الكتاب: فن المقال الصحفي في أدب طه حسين المؤلف: د. عبد العزيز شرف الناشر: الهيئة المصرية العامة للكتاب الطبعة: - عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- فن المقال الصحفي في أدب طه حسين عبد العزيز شرف الكتاب: فن المقال الصحفي في أدب طه حسين المؤلف: د. عبد العزيز شرف الناشر: الهيئة المصرية العامة للكتاب الطبعة: - عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة : التفسير الإعلامي لأدب طه حسين: الاتصال هو حامل العملية الاجتماعية، وهو الوسيلة التي يستخدمها الإنسان لتنظيم واستقرار وتغيير حياته الاجتماعية، ونقل أشكالها ومعناها من جيلٍ إلى جيلٍ عن طريق التعبير والتسجيل والتعليم, ولكل مجتمعٍ -مهما كانت درجة بداءته أو رقيِّه- نظامٌ معيَّنٌ من الاتصال يساعد على تسيير أموره، أما الاتصال بالجماهير فيمكن تعريفه على أنه "بثّ رسائل واقعية أو خيالية موَحَّدة على أعداد كبيرة من الناس، يختلفون فيما بينهم من النواحي الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، وينتشرون في مناطق متفرقة1". ويُقْصَدُ بالرسائل الواقعية مجموعة الأخبار والمعلومات التي تدور حول الأحداث، وتنشرها الصحف وتذيعها الإذاعة المسموعة والمرئية, أما الرسائل الخيالية فهي القصص والتمثيليات والروايات والأغاني وغيرها من المبتكرات الفنية التي قد ترتكن إلى الواقع وتنسج منه صورة فنية, أو قد تكون من نسج الخيال, وحتى في الحالة الثانية لا بُدَّ من ارتباط التعبير الاتصالي بواقع المجتمع وما فيه من اتجاهات ومبادئ ومعتقدات وقيم. وفي الاتصال الجماهيري الحديث تتعرَّض الجماهير المختلفة باختلاف السن أو الحالة الاقتصادية أو المكانة   1 O'Hara. Robert C. Media for the Million, New York, 1961, p. 6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 الاجتماعية أو الثقافية لنفس المؤثِّرات الإعلامية والفنية الموحدة مهما تباعدت مناطق إقامتهم1. ولا شك أن الأدب أو الفن بوجهٍ عام -كما يقرر تولستوي- إحدى وسائل الاتصال بين الناس, فكما أن الإنسان ينقل أفكاره إلى الآخرين عن طريق "الكلام", فإنه ينقل إلى الآخرين عواطفه عن طريق الأدب والفن, ومعنى هذا: أن الأدب لا يخرج عن كونه أداة تواصل بين الأفراد، يتحقق عن طريقها ضَرْبٌ من الاتحاد العاطفي أو التناغم الوجداني فيما بينهم, ولما كان الناس يملكون هذه المقدرة الفطرية على نقل عواطفهم إلى الآخرين عن طريق الحركات والأنغام والخطوط والألوان والأصوات وشتَّى الصور اللفظية، فإن كل الحالات الوجدانية التي تمرُّ بالآخرين من حولنا هي بطبيعة الحال في متناول إحساساتنا، فضلًا عن أن في وسعِنَا أيضًا أن نستشعر عواطف أخرى أحسَّ بها غيرُنا من قبل منذ آلاف السنين2. ولا يَقِلُّ الفن أهميةً في نظر تولستوي عن "الكلام"؛ لأنه لو لم تكن لدينا تلك المقدرة على التعاطف مع الآخرين عن طريق الفن، لبقينا متوحشين منعزلين يحيا كلٌّ منَّا بمنأى عن الباقين, أو لظللنا فرادى عاجزين عن تحقيق أيِّ توافقٍ فيما بيننا بعضنا والبعض الآخر.. وكما أن اللفظ هو أداة اتصال فكري هامٍّ بين بني البشر، فإن الفن هو أداة اتصال عاطفيّ هام بين الناس أجمعين. وتبعًا لذلك فإن تولستوي يعرِّفُ الفنَّ بقوله: أنه "ضَرْبٌ من النشاط البشري الذي يتمَثَّلُ في قيام الإنسان بتوصيل عواطفه إلى الآخرين، بطريقة شعورية إرادية، مستعملًا في ذلك العلامات الخارجية", ويضرب تولستوي لذلك مثلًا فيقول: إنه لو قُدِّرَ لطفلٍ صغير استشعر انفعال الخوف الشديد عند لقاء الذئب أن يروي لجماعة من الناس ما اعْتَوَر نفسه من مخاوف حينما التقى بذلك الحيوان الكاسر، ولو نجح مثل هذا الطفل في أن يسترجع نفس المشاعر عند روايته لتلك القصة، وأن يولِّدَ في نفس سامعيه مشاعر مماثلة, لكان عمله هذا فنًّا ما في ذلك ريب.. وحتى لو افترضنا أن هذا الطفل لم يلتق في حياته يومًا بذئب، ولكنه نجح في أن ينقل إلى الآخرين شعوره المتوهم بالخوف، فإن مثل هذه الصورة المتخيَّلة تُعَدُّ أيضًا ضربًا من الفن، بشرط أن يتمَّ عن طريقها انتقال العواطف من الراوي إلى المستمعين. وتبعًا لذلك، فإن تولستوي لا يَقْصِرُ كلمة "الفن" على ما نراه في المسارح والمعارض, أو ما نسمعه في صالات الموسيقى والغناء، أو ما نقرأه في كتب الأدب والشعر والقصة والرواية، بل هو يدخل أيضًا في دائرة الفن كل ما   1 د. إبراهيم إمام: الإعلام والاتصال بالجماهير، القاهرة 1975 ص28. 2 د. زكريا إبراهيم: مشكلة الفن، القاهرة 1977 ط2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 من شأنه أن يوصِّلَ إلى الآخرين حياتنا الباطنية، أو أن يوصِّل إلينا حياتهم الباطنية، بما في ذلك أغاني الأمهات لهدهدة أطفالهن، وشتَّى ضروب الرقص الشعبي، وسائر حركات التقليد والمحاكاة.. إلخ. والعمل الفني الحقيقي.. في نظر تولستوي.. هو ذلك الإنتاج الصادق الذي يمحو كل فاصل بين صاحبه من جهة، وبين الإنسان الذي يوجَّه إليه من جهة أخرى، ثم هو أيضًا ذلك الإنتاج العامر بالعاطفة الذي يكون من شأنه أن يوحِّدَ بين قلوب كل مَنْ يوجه إليهم. والميزة الرئيسية للفن إنما تنحصر على وجه التحديد في قدرته على محو شتى الفواصل بين الناس، لكي يحقق ضربًا من الاتحاد الحقيقي بين الجمهور والفنان. ويذهب "جيروم ستولنتيز"1 إلى أن عددًا كبيرًا من الفنانين، وربما معظمهم، يهتمون بالقدرة التوصيلية لفنهم. والدليل على ذلك أنهم كانوا يراجعون عملهم، خلال عملية الخلق، ليجعلوه أسهل فهمًا أو أكثر جاذبية للجمهور المنتظر. ففي المجتمع القديم والوسيط، وفي كل مجتمع كان الفن يخدِمُ فيه أغراضًا جماعية، كان الفنان يفترض مقدمًا أهمية التوصيل الناجح إلى الآخرين. وفضلًا عن ذلك فإن الوسيط الذي كان يستخدمه الفنان، أي: "القوالب" من أمثال السوناتا والرواية، وكذلك رمزيته، تستمد عادة من تراث حضاري. ومن هنا فإنا نستطيع استخدامها من أجل إنتاج موضوع "عام" يمكن المشاركة فيه2, غير أن تولستوي لم يفطن إلى الوسائل التي تجعل هذا الاتصال حقيقة، فالاتصال يتم بامتدادات أنفسنا، وهو في كل امتداد يتمثَّل خصائصه، كما أنه لم يفطن إلى أن تأثر الأفراد بالعمل الفني يختلف من فرد إلى آخر, بدليل أننا نجد أفرادًا يتحمَّسون لبعض الأعمال الفنية، في حين يعجز غيرهم عن تمييز ما فيها من عناصر وجدانية أو عاطفية. وتأسيسًا على هذا الفهم، نحاول في هذا الكتاب تفسير أدب طه حسين من زاوية اتصاله بالجماهير، ذلك أن طه حسين قد اتَّخذ من وسائل الإعلام بعامة، والصحافة بخاصة، وسيلة للاتصال بالجماهير في تحقيق التقارب، والتواصل القائم على أن "الفكرة" في دلالتها الاجتماعية, و"الكلمة" في صيغتها العملية، من أقدم الوسائل لتحقيق ما ننشد، والفكرة والكلمة   1 جيروم ستولنتيز "ترجمة د. فؤاد زكريا": النقد الفني دراسة جمالة وفلسفية، القاهرة 1974 ص257. 2 نفس المرجع ص257, راجع للمؤلف: طه حسين وزوال المجتمع التقليدي، القاهرة 1977 هيئة الكتاب ومركز الدراسات السياسية بالأهرام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 لهما القوة الساحرة التي تستطيع أن تتغلب على رواسب الفوارق والعنصريات بين الأمم في سبيل تحقيق المثل العليا من وحدة الشعور ووحدة الفكر، ووحدة القيم، لتعزيز الأخوة الإنسانية بأعمق دلالاتها، وأكرم معانيها. فتمثل اتصاله بالجماهير هذه الرؤيا في الميدان الفكري والميدان العملي على السواء، لا يفصل بين الفكرة والفعل، وإنما ترتبط رؤياه الذهنية برؤياه الاجتماعية الفاعلة لإحداث التغيير الأساسي في المجتمع، ودعم قيمه الإيجابية. ولعل في ذلك ما حَدَا بكثيرٍ من المستشرقين إلى توكيد الارتباط بين الجوانب المختلفة في كتابات طه حسين ونبوغه الفني1 -في كتاباته الثقافية والسياسية والأدبية على السواء2، ذلك أن الاتصال الصحفي بالجماهير هو الذي استنفد هذه الكتابات, وأعطى شكلًا ومضمونًا لأشهر مؤلفاته التي كانت محل نقاش الكثيرين، والتي كانت سببًا في ذيوع شهرته داخل مصر والعالم العربي وخارجهما, ولعل في ذلك ما يشير إلى هدف الدراسة الاتصالية، في التعرف على طه حسين من وراء صحافته، على النحو الذي يبرز رؤياه الاجتماعية العملية التي تكمن وراء آثاره الفكرية في الاتصال بالجماهير، والتي يقيم من خلالها مشاركة مع مَنْ يتصل بهم, أو على حدِّ تعبيرٍ مستَعَارٍ من الإعلام, فإن "المرسل - طه حسين" يحاول توصيل معلوماته أو مشاهده أو مواقفه التي يحولها إلى كلمات مسموعة أو مكتوبة، وبعد أن ترسل الرسالة يتوقع المرسِلُ أنها قد رسمت في ذهن المتلقي الصورة نفسها التي كانت في ذهنه. وإذا كانت عملية الاتِّصَال في الأدب تقوم على أساس من الوحدة، فإن طه حسين المرسل -والمضمون والوسيلة والمستقبل والاستجابة، جميعًا حلقات متصلة في سلسلة واحدة، ولقد عنينا في كتابنا عن "طه حسين وزوال المجتمع التقليدي" بدراسة هذه العناصر الاتصالية، ولكننا في هذا الكتاب الجديد نركِّزُ على أهم عناصر هذه الدورة, ونعني عنصر التعبير عن الفكرة الإبداعية وصياغتها في رموز، وهو العنصر الذي يطلق عليه مصطلح "الرسالة" الاتصالية، وإن كنا ننظر إلى هذا العنصر: "الرسالة"، على أنه جزء من الموقف الاتصالي العام بأبعاده النفسية والاجتماعية والثقافية، ذلك أن عملية الاتصال ليست موقفًا ساكنًا أو جامدًا, وإنما هي عملية ديناميكية   1 جورجيو ديلافيدا: "طه حسين المؤرخ" في طه حسين كما يعرفه كتاب عصره، القاهرة 1970, ص98. 2 فرانثيسكو جابريللي: "طه حسين الناقد" في طه حسين كما يعرفه كتاب عصره, المرجع السابق, ص163. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 متحركة، نخطئ إذا قلنا أن لها بداية معينة ونهاية معينة؛ لأنها تسري في المجتمع سريان الدورة الدموية في جسم الإنسان. ومن ذلك يتضح أن دراسة "الرسالة" في الاتصال الجماهيري عند طه حسين، تعني: دراسة "المادة والشكل"، أما "المادة" فتدل على "قوالب البناء" الحسية التي يتركَّبُ منها العمل -من أصوات وألفاظ.. إلخ. وفي العمل ترتب هذه القوالب وتنظمٌ على نحو معين -هو الشكل. غير أن العمل "الرسالة" أكثر من مجرَّد ترتيب لعناصر مادية, فعندما ندركه جماليًّا، نجده ينطوي على انفعالات وصور وأفكار، وهناك عنصر آخر يوجد في بعض الأعمال الفنية وإن لم يكن في كلها, وقد أسماه "جيروم ستولنتيز"1 بموضوع العمل الفني "Subject Matter", أي: الموضوعات والحوادث التي تصوّر في الفن التمثيلي كالدراما والتصوير التقليدي. على أن دراسة التركيب الفني في الرسالة الاتصالية عند طه حسين، تنظر إلى الرسالة أو العمل الفني كوحدة، لا يمكن أن تفهم نظريًّا أو تتذوَّق جماليًّا إلّا على هذا الأساس, وإذا كان العمل الفني شديد التعقيد، فإننا نحاول في دراسته عند طه حسين أن نحلل تعقده إلى أجزائه المكوِّنة له، من خلال استقراء علمي للآثار الاتصالية في صحافته كوسيلة للاتصال الجماهيري، ولذلك اتجهنا إلى دراسة عناصر الأصالة ومظاهر التجديد للتعرُّف على صياغة تجربته الاتصالية المستمرة في مراحل تطوره الصحفي، فعرضنا لتنوع فنونه المقالية في الاتصال بالجماهير.   1 نفس المرجع المذكور ص322. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 ودراستنا هذه تتوسَّل بالمنهج العلمي في دراسة الاتصال بالجماهير، الذي يتوسل بالمناهج الكيفية والكمية على السواء، كما يتوسَّل بالدراسة التاريخية في تعيين الآراء والاتجاهات المختلفة في مكانها من عصرها، وتبيان قيمتها في عصرنا، في الوقت الذي يغدو الاستقراء العلمي فيه سبيل كسب المعرفة الجديدة عن طريق الانتقال من معلوم إلى مجهول، ولذلك ذهبت هذه الدراسة إلى رفض التضاد الذي يفصل بين الدراسات "الكيفية" أو "الكمية", وأفادت من مزايا هذين الأسلوبين قدر المستطاع، ذلك أن البيانات الإحصائية ليست إلّا نقطة البداية التي تيسّر دراسة الاتصال بالجماهير في ضوء الفوارق الكيفية، انطلاقًا من المرحلة الأولى في وصف المقال وصفًا موضوعيًّا ومنتظمًا من خلال الرموز المستخدمة في عملية الاتصال. ونخلص مما تَقَدَّمَ إلى أن المقال الصحفي في أدب طه حسين، كان في عاقبة الأمر هو محور دراسة اتصاله بالجماهير، بجلاء مصادره وأصوله، وتعيين مكانته، واستقراء الحديث من الاتجاهات التي سرت إليه، أو التي يُعْتَدُّ بها فيه, ومن أجل ذلك لم نورد النصوص المقالية إلّا للاستشهاد بها على مضمون المقال أو اتجاهاته أو فنونه، انتقالًا منها كجزئيات إلى حكم عام لا يدعي اليقين، وإن حاول الاقتراب منه، لما ينشده من تعليل إعلامي قائم على العلم. والحق أن الأمة العربية تشهد في نهضتها الحاضرة، ازدهارًا للدراسات الإعلامية، يقوم على أساس من وحدة فنون الإعلام والربط بين وسائله جميعًا، تتلاقى في أصولها وفروعها، على النحو الذي تطورت إليه الدراسات الأكاديمية في مصر, وبلغت مداها الآنيّ بتحقيق هذه الوحدة الإعلامية، في كلية الإعلام بجامعة القاهرة، ويعود الفضل إلى عميدها الأسبق الدكتور إبراهيم إمام، في تحديد النظرية الإعلامية المصرية، التي تذهب إلى أن الفن الصحفي هو الفن الإعلامي الكلاسيكي الذي تعلَّمَت منه سائر الفنون الإعلامية الأخرى كالإذاعة والتليفزيون والسينما1، واشتقت منه سائر فنون الإعلام أشكالها وفنونها وأساليبها وطرائقها2. وفي هذا البحث حاولنا -ما وسعنا- أن نتعرَّفَ على الأسس الجوهرية والتيارات الفكرية العامة والنواحي الفنية الهامة التي أسفر عنها الفن الصحفي فيما يخص المقال الصحفي في أدب الدكتور طه حسين، في تلاقيه مع أهداف الفن الصحفي أو افتراقه عنها، من حيث تحريره، وغايته في الارتباط بالجماهير, فضلًا عن عمومية وسيلة الاتصال الصحفي ودوريتها، والرؤية الوظيفية التي تدفع الفن المقالي وتحدد شكله ومضمونه.   1، 2 الدكتور إبراهيم إمام: دراسات في الفن الصحفي, ص4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 ذلك أن الدكتور طه حسين، قد اتخذ من الفن الصحفي وسيلة للاتصال بالجماهير في تحقيق التقارب، والتواصل، القائم على أن "الفكرة" في دلالتها الاجتماعية، و"الكلمة" في صيغتها العملية، من أقدم الوسائل لتحقيق ما ينشد، والفكرة والكلمة لهما القوة الساحرة التي تستطيع أن تتغلب على رواسب الفوارق والعنصريات بين الأمم في سبيل تحقيق المثُل العليا من وحدة الشعور ووحدة الفكر، ووحدة القيم، لتعزيز الأخوة الإنسانية بأعمق دلالاتها، وأكرم معانيها1. ولقد كان طه حسين أحد الطلائع الذين استوت على أيديهم معالم النهضة المصرية الحاضرة، فقوموها على ذلك النهج الواضح من الفكر والثقافة العصرية، وسبروا أعماق الشخصية المصرية وتمثَّلُوها حتى استقامت على نهجها الواضح ومعالمها الأصيلة, فكانت مراحل حياته المختلفة كما كانت جهوده الصحفية، مظهرًا لإيمانه بهذه المثل، ومصداقًا لعمله على التعبير عنها في الوصول بمصر إلى الغد المشرق، وفي تعزيز صلاتها بالفكر الإنساني على تعدد آفاقه، وفي مقاومة العزلة، بجميع ألوانها، متمثِّلًا في ذلك كله تراثها التاريخي وطابعها العقلي وقيمها الفكرية، ومقوماتها الأصيلة، التي كانت في مجرى الحضارة الإنسانية الموصول عاملًا فعَّالًا لا يجحد أثره الدارسون. فيمثل مقاله الصحفي هذه الرؤيا في الميدان الفكري والميدان العملي على السواء، لا يفصل بين الفكرة والفعل، وإنما ترتبط رؤياه الذهنية برؤياه الاجتماعية الفاعلة لإحداث التغيير الأساسي في المجتمع المصري ودعم قيمه الإيجابية، كما قلنا من قبل. ولعلَّ في ذلك ما حَدَا بكثيرٍ من المستشرقين، إلى توكيد الارتباط بين الجوانب المختلفة في كتابات طه حسين ونبوغه الفني2 -في كتاباته الثقافية والسياسية والأدبية على السواء3، ذلك أن فن المقال الصحفي هو الذي استنفذ هذه الكتابات, وأعطى شكلًا ومادة لأشهر مؤلفاته التي كانت محلَّ نقاش الكثيرين، والتي كانت سببًا في ذيوع شهرته داخل مصر والعالم العربي وخارجهما. وعندما أذاعت الأكاديمية الإيطالية وأكاديمية الآداب الرفيعة بباريس عضويته فيهما، كان ذلك اعترافًا دوليًّا بفضل طه حسين الذي شاء له القدر أن يبدأ حياته بظرفه البصري الخاص -بذلك التعليم التقليدي وبذلك التكوين الأزهري4, وأن لا يستجيب المصريون لصيحته فحسب، وإنا تستجيب له أوروبا وأمريكا، حتى أن الكاتب"دونالد رونسن" في مؤلفه   1 خطاب طه حسين إلى أدباء أمريكا اللاتينية، جريدة الأخبار في 13 ديسمبر 1970. 2 جورجيور ديلافيد: طه حسين المؤرخ، طه حسين كما يعرفه كتاب عصره, ص98. 3، 4 فرانسيسكو جابريللي: "طه حسين الناقد", المرجع السابق, ص163. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 عن أشهر الرجال المائة الذين كانوا على قيد الحياة، وقت إصدار الكتاب -عَدَّه بين العشرة الذي لهم أعمق الأثر في الحضارة العربية1. إن ذلك الطريق الطويل الشاق حسبما جاء في تاريخ حياته الذي وضعه عند "ليدر باسكي"2 الذي قاد الشاب الأزهري إلى هضم أعظم الثقافات الكلاسيكية والأوروبية، على النحو الذي تحدَّث عنه طه حسين في أيامه, إنما يلخص سيرة "المقال الصحفي" في أدبه، والذي كان موضع التجربة في هذا التطور. فسرعان ما تخلَّى عن الأساليب التقليدية في الصحافة المصرية، وسرعان ما ظهرت أسس الفن الصحفي الحديث، في اتجاهها بالمقال من تحويل الفكر الأكاديمي المجرَّد إلى عرض فني منسق يستسيغه الجمهور دون أن يهبط إلى مستوى الإسفاف والمبالغة، مواجهًا بمقاله المعادلة الصعبة أو التحدي العظيم الذي يواجه الفن الصحفي الحديث3 من خلال ارتباطه بالجماهير، وتمثُّله للوظائف الصحفية الاجتماعية، إلى جانب تمثُّله في لغته القومية تلك الأناقة والوضوح والشفافية التي امتازت بها لغة الفن الصحفي في فرنسا، والتي يسمِّيَها بعض المستشرقين "لغته الثانية"4 أي: اللغة الفرنسية التي أتقنها كل الإتقان "كأستاذ فيها دون مساس بروح اللغة العربية، ودون أن يعرض نفسه لتهمة الخروج عن قواعدها, أو بث العجمة والكلمات الأجنبية في مفرداتها"5, ذلك أن الرؤية العملية للغة العربية، هي التي جعلت لغته الصحفية تبتعد عن الحذلقة والخشونة، لتنساب في يسر وبساطة، وفي عبارات وظيفية، لا تتعارض مع ما في نثره الفني من ثروة وتنوع، مكتفيًا بالأثر الذي يشع عن الفكرة العملية، وما تتضمنه من إرادة في إحداث التغيير والتدعيم في المجتمع، لتحقيق التواصل بين التجديد والأصالة، من خلال أدبه وصحافته على السواء. ذلك أن مقالات طه حسين، ومؤلفاته الشاملة، أو التي ضمَّت جانبًا من هذه المقالات، تنبع دائمًا من فكرة محاولة التأثير في مجتمعه، لنقله من حالة التخلق إلى حالة التقدم، ومن حالة الذل والاستكانة والخمول والجهل والاستبداد والظلم الاجتماعي والجمود, إلى حالة العزة والكرامة والنباهة والعلم، والمساواة والحرية الاجتماعية والازدهار الاقتصادي6، من خلال مواقف عملية واضحة ترتبط أوثق الارتباط بالحياة الواقعية.   1 جريدة "مونيتو سيرا" الإيطالية في 27 سبتمبر 1952، سامي الكيالي مع طه حسين جـ2 ص3. 2 فرانسيسكو جابريللي: نفس المرجع, ص163. 3 الدكتور إبراهيم إمام: مرجع سابق ص5. 4، 5 فرانسيسكو جابريللي: نفس المرجع, ص179. 6 الدكتور على سعده "طه حسين: الوحدة في التنوع" مجلة الآداب، بيروت، آذار، مارس 1974. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 بل أن المؤلفات التي تبدو مغرقة في البحث الأكاديمي الصِّرْف لا تخلو من هذا الاتجاه الصريح أو الخفيِّ لتنوير مواطنيه بحقائق الأوضاع المختلفة في نظامهم السياسي والاجتماعي والفكري، وذلك إما بالكشف عن مواضع هذا الخلل، وإما بالتنوير بأنظمة أفضل تحققت في عهود مضت, أو في مجتمعات حديثة غير المجتمع المصري1. ولعل في ذلك ما يشير إلى هدف الدراسة الصحفية، في التعرُّف على طه حسين من وراء صحافته، على النحو الذي يبرز هذه الرؤية الاجتماعية العلمية التي تَكْمُنُ وراء آثاره الصحفية والفكرية على السواء، في نطاق الصحفيين والأدباء ودعاة الإصلاح الذين كان يعيش بينهم، وفي نطاق علاقات التأثُّرِ والتأثير التي تمثِّل لنا مقاله الصحفي أشدَّ وضوحًا, وتضعه في مكانه من آثار رواد النهضة المصرية الحديثة. ولعل في هذه الرؤيا الصحفية لآثار طه حسين، ما يفسِّر اتجاه بعض الدارسين2 إلى اعتباره أكثر اتساقًا في التفكير وفنية الأسلوب، وأكثر تأثيرًا في النهضة المصرية، كما يعتبر "ألبرت حوراني"3 إن الأفكار التي نادى بها زعماء النهضة الحديثة قد بدأت تتبلور عند طه حسين، وأنها أثَّرت على التفكير الاجتماعي والعمل السياسي في العالم العربي بأسره على مدى ثلاثة أجيال4. ولقد تقاضانا المنهج العلمي في دراسة "فن المقال الصحفي في أدب طه حسين" أن ننطلق من فهم عملية الإعلام على أنها في جوهرها عملية اتصال بين كاتب وقارئ، عن طريق وسيلة إعلامية تنتقل بواسطتها الرسالة من طرف إلى آخر5. الأمر الذي يجعل دراسة المقال الصحفي في مكانه من عملية الإعلام، كجزء من الموقف الاتصالي العام بأبعاده النفسية والاجتماعية والثقافية. ولذلك انقسمت هذه الدراسة إلى عدد من الفصول، نتناول في كلٍّ منها جانبًا من جوانب العملية الإعلامية، في الأطر الاجتماعية والطبيعية والسيكولوجية والثقافية6. ففي دراستنا لمقومات الاتصال الصحفي -في الفصل الأول- عنينا عنايةً خاصَّةً بدارسة هذه الأُطُر من خلال تحديد الصلة بين البيئتين العامة والخاصة،   1 الدكور علي سعد "طه حسين: الوحدة في التنوع" مجلة الأداب، بيروت، آذار، مارس 1974. 2، 3، 4 ألبرت حوراني: الفكر العربي في عصر النهضة, ص390. 5 د. عبد العزيز شرف: فن التحرير الإعلامي، هيئة الكتاب. 6 W. Schramm "How Commuuication Works "in Scharmm "eds." The Process and Effects of mass communication "1955" p. 4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 محاولين تعيين ما لكليهما من أثرٍ في مقاله الصحفي، وما لكليهما من أثرٍ في تحقيق التناغم والتوافق بين طه حسين وقرَّائه، من خلال ربط مقاله بجوانب من خبرته تشابه إلى حَدٍّ كبير خبرة الوجهة والمستقبل، كما تبين من دراسة مقومات شخصيته ومصادر ثقافته، ومكانه من النظام الاجتماعي، والأدوار التي قام بها من خلاله، والمهام التي ذهب إليها مقاله الصحفي, وذلك إلى محاولة التعرُّفِ على سلوكه في الاتصال بالجماهير، من خلال الصحف التي حررها أو اشترك في تحريرها. وقد حاولنا في كتابنا السابق "طه حسين وزوال المجتمع التقليدي"1 التعرُّف على اتجاهات الاتصال الصحفي عند طه حسين في إطارٍ من تحديد مقوماته الاتصالية، وأثرها في طريقة التفكير, والرؤية الخاصة المتميزة للحياة في مقال طه حسين، وما ترتكز عليه من رؤية عملية وظيفية للفن الصحفي تمثَّلت في نموذج اتصالي، حاولنا تصوره من خلال استقراء مقالاته، وتحديد مكان قادة الفكر في هذا النموذج. وفي هذا الكتاب السابق أيضًا دراسةٌ لمضمون المقال الصحفي واتجاهات هذا المضمون، فبحثنا في فصوله الأربعة: الموضوعات والعوامل والمتغيرات التي ترتبط بهذا المضمون، والوظائف التي ذهب إلى أدائها في المقال الصحفي، من خلال دراسة المقال في الاتجاه السياسي، ثم في الاتجاه الاجتماعي، والاتجاه الثقافي، ودوره في زوال المجتمع التقليدي. وفي دراستنا لأساليب التحرير في مقال طه حسين في هذا الكتاب الجديد، حاولنا أن نقوم باستقراءٍ علميٍّ للآثار المقالية في صحافته، للتعرُّف على نواحيها الفنية، التي لا تنفصل بحالٍ عن المضمون، بوصفها مجهودات متتابعة تعالج الحياة الواقعية في فنون المقال وإنتاجه، ولذلك اتجهنا إلى دراسة عناصر الأصالة ومظاهر التجديد للتعرُّف على صياغة تجربته الاتصالية المستمرة في مراحل تطوره الصحفي، فعرضنا لتنوع فنونه المقالية، التي أسفر عنها الاستقراء في هذه الدراسة، وهي: فن المقال التنويري، والمقال النقدي، والعمود الثقافي المتخصص، والعمود الصحفي، والمقال القصصي، والمقال الوصفي، والتقرير الصحفي، والمقال الرمزي، وفن اليوميات الصحفية، ثم فنون المقال المرتبطة بالصحيفة اليومية، كذلك من خلال الرؤيا الوظيفية في تحرير المقال الرئيسي والافتتاحي، وفن المقال النزالي، وفن المقال الكاريكاتيري، ثم فن المقال التحليلي والتقويم الصحفي.   1 د. عبد العزيز شرف: طه حسين وزوال المجتمع التقليدي, مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام, وهيئة الكتاب 1977. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 فلقد تبيَّنَ من مطافنا الطويل في التعرُّف على فنِّ المقال الصحفي في أدب طه حسين، أنه يمثل طريقة تفكير ورؤيا خاصة متميزة للحياة، عند رجل لا يكاد يذكر اسمه إلّا ويقترن في ذهن السامع بلقب "عميد الأدب العربي"1، وهو لقبٌ له دلالته في تحديد الدور الكبير الذي قام به طه حسين في الصحافة المصرية الحديثة، التي أصبح من خلالها "زعيم المجددين" أو "زعيم المدرسة الحديثة"2، وهو في تاريخ تلك المدرسة الحديثة التجديدية، معلمها، "الفاهم، الغيور، القوي، المدافع3". ولعلَّ في هذه الرؤية المتميزة، وفي هذا الدور الذي قام به طه حسين في نهضتنا الصحفية الحديثة، ما يلقي الضوء على تقدير المستشرقين لدوره، فيذهب الأستاذ "سبرنجلنج" عميد كلية الدراسات الشرقية بجامعة شيكاغو إلى أنه لم يظهر من عصر هوميروس إلى الآن من نَبَغَ نبوغ الدكتور طه حسين، كما يذهب المستشرق "برجشستراسر" عميد كلية الدراسات الشرقية بجامعة ميونخ من وراء إهداء أحد كتبه إلى الدكتور طه حسين، إلى أنه "فخر الأدب بمصر4". ذلك أن طه حسين في الصحافة المصرية، يشبه سقراط الذي لو كان حيًّا في زماننا لكان أنسب عمل يشتغل به هو أن يكون كاتب مقال صحفي ينشره في جريدة يومية، ويوقعه بإمضائه، كما يشبه الجاحظ الذي يذهب علماء الفن الصحفي5 إلى أنه جدير بأن يكون أول صحفي ممتاز لو أنه عاش في القرن الذي نعيش فيه، ذلك أن ثلاثتهم رجال شديدوا الانغماس في المجتمع يعبرون عنه في أسلوب عمليٍّ كاشف، على أن طه حسين في إطار عصره أكثر اتساقًا في مقاله الصحفي من حيث التفكير وفنية الأسلوب، وقد رأينا "ألبرت حوراني"6 يذهب إلى أن الأفكار التي نادى بها زعماء النهضة الحديثة قد بدأت تتبلور عند طه حسين، وأنها أثَّرَت على التفكير   1 محمد سامي البدراوي: النقد الأدبي عند طه حسين، خصام ونقد، إصداء ص128. 2 Kampamffamayr and Khemiari; Leaders in contemporary Arabic Literature part 1- London, 1950. 3 د. محمد سامي البدراوي: المرجع السابق ص270. Pierse cachih. Taha Hussein. His place in the Egyptian, Literary renaisance London. 1956. د. محمد سامي البدراوي: المرجع السابق ص270. 4 كوكب الشرق في 14 أغسطس 1933. 5 الدكتور إبراهيم إمام, مرجع سابق ص31. 6 مرجع سابق ص326. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 الاجتماعي والعمل السياسي في العالم العربي بأسره على مدى ثلاثة أجيال. فرأينا طه حسين يتمثَّل مفهوم المقال الصحفي في تحرير العقل مما فرضته القواعد السلفية ليفكِّر تفكيرًا صحيحًا مستقيمًا منتجًا، الأمر الذي يستتبع تحرير العقل في التفكير، مما يشير إلى ارتباط فن المقال بالاتجاه القوي نحو التعقيل، متفقًا في ذلك مع أئمة المقاليين في عصر النهضة الأوربية، ولذلك وجدناه يذهب إلى تحديد حرية العقل أمام العقل في حرية وصراحة وفي غير تَحَفُّظٍ ولا احتياط. كما وجدناه ينتهي إلى تحديد ماهية فن المقال أمام وسيلة الاتصال الجديدة بالجماهير، على النحو المستفاد من بيئته الصحفية العامة، فالصحافة هي الوعاء المادي للمقال بفنونه المختلفة، وهي لذلك تقتضي وضع خطوط فاصلة واضحة بين فن المقال بمفهومه الجمالي الأدبي، وفن المقال بمفهومه الوظيفي الصحفي، الذي يقتضي تنوعًا في الشكل والموضوع، على نحو ما وجدناه عند طه حسين، حين يشتق موضوعات مقاله الصحفي ولغته من الحياة الواقعة، ثم يعيد توصيلها في رسالة مقالية عن طريق وسيلة الاتصال الصحفي إلى جمهور القارئين في نفس تلك الحياة الواقعية، على اختلاف أذواقهم وأفهامهم وثقافاتهم وطبقاتهم. وانتهى من خلال هذا الفهم لفنِّ المقال الصحفي، كفنٍّ حضاريٍّ يقوم على وظيفة اجتماعية عملية، إلى توظيف المقال الأدبي نفسه، واستثماره كقالبٍ جديد يصوغ فيه الأفكار، ويتخِذُ منه سلاحًا ماضيًا في النقد والتعقيب، وأداة فعالة للتوجيه والإرشاد، وقد يقصد بها إلى الإخبار والإعلام في بعض الأحيان. ومن أجل ذلك وجدنا طه حسين يحقق في صحافته التقارب المنشود بين المستويات اللغوية، التي تبعد المسافة بينها في عصور الانحطاط، وتقرب وتضيق في البيئة المتحضرة التي يعيش فيها -الكاتب للجمهور وبالجمهور. وانطلاقًا من فهم عملية الإعلام على أنها في جوهرها عملية اتصال بين كاتبٍ وقارئ عن طريق وسيلة إعلامية، تنتقل بواسطتها الرسالة الإعلامية من طرفٍ إلى آخر، تعرفنا على أثر البيئة المصرية العامة، والمقومات الشخصية للدكتور طه حسين، ومصادر ثقافته، في تكوين مقومات الاتصال الصحفي في مقاله، الذي لولا ملاءمة البيئة لعبقرية كتابه، وتفاعلهما معًا، وتجارب القرَّاء لما أمكن ظهور هذا الفن ثم ازدهاره. وقد ظهر من ثنايا دراستنا لبيئة المقال الصحفي في مصر، أن البيئة المصرية من أصلح البيئات لنشأة فنِّ المقال ونموّه وازدهاره، كنتيجة لطبيعتها، ومقومتها، فالمصرين من أشد الأمم شغفًا بأحاديث الدول، وعنايةً بالخصومات السياسية، واستطلاع الحكومات، لما تعاقب عليهم من التجارب وتوالى على أسماعهم من أحاديث الصاعدين والهابطين، إلى جانب الميل القديم الذي ظهرت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 أثاره في أوراق البردي، الأمر الذي يشير إلى تهيؤ هذه البيئة المصرية حين تقبل المطبعة لتحدث ثورتها في الاتصال بالجماهير، إلى تَقَبُّل الفنون الصحفية وإنمائها وإنهاضها، وفقًا لفطرة أصيلة من موروثات الحضارة الفكرية فيها. وفي هذه البيئة يَتَمَثَّل طه حسين عناصر الأصالة في مقاله، في رافدين كبيرين؛ أولهما: الرافد المصري الذي لوَّنته البيئة المادية، وثانيهما: الرافد العربي الذي يحمل في أعطافه خصائص الأدب العربي من ناحية, وبعض الموروثات من الحضارات الأخرى، التي تمصَّرت كلها حتى اتضحت في عصر النهضة الصحفية الحديثة، وما صدر عنها من آثار مقالية، إلى جانب ما تحدر من بذور مقالية في الأدبين المصري القديم والعربي الإسلامي، تشير إلى تقاليد مكينة وعريقة في الشكل والمضمون، كما انتهينا إلى أن البيئة المصرية هي التي وجَّهَت المقال الصحفي عند طه حسين إلى تحقيق صلة ثقافية بين الشعوب العربية أولًا, وبين هذه الشعوب وأمم العرب ثانيًا، كنتيجة لمكان البيئة المصرية في التوسُّط الحضاري بين الشرق والغرب. على أن هذه الصلة، إنما اتخذت أبعادها النهائية، عند طه حسين, بعد مراحل من الصراع الناجم عن الاتصال بالحضارة الأوربية، وما أسفر عنه من تغيير خصائص كثيرة من خصائص النفس العربية، فاضطرت إلى أنحاءٍ من التصوُّر والتصوير لم تكن مألوفة من قبل، كما دفع هذا الاتصال عنصر التطور إلى العمل من جديد في طريقين متعاكستين، فقد كان أحياء الأدب القديم يدفع العقل المصري الحديث إلى وراء, ويقوي فيه عنصر الثبات والاستقرار، كما كان الاتصال بالثقافة الأوربية وحضارتها يدفع العقل المصري إلى أمام، ويقوي فيه عنصر التطور والانتقال، وألقت هذه الصورة على صحافة طه حسين مهمة الاستمرار بعنصر التطور والانتقال في تَقَدُّمِه واطراده، والشد من قوة العقل المصري في الثبات لهذا التعاكس العنيف والانتفاع به أشد انتفاع، الأمر الذي أدَّى إلى تطور مضمون المقال الصحفي وفنونه في صحافة طه حسين. وليس من قبيل المصادفة أن يكون الأفغاني ومحمد عبده ولطفي السيد وحسين هيكل والعقاد وطه حسين من روَّاد المقال الصحفي, الذين استقامت لهم طريقة تحقق فيها التوازن الصحيح بين القديم والجديد، فاحتفظ المقال على أيديهم بأصوله الأساسية، ولم يستعص على التطور، واستطاع هؤلاء بجهودهم الرائدة الرائعة أن يخلقوا لغةً للفنِّ الصحفي العربي تقترب من لغة الأدب وتمتاز بالسلاسة والواقعية والتبسيط. وقد وضح من خلال دراستنا لمقوماته الخاصة، ومصادر ثقافته، وتمثل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 الاتجاهات العامة، وأثر مدرسة الجريدة في الاستشعار بالذات القومية، كيف انتهت إلى تكوين مقوماته في الاتصال الصحفي، التي كان لها أثرها فيما أذاعه من آدابٍ وآراء فكرية ونظم اجتماعية وسياسية مختلفة، في إطار مفهوم عملية الاتصال وتحقيق التناغم والتوافق بينه وبين جمهور قارئيه, وهو الأمر الذي تبيَّن من دراستنا لمكانه في النظام الاجتماعي, وكذلك مكانه من بيئة المقال الصحفي في مصر، التي رأيناها تمتد زمنيًّا لتشمل النصف الأول من هذا القرن، يعاصر فيها طه حسين عهودًا متباينة من عهود التحرير الصحفي، ويتطور معها على النحو الذي تقتضيه "الأصالة والتجديد، دون أن يقصر في شروطها ومقتضياتها, واستطاع أن يَعْبُرَ الفوارق الضخمة بين صحافة البداوة وصحافة الحضارة في سهولة ويسر, لما كان يتمتع به كصحفي منذ مطلع حياته من الأسلوب المتميز الجميل والذوق المتطور، وكأن لثقافته الفرنسية، ووضوح النموذج الفرنسي في الفنِّ الصحفي في رؤياه الإبداعية، أثر كبير في معرفة صناعة الخبر وأسلوب النزال وطرق التشويق وسبل النفاذ إلى نفسية القارئ وكيفية الإقناع والتنويع في المادة المحتواة، إلى جانب ما تمثله في بيئة التكوين من مذاهب الكتابة والتحرير الصحفي على النحو الذي تشير إليه صلته بأستاذه لطفي السيد في الجريدة، والشيخ عبد العزيز جاويش في صحف الحزب الوطني، فكان الأخير يحبِّبُ العنف إليه ويرغِّبَه فيه ويزيِّن في قلبه الجهر بخصومة الشيوخ والنعي عليهم في غير تحفُّظٍ ولا احتياط، وقد وجد هذا العنف من نفس طه حسين قبولًا واستجابة، فلم يكد يأخذ في الكتابة حتى عرف -كما يقول: "بطول اللسان والإقدام على ألوان من النقد قلما كان الشباب يقدمون عليها في تلك الأيام", ومن ذلك يبين المذهب الأول الذي تمثَّله طه حسين في بيئة التكوين الصحفي، وهو "مذهب الغُلُوِّ والإسراف" الذي كان الشيخ جاويش يغريه به ويحرضه تحريضًا.. أما المذهب الآخر فهو "مذهب الاعتدال والقصد", ذلك الذي كان لطفي السيد يدعوه إليه ويزينه في قلبه, وقد وجدنا طه حسين يستجيب للمذهبين جميعًا "فإذا اقتصد في النقد نشر في الجريدة، وإذا غلا نشر في صحف الحزب الوطني". وفي كتابنا عن "طه حسين وزال المجتمع التقليدي" تعرَّفنا على اتجاهاته في الاتصال بالجماهير، وعلى مهاراته في التبسيط والتفسير والنمذجة الصحفية، من خلال التَّعَرُّفِ على رؤياه الخاصة المتميزة للحياة، والتي وجدناها تقوم على رؤية عملية للحياة الواقعة، كان لها أثرها في توجيه مقاله الصحفي في اتجاهات الإصلاح الاجتماعي وتجديد العقل المصري وتغيير منهجه في البحث والدرس. ونشر المعرفة وتيسيرها للناس جميعًا، من خلال تواصل عملي يقوم على التجربة والمعايشة التي لم تتوفر لكثير من معاصريه, على الصورة التي تجمع بين الأزهر والسوربون، والمعاناة العملية في البحث عن الصواب في القضايا التي كانت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 تشغل أذهان أبناء مجتمعه، على نحو ما تبيَّن من استمرار دوران ذهنه وخلقه الفكري حول بعض الميادين المحدودة التي كانت تشكِّل ما يشبه الشرايين الكبرى لتحركه الصحفي, والتي كانت تصب في قنواتها الواسعة الفرعية المنحدرة مما لا يحصر من الموضوعات إلى آفاق بالغة التشعب، وما يبدو من تلازم وتقارب بين الاتجاه العام لخُطَى السير في اتجاه المقال في الميدان الثقافي من جهة, واتجاهه في الميدانين الاجتماعي والسياسي من جهة أخرى، يوضِّح المرامي والوظائف الاجتماعية التي تتحدد في استراتيجية قومية يصدر عنها المقال الصحفي. وعن هذه الرؤيا الاجتماعية يتمثَّل التناغم والتوافق بين طه حسين كمرسِلٍ، وبين القارئ كمستقبلٍ، في نموذج اتصالي يصدر عنه سلوكه الواقعي، ويجسِّد تجربته الاتصالية في المقال الصحفي عن قصد ووعي، فيجعل هذا المقال على قدر التجربة, ويمثلها أصدق تمثيل. وقد رأينا هذه الرؤيا الاجتماعية في الوسائل والغايات، التي تنتظمها استراتيجية قومية تنطوي على أهداف فرعية أو مرحلية تشبه معالم الطريق للوصول إلى الهدف النهائي، وفي ضوء هذه الرؤية، تبيّن من دراسة مضمون المقال عند طه حسين، أن زوال الاتجاهات التقليدية في المجتمع المصري، ليس غاية في ذاته؛ ولكنه هدف فرعي أو مرحلي، يوصِّل إلى تحقيق الغاية القومية في بناء مصر الحديثة، ولذلك وجدنا مقاله يذهب إلى التوسّل بأسباب الحضارة الأوربية في بناء الشخصية المصرية الحديثة، كما وجدناه يوظِّفُ الاتصال بالجماهير كمضاعف للتحرك الأعظم في إطارٍ من الوسائل والغايات. وتعَرَّفْنَا على منهجين في مقال طه حسين، ينبعان من هذه الرؤية الاجتماعية والاستراتيجية القومية، ونعني منهج التغيير، ومنهج التدعيم، ويقوم هذان المنهجان على فهمٍ للشخصية المصرية, وما تمتاز به من عناصر التجديد والأصالة، ولذلك رأينا أن قضية "الشعر الجاهلي" إنما ترتبط بمغزاها الاجتماعي العملي، من حيث مكانها من رؤياه القومية، ودورها في تصدُّع المجتمع التقليدي باتجاهاته السلبية التي تعوق تطور المجتمع العربي، وذهبنا من ذلك إلى أن منهج هذا الكتاب وما لازمه من مقالات، ليس منهجًا فلسفيًّا يستخدم في العلم والفلسفة فحسب، ولكنه عند طه حسين يرتبط بمنهج التغيير الاجتماعي لتحرير العقل العربي من سلطان الجمود. وفي مقابل هذا المنهج، ذهبنا إلى أن قضية "التبشير" وما أسفرت عنه من نتائج، إنما تمثِّلُ منهج التدعيم في أكمل صوره للقيم الدينية الإيجابية، وهو منهج لا يتناقض مع منهجه في التغيير الاجتماعي، وإنما يتمم عمله، ويكمل دوره في إطار قومي عام, ولما لهذه القضية -التبشير- من آثار إيجابية في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 الفكر العربي الحديث، والصحافة العربية الحديثة، فإن هذه الدراسة، توصي بأن تكون موضوع دراسة أكاديمية، تستكمل جوانبها المختلفة، وأبعادها، وأثرها في توجيه الفكر العربي الحديث، ومقاومة الصحافة العربية للتبشير، على النحو الذي أدّى إلى نتائج إيجابية في المجتمع العربي. وإذا كنَّا قد مثَّلْنَا لمنهجي: التغيير والتدعيم بقضيتين صحفيتين فكريتين، فإن هذين المنهجين استقطبا منهج المقال الصحفي عند طه حسين في الاتجاهات السياسية والاجتماعية والثقافية، فوجدناه في الاتجاه السياسي يتخذ مواقف محددة بإزاء المشكلات السياسية في الداخل والخارج، محتملًا تبعات "غرقه في السياسة1" غير "منكر من سيرته شيئًا, ولم يندم على فعل أو قول قاله2"؛ لأن المقال السياسي كان محدَّدَ الوظائف في إطارٍ من الوسائل والغايات التي ترتبط بنوعية الحياة الوطنية لمصر، وهي النوعية التي يقوّمها على ضوء مبادئ يمكن دعوتها فلسفة المجتمع والتاريخ، حدَّدت موقفه من قضية الاستقلال، ومن الأحزاب السياسية في مصر، فوجدنا أن الاستقلال في مقال طه حسين وسيلة لها ما بعدها، وليس غاية يقف الجهاد عندها، كما وجدنا مواقفه من الأحزاب السياسية هي مواقف التغيُّر والتدعيم، على النحو الذي تبيَّنَ من مواقفه بإزاء حزب الأحرار الدستوريين التي تقترن بمرحلة تجديد المجتمع المصري، ومواقفه بإزاء حزب الوفد التي تقترن بمرحلة تدعيم القيم الإيجابية والنضالية. وهذه المواقف السياسية لا تنفصل عن مواقفه في الاتجاه الاجتماعي، لخلق الجو الحضاري الملائم للتقدم والنهضة عن طريق التنوير والتوعية الشاملة بأهداف المجمع وخططه, فأسفر المقال في الاتجاه الاجتماعي عند طه حسين عن بقاء القديم الصالح واضحًا يعمل عمله إلى جانب اتجاهات التجديد التي أخذ منها المجتمع ما يتفق مع كيانه العام، كما تبين من مواقفه من التبشير والعدل الاجتماعي والتعليم والتنشئة الاجتماعية، واكتساب الوعي الاجتماعي في المجتمع، الحرص على منهجي التدعيم والتغيير بالتفكير المشترك والشعور الواحد، على النحو الذي تتميز به الشخصية المصرية في بقائها واستمرارها. الأمر الذي لم يجعل مقاله في الاتجاه الاجتماعي يفصل بين "التثقيف" و"التنشئة الاجتماعية، وإنما يرتبطان ارتباط تفاعل وارتباط منهج وأسلوب، كما تبيَّن من دراستنا للمقال في الاتجاه الثقافي، الذي جاء ثمرة من ثمار المشاركة في الحياة الواقعة، فاتجه إلى ترقية العقل وتوسيع الأفق، ومَدَّ آماد الفكر الإنساني من حيث هي مصدر لشعور الفرد بحقِّه وتقديره لواجبه،   1 مذكرات طه حسين ص261. 2 مذكرات طه حسين ص261. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 ومن حيث هي مصدر لشعور الجماعة بحقِّها وتقديرها لواجبها وثباتها للخطوب واحتمالها لأثقال الحياة، متوسلًا في أداء أغراض التثقيف بفنون مقالية جديدة هي: فن العمود الثقافي، وفن المقال التنويري، وفن المقال النقدي. وإذا كانت دراسة التحرير الصحفي ثمرة للتفكير في الآثار الصحفية لتقويمها، ببيان زيفها من صحيحها، وتفسير نواحيها الفنية، ثم الحكم عليها، فإن أساليب التحرير الصحفي لا يمكن أن تنفصل بحال عن المضمون، ولذلك تذهب هذه الدراسة إلى الارتباط الوثيق بين التدعيم والأصالة من جهة، وبين التغيير ومظاهر التجديد في المقال الصحفي من جهة أخرى, وهذا ما تحاول هذه الدراسة تقديمه، ولكنها تدرك أن قواعد التحرير الصحفي وأصوله، غالبًا ما تكون لاحقة للإنتاج الصحفي؛ لأنها تقويمٌ لشيءٍ سبق وجوده، ولكن أقدم صورة لفنون التحرير تتمثَّل في رؤية الكاتب لما ينتجه، وهو في عمله هذا يبذل جهد الناقد. ومن الجليِّ أن دراسة التحرير الصحفي تمسُّ الصحافة في حاضرها لتوجهها في مستقبلها، ولهذا كانت لدراسة التحرير الصحفي المعاصر أهمية خاصة, ولكن ينبغي ألَّا يشغلنا ذلك عن دراسة فنون التحرير الصحفي في تطورها، فليست هذه الفنون مجرَّدَ نظريات تجريدية تعبِّر عن ذاتية قائليها، أو حاجات عصر انقضت صلتنا به، كما قد يُتَوهم، ولكنَّ هذه الفنون تطبيقية، وظيفية، الأمر الذي يجعل لدراسة فنون التحرير في الماضي آثارًا بعيدة المدى في إدراكنا للتحرير الصحفي في الحاضر، فنحن نفيد منها الأساليب المنهجية التي اتبعها الكتَّاب في تحرير مقالاتهم وصحفهم، بوصفها مجهودات متتابعة تعالج الحياة الواقعة في فنون تحريرية، على حسب مبادئ وحجج قد تختلف من كاتب إلى آخر, ومن عصر إلى آخر، ولكن يمكن عرضها ومقارنتها مجرَّدة من خصائصها الموضعية، بحيث تساعد على التعرُّف على فنون التحرير الصحفي الذي تعلمت منه سائر الفنون الإعلامية الأخرى كالإذاعة والتليفزيون والسينما، واشتقت منه أشكالها وفنونها وأساليبها وطرائقها، كما تساعد على تربية الذَّوْق عند طلاب التحرير الصحفي، وعلى السموِّ بغاياته، إلى ما لها من أهمية تاريخية خاصة، وما تشير إليه قواعد التحرير وأصوله من وسائل للتحليل والإحاطة بجوانب الموضوعات, لا بوصفها مبادئ أو قوانين مطلقة يلتزم بها الكاتب التزامًا لا يحيد عنه، إذ هي في تغيُّرٍ مستمر تبعًا لما يحفها من متغيرات، وحياتها في هذا التغير؛ إذ لكل عصر مقاييسه الخاصة في فنه الصحفي والإعلامي. وانطلاقًا من هذا الفهم، فإن هذه الدراسة لا تهدف إلى أن "تقنِّنَ" في الصحافة، كما اتجه العصر الكلاسيكي في القرن السابع عشر والثامن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 عشر1 إلى التقنين في الأدب، متَّخِذًا من الأدب القديم المثال الذي يحتذى، فكانت مهمة الناقد أن يضع قواعد لمختلف الأجناس الأدبية، وأن يدعو الكُتَّاب للسير عليها، وأن يحكم على قيمة إنتاجهم بمبلغ اتباعهم لتلك القواعد. وإنما تذهب هذه الدراسة إلى استقراء التحرير الفني المعملي في الصحف من خلال التراث الصحفي, بحثًا عن أشكال جديدة لتطور الفن الصحفي نفسه، في ضوء الرؤيا الصحفية، التي تذهب إلى أن التعبير عن المضمون يتم من خلال الكل وفي إطاره. وقد ظهر لنا من خلال دراسة عناصر الأصالة والتجديد في مقال طه حسين أن هذه العناصر تنتظمها عملية إبداعية نقدية عن قصد، من أجل إيجاد الاتصال والفهم المشترك، الأمر الذي أدَّى إلى تبرئة المقال الصحفي من الوقوف عند الشكل، والكلف بالتجزئة، وإلى اتجاه هذا المقال نحو بلاغة جديدة في الاتصال بالجماهير، تطوع اللغة العربية لتتسع للكثير في نطاق الفكر النظري والتطبيقي، ليس في المفردات فحسب، بل في التراكيب وصور الأداء. وبيَّنَّا كيف انتهى طه حسين إلى تصحيح مفهوم اللغة في ضوء هذه الرؤيا، ومن خلال تجربته في الاتصال بالجماهير، وتحريرها من أغلالها، لتستجيب لحاجات العصر، الأمر الذي وسم مقاله الصحفي بتحقيق التقارب بين المستويات اللغوية: العلمية والأدبية والعملية، بحيث تغدو صحافة طه حسين من "أعلى صور الأدب؛ لأن جميع ألوان الأدب العليا صحافة" على حد تعبير "برنارد شو". ولذلك وجدنا فنون المقال في صحافة طه حسين تنبع من التحكم الواعي والاشتغال بالمعاني والوضوح والوظيفية الهادفة، وتتوسَّل بلغة عملية في الاتصال بالجماهير، كما تتوسّل بالأدوات الفنية ضد الشوائب والأعراض التي تصحب عملية تنظيم العنصر البدائي الخام في تجربة الاتصال الصحفي، وتحويل هذا العنصر إلى فنٍّ مقاليّ، مما دفعه في كثير من الأحيان إلى الخروج على الأشكال المألوفة في تحرير المقال، وإلى توسيع أبعاده الفنية إلى مستوى التنبؤ الشامل في محاولة التوفيق بين رؤياه وبين الاستجابة لموضوعات الساعة والقضايا المباشرة، ولضرورات وسيلة الاتصال الصحفي بالجماهير. ومن هذه الفنون المقالية، تزعم هذه الدراسة لنفسها فضل تحديد أبعادها واستقرائها من تراثه الصحفي: فن المقال التنويري وفن المقال النقدي، وقد وجدنا أنهما يرتبطان بالاتجاه الثقافي في التغيير والتدعيم، كما وجدنا العمود الثقافي في "حديث الأربعاء" يقوم على أداء وظيفة التبسيط والتفسير في الفن الصحفي, كما تبيَّن أن فنون المقال في صحافة طه حسين تسعى إلى تقديم المادة العلمية   1 الدكتور محمد غنيمي هلال: مرجع سبق ص24. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 والفنية والاجتماعية والسياسية في قوالب مبسطة تيسر الاتصال بجماهير القراء، وتؤدي الوظائف الاجتماعية للصحيفة الدورية في تكامل مع المواد الأخرى، التي تحيط القارئ علمًا بالأحداث، أو تفسر وتعلل ما يجري من هذه الأحداث، أو تنور عقله بمعلومات وحقائق. ومن أجل ذلك وجدنا طه حسين يوظِّف "المقال القصصي" لأداء متطلبات الفن الصحفي من تنويع في المواد شكلًا وموضوعًا في إطارٍ من الحاليَّة والحيوية والاستجابة لاهتمامات القراء, وفي شكل مقالي أكثر مرونة من الشكل الأدبي؛ لأنه يجعل الآثار الأدبية التي تقف في مكانٍ ما بين القصة القصيرة والمقال كثيرة جدًّا. ورأينا المقال الوصفي والتقرير الصحفي يقربان المسافة بين الأدب والصحافة من خلال التقريب بين المستويات اللغوية في مقال طه حسين، وقيامه على أغراض الصحافة ومراميها ومستويات جماهيرها. كما تعرَّفْنَا على فنٍّ مقاليٍّ جديد هو "فن المقال الرمزي", الذي يطوِّع اللغة العربية من خلاله لأداء وظائف المقال الصحفي، من خلال أسلوب يتوسّل بالإيحاء والرمز يقهر ظروف الرقابة على الإنتاج العقلي، ولكنه مع ذلك يمتاز بخفَّة الظلِّ وسلاسة الأسلوب، كما يمزج التعبير بالتهكم والسخرية مع الحكم والأمثال المتداولة والاقتباسات الدالة، والنقد البَنَّاء. كما يمتاز بقيامه على أساس من الاتصال الوثيق بالقرَّاء ومشكلاتهم وحياتهم الواقعة، في أسلوب يمتاز بالنمذجة الرمزية. وفي مواجهة ضرورات الرقابة، تعرَّفْنَا على فنٍّ مقاليٍّ يجمع بين الأصالة والجديد عند طه حسين، ونعني به "فن الرسائل المقالية" التي تلتقي مع الرسائل المقالية في تراثنا العربي، وفي تراث الجاحظ خاصة، كما تلتقي مع رسائل فولتير ومونتسكيو، ولكنها تقوم أساسًا على أداء وظائف المقال الصحفي الحديث. وتعرَّفْنَا على فنٍّ مقالي يعكس التجاوب بين الصحافة والشعب المصري بعد ثورة 1919، ويواجه ظروف المحن السياسية التي تفرض الرقابة على الإنتاج العقلي في الصحف بين حين وحين, ونعني به "فن العمود الصحفي"، الذي اتخذ شكلًا متخصصًا في بداية الأمر، كما سيجيء نتيجة للروابط الثقافية التي ظهرت بظهور الترابط الاجتماعي, كما اتخذ بعد ذلك شكلًا رمزيًّا في "جنة الشوك" للتعبير عن مظاهر "كنا نبغضها ولا نستطيع أن نتحدث عنها بصراحة أثناء تلك الأيام السود1".   1 المعذبون في الأرض، ص12. