكذلك عمار وأبو موسى، وسعد بن أبي وقاص، والمغيرة وحذيفة، ثم علي لما استخلف، وابن عباس وغيرهم، وقد مكث علي فيها أربع سنين وأشهرا. قال ابن حزم: أجمعت الأئمة والمؤرخون أن من انتقل لأرض انتقال استقرار لم يرحل عنها رحيل ترك سكناها، نسب إليها فإن ذكروا الكوفيين من الصحابة، صدروا بعلي وابن مسعود وحذيفة، نقله في "نفح الطيب" عدد 113 طبع أوروبا، وكفى بالكوفة شرفا باب مدينة العلم، وابن أم عبد وصاحب سر رسول الله، ومن ذكرنا معهم على أني أعلم أنها دون المدينة في ذلك كله حسبما قررته في الصفحة 89، وما بعدها. هب أنها لم تكن دار علم، فلا يلزم منه عدم معرفة أبي حنيفة بالحديث، ولا ينقص من قدره لإمكان أن يدركه بالرحلة، ويكون ذلك زيادة رفع، له وأما قول الباحث إن سبب عدم رواية الحديث عن أبي حنيفة هو عدم معرفته به، وإلا لزم الطعن في عدالته، فاللزوم في هذه القضية الشرطية ليس بعقلي ولا عادي ولا شرعي؛ إذ حصر ذلك بسببين: الجهل أو عدم الثقة لا يسلم أيضا فكم من حافظ ثقة لم تنتشر روايته لاشتغاله بغيرها، يمكن أن يكون أبو حنيفة اشتغل بالفقه وقصد له دون الحديث، وأنتم ذكرتم سببا ثالثا وهو أن الكوفة لم تكن دار علم على ما فيه، أو يكون هو نفسه يتحرى رواية الحديث تورعا كما كان يفعل الزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله، وسعيد بن زيد، وسعد بن أبي وقاص، وغيرهم، كانوا ملازمين للنبي صلى الله عليه وسلم، وحضروا المشاهد ولم يرو عنهم إلا اليسير بالنسبة لما روى غيرهم، ولم يلازمه ملازمتهم كأبي   1 أخرجه الترمذي "3807" من حديث ابن مسعود بلفظ "وتمسكوا بهدي ابن مسعود" وفي سنده يحيى بن سلمة بن كهيل وهو ضعيف وروى الترمذي "93809" بسند صحيح، عن حذيفة قال: كان أقرب الناس هاديا ودلا وسمتا برسول الله ابن مسعود حتى توارى منا في بيته، ولقد علم المحفوظون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ابن أم عبد من أقربهم إلى الله زلفى، وأخرجه البخاري "7/ 80" في المناقب مختصرا ولفظه: ما أعرف أحدا أقرب سمت وهديا ودلا بالنبي صلى الله عليه وسلم من ابن أم عبد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 540 هريرة. كانوا يتحرون الرواية، وهذا عبد الله بن عمرو بن العاص كان أكثر ملازمة من أبي هريرة، ويكتب ما يسمع، وأبو هريرة كان لا يكتب، ولم يرو عنه ما روي عن أبي هريرة لاشتغاله بالسياسة وكان في مصر، ولم تقصد إذ ذاك لرواية الحديث. وأجاب الباحث ثانيا عن جوابنا السابق بما نصه: أما رواية أبي حنيفة لسبعة عشر حديثا فقط، فهذه مسألة كفانا أئمة الحديث بسطها من البخاري فمن بعده، ومراد من قال ذلك إنما ينظر إلى رواية الصحيح المقبول، والسبب في ذلك أن أبا حنيفة كان يرى أن الأصل في المسلمين العدالة، ولذلك يرى قبول المستور وهو المجهول كما تقرر في الأصول. ومن هنا دخل الضعف في مروياته، وأدلة الفقه في المذهب الحنفي إلى اليوم تشتمل على أحاديث ضعيفة كثيرة1 بعدما أدخل الطحاوي حين تقلد المذهب الحنفي من التنقيحات لتلك الأدلة. وأما الإمامة التي نالها الإمام أبو حنيفة رحمه الله، فكانت بحسب نظره في الشريعة وبالقياس، وبما بلغه من الحديث قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} . وأما دخول الصحابة الكوفة، فمسلم، لكن جمهرة الذين دخلوها منهم إنما كانت في عصر الشغل بالدولة وبالفتن حتى استقضى فيها شريح دون بقية الصحابة. ا. هـ. بحروفه ونكل للقارئ حرية النظر والتمحيص، ونقول: إن شريحا استقضي في خلافة عمر قبل الفتنة كما سبق لنا في ترجمته.   1 بمراجعة كتاب نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية للإمام الزيلعي وغيره من كتب التخريج يتبين لك تهافت هذه الدعوى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 541 البحث العاشر : قال في صحيفة 341: قلتم: أخرج له يعني أبي حنيفة النسائي في سننه والبخاري في جزء القراءة. أرجو الإفادة بنص هذين الموضعين لغرابتهما لأن المعروف عند أهل الحديث أنه لم يخرج عنه أهل الصحيح. ا. هـ. وجوابه: إن الذي نفى إخراج أهل الصحيح له هو عياض، والذي أثبت ما ذكرته في "الفكر السامي" هو الحافظ صفي الدين أحمد بن عبد الله الخزرجي الأنصاري في كتابه "خلاصة تذهيب الكمال في أسماء الرجال" المطبوعة في المطبعة الكبرى الأميرية ببولاق الطبعة الأولى سنة 1301 في العدد 402 صدر ترجمة أبي حنيفة حيث بدأه بهذه العلامات "تم ز س" فالعلامة الأولى وهي "تم" لشمائل الترمذي، والثانية "ز" للبخاري في جزء القراءة، والثالثة "س" للنسائي في السنن وهذا مستند ما في "الفكر السامي" لكن الباحث قال في مراجعته الثانية: إنه لم يقف على ما نسبته لخلاصة تذهيب التهذيب1 ولعل الذي بيده مطبعة أخرى على أنه لا مخالفة بين كلام عياض وغيره إذا حمل كلام عياض على صحيحي البخاري ومسلم.   1 الذي في تهذيب التهذيب علامة "ت، س" وهما للترمذي والنسائي وفيه توثيقه رحمه الله عن غير واحد من أئمة الجرح والتعديل، وقد عده الذهبي من الحفاظ في "تذكرته". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 542 البحث الحادي عشر : قال: في الصفحة 356 قلتم: إن مذهب الحنفية أوسع المذاهب وأكثرها تسامحا على وجه الإجمال إلخ، وهذا حكم عسير يحتاج إلى موازنة في المذاهب في عداد المسائل، وأحسب أن التسامح والشدة حكمان مشاعان بين سائر المذاهب، وأمرهما لا ينضبط في آحاد المسائل. ففي المذهب الحنفي الخيل: وعدم العمل بسد الذرائع، ومع ذلك ففيه شدة عظيمة في مسائل جمة من العبادات كنقض الوضوء من دم الجرح وعدم التطليق بالضرورة وبالإعسار بالنفقة، وعدم صحة المغارسة، وإبطال الشروط في البيع والنكاح مطلقا، وبأن طهارة الثوب والبقعة واجبة ولو مع النسيان، وقال بالفطر بالحجامة في رمضان1 وبصحة بيع المكره، وبمنع رهن المشاع، وبعدم صحة الوصية لغير الموجود. وفي المذهب المالكي المصالح المرسلة: والتأويل الصحيح الراجع إلى التوسعة في الدين مثل تأويل حديث "لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه ولا يسم على سومه" 2 فإن تراكنا وتقاربا، قال مالك: ولو كان على ظاهره، لكان باب فساد يدخل على الناس، وفيه إبطال خيار المجلس لمنافاته الانضباط، وفيه العمل بقاعدة: تحدث للناس لأقضية بقدر ما أحدثوه من الفجور، فهذا باب عسير الضبط، وقد قال الحنفية بجواز انعقاد الحبس دون الحور، ومع ذلك منعوا شرط البيع لمن احتاج   1 في كتب الحنفية أن الحجامة في رمضان لا تفطر الصائم، انظر الهداية "1ك 88" والدر المختار "2/ 17". 2 أخرجه مالك في الموطأ "2/ 683"، والبخاري "4/ 313"، ومسلم "1412" في البيوع: باب تحريم بيع الرجل على بيع أخيه، وفي النكاح: باب تحريم الخطبة على خطبة أخيه، وأبو داود "2080" والترمذي "1292" من حديث عبد الله بن عمر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 543 حلافا للمالكية فيهما. فأتت ترى الشدة والتوسع مشاعين في هاتين المسألتين. ثم إن السعة والتسامح يجريان في العبادات والمعاملات، فالعبادات يمكن أن يوصف الحكم المتعلق بتسامح أو ضده من حيث ما فيه من التخفيف على المكلف إلا أن هذا لا ينبغي استحسانه على الإطلاق؛ لأنه قد يبلغ التسامح أو ضده إلى حد يضيع مقصد الشريعة من إصلاح المكلف فإن التكليف إلزام ما فيه كلفة، والكلفة مقصود للشارع، هذا كما في قول الحنيفة بالاكتفاء بشاهدي عقد النكاح بحضورهما، ولو كانا نائمين. فالاكتفاء بهما نائمين مقصد الشارع من تكميل حفظ الأنساب، وأما المعاملات، فالتسامح فيها إن تعلق بأصل المعاملة كإباحة بعض أجناس المعاملات لاحتياج الناس إليها مثل المغارسة في المذهب المالكي، وبيع الوفاء1 في المذهب الحنفي. فهو ظاهر، وإن تعلق التسامح بالبطلان والصحة في فروع الأبواب، فقد يقال: إن التسامح حينئذ غير معتبر؛ لأن التسامح المتعلق بأحد المتعاقدين تشديد على الآخرة. ا. هـ. بحروفه.   1 صورته أن يبيع دارا أو أي عين بألف على أنه إذا رد عليه الثمن رد عليه الدار، وقد جاء في فتاوي النسفي فيما نقله عن ابن عابدين في حاشيته "4/ 257": البيع الذي تعارفه أهل زماننا احتيالا للربا، وسموه بيع الوفاء، وهو رهن في الحقيقة لا يملكه ولا ينتفع به إلا بإذن مالكه، وهو ضامنه لما أكل من ثمره، وأتلف من شجره، ويسقط الدين بهلاكه لو يفي، ولا يضمن، الزيادة وللبائع استرداده إذا قضى دينه لا فرق عندنا بينه وبين الربا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 544 وجوابه: أرى أنه لا عسر على من شاء الموازنة أن يضع بين يديه بداية ابن رشد أو قوانين ابن جزي مثلا، ويوازن بين كثير من الأحكام في المذاهب في شتى الأبواب، فلا شك أنه يجد التسامح والشدة مشاعة بين المذاهب ما قلتم؛ لأن كل واحد أخذ حظه من الرخص والعزائم، ولكن إذا دقق النظر، وجد الأكثرية في جانب الحنفية على وجه الإجمال، سواء في الأبدان أو الأموال، لو شاء الحنفي المطلع ألا يؤدي زكاة لفعل لفتح باب الحيل، ولو شاء أن لا يقام عليه حد، لأمكن لأخذهم بدرء الحد بأدنى شبهة إلى أبعد نهاية حتى إنهم لا يجمعون بين حد السرقة وأداء المسروق لئلا يجمعوا على السارق مصيبتين. وإذا نظرنا إلى أصول المذاهب الأربعة في الجزأين 2 و3 من الفكر السامي فإن نجد مذهب الحنفية بني على النظر إلى علل الأحكام وحكمها المقصود من التشريع أكثر من غيره، ولم يعتبر سد ذرائع الذي اعتبره المالكية والحنابلة، ورخص في الحيل للتخلص من المضايق وهي نوع من الترخيص والتوسعة المناسبة للتطور الكوني، ولم يتقيد بالجمود على ظاهر السمعيات، وألغى مفهوم المخالفة الذي هو نحو ربع السمعيات، وشدد في شروط العمل بخبر الواحد حيث اشترط فيه الشهرة وإن تساهل في حمل مجهول الحال، لا مجهول العين على الدالة، واشترط فيما يعارض القياس منه أن يكون الراوي فقيها على تفصيل وخلاف في ذلك، فيتسنى لنا الحكم بأنه أوسع المذاهب وأكثرها تسامحا على وجه الإجمال، وألينها في يد المفتي الذي يضطر لتغير الأحكام بتغير الأحوال فيجده أيسر انطباقا على الحاجيات الوقتية المتجددة في كثير من الفروع والأبواب، وعلى ناموس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 545 التغير بالرقي أو التأخر من جميع المذاهب على وجه الإجمال على أن قد قررت في الصفحة 356 والصفحة 358 وغيرهما أنه قد يكون أضيق المذاهب وأكثرها جمودا على الظاهر في بعض المسائل، وبينت أمثلة من ذلك بما يوافق بعض ما بسطتموه. أما المصالح المرسلة التي اعتبرتموها من التوسعة، فقد تكون من المضيق في كثير من الأبواب، وأما إبطال خيار المجلس، فليس من التوسعة بإطلاق، بل الخيار أوسع، وكذلك العمل بقاعدة عمر بن عبد العزيز: تحدث للناس أقضية ليس هو من التوسعة بإطلاق كما هو ظاهر. وأجاب الباحث عن هذا حفظه الله في المراجعة الثانية: فقال: أما ما ذكرتموه من سعة المذهب الحنفي، فهي بعد محل النظر وعلى تسليمها، فالسعة التي لا تشايع مقاصد الشريعة لا خير فيها فإن إبطال سد الذرائع، وفتح باب الحيل، وإلغاء مفاهيم الشريعة، كل أولئك معاول تهدم مقاصد الشريعة لا سيما إبطال مفهوم المخالفة، فإن عورة عظيمة لمن يتصدى لفهم كلام عربي مبين، وكون المذهب ألين بيد المفتي ليس مما يحمد على الإطلاق، فإن الدين جاء لإبطال ذلك اللين نعي على بني إسرائيل، ونطوي بساط هذا؛ لأنه بساط طويل. ا. هـ. بحروفه. وجوابه: أما كون هذه السعة لا تشايع مقاصد الشريعة فمذهب بني على النظر إلى المعاني المقصودة من الأحكام كيف يمكن أن يقال فيه ذلك؛ وأما ما يتعلق بالنزاع من جهة الحنفية في أصل سد الذرائع، ومفاهيم المخالفة، ومن جهة غيرهم في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 546 باب الحيل، فمبرهن على ذلك بالحجج في محله من كتب الأصول وكل له حجج يعلمها من لم يقتصر على كتب مذهب واحد. وأما إثبات الحيل في أصول المذهب الحنفي، فيأتي في البحث الثالث عشر. وأما مفهوم المخالفة، فقد دل الحنفية على عدم اعتباره بآيات وأحاديث دل الإجماع على عدم اعتبار مفهومها أو غيره من الأدلة كآية {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ} 1 وآية {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} 2 وآية {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} 3 وآية {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} 4 وآية {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} 5 وغيرها، وطردوا الباب فيما سواها قالوا: ما دل الدليل على اعتبار مفهومه، فذلك الدليل لا للمفهوم، أما المفهوم، فمسكوت عنه، وأورد عليهم كلمة الشهادة، فإنما دلت على إثبات الألوهية لله بالمفهوم، وأجابوا بأنها دلالة عرفية بالمنطوق لا المفهوم. وأما المالكية والجمهور فتمسكوا بآيات وأحاديث قامت أدلة على اعتبار مفهومها، وطردوا الباب في سواها، وأجابوا عما دل الدليل على إلغاء مفهومه بأنه خرج مخرج الغالب كآية: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} وبحث عز الدين في جوابهم هذا بما تقف عليه في الفرق 62 عند القرافي الذي أجاب عنه بجواب ساقط، وبسط الأدلة للفريقين، وردودها في "أحكام الآمدي" وغيرها. وعلى كل حال كل من الفريقين له تمسك بالآيات جعلها أصلا، وطرد الباب في سواها، وأجاب عما يخالفها، ولكل وجهة، فلم يبق محل لأن يعبر في أحد الجانبين بالعورة العظيمة، والنعي على بني إسرائيل ونحو هذه العبارات الموجبة للأحقاد والتصلب في المذاهب، والمنافية لمبدأ إزالة النفرة بين عموم أهل الإسلام، والذي نعى على بني إسرائيل هو التبديل والتغيير والتأويل غير المقبول   1 سورة الإسراء: 31. 2 سورة النور: 33. 3 سورة آل عمران: 131. 4 سورة البقرة: 283. 5 سورة النساء: 23. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 547 الذي لم يقم عليه دليل، وأحاشي الحنفية عن ذلك كله، ونعتقد أنهم على هدى من ربهم كغيرهم من مذاهب الأئمة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 548 البحث الثاني عشر : قال: وفي الصفحة 359 ذكرتم تألب الحجازيين على أبي حنيفة رحمه الله إلخ أرى أن أهل الأثر لم ينسبوا له تعمد ترك السنة فإنهم معترفون بثقته وورعه، وإنما نسبوا له القصور في معرفتها، وهذا لا ينافي الثقة فإنه أخذ بما بلغه، واعتمد القياس في غيره، وحسبك بالقياس مدركا شرعيا. ا. هـ. بحروفه. وجوابه: إن منهم من نسب له ترك السنة يعني مع علمه بها لقادح أو معارض عنده كما هو الظن بأمثاله وإن لم يسلمه له غيره، ومنهم من نسب له القصور فيها ولو راجعتم من ترجموه من غير الحنفية، ومن انتقدوا مذهبه وبعض شروح البخاري في كتاب الحيل، وكتب ابن حزم، وأهل الظاهر، والحنابلة وغيرهم في كتبهم التي يردون بها الحنفية، لوقفتم على كثير من عباراتهم الصريحة حتى صار من أمثالهم: أعراقي أنت تقريعا لمن ترك السنة. أما ورعه الذي لا نزاع فيه، فلا دليل لكم فيه على عدم تركه السنة، فقد يتركها لقادح أو معارض في ظنه وهو ورع، ولو وقع منه تركها لما ظننا به إلا حاشاه أن يرتكها لرأية، وما نسبتم له من القصور فيها هو ترك لهان ومن كان فيها كيف يستحل لنفسه الاجتهاد، واتخاذ الناس له قدوة نعم الورع يوجب على من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 548 كان قصيرا فيها أن لا يجتهد في أحكام الله لأن شرط المجتهد معرفتها وعدم القصور فيها باتفاق من أهل العلم، وأما قولكم: وكفى بالقياس مدركا شرعيا، فالقياس على ماذا يكون إذا لم يكن معرفة بالسنة التي هي من المقيس عليه، ثم أجابني الشيخ في مراجعته الثانية بقوله: لعل جنابكم ظن أني قصدت إبطال ما نقلتموه معاذ الله أن يخطر ذلك ببالي وإنما أردت أنهم لما نسبوا له مخالفة السنة دل ذلك على أنهم لا ينزلونه بمنزلة أئمة الأثر، ومرادي بذلك إتمام الاستدلال على أنه لم يكن من المشتغلين بالحديث وصفات رجاله. ا. هـ. وللناظرين النظر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 549 البحث الثالث عشر : قال: وفي الصفحة 364 قلتم في ذكر الحيل: والحق أنه لا حق لهم في الإنكار إلى آخر الصفحة لا يعزب عن جنابكم أن التحيل لإبطال المقاصد الشريعة لا يخلو من أحد أمرين إما نسبة التشريع إلى نفي الحكمة المقصودة من الأحكام الشرعية حتى يصير المكلف ناظرا إلى الصور والألفاظ لا إلى الأرواح والأغراض، وإما الاجتراء على إبطال الحكمة الشرعية بما يرضي العامة، وهذه النزعة إسرائيلية ففي الحديث "لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها وأكلوا أثمانها" 1 وقال صلى الله عليه وسلم: "الأعمال بالنيات" 2 وكيف يعمد إلى الحيل وقد ترتب عليها إسقاط الزكوات، وتحليل المبتوتات، وأما آية {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا} 3 فإن تلك فتوى الله تعالى لنبي من أنبيائه، وليس باب الخصائص بدعا في الشرائع، على أن البر في اليمين أو الحنث لا يترتب عليه معنى شرعي سوى تعظيم اسم الله تعالى والنبي لا يزيده البر تعظيما لاسم الجلالة، فلما تحير في بر يمينه، واشتد عليه إيجاع امرأته ضربا أفتاه الله إكراما له وترخيصا كما فدى إسماعيل بذبح كبش، وفي حديث فتح مكة "فإن اعتل أحد لقتال رسوله فيها، فقولو له: إن الله يحل لرسوله ما شاء" 4 وفي عملكم ما قاله أئمتنا في تلقين المفتي   1 أخرجه البخاري في صحيحه "4/ 344، 351، 352" بشرح الفتح ومسلم "1582" في المساقاة. 2 متفق عليه: من حديث عمر. 3 سورة ص: 44. 4 أخرج البخاري "8/ 17" في المغازي في فتح مكة، ومسلم "1345" من حديث أبي شريح العدوي مرفوعا $"إن مكة حرمها الله، ولم يحرمها الناس فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما ولا يعضد بها شجرة فإن أحدا ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا له: إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم وأنما أذن لي فيها ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 550 الفجور، ووقع فروع في المذاهب فيها ما يشبه الحيلة لا يقضي باعتبار التحيل أصلا في تلك المذاهب؛ لأن تلك فروع بنيت على الإغراق في طرد الأصل، وأكثرها متعلق بالمسائل التعبدية، فكيف تناسب القول بجواز الحيل مذهبا معظم مبناه على القياس الذي آثر العلة ثم الحكمة. ا. هـ. بحروفه. وجوابه: اعلم بمجرد إمعان النظر في الصفحة 363 فما بعدها من الجزء الثاني من الفكر السامي، فقد بينت هناك محاججه بين من يثبت الحيل ومن ينفيها، وانفصلت على وجه معتدل، وهو أنه لا يسعنا إنكار وجود أصل الحيل في شرعنا، بل وفي الشرائع قبلنا لنضافر ظواهر الأدلة على ذلك والظواهر إذا تكاثرت أفادت القطع كما هو منصوص عليها للفقهاء والأصوليين والمحدثين، ثم انفصلت على أن الحيلة إذا هدمت أصلا شرعيا، أو ناقضت مصلحة شرعية، فهي ملغاة لا يجوز الترخيص فيها كبعض الحيل التي عيبت على بعض الحنفية، وبينت هناك جملة منها وعلى مثلها حديث "لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها" الحديث، وما ليس كذلك، فلا موجب لإلغائها، وعلى هذا القسم تحمل قضية أيوب في ضرب زوجته وأمثالها مما ورد في الشرائع. وأما ما ذكره الشيخ من كونها خصوصية لأيوب، فغير خفي أن الخصوصية لا ثبت إلا بدليل، وأما قياسها على حديث فتح مكة، والقتال فيها، فهو قياس مع وجود الفارق البين، ففي هذا الحديث صرح بالخصوصية بخلاف قصة أيوب، ومثلها قضية سيدنا يوسف عليه السلام المذكورة في آية {اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ} إلى آية {فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} إلى قوله: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ} 1 فإنه تحيل   1 سورة يوسف: 59. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 551 ليأخذ أخاه والقرآن مصرح أو ظاهر في التحيل، قال: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ} وكان شرع الملك لا يبيح له ذلك. وأما قول الشيخ في مراجعته الثانية: إن شرع الملك لم يكن سماويا بل وضعيا، وأن أهل مصر لم يكن شرعهم سماويا، وأحكام شرائعهم متجافية عن الحق إلخ فهذه دعوى ينافيها حكم يوسف به وهو نبي مرسل، فكونه حاكما به حتى تحيل في تحويره، دلنا أنه سماوي، إذ لا يعقل أن يكون رسول الله حاكما بشرع غير سماوي والله يقول: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} 1 وقال تعالى: {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ} 1 الآية، ومن أين لنا أن أهل مصر لم يكن شرعهم سماويا وأن أحكم شرائعهم متجافية فهذا كله في حيز المنع، والله يقول: {مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} 2 ويقول: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} 3 كذلك تأويل الشيخ لقضية الخضر في تحليله لخرق السفينة بأنها حكم باطني، ولحديث "بع الجمع بالدراهم" 4 بأنه خروج عن تهمة ربا الفضل إلى صريح الإباحة فإن الجواب بالباطن لا يسلمه الخصم، والخروج عن التهمة هو الذي نسميه نحن بالتحيل. وعلى كل حال الأدلة على وجود التحيل في بعض موارد الشريعة بالمعنى الذي ذكرناه لا ينكره أحد فيما أظن، وانظر حديث المحترق الذي وقع على زوجته في نهار رمضان كيف أن النبي صلى الله عليه وسلم ألزمه أولا بالكفارة ولما رأى منه العجز عنها صيره مكفرا وآخذا لتلك الكفارة5: فبعد ما كان ملزوما برزء ماله أو بدنه، صار رابحا   1 سورة المائدة: 44. 2 سورة غافر: 77. 3 سورة فاطر: 54. 4 أخرج مالك في الموطأ "2/ 623"، والبخاري "4/ 323"، ومسلم "1593" "95" عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلا على خيبر فجاءه بتمر جنيب، فقال رسول الله: "أكل تمر خيبر هكذا؟ " فقال: لا والله يا رسول الله أنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين والصاعين بالثلاثة، فقال رسول الله: "فلا تفعل بع الجميع بالدراهم، ثم أبتع بالدراهم جنيبا". 5 أخرجه مالك "1/ 9296" والبخاري "4/ 141، 149"، ومسلم "1111" من حديث أبي هريرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 552 وكذلك حديث الخليطين في الزكاة من صحيح البخاري1، فإن خلط الماشية يؤدي إلى إسقاط بعض الزكاة، وهو نوع من التحيل، وقد أقره الشرع، وكذلك حديث عمر في الصحيح حيث خير النبي صلى الله عليه وسلم نساءه، وبدأ بعائشة دون بقية الأزواج وقال لها: "إني ذاكرا لك أمرا ولا عليك ألا تعجلي حتى تستأمري أبويك" قالت: أعلم أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقك الحديث2، وحديث بريرة حيث قال عليه السلام لعائشة: "ابتاعيها واشترطي لهم الولاء فإن الولاء أعتق" 3، وقال للذي أقر بالزنى: "أبك جنون؟ " وحديث في الصحيح4 وقال تعالى: {لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلا مَعْرُوفًا} 5 ومثل هذا التحيل هو الذي يبيحه الحنفية ولا يسعنا إنكاره. ومن الحيل قول الشيخ خليل: فإن فعلت المحلوف عليه حال بينونتها لم يلزم فإن المفتي يرشد من قال لزوجه: إن دخلت الدار فأنت طالق ثلاثا بأن يتخلص من الثلاث بتطليق زوجه طلاقا بائنا، ثم تدخل الدار البينونة، فلا يلزمه ثلاث، وهذه حيلة يفتي بها المالكية للتوسعة. وهكذا نكاح المتعة يفتون من تزوج زوجة ناويا أن زواجه بها إلى أجل لم يشترطه عليها وإن فهمته الزوجة من حاله، أو أعلمها قبل العقد، فإذا انقضى الأجل، فارقها بطلاق، وكانا قبل الفراق على نكاح صحيح وهو في الباطن نكاح متعة. وهذا فرع ذكره الزرقاني شارح خليل وسلم له وهو حيلة بلا شك، وفي ابن   1 أخرجه البخاري "3/ 9248" من حديث أنس بن مالك وفيه "ولا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة". 2 أخرجه البخاري "3/ 399" في تفسير سورة الأحزاب، ومسلم "1475" في الطلاق: باب بيان أن تخيير امرأته لا يكون طلاقا إلا بالنية. 3 أخرجه مالك في الموطأ "2/ 781"، والبخاري "4/ 315" في البيوع باب إذا اشترط شروطا في البيع لا تحل، ومسلم "1504" "8" في العتق: باب إنما الولاء لمن أعتق. 4 أخرجه مسلم "2/ 91318" في الحدود، باب من اعترف على نفسه بالزنى رقم الحديث الخاص "16". 5 سورة البقرة: 235. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 553 ناجي على المدونة أن هارون الرشيد ملك جارية فعزم على وطئها دون استبراء، فسأل مالكا ثلاثا يا أبا عبد الله هل من حيلة؟ فقال: أعتقها وتزوجها وهي حيلة من حيل الفقهاء. وقال الليث بن سعد: أتيت مجلسا فرأيت رجلا أحدق به الناس، فجلست فإذا هو أبو حنيفة، فقال له رجل: إن لي ابنا كلما زوجته امرأة طلقها أو ملكته أمة أعتقها، فقال: زوجه أمتك، إن أعتق أعتق ما لا يملك، وإن طلقها، رجعت إليك فاستحسنت ذلك منه. وأنكر بعض الناس نسبة الفتوى الأولى لمالك وأمثالها موجودة في كل مذهب لا أظن مذهبا يسلم منه، وإنكاره غير مفيد. هذا ولم ندع أن الحيل أصل لجميع المذاهب كما يوهمه كلام الباحث وكلامنا في صفحة 363 وما بعدها إنما فيه أنه أصل للحنفية وهم مصرحون بذلك كتبهم متقدمهم ومتأخرهم كما أننا لا نرى جواز تلقين المفتي الفجور ولا يبيحه حنفي ولا مالكي ولا غيرهما فيما أظن، وليس في كلامي إلا ما يفيد منعه، وقد اشترطت في الحيلة التي تعتبر شرعا أن لا تهدم أصلا شرعيا، ولا تناقض مقصدا شرعيا، ولقد عبت الاسترسال في الإفتاء بها والقياس عليها، وصرحت بأن الأئمة قسموها إلى الأحكام الخمسة تبعا لفتح الباري وعلى كل حال من تأمل هذا الفصل من "الفكر السامي" أدنى تأمل، ظهر له الحق، والله يهدي من يشاء إلى سواء السبيل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 554 البحث الرابع عشر : قال: لقبتم الإمام أبا حنيفة بالأعظم وهو لقب انجر للناس مما يلقبه به فقهاء مذهبه حين لا يذكرون اسمه، فيقولون: قال الإمام الأعظم تفرقة بينه وبين أبي يوسف ومحمد؛ إذ كلهم يلقب بالإمام، فكأنهم يريدون بالأعظم المجتهد المطلق، والظاهر أن لا وجه لتلقيبه بهذا بين الأئمة المجتهدين نظرائه فما منهم إلا عظيم مثله، ولله در القسطلاني في شرح البخاري إذ يقحم تارات بعد اسم الإمام حين يقع في سند البخاري الإمام الأعظم كأنه يشير به إلى معنى المجتهد المطلق، أو إلى أنه شيخ لكثير من الأئمة المجتهدين مثل الشافعي وابن حنبل بالواسطة، ومحمد بن الحسن، أو لجمعه إمامتي الحديث والفقه، وما اجتمعا لغيره قط. ا. هـ. بحروفه. وجوابه: إن هذا ذنب مذهبي أستغفر الله منه، وأظن أنكم تستغفرون معي إذا حققت لكم أن قصدي إزالة النفرة بين المذاهب معاملة لكل طائفة بما تحب بشرط أن لا نهدم أصلا، ولا ننقص أحدا ولا يخفاكم ما قيل في اسم الله الأعظم، وكل الأسماء الحسنى عظيمة، وكل أئمة الدين عظيم في علمه ودينه والعذر الذي التمستم للقسطلاني في تلقيبه الإمام مالكا بالأعظم ما أدري لِمَ لَمْ يكن لي منه نصيب، وأما استظهاركم أنه لا وجه لتقليبه بالأعظم، فغير ظاهر، وأقل ما يوجه به أنه أكثر الأئمة أتباعا في الدنيا كلها كما قدمنا ذلك في عدد 66 من الجزء الثالث، وقد وقفت الآن على إحصاء لأتباع الأئمة الأربعة ذكرته جريدة السعادة في عددها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 555 "3567" عن بعض الأخصائيين. قالت: إن أتباع أبي حنيفة ملايين "118"، والشافعي ملايين "37"، ومالك "30" وابن حنبل "3" ملايين، الجميع ملايين "224" قائلة إن مجموع هؤلاء سنية، ونسبتهم من مجموع الإسلام الذي هو "243"1 يكون "91" في المائة، والذي عند غيرها أن الإسلام أكثر من هذا العدد بكثير لكن على كل حال الكل يسلم أن الحنفية هم أكثرية الإسلام، ولم يبلغوا الثلثين من الأمة خلافا لابن سلطان، وهذه الأغلبية الساحقة تكفي في وجه تلقيبه بالأعظم. والمرء في ميزانه أتباعه ... فاقدر بذا قدر النبي محمد وأجاب الشيخ في مراجعته الثانية بأن إزالة النفرة هو مبدؤه الذي يلازم سلوكه، ولكن بشرط إظهار التساوي بين جميع الأئمة في أصل العلم والعدالة وقوة الديانة والنصح للأمة، وإن تفاوتوا في مسالك الاجتهاد. ا. هـ. وقد علمت أن الله جعل بينهم تفاوتا في المراتب، وكل واحد خصه الله بما خصه به، والشيخ نفسه مصرح بعدم التساوي فيما سبق، فكيف التوفيق، والله ولي التوفيق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 556 البحث الخامس عشر : ورد من عالم آخر من نخبة محققي نظار علماء القطر التونسي