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 ورأينا كيف تميَّزَ العمود الصحفي عند طه حسين، بأن المضمون فيه ليس شطرًا منضافًا إليه، وإنما يشكل صلبه ومنطلقه، ولذلك وجدناه يتوسّل بشكل "الإبيجراما" الشعري القصير كما سماه اليونانيون واللاتينيون، في ابتداع مقال عمودي جديد، يقوم على أصوله في تعبير نثري قصير، يتفق ومقتضيات الفن الصحفي الحديث, إلى أن المعنى فيه أثر من آثار العقل والإرادة والقلب جميعًا. وقد وجدنا طه حسين يبرع في "فن اليوميات الصحفية" و"فن المقال الاعترافي" الذي وجدنا فيه أساسًا لفن اليوميات في الصحافة المصرية يهدف إلى نقد القيم على صعيدين رئيسيين: الصعيد الاجتماعي، والصعيد الثقافي، من خلال أسلوب يتَّسِم بالصدق أولًا، والنمذجة الصحفية والتصوير النفسي بعد ذلك. وتعرَّفْنَا على امتداد الوظيفة الاجتماعية الفكرية في فن المقال الصحفي في أدب طه حسين، من خلال توظيف الفنون المقالية في صحافته التي ترتبط بحركة الأحداث في المجتمع، على النحو الذي تبيَّنَ من دراسة فن المقال الرئيسي الافتتاحي، وفن المقال النزالي، والمقال الكاريكاتيري، ثم المقال التحليلي والتقويم الصحفي، ذلك أن هذه الفنون المقالية، شأنها شأن الفنون الأخرى في صحافة طه حسين, لا تفصل بين أسلوب التحرير ومضمون المقال، من خلال نموذج اتصالي بالجماهير يَتَمَثَّلُ فيه مكانه من قيادة الفكر في تكوين الرأي العام المصري، الأمر الذي وجَّه مقاله الصحفي إلى النهوض بمهام التوجيه والإرشاد والتقويم والتثقيف والتنشئة الاجتماعية والتبسيط والتحليل، وهو لذلك يعنى بالاجتماع والسياسة والاقتصاد عنايته بالفنِّ والثقافة جميعًا، بحيث يمكن القول أن طه حسين قد انتقل بالمقال الصحفي من مرحلته اللغوية الأولى، إلى حيث أصبح يمثِّلُُ العقل الذي يفسر ويوازن ويحلل ويشرح، ويشتق موضوعاته من الحياة الواقعية، في مستوى عملي يمتاز بلغته العربية الفصحى، وأسلوبه الواضح البسيط على نحو ما تمثله البلاغة الجديدة في الاتصال بالجماهير عند طه حسين. هذا، وقد حرصت في هذه الدراسة على التزام الحيدة العلمية والإنصاف لطه حسين أو لمعارضيه في بعض مبادئه، بأقصى ما وسعني الجهد فيهما، وأرجو أن أكون قد وفقت إلى شيء من ذلك، فجل من لا يخطئ تحيزًا أو قصورًا في عالم البشر. القاهرة: عبد العزيز شرف 29 مايو 1974 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 الفصل الأول: الدكتور طه حسين ومدرسة الجريدة مدخل ... نتحدث في هذا الفصل عن "الدكتور طه حسين ومدرسة الجريدة" لنتعرف على بيئة التكوين التي نشأ فيها الدكتور طه حسين كاتب المقال الصحفي, انطلاقًا من فهم عملية الإعلام على أنها في جوهرها عملية اتصال بين كاتب وقارئ أو متحدث ومستمع. أي: بين مرسِلٍ ومستقبلٍ عن طريق وسيلة إعلامية تنتقل بواسطتها الرسالة الإعلامية، من طرفٍ إلى آخر1, ثم نتحدث في فصول هذا الباب التمهيدي عن البيئة الخاصَّة والمقومات الشخصية للدكتور طه حسين، وعن مكانه من الهيئة الاجتماعية والثقافية، وثقافته واتجاهاته في الاتصال الصحفي بالجماهير، وهذه المقومات الاتصالية هي التي تساعدنا في فصولٍ أخرى على التعرُّف على قدراته الاتصالية في ابتكار فنونٍ جديدة من فنون المقال الصحفي. فإذا كان هذا الاتصال هو قطب الرحى في بناء المجتمع الإنساني2، بحيث يستحيل بدونه بناء مثل هذا المجتمع، فإن هذا الفصل حين يركِّز على بيئة التكوين في مقال طه حسين، كباعث للمقال الصحفي في موضوع هذا البحث، إنما يمهِّد لدراسة فنِّ المقال الصحفي في أدبه على العموم من خلال المفهوم القائم على أن الرسالة جزء من الموقف الاتصالي العام بأبعاده النفسية والاجتماعية والثقافية، الأمر الذي يقتضي أن نتناول في هذا الفصل بالدراسة السريعة: البيئة العامة للمقال الصحفي قبل طه حسين، ثم مدرسة الجريدة التي قضى فيها طه حسين مرحلة التكوين الصحفي.   1 د. عبد العزيز شرف: المدخل إلى وسائل الإعلام، القاهرة، دار الكتاب اللبناني، ص75. 2 الدكتور إبراهيم إمام: الإعلام والاتصال بالجماهير ص134. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 بيئة المقال الصحفي في مصر مدخل ... أ- بيئة المقال الصحفي في مصر: إذا كان "التفكير ظاهرة اجتماعية" كما يقول طه حسين1, بمعنى أن الفرد لا يفكر ولا يقدر ولا يروي إلّا من حيث هو عضو من أعضاء الجماعة التي يعيش فيها, والتي يستحضرها في نفسه استحضارًا ملحوظًا أو غير ملحوظ حين يفكِّرُ أو يُقَدِّرُ أو يروي، فإن المقال الصحفي أوضح الظواهر الاجتماعية بين فنون القول، فعبقرية الكُتَّاب والصحفيين من أمثال "ديفو defoe وستيل Steel" وأديسون Adisson و"جولد سميث Gold Smith" التي لا يمكن إنكارها، لا يمكن كذلك أن يعزى إليها وحدها هذا الفن الرائع بثروته وجماله، وغزارته وإتقانه,2 وعلى ذلك فإن المقال الصحفي شأنه شأن فنون القول المختلفة "ظاهرة اجتماعية لا يمكن أن تكون إلّا في الجماعة التي تسمع الأثر الأدبي أو تقرؤه فتتأثر به، راضيةً عنه أو ساخطةً عليه، معجبةً به، أو زاهدةً فيه"3. على أن ذلك لا يعني محوَ المقومات الشخصية لقادة الرأي وحملة القلم، سواء اتخذوا المقال الصحفي أو الآداب أو الفلسفة لقيادتهم الفكرية وسائل، فلسنا نجهل أن "الفرد قوة تختلف عِظَمًا وضآلة, ولكنها قوة على كل حال، قوة لها أثرها في تكوين القوة الاجتماعية، بل لها أثرها العظيم في تكوين هذه القوة"4 فليس من سبيلٍ إذن إلى تصوّر الفرد مستقلًّا، وإنما هو -كما يقول طه حسين: "أثر اجتماعي وظاهرة من ظواهر الاجتماع، لا يوجد إلّا إذا التقى الجنسان، فإذا وُجِدَ فالجماعة كلها متعاونة متظاهرة على تنشئته وتربية جسمه وعقله وشعوره، وعواطفه, وهل التربية المادية والمعنوية إلّا قالب يُصَاغُ فيه الفرد على صورة الجماعة التي ينشأ فيها، يتعلَّم الفرد بهذه التربية اللغة التي يتكلمها وليس هو الذي يحدث هذه اللغة".5 وتأسيسًا على هذا الفهم، فليس من أصول البحث العلمي في شيء كما يقول طه حسين في "قادة الفكر"6، أن نجعل الفرد كل شيء ونمحو الجماعة التي أنشأته وكوَّنته، إنما السبيل أن "نقدِّرَ الجماعة وأن نقدِّرَ الفرد", وأن نجتهد ما استطعنا في تحديد الصلة بينهما، وفي تعيين ما لكليهما من أثر في الآداب والآراء الفلسفية والنظم الاجتماعية والسياسية المختلفة". وعلى ذلك فإننا نجتهد ما استطعنا في هذا الفصل في تحديد الصلة بين بيئة المقال الصحفي في مصر وبيئة التكوين للدكتور طه حسين، ثم الصلة بين هذه البيئة العامة ومقوَّمَاته الشخصية في فصل تالٍ، لنتعرف على ما لكليهما من أثرٍ في مقومات المقال الصحفي، الذي لولا "ملاءمة البيئة لعبقرية كتابه، وتفاعلهما معًا، وتجاوب القرّاء لما أمكن ظهور هذا الفنِّ ثم ازدهاره"7, ودراسة هذه البيئة الصحفية تقتضي العناية بدراسة: البيئة المصرية والحيوات السياسية والاجتماعية والفكرية.   1 الدكتور طه حسين: مجلة الثقافة، في 30 يناير 1939. 2 الدكتور إبراهيم إمام: فن المقال الصحفي في الأدب الإنجليزي ص31. 3 الدكتور طه حسين: مرجع سابق، أيضًا، فصول في الأدب والنقد ص6، 7. 4، 5، 6 الدكتور طه حسين: قادة الفكر ص7، 8. 7 الدكتور إبراهيم إمام: المرجع السابق الإشارة إليه ص31. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 1- البيئة المصرية : بزغ فجر الضمير من مصر -كما يقول المصرولوجي "جيمس هنري برستد"- قبل أن تتهيأ للمجتمعات الإنسانية الأخرى عوامل التجمع والاستقرار كأكمل ما تكون المجتمعات الراقية وحدة واتساقًا وتكاملًا. وكان لطابع البيئة ما مهَّد للإنسان في مصر عوامل التجمع والوحدة الشاملة والاستقرار الدائم، ثم كانت هذه الحضارة الزاهرة التي سبقت حضارات العالم أجمع نتاج التفاعل الدائم بين البيئة والإنسان، فقد واتت الطبيعة هذه البيئة المصرية من العوامل ما جعلها مسرحًا صالحًا؛ لأن تثمر فيه جهود الإنسان في بعث حضارة وطيدة اتصلت حلقاتها، فاستطاعت أن تغالب الدهر وتبقى على الزمن وهي في مسارها لم تفقد يومًا صلتها بماضيها، واحتفظت بمقوماتها جلية بارزة1, وفي مقدمة هذه المقومات ثلاث ظواهر كونية كبيرة تصلح في ذاتها مجتمعة لتكون شارة أو رمزًا للوطن المصري, وهذه الظواهر الكونية الثلاث مرتبطة ومتفاعلة، وهي لا تبرز في موضع بروزها في هذا الموضع الفريد، في ملتقى القارات الثلاث، وعند مجمع البحرين وبين صحراوين، عظيمتين، في موقعها الفذِّ من أفريقية وبين أوربا وآسيا، تحرس مدخل البحر الأحمر، وتشارك في توجيه الحياة في البحر المتوسط، وتشعّ الحضارة إلى مدى بعيد في كل اتجاه2. وأول هذه الظواهر الكونية الكبيرة الثلاث هي الشمس التي تكاد تبدو سافرة النهار بطوله على مدى العام، ولا ترمد عنها إلا قليلًا، ومن هنا قدَّسَها المصريون الأقدمون وقاسوا عليها فترات الزمن في اليوم، ومن السنة فصولًا محددة, وجعلوا من ذلك كله تقويمًا من أدق التقاويم، ثم فطنوا بعد ذلك إلى تأثيرها في الأشياء والأحياء وجعلوها رمز الحياة، وقبسوا منها الوضوح والبساطة، وعدم التعقيد، والنظام والاستقرار3، وهي الصفات التي تمثَّلَها طه حسين في مقاله الصحفي كما سيجيء، إلى جانب وظيفة "التقويم" الصحفي التي تميَّزَ بها، والتي تستمد من هذه الظاهرة الكونية التي اتخذها المصريون رمزًا "للضمير", وجعلوها "سفينة الملايين" تطل منها حين تميِّزُ بين الخير والشر فيما يصدر من الناس من أفعال وحركات, ولا يزال المصريون يتأثرون هذه الظاهرة الكونية في فطرتهم، وفي وجداناتهم وفي أخلاقهم، نراها حين يلقي الصغار بأسنانهم في عين "الشموسة", وفي غير ذلك من تصرفات يأتيها البعض.   1 الدكتور حسين فوزي النجار: لطفي السيد والشخصية المصرية ص17. 2، 3 الدكتور عبد الحميد يونس: مجتمعنا ص15، 16. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 وثانية الظواهر الكونية الكبيرة: الرمز الخالد على مصر.. يدل عليها، ويقترن اسمها به دائمًا، لأنها قطعة منه.. إنه هذا النهر العبقري الذي لا نظير له بين أنهار العالم جميعًا من طوله، وانتظام فيضانه، واستقامة مجراه، عرف المصريون فضله عليهم، ومكانه منهم, فقدَّسه قدماؤهم، كما فعلوا مع الشمس1، وأخذ المصريون عن النيل دأبه ومثابرته ووفاءه ونزوعه المستمر إلى البناء والنفع والخير بلا تفريق، بل أخذوا عنه خصلةً تكاد تكون من أمهات خصالهم, وهي النزوع الدائم إلى الوحدة القومية, على نحو ما نجد في مقال طه حسين، كما نجده في نزوع المصريين إلى التوحُّد منذ جعلوا من "أوزوريس" رمزًا للخير والعلم والنفع. وإلى جانب هذه السمة البارزة المكتَسَبة من النيل، سمة النزوع الأبدي إلى الاتحاد القومي، نجد مقومًا آخر لا يقل عنها خطرًا, هو أن اختيار النيل لمجراه بين هاتين الصحراويين العظيمتين الشاسعتين جعل الموطن المصري يحتفظ بأهله، وجعل الجاذبية البشرية إلى الداخل، الأمر الذي يدفع بالعناصر التي تفد إليه، تنطبع إذا استقرّت بالطابع المصري، فـ"التمصير" صفة أساسية من صفات البيئة المصرية التي لا تقاوم, والنيل هو الذي علَّمَ المصريين فلاحة الأرض، ونظمها لهم مواسم ري وبذور وحصاد، وعلى ضفافه نبتت آلة الحضارة الأولى, وهي ورق البردي، وأقلام القصب، فكتب المصريون، ووصلوا بين آحادهم، وسجلوا أعمالهم، وثبتوا تصرفاتهم ونظموا أملاكهم، وربطوا بين الجيل الشاخص والجيل الذي سبقه والجيل الذي يكر بعده، فتواصلت المعرفة وانتظمت الحياة, وكانت خلة "الاستمرار" المتجدد أبدًا ميزة من ميزات النيل التي لا تعد, فكانت مصر أمينة على تراثها، ولم تكن سلفية خالصة ولا ثابتة جامدة، ولا رجعية تستقبل الحياة بظهرها، وإنما كانت مستأنية في تطوّرها، مثلها في ذلك نيلها في حركته الدائبة في أناة، وإذا وضع في طريقها حاجز ضخم فعلت به ما يفعل النيل، فسارت فيه أو حطمته، وهذه الصفة: "الاستمرارية" هي التي تميز عناصر الأصالة وعناصر التجديد في مقال طه حسين، على النحو الذي سندرسه فيما بعد2, وهي العناصر التي تتمثَّل كذلك الظاهرة الثالثة في مصر، والتي جعلتها تميل إلى الاستقرار, وإن لم تعزلها عن العالم حولها، وهذه الظاهرة هي الصحراء التي تمتد عن يمين النيل وعن شماله، والتي أسبغت على الوطن المصري صفحة المحافظة على التراث المادي الشاخص، وبفضل هذا الموقع أصبح الوطن المصري نقطة الارتكاز في العالم العربي. كما اتصل العقل المصري بالعقل اليوناني منذ عصوره الأولى،   1 المرجع السابق ص17، 18، 19. 2 المرجع السابق ص21، 22. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 اتصال تعاون وتوافق وتبادل مستمر منظم للمنافع، في الفن والسياسة والاقتصاد1, وكان اليونان في عصورهم الأولى، يرون أنهم تلاميذ المصريين في الحضارة وفي فنونها الرفيعة بنوع خاص2. وتأسيسًا على هذا الفهم، فإن القول بأن البيئة المصرية أصلح البيئات لنشأة فن المقال، ونموه وازدهاره، قول لا يصدر عن نعرة قومية، بقدر ما تكون دوافعه من طبيعة هذه البيئة ومقوماتها أساس كل اعتبار، فالمصريون من أشد الناس اهتمامًا بالسياسة وتتبعها واستطلاع أخبارها وماجرياتها، والبصر بمداخلها ومخارجها، وكانوا منذ القديم من أشد الأمم شغفًا بأحاديث الدول, وعنايةً باستطلاع الحكومات، وقد يسري بينهم شعور ملهم بدخائل الأغراض الخفية, واتجاه الخير واتجاه الشر في الخصومات السياسية، لما تعاقب عليهم من التجارب, وتوالى على أسماعهم من أحاديث الصاعدين والهابطين والمقبلين والمدبرين3. وفي هذا الميل القديم ما يهيئ البيئة المصرية حين تقبل المطبعة لتحدث ثورتها في الاتصال بالجماهير. إلى تَقَبُّل الفنون الصحفية وإنهاضها وإنمائها، وفقًا لفطرة أصيلة من موروثات الحضارة القديمة فيها. وفي هذه البيئة المصرية نتلمس عناصر الأصالة في فن المقال الصحفي بصفة عامة، وعند طه حسين على نحوٍ أخصٍّ فيما بعد، في رافدين كبيرين: أولهما الرافد المصري الذي لوَّنته البيئة المادية منذ عصر ما قبل الأُسَر إلى دخول العرب, وبقيت منه خصائص فيما صدر عن مصر الإسلامية إلى أوائل النهضة الحديثة. والرافد الثاني: عربي، يحمل في أعطافه خصائص الأدب العربي من ناحية, وبعض المأثورات من الحضارات التي مَدَّ الإسلام عليها سلطانه من ناحية أخرى, ولقد "تمصَّرت" هذه العناصر كلها حتى اتضحت في عصر النهضة الصحفية الحديثة, وما صدر عنها من آثار مقالية. فإذا كان الوظيفة الاجتماعية هي التي تخلق مبررات ظهور الصحافة وقيامها على أداء تلك الوظيفة, فإن أوراق البردي التي اكتشفها "فلندر زبري", والتي يرجع تاريخها إلى أربعة آلاف سنة قبل الميلاد توضح مدى اهتمام المصريين القدماء بإثارة ميول القرّاء، وجذب انتباههم4. وإذا اختلف المؤرخون حول المكان الأصيل الذي نبتت فيه الصحافة أول مرة، وسايرت تطوّر الإنسان وتقدُّمه من البدائية إلى الاستقرار إلى التحضر، فإن ذلك لا يحول دون اتفاقهم   1، 2 الدكتور طه حسين: مستقبل الثقافة في مصر جـ1, ص9، 11، 12. 3 عباس محمود العقاد: سعد زغلول ص26، 27. 4 الدكتور إبراهيم إمام: العلاقات العامة والمجتمع ص38. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 على أن مصر قد عرفت الصحافة بهذا المفهوم منذ سبعة وثلاثين قرنًا1, فهناك وثيقة يرجع عهدها إلى سنة 1750 قبل الميلاد تدل على وجود جريدة رسمية تنطق بلسان الحكومة, ويكتب فيها الوزير "رخمارا" مقالات تبيِّنُ اتجاهات الحكومة2. ومن العجيب أن ورق البردي انقرض من العالم وحلَّت محله هذه الأوراق التي تجمعها الكتب بين دفتيها، وذهب النسخ وجاءت المطبعة, ولا يزال الاسم الذي أطلق على ورق البردي Papyrus هو الأصل الذي اشتقت منه الأسماء التي تطلق على الورق والصحف في اللغات العربية؛ فورقة البردي التي سميت "بريس" بدار الكتب الأهلية بباريس تُعَدُّ -كما يقول "جوستاف لوبون"3- أقدم من أشعار هوميروس وأقدم من كتب التوراة، ويرجع عهدها إلى الأسرة الثانية عشرة، ففيها إذن ما خطَّته الأقلام منذ خمسة آلاف من السنين4. من ذلك تبيّن لنا قيمة هذه الوثيقة العريقة والتي حملت اسمًا ذا دلالة حديثه في لغة الحضارة Presse إلى جانب ما توحي إليه من جذور مقالية في التراث القديم، إذ تضمَّنَت مقالًا أخلاقيًّا ألف "كامكنا" في حكم الملك سنيفرو من الأسرة الثالثة، ومعلومات فتاحوتب التي ترجع إلى الأسرة الخامسة5. وإلى جانب هذه الوثيقة عرفت مصر لونًا من صحافة الرأي في النقد والتوجيه والمعارضة، كالصحف التي ناوأت الملك رمسيس الثالث, كما عرفت النزال في صحفها "الهزلية" التي تناولت بالنقد الشديد والتهكم المرِّ فراعنة مصر، على النحو الذي اتجهت إليه "صحيفة القصر". فالدارس للنماذج المقالية الباقية من مصر القديمة يلاحظ أنها تقوم على تقاليد مكينة وعريقة، ذلك أن المقال المصري يرتبط بشغف المصريين بتعلُّم الآداب، فجاءت مقالاتهم ثمرة رقيٍّ طويلٍ في طرائق الكتابة للجماهير، وطرقت موضوعات أخلاقية واجتماعية وفكرية وسياسية، وقد لا يكون منتجًا أن نتقرى أوجة الشبه أو وجوه الاختلاف بين الشكل القديم للمقال المصري، والشكل المحدث في صحافتنا اليوم، وإن كان هذان الشكلان يلتقيان ويفترقان، فقامت النماذج القديمة بوظائف المقال، حين اقتربت منه في تنوّع الموضوع، وحينما ذهبت معه لتخاطب الجماهير، فتميَّزت بسلامة الفكرة وسذاجة التعبير، وإن كانت قد اتجهت مع التقدُّم التاريخي إلى التأنق والتكلُّف في الأسلوب والتعقيد في   1، 2 الدكتور محمود نجيب أبو الليل: الصحافة الفرنسية في مصر منذ نشأتها حتى نهاية الثورة العرابية ص312. 3، 4، 5 جوستاف لوبون "وترجمة صادق رستم": الحضارة المصرية ص108. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 الأفكار وخُلُوّ الكتابة من الروح كما يحدث في عصور الانحطاط دائمًا1، وكما حدث في العصر العثماني من بعد. ومهما يكن من شيء، فقد فرضت البيئة المصرية على المصري ذهنًا عمليًّا واقعيًّا، سهل المنطق واضح في نظرته إلى الدنيا وحكمه على الأشياء والناس، شأنه في ذلك شأن أبناء الأمم الزراعية عامة2، وهذا الذهن العملي هو الذي يبدع الفن الصحفي، باتجاهه العملي وبلغته العملية الواقعية, وهو على ذلك أصلح الأذهان للإبداع في فنِّ المقال الصحفي على ما نعرفه اليوم. وإذا كانت بذور الأدب المقالي قد وجدت في الحضارة المصرية القديمة, فإن هذه البذور في الأدب العربي الذي تمثلته مصر الإسلامية من بعده، توجد في "الأمثال وجوامع الكلم", وذلك شأن الأمم في بداوتها، فالمثل قريب بطبيعته وصياغته من فن المقالة التي أراد لها "مونتاني" أن تكون صورة صادقة عن إحساسه بالحياة وتأمله لها، لا يلحقها أيّ تشذيب أو تصنع. وذلك ما نجده عند العرب قبل الإسلام، وذلك أنهم كانوا أمة شعر، لها حياتها الاجتماعية والسياسية الخاصة, "فلما جاء الإسلام تغيرت هذه الحياة الاجتماعية والسياسية وحلَّ محلَّها نظام جديد يقوم على وحدة الأمة, وإدماج الأمم الأخرى في الإسلام، ونشأ عن ذلك اطلاع العرب على ما كان لهذه الأمم من آراء وأفكار، وديانات وعلوم وفلسفة, فأخذ العرب في هذا العصر الجديد يفكرون ويرون، وظهرت أمامهم مسائل ومشكلات جعلتهم يفكرون ويتلمسون لها الحلول, الأمر الذي أدَّى إلى تغيُّر موضوعات التفكير وأسلوب التعبير، فنشأن النثر الذي "يعبِّرُ عن المعاني بدون القيود الشعرية"3. ومن ذلك يتبين أن التراث العربي القديم في عصره الأول لم يعرف المقال بمعناه الاصطلاحي لدينا، ذلك أن المدلول الحتمي لهذا اللفظ هو "القول", فإذا ذكر النابغة في معلقته وهو يعتذر إلى النعمان ويحاول أن يرد التهمة التي ألصقت به، وأن يقذف بها أعداءه. مقالة أن قد قلت: سوف أناله ... وذلك من تلقاء مثلك رائع فإنما هو يعني: القول, وإذا قال الجاهلي أو العربي بعد الإسلام: هذه مقالة صدق، فإنما يريد ما نريده اليوم من تعبيرنا: هذا قول صادق أو حق.   1 جوستاف لوبون: نفس المرجع ص110. 2 عباس محمود العقاد: المرجع المتقدم ص27، 30. 3 الدكتور طه حسين: من حديث الشعر والنثر ص23، 24. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 ولا نقع في القرآن الكريم، ولا في الحديث الشريف، ولا فيما أبقت لنا هذه الفترة المبكرة الأولى على غير هذا الاستعمال لهذه اللفظة1؛ فالمقال إذن في صميم هذا الاستعمال العربي، يشير إلى أنه "كلام شفوي" يرتبط بالنطق, فإذا ذكرنا المقال بعد ذلك في العصور التي ازدهرت فيها الثقافة العربية وفي هذه العصور التي نحياها أو أطرافًا منها2 وأنه يعني الكلام المكتوب، أدركنا أضخم الفروق التي طرأت على استعمال هذا اللفظ بين القديم والجديد، ذلك أن هذا اللفظ كان "في حياتنا الثقافية بهذا المفهوم، جزءًا أصيلًا من هذه الثقافة، التي كانت تعتمد في أكثرها على الرواية، فكانت المقالة كلامًا منطوقًا"3 ولم تلبث في عصور التدوين أن اتخذت شكل "الرسائل المقالية" التي يذهب بعض مؤرخي الصحافة إلى أنها مع التجوّز القليل، صحافة كاملة بالنسبة للعصور التي ظهرت فيها4. وهذه الرسائل المقالية -كما سيجيء- تشكل عنصرًا هامًّا من عناصر الأصالة في مقال طه حسين، بصفة خاصة، والمقال العربي بصفة عامة، وإن كان مدلول هذه الرسائل المقالية لا يخرج عن الأشكال التي تشكلت بها الرسائل في الاتجاه نحو الذات, كما نجد في الرسائل الإخوانية, وفي الاتجاه نحو المذاهب المختلفة كما في رسائل الأشعريين والمعتزلة5, ولكننا نجد في هذه الرسائل المقالية على العموم نواةً لفن المقال في الاتجاه نحو الفكرة: سياسية أو اجتماعية كما في رسائل الجاحظ، الذي يعتبر -كما يقول الدارسون6- أول صحفي ممتاز لو أنه عاش في القرن الذي نعيش فيه. وتأسيسًا على هذا الفهم، للبيئة المصرية فرعونية، وإسلامية، نلاحظ أنها بيئة مهيأة لهذا المقال الصحفي الحديث، لما يتَّسِم به المصريون من وحدة قومية وأصالة دينية، صبغتا المقال المصري بصبغة تميزه بين فنون المقال المدوَّنة بالعربية في أقطار أخرى، ذلك أن المقال المصري إلى جانب ذلك يتمثَّل الروح المصري والذهن العملي الذي يتيح له "لغة عملية تمتاز بالبساطة والوضوح والإيناس واللطف والرشاقة"7 وهي اللغة المستفادة كذلك من "لطف"   1 جاء في القاموس المحيط جـ2: "القول الكلام, أو كل لفظ نطق به اللسان تامًّا أو ناقصًا، والجمع أقوال وجمع الجمع أقاويل, أو القول في الخير، والقال والقيل والقالة في الشر, أو القول مصدر والقيل والقال اسمان له, أو قال قولًا وقولة ومقالة ومقالًا فيهما". 2، 3 الدكتور شكري فيصل: مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق جـ4 م47، رمضان 1392هـ. 4 الدكتور عبد اللطيف حمزة: أدب المقالة جـ1. 5 الدكتور شكري فيصل: نفس المرجع ص747. 6 الدكتور إبراهيم إمام: دراسات في الفن الصحفي ص56. 7 المرجع السابق ص56. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 الشخصية المصرية الذي عُرِفَت به بين جيرانها1، كما عُرِفَت "بالتنكيت" في الزمن القديم والحديث2. وحين نتفق على ارتباط الشخصية الفردية بالشخصية العامة، فإن القول بأن البيئة المصرية من أصلح البيئات لفن المقال الصحفي قول صحيح، يرتبط باكتشاف الكُتَّاب المصريين وطنهم، تأسيسًا على أن الاتصال النفسي بين الشخصيتين هو أساس الإبداع الحضاري، الذي يمثِّل المقال الصحفي مظهرًا من مظاهره، ولذلك يذهب طه حسين إلى أن "الشعب المصري أول من كتب بالقلم" واتخذ الحروف رمزًا للكلام الذي يؤدي عن القلوب والنفوس والعقول وما يثور فيها من العواطف وما يضطرب بها من الأهواء وما يخطر لها من الآراء3", ويتمثَّل طه حسين بيئته المصرية التي تضم "وطنًا خالدًا ثابتًا سعيدًا تختلف عليه الأزمنة وما تحمل من الخطوب والصروف، فلا يتغير ولا يمضي مع الزمن، ولكنه ثابت مقيم، مبتسم دائمًا، تشرق شمسه الحلوة الهادئة كل يوم فتعبث الحركة والحياة في كل شيء وفي كل إنسان4" ويتمثل ذلك جميعًا في مقاله الصحفي، بحيث لا يفكر "في عروبة مصر أو فرعونيتها، فذلك شيء لا يفكر فيه المصريون إلّا حين يريدون أن يتحدثوا في العلم، أو فيما يشبه العلم من الحديث، وأما مصر التي تملأ قلوب المصريين وتدفعهم إلى الأمل والعمل دفعًا فهي فوق الفروض جميعًا، وهي فوق الاحتمالات جميعًا، وهي فوق علم العلماء، وبحث الباحثين وفلسفة الفلاسفة5". وهذه البيئة المصرية هي التي تحدد مهمة المقال الصحفي في أدب طه حسين في تحقيق "صلة ثقافية بأدق معاني هذه الكلمة وأرفعها بين الشعوب العربية أولًا, وبين هذه الشعوب وأمم الغرب ثانيًا6".   1، 2 عباس محمود العقاد: مرجع سابق ص30. 3 الدكتور طه حسين: مجلة الكاتب المصري، أكتوبر 1945. 4 الدكتور طه حسين: مصر، كوكب الشرق في 14 سبتمبر 1933. 5 الدكتور طه حسين: مصر، كوكب الشرق في 14 سبتمبر 1933. 6 المرجع نفسه ص2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 2- الاتصال بالحضارة الأوربية : على أن موضع هذه البيئة المصرية، الذي أتاح لها أن تمتاز بين بلاد الشرق الأدنى بثروتها وقوتها وثقافتها, أتاح لها أن تقوم بمهمة التوسُّط بين الشرق والغرب في شئون الثقافة والسياسة والاقتصاد1، فإذا كان فن المقال بمفهومه الحديث يرتبط بتاريخ الصحافة ارتباطًا وثيقًا، فإن عوامل كثيرة قد تضافرت على النهوض به، منها انتشار التعليم الحديث، ثم العمل على إحياء التراث العربي القديم، ومنها كذلك عناية المستشرقين باللغة العربية وآدابها, ثم انتشار الصحافة في الشرق العربي2. فالمقال الصحفي في مصر يرتبط بانتهاء عصر الوقوف والركود واستئناف الاتصال بين العالم العربي والعالم الأوربي في أواخر القرن الثامن عشر، والقرن التاسع عشر، ثم دقة هذا الاتصال وتنظيمه في هذا القرن الذي نعيش فيه3؛ حيث ألغيت المسافات الزمنية والمكانية, وأصبح الاتصال في كل لحظة ظاهرة من الظواهر الطبيعية للحياة المألوفة4. على أن هذا الاتصال بالحضارة الأوربية قد فرض طابعه على جانب هام من جوانب التطور الفكري والاجتماعي الذي يشمل الصحافة في أعطافه، وأخذ امتداد هذا التيار الأوربي يهز القيم والتقاليد القديمة هزًّا عنيفًا لا يبلغ حَدَّ الثورة على تلك القيم والتقاليد, وإن كان يرمي إلى التوفيق بين القديم والجديد في إطارٍ من تراث الآباء والأجداد والحضارة العربية الأصيلة5. ذلك أن الثقافة في مصر في نهاية القرن الثامن عشر -رغم ما كانت عليه من جمود وانحطاط- كانت ثقافة متجانسة لا تعاني من ازدواج أو صراع. حتى إذا ما استيقظ المصريون على صوت مدافع بونابرت في سنة 1798 غازيًا للبلاد تحدث مواجهة فعلية بين ثقافتين وحضارتين مختلفتين على الرغم من اشتراكهما في الأصول والمنابع الأولى إلى حد كبير6. وقد انعكست الصورة المترسبة عن عصور الانحطاط على فنِّ المقال الذي اتسم "بالجمال الفني في الكلام"7, وقنع بما كان بينه وبين الأدب العربي المنحط من صلة, على أن اصطدام المصريين بغيرهم من الأمم قد أذكى في   1 المرجع نفسه ص2. 2 الدكتور عبد اللطيف حمزة: أدب المقالة جـ1 ص85. 3، 4 الدكتور طه حسين: نفس المرجع. 5 الدكتور عبد الحميد يونس: فن القصة ص34. 6 الدكتور طه حسين: مستقبل الثقافة جـ1 ص29. 7 الدكتور طه حسين: حافظ وشوقي ص1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 نفوسهم وفي نفوس هذه الأمم جذوة الأدب والفن والعلم1, فما هي إلّا أن انتهى القرن التاسع عشر -كما يقول طه حسين2- حتى كانت الحياة الغربية قد وصلت إلى طائفة من الناس فأثَّرت بعض التأثير في عقولهم، وعجزت عن أن تؤثر في شعورهم وعواطفهم، فكانت حياة عقلية فيها شيء من الجدة، وفيها ميل إلى الخروج على القديم، وكان اندفاع، يختلف قوة وضعفًا إلى العلم باختلاف الظروف وأطوار الحياة الفردية والاجتماعية، وأنشئت مدارس وظهرت صحف، وترجمت كتب، ولكن الأدب ظلَّ كما هو قديمًا أو متين الاتصال بالقديم3". على أن مسار التطور في أساليب التعبير، لا ينفي أن هذه الحماية الفرنسية قد "فتحت أعين الشرق على مواطن عجزه ونقصه، وعلمته قهرًا ما كان يأبى أن يتعلمه باختياره، فأدرك حاجته إلى التغيير العاجل4", ولعلَّ من أهم ما جاءت به هذه الحملة أنها أتت إلى مصر بالمطبعة العربية، التي أخذت تحدث في "مصر والشرق أثرًا كالذي أحدثته في أوربة إبَّان النهضة الأوربية منذ قرون"5, ومن أهم هذه الآثار أن هذه الحملة قد جاءت لتمهِّدَ لانفصال القومية عن العالم الإسلامي، وهو الأثر الذي ننظر إليه في إطار الارتباط بين ظهور المقال الصحفيِّ الأوربي, وظهور القوميات المنسلخة عن العالم المسيحي الموحَّد. فنجد أن فن المقال الصحفي في مصر كذلك جاء هو الآخر مرتبطًا بحركة الانفصال عن الخلافة العثمانية6 التي ارتبطت في أذهان المصريين بالتخلُّف الذي جعلهم يتجهون إلى فكرة التقَدُّمِ العصري الذي سبق إليه القوم" بعلوم ابتكروها، أو بعلوم اقتبسوها منَّا، وآن لها أن تردها إلينا"7. فلم يمض جيل واحد بعد الحملة الفرنسية حتى ظهر "الرجل المثقف" في البيئة المصرية, ولم تخل منه بيئة من بيئات التقليد والرجعة إلى القديم، وهي على عادتها في الأزمنة المختلفة أعدى أعداء التحول والتجديد8, وأظهره ما كان من الرجوع إلى الأدب القديم، وإحيائه بالنشر والإذاعة أولًا، ثم بالتقليد والمحاكاة ثانيًا، وما كان من تعلُّمِ بعض اللغات الأجنبية, وقراءة ما ينتج فيها من الآثار، وترجمة بعض هذه الآثار إلى اللغة العربية في غير نظام ولا اطِّراد، وما كان آخر الأمر من الإعراض عن الحياة المادية القديمة والإقبال على الحضارة المادية الحديثة، واستعارة النظم السياسية والاقتصادية والإدارية والعسكرية والقضائية من أوربا، ثم العدول عن العلم الموروث بعد ذلك إلى العلم الحي الحديث, ومناهج تعليمه الحية المستحدثة، وإقرار هذا كله في المدارس والمعاهد   1، 2، 3 المرجع نفسه ص2. 4 عباس محمود العقاد: محمد عبده ص6. 5، 6 الدكتور طه حسين: المرجع السابق ص2. 7، 8 عباس محمود العقاد: نفس المرجع ص 13. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 العربية والمصرية1. وكنتيجة لهذا الاتصال بالحضارة الغربية تغيَّرت خصائص كثيرة من خصائص النفس العربية, واضطرت إلى أنحاءٍ من التصوّر والتصوير لم تكن مألوفة من قبل2, وأخذ عنصر التطور يعمل من جديد في طريقين متعاكستين أشد التعاكُس وأقواه، فقد كان إحياء الأدب القديم يدفع العقل العربي الحديث إلى وراء, ويقوي فيه عنصر الثبات والاستقرار، كما كان الاتصال بالثقافة الأوروبية وحضارتها يدفع العقل العربي إلى أمام3, ويقوي فيه عنصر التطوّر والانتقال4. وألقت هذه الصورة على الصحافة مهمة الاستمرار بعنصر التطور والانتقال في تقدُّمه واطراده، والشد من قوة العقل العربي في الثبات لهذا التعاكُس العنيف، وتنتفع به أشد انتفاع، وكان يخشى في أواسط القرن الماضي وفي أول هذا القرن أن يتمَّ التقاطع بين هذين الاتجاهين؛ فيذهب فريق من "المتأدبين إلى وراء من غير رجعة، ويذهب فريق منهم إلى أمام على غير أناة"5, ويضيع العقل المصري والعربي بين هاتين الطريقتين المتعاكستين6, ولكن الصحافة المصرية ثبتت لهذه المحنة واستفادت منها، فكانت الترجمة كضرورة صحفية مظهرًا من مظاهر تغذية المجتمع بالجانب المشرق من الثقافة الغربية، فأسهمت هذه الضرورة في تحرير النثر الصحفي وغير الصحفي من أغلال الصنعة التقليدية الموروثة عن عصور الانحطاط، كما جنحت به إلى السهولة والاهتمام بالمعاني والدقة في التعبير على النحو الذي نراه فيما بعد في مدرسة الجريدة، وصحافة المدرسة الحديثة بصفة عامة، التي عالجت المقالة الأدبية والمقالة الصحفية, وأفادت من الدراسات النفسية والمذاهب الاجتماعية والاقتصادية في مضمون المقال. فالاتصال بالحضارة الأوربية وثقافتها إذن: قد أسهم في تطوُّر مضمون المقال الصحفي وفنونه من بعد، على النحو الذي تشير إليه خارطة التطوُّر في المقال المصري، ابتداءً من الصحفي رفاعة الطهطاوي الذي يمثِّلُ بداية الالتحام بين الثقافتين7، ومرورًا بكُتَّاب هذا المقال من العلمانيين وغيرهم؛ كالدكتور يعقوب صرورف, الذي جعل من "المقتطف" نقطة تحوّل في الفن الصحفي في محاولاته الأدبية والاقتصادية والسياسية، ومقارناته بين كتابات "سبنسر" في علم الاجتماع الإنساني ومقدمة ابن خلدون8. وليس من قبيل المصادفة   1 الدكتور طه حسين: ألوان ص19. 2، 3 الدكتور طه حسين: ألوان ص19. 4، 5، 6 المرجع نفسه ص20. 7، 8 الدكتور إبراهيم إمام: دراسات في الفن الصحفي ص44. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 أن يكون جمال الدين الأفغاني ويعقوب صنوع ومحمد عبده ومصطفى كامل وأحمد لطفي السيد ومحمد حسين هيكل وطه حسين وعباس العقاد من روّاد الصحافة الذين استقامت لهم طريقة تحقق فيها التوازن الصحيح بين القديم والجديد، فاحتفظ المقال الصحفي على أيديهم بأصوله التقليدية الأساسية ولم يستعص على التطور، فاستطاع هؤلاء بجهودهم الرائعة أن يخلقوا لغة الفن الصحفي العربي التي تقترب من لغة الأدب, وتمتاز بالسلاسة والواقعية والتبسيط1. ذلك أن هؤلاء الكُتَّاب المقاليين قد قبلوا من الثقافات الأجنبية الحديثة مثل ما قَبِلَ العقل العربي من الثقافات الأجنبية أيام العباسيين2, واستحدثوا من الفنون ما يلائم العصر الحديث، كما استحدث من الفنون ما كان يلائم عصر العباسيين3. وأول مظهر لهذا هو أن المقال الصحفي على يد هؤلاء قد اتَّخَذَ اللغة العربية له لسانًا4، وعرض كثيرًا من الاتجاهات السياسية والثقافية والاجتماعية في لغة عربية واضحة، كما يعرض في اللغات الأجنبية المختلفة. وتأسيسًا على هذا الفهم للاتصال الحديث بالحضارة الأوربية، نجد أن العوامل التي طوَّرت المقال الصحفي عما كان عليه في صحافة النشأة في مصر، وخلصت من المماحكات اللفظية قد اطرد نموها، وتضافرت على توجيهه وجهة أخرى غير الوجهة التي رأيناها عند التقليديين، في صحافة النشأة. وخلاصة ما يُقَالُ فيها أن حركة التجديد في الصحافة قد وليت حركة اليقظة في أوجَّهَا عند الأستاذ الإمام, وسارت في توازٍ مع مسار الحركة الوطنية, وقد أدَّت هذه العوامل إلى ظهور نوع جديد من أدب المقالة، وهو المقال السياسي, وقد برع الكُتَّاب في المطالبة باستقلال الشعب وإزاحة الاستعمار عن كاهل المصريين, واتسعت دائرة المقال وتعددت ألوانه, فظهرت المقالة الأدبية والمقالة الاجتماعية والمقالة النقدية5. وليس من شكٍّ في أن الصحافة صاحبة الحظ الموفور في نشر الأدب والعلم وإنشاء النثر الحديث, ونعني بالصحافة ما يذهب إليه طه حسين، من أنها الصحافة كلها يومية وأسبوعية وشهرية6, وقد استطاعت هذه الصحافة المصرية أن تؤثِّرَ في الأدب من طريق السياسة ومن السعي إلى السياسة7.   1 المرجع نفسه ص44. 2، 3، 4 الدكتور طه حسين: ألوان ص21. 5 عبد العزيز شرف: الدكتور محمد حسين هيكل صحفيًّا ص12. 6، 7 الدكتور طه حسين: حافظ وشوقي ص68، 69. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 3- الحياة السياسية : ومهما يكن من شيء فقد ساعد على فعالية هذه العوامل تخطيط سياسة الاحتلال الذي وضعه اللورد "دوفرين"1 وطبقة "كرومر" والذي تضمَّن: تَرْك شيء من الحرية النسبية للصحف تنفيسًا عما قد يعنُّ لمحرريها من آراءٍ وملاحظاتٍ قد تفيد منها سياسة الاحتلال -مع إغفال قانون المطبوعات2, وتحقيقًا لهذه السياسة ذهب كرومر إلى أن تكون للاحتلال صحف تؤيد بقاءه صراحةً لا ضمنًا, وتدافع عن أعماله وترد على معارضيه, وفي مقدوره تأييدها ماديًّا وأدبيًّا، فأوعز إلى أصحاب "المقتطف" إنشاء صحيفة يومية سياسية تعبِّر عن المصالح البريطانية, كما كانت "الأهرام" تعبِّر عن المصالح الفرنسية, فتَقَدَّم يعقوب صروف وفارس نمَّر وشاهين مكاريوس إلى إدارة المطبوعات في 18 أبريل سنة 1888 يرجون الترخيص لهم بإنشاء جريدة "المقطم"3. ومضت صحيفة "المقطم" منذ صدورها قبل مولد طه حسين بشهور، تؤيّد الاحتلال البريطاني وتشيد بسياسته، وتدافع عن صنائعه من المصريين، وتنتهز كل مناسبة للنَّيْل من الباب العالي، وفي ذلك تقول جريدة "الشعب" وهي تؤرِّخ للمقطم "أنه إنجليزي صرف, وكل أعمال الحكومة ممدوحة لديه، وهو يترجم ويطبع تقارير المعتمد"4, كما هاجمت الخديوي عباس الثاني الذي أيَّدَ الوطنيين في بداية حكمه5، ولعلَّ في ذلك ما يلقي الضوء على اتجاه الخديوي في نهاية القرن الماضي إلى كسب تأييد الرأي العام والوقوف في وجه المعتمد البريطاني، والرد على مفتريات الصحف الإنجليزية والفرنسية، فصدرت جريدة "المؤيد" في أول ديسمبر 1889 لصاحبها السيد علي يوسف, للتعبير عن مصالح المصريين عامة، والخديوي خاصة، ولتتحدث بلسان حزب الإصلاح على المبادئ الدستورية6. وإذا كان التفكير الديني عند السيد علي يوسف يضفي عليه اتجاهًا سلفيًّا، فإنه كان كاتبًا مجددًا في المقال الصحفي تعبيرًا وأسلوبًا, ذلك أنه كان يصنع "صناعته" الصحفية ليتعلمها الناس منه، ولم يكن يتعلَّم تلك الصناعة على أساتذتها في الشرق والغرب، ولا على أدواتها التي تمليها عليه5؛ فالسيد علي يوسف يكتب مادة "صحفية صحيحة بكل ما تحمل هذه الكلمة من   1، 2 Young Egypt. p.p. 150-151. 3 الدكتور إبراهيم إمام: دراسات في الفن الصحفي ص22. 3، 4 الشعب: في 8 مايو 1912, الدكتور إبراهيم عبده: تطور الصحافة ص149، 151. 5 الدكتور إبراهيم إمام: مرجع سابق ص22. 6 عباس محمود العقاد: رجال عرفتهم ص13، 14. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 معنى"1 مستحدثًا في الأسلوب العربي ما يسمى بالأسلوب السياسي2, بحيث يمكن القول أن مقال السيد علي يوسف يضع البداية الفاصلة بين فنِّ المقال الصحفي وفنِّ المقال الأدبي، فكان رائدًا لمن أتوا بعده من كبار الصحفيين3. على أن المضمون السياسي في مقال علي يوسف، يمثِّلُ اتجاهًا من اتجاهات الحركة الوطنية في عهد الاحتلال، يتجه إلى تأييد الخديو من جهة، والدعوة إلى الرأي المحافظ من جهة أخرى, كما يذهب إلى ذلك تشارلس آدمس. فالفرق بين الزعيم مصطفى كامل وعلي يوسف هو "الفرق بين السياسة القومية وسياسة القصر والحاشية الخديوية، أو الفرق بين الخطيب المنطلق والكاتب الحصيف4". وتأسيسًا على هذا الفهم نَتَلَمَّسُ اتجاهين إلى جانب هذا الاتجاه المحافظ، غلبا على الحركة الوطنية في عهد الاحتلال، اتجاه حماسي متطرِّفٌ في عداوته للاحتلال, وآخر معتدل5 لا ينكر التعاون مع الإنجليز والسير معهم لتحقيق المصلحة العامة للبلاد، ورأي يقول: إنه لا أمل في الإصلاح الحقيقي إلا بزوال الاحتلال, وآخر يقول: إن الإصلاح الحقيقي الداخلي هو وسيلة الجلاء6, وكان على الاتجاه الأول والرأي الأول مصطفى كامل وشيعته، وعلى الاتجاه الثاني جماعة من الأعيان المصريين وبعض "حصفاء" الثورة العرابية7 الذين شهدوا تذبذب السياسة الفرنسية والسياسة العثمانية قبل الاحتلال, فاستقاموا على الطريق الممهَّد لهم من تزويد الأمة بعد العلم والإصلاح الداخلي8. وفي الاتجاه الثاني -الاتجاه المعتدل- سارت "الجريدة" فحملت عبء الدفاع عن الرأي الذي يقول بأن الإصلاح الداخلي بالتعاون مع الاحتلال هو أقوم السبل إلى تحقيق الاستقلال9, كما سار فيه غير أصحاب الجريدة ممَّن تفاوتت درجات اعتدالهم وتعاونهم مع الاحتلال وآمالهم في الإصلاح10, في حين دعا مصطفى كامل إلى وضع حَدٍّ للاحتلال البريطاني، ورأى إمكان تحقيق ذلك بمساعدة دولة ثالثة، وهي إما فرنسا الخصم التقليدي لانجلترا   1، 2 الدكتور عبد اللطيف حمزة: أدب المقالة جـ4 ص225، 238. 3 الدكتور إبراهيم إمام: نفس المرجع ص300. 4 عباس محمود العقاد: المرجع ص1. 5 Lord Loyd: V.I. p. 50. 6 أحمد أمين: زعماء الإصلاح ص313, تشارلس آدمس: الإسلام والتجديد ص210, الدكتور حسين فوزي النجار: الجريدة ص80. 7 عباس العقاد: سعد زغلول ص90. 8 الدكتور حسين فوزي النجار: المرجع السابق ص80. 9، 10 الدكتور حسين فوزي النجار: نفس المرجع, تشارلس آدمس نفس المرجع ص196-214. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 في الشرق الأدنى، أو السلطان العثماني. وأعتقد أيضًا أن مصر أمة واحدة، لكنها جزء من عالم أكبر, لا بل من عدة عوالم: العثماني والمسلم والشرقي، كما أعتقد أنه عليها أن تؤدي علاقاتها مع كلٍّ من هذه العوالم الثلاثة1. وقد نشر هذه الأفكار خطابة وكتابة، فكان خطيبًا مفوهًا وصفيًّا ناجحًا, ويعزى إليه الفضل في إنشاء ثاني صحيفة مصرية في سنة 1900 هي صحيفة "اللواء", بعد أن كان السيد علي يوسف قد أنشأ "المؤيد" في 1889، حين كانت معظم الصحف بأيدي السوريين2, كما أصدر اللواء في طبعتين: إنجليزية وفرنسية, وأكسبته أفكاره وبلاغته وصحفه نفوذًا لدى الشباب المثقَّف، على أن ما أكسبه النفوذ السياسي المباشِر هو تأييد الخديو له وصلته به3, ذلك أن عباس حلمي بخلاف سلفه توفيق الذي حماه الإنجليز من الثورة وثبَّتوا عرشه، فكان عن ضرورة وعن ضعف، آلةً طيعةً في يد كرومر، أما عباس فكان شابًّا يكره الائتمار بأوامر رجل مسنٍّ، ويرغب في أن يحكم بنفسه, ولكنَّ انجلترا تذرَّعت بصغر سنه ونادت صحفها4 بأن ارتقاء الخديو الشاب عرش مصر يجعل بقاء الاحتلال أكثر ضرورة من أي وقت، فلا يجوز منذ الآن الكلام عن الجلاء", ووجد عباس في مصطفى كامل أداةً مفيدةً للحدِّ من سلطة كرومر، كما وجد فيه مصطفى كامل وسيلة لتحقيق غايته الوطنية، وظنَّ "كلٌّ منهما أنه يستخدم الآخر"5 إلّا أن هذا التحالف أخذ يضعف تدريجيًّا ببروز نقاط الضعف في هذه السياسة. فانخذال فرنسا في فاشودة، في 1898، والاتفاق الودي في 1904، جعلا من الصعب التصديق أن بإمكان فرنسا دعم الوطنيين في مصر6. فاتجه الخديو بعد سنة 1904 في اتجاه التقرب من الإنجليز، إذ أصبح ذلك في الإمكان بعد عزل كرومر ومجيء جورست خلفًا له, وكان مصطفى كامل قد انتهى إلى الاعتقاد بأن اهتمام الخديو عباس بسلطته الخاصة كان أشد من اهتمامه باستقلال مصر7. على أن نمو طبقة الطلاب قد أتاح لمصطفى كامل مجالًا واسعًا للخطابة والكتابة، كما أن حادث دنشواي قد فجَّرَ الشعور بالمقاومة الوطنية, وترك "في الشعور العام تأثيرًا عميقًا"8 على نحوٍ يصوره قاسم أمين أبلغ تصوير   1ألبرت حوراني: الفكر العربي في عصر النهضة ص242، 243. 2، 3 ألبرت حوراني: الفكر العربي في عصر النهضة ص242، 243. 4 البول مول جازيت, عبد الرحمن الرافعي: مصطفى كامل ص214. 5، 6، 7 ألبرت حوراني: المرجع السابق ص243. 8 المرجع نفسه ص244, أحمد أمين: حياتي ص79. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 "ولكن هذا الإخاء في الشعور بقي مكتومًا في النفوس لم يجد سبيلًا يخرج منه فلم يبرز بروزًا واضحًا حتى يراه كل إنسان". ولم يلبث هذا الشعور العام بالإضافة إلى تخفيف شدة الرقابة تنفيذًا لتوصية دوفرين، أن ظهرت آثار ذلك جميعًا في ازدهار المقال الصحفي وارتباطه بالرأي العام، الذي غدا بدوره ظاهرة لفتت كُتَّاب المقال وعُنُوا بتعميقه وتطويره، وذهب لطفي السيد إلى أن "الرأي العام للأمة إذا لم يكن منطبقًا على الحق والعدل في ذاتهما, فإنه على الأقل منطبق على الحق والعدل على الوجه الذي به تفهمها الأمة وتحتملها"1. ذلك أن الرأي العام في مصر منذ عصر إسماعيل قد ضعف "لحداثة سنه من جهة، ولقوة الحكومة الظالمة من جهة أخرى, إلَّا أن ضعفه لم يمنعه من النموِّ والارتقاء يومًا فيومًا، تبعًا لقواعد الرقي التدريجي, فكانت كل حادثة من الحوادث السياسية، من شأنها أن تقوي ساعده وتَشُدُّ عضده للبقاء، حتى صار اليوم على ما نراه عليه"2 فالمصريون من يوم أن بدأوا التعليم على الطريقة الغربية، أخذوا يطمعون في حكومة دستورية متمدنة، وأخذوا يتذمرون سرًّا من احتكار الشراكسة للوظائف العسكرية، حتى بلغ الرأي العام أشده إبَّان الثورة العرابية التي انتهزها الإنجليز سببًا لاحتلال مصر3. أما ظهور هذا الرأي العام ظهورًا جليًّا أمام أعين الأوربيين، فإنه لم يبتدئ إلا مع حرية الصحافة المصرية، التي لم تنتشر إلّا في عهد الاحتلال، وصار انتشارها أعمّ في أزمنة سياسة الخلاف بين القصر والإنجليز. وينكر لطفي السيد أن الصحافة المصرية خلقت رأيًا عامًّا كاذبًا، كما يزعم كرومر4. "فماذا كان ذنب هذه الصحافة المصرية، التي هي البقية الباقية للمصريين من ميراث الحرية الذي ورثوه عن أبويهم: آدم وحواء؟ "5. على أن اتجاهات الرأي العام في تلك الفترة تصبغ الوطنية بصبغتين متميزتين مختلفتين، إحداهما تتجه إلى الجامعة الإسلامية6 وتتمسك بالرابطة العثمانية7, والثانية تتجه إلى ما عُرِفَ حينذاك بالجامعة المصرية وهو الاصطلاح السائد في ذلك الوقت للتعبير عن القومية المصرية8، وكانت فكرة ناتئة لم تتبلور بعد في الأذهان9 انتقلت إلى مصر مع ما انتقل   1، 2، 3 أحمد لطفي السيد "الرأي العام", الجريدة في 11 يولية 1908 المنتخبات جـ1 ص28 وما بعدها. 4، 5 المرجع نفسه. 6 الجريدة في أول سبتمبر 1921, المنتخبات جـ1 ص308. 7، 8، 9 م. محمد حسين: الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر المقدمة جـ, عَرَّبَتْ المقطم عبارة Nationalism في تقرير كرومر 1906 بعبارة الجامعة الوطنية المصرية, واستعملها لطفي السيد في كل كتاباته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 إليها من الغرب، متأثرة في ذلك بالاتجاهات القومية التي سادت في أوربا في القرن الماضي1, وقد اختلطت الفكرتان اختلاطًا شديدًا منذ البداية، فقد أصرَّ الطهطاوي على وجود ولائين: الأول تجاه مَنْ يدينون بالدين الواحد، والآخر تجاه المواطنين، كما في دولة الفقهاء الإسلامية المثلى2, لكن فكرة "الوطن" الفرنسية كانت قد انتصرت في مصر بعد وفاته، في رحلة البحث الحديث عن الوطن المصري، وكان من مظاهر انتشارها إنشاء إحدى الصحف الكبرى الأولى في سنة 1877 باسم "الوطن", وعندما وضع حسين المرصفي كتيبًا في 1889، لشرح "بعض المفردات الشائعة على ألسنة الناس" أدخل كلمات: "الوطن" و"الأمة" في عداد تلك المفردات؛ كالحرية والعدالة والظلم والسياسة والحكومة والتربية، حسب مفاهيم عصره، فالأمة مثلًا، في مفهومه معنًى أوسع بكثير من المعنى الديني3, ومن ذلك ما أخذه الأستاذ الإمام على عرابي من "جهلٍ لحقيقة معنى الكلمات التي كان يستعملها"4 ويتجلى خلال تلك الفترة التي لعبت فيها الصحافة التوجيهية دورًا مهمًّا في الحياة السياسية المصرية، وبرزت "شخصية الصحفي السياسي كشخصية رئيسية في العصر الحديث، وهو الذي عُنِيَ خصوصًا لا بنشر الآراء فحسب, بل بمهارته في استعمال اللغة، بإثارة المشاعر الجيَّاشة"5. على أن مفهوم القومية المصرية لم ينفصل تمامًا عن الجامعة الإسلامية، إلّا بعد الحرب الأولى وانهيار الإمبراطورية العثمانية, ثم سقوط الخلافة بعد ذلك، ذلك أن هذا الانفصال لم يتم إلّا تدريجيًّا بعد أن أخذت معالمه تنمو وتتضح منذ بداية القرن العشرين6. ومن ذلك تبين أن العلاقة بين الصحافة والرأي العام، قد لعبت دورًا أساسيًّا في تحديد مفهوم القومية المصرية، فلم تظهر "الأحزاب السياسية المنظمة"7 إلّا من دور الصحف كتجسيدٍ ماديٍّ لآرائها التي كانت تدافع عن قضية البلاد8؛ فتأسَّسَ الحزب الوطني ليُجَسِّدَ آراء واتجاهات صحيفة   1 المرجع نفسه ص60، 51. 2 المرجع السابق ص60، 51. 3 ألبرت حوراني: مرجع سابق ص235. 4 حسين والمرصفي الكليم الثمان 1869 ص2. 5 ألبرت حوراني: مرجع سابق ص236. 6 م. محمد حسين: مرجع سابق ص63-64. 7 ألبرت حوراني: نفس المرجع ص244. 8 الدكتور إبراهيم إمام: دراسات في الفن الصحفي ص22، 174. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 "اللواء", كما جسَّدَ حزب الإصلاح على المبادئ الدستورية اتجاه "المؤيد", وخرج حزب الأمة أساسًا من "الجريدة", وكان لطفي السيد مديرها وسكرتير الحزب هو المعبِّر الحقيقي عن آرائه. ونخلص من ذلك إلى أنَّ المحوْرَ القومي في الحياة السياسية، وتحديد مفهوم القومية المصرية، من أهم الأمور في تطوُّرِ المقال الصحفي في مصر، تأسيسًا على أن ظهور المقال الصحفي الأوربيّ يرتبط كذلك بظهور القوميات المنسلخة عن العالم المسيحي الموحَّدِ، ولقد تصادَف أن تتزامن حركة الانفصال عن الخلافة العثمانية مع تحديد مفهوم المقال الصحفي في مصر1.   1 الدكتور إبراهيم إمام، دراسات في الفن الصحفي ص22، 174. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 4- الحياة الفكرية : وتأسيسًا على هذا الفهم، نجد المقال الصحفيِّ في بيئة التكوين لجيل طه حسين مرتبطًا بالبيئة المصرية وما يضطرب فيها من حيوات، بحيث بدت القاهرة حينئذ أشبه ما تكون ببرج بابل، كما يقول العقاد1، تعج بدعواتٍ من كلِّ لونٍ، ولكنَّ هذه الصورة ترتبط من الوجهة المصرية بالأستاذ الإمام محمد عبده، الذي ذهب في توجيه النهضة القومية بعد عودته من المنفى إلى وجهةٍ تتفق مع مذهبه في الحياة، وهي وجهة "لا يشغلها الغرض القريب عن الغرض البعيد، ولا ييئسها الأمل الضائع أن تصمد للأمل الذي لا يضيع"2 فلا معول للأمم في جهادها –لديه- أنفع وأصدق في المضي بها إلى غايتها من العلم الحي والتربية القومية, وكان يقول للمقرَّبين لديه من مريديه: لو كان في هذه الأمة مائة رجل لما استطاع الإنجليز أن يحكموها، ولما أدركوا منها أربًا في حكمهم إياها، وإنما الرجل عنده صاحب الفكر البصير والخلق المكين: صاحب الكفاءة الذي إن وُجِدَ في الأمة قادها لا محالة، ولم يتمكَّن أجنبي ذو سطوة أو ثروة أن ينازعه على قيادها3. ويلخص لنا هذا القول اتجاه الإمام وأثره في التربية الوطنية، وسبب انصرافه إلى حصر نشاطه في تلك الدائرة التي ارتضاها لنفسه وهي تزعم حركة الإصلاح الديني والاجتماعي, ولم يتعداها إلى خارجها, ولم يُرِدْ أن يكون صاحب رأي مباشر في الحياة السياسية إلّا من خلال مذهبه الاجتماعي والصحافة النزيهة وتربية القادة4. ويتبين هذا الأثر الفكريّ من تمثل كُتَّاب الجريدة لأفكار الإمام واتجاهاته، فقال عنهم كرومر في تقرير 1906 "إنهم من أتباع الشيخ محمد عبده", وقال عنهم غيره: إنهم من تلامذته وروَّاده, ومهما يكن من شيء فقد اتجه كُتَّاب "الجريدة" إلى تعقيل الحياة وتخليصها من عناصر الخرافة وما إليها5، واستمت هذه الدعوة بالنظر في الإصلاح المصري على أساسٍ جديد، هو العقل من ناحية، والمنفعة الذاتية لمصر وحدها من جهة ثانية6. على أن هذه الدعوة لا يمكن أن تنفصل عن الفكرتين اللتين سادتا البيئة   1 عباس محمود العقاد: حياة قلم د. عبد العزيز شرق، د. محمد عبد المنعم خفاجي "عباس محمد العقاد بين الصحافة والأدب" القاهرة، مكتبة الأنجلو المصرية. 2، 3، 4 عباس محمود العقاد: محمد عبده ص185، 186. 5 الدكتور عبد الحميد يونس: فن القصة ص32. 6 الدكتور عبد اللطيف حمزة: أدب المقالة جـ6 ص34. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 المصرية في هذه الفترة، وهما: فكرة الحضارة الأوروبية من جهةٍ, وفكرة الجامعة الإسلامية من جهة ثانية، وذلك بعد أن تركت كلٌّ من هاتين الفكرتين آثارًا عميقة في الرأي العام المصري، والحياة العامة المصرية، على النحو المبين فيما تَقَدَّمَ, فأصبح "التعقيل" اتجاهًا ثقافيًّا وفكريًّا لخطة الأستاذ الإمام، نهض به لطفي السيد, ووسم به مدرسته, فامتازت الحركة الأدبية والفكرية في مصر -في النصف الأول من القرن العشرين- بميلٍ حقيقيٍّ للتعقيل، وإيثارٍ لجانب التفكير، وبعدٍ عن مسايرة العواطف. ومن جهةٍ أخرى فقد أبرز لطفي السيد نموذجًا جديدًا يُضَافُ إلى النموذج العربي الإسلامي، وهو نموذج الفكر اليوناني؛ فترجم لأرسطو، وأردف ذلك بنقل فكرة الديمقراطية إلى الحياة المصرية, وغنيٌّ عن البيان أن نقول: إن النهضة الأوروبية الحديثة قامت على هذا النموذج اليوناني، وفي أحضان هذه النهضة ولدت المقالة الأوربية على يد "مونتاني" في فرنسا, و"بيكون" في انجلترا, وهما فيلسوفان عقليَّان. ولعل في ذلك ما يعلل اتجاه طه حسين إلى تأثر العقل المصري بالبحر المتوسط منذ عصوره الأولى، وأن العقل المصري قد اتصل بالعقل اليوناني اتصال تعاون وتوافق1, وهو الاتجاه الذي يجعل طه حسين لا يقول بوجود "عقل أوربي يمتاز من هذا العقل الشرقي الذي يعيش في مصر وما جاورها من بلاد الشرق القريب، وإنما هو عقل واحد، تختلف عليه الظروف المتباينة المتضادة، فتؤثِّر فيه آثارًا متباينة متضادة، ولكن جوهره ليس فيه تفاوت ولا اختلاف"2. ومهما يكن من شأن الاختلاف في جدوى الخطتين: السياسة أو التعليم في القضية المصرية، فليس هناك خلاف في رجحان كفة العلم على كفة السياسة، سيما أن الجيل الذي أثمرته خُطَّة التعليم، كان هو نفسه الجيل الذي نهض بالسياسة من بعد، ومضى بمصر في جهادها للظفر بالاستقلال والدستور والحرية. ولذلك لم يرض كرومر عن فكرة إنشاء الجامعة المصرية، وأحصى لطفي السيد هذا الموقف من سيئات كرومر التي ندَّدَ بها3، ذلك أن الاهتمام بالتعليم عامَّة، كان نعمة من نعم الوعي القومي الجديد, وثمرة من ثمار الحركة الوطنية في شتَّى مظاهرها واتجاهاتها، وذلك ما يعبِّر عنه قاسم أمين   1، 2 الدكتور طه حسين: مستقبل الثقافة جـ1 ص11، 19، 28. 3 الدكتور حسين فوزي النجار: أحمد لطفي السيد ص265. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 بقوله1: إن الوطنية الصحيحة لا تتكلَّم كثيرًا, ولا تعلِنُ عن نفسها, ثم قوله: نطمع في أن نرى بين أبناء وطننا طائفة تطلب العلم حبًّا للحقيقة وشوقًا إلى اكتشاف المجهول، فئة يكون مبدؤها التعلُّم للتعلُّمِ، نود أن نرى من أبناء مصر، كما نرى في البلاد الأخرى، عالمًا يحيط بكل العلم الإنساني، واختصاصيًّا أتقن فرعًا مخصوصًا من العلم ووقف نفسه على الإلمام بجميع ما يتعلق به، وفيلسوفًا اكتسب شهرة عامة، وكاتبًا ذاع صيته في العالم، وعالمًا يُرْجَعُ إليه في حلِّ المشكلات ويُحْتَجُّ برأيه. أمثال هؤلاء هم قادة الرأي العام عند الأمم الأخرى، والمرشدون إلى طريق نجاحها، والمدبرون لحركة تَقَدُّمِهَا، فإذا قَدَّمَتْهُم أمة حلَّ محلَّهم الناصحون الجاهلون والمرشدون الدجالون". ولقد صدقت نبوءة قاسم أمين للجامعة المصرية، فكان أوّل خريجيها هو الدكتور "طه حسين" الذي أصبح فيما بعد "كاتبًا ذاع صيته في العالم" كما نعلم، الأمر الذي يجعلنا نذهب إلى أن تصور تلاميذ الإمام للجامعة المصرية، قد أكَّدَ ثمار إيثاره خُطَّة التعليم في خدمة قومه على خطط خصومه المشغولين بسياسة الصحف والأحزاب2، ذلك أن الجامعة بيئة للثقافة بأوسع معانيها, وللحضارة بأوسع معانيها أيضًا، كما يذهب إلى ذلك طه حسين في "مستقبل الثقافة في مصر"3, وهي البيئة التي تمثلها في تكوينه، فلم يكتف بأن يكون "مثقفًا, بل كان يعنيه أن يكون مصدرًا للثقافة"4, ولم يكتف بأن يكون "متحضرًا بل أن يكون منمِّيًا للحضارة"5 وفي ذلك ما يشير إلى تفاعل الفرد مع البيئة، والاتجاه بالمقال الصحفي القائم على التعقيل إلى أن يغدو مصدرًا للثقافة ومنمِّيًا للحضارة.   1 ألقى قاسم أمين هذه الكلمة في الحفل الذي أقامه حسن زايد بك "باشا" من أعيان المنوفية بمناسبة وقفه خمسين فدانًا من أجود أطيانه للجامعة في 15 أبريل سنة 1908, دعا إليه أعضاء مجلس إدارة الجامعة وعددًا عظيمًا من الأعيان والسراة. 2 عباس محمود العقاد: محمد عبده ص264، 299. 3، 4، 5 الدكتور طه حسين: مستقبل الثقافة جـ2 ص441، 442، 443. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 5- الحياة الاجتماعية : شهدت البيئة المصرية في مطلع هذا القرن بوادر الانقلاب الاجتماعي، التي ترتبط بالحياة الفكرية والاتصال بالغرب واتجاهات الأحزاب السياسية, والتي تتمثل في اتجاهين: الأول يدعو إلى عدم فصل الدين عن الدولة، كما يتضح من مبادئ الحزب الوطني، بينما يدعو الاتجاه الثاني إلى عدم اختلاط الدعوة الوطنية بالنزعة الدينية، كما يبين من مبادئ حزب الأمة, ومن ثَمَّ دعا ممثلوا هذا الاتجاه في إطار مصطلح تعقيل الحياة المصرية إلى فصل الدين عن الدولة، وتحرير المرأة، وفض الحجاب عنها, وفي مقدمة الداعين إلى ذلك قاسم أمين أحد تلاميذ الأستاذ الإمام, الذي ينطلق كتابه" تحرير المرأة" سنة 1899 من مسألة تأخر المصريين عن اللحاق بالأمم المتقدمة، ويذهب إلى أنها إذا بقيت على ضعفها فلن تتمكن من البقاء في عالمٍ تسوده قوانين "الانتقاء الطبيعي"1 وفقًا لمفهوم الدارونية. ويذهب إلى أن أسباب هذا التأخر لا ترجع إلى البيئة الطبيعية، إذ قامت في بعض العهود مدنيات مزدهرة في هذه البلاد ذاتها، وكما أنها لا ترجع إلى زوال القوة الاجتماعية أو القيم المعنوية، ومرجع ذلك إلى الجهل بالعلوم الحقيقية التي تمكن من استنباط قوانين السعادة البشرية, ويبدأ هذا الجهل في الأسرة، فالعلاقة بين الرجل والمرأة، والأم وابنها، إنما هي أساس المجتمع، فالفضائل القائمة في الأسرة هي ذاتها الفضائل التي تستمر في المجتمع، وعلى ذلك فإن دور المرأة في المجتمع هو "إصلاح أخلاق الأمة"2. ومن ذلك يتبين أن جوهر القضية الاجتماعية كما يصوره قاسم أمين هو مركز المرأة, وهذا المركز في مجتمع تقليدي متأثر بعصور الانحطاط لا يتحسَّن إلا بالتربية، كما أنه لا يُمَكِّنُ المرأة من أن تمارس حقوقها وتقوم بدورها في المجتمع من غير تعليم، إذ أن المرأة لا تكون كاملة ما لم تتصرف بنفسها، وتتمتع بالحرية التي منحتها إياها الشريعة, وما لم تنم طاقتها إلى أقصى الحدود3. وتصور العاصفة الشديدة التي قوبلت بها أفكار قاسم أمين في الصحف، ردَّ الفعل التقليدي الذي ذهب إلى مهاجمة نظريته في الكتب والمقالات, في حين ذهب بعض الكُتَّاب إلى تأييد هذه النظرية، ولم يلبث قاسم أمين في سنة 1900 أن أصدر كتاب "المرأة الجديدة" ليردَّ على معارضيه بأسلوبٍ أكثر جدلية من أسلوب الكتاب الأول، مستندًا إلى الفكر الاجتماعي الأوروبي الحديث في   1 قاسم أمين: تحرير المرأة ص116. 2 قاسم أمين: المرأة الجديدة ص124. 3 قاسم أمين: تحرير المرأة ص85. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 تطوير المجتمع المصري، تأسيسًا على أن حرية المرأة هي أساس جميع الحريَّات الأخرى ومعيارها. ذلك أن حقوق المرأة قد تطورت مع تطور المجتمع البشري1. ولم تلبث هذه الرؤيا الاجتماعية الجديدة أن شغلت أذهان الشباب الذين ذهبوا إلى التفكير في الأمر جديًّا، يرى فيه أكثرهم مروقًا من الدين وتمهيدًا للإلحاد، ويرى بعضهم أنه حقٌّ، وأنه الوسيلة الوحيدة لخلق شعب حرٍّ يدرك الحياة إدراكًا صحيحًا، كما أنه "العدل كل العدل ألّا تُحْرَمَ المرأة من نور الحياة ومن نور العلم الذي يريدها للحياة إدراكًا وتقديرًا صحيحً"2. ولم تلبث هذه البادرة القومية -كذلك- أن تمخَّضَت عن معناها العملي الدائم، الذي شوهد في واقع الحياة المصرية بعد ذلك, وبرزت حقيقته في كل مهمَّة تتطلب الرجال العاملين من المفكرين المؤمنين بفريضة الإصلاح ورسالة التَّقَدُّمِ, فقد أعاد هؤلاء وغيرهم من تلاميذ الإمام إلى العقل المصري المستنير، الثقة بعقيدته في هذا العصر الحديث، ورفع من طريقه إلى العمل عقبات المجتمع التقليدي: الجمود والخرافة والتقليد؛ لأنه زوَّدَه على قواعد دينه بفلسفة الحياة التي يقابل بها "فلسفات الغرب المتسلطة عليه من جهة السطوة, أو من جهة الإيمان بالعقائد والآراء"3. فسار المجتمع المصري في طريقه إلى التطور يأخذ من القديم والحديث ما ساغه ذوقه، وأحسَّ بنفعه العام له، وظلَّ القديم الصالح يعمل عمله، وكَمُنَ ما تصوَّر البعض أنه غير صالح في أطوار المجتمع، ولم تنعدم وظيفته انعدامًا تامًّا، ومن هنا تحول التليد والطارف إلى ما يشبه الصراع النفسي في أطواء الوجدان الشعبي، وفي مكنون الوجدان الفردي معًا، وصوَّر الأدب الفصيح والشعبي4، كما صوَّرت الصحافة المصرية تطوَّرَ هذا الصراع. وإذا كان الكيان الاجتماعي في مطلع هذا القرن كما صوَّره الأستاذ الإمام، يقوم في لبابه على "فلسفة أخلاقية"5, فإن ذلك لم يكن سهوًا عن عمل التجارة والصناعة، ولا عن عمل النظام العادل في سياسة الناس, ولكنه كان يعتقد أن الجهل فقرٌ أشد على الناس من فقر المال، فليست بلادنا كما يقول الأستاذ الإمام "بلاد الجوع القتال، ولا بلاد البرد القارس المميت، ولا بلاد الشقاء التي لا ينال الإنسان فيها قوت يومه إلّا بالعذاب الأليم، بل   1 قاسم أمين: المرأة الجديدة ص38. 2 الدكتور محمد حسين هيكل: مذكرات جـ1 ص25. 3 عباس محمود العقاد: محمد عبده ص294. 4 الدكتور عب الحميد يونس: مجتمعنا ص47. 5 عباس محمود العقاد: مرجع سابق ص298. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 نحن في بلاد رزقها الله سعةً من العيش، ومنحها خصوبةً وغنًى يسهلان على كل عائش فيها قطع أيام الحياة بالراحة والسعة، ولكن يا للأسف مُنِيَتْ مع ذلك بأشد ضروب الفقر: فقر العقول والتربية"1. وفي ضوء هذه الصورة التي يتمثَّلها طه حسين في بيئة التكوين -كما سيجيء، نجد أن مقاله الصحفي يذهب إلى زوال المجتمع التقليدي بأمراضه الناشئة عن الجهل والجمود، وتجاوز هذا المجتمع الجامد إلى مجتمع متغير جديد يتسم بالفكر المتجدد وتعقيل كيانه. ونخلص من هذه الصورة لبيئة المقال الصحفي التي تَمَّ تكوين طه حسين فيها، والتي استوحيناها مما ترسَّبَ في العقل من القراءات المتعلقة بالحيوات السياسية والفكرية والاجتماعية إلى تأكيد أثر هذه البيئة في توجيه المقال الصحفي في مصر وجهة جديدة، يلتقي فيها التيار الحديث بالتيار القديم لتكوين العقل المصري الجديد الذي يتوسَّل بهذا المقال. ففي هذه البيئة عاش طه حسين مرحلة التكوين العقلي والفكري على اتصالٍ باتجاهات جيله في باكورة شبابه، وبامتداد التيار الغربي حيث أمدَّته البيئة المصرية بتعمق آثاره، ولم يعد أمام هذا الجيل من الشباب إلّا أن يتسلَّّم زمام القيادة للاتجاهات الجديدة، وطبع التيار الوافد بطابع بيئتهم وجيلهم. ذلك أن أبناء هذا الجيل رغم بريق الرومانسية القومية وشعورهم بالإباء دفاعًا عن النفس، وبحثهم العميق في مقومات الشخصية المصرية، كانوا يعترفون بوجه عام "أن الحضارة الأوربية أرقى حضارات العالم"2, ولكنهم مع ذلك كانوا يعتقدون أن مصر الحديثة ليس في مقدروها إنشاء نظامٍ سياسيٍّ ديمقراطي ليبرالي يتبنى قيم هذه الحضارة إلّا إذا كانت مستقلة3. وفي ذلك ما يشير إلى إجماع أبناء هذا الجيل بعد الثورة القومية في سنة 1919، على اتخاذ موقف عام من السياسة والمجتمع، كما نجد عند طه حسين وغيره من معاصريه الذين تسلموا قيادة الرأي العام من الجيل الذي تتلمذوا عليه، وكانت ثقافتهم العربية التقليدية، الأمر الذي هيأهم لقيادة الرأي العام من خلال المقال الصحفي قبل غيره من فنون القول، فقد عبَّروا عن أفكارهم في معظم الأحوال على صفحات الصحف اليومية، والمجلات الأسبوعية والشهرية.   1 عباس محمود العقاد: مرجع سابق ص198. 2 ألبرت حوراني: مرجع سابق ص386. 3 الدكتور طه حسين: مقومات الأدب المصري الحديث, مجلة المجتمع العربي العدد 16 عام 1949. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 ومن ذلك يتبين الخط البياني لأثر البيئة العامة في مقال طه حسين وتعرُّفِه على مقوِّمات الشخصية المصرية، فكان في مطلع هذا القرن "مقصورًا على نفسه لا يكود يتجاوزها"1 في حين ينتقل بعد ثورة1919 بالفكر المصري إلى طورٍ جديدٍ يسميه طور "الحياة العالمية لمصر"2, وهو الطَّوْر الذي يتمثَّل مقومات البيئة المصرية بعناصرها الثلاثة: العنصر المصري الخالص الذي ورثناه عن المصريين القدماء على اتصال الأزمان بهم, وعلى تأثرهم بالمؤثرات المختلفة التي خضعت لها حياتهم3, والعنصر العربي الذي يأتينا من اللغة ومن الدين ومن الحضارة, والذي "امتزج بهذه الحياة امتزاجًا مكونًا لها مقومًا لشخصيتها"4, وهذا العنصر ليس عنصرًا أجنبيًّا، ذلك أنه كما يقول طه حسين قد "تَمَصَّرَ منذ قرون وقرون، وتأثر بكل المؤثِّرَات التي تتأثر بها الأشياء في مصر من خصائص الإقليم المصري"5, والعنصر الأخير عنصر أجنبي تقتضيه الطبيعة الجغرافية لمصر6, ويأتيها من اتصالها بالأمم المتحضرة في الشرق والغرب7. ويتفاوت تأثير هذه العناصر الثلاثة على كُتَّاب المقال الصحفي في مصر بمقدار حظِّ كل كاتبٍ منها، فبعض آثارهم يغلب عليه العنصر العربي، وبعضها يغلب فيه العنصر الأوربي، وقليل جدًّا منها يظهر فيه العنصر المصري القديم. وتأسيسًا على هذا الفهم، فإننا ننتقل إلى دراسة الجانب المتمِّم في بيئة التكوين الصحفي للدكتور طه حسين، وهو الجانب المتعلِّق بمدرسة الجريدة.   1، 2 المرجع نفسه. 3، 4 الدكتور طه حسين: فصول ص99. 5 الدكتور طه حسين: فصول ص99. 6، 7 المرجع السابق ص99. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 مدرسة الجريدة مدخل ... ب- مدرسة الجريدة: ترتبط مدرسة "الجريدة" بمعلمها لطفي السيد، كما ترتبط بتيار التجديد في البيئة الصحفية العامة قبل صدور "الجريدة", حين أتمَّ لطفي السيد دراسة الحقوق سنة 1894, وأنشأ مع زملائه: عبد العزيز فهمي وأحمد طلعت وحامد رضوان ومحمد بدر الدين والدكتور عبد الحليم حلمي وعلي بهجت ومحمد عبد المطلب جمعية سرية غرضها "تحرير مصر"1, ويتبين هذا الارتباط من الالتقاء الفكري والحياتي مع الأستاذ الإمام وقاسم أمين وسعد زغلول2, والذي ظهرت إرهاصاته الأولى في مجلة "الموسوعات" التي أنشأها محمود أبو النصر، حين نشر لطفي السيد مقالًا بعنوان "مشخصات الأمة"3 نادى فيه بإصلاح الحروف العربية، وأشار إلى طائفة من الآراء الإصلاحية الأخرى4. على أن اتجاهات التجديد التي ذهب إليها لطفي السيد والتي تمثلها الجيل الجديد، إنما ترتبط باشتغاله بالصحافة في المحل الأول، في جريدة "الجريدة" التي انتخب مديرًا لها ورئيسًا لتحريرها لمدة عشر سنوات5, وكان من الممكن ألّا تترك "الجريدة" تأثيرها في الجيل الجديد والجيل الذي تلاه إن لم يكن محررها لطفي السيد بطبعه رائدًا ومعلمًا أكثر منه صحفيًّا وسياسيًّا، فإنا لا نرى صحيفة من الصحف المصرية قبل الحرب العالمية الأولى قد عُنِيَت بالمجتمع المصري عناية الجريدة به6. الأمر الذي جعل من "الجريدة" مدرسة فكرية لها روَّادُها وتلامذتها بفضل محررها الذي خرج بها من النطاق الحزبي الضيق إلى آفاق أرحب من التوجيه والإرشاد والتثقيف, فأصبح لطفي السيد بحقٍّ معلم هذا الجيل7.   1 أحمد لطفي السيد: قصة حياتي ص35، 37. 2، 3 أحمد لطفي السيد: قصة حياتي ص35، 37. 4 عبد العزيز شرف: لطفي السيد فيلسوف يقظة أمة ص40. 5 المرجع نفسه ص45. 6 الدكتور عبد اللطيف حمزة: أدب المقالة جـ6 ص117. 7 الدكتور حسين فوزي النجار: الجريدة تاريخ وفن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 1- مدرسة الجريدة وجيل طه حسين : وهكذا أصبحت الجريدة مدرسة الجيل الجديد1، فمحررها كما يقول طه حسين "أستاذ الجيل غير منازع، وهو الذي علَّمَ الشباب المصريين حقَّ الأمة في أن تحكم نفسها بنفسها, وعلَّمَهم أن مصر يجب أن تكون لأبنائها, وأن تخلص لهم من دون الترك العثمانيين أصحاب السيادة حينئذ، ومن دون الإنجليز المحتلين"2. ذلك أن عناية لطفي السيد بتلاميذه من جيل طه حسين, من الذي تمثَّلوا مذهبه ودعوته وأسلوبه في "الجريدة" تمتد إلى إفساح مجال الكتابة لهم على صفحاتها3، كما تعهد أساليبهم ومعارفهم بالصقل والتهذيب, وقراءاتهم بالتوجيه والإرشاد، كما سيبين من صلة طه حسين بلطفي السيد. ويتفاوت تأثير الجريدة في روَّادها وتلاميذها بتفاوت اتصالهم بها   1 الدكتور حسين فوزي النجار: الجريدة تاريخ وفن. 2 من كلمة الدكتور طه حسين في تأبين لطفي السيد ص14. 3 الدكتور حسين فوزي النجار: نفس المرجع: لطفي السيد والشخصية المصرية ص 138. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 أو بمحررها؛ فمنهم مَنْ كان وثيق الصلة به كمحمد حسين هيكل, ومنهم مَنْ اتصل به فلمس فيه محررها نبوغًا يمكن أن يثمر وينمو كطه حسين، ومنهم مَنْ كان اتصاله بالجريدة عن طريق العمل كعبد القادر حمزة وعبد الرحمن شكري، فقد كانا محررين بها، أو عن طريق مراسلتها كسلامة موسى ومحمد توفيق دياب اللذين كانا يكاتبانها من لندن، ومنهم مَنْ وقف اتصاله بالجريدة وبمحررها عند الكتابة لها والتردد على ندوتها وهم كثير منهم: مصطفى صادق الرافعي, وماري زيادة المعروفة بميّ، ومنهم مَنْ كان مرتبطًا بها بحكم الصلة العائلية التي تربطه بأعضاء حزب الأمة؛ كمصطفى عبد الرازق، إلّا أنهم جميعًا مِمَّنْ تأثروا باتجاهات لطفي السيد التجديدية ومذهبه الفكريِّ بنوع خاصٍّ, فكانوا جميعًا من دعاة التوفيق بين الحضارتين والثقافتين، وكانوا جميعًا من المتحمِّسين بدرجات متفاوتة لحركة تحرير المرأة وتعليمها، واعتنق كثير منهم الدعوة إلى المصرية في الفكر والأدب والفن، وأخذ آخرون بدعوته إلى تجديد اللغة العربية1. على أن مدرسة "الجريدة" الفكرية تتسم بسمتين بارزتين، هما: سمة التجديد وسمة التعقيل والترشيد, مصبوغتين بصبغة الحرية، التي جعلها لطفي السيد قاعدةً لكل إنتاجٍ فكريٍّ ولكل إصلاح عام ولكل علاقة بين الفرد والمجتمع وبين الفرد والحكومة, واستقام له مذهب دعاه "مذهب الحريين" أو مذهب "الأحرار"3 في إطار من التجديد والترشيد، بحيث تخضع الدعوة إلى هذا المذهب, وإلى القومية المصرية لهُدَى المنطق والعقل على ضوء المنفعة الذاتية لمصر وحدها، وهو الأثر الذي تركته البيئة المصرية في مدرسته، وصبغ دعوته، ذلك أنه يستَمد أصوله من فهمه العميق لتاريخ بلاده وتقاليدها وعاداتها وإحساسه بمصريته إحساس الفلاح الذي عانى من جَوْرِ الترك، وإحساس المثقَّف الذي عرف عيوب قومه فعمل على إصلاحها, وأدرك محاسن الحضارة الأوربية فدعا إليها, وآمن بالتطور الوئيد وكره الانقلاب المفاجئ، مدركًا ما كان لفشل الثورة العرابية من تأثير على تفكير جيله1. كما نجد هذا التأثير في فكر الأستاذ الإمام وإيثاره خُطَّةَ تعليم الأمة على الخُطَّةِ السياسية في تحقيق الاستقلال4.   1، 2 الدكتور حسين فوزي النجار: لطفي السيد والشخصية المصرية، ص138. 3 لطفي السيد/ قصة حياتي ص150, الجريدة في 16 أكتوبر 1907. 4 عباس محمود العقاد: محمد عبده ص181. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 2- طه حسين ولطفي السيد: من الموافقات في حياة طه حسين أن تكرمه الدولة مع أستاذه لطفي السيد في يوم واحد، ويوجِّه القول في كلمته إلى رئيس الجمهورية بهذا المعنى "وإني يا سيدي الرئيس لأشعر بأنك تكرمني مرتين, تكرمني حين تكرِّم أستاذي أحمد لطفي السيد، وكل تكريم للأستاذ فإنما هو تكريم لتلاميذه أيضًا"1. ويتبين مما تَقَدَّمَ أن علاقة طه حسين بأستاذه لطفي السيد ترجع إلى أكثر من نصف قرن "قبل وفاة لطفي السيد، حين اتصل به وهو في الثامنة عشرة من عمره، في لقاء يصفه طه حسين بقوله: "لم يكد يلقاني لأول مرة حتى امتلأ قلبي إكبارًا له وإعجابًا به, وتمنيت لو أتيح لي أن ألقاه في كل يوم، وكنت أعتقد بل كنت أثق بأني إنما أتمنَّى شيئًا لا سبيل إليه, وأين يكون طالب في الأزهر لا خطر له من مدير الجريدة, ذاك الذي كان حديث الناس في كل بيئة وفي كل مكان -وهو أحد الناس يقرأون مقالاته الرائعة في الجريدة كل مساء. "ولكن لم اصدق أذني حين هممت بالانصراف عنه فسمعت صوته العذب يطلب إليَّ أن أعود لزيارته كلما أحببت ذلك, سمعت هذه الدعوة الكريمة فلم أملك نفسي من الابتهاج والغبطة, وأكببت على يده أريد أن أقبِّلُها كما كنا نقبِّلُ أيدي أساتذتنا في الأزهر, ولكنه يمتنع علي, وما أشعر إلا بقبلة يضعها على جبهتي, فأنصرف من عنده وقد ملكني العجب والتيه"2. ثم تتصل هذه الزيارة، ويختلف طه حسين إلى أستاذه في مكتبه أكثر أيام الأسبوع وإذا به قد أصبح له تلميذًا، لا يَلُمُّ به مرة إلا استفاد منه علمًا جديدًا وعلمًا بأشياء لم تكن تخطر له ولا لزملائه من الطلاب الأزهريين. كان يحدثه عن أوربا ويذكر له أسماء لم يسمع بها من قبل أن يلقاه.. يذكر له فولتير وروسو ومونتسكيو"3. ويحدثه عن أثر هؤلاء في بيئاتهم الفرنسية وعمَّا كانوا يكتبون، وعمَّا كان يعرض لهم من الأحداث، وعمَّا كانوا يهيئون لوطنهم من هذه الثورة الفرنسية الكبرى، والتي لم أسمع بها قبل أن ألقاه, ثم فتنت بها أي فتنة بعد أن سمعت عنه بعض حديثها"4. وفي مكتب مدير الجريدة ظفر طه حسين بشيء طالما تمناه، وهو أن يتصل ببيئة "الطرابيش" بعد أن سئم بيئة العمائم، ولكنه اتصل في بيئة الطرابيش بأرقاها منزلةً وأثراها ثراءً، وكان وهو فقير متوسط الحال في أسرته   1 جريدة الجمهورية في 20 نوفمبر 1959. 2 من كلمة طه حسين في تأبين لطفي السيد ص11، 12. 3، 4 من كلمة طه حسين في تأبين لطفي السيد ص11، 12. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 سيء الحال جدًّا إذا أقام في القاهرة، فأتاح له ذلك أن يفكِّرَ فيما يكون من هذه الفروق الحائلة بين الأغنياء والفقراء البائسين1. على أن أحاديث لطفي السيد وزائريه كانت تفتح أمام طه حسين في مرحلة التكوين آفاقًا جديدة من العلم والمعرفة، كما يقول2، فضلًا عن أن لطفي السيد هو الذي أغراه بتعلُّمِ اللغة الفرنسية، ثم الالتحاق بالجامعة المصرية والاختلاف إلى ما يُلْقَى فيها من الدروس والمحاضرات, فلطفي السيد إذن، هو ثاني اثنين -كما يقول طه حسين- فَتَحَا له من أبواب المعرفة ما لم يكن يخطر له على بال، أحدهما 3 كان يحدِّثُه في الأزهر عن الأدب العربي القديم, والثاني كان يحدِّثُه ويحدِّثُ كثيرين غيره من طلاب المدارس العليا عن الحياة الأوربية الحديثة وما فيها من فنون المعرفة4 يقول: "وإذا أنا أنصرف عن دروس الأزهر إلى حديث هذين الأستاذين الكريمين, ثم أراني أكتب المقالات قصارًا أحيانًا وطوالًا أحيانًا أخرى, وأعرضها عليه فيُصْلِحُ ما يحتاج منها إلى الإصلاح ويأمر بنشرها, ويشجعني على المضي في الكتابة5. وإذا كان لطفي السيد معلمًا بطبعه، فقد استمع منه طه حسين مع زملائه إلى دروس في السياسة المصرية والعالمية: "ولأول مرة سمعنا منه ألفاظ الديمقراطية والأرستقراطية, وحكم الفرد, وحكم الجماعة, وحق الأمة في أن تحكم نفسها بنفسها ولنفسها, وآراء أرسططاليس وأفلاطون، مولانا أرسططاليس وسيدنا أفلاطون -كما كان يقول- في أنواع الحكومات على اختلافها, وعن آراء مونتسكيو في كتابه "روح القوانين", وآراء روسو في كتابه "العقد الاجتماعي"6. ذلك إلى ما كان يقرأ في مقالاته من أن "الأمة هي الكل في الكل, ومن أنَّ مقام الأمة فوق كل مقام، ومن أنَّ الحكام ليسوا في حقيقة الأمر إلّا خدامًا للشعب يخدمونه ويأخذون أجرهم منه، فإذا استقاموا ونصحوا الشعب فهم خدَّام أمناء, وإذا جاروا وغَشّوا الشعب فهم خدَّامٌ خونةٌ لا فرق في ذلك بين أمير ووزير وموظَّف مهما يكون مركزه7. ويذكر طه حسين أنه سمع من لطفي السيد لأول مرَّة قول أبي العلاء: "ظلموا الرعية واستجازوا كيدها وعدوا مصالحها وهم أجراؤها8". ويصرِّح بأن أستاذه هو الذي حبَّبَ إليه أبا العلاء حتى أخذ في درسه   1 الأيام جـ2 ص66- 137. 2 مذكرات طه حسين ص18. 3 هو المرحوم الشيخ سيد المرصفي. 4، 5، 6 المرجع السابق ص12. 7، 8 المرجع السابق ص13. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 واستقصاء أدبه وفلسفته وتَقَدَّمَ برسالته عنه إلى الجامعة يبتغي بها درجة الدكتوراه1. يقول: "ولست أنسى يومًا لقيته فيه بعد أن فرغ من قراءة هذه الرسالة, فإذا هو يأخذني بين ذراعيه ويقبِّلُني قائلًا: ستكون إن اجتهدت أبًا لعلائنا"2. وقد استمرّت هذه الصلة الوثقى بين الأستاذ وتلميذه بعد سفر طه حسين إلى أوربا، فاتصلت الرسائل بينهما, ولم يقدِّمُ رسالته عن "ابن خلدون" إلى السوربون إلّا بعد أن قرأها لطفي السيد وأجازها, وكلَّفَ الجامعة أن تكتب بذلك, وأن تأذن له في تقدير الرسالة كما كانت القاعدة تقضي بذلك في تلك الأيام3. وكانت رعاية لطفي السيد لطه حسين بعد عودته من أوربا، أستاذًا في الجامعة، كرعايته له تلميذًا4. فلم تتغير السيرة، وإنما ظل "دائمًا أبًا برًّا وصديقًا وفيًّا, وقد استقال من الجامعة حين أخرجت منها في بعض الأزمات السياسية5 ولم يعد إلّا بعد أن عدت أنا إليها6, وتفصح صورة الاستقالة التي رفعها لطفي السيد إلى وزير المعارف7 عن صداقته لتلاميذه من "الشباب الناهض المفكِّر كله"8، وعن إيمانه باستقلال الجامعة في الرأي والفكر والعمل، فإن التعليم الجامعي لا يقوم إلا على الحرية؛ حرية التفكير وحرية النقد، والتربية الجامعية لا تستقيم ما لم يكن قوامها حرية العمل، والابتعاد بالجامعة عن السياسة والتيارات الحكومية معًا9, وهي المبادئ التي ظلَّ طه حسين يدافع عنها ويروّج لها في مقاله الصحفي أمدًا طويلًا، كما سيبين من شواهده، فلطفي السيد كما يقول طه حسين، هو الذي وضع للجامعة المصرية فلسفتها، وصاغ روحها الجامعي، ومثلها العليا10. وهكذا وجد طه حسين من رعاية معلم الجريدة وتوجيهه ما ظلَّ يذكره طوال حياته، فلطفي السيد هو "المعلم الأول لعصرنا هذا الذي نحن فيه"11 وهو بتعبير طه حسين أيضًا "أستاذ لطه حسين كما أنه، أستاذ للشباب الناهض المفكر كله"12, وهو لهذه المعاني التي تجعل علاقة "الابن من   1 المرجع السابق ص13. 2 المرجع السابق ص14. 3، 4، 5 المرجع السابق ص14. 6، 7 انظر الملاحق, ملحق رقم 4 صورة كتاب الاستقالة الذي رفعه لطفي السيد إلى وزير المعارف العمومية. 8 حديث الأربعاء جـ3 ص49. 9 الدكتور حسين فوزي النجار: أحمد لطفي السيد ص277. 10 مجلة الهلال جـ4 م46 عام 1938. 11، 12 حديث الأربعاء جـ3 ص49, جـ1 ص17 يناير 1925. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 القلب" بأستاذه أوثق من علاقة "الابن من الصلب بأبيه"، يهدي "حديث الأربعاء" إلى "الأستاذ الصديق أحمد لطفي السيد، تجلَّة تلميذ وتحية صديق"1, ولعل في ذلك تلخيصًا مكثفًا لعلاقة طه حسين بلطفي السيد. التوجيه الفكري في صلة طه حسين بلطفي السيد: أما جانب التوجيه الفكري في هذه الصلة، فإن آثاره ستبين بوضوح عندما نتحدث عن موقفه من البيئة العامة للمقال الصحفي، واتصاله "بالجريدة" التي تعددت على صفحاتها ألوان نتاجه الفكري والصحفي في مرحلة التكوين, وأغلب الظن أن لطفي السيد هو الذي رشَّحَ طه حسين للعمل في صحيفة السياسة مع زميله في مدرسة الجريدة: الدكتور محمد حسين هيكل، وهي صحيفة حزب الأحرار الدستوريين، لينهض تلامذته بدفع رسالته الصحفية والسياسية والاستمرار بها في الحياة العامة. ويشخِّصُ طه حسين هذا الجانب الفكري الذي تمثِّلُه من فلسفة لطفي السيد في هذه الخصال2: الأولى: أنها فلسفة تجديد وإصلاح، لا يقومان على هدم القديم، بل يقومان على تنقيته وتصفيته وتقويته وإزالة ما فيه من أسباب الانحلال والضعف. الثانية: إنها فلسفة حرية وصراحة، ولكن بأوسع معاني الحرية والصراحة العقلية. الثالثة: إنها فلسفة ذوق وقصدٍ في اللفظ والمعنى والسيرة معًا. الرابعة: إنها فلسفة كرامة وعزة واعتراف بالشخصية الإنسانية, وحمل الناس على أن يعترفوا بهذه الشخصية. ويبين تمثل طه حسين وزملائه من تلاميذ لطفي السيد وأصفيائه، من أخذهم "بحظهم من هذه الخصال، فهم مصلحون ودعاة إلى التجديد؛ وهم أحرار ودعاة إلى الحرية, وهم محبُّون للذوق حين يفكرون وحين يعملون، وهم أباة حريصون على الكرامة الفردية والاجتماعية, لهم لونٌ خاصٌّ يمتازون به ويعرفون بين الطبقات المختلفة والأصناف المتباينة من الناس، يتخذهم خصومهم أحيانًا هزؤًا وسخرية، ولكنهم على ذلك كله يقدرونهم ويتأثرون خطاهم ويحسدونهم على ما يسخرون منهم من أجله3".   1 حديث الأربعاء جـ2 ص49, جـ1 ص17 يناير 1925. 2 المرجع السابق جـ3 ص50، 51. 3 المرجع السابق جـ3 ص51. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 وتأسيسًا على ذلك، فإن مكانة الدكتور طه حسين، كما سيتبين من شواهد الدراسة، إنما تحددها المعركة المتواصلة في سبيل الحرية، وأيًّا كانت المحاولات التي بُذِلَت في التعرُّف على سيرته الذاتية في "الأيام" ومحاولة التعرُّف على أبعاده، فإن القليلين هم الذين يستطيعون أن يتبينوا أن ظرفه الخاص كان بعيد الأثر في استشعاره بذاته أولًا، وبمكان هذه الذات من الأُطُرِ الاجتماعية في الحياة ثانيًا1، وفي اندفاعه انطلاقًا من واقعه وتحديداته، يحقق ذاته بالدعوة إلى حرية الفكر, وبالإلحاح على تعقيل الحياة، وهذه هي الأصول التي يقوم عليها منهجه المعروف في النقد وتاريخ الأدب2، ويتركَّز عليها عمله في الجامعة وفي الحياة العامَّة من خلال الصحافة والسياسة، وتستند إليها دعوته إلى الثقافة والتنوير وإشاعة المعرفة. وقد أتاحت له هذه المدرسة الفكرية أن يستشعر ذاته من خلال استشعار الذات القومية التي لم تمح من "الأدب المصري محوًا تامًّا في يوم من الأيام"3 ويقول في هذا الاندماج بين الذات الفردية والذات القومية قولًا صريحًا: "ولست أعتقد أن كلمة "أنا" لم يكن لها مدلول في لغة المصريين, ولست أعتقد أن المصريين كانوا في شبه إغماء حتى أقبل هذا الجيل الذي نتحدث عنه، فردَّ عليهم الحياة والنشاط. كل ما يمكن أن يصح لك هو أن الشخصية المصرية في الأدب كانت ذاويةً ذابلةً إلى حَدٍّ بعيد في وقت من الأوقات لعله يبتدئ بآخر عصر المماليك, ولكن هذه الشخصية على ذبولها وفتورها لم تمت ولم تمح، بل ظلت حية تتردد أشعتها الضئيلة في آثار الكُتَّاب والشعراء والعلماء، إلى أن كان العصر الحديث"4. وفي هذا العصر الحديث أتيح لمدرسة الجريدة أن تشيع هذا الاستشعار بالذات القومية، كما أتيح لمعلمها أن يفتح لجيل طه حسين "طريق الاستقلال الأدبي"5, ولذلك يقرن طه حسين، لطفي السيد بصديقيه المصلحين محمد عبده وقاسم أمين6؛ في تكوين الأُطُر العقلية والسياسية والاجتماعية التي وجهت تفكيره، وهي الأُطُر التي وسمت المقال الصحفي لرواد الجريدة وتلاميذها من خلال التجديد والترشيد والتعقيل، كما فعلت هذه الأُطر في تميز مقالات "مونتاني بنزعة التعقيل"7 من قبل, وميَّزت فن المقال بوجه عام بين فنون   1، 2 الدكتور عبد الحميد يونس "طه حسين بين ضمير الغائب وضمير المتكلم" طه حسين كما يعرفه كُتَّابَ عصره ص65. 3، 4، 5 الدكتور طه حسين: فصول ص92، 93. 6 حديث الأربعاء جـ3 ص51. 7 الدكتور إبراهيم إمام, دراسات في الفن الصحفي ص84. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 القول الأخرى، فإذا كان المقال اتجاهًا فكريًّا أو وثبة ذهنية، كما يقول الدكتور "جونسون"1 تعبِّرُ عن رأي صاحبها، فإن استشعار طه حسين لذاته الفردية والقومية، ولمكانه من الأُطر الاجتماعية, وتحقيق ذاته بالدعوة إلى حرية الفكر، والإلحاح على تعقيل الحياة، بشكل هذا الاستشعار بمظاهره تلك أصولًا تهيئه لِأَنْ يكون كاتب مقال صحفي من الطراز الأولِ، ومن شأنه أن يقوم بالدور الذي قامت به مقالات عصر النهضة الأوربية، وهو دورٌ يستند إلى دعوته إلى الثقافة والتنوير في مصر الحديثة.   1 المرجع السابق ص84. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 الفصل الثاني: طه حسين وبيئة المقال الصحفي في مصر مدخل ... الفصل الثاني: طه حسين وبيئة المقال الصحفي في مصر نتحدث في هذا الفصل عن الدكتور طه حسين وبيئة المقال الصحفي في مصر، لنتبَيَّنَ مكانه من هذه البيئة، ونتعرَّف على الصحف التي حرَّرها أو اشترك في تحريرها، كما نحاول التعرُّف على أثر هذه البيئة في اتجاهات الاتصال الصحفي في مقاله، والأصداء التي تُنْبِئُنَا عن فعالية اتصاله بجمهور القارئين، وفي هذه البيئة التي تمتد زمنيًّا لتشمل النصف الأول من هذا القرن، نجد طه حسين يعاصر عهودًا متباينة من عهود الكتابة والتحرير الصحفي، ويتطوَّر معها على النحو الذي تقتضيه دون أن يُقَصِّرَ في شروطها ومقتضياتها، كما سيجيء. ويمكن أن نتبيَّنَ في بيئة المقال الصحفي في مصر في النصف الأول من هذا القرن، تطورًا لوظيفة هذا المقال؛ بحيث لم يعد كما كان بالنسبة للأستاذ الأمام جانبًا من جوانب رسالته, شأنه في ذلك شأن الدين والسياسة والأدب، تنصهر جميعًا في شخصية الواحد، فكان لا بُدَّ أن ينساق كل جانب منها إلى دواعي الجوانب الأخرى، فأدبه يتسق مع صحافته، وصحافته تتسق مع سياسته، وسياسته تتسق مع عقيدته الدينية، فلم تلبث هذه الجوانب أن أخذت تنفرط ليضطلع بكلٍّ منها مَنْ يجيد فنونه، فقد جاء العقد الأوَّل من هذا القرن برجالٍ من طراز يختلف عن طراز محمد عبده، من أمثال: لطفي السيد وقاسم أمين، ثم جاء العقد الثاني بطرازٍ ثالث من أمثال: هيكل والعقاد وطه حسين، وأعقبه العقد الثالث بطراز رابع من أمثال سلامة موسى وعلي عبد الرازق، ثم العقد الرابع بطرازٍ خامس تمثَّلَ في توفيق الحكيم ونجيب محفوظ ومدرسة أبولو، وفي العقد الخامس حدثت حيرة وإرهاصات بالفكرة الاشتراكية، وقامت ثورة يوليو 1952، فأصبحت محورًا رئيسيًّا، واشتدت الصلة بين الفكر والحياة1. ومن الواضح أن هذه الموجات المتلاحقة قد تداخل بعضها في بعض، فأبناء الموجة المعينة منها يبقون على مسرح الحياة الثقافية ليضاف إليهم -لا ليحل محلهم- أبناء الموجات التالية2. ذلك أن هؤلاء جميعًا يجتمعون حول هدف مشترك أعظم، وهو الحرية بكل فروعها وشعابها, والانفتاح على العصر، بينما تسلك كل فئة نحو ذلك الهدف سبيلًا يختلف بعض الشيء في محور ارتكازه عن الفئة التي بدأت من قبل، فكان رجال الموجة الأولى -بعد محمد عبده- أقرب إلى الساسة، وهم الذين تتلمذ عليهم جيل طه حسين، ورجال الموجة الثانية أقرب إلى الأدباء، ورجال الموجة الثالثة أقرب إلى العلماء، على أن الصحافة كانت قاسمًا مشتركًا بين أولئك وهؤلاء جميعًا، حتى جاءت الموجة الرابعة فاستطاعت لأوَّل مرة أن تسلخ الأدب عن السياسة وعن الصحافة معًا3. وتأسيسًا على هذا الفهم، فإننا نتحدث عن طه حسين في بيئتين: الأولى: بيئة التكوين في مطلع القرن, والثانية: بيئة المقال الصحفي بعد ثورة 1919.   1، 2 الدكتور زكي نجيب محمود: "الثورة الصامتة", جريدة "الأهرام" في 25 يناير 1974. 3 المرجع نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 أ- طه حسين والبيئة الأولى : بيئة التكوين الصحفي : تتميز هذه البيئة الصحفية الأولى، بالحركة الوطنية قبل الحرب العالمية الأولى، حيث بلغ الإحساس الوطني فيها ذروته, وبدت اليقظة الوطنية في كمالها وتمام قوتها. ويتَّصل طه حسين في هذه البيئة الأولى بحزب الأمة وجريدة "الجريدة", ونرجِّحُ أن السبب الرئيسي في هذا الاتصال إنما يرجع إلى شخصية لطفي السيد مفكِّر الحزب ومدير "الجريدة"، كما تَقَدَّمَ، فهو الذي خرج بالجريدة من النطاق الحزبي الذي صدرت لتمثله2، لا سيما وأنها لا تمثِّل حزبًا فحسب, بل تمثل طبقة من الأمة لها مصالحها ولها أهدافها ولها خطتها التي تتحرى تحقيق هذه المصالح, وتنشد الوصول إلى هذه الأهداف. على أن الجريدة لم تلبث أن أصبحت مدرسة فكرية لها أفكارها ومُثُلُها التي تتحمَّسُ لها وتجمع من حولها الرواد والأنصار والمؤيدين على النحو الذي فصَّلْنَا فيه القول، ومن هنا يمكن القول أن ارتباط طه حسين برجال حزب الأمة لم يكن ارتباطًا بالحزب السياسي بقدر ما كان ارتباطًا بالمدرسة الفكرية التي خرج بها لطفي السيد عن نطاق الحزب. ومن جهة أخرى, فإن طه حسين يميل بقوة إلى التيار الذي خلقه الأستاذ   1 المرجع نفسه. 2 تَكَوَّنَ حزب الأمة فعلًا بتكوين شركة الجريدة في 23 يوليو 1906, وإن لم يعلن رسميًّا إلا في 21 سبتمبر 1907, وبعده تكَوَّنَت الأحزاب المصرية الأخرى؛ الحزب الوطني الحر في مايو 1907, والحزب الوطني في أكتوبر, وحزب الإصلاح على المبادئ الدستورية في ديسمبر من نفس العام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 الإمام، والذي ذكره بكل إجلال في الجزء الثاني من الأيام وحده تسع عشرة مرة لم يرد اسمه في أيها مجردًا، كما كانت روح الإعجاب تشيع في كل إشاراته عنه في تلك المرحلة المبكرة وما بعدها, وكانت الأسباب النفسية قد تقطَّعت بين طه حسين وبين الأزهر حين استيأس من الأساتذة وساء ظنه بالشيوخ1, وأحسَّ أن الذين بكوا الشيخ صادقين، لم يكونوا من أصحاب العمائم, وإنما كانوا من أصحاب الطرابيش، فوجد في نفسه ميلًا إلى أن يقترب من أصحاب الطرابيش هؤلاء2, وهم الذين نسب إليهم أنهم من أتباع الشيخ محمد عبده، كما قال عنهم كرومر وغيره3، وإن كنا لا ننكر تأثير الأستاذ الإمام فإننا لا نبالغ فيه، وغاية ما نذهب إليه أن أفكار الأستاذ الإمام السياسية والإصلاحية قد وجدت صداها في نفوسهم، ذلك أنه كان رائد حركة الإصلاح الاجتماعي والديني4 بل والتفكير السياسي. وكان الإمام يميل إلى الاعتدال فوافق مشربه مشربهم، وخاصة حين نزع عن نفسه رداء السياسة إلى العلم والتثقيف وجعلهما وسيلة إلى تحقيق الغرض السياسي في النهاية5؛ فمهَّدَ بذلك للوطنية المعتدلة, والتفَّ حوله كثير من الوطنيين المعتدلين, واتفقت آراؤه مع آرائهم في أن الإصلاح الحقيقي الداخلي هو وسيلة الجلاء6, ولا ضير في الاستعانة بالإنجليز في ذلك7. وفي ذلك ما يفسِّر اقتراب طه حسين من رجال "حزب الأمام" كما يسميه بعض الباحثين8، إلى جانب ارتباطه بلطفي السيد والمدرسة الفكرية التي رادها, فلم يرتبط طه حسين إذن ارتباطًا سياسيًّا بالكيان الحزبي ومصالحه، ذلك أن طه حسين كما يقول -كان فقيرًا متوسط الحال في أسرته، فأتاح له هذا الاتصال بحزب الأمة أن يفكر في الفروق الحائلة بين الأغنياء والبائسين9, وكانت بيئة الجريدة أنسب البيئات الصحفية لذهنه المتفتح، الذي يضيق ببيئة العلماء في الأزهر10. وفي بيئة الجريدة تَعَرَّفَ إلى كثيرين من الذين كانوا يلُمُّون بلطفي السيد من الشيوخ والشباب، واتصل برفاق له "أحباء عمل معهم فيما بعد, ولقي معهم خطوبًا أي خطوب، عرف عنده هيكل ومحمود عزمي والسيد كامل, وكامل   1، 2 الأيام جـ2 ص144، 145، 147. 3، 4 كرومر: تقرير 1906 ص16, تشارلس أدمس: مرجع سابق ص124. 5 الدكتور حسين فوزي النجار: نفس المرجع ص53، 56, أحمد أمين: زعماء الإصلاح ص235، 213 ألبرت حوراني: مرجع سابق ص208. 9، 10 الأيام جـ2 ص69-73، 145، 147. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 البنداري وأترابًا لهم كثيرين، وعرف بفضله لونًا من المعرفة لم يكن يُقَدِّرُ أنه سيتاح له في يوم من الأيام. فقد لقي عنده ذات يوم تلك الفتاة التي كان الناس يتحدثون عنها فيكثرون الحديث، لا لأنها كانت جميلة فاتنة, ولا لأنها كانت جذَّابة خلَّابة، ولكن لأنها كانت طامحة ملِحَّةً في الطموح، ظفرت لأول مرة بالشهادة الثانوية، وكانت أول فتاة ظفرت بها؛ وهي نبوية موسى1. ولم يلبث طه حسين أن شغل بهذه البيئة الجديدة، لقد كان يخلص لحياته فيها منذ قرأ لنفسه "أول مقال نشرته له الصحف, أرضاه ذلك عن نفسه وأطمعه في المزيد منه، فجعل يكتب في الجريدة رغبة في الكتابة أحيانًا، وتقربًا بها إلى مدير الجريدة أحيانًا أخرى، وجعل مدير الجريدة يرضى عن فصوله ويغريه بالكتابة ويحثُّه عليها حثًّا, ويعلمه القصد في اللفظ والأناء في التفكير"2. ومن ذلك يتبين أن ارتباط طه حسين بصحيفة حزب الأمة، إنما يجيء من خلال التيار الفكري وليس من خلال التيار السياسي الحزبي، ذلك أنه ارتبط بمدرسة الجريدة واتجاهاتها الفكرية الداعية إلى تعقيل الحياة المصرية، وإلى التنوير والحرية, وتجديد شباب مصر بمقومات الحضارة الحديثة, ونجد عند دراسة مقالاته في "الجريدة" تعبيرًا عن اتجاهات التجديد التي ذهبت إليها مدرستها الفكرية، الأمر الذي يفتح أمامه أبواب التجديد على مصاريعها. وفي حين تمثل الجريدة الجانب الفكري في تكوين طه حسين الصحفي, نجد إعجابه بشخصية مصطفى كامل الذي جعله أحد ثلاثة تدين مصر لهم بما أتيح لها من اليقظة؛ أولهم: الأستاذ الإمام الذي أحيا الحرية العقلية, والثاني: قاسم أمين الذي أحيا الحرية الاجتماعية، أما مصطفى كامل فهو الذي أذكى جذوة الحرية السياسية3، الأمر الذي يكشف عن اتجاه سياسي حماسي في بيئة التكوين الصحفي لطه حسين، متطرِّفٌ في عداوته للاحتلال. على أن توزع طه حسين بين الاتجاهين الأساسيين في مرحلة التكوين يجعله كذلك لا ينتمي إلى الحزب الوطني انتماء سياسيًّا، ذلك أن هذا الحزب قد ظل متحفظًا في كثير من القضايا الفكرية الرئيسية، وقد اتخذ لنفسه هذا الطابع منذ زعيمه الأول مصطفى كامل4؛ فهو حزب يحترم الدين، ويدعو إلى التمسك بتعاليمه، ويرى في ذلك بحق ضمانًا لتماسك الأمة حفاظًا على قوتها المعنوية أمام المحتل5. ولذلك نجد تأثر طه حسين باتجاه الحزب الوطني المرتبط بالحرية السياسية: الجلاء والاستقلال التام، ولا يرتبط بالجانب   1، 2، 3 مذكرات طه حسين ص44، 35. 4، 5 الدكتور عبد اللطيف حمزة: أدب المقالة جـ 8 ص 239. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 الفكري في هذا الاتجاه، وذلك ما نجده في القصائد المبكرة التي نشرها في صحف الحزب الوطني، ومنها قصيدة يهنئ فيها عبد العزيز جاويش بمناسبة خروجه من السجن سنة 1909: ومطلعها: "الآن حق لك الثناء ... فلتحيى وليحيى اللواء ولتحيى مصر وأهلها ... شاء العدى أو لم يشاءوا ومنها: "إن كان ذكرك للجلا ... ء بسوء فليكن الجلاء أو كان صوت الشعب عن ... دهمو هو الداء العياء فليعل صوت الشعب ح ... تى يرجعوا من حيث جاءوا1 ويكتب طه حسين في هذه البيئة الأولى قصائد كثيرة يدافع فيها عن الجلاء والاستقلال وبعض القضايا الوطنية، نشر معظمها في صحف الحزب الوطني, ومن نماذج تلك القصائد ما نشره في سنة 1909 تحت عنوان: "هم جائش"2 حينما عرضت حكومة بطرس غالي على مجلس الشورى مد امتياز قناة السويس, ومطلعها: "تيمموا غير وادي النيل وانتجعوا ... فليس في مصر للأطماع متسع كفوا مطامعكم عنا، أليس لكم ... مما جنيتم وما تجنونه شبع؟ " وفي قصيدة أخرى يخاطب العام الهجري الجديد، يقول: كن أنت بعد أخيك خير هلال ... وأضئ لمصر سبيل الاستقلال3 ومن هذه النماذج يبين لنا تمثُّل طه حسين المبكر للاتجاهات السياسية التي كان يعبر عنها المقال الصحفي في "اللواء" و"مصر الفتاة" وغيرها من صحف الحزب الوطني، ولكن طه حسين مع ذلك ظل "محتفظًا بخلافاته الفكرية مع الحزب الوطني"4, ومن ذلك أنه حين يتناول موضوع المرأة وما تلاقيه من إهمال، يتبنَّى آراء قاسم أمين التي عنيت بها "الجريدة".   1 مصر الفتاة في 23 نوفمبر 1909, محمد سيد كيلاني: طه حسين الشاعر الكاتب ص21. 2 المرجع السابق ص22, مصر الفتاة في 5 نوفمبر 1909. 3 المرجع السابق ص2, مجلة الهداية ديسمبر 1910. 4 رجاء النقاش: مرجع سابق ص155. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 الأمر الذي يشير إلى أن طه حسين في بيئة التكوين الصحفي كان موزَّعًا بين اتجاهين: الأول: اتجاه فكري تقوده مدرسة الجريدة. الثاني: اتجاه سياسي تقوده صحف الحزب الوطني في سبيل "الجلاء التام والاستقلال الكامل"؛ فالاتجاه الفكري عند مدرسة الجريدة أقرب لعقل طه حسين، وخاصَّةً بعد خروجه من الأزهر والتحاقه بالجامعة, وكان لطفي السيد يدعو إلى "التعقيل", وفي ذلك ما جذب إليه الشباب من جيل طه حسين كمحمد حسين هيكل وعباس العقاد وغيرهم من الذين كانوا أقرب إلى الإيمان "بالعقل" منه إلى الإيمان "بالشعور", فكانوا -كما يقول العقاد1- يقرأون مقالات اللواء فيحمدون له غيرته, ويعجبون بصدقه في جهاده، ولكنهم وجدوا أنفسهم أمام منهج من الكتابة والقول غير المنهج الذي يتلقون منه رسالة الفكر والعاطفة, وتستجيب إليه بديهتهم المتطلِّعة إلى الوعي والمعرفة، فإن ذلك الأسلوب "الخطابي الشعوري" الذي كان له أبلغ الأثر في جمهور صحف الحزب الوطني2, لم يكن هو الأسلوب المختار الذي عهده روَّاد التجديد فيما اطَّلَعوا عليه من كلام مقروءٍ أو كلام مسموع. وعلى ذلك, فإن اتجاه طه حسين نحو الجريدة اتجاه فكري يتمثَّل دعوتها إلى التجديد والتعقيل, ويتخذ من معلمها لطفي السيد أستاذًا، يتنبأ لتلميذه بأن "سيكون موضعه من مصر موضع فولتير من فرنسا"3 الأمر الذي جعله يتطلَّع بعد تخرجه في الجامعة إلى فرنسا خاصة4, وأخذ في تعلُّم الفرنسية، وأخذت مناهج التفكير الأوربي بلُبِّه، ولذلك وجد مع أبناء المدرسة التجديدية من جيله في "الجريدة" مَحَطَّ آمالهم، سيما أن هذه الجريدة قد خرجت على "أعقل طراز بين الصحف الأوربية وبخاصة صحافة فرنسا التي كان معظم المتعلمين من رؤساء الحزب يتثقفون بثقافتها ويفضلون صحفها على صحف إنجلترا" دولة الاحتلال5، ويذكر العقاد6 أن رجال الحزب اختلفوا زمنًا على اختيار إحدى الصحيفتين الكبيرتين في باريس مثالًا لصحيفة الحزب اليومية، وهما "الطان" و"الجورنال", أما "الطان" فكان المرجح لها عند العارفين بالشئون الصحفية أن ترجمة اسمها "الزمان" تجعلها أصلح للنداء عليها في اللغة العربية. ولكن "الطان" صحيفة شبيهة بالرسمية, وعلى صلة   1، 2 عباس محمود العقاد: رجال عرفتهم ص50. 3، 4، 5 مذكرات طه حسين ص38-73، 79. 6 عباس محمود العقاد: نفس المرجع ص276، 237. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 بالدواوين العليا، فليس من الموافق لحزب يسمى بحزب الأمة ويتجنب الاتصال بقصر عابدين وقصر الدوبارة على السواء أن يتخذها مثالًا لصحيفته القومية, فانتهى الخلاف إلى اختيار "الجورنال" نموذجًا لصحيفتهم, و"الجريدة" هي ترجمة اسم "الجورنال"1. وظهرت "الجريدة" على مثال "الجورنال" في الصبغة غير الرسمية, وفي نظام التحرير وترتيب الصفحات، وأظهر ما كان في هذا النظام فتح صفحات "الجريدة" للكتابة الأدبية بأقلام ناشئة الجيل الحديث، وربما أفسحت في صفحتها الأولى -إلى جانب المقال الافتتاحي- موضعًا بارزًا لقصيدة عاطفية, أو مقال طريف من مقالات الوصف والنقد اللغوي، وترددت على صفحاتها أسماء: محمد حسين هيكل ومصطفى عبد الرازق وطه حسين وعباس العقاد ومحمد السباعي وعبد الرحمن شكري والمازني والقاياتي وغيرهم كثيرون2. وكان "اللواء" لسان الحزب الوطني، و"المؤيد" لسان حزب الإصلاح على المبادئ الدستورية يتقبلان الكتابة بأقلام النشائين، ولكنهما يقصرانها على الناحية السياسية, ولا يرحبان بالكتابة الأدبية إلا إذا كانت بأقلام الشعراء والكتاب النابهين من طراز شوقي وحافظ ومطران والمويلحي والمنفلوطي وأمثالهم بين أدباء الجيل المتقدم، فاتجه الأدباء الناشئون إلى "الجريدة" ولاسيما الطلبة والموظفون؛ إذ كانت الكتابة في السياسة محظورة عليهم، وكانوا يكتبون فيها أحيانًا إلى الصحف عامة -ومنها الجريدة- بتوقيع مستعار3. وكان شعار الجريدة الذي اختاره لطفي السيد من كلمات الفيلسوف الأندلسي ابن حزم يمثل نزوع جيل طه حسين من التجديديين إلى الجريدة؛ لأن هذا الجيل كان يعلم أن معارضيه بالرأي أضعاف مؤيديه: "مَنْ حقق النظر وراض نفس على السكون إلى الحقائق وإن آلمتها لأول صدمة، كان اغتباطه بذم الناس إياه أشد وأكبر من مدحهم إياه", وهو يلخص لنا العلاقة النفسية بين هذه المدرسة وبين طه حسين الثائر على البيئة العلمية المحافظة في الأزهر، والذي فُصِلَ منه نتيجة تطرفه في الرأي الذي صدم هذه البيئة. أما اتصال طه حسين بصحف الحزب الوطني بعد وفاة مصطفى كامل، فهو يرتبط بشخصية الشيخ عبد العزيز جاويش الذي أكثر الاختلاف إليه والاستماع له4، وكان الشيخ جاويش يتشبه بـ"جمال الدين الأفغاني"   1 عباس محمود العقاد: نفس المرجع: رجال عرفتهم ص50. 2، 3 المرجع السابق ص237. 4 مذكرات طه حسين ص18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 في حين يتشبه أقرانه على الأكثر بالأستاذ الإمام كالشيخ رشيد رضا؛ ومصطفى المراغي، وطنطاوي جوهري، وعبد الحميد الزهراوي ومحمد الخضري؛ ومحمد المهدي والنجار وغيرهم1. وفي ذلك ما يفسر إعجاب طه حسين بعنف الشيخ جاويش في السياسة والأزهر وشيوخه, وكان "يُحَبِّبُ العنف إلى الفتى ويرغِّبُه فيه, ويزيّن في قلبه الجهر بخصومة الشيوخ, والنعي عليهم في غير تَحَفُّظٍ ولا احتياط، فهو كان يرى أنهم آفة هذا الوطن يحولون بينه وبين التقدُّم، بما كانوا يلجون فيه من المحافظة، ويعينون عليه الظالمين بممالأتهم للخديوي، ومصانعتهم للإنجليز"2. وقد وجد هذا العنف من نفس طه حسين قبولًا واستجابة، فلم يكد يأخذ في الكتابة "حتى عُرِفَ بطول اللسان والإقدام على ألوانٍ من النقد، قَلَّمَا كان الشباب يقدمون عليها في تلك الأيام, ولكنه كان نقدًا محافظًا غاليًا في المحافظة، إلّا أن يعرض لشئون الأزهر، فهنالك كان يخرج حتى عن طَوْرِ الاعتدال ويغْلُو في العبث بالشيوخ, ويجد التشجيع على ذلك كل التشجيع من الشيخ عبد العزيز جاويش, وربما وجد منه إغراء بذلك وحثًّا عليه"3. ومن ذلك يَبِينُ أن طه حسين كان موزَّعًا بين مذهبين من مذاهب الكتابة كما كان موزَّعًا بين هذين الحزبين الوطنيين في ذلك الوقت: "أحدهما: مذهب الاعتدال والقصد، ذلك الذي كان الأستاذ لطفي السيد يدعوه إليه ويزينه في قلبه, والآخر: مذهب الغُلُوِّ والإسراف، ذلك الذي كان الشيخ عبد العزيز جاويش يغريه به ويحرِّضه عليه تحريضًا, وكان الفتى يستجيب للمذهبين جميعًا. فإذا اقتصد في النقد نشر في الجريدة، وإذا غلا نشر في صحف الحزب الوطني"4. ومن ذلك يبين أثر هذين المذهبين في بيئة التكوين الصحفي لمقال طه حسين، فإذا كان لطفي السيد تلميذ الأستاذ الإمام في القصد والاعتدال والعلم والتثقيف، وهو مذهب يرجع إلى تاريخ "الإقدام" في حياة الإمام؛ لأن نظرته إلى الغرض القريب لم تعجله عن النظر الطويل إلى الغرض البعيد الدائم وراء جميع الأغراض"5, فإن هذا الأثر يبين من اهتمام مقال طه حسين من بعد، بنشر المعرفة و"تعقيل" الحياة المصرية، والاهتمام بالتربية والتعليم، كما كان لقاؤه بالشيخ جاويش -المتشبه بجمال الدين- من الحوادث الهامة في تربية الصحفي الناشئ، وشحذ مواهبه في النزال على   1 عباس محمود العقاد: نفس المرجع ص180. 2، 3 مذكرات طه حسين ص18، 19. 4 المرجع السابق ص19. 5 عباس محمود العقاد: محمد عبده ص181. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 الرغم من أن "طول اللسان هو الذي قطع الصلة قطعًا حاسمًا بين صاحبنا وبين الأزهر، ودفعه دفعًا إلى حياته التي أتيحت له، وعرضه لسخطٍ أي سخط، وحزنٍ أي حزن؛ وعناء أي عناء"1. وعلى الشيخ جاويش يلقي طه حسين نصيبًا غير قليل من "ثِقَلِ تلك الفصول الطوال السمجة التي كتبها الفتى فشُغِلَ بها الأدباء والمثقفين حينًا، ثم لم ينقطع استخذاؤه لها وضيقه بها وخجله منها كلما ذكرت له, وكان موضوعها نقد "نظرات" المنفلوطي -رحمه الله, وكان عنوانها "نظرات في النظرات". وما أسرع ما انزلق الفتى من هذا النقد السخيف إلى طول اللسان وشيء من الشتم لم تكن بينه وبين النقد صلة, ولم ينس الفتى مقالًا دفعه ذات مساء إلى الشيخ جاويش، فلم يكد يقرأ أوله حتى طَرِبَ له وأَبَى إلا أن يقرأه بصوته العذب على من يحضر مجلسه ذاك, وابتهج الفتى حين سمع الثناء وأحسَّ الإعجاب, واستيقن أنه أصبح كاتبًا ممتازًا, ثم لم يذكر بعد ذلك أول هذا المقال حتى طأطأ من رأسه ومن نفسه وسأل الله أن يتيح له التكفير عن ذنبه ذاك العظيم, وكان أول المقال: "عم صباحًا أو مساء، واشرب هواء أو ماء، واستأجر من تشاء لما تشاء فقد وضح الحق وبرح الخفاء"2. ويذكر طه حسين، فيما بعد، أن أحاديثه تلك عن المنفلوطي قد شغلت الناس حتى تحدَّثَ إليه فيها كل من كان يلقاه إلّا رجلًا واحدًا لم يشر إليها قط على كثرة ما كان يلقاه ويتحدث إليه، وهو مدير الجريدة لطفي السيد3, الذي لم يرض عن هذه الفصول4، ربما لما اتَّسمت به من عنفٍ لا يتفق مع مذهب القصد والاعتدال, سيما وأن طه حسين كان يعيب من المنفلوطي فقط "انه يخطئ في اللغة ويضع الألفاظ في غير مواضعها, يصطنع ألفاظًا لم تثبت في لسان العرب، ولا في القاموس المحيط"5، وربما لأن لطفي السيد كان من المرحبين بالظاهرة الأدبية التي تمثَّلت في فن المنفلوطي، أو في أسلوبه الإنشائي عند ظهورها في الصحافة، وبعد جمع المقالات في كتاب "النظرات" لأن المقالة الإنشائية كانت "قالبًا لفظيًّا" لا عنايةً فيه بالمعنى قبل المنفلوطي، وقبل المويلحي في فصول "عيسى بن هشام" على التخصيص، فكانت كتابة المنفلوطي على عهد "الجريدة" ظاهرة ملحوظة بين المنشئين6.   1، 2، 3 مذكرات طه حسين ص20، 37. 4 المرجع السابق ص38. 5 المرجع السابق ص 38. 6 عباس محمود العقاد: رجال عرفتهم ص246. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 ومهما يكن من شيء، فقد أصبح طه حسين كاتبًا في الصحف بفضل هذين الرجلين: لطفي السيد والشيخ جاويش1, وأصبح كاتبًا لشيء آخر, وهو أنه أثناء الأعوام العشرة الأولى من كتابته في الصحف لم يكتب إلا حبًّا للكتابة ورغبة فيها لم يكسب بها "درهمًا ولا مليمًا"2. ولم يقف فضل الشيخ جاويش عند تعريف طه حسين إلى جماهير الناس ووقفه بين أيديهم منشدًا للشعر، كما كان يفعل الشعراء المعروفون وحافظ منهم, خاصة في بعض المناسبات العامة، وإنما "علَّمه الكتابة والتحرير في المجلات, فقد أنشأ مجلة "الهداية", وطلب إلى الفتى أن يشارك في تحريرها ثم ترك له أو كاد الإشراف على هذا التحرير، وكان له الفضل كل الفضل فيما تعلَّمَ الفتى من إعداد الصحف وتنسيق ما ينشر فيها من فصول, ولم تخل "الهداية" من جدال عنيف دُفِعَ إليه الفتى دفعًا, وكان خصمه الشيخ رشيد رضا, وقد أسرف الفتى على نفسه وعلى الشيخ رشيد في ذلك الجدال"3. ومن هذا النقد الذاتي لموقفه من بيئة التكوين، نجد أن طه حسين قد آثر خُطَّةَ لطفي السيد في الفكر والقصد، وهي الخطة التي تتضح من انضمامه لأسرة "السفور" التي تتألف من تلاميذ "الجريدة" بعد توقفها عن الصدور في الحرب الأولى، واستحال العمل الصحفي في ظل الأحكام العرفية، وقد ترك احتجابها في نفوسهم من الألم ما دفعهم إلى مواصلة رسالة التجديد في "السفور". يقول مصطفى عبد الرازق: "استبشرنا بها راية يلتفُّ حولها الجوهر المصفَّى من شبابنا, وتسير في ظلها دعوة الحرية والتقدُّم بين جاه العلم والعقل وجاه العصبية.. كانت الجريدة قد تَفَرَّقَ عنها أصحابُها غافلين لاهين بمظاهر ألقابهم وأموالهم.. إن المرزوئين في الجريدة هم أهل الجد من فتياتها الذين كانت لهم صحيفة الأعيان مظهرًا لمذاهبهم الحرة وأفكارهم الجديدة، ولن يعدموا بإذن الله وسيلةً لنشر دعوتهم الصالحة في جرائد, إن كانت صغيرة ضعيفة فستمدها قوة الحق فتكبر وتقوى, أما بعد فإننا في هَمٍّ من موت الجريدة يشغلنا اليوم عن التقدير لجريمة من أماتوها وعاشوا بعدها". وقد جاءت "السفور" امتدادًا للجريدة في اتجاهاتها التجديدية, ذلك أن "للسفور معنًى أشمل مما يتبادر إلى الذهن عند سماع هذه الكلمة"4.   1، 2، 3 مذكرات طه حسين ص38. 4 السفور في 21 مايو 1915. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 ويمتد هذا المعنى إلى كشف النقاب عن المجتمع التقليدي "فنحن أمة محجبة على حقيقتها، لا تتفق مع ما فُطِرَت عليه في شيء"1. وفي "السفور" يختم طه حسين مرحلة التكوين الصحفي التي بدأها في سنة 1908, موزِّعًا جهوده بين الأزهر والجامعة المصرية، بين الجريدة وصحف الحزب الوطني، حتى انتهت تلك المرحلة بحصوله على الدكتوراه في الآداب سنة 1914، وسفره إلى فرنسا، ويحدد موقفه من بيئة التكوين الصحفي حين يؤثر امتداد الجريدة في "السفور"، ويستمر مع تلاميذ الجريدة في أداء رسالتها التجديدية، في فترة وهنت فيها الحياة الأدبية والصحفية وهي فترة الحرب2، ولذلك جعلوا من أنفسهم كما يقول محرر السفور -عبد الحميد حمدي3- "جيل التضحية" الذي "يحتاج إلى شجاعة، وأسمى أنواعها الشجاعة الأدبية؛ لأن التضحية بالنفس هينة، وإذا كان لا بُدَّ من جيلٍ يضحي بنفسه لمصلحة بلاده, سواءً اليوم أو غدًا فهل يرضى جيلنا هذا أن يسميه التاريخ في الغد جيل التضحية"4. ونخلص مما تَقَدَّمَ إلى أن الدكتور طه حسين قد تمثَّل بيئة التكوين الصحفي في مقاله، كما تمثَّل تياري القديم والحديث في ثقافته، وأخذ مزاجه المصري من الثقافة الأجنبية ما يلائمه, وعدَّلَ فيه وأضاف إليه، وهو الأمر الذي تبين آثاره في مقاله بعد عودته من فرنسا, ومشاركته في الخدمة العامة من طريق الكلمة، والمقال الصحفي خاصة، وتكون السياسة المصرية والحياة المصرية قد انتقلت إلى طور جديد بعد ثورة 1919، وتمثل لنا المقال الصحفي فنًّا أصيلًا في مزاج جيله له في أبدنا تقاليد مكينة، كما تبين من دراستنا لمصادرها في القديم والحديث، وهي المصادر التي كانت بيئة التكوين الصحفي مهيأة لتمثلها نتيجةً لإحياء القديم, كما يحدث في النهضات القومية, ولتعقيل الحياة المصرية، والتوفق بين الثقافتين، الأمر الذي نجد آثاره في اتجاهات المقال الصحفي عند طه حسين، والتي تَنُمُّ عن تمثله للحيوات القومية والسياسية والاجتماعية والفكرية, وللثقافة الفرنسية في نهاية الأمر. ومن آثار ذلك في بيئة التكوين الصحفي اتجاه طه حسين في اتجاهاتها سياسيًّا واجتماعيًّا وأدبيًّا ولغويًّا، وهي اتجاهات تنمُّ عن تمثُّل مصادر الثقافة، والاتجاه القوي نحو التجديد، فلم يعد أسلوبه يميل إلى الغريب أو المحسنات كأثرٍ للبيئة السلفية في مقالاته الأولى، ولكنه اتجه بأسلوبه إلى السلاسة والسهولة، وهما الصفتان اللتان أصبحتا من مميزات أسلوبه في الصحافة والأدب من بعد، ورسم لمقاله غاية تتمثَّل في "إثارة التفكير لدى القراء"4 ودعوتهم إلى "قراءة ما يكتب5, وهو الأمر الذي ظلَّ من لوازم مقالاته الصحفية من بعد، وغدت أكثر حجية ومنطقية كنتيجة مستفادة من دراساته العربية والأوربية.   1 السفور في 21 مايو 1915. 2 هاملتون جب: مرجع سابق ص349. 3 السفور في 31 أغسطس 1917. 4، 5 الجريدة في 28 أكتوبر 1910. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 ب- طه حسين والبيئة الثانية : ويبين مما تَقَدَّمَ أن بيئة التكوين الصحفي قد هيَّأَت لطه حسين كاتب المقال الصحفي قدرات تميز بها في بيئته الثانية، بيئة المشاركة العامة بعد ثورة 1919، ونعني قدرات: الشرح والتفسير والاعتماد على الحجج المنطقية العاطفية لتأكيد ما يذهب إليه، أو لتدعيم نزالياته، وتلك هي قدرات "كاتب المقال الصحفي"1. وفي هذه البيئة الصحفية الثانية التي بُنِيَت فيها الحركة الوطنية على أساس المفاوضات المصرية البريطانية، تألَّق قلم طه حسين مع غيره من كُتَّاب المقال الصحفي في مصر، ذلك أن حرية الصحافة قد أُطْلِقَت بالرغم من القيود الرسمية المفروضة عليها، وأكبر الظن أن لبعثة ملنر دخلًا في تقرير هذه الحرية التي بدونها يَعِزُّ على البعثة فهم الموقف على حقيقته، كما أشار تقرير ملنر إلى ذلك2, وفي هذه الأثناء أصدر محمود عزمي جريدة الاستقلال "في مايو 1921, وهي الصحيفة التي حرَّرَ فيها طه حسين وكتب مقالاته بعد عودته من باريس، واتَّسَمت هذه الصحيفة بخلوِّها من العنف الذي أثر عن جريدة "الأخبار", ثم نقل امتياز "الاستقلال" فيما بعد إلى جبرائيل تقلا صاحب "الأهرام"، ومن اسم "الاستقلال" يبين ارتباطها بالفترة التي نشأ فيها الخلاف بين الوطنيين على مسائل المفاوضات"3. ولعل في ذلك ما يفسِّرُ مفهوم طه حسين لمهمته في الصحافة المصرية بعد الثورة، ذلك أن العلماء والمفكرين "سيكونون هم الذين يحققون التوازن بين الساسة حين يختلفون، وسيقضون بينهم فيما يضطرون إليه من الاختلاف"4, ولذلك آثر الصحف "المعتدلة" التي لا تميل إلى جانب متطرف، فيكتب في "الاستقلال" و"الأهرام" مقالات يتناول فيها السياسة المصرية العامة ويذهب   1 الدكتور عبد اللطيف حمزة: المدخل في فن التحرير الصحفي ص218. 2، 3 الدكتور إبراهيم عبده: تطور الصحافة من205. 4 مذكرات طه حسين ص258. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 إلى أن "الاستقلال وسيلة لا غاية. إننا نطلب الاستقلال لتكون لنا الحرية الكاملة في تدبير حياتنا والأخذ من لذَّاتها المختلفة بأعظم نصيب, نطلب الاستقلال لنسعد لا لنكون مستقلين"1. وتأسيسًا على هذا الفهم يذهب طه حسين في اتجاه مدرسة الجريدة فيكتب افتتاحيات يدعو فيها إلى "عناية المصريين بتاريخ مصر"2، كما ينشر في "الأهرام" الكثير من المقالات عن الحضارة التي يجب أن يكون الاستقلال وسيلة إليها3. ويكتب مقالات عَمَّا ينبغي أن يُبْذَلَ في سبيل الفنون والعلوم والآداب كسبيلٍ إلى الحضارة4, ذلك أن طه حسين قد اشترك في البيئة الصحفية الثانية في الوقت الذي "ظهر فيه نشاط مصر كلها للسعي إلى الاستقلال والإلحاح فيه, والمطالبة بأن تعترف لها الأمم به وتقرها المم منه على ما تريد, في الوقت الذي كان المصريون يثورون فيه على ضفاف النيل ليظفروا باستقلالهم السياسي يضحون في سبيل ذلك بالأنفس والأموال"5، ويذهب طه حسين إلى أن هذا الاستقلال وسيلة وليس غاية في ذاته، فالنهضة المصرية لا ينبغي أن تكون "كلامًا ولغوًا، ولا محاولة من هذه المحاولات التي لا تجدي وإنما هي حقيقة واقعة تصوّر شعبًا قد استيقظ بعد نوم، ونشط بعد فتور، ووصل جديده بقديمه, وأبى إلا أن يكون هذا الجديد ملائمًا لذلك القديم"6، لذلك ينظر طه حسين إلى تصريح 22 فبراير 1922 على أنه "أتاح لمصر مظاهر الاستقلال وشيئًا من حقائقه, مهما يكن قليلًا فإن له ما بعده" ولكن السعديين كانوا ينكرون بهذا التصريح ويرونه شرًّا ونكرًا ويرون قبوله جريمة وإثمًا"7. وإذا كان التنظيم الحزبي، نتيجة توزع طرائق النظر إلى الأهداف العليا, والاختلاف على تفاصيل الحركة الوطنية، قد أدَّى إلى تنظيم الاشتغال بالسياسة من حيث البرامج والعمل، فإن هذا التنظيم كانت له اتجاهات ومُثُل، فاتجه الوفد في العهد البرلماني من تاريخنا المعاصر نحو نظام وأهداف "الحزب الواحد" الذي عرفته بعض الأمم في الطور من تاريخ العالم الذي تلا الحرب العالمية الأولى8, وتألَّفَ حزب الأحرار الدستوريين، قبل صدور الدستور   1 الأهرام في 27 فبراير 1922، 1، 3، 5 مارس 1922. 2 الأهرام في 7 فبراير 1922. 3 الأهرام في 21 أبريل 1922. 4 الأهرام في 26 أبريل 1922. 5، 6 الدكتور طه حسين: "حديث المساء"، كوكب الشرق في 28 مارس 1934. 7 مذكرات طه حسين ص 258. 8 محمد شفيق غربال: تاريخ المفاوضات جـ1 ص116. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 للدفاع عنه كما وضعته اللجنة التي نيط بها وضعه1. وللحزب أشباه في الأحزاب السياسية الفرنسية من حيث فلسفة برنامجه، ومن حيث اضطراره -في أثناء هذه الفترة من تاريخنا- للعمل في الحكم أو في المعارضة مشتركًا مع غيره، "وكان على العموم حزب موازنة وتلطيف"2, ويصدر هذا الحزب جريدة "السياسة" في 30 أكتوبر 1922, يرأس تحريرها الدكتور محمد حسين هيكل، ويشترك في تحريرها طه حسين ومحمود عزمي وتوفيق دياب وغيرهم. وتتضح رسالة الحزب من العنصر النفسي لهذه الصحيفة، والذي يمثل غرضًا مزدوجًا في كيانها الصحفي وهو: "الدفاع عن المشروع الذي وضعته لجنة الدستور حتى يصدر, والحرص على أن تحقق المعاهدة التي تعقد مع إنجلترا إكمال استقلال مصر وكفالة حقوقها في السودان"3 وتتوسَّل في سبيل ذلك بتوجيه الرأي العام وتنويره, والدعوة إلى هذا العنصر بأسلوبٍ يقترب من أسلوب "الطان" الفرنسية؛ أسلوب التعقل والاعتدال4. ومن هذا العنصر النفسي وذلك الأسلوب، يبين الامتداد الفكري لمدرسة "الجريدة", ومُثُلُها التي تتحمَّس لها وتجمع من حولها الآراء، وعنايتها بالإرشاد والتثقيف والتوجيه والتجديد في "الأسلوب والموضوع"5 فخرجت عن تلك الدائرة الضيقة التي كانت الصحافة فيها قاصرة على "ذكر الحوادث السياسية" في الداخل أو في الخارج"6. وأفردت "صحائف للأدب والفن والزراعة والسيدات"7. وفي هذه الصحيفة يواصل طه حسين رسالته التي انتهى إلى تصورها في "الجريدة"؛ فالإمام الذي جمع الجاهلين في شخصه, وحاول أن يجمعهما في حزب الأمة -جاه العلم والعقل وجاه العصبية والغنى8, هو نفس الإمام الذي حاول نفس الجمع في حزب الأحرار الدستوريين، فهو أستاذ لطه حسين   1 الدكتور حسين هيكل: مذكرات جـ1 ص145. 2 محمد شفيق غربال: نفس المرجع ص116. 3 السياسة في 5 نوفمبر 1922, عبد العزيز شرف: الدكتور محمد حسين هيكل صحفيًّا ص124. 4 المرجع نفسه ص124 الدكتور حسين هيكل: نفس المرجع ص150. 5، 6، 7 المرجع نفسه ص 142, السياسة في 2 نوفمبر 1922. 8 من كلمة محمد شفيق غربال في كتاب "الدكتور محمد حسين هيكل" أشرف عليه: أحمد لطفي السيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 و"للشباب الناهض المفكر كله"1 يتخذ من ألفاظ مقالاته "نموذجًا للكتابة, ومن معناها نموذجًا للتفكير"2, ويصبح طه حسين من "أنصار الجديد في قصد واعتدال"3، وفي ذلك تفسير ارتباطه بالأحرار الدستوريين وصحيفتهم التي نرجُِّح أن تسميتها تعود إلى محرر "الجريدة" الذي ترجم لأرسطو، فالسياسة عند أرسطو هي "أشرف العلوم"؛ لأنه يعرِّفُها بأنها تدبير المدينة ليكون سكانها فضلاء، ومن هذا التعريف ترجع إلى السياسة سائر العلوم، أو كما قال أرسطو: إن السياسة تبيِّنُ ما هي العلوم الضرورية لحياة فضلاء"4. ولعل في ذلك ما يبين العنصر النفسي الذي قامت عليه صحيفة "السياسة", وهو العنصر الذي جعل طه حسين ينظر إلى زملائه في تحريرها على أنهم "مصلحون ودعاة إلى التجديد، وهم أحرار ودعاة إلى الحرية، وهم محبون للذوق حين يفكرون وحين يعملون، وهم أباة حريصون على الكرامة الفردية والاجتماعية، لهم لون خاص يمتازون به ويعرفون بين الطبقات المختلفة والأصناف المتباينة من الناس، يتخذهم خصومهم أحيانًا هزؤا وسخرية، ولكنهم على ذلك كله يقدرونهم ويتأثرون خطاهم ويحسدونهم في ما يسخرون منهم من أجله"5. وتأسيسًا على هذا الفهم، فإن اتجاه طه حسين إلى صحيفة "السياسية" يمثِّلُ اتساقًا مع مفهومه لدور "العلماء والمثقفين من أبناء هذا الوطن, فهم قد عرفوا تجارب الأمم, وعرفوا حقائق العلم, واستطاعوا أن يميزوا بين ما يمكن من الأمر وما لا يمكن, وهم القادرون على أن يقودوا الشعب إلى الخير ويسلكوا به قصد السبيل"6. على أنه لم ينفق في مصر شهورًا بعد عودته حتى تبيَّنَ أنه "كان واهمًا في كل ما قدر"7 وأن العلماء والمفكرين "ناس من الناس يتأثرون بالجماعات التي يعيشون فيها, فيخطئون مثلها ويصيبون, بل هم قد يرون الخطر ويعمدون إليه متابعين للجماعات التي يذهبون مذهبها أو يرون رأيها"8. ومهما يكن من شيء, فإن اتجاهات صحيفة "السياسة" تتسق مع مفهومه لمهمته في الصحافة، والتي تقوم على الملائمة "بين نتائج العلم على اختلافها, وبين حاجات الناس وطاقاتهم واستعدادهم للتطور والمضي في سبيل الرقي"9. وهي المهمة التي تحدد نوعية مقالاته في هذه الصحيفة، فهو معني بالأدب   1، 2، 3 حديث الأربعاء جـ2 ص49. 4 لطفي السيد: قصة حياتي ص169, عبد العزيز شرف: مرجع سبق ص276. 5 حديث الأربعاء جـ2 ص51. 6، 7، 8 مذكرات طه حسين ص235. 9 المرجع نفسه ص253. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 والثقافة العامة أول الأمر، متَّجِهٌ إلى السياسة والنزال بعد ذلك, وهو يبتدع فنونًا جديدة لمقاله، نجد منها ما يمكن أن نسميه "بالعمود الثقافي" في "حديث الأربعاء"1, والاتجاه نحو قضايا التعليم وشئونه وغاياته2، وحرية الفكر والرأي3 وقضية الجديد والقديم4, وفي "السياسة" يكتب كذلك المقال الرئيسي موقعًا في كثير من الأحيان، وقد يتناول قضية اجتماعية كالتعليم5, كما قد يتَّجِه اتجاهًا سياسيًّا أو نزاليًّا كما سيجيء, ويكتب "المقال الافتتاحي" للصحيفة: "حديث اليوم" مكان الدكتور هيكل في بعض الأحيان6، ولكنه يوقعه، ويتخذ له عناوين تميزه، وعن هذه الصحيفة عُرِفَ التهكُم السياسي إن صح التعبير، في مقالات طه حسين7 الصحفية، ولم يلبث المفهوم الأرسطي "للسياسة" أن وسم مقالاته بسمات "التنوير" و"التثقيف" و"التصوير" و"النقد" في صفحة "الأدب" التي كان يحررها طه حسين، والتي وسمت صحيفة "السياسة الأسبوعية"، بميسها منذ صدورها في مارس 1926. ويذكر الأستاذ حافظ محمود8 أن إدارة جريدة "السياسة" اليومية لاحظ أعضاؤها رواجها يوم الأربعاء الذي تظهر فيه الصفحة الأدبية ولم يكن رواج قراء فقط، ولكنه كان رواج أفكار يرسل بها كُتَّاب وقرّاء هذه الصفحة، ومن هنا نشأت فكرة إصدار "السياسة الأسبوعية". على أننا نلاحظ كذلك ارتباطًا بين توقيت إصدار "السياسة الأسبوعية" التي صدرت في مارس 1926، وبين قضية فكرية كان بطلُها طه حسين ونعني قضية "الشعر الجاهلي" الذي صدر في نفس العام، وانتصر فيها كُتَّاب المقال الصحفي من مدرسة التجديد على اختلاف نزعاتهم الحزبية لحرية الفكر, فكان إنشاء هذه الصحيفة الأسبوعية في تلك الأثناء تأكيدًا لحرية الفكر، وتحريره من قيود السياسة. وهو ما نلاحظه في مقال لطه حسين بالعدد الأول عن "الشعر الجاهلي والشك فيه"9, الأمر الذي يوجب إطلاق وظيفة التثقيف في الصحافة المصرية من كل القيود والمؤثرات الحزبية. ونتيجةً لذلك أتاحت "السياسة الأسبوعية" و"البلاغ الأسبوعي" من   1 السياسة في أول نوفمبر 1922. 2 السياسة في 14 نوفمبر 1922. 3 السياسة في 29 نوفمبر 1922. 4 السياسة في 20 ديسمبر 1922. 5 السياسة في 14 نوفمبر 1922. 6 السياسة في 11 يناير 1923, 26 يناير 1923. 7 الدكتور إبراهيم عبده: مرجع سابق ص205. 8 من حديث معه, عبد العزيز شرف: مرجع سابق ص218. 9 السياسة الأسبوعية في 13 مارس 1926. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 بعد، للكُتَّاب قسطًا من الحرية لم يتح لهم في الصحف اليومية ليعالجوا موضوعات تتعلق بالنهضة المنشودة. ولم يلبث طه حسين أن عُيِّنَ رئيسًا لتحرير جريدة "الاتحاد" لسان حزب الاتحاد، الذي أوعز القصر بإنشائه في سنة 1925، ويذكر الدكتور هيكل أن "الصحف أعلنت أن جريدة الاتحاد ستظهر لسانًا لحزب الاتحاد، وأن المسئولين عن هذا الحزب قد اختاروا صديقي وزميلي في تحرير السياسة الدكتور طه حسين، رئيس تحرير لجريدتهم، كما عُيِّنَ يحيى باشا إبراهيم رئيسًا للحزب، وعلي ماهر باشا وكيلًا له. وظهرت الجريدة الجديدة فهاجمها الوفديون, وهاجموا الحزب الذي تنطق باسمه, وردت الجريدة هجومهم، وبدأ محرورها ينهضون بالعبء الملقى على كواهلهم"1, على أن هذه الصحيفة لم تلبث هي وزميلتها "الشعب" من بعد، أن خمل ذكرهما، رغم الأقلام الغنية عن علم وفهم فيهما، إذ كان حرَّرَ فيها إبراهيم المازني وغيره من الكُتَّاب النابهين2, ولعل مرجع ذلك إلى أن الحزب نفسه لم يلق استجابة من الرأي العام، بل وجد على النقيض من ذلك انصرافًا مرًّا3, وعن هذا الحزب يقول طه حسين فيما بعد: "إنما هي جماعات تتألف من أفراد لهم مآرب"4، ويذهب إلى أن حزبي "الاتحاد" و"الشعب": "حزبان شقيقان لأم وأب لم يقع بينهما خلاف, ولن يقع بينهما من ألفة ومودة ومن صلة لن تنقطع وحبٍّ لن يصيبه الصدأ، هو قول الشاعر القديم: رضيعي لبان ثدي أم تقاسما ... بأسحم داج عوض لا تتفرق5 ولعل تجربة طه حسين في صحيفة "الاتحاد" هي التي جعلته يرفض طلب صدقي باستقالته من الجامعة ليصبح رئيسًا لتحرير "الشعب" لسان حزب "الشعب" الذي أنشأه صدقي في 1930، كما تَقَدَّمَ. وفي مارس 1933 طلب إليه زعيم الوفد: مصطفى النحاس أن يكتب في "كوكب الشرق" التي كان يصدرها حافظ عوض، فقَبِلَ، وكان ثَمَّتَ ائتلاف بين الوفديين والأحرار الدستوريين ضد صدقي. ويعلل طه حسين انتقاله إلى صحف الوفد بقوله: "لقد جرت العادة أن يتغير الناس كلما تقدمت   1 الدكتور حسين هيكل: مذكرات جـ1 ص227. 2 الدكتور إبراهيم عبده: مرجع سابق 213. 3 محمد زكي عبد القادر: مرجع سابق ص56. 4 كوكب الشرق في 19 مارس 1933. 5 كوكب الشرق في 29 يوليو 1933. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 بهم السن فينتقلون من الشمال إلى اليمين, وينتقلون من الثورة إلى الاعتدال, أما أنا فقد انتقلت من اليمين إلى الشمال، لقد وجدت الأحرار الدستوريين والسعديين قد ائتلفا, وكنت أفهم أنني أكتب معهما هنا تحولت إلى الوفد"1. وتحتفي صحيفة "كوكب الشرق" بانضمام طه حسين إليها حفاوة ذهبت إلى اعتباره الزعيم الفكري لحزب الأغلبية، وموجِّه حركة الجماهير في هذه الصحيفة التي أصدرها حافظ عوض وفديةً في 21 سبتمبر 1924, فآخت "البلاغ" في اتجاهها الحزبي, وأعلن صاحبها بأن شعارها سيكون "العمل المتواصل لتحقيق الأمنية العظمى أَلَا وهي استقلال مصر استقلالًا صحيحًا"2, وقد لقيت هذه الصحيفة متاعب جَمَّة من السلطات المحلية كلما اعتُدِيَ على الدستور وتوقفت الحياة النيابية3. وتحتفي "كوكب الشرق" بانضمام طه حسين إليها في المحنة الدستورية الصدقية، فتنشر في صفحتها الأولى على عددين متتاليين هذا التنويه4: "الكوكب في 12 صفحة واشتراك الدكتور طه حسين في تحريره". وتحت هذا العنوان تقول الصحيفة أنها ستظهر في "اثتني عشرة صفحة متنوعة الأبواب والموضوعات"5 و"قد كان من توفيق الله أن أتاح للكوكب فضلًا من لدنه سبحانه، باشتراك حضرة الأستاذ الكبير الدكتور طه حسين عميد كلية الآداب السابق في تحريره يوميًّا، ولن تقتصر آثار الدكتور طه حسين على ما تفيض به موهبته من الفصول السياسية الرائعة، بل ستعُمّ أيضًا الصفحات الأدبية والفنية والاجتماعية"6، و"يظهر الكوكب بثوبه الجديد هذا يوم الخميس المقبل 9 مارس "1933", وسيزدان العدد الأول منه بتصريح تفضل فوعد به حضرة صاحب الدولة الرئيس الجليل مصطفى النحاس باشا"7. وتصدر "كوكب الشرق" في 9 مارس، متضمنة في الصفحة الأولى "تصريح الرئيس الجليل, تحية دولته للكوكب في ثوبه, وللأستاذ طه حسين بخط يده"8 ويتضمَّن هذا التصريح: "وإني لمغتبط باشتراك النابغة الكبير الدكتور طه حسين في تحريره على المبدأ الوفدي الذي دلت الحوادث على   1 من حديث معه، أجراه أنور الجندي: الصحافة السياسية في مصر. 2، 3 الدكتور إبراهيم عبده: المرجع السابق ص209. 4، 5، 6 كوكب الشرق في 5، 6 مارس 1933. 7 المرجع نفسه. 8 كوكب الشرق في 9 مارس 1933. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 أنه مبدأ الحق ودين الأمة1 الذي قامت عليه في نهضتها نحو غايتها السامية في الحرية والاستقلال". ويعاهد طه حسين قراء "الكوكب" على "الإخلاص في القول والعمل والصدق في الرأي، والمضاء في العزم، والقوة على المقاومة, والاستعداد لاحتمال المكروه في سبيل الواجب والوطن"2. ويحضر زعيم الوفد محاضرته بالجامعة الأمريكية في الأدب العربي3, ويقابل طه حسين مقابلة شعبية، وتنوه "الكوكب" بلقاء "الوطنية والأدب", ولا عجب أن يفعل الزعيم وصحبه ذلك حتى تقرَّ عيونهم وتمتلأ نفوسهم غبطة بزعيم التحرير للسان حالهم، وزعيم الثقافة في بلد يجاهدون لتحريره واستقلاله، والثقافة أكبر أساس من أسس الحرية والاستقلال"4. ومن الأصداء التي تمثلها رسائل جمهور القراء إلى الصحيفة، الذين "ابتهجوا بظهور الكوكب في ثوبه الجديد, ورحبوا بالأستاذ الكبير الدكتور طه حسين"5 نتبين أثر طه حسين في جمهور صحيفة حزب الأغلبية، وتأثره بهم في مقالاته الصحفية التالية على أساس من هذا التأثر, وهكذا تكتمل الدورة الاتصالية، كما يقول علماء الاتصال بالجماهير6, فلم يكد "يصل "الكوكب" إلى قرائه متضمنًا الإعلان عن انضمام طه حسين، حتى "انهالت الرسائل البرقية والبريدية من مختلف الجهات"7، ومن هذه الرسائل نتبين "نموذج" طه حسين في أذهان جمهور صحيفة الأغلبية الوفدية فهو "زعيم الثقافة الحديثة ورافع لواء التفكير الحر، لا في مصر وحدها بل في الشرق العربي"8 وطه حسين "رجل سياسي حكيم"9 و"كاتب كبير"10 و"من أمراء البيان"11 و"خريج كتاب الله"12. و"الباحث الناقد"13 ... إلخ. انظر ملحق الصور   1 نشرت جريدة "الاتحاد" لسان الوزارة في اليوم التالي 10 مارس تعليقًا على تحية النحاس للدكتور طه حسين, وانصبَّ التعليق على أن النحاس لم يقل أن "دين الأمة هو الإسلام", وعلَّقَت "كوكب الشرق" على ذلك بأن "الاتحاد" لا تفهم معنى كلمة الدين ومدلولها, وأنه يجوز للواحد أن يقول بأن الوطنية ديني والإخلاص ديني كما يقول الإسلام ديني. 2 كوكب الشرق في 14 مارس 1933. 3 كوكب الشرق في 10 مارس 1933. 4 كوكب الشرق في 11 مارس 1933. 5 كوكب الشرق في 6 مارس 1933. 6 الدكتور إبراهيم إمام, الإعلام والاتصال ص93. 7 كوكب الشرق في 6 مارس 1933. 8، 9 المرجع السابق. 10، 11، 12 كوكب الشرق في 7 مارس 1933. 13 المرجع نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 ويبين تأثر طه حسين بهذه الأصداء في رسائله الصحفية، من "عهد"1 عاهد فيه القراء في أول مقالٍ له بالصحيفة الوفدية، يقول فيه: ".. وأنا واثق مطمئن إلى أني لم أبلغ ما يأملون في ويرجون مني, فلن أقصِّرَ عن الإخلاص الذي ليس فوقه إخلاص، ولن أفتر عن النصح الذي ليس بعده نصح، ولن أضنَّ بقوة أملكها أو جهد أقدر عليه, وإنما أبذل هذا كله صادق الرأي ماضي العزم، قوي الأمل، كأحسن ما يكون الرجل استعدادًا لاستقبال الخطوب، واحتمال الآلام في خدمة هذا البلد الحزين"2. ويمضي مقال طه حسين في "كوكب الشرق" محققًا لهذا "العهد" متوسلًا -كما يقول حافظ عوض3- "بقلمه الفياض، وإيمانه الفياض، وعقله الفياض، في الصحافة المصرية وفي السياسة المصرية، في الأزمة المصرية الحالية"4. على أن الخصومة بين طه حسين وصدقي ليس مصدرها، كما زعمت الصحف الوزارية فصله من الجامعة5، وموهمةً بأن هذه الخصومة "انتقام لنفسه"6؛ إذ كان في مقدوره أن يظل "عميدًا لكلية الآداب وإلى أكثر من ذا المنصب لو أراد"7, ولكنه أراد مصلحة الوطن وعمل على استقلال الجامعة وإبعادها عن أهواء الوزارة وشهوتها الحزبية, في سبيل ذلك ضحَّى راضيًا مغتبطًا بمنصبه الخطير"8. ومن ذلك يبين أن طه حسين يتحول بسرعة متعاقبة إلى ارتباط بالوفد وجماهيره وصحافته، فينتقل من التجديد الفكري إلى التنشئة الاجتماعية والاقتراب من مشكلات المجتمع، التي تجسدت في الأزمة الاقتصادية، وما نجم عنها من تهديد للعقائد الثابتة عند الناس من خلال التبشير، وفساد الحكم9 ويتخذ من هذه المشكلات مواقف عنيفة جريئة، يساق بسببها إلى النيابة والقضاء، مع الدكتور هيكل وعبد حسن الزيات وحفني محمود، ويصدر الحكم عليهم بالغرامة وتعطيل السياسة شهرًا واحدًا10. ثم يشتري طه حسين امتياز جريدة "الوادي" بعد استقالته من "كوكب   1، 2 كوكب الشرق في 9 مارس 1933، انظر ملاحق الكتاب. 3، 4 كوكب الشرق في 8 مارس 1933. 5، 6 الشعب في 10 مارس 1933. 7، 8 كوكب الشرق في 11 مارس 1933. 9 انظر حسين هيكل: مرجع سابق ص353. 10 كوكب الشرق في 23 أبريل 1933. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 الشرق" في أبريل 1934، ويشرف على تحريرها حتى ديسمبر 1934، إذ أعيد إلى الجامعة في الوزارة النسيمية, وقد أصدر هذه الصحيفة على نفقته في أعقاب الأزمة الاقتصادية، مواصلًا مهمته الصحفية في "كوكب الشرق", وتجديد المجتمع إلى جانب التجديد الفكري والثقافي، وينتقل معه إلى "الوادي" تلاميذه الذين عملوا معه في "كوكب الشرق", وقد خسر طه حسين في "الوادي" ثلاثة آلاف جنيه كانت دينًا عليه لموزع جريدته "المعلم الفهلوي"، وربما لبعض أصدقائه1، ولم ينقذه من هذه الأزمة إلا عودته للجامعة، وبداية الانفراج السياسي. ومن ذلك يبين أن طه حسين قد تألَّفَ ككاتب مقال صحفي ولم ينجح كصاحب جريدة أو مدير، ولذلك يواصل الكتابة والتحرير في الصحف، قبل عودته للجامعة، وبعد عودته، فيكتب في "الرسالة" التي أصدرها الزيات في 15 يناير 1933 بالاشتراك مع طه حسين وأعضاء لجنة التأليف والترجمة والنشر, وكانت خطتها "ربط القديم بالحديث, ووصل الشرق بالغرب"2. ويصور الزيات مولد "الرسالة" واللقاء الذي تَمَّ بينه وبين طه حسين بشأن إصدارها في وقتٍ كانت المجلات الهزلية تطغى على الصحف الثقافية بعد تحوّل السياسة الأسبوعية إلى الاتجاه الحزبي، يقول: "في ذات عشية من عشايا نوفمبر من عام 1932 زرت أخي طه حسين في داره بالزمالك, وكنت منذ أربعة أشهر قد رجعت من العراق بعد أن أغلقت دار المعلمين العليا ببغداد, وكان هو قد أنزل عن كرسيه في كلية الآداب من جامعة فؤاد, فقلت له بعد حديث شهي من أحاديث الذكرى والأمل؛ ما رأيك في أن نصدر معًا مجلة أسبوعية للأدب الرفيع؟ فضحك ضحكته التي تبتدئ بابتسامة عريضة، ثم تنتهي بقهقهة طويلة، وقال: وهل تظنك واجدًا لمجلة الأدب الرفيع قراء في مجتمع ثقافة خاصَّتِه أوربية، وعقلية عامته أمية، والمذبذبون بين ذلك لا يقرأون -إذا قرءوا- إلّا المقالة الخفيفة والقصة الخليعة والنكتة المضحكة؟ فقلت له: لعل من بين هؤلاء طبقة وسطى تطلب الجد فلا تجده، وتشتهي النافع فلا تناله.. فقال وهو يهز رأسه ويمط شفتيه: حتى هذه الطبقة، إن كانت، ستقبل على الجد النافع أول الأمر لأنه تغيير وتنويع، فإذا ما ألح عليها، لا تلبث أن تسأمه وتزهد فيه.. والمثل أمامك في السياسة الأسبوعية. "فقلت له: ربما كان لإقبال القراء على السياسة الأسبوعية، ولإدبارهم   1 محمد صبيح: "طه حسين وعصره" مجلة الثقافة ديسمبر 1973. 2 الدكتور إبراهيم عبده: مرجع سابق ص215. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 منها سببان "آخران التغيير والسأم.. كان هذه المجلة أول ما صدرت قوية عفية خصبة فأصبحت حاجة، ثم اعتراها ما يعتري الكائن الحي من الوهن والانحلال فصارت فضيلة. "فقال طه بعد نقاش طويل، أنت وشأنك.. أما شأني فهو المقال الذي أكتبه، والرأي الذي أراه.. وكان يظاهرني على تفاؤلي أصدقائي الأدنون من لجنة التأليف والترجمة والنشر، فكانوا بهذه الظاهرة نقطة الارتكاز ومبعث المدد"1. وحين عُيِّنَ طه حسين في "كوكب الشرق" خُوطِبَ في شأن الزيات فقبل نيابة عنه، ولكن الزيات هاله الأمر إشفاقًا على المجلة الوليدة التي أحاطت بمولدها الأماني، فيعرض المسألة على أعضاء لجنة التأليف الذين أيدوا الزيات فترك طه حسين الرسالة مغضبًا، واضطلع بها الزيات يعاونه رجال الفكر2 من أعضاء لجنة التأليف, ثم أخذ طه حسين ينازل توفيق الحكيم في "الوادي" تحت عنوان "أخلاق الأدباء" نزالًا هدَّدَ بقطع الصلة بينهما، ولما كانت "الرسالة" قد شهدت مولد الحكيم الأدبي, ونشرت تقديم طه حسين له، فقد نشر الزيات فيها مقال "أخلاق الأدباء" ليعرف قراء الرسالة النهاية بعد أن عرفوا البداية على صفحاتها, فأحنق ذلك طه حسين وهاجم الزيات أيضًا في "الوادي" تحت نفس العنوان "أخلاق بعض الأدباء", فرَدَّ عليه الزيات تحت عنوان "بين أسلوبين" في سنة 1934, وكانت هذه المقالات من المساجلات الأدبية التي كان لها دويّ في ذلك الحين شغلت الرأي الأدبي العام. كما شهدت "الرسالة" المقالات النقدية والقومية لطه حسين بين سنتي 1936، 1939، وشهدت معركة مع العقاد "لاتينيون وسكسونيون", وفصول "على هامش السيرة" قبل نشرها في كتاب. على أن احتجاب "الرسالة" من الأمور التي أسف لها طه حسين أسفًا عميقًا، في مقال بعنوان "لا بأس"3 يقول فيه: "رأيت مصرع صحيفتين   1 أحمد حسن الزيات: وحي الرسالة جـ4 ص72، 73, ومما يذكر في صدر صدور الرسالة أن الخطاط الذي عُهِدَ إليه أن يعلن مولدها على الجدران نظر في الإعلان الذي كلف بكتابته فإذا به مسطور على هذا النحو: "مجلة الرسالة, يحررها الزيات وطه حسين، وعرت الخطاط هزة أمام الاسمين الكبيرين, ورأى من سوء الأدب أن يكتبهما بلا ألقاب عرفها الناس لهما؛ فتطوع بإضافة الأستاذية وكتب مجودًا: مجلة الرسالة، يحررها الأستاذين الزيات وطه حسين, وكانت "قفشة" تلقفتها مجامع العاصمة, واحتشدت لها قدرتنا على التفكه والدعابة، فكان ذلك خير إعلان عن المجلة الجديدة مكن لها من الرواج- الدكتورة نعمات فؤاد: قمم أدبية ص181. 2 المرجع نفسه ص83. 3 الأهرام في 23 فبراير 1953. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 أدبيتين في شهر واحد أو في أقل من شهر, فضاق صدري ومن حَقِّه أن يضيق، ثارت نفسي ومن الواجب عليها أن تثور، ولم أكتب في هذه الصحيفة أو تلك منذ عهد بعيد جدًّا، فلم أغضب لعلمي إن كان لي علم, ولا لفني إن كان لي فنٌّ، إنما غضبت لعقلي، وأحسب أن لي عقلًا، فقد كان يجد في هاتين الصحيفتين عزاء ومتاعًا، وغضبت لعقول فريق من المصريين والشرقيين كانوا يجدون فيهما مثل ما كنت أجد من الغذاء والمتاع"1. إلى أن يقول: "كنت أذكر كيف قهر الأدب في بعض الأوقات السياسية والأحزاب وكيف انتصر عليها، وكيف كان الناس يشترون بعض الصحف سرًّا يختلسون شراءها اختلاسًا, ويدسونها حتى لا يراها الناس؛ لأن الزعماء كانوا قد حذروا من قراءة تلك الصحف. لكن الأدب كان أقوى من الزعماء، فكان الناس يخالسون بشراء الصحف، ويفرغون لقراءتها حين يخلون إلى أنفسهم, وحين يأمنون عيون الرقباء"2. ويعقِّبُ العقاد على هذا المقال بعنوان: "وأي بأس"3 يتحدث فيه عن أثر احتجاب المجلتين: الرسالة والثقافة، على الحياة الثقافية التي شارك فيها هذا الجيل من المقاليين. ذلك أن مجلة "الثقافة" كانت قد توقفت قبل توقف "الرسالة"، بعد ست عشرة سنة من صدروها، فهي من الإنجازات الثقافية في صحافة طه حسين، التي انفردت بها لجنة التأليف بعد انفصالها عن "الرسالة", فصدرت في 3 يناير 1939 لصاحب امتيازها أحمد أمين "تتقدَّمُ للعالم الشرقي مؤمنة بقدرتها بنفسها وبأصدقائها, شاعرة بتبعتها, مقدرة لواجبها وثقتها بقرائها". وكان طه حسين قد أعيد للجامعة وترك العمل في الصحف السياسية اليومية، واستمرَّ في عمادة كلية الآداب حتى مايو 1939، فكان اشتراكه في تحرير "الثقافة" هو العمل الصحفي المنتظم بعد تركه العمل في "الوادي" اليومية، ليواصل رسالته مع لجنة التأليف الغنية "بأعضائها وتخصصها، ففيها العالم من كل صنف، وفيها الأديب من كل نوع، وفيها الفنون في كل فن، حصلوا كثيرًا من العلم والأدب, فرأوا من واجبهم أن يشركوا في علمهم وأدبهم أكبر عدد ممكن في مختلف الأقطار"4. وفي مجلة "الثقافة" تتحدد الوظيفة النقدية في مقال طه حسين التي تلقي استجابة من الرأي العام الأدبي، كما يبين من الأصداء المتمثلة في رسائل القراء، ومنها نجد رسالة من "علي زكي, وكيل مديرية الغربية"5 يقول   1 الأهرام في 23 فبراير 1953. 2 الأهرام في 25 فبراير 1953. 3 مجلة الثقافة 3 يناير 1939. 4، 5 مجلة الثقافة 7 فبراير 1939. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 فيها: "قد يربط الله بين النفوس من غير طريق الرباط بين الأجساد, وقد تتعارف الأرواح وتأتلف دون حاجة إلى ما ألفه الناس من المقابلات والمحادثات"1. ومن ذلك تَبِينُ العلاقة النفسية بين طه حسين وجمهور قرائه، والتي دفعت به إلى أن يرأس تحرير مجلة "الكاتب المصري" التي صدرت في أكتوبر 1945 عن دار الكاتب المصري للطباعة والنشر، والتي استمرَّت لمدة ثلاث سنوات, حدَّدت خلالها مفهوم الصحافة الأدبية عند طه حسين في محورين يستقطبان كل أبحاثها هما: العرض والنقد، عرض الفكرة الجديدة أو الكتاب الجديد أو الأثر القديم، ومن خلال هذا الاحتكاك بين العرض والنقد يرسم طه حسين مفهوم للصحيفة الأدبية أو الفكرية العامة، لإغناء الفكر المصري وتأصيله من خلال التعريف والتصحيح والتقويم في النطاق الفكري أو الخلقي على السواء. وفي "الكاتب المصري" يبين الأثر الفرنسي في ثقافة طه حسين, والنموذج الذي تمثَّله للصحافة الفرنسية، والذي ظهرت آثاره من قَبْل في صفحات المجلات الفكرية العامة: "المجلة الفرنسية الجديدة"2 التي كانت تتيح لكُتَّابها معالجة موضوعات أخرى غير الأدب تظهر فيها مقدرتهم التحريرية, وتضمَّنَت فنونًا أخرى من النقد الموسيقي والفني3، عني بها طه حسين في مجلته، التي كانت على اتصال وثيق كذلك بمجلة "الأزمنة الحديثة"4 التي يديرها سارتر، والتي ناقش طه حسين دعوتها إلى الالتزام والمذهب الوجودي في الأدب والفكر، من خلال الريبورتاج والوثيقة ومقال التحليل الاجتماعي. وقد نشرت "الكاتب المصري" مقالات لسارتر كان يخصها بها، وكان بعضها ينشر فيها وفي "الأزمنة الحديثة" في وقت واحد5. وعني رئيس تحرير "الكاتب المصري" بالشهريات التي تصل القارئ العربي بالعالم مثل: شهرية السياسة الدولية - من وراء البحار - ظهر حديثًا - في مجلات الشرق - شهرية المسرح والسينما - في مجلات الغرب - إلى جانب المقالات النقدية والاجتماعية والسياسية لطه حسين في هذه المجلة. ومن هذه المجلة يبين العنصر النفسي للكيان الصحفي فيها، من تسميتها   1 مجلة الثقافة 7 فبراير 1939. 2، 3، 4 Gaetan Picon: Panorama de la Nouvelle Litterature Francaise, p. 280. 5 الكاتب المصري إعداد: نوفمبر، أكتوبر، يونيو 1947. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 باسم "الكاتب المصري"؛ لأن هذه المجلة -كما يقول طه حسين- تستمد "برنامجها وخطتها وسيرتها من تاريخ مصر القديم والحديث، وعن المهمة التي نهضت بها مصر منذ شاركت في الحضارة الإنسانية العامة"1, ولذلك يتوسَّل طه حسين بهذه المجلة الفكرية في تحقيق "صلة ثقافية بأدق معاني هذه الكلمة وأرفعها بين الشعوب العربية أولًا, وبين هذه الشعوب وأمم الغرب ثانيًا"2. فهذه المجلة الفكرية تُحَدِّدُ مفهوم طه حسين للثبات والاستقرار، والنمو والتطور والارتقاء، في تأصيل الشخصية المصرية, وهو المفهوم الذي ذهب بمجلته إلى أن تحرص أشدَّ الحرص على العناية بهذين المقومين للأدب العربي, فتعنى بقديم هذا الأدب وتدرس تاريخه وتكشف أسراره وتحيي آثاره, وتعنى بالأدب الحديث الذي ينتجه الممتازون من كُتَّابِ الشرق العربي تذيعه وتدرسه وتنقده وتشجعه وتجعله غذاء لعقول العرب وقلوبهم وأذواقهم، وتهيئه لعقول غير العرب من أبناء الأمم الأخرى المتحضرة؛ بحيث يمكن أن ينتقل إلى اللغات الأوربية المختلفة3". ولذلك عُنِيَت "الكاتب المصري" بالآداب الأجنبية تُعَرِّفُها إلى القرَّاء بالدرس والنقد والتحليل، واتفقت مع "طائفةٍ من كبار الكُتَّاب العالميين بأن يوافوها بمقالاتهم ودراساتهم؛ بحيث تُكْتَب خصيصًا لها، وتنشر في اللغة العربية قبل نشرها بأي لغة أخرى"4. كذلك حاولت "الكاتب المصري" أن "ترفع الأدب عن هذه الخصومات التي تثيرها منافع الحياة العاجلة بين الناس"5. ومن ذلك يبين أن طه حسين في بيئة المقال الصحفي في مصر، على الرغم من عمله في الجامعة لم يقتصر على المشاركة الصحفية أثناء فترات الابتعاد عنها, ولكنَّه ظلَّ يسهم في البيئة الصحفية عن قربٍ في أحيان كثيرة، وعن بُعْدٍ في أحيان قليلة، فكتب في "البلاغ" و"الجهاد" و"المصري" في الفترات التي لم يكن يشتغل بالصحافة فيها اشتغالًا منظمًا، وبعد ثورة 1952 يكتب في "الأهرام" و"الجمهورية" التي تولَّى رئاسة تحريرها في 16 أكتوبر 1959, فلم ينقطع عن الكتابة الصحفية إلّا حين أعجزه المرض قبل وفاته بفترة, فهو كما يقول: "لا يعفي نفسه من بعض الالتزام إلّا ليفرض عليها التزامًا آخر, ولا يفرغ من عمل إلّا ليدخل في عمل آخر"6. ونخلص مما تَقَدَّمَ إلى أن طه حسين في بيئة المقال الصحفي، كاتب من   1، 2، 3 الكاتب المصري أكتوبر 1945. 4، 5 المرجع نفسه. 6 سامي الكيالي: مرجع سابق ص116، 117. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 أبرز كُتَّاب مصر في عهود متتابعة منذ أسهم في بيئة التكوين إلى أن ختم حياته صحفيًّا يكتب "من بعيد". فمكان طه حسين ككاتب مقالي في البيئة الصحفية المصرية، يحدِّدُ الجانب الشامل في إنتاجه المتعدد النواحي، والوسائل كذلك، ذلك أن الصُّحف السياسية والثقافية هي وسيلة الاتصال الجماهيرية التي أذاعت مقالاته في الاتجاهات السياسية والاجتماعية والثقافية. والمقال الصحفي هو الشكل التحريري الذي نقل هذه الاتجاهات من خلال وسيلة الاتصال الصحفي بالجماهير, وكانت هذه الوسيلة الجماهرية مثيرة النقاش ووعاء الجدل في السياسة والثقافة والفكر. ويحدِّدُ هذا المكان من بيئة المقال الصحفي في مصر مفهوم هذا المقال على النحو الذي أَدَّتْ إليه المؤثرات الثقافية الغربية في الحياة المصرية، ذلك أن لفظ مقال Essay يدل في الأصل على "المحاولة" أو "الخبرة" أو"التطبيق المبدئي" أو"التجربة الأولية"1, وفي هذا المفهوم مشابهات من حيث البيئة التي بلورته على هذا النحو، والبيئة المصرية التي عُرِفَ فيها المفهوم الصحيح لهذه الكلمة، فالمقال وليد روح التجربة في عصر النهضة, والعناية بالخبرة الإنسانية، والاهتمام برأي الفرد، والإيمان بقدرته2. وفي الأدب الفرنسي نجد مفهومًا يقترب من هذا المفهوم لكلمة Essai, يذهب إلى أنها عمل نثريٌّ وغير سرديّ يعبر عن أفكار ذات طابع غير تكنيكي؛ فالمقال حديث يوشك أن يكون عاديًّا، يعرض الكاتب فيه على قرَّائه فكرة أو اتجاهًا3. وليس مجرد صدفة أن يكون أول من يكتب في هذا الفن اثنان من أئمة عصر النهضة هما: مونتاني وبيكون4, عندما تظهر الثورة على الفلسفة القديمة, وعلى فلسفة أرسطو, وعلى النظام العقلي، كما تركه اليونان والرومان والعرب، وهي تظهر عند بيكون الذي يستعرض حياة العقل ويستعرض الفلسفة, ويريد أن يحرِّرَ العقل أمام نفسه، كما يقول طه حسين5، ومن ذلك يبين أن فنَّ المقال مرتبط باتجاهٍ قويٍّ إلى التعقيل، بحيث لا يتأثر العقل بهذه القواعد التقليدية, وإنما يأخذ هذه القواعد واحدة واحدة فينقدها نقدًا حرًّا   1 الدكتور إبراهيم إمام: فنّ المقال الصحفي في الأدب الإنجليزي ص7. 2 د. عبد العزيز شرف: فن المقال الصحفي ص17. 3 Alberes, R.M.; Bilon Litteraire due XXe Siecle, p. 115. 4 الدكتور إبراهيم إمام: المرجع السابق ص180. 5 الدكتور طه حسين: "الثقافة الإنجليزية وأثرها في تقدم العالم "الحياة والحركة الفكرية في بريطانيا" المجموعة الأولى للمحاضرات العربية 13 مارس 1941-22 أبريل 1941. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 صريحًا، ولا يستبقي من هذه القواعد إلّا ما يثبت لهذا النقد, فما يثبت له يجب أن يبقى، وما لم يثبت له يجب العدول عنه في حرية وصراحة وفي غير تحفظ ولا احتياط1. ويتمثَّل طه حسين هذا المفهوم المقالي في تحرير العقل مما فرضته القواعد التقليدية، بحيث يمكنه أن يفكر "تفكيرًا صحيحًا مستقيمًا منتجًا"2, ويستتبع ذلك عند طه حسين، أن يتحرَّرَ العقل في التفكير دون أن يتعرَّضَ لخطر ما، ودون أن يتعرَّضَ للرقابة، ودون أن يتعرَّضَ للمحاكمة من حيث أنه قد فكَّرَ وأعلن رأيه3. على أن اتفاق طه حسين مع مقاليي عصر النهضة الأوربية، لم يصل به إلى تحديد حريّة العقل أمام العقل فحسب، وإنما ذهب إلى تحديد ماهية المقال أمام وسيلة الاتصال الجديدة بالجماهير، على النحو المستفاد من بيئته الصحفية العامة، فالصحافة هي الوعاء المادي للمقال بفنونه المختلفة، وهي لذلك تنتهي إلى وضع خطوط واضحة تفصل بين فنِّ المقال الأدبي وفنِّ المقال الصحفي، فانشعب المقال في بيئته المصرية كما انشعب في بيئته الأوربية شعبتين4: شعبة يغلب عليها الطابع الذاتي ويمثِّلُها مونتاني في البيئة الأوروبية, وشعبة أخرى تهتم بالموضوع من نواحيه المختلفة. ولم تلبث صحافة طه حسين أن انتقلت من طَوْرِ التكوين إلى طَوْرِ المشاركة العامة, فتلَقَّفَ فنَّ المقال الأدبي واستمثره كقالب جديد يصوغ فيه الأفكار، ويتَّخِذُ منه سلاحًا ماضيًا للنقد والتعقيب، وأداة فعَّالة للتوجيه والإرشاد، وقد يقصد بها إلى الإخبار والإعلام كذلك, أما المقال الصحفي فقد تنوعت موضوعاته وأشكاله عند طه حسين، يشتق موضوعاته من الحياة الواقعية، ويشتق لغته كذلك من نفس تلك الحياة الواقعية، التي يتوسَّلُ بها في الاتصال بجمهور القارئتين على اختلاف أذواقهم أو أفهامهم أو بيئاتهم أو ثقافاتهم5. ويذهب طه حسين في هذا الصدد إلى أن الخصومات السياسية قد يسَّرَت اللغة، ومنحت العقول حِدَّةً ونفاذًا رائعين، واستطاعت أن تشغل الجماهير وتعلمهم العناية بالأمور العامة, والاهتمام بها والتفكير المتصل فيها6، كما   1، 2 المرجع السابق. 3 المرجع السابق ص24، 25. 4 الدكتور إبراهيم إمام: سابق ص181، 182. 5 عبد العزيز شرف: سابق. 6 ألوان ص27. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 يذهب إلى أنَّ الخصومة السياسية قد دفعت صحف الأحزاب المختصمة إلى التنافس "فأفتنَّت فيما جعلت تنشر من الفصول"1 أو المقالات، فاستعرض الكُتَّاب الأدب القديم يحيونه بالنقد والتحليل، كما استعرضوا الآداب الأوربية الحديثة يذيعونها ناقدين ومحللين ومترجمين، وإذا هم بعد هذا كله "يرقون إلى إنشاء الدراسات التي تطول حتى تصبح كتبًا تستَقِلُّ بنفسها، وتَقْصُر حتَّى تصبح "فصولًا" تنشر في الصحف والمجلات، ثم يجمع بعضها إلى بعض"2, وفي ذلك ما يُبَيِّنُ مفهوم المقال عند طه حسين، وهو مفهومٌ تُسْتَفَاُد من ثقافته الفرنسية التي تنظر إلى المقال على أنه "أدب أفكار"3 يثير لدى القارئ غير الواعي الحاجة إلى التفسير والتوضيح4. ولعلَّ في ذلك ما يفسِّر إيثار طه حسين لكلمة "فصل" في الدلالة على مفهوم "المقال", فمن النادر أن نجد كلمة "المقال" في معجم مفرداته، بل إن المقالات الصحفية السياسية في الصحف اليومية، كان يشير في استهلالها إلى أنه يكتب "فصلًا" حول هذا الموضوع أو ذاك. فالصحف اليومية -كما يقول: قد أخذت "تنشر الفصول الأدبية تقلِّدُ في ذلك صحفًا أوروبية، ولكنها تخدع الناس وتستدرجهم إلى قراءة ما تكتب في السياسة، وما هي إلّا أن أصبحت الكتابة في العلم والأدب نظامًا تحرص عليه كل صحيفة تُقَدِّرُ لنفسها كرامة صحفية، وتريد أن يحفل بها الجمهور, وأصبح الجمهور نفسه لا يُقَدِّرُ الصحف إلّا إذا قدَّمت له مع الفصول السياسية فصولًا في العلم والفلسفة والأدب والفن"5. وتأسيسًا على هذا الفهم, فإن "الفصول الصحفية" أو المقالات الصحفية فنٌّ حضاريٌّ يقوم على وظيفة اجتماعية عملية، ويتوسَّل بلغةٍ صحفية عملية تقترب من لغة الأدب, وتمتاز بالسلاسة والواقعية والتبسيط، فالمقال الصحفيّ عند طه حسين يمثِّلُ التَّقَارُب المنشود بين مستويات اللغة: العلمي والأدبي والعملي، وهذا التقارب في نهاية الأمر دليلٌ على "تجانس المجتمع، وتوازن طبقاته، وحيوية ثقافته، ومن ثَمَّ إلى تكامله وسلامته العقلية، فمِنْ الثابت أن العصور التي يسود فيها نوع من التآلف بين هذه المستويات، هي غالبًا أزهى العصور وأرقاها"6.   1 ألوان ص27. 2 المرجع نفسه ص27. 3، 4 Alberes, Op. cit., pp. 120-124. 5 حافظ وشوقي ص72. 6 الدكتور إبراهيم إمام: مرجع سابق ص41. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 وتمتاز بيئة المقال الصحفي في مصر -عند طه حسين- بأنَّ ولاء الكاتب فيها يرتبط "بالبيئة المتحضرة التي يعيش فيها الكاتب للجمهور وبالجمهور"1. وتبين هذه الميزة في بيئة المقال الصحفي في مصر إذا نظرنا إلى المنفلوطي والرافعي من جهة, والمازني وهيكل والعقاد وطه حسين من جهة أخرى, فقد كان المنفلوطي لا يعيش لأدبه وإنما يعيش بأدبه2, ولا بد له من "مسين" كما يقول الأوربيون، يحميه ويعطيه ويحوطه بالرعاية والعناية, ويدفع عنه العاديات والخطوب. أما الأربعة الآخرون فثائرون على هذا النوع من الحياة والأدب, يكبرون أنفسهم أن يحميهم هذا العظيم أو ذاك, يعيشون أولاً ويعيشون أحرارًا, وهم يأبون أن يؤدوا عن إنتاجهم حسابًا لهذا العظيم أو ذاك3, وقد فتحت هذه الحرية أمام مقال طه حسين وزملائه من المقاليين التجديديين أبوابًا "لم تكن تُفْتَحُ لهم حين كان الأدب خاضعًا للسادة والعظماء"4 فهم "يؤثرون أنفسهم ويؤثرون الفن ويؤثرون الشعب بما ينتجون"5, وكذلك عكف طه حسين في بيئة المقال الصحفي على "الشعب، فجعل يدرسه ويتعمَّق درسه, ويعرض نتائج هذا الدرس على الشعب نفسه فيما ينتج له من الآثار"6 المقالية، ومن ثمار هذه الدراسة جاءت بلاغة المقال الصحفي الجديدة لتجعل من لغته لغة "المغزى والمعنى والأهمية؛ لأنها تقوم على الوظيفية الهادفة، والوضوح والإشراق، بحيث تكاد تكون فنًّا تطبيقيًّا قائمًا بذاته. فالفنُّ الصحفي تعبير اجتماعي شامل، ولغته ظاهرة مركبة خاضعة لكل مظاهر النشاط الثقافي من علمٍ وفنٍّ وموسيقى وفنٍّ تشكيلي ... إلخ إلى جانب السياسة والتجارة والاقتصاد والموضوعات العامة7. وعلى ذلك, فإن التمييز بين أنواع المقال إلى علمي وأدبي وصحفي، على النحو المألوف، لم يَعُدْ مجديًا أمام ضرورة الوسيلة الجماهيرية في بيئة المقال الصحفي في مصر، وذلك أن المقال الصحفي عند طه حسين يدور في اتجاهات ثقافية واجتماعية وسياسية، ويصوغها في قالب صحفي تتوفر له الحالية والحيوية والاستجابة لاهتمامات الجمهور، واللغة الوظيفية العملية القريبة من قرائه. ونخلص من ذلك إلى أن المقال الصحفي في أدب طه حسين يلائم بيئة هذا الفن الصحفي في مصر سياسيًّا وثقافيًّا واجتماعيًّا، ملاءمته لفن المقال نفسه.   1، 2، 3 الدكتور طه حسين: ألوان ص28. 4، 5، 6 المرجع السابق ص28. 7 الدكتور إبراهيم إمام: مرجع سابق ص45، 48. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 الفصل الثالث: طه حسين وبلاغة الاتصال بالجماهير مدخل ... الفصل الثالث: طه حسين وبلاغة الاتصال بالجماهير نتحدث في هذا الفصل عن "عناصر الأصالة ومظاهر التجديد في مقال طه حسين" تأسيسًا على أن وسائل التعبير الفنِّي لا يمكن أن تنفصل بحالٍ عن المضمون، ولقد تعرَّفْنَا على مضمون المقال الصحفي عند طه حسين في كتابنا المتقدم1، وانتهينا إلى أنه يدور حول محورين أساسيين في استراتيجيته القومية، هما: محور التغيير ومحور التدعيم، وهما كذلك أهم صفات الشخصية المصرية؛ حيث تقترن صفة البقاء والاستمرار التي عرفها المؤرخون عن تطوّر التاريخ في مصر، بعملية "التغيير والتجديد" من خلال وحدة الشعور التي تنتظم الأصالة والتجديد، لتربط حاضر الثقافة المصرية بماضيها، وهذه الظاهرة من وحدة الشعور لدى المصريين هي التي قوَّمت شخصية المصريين التاريخية، وصبغت مقال طه حسين بصبغتها شكلاً ومضمونًا، ذلك أن أي عمل إبداعيٍّ إنما يأتي على أساس عملية تحضيرٍ وإعدادٍ طويلةٍ تشترك فيها كل الخبرة السابقة للفن، والفنان نفسه، وعلاقاته المتبادلة مع مَنْ حَوْلَه وما حَوْلَه من الناس، ومع العالم بأسره، وبالمثل فإن عملية إدراك العمل الفني لا تحدث كظاهرة منفصلة عن التاريخ, أو كواقعة معزولة خاصة بصاحبها فقط. فمحور التأثُّر في فنِّ القول أو الإفادة من فنون القول الأخرى هو الأصالة؛ أصالة الأفراد، وأصالة القومية2، وبهذا المحور -في فنِّ المقال- خاصة، تتحقق المحاكاة الرشيدة المثمرة التي تفيد من مظانِّ الإفادة الخارجة عن نطاق الذات حتى يتسنَّى الارتقاء بالذات عن طريق تنمية إمكانياتها "ولا يستطيع امرؤ أن يصقل نفسه، ولا أن يبلغ أقصى ما يتيسر له من كمالٍ إلّا بجلاء ذهنه بأفكار الآخرين، وبالأخذ المفيد من آرائهم ودعواتهم"3. وتأسيسًا على هذا الفهم, فإنَّ فنَّ المقال في أدب طه حسين، قديم جدًّا وحديث جدًّا, قد اتصل قديمه بحديثه اتصالاً مستقيمًا لا انقطاع فيه ولا التواء؛ ففيه خصائص الآداب القديمة، وفيه خصائص الفن الصحفي الحديث، وفيه ما يُمَكِّنُنَا من استخلاص حديثه من قديمه، وما يغنينا عن كثير من الفروض4. وأخصُّ ما نلاحظه في مقال طه حسين، أنه يأتلف من عنصرين لا يحتاج استكشافهما إلى جهد أو عناء: أحدهما داخلي يأتيه من نفسه ومن طبيعة الأمة   1 طه حسين وزوال المجتمع التقليدي. 2، 3 الدكتور غنيمي هلال: مرجع سابق ص107. 4 ألوان ص13. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 المصرية التي ينتمي إليها, والآخر: خارجيٌّ يأتيه من الشعوب والثقافات التي اتصل بها، ونعني بهذين العنصرين: الأصالة، والتجديد. ونبدأ فنتعرف على لغة الاتصال بالجماهير في مقاله الصحفيّ، ومميزات أسلوبه ومهاراته في الاتصال، ثم نتعرَّف على مقاله بين التقليد والتجديد تمهيدًا للتعرُّفِ على رؤياه الإبداعية في فنِّ المقال الصحفي في تشكيلاته النهائية التي ظهر بها واضحًا في شخصيته وفَنِّه. تأسيسًا على أن الفنَّ الصحفيّ "طريقة تفكير ورؤية خاصة متميزة للحياة"1 والمقال الصحفي في ضوء هذه الرؤية يغدو عملاً نقديًّا في الوقت ذاته، أكثر مما كان في أيِّ وقت مضى، ذلك أن عملية الإبداع الفنيِّ تتضمَّن اختيارًا للشكل وللغة، ولعدد لا يخضع للحصر من التفاصيل الصغيرة التي تشكِّلُ فنَّ المقال وتحدده، وكل كاتبٍ هو بهذا المعنى ناقدٌ بالضرورة. فأكبر الكُتَّاب هم أصحاب أعمق وأشمل قدرة على النقد2، وهي القدرة التي تميِّزُ الرؤيا الإبداعية في مقال طه حسين نتيجة إلحاحه في الوعي بالذات، وغلبة التأمُّل العقلي على عالم التعبير الفني في أدبه على العموم، ومقاله على الخصوص. وقد يرجع ذلك إلى اهتمامه واهتمام جيله بقاضاياه وفلسفته وتفسيراته، والتزامه لهذه القضايا في كثير من الأحيان، ونظرته إلى الفن كضرورة من ضرورات الحياة، فيجد في فنِّ المقال وسيلةً لمبادلة الجمهور اهتمامًا باهتمام، ومناسبة لتوضيح ما في فنِّه من مغزى، الأمر الذي يجعلنا ننظر إلى عناصر الأصالة والتجديد في مقال طه حسين، على أنها عملية إبداعية تنتظم العمل الإبداعي والعمل النقدي عن قصد، من أجل إيجاد الاتصال والفهم المشترك. وليست محاولة التعرُّفِ على الرؤيا الداخلية في مقال طه حسين تتعلَّقُ باللغة والأسلوب فحسب، بل هي بالأحرى محاولة للتعرُّفِ على الرؤيا الفنية المتكاملة التي تُمَيِّزُ وتحدِّدُ إبداعه في فن المقال الصحفي، الإبداع الذي لا ينفصلُ فيه عن إنتاجه.   1 الدكتور إبراهيم إمام: مرجع سابق. 2 Haskell M. Block and Herman Salinger. The Creative Vision p. 10 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 عناصر الأصالة والتجديد : على أنَّ هذا الفهم يقود إلى مناقشة عناصر الأصالة والتجديد على النَّحْوِ الذي يتيح التعرُّفِ على أبعاد الرؤيا الفنية في مقال طه حسين، نتيجةً للرجوع إلى "الأدب القديم، وإحيائه بالنشر والإذاعة أولًا، ثم بالتقليد والمحاكاة ثانيًا، وما كان من تعَلُّمِ بعض اللغات الأجنبية وقراءة ما ينتج فيها من الآثار، وترجمة بعض هذه الآثار إلى اللغة العربية في غير نظامٍ ولا اطراد، وما كان آخر الأمر من الإعراض عن الحضارة المادية القديمة, والإقبال على الحضارة المادية الحديثة, واستعارة النُّظُم السياسية والاقتصادية والإدارية والعسكرية والقضائية من أوروبا، ثمَّ العدول عن العلم الموروث ومناهج تعليمه إلى العلم الحديث الحي ومناهج تعليمه الحية المستحدثة"1. فقد أدى ذلك جميعًا إلى تغيير كثيرٍ من خصائص النفس المصرية -كما يبين من مصادر ثقافة طه حسين- على النحو المتقدِّم، فاضطرها إلى أنحاءٍ من التصوُّرِ والتصوير لم تكن مألوفة من قبل، وأخذ عنصر التطوّر يعمل من جديدة، ولكنه كان -كما يقول طه حسين- تطورًا رائعًا حقًّا. ذلك أن هذا التطور كان يسعى في طريقين متعاكستين أشد التعاكس وأقواه, وليس أدلَّ من هذا التطور على "قوة الأدب العربي وقدرته على المقاومة، واستعداده للتَّغَلُّبِ على المصاعب والنفوذ من الخطوب. فقد كان إحياء الأدب القديم وما زال يدفع العقل العربي الحديث إلى وراءٍ ويقوي فيه عنصر الثبات والاستقرار، كما كان الاتصال بالأدب الأوروبيِّ الحديث يدفع الأدب العربي إلى أمام، ويقوي فيه عنصر التطور والانتقال"2. على أن ثبات العقل العربي الحديث لهذا التعاكُس العنيف كان يُخْشَى في أواسط القرن الماضي وفي أول هذا القرن أن يتمَّ التقاطُع بين هذين الاتجاهين، فيذهب فريق من المتأدبين والكُتَّاب إلى وراءٍ من غير رجعة، ويذهب فريق منهم إلى أمامٍ في غير أناة، ويضيع الأدب الصحفي الناشئ بين هاتين الطريقتين المتعاكستين، ولكنه ثبت لهذه المحنة واستفاد منها. وليس من شك في أن "هذا التعاكُس قد كان له صرعى، فجَمُدَ بعض الكُتَّاب، وأسرفوا في الجمود، ولكنهم قضوا ولم يعدوا بجمودهم أحدًا"3, وغلا بعض المجددين ولكنَّ غلوَّهم لم يلبث أن رُدَّ إلى "الاعتدال والقصد"4. والشيء المهم أن الأدب الصحفي في مصر قد استقامت له طريقة تحقق فيها التوازن الصحيح بين القديم والجديد على نحو ما تحقَّقَ في مقال طه حسين. ذلك أن فنَّ المقال العربي يحتفظ بأصوله التقليدية الأساسية ولم يستعص على التطور، وإنما قَبِلَ من "الثقافات الأجنبية مثل ما قَبِلَ من الثقافات الأجنبية أيام العباسيين"5، واستحدث من الفنون ما يلائم العصر الحديث, ووسيلة الاتصال الصحفي بالجماهير، كما استحدث "من الفنون ما كان يلائم عصر العباسيين"6.   1 الدكتور طه حسين: "أدبنا العربي بين أمسه وغده", مجلة الكاتب المصري، أكتوبر 1945, ألوان ص19. 2، 3، 4 المرجع نفسه ص20. 5، 6 المرجع نفسه ص20. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 وأوَّل مظاهر ذلك أنَّ المقال الصحفي الحديث، قد اتخذ اللغة العربية له لسانًا، وعرض كثيرًا من فروع الحضارة الحديثة نفسها في لغةٍ عربيةٍ واضحةٍ كما يُعْرَضُ في اللغات الأجنبية المختلفة1, ثم استقرَّ في الصحافة المصرية باللغة العربية، يحمل سمات الحضارة الحديثة كما تعرضها الصحف الأوربية، وهنا يظهر الفرق الخطير بين الاتصال العربي القديم بالثقافات الأجنبية القديمة، والاتصال العربي الحديث بالثقافات الأجنبية الحديثة؛ فقد كان "الاتصال القديم ضيقًا أشدَّ الضيق، محدودًا لا يكاد ينهض به "إلّا أفراد يمكن إحصاؤهم"2، أما في العصر الحديث فليس من سبيلٍ إلى "إحصاء الذين يتعلمون اللغات الأجنبية ويعلمونها، وينقلون منها بالشفاه حينًا, وبالترجمة المكتوبة حينًا آخر"3. فالاتصال الحديث "مباشرٌ قَلَّمَا يَتِمُّ بالواسطة, فالذين يترجمون عن الإنجليزية والفرنسية يحسنون هاتين اللغتين, ويحسنون اللغة العربية أيضًا, فينقلون عن فهمٍ وبصيرةٍ في كثير من الدقة والإتقان"4. كما أنَّ وسيلة الاتصال الصحفيّ وغيرها من وسائل الاتصال بالجماهير أتاحت هذا الاتصال المباشر بثقافاتٍ لا تكاد تُحْصَى"5 ولم يعد هذا الاتصال الثقافي من طريق "المكان وحده، ولكن من طريق الزمان أيضًا, فقد استكشف الكثير من تاريخ الأمم، وعرض علينا في اللغات المختلفة، فنحن نعرف من تاريخ المصريين القدماء أكثر مما كان المصريون القدماء أنفسهم يعرفون من تاريخهم"6، كما هو الحال بالقياس إلى تاريخ اليونان والرومان والفرس والهند وغيرها من الأقطار المختصرة7. فلا غرابة إذن -كما يقول طه حسين8، في أنَّ هذه الأبواب التي فُتِحَت لنا على مصاريعها، ونفذت إلينا منها الثقافات الأجنبية المختلفة، باعد بيننا وبين ما عرف العرب القدماء من حياة الأمم الأخرى. ومهما يكن من شيءٍ, فإن الفروق التي يشير إليها طه حسين بين الاتصال القديم والاتصال الحديث، خليقة أن تنشئ فروقًا بين الأدبين القديم والحديث في نفسيهما, وإذا كانت هذه الفروق لم تظهر واضحة جلية أثناء القرن الماضي، فإنها أخذت تظهر شيئًا فشيئًا أثناء هذا القرن العشرين، حيث تمثِّلُ الأدب الحديث الوسيلة الجماهيرية الحديثة، وخلقت لونًا جديدًا ينفصل عن هذا الأدب له مقوماته الخاصة، ونعني بهذا اللون العملي القائم على الوظيفية الهادفة   1 المرجع نفسه ص20. 2، 3، 4 المرجع نفسه ص21، 22. 5 المرجع نفسه ص22. 6، 7 المرجع نفسه ص23. 8 المرجع نفسه ص23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 والوضوح والإشراق، المتوسِّلُ بالاتصال الصحفي1. على أن هذا الأدب الصحفي يرتبط بالمعركة الفاصلة بين القديم والجديد في اللغة والأدب وأدوات التعبير، وتنقل المحاربين في هذه المعركة في "ميادين مختلفة"2. ذلك أن هذه المعركة تناولت أساليب التحرير والألفاظ العلمية وغير العلمية، كما مسَّت في رفقٍ صوَرَ الأدب وفنون التحرير الجديدة في الصحف وما يَصِحُّ أن تكون عليه, وإلى يومئذ كانت الغلبة لأنصار تقليد الأدب القديم، وكان السجع والإغراب في اختيار الألفاظ بعض ما يمتاز به كُتَّاب العصر"3. ولكن الكثيرين من جيل طه حسين من الذين أتموا دراستهم في أوربا فُتِنُوا بالأدب الغربي والأساليب الصحفية الغربية، وما بلغت من تَقَدُّمٍ في الاتصال بالجماهير، واتَّجَهَتْ عقولهم اتجاهًا جديدًا يعتمد على "الطرائق العلمية الحديثة"4. وعادوا فدخلوا الميدان بقوة ونشاط لم تر مصر مثلها من زمنٍ غير قليل، إلّا من "أفراد قلائل موهوبين كان لهم أثرهم في توجيه التفكير المصري, وفي مقدمتهم المرحومان الشيخ محمد عبده وقاسم أمين"5. وقد أثمرت هذه المعركة بين القديم والجديد، نثرًا عربيًّا خالصًا لم يفن في الغرب الأوربي, ولم يفن في أدب الجاهلين والإسلاميين والعباسيين, وإنما صوَّرَ شخصية مصرية ممتازة من هذين التيارين, ثم أذاع هذه الشخصية فيما وراء حدود مصر من أقطار العالم العربي, وكان قوام هذه الشخصية الثورة على الفناء في القديم من جهة الشباب, والإغراق في المحافظة على هذا القديم من جهة الشيوخ. وكان المقاليون التجديديون في الصحافة المصرية يقومون مقامًا "وسطًا بين الغُلُوِّ في التجديد, وبين الغُلُوِّ في المحافظة؛ يستمسكون باللغة العربية الفصحى لا ينحرفون عنها ولا يكتفون بها, ولكنهم يرون هذه اللغة ملكًا لهم, ولا يرون أنفسهم ملكًا لها, يطوّعونها لما يريدون من أغراض الحياة التي يحياها الناس, والتي لم يعرفها القدماء, ولكنهم لا يُفْسِدُون أصولها ولا يخرجون على قواعدها، يستبيحون لأنفسهم أن يثوروا على المعجمات القديمة التي وقفت باللغة العربية عند القرن الثاني للهجرة, ويبتكرون ما يحتاجون إليه من الألفاظ، لا يجدون بذلك بأسًا, ولا يتحَرَّجون من أن هذه الألفاظ ليست مسجَلّةً في هذا المعجم القديم أو ذاك, فمن حقهم أن يُسَخِّرُوا اللغة لأغراضهم لا أن يسخروا أنفسهم للغة, ومن الحقِّ عليهم إذن أن يغنوها ويضيفوا إليها من جديد الألفاظ ما لم يكن فيها"6. ثم يثورون كذلك على أساليب القدماء في التعبير النثري الذي يَمَسُّ المقال   1 د. عبد العزيز شرف: اللغة الإعلامية ص48. 2، 3، 4 الدكتور محمد حسين هيكل: ثورة الأدب ص7-9. 5 المرجع نفسه ص9. 6 الدكتور طه حسين: من أدبنا المعاصر ص156، 157. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 بالدرجة الأولى، لا يأخذون أنفسهم بأن يكتبوا "كما كان يكتب ابن المقفع والجاحظ وغيرهما من الكُتَّاب القدماء"1, وإنَّما يصطنعون من الأساليب ما يُلائم قلوبهم وأذواقهم وعقولهم الحديثة من جهة, وما يلائم حاجاتهم وما تثير هذه الحاجات في نفوسهم من العواطف والخواطر والآراء"2. وعلى الرغم من ثورتهم هذه لم يُفَرِّطُوا في القديم, وإنما "يحفظونه ويمضون في إحيائه، يَرَوْنَه من كنوزهم النفيسة التي لا ينبغي التقصير في رعايتها وحمايتها وصيانتها من الضياع والفساد جميعًا"3. يصلون بين القديم والجديد ويلائمون بين "ما كان وما هو كائن، ويحاولون أن يلائِمُوا بين هذا كله, وبين ما سيكون في مستقبل الأيام"4، ذلك أن أبناء هذا الجيل كانوا يدركون أن "الحضارة الإنسانية ثورة متصلة مظهرها الأدب والفن"5، وأن "الأمَّة العربية الحديثة لم تنشأ من غير شيءٍ, وإنما نشأت من أمة قديمة"6، وأن "الأمة الحية هي التي تساير الزمن وتتأثر بالأحداث تأثُّر من ينتفع بها ولا يفنى فيها, وأن تتطوَّرَ حسب ما تُمْلِيه الظروف"7, ولكنهم -كما يقول طه حسين- كانوا يرون أن "قدماء العرب قد أخطأتهم فنونٌ من الأدب لم ينشئوها؛ لأنهم لم يعرفوها, وأنَّ على المحدثين بعد أن عَرِفُوا هذه الفنون أن يوطِّنُوها في أدبهم بأن يؤصلوها في لغتهم, وأن يشاركوا فيها, ويسهموا في تنميتها وتطويرها كما يفعل أصحابها من الغربيين"8. ومن هذه الفنون الجديدة: فنّ المقال الصحفي، الذي يرتبط بوسيلةٍ جماهيرية حديثة لم تعرفها العصور القديمة، فكان على أبناء هذه المدرسة التجديدية أن يرسوا دعائمه في لغتهم، بحيث يتميِّزُ عن فنِّ المقال الأدبي الذي عَرِفَت اللغة العربية أصولًا له، من حيث الوظيفة والموضوع واللغة والأسلوب جميعًا, ذلك أن المقال الصحفي يهدِفُ أساسًا إلى التعبير عن "أمور اجتماعية وأفكار عملية"9، ويقوم على "وظيفة اجتماعيةٍ خالصةٍ تتقَدَّم أية ناحية أخرى كالمتعة الفنية على سبيل المثال"10. وقد تمثَّل طه حسين، هذه الحقيقة، فوضع المقال الصحفي في مكانه من فنون القول، يخضع لنواميسه العامة والخاصة، وينفرد دونها بالوسيلة التي يصطيعها، وهي الكلام المدوَّن في الاتصال بالجماهير. ويبدأ فنُّ المقال الصحفي من الوقوف عند الشكل، والكَلَفِ بالتجزئة، واقتضى هذا بطبيعة الحال "إلغاء بلاغة العَجَمِ القديمة المتحَجِّرَة, والعود إلى بلاغة العرب المعتمدَة على الحسِّ اللغوي الصادق والذوق الفني السليم"11. وقبل أن نتحدث عن البلاغة الجديدة في الاتصال بالجماهير، نرى من الأوفق أن نعرض لامتداد التيار القديم في النهضة الصحفية، في مقالات طه حسين الأولى، بين التقليد والتجديد.   1، 2 الدكتور طه حسين: من أدبنا المعاصر ص156، 157. 3، 4 المرجع نفسه ص157. 5 الدكتور محمد حسين هيكل: مرجع سابق ص10. 6، 7 الدكتور طه حسين، مرجع سابق ص157. 8 الدكتور طه حسين: مرجع سابق ص157. 9، 10 الدكتور إبراهيم إمام: مرجع سبق ص193. 11 أمين الخولي: تعليق على مادة "بلاغة" في دائرة المعارف الإسلامية، الترجمة العربية م4 ص70, الدكتور عبد الحميد يونس: الأسس الفنية للنقد الأدبي ص8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 بين التقليد والتجديد : تَعَرَّفْنَا في بيئة التكوين الصحفي للدكتور طه حسين، على مرحلة الانتقال من التقليد إلى التجديد، من الأزهر إلى الجامعة، ثائرًا على الاتجاه التقليدي، مترسِّمًا مثلًَا أعلى في المناهج الجديدة، مُتَمَثِّلًا اتجاهاتها في "الجريدة" والجامعة, وفي ضوء هذه الصورة العامة تَتَلَمَّسُ الخط البياني في تكوين مقال طه حسين، منذ بدأ يقلد طريقة المتأدبين التقليديين، فيتحرَّى السجع في الكتابة، ويحشد لمقاله طائفة من الألفاظ الغربية، والتشبيهات التي ربما لا يستريح الذوق الحديث إلى الكثير منها، ذلك أن الميل الأدبي قد ظهر عند طه حسين في فترة مبكرة، وهو في أحضان البيئة الأزهرية، حيث أخذ ينظم القائد من حين إلى حين، وكان الشيخ المرصفي ينمِّي لديه هذا الاتجاه, ويكلفه مع زملائه بالكتابة في موضوعٍ من الموضوعات شعرًا ونثرًا1. ومن ذلك ما يذكره الأستاذ الزيات2 من أن طه حسين قد غدا "على الشيخ بقصيدة حماسية الموضوع، جاهلية الأسلوب، تمثِّلُ ما انطبع في خاطره من صور الشعر القديم"3. ولذلك اتَّسَم مقال طه حسين في بدايته، بطول النَّفَس في العبارة, محاولته تقليد أسلوب الكُتَّاب المفتونين بالسجع في القرن الرابع الهجري, مما يكشف عن استعداد مبكر للكتابة، إلى أن معانيه في المقالات الأولى تصوِّرُ حيرته بين الأزهر والجامعة، كما في مقاله: "وَيْحِي من غَدٍ"4، حيث نجد كذلك هذا الاتجاه إلى السجع المتكلف والتراكيب القديمة, يقول: "تغرب شمس اليوم وإن عيونًا كثيرة لتلحظها لحظ المشفق الأَسِفِ، أو الشيق الكَلِفِ: هذا يقول لها اعجلي لا تبطئ ... ويقول ذاك لها اذهبي لا ترجعي"5   1 محمد سيد كيلاني: مرجع سابق ص16. 2، 3 الجريدة في 29 مايو 1914. 4، 5 مصر الفتاة 15 سبتمبر 1909. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 إلى أن يقول: ".. غير أن الفلك برغم ذلك آخذٌ مداره لا أليًا1 ولا حثيثًا2 والكواكب على الكره منه آخذة مجراها كما هي الآن"3.. إلخ. على أنَّ هذا الأسلوب المتأثِّر بالمدرسة القديمة في الترَسُّلِ الصحفي الذي يمتاز بالزينة والزخرف4 ما يلبث أن يتأثَّر بالأدب النثري الذي انتهى إليه المنفلوطي، غاية في ذاته، أي: أدب إنشائيٌّ لا يهدف إلى تعليمٍ لغويٍّ أو سياسي5، مع ميلٍ إلى الأسلوب المرسَلِ الخالي من تكلُّفِ السجع ونقل الصيغ والقوالب القديمة، وهي ميزة يعزوها العقاد6 إلى أيام المنفلوطي لا إلى جرأته وحسن اختياره. ويذكر طه حسين أنه في بداية المرحلة الأولى في بيئة التكوين، كان من أَشَدِّ المعجبين بالمنفلوطي, يقرأ له النظرات فتقع من قلبه موقعًا حسنًا7، ولذلك نجد في مقالاته المبكرة ميلًا شديدًا إلى تقليد المنفلوطي والتأثُّرِ به، فيكتب بعنوان: "بين العبرات والزفرات"8 مقالات يسلك فيها مسلك المنفلوطي في مخاطبة الوجدان ومحاولة إثارة العواطف, ومن "عبرات وزفرات" طه حسين قوله: "يقضي ساعات الليل ومعظم النهار بين قلبٍ يجفُّ9 ودمع يكفُّ10 وجسم يرتجف, شهيق وحريق، زفير وسعير، وجيب ولهيب، عين ساهرة، وهموم ثائرة، ونفس حائرة بين ماضٍ مؤلم، ومستقبل مظلم"11، ثم قوله: رحماك اللهم بهذا الشاب، ماذا جنى؟ وما عسى أن يكون ذنبه؟ "12 إلخ. مما يكشف عن تأثُّر هذه العبرات بأسلوب المنفلوطي في الإنشاء، مثل "أواه.. ويلاه.. ليتني"13 و"رحماك اللهم! أيذوي هذا الغصن اللدن"14.. إلخ. ومن النماذج الأولى في مرحلة التقليد، يبين كذلك، تمثُّل أسلوب المقامة العربية في شكلها المعروف في الأد اء، في مقال طه حسين، إلى جانب تأثُّرِه بالمنفلوطي في أسلوب الإنشاء، حين يحتذيه في تصوير حيرة الشباب. ذلك   1 أليًا: مبطئًا. 2 حثيثًا: مسرعًا. 3 المرجع السابق. 4 الدكتور عبد اللطيف حمزة: أدب المقالة جـ3. 5 عباس محمود العقاد: المراجعات ص173. 6 المرجع السابق ص173. 7 مصر الفتاة في 31 أغسطس 1909. 8 مصر الفتاة في 19 أكتوبر 1909, محمد سيد كيلاني: مرجع سبق ص83. 9، 10، 11 المرجع السابق ص83, يجف: يضطرب, يكف: يتساقط. 12، 13، 14 المرجع السابق ص85. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 أن المنفلوطي كان "يمثِّلُ اتجاهات عصره غير الواضحة المعالم بل والمتناقضة"1. ولذلك اتَّسَمَ أسلوب المنفلوطي الذي تأثر به طه حسين في مرحلة التقليد بغلبة "الغنائية الفردية على صياغته وصوره، وبرنَّةِ الحزن التي كانت تغلب على الرومانسيين في كثيرٍ من الأحيان، والتي تجيء ثمرةً لاصطدام الفرد بسلطان المجتمع، وعدم قدرته على التكيُّفِ، فيجنح إلى التسليم، ويكتفي من المقاومة بالحزن وما يشبه البكاء"2. وحين نسترجع صورة سخط طه حسين على بيئته الأزهرية وتبرُّمه بها، وعدم قدرته على التكيُّف مع الاتجاه التقليدي المحافظ، نجد التفسير المقبول لاتجاهه في اتجاه المنفلوطي في تلك الفترة. على أنَّنَا نلاحظ تشابهًا في تطوّر الأسلوب الكتابي عند طه حسين مع تطوُّر أسلوب الأستاذ الإمام منذ كان الأخير يكتب وهو طالب في الأزهر "حتى لكأنه شاعر في غرزمته يطمح إلى مجدٍ أدبي لم يتح له بعد"3 إلى أن كتب في الوقائع المصرية، وما أحدثته الثورة العرابية من تحوُّلٍ في الاتجاهين الاجتماعي، والسياسي4، حيث عدل عدولًا ظاهرًا في هذه المرحلة عن السجع إلى ما يسميه النقاد "بازدواج" أو الترادف الصوتي. ونفس الشيء تقريبًا في الخطِّ البياني لتطوُّرِ أسلوب طه حسين، حين انتقل من الأزهر إلى الجامعة، واتَّصَل بالجريدة ومديرها الذي كان يمثِّلُ القمة5 التي سمت إليها المدرسة الحديثة في التَّرَسُّلِ الصحفي الذي يمتاز بالبساطة والوضوح وحرية التعبير القائم على التعقيل الصحيح. ومعنى ذلك أن المقال الصحفيِّ على النمط الحديث بلغ ذروته تقريبًا على يد لطفي السيد، ووصل قرب نهايته عنده6. ولعلَّ في هذا التطوُّرِ ما يفسِّرُ اتجاه طه حسين مع أبناء مدرسة التجديد الذين قضوا فترة التكوين في "الجريدة" إلى رفض أسلوب المنفلوطي ومذهبه, على الرغم من إعجاب مدير الجريدة به, واعتباره إياه من "أشياخ البيان", وأنه "يمتاز بالمساواة" و"استعمال ألفاظ الخصوص, فلا يُلْبِسُ معنى الألفاظ الذي لا يكاد يشاركه فيه معنًى آخر"، وهي السمات التي كان لطفي السيد يدعو إلى تحقيقها في الأسلوب الكتابي، لتكون العبارة اللفظية مساوية للغرض الفكري الذي تؤديه، وأن يكون اللفظ على قدر معناه. ولذلك تمثل تلاميذ الجريدة من التجديديين أسلوب أستاذهم حين ذهبوا إلى انتقاد المنفلوطي   1 هاملتون جب: داراسات في الحضارة الإسلامية ص263. 2 الدكتور عبد الحميد يونس: فن القصة ص35. 3، 4 الدكتور عبد اللطيف حمزة: أدب المقالة جـ2 ص76. 5 المرجع السابق جـ6 ص138. 6 المرجع السابق ص83. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 الذي يُجَرِّدُه العقاد من القدرة على فهم النفس البشرية1, الأمر الذي يتنافى مع اتجاه "التعقيل". ولعلَّ في ذلك ما يضيف إلى أسباب نقد طه حسين للمنفلوطي في بيئة التكوين سببًا عامًّا يشترك فيه مع العقاد والمازني؛ لأنه يرتبط بعناصر التطوّر الفكري والأسلوبي، وينزع إلى التجديد الذي يتلاءم مع البيئة الجديدة، وبالقياس إلى طه حسين, فإنه يروض قلمه على التعبير حتى مرن هذا القلم, وأكسبه هذا المران خصائص جديدة تختلف عن تلك الخصائص التقليدية التي تَعَرَّفْنَا على شيء منها في محاولاته الأولى، فما يلبث أن يعدل عن السجع, وتتسع فكرة الموضوع في مقاله، الأمر الذي يؤثِّرُ على أسلوبه في التعبير، فيتجه إلى السهولة والبساطة بعد أن كان يغرق في الغريب من اللفظ. فثم نجد موضوعًا لمقاله, وفكرة يصدر عنها, وثمَّ نجد أسلوبًا يتفرّد به هذا المقال، يتَّسِمُ بطابعٍ جديد بعد اتساع ثقافته، على أن هذا الطابع الجديد يجيء ثمرةً للبيئة الصحفية التي أتمَّ فيها طَوْرَ التَّكْوين، وهو في هذا الطَّوْرِ معنيٌّ بإبراز شخصيته، يسعى على تجلية موضوعه، الأمر الذي يجعل وضع حدود فارقة بين المقال الذاتي والمقال الموضوعي في هذه المرحلة ليس من السهولة بمكان، ولكنهما أخيرًا ينبعان من مَنْبَعٍ واحد، وهو رغبته الملحَّة في التعبير عن أفكاره وتأمُّلاته وموضوعاته. على أنَّ اتصال طه حسين بالثقافة الأجنبية عن قُرْبٍ، أتاح لعناصر الأصالة وعوامل التجديد أن تحدد هذه الحدود الفارقة بين المقال الذاتي والمقال الموضوعي، وتنوُّعِ فنون المقال الموضوعي في صحافته بعد انتقال السياسة المصرية والحياة المصرية إلى طورٍ جديد بعد ثورة 1919، ويتمثَّل لنا المقال الصحفي فنًّا أصيلًا في مزاج جيله، له في أدبنا تقاليد مكينة، كما يبين من دراسة مصادره في القديم والحديث، كما يتمثَّل فنًّا جديدًا يقوم بمقتضيات الوسيلة الجماهيرية الحديثة، وما تلبث عناصر الأصالة أن تتوازن مع عناصر التجديد، فيتحوَّل مقاله من "النثر الفني" إلى الملاءمة بين العصر والبيئة, فتطوّر فن المقال في ألفاظه وأساليبه وفي معانيه وموضوعاته, ونشأت فيه فنون لم تكن من قبل، في مواجهة الوظيفة الاجتماعية العملية للفنِّ الصحفي الحديث, وانتقل طه حسين بمقاله من التقليد إلى التجديد، ليعالج المقال الافتتاحي أو الرئيسي، والعمود الصحفي، واليوميات الصحفية، وليبتدع فنونًا جديدة يؤصِّلُها في لغتنا العربية، كما سيجيء. يعالج من خلالها "السياسة والحياة اليومية ويتعرَّض لبعض شئون الاجتماع، وقليل منها يُفَرَّغُ للأدب الخالص"1.   1 عباس محمود العقاد: مرجع سبق ص184. 2 الدكتور طه حسين: الكاتب المصري أكتوبر 1945, مرجع سبق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 ومن هنا تطرح المدرسة المقالية التي ينتمي إليها طه حسين، افتراضًا يذهب إلى أنها وضعت المقال الصحفي على بداية مرحلة جديدة من لقاء الأصالة والمعاصرة، تتمثَّلُ التيارين القديم برافديه الفرعوني والعربي، والحديث الوافد من الغرب، ولعل صفة البقاء والاستمرار التي قرنها "توينبي" بعملية "التغيير والتجديد" كما تَقَدَّمَ، هي في الحقيقة أكثر اقترانًا بعناصر الأصالة وعناصر التجديد من خلال وحدة الشعور التي وسمت البيئة المصرية. وفي ذلك ما يشير إلى عمق العوامل النفسية التي وجَّهَت مقال طه حسين، حيث برهنت مصر طوال تاريخها على قدرةٍ فذةٍ على الاستجابة، وهذا هو السر في بقائها واستمرارها وتجددها، إلّا أنَّها في استجابتها شأنها في ذلك شأن الأمم العريقة لا تخلو من حوافز المقاومة المرنة، وهي ما تضفي على الاستجابة تلك الحيوية التي تتمثَّل فيها الجديد وتصهره في قديمها ليكون النتاج قوةً جديدةً تدفع بها إلى الأمام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 بلاغة المقال الصحفي : نخلص مما تَقَدَّمَ إلى أن المقال الصحفي فنٌّ حضاريٌّ يقوم على وظيفة اجتماعية عملية، ويتَّصل بهذا المجال الثقافي الحي الفعَّال بالعروة الوثقى، ذلك أنه يتوسَّل بأقوى المنظمات في الحياة الاجتماعية، وهي اللغة. وما دامت اللغة هي الرابطة الكبرى بين المقال الصحفي والمجتمع، فإن النظر العلمي إلى اللغة يقتضي ألا ننظر إليها على أنها مجموعة القواعد التي نُحَصِّلُهَا ونسمِّيَها بالنحو المتواضَعِ عليه، وهي لا يمكن أن تكون وسيلة "إفادة" فحسب، بل لا يمكن أن تخضع لقواعد المنطق الصوري أو المنطق الأرسططاليسي الذي قسَّمَ الكلام إلى مخارج محدودة جعلها أسماء وأفعالاً وأدوات. فاللغة ليست هذا كله، ذلك لأنها بمفهومها الاجتماعي سلوك فردي وجماعي, وهو المفهوم الذي يقرب الشُّقَّةَ بين اللغة والفن الصحفي، من حيث أن الصحافة مرآةٌ تنعكس عليها مشاعر الجماعة وآراؤها وخواطرها، أو هي -كما يقول أوتوجروت- تجسيد لروح الأمة1. وتأسيسًا على هذا الفهم, فإن بلاغة المقال الصحفي تختلف عن البلاغة الجمالية لفنِّ المقال الأدبي التي تجعل من الأخير فنًّا جماليًّا، في حين ترتبط البلاغة الجديدة للمقال الصحفي بكونه فنًّا تطبيقيًّا، يدخل في اعتباره أمورًا عملية فنية اجتماعية. فالمقال الصحفي يجب أن يراعي في بلاغته: مستوى القرَّاء وثقافتهم, وسياسة الصحيفة، وقوانين المطبوعات والرقابة، والتعبير   1 الدكتور عبد الحميد يونس "وآخرون": فن الإذاعة, سرس الليان 1958. 2 الدكتور إبراهيم إمام: مرجع سابق ص194. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 المبسَّط عن الأفكار المعقَّدة لتلائم السواد الأعظم من الجماهير المتَّصل بها1. فالفرق إذن بين الأديب والكاتب الصحفي في فن المقال هو في نزوع أحدهما إلى أعماق النفس البشرية نزوعًا جماليًّا لذاته، ونزوع الثاني منزع الناقد الاجتماعي الذي يُعْنَى بالواقع والتفاصيل2. واقتضى هذا الفهم الجديد لبلاغة الاتصال بالجماهير تطويعَ اللغة لتتسع للكثير في نطاق الفكر النظري والتطبيقات العملية، طواعيةً ليست في المفردات فحسب، بل في التراكيب وصور الأداء. وقد أدت هذه البلاغة الجديدة المرتبطة بالفنِّ الصحفي نشأةً وبيئةً إلى تحرُّرِ أسلوب التحرير العربي من "تلك الأغلال والقيود التي كان يَرْسُفُ فيها النثر القديم"3, والتي كان بتكلُّفِهَا في آواخر القرن الماضي "بحكم العادة، ولم يكن بُدٌّ في ذلك الوقت الذي أحسَّ فيه العقل الشرقي حريته وشخصيته من أن تشبَّ الحرب ضروسًا بين المذهبين المختصمين دائمًا في النثر: مذهب أصحاب القديم, ومذهب أصحاب الجديد، وقد شبَّت بالفعل هذه الحرب"4. على أن البلاغة الجديدة لا ترتبط بالسوريين في مصر "لأنهم أقرب إلى النشاط في الأدب منهم إلى النشاط في غيره"5 كما يقول طه حسين، ولكنها ترتبط أوثق الارتباط بتطور التحرير الصحفي عند كُتَّابِ المقال من المصريين على نحو ما نعرف عند الأستاذ الإمام، الذي انتقل من الفصول التي لا تخلو من آثار القديم، إلى كتابة فصول مختلفةٍ كلَّ الاختلاف عَمَّا كان يكتب في أوائل القرن الماضي وفي منتصفه أيضًا، فيها حرية لفظية ومعنوية ظاهرة، وفيها اجتهاد في اختيار الحرِّ من اللفظ, واجتناب المبْتَذَلِ، وفيها طموحٌ إلى الجديد لم يكن يألفه الكُتَّاب المصريون من قبل6. ذلك أن البلاغة الجديدة في نهاية الأمر لا تنفصل عن وسيلة الاتصال الصحفي بالجماهير، ذلك أن الصحفي -عند طه حسين7- "مضطر بحكم صناعته, وما تستتبعه من العجلة والتحدُّث إلى الجمهور, إلى أن يتحلَّلَ من هذه القيود البديعية، ويتخلَّص من هذه الأغلال الفنية"8.. ولم يكد ينتهي القرن الماضي حتى أسفر الجهاد بين القديم والجديد عن تحديد معالم البلاغة الجديدة للفن الصحفي, فأصبح "أنصار القديم لا يتمسَّكون بركاكة الجبرتي، ولا يحرصون على بديع ابن حجة، وإنما يتمسَّكون بقديم بغداد وغيرها من أمصار البلاد العربية في العصر العباسي، ويتمسَّكون بصحة   1، 2 المرجع نفسه ص194، 195. 3، 4، 5 الدكتور طه حسين: حافظ وشوقي ص68، 69، 70. 6، 7 المرجع نفسه ص70. 8 المرجع نفسه ص70. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 اللفظ من الوجهة اللغوية وبراءته من العامية والابتذال, وأصبح أنصار الجديد لا ينفرون من البديع والبيان، فقد استراحوا من البديع والبيان، وإنما ينفرون من الإغراق في هذا الأدب العربي القديم، ويطمحون إلى تقليد الأدب الغربي الحديث, واصطناع الألفاظ الأوربية الأعجمية. اشتد هذا الجهاد بين أنصار القديم والجديد في العقد الأوّل من هذا القرن، وكان السوريون بنوع خاصٍّ من أشد الناس نصرًا للجديد، وكان شيوخ مصر هؤلاء الذين توسَّطوا بين الأزهر والمدارس المدنية؛ لأنهم تخرجوا في دار العلوم من أشد أنصار القديم، وكان العلم يزداد انتشارًا, والشباب يزداد إمعانًا في الاتصال بأوربا والتغذي بما فيها من علمٍ وأدبٍ1، ثم كانت حركة وطنية في مصر قوية غُذَّت بها الصحف, واندفعت فيها اندفاعًا شديدًا, وكان الشبان قوة هذه الحركة, ومَن الذي يستطيع أن يأخذ الصحف المندفعة في حركتها السياسية بملاحظة القديم وانتقاء الألفاظ؟ ومَنْ الذي يستطيع أن يأخذ الشباب الثائر أن يتقيد بالقاموس أو لسان العرب؟ ولأمرٍ ما تجاوزت هذه الحركة السياسية مصر, وكانت الثورة في قسطنطينية, وأُعْلِنَ الدستور العثماني، ورُدَّتْ الحرية إلى الأقطار العربية العثمانية, فكان لهذا كله أثر قومي في النثر العربي، وكان هذا كله صدمة عنيفة لأنصار القديم من الكُتَّاب والشعراء، ذلك لأن الحركات السياسية نقلت الكتابة من بيئتها القديمة إلى بيئات جديدة ما كانت لتُكْتَبَ لولا هذه الحركات، فقد كانت الكتابة -كما كان العلم- حظًّا مقصورًا على بيئة خاصة من الناس, ثم أصبحت الكتابة كما أصبح العلم حظًّا شائعًا في الناس جميعًا. ومن ذا الذي يستطيع أن يأخذ الناس جميعًا بالتحرُّج فيما يكتبون, والتقيُّد بمعاجم اللغة وأساليب القدماء؟ "2. وكان الحرب الأولى، فاشتد الاتصال والمخالطة بين الشرق والغرب، وانتهيا إلى حدٍّ لم يُعْرَفْ من قبل، ثم انتهت هذه الحرب ونتج عنها ما نتج من هذه الثورة السياسية العامة في الشرق العربي كله، وأثَّرَ هذا في حياة الناس على اختلاف فروعها، فلم يكن بُدٌّ من أن يتوسَّل هذا التأثير بالفن الصحفي، ومن أن يؤثِّر في لغته بنوعٍ خاصٍّ, ذلك أن هذه الثورة -كما يقول طه حسين3 شغلت "الناس عن الحياة الأدبية والعلمية حينًا, وقصرت جهودهم على السياسة، ولكن هذه السياسة نفسها قد تركت في النثر العربي آثارًا لن تُمْحَى قبل عصر طويل، جعلته حادًّا عنيفًا، واستحدثت فيه فنونًا مختلفة, وأساليب متباينة من الطعن والخصومة لم يعرفها النثر العربي من قبل, ثم لم تَلْبَثْ السياسة   1، 2 المرجع نفسه ص71، 72، 73. 3 المرجع نفسه ص71، 72، 73. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 نفسها أن استحدثت حياةً جديدة في النثر ظهرت منذ حينٍ وآتت ثمرًا طيبًا, ولكنها لم تصل إلى غايتها"1. ويذهب طه حسين إلى أن مصر قد اختُصَّتْ بهذه الحركة، ولكل "شيء خيره وشره، وقد كان للخصومة الحزبية في مصر شرورها وآثامها، ولكن لها في الوقت نفسه حسناتها ومنافعها"2. ومن هذه المنافع ما يتعلق بالتحرير الصحفي، حيث اضطرها التنافس في اكتساب الجمهور إلى نشر الفصول والمقالات في الأدب والسياسة3, وتحقيقًا لهذا الارتباط بين فنِّ المقال والجمهور القارئ اتجهت البلاغة الجديدة نحو اليسر والبساطة، وشق المستوى العملي في أرض اللغة العربية، يفيد من خصائصها التعبيرية والاشتقاقية, وما تحتويه من عناصر الأصالة، ويربط الجمهور المصري والعربي بالحياة المعاصرة واتجاهات التجديد فيها.   1 المرجع نفسه ص72. 2، 3 المرجع نفسه ص73. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 بلاغة الاتصال بالجماهير في مقال طه حسين مدخل ... بلاغة الاتصال بالجماهير في مقال طه حسين: وتأسيسًا على ما تَقَدَّمَ، فإنَّ البلاغة الجديدة في مقال طه حسين، هي بلاغة الاتصال بالجماهير، التي تمثل عناصر الأصالة ومظاهر التجديد أصدق تمثيل، فهي -كما يقول العقاد: ثمرة "اطلاعه على الأدب العربي القديم، وعلى نفائس الأدب الإغريقي واللاتيني، والأوربي ولا سيما الفرنسي"1، وهو اطلاعٌ خليقٌ أن يحبب إليه الصحة والمتانة والقوة, ويبغِّضُ إليه الزَّيْفَ والسخف والركاكة، فهو يختار ما يعلو على مقاييس المقلدين المصطنعين, وينبذ ما يستطيعه المحدودون من أصحاب الاطلاع القليل، أو أصحاب الذوق السقيم، وله في ذلك قواعد صحيحة ومراجع وثيقة، واعتماد على فكر لا يتقيد إلا بما يرضاه"2 فعناصر الأصالة إذن، لا تنفصل عن مقومات شخصيته، شأنها في ذلك شأن مظاهر التجديد، ذلك أن أسلوب طه حسين الكتابي قد تغيَّر بعد "دراسته للأساليب الأوربية، فاتخذ له نمطًا يوافق علمه بالعربية الفصيحة، وعلمه بتقسيم المقاطع والفواصل في الكلام الأوربي، كما يمثِّلُه مَنْ يجمع بين الحديث والكتابة في وقت واحد، فهو يتحدث ولا ينسى أنه يؤلف, ويكتب ولا ينسى   1، 2 سامي الكيالي: مرجع سابق ص88. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 أنه يتحدَّث، وأسلوبه الذي اختاره أوفق الأساليب لذلك جميعًا, وأولها من نوعه في اللغة العربية، وليس فيه محاكاة لأسلوبٍ آخر في اللغة الأوربية, ولو كانت كتابته حديثًا محضًا لاسترسلت بلا توكيد ولا تكرار، ولو كانت تقريرًا محضًا أو درسًا محضًا لما انحرفت عن أسلوب الكتابة الذي لا يتحدث به القائل، ولو كانت تقريرًا أو درسًا على الطريقة الشرقية لما ظهرت فيها المقاطع والفواصل الأوربية, ولجرت على سياقٍ قريب من سياق الدروس الأزهرية، ولكن كتابته حديث فيه محاضرة ومراجعة وتنظيم, فلا يوافقها إلا ذلك الأسلوب الذي استقلّ بابتداعه طه حسين ولو غضب المنكرون، وقد يكون غضب المنكرين من أسباب ذلك الابتداع، ولأجل هذا الابتداع يغتفر ما في كتابة الدكتور من إسهاب وتكرار"1 كما يقول العقاد2، ذلك أن طه حسين قد أفاد بأسلوبه هذا عمل من لم يفدهم الرأي ولم تقنعهم المناقشة، فرأوا أن العربية قد تكتب صحيحة فصيحة على أسلوب غير أسلوب الجاحظ وعبد الحميد وبديع الزمان وابن المقفع، ورأوا كاتبًا كبيرًا يكتبها كما يشاء هو لا كما يشاء القدماء, "فتنكتب" وتلذ وتفيد, فاستعدوا لاستحسان الفصاحة في غير قيودها القديمة, وألفوا تعديد من الأساليب وطرائق التعبير إلى غير انتهاء. وذلك وحده فتح قدير"3. ومن ذلك يتبيَّنُ أن البلاغة الجديدة تقتضي بحث اللغة من خلال المتلاغين, ذلك أن اللغة في نهاية الأمر تكون هي المتلاغين أنفسهم4، وتكون لغة الكاتب هي قوامه الإنساني، والمؤثِّر الأكبر على سلوكه، وهي التي تبرز قسماته النفسية، كما يبرز وجهه قسماته البدنية المميزة, وليس معنى ذلك أن نعزل الكائن الإنساني بقسماته اللغوية عن محيطه الثقافي واللغوي5، فإن هذه الشخصية تنتمي إلى جماعة لغوية بذاتها، وهذه الجماعة اللغوية بالقياس إلى طه حسين هي التي تغذي لغته بعناصر الأصالة والتجديد، ولكن هذه العناصر تتحدَّدُ من خلال الاتصال بالجماهير تحديدًا يجعل بلاغته تقوم على الارتباط بين الكاتب والجمهور، فلم يعد المقال رسالة للخاصة بحكم التطوّر الاجتماعي والفكري، ولكنه أضحى كلامًا يوجَّه إلى جماهير الناس، من خلال وسيلة جماهيرية تجعل الكُتَّاب "يصطنعون النثر في هذا العصر كما اصطنعوه في جميع العصور منذ تقدَّمَت الحضارة لتأدية أغراضهم المختلفة"6.   1، 2، 3 المرجع نفسه ص90. 4، 5 الدكتور عبد الحميد يونس: "اللغة الفنية", عالم الفكر, الكويت 5 أبريل 1971. 6 الدكتور طه حسين: من أدبنا المعاصر ص60. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 إنَّ لغة الاتصال بالجماهير -في البلاغة الجديدة- إذن هي اللغة العملية الاجتماعية، لغة الفن الصحفي التي تمتاز بالشمول وكونها لغة طبيعية، في حين أنَّ لغة العلم ولغة الفنِّ من اللغات المصطنعة التي لا يمكن اكتسابها إلّا بعد سنواتٍ من المران والتدريب1. ومن أجل ذلك يذهب طه حسين إلى أن ارتباط النثر العربي بوسيلة الاتصال الصحفي أدَّى إلى تطوره بسرعة أكثر من تطوّر الشعر، ذلك أن الناس "لا يصطنعون الشعر للإعراب عَمَّا يضطرب في أنفسهم من شئون الحياة اليومية, وهم لا يحررون الصحف شعرًا, ولا يكتبون فيما يريدون أن يكتبوا فيه حين يؤلفون الكتب شعرًا أيضًا، وإنما يصطنعون النثر في هذا العصر كما اصطنعوه في جميع العصور منذ تقدَّمت الحضارة لتأدية أغراضهم المختلفة"2. وتذهب هذه الرؤيا العملية لبلاغة الاتصال بالجماهير عند طه حسين، إلى ارتباط بالناس وتطوير الذوق العام، وعدم اعتزال الحياة الشعبية، والاقتراب من آلام الناس وآمالهم، ذلك أن كُتَّابَ المقال من جيل طه حسين "كانوا يعيشون مع الشعب, بل يعيشون بالشعب وللشعب. يعيشون لأنهم كانوا يعربون عن ذات نفسه, يصورون له آماله ليحرص عليها, ويجد في تحقيقها, ويفتحون له آفاقًا من الأمل ليسرع إليها ويمعن فيها, ويصورون آلامه ليبرأ منها ويضع عن نفسه أثقالها.. وأيسر القراءة فيما كانوا يكتبون تبيّن ذلك في غير لبسٍ ولا غموض, فهم الذين صوَّروا له الاستقلال وزينوه في قلبه, وهم الذين كرَّهوا إليه الاستبداد وأطمعوه في الحرية وأغروه بالإلحاح في طلبها, وهم الذين أعدوه للثورة وأسخطوه على حياة سيئة كان يحياها, وهيأوا ضميره ليسرع إلى الخير حين يدعى إليه, وينصرف عن الشر حين يُرَدُّ عنه, ويتقبَّل الإصلاح حين يعرض عليه. وهم قاوموا الاستبداد ولقوا في مقاومته ضروبًا من الأذى وفنونًا من النكر، وهم قوَّموا المعوَّجين من الحكام, وجدوا في صرف الشعب عنهم وتزهيده فيهم. فعلوا كل هذا وتقبَّل الشعب منهم ما فعلوا, واستجاب الشعب لهم حين دعوه واستمع لهم حين تحدثوا إليه. وآية ذلك أنه كان يقرأ لهم حين يكتبون, ويسمع لهم حين يخطبون ويتحدثون3. ذلك أن ولاء هذه المدرسة -كما يقول طه حسين- يرتبط "بالبيئة المتحضِّرة التي يعش فيها الكاتب للجمهور وبالجمهور"4 في نهاية الأمر.   1 الدكتور إبراهيم إمام: مرجع سبق ص40. 2 الدكتور طه حسين: مرجع سبق ص160. 3 المرجع نفسه ص161-163. 4 الكاتب المصري, أكتوبر 1945, مرجع سابق, ألوان ص17. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 ومن ثمار هذا الفهم الجديد، اتجاه هذه المدرسة المقالية إلى درس الشعب وتعمُّق درسه، وعرض هذا الدرس، وإظهار الشعب على نفسه فيما تنتج له من الآثار1، الأمر الذي يجعل من لغة الاتصال بالشعب في المقال الصحفي لغة "المغزى والمعنى والأهمية؛ لأنها تقوم على الوظيفة الهادفة والوضوح والإشراق، بحيث تكاد تكون فنًّا تطبيقيًّا قائمًا بذاته. فالفن الصحفي تعبير اجتماعي شامل، ولغته ظاهرة مركبة خاضعة لكل مظاهر النشاط الثقافي إلى جانب السياسة والتجارة والاقتصاد والموضوعات العامة"2. وهذه اللغة في مقال طه حسين هي لغة الفنّ الصحفي التي تقترب من لغة الأدب, وتمتاز بالسلاسة والواقعية والتبسيط، بحيث تحقق التقارب بين مستويات اللغة: العلمي والأدبي والعملي، على النحو الذي يدُلُّ على تجانس المجتمع، وتوازن طبقاته, وحيوية ثقافته، ومن ثَمَّ إلى تكامله وسلامته العقلية، فمن الثابت -كما يقول الدكتور إمام3: إن العصور التي يسود فيها نوعٌ من التآلف بين هذه المستويات هي غالبًا أزهى العصور وأرقاها, ولقد حرصت البلاغة الجديدة في مقال طه حسين على تحقيق أمرين لا يرضى بدونهما4: الأول: أن يقوم المقال على نثرٍ فصيحٍ مستقيم اللفظ نقيِّ الأسلوب بريء من الابتذال، متحرر من أغلال البيان والبديع. الثاني: أن يكون النثر، على كلِّ ما قدَّمْنَاه ملائمًا لذوق "الكثرة المطلقة من الذين يقرءون الصحف والكتب"5, وأن يكون كذلك قيِّمًا في معناه كما هو قيّمٌ في لفظه أيضًا، ومعنى هذا أن الكثرة المطلقة من القراء عند طه حسين6 تحرص في حياتها كلها على أمرين: تحرص على قديمها؛ لأنها لا تريد أن تمحو شخصيتها، وتحرص على الجديد؛ لأنها لا تريد أن تكون أقلَّ من الغرب علمًا ولا أدبًا ولا حضارة, وهذا النثر هو وحده -عند طه حسين- الملائم لهذا الذوق الجديد, وهذه الآمال الجديدة7. ولعلَّ في ذلك ما يضع البلاغة الجديدة التي ارتبطت بالمقال الصحفي عند طه حسين في إطارها الصحيح، ذلك أن كثيرين من المتأدبين لا يزالون يسيئون الظنَّ بالأسلوب الصحفي، وقد يزعمون أنه الأسلوب القريب من   1 الكاتب المصري, أكتوبر 1945, مرجع سابق, ألوان ص17. 