حفظه الله ونصبه بعد الديباجة: قلتم في الصفحة 20 من الجزء 1 ولا يحتج بعضها خلافا لأبي حنيفة وابن حنبل، وفي الصفحة 124 من 2 ولو ضعيف السند ووقع التعليق عليه بأن يكون من رواية مجهول إلخ، فهل يقال: إن الضعيف وما يقابله من مجاري الخلاف فالضعف عند بعض المجتهدين لا يستلزم الضعف عند غيره، بلا استدلال المجتهد بما هو ضعيف عند غيره دليل على قوته في نظر المستدل لما ترجح عنده، وإلا فليس الضعف طريقا لحصول الظن بالحكم من ذلك حديث:   1 عدد المسلمين عام 1965 "556" مليون مسلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 556 "أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل" 1 فقد قال الطحاوي: ذكر ابن جريج أنه سأل عنه ابن شهاب فلم يعرفه حدثنا بذلك ابن أبي عمران، حدثنا يحيى بن معين، عن ابن علية، عن ابن جريج بذلك. ا. هـ. وفي رواية أن ابن شهاب أنكره، وقد استدل به مالك والشافعي على اشتراط الولي لصحته عندهما في نظائر كثيرة، وكيف يجمع بين ذلك وما بالصفحة 35 والصفحتين بعدها من الأول وهو اختيار الخنفية للأقوى والأعرف، وقد صرح العلامة ابن خلدون بأن أبا حنيفة يشدد في شروط الرواية حتى قلت روايته، ولكن بالغ سامحه الله في قلة رواية الإمام بما فيه نظر لا يخفى. وفي "جمع الجوامع" مع شرح الجلال ما نصه: فلا يقبل المجهول باطنا وهو المستور خلافا لأبي حنيفة وابن فورك وسليم -أي الرازي- في قولهم بقبول اكتفاء بظن حصول الشرط، فإنه يظن من عدالته في الظاهر عدالته في الباطن، أما المجهول ظاهرا وباطنا فمردود إجماعا لانتفاء تحقق العدالة وظنها. ا. هـ. ويستفاد منه أنه لا خلاف في اشتراط العدالة، وإنما الخلاف في أن الشرط هو تحقق العدالة فقط، أو الشرط التحقق أو الظن كما وقعت الإشارة إليه في التعليق، وأن حديث المستور ليس من الضعيف عند القائلين بقبوله. ا. هـ. بحروفه. وجوابه: إن نسبة العمل بالضعيف لأبي حنيفة في غير ما ديوان من كتب الحنفية كعلي ابن سلطان القاري أول شرح "المشكاة" وظاهره الضعف المصطلح عليه، وكفى ما نلقتموه عن "جمع الجوامع" وشرحه، فهو قد تضمن ذلك، وفي "إعلام الموقعين": إن أصحاب أبي حنيفة مجمعون أن ضعيف الحديث أولى من القياس، والرأي عندهم، وعلى ذلك بنى مذهبه وساق أمثلة كثيرة من ذلك انظر صفحة 88 من الجزء الأول منه، وما أشرتم إليه من الجمع بين المذهبين بأن الضعيف عند بعض المجتهدين لا يستلزم الضعف عند غيره بل استدلاله به دليل   1 أخرجه أبو داود "2083"، والترمذي "1102" وابن ماجه "91879" وحسن الترمذي، وصححه ابن حبان "1248"، والحاكم "2/ 168" وهو حديث صحيح، وقد بسط الكلام عليه الحافظ في "تلخيص الحبير" "3/ 156، 157". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 557 قوته عنده، فجمع حسن، ولكن قوته في ظنه لا تستلزم قوته عند غيره ولا صوابيته في نفس الأمر إلا إذا قلنا بتصويب المجتهدين وقد علم ضعفه، وأيضا رواية مجهول الحال لا مجهول العين مقبولة عند الحنفي وهي من قبيل ما يسمى عنده بالصحيح أو الحسن، وعند غيره غير مقبولة، ومن قبيل ما يسمى بالضعيف، فعاد الخلاف كما هو، وإنما الخلاف هل نقول: إن الحنفي يعمل بالضعيف؟ فالجواب: نعم يعمل بما يسميه غيره ضعيفا، وهو رواية مجهول الحال، ويسميه الحنفي بما شاء، والمالكي لا يعمل به، ويسميه ضعيفا، فلم يبق ثم من فائدة ولا أفاد الجميع في رفع الخلاف شيئا. وبهذا تتحلل العبارة التي ذكرتم وهي أن الضعيف ليس طريقا لحصول الظن، فهي عبارة ذات وجهين وتحقيقها: أن من اعتقد ضعف حجة لم يحصل له بها الظن، ومن اعتقد صحتها وقوتها، حصل له الظن. وأما قولكم: إن ما في صفحة 35 والصفحتين بعدها من اختيار الحنفية للأقوى والأعرف ينافي ما سبق، فليس في صفحة من الصفحات المذكورة لفظ الأقوى، وإنما فيها أن أبا يوسف أخذ بالأعرف والأعرف الأشهر، ولا أظن أحدا يفهم منه الأقوى إذ القوة تعتبر بصفات الرجال والشهرة بالكثرة فلا مخالفة. وأما قول ابن خلدون بتشديد أبي حنيفة في الرواية، فلعل مراده من حيث اشتراط الشهرة لا الأقوى بدليل نص "جمع الجوامع" الذي قدتموه. وأما تعقبكم على ما حكاه ابن خلدون من المبالغة في قلة رواية الإمام أبي حنيفة فوجيه جدا وإليه أشرت في الصفحة 344 ج1 لكن ابن خلدون نفسه لم يرض بما ذكر، وإنما نقله بلفظ: "يقال" ثم أتى بما هو في المعنى رد له، وأما حديث "أيما امرأة نكحت نفسها" الحديث، فقد صححه يحيى بن معرفة وغيره من الحفاظ كما قال الحافظ ابن كثير، ونقله في "سبل السلام" وعدم معرفة الزهري لا تضره، فكم من حديث لم يعرفه هو أو مالك وهو صحيح، والإحاطة ليست إلا لله، وهذا عمر بن الخطاب لم يعرف حديث الطاعون حتى رواه له عبد الرحمن بن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 558 عوف1 وغيره، وأنكر حديث: "إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع" حتى رواه أبو سعيد مع أبي موسى2، وهذا أبو بكر لم يعرف توريث الجدة، وعرفه المغيرة بن شعبة3 وغيره وكم لذلك من نظير، والمثبت مقدم، وعلى فرض الطعن فيه، فهناك حديث: "لا نكاح إلا بولي" 4 صححه الترمذي وغيره انظر المحلى في مبحث المجمل.   1 أخرجه مالك "2/ 894"، والبخاري "10/ 155" في الطب: باب ما يذكر في الطاعون، ومسلم "2219" في السلام، باب الطاعون والطيرة والكهانة ... وفيه جاء عبد الرحمن بن عوف، وكان غائبا في بعض خاصته، فقال: إن عندي من هذا علما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا سمعتم به بأرض، فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وكنتم بها، فلا تخرجوا فرارا منه" قال: فحمد الله عمر ثم انصرف. 2 أخرجه البخاري "11/ 23"، ومسلم "2153"، وأبو داود "1580" والترمذي "2991". 3 أخرجه مالك في "الموطأ" "2/ 513" عن قبيصة بن ذئيب أنه قال: جاءت الجدة "هي أم الأم" إلى أبي بكر تسأله ميراثها، فقال: ما لك في كتاب الله من شيء، وما علمت لك في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا، فارجعي حتى أسأل الناس، فسأل الناس، فقال المغيرة بن شعبة: حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس، فقال: هل معك غيرك، فقام محمد بن مسلمة الأنصاري، فقال مثلما قال المغيرة، فأنفذ لها أبو بكر السدس، وأخرجه أبو داود "2894"، والترمذي "2101"، وقال: حسن صحيح، وصححه ابن حبان "1224"، والحاكم، وقال الحافظ في التلخيص "3/ 82": وإسناده صحيح لثقة رجاله إلا إن صوته مرسل، فإن قبيصة لا يصح له سماع عن أبي بكر ولا يمكن شهوده القصة. 4 أخرجه أحمد "4/ 394، 413، 418"، والترمذي "1101، 1102"، وأبو داود "2085"، والبيهقي "7/ 107"، وصححه ابن حبان "1245، 1244، 1245" والحاكم "2/ 9165" وأطال في تخريجه، وقد اختلف في وصله وإرساله، وانظر نصب الراية "3/ 183، 190". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 559 البحث السادس عشر : قال: قلتم في الصفحة 39 من الأول: إن النسخ لا يثبت بقول المجتهد، فإن المجتهد قد يخطئ ويصيب، قد يقال: المجتهد يخطئ ويصيب بالنسبة لنفس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 559 الأمر والواقع، ولكن لا يقول بالنسخ إلا بعد رجحانه عنده، وثبوته في ظنه، ولا خصوصية في هذا للنسخ، بل تخصيص العام، وتقييد المطلق وما شاكل ذلك من وجوه الاستدلال في محل الخلاف كذلك، فإن لم تثبت في نفس الأمر، فهي ثابتة في ظن المجتهد للمرجع الذي عنده، قال أبو إسحاق الشاطبي في "الموافقات عند الكلام على أصل مالك من اتباع العمل وتقديمه على الخبر ما نصه: وهذا ظاهر في أن العمل بأحد المتعارضين دليل على أنه الناسخ للآخر؛ إذ كانوا يأخذون بالأحدث وأعجزهم أن يعرفوا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، روي عن ابن شهاب أنه قال: أعيي الفقهاء وأعجزهم أن يعرفوا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ناسخه ومنسوخه، وهذا صحيح، ولما أخذ مالك بما عليه الناس، وطرح ما سواه، انضبط له الناسخ والمنسوخ على يسر والحمد لله. وجوابه: ظاهر من زيادة الباحث لفظ عنده وفي ظنه ومرادي من نفي ثبوت النسخ بقول المجتهد تبعا لابن الحصار أنه لا يثبت حجة على غيره، فانتفى الإشكال. وقد حكى الآمدي في "الإحكام" الإجماع على أن قول الصحابي في مسائل الاجتهاد لا يكون حجة على غيره من الصحابة المجتهدين، فكيف بغيره، ولا يخفاكم أن من ادعى نسخ آية من كتاب الله، فقد أبطل العمل بها وبما شرعته للأمة، وأزال حكمها، وهذا مقام صعب لذلك اشترط العلماء في قبول القبول بالنسخ شروطا عشرة قررت في محلها، ولهذا قال الزهري: أعيى العلماء أن يعرفوا الناسخ والمنسوخ إلخ ما سبق لكم. ونظير ما قررنا عمل أهل المدينة الذي استدللتم به تبعا للشاطبي على ثبوت النسخ، فإن مالكا يقدم العمل على خبر الواحد، لم تقدم لنا في مبحث العمل المدني في أصول مذهب مالك من كونه خبر جمع عن جمع وهو أقوى من خبر واحد عن واحد، ولكون أهل المدينة كانوا يشاهدون الأخير من أحواله عليه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 560 السلام، فما تركوا الحديث إلا لمعارض له ناسخ في ظن مالك ومن قال بقوله، ولكن لم يقم ذلك دليلا على أبي حنيفة وغيره، فلم يسلموا كونه خبر جمع عن جمع، لاحتمال الاجتهاد، ولم يسلموا النسخ أيضا لذلك، ولهذا ما أخذوا بالعمل المدني، ولا رأوا رأي مالك، كما هو مقرر في كتب الأصول. ويمكن الاحتجاج لهم على مالك بخطبة معاوية بمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل المدينة حضور حيث أمسك بيده قصة من شعر، وقال: "يا أهل المدينة أين علماؤكم كيف تفعل نساؤكم هذا: إنما هلكت بنو إسرائيل حين فعلت نساؤهم هذا". الحديث وهو في البخاري1 بمعناه مكررا وفي غيره، ويجاب بأن الاحتجاج بعمل العلماء وما أنكره معاوية هو عمل نساء عامتهم داخل بيوتهم يمكن عدم اطلاع علمائهم عليه، وهبهم اطلعوا، فهذا نادر وقع ممن لم تنسب له عصمة.   1 "10/ 315" في اللباس باب وصل الشعر، وأخرجه مسلم "2127" في اللباس والزينة: باب تحريم فعل الواصلة والمستوصلة عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف أنه سمع معاوية بن أبي سفيان عام الحج وهو على المنبر وتناول قصة من شعر كانت في يد حرسي يقول: يا أهل المدينة أين علماؤكم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن مثل هذه، ويقول: $"إنما هلكت بنو إسرائيل حين اتخذ هذه نساؤهم". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 561 البحث السابع عشر : قال: وفي الصفحة 153 من الأول عند الكلام على أبواب المعاملات ولو أن الجمهور حملوا تداخل الشرع فيها على معنى حفظ مصالح الخلق وجعلوا الأحكام فيها كلها دائرة على هذا الأصل، لاتسعت أبواب المعاملة على المسلمين، لكنهم أدخلوا فيها التعبد لما قام عندهم من الأدلة على قصده إلى: وما جاء التضييق إلا من الأقيسة والاستحسان إلخ. ربما يقال: إذا قامت الأدلة على قصد التعبد فكيف يمكن للمجتهدين أن يعدلوا عن ذلك في مواطن القياس والاستحسان وقد بسط الشاطبي في كتاب المقاصد من "الموافقات" القول في بيان الوجوه التي تقضي أنه لا بد من اعتبار التعبد في أبواب المعاملة. هذا ما تتشوف النفس إلى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 561 إيضاحه والسلاح الأعم عليكم ورحمة الله. ا. هـ. بحروفه. وجوابه: إني لما قلت: لما قام عندهم من الأدلة على قصده، فذلك عذرهم فيما فيه نص، أما ما لم يجدوا فيه نصا، وتمحلوا له الأقيسة التي لا يخفاك ما فيها من الشروط التي لكل خصم أن ينازع في توفرها وما عليها من النقوض، مع خلاف الظاهرية في أصل القياس، وتشعب الأقوال فيه، فما عذر المتأخرين في التضييق على الأمة في معاملتها التي هي سبيل تقديمها، وإظهار الشرعية في مظهر غير مظهر السماحة والصلاحية للرقي، ولكل زمان ومكان، ولكل الأمم، وحتى تسببوا في نبذ العامة للشريعة، والطعن في أحكامها بأنها ضد مصالحهم. إن مصلحة الأمة والشريعة معا تقتضي التوسع في أبواب المعاملات بما لا يخالف المنصوص والمجمع عليه، ونحن الأمة الإسلامية التي تنكر كل الإنكار على من يرى القلب والإبدال في الشرائع، وإني من الذين يعتدلون في الأحكام، وفي الفلسفة الفقهية، ولا يغرقون فيها، ولا يرون الاسترسال في الأقيسة والتحمل في استنباط أحكام بمنع معاملات كثيرة لم يصرح نص بمنعها، ولا نضيق على الأمة سبل رقيها؛ لأنه موجب لفقرها واحتكار تلك المعاملات لغيرها، ولم يجعل الله شريعة من الشرائع منافية لناموس الاجتماع، ولا قيدا ثقيلا في أرجل من يريد النهوض من الأمم، بل جميع الشرائع محافظة على ناموس الاجتماع، ورقي المجتمع الإنساني ولا سيما الشريعة العامة الأبدية. ولا يشك أحد أن تضييق المعاملات، ومنع الأمة من كثير منها يوجب فقرها، وما افتقرت الأمة إلا وضاع مجدها، وذهب سؤددها؛ إذ المال عصب لكل مجتمع إنساني، وحفظ البيضة إنما يكون في الزمان الحاضر بثروة الأمة، واتساع معاملتها ومتاجرها ومصانعها وفلاحتها. وقد كان العلماء لا يفتون في منع مسألة حتى ينظروا إلى حاجة الناس إليها، فإن رأوا مساس الحاجة إليها، أو عموم المعاملة بها، رخصوا وأباحوا، وما ضيقوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 562 ومن قواعد الفقه: المشقة تجلب التيسير، والضرورة تبيح المحظور، والله يقول: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} 1 وانظر في "المعيار" وغيره فتاوى من أفتى بجواز كراء الأرض بما تنبت لعموم البلوى بها، وفتاوى من أفتى بإباحة شركة الخماس؛ لأن المعاملات إذا عم الفساد وكانت فاسدة على سبيل العموم يترخص فيها، وهؤلاء الخلفاء الراشدون لما رأوا احتياج الناس إلى تضمين الصناع، أوجبوه مع منافاته للقياس، وهؤلاء المتأخرون من المالكية قد ابتكروا بيع الصفقة مع عدم انطباقه على أصول الشرع تسهيلا على الناس، وتخلصا من كثرة الخصومات في شركة الجزء المشاع في الأملاك، وترخصوا في شهادة اللفيف مع مخالفتها لظاهر القرآن وهو قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} 2، وقوله: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} 3 إلى غير ذلك. ومما وقع في وقتنا على خلاف التوسعة فتوى بعضهم بمنع الضمان المسمى سكرتاه على الأموال4 ثم اختلفوا، فمنهم من علل بالغرر، ومنهم من علل بالقمار، ومنهم من قال: إنه ضمان بجعل، وهأنذا أبين لكم فساد الفتاوى الثلاث فأقول: أما من علل بالغرر، فقد قاله قياسا على منع الغرر في البيع، وهي فتوى عندي باطلة، وبيان ذلك أن صورة ضمان الأموال أن من له خزين تجارة أو معمل أو مركب، أو وسق بضاعة في مركب مثلا يدفع باختياره لإحدى الشركات الضمانية واحدا في الألف أو نحوه من قيمة الشيء المضمون تأخذه الشركة ولا يرجع له منه شيء، وإنما تعطيه توصيلا به، فإن وقع له غرق أو حرق أو نهب مثلا كانت ملزمة أن تدفع له تعويضا وهو القيمة التي قوم بها الشيء المضمون، والمدة التي تكون الشركة مطلوبة بالضمان فيها مبينة محدودة في التوصيل هذه هي العامة التي وقع   1 سورة المائدة: 5. 