2 الدكتور إبراهيم إمام: مرجع سبق ص45، 47، 41. 3 الدكتور إبراهيم إمام: مرجع سبق ص45، 48، 41. 4، 5 الدكتور طه حسين: حافظ وشوقي ص73. 6، 7 المرجع نفسه ص73. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 العامية لأنه كثيرًا ما يأخذ منها1، وقد يزعمون أنه الأسلوب الذي لا يخضع كثيرًا لقواعد اللغة والنحو2, وقد يزعمون أنه الأسلوب الذي لا يتقَيَّد بالأذواق الأصيلة للغة الفصحى3. وواقع الأمر أن الأسلوب الصحفي بريء من كل هذه الصفات، ذلك أنه الأسلوب الذي يستَمِدُّ بلاغته الحقيقية من الارتباط بالواقع, ومن الحياة العامة، ومن مخاطبته ألوف الألوف من القراء الذين لا بُدَّ لهم من فهمه جيدًا4. فالواقعية إذن فضلًَا عن كونها من صفات الأسلوب الصحفي، مصدرٌ من مصادر القوة والبلاغة في هذا الأسلوب, ذلك أن براعة الكاتب الصحفي هي في أن يجعل القارئ شاهدًا من شهود العيان، وشريكًا له في الحكم على القضية السياسية أو الاجتماعية التي يعرضها في صحيفته5. لهذه الأسباب وأمثالها يمكن النظر إلى الأسلوب الصحفي على أنه من الأساليب البليغة بالمفهوم القديم للبلاغة على أقل تقدير من أنها "مطابقة الكلام لمقتضى الحال". وتأسيسًا على هذا الفهم، فإن بلاغة الاتصال بالجماهير، هي التي تذهب بطه حسين إلى تصحيح مفهوم اللغة وتحريرها من أغلالها القديمة "لتصبح منطلقة إلى غاياتها بلا أثقال، معبَّرة عن المعاني في يسر وسهولة, منتشرة بين أوسع رقعة من الناس، دون أن تحبس نفسها في دائرة ضيقة لا يفهمها إلا عدد من خاصة الخاصة"6. ذلك أن طه حسين يريد للغة العربية أن تستجيب لحاجات العصر "وكل ما نريده لهذه اللغة هو أن تسلك سبيلها في الحياة والاستحالة"7, ذلك أن اللغة -كذلك- ظاهرة "من ظواهر الاجتماع الإنساني، لم يصنعها فردٌ بعينه ولا جماعةٌ بعينها, وإنما اشتركت في وضعها الأمة التي تتكلمها"8, وعلى ذلك يذهب طه حسين إلى ملاءمة اللغة "لنفسية الأمة وحاجاتها, والظروف التي تحيط بها"9, فاللغة في حقيقة الأمر ليست إلّا "أثرًا لهذه النفسية والحاجات والظروف"10. ومن أجل ذلك يذهب طه حسين إلى تحقيق التقارب بين المستويات اللغوية، تأسيسًا على أن "الذوق الأدبي العام لا يتغيَّر بتغيُّر مَنْ تتحدث إليه, وقد تختلف الرسائل عسرًا ويسرًا, وتختلف لينًا وشدة باختلاف مَنْ تتحدث إليه، فللصحف لغة وأساليب ليست للكتب التي يؤلفها العلماء للعلماء،   1، 2، 3 الدكتور عبد اللطيف حمزة: أدب المقالة جـ8 ص339، 400. 4 المرجع السابق ص401، 402. 5 المرجع السابق ص401, 402. 6 عبد المنعم الصاوي: مجلة الثقافة ديسمبر 1973. 7 السياسة في 6 يونيو 1923, حديث الأربعاء جـ3 ص10-13. 8 السياسة في 13 يونيو 1923, المرجع السابق ص16. 9، 10 السياسة في 27 يونيو 1923, المرجع السابق ص33، 34، 35. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 والأدباء للأدباء, ولكن ذلك شيء واختلاف الذوق شيء آخر, وهؤلاء كتاب أوربا وأدباؤها يتحدث بعضهم إلى بعض, ويتحدثون إلى جمهور الناس في الفرنسية أو الإنجليزية أو الألمانية، فلا يختلف الذوق الأدبي فيما يكتبون باختلاف القرَّاء، وإنما يؤثرون الوضوح والجلاء حينًا؛ فيطنبون ويسهبون ويصطنعون ألفاظًا ألفها الناس, ويؤثرون القصد والإيماء حينًا؛ فيوجزون ويتخيَّرون ألفاظًا منتقاة, والذوق هو الذوق، والكتابة هي الكتابة، وروح العصر الذي يعيشون فيه هو فيما يكتبون لنظرائهم, وفيما يكتبون لعامَّة الناس"1. فالبلاغة الجديدة -إذن- في الاتصال بالجماهير عند طه حسين لا تتناول الألفاظ وحدها, وإنما تتناول الألفاظ والأساليب والمعاني و"فنون القول على اختلافهما. علينا أن نحتفظ بقواعد اللغة ونظمها العامة فلا نفسدها, ولكن علينا أن نخضع هذه اللغة لما نشعر ولما نجد، وأن نمنحها من المرونة ما يمكنها من أن تكون أداة صالحة لوصف ما نشعر وما نجد"2. وتأسيسًا على هذا الفهم، فإننا نحاول فيما يلي إيجاز الخصائص والسمات العامة لهذه البلاغة الجديدة في مقال طه حسين:   1 السياسة في 13 يونيو 1923, المرجع السابق ص16. 2 السياسة في 27 يونيو 1923, المرجع السابق ص36. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 التبسيط والنمذجة الصحفية : والتبسيط سمة من أهم سمات الفنِّ الصحفيِّ الذي يعرض الأحداث والأفكار عرضًا يرتبط بظروف المرسل والمستقبل جميعًا1، ولذلك تسعى البلاغة الجديدة إلى النمذجة والتبسيط؛ لأن العقلية الجماهيرية تركن إلى الاستعانة بالرموز والأنماط والنماذج والتبسيط لتقوم مقام التجربة الفردية أو الجماعية2، ذلك أن قيود الاتصال الصحفي -كما يقول طه حسين- تقتضي "السرعة والنظام الدقيق, وتحتاج بعد هذا كله إلى أن تملأ الصحف الأنهار التي أخذت نفسها بأن تقدمها إلى قرَّائها في كل يوم أو في كل أسبوع"3, فإذا كان "الأديب يكتب للذين يسيغون الأدب ويقولونه ويجدون في قراءته لذَّةً ومتاعًا"4 فإن "الصحفي يكتب لكل قارئ, أو قل: يكتب لكل إنسان, فما أكثر ما يجلس الأميُّون إلى هذا القارئ أو ذاك ويستمعون لما يُتْلَى عليهم.   1، 2 الدكتور إبراهيم إمام: مرجع سبق ص45، 46، 47. 3، 4 من أدبنا المعاصر ص169. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 وليس بُدٌّ للصحفي -كما يقول طه حسين أيضًا- أن يكتب لهؤلاء جميعًا كلامًا يفهمونه حين يقرأونه أو يسمعونه"1. فالتبسيط والوضح إذن من مقومات الاتصال الصحفي الناجح بالجماهير عند طه حسين -ذلك أن الأصل في الكلام- أنه وسيلة "تتوسل بها إلى الإعراب عَمَّا تريد أن يفهمه غيرك فهمًا واضحًا جليًّا لا لبس فيه ولا غموض, والكلام كله يشترك في هذا الأصل سواء منه ما كان شعرًا وما كان نثرًا، 0وسواء منه ما تحدَّث إلى العقل وما تحدَّث إلى القلب والشعور, فإذا خرج الكلام عن أصل البيان والتبيين هذا, فكان فيه غموض أو التواء، فمصدر ذلك قصور في المتكَلِّم أو الكاتب أو قصور في السامع أو القارئ: قَصَّر ذاك فلم يحسن الإعراب عَمَّا يريد، أو عجز هذا فلم يحسن الفهم عما أُلقِيَ إليه, وقد يكون الغموض مقصودًا ويُتَعَمَّد الالتواء, ولكن هذا الكلام الغامض الملتوي واجد على كل حال من يقرؤه أو يسمعه فيفهمه فهمًا صحيحًا مستقيمًا"2. على أنَّ التبسيط والنمذجة الصحفية في مقال طه حسين، ترتبط بالفهم الوظيفي النابع من الاستراتيجية القومية لديه كذلك في التدعيم والتغيير. ذلك أن "لغة الصحف"3 في نموذجه الاتصالي -كما تَقَدَّمَ- لغة وظيفية "موجهة للشعب ومعلِّمَةٌ له في وقت واحد, فمنَ الحقِّ عليها أن تغري هذا الشعب بقراءة ما يرفعه شيئًا عن حياته اليومية, وعن أحاديثه التي يديرها أبناؤه بهذه اللغة العامية التي إن امتازت بشيء فهي لا تمتاز بالصفاء والنقاء"4، ذلك أن لغة الصحف -في إطارٍ من التعليم والتوجيه الوظيفي- عند طه حسين تقتضي مذهبًا في "الكتابة يلائم العصر الذي نعيش فيه، ويلائم الصحف بنوع خاص"5, ولذلك يذهب إلى أن "تُكْتَبَ الصحف بلغة هذا العصر الحديث, على أن تكون هذه اللغة صافية نقية مبرَّأة من هذا الابتذال الشائع الذي يفسد الذوق ويفسد رأي الشباب في لغتهم العربية"6, ذلك أن "الشباب يقرأون الصحف ويمعنون في قراءتها, ويتأثرون بما يقرأون فيها من ناحية اللغة ومن ناحية التفكير أيضًا, ويفسد عليهم ذلك تفكيرهم وتعبيرهم جميعًا"7.   1 من أدبنا المعاصر ص169. 2الدكتور طه حسين: فصول في الأدب والنقد ص158. 3، 4، 5 الدكتور طه حسين: "لغة الصحف" جريدة "الجمهورية" في 20 أغسطس 1960. 6، 7 المرجع نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 وفي ضوء هذا الفهم الوظيفي، يذهب طه حسين إلى تيسير الكتابة والنحو تيسيرًا يفيد في الاستخدام العملي الوظيفي للغة العربية وألفاظها وتركيب جملها، وتأليف الكلام "على نحوٍ عمليٍّ منتجٍ"1، هو ألزم ما يكون في الاتصال الصحفي بالجماهير, الذي "يحقِّقُ لهم الصلة اليومية بينهم وبين الذين يشاركونهم في الوطن والمصالح, أو بينهم وبين الذين يشاركونهم في الحياة الإنسانية بوجه عام"2. ومن ذلك يبين دور اللغة في التبسيط والنمذجة الصحفية في فنِّ المقال الصحفي، الدور الذي يقتضي توافر: الوضوح لقصد الإفهام, والقوة لقصد التأثير, والجمال لقصد الإمتاع في أسلوبه العام، فالتبسيط والوضوح ضمان من حيث الإفهام، وإفادة القراء ورفع مستواهم الثقافي. ولذلك يذهب طه حسين إلى مطابقة الأسلوب الصحفي لمقتضيات الاتصال بالجماهير مطابقة تقوم على الفهم عند القراءة أو السماع3, ولذلك يسخط على الكُتَّابِ المتكلفين -كما تَبَيَّنَ من معركته مع الرافعي- سخطًا شديدًا لما يتسمون به من غموضٍ مصدره الجهل أو الغفلة4، ذلك أن طه حسين في تحريرمقاله، كما يقول دائمًا "باحث يحاول أن يفهم، ويحاول أن يدعو غيره إلى الفهم والاستقصاء"5. ولتحقيق هذه الوظيفة، يتوسَّلُ طه حسين بالتبسيط والنمذجة الصحفية كما تَقَدَّمَ، وتقوم هذه النمذجة على انتزاع بعض الصفات وتحريرها من سباقها العام، ثم إبرازاها وإلقاء الضوء عليها6 من خلال الحركة والتفصيل والتنغيم والمقابلة والتضاد، وتلاحظ في هذا الصدد أن طه حسين يبدأ مقاله في معظم الأحيان بتعريف الموضوع في بيئته وزمانه، ثم يعرُج على تخطيط كامل لملابساته, ولا يلبث أن يعرض لكل احتمالات الصعوبة في تحديد بعض النماذج, ثم يتلوها ببيان كامل لكافَّة الجزئيات المنتزعة، والمناسبات التي لا يحسن إغفالها, وكأنما يتصوَّر النماذج في تجسيمها المساحي دفعة واحدة, وسنجد هذه السمات تصل إلى درجة التصوير الكاريكاتيري، كما سيجيء عند الحديث عن المقال الكاريكاتيري، حين يتوسَّلُ بالمبالغة والسخرية والأطراف في النمذجة الكاريكاتيرية، كما في "نموذج" "سيدنا" في "الأيام"، ونموذج المندوب السامي البريطاني الذي اختارته بريطانيا ليخلف "السير برسي لورين"   1 المرجع السابق. 2 من مقدمة الدكتور طه حسين لكتاب "هذه صحافتنا بين الأمس واليوم" للأستاذ جلال الدين الحمامصي. 3 من أدبنا المعاصر ص 169. 4 حديث الأربعاء جـ3 ص101-123. 5 المرجع نفسه ص20. 6 الدكتور إبراهيم إمام: مرجع سبق ص47. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 فهو: "طويل القامة، يرتفع في الجو مترين، ثقيل الحجم، يزن قنطارين، صلب العظام، قوي العضل. مهيء بهذا كله فيما تقول بعض الصحف الإنجليزية للقاء المعضلات، واجتياز العقبات، وتذليل المصاعب والخروج من الخطوب"1, ثم يقابل بين هذه الصورة "التي لا تخلو من قوة وطرافة، وبين ما تنتظر أو ما تريد أن يأتيه المندوب السامي الجديد من العمل السياسي في مصر"2. ويخلص من هذه المقابلة إلى نمذجة المقاومة المصرية في الشعب المصري الذي "جرَّبَ الطوال والقصار، والخفاف والثقال من المندوبين الساميين"3, ولكن "عنف العنيف لم يخف هذا الشعب، ولم يصرفه عن حقه, ولين اللين لم يخدع هذا الشعب، ولم يلهه عن حقِّه، وإنما ثبت الشعب للرجلين جميعًا؛ أو للرجال جميعًا, ومضى الشعب يطالب باستقلاله لا يضعف عن المطالبة"4. كما يصوِّرُ نموذجًا نضاليًّا لمصر "الكلمة في حياة الأمم والأجيال منذ عشرات القرون قبل أن يعرف غيرها من الشعوب معنى كلمة الأمم والأجيال، بل قبل أن يعرف التاريخ غيرها من الشعوب بزمن طويل"5, وأهل"مصر الآن كما كانوا من قبل يعرفون معنى الحرية والاستقلال, ويقدِّرون قيمة العزة والكرامة، ويحرصون أشدَّ الحرص على أن يكونوا أحرارًا مستقلين, ويجدّون أشد الجدِّ في أن يكونوا أعزة كرامًا"6. ويتوسَّلُ طه حسين في نمذجته الصحفية بما يسميه المرحوم سيد قطب "الاستعراض التصويري"7، حيث يستخدم الكلمات والجمل في تصوير المناظر والحوادث والمعاني، والخطرات النفسية والآراء السياسية والالتفاتات الذهنية على السواء, وتلك ميزته "الكبرى كصاحب شخصية أدبية وصاحب مذهب فني كذلك"8. على أن هذه الميزة في المقال الصحفي تُسْتَخْدَمُ استخدامًا وظيفيًّا في النمذجة الصحفية لأسباب خارجية أهمها التبسيط للجماهير9, ولذلك يتوسَّل في هذه النمذجة بالإحساس الفني وليس بالخيال، كما في النمذجة الأدبية، كما نجد في نمذجته لمقاومة الشعب المصري للمحنة الدستورية والسياسية في إطارٍ من سياق حركة الأحداث10, ومن ذلك قوله عن سخرية المصريين11:   1، 2، 3 كوكب الشرق في 20 أغسطس 1933. 4 المرجع نفسه. 5، 6 كوكب الشرق في 14 سبتمبر 1933. 7، 8 سيد قطب: كتب وشخصيات ص110، 111. 9 الدكتور إبراهيم إمام: مرجع سبق ص46. 10، 11 كوكب الشرق في 25 مارس 1933. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 "ما أكثر ما عني الشعراء وأصحاب الفن بابتسامات الأفراد هذه، فأبدعوا وأجادوا وأظهروا للناس آيات فنية خالدة، وما أخلقهم أن ينظروا إلى ابتسامات أخرى ساخرة, هي أروع من تلك الابتسامات وأجمل، وهي أشد منها وقعًا في القلوب وأبعد منها أثرًا في النفوس؛ لأنها ابتسامات تترجم عن سخرية الشعوب من قوة الأقوياء وازدراء الأمم لسلطان المتجبرين, في هذه الابتسامات الشعبية جمال الصبر والجلد، وجمال العزة والشمم، وجمال الثقة والأمل، ومنها فوق هذا كله وبعد هذا كله جمال التضامن الصادق1. فهذه الصورة التي يتوسَّل في تصويرها بإحساسه الفني لا تنفصل عن الواقع الملموس لحركة الأحداث: "ما أجمل هذه الابتسامات وقد ارتسمت على ثغر مصر منذ نهض رئيس الوزراء بأعباء الحكم, فما زالت مرتسمة على هذا الثغر لم تفارقه ولم تتحوَّل عنه, ولم يشبها عبوس، ولم يغيِّر من صفائها وجمالها تقطب ولا شحوب. لقد نظرت مصر إلى صدقي باشا حين ألَّفَ وزارته ففهمت ما كان يريد، فابتسمت له مشفقة عليه تعظه وتحذره، ولكنه أخطأ فهم هذه الابتسامة.. إلخ"2. ويتوسَّلُ طه حسين بالنمذجة الصحفية في مقاله كذلك لترجمة المصطلحات الجامدة المجردة المعقدة إلى مصطلحات الواقع العملي النابض بالحياة، شأنه في ذلك شأن الكُتَّابِ الذين عالجوا الكثير من المدارس الفنية والفلسفية والعلمية الحديثة رغم صعوبتها بمصطلحات الفنِّ الصحفي فأمكن نشرها بين الجماهير3. ذلك أن طه حسين يتوسَّلُ بالنمذجة من أجل التبسيط، لتوصيل هذه المعلومات إلى الجمهور بطريقة مفهومة مستساغة، كما نجد في تبسيطة لفلسفة ديكارت4 وأدب فاليري5 وفولتير6 والأدب الفرنسي الحديث7 والفلسفة الوضعية8, وكما نجد في نموذجه للعدل الاجتماعي ومكانه بين الاشتراكية والرأسمالية9، والالتزام عند سارتر10، و"الأدب المظلم"11.. إلخ. ولعلَّنَا نستطيع أن نذهب تأسيسًا على هذا الفهم   1 كوكب الشرق في 25 مارس 1933. 2 المرجع نفسه. 3 الدكتور إبراهيم إمام: مرجع سبق ص11. 4، 5 الكاتب المصري في أكتوبر 1945. 6 الكاتب المصري في ديسمبر 1945. 7 الكاتب المصري في أبريل 1946. 8، 9 الكاتب المصري في مايو 1946. 10 الكاتب المصري في أغسطس 1946. 11 الكاتب المصري في مارس 1947. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 للنمذجة الصحفية التي تقوم على رؤيا الكاتب للعالم والأشياء والثقافات، إلى أن معركة: "لاتينيون وسكسونيون" كانت معركة بين نموذجين" ثقافيين، على نحو ما نعرف عن نموذج طه حسين1 للثقافة اللاتينية, ونموذج العقاد للثقافة السكسونية"2. وقد تعرَّفْنَا فيما تَقَدَّمَ على نمذجة طه حسين "للشعر القديم" بهدف تبسيطه في مرحلة التدعيم، عند الحديث عن مقالات "حديث الأربعاء", وهو نموذج: "حديقة طال عليها الزمن، وأهملت إهمالًا متصلًا، ولم تنقطع عنها مع ذلك مادة الحياة، فمضت أشجارها وشجيراتها تنمو في غير نظام، هذا النمو المهمل المضطرب"3. ويتوسَّلُ بنمذجة هذا الشعر إلى تبسيطه وتفسيره لرأب الصدع، وسد الهوة السحيقة بين القرَّاء المحدثين والشعر القديم، لتحقيق أغراض التدعيم في استراتيجيته القومية، على النحو المتقدم في كتابنا عن "طه حسين وزوال المجتمع التقليدي".   1 مجلة الرسالة في 5 فبراير 1933. 2 الجهاد في 17 يناير 1933. 3 الجهاد في 30 يناير 1935, حديث الأربعاء جـ1 ص15. في د. عبد العزيز شرف: طه حسين وزوال المجتمع التقليدي, المقال الثقافي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 الأسلوب الواقعي : وتأسيسًا على ما تَقَدَّمَ، فإن النمذجة الصحفية في مقال طه حسين تقوم على أسلوب واقعي يتصل بحياة المجتمع وأحداثه الخارجية، ذلك أن المقال الصحفي يفترض وجود رأيٍ عام يخاطبه ويتحدث إليه، فإذا كان المقال الأدبي يدخل في اعتباره عواطف الفرد ووجدانه، فإن المقال الصحفي يهتم بما يسمى "بالوجدان الجماعي". وعلى ذلك, فإن بلاغة المقال الصحفي ترتبط بواقعية أسلوبه, وارتباطه دائمًا بالجو الاجتماعي، والظروف السياسية المحيطة به، حتى أننا لا نكاد نفهم هذه المقالات الصحفية في العصور المتقدمة دون الإحاطة التأمَّة بالبيئة الاجتماعية؛ وخصائص العصر الذي كُتِبَتْ فيه. ومن المعروف كذلك أن الآداب الخالدة، والمؤلفات الكبرى لا تَتَطَلَّبُ في دراستها مثل هذا العناء الذي تتطَلَّبُه القِطَع الأدبية التي يكتبها أدباء الطبقة الثانية؛ لأن الآداب العظمى الرفعية تتصل بعواطف الإنسان الثابتة، وترتبط بعلاقات بشرية خالدة، أما الصحافة فإنها تدور حول أمور اجتماعية ومناسبات معينة, لذلك كانت كتابات الطبقة الثانية في الأدب والصحافة أيضًا ذخيرة هامة للمؤرِّخ وعالم الاجتماع، تتفوق في قيمتها الاجتماعية ودلالتها التاريخية على الآداب الإنسانية الرفيعة التي يهتمُّ بها الأدباء والنقاد وعلماء الجمال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 وفي ضوء هذه الرؤيا، فإن المقال الصحفي في أدب طه حسين يشتق بلاغته من الواقع المحسوس، معتمدًا على قدرته في التحليل والتعليل، وحسن تذوّقه للحوادث الجارية، والأدلة التي يسوقها على صحة رأيه في مسألة من المسائل، من خلال الشواهد العملية والتقارير الرسمية وغير الرسمية، ومن ثَمَّ يشف مقاله عن عقلية عملية منظمة، تجمع بين العلم والأدب والصحافة جميعًا، فهو يعمد إلى الحوادث التي تصل إلى علمه، فيحللها تحليلًا عميقًا دقيقًا؛ متوسِّلًا بثقافته العريضة في تقويمها، وبأسلوبه الاستقصائي في حشد العدد المناسب من الحقائق والوقائع، ونُمَثِّلُ لذلك بمقالٍ جعل عنوانه: "حقائق"1 يقول فيه: "ليست خيالًا ولا وهمًا، وليست ظنًّا ولا ترجيحًا؛ وإنما هي حقائق لا تقبل الشك ولا تحتمل النزاع, هذه التي رفعها صاحب السعادة أحمد عبد الوهاب باشا وكيل المالية، إلى رئيس الوزراء حين طلب إليه أن يدرس حالتنا المالية، ليتبين أيمكن أم لا يمكن البدء في تنفيذ هذا المشروع الذي اضطربت له البلاد، وما زالت تضطرب، لا أقول منذ عام, بل منذ زمن طويل، وهو مشروع جبل الأولياء"2. ثم يشير إلى التقرير الذي نشرته "كوكب الشرق" متضمنًا هذه الحقائق التي يتناولها "بالتفسير والتحليل"3 ويقف عند "ملاحظات سياسية تثيرها قراءة هذا التقرير الذي كتبه عبد الوهاب باشا"4.. إلخ. ومن ذلك يبين اعتماد طه حسين على الأسلوب الواقعي في مقاله الصحفي, وهو أسلوبٌ يتنكب طريق الأدب الذي يتسلق على كلام السابقين من مشاهير الشعر والحكمة، ذلك أن الصحافة فنٌّ واقعيٌّ لصيق الصلة بالأحداث الجارية، وليس معنى ذلك أن طه حسين قد أعرض إعراضًا تامًّا عن استخدام الأمثلة والشواهد المستقاة من ثقافته، بل معناه أنه كان مقلًا في ذلك إقلالًا يضع مقاله في دائرة الصحافة بمستواها العملي الواقعي، وهذا الاستخدام القليل، لم يكن استخدامًا لذاته، بقدر ما جاء استخدامًا وظيفيًّا يخدم الأسلوب الواقعي في الإقناع والتحليل والتوجيه, وفي هذا المستوى الوظيفي كان له من الاستشهاد بأقوال الساسة والفلاسفة والشعراء من العرب والأوربيين ما يحتاج إليه في أداء وظائف المقال، ومن ذلك استشهاده في مقالٍ بعنوان   1 كوكب الشرق في 9 مايو 1933. 2 المرجع نفسه. 3، 4 المرجع نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 "ذيول"1 بعبارة من بيان الوفد، يسوقها في مقدمة المقال، ثم يُعَلِّقُ عليها في صلبه، ويقوِّمها في ضوء حركة الأحداث. ومن ذلك أيضًا استشهاده بالفيلسوف الألماني "كانت" في مقال بعنوان: "دعابة"2, استشهادًا عمليًّا وظيفيًّا يخدم الفكرة السياسية في المقال. "زعموا أن الفيلسوف الألماني العظيم "كنت" كان عَوَّدَ نفسه أن يخرج للرياضة كل يوم في ساعة معينة، لا يتقدَّمُ عنها ولا يتأخَّر، وكان أهل مدينته قد تعودوا منه ذلك، ولما رأوه ذات يوم قد قَدِمَ موعد خروجه للرياضة دهشوا واستيقنوا أن حدثًا خطيرًا قد ألمَّ بأهل الأرض، أو بنجوم السماء, ولم تمض أيام حتى عَرِفَ أهل المدينة أن الأمر قد كان كما قد رأوا، وأن اليوم الذي اضطرب فيه نظام الفيلسوف هو اليوم الذي شبَّت نار الثورة الفرنسية، واحتلَّ فيه الفرنسيون حصن الاستبداد والظلم الذي كان يقوم في باريس وهو الباستيل. وقد لاحظنا أمس خروج "الأهرام" عن طورها المألوف وخطتها المرسومة فيما بينها وبين الحكومة من صلة قوامها المودة والعطف، دون الخصومة والمعارضة, وقلنا كما قال مواطنوا الفيلسوف الألماني: "لأمر ما قدم الفيلسوف ساعة خروجه"! إلخ، ثم ينتقل إلى مناقشة الشواهد العملية المشتقة من حركة الأحداث, والتي أدَّت إلى خروج "الأهرام" عن طورها، و"اختارت من سهامها أمضاها وأنفذها وأكثرها سُمًّا، ثم رمت بها في صدر صديقتها الوزارة"3. ومن ذلك يبين أن الأسلوب الواقعي في مقاله طه حسين يستدعي المثل أو العبارة أو الكلم المأثور أو الآية من القرآن، ويتمثَّلُها تمثلًا جديدًا، بحيث نلاحظ في كثير من الأحيان أن جملة طه حسين رغم واقعيتها قد تأخذ شظيةً من بيت شعري, أو كلمة مأثورة قديمة، ولكنها تضفي عليها من رؤياه، كما نجد في المقال المتقدِّم قوله: "ثم نثرت كنانتها بين يديها كما يقول الحجاج"4. ومن ذلك أيضًا تمثُّل الأسلوب القرآني في مقالٍ سياسي بعنوان: "تحقيق"5, حين يقول: "أيقظ أصحاب الكهف بعد أن لبثوا في كهفهم ثلثمائة سنين، وازدادوا تسعًا، وهو يوقظ اليوم بعض النواب، بعد أن ناموا دهرًا طويلًا تميل الأرض من تحتهم، وتضطرب السماء من فوقهم، ويموج الناس من حولهم، وهو لا يرون، ولا يسمعون أو لا يأتون عمل الذين يرون أو يسمعون"6.   1 كوكب الشرق في 6 أكتوبر 1933. 2 كوكب الشرق في 16 مارس 1933. 3، 4 المرجع نفسه. 5، 6 كوكب الشرق في 21 مارس 1934. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 كما يتمثَّل بآياتٍ من القرآن تمثلًا صريحًا يرتبط بالسياق العام للموقف الذي يكتب فيه المقال، كما نجد في مقاله عن ذكري سعد زغلول: "لحظة"1, حين يستهلَّه بهذه الآية: "أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ " صدق الله العظيم. والموقف العام لهذا التمثل يبين من قوله بعد هذه الآية: "فلما بلغ القارئ هذا الموضع من آيات الذكر الحكيم أمسك عن القراءة, وأذَّنَ مؤذِّنٌ في الناس أن الزمان قد استدار كهيئته حين أسلم سعد روحه إلى بارئه، فانضمَّت ألوفٌ جالسة إلى ألوف كانت واقفة، وقاموا جميعًا خاشعين قد اطمأنت قلوبهم بذكر الله، الذي كانت تُتْلَى عليهم آياتُه، وامتلأت نفوسهم بذكر سعد الذي اجتمعوا ليفوا له ببعض ما له عليهم من حق"2. وهكذا لا ينفصل الأسلوب الثقافي في مقال طه حسين عن الأسلوب الواقعي؛ بحيث يرتبطان بعضهما البعض ارتباطًا لا ينفصم.. "وسياق الموقف لا غنى عنه لفهم الألفاظ" كما يقول مالينوفسكي, ذلك أن هذا الارتباط في نهاية الأمر ارتباط وظيفي، يوظِّفُ الأسلوب الثقافي للأسلوب الواقعي, ويوظِّفُ الأسلوبين بهدف النمذجة الصحفية، كما نجد في انتقاده للسياسة التعليمية في وزارة المعارف3: "يقول المثل لا تجني من الشوك العنب, ولست أريد أن وزارة المعارف كلها شوك, ولكني أريد أن وزارة المعارف إن أرادت أن تصل بالتعليم إلى الخير, فمن الواجب عليها قبل كل شيء أن تضع من النظم وتؤلف من الإدرارات ما من شأنه أن يصلح التعليم.. إلخ"4. فالأسلوب الواقعي إذن في مقال طه حسين، فضلًا عن كونه أسلوبًا صحفيًّا، مصدر من مصادر البلاغة والقوة في هذا الأسلوب، لاعتماده على الواقع أساسًا في التعبير والتفكير, وصياغة الأحداث, والنظر إليها من ناحية دلالتها العملية وتفسيرها الاجتماعي، الأمر الذي يجعل المقال الصحفي في أدب طه حسين عملي التعبير، واقعي الاتجاه.   1، 2 كوكب الشرق في 24 أغسطس 1933. 3، 4 السياسة في 31 ديسمبر 1923. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 الأسلوب الاستقصائي: ونعني بذلك أن التعبير العملي وواقعية الاتجاه في مقال طه حسين يتجهان بأسلوبه إلى استقصاء الفكرة أو الموضوع أو الشواهد والمضيّ بها جميعًا من البداية إلى النهاية، ولعلَّ ذلك يرجع إلى مزاجه العلمي ومقوِّمَات ثقافته القديمة والحديثة، وقد يرجع إلى ظروفه البصرية التي أملت عليه أسلوب الحديث في مقاله فطابقت "براعة الكاتب فيه براعة المحدث، وكان أسلوب طه حسين الكتابي أسلوب الحديث، ومن خصائص هذا الأسلوب أن يمضي فيه صاحبه عفو الخاطر الدافق، سهلًا لين المرأس مسرعًا مستمهلًا، مستوقفًا مستفهمًا جازمًا، ساخرًا قافزًا مستطردًا مرددًا معيدًا"1. كما يقول خليل ثابت صاحب المقطم في وصف أسلوبه2، وكما يذهب المازني3 إلى ذلك أيضًا، والذي يُرْجِعُ خصائص هذا الأسلوب كذلك إلى أنه أستاذ مدرس، والأستاذ حريص دائمًا على أن يبسط الموضوع لتلامذته؛ ليتأكد من فهمهم له وإدراكهم جزئياته: "وليس يخفى أن المرء إذا حيل بينه وبين المرئيات ضعف أثرها في نفسه، ولم تعد الكلمة الواحدة تغني في إحضار الصورة المقصودة إلى ذهنه بالسرعة والقوة الكافيتين، فلا يسعه إلّا الإسهاب ومحاولة الإحاطة ومعالجة الاستقصاء والتصفية"4. ومهما يكن من شيء، فإن الاستقصاء في أسلوب طه حسين أداة من أدوات الاستقراء المنهجي في مقاله، يتمكَّن من خلاله من بلوع اليقين التحليلي في جميع ما يستطيع معرفته، دون أن يستنفذ قواه في جهود ضائعة، فهو لا ينسب إلى الأشياء أو الشواهد إلّا ما يدركه إدراكًا بديهيًّا في معاني تلك الأشياء وهذه الشواهد، على النهج الديكارتي5 في الانتقال من "المعاني" إلى "الأشياء", وهو النهج الذي يقتضي القيام في كل جزء باستقصاء مراجعات عامَّةٍ بحيث يثق بأنه لم يغفل شيئًا6، كما يقتضي تقسيم المسائل التي يناقشها في مقاله ما وسعه التقسيم إلى عدد من الأجزاء على أفضل نحو7. على أن هذا الأسلوب الاستقصائي عند طه حسين يقوم على قوة إدراكٍ عقلي فائقة، وبنية عقلية وذهنية تمكِّنُه من استيعاب كل ما يُلْقَى على سمعه, وعلى اختزان كل المتلقيات الحسية والذهنية، ثم إنها تمكِّنُه من تحليل المعلومات التي تتلقاها حواسَّه وتصنيفها تصنيفًا منهجيًّا8 يؤلف بين هذه المعلومات المتلقاة, ويربط فيما بينها, ويدمج ما يلزم منها، ويفرز ما لا يلزم، لتكوين الأفكار والرؤى وتوليد الصور الذهنية التي يختزنها أو يدفع بها عَبْرَ قلمه أو لسانه. وتأسيسًا على هذا الفهم، فإن الأسلوب الاستقصائي في مقال طه حسين   1، 2 سامي الكيالي: مرجع سبق ص89، 90. 3 قبض الريح ص38، 39. 4 قبض الريح ص38، 39. 5، 6، 7 أندريه كرسون "وترجمة الدكتور حسن شحاتة سعفان": ديكارت ص68. 8 الدكتور على سعد: مرجع سبق ص52. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 أسلوب وظيفي، ينتقل بالقارئ انتقالًا منهجيًّا من فكرة إلى تاليتها، على ما يقتضي المنطق، مستقصيًا جوانب الموضوع من أجل الإقناع والتبسيط والتأثير, مما يَنُمُّ عن شخصيته التي تجنح إلى التنظيم الفكري، وتأكيد الفكرة المحورية في المقال، ولعل في ذلك ما يفسِّرُ شيوع "المجموعات" أو "السلاسل" في صحافة طه حسين، وتوظيف "التكرار" و"الاستطراد" توظيفًا صحفيًّا في أسلوبه الاستقصائي، على الرغم مما يذهب إليه البلاغيون، كما ذهب الرافعي إلى انتقاد التكرار في أسلوب طه حسين، واعتبره خروجًا على أسس البلاغة: "فلا يأتي بالجملة الواحدة إلّا انتزع منها الانتزاعات المختلفة ودار بها، أو دارت به تعسفًا، وضعفًا، وإخلالًا بشروط الفصاحة وقوانين العربية"1، ويستشهد الرافعي ببعض جمل من مقال كتبه طه حسين عن "قصة المعلمين"2, كرر فيه ألفاظ "المعلمين" و"القصة" و"القضية" ست مرات لكل لفظة, يقول طه حسين: "نعم قصة المعلمين. فللمعلمين قصة، وللمعلمين قضية, وكنا نحب ألا تكون للمعلمين قصة، وألا تكون للمعلمين قضية؛ لأننا نربأ بمقام المعلمين عن أن تكون لهم قصة أو قضية, ولكن أراد الله -ولا مَرَدَّ لما أراد الله- أن يتورَّطَ المعلمون في قصة، وأن يتورَّط المعلمون في قضية"3. على أننا -في هذا الصدد- لا نحاول الدِّفاع عن التكرار في أسلوب طه حسين وهو "من هو إلمامًا باللغة العربية"4، ولكننا نتناول هذه الأداة في الإطار الصحفي الوظيفي للمقال، ذلك أن طه حسين يتخذه أداة في طريقة الكتابة عن وعي وعن قصد: "فليثق الذين يأخذون على التكرار أنني لن أتركه"، فالتكرار الذي قد يعيبه البلاغيون، ويعيبه الرافعي على طه حسين، أداة ضرورية وحيوية لنجاح الرسالة الإعلامية, ونقصد بذلك التكرار المتنوِّع الذي يقدِّمُ المعنى الواحد في قوالب كثيرة5, ولذلك يذهب طه حسين إلى أنه لا يحاكي بأسلوبه "أسلوبًا آخر قديمًا أو حديثًا"6, ولايتكلَّفُ هذه المحاكاة, وإنما هي "طريقتنا في التكفير وطريقتنا في الإملاء"7، وهي الطريقة التي -كما يُقَالُ تخرج عن أسس البلاغة8- تجعلنا نذهب مع الأستاذ المقدسي إلى أننا لا نجد "خروجًا عن سنن البلاغة قد أصبح بنفسه بلاغة تحتذى كهذا الأسلوب, فما   1 مصطفى صادق الرافعي: تحت راية القرآن ص104. 2، 3 نشر في السياسة في 25 يونية 1923. 4 محمد عبد الغني حسن: مجلة الثقافة, ديسمبر 1973. 5 الدكتور إبراهيم إمام: فن العلاقات العامة والإعلام ص190. 6، 7 السياسة في 20 يونيو 1923, حديث الأربعاء جـ3 ص20. 8 أنيس المقدسي: الفنون الأدبية وأعلامها ص572، 577. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 هو إلّا حديث ممتع لما يحتويه من حلاوة وروعة في التعبير والتصوير"1. فالتكرار -إذن- في مقال طه حسين تكرار وظيفي يعمد إليه طه حسين عمدًا، حتى يحقق له ما يريد من إيقاعات وأنغام ينفذ بها إلى سامعه وقارئه2، يتوسَّلُ به في المقال الصحفي للتغلُّب على "عقبات الفهم ولتحقيق يسر القراءة3. الأمر الذي يقتضي خلو الأسلوب الصحفي من ازدواجية المعنى والتورية والغموض4، والتكرار في ضوء هذا الفهم يقضي على الغموض وازدواج المعنى, وتبديد كل غموض محتمل، ويذهب "جميس مارلو" الصحفي في وكالة "أسوشتدبرس" للأنباء، في دراسة له؛ إلى أن التكرار كثيرًا ما يؤدي إلى يسر القراءة5. وعلى ذلك, فإن التكرار في الأسلوب الصحفي عند طه حسين من مصادر قوة البلاغة الجديدة، فالعين "تسارع إلى اللفظ المعاد فتمحوه, ولكن الأذن تستطيع الترجيع, ولا سيما الأذن الطروب التي سمعت القرآن ووعته وأشربت موسيقاه طفلة, وفي القرآن لأغراض نفسية وبلاغية تكرار يعذب على الترديد. وطالما ردَّدَ طه حسين القرآن وطالما سمعه مردَّدًا"6، الأمر الذي جعل من التكرار في أسلوبه أداة بلاغية وظيفية في آنٍ واحد، لها أثرها العميق على "الأفهام والنفوس"7 وتحقيق أهداف الفن الصحفي وغاياته8، من خلال استخدامها في سياقٍ استقصائي لجوانب الموضوع وتأكيده وتحليله، فإذا عرض "لفنٍّ أو لمسألةٍ استطاع أن يتناولها من جميع وجوهها"9, كما نجد شواهد لذلك في مقالاته جميعًا، على نحو تقريبي، وكما سيجيء تفصيلًا.   1 المرجع نفسه. 2 الدكتور شوقي ضيف: الأدب العربي المعاصر في مصر ص251. 3، 4 الدكتور إبراهيم إمام: دراسات في الفن الصحفي ص51، 55. 5 د. عبد العزيز شرف: المدخل إلى علم الإعلام اللغوي. 6 الدكتورة نعمات أحمد فؤاد: قمم أدبية ص165. 7، 8 عبد العزيز شرف: المرجع السابق ص26، 27. 9 الدكتور طه حسين: من حديث الشعر والنثر ص56. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 الأسلوب الاستقرائي: وهذا الأسلوب مظهر من مظاهر ارتباط المقال الصحفي عند طه حسين بالحياة العملية ودلالات الواقع الملموس، ورؤياه العقلية والعملية على السواء، رغم ما تتذوق فيه من عطور شعرية وموسيقية"1، إن الأسلوب التعبيري عند طه حسين إنما هو حركة عقلية، ودعوة عملية، تتخذ من هذا التقطيع الموسيقي وهذا التنغيم إيقاعًا لحركتها، ولو تأمَّلنا هذا الإيقاع بعمق لوجدناه تارة إيقاعًا استدلاليًّا, وتارة أخرى إيقاعًا استقرائيًّا, ولوجدناه في الحالتين عملية استنباطية تتدرج لتشمل الظاهرة العملية أو الواقعية موضوع المقال، حتى تسيطر عليها من كل جهاتها، وتنتهي بها إلى الغاية العقلية والعملية التي تريدها لها، بل ويريدها للقارئ كذلك2. ذلك أن طه حسين لم يقنع بالقياس المنطقي منهجًا لمقاله، كما نجد في بيئة التكوين ومصادرها الثقافية القديمة، فكان المنطق الأرسطي يُسْعِفُهُ في معاركه الكثيرة التي خاضها؛ وكان طوع بنانه، ولكن المنطق الأرسطي سلاح مؤقت المفعول، لا سيما إذا كانت مقدماته غير سليمة، ومن هنا كان سر تطور آراء طه حسين في المشكلة الواحدة كلما اكتشف أبعادًا جديدة للفكرة التي ينظرها, ولقد كانت له من أمانته وجرأته ما جعله يعلن ذلك على الناس ويراه حقًّا عليه3. ومن مظاهر أسلوبه المنطقي المتأثر بالثقافة القديمة، تأليف الجمل على شكل مقدمات ونتائج، تبدأ منطقيًّا وتنتهي منطقيًّا، ومن خلال المناقشة التي تشيع في غضون المقال، على طريقة الأزهريين أو كتب التراث القديم, والإكثار من التقسيمات والتعريفات والتلخيصات، على أن اتصاله بالثقافة الأوربية وبالمنهج الديكارتي خاصة، ذهب به إلى التوسُّل بأساليب جديدة يستخدمها في معالجة موضوع مقاله لكسب معرفة جديدة، وقد انتقل بها من مرحلة البحث العلمي إلى مجال الحياة اليومية، مدركًا خطر هذه الأساليب الجديدة في الكشف عن مواطن الزلل في التفكير العادي والتصرفات اليومية، وتبرئة الحياة من آثار التفكير الخرافي، ومعاونة القرَّاء على تفسير ما يصادفهم من أحداث، وما يعترضهم من إشكالات. ومن هنا ينتقل المقال الصحفي في أدب طه حسين من مرحلته الأولى إلى مرحلة جديدة، تكشف عن عقم القياس الذي لا يكشف عن معرفة جديدة.. حقيقة أنه أفاد مقاله في تنمية القدرة على الجدل والنزال، ولكنه يفسر لنا ما نعلمه، ولا يكشف لنا عَمَّا نجهله فيما يقول "ديكارت"4 في حملته على القياس الصوري، وشرط الاستدلال في كل صوره أن يفضي بالباحث إلى كسب معرفة جديدة لا تكون متضمنة في مقدماته.   1 محمود أمين العالم: مجلة الهلال فبراير 1966. 2 المرجع نفسه. 3 د. محمد سامي البدراوي: مرجع سبق ص276, الدكتور طه حسين حافظ وشوقي, المقدمة. 4 الدكتور توفيق الطويل وآخرون: مشكلة الحق والباطل ص82. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 من أجل هذا صرَّحَ طه حسين في بيئته الصحفية الثانية بأنه يريد أن يصطنع "هذا المنهج الفلسفي الذي استحدثه ديكارت للبحث عن حقائق الأشياء"1، ذلك أن هذا المنهج يتيح له أن يكون "واضحًا جليًّا, وأن يقول للنَّاس ما يريد أن يقول دون أن يضطرهم إلى أن يتَأَوَّلُوا ويتعمَّلوا ويذهبوا مذاهب مختلفة في النقد والتفسير والكشف عن الأغراض التي يرمي إليها"2؛ إذ الأصل في التفكير العلمي أنه أداة لكسب معرفة جديدة عن طريق الانتقال من معلوم إلى مجهول وفقَ قواعد معينة حدَّدها منهج علمي، وقد ثبت أن الكثير من الحقائق لا يتيسر الكشف عنه بطريق القياس الذي يبدأ بوضع مقدِّمات عامة, ويهبط منها متدرجًا إلى أفرادٍ تندرج تحت هذه المقدمات. ومنطق الأشياء يقتضي البدء بالصعود قبل القيام بالهبوط، أي: أنَّ الباحث يتدرج في استدلالٍ صاعدٍ يرتقي فيه من الحالات الجزئية إلى المقدمات العامة، وهذا الاستدلال الصاعد هو الاستقراء الذي يتَّسِمُ به الأسلوب الصحفي في مقال طه حسين، لينتقل من جزئيات الواقع الملموس إلى حكم عام، فإذا كان معيار الصدق في القياس اتساق نتائجه مع مقدماته، فإنه في حال الاستقراء تتطابق نتائجه مع خبرتنا في العالم الحسي والواقع الملموس، ومن أجل ذلك فإنه أصلح في الأسلوب الصحفي الذي يقتضي اتساق "صورة الفكر ومادته" المشتقة من الواقع العملي. وليس معنى هذا أن الأسلوب الصحفي في مقال طه حسين يستغني بالاستقراء عن القياس، إذ أنه يتوصَّلُ بالاستقراء إلى القضايا العامة، ولذلك يجعل هذه القضايا في قياسٍ يتثبَّت عن طريق قواعده من صحة هذه المقدمات العامة، ويكون ذلك بتطبيقها على حالات جزئية من الواقع المتجدد لحركة الأحداث، وبهذا نجد أن القياس في أسلوب طه حسين متمم للاستقراء، كما أن الاستقراء ضروري للقياس من حيث أن التثبُّت من صحة المقدمات العامة في المقال، إنما يكون عن طريق الاستقراء. ومن ذلك يبين أن مقال طه حسين يرتقي إلى النتائج العامَّة من الجزئيات المشتقة من الواقع الملموس ومن سياق حركة الأحداث، بملاحظة هذه الجزئيات وتقويمها، من خلال الاستقراء العلمي Imperfect Induction أو الناقص، لكسب معرفة جديدة, أو للكشف عن حقائق مجهولة وفقًا لما تقتضيه وظيفة المقال في اتجاهاته المختلفة سياسيًّا وثقافيًّا واجتماعيًّا. وشواهد هذا الأسلوب الاستقرائي في مقال طه حسين تفوق الحصر،   1، 2 في الأدب الجاهلي ص67، 1، 2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 إلّا أننا نكتفي بالإشارة إلى نموذجين منها في مقال بعنوان: "مذهبان"1, وآخر بعنوان: "صراع"2، حيث يفحص مجموعة من الظواهر المعاشة ابتغاء الكشف عن عللها, عن طريق وصفها وتقرير حالتها وفاقًا للواقع المحس، ففي المقال الأول يفحص مذهب الحكم، ويكشف عن انحرافها في مصر: " ... هذا هو مذهب الناس عامة في فهم الحكومة وفهم واجبها، وفهم الصلة بينها وبين الشعب. ولكن المذهب الآخر الذي يراه فريق من المصريين, والذي هو أقرب إلى الحق وأدنى إلى الصواب, ينحو نحوًا آخر غير هذا النحو في الحكم والفهم والتقدير، فالحكومة عند هؤلاء المصريين وجدت لإقرار الأمن، ولكن لإقرار أمنها هي قبل أمن الشعب، ووجدت لحماية الأنفس والأموال، ولكن لحماية نفسها هي وأموالها من قبل أنفس الشعب وأمواله"3. وهو لا ينتهي إلى هذه النتيجة، ووصف هذا المذهب إلّا عن طريق تقرير حالته وفاقًا لشواهد الواقع المحس, فهو حين يتحدَّث في المقال الثاني عن "الصراع بين الحياة والرأي في مصر، لا يتحدث عن صراع مجرَّدٍ، ولكنه يكشف عن معلولات هذه الظاهرة عن طريق وصفها وإدراك العلاقة بين الظاهرة ومعلولها، ذلك أن كثيرًا من المصريين "مع السف الشديد لم ينشأ تنشئة حرة، ولم يتكوَّن هذا التكوين الذي يمكِّنُه من أن يفهم الحياة على وجهها"4 وأن هؤلاء "مع الأسف الشديد يُخَيَّلُ إليهم أن الحياة هي الحركة والنشاط، وهي الطعام والشراب"5، وهؤلاء في نهاية الأمر "مصدر ما تجده في مصر من محنة، وما تخضع له من فتنة في السياسة والرأي والمال، ولا لشيء إلّا لأنهم يريدون أن يعيشوا، ولا لشيء إلّا لأنهم لا يستطيعون إلّا أن يعيشوا"6.. إلخ. فالأسلوب الاستقرائي إذن في مقال طه حسين يقوم على ملاحظة الجزئيات والأحداث ووصفها وتقرير حالتها، وإن كان لا يقنع بالوصف والتقرير, وإنما يتجاوز ذلك إلى الكشف عن العلاقات العلية بين بعضها والبعض الآخر؛ كما سيجيء؛ عند دراسة المقال التحليلي ابتغاء فهمها والتحكم في توجيهها لصالح الإنسان المصري. ومعنى هذا أن الأسلوب الاستقرائي أنسب الأساليب في تحرير المقال الصحفي، لما يتيحه من أحكام عقلية عامَّة يتوصل إليها كاتب المقال عن طريق ملاحظته لحركة الأحداث تقريرًا لحالتها, ووصفًا لحقيقة أسبابها ونتائجها، وأساس هذا الاستقراء هو الاطراد في وقوع الأحداث، ومن هنا يتميز الاستقراء الصحفي بأنه وصفيٌّ يقرِّرُ حالة الظواهر كما هي في الواقع, ويقوّمها في ضوء حركة الأحداث, لا كما "ينبغي أن تكون" كما تذهب إلى ذلك قوانين العلوم المعيارية7. وإذا كانت وظيفة الاستقراء الصحفي هي تفسير الظواهر الحسية الواقعية، أمكننا أن نذهب إلى أن المقال الصحفي لا يعرض للبحث في طبيعة الظواهر وماهيتها، والغاية من وجودها، لأن هذا من شأن الفلسفة التقليدية.   1 كوكب الشرق في 30 يوليو 1933. 2 كوكب الشرق في 25 مايو 1933. 3 كوكب الشرق في 30 يوليو 1933. 4، 5، 6 كوكب الشرق في 25 مايو 1933. 7 الدكتور توفيق الطويل: مرجع سبق ص88. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 الأسلوب الصحفي : وتأسيسًا على ما تَقَدَّمَ، فإن الأسلوب الصحفي في مقال طه حسين يقوم على خصائص عقلية، تحدثنا عن طرف منها فيما تَقَدَّمَ، ولكن هذه الخصائص العقلية ترتبط بخصائص فنية في التعبر ارتباطًا وثيقًا، في إطارٍ من عناصر الأصالة والتجديد التي تميِّزُ مقاله على العموم، وتميِّزُ معجمه اللغوي ومناهجه في التأليف والتركيب، ولذلك يذهب طه حسين إلى أن "مذهبنا في تصوُّرِ الأشياء مهما يختلف فسينتهي دائمًا عند طائفة من الأصول التقليدية لا سبيل إلى التَّحَوُّلِ عنها"1, ومصادر هذه الأصول عند طه حسين تتمثل في طبيعة اللغة العربية وثقافته القرآنية2، والمحافظة التي يتماز بها الجيل العربي بين الأجيال3، ولقد كان للجماعة اللغوية الأزهرية فضل تأسيس الملكات الأولى لطه حسين، فكل ما يمتاز به أسلوبه من الرصانة القوية، والفصاحة العربية الممتازة, يرجع إلى هذه الفترة التي تعلَّم فيها دروس الأدب على شيوخ الأزهر وخاصَّة الشيخ المرصفي4، ويرجع هذا الأسلوب قبل كل شيء إلى التقويم القرآني للسان العربي "فالذين يحفظون القرآن في الصبا، ويكثرون قراءته ويجددونها, أصحُّ الناس نطقًا بالعربية وأقلهم تخليطًا فيها" كما يقول طه حسين5، الذي يذهب كذلك إلى أنَّ القرآن هو الذي حفظ لغته العربية أن تذوب في اللغات الأجنبية الأوربية التي أجادها فأتقنها6. وليس أدلَّ على ذلك من أن الأسلوب الصحفي في مقال طه حسين قد عني بفصاحة اللفظ وجزالته ورقيق الأسلوب ورصانته7، فلغته المعَرَّبة الفصحى مقوِّمٌ أساسيٌّ من مقوماته، أو هي القوام الأساسي الأول بين مقوماته8، وهو لذلك لا يقبل "التفريط ولو كان يسيرًا في هذا التراث العظيم الذي حفظته لنا اللغة العربية الفصحى"9, ويذهب إلى أن العامية "خليقة أن تفنى في   1، 2، 3 ألوان ص13، 14. 4 الدكتورة سهير القلماوي: مجلة الهلال فبراير 1966. 5، 6 سامي الكيالي: مرجع سبق ص10. 7، 8 ألوان ص14. 9 سامي الكيالي: نفس المرجع ص107. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 اللغة العربية الفصحى إذا نحن منحناها ما يجب لها من العناية فارتفعنا بالشعب من طريق التعليم والتثقيف، وهبطنا بها هي من طريق التيسير والإصلاح إلى حيث يلتقيان في غير مشقة ولا جهد ولا فساد"1. على أن هذا الأسلوب الصحفي في مقال طه حسين هو الذي تتكامل فيه الخصائص العقلية والخصائص الفنية تكاملًا وظيفيًّا، يحدد قسماته النفسية وعصره ومجتمعه ثانيًا, وهو التكامل الذي يوظِّفُ الإعراب واصطفاء اللفظ والملاءمة بين الكلمة والكلمة في الجرس الذي ييسر على اللسان نطقه، ويزين في الأذن وقعه، كأساس لخصال هذا الأسلوب2. كما أن لغة المقال الصحفي في أسلوب طه حسين لا تهمل الأسماع، وإنما تُعْنَى بها أشد العناية3، وهو الأمر الذي يمكن لطه حسين من تصحيح مفهوم اللغة تصحيحًا يخلصها من ذلك التصور الخاطئ الذي يراها صورًا ورموزًا تقرأ بالعين فحسب، مع أن هذه الصور وتلك الرموز عبارة عن وسيلة تعسفية للتسجيل، وأنها مهما بلغت من الضبط والأحكام لا تستطيع أن تحكي تفاصيل اللغة التي تقوم على النبر والإيقاع, والتي ترتكز على الموسيقى4. ذلك أنه يتلقَّى المعرفة والتعبير عن طريق الأذن، كما يبعثها عن طريق الصوت المسموع، ومن هنا يُعْنَى الأسلوب في مقال طه حسين بالنبرة والإيقاع عنايته بالتراكيب اللفظية5. وهذا التصحيح اللغوي مصدر أساسي من مصادر الأصالة، ذلك أن لغة المقال عند طه حسين لغة منطوقة، شأنها في ذلك شأن الأدب العربي القديم "مسموع قبل أن يكون أدبًا مكتوبًا مقروءًا، وهو من أجل هذا حريص على أن يلذَّ اللسان حين ينطق به، ويلذ الأذن حين تسمع له، ثم يلذ بعد ذلك النفوس والأفئدة حين تصفي إليه"6. إن أسلوب طه حسين له أبعاده التي تتجاوز المصطلح اللغوي, وهي أبعاد موسيقية، كما يلاحظ الدكتور عبد الحميد يونس7 حين يذكر أنه قد عَنَّ له مع بعض تلاميذ طه حسين، أن يخضعوا أسلوبه للتقطيع الموسيقي, فأدهشهم أن يجدوا أن كثيرًا من فقراته يمكن أن تخضع حتى لعروض الشعر العربي التقليدي, وكأنها نَظْمٌ مُرْسَلٌ بلا قافية، وكان منهم واحد تخصص في الغناء، فانتخب فقرات من "دعاء الكروان" ولحَّنَها ورجَّعَها على مسامع زملائه   1 مستقبل الثقافة جـ2 ص314, 315. 2، 3 ألوان ص14. 4، 5 الدكتور عبد الحميد يونس: طه حسين كما يعرفه كتاب عصره, مرجع سبق ص68. 6 ألوان ص24. 7 الدكتور عبد الحميد يونس: نفس المرجع ص69. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 كما يفعل المغنون بالقصيد1. وكان طبيعيًّا إذن أن يشدو طه حسين في بواكير حياته الأدبية بالشعر على نحو ما فَصَّلْنَا في كتابنا "طه حسين وزوال المجتمع التقليدي", وأن تجد قصائده طريقها إلى المحافل العامة، ذلك أن أذنه المرهفة قد يَسَّرَت له من غير شكٍّ إدراك الإطار الموسيقى العام للشعر العربي التقليدي، كما أن المرحلة الأولى من سيرته الأدبية والصحفية كان من طبيعتها أن تعتصم بالتقليد، كما أن الأذن أكثر محافظة من العين, وهي أمور تفسِّرُ الباعث على إيثار القوالب المألوفة في النظم العربي، وتوضح سبب اتخاذه في أسلوبه النثري أبعاد المصاريع والأبيات الكاملة والمجزوءة في أكثر الأحيان2، وهي الحقيقة التي تدفعنا إلى أن نعترف بأن الموسيقى جزء لا يتجزأ من المضمون التعبيري في اللغة اللسانية. فالموسيقى تُوجَدُ في كل ما يصدر عن الإنسان من كلام، وليس الشعر هو الذي يتأثر بالعنصر الموسيقي دون النثر الفني, ولا بُدَّ من البحث عن مقوِّمٍ آخر يرتبط بمدى الموسيقية، لكي نفرِّق بين الشعر والنثر الفني. على أن هذه المسالة التي قد تبدو خلافية بين النقاد والأدباء، لا تصرفنا عن الاستخدام الوظيفي للموسيقى في أسلوب طه حسين الذي يرتبط "بفنِّه الواعي رغم تلقائيته"3؛ لأنه قد خلع على النثر العربي ثوبًا جديدًا, وجعل وسائل التعبير به مقصورة على ما هو جوهري, وجرَّدَه من تلك المحسنات البلاغية التي لازمته من عهدٍ بعيدٍ دون أن ينتزع ما في عباراته الأصلية من جزالة. كما أنه حوَّل تلك العبارات النحوية المعقَّدَة إلى جملٍ بسيطة دون أن يفقدها جمالها الأصلي4. وإننا نجد كل هذه المزايا في كل ما كتبه من صفحات تشير إلى "أستاذٍ في فنِّ الكتابة والأسلوب", كما يقول "جوجيود بلافيدا" في مقالٍ عن طه حسين. وهذه العناصر الفنية في الأسلوب الصحفي عند طه حسين لا تُقْصَدُ لذاتها، وإنما يستخدمها استخدامًا وظيفيًا كما تَقَدَّمَ، بحيث تمتاز بطابعه العقلي والعملي معًا، فالتقطيع الموسيقي والنغم الشعري في هذا الأسلوب يَنُمُّ عن حركة عقلية، ودعوة عملية، تتخذ من هذا التقطيع وهذا التنغيم إيقاعًا لحركتها، بل إن هذا الإيقاع لديه قد يكون إيقاعًا "استدلاليًّا قياسيًّا", كما قد يكون "إيقاعًا استقرائيًّا" كما تَقَدَّمَ، لارتباطه بالغاية العقلية العملية في مقاله.   1 نفس المرجع السابق ص69. 2 الدكتور عبد الحميد يونس: نفس المرجع ص69. 3، 4 جورجيو ديلافيدا: "طه حسين المؤرخ", المرجع السابق ص104. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 وعلى ذلك فإن معاملة طه حسين للغة الفنية معتمدًا على اللمس التشكيلي والسمع الموسيقي، معاملة تقوم على الوظيفة العقلية العملية، فهو حين يقول: البغاة الطغاة, يضني ويغني, يسوء وينوء, رائعة وبارعة, يائس وبائس, إلخ1, إنما يعامل الألفاظ معاملة تشكيلية2، على أن التشكيل هنا ليس مقصودًا لغاية جمالية في ذاتها، وإنما يريد به حلًّا لصياغة المعرفة بطريقة عقلية واقعية، تخدم التشكيل للنمذجة والتبسيط، كعملية حتمية لتنظيم التجارب الإنسانية العديدة, ومن شواهد ذلك مقال بعنوان: "أحجار"3 يبين فيه هذا التشكيل الوظيفي للألفاظ في النقد السياسي والاجتماعي والفوارق بين الطبقات, يقول طه حسين: "لست أدري أتحمد الوزارة لصحيفتها هذا التشبيه، الذي جعلها من الزمرد والماس والمرجان، أم تنقمه منها وتنكره عليها؟ أمَّا نحن فنقبل هذا التشبيه الذي يجعلنا حجارة صلبة لا سبيل إلى تحطيمها، عوجاء لا سبيل إلى تقويمها، ونؤكِّد أن هذه الصلابة التي أعيت كلَّ مَنْ حاول أن ينال منها إلى الآن, ستعيي كلَّ مَنْ يحاول أن ينال منها إلى آخر الدهر، وقد تحطَّمَت عليها قرون وتتحطم عليها قرون أخرى"4. ويوظف طه حسين إلى ذلك الأسرار الفنية في اللغة العربية في مقاله الصحفي, ومن هذا: التناقض والمقابلة في الوجوه والصفات والشخصيات والأحداث والمذاهب المشتقة من الواقع المحَسِّ, وهي المقابلة التي قد يعتمد عليها في عنوان المقال نفسه مثل: "جد وهزل"5, كما يعتمد عليها في الشعور واللفظ, وعلى السرعة والحركة النفسية والحركة الظاهرة، كما يوظِّفُهَا في الصورة والأسلوب، على النحو الذي نجده واضحًا تمام الوضوح في مقال بعنوان: "مصر بين النعيم والجحيم"6؛ حيث يوظِّفُ اللغة الفنية في نمذجة جانبين وبعدين وعمقين تتقابل فيهما المحسوسات والدلالات تقابل الأضداد الذي يزيد الخطوط حِدَّةً بين "أصحاب النعيم" و"أصحاب الجحيم", وهي الأضداد التي تنمذج الواقع المصري في نهاية الأمر. ونخلص مما تَقَدَّمَ، إلى أن الأسلوب الصحفي في مقال طه حسين أسلوب سهل مُحَسٌّ، يستخدم التعبيرات المبسطة، كما يستخدم الصور بالأمثلة المحسوسة استخدامًا وظيفيًّا، يشمل اللغة الفنية بما فيها من تشكيل وتوازن موسيقى مقصودين، يوجه إلى القراء مباشرة في كثير من الأحيان، وهو أسلوب مصقول في نهاية الأمر، فصيح اللفظ سليم التركيب، يوافق علمه   1، 2 الدكتور عبد الحميد إبراهيم: مجلة الثقافة, ديسمبر 1972. 3، 4 كوكب الشرق في 11 أغسطس 1933. 5 السياسة في 10 مايو 1923. 6 الهلال في ديسمبر 1947. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 بالعربية الفصيحة، وعلمه بتقسيم المقاطع والفواصل في الكلام الأوربي "كما يتكلمه مَنْ يجمع بين الحديث والكتابة في وقت واحد"1. الأمر الذي يجعل من أسلوبه مدرسة صحفية بهذا المعنى, تؤمن بقدرة اللغة العربية الفصيحة على سدِّ حاجات الصحافة, التي هي في الحقيقة نوع من الأدب الإقليمي أو الواقعي, ويتماز هذا الأسلوب الصحفي -عند طه حسين- بتقارب المستويات اللغوية العلمية والأدبية والعملية تقاربًا يشير إلى "أزهى العصور وأرقاها". الأمر الذي يفسِّر مقاومته للعامية التي ترتبط بالمجتمع المنحَلِّ المريض، والانفصام العقلي في المجتمع، واتجاهه إلى تطويع اللغة الفصيحة للمعاني والخواطر والآراء "دون أن يشق عليها أو يرهقها من أمرها عسرًا، أو ينحرف بها عن طريقها التي رسمتها لها طبيعتها ومزاجها"2. ولعلَّنَا نستطيع أن نذهب إلى أن أسلوب طه حسين في مقاله الصحفي هو أسلوب البلاغة الجديدة، التي تجعل "الصحافة هي أعلى صور الأدب؛ لأن جميع ألوان الأدب العليا صحافة", كما يقول "برنارد شو"3. ذلك أن ممارسة الصحافة النظامية تعزِّزُ الصفتين المرغوب فيهما في الأسلوب، وهما الوضوح والقوة", وهذا الأسلوب عند طه حسين إلى جانب مقتضيات وسيلة الاتصال الصحفي بالجماهير، يأتلف من عنصرين؛ أحدهما: داخلي يأتيه من نفسه ومن طبيعة أمته وتراثها، والآخر: خارجي يأتيه من الثقافات الأجنبية التي اتصل بها، وأسلوبه الذي اختاره أوفق لذلك جميعًا, وأولها من نوعه في اللغة العربية، وليس فيه محاكاة لأسلوب آخر في اللغة الأوربية, فهو "أسلوب سَمْحٌ تَسْلَمُ الصفحة منه عند أول قراءة، فلا تشعر بالحاجة إلى أن تعود تستوحيها في سهولة ويسر على أصالته"4.   1 سامي الكيالي: مرجع سبق ص88. 2 الدكتور طه حسين: خصام ونقد ص180. 3 برتون رامكو "وترجمة دريني خشبة": عمالقة الأدب جـ2 ص272. 4 الدكتور محمد مندور: في الميزان الجديد ص10. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 الفصل الرابع: أًساليب التحرير في مقال طه حسين مدخل ... الفصل الرابع: أساليب التحرير في مقال طه حسين نواصل في هذا الفصل التعرُّف على عناصر الأصالة ومظاهر التجديد في مقال طه حسين، بعد أن تعرَّفْنَا على هذه العناصر في أسلوبه الصحفي، ذلك أن الوعي بالذات هو الصفة الغالبة في الرؤيا الإبداعية لديه، والدراسة التي تقوم بها في مقال طه حسين تؤكِّدُ غلبة الفكر الناقد في مقاله من خلال اختيار الموضوع والشكل واللغة، وأساليب التحرير، من أجل إيجاد الاتصال والفهم المشترك، على نحو ما يتضح في نموذجه الاتصالي بالجماهير. فالوضوح والتحكُّم الواعي اللذان يصبغان نظرة طه حسين إلى أساليب التحرير الصحفي، إنما يمثلان صياغة اتصالية للإدراك المتصل في مراحل تطوره الصحفي، ذلك أن هذه الوسائل وتلك الأساليب التحريرية، تخضع للرؤيا الوظيفية في تحويل التجربة الصحفية إلى فنٍّ مقالي يتوسَّل بالرموز لتحقيق الوظيفة الواضحة في ذهن الكاتب، الأمر الذي يميز مقاله بترتيب المعاني وفقًا لنسج مميز، يجعل لفظه دقيقًا محقِّقًا للاتصال والفهم المشترك؛ فهو لا يهجم على القارئ "برأيه فيلقيه إلقاء الآمر، وإنما يلقاه صديقًا لطيفًا، ثم يأخذ بيده أو بعقله وشعوره, ويدور معه مستقصيًا المقدِّمَات محللًا ناقدًا، يشركه في البحث حتى يسلمه الرأي ناضجًا, ويلزمه به في حيطة واحتياط"1، وذلك في عبارات "رقيقة عذبة, أو قوية جزلة, فيها ترديد الجاحظ وتقسيمه, فإذا قَصَّ أو وصف أخذ على القارئ أقطار الحوادث والأشياء, ودخل إلى أعماق الشعور وجوانب النفوس مدققًا متقصيًا، يخشى أن يفوته شيء, ولا يخشى الملاك في شيء دقيق الشعور، صافي النفس، نبيل الجدل حادَّه، يسير مع خصمه بعقله حتى إذا آنس منه الغضب أو التولي تركه وانصرف"2. وتأسيسًا على هذا الفهم، فإن أساليب التحرير في مقاله طه حسين لا تنفصل عن رؤياه الإبداعية، وإنما تنبع منها من خلال التحكم الواعي والاشتغال بالمعاني والوضوح والوظيفية الهادفة، يتوسّل بالأدوات الفنية ضِدَّ الشوائب والأعراض التي تَصْحَبُ عملية تنظيم العنصر البدائي الخام في التجربة، وتحويله إلى عمل فني، سواء كان هذا العمل قصة أو مقالًا، فإنه يدمج بين العمل الإبداعي والعمل النقدي من أجل تحقيق الاتصال والفهم المشترك، ذلك أن طه حسين "يتدبَّر مقاله قبل الشروع في الكتابة"   1، 2 أحمد الشايب: الأسلوب ص104. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 ويحمله طويلًا "بين جوانحه", فلا يشعر بأنه مكتمل الصورة في ذهنه إلّا حينما يكون قد وعى ذلك واستوعبه, وحينئذ يشرع في الإملاء1. كما تكشف وثيقة هامة عن أبعاد العملية الإبداعية في مقال طه حسين2، عن التحكُّم الواعي في الشكل والمضمون على السواء، فهو يحصي ويستقصي ويصنف المعلومات في ذهنه، ثم يعود إليها كلما هَمَّ بالكتابة في موضوع من الموضعات، ويحيا في البيئات التي يصوِّرها، كما يحيا أهلها. ثم يملي مقاله وكأنه "يملي عن محفوظ"4, أو كأنه "بحر يتدفق, وما هذا كله إلّا عن علمٍ مختَزَنٍ امتلأ به صدره ووعاه جنانه"5 فالمقال الصحفي في رؤياه "مشاركة متصلة بين الكاتب والقارئ، أو بين المنتج والمستهلك.   1، 2، 3 Etiemble; I'Art Ne L'Ecriture, p. 618-619. رسالة بالفرنسية من طه حسين إلى "إيتنبل" في المرجع المتَقَدِّم، يقول فيها: "إنك تسألني يا عزيزي "إيتنبل" كيف أكتب؟ وهو لعمري سؤال يحيِّرُ الكاتب دائمًا فيما أظن, ومع ذلك فإني سأحاول إجابتك: "يخيل لي -ولكني لست واثقًا من ذلك- أني أتدبّر كتابي قبل الشروع في الكتابة.. وإني -بلا ريب- أحمله طويلًا بين جوانحي فلا أشعر بأنه مكتمل الصورة في ذهني إلّا حينما أكون قد وعيت ذلك واستوعبته، وحينئذ أشرع في الإملاء، أما بقية وسائل الكتابة فأنت تعلم أنه حيل دوني ودونها..", لقد أمليت كل مؤلفاتي سواء منها قصصي, والذي محصته من كتب للنقد وأنا أذرع مكتبي طولًا وعرضًا, وأدخِّن السيجارة تِلْوَ السيجارة. وفي الوقت الحاضر فإنني لا أمشي ولا أدخِّنُ, ولعل ذلك أيضًا ما جعلني أكتب أقلَّ من ذي قبل؛ فالسن قد تقدَّمَت بي.. ولكن.. لشد ما كتبت! إنه لا يذهب بي الادعاء إلى أني أكتب إذا صحَّ التعبير في دفق واحد".. فإن لي أحيانًا فترات توقُّف وقتيّة غير أنها قصيرة, وذلك عندما لا تستجيب في حينها العبارة التي أريدها, والجملة التي أرضاها, وإن كلَّ الكُتَّاب ليعرفون هذا التلهف وهذه الفترات القصيرة المثيرة. إني لا أعود إلى قراءة ما كتبت أبدًا, فإذا كان العمل ذا طابع علمي فأنا أقوم طبعًا بالتحقيقات اللازمة. وماذا أقول لك بعد ذلك أيها الصديق العزيز؟ إليك هذه الملاحظات في خاتمة كلامي على عواهنها بلا ترتيب: -إني أملي الكتاب بصفة عامة في وقت قصير, وقد اقتضاني إملاء الجزء الأول من كتاب "الأيام" أكثر من أسبوع بشيء قليل. - وإن زوجتي لتدرك أني سأكتب بعض الشيء قريبًا حالما تراني جنحت إلى الصمت, وكأنما انغلقت على نفسي في عالمي الباطني, ولكن أليس ذلك أمرًا طبيعيًّا يا ترى؟ - ويبدو أن ابتسامة تنتشر على وجهي عندما أملي.. فلتكن هذه الابتسامة مسك الختاك -إن تفضلت- يا عزيزي "إيتنبل". 4، 5 إبراهيم الإبياري: "وجه الحقيقة". مجلة الإذاعة والتليفزيون, في 6 مايو 1972. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 كما يقول أصحاب الاقتصاد"1. وهو لذلك يتصور مقاله شكلًا ومضمونًا قبل أن "يملأ ما بين الخطوط"2، لأن القارئ -في رؤياه- ليس "قابلًا فحسب، ولكنه قابلٌ من جهة, وفاعلٌ من جهة أخرى، أمره في ذلك كأمر الكاتب بالضبط؛ لأن الكاتب قابل "مستقبل" حين يتأثر بالعالم الخارجي، وفاعل "مرسل" حين يعيد إنشاء هذا العالم الخارجي. والقارئ متأثر حين يتلقَّى الرسم التخطيطي الذي دعاه الكاتب إلى النظر فيه، وهو منشئ حين يملأ ما بين الخطوط, ويتمِّمُ مما بدأ لكاتب من الرسم والإنشاء3"، والكاتب عند طه حسين لا ينشئ "أثرًا واحدًا حين يؤلِّفُ عملًا واحدًا, وإنما ينشئ آثارًا لا تحصى، أو قل: آثارًا بمقدار ما يُتَاحُ له من القراء"4. وإذن فأساليب التحرير في المقال "شركة بين الكاتب وقرائه5 تقوم على تعمُّد القراءة والفهم من قِبَلِ القارئ، وتعمد إذاعة هذه الأساليب من قِبَلِ الكاتب6. وعلى ذلك فإن الرؤيا الإبداعية في مقال طه حسين لا تحدد موقفه من عصره ومن مؤلفاته ومقالاته فحسب، وإنما تكشف عن الجوانب الفنية في أساليب تحريره، وتشهد على الخصائص المطلوبة في الكاتب في النصف الأول من هذا القرن. الأمر الذي يتيح لنا التعرُّف على الرؤيا الفنية المتكاملة في مقال طه حسين، التي لا يمكن أن ينفصل فيها الكاتب عن إنتاجه.   1، 2، 3 ألوان ص281، 283. 4، 5، 6 المرجع السابق, ص284. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 الرؤيا الفنية في مقال طه حسين ... الرؤيا لفنية في مقال طه حسين: وتأسيسًا على ما تَقَدَّمَ, فإن أساليب التحرير في مقال طه حسين تنبع من رؤياه الفنية، التي تحدد التنظيم الشكلي لأجزائه، وطبيعة كل جزء من هذه الأجزاء، والقواعد التي تحدد وتحكم العلاقة بينها, ذلك أن طبيعة طه حسين ومقوماته في الاتصال الصحفي، واتجاهاته نحو قرائه، كلها اهتمامات متشابكة متداخلة تضفي على أجزاء الرؤيا الفنية في مقاله قدرًا كبيرًا من التماسك والترابط. ومن الطبيعي -إذن- أن تتجه هذه الريا الفنية عند طه حسين إلى خَلْقِ أساليب فنية جديدة في تحرير المقال، مما دفعه في كثير من الأحيان إلى الخروج على الأشكال المألوفة، وإلى توسيع الأبعاد الفنية للمقال إلى مستوى التنبؤ العام الشامل، في محاولة التوفيق بين هذه الرؤيا وبين الاستجابة لموضوعات الساعة والقضايا المباشرة، ولضرورات وسيلة الاتصال الصحفي بالجماهير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 ذلك أن هذه الرؤيا الفنية تخلق نموذجًا خاصًّا للعالم وللأشياء، وهذا النموذج في الاتصال الصحفي يجب ألا يكون بعيدًا عن الأصل والواقع الملموس، فالجتمع الحديث -كما يقول والتر لبمان1- لا يقع في مجال الرؤية المباشرة لأحد، كما أنه غير مفهوم على الدوام، وإذا فهمه فريق من الناس، فإنَّ فريقًا آخر لا يفهمه2, وهنا تحدد الرؤيا الفنية أساليب التحرير الصحفي في الشرح والتفسير والتكامل، من خلال معرفةٍ واعيةٍ بالقوانين الداخلية المنطقية الموضوعية التي تحكم فن التحرير الصحفي، وفي الوقت نفسه لا يتعارض هذا الفهم مع حرية الإبداع والتماس الأساليب الجديدة في التعبير الفني، وحق الكاتب في نقد الأخطاء المتصلة بالناس والمجتمع. وهنا تفتح أبواب التجديد أمام التجربة الاتصالية التي لا تنبع من مقدمات تعسفية مغرقة في الذاتية، فالشكل الفني ليس مجرد "تقنية"، أو قوقعة مغلقة على نفسها، ذلك أن التعبير عن المضمون يتمُّ من خلال الشكل وفي إطاره، وهنا يكون واجب الكاتب ابتداء أن يظاهر تقاليد فن القول في أمته، على نحو ما تبيَّنَ من عناصر الأصالة في مقال طه حسين. غير أن مراعاة عناصر الأصالة تلك لا تعني التمسك بقوالب معينة في فن القول، أو التشبث بأهداف قوالب جامدة في كتابة النثر, ذلك أن مفردات المعاجم ذاتها تتغيَّر مدلولاتها كل عشر سنوات تقريبًا، وإن كان هذا لا يشوّه هيكل اللغة نفسها، ويحدد طه حسين موقفه من هذه المسألة بقوله3: "وما أحب أن يظن القارئ أني أريد أن تكتب الصحف بلغة الحريري في مقاماته, فلست أبغض شيئًا كما أبغض لغة الحريري في تلك المقامات, ولا أريد أن تكتب الصحف بلغة الجاحظ وأمثاله من كُتَّابِنَا القدماء, فقد انقضى عصر أولئك الكُتَّابِ وأصبح مذهبهم في الكِتَابة لا يلائم العصر الذي نعيش فيه, ولا يلائم الصحف بنوع خاصٍّ، وإنما أريد أن تُكْتَبَ الصحف بلغة هذا العصر الحديث"4. وعلى ذلك فإن فن المقال في أدب طه حسين يأتلف من عناصر الأصالة والتجديد جميعًا، ويؤلِّفُ بينها وبين طبيعة العصر الحديث ووسيلة الاتصال الصحفي بالجماهير، وأغراضه ومراميه ومستويات جماهيره، ومنازعه السياسية والاجتماعية والفلسفية والاقتصادية والعلمية والأدبية بمدلولها الحصري، حتى لا يتبقى باب من أبواب الإعلام والمعرفة والإنسانية إلّا وطرقه هذا المقال الصحفي,   1، 2 الدكتور إبراهيم إمام: مرجع سبق ص7، 11. 3، 4 جريدة الجمهورية في 20 أغسطس 1960. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 وما يعنيه من التوصُّل إلى أوسع جمهور وبلوغ الاقتناع. وهو لذلك يحتفظ بأصوله التقليدية ولا يستعصي على التطور، مدركًا لقوانين التجديد، وتوطين فنون التعبير الحديثة وتطويرها عند العرب كما يفعل أصحابها من الغربيين1. فالرؤيا الفنية في مقاله طه حسين تشمل إحياء فنون مقالية في التراث القديم، مثل: الرسائل المقالية، وفن الهجاء الذي أتقنه الجاحظ وقصر فيه من جاء بعده من الكُتَّاب, فقد أصبح هذا الهجاء السياسي2 من أهم فنون المقال الصحفي -عند طه حسين, ونعني فن المقال النزالي. كما تشمل عناصر التحول والانتقال، كما يسميها "كونت"3، والتي تقتضي استحداث فنون تلائم العصر الحديث4، في الشكل والموضوع5 والتنوع والعمق6, كما تلائم وسيلة الاتصال الصحفي التي تَصِلُ الكاتب بكل قارئ أو "قل: بكل إنسان, وليس بد للصحفي من أن يكتب لهؤلاء جميعًا"7. وتأسيسًا على هذا الفهم للرؤيا الفنية عند طه حسين، فإن فنون المقال في هذه الرؤيا، في حركة دائبة بها تتغير قليلًا في اعتبارتها الفنية، من طور إلى طور، في ظل الاستراتيجية القومية لديه، والاعتبارات الاجتماعية المرتبطة حتمًا بالأصول الفنية التي تقوم مقام الحجة والإقناع في المنطق، وتتحكم في وسائل التصوير والصياغة الجزئية في نطاق فن المقال. على أن هذه الرؤيا الفنية، لا تفصل بين أجناس المقال الرئيسية الثلاثة: المقال الأدبي، والمقال العلمي، والمقال الصحفي، وإنما توظِّفُها جميعًا لأداء وظائف الفن الصحفي، وتقرِّبُ بين مستوياتها اللغوية لتحقيق التكامل الاجتماعي، كما تَقَدَّمَ، والتعبير عن أمور اجتماعية وأفكار عملية من خلال أدوات وظيفية اجتماعية وفرية تتقدَّم على أية ناحية أخرى؛ كالمتعة الفنية على سبيل المثال. وفي ضوء هذا الفهم، تتنوع فنون المقال في صحافة طه حسين تنوعًا يرتبط برؤياه الفنية، وتوسله بالاتصال الصحفي بجماهير القراء، وهي الوسيلة التي بنت له "مجدًا وجعلته من قادة الرأي"8، الأمر الذي يذهب بفنونه المقالية إلى التنوع لتعرض "للأدب والنقد ولفنون الحياة على اختلافها"9، وهو التنوع الذي لا يقصد به إلى "فرد من الناس، ولا إلى جماعة محدودة منهم، وإنما ينشئه لبيئته التي يعيش فيها, ولهذه البيئة كلها"10، وهو واثق   1 من أدبنا المعاصر ص157. 2، 3، 4 ألوان ص17، 27، 20. 5، 6 المرجع السابق ص25، 26، 27. 7 من أدبنا المعاصر ص169. 8، 9، 10 خصام ونقد ص7، 6، 48. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 بأن فنه سيفهم ويذاق1؛ لأنه يلائم ما كان" يملأ الدنيا حوله من الأحداث، وما كانت تدفع الدنيا إليه من تطور"2, ويلائم كذلك ضرورات "عصر السرعة"3 الذي يعدل وقتنا فيه "الأضعاف المضاعفة من وقت القدماء"4، وتزدحم فيه حاجتنا الكثيرة "وتختصم، وتتدافع ويصدم بعضها بعضًا، ويناقش بعضها بعضًا في كثير من الأحيان"5. وتوشك "ألا تترك لنا شيئًا من الوقت لنستأني بالتفكير أو سَمِّه شيئًا من الجهد لنتأنق في التعبير"6 كما يلائم في مقاله بين تحريره وضرورات الصحف التي "تقتضيها السرعة والدقة والنظام؛ فالكاتب رهن بكل هذه الضرورات"7. ويذهب طه حسين إلى أن فن المقال الصحفي ليس "بالكلام السوقة الذي لا قيمة له, ولا هو بالأدب الرفيع الذي يكلِّفُ صاحبه الكَدَّ والجدَّ والعناء، وإنما هو فنٌّ وسط يحتلُّ منزلة بين المنزلتين، في أكثره من الأدب روح وفيه مع ذلك من اليسر والسهولة واللين والمؤاتاة ما يلائم السرعة والانتظام"8. ذلك أن "الحاجة والصحيفة والمطبعة اقتضت أن يكتب ويقدِّم وينشر في أوقات معينة, وفي موضوعات لعلها لم تكن تخطر للكاتب على بال، ولعل كثيرًا منها أن يكون قد فجأ الكاتب على غير توقُّعٍ له، ولعل بعضها أن تفرض الكتابة فيه على الكاتب فرضًا"9. ولكن أساليب التحرير في المقال الصحفي تهتم مع ذلك بالمضمون اهتمامًا وظيفيًّا، فهي ترمي إلى إيضاحه في يسر وجلاء, تعبر عَمَّا تريد في وضوح وبساطة وقوة". وعلى ذلك فإن التمييز بين الأجناس المقالية لم يعد مجديًا أمام ضرورة وسيلة الاتصال الصحفي بالجماهير، ذلك أن الأدب نفسه قد اتسع ميدانه، وتنوعت مستويات الإبداع فيه، فكان منه أدب مسرح وأدب صحافة، وأدب إذاعة وسينما، ثم كان لكلٍّ من هذه الأنواع بلاغتها، وطرائق كتابتها، وموازين نقدها المتجددة. وتأسيسًا على هذا الفهم، فإن الرؤيا الفنية في مقال طه حسين، ترتبط بنوع الوسيلة التي تحمل المقال إلى الجمهور، ثم بطبيعة مادته وصياغته؛ بحيث يمكن القول: إن هذه الرؤيا الفنية قد أحدثت تقاربًا فعليًّا بين الأجناس المقالية، وكادت تجعل منها جنسًا واحدًا يتنوع فنونه، التي تغدو جميعًا مقالات صحفية لما تمتاز به من عناصر "الحالية والحيوية والاستجابة لاهتمامات الجمهور، والصياغة القريبة إليهم.   1، 2، 3 المرجع السابق ص48، 76. 4، 5 المرجع السابق ص76. 6، 7، 8 المرجع السابق ص76، 78. 9 المرجع السابق ص79. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 أساليب التحرير في مقال طه حسين مدخل ... أساليب التحرير في مقاله طه حسين: وتأسيسًا على ما تَقَدَّمَ، فإننا نناقش في هذا الجزء أساليب التحرير في مقال طه حسين، ونقتصر هنا على ثلاثة أساليب تحريرية، نتبين منها، "توظيف" الأساليب الأدبية لأداء وظائف المقال الصحفي, وهي: المقال القصصي ، والمقال الوصفي, والمقال الرمزي. ثم نواصل في الفصول التعرُّف على فن العمود الصحفي، وفن اليوميات الصحفية، وفي الباب الأخير نتعرَّفُ على فن المقال الصحفي الرئيسي، والمقال الكاريكاتيري، والمقال النزالي، ثم المقال التحليلي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 1- المقال القصصي : يبين مما تَقَدَّمَ أن فنون المقال في صحافة طه حسين تسعى إلى تقديم المادة العلمية والفنية والاجتماعية والسياسية في قوالب مبسطة، تُيَسِّرُ الاتصال بجماهير القراء، وتؤدي الوظائف الاجتماعية للصحيفة الدورية، في تكامل مع المواد الأخرى التي تحيط القارئ علمًا بالأحداث, أو تفسر وتعلل ما يجري من هذه الأحداث، أو تنور عقله بمعلومات وحقائق. والمقال القصصي في ضوء هذه الرؤيا الصحفية يخرج من دائرة الأدب، حين يوظَّفُ لأداء متطلبات الفن الصحفي من تنويع في المواد شكلًا ومضمونًا، في إطارٍ من الحاليّة والحيوية والاستجابة لاهتمامات القراء، وفي شكل مقاليٍّ أكثر مرونة من شكل المقامة؛ لأنه "يجعل الآثار الأدبية التي تقف في مكان ما بين القصة القصيرة والمقال كثيرة جدًّا"1. على أن دراسة المقال القصصي عند طه حسين تقتضي أن نقف عند عدد من النماذج التي يستخدم فيها هذا القالب استخدامًا وظيفيًّا صحفيًّا، يقف من خلاله عن عمد في منطقة متوسطة بين شكل المقال وشكل القصة القصيرة, ومن هذه النماذج مقالات: "المعذَّبُون في الأرض" التي نُشِرَتْ في مجلة "الكاتب المصري"، كما تَقَدَّمَ2، والتي يعمد فيها إلى التوسُّل بالقالب القصصي في المقال، فيدخل فقرات يقصد إليها قصدًا، من الحديث المباشر بين الكاتب والقارئ؛ لأن غرض الكاتب من استخدام هذا القالب كان ماثلًا أمامه دائمًا وهو يكتب، وألحق بها مقالات صريحة لتأكيد هذا الغرض. الأمر الذي يجعله حريصًا على ألَّا يبدو لقرائه كاتب قصة قصيرة, بل إن هذه المقالات تحتوي على نقدٍ غير هيِّنِ الخطر لكُتَّاب القصة القصيرة، وأبى أن يسمي أي فصل من فصول "المعذبون في الأرض" -قصة, وكان يسمي الفصل "حديثًا", وربما سماه "مقالًا"، ولم يكتف بذلك حتى أعلن أنه لا يكتب قصة, وهزأ بما يعد "أصولًا" في كتابة القصة3, يقول4 ".. ولكني لا أحاول أن أضع   1 الدكتور شكري عياد: القصة القصيرة في مصر ص102. 2 راجع للمؤلف: طه حسين وزوال المجتمع التقليدي. 3 الدكتور شكري عياد: القصة القصيرة في مصر ص102. 4 المعذَّبون في الأرض ص22. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 قصة فأضخعها لما ينبغي أن تخضع له القصة من أصول الفن كما رسمها كبار النقاد، فقد يجب لتستقيم القصة أن يحدَّد الزمان والمكان, وتستبين شخصية الناس الذين تحدَّث لهم الحوادث, أو الذين يحدثون هذه الحوادث، الذين تعرض لهم الخطوب, أو الذين يبتكرون هذه الخطوب"1. ومن ذلك يبين إيثار طه حسين لقالب المقال القصصي، وتنكُّب القصة القصيرة، التي تخلت عن التعبير عن حالة القلق التي تطبع حياة مجموعة كبيرة من الناس في أواخر الثلاثينيات2، وتحدِث نوعًا من التوتر بينهم وبين المجتمع، لتصبح القصة تعبيرًا عن أحلام مبهمة بحياةٍ يمكن أن تشبع نوازع الفرد المشغول بنفسه دائمًا3، وكان لا بُدَّ من أداء وظائفه ككاتب صحفي يتمتع بالجرأة والثقة والهيبة التي لم تعف كتابه من المصادرة، وأن يسقط الحواجز الشكلية, وينفتح سبيل جديد واسع وممتد للتعبير عن "الشعب المغمور", وقد أصبحت كلمة الشعب هنا تعني الشعب كله فعلًا، فأي ثراء وأي حياة وأي خطر لهذا الفن الذي أوشك أن يتحوَّل إلى تسلية محضة4. ومن أجل ذلك يصرِّح طه حسين بأنه لا يضع قصة فيخضعها لأصول الفن, يقول: "ولو كنت أضع قصة لما التزمت إخضاعها لهذه الأصول، لأني لا أومن بها ولا أذعن لها, ولا أعترف بأن للنقاد مهما يكونوا أن يرسموا لي القواعد والقوانين مهما تكن، ولا أقبل من القارئ مهما ترتفع منزلته أن يدخل بيني وبين ما أحب أن أسوق من الحديث، وإنما هو كلام يخطر لي فأمليه ثم أذيعه، فمن شاء أن يقرأه فليقرأه، ومن ضاق بقراءته فلينصرف عنه، ومن شاء أن يرضى عنه بعد فليرض مشكورًا، ومن شاء أن يسخط عليه بعد القراءة فليسخط مشكورًا أيضًا, والمهم هو أن يخطر لي الكلام وأن أمليه وأن أذيعه, وأن يجد القارئ ما يُشْعِرُه بأن له إرادةً حرة تستطيع أن تغريه بالقراءة وأن تصده عنها"5. على أن هذا القالب القصصي في مقال طه حسين، ينبع من عناصر الأصالة والتجديد في رؤياه الفنية كذلك، لتمثُّله الآداب الشعبية في البيئة المصرية، إذ وسمت مقاله بميسمها، رغم اتجاهه إلى دراسة النصوص الفصيحة وحدها، فلم تكن إشارات عارضة إلى الآداب الشعبية، ولا على سبيل الاستشهاد، ولكنها كانت بمثابة توجيه النظر إلى الموازنة بينها وبين الأشكال الأدبية   1 المرجع نفسه. 2 الدكتور شكري عياد: مرجع سبق ص136، 137. 3، 4 المرجع نفسه ص137، 138. 5 المعذَّبون في الأرض ص22، 23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 الرسمية1. وكان طبيعيًّا أن يُكْبِرَ من شأن القالب القصصي الجديد باعتباره شكلًا ممتازًا من أشكال التعبير2، يتوسَّلُ به في مقاله الصحفي، يتوسط بين "آداب الخاصة والآداب الشعبية"3 ويؤدي المضمون الاجتماعي في صورة غير تقريرية، ولعلَّ في ذلك ما حدا بالدكتور عيَّاد4 إلى مقارنة "المعذَّبون في الأرض" من حيث تصوير حياة الواقع الاجتماعي المصري, والطبقة الدنيا فيه خاصة "بصور صياد" لتورجنيف الذي توسّل بقالب "الصورة"5؛ إذ لم يكن من المستطاع بالنسبة لحساسية الكاتب ولا لحساسية قرائه ولا لحساسية السلطات أن يعدو بشخصيات أولئك البؤساء طور "الملاحظة" إلى طور "الانطباع", أو إلى طور "الاندماج"، وكذلك كان على طه حسين أن يتجنَّب قالب القصة القصيرة ليجعل أبطاله ومشكلات أولئك الأبطال أشدّ اقتناعًا، من خلال قالب مقالي يتوسَّل به إلى "النمذجة" الصحفية التي تقوم مقام التجربة الفردية أو الجماعية، فيصبح النمط نموذجًا لشخص أو فكرة6، وليضع أمام المصريين جميعًا "أشياء من أولئك المعذَّبين في الأرض" توجد في كل فرد منهم، ووجد في "القصة الأدبية" قشرة صلبة صنعناها حول أنفسنا، تمنعنا من أن نجد أنفسنا فيهم، فكان عليه أن يحطِّمَ هذه القشرة بأسلوبه الساخر الملفوف -لنعلم كمصريين- أن فينا من نماذج "صالح" و"أم تمام" ومن نماذج المعذَّبين في هذه الأرض7. وعلى ذلك، فإن المقال القصصي عند طه حسين قالب وظيفي يقوم على أداء وظائف المقال الصحفي متوسِّلًا بأدوات فنية نستخلص سماتها فيما يلي: أ- النمذجة الصحفية في القالب القصصي: وتقوم هذه النمذجة الصحفية على أساس انتزاع بعض الصفات وتحريرها من سياقها العام، ثم إبرازها وإلقاء الضوء عليها، مع إعطاء مغزى لها يميِّزُها وييسر فهمها. ومن الطبيعي أن تقوم هذه العملية على أساس التضحية بالتفاصيل، وعدم الاحتفاظ بالنسب الحقيقية في الشخصية الأصلية، من أجل خلق النموذج المبسَّط الذي يفهمه الناس8، ولعل في هذه الرؤيا الصحفية تفسيرًا لقول طه حسين: "والواقع أني حين أخذت في إملاء هذا الحديث لم أكن أعرف لهذا الصبي الثاني اسمًا, ومازلت أجهل اسمه إلى الآن, فلم يكن   1, 2، 3، 4 الدكتور عبد الحميد يونس: مرجع سبق ص67، 68. 5 الدكتور شكري عياد: نفس المرجع ص138. 6 الدكتور إبراهيم إمام: مرجع سبق ص46. 7 الدكتور شكري عياد: مرجع سبق ص138. 8 الدكتور إبراهيم إمام: مرجع سبق ص47. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 شخص هذا الصبي ولم يكن شخص صالح يعنيني، وإنما كانت الأحداث التي حدثت للصبيين هي التي تعنيني. وأكبر الظن أن صالحًا هذا لم يوجد قط؛ لأنه يملأ المملكة المصرية من شرقها إلى غربها, ومن شمالها إلى جنوبها، يُوجَد في القرى, ويُوجَد في المدن, ويوجَدُ في كل مكان، يملأ مصر نعمة وخيرًا، وهو مع ذلك يشعر الناس بأن مصر هي بلد البؤس والشقاء"1. فالتضحية بالتفاصيل، وعدم الاحتفاظ بالنسب الحقيقية في الشخصية الأصلية أمران مقصودان من أجل خلق النموذج المبسَّط في المقال القصصي عند طه حسين، وهذا النموذج يبين أكثر تبسيطًا حين يقابله طه حسين بنموذج مقارن يكشف عن أبعاده الواقعية.. "لم يوجد صالح قط لأنه يملأ المملكة المصرية، وإذا أسرف الشيء في الوجود فهو غير موجود، سواء رضيت الفلسفة عن هذا الكلام أم لم ترض. أما "أمين" فموجود من غير شك؛ لأننا نراه ولا نكاد نرى غيره؛ لأنه عظيم الخطر، فهو هذا الصبي الذي لا ينام جائعًا إذا أقبل الليل، ولا يغدو طاويًا على المدرسة أو على الكُتَّاب، ولا يطول انتظاره للغذاء إذا آن وقت الغذاء2، وهذا "الصبي أو هذا الفتى الذي اتفقنا على أن اسمه أمين، موجود من غير شك؛ لأنه لا يملأ القرى ولا يملأ المدن، وإنما هو شخص ممتاز يمكن أن يحصى أمثاله وأترابه إحصاءً دقيقًا في كل قرية وفي كل مدينة، وهو من أجل ذلك موجود؛ لأن عدده محدوده، ولأننا نستطيع إحصاءه واستقاءه والدلالة عليه"3. ويكشف طه حسين عن غرضه من النمذجة في مقاله، لتقوم مقام التجربة الفردية أو الجماية حين يوضح منهج المقال القصصي: "وهنا يرتفع رأس القارئ وقد ظهرت على وجهه ابتسامة ساخرة, وبرقت عيناه بريق الانتصار والفوز وهو يسألني في صوت فاتر ساحر: لقد أردت أن تتجنب الإطالة بالإجابة على أسئلتنا، فهل أنت الآن في الإطالة بهذا الكلام الكثير الذي لا يغني ولا يفيد! معذرة يا سيدي القارئ الكريم! بل إن هذا الكلام الكثير يغني كل الغناء ويفيد كل الفائدة؛ فأنت تلقى في كل يوم ألف صالح وصالح دون أن تحسَّ لواحد منهم خطرًا أو تعرف له وجودًا"1، إلى أن يقول: "فأيهما خير: أن ألفتك إلى صالح هذا البائس المسكين الذي ملأ مصر نعمة وخيرًا وملأت مصر حياته شقاء وبؤسًا، أم أن أحدثك عن أمين وموطنه وبيئته وأسرته لتستقيم القصة وتستوي رائعة بارعة ملائمة لأصول الفن التي رسمها النقاد؟ "5.   1، 2، 3 المعذَّبون في الأرض ص24، 25. 4، 5 المرجع السابق ص26. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 ومن ذلك يبين أن النماذج البشرية تُقَدَّمُ في بضع خطوط أو لمسات شديدة الاختزال، تضحى بالتفاصيل الفنية؛ لأن العقلية البشرية تركن إلى الاستعانة بالرموز والأنماط والنماذج، فهي لا تتخذ سبيل التحليل الموضوعي والدراسة العلمية للوصول إلى الحقائق، ولذلك يصرِّح طه حسين بأنه يتوسَّل في هذه النمذجة بالتحدث إلى "قلب القارئ وما يضطرب فيه من عاطفة, وما يشيع فيه من شعور، على أن يتحدث إلى عقله وذوقه وما يثيران في نفسه من تهالكٍ على النقد وحبٍّ للاستطلاع"1، يقول: "أوثر أن أتحدث إلى قلبك وأن ألفتك إلى صالح هذا الذي وجد وأسرف في الوجود، حتى اعتقدنا أو كدنا نعتقد أنه غير موجود, ومن يدري لعلي حينما لفتُّك إلى صالحٍ إنما ألفتك إلى نفسك"2 ذلك أن "في حياة كل واحد منا نحن كثرة المصريين شيئًا من صالح، فصالح صورة البؤس والشقاء والحرمان, وما أقلَّ المصريين الذين لا يصورون بؤساء ولا شقاء ولا حرمانًا! وليس البؤس مقصورًا على الصفة التي تأتي من الفقر وما يستتبعه الفقر من الجوع الذي يمزِّقُ البطون, والإعدام الذي يمزِّقُ الثياب ويظهر من ثناياها الصدور والظهور والأكتاف، ولكن البؤس قد يتَّصِل بأشياء أخرى ليست جوعًا ولا إعدامًا ولكنها قد تكون شرًّا من الجوع والإعدام؛ لأنها تتصل بالنفوس والقلوب"3. وهكذا يتوسَّل طه حسين بالنمذجة الصحفية في تجسيد التجربة الفردية أو الجماعية تجسيدًا مقصودًا لأداء الوظائف الاجتماعية من خلال المقال القصصي. ب- المواقف الصحفية في المقال القصصي: على أن هذه النمذجة الصحفية، رغم تحريرها من السياق العام, فإنها تقوم على موقف صحفي من خلال الشكل القصصي للمقال، يصوِّر المشاكل المعاصرة المعاشة، والحياة اليومية المتجددة، ليربط بين النماذج التي ترزح تحت عبئه، وتتصارع فيه معًا. على أن الموقف لا يمكن أن ينفرد عن سواه، بل يتضامن مع القوى التي يتفاعل معها ويتحدَّد بها جهده على نحو ما يشعر هو بها، وكما يكتشف من ثنايها ذات نفسه، ويسير بها في حركة دائبة نحو المصير الفاصل بالنسبة له وبالنسبة للآخرين المشتركين معه في عالمه1. فالموقف في المقال القصصي أداة وظيفية لتحقيق النمذجة الصحفية؛ لأنه حدث   1، 2 المعذَّبون في الأرض ص26، 27. 3 الدكتور محمد غنيمي هلال: مرجع سبق ص267. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 اجتماعي يجري في الواقع الحياتي اليومي لأناس يعيشون في المجتمع الإنساني الذي يستمد المقال منه مادته، ويتفاعل مع أحداثه، وهذا التفاعل هو الذي يرسم البنية العامة للمقال في حركته الدائبة المتشابكة نحو الالتصاق بالمجتمع، وإذا كان "الموقف" من الاصطلاحات الفلسفية في العصر الحديث1, فإنه من أَمَسِّ الاصطلاحات بطبيعة الفن الصحفي من حيث هو "علاقة الكائن الحي ببئيته وبالآخرين في وقت ومكان محدودين، وهو كشف الإنسان عما يحيط به من أشياء ومخلوقات بوصفها وسائل أو عوائق في سبيل حريته"2. ذلك أن المواقف الصحفية ترتبط رؤيا الجديدة للعالم التي تنطبق مع رؤيا الشخص العادي3، وهي لذلك لا تتوجَّه بالدرجة الأولى إلى المنطق الخاص, وإنما تتوجه إلى المشاعر والوجدان إلى جانب توجهها إلى المنطق4، على النحو الذي يبين من فصول "المعذَّبون في الأرض"، حيث يتحدد الموقف حق التحديد على أساس القوى الوظيفية لكل شخص من سلوك "صالح" في طرف, وسلوك "أمين" في الطرف المقابل، تجاه الموقف العام موقف الشقاء والبؤس، ذلك أن هذا الموقف الخاص لا ينفصل عن الموقف العام في مصر وقت كتابة هذه المقالات القصصية؛ المتمثل في انتظار المصريين "للعدل الذي سيخلصهم" ليخلص مجتمعهم من "خليطه ذاك البغيض، ولكن العدل يبطئ عليهم فيغلو في الإبطاء"5. ذلك هو الموقف العام في مصر وقت كتابة هذه المقالات ونشرها يتحدد من قيام نوع محدد من الصلات بين مجموعة من الناس حول أمر تختلف نظراتهم إليه، كما يصور هذه الصلات بين النموذجين، نموذج الكثرة البائسة، ونموذج القلة المترفة، ليبصر "المصريين بحقائق أمورهم، ويعظ منهم الطغاة والبغاة ويعزي منهم البائسين"6 فيتولد عن هذا الاختلاف بين النموذجين شوق إلى العدل، ينتهي من وجهة نظر طه حسين إلى نتيجة ذات مغزى, حتى لا يسفر الصراع عن تعرض مصر "للأخطار العنيفة قبل إبانها، وعلى أن يسلك هذا الوطن البائس طريقه إلى التطور في أناة ورفق وهدوء، لا تعصف به العواصف ولا يجري عليه ما جرى على بعض الأمم من هذه الثورات التي لا تُبْقِي على شيء"7. ولذلك يستدعي "قوة إنسانية" تتجه بجهدها نحو غاية خاصة من خلال هذا الموقف العام، ونعني بهذه الغاية تحقيق العدل الاجتماعي وفقًا لمثاله المنشود، في مواجهة الخطر القائم "في نظامنا الاجتماعي كله"8.   1، 2 الدكتور محمد غنيمي هلال: مرجع سبق ص267. 3، 4 الدكتور إبراهيم إمام: مرجع سبق ص7، 11، 26. 5 المعذَّبون في الأرض ص7، 8، 9. 7، 8 المرجع نفسه ص150، 156. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 ومن ذلك يبين أن الموقف الصحفي في المقال القصصي يتَّفِق والمعنى الفلسفي الحديث للموقف الإنساني1 بعامة، ولكنه يمتاز بالقصد إليه لأسباب خارجية، أهمها أداء وظائف النمذجة الصحفية في التبسيط للجماهير من خلال اللغة في مستواها العملي بواقعيته وعموميته. جـ- وظيفية الشكل القصصي في المقال: ونخلص مما تَقَدَّمَ، إلى أن التوسُّلَ بالشكل القصصي في مقال طه حسين ليس مقصودًا لذاته، وإنما يتوسّلُ به توسُّلًا وظيفيًّا في أداء وظائف المقال الصحفي، ولذلك يستقي مواقفه ونماذجه من الواقع الملموس, ولعلنا لا نغلو إذا ذهبنا مع الدكتور عياد2 إلى أن فصول "المعذَّبون في الأرض" التي نفى كاتبها بشدة أن تكون مجموعة قصص قصيرة، قد حوَّلَت اتجاه القصة المصرية في تصوير الجوانب المظلمة من المجتمع المصري قبل الثورة، فاندفع في هذا الباب جيلٌ كاملٌ من كُتَّاب القصة القصيرة3. ومهما يكن من شيء، فقد قامت هذه الفصول بأداء وظائف المقال الصحفي في فترة من فترات الواقع المصري عزَّ فيها التعبير المباشر في الشكل المقالي المعروف. على أن هذا الشكل القصصي، لم يخل من سمات مقالية صريحة كما تبيَّن فيما تَقَدَّمَ، فهو يستخدم المقدمات الصحفية في كل فصل من الفصول، ويصرِّحُ بأنه لا يبغض شيئًا "كما يبغض إلقاء الدروس في الوعظ والإرشاد وتنبيه الغافلين وإيقاظ النائمين وتحذير الذين لا يغني فيهم التحذير ولا النذير، ولكنه مع ذلك مضطر إلى هذا أشد الاضطرار, يراه واجبًا تفرضه الوطنية الصادقة"4. وقد يتوسَّل بسمات قصصية في أداء هذه الوظائف في مقدِّمات المقال فيلقي إلى القرَّاء جملة لا يذكر فيها الفاعل ولا المبتدأ إلّا متأخرًا ليثير في نفوسهم هذه الغرابة التي تدعو إلى الاستطلاع، كما في مقال "صفاء"5 حين يذكر بعد تلك الجملة اسم حنينة وابنها نصيف؛ لتزداد حاجة القرّاء إلى هذا الاستطلاع6. ومن ذلك يبين أن القدرة القصصية في أدب طه حسين، والتي يشير إليها المازني حين يقول أنه "قصصي بارع وأديب روائي من الطبقة الرفيعة"7، يتوسَّل بها طه حسين في مقاله توسُّلًا وظيفيًّا في معالجة القضايا والأفكار الرئيسية في   1 الدكتور محمد غنيمي هلال: مرجع سبق ص276. 2، 3 الدكتور شكري عياد: مرجع سبق ص162. 4، 5، 6 المعذَّبون في الأرض ص150، 121، 122. 7 قبض الريح, مرجع سبق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 المقال، ولا يتوسَّل بها إلى "الترفيه على القراء"1 ذلك أننا -كما يقول: "لسنا في وقت ترفيه ولا أطراف ولا ترويح"2، وهو يستجيب في مقالاته جميعًا إلى هذه الوظيفية الهادفة، من خلال حوار متبادل مع قرائه، ينقل المواقف والآراء والعواطف والنماذج التي تُولَد من مجرى الحياة والواقع الملموس، كما يبين من إهداء فصوله إلى "الذين يحترقون شوقًا للعدل، وأولئك الذين لا ينامون خوفًا من العدل".   1، 2 المعذَّبون في الأرض ص 162، 163. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 2- المقال الوصفي والتقرير الصحفي : نقرن بين المقال الوصفي والتقرير الصحفي عند طه حسين عن عمد؛ لأنه يُقَرِّبُ المسافة بين الأدب والصحافة، حيث يغدو هذا الفن المقالي متميزًا بالإيجاز في التعبير, والواقعية في التصوير، والحديث عن شخص بعينه، أو مكان بعينه, أو ظاهرة بعينها، على غير ما نجد في الوصف الأدبي الذي يقوم على نقل أحاسيس الكاتب وصورة الواقع كما تنعكس على مرآة نفسه، ومن ذلك ما نجد في مقالات أحمد أمين في "وحي البحر" و"بجوار شجرة ورد" و"مع الطير"1، وكما نجد عند ميخائيل نعيمة في "الصخور"2, وعند الرافعي في "الربيع"3, ذلك أن المقال الوصفي عند طه حسين يقرب أن يكون تقريرًا صحفيًّا لارتباطه بأغراض الصحافة ومراميها ومستويات جماهيرها، وهو لذلك يعتمد على الدقة التامة في وصف الواقع الملموس، وعلى إيراد الشواهد التي يشتقها من الحوادث التي يدركها، وعلى ربط هذه الشواهد كلها بحياة الأفراد في المجتمع. وقد تعرَّفْنَا على مظاهر من ذلك في أسلوب طه حسين ونمذجته الصحفية، التي تتيح له في المقال الوصفي خاصة أنه يتوسَّل بالكلمات والجمل في نمذجة المشاهد والحوادث والمعاني والآراء السياسية والذهنية على السواء، من خلال إحساسه الفني وليس بالخيال كما يذهب الوصف الأدبي، ذلك أن السليقة الفنية تتيح له أن ينمذج الواقع في نماذج حسية مجسمة، من خلال التشكيل العملي للرموز اللغوية، تشكيلًا تطبيقيًّا وظيفيًّا. ومن ذلك التوسُّل بالمقال الوصفي في "التنوير" على النحو المتقدِّم في مقالات "من بعيد" التي نُشِرَت في "السياسة" قبل أن تجمع في كتاب، ومقالات "رحلة الربيع والصيف" قبل أن تجمع في كتابين أيضًا, وغيرها من المقالات التي تصوّر الغرض التنويري الواضح بعالم جديد، وتنمية التقمُّص الوجداني والتفتح السمح في نفض غبار التخلُّف، وتيسير السبل أمام التجديد والمعايير العصرية، ولذلك يستعين بسليقته الفنية في الوصف الصحفي، ويجمع   1 أحمد أمين: فيض الخاطر جـ2 ص, أو جـ3 ص259 وجـ4 ص6. 2 ميخائيل نعيمة: البيان ص173. 3 مصطفى صادق الرافعي: وحي القلم جـ1 ص12, الدكتور محمد يوسف نجم: مرجع سبق ص114. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 الملاحظات ويقارن بينها, ويحاول أن ينقل المعاني الحقيقية التي تكمن وراء المحسوسات، ويتعزّى "بجمال الأدب والفن والموسيقى عن قبح السياسة والمنافع وغدر الغادرين ومكر الماكرين وخيانة الخائنين"1 ويسخر من موقف الاتجاه الفكري المحافظ من "الشعر الجاهلي" في سخطٍ هادئ, ونقمة رزينة تكمن وراء التنوير بالمعايير العصرية التي يستمدُّها من أسفاره عبر البحر2, وعبر الزمان أيضًا، فمقاله في زيارة "أثينا" يصف اختصار الزمان ليخلص للقيم الإيجابية في الماضي أو "لقطعة منه، ويمضي في المستقبل إلى غير غاية أو هدى، ويقف في الحاضر لا يعدوه إلى أمام ولا إلى وراء، ويجمع إن شاء بين هذا كله فيفرق نصه تفريقًا3، ولكنه مع ذلك يصور "نشأة العقل ونمو الفن وحياة الشعور ويقظة الضمير، ويرى طريق الحضارة والرقي ترسم للأجيال وتقام فيها الأعلام تدفع إليها الإنسانية دفعًا"4. وطه حسين لا يستخدم السليقة الفنية في هذا التصوير بهدف الفرار من الواقع, ولكنه يستخدمها في تصوير النموذج السياسي والاجتماعي المنشود، فهو يذكر في مقاله عن اليونان كيف "نظمت القوانين ما يكون من الصلات بين الحاكمين والمحكومين، وردَّت القوانين إلى الشعب أمور الشعب، وجعلت القوانين حكام الشعب خدمًا للشعب5".. إلخ. فهو يتمثل النموذج الذي يتغياه لمجتمعه، حين يستدعي سقراط ومحاوريه وأفلاطون ومناظريه وأرسطاطاليس وتلاميذه"6 ويبرأ إليهم "جميعًا من الشر والنكر والإثم"7 ويشهدهم جميعًا على أنه قد وفَّى "لمثلهم العليا"8. ويختم هذا المقال بعودته إلى الواقع حين تدعوه زوجته قائلة: "فعد إلى القرن العشرين بعد المسيح، وأهبط معنا إلى حيث يعيش الناس في المدينة الحية، فقد يخيِّل إلي أنك أنسيت قهوة الضحى"9. وبهذا القول يتحدد الانتقال بالمقال الوصفي من ذاتية الأدب إلى موضوعية الفن الصحفي، حيث يذهب في مقالاته التالية إلى الاعتماد على وصف الواقع الملموس، وإيراد الشواهد المشتقة من هذا الواقع، يقول أولًا، في تحقيق ما سمع عن البلد الذي يصفه بما رأى كشاهد عيان، "فما أكثر ما قرأوا, وما أكثر ما سمعوا عن حياة اليونان في بلادهم! قوم يقولون أنها بلغت من البؤس أقصاه، وقوم يقولون إنها بلغت من النعيم أقصاه، وقوم يقولون إن اليونان كغيرهم من الناس قد   1، 2، 3 رحلة الربيع والصيف ص17، 5، 6، 7. 4 المرجع نفسه ص7، 8، 11. 5 المرجع نفسه ص7، 8، 11. 6، 7، 8، 9 المرجع نفسه ص11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 لعبت بهم تلك الآلهة العمياء التي تسمى المصادفة، فأعطت بغير حساب وحرمت بغير حساب"1. ثم يطابق هذه الصورة بما عاين بنفسه: "وقد بلغنا قهوة من قهوات "آثينا" فنقبل عليها مكدودين، ويتلقانا خادمها باسم الثغر مشرق الوجه يعرض علينا ما عنده في يونانية فصيحة، فإذا لم نفهم عنه عرض علينا ما عنده في فرنسية متعثرة، وإذا هو يعرض علينا غير ما تعرض القهوات على الناس في بلاد الترف والرخاء, وما نكاد نجلس إلى قهوتنا ونقبل على قليل من طعام حتى ننظر فإذا المعوزون والمعدمون يساقطون علينا من كل وجه ويأخذوننا من كل نحو، كلهم جائع يريد أن يُطْعَم، وكلهم محروم يريد أن يُعْطَى، وكلهم قد ظهر في وجهه البؤس وألحَّ عليه الضرر"2. ومن هنا يقترب المقال الوصفي من التقرير الصحفي، ويستخدم الوصف الصحفي استخدام فنان مصور لما يدركه بالوصف الحسي، الذي يمزجه في أحيان كثيرة ببعض خواطره التي تختفي في ثياب العرض الاستقصائي الذي اتسم به أسلوب طه حسين، وقد أتاحت له هذه الميزة أن يلتقط بعض الصور الطريفة التي تختفي في ثياب العرض الاستقائي الذي اتسم به أسلوب طه حسين، وقد أتاحت له هذه الميزة أن يلتقط بعض الصور الطريفة التي يغذي بها مقاله، واتسم عرضه بالطرافة. ومن ذلك، ما يشير إلى مغزى هذه الصور الطريفة كذلك: "وقد فاجأتنا في هذه المدينة, بل فاجأتنا قبل أن نهبط من السفينة ظاهرةٌ كنا نسمع عنها ولا نحققها، فالدرهم اليوناني قد أصبح وهمًا من الأوهام، ولا يكاد عقل يحقق منه صورة واضحة, ويكفي أن تعلم أن المليم المصري يعدل ثمانية وعشرين درهمًا يونانيًّا، وأن القرش المصري يعدل ثمانين ومائتي درهم يوناني، وأن الجنيه المصري يعدل ثمانية وعشرين ألف درهم يوناني، وإننا لم نقم عن قوتنا حتى طلب إلينا الخادم سبعة عشر ألف درهم ولم ننزل من سيارتنا حتى طلب إلينا السائق سبعين ألف درهم، واشترينا صحيفة ضئيلة نحيلة تصدر بالفرنسية فدفعنا ثمنها خمسمائة درهم، وعدنا إلى أماكننا من السفينة وقد أنفقنا في صباحنا بين هذه الألوف المؤلفة أقل من ثلاثة جنيهات"3.   1 المرجع نفسه ص14، 15. 2 المرجع نفسه ص14، 15. 3 المرجع نفسه ص16. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 وهكذا يوظِّفُ طه حسين أدوات الوصف والتصوير في أسلوبه، لما يتمتع به من حِسٍّ عميق بمواقع الكلمات وجرسها ودلالاتها وإيحاءاتها في الوصف الصحفي، حين يقدِّمُ صورة مدروسة للواقع، كما فعل الجاحظ بالنسبة لعصره. فالمقال الوصفي في صحافة طه حسين يشرح ويفسر ويعلق، ويبين الأسباب النفسية, والعوامل الاجتماعية والخلقية والمادية، وتلك هي وظائف التقرير الصحفي1، والذي يتجاوز الوصف الأدبي إلى الدراسة الواعية الهادفة2. الأمر الذي يبين بوضوح تامٍّ في رسائل "من باريس" التي نُشِرَت في صحيفة "السياسة" عام 1923، حيث يتخذ المقال الوصفي شكلًا من أشكال التقرير الصحفي بمفهومه الحديث، من قيامه أساسًا على البحث عن الوقائع، وما يتبعها من قضايا، إلى جانب الطريقة الفنية في العرض الواقعي؟ فقد سافر طه حسين إلى باريس وبلجيكا ليشهد مؤتمر العلوم التاريخية في أبريل 1923، وينتهز هذه الفرصة ليوافي جريدته بتقارير صحفية تتخذ شكل "الرسائل من الخارج" تتضمَّن الوقائع ومقارنة الظروف في وطنه بالظروف في البلاد الأخرى, وهو لذلك "ينقِّبُ عن المعلومات التي يمكن أن تصنع التقارير الصحفية"3, ثم يُخْضِعُ هذه المعلومات والوقائع للوصف الصحفي، ليدعِّمَ تقريره، ذلك أن "الوقائع دائمًا أقوى من الأوصاف والنعوت البسيطة", ولذلك يستهِلُّ رسالته الأولى "من باريس" والتي تحمل عنوان: "أسبوع بلجيكا - مؤتمر العلوم التاريخية"4 بقوله: "كنا ألفًا أو نزيد على الألف، كلنا يُعْنَى بالتاريخ أو بعلم أو بفنٍّ من فنون هذه العلوم التي يحتاج إليها التاريخ. وقد اجتمعنا من أطراف الأرض على اختلاف أوطاننا ولغتانا ومناهجنا في الحياة، لا يجمع بيننا إلّا شيء واحد, هو أننا نشتغل بالتاريخ أو بفنٍّ يتصل بالتاريخ"5. ويحدد الهدف الذي يسعى إليه من وراء تقريره، بتحديد فوائد هذه المؤتمرات: "كثيرة جدًّا الفوائد المختلفة التي تنتجها مثل هذه المؤتمرات, فلست أذكر الفوائد الأساسية التي يستفيدها علم التاريخ, وإنما أذكر فوائد أخرى غير هذه, ليس بينها وبين التاريخ صلة. فيكفي أن تكون فطنًا دقيق الملاحظة لتجد لذَّاتٍ متنوعة في ملاحظة هؤلاء الناس المختلفين في الوطن والجنس والطبيعة والمزاج   1، 2 الدكتور إبراهيم إمام: مرجع سبق ص142. 3 دافيد بوتر "ترجمة محمد مصطفى غنيم" مخبرو الصحف ص79، 80. 4 السياسية في 26 أبريل 1923. 5 المرجع نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 وما لكلِّ واحد منهم من عادة أو خلق أو مزية أو نقيصة. والحق أني استفدت كثيرًا من الوجهة العلمية التاريخية، ولكني مع هذا ضحكت كثيرًا وسخطت كثيرًا؛ فقد كان حولي منهم من يبعث السخط. ولكني سأحدثك عن هذا كله في مقالٍ آخر"1. ثم يقوم في مقال آخر بوظيفة المقرِّر الصحفي، حين لا يكتب في مكتبه أو في غرفة التحرير بالصحيفة كما يفعل كاتب المقال، وإنما يجمع الحقائق اللازمة لتقريره، ثم يمحِّصُها ويصنِّفُها قبل تحريره، فيقدِّم تقريرًا مفصَّلًا لأعمال كل لجنة من لجان المؤتمر "ليرى المشتغلون بالتاريخ في مصر كيف يتصور علماء أوروبا التاريخ, وكيف يقسمونه إلى أقسامه المختلفة"2 ويشفع هذا التقرير بملاحظاته، ليعصمه من جفاف مادته، بالقياس إلى القارئ، الذي يشعره بأنه "العين التي يبصر بها، والأذن التي يسمع بها، والحواس التي يحسُّ بها، وهو يعرف جيدًا أن عليه أن ينقل إلى القارئ جميع الأحساسيس فور شعوره بها وإدراكه لها"3، الأمر الذي يفسِّر اتخاذ شكل "الرسائل" المتتالية، يبعث بها "من باريس" متناولًا في كل رسالة وقائع التقرير أولًا بأول، من خلال الإجابة عن سؤالي "لماذا" و"كيف"، في إحاطة بالموضوع وتعمق في الملاحظة، ومع هذا ليس هناك -كما يقول "كارل وارين" خط واضح يفصل بين الموضوعات -الإنسانية والتقرير- فحدودها تختلط كما تختلط الألوان في قوس قزح4، بحيث يمكن القول أن الموضوعات أو الأعمدة الإنسانية ليست إلّا امتدادًا للتقرير الصحفي5. ولذلك نجد طه حسين في رسائله من بلجيكا، لا يقتصر على مؤتمر العلوم التاريخية، وإنما ينقل إلى قرائه تقريرًا عن "عيد الملك"6 الذي أتيح له أن يشهده فور الاحتفال به، ويُشْفِعُه بخواطره وآرائه في واقع هذه البلاد: "لا أذكر ما كان يضطرب في نفسي من خواطر الأسى والإعجاب, ومن عواطف الأسى والأمل أثناء الطريق بين باريس وبروكسل حين كنَّا نعبر هذه البلاد التي دمَّرتها الحرب تدميرًا, فلم تذر فيها شيئًا إلّا أتت عليه, والتي كان أهلها مشردين في أقطار فرنسا يتكلَّفون ألوان المشقَّة ويستجدون ضروب الإحسان ليستَقرّوا بعد تشريد, وليشبعوا بعد جوع. فأصبحت هذه البلاد ولما تمض على الحرب أعوام عامرة مزدهرة مستكملة أو آخذة في استكمال وسائل الحياة العاملة المنتجة الناعمة المترفة, كنت آمل آسى لقسوة الإنسان   1، 2 السياسة في 2 مايو 1923. 