2 سورة الطلاق: 2. 3 سورة البقرة: 282. 4 احترزنا بلفظ الأموال عن ضمان الأنفس لعدم مسيس الحاجة إليه فضلا عن الضرورة، فلا محوج الكلام فيه. ا. هـ. "مؤلف". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 563 الإفتاء من بعض علماء العصر بتحريمها قياسا على حديث نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر1 مع أنه لا بيع فيها ولا معاوضة، وإنما هو شيء تافه يدفعه الإنسان كتبرع لشركة تضعه في صندوقها الذي هو كصندوق احتياطي، ثم تكون لمزمة بالتعويض على الدافع إذا أصابته كارثة مقابل ما أخذته منه، فشبهها بالتبرع أقرب وأقوى من شبهها بالبيع. والغرر المنهي عنه في الحديث هو في البيع خاصة لا في التبرع، بل اختلف الأصوليون في نحو نهي عن بيع الغرر هل يعم كل بيع غرر أو هي قضية عين لا عموم لها؟ وعلى العموم استثنوا من البيع الغرر اليسير، فإذا كان يسيرا كما في السكرتاه، فهو جائز، فإن الذي يعطي فيها يسير بالنسبة لرأس المال، غير مجحف، فكأنها عندي جمعية اكتتابية خيرية لإعانة المنكوبين بنظام والتزام تأخذ من ألف رجل شيئا قليلا ما تعوض به نكبة رجل مثلا، واستنباطها من قاعدة القليل في الكثير كثير. ولذلك يبقى لها ما يقوم بأجرة قيامها على ذلك، وربما ربحت أرباحا عظيمة إذا قلت نكبات المضمونين فيها، وعلى كل حال هي معاملة عمت بها البلوى لاتساع نطاق الأعمال التجارية والصناعية والزراعية برا وبحرا، ولا تخلو مملكة في العالم من هذه المعاملة ولا يستغني عنها فيما أظن، فكيف بنا إذا شيد مسلم معملا كهربائيا أو نسيجيا مثلا، ومنعناه من عمل الضمان عليه، فيأتي من يغار من مزاحمته فيغري من يرميه بقنبلة، فيصبح مفلسا، وينفرد مزاحمه بالأرباح، ولو كان مضمونا ما ضاع له شيء، بل ربما ربح، فلا شك أننا بهذا التضييق نكون أهلكنا ثروة الإسلام، ووضعنا المسلمين تحت أسر غيرهم؛ إذ لولا عملية الضمان ما بقيت شركة تجارية مهمة، ولا معمل ولا مراكب بحرية أو نحوها إلا وأصيبت بكثير من النكبات فاضمحت شركاتها ومنافعها العامة وكيف تكون أمة ماجدة في هذا العصر خالية اليد من هذه الأمور إذن تكون مستبعدة لغيرها، واستقلال الأمم الحقيقي في هذه الأزمان لا يكون إلا باستقلالها اقتصاديا   1 الحديث أخرجه أحمد ومسلم وأصحاب السنن الأربعة بلفظ: نهى عن بيع الحصاة، وعن بيع الغرر، أما بيع الحصاة، ففيه صور كما قال النووي وغيره، منها أن يقول: بعت لك من هذه الأرض من هنا إلى ما انتهيت إليه هذه الحصاة وبيع الغرر: كل بيع فيه خطر. كبيع الآبق والمجهول، وما لا يقدر على تسليمه، فيكون من عطف العام على الخاص. ا. هـ. "مؤلف". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 564 وصناعيا، والكل أصبح الضمان ضروريا له في الوقت الحاضر اتقاء للطوارئ الجوية والحربية وغيرها فعمل الضمان هو من قبيل الضروري لا الحاجي ولا التحسيني، ومنعه موقع الأعمال الكبرى التي بها رقي الأمة في الإفلاس والخراب، فكم من مركب تجاري غرق في الحرب العظمى، ولم يفلس صاحب المركب في الملايين التي بناه بها ولا التجار الذين ملئوه ببضائعهم لوجود الضمان، فبالضمان أصبحت ثروة البلاد في أمن من الكوارث بسبب التعاون الذي تأسست لأجله شركات الضمان، ولولا ذلك لنكست شركات وأفلست المتاجر، وحل الخراب والإفلاس بكثيرين لا سيما منذ اخترعت المواد المفرقعة المتولدة من البارود، والغاز البخاري وروح زيت النفط "الأسانص" وغيرها وكل ذلك لم يكن في الأزمان الغابرة، ورب شركة من الشركات تقوم بعمل مالي تعجز عنه دولة من الدول العظمى الغابرة لاتساع نطاق الأعمال وفسحة فناء الأموال وكل يعلم أن مبتكرات الوقت الحاضر لا نظير لها في الغابر لذلك حدثت لها معاملات جديدة، فعلى الفقهاء أن لا يجمدوا في أحكامهم على التضييق والتشديد المضيع للمصالح، والوقوف مع الألفاظ والمألوفات التي ألفها من قبلهم، بل عليهم أن يلاحظوا أوجه انطباق النصوص على حاجيات العصر الحاضر، وما تقتضيه مصلحة المجتمع الذي يعيشون فيه مهما وجدوا سبيلا لمساعدة المنصوص والمجمع عليه. وفي أبواب المعاملات الدنيوية لا تجد النصوص إلا وفق المصالح، وضد المفاسد لمن وفق لمعرفة المصلحة الحقيقية؛ لأن الشريعة هدى ورحمة وأبدية وعامة ولا يتصور في الشريعة أن تصك في وجه الأمة باب الصناعة والتجارة والفلاحة، ولقد صار التاجر الذي لا يعمل الضمان ينبذ التجار معاملته وإدانته لعدم الثقة والأمن على ما بيده فيصبح في إفلاس لا مناص له منه، وعلى كل حال هذه معاملة لم تكن ولا كانت أسبابها في الصدر الأول ولا نعلم أنه تكلم عليها أحد من المتقدمين لكونها حدثت منذ قريب، لذلك لم نقف على نص عليها في القرآن بمنعها بعينها، ولا في السنة، وإذا لم يكن فيها نص صريح ولا ظاهر، فقد علم من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 565 الأصول الخلاف في الأشياء قبل ورود الشرع، فذلك الخلاف يجري هنا، فقول بالجواز، وقول بالمنع، وقول بالوقف. وهناك قول للظاهرية يقولون هذا من القسم المسكوت عنه رحمة غير نسيان، لكنهم يشددون، فيحلمون جميع المعاملات على الفساد حتى تثبت الصحة، ومذهب الأئمة الأربعة وجمهور الأمة أن جميع المعاملات على الصحة حتى يقوم دليل على الفساد. ولنرجع إلى الاجتهاد، وطريق الاجتهاد الصحيح في هذه النازلة هو أن نرجع إلى الأصول التي بني الفقه عليها، فنجد الفقه يستمد من أمرين مسموع معقول، كما تقدم لنا في الجزء الأول من هذا الكتاب، فالمسموع القرآن المتواتر، والسنة الصحيحة أو الحسن، وفي معناها الإجماع، فإذا لم نجدها، رجعنا للمعقول، الذي هو القياس والاستدلال، وقد وجدنا حديث نهى عن بيع الغرر1 وهذا الحديث له مفهوم مخالفة في لفظ بيع، فما كان بيعا، فهو منفي عنه منطوقا، وما كان غير بيع، فهو مباح مفهوما، وهذه المعاملة لا بيع فيها وفيها غرر، فهي مباحة، ومفهوم المخالفة ما عدا اللقب عند المالكية والشافعية والحنابلة مقدم على القياس والاستدلال؛ لأنه من باب المسموع الذي هو مقدم على المعقول، ولا نذهب للمعقول إلا لضرورة عدم المسموع كما سبق لنا في القسم الأول والثاني من الكتاب. وهذا المفهوم يؤيده المعنى المقصود من تشريع الحكم، وذلك أن الشرع يمنع الغرر في البيع؛ لأنه إضاعة لأحد العوضين على أحد المتعاوضين دون الآخر، وفي باب التبرع لا معاوضة، فلا منع، هذا يجري على أصل مالك والشافعي وابن حنبل من تقديم الكتاب أو السنة منطوقا ومفهوما على القياس والاستدلال. ويدل لقصة دلالة المفهوم أيضا ما رواه الترمذي أن رجلا من كلاب سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن عسيب الفحل فنهاه، فقال: إنا نطرق الفحل، فنكرم، فرخص له في الكرامة2   1 أخرجه مالك "2/ 664" مرسلا، ورواه موصولا مسلم في صحيحه "1513". 2 أخرجه الترمذي "1274" من حديث أنس، وأخرجه البخاري "4/ 379" في الإجازة، ومسلم "1565" "35" من حديث ابن عمر بلفظ، نهى عن عسيب الفحل، وعسيب الفحل: ضرابه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 566 يعني رخص له في الهدية لا البيع، ولولا أن مفهوم لفظ بيع معتبر لما زاد الهبة في الحديث الصحيح: نهى عن بيع الولاء وهبته1 وذلك أن الولاء لحمة كلحمة النسب فكما لا يجوز بيعه لا تجوز هبته بخلاف الغرر، فإن المعنى الذي منع لأجله في البيع لا يوجد في أبواب التبرع، وذلك ظاهر، أما إذا ذهبنا على مذهب القياسيين الذين لا يرون مفهوم المخالفة دليلا، فإننا ننظر أقرب الأشياء المنصوصة شبها بالسكرتاه، فنقيس عليها ولا سبيل لقياسها على البيع؛ إذ لا معاوضة هنا فالأظهر والأقرب أن تلحق بباب التبرع، وإن لم تكن منه من كل وجه مراعاة للمصالح المرسلة التي هي من الأصول التي بنيت عليها الشريعة. وقد تقدم في الجزء الأول الكلام عليها. وفي "جمع الجوامع": والصحيح أن أصل المضار التحريم والمنافع الحل، قال تعالى: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} 2. ا. هـ. ممزوجا. وباب التبرع قد أباحوا فيه الغرر ولو كثيرا فقالوا: يجوز التبرع بالعبد الآبق مثلا، وعليه، فلا منع من الغرر في باب السكرتاه "التأمين" يعني ضمان الأموال هذا ولا أدعي اجتهادا، ولست أهلا له، ولكن أقول: الصحيح أنه يتجزأ كما تقدم، وإذا أردنا الجري على طريق المتأخرين وهو تخريج فتاويهم على الفروع المنصوصة في المذهب فلنا أن نخرجها على مسألة وقعت بسلا أواسط القرن الثامن على عهد قاضيها أبي عثمان سعيد العقباني تسمى بقضية تجار البز مع الحاكة، وذلك أن تجار البز رأوا توظيف مغارم مخزنية ثقيلة عليهم، فتواطئوا على أن كل من اشترى منهم سلعة ثقف درهما عند رجل يثقون به، وما اجتمع من ذلك استعانوا به على المغرم، وأراد الحاكة منعهم بدعوى أنه يضر بهم، وينقص من ربحهم، قال العقباني: فحكم بإباحة ذلك بشرط أن لا يجبر واحد من التجار على دفع الدرهم، وقد بسط القضية في نوازل البيع من المعيار الإمام الونشريسي، ولم يتعرض العقباني، ولا الإمام القباب الفاسي الذي أفتى بالمنع مخالفا له لمنع التجار من ذلك لعلة الغرر أو   1 أخرجه البخاري "5/ 121"، ومسلم "1506" كلاهما في العتق. 2 سورة البقرة: 29. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 567 كون بعضهم ينزل أكثر من الآخر لتفاوتهم في متاجرهم طبعا ولا ضيقا هذه المعابر لما في ذلك من المصلحة المرسلة، وما قال أحد منهما بفساد هذه المعاملة، أو ادعى فيها قمارا أو غرر لعدم قصدهما، ومن أصول الفقه أن الأعمال بمقاصدها، بل أفتى المانع بالمنع نظرا إلى تضرر الحاكة بالدرهم بدعوى أنه ينقص من الثمن في مآل الأمر، وما يؤدي إليه الحال ولم تقبل فتواه، بل فتوى المجيز هي المقبولة. وبتأمل هذه الفتوى يظهر لك أنها سواء مع قضية الضمان وهما كصناديق التوفير للموظفين والتعاون والتقاعد الجاري عمل الأمم عليها في أقطار الدنيا. ولما كنت أؤلف نظام القرويين سنة 1332 عرضت على أعيان فاس الذين كانوا بالمجلس جعل صندوق للتقاعد بها فاستحسنوه، وقيدوه من جملة مواد الضابط، بل قضية الضمان أحق بالجواز من قضية تجار البز والتقاعد؛ لأن هذا الضمان جعل لصيانة المال الذي هو أحد الكليات الخمس التي أجمعت الملل والنحل على وجوب حفظها، وأن الذي أفتى بكونها غررا، أو إضاعة للمال لم يحرر المناط، ولا هدي لطريق الاستنباط بل الغرر كل الغرر في منعها وتركها، وإنما صيانة أموال الناس في إباحتها. 2- وأما من زعم من علماء الوقت أن ضمان المال "السكرتاه" من الميسر والقمار والمحرم بنص القرآن، فهو خروج عن مهيج الاستنباط المعقول، فإن في المعنى المراد من لفظ الميسر اختلافا بين أهل العلم حتى قال ابن العربي في الأحكام في سورة البقرة: ما كنا نشتغل به بعد أن حرمه الله، فما حرم الله فعله وجهلناه، حمدنا الله عليه وشكرناه. ا. هـ. عدد 63 ج1 وإذا كان ابن العربي يجهله ولم يحقق ما هو، كان مجملا، والمجمل لا تقوم به حجة كما هو مقرر في الأصول. كيف نلحق الضمان بأمر مجهول وهو الميسر وقد حكى الجصاص وغيره أقوالا في تفسيره، فسقط الاستدلال بآية الميسر، ولم تقم له بها حجة لإجمالها على أن القمار أو الخطار أو الميسر الذي هو محرم بإجماع، ولا يختلف فيه اثنان هو أن ينزل هذا مائة وهذا مائة، ويلعبان لعبة، فمن غلب أخذ جميع المائتين كما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 568 عنده الزرقاني في شرح الموطأ عدد 336 ج2 للحافظ في فتح الباري فانظره ومن ذلك خطار أبي بكر مع أبي بن خلف لما نزل قوله تعالى: {الم، غُلِبَتِ الرُّومُ، فِي أَدْنَى الْأَرْضِ} وكان ذلك قبل تحريمه انظر الكشاف وحديثه في الترمذي1 حسن صحيح غريب بألفاظ مختلفة وما أبعده هذه الصورة من صورة الضمان بعد السماء من الأرض والفروق بينهما أظهر من أن تبين فكيف تقاس إحداهما على الأخرى. 3- وأما من أفتى بأن صورة الضمان هي كفالة بجعل مستدلا بقول: خليل: أو فسدت بكجعل إلخ وبقول ابن القطان عن الأشراف الذي نقله الرهوني: أجمعوا أن الحمالة بجعل يأخذه الحميل لا يحل ولا يجوز. ا. هـ. فهي فتوى لا تصح، أما أولا، فما نسبه للأشراف إن كان هو كتاب الأشراف على مذهب الأشراف ليحيى بن هبيرة الحنبلي، فهو بيدي، ولم أجد فيه الإجماع المذكور، ولعله كتاب الأشراف لأبي بكر محمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري أو غيره، وأما ثانيا: فلا حجة في ذلك كله للفرق العظيم بين الصورتين، فصورتنا إنما فيها مال مكفول، وليس فيه كفالة ذمة لذمة، ولا جعل فيها أصلا لاتفاق المالكية أن الجعل لا يستحق إلا بتمام العمل، وهذا شيء تافه جدا يدفع مسبقا، ولا عمل هنا، فلا جعل، وإنما ذلك كالتبرع الاكتتابي يوضع في صندوق احتياط وتوفير كما سبق. وأما ثالثا: فإن المازري علل منع الضمان بجعل بعلل لا توجد هنا أصلا منها: أنه دائر بين أمرين ممنوعين إن أدى الغريم، كان له الجعل باطلا، وإن   1 أخرج الإمام أحمد "1/ 276، 303"، والترمذي "3191" من حديث حبيب بن أبي عمرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله {الم، غُلِبَتِ الرُّومُ} قال: غلبت وغلبت، قال كان المشركون يحبون أن تظهر فارس على الروم لأنهم أهل أوثان، وكان المسلمون يحبون أن تظهر الروم على فارس؛ لأنهم أهل كتاب، فذكره أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما إنهم سيغلبون" قال: فذكره أبو بكر لهم، فقالوا: أجعل بيننا وبينك أجلا، فإن ظهرنا، كان لنا كذا كذا، وإن ظهرتم كان لكم كذا وكذا، فجعل أجلا خمس سنين، فلم يظهروا، فذكر ذلك أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "ألا جعلتها إلى دون"، قال: أراه، قال: "العشر" قال: فذلك قوله: {الم، غُلِبَتِ الرُّومُ} إلى قوله: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ} قال: يفرحون بنصر الله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 569 أدى الحميل ورجع على المضمون، صار سلفا بمنفعة في صورتنا ومنها: أنه من بياعات الغرر، ونحن لا بيع في صورتنا، وكذا من علله بأن الضمان معروف لا يكون إلا لله، فذاك ضمان الذمم. والذي أراه أن المنع ليس سوى تمحل في الدين، وإرهاق المسلمين حتى ينبذوا دينهم الذي هو صلاح لآخرتهم ودنياهم، وقد جرت العادة عند كثير من أهل الإفتاء إذا لم تكن خصومة أن يتظاهروا بالورع فيتسرعوا إلى فتوى التحريم بأدنى خيال شبهة جبنا وخوفا من التشنع، وظانين أن الورع إنما هو التحريم وهو ظن لم يوافق الواقع، بل الورع وراء ذلك وهو تحري روح التشريع الإسلامي، وما يوافق مبادئ الشريعة السمحة جوازا أو منعا ولا يصادم النصوص القرآنية والسنة الصالحة للاحتجاج ولا الإجماع ولا أشك أن بعض من أفتى بالحرمة قد يفعلونه، فالواجب عليهم أن يسلكوا بالأمة سبيل الرخصة التي سلكوها لخاصة أنفسهم؛ لأن الظن بهم أنهم ما تجرءوا على ارتكاب محرم تيقنوه، فلينظر العالم المفتي فعل غيره بالعين التي نظر بها فعل نفسه لا أزيد ولا أنقص ولا يغتروا بما وقع في فتاوى كثير من المتأخرين الفروعيين من تمحلهم لمعاملات جعلوها من باب الربا المحرم، ولا يكاد يفهم فيها قصد الربا لأحد المتعاقدين، بل لا يستبين وجه العلة التي استندوا إليها إلا بعد التدبر العميق، والحفر عنها بمعاول عظيمة، ولا شك أن التعمق في الدين منهي عنه في شريعتنا السمحة، فلنترك صعاب الشعاب جانبا ولنسلك جادة الدين اليسر وقد أوصى عليه الصلاة والسلام معاذا وأبا موسى الأشعري بقوله: "يسرا، ولا تعسرا، وبشرا، ولا تنفرا" 1 وليس سبيل التحري فيه هو في الدين والورع محصورا في تضييق الدين، بل سبيل التحري فيه هو أن يصيب روح التشريع الإسلامي المبني على حفظ ناموس الأمة وشرفها، واغتباطها بشرعها، وكونه موافقا مصلحتها، ولا يكون حجرة عثرة في سبيل رقيها مع المحافظة على المنصوص، والمجمع عليه، والأقدام على التحريم بغير دليل ليس   1 أخرجه البخاري "10/ 435" في الأدب، ومسلم "1732" في الجهاد باب في الأمر بالتيسير وترك التنفير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 570 بأهون من الإقدام على التحليل، وقد نهى الله عن الجميع سواء بقوله: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ} 1 الآية كما أن التساهل إلى حد انحلال الشريعة، والتلاعب بنصوصها ليس من سمة المسلمين بل هو مما نعى الله على بني إسرائيل. ومن ذلك الذي يفتي بحلية معاملة البنوك التي هي الربا الصراح زاعما تقليده للحنفي الذي يجيز معاملة الربا مع الحربي وهو يعلم أنه لا يوجد في الوقت الحاضر حربي، وأن أوروبا لم تبق دار حرب ولا حنفي ولا مالكي يقول ذلك، ولربما جمع في فتواه بين هذين المتناقضين يبيح الربا ويمنع الضمان متساهلا في الأول، ومشددا في الثاني، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم، ولا أعجب من هذه الفتاوي في زمننا المظلم لأني رأيت فتوى للإمام السنوسي بحرمة القهوة التي هو البن المعلوم، وفتوى الإمام ابن غازي بطهارة ماء الماحيا الذي يصنعه اليهود شرابا لهم، ولكل من الإمامين وقع في الغلط بسبب معرفته ما أفتى فيه، فالذي حرم القهوة، علل الحرمة بعلل، منها الإسكار وهو لا وجود له فيها، ولا التفتير، ولا النشاط، ومنها ضررها بالبدن وكونها لم تكن في الصدر الأول، وهذا شيء لا يوجب الخرمة، كذلك ابن غازي زعم أن الماحيا لا تسكر، وهو غلط، والصواب إباحة القهوة، وحرمة الماحيا الخبيثة. وأكثر أغلاط الفتاوى من التصور. هذا وقد نص القرافي في الفرق 36 وغيره على أنه عليه السلام كانت له تصرفات من حيث إمامته العظمى وخلافته الكبرى، وتصرفات من حيث الفتوى وبالتبليغ. ا. هـ. فلأي شيء حمل المتأخرون من أصحاب هذه الفتاوى جميع أوامره عليه السلام فيما يرجع للمعاملات الدنيوية على الباب الثاني دون الأول الناظر إلى المصالح الدنيوية، ولأي شيء لم يحملوا أوامره ونواهيه المتعلقة بالأمور الدنيوية كالبيع والإجارة والمساقاة والديون والشركة والسلف والقراض والمزارعة ونحوها على أوامر إرشادية سياسية من حيث إمامته العظمى الناظرة للمصالح الدنيوية مرتبة على مصالح حربية أو مدنية أو سياسية بحسب ما يقتضيه مقام كل   1 سورة النحل: 116. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 571 أمر أو نهي وبحسب مقتضيات الأحوال فيما لم تظهر فيه نص ولا إجماع على التعبد، فتكون أحكاما مصلحيه سياسية صادرة من حيث ما له من الإمامة والخلافة مربوطة بمصالح تتغير بتغيرها، أو مربوطة بأعراف كذلك، ولا تكون ضربة لازب لا تتغير واجبة العمل ولو تغيرت الأحوال، ولو جلبت ضررا أو دفعت مصلحه. والدين يسر "والله يحب أن تؤتي رخصه كما يحب أن تؤتي عزائمه" كما أن أحكام المعاملات الدنيوية ليست كلها تتغير، بل بعضها فقط، وبهذا تتسع الشريعة على المسلمين في باب المعاملات لا العبادات ولا المعتقدات، فتلك أبواب لا مجال للمصالح فيها، ولكن بشرط أن لا نصادم نصا ولا إجماعا، ومثاله ما تقدم لنا في الجزء الثاني من نصب التماثيل للعظماء في الشوارع، ومنه مسائل الإرث، وأن للذكر مثل حظ الأنثيين، وكون شهادة المرأة نصف الرجل ومسألة الحجاب، كل أولئك بنصوص صريحة أو إجماع، فلا مجال للاجتهاد في ذلك وأمثاله، ولا سبيل لتغييره وأن تغييره مروق من الدين، وثورة على رسل رب العالمين، وإنما كلامنا في المسائل الاجتهادية التي قال فيها المتقدمون بما يوافق زمنهم. فمن أدرك منا رتبة الاجتهاد، فله أن ينظر فيها بما يوافق أحوال وقته أو في المسائل التي لا نص فيها كمسألتنا، فبهذا يتسع صدر نصوص الفقه وباتساعها تصير ذات مرونة صالحة لهذا العصر الذي تغيرت فيه قوانين العالم كله بما لا يلائم المخترعات والأحوال الوقتية التي لا سبيل لدفعها ولا مناهضتها، وما تجددت حال أو ظهر اختراع، أو تغيرت سياسة إلا وتراهم يغيرون قوانينهم لئلا تمنعهم من التقدم، ولئلا تكون حجر عثرة في طريق نهوضهم، فتوجب السقوط، وضياع المجد، والحياة والشرف. ولربما كان هذا الجمود على الألفاظ والمألوفات والأحكام التي جعلت كلها تعبدية في باب المعاملات التي بنيت على جلب المصالح، ودفع المضار من أسباب سقوط الأمم الإسلامية، وفي الخير لربما كانت سببا نبذ بعض الدول للشرعية كليا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 572 كما وقع أخيرا في تركيا1، ولو أن علماءها سددوا وقاربوا، لم يشددوا ولم يتساهلوا بل اعتدلوا، لكان خيرا وأصلح ولا يكفينا أن نقول للأمة والأجانب الطاعنين، أن شريعتنا صالحة للرقي صالحة لكل زمان ومكان لا تعوقنا عن التقدم، ثم إذا نزلت نازلة كهذه أحجمنا وجمدنا، وأقمنا دليلا واضحا على منقاضة أقوالنا، بل يجب أن نسلك سبيل الجد وطريق العمل بما هو صلاح أمتنا وشرف ملتنا، وقد أسلفنا شيئا من هذا التمهيد الثالث صدر الكتاب، وراجع ما تقدم في هذا الجزء حول هذا الموضوع. ولقد كان علماؤنا العظام ينظرون إلى هذه الملاحظة، ويحملون كثيرا من أوامره ونواهيه عليه السلام في المعاملات على أنها من باب الأوامر من حيث الإمامة العظمى، فمن ذلك الحديث: "من أحيا أرضا ميتة فهي له" 2 مذهب مالك أنه تصرف منه عليه الصلاة والسلام بوصف الإمامة كما يصدر الإمام منشورا لعموم رعيته، فيكون أذنا عاما منه عليه السلام، بإقطاع كل موات لمن يحييه، فلا يحتاج لأذن إمام آخر بعده، وحمله أبو حنيفة وغيره على أنه تبليغ شرعي إلا هي، فقالوا: لا بد من إذن الإمام بعده أيضا في كل أرض أريد إحياؤها، ولكن حكم الحنفية بأن مجرد التصرف عشر سنين من غير منازع بشروطه المعلومة يثبت به الملك ولو يشترطوا أن يوجد أذن الإمام يقرب ما بين المذهبين، ومثل ذلك حديث "من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه" 3 مذهب مالك أن تصرف بوصف الإمامة وهو إذن خاص بغزاة حنين لمصلحة حربية اقتضاها الحال، فلا بد من إذن الإمام في كل غزاة وإلا رجع السلب للغنيمة التي هي   1 الذي وقع في تركيا وغيرها من بلاد المسلمين من نبذ الشريعة كلا أو بعضا، كان لنبذ الإسلام اتباعا لأعداء الإسلام وموالاة لهم، من دون الله ورسوله والمسلمين. 2 حديث صحيح: أخرجه أبو داود "3037" من حديث سعيد بن زيد وإسناده قوي، وفي الباب عن عائشة أخرجه الطيالسي "1/ 3037" وعن سمرة عند أبي داود "3077"، وعن أبي أسيد عند يحيى بن آدم في "الخراج" "729" وعن عبادة وعبد الله بن عمرو عند الطبراني وفي إسنادها مقال. 3 أخرجه مالك "2/ 454"، والبخاري "6/ 177"، ومسلم "1751"، وأبو داود "2717" من حديث أبي قتادة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 573 الأصل، فيخمس، نعم كل إمام ظهرت له مصلحة إعطاء السلب للقاتل له ذلك قياسا على فعله عليه السلام، فيخرج من الخمس وحمله الشافعي فاعتبره تبليغ حكم شرعي، فهو عام للأمة فلا يحتاج لإذن الإمام بعد حيث تقرر حكما شرعيا إلهيا عاما أبديا، ولا يرجع سلب الغنيمة ولا يخمس أصلا. ومن ذلك حديث نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن أكل لحوم الحمر الأنسية1 فقد حمله بعض الأئمة على أنه ليس تعبديا، بل منع خاص من الإمام لمصلحة قلة الظهر في غزاة خيبر يعني فإذا كثر وأمنت مفسدة قلة الظهر، رجعت الإباحة، فالنهي إنما كان لأمر دنيوي، ودفع مفسدة وقتية يتغير بتغيرها. وحمله الجمهور على أنه حكم تعبدي إلهي لا يتغير؛ لأنه متعلق بالأكل الذي هو أدخل في باب العبادة من غيره بدليل أنه أكفأ القدور ولم يؤكل ما كان بها من اللحم، وأمر بكسرها، ثم خفف، فأمر بغسلها فاعتبره نجسا وأمثال هذه كثير لمن يتبع أقوال العلماء المتبصرين من المتقدمين، وينظر فيها نظرا ناقدا نافدا. قال عز الدين بن عبد السلام: السياسة الراجعة لأمور الناس، والمصالح العامة من أفضل الأشياء؛ لأن فيها جلب مصالح ودرء مفاسد. ا. هـ. نقله المسيلي في تفسيره لدى قوله تعالى: {وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} في سورة ص الآية: 35. وهكذا يمكن أن يقال في كل حكم تبين لنا بالدليل الصحيح أن حكمته دفع مفسدة دنيوية أو جلب مصلحة لا دخل للتعبد فيها، وهذا خلاف ما نقلتم عن صاحب الموافقات الشاطبية من تضييقه بإدخال التعبد في كل الأبواب، لكنه لم يأت ببرهان يساعده على دعواه كما يعلم بالمراجعة وفي المجلد الثالث من إعلام الموقعين عدد 27 ما نصه: فصل في تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد.   1 أخرجه البخاري "12/ 74" في الذبائح: باب لحوم الحمر الأنسية، ومسلم "1407" من حديث علي رضي الله عنه، وفي الباب عن ابن عمر والبراء وابن أبي أوفى وهي في الصحيحين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 574 هذا فصل عظيم النفع جدا، وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلا رتب المصالح لا تأتي به، فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل للجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة، وإن أدخلت فيها بالتأويل، ثم ساق شواهده على ذلك وأطال النفس بما يشفي الأنفس فانظره. ولقد نعى على الفقهاء الجامدين أكبر نعي كالقائلين بلزوم أن يقول البائع بعت والمشتري اشتريت، والمتعاقدان في النكاح: نكحت وأنكحت بالعربية ولو كانا من الفرس، أو البربر لا يعرفان العربية ولا يفقهان معنى ما نطقا به من تجويزهم قراءة القرآن بالفارسية، وتكبيرة الإحرام بها إلى غير ذلك، وكل هذا إما من الجمود على الألفاظ وعدم الالتفات إلى المعاني المقصودة من الأحكام، وإما من الإغراق في القياس والغفلة عن نصوص الشريعة ومقاصدها، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم. وانظر عدد 355 من الجزء الأول من "إعلام الموقعين". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 575 تنبيه لكل نبيه: مما يجب أن نصرح به في هذا المقام رفعا لكل إبهام أن أبواب المعاملات والأحكام الدنيوية هي جزء لا يتجزأ من الشريعة الإسلامية وركن من أركانها، ولا تجد بابا من أبواب المعاملات إلا وأصله مأخوذ من نصوص القرآن صراحة، وضمنا، وكملت السنة النبوية كثيرا منها، وباشر النبي صلى الله عليه وسلم القضاء والحكم بنفسه امتثالا لقوله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} 1 الآية وقوله: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} 2 الآية وكمل الصحابة زمن الخلفاء فمن بعدهم أحكام ما نزل في زمنهم من النوازل بالاستناط حسبما أشرت إليه في القسم الأول والثاني من هذا الكتاب. وهذا القسم الذي نشأ عن اجتهاد، ولم يقع فيه إجماع هو معترك العقول، ومحل الخلاف، وهو الذي يقبل التغير، ويتبع الأحوال المتجددة، ومن الجهل العظيم بالشريعة أن يزعم زاعم أنها مقصورة على أبواب العبادة. ولعل الحامل لهذا القائل المبتدع ما لم يقله أحد هو ما رأى من تضييق بعض المتفقهة صدر الحنيفية السمحة بما يصيرها غير صالحة لهذا العصر ولا لكل الأمم وكلا الأخوين قد ضرا وقصرا في فهم الشريعة العامة الأبدية، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم هذا ما عن لي كتبه جوابا عن سؤالكم، والله ولي التوفيق.   1 سورة النساء: 65. 2 سورة المائدة: 49. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 576 البحث الثامن عشر : ورد علي من بعض العلماء القضاة بالمغرب ونصبه بعد الديباجة: وبعد فمن من الله علي إلهامي لمطالعة كتابكم "الفكر السامي" ولعمري إنه لموهبة من مواهب الله ومعجزة برزت في هذا الزمان الذي أعوز فيه العلم، ولشدة رغبتي في فهم معانيه، واستطلاعي على تحقيق مبانيه نحضر بعض المواد التي بيدي، ولها إلمام بذلك الموضوع، وقد وصلت لنهاية الصفحة 21 من الجزء الأول في مبحث الاستدلال المستدرك على الإمام ابن رشد حيث اقتصر في مقدماته على مدارك أربعة لأحكام شرائع الدين، ولما كرعت في معمع النوع الثامن من الأنواع الاستدلال الذي هو انتفاء مدرك الحكم الواقع للإمام ابن السبكي فيه قلب عبارة وجدت سيادتك قررت المسألة على ما ينبغي، وأتيت بما فيها للأقل وللأكثر، ونصرت الأول بما هو أجدر ثم أدرجت في هذا النوع مسألة عدم مطالبة النافي بالدليل إن ادعى علما ضروريا، وجعلتها بصورة الاستدلال لمسألة انتفاء مدرك الحكم، فكل فكري عن فهم ذلك، وحيل بيني وبين إدراكه إذ غاية ما بلغ إليه فهم العبد القصير الباع أنهما مسألتان، محصول الأولى أن المجتهد بذل وسعه بالسبر أو الأصل، فلم يجد دليلا وعدم وجدانه المظنون به انتفاؤه دليل على انتفاء الحكم على ما للأقل، فبقيت البراءة الأصلية مثلا الخصم قال: الوتر واجب، والمعارض قال: الوجوب أحد متعلقات الأحكام، والحكم يستدعي دليلا ولا دليل على حكمك بشاهد السبر أو الأصل، فالنافي هنا لم يدع علما ضروريا، فلذلك احتج بالسبر أو الأصل وعدم وصوله للدليل بواسطة السبر أو الأصل حصل ظن الانتفاء لا غير، ومحصول الثانية أن النافي للشيء إذا ادعى علما ضروريا بانتفائه لا يطالب بالدليل على انتفائه سيما وقد قال الشهاب: الضروري هو الحاصل من غير نظر واستدلال فقوله: من غير نظر واستدلال ينبئ إلى أن هذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 577 النوع ليس من قبيل الاستدلال في شيء وأيضا هذه المسألة فيها النفي وتقوى بدعوى الضرورة فتقرير الأصل أو السبر فيها لم أفهمه، ثم لا ثقة لي بهذه الجعجعة، بل المعول عليه هو ما يبديه لي سامي فكركم بعد تقبيل أعتابكم. وجوابه: إن المستدل هنا ناف، والنافي لا بد أن يدعي علما ضروريا وإلا طولب بالدليل على ما لصاحب جمع الجوامع والسبر هنا إنما هو اللغوي وهو مطلق التفتيش كما بينه المحشي لا الأصولي وهذا السبر كالبراءة الأصلية هو قائم مع كل ناف، ولم يكتف به صاحب القول الذي درج عليه جمع الجوامع فلا بد له من ادعاء العلم الضروري، وإلا كان مطالبا بالدليل فلهذا كنا مطرين للزيادة المذكورة ونزيديك بيانا فنقول: إن هذا النوع من الاستدلال هو انتفاء الدليل، فينتفي الحكم وهو مرتب على مقدمتين: الأولى: أن الحكم يستدعي دليلا، الثانية: أن لا دليل. أما أنه يستدعي دليلا، فبالضرورة، وأما أنه لا دليل، فهذه اختلف فيها على أقوال تسعة مسطرة مع ما يرد على بعضها في "إرشاد الفحول" والذي ذهب عليه في جمع الجوامع تبعا للآمدي وقال: إنه الأصح أن النافي إذا ادعى علما ضروريا لم نطلبه بإقامة الدليل على نفي دليل الحكم، وإلا طولب به، ولم يكف نفيه دليلا على نفي الحكم، فقولي: والنافي لا يطالب إلخ هو تتميم للنوع الثامن لا بد منه على القول الأصح، وذلك ظاهر. وعبارة ابن الحاجب في "المنتهى": المختار أن النافي عليه دليل، وقيل: عليه في العقلية لا الشرعية لنا أنه إذا ادعى علما بنفي غير ضروري، فقد تضمن دعوى طريق أفضت إليه، وإلا أدى إلى نظر ضروري وهو محال فكانت مطالبته بالدليل صحيحة وأيضا فالإجماع على أن الدليل على من ادعى الوحدانية أو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 578 التقدم وحاصلهما نفي الشريك، ونفي الحدوث النافي، للزم منكر مدعي النبوة دليل النفي، وكذلك صلاة سادسة، وصوم شوال، والمدعى عليه بحق. وأجيب بأن الدليل قد يكون استصحابا مع عدم الرافع له، وقد يكون انتفاء لازم. ا. هـ. منه بلفظه. وأما تعريف الشهاب للضروري، فلا ينافي سبر المستدل، ولا تمسك بالبراءة لأنه صار ضروريا له بعدهما، وعنهما نشأت ضروريته، أو هو ضروري له من أول مرة، ولكن لم يكتف بما عنده من الضرورة رعيا لحال خصمه، فقال: إني سبرت أو تمسكت بالبراءة الأصلية تبرعا منه، وإن لم يكن مطالبا بذلك من حيث قواعد الجدل، بل يكفي أن يدعي علما ضروريا هذا ما أوجب عليه زيادة ما ذكر بناء على القول الذي اقتصر عليه صاحب "جمع الجوامع" وصححه والله ولي التسديد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 579 البحث التاسع عشر : وهو وقع لكم في الربع الأول من "الفكر السامي" في مبحث أصل القياس وأسرار التشريع، وفي الثانية في ترجمة أبي حنيفة، وفي الثالث في ترجمة داود الظاهري أن الأحكام الشرعية لها علل، ولتلك العلل حكم ومصالح إلخ وهذا يوهم أن أحكام الله وأفعاله قصدت منها أغراض وعلل غائية، ويوهم وجوب مراعاة الصلاح والأصلح والتحسين والتقبيح العقليين، فنرجو من مكارمكم إيضاح المقام بما عودتمونا من مضاء القريحة، وفضل البيان حتى يزول كل إيهام، فبأفكاركم تزول الغياهب، وبقلمكم يستجلى كل ضباب. وجوابه: إن أفعال الله منزهة عن الأغراض والبواعث والغايات والعلل، كما هو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 579 مذهب السنة، وليس في كلامنا أفعال الله، بل في كلامنا التصريح بنفي ذلك في غير ما موضع عن أفعال الله، وانظر عدد 362 من الجزء 1 وعدد 318 منه ففيهما مقنع وشفاء والذي ذهبت إليه في الكتاب كله وهو مذهب أكثر الفقهاء، وبعض الأشاعرة أن أحكام الشريعة الخمسة من حلال وحرام وندب وكراهية ووجوب، لها علل، بمعنى أن الشرع جعل لها علامات وأمارات تسمى في عرف الفقهاء والأصوليين علل الأحكام مثل الإسكار الذي جعل علة لحرمة الخمر حيث يفضي إلى الفتن والعداوة والبغضاء، ويصد عن ذكر الله وعن الصلاة بتغطيته العقل، ولتلك العلل حكم ومصالح تترتب على تلك الأحكام، كصون العقل والمال والبدن والعرض المرتب على تحريم الخمر إلى غير ذلك مما سبق في عدد 81 من الجزء 1. ولا يلزم من إثبات ذلك إثبات ما يسميه المعتزلة غرضا وعلة عقلية لأفعال الله التي لا بد عندهم أن تكون تابعة للأصلح أو الصلاح وجوبا عليه تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. فما نسميه نحن علة إنما هو أمارة وعلامة نصبها الشرع على الحكم للمجتهد لتتبع كل ما وجد فيه العلة، فيكون فيه الحكم، وإنما هناك اشتراك في مجرد لفظ العلة التي وقع التواضع عليها بالإصطلاح حتى إن السبكي اعترض على الإمام الآمدي حيث سماها باعثا لما يوهمه من مذهب الاعتزال مع أن كتابه "الأحكام" الذين بين أيدينا ما عبر فيه إلا بالعلة والعلامة والأمارة، ولعله في غيره، أو في محل لم نقف عليه. وأيضا أن كون الأحكام روعيت فيها مصالح الخلق ليس ذلك على سبيل الوجوب على الله وأنما هو لطف منه سبحانه وتفضيل وامتنان، فالفرق واضح بين القولين وصراحة كلامنا في ذلك لا إبهام فيها ولا إيهام. وأما التحسين والتقبيح العقليان، فما أبعد كلامنا عنه والتحقيق أن العقل يدرك حسن بعض الأفعال بمعنى ملاءمتها للطبع أو كمالها كالصدق والعلم، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 580 ويدرك قبح بعض أو نقصه كالكذب والجهل بمعنى منافرة الطبع أو نقصها وهذا محل اتفاق بين الأشاعرة والمعتزلة ولكن ذلك ليس في كل فعل فعل، بل في البعض، وقد يخفى عن العقل الحكم في البعض، ولا يدركه إلا من قبل الشرع كما أنه يمدح ذلك الحسن ويذم القبيح، ولا سبيل إلى إدراك الثواب والعقاب إلا من قبل الشرع هذا في الأحكام. أما في أفعال الله تعالى، فالذي مشى عليه محققون من الأشاعرة أنه لا ابتداع فيقول من قال: إن أفعال الله كأحكامه لا تخلو من حكم ومصالح وغايات راجعة إلى عبيده لا إلى ذاته تعالى تفضلا لا وجوبا، وهو منزه عن أن يصله نفع من ذاته لذاته فضلا عن غيره؛ لأنه غني عن العالمين، ورعايتها من لطفه ورحمته التي وسعت كل شيء، ولا يجب1 على الرب شيء وهو الفاعل المختار القادر القهار، ولا يلزم على مراعاتها استكمال أصلا كما حرره صدر الشريعة وغيره؛ لأن المصلحة ليست راجعة إليه حتى يستكمل بها بل إلى مخلوقاته المفتقرة إليه تفضلا ومنة اقتضاها أنه الحكيم العليم المريد، فوصفه نفسه بالفعال لما يريد، وبالحكيم يقتضي القصد والإرادة والحكيم لا يريد إلا ما فيه فائدة ومصلحة لعبيده تفضلا منه لكرمه الواسع وجوده العميم قال صدر الشريعة في الأصول: وما أبعد عن الحق قول من قال: إنها ليست معللة بمصالح العباد، فإن بعثه الرسل عليهم لاهتداء الخلق، وإظهار المعجزات لتصديقهم، فمن أنكر التعليل، فقد أنكر النبوة، قال صاحب "التلويح": إن تعليل بعثة الرسل باهتداء الخلق لازم لها، وكذا تعليل إظهار المعجزة على يدهم بتصديق الخلق لهم، وإنكار اللازم يوجب إنكار الملزوم؛ إذ ينتفي بانتفاء اللازم، فإن قالوا: إن تحصيل مصلحة العبد وعدمه إن استويا بالنسبة إليه تعالى حيث لا   1 ليت شعري ما معنى الوجوب عليه تعالى؟ ومن الذي أوجب هذا الوجوب؟ وهل المخلوق يحكم على الخالق؟ تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا وقد اتفق أهل السنة والمعتزلة معا أنه لا حاكم إلا الله {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ} وأن العقل لا يوجب شيئا على الله سبحانه، نعم قد أوجب الله على نفسه أشياء وردت في القرآن والسنة كعدم تعذيب أهل الفترة قال تعالى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} وذلك الإيجاب تفضل منه ومنة اقتضاه عدله ورحمته. ا. هـ. مؤلف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 581 نفع ولا ضرر يصل لذاته فلا يصح أن يقال: إن ذلك غرض أو علة، فليلزم الترجيح بلا مرجح، وإن لم يستويا بالنسبة إليه، كان فعله للأولوية، فيلزم الاستكمال لأن معنى كونه غرضيا أو علة هو أنه مقصود ومراد له تعالى، أي توجهت إرادته إليه من غير أن تكون فيه مصلحة لنفسه تعالى، ومثل ذلك قد يحدث لأمثالنا إليه من غير أن تكون فيه مصلحة لنفسه تعالى، ومثله ذلك قد يحدث لأمثالنا والله منزه عن التمثيل، فإنا قد نواسي ونحسن لمن لا منفعة لنا فيه، ولا نرجو منه ثناء ولا ثوابا ولا غرض لنا أصلا سوى الرحمة والشفقة لا سيما إن كان في معرض الهلاك لولا تلك المواساة. وفعل الله الذي هو غني عن العالمين وهو الرحمن الرحيم بهم كيف لا يكون كذلك، وأي استحالة في هذا، وأي نقص يتصور فيه، قال سعد الدين في شرح "المقاصد": الحق أن تعليل أفعال الله تعالى سيما الأحكام الشرعية بالحكم والمصالح ظاهر كإيجاب الحدود والكفارات وتحريم المسكرات وما أشبه ذلك، وأما تعميمه بأنه لا يخلو فعل من أفعال عن غرض، فمحل بحثه ومراده بالتعليل هو ما بيناه آنفا، فلا يرد بحث الدواني معه، ولله در سعد الدين حيث اعترض جعل القضية كلية، فإنا نعلم أن خلود أهل النار في النار من فعل الله، ولا نفع ولا مصلحة فيه لهم فيما يظهر، ولو كان الحق لا يصدر عنه إلا ما فيه مصلحة العبيد لما أوجد الكافر الفقير المعذب في الدنيا والآخرة؛ إذ العدم أصلح له بلا شبهة. وعلى كل حال أن الغرض والعلة الغائبة والباعث، الصواب نفيه عن جانب الربوبية لإشعاره بالنقص تعالى عن ذلك. أما قصد حصول الحكم والمصالح بالنسبة للعبيد من أفعاله تعالى وأحكامه، فلا محذور فيه، وليس هو بكلي في كل فعل فعل، ولا في كل حكم حكم من أحكام الشريعة على القول بإثبات التعبدي، وذلك على سبيل التفضل والمنة لا الوجوب. وانظر المجلد الثاني، من "إعلام الموقعين" عدد 23 وما بعده، ولا بد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 582 تنبيه: وها هنا دقيقة وهو أن بعض المحققين يقول: إن الله فاعل بنوع أشرف من الاختيار، وذلك النوع لا اسم له عندنا لأنا إنما نعرف أسماء ما عهدناه، والناس إذا عدموا شيئا عدموا اسمه، وخواص الخواص معدومة الأسماء، ونحن نحسن بمعانٍ جمة، وفوائد كثيرة لا نستطيع صرفها عن أنفسنا، ونعجز أن نسميها باسم يؤديها تماما، ونعتاض عنها بإرشارات وتشبيهات تقوم مقام الأسماء الفائتة، وقد صح البرهان أن فعل الله تقدس ليس باضطرار؛ لأن هذا نعت العاجز، وليس باختيار أيضا لأن في الاختيار معنى قويا من الانفعال يعلم هذا من ألف شيئا من الفلسفة فلم يبق إلا أنه فاعل بنحو عال شريف يضيق عنه الاسم والرسم كما أنه لو قال لك قائل: لم عبرت عن الله بالتذكير دون التأنيث لما كان عندك إلا أن تقول: هذا ما أقدر عليه، وليس عندي اسم يحضرني سواه. وأكثر ما أمكنني أنني لم أنعت بنعوت الإناث، والتذكير والتأنيث يوجدان فينا وبهما أشبهنا سائر الحيوان، وهما منفيان عن الله من كل وجه وكل وهم، كما أن قولنا: يفعل الله لا يصح معناه في الباري؛ لأنه عبارة عن انفعال الأشياء إليه؛ لأن الأشياء له، وكلها مشتاقة ومتوجهة إليه، مستأنسة به، وأنت تعلم أنه لا فاعل إلا ويعتريه نوع من الانفعال في فعله، لذلك لا منفعل إلا ويعتريه نوع من أنواع الفعل في انفعاله إلا أن الفعل في الانفعال خفي جدا، وبالعكس الانفعال في الفعل. لذلك لا يطلق على الفاعل إلا الاسم الأخص له، فظهر أن قولنا: فاعل مختار فيه نوع من المجاز في الكلمتين حكمت به العادة، وضيق اللغة. هذا تحرير القول في هذه المسألة، وإذا ظفرت به فاحتفظ بألف مغنم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 583 البحث العشرون لبعض الأصحاب الرباطيين: وهو وقع لكم في الصفحة 231 من ج1 "نحن معاشر الأنبياء لا نورث" والوارد هو لفظ: إن معاشر الأنبياء وبحذف الصدر، والاقتصار على قوله لا نورث ما تركنا صدقة وهي في الصحيحين. وجوابه: نعم الوارد في رواية أحمد1 وغيره بلفظ: "إنا" دون "نحن" فما "الفكر السامي" رواية بالمعنى وهي جائزة على الصحيح، ومثل هذا البحث لا يصدر من المحصلين لا سيما في مقام كهذا قصد به مجرد الاستدلال لا الرواية، ولم ننسبه لمصنف من المصنفات الحديثية بغير اللفظ المخرج فيه.   1 المسند "2/ 463" من حديث أبي هريرة، ورواه عن عائشة البخاري "12/ 4"، ومسلم "1757" بلفظ: "لا نورث ما تركنا صدقة" ورواه مالك "2/ 993" ومسلم "1758" عن عائشة بلفظ: "لا نورث ما تركنا فهو صدقة" ورواه مالك "2/ 993"، والبخاري "12/ 5"، ومسلم "1760" عن أبي هريرة بلفظ: "لا يقتسم ورثتي دينارا ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي، فهو صدقة". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 584 البحث الحادي والعشرون له أيضا ونصه: وقع لكم في الصفحة 342 ج1: وأما الذي اعتمداه أبو زرعة بن أبي الفضل بن الحسين العراقي الحسيني إلخ مع أن أبا زرعة المذكور ليس بحسيني، وإنما هو عمري، كما في أول شرح ألفية السير. ا. هـ. وجوابه: إن هذه الجماعة وهي أبو زرعة بن أبي الفضل بن الحسين العراقي ليست من الأصل وإنما وقع وهم للطابع لمحها في ورقة أخرى، فأدرجها هناك غلطا، وأصل عبارتي المنقولة من "تعجيل المنفعة" لابن حجر هو ما لفظه للحافظ أبي الحسين بن المظفر، وأما الذي اعتمد الحسيني على تخريج رجاله إلخ وما أدري كيف وقع للطباع في هذه الزيادة، أما قول الباحث: إن أبا زرعة عمري، فليس بصواب، بل هو كردي رازياني بالياء المثناة تحت ثم ألف ثم ياء النسب كما في ترجمة والده أبي الفضل من "ذيل طبقات الحفاظ" للحافظ أبي المحاسين محمد بن علي بن الحسين الحسيني الدمشقي عدد 220 فانظره، وانظر ترجمته في الشافعية من هذا الجزء، وترجمة والده أيضا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 585 البحث الثاني: والعشرون له أيضا ونصه قلتم في الصفحة 383 ج1 في وفاة مالك سنة 179 باتفاق. إن الاتفاق حكاه الحطاب وتبعوه، لكن ابن خلكان حكى الخلاف في ذلك. وجوابه: ليس كل خلاف جاء معتبرا إلخ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 586 البحث الثالث والعشرو: له أيضا ... البحث الثالث والعشرون: له أيضا قال: وقع لكم في عدد 79 ج2 في ترجمة الدارمي أنه صاحب المسند، وهذا أصله لابن الصلاح في المقدمة، وانتقد عليه بأنه ليس من المسانيد؛ لأنه مرتب على الأبواب لا على الصحابة كما في الألفية العراقية. وجوابه: إن نفي صاحب الألفية ليس حجة على ابن الصلاح المثبت؛ إذ يحتمل أن يكون له مسند وجامع، على أن تخصيص المسند بما رتب على الصحابة اصطلاح حديثي حادث، والمعنى اللغوي صحيح لوجود الأسانيد فيه، وقد أطبقوا على تسميته بالمسند. حتى عند أصحاب الفهارس كصاحب "صلة الخلف" فإنه سماه مسندا، ثم أورد المناقشة اللفظية التي ذكرتم، ونحن تبعنا من ترجموه وقالوا: إن له مسندا، والخطاب في ذلك سهل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 586 البحث الرابع والعشرون: من بعض الأصحاب الفاسيين ... البحث والعشرون: من بعض الأصحاب الفاسيين قال: وقع لكم في الجزء الرابع في تراجم المالكية في الإمام محمد بن المدني جنون الكبير أنه توفي 1300 على رأس المائة الثالثة عشر، وإنما توفي في سنة اثنتين بعدها في أول ذي الحجة، وفي الشيخ إبراهيم التادلي الرباطي وقع لكم أنه توفي سنة إحدى عشرة وثلاثمائة وألف، والذي تلقيته من بعض الرباطيين أنه توفي في سنة ست قبلها، وفي سيدي محمد القادري وقع لكم أنه توفي سنة 1329، وأنما توفي عشية الأحد ثالث عشر رجب سنة 1331 إحدى وثلاثين، ووقع لكم في ترجمة محمد بن إبراهيم المشترائي أنه تولى القضاء بعد أبي العباس بن سودة، والتحقيق أن الذي تولى بعده ولده العباس، ثم المولى أحمد العلوي الملقب بدبيزة، ثم ابن إبراهيم المذكور. ا. هـ. بخ. وجوابه: أما التادلي، فالتحقيق في تاريخ وفاته هو ما في "الفكر السامي" وهو الذي أخبرني به والده السيد عبد القادر أحد عدول الرباط الآن وغيره من تلاميذه الذي أظن بهم التحقيق، وتوجد إجازات وشهادات بحفظ المتوفى بعد سنة ست التي ذكرتم وفاته فيها حيث كان متعاطيا للشهادة بسماط العدول. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 587 وأما جنون الكبير وسيدي محمد بن قاسم القادري، فالحق في وفاتهما هو ما ذكرتم، وما وقع في "الفكر السامي" غلط مني، أو من مخرج المبيضة أو غيره، وقد وقع التنبيه عليه في جدول الإصلاح، ولكم مني مزيد الشكر على التنبيه. وأما قولكم عمن تولى بعد أبي العباس بن سودة قضاء فاس، فهو بحيث تافه؛ إذ البعدية من الظروف المتسعة، فهو على حد قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} 1 وكان بعد ذلك صمويل آخر قضاتهم الذي كان بعد موسى بزمن طويل زادكم الله حرصا على ترقي العلم. وتوقي الوهم.   1 سورة البقرة: 246. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 588 البحث الخامس والعشرون : من بعض أعلام مصر، ونصه بعد الديباجة: سيدي، شرفتم مكتبتي بإهداء نسخة من كتابكم العديم المثل، الجزيل البذل "الفكر السامي في تاريخ الإسلام" فازدانت بجماله الباهر، وتحلت لبتها العاطلة بجوهره الزاهر، تقبل الله عملكم المبرور، وسعيكم المشكور، ولقد سبرت مبانيه، وخبرت معانيه، فأكبرت مقاصده، واستعذبت موارده، وحمدت الله أن أبرزه في هذا الزمن الذي نضبت فيه المنابع، وغزرت الدعاوي، واشتدت الزعازع، وإني لأعده من معجزات الدين، ومؤيدات اليقين، فقلما رأيت من كتب في العصر ما طابق اسمه مسماه مطابقته، أو أفاد مع غزارة العلم إفادته، أو أجاد في الصناعة العلمية إجادته، على حسن الإبداع، وسلامة الاختراع، ونفاسة الذوق مع الاتساع. فما من سواد في بياض رأيته ... بأحسن من هذي العيون ولا أحلى ولقد أكملتم جماله، وأبدعتم كماله، بابتكاركم فتح باب النقد، وقبولكم كل ملاحظة رغبة في التنقيح، وغبطة بالتصحيح، مما دل على صدق النصح الجزء: 2 ¦ الصفحة: 588 للمسلمين، في إبانة الحق، وتحرير العلم والدين، فلكم من الله الجزاء الأوفى، والثناء الأكفى. إن هذه الفكرة عالية، ومكانة في اتساع الأخلاق سامية، أراكم قد سبقتم علماء الإسلام لفتح بابها تصير سنة متبعة، تتحرر بها المؤلفات في حياة مؤلفيها، وتتضح بها أوهام من يتصدى للنقد وهو في تطوره العلمي لم يزل في المهد. مولاي أوجبتم على إبداء ملاحظاتي قياما بنصح الإسلام، فإني ممتثل أمركم طالب عفوكم، ولكن بعد أن أوفي مؤلفكم حقه بذكر بعض مزاياه المنفرد بها، وإن شارك غيره في غيرها، لئلا أكون ممن بخس الناس أشياءهم، أو أنسأ حقهم فأساءهم. سيدي أول ما وقع طرفي على الديباجة التي خالفتم فها عادة كل ما يرد علينا من مؤلفات السادة المغاربة وبعض المشارقة من تطويل الخطبة، وتنميقها بالسجع، وما يلقونه على وجه تواليفهم كبراقع تحول دون المقاصد إلا وأخذ أسلوبه العجيب السهل الممتنع بشراشر القلب، ومنافذ الفؤاد، فنفذت عذوبة بيانه، ومتانة علومه بأسرع من البرق إلى الفكر والمشاعر، فملكتها، فما مضى زمن وعد موسى حتى استوعبته مطالعا أكثر مسائله، مقابلا لما لم أستحضره منها على أصوله في مظانها بنظر مستقل غير متحيز ممتثلا أمركم المطاع، فإذا هو لب لباب وسحر الألباب، وقد فتح الباب لعلم جديد كان فيه الكتاب، وفصل الخطاب، بل لخص علوما، وما من علم التقمه إلا وأجاد هضمه. فهذا أصول الفقه الذي لا يجيد الكتابة فيه إلا نحارير الأمة وفلاسفتها العظام الماهرون في علوم اللسان والتشريع الإسلامي، لكونه فلسفة العلوم الإسلامية، وميزان اختبار اختيار أعلامها، وسلاح المجتهد في الهيجاء عند احتدامها، قد أتيتم بملخص مهمه، وسواد عيونه في القسم الأول من كتابكم، وكملتم بقية منه في القسم الرابع لمناسبة أوجبها الانسجام، وما فاتكم منه إلا ما هو من فن آخر غالبا كمبحث الحروف الذي هو لغوي، ومباحث المنطق والتوحيد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 589 والتصوف التي ضخم بها "جمع الجوامع" وأصله. ومع مقابلتي لمسائله على أصوله "كالمنتهى" و"المستصفى" و"إحكام الأحكام" و"المحصول" و"التنقيح" و"مسلم الثبوت" وغيرها، وجدتكم عمدتم إلى ضخام الأسفار، فقربتم ثمارها اليانعة في أوراق عظيمة القيمة، قليلة العدد، إبريز البيان كعقود زمرد وجمان. فالمحصل لها محصل لفز يعد بها من أعظم رجاله، وأساطين كماله وجماله غير أنكم أطنبتم في مبحثي التقليد والاجتهاد بما لا يناسب ما في الجزء الأول من محاسن الإيجاز، الذي هو لأهل الفن إعجاز، ولكنكم أتيتم في المبحثين بمسائل وتحريرات لا توجد في كتاب بيد أنها تبرد غلة الطلاب. ولقد رقص أهل الفن وغواة التاريخ طربا بما أدمجتموه في الجزء الأول من تلك القطعة العنبرية، التي فاح شذاها في المشارق والمغارب، واستطردتموها استطراد علي للمسألة المنبرية، وهي تاريخ نزول الأحكام الفقهية، وترتيبها على سني الهجرة النبوية مما لم يتقدمكم إليه غيركم حيث إنه من موضوع فنكم الذي ابتكرتموه، ولعمر الله إنها لمن أمهات المسائل التي كان يجب على أعلام الأمة إفرادها بالتصنيف، وتمحيصها كل التمحيص؛ إذ بها تنحل عويصات، وتظهر أسرار أحكام خفيات، وقد ادخرتها لكم الأقدار لتظهر ما لكم في الشريعة والتاريخ من الاقتدار، وحسن الابتكار، وإن ما كتبتم في ذلك على إيجازه لجامع لأشتات ما تفرق في دفاتر فقهية وتاريخية وحديثية يعد تأليفا لطيفا مستقلا، وفنا جديدا، ولقد حررتم ما جمعتم تحريرا، وحبرتموه تحبيرا، والله يحسن مثوبتكم على تعبكم في استقصائكم. وهذا علم تراجم الرجال عمدتم إلى جمهرة أعيانه، وواسطة تاج إيوانه، من رجال الفقه والأصول والحديث، ولخصتم زبدة اللبن كأنكم أشرفتم على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 590 جيش عرمرم، فانتقيتم منه كل حامل راية، ومن لا تدرك لكفايته غاية، فلا يتمالك الناظر المنصف أن يظهر إعجابه وبهته واستغرابه، من استقصائكم لأولئك الأساطين العظام، الذين بأسفار تواليفهم بنيت قبة الإسلام في العصور الذهبية، وبأفكارهم وأقلامهم اتسعت دائرة معارفنا، وازدهت مكتباتنا، وافتخرت أجيالنا، غير أنكم اعتنيتم بحفاظ الحديث، وبالخصوص الشافعية منهم، وبفقهاء المالكية وعلى الأخص المغاربة منهم والفاسيين، ولكن الفقه مرتبط بالحديث ارتباط الفرع بأصله، والمرء لا يلام على اهتباله بوطنه ومذهبه، وكل فتاة بأبيها معجبة ولا بأس أن ينبه جنابكم آخر الكتاب على وفاة القفال الكبير الذي لكم في الصفحة 129 ج2، فإن السخاوي في كتاب "إعلان التوبيخ" ذكر أنه توفي سنة 365 خمس وستين وثلاثمائة. وهذا علم التاريخ السياسي قد أبان ما لخصتموه منه أول أطوار الفقه استحضاركم لتاريخ سلفكم الطاهر استحضار الإمام الراتب لفاتحة الكتاب، مكتفين بإعجاز الإيجاز عن الإطناب. نعم ربما وقع الخروج عن موضوع الكتاب في بعض المناسبات كإدماجكم تاريخ اللغة العربية في أربع ورقات من الجزء الثاني، وتاريخ علم التصوف في ثمان ورقات من الثالث، وكان يكفي الإحالة على كتبهما إذ الكل علم مستقل، فلئن تجنبتم أول الكتاب ذلك النقاب، فقد وقعتم في الإسهاب. على أنكم قد أبدعتم إبداعا فيهما، ولا سيما في تاريخ التصوف، فلقد أتيتم بما لم نره لغيركم، ولا سقطت عليه قريحة سواكم وهما تأليفان مهمان أدرجتموهما إدراجا، ودبجتموهما أحسن تدبيج، وما أحسنهما لو استقلا بإطلاق، لا كاستقلال مصر والعراق، وتكفيكم الإجادة عذرا، ولكن إياكم وما يعتذر منه. وهذا علم الحديث، فلقد تتبعت ما دللتم به من السنة النبوية، فما رأيتكم أتيتم بحديث إلا وبينتم مخرجه وحالته صحة وإعلالا مستقصين ما لعظماء الفن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 591 فيه، وما لم يناسب سوقه في الأصل، وشحتم به الهوامش الدرر، فبدت بها أنوار الغرر، ولربما اتكلتم على شهرة بعض الآثار في "الصحيحين" أو السنن يعلم ذلك من له إلمام بالفن، نعم ذكرتم في ترجمة عائشة الصديقة من الجزء الثاني أنها روت شطر الدين، فربما يفهم الناقدون إنه إشارة لحديث باطل "خذوا شطر دينكم عن هذه الحميراء"1 لكن المنصفون يعلمون أن لا درك عليكم من ذلك حيث لم ترفعوه صراحة ولا ضمنا بله أنه يلزمكم القول بمعناه. ولعمري لا تستبعد تلك المنقبة في حق الصديقة رضي الله عنها، مع ما أوتيته من سعة العلم، وغزارة المادة، بيد أنه فاتهم التنبيه على بطلان الحديث، ومقامكم العلمي الأثري يوجبه رفعا للوهم. كذلك سقتم في ترجمة عمار بن ياسر حديث "ويح عمار تقتله الفئة الباغية" والذي في صحيح البخاري "ويح عمار يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار" وليس   1 قال الحافظ ابن حجر في تخريج ابن الحاجب من إملائه: لا أعرف له إسنادا، ولا رأيته في شيء من كتب الحديث إلا في "النهاية" لابن الأثير ذكره في مادة: حمر، ولم يذكر من خرجه، ورأيته أيضا في كتاب "الفردوس" لكن بغير لفظه، وذكره من حديث أنس بغير إسناد أيضا، ولفظه "خذوا ثلث دينكم من بيت الحميراء" وبيض له صاحب "مسند الفردوس" فلم يخرج له إسنادا، وذكر الحافظ عماد الدين ابن كثير أنه سأل الحافظين المزي والذهبي، فلم يعرفاه، "المقاصد الحسنة" "198"، وقال الزركشي في "المعتبر" ورقه "19/ 1"، وذكر لي شيخنا ابن كثير عن شيخه أبي الحجاج المزي أنه كان يقول: كل حديث فيه ذكر الحميراء باطل إلا حديثا في الصوم في سنن النسائي قلت: وحديث آخر أخرجه النسائي في عشرة النساء ورقة "75/ 1" من حديث يونس بن عبد الأعلى، حدثنا ابن وهب، أخبرني بكر بن نصر، عن ابن الهاد عن محمد بن إبراهيم، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: دخل الحبشة المسجد يلعبون، فقال لي: "يا حميراء أتحبين أن تنظري إليهم؟ "، فقلت: نعم: فقام بالباب، وجئته، فوضعت ذقني على عاتقه، فأسندت وجهي إلى خده، قال: ومن قولهم يومئذ: أبا القاسم طيبا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حسبك"، فقلت: يا رسول الله لا تعجل، قالت: وما بي حب النظر إليهم، ولكني أحببت أن يبلغ النساء مقامه لي، ومكاني منه، وهذا سند صحيح كما قال الحافظ في "الفتح" "2/ 370". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 592 فيه "تقتله الفئة الباغية" 1 نعم لأدرك عليكم حيث لم تنسبوه للصحيح غير أن حيادكم الاعتقادي نحو الصحابة يوجب حذفه، وإنه ليطربني تفسيركم لآيات الكتاب الحكيم حيث هو تفسير استقلالي أثري غير متأثر بالوسط، ولا بالمذهب المالكي، ناهج مناهج الاعتدال، مؤيد بالسنة وقواعد العربية والأصول بما يوجب لمؤلفكم إقبال نبغاء أهل العصر الحاضر. وهذا علم الفقه قد أتيتم في كتابكم على صغر حجمه من المسائل تمثيلا واستشهادا بما لو حصله طالب، لعد من عليه الفقهاء النظار لردكم الفرع إلى أصله، وإفراغ الاستنباط في أفخر شكله، وتحري صحيح النقل، وتوهين ما زاغ عن جادة العدل، مع استقلال الفكر، وعدم التحيز لأي مذهب إلا إن كان له حجة مما يضمن لكم أن لا ينفر من كتابكم هذا حنفي ولا شافعي ولا حنبلي. نعم انحيتم بلائمة كبرى على مذهب الظاهرية الذي خانه سعده معكم، ولكن ندرة أهله في الوقت الحاضر تأمنون بها ضجته وليتكم تمسكتم بالحياد، ومنحتموه حريته، على أن نقدكم إياه قد أصاب غالبه الكلي والذري، ولكن الحي قد يغلب ألف ميت. وأعظم بفائدة ما أتيتم به من أصول المذاهب الأربعة، ومذاهب الظاهرية مما فيه غنية عن المطولات الهامة، وذلك مما يهم كل فقيه، ويوجب شكر كل منصف نبيه.   1 أخرجه البخاري في صحيحه "1/ 451" في المساجد: باب التعاون في بناء المساجد من حديث أبي سعيد بلفظ "ويح عمار يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار" وأخرجه مسلم "2915" في الفتن من حديث أبي سعيد قال: أخبرني من هو خير مني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لعمار وهو يحفر الخندق وجعل يمسح رأسه ويقول: "بؤس ابن سمية تقتلك فئة باغية"، وأخرجه مسلم أيضا "2916" من حديث أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمار: "تقتلك الفئة الباغية" ورواه جماعة من الصحابة غير من تقدم أبو هريرة عند الترمذي، وعبد الله بن عمرو بن العاص عند النسائي، وعثمان بن عفان، وحذيفة وأبو أيوب وأبو رافع وخزيمة بن ثابت، ومعاوية، وعمرو بن العاص، وأبو اليسر وعمار نفسه عند الطبراني وغيره، وقال الحافظ: وغالب طرقها صحيحه أو حسنة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 593 بيد أنكم أجملتم إجمالا في المذهب الزيدي والشيعي مع أن هذا مذهب أمة من أرقة الأمم الإسلامية ولكن بعد الدار أبديتم به أقرب الأعذار، كما أنكم أغضيتم عن مذهب الإباضية إغضاء الحليم عن المجرم وهو مذهب منتشر بجواركم في جنوب الجزائر، ويقول البعض: إنه موجود بالمغرب أيضا، كما أنه مذهب أمارتي مسقط وزنجبار، ولهم فقهاؤهم وكتبهم وفروعهم وأصولهم، ولا بدع أن أجبتم بقول الشاعر: وليس كل خلاف جاء معتبرا إلخ. هذا وأما الفن الذي أسستم قواعده، وشيدتم في عواصم العلوم هياكله ومشاهده، وابتكرتم أصوله، ومهدتم فروعه بمهارة نادرة في استنباط مسائله، وإفحام سائله، واستخراجكم لأطواره من حياة أبطاله، فذلك اتفق على إحسانكم فيه كل الإحسان، كل إنسان بكل لسان، والبرهان العيان، وما بعد العيان بيان. وإما إرشادكم إلى تجديد الفقه، وإحياء طرق الاجتهاد بإصلاح الدراسة، وتأليف كتبها الفقهية والعربية، وإحياء معاهد الفتوى والقضاء إلى أن تعود لما كانت عليه في الصدر الأول، فذلك شأن المصلحين البارعين المفكرين بمفكرة واسعة، والناظرين إلى مستقبل الملة بالمنظار الصافي من كل كدر عن ذوق صحيح وغيرة حقيقية، وإن ذلك كله لحقيق بكل إعجاب وإكبار. وسيدي ولا يهولنكم ما قد يورده الجاحدون من كون الدواء الذي أرشدتم إليه هو نوع تغيير للشريعة، والرسوم المتلقاة عن الآباء القدماء رحمهم الله، فنحن نجيبهم بأن أصول الشريعة هي المنصوص والمجمع عليه، وقد أوجبتم حفظهما، والعض عليهما بالنواجذ، وإنما التغيير للأحكام الاجتهادية إن اضطر إليه، والتغيير الحقيقي المبيد للشريعة هو عملهم السائرون عليه، فقد تركوا الحدود الشرعية من الأحكام، فلا حد يقام في الأرض على وجهه الشرعي، ولا قصاص، ولا لعان، ولا ولا ولا، نبذوا أحكام الربا، وأحكام البيوعات، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 594 الإجارات، وصاروا إلى أحكام عرفية، والمجالس التجارية، ومجالس الجنح والجنايات منابذين للشريعة جهارا وربما تولى تلك الأحكام من يزعم أنه من علماء الشرع الإسلامي، ولم يبق راجعا إلى القضاء الشرعي إلا القليل قد يندثر مع الزمن لا قدر الله على أن هذا القليل ما علمت من قال وقيل. فلأن نجعل تعديلا لأحكام اجتهادية تغيرت الأحوال، فلزم تغيرها، ويبقى الدستور شرعيا اسما ومسمى خير من أن يصير وضعيا، ونصبح منابذين لشريعة الإسلام كليا، ولا شك أن جمود الجامدين هو موت الشريعة اللزام؛ إذ طبيعة الجمود هو الموت الزؤام. فلله أبوكم ما أدق نظركم، وأوسع في مجال المصالح الشرعية فكركم. إن ما أرشدتم إليه من دواء لهو الإصلاح النافع، وكيف لا وقد صدر من قلم طبيب منور نطاسي ماهر، عالج المسألة التعليمية طيلة السنين، وعرف داءها الدفين، وكشف بالكاشف الحديث مكامن الداء كشف حكيم غيور صادق، وأرشد إلى الدواء إرشاد يقظ وامق، غير مكترث بقال ولا غال ولا منافق، وهكذا كان أصحاب العقول الكبيرة من علماء وفلاسفة يهتمون بأمور الأمة، ويعالجون داء أهل الملة، وكثير منهم لم يبلغوا ما بلغت، ولا نقبوا على ما نقبت، فحملوا على الرءوس. وفدتهم أممهم بالنفوس، والله المسئول أن ينبه الأفكار الإسلامية لاتباع إرشادكم، ويثيبكم بما أثاب به المصلحين إنه ولي ذلك. سيدي الشيخ إن فكركم السامي هو عنوان النهضة العربية بالديار المغريبة كما قال عنه المجمع العلمي العربي بالشام، وحسنة من حسنات هذه الأيام، تكفر عن سائر الأعوام، وبرهان قاطع على أن المغرب الأقصى احتفظ بنخبة الأعلام، الذين يخدمون الملة بالقلوب والأحلام والألسن والأقلام، ويستجلى بفكرهم السامي حالك الظلام، فلو وقف عليه أبو الوليد الشقندي ما فضل أندلسه على العدوة، ولا صدرت منه تلك الهفوة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 595 وإن مثل كتابكم هذا يجب أن يدرج في برنامج الدروس العالية والثانوية بالمعاهد الإسلامية الكبرى يسد ثلمة فراغا لا يسدها غيره ولقد كتب الشيخ الخضري رجل مصر في التاريخ وعلوم الشريعة في الموضوع الذي كتبتم فيه قريبا من الزمن الذي كنتم تكتبون فيه، لكنه جاء بوشل ما عل ولا أنهل، ولا عطر بعد عروس، لا زالت تنير ما أظلمه التأخر، وتبني ما هدمه التقهقر، ويا ليت النوابغ من الفقهاء والمؤرخين والمتفلسفين يكتبون على نسق ما كتبت، ويستصبحون بالمصباح الذي أنرتم، ومن الله نسأل المعونة والتسديد لسائر أهل العلم آمين. ا. هـ. بحروفه. وجوابه: إن الحسنات يذهبن السيئات، وقد استهدف من ألف، وإني ليسرني أن أسمع كلمة نقد أصلح بها عيوبي الجمة، وأفضلها على ألف كلمة في التقريظ والإطراء الذي لا موجب له إلا حسن الظن، وسلامة الضمير، وتنشيط العلم والله يجازيهم خيرا كثيرا، ولله در الإمام الزمخشري. العلم للرحمن جل جلاله ... وسواه في غفلاته يتغمغم ما للتراب وللعلوم وإنما ... يسعى ليعلم أنه لا يعلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 596 البحث السادس والعشرون : من بعض علماء فاس، ونصه ذكرتم في الصفحة 358 من الجزء 1 من "الفكر السامي" أن مالكا لا يرى حكمنا بين اليهود إذا ترافعوا إلينا مع أن الإمام مخير في الحكم بينهم وعدمه إن لم يأب بعض، طبق قوله تعالى: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} 1. ا. هـ. وجوابه: إن ما في الصفحة المذكورة موضوعه في الزنى خاصة، كما هو في صدر الكلام وعجزه، فالذي نسبته للمذهب هو قول خليل: الزنا وطء مكلف مسلم إلخ وقوله: يرجم المكلف الحر المسلم إلخ فمقتضاه أن اليهودي إذا زنى بيهودية، وترافعوا إلينا أن لا نعتبره زنى ولا نحد واحدا منهما، وقد نسبه الزرقاني في شرح الموطأ للمالكية، فظاهره لكلهم وذلك خلاف حديث الصحيحين وهو رجمه عليه السلام ليهودي ويهودية زنيا. وأجاب المالكية بأنه تنفيذ حكم التوراة بينهم، وليس حكما منه عليه السلام، ولكن المالكية يمنعون تنفيذ هذا الحكم الآن الذي نفذه صلى الله عليه وسلم، وأما في غير الزنى، فالأولى عندهم عدم الحكم بينهم فالحديث وارد عليهم لا محالة وهم مخالفون لظاهره.   1 سورة المائدة: 42. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 597 ثم إن حكم الحاكم المسلم بين أهل الكتاب فيه تفصيل عند المالكية، وذلك أن خمسة مسائل لا يحكم فيها بحال جمعها أبو العباس بن القاضي في قوله: لا حكم بين الكافرين بخمسة ... بل يرفعون بها إلى الكفار وهي النكاح وضده ثم الزنى ... والخمر زد هبة من الفجار وأما التظالم فيما بينهم عدا الميراث، فإنه يحكم بينهم، ويمنعون من الظلم، أحبوا أم كرهوا، كما قاله ابن مرزوق في شرح المختصر، وأما الإرث وبقية الأحكام غير التظالم، فإن الإمام بين الحكم بينهم إذا ترافعوا إلينا إن لم يمتنع بعضهم، فإن امتنع، رفعوا إلى حكامهم من أهل الكتاب. قال مالك: وأحب إلي ألا يحكم بينهم، أي لقوله تعالى: {وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} 1 فاشترط القسط وإصابته شاقة. فترك الحكم الذي لا مضرة معه أسلم. وهذا ما لم يسلم بعضهم فإن أسلم حكم بينهم بحكم الإسلام، وإلى هذا أشار خليل بقوله في باب الفرائض: وحكم بين الكفار بحكم المسلم إن لم يأب بعض إلا أن يسلم بعضهم، فكذلك إن لم يكونوا كتابيين وإلا فبحكمهم. انظر شراحه هكذا ينبغي تحرير هذه المسألة لا كما وقع في السؤال. وأما الحنفية فأهل الذمة عندهم محمولون في البيوع والمواريث وسائر العقود على أحكام المسلمين بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم ألزم أهل نجران بترك الربا أو ينبذ عهدهم، وكذا الحدود إلا أنهم لا يحكمون بالرجم لعدم توفر شروط   1 سورة المائدة: 42. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 598 الإحصان، فورد الحديث عليهم كالمالكية. ولهم تفصيل في النكاح يعلم في محله من كتبهم، ويقولون: إن آية التخيير {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} 1 منسوخة بآية {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} 2 وآية {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} 3 إلا في بيع الخمر والخنزير لغير المسلم قال الجصاص في أحكامه: ولا نعلم خلافا بين الفقهاء أن من استهلك لذمي خمرا أن عليه قيمتها فانظره وبه يعلم أن ما درجنا عليه في عدد 37 من الجزء الأول من أن آية التخيير منسوخة تبعنا فيه الإتقان وهو مذهب حنفي شافعي، والذي يجري على مذهب المالكية أنه لا ناسخ ولا منسوخ في الآيتين، ذلك أن قوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} مخصوصة بأحكام التظالم؛ إذ حكى الثعالبي في "الجواهر الحسان" الإجماع على الحكم بينهم فيها رضوا أو أبو. وقال مجاهد: إن آية التخيير هي الناسخة، ولذلك نبهنا في الصحيفة 38 من ج1 على أنه يمكن النزاع في نسخ بعض الآيات التي مثلنا بها للنسخ هذا آخر ما يتعلق بالذيل، وبتمامه تم الكتاب والحمد لله رب العالمين. وإنما أبهمت أسماء الذي بحثوا معي بملاحظتهم القيمة، ونبهوني لبعض أغلاطي محافظة على ولائهم وعواطفهم التي هي عندي مقدسة؛ لأن الحقائق تجرح، ولا آمن زيغ القلم في مقام المناظرة وإني لهم من الشاكرين على التفاتهم لتأليف هو من سقط المتاع، وتصحيحهم لبعض أغلاطه، والله يجازيهم خير جزاء بمنه، ومني إليهم سلام الله ورحمته. اللهم اختم لنا بالسعادة التي ختمت بها لأصفيائك، واجعل خير أيامنا   1 سورة المائدة: 45. 2 سورة المائدة: 42. 3 سورة المائدة: 45. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 599 وأسعدها يوم لقائك، وأجرنا على عوائد فضلك، وأجرنا من مكر عدلك وهيئ لنا عملا مقبولا، وثوابا مباركا مكفولا، وأنجح لنا كل عمل وحقق لنا فيك كل أمل، واجعل لي لسان صدق في الآخرين، واعصمني بك من مكايد الحاسدين، واجعلني لأنعمك من الشاكرين، واغفر لي ولمن له علي حق من المؤمنين آمين والحمد لله رب العالمين. وصل الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وآله وكل من أعانه على رفع منار الدين. وكان الفراغ في جل ما قبل الذيل بفاس في شهور سنة 1336هـ 1918م. وألحقت بعض الزيادات وتراجم بعد، ووقع الفراغ من تبييض الذيل بالرباط في جمادى الثانية 1349 سنة تسعة وأربعين وثلاثمائة وألف. عبيد ربه وأسير كسبه محمد بن الحسن الحجوي الثعالبي وفقه الله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 600 الفهارس : فهرس أبواب القسم الثالث من الفكر السامي : الصفحة الموضوع 5 تمهيد 13 مجمل التاريخ السياسي 16 حدوث مادة الكاغد 18 الأئمة المجتهدون أصحاب المذاهب المدونة 18 ترجمة ابن راهويه 19 ترجمة أبي ثور 20 ترجمة أحمد بن حنبل 29 ترجمة أبي داود الظاهري 43 ترجمة ابن أبي عاصم 44 ترجمة ابن حزم 45 ترجمة ابن جرير الطبري 47 ترجمة أبي علي الطبري 49 استطراد 54 الاختلاف في مظنة الاتفاق 55 حدوث علم التصوف 56 بعض تراجم الصوفية 70 انقراض مذاهب المجتهدين الـ"13" الجزء: 2 ¦ الصفحة: 603 73 الزيدية 73 بعض تراجم الزيدية 77 فقه الشافعية 78 بعض تراجم المجتهدين في القرن الثالث والرابع 105 بعض تراجم الحنفية 111 بعض تراجم المالكية 150 بعض تراجم الشافعية 166 بعض تراجم الحنابلة 172 صفة التوثيق 176 استنتاج من حالة الفقهاء في المادة السالفة 180 علم الخلافيات الجزء: 2 ¦ الصفحة: 604 فهرس أبواب القسم الرابع من كتاب الفكر السامي : الصفحة الموضوع 189 القسم الرابع 190 مجمل التاريخ السياسي 196 إحياء الاجتهاد على عهد دولة الموحدين 206 تراجم الأحناف في هذه العصور 225 إصلاح القرويين 235 أشهر أصحاب مالك بعد القرن الرابع إلى الآن 384 مشاهير الشافعية بعد القرن الرابع 427 مشاهير الحنابلة بعد القرن الرابع 449 تجديد الفقه 449 ما صار إليه الفقه في القرن الرابع 453 مناظرة فقيهين في القرن الخامس 457 غوائل الاختصار وتاريخ ابتدائه 464 عدم تنقيح كتب الفقه 464 فقه العمليات وتاريخ نشأته 468 تحرير لمسألة العمل 470 التقليد وأحكامه 472 تقليد الإمام المثبت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 605 473 التزام مذهب معين 474 المذاهب الأربعة 476 هل يجوز الخروج عن المذاهب 482 حكم التصوير 484 هل يلزم المفتي أن يكون مجتهدا 486 خصال المفتي 489 ما صارت إليه الفتوى في القرون الوسطى 490 حال الإفتاء في زماننا 491 الكتب التي يفتى بها في المغرب 493 الاجتهاد 494 المجتهد، شروطه، أقسامه 498 مواد الاجتهاد 502 بحث مهم 504 هل كل مجتهد مصيب 505 اقتداء المذاهب بعضهم ببعض 509 نقض حكم المجتهد 511 هل انقطع الاجتهاد، أم لا؟ 522 مبحث فيمن أدرك رتبة الاجتهاد 524 ذيل وتعقبات للمؤلف 576 تنبيه لكل نبيه 603 فهارس القسم الثالث والرابع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 606