3 الدكتور عبد اللطيف حمزة: مرجع سبق ص311. 4، 5 كارل وارين "وترجمة عبد الحميد سرايا": كيف تصبح صحفيًّا ص135. 6 السياسة في 27 أبريل 1923. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 على الإنسان وكنت أعجب بقدرة الإنسان على إصلاح ما أفسدت يد الإنسان". فالمقال الوصفي إذن -عند طه حسين- نواة لفن التقرير الصحفي، من حيث أنه فن "التنوير والتثقيف بأسلوب جديد يصل إلى كافّة الأفهام، وهو فن يختلف عن فن الكتاب العادي؛ لأنه ينطوي على تحرير صحفي، وفنٍّ تصويري، وتجسيد للمعاني، وتبسيط الحقائق، مع تيسير الفهم لكافة المستويات الثقافية"1. ولذلك يذهب طه حسين إلى التوسُّل بفن الرسائل التقريرية، كما تبيَّن في رسائل "من باريس"، وكما يتوسَّل بفن الحديث الصحفي، في إطار الواقع العملي، والتعبير عنه باصطلاحات مبسَّطة مع الابتعاد عن الاصطلاحات العملية والفنية المجردة. ويبين اهتمام طه حسين بفنِّ الحديث الصحفي ومكانه من رؤياه الصحفية في مقالٍ نقله في "الكاتب المصري" لـ "إميل لدفيج"2، الكاتب الألماني الشهير، نشره في "ريفي دي باري" عدد ديسمبر 1946 عن فن الأحاديث الصحفية، ويذهب من عرضه إلى أن هذا الفن من أمتع الوسائل الصحفية، وأنه ليس مجرد نقل حديث كما قيل حرفيًّا، بل إنه يحتاج إلى فن وأسلوب أكثر مما يعتقد القارئ3. الأمر الذي يميز هذا الفن التحريري في صحافة طه حسين، كما يبين من الحديث الذي اشترك مع مصطفى عبد الرازق في إجرائه مع "تاجور" ونشرته السياسية الأسبوعية بعنوان: "ساعة مع تاجور"4, وهو من هذه الناحية فن جديد، يشترك في إجرائه كاتبان، بحيث يمكن أن نسميه "حديثًا حواريًّا" يمتاز بخصائص مسرحية أشار إليها "لودفيج" في فن الحديث5، حيث يبين أن الحديث الحواري جاء مدروسًا، تظهر فيها خصائص "تاجور", وتكشف الأسئلة عن جذب اهتمامه، بحيث يتخطَّى الحديث مرحلة "السؤال والجواب"، إلى أن يكون طريقة جديدة في الحديث تكشف عن حالة المتحدث العقلية عند الإفضاء. فيذهب طه حسين ومصطفى عبد الرازق في إجراء حديثهما مع "تاجور" عند زيارته لمصر، إلى التوسل بالملاحظة والقدرة على الوصف والتصوير وإدارة الحوار، بحيث تغني المقدمة التصويرية للحديث عن "الصور الفوتوغرافية" التي أشار إليها "لودفيح".   1 الدكتور إبراهيم إمام: مرجع سبق ص24. 2، 3 مجلة الكاتب المصري فبراير 1947. 4 السياسة الأسبوعية في 4 ديسمبر 1926. 5 الكاتب المصري فبراير 1947. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 "بلغ بنا المصعد الطابق الثالث من فندق شبرد فأخذنا عن اليمين، ثم ذهبنا في مجازٍ طويل انتهى بنا إلى باب وراءه تاجور. "تَقَدَّمَ الأديب المهذَّب مسيو سوارس، فدقَّ برفقٍ مرتين، وفتح الباب غير منتظر إذنًا، ودخلنا على أثره معه. الحجرة في زاوية بحرية غريبة، يقع الباب في الناحية الشرقية منها، فإذا دخلت وجدت سريرًا وأثاث مضجع متوسط التنجيد, ووجدت قبالتك ركنًا ممهدًا فيه عن اليمين منضدة فوقها طاقة من ورد حمراء, وعن اليساء مكتب صغير ألقيت تحته جرائد إنجليزية منشورة, ومن فوقه كتب وأدوات كتابة ومحظفة من الجلد ومصباح كهربائي وإناء فيه أزهار بيضاء. "بين الرياحين والأوراق، في ذلك الركن الشبيه بالمحراب استوى الشاعر الفيلسوف على كرسي غير عالٍ في ثوبه البرتقالي الفضفاض, وهو حاسر الرأس وقد خلع نعليه"1. ثم تكشف المقدمة سمات "تاجو" وخصائصه كما تَبينُ على وجهه: "تاجور ذو وجه مستطيل سمح الملامح, يكلله شعر مسترسل موفور قد فرقه في سواد الرأس فانسدل على الأذنين، منتهيًا في شبه تجعد، يؤلف من تلك المنصل البيضاء هالة مشرقة"2 ... إلخ. ثم تكشف إدارة "الحديث الحواري" عن طريقة جديدة، لا تجعل منه مجرد نقل حديث كما جاء حرفيًّا، وإنما تميزه بالفن والأسلوب الدرامي. "قال أحدنا: إن مما يُؤسَفُ له أن زيارة الشاعر الحكيم لمصر قصيرة لا تسمح له بأن يزور جامعتها المصرية الناشئة, وجامعتها الأزهرية العتيقة, ويتحدث إلى رجال هاتين الجامعتين: "قال تاجور: كم كنت أحب ذلك وأرغب فيه, ولا سيما بعدما لاحظته من أنَّ في مصر ثقافة راقية جعلت شعبها الإسلامي بمعزل مما يظهر عند الشعوب الإسلامية الهندية من الإسراف في الاستمساك بالقديم, والاستعصاء على حركة التجديد, وما يستتبع ذلك من الآثار ... إلخ" وينتهي الحديث بخاتمة تنويرية، توحي للقارئ بأنها نتيجة لازمة لمقدمات لحديث وتشابك الحوار. "وكان الشيخ قد أصابه الجهد لأنه من أولئك الذين إذا تكلموا وضعوا أنفسهم كلها فيما يقولون. فكرهنا أن نشقَّ عليه وكرهنا أن نستأثر به دون   1، 2 السياسية الأسبوعية في 4 ديسمبر 1926. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 من كان ينتظر من الزائرين فنهضنا مقدِّمين إليه أطيب التحيات وأصدق الأماني"1. وإذا كنا قد وجدنا عباس العقاد أول من يجري حديثًا صحفيًّا مع وزير مصري في حديثه مع سعد زغلول، وفتح بذلك صفحة جديدة في تاريخ الصحافة المصرية2. فإننا نلاحظ أيضًا أن زملاءه في المدرسة التجديدية، قد استخدموا هذا الفن استخدامًا عارضًا في سيرتهم الصحفية، بما يخدم فن المقال بالدرجة الأولى، كما وجدنا عند الدكتور حسين هيكل3 الذي اعتمد في تحرير الحديث على "أقوال مأخوذة من المتحدث بأسلوبه, مع بعض فقرات محدودة عن موضوع الحديث". وكما نجد عند طه حسين، حين يضطر إلى إجراء الحديث لجمع الحقائق اللازمة لتحرير المقال، أو لتدعيم حملته الصحفية على نحوٍ ما يبين من مقال: "في وزارة المعارف - عند الوزير"4 ضمن حملته في إصلاح التعليم, يقول طه حسين: "نعم. لم أكد استقر عند وزير المعارف حتى قال: سأفتتح لك الحديث, وسأفتتحه بالمسألة التي تعنيني بنوع خاص وأظنها تعنيك بنوعٍ خاصٍّ أيضًا, وهي مسألة الجامعة"5 على أن هذا الاستخدام العارض عند طه حسين، استخدام وظيفي، يخدم أغراض المقال ووظائفه، كما يضيف إلى مقوماته سمات فنية، مثل: إجراء الحوار والتصوير الواقعي، والبساطة التي يكشف عنها حديثه الصحفي، وسنجد هذه المقومات أوضح ما تكون في "فن العمود الصحفي"، حين يتحوَّل المقال إلى "حديث" بين "الطالب الفتى" و"أستاذه الشيخ"، وهي أمور تشير إلى وحدة الفنون المقالية في صحافة طه حسين، والتي تكتسب مقوماتها من مقومات الاتصال الصحفي بالجماهير. ونحاول في إيجازٍ شديد أن نستخلص الخصائص التي تميز بها التقرير الصحفي عند طه حسين: أ- العناية بالعنوان: وعناية طه حسين بالعنوان يتوسَّل بها في التصوير الواقعي لمضمون التقرير، كبديل للصور الفوتوغرافية، ولذلك يمتاز العنوان بالتبعير الوصفي المناسب لجو التقرير, ومن ذلك في رسائله الصحفية:   1 السياسة الأسبوعية في 4 ديسمبر 1926. 2، 3 أجرى العقاد حديثه مع سعد زغلول صباح الخميس الحادي والعشرين من مايو 1908, ونشره في صحيفة "الدستور", عبد العزيز شرف: عباس العقاد بين الصحافة والأدب" ص73، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة. 4، 5 السياسة في 5 نوفمبر 1923. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 من باريس أسبوع في بلجيكا مؤتمر العلوم التاريخية1 ثم يضيف إلى هذا العنوان الرئيسي عناوين تتضمَّن عناصر التقرير، في مكانها قبل المدخل: "ألقاب الملوك - زيارة القصر الملكي - تحيات صاحبي الجلالة - القصر الملكي والعلم"2. ومن ذلك في الحديث الصحفي. "ساعة مع تاجور"3. "في وزارة المعارف - عند الوزير"4. ب- الاهتمام بمدخل التقرير: ويرتبط هذا الاهتمام بالأسلوب الاستقصائي الاستقرائي عند طه حسين، ليلقي به ضوءًا على موضوعه، ويثير اهتمام القارئ، ويحفِّزه على القراءة، ويحافظ على هذا الاهتمام بالموضوع، وإقناع القارئ بأنَّ الموضوع متصل بحياته على نحوٍ من الأنحاء، ولذلك قد يستهلُّ التقرير بتوجيه التحية للقارئ، كما نجد في "من باريس"5 "تحية طيبة زكية إليك أيها القارئ الكريم من كاتب حُرِمَ التحدث إليك حينًا, وكثيرًا ما نازعته نفسه إلى هذا التحدث فلم يجد إليه سبيلًا"6 ... إلخ. جـ- تميُّز طه حسين بطريقته في تصوير الوقائع والحقائق والمعلومات: وهي ميزة ترتبط بأسلوبه الاستقرائي، وقدرته على النمذجة التصويرية، والتي ذهبت به إلى التوسل بالقالب الوصفي في استقراء المعلومات والوقائع لينقل القارئ إليه، ويجعله يشاهد ويشارك، كما يبين من تصويره لكنوز الأقصر7, ويرتبط بهذه الميزة كذلك:   1، 2 السياسة في 7 مايو 1923. 3 السياسة الأسبوعية في 4 ديسمبر 1926. 4 السياسة في 5 نوفمبر 1923. 5، 6 السياسة في 6 أبريل 1923. 7 السياسة في 14 ديسمبر 1922. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 د- العناية باستقراء الشواهد والأمثلة: وهو في هذه العناية يراعي التناسب بين أجزاء التقرير، كصفة مستمَدَّة من أسلوبه الاستقرائي، الأمر الذي يجعله يقلل ما أمكنه ذلك من الآراء التي قد توحي للقارئ بالتحيز الحزبي، ولذلك كثيرًا ما يتوسَّل بالأحاديث يجريها مع المسئولين ليمثِّلَ بها على صحة استقرائه، ومن ذلك في "كنوز الأقصر"1، اعتماده في التعريف بقيمة هذه المستكشفات على إجراء حديث مع "الأستاذ المسيو" لاكو" فأجاب بأنها أساسية في تاريخ مصر القديمة, أساسية في الحياة الفنية لمصر القديمة"2 ... إلخ. ثم إن الاستقراء الصحفي في تقرير طه حسين ترفده ثقافة عميقة، مستمَدَّة من علم النفس والأخلاق والاجتماع، حيث "راض نفسه على كثير من العناء في قراءة هذه الدراسات حتى استقامت له"3, وهي الثقافة التي تثري التقرير، وتوضح غرضه الذي كُتِبَ من أجله أولًا، وتحتفظ بالقراء الذين يحرصون على قراءته. هـ- الاهتمام بخاتمة التقرير: ويرتبط هذا الاهتمام بالرؤية الفنية في مقال طه حسين، والتي تشمل الخطة التي يرسمها، وتصورها جملة، ولذلك تتسم خاتمة التقرير بتلخيص الحقائق الأساسية لموضوعه، وخلاصة استقراء هذه الحقائق التي قد تُسْفِرُ عن حلول للمشكلة الأساسية في التقرير. كما نجد في تصوره لعلاج مشكلة كنوز الأقصر4، وفي تقاريره الأخرى، "من بعيد"5، تأتي نتيجة الاستقراء التقريري نتيجة منطقية لمقدمات واقعية تقوم على الوقائع والشواهد والحقائق بعد ذلك. ونخلص مما تَقَدَّمَ إلى أن التقرير الصحفي عند طه حسين يتوسَّلُ بأسلوب استقرائي تصويري، في خلق إحساس واقعي ينقله بأمانة وموضوعية موظِّفًا "الصور العقلية" إلى جانب "الصور الحسية" في "قدرة فائقة على   1، 2 السياسة في 14 ديسمبر 1922. 3 خصام ونقد ص103. 4 السياسة في 18 ديسمبر 1922. 5 الجمهورية في 8 يوليو 1960. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 تصوير الحقائق لتبدو كأنها الحقيقة ماثلة"1, ويستطيع قارئ تقاريره أن يرى بين سطوره وكلماته صورًا تكاد تكون ناطقة2، كما أنه لم يكتف بالوصف والتسجيل، متجاوزًا ذلك إلى التحليل والاستقراء, كما نجد في مقالاته التي يقف فيها على الحدود الفرنسية الألمانية، وأثر الحروب بينهما3، حيث تبين قدرته على إدراك دقيق للأشياء غاية الدقة، وقوة ذهنية خارقة على تحليل ما يصل إلى الذهن تحليلًا مفصَّلًا، وردَّه إلى أبسط أجزائه وأدقها، وعلى انتزاع صور واقعية، سواء في ذلك ما يصل إلى ذهنه من ثقافته، ومن معاني الأشياء وصور الحوادث والموجودات الواقعية.   1، 2 من محاضرة للدكتور محمد كامل حسين عن مقالات "في الصيف" كوكب الشرق في 14 أغسطس 1933". 3 رحلة الربيع والصيف ص189، 192. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 3- المقال الرمزي : يبين مما تَقَدَّمَ أن فنَّ المقال في صحافة طه حسين لم يكن بطيئًا في الاستجابة للتجديد، فتطوَّرَ في ألفاظه وأساليبه ومعانيه وموضوعاته, ونشأت فيه فنون لم تكن من قبل، وطوَّع اللغة العربية لهذه الفنون المقالية الجديدة التي ترتبط بدورها بأنحاءٍ من التصوُّر والتصوير لم تكن مألوفة من قبل. وتأسيسًا على هذا الفهم، فإن المقال الرمزيَّ يُعَدُّ من هذه الفنون التي يطوِّع اللغة العربية من خلالها لأداء وظائف المقال الصحفي، على أن هذا الفن الرمزي يرتبط في صحافة طه حسين كذلك بفرض الرقابة على الإنتاج العقلي1، والتي لم تمنعه من ابتداع فنون مقالية جديدة تتوسَّلُ بالإيحاء والرمز أثناء الربع الثاني لهذا القرن2، لقهر "تلك الظروف"3 التي تَحُولُ بين الأقلام وبين الحرية في الصحف4، ومن هنا يبين اللجوء إلى "الرمز" عن قصد، بالقياس إلى طه حسين في بعض ما كان يكتب في الصحف, وفي بعض ما كان ينشئ من الكتب5، ليداور السياسة حتى يغلبها, ويقول للظالمين ما يريد أن يقول6. فهذا الفن الرمزي في مقال طه حسين، فنٌّ وظيفيٌّ يقوم على أداء وظائف المقال في ظروف يَعِزُّ فيها التعبير الصريح، ولكنه مع ذلك يمتاز بخِفَّةِ الظل وسلاسة الأسلوب، كما يمزج التعبير بالتهكم والسخرية مع الحكم والأمثال المتداولة، والنكات اللاذعة, والاقتباسات الدالة، والنقد البَنَّاء، كما سنجد في مقالات "جنة الشوك" التي تقترب من "الأبيجراما", وفي مقالات "جنة الحيوان" التي يتخذ الرمز فيها قالبًا قصصيًّا، ويتفقان في الوظيفة والغرض. والرمز هنا يعني الإيحاء، والتعبير غير المباشر عن المواقف الاجتماعية والسياسية المستترة التي يَعِزُّ التعبير عنها في اللغة المباشرة بدلالاتها الوضعية، كنتيجة لفرض الرقابة على الإنتاج العقلي، ولكنه يقوم على الصلة بين الذات والأشياء؛ بحيث تتولَّد الآراء والاتجاهات عن طريق الإثارة النفسية، لا عن طريق التسمية والتصريح.   1 ألوان ص26. 2، 3، 4 من أدبنا المعاصر ص163. 5، 6 المرجع نفسه ص164. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 ويقوم المقال الرمزي عند طه حسين على دعامة فلسفية تستند إليها الرمزية الأوربية، إلى جانب الدعامة الواقعية العملية، كما يبين من فلسفة "كانت" التي تفسح مجالًا لعالم الأفكار، وتصرِّحُ بتعذُّر معرفة العالم الخارجي عن غير طريق صوره المنعكسة فينا1. على أن الدعامة الواقعية في المقال الرمزي عند طه حسين تخرج به من نطاق الذاتية في الرمز إلى البحث عن العلل السياسية والاجتماعية المستعصية على الدلالة اللغوية المباشرة، فهو يَحْفَلُ بسواد الشعب والناس، وليس كالأدب الرمزي الذي يتوجَّه إلى الصفوة، ذلك أنه يحفل بإخضاع الواقع الملموس للفكر الفني قصدًا إلى السيطرة عليه عن وعيٍ, والتعبير عن مشكلات المجتمع؛ مستعينًا بثقافته القديمة والحديثة في تفكيره الفني، مستهدفًا خدمة التفكير الحر والديمقراطية، أي: في الدفاع عن الآراء المضادة لتلك التي يعتنقها بعض الحكام في مصر، في أسلوب رغم رمزيته، يتميز بالوضوح والإفهام والموسيقى دائمًا، فهو يتكون من جُمَلٍ قصيرة تحتوي على إشارات موحية إلى جانب معرفته العظيمة بكل صور الفن، وهذا هو السبب في أن المقال الرمزي يبدو كما لو كان اقتباسًا أو محاكاة معقودة لغرض وظيفي، كما سيجيء في "الرسائل الجاحظية". ومن ذلك يبين أن الرمزية في مقال طه حسين ليست تشبيهًا حُذِفَ أحد طرفيه، كما فهم بعض أدبائنا2, ولكنها تعبيرات وصور جزئية تتعاون في بنية المقال لتَشِفَّ عن صورة مقالية لا يمكن التصريح عنها، تتعاون فيها الوسائل الفنية تعاونًا وظيفيًّا لأداء غرض المقال, وهو الأمر الذي يشير إليه طه حسين، حين يؤدي هذا الأسلوب الرمزي وظيفته الاتصالية بجمهور القراء، الذين يعتقدون أن كل كلمة فيه "ذات معنى ظاهر وباطن، وأن لها معنًى قريبًا يتخذ وسيلة إلى معنًى بعيد، وغاية يسيرة تُخْفِي وراءها غاية يسيرة"3. ذلك أن هؤلاء القراء كانوا على اتصال وثيق بالظروف التي أدت بالكاتب إلى التوسُّلِ بالرمز الذي يكاد أن يكون "لغة سرية" بين الكاتب وجماهير القراء، لا يفهمهما الرقيب الذي يعينه الساسة والحكام الذين أَدَّتْ سياستهم بالمصريين إلى "كثير من الشك وكثير من الخوف، وكثير من سوء الظن الذي أوشك أن يصبح أصلًا من أصول الحياة، وقاعدة من قواعد التعامل بين الناس"4. ومن أجل ذلك، تغدو الدعابة والسخرية والفكاهة أدوات وظيفية لاذعة   1 الدكتور محمد غنيمي هلال: مرجع سابق ص373. 2 المرجع نفسه ص360. 3، 4 البلاغ في 15 مايو 1945, بين 78، 79. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 قد "يضيق بها الكُتَّاب والقرَّاء في تلك الأيام"1، ولكنها تنتهي إلى غايتها حين يتمُّ توصيل الرمز بعد نشر المقالات الأولى منها, إلى أذهان الجماهير التي "تذهب فيه المذاهب، ويلتمس الناس له ألوان التأويل، ويتخذون منه ثوبًا يفصِّلُونه على قدر هذا أو ذاك من الذين ينهضون بالأعمال العامة، أو يشاركون فيها"2، ثم يمضي في إذاعة مقالاته الرمزية: "ويمضي الناس في التساؤل, ثم لا يقف الأمر عند التساؤل والإلحاح فيه، وإنما يختلف الناس فيما بينهم, ويغلون في الاختلاف، ويريد بعضهم أن يحتكم إليّ، ويجد عندي حلًّا لهذه الرموز، وتوضيحًا لهذه الألغاز, ويتصل بعضهم بي يسألني أن أريحه من هذا كله؛ فيكتب إليّ الرسائل ينبئني فيها بما يعلم من حياة فلان وفلان, ومن خِصَال فلان وفلان، ومما يُظْهِرُ فلان للناس ويُخْفِي عليهم، ويطلب إليَّ أن أصوِّرَ هذا في حديث من هذه الأحاديث التي تنشر في "البلاغ"3. ثم يلاحظ أن الأمر ليس مقصورًا على مقالاته التي يذيعها، ولكنه يتجاوزه ويتجاوز مقالاته إلى قوم آخرين, ومقالات أخرى تنشر في الصحف اليومية والأسبوعية, وإلى قوم آخرين وأحاديث أخرى تجرى على ألسنتهم حين يلقى بهضهم بعضًا "فقد كتب فلان هذه الأسطر في هذه الصحيفة أو تلك, وهو قد أراد بها إلى هذا الغرض أو ذاك، وأراد بها أن يمسَّ فلانًا من قريبٍ أو بعيدٍ، ولمح بها إلى موقف فلان في السياسة، أو موقف فلان في الإدارة، أو موقف فلان في البيع والشراء, حتى استيقن الناس جميعًا أنهم لا يتبادلون الحديث بينهم إلا رمزًا، وأن الصراحة والوضوح والجلاء كلُّ هذه أمور قد بَعُدَ العهد بها حتى نُسِيَت أو كادت تُنْسَى"4. على أن هذا اللجوء الاضطراري إلى الرمز، لم ينفصل عن أحوال الناس في حياتهم اليومية العادية، وإنما أصبح وسيلة يتوسَّل بها إلى النقد والتوجيه والإصلاح، في ظروفٍ لم تسمح بالصراحة في التعبير، وفي مقدمتها الأحكام العرفية التي اقتضتها الحرب العالمية الثانية، واستتبعت مراقبة الصحف5، وألقت في روع الناس جميعًا أن أمورهم لا تجري على ما تعودت أن تجري عليه قبل أن تُعْلَنَ الأحكام العرفية، وقبل أن تُفْرَضَ الرقابة على الألسنة والأقلام6، ولكن هذه الظروف التي استغلَّها السلطان في مصر، في أثنائها، وبعد انتهائها, وأدت إلى أن يفرض المصريون فيما بينهم وبين أنفسهم أن الرقابة قد   1 المرجع نفسه، ص79. 2 المرجع نفسه ص79، 80. 3 المرجع السابق ص79، 80. 4، 5، 6 المرجع نفسه ص80، 81. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 شملت كل شيء1. لم يحل دون المقال الصحفي وبين أداء وظائف النقد والتوجيه والإصلاح حين أراد أن "يمسَّ الأمور العامة"2. ومن ذلك يبين أن الرمز في مقال طه حسين قد أصبح وسيلة من وسائل "مراوغة الرقيب" إن جاز هذا التبعير، في موافاة القرَّاء بالحقائق الكاملة الصحيحة والصادقة عَمَّا جرى من أحداث. ذلك أن الرقابة على الرغم من أنها "تَحُدُّ من حرية الصحافة"3 فإن الفضل يرجع إليها في إنشاء هذا الفن الرمزي في المقال الصحفي، كما استحدثت صياغة خبرية رمزية. وكما أدَّى الاضطهاد الديني والسياسي إلى توسُّلِ الأدباء في عصور مختلفة بمذاهب شتَّى في مقاومته على أيِّ شكل من أشكاله، كما نجد في القصص على ألسنة الحيوان، في "كليلة ودمنة" لابن المقفع، وغيرها من صور النقد السياسي التي حفظها لنا التاريخ. ويتوسَّل طه حسين في نقد الحكومة والمجتمع، بالأسلوب الرمزي في "جنة الحيوان" التي يحاسب فيها الحكام والمحكومين على السواء، ويوجِّهُ النقد والتوجيه والإصلاح في هذا الأسلوب، على الرغم من الظروف السياسية التي تَحُولُ دون النقد والتوجيه، مستعينًا بذكائه وأسلحته الفنية في الوصول إلى غرضه الصحفي، ذلك أن من حق الناس جميعًا، كما يقول طه حسين، أن "يضيقوا بالرقابة وبالأحكام العرفية؛ ولا سيما حين يتَّصِلُ الخضوع لها والاكتواء بنارها"4. ولذلك يواجه إلى ذلك "أشياء أخرى لعلها أن تكون أبعد من ذلك أثرًا في إشاعة القلق والريب"5، كنتيجة لخضوع المصريين, وما تقتضيه من هذه الأحاديث المتناقضة التي يكذِّبُ بعضها بعضًا, والتي تُذَاع في الراديو كل يوم، وما تقتضيه من هذه الإشارات الغامضة التي تُنْشَر في الصحف والمجلات حتى تَعَوَّدَ الناس أن يسمعوا النبأ فلا يصدقوه، أو أن يسمعوا النبأ فيستنطبوا منه غير ظاهره, وربما استنبطوا منه نقيضه، وحتى تَعَلَّمَ الناس أن يقرأوا بين السطور, وأن يسمعوا بين السطور، إن أمكن أن يسمع الناس بين السطور"6. ومن أجل ذلك، يذهب المقال الرمزي إلى مواجهة خطوب ثِقَالٍ في حياة المصريين العامة والخاصة7، كأهوال الحرب، ومصاعب الحياة الاقتصادية، والتغييرات السياسية، والبؤس والحرمان اللذين ينتهيان إلى الجوع والشقاء   1، 2 المرجع السابق ص81. 3 فيل أولت "ترجمة أحمد قاسم جودة" وراء الأخبار ليلًا ونهارًا ص 158. 4، 5 بين بين, ص81، 82، 83, مرجع سابق. 6، 7 المرجع السابق ص83. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 في بعض الطبقات "كل ذلك خليق أن يعقد منافع الناس أشد التعقيد، وأن يقوي الأثرة في نفوس الأفراد والجماعات، وأن يضطر كل واحد من أفرادهم, وكل جماعة من جماعاتهم, إلى الاحتياط للنفس، والاستكثار من الخير, والاستعداد للمستقبل، والتَّحَفُّظ من الطوارئ, والتخلص من المشكلات، والنفوذ من الخطوب"1. ويعالج المقال الرمزي ما ينتج عن ذلك من أسباب "تشل الضمير المصري في هذه الأيام وتوشك أن تدفعه إلى خطر عظيم"2. ويشخص المقال الرمزي في صحافة طه حسين، إلى جانب ما تَقَدَّمَ "ظاهرة خطيرة مؤلمة حقًّا، وهي أن رأي الناس قد ساء في الناس, فلا تكاد تذكر رجلًا حائر الضمير حتى يحسُّ كثير من الناس أنه المعني بهذا الضمير الحائر3، ومصدر ذلك في مقال طه حسين أنَّ النماذج التي يصورها للضمائر القلقة الحائرة تجد ذلك فيما بينها وبين نفسها في شيء من الحيرة4. فلا يكاد يعرض في "جنة الحيوان" صورة الرجل الذي يشبه "الثعبان"5, أو الذي يشبه "الثعلب"6, أو يشبه "ما شاء الله من هذا الحيوان المقيم في حديقة الحيوان حتى يحسّ كثير من الناس أنه هو المعني بهذه الصورة, المراد بهذا الاسم"7. فالثعلب -في المقال الرمزي، ثمرة من ثمار الصراع الحزبي، ونشأة "الفرص الكثيرة التي ينتهزها الأذكياء ليستفيدوا من صراع الأحزاب, ونَظَرَ الثعلب ذات يوم فإذا الحياة المصرية كلها تلقي في نفسه أنه قد خُلِقَ للفوز, وأن الفوز قد خُلِقَ له؛ لأن الحياة المصرية لم تكن في وقت من الأوقات ملائمة لخفة الثعالب ورشاقتها وذكائها ونَهَمِهَا منها في هذه الآيام. وما ينبغي لمن يريد الفوز في هذه العواصف العاصفة, وفي هذه المصالح المشتبكة, والخصومات المتصلة, والمنافع المعَقَّدَة, إلا أن يكون فطنًا، وصاحبنا أخف من النسيم، ماكرًا، وصاحبنا أمكر من المرأة صامتًا، وصاحبنا أشد صمتًا من الصخرة الصماء"8 ... إلخ. ويتوسَّل طه حسين في نمذجة "الثعبان" بالتسمية القديمة له "الشجاع"9 التي لا تدل "على الرجل الذي يصبر نفسه على المكروه ويجشمها   1 المرجع نفسه. 2 المرجع السابق ص83. 3 المرجع نفسه ص83. 4 المرجع نفسه ص83. 5، 6 جنة الحيوان ص29، 68. 7 بين بين ص83. 8، 9 جنة الحيوان ص34، 45، 69. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 الهول في سبيل ما يتمُّ مروءته"1، وإنما تدل على "الحيَّة التي تستخفي في جحرها لا تكاد تظهر منها إلا رأسها الدقيق, وتظل على حالها هذه مستخفية مطرقة، حتى إذا مكَّنَتها الفرصة ووجدت مساغًا لنا بينها لم تضيعها, وإنما عَضَّتْ فصمَّمَت كما يقول الشاعر, وبلغت من عضتها وتصميمها ما تريد"2. ويفصح المقال عن هذا المرز في نهايته حين يقول: ... ولكن عهد مصر بالشجعان الإنسية قريب فيما يظهر، وهو على قربه خصب بعيد الأثر، فقد كثرت شجعان الناس في مصر منذ اضطربت السياسة وتلاحقت الخطوب ومكر بعض الناس ببعض وكَادَ بعضُ النَّاس لبعض، وتوشك مصر أن تُعْرَف بشجعان "الناس" كما عُرِفَت بشجعات الحيَّات3. ومن ذلك يبين وضوح الرمز في النمذجة المقالية، الأمر الذي يجعل من العسير "إقناع القراء بأن الكاتب إن عرض صورة بعينها فهو لم يُرِدْ شخصًا بعينه، ولعله يكون قد كوَّن صورته هذه من أشخاص كثيرين يأخذ من أخلاق كلِّ واحد منهم طرفًا, ثم يضيف هذه الأطراف بعضها إلى بعض فينشيء منها صورة قد تعجب أو لا تعجب, ولكنها لا تخلو من عبرة وموعظة. ولعلها أن تحمل الناس على أن يصلحوا من أمورها ويخفوا من شرورهم"4. فالنمذجة الرمزية تقوم على الوظيفية الهادفة والوضوح والتبسيط، فمن "وجد في نفسه شيئًا من أخلاق الثعبان أصلحه وأخفاه؛ فكف شرَّه عن الناس قليلًا أو كثيرًا"5 وقُلْ مثل ذلك فيمن "يجد في نفسه شيئًا من خصال الثعلب, أو من خصال العقرب, أو من خصال الذباب. والله قد خلق الأشياء كلها لتكون موضعًا للعظة، ومصدرًا للعبرة، ووسيلة إلى اكتشاف الحق والخير والجمال وليدل عليها، وليستكشف الباطل والشر والقبح ويرغب عنها. فليكتب الكُتَّاب، وليقرأ القراء، وليسأل السائلون، وليجب المجيبون، فليس بشيء من هذا كله بأس"6. وإنما يجب أن يتعاون المصريون جميعًا، في مقال طه حسين، على علاج واستئصال "هذا القلق الذي شمل الضمير المصري، والذي يوشك أن يدفعه إلى أكثر من السؤال والجواب"7. ونخلص من ذلك إلى أن الرؤيا الوظيفية في مقال طه حسين، هي التي تجعل هذا الأسلوب الرمزي في التحرير، أسلوبًا من أساليب المقال الصحفي، يقوم على الاتصال الوثيق بالقراء ومشكلاتهم وحياتهم الواقعة، في أسلوب   1 جنة الحيوان. 2، 3 المرجع نفسه ص69، 74. 4، 5 بين بين ص85. 6، 7 بين بين ص85. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 يتوسَّل بالنمذجة الرمزية، نحاول أن نستخلص عناصرها في إيجاز شديد: أ- اعتماد النمذجة الرمزية على الحركة والتفصيل والتنغيم والمقابلة والتضاد، اعتمادًا وظيفيًّا هادفًا، كما نجد في نموذج "الثعلب" قوله: "إن الأحزاب المصرية كلها عنه راضية, وبه معجبة, وإليه محتاجة, ولكنه فَقَدَ من خصال الثعلب خصلة واحدة, هي التي حملتك يا سيدتي على أن تضحي منه حين رأيته يقبل كأنه البرمة الضخمة, وحين رأيته يجلس فينهال كما ينهال الكثيب. ذلك أن الأيام أحبته حبًّا شديدًا، فأخذت لا يمر يوم منها إلا خلع عليه قميصًا من الشحم قد فُصِّلَ على قَدِّه تفصيلًا"5. ومن ذلك يبين أن هذه الأدوات تخدم الكاريكاتير الوظيفي في السخرية المرة، فالثياب "الشحمية أخذت تتراكم وتتراكب حتى مدته إلى يمين وإلى شمال، وزادته بسطة في الجسم من خلف ومن أمام"1 كما تبين وظيفة التنقيم والحركة والتفصيل في الكاريكاتير في قوله: "أقبل فحيَّا, ثم تَقَدَّمَ يسعى حتى إذا بلغ مكانه جلس وكأنه الكثيب المنهال"2. على أن النماذج البشرية في "جنة الحيوان" رغم غرابة رموزها، تبدو مألوفة في وقت الاضطراب السياسي والاجتماعي، كما تَقَدَّمَ، لأنها "غلطة من غلطات الطبيعة, وفلتة من فلتات الدهر، ووهمٌ من أوهام الظروف"3. ب- استخدام الجمل القصيرة السهلة الموقعة استخدامًا وظيفيًّا في النمذجة الرمزية، كما يبين من هذا الحوار الذي استهلَّ به مقال "الغانيات"4. - "من أين أقبلت يا ابنتي! - من حيث لا تبلغ الظنون.. - ماذا تريدين يا ابنتي؟ - أريد ما لا تقدرون.. - كيف تقولين يا ابنتي. - أقول ما لا تصدقون! -أسرفت في الرمز يا ابنتي. - بل ما لكم كيف تحكمون5! "   1 جنة الحيوان ص35، 29، 35. 2، 3 جنة الحيوان ص35، 29، 30. 3، 4، 5 المرجع نفسه ص75، 77، 97. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 جـ- استخدام القالب القصصي للمقال استخدامًا وظيفيًّا في تصوير النماذج الصحفية، وتحقيق أغراض "النقد في سرعة وخِفَّةٍ ودقة وإيجاز"1. كما يتيح له هذا القالب تبسيط الرمز وتوضيحه، على النحو الذي يبين من المقال المتقدم، حين "ترفع الفتاة كتفيها, وتبتسم عن ثغرٍ جميل وتقول ساخرة: تريد أن تعرف اسمي فاسمي هو "العدالة الاجتماعية"2 على نحو ما نعرف في "لحظة التنوير" في القالب القصصي القصير. ونخلص مما تَقَدَّمَ إلى أن هذا المقال الرمزي في صحافة طه حسين ثمرة من ثمار صحافته، يتمثَّل عناصر الأصالة والتجديد، تمثلًا وظيفيًّا في النقد والتوجيه، ذلك أن.. الله لم يخلق الأشياء عبثًا, وإنما جعل فيها لنا منافع، ودعانا إلى أن نعتَبِرَ بكل ما خُلِقَ من الحي والميت, وأن نلتمس فيه الموعظة التي تبصِّرُ القلوب, والحكمة التي تهدي العقول"3 ومن ذلك تبينُ الرؤيا الوظيفية الهادفة وراء المقال الرمزي في صحافة طه حسين، والذى تُشْتَقُ موضعاته من حياة المجتمع، يفسرها ويعلق عليها ويناقشها من خلال النمذجة الرمزية، بحيث يكشف هذا الفن المقالي عند طه حسين عن تقدير للحاجة النفسية والاجتماعية والسياسية عند قرائه وجمهور مجتمعه، تقديرًا يشعرها بضرورة التركيز عليها، من خلال علم ودراية واسعتين بالناس وبالحياة وبالمشاكل التي تعرض لهم في وقت من الأوقات.   1 جنة الشوك ص8. 2 جنة الحيوان ص103. 96. 3 المرجع نفسه ص96، 103. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 4- الرسائل المقالية : يكشف هذا الفن المقالي في صحافة طه حسين عن عناصر أصيلة ومظاهر تجديدية في آنٍ معًا، فهو يلتقي مع الرسائل -المقالات في تراثنا العربي, كما يلتقي مع رسائل فولتير ومونتسكيو، كما سيجيء، ويلتقي مع فنِّ المقال بمفهومه الحديث, وفي تراثنا العربيِّ وجدنا شكل الرسائل يقترب بها من أن تكون مقالات، توشك أن تكون أحيانًا مقالات مطوَّلة تدرس أفكارًا طارئة أو دافعًا جديدًا، وهي أحيانًا مقالات موجزة توشك أن تكون معالجة آنية لحدث يومي طارئ1، وهي أحيانًا موضوعية, وأحيانًا ذاتية, بعضها يغلب عليه أن تكون الفكرة وحدها هي التي تتحكم فيه، وبعضها تتعاون فيه مقتضيات الفكرة وطرق الأداء لتصرفه على هذا النحو أو ذاك2. ومن ذلك ما نجده في رسائل الجاحظ التي تقترب أن تكون خطوة واسعة جدًّا على طريق المقال المعاصر، فيها الموضوع الذي يشغل الذهن أو الحادثة التي تملأ القلب، وفيها التفكير في هذا الموضوع, وفيها الخلاص من ذلك إلى التعبير عنه بنوعٍ من الأداء، يجمع بين عمق الفكر وجمال العرض، ويطول ذلك أو يقصر تبعًا لكثير من الظروف والمناسبات. ويتوسَّل طه حسين بهذا الفنِّ الأصيل في تراثنا العربي توسلًا وظيفيًّا هادفًا في أداء الفكرة السياسية أو الاجتماعية، التي تمثّل منطلق الرسالة المقالية وهدفها في صحافته. ذلك أن هذه الرسائل المقالية في صحافة طه حسين تضع الذيوع العريض الذي يتناول الكتلة الكبرى من الناس ويتصل بالجماهير، هدفًا رئيسيًّا لها, ومن هنا تكتسب عناصر الأصالة في مقال طه حسين وظائف صحفية حديثة، تصل بين صحافته وبين الذيوع في الحياة العملية، وتأخذ الرسائل الجاحظية في مقال طه حسين بعض صفات المقال الحديث: الوصول إلى أكثر مَنْ تستطيع أن تصل إليهم مِن الناس. ونرى أن الرسائل الجاحظية من أنسب أساليب المقال في تراثنا لأداء هذه الوظائف الصحفية الحديثة، لما تمتاز به من اليسر والمرونة وسهولة اللفظ والموسيقى، الأمر الذي يظهر لنا في توسّل طه حسين بهذا الشكل المقالي في "مرآة الضمير الحديث" الكتاب الذي ضمَّ مقالاته الجاحظية, وقد صدر أولًا   1، 2 د. عبد العزيز شرف: فن المقال الصحفي, مرجع سبق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 بعنوان "نفوس البيع"1, عام 1949, ثم باسم "مرآة الضمير الحديث" بعد ذلك، في ظروف سياسية اقتضت التوسُّل بالرمز، على النحو المتقدِّم، لترمز إلى "مظاهر كنا نبغضها ولا نستطيع أن نتحدث عنها في صراحة أثناء تلك الأيام السود"2 التي انقطعت فيها الصلة بين النظام السياسي والشعب3، وشاع الملق السياسي, وانتشرت الرِّشْوَة في ظلِّ نظام أصاب طه حسين نفسه بالاضطهاد زمنًا طويلًا "لأنه يملأ الصحف حديثًا عن المعذَّبين في الأرض, فإذا أراد الصحفيون أن ينتخبوه نقيبًا تدخل الملك في الأمر، وأرسل إليه الوزير محمد هاشم يقصيه عن هذا المنصب الذي يتم الاختيار فيه بالانتخاب، تحاشيًا لغضبه من جهة، وإرضاء لرجله إدجار جلاد الذي كان يطمع في المنصب من جهة أخرى"4. ومن ذلك يبين الارتباط بين الرسائل المقالية، والمقال الرمزي من حيث الظرف الاضطراري إلى التوسُّل بالرمز، في التعبير عن المضمون السياسي والاجتماعي من خلال "رسائل تنسب إلى الجاحظ, وأراها محمولة عليه؛ لأن تكلُّف التقليد فيها ظاهر"5، وهو ليس تقليدًا في ذاته، وإنما يتوسَّل به في أداء وظائف المقال الصحفي الحديث من خلال هذا الشكل في الرمز والتلميح. على الرغم من إيهام "الرقيب" أن هذه الرسائل "للجاحظ وغير الجاحظ من كُتَّاب القرن الثالث والرابع للهجرة, ولم أكد أنظر فيه حتى بهرني وسحرني, وكرهت أن أوثر نفسي بقراءته، فجئت أظهرك عليه وأشكرك في الاستماع به"6. ويشير أسلوب هذه الرسائل المقالية في صحافة طه حسين إلى الخصائص الجاحظية في الكتابة، والتي يمثِّلُها التحرير المقالي في صحافته، من أهمها: الإسهاب والاستطراد، واتساع العبارة، وجذب القارئ، وسحبه بلطف ومهارة، ثم هي مدرسة تُعْنَى كذلك بالتأليف بين الألفاظ بعضها وبعض من جهة، وبين المعاني بعضها وبعض من جهة ثانية7. وتظهر هذه الخصائص في الرسائل المقالية عند طه حسين، من خلال استخدام وظيفي في التصوير والتعبير الواقعي البسيط، عن الواقع السياسي والاجتماعي في مصر وصف ملامسة وعيان، فلا تَحْلِيَة ولا تَعْرِية حتى تحاكي   1 ضمن مجموعة كتب للجميع. 2 المعذبون في الأرض ص12. 3 محمد زكي عبد القادر: محنة الدستور ص138. 4 أحمد بهاء الدين: فاروق ملكًا ص24. 5، 6 مرآة العصر الحديث ص1، 7. 7 الدكتور عبد اللطيف حمزة: مرجع سبق 187. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 الأصل في كل شيء مع فضل من جمالٍ في الأسلوب والسياق, وهو يبدأ "رسالة الشكر والكفر"1 بالدعاء لمحمد بن عبد الملك الزيات"2 كما بدأ الجاحظ "رسالة التربيع والتدوير" بالدعاء لأحمد بن عبد الوهاب3, ثم يمضي في رسالته على النحو الذي يبدو في رسائل الجاحظ من السخرية والتحذير، من النظام السياسي في مصر، ومن ظاهرة "الرضاء السامي"4 التي ترتبط بالملك السابق، والتي أصاب منها طه حسين شرًّا كثيرًا5, كما يبين من "الشكر والكفر"، ومن ارتباط أحداث الرسائل ووقائعها التي قد تُعْرَف في الرمز، بسياق الحركة العامة للأحداث في مصر من حوله، ... "قلت لصاحبي: أجاد أنت في إضافة هذا الكلام إلى الجاحظ؟ قال وهو يغرق في الضحك: ما أكثر ما أضاف الجاحظ إلى الناس ما لم يقولوا, فما يمنعني من أن أضيف إليه ما لم يقل..! "6. ومن الخصائص الجاحظية في رسائل طه حسين المقالية، كذلك ظاهر الاستطراد في أسلوبه، والعناية الظاهرة بجرس اللفظ، وموسيقى العبارة، وتقطيع الكلام قِطَعًا متوازنة، نستطيع أن نقف عند كل واحدة منها، فنحن عندما نقرأ مقالًا لطه حسين, أو نقرأ للجاحظ، لا نحسُّ عسرًا في فهمه بل نجد يسرًا ومرونة7؛ فالنثر عند طه حسين شأنه شأن نثر الجاحظ، لا يلذّ العقل وحده ولا الشعور وحده، ولكنه يلذُّ العقل والشعور والأذن أيضًا، لأنه قد نُظِّمَ تنظيمًا موسيقيًّا وأُلِّفَ تأليفًا خاصًّا له نسب خاصة، فهذه الجملة لها هذا المقدار من الطول, وهذه الجملة تناسب هذا الموضوع، وإذا قصرت هذه الجملة لاءمتها تلك الجملة، وإذا ضخمت ألفاظ هذه الجملة كانت الجملة التي تليها على حظٍّ من السهولة8. ومن ذلك ما جاء في "رسالة الأمر والنهي"9: " ... وخشيت أن يتجاوز الديوان إلى مجالس الأشراف في قصورهم، والقوّاد في جنودهم، والعامة في أنديتهم ومجالسهم, فيتحدث الناس عنك بما لم يتحدثوا بمثله عن الوزراء من قبلك، وتقع في نفوسهم لك مهابة تقوم على الخوف والبغض، ولا تقوم على المحبة والتجلة, وشَرُّ ما يتعرض له أصحاب السلطان أن يهابهم الناس خوفًا ورهبًا, وخير ما يتاح لأصحاب السلطان أن يهابهم الناس   1، 2 مرآة الضمير الحديث ص7، 8، 9. 3 من حديث الشعر والنثر ص57. 4، 5 أحمد بهاء الدين، نفس المرجع ص24. 6 مرآة الضمير الحديث ص17. 7، 8 من حديث النثر والشعر ص63. 9 مرآة الضمير الحديث ص19، 24. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 حبًّا وإكبارًا, وطمعًا فيما عندهم من الخير، ورغبة فيما يجدون عندهم من البر والمعروف"1. ومن ذلك يبين ارتباط هذا الشكل الجاحظيّ بأحداث الواقع السياسي والاجتماعي في مصر، وما ألمَّ به من فساد وانتكاس للدستور. "واعلم جُعِلْتُ فداك أن الزمان لا يثبت، وإنما هو مُنْطَلِقٌ دائمًا, وأن الأيام لا تستقر، وإنما هو نهار يتبعه نهار، والأحداث في أثناء ذلك تحدث، والخطوب في أثناء ذلك تلم، والنوائب في أثناء ذلك تنوب، والوزراء يولون ويعزلون، والحكام ينصَّبون ويُصْرَفون، والدنيا تُقْبِلُ وتُدْبِرُ، والحوادث تحلو وتَمُرُّ، والرجل اللبيب من اعتبر بهذا كله فلم يُسْرِفْ على نفسه، ولم يسرف على الناس، ولم يقدم بين يديه من العمل ما يسوءه في الدنيا ويجزيه في الآخرة"2. وفي "رسالة الأمر والنهي" يتناول بالنقد اللاذع ما تعرضت له الحرية من رقابة صارمة، وقوانين كثيرة "تحمي الملك وتمنع التعرض له أو لحاشيته بأهون السوء"3. يقول طه حسين: "وأنت بعد ذلك لا تستيطع أن تعقل الألسنة المنطلقة، ولا أن تحطِّم الأقلام المشرعة، ولا أن تمنع القلوب من الشعور, والعقول من التفكير، فدع الناس ومايشاءون أن يقولوا فيك من الخير والشر، ومن الحمد والذم، وانتفع بذلك كله في إصلاح نفسك, وفي تجنب ما يشينك إلى ما يزينك"4. ونخلص من ذلك إلى أنه طه حسين، قد انتقل بالرسائل الجاحظية إلى متطلبات الذيوع والانتشار، موظفًا إياها لوظائف المقال الصحفي، في أسلوبٍ تحريري أقدر وأوسع للمعاني والمواقف الصحفية يتناولها من جميع وجوهها, دون أن يحول بينه وبين الاتجاه فيما يريد "شرط من الشروط التي كانت تقيد الشعراء. ونجد هذا واضحًا عندما نقرأ الرسائل الكثيرة التي صدرت عن كُتَّابِ القرن الثالث, وبنوع خاصٍّ عند الجاحظ"5. على أن الرسائل المقالية في صحافة طه حسين، تتمثَّل إلى جانب هذه الخصائص الجاحظية، خصائص أخرى مستفادة من ثقافته الأوربية، كما في "الرسائل الفارسية" لمونتسكيو، و"الرسائل الإنجليزية" لفولتير، وغيرها،   1، 2 مرآة الضمير الحديث ص19، 24. 3 أحمد بهاء الدين: مرجع سبق ص108. 4 مرآة الضمير الحديث ص26، 27. 5 من حديث الشعر والنثر ص56. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 يتوسَّلُ بخصائصها مع الخصائص الجاحظية في النقد والتوجيه من خلال شكل الرسائل. وقد ظهرت الرسائل الفارسية لمونتسكيو، في عصر يشبه عصر رسائل طه حسين في عصر الوصاية, ووسط فورة الأفكار والأهواء الخاصة1, ولذلك اتسمت بنقد النظم السياسية وتشخيص الداء، كما نجد في رسائل طه حسين التي "وقعت له ولم يعرف، على طول البحث، وشدة الاستقصاء كاتبها، ولا من كتب إليه"2. يتوسَّلُ فيها بالرمز الذي شاع بين الصحف المصرية جميعًا "وكان الملك يثور ويغضب بسببها, ومن حوله لا يدرون ما يصنعون, وأصدر أمره مرَّةً إلى فؤاد سراج الدين أن يصدر قانونًا يمنع نشر أيَّ خبر إلّا بذكر اسمه صراحة"3. ولذلك يقول طه حسين في رسالة بعنوان: "قلب مغلق"4. "إنما أنت رجل محصَّن، لا يبلغه العدو ولا يصل إليه الصديق, وأكاد أعتقد أن ليس لك عدو ولا صديق. شُغِلْتَ بنفسك حتى يئس الناس منك، وأعرض الناس عنك، فلم يطمع فيك منهم طامع, ولو قد فعل لما نال منك شيئًا، ولم يعطف عليك منهم عاطف، ولو قد فَعَلَ لما نالك منه شيء, والناس مع ذلك لا يرون شيئًا من هذا الحصن المؤشب الذي حصَّنْتَ فيه نفسك، ولا من هذه الحُجُبِ الصِّفَاق التي قامت بينك وبينهم"5. ويوظِّفُ هـ حسين رسائله الفنية في النقد الهجائي للنظام الاجتماعي والسياسي في مصر "1946-1949" كما فعل "مونتسكيو" في نقده الهجائي لفرنسا "1711-1720"6، بما في النظام المصري من إقطاع بغيض يجلس الملك على قمته7، يمتصُّ دماء أمة الفلاحين وعرقهم؛ يقول طه حسين: "تسرع إليهم حين ينعمون لتشارك في نعيمهم, على أن ذلك حقٌّ لك لا ينبغي لأحد أن يَرُدَّكَ عنه أو يجادلك فيه، ولعلك تأخذ من هذا النعيم -إن أتيح- بحظٍّ أعظم من حظوظهم، ولعلك تنظر إليهم وهم يأخذون بحظوظهم المتواضعة الضئيلة, ساخطًا عليهم ضيقًا بهم مزدريًا لهم"8.   1 جوستاف لانسون "وترجمة الدكتور محمود قاسم": تاريخ الأدب الفرنسي جـ2 ص41، 43. 2 مرآة الضمير الحديث ص41. 3 أحمد بهاء الدين: مرجع سبق ص103. 4، 5 مرآة الضمير الحديث ص56, مجلة الهلال في فبراير 1947. 6 جوستاف لانسون: مرجع سبق ص43. 7 أحمد بهاء الدين: مرجع سبق ص48. 8 مرآة الضمير الحديث ص59، 65. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 إلى أن يقول: "صدقني إنَّ من الخير الكثير لك ولغيرك أن تصدع قلبك قبل أن تصدعه الأحداث، وأن تفتح قلبك قبل أن تفتحه الخطوب، وأن تُشْعِرَ من حولك من الناس بأنك تجد بعض ما يجدون، وتعتقد مثل ما يعتقدون. إنك مثلهم قد خُلِقْتَ من تراب وستعود إلى التراب، وإن الذين يستوون قبل أن يدخلوا الحياة, ويستوون بعد أن يخرجوا من الحياة, ليسوا في حاجة إلى أن يتمايز بعضهم من بعض, ويبغي بعضهم على بعض، في هذه الطريق القصيرة التي يسلكونها بين المهود واللحود"1. ومن ذلك يبين أن الرسائل المقالية في صحافة طه حسين ليست موجَّهة لشخص بعينه، بقدر ما هي موجَّهة إلى نماذج بعينها في النظام السياسي والاجتماعي، وهي رسائل قاسية وجريئة، تمامًا كما كانت رسائل مونتسكيو2، في مهاجمة رجال السياسة والحاشية وهو يهاجم الملك، حين يبين لنا كيف تتدهور الملكية بحيث نتلمس "روح القوانين" تعلن عن نفسها في رسائل طه حسين, ونذكر من هذه الرسائل رسالة بعنوان: "مصر بين النعيم والجحيم"3، وأخرى بعنوان: "ويل الشجي من الخلي"4، حيث يتوسَّل بضرب الأمثلة المضادة لتدعيم روح مقاله، وبالسخرية لشحذها, وبالإيقاع المعبر الفني، ومزج هذه الأمور بالنقد الذكي الذي يجعل رسائله المقالية في خطورة "رسائل فولتير"5 التي "أحرقت واضطر صاحبها إلى الفرار إلى اللورين"6. ويختص طه حسين: "فولتير" و"ديدور" بالحب والإكبار, ويذكر أنهما أثَّرَا في تفكيره تأثرًا كبيرًا, ومَلَكَا عليه حياته العقلية وقتًا ما7, ولذلك نجد في رسائله المقالية، كذلك التوسُّل بالقالب القصصي في الرسالة توسلًا وظيفيًّا "فمن الطبيعي أن يكون الأشخاص الذين تجري على أيديهم أحداث هذا القصص رسائل لا غايات"8. ومن أجل ذلك يغدو الأشخاص في رسائل طه حسين نماذج رمزية يوجه إليها الأغراض التي يسعى إليها، والآراء التي كان يريد أن يثبتها أو أن ينفيها، ومن أجل ذلك أيضًا وجدنا في عناوين رسائله تفسيرًا للنمذجة الرمزية، مثل:   1 المرجع نفسه ص65. 2 جوستاف لانسون: مرجع سبق ص43، 44. 3، 4 مجلة الهلال في ديسمبر 1947, مرأة الضمير الحديث ص104-223. 5، 6 جوستاف لانسون: مرجع سبق ص51، 73 7 ألوان ص76، 78. 8 ألوان ص76، 78. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 - قلب مغلق1. -صرعى2. - نفوس للبيع3. - مصر بين النعيم والجحيم4. - الحرية أولًا5. - لا ونعم6. - صحائح الأنباء7. وتقوم هذه النمذجة الرمزية -في الرسائل المقالية- على نماذج لأشخاص من الواقع المصري الذي يراه كل إنسان، ويستطيع أن يلاحظه عن قرب, وأن يتناوله بالنقد والتحليل والتعليل، ولعل من الخصال التي يتفق فيها طه حسين مع فولتير8, هذه البراعة في الأخذ من الحياة الواقعة ما يحتاج إليه, ويضيف إليها ما يحتاج إليه أيضًا، ويرتِّبُ هذا كله كما يريد، ويقدِّمُ لنا منه مزاجًا رائعًا نعجب به أشد الإعجاب لا ننكر منه شيئًا؛ لأن إنكارنا يؤثر في الفكرة الساسية التي أراد أن يعرضها علينا, والتي تعلن عن نفسها في "صحائح الأنباء", ولتشير إلى "روح القوانين" المصرية، وتتنبأ بسقوط الملكية، ذلك أن الشعب المصري ينظر فيرى "الفساد يحيط بمرافقه كلها، ويتغلغل فيها كلها، ويَحُولُ بينه وبين أن تنتج له بعض ما كان ينتظر منها، فضلًا عن أن تخرجه من الضعف إلى القوة، ومن الانحطاط إلى الرقي، ومن الظلمة إلى النور"9, ولكنَّ هذا الشعب "ما زال مستيقنًا أن من حقه أن يبسط أمله إلى أبعد الآمال والغايات, وأن ينشئ أبناءه على هذه الحياة الواثقة بحاضرها، المطمئنة إلى مستقبلها"10, ثم يكشف عن روح رسائله في هذا التحذير: -"وأنا بعد هذا كله، أضنُّ بالوزراء والنوَّاب على أن تدفعهم الأثرة إلى أن يقولوا كما قال قوم من قبلهم، فهلكوا وأهلكوا: لنعش نحن وليأت من بعدنا الطوفان"11.   1 مجلة الهلال, فبراير 1947, مرأة الضمير الحديث ص55. 2 مجلة الهلال, أبريل 1947, المرجع السابق ص78. 3 مجلة الهلال في مايو 1947, المرجع السابق ص86. 4 مجلة الهلال في ديسمبر 1947, المرجع السابق ص104. 5 مجلة الهلال في يناير 1948, المرجع السابق ص113. 6، 7 مرآة الضمير الحديث ص113، 142. 8 ألوان ص78. 9، 10، 11 البلاغ في 11 مايو 1948, بين ص102، 103. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 ونخلص من ذلك جميعًا إلى أن الرسائل المقالية، شأنها شأن أساليب التحرير في مقاله، ترفدها عناصر أصالة, ومظاهر تجديد في تيار وظيفيٍّ عام، يميز فنَّ المقال في صحافة طه حسين عن صحافة الإنشاء والخطابية, وينبع من رؤيا صحفية عملية تزخر بالأفكار وتحويل المقالات السياسية إلى نوع من التوعية العلمية الاجتماعية, التي تستند إلى الاستقراء والتحليل "لصحائح الأنباء" بتعبير أبي العلاء, مهما تكن الأحداث والخطوب والظروف. ذلك أن طه حسين، شأنه في ذلك شأن فولتير "صحفي عبقري" كما يصفه "لانسون"1 من حيث التأثير في الرأي العام، وتوجيهه إلى جميع النتائج التي تقتضيها الاستراتيجية القومية، متوسلًا بفنون مقالية جديدة يعرض فيها أفكاره، ويصوغها على نحوٍ ييسر الاتصال بالجماهير، تمتاز بالسخرية الهادفة التي تنبع من العقل، على نحو ما نجد في الرسائل المقالية, وفي المقال الرمزي خاصة، ذلك أن إشعار النماذج -كما يقول فولتير2- بالنقص في التفكير عن طريق السخرية والمسخ يصلح من أنفسها، وهذه الطريقة التي تتبع في تقدير الأشياء بالعقل لا بالعاطفة "طريقة فرنسية إلى أكبر حد"3، تمثِّلُ مظهرًا من مظاهر التأثُّر في صحافة طه حسين، التي تتمثَّل كذلك وضوح الأسلوب ونقاءه وسلامته ووظيفيته الهادفة في نهاية الأمر.   1 جوستاف لانسون: مرجع سبق ص79، 81. 2، 3 جوستاف لانسون: مرجع سبق ص79، 81. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 الفصل الخامس: طه حسين وفن العمود الصحفي مدخل ... الفصل الخامس: طه حسين وفن العمود الصحفي: نتحدث في هذا الفصل عن "فن العمود الصحفي" في مقاله طه حسين، لنتعرَّفَ على فَنٍّ مقالي جديد في صحافته التي يمكن أن نميز فيها اهتمامًا بالغًا بفنون: "المعالم" في التحرير الصحفي، كما تبين من دراسة التقرير الصحفي والحديث الخاص، وكما سيجيء عند دراسة المقالات الصحفية Articles1 والمقالات الرئيسية Leadin Articles2، ويجيء فن العمود الصحفي في مكانه من الجانب المقالي الذي احتلَّ حيزًا كبيرًا من صحافته, لما يمتاز به من وصف واقعي ورجوع إلى مصادر الأنباء، وأسلوب صحفي اجتماعي بسيط, فضلًا عن تنوع أساليب التحرير في مقاله، على النحو المتقدِّم. وعلى الرغم من أن لفنِّ العمود الصحفي في الجريدة اليوم منزلة الباب الصحفي الثابت في العالم، وعلى الرغم من أن عدد قرائه يزيد كثيرًا على عدد قراء الافتتاحية غير الموقعة، فإن تكامل العمود وشعبيته حديثا عهد نسبيًّا3. ذلك أن الصحف اهتمَّت في حياتها بالخبر ثم بالمقال، بينما لم يتسع المجال للعمود الصحفي, فلم يظهر إلّا متأخرًا، وإذا جاز أن يختار تاريخ لظهور أهمية العمود الصحفي في الصحف، فإن من المرجَّح أن يكون ذلك التاريخ منحصرًا في أوائل القرن العشرين4. فالصحف العربية والمصرية خاصة، كانت تعتمد على المقال الافتتاحي، الذي كان طويلًا في البداية، ثم أخذ يقصر شيئًا فشيئًا، كما كانت موضوعات هذا المقال تدور حول موضوعات جادة في أغلب الأحيان, وإن كانت تتناول أحيانًا بعض الموضوعات الطريفة. غير أن الصحف المصرية قد أخذت عن الصحافة الغربية فن العمود الصحفي5، وقد سبق أن تعرَّفْنَا على اتجاه طه حسين في أوائل العشرينيات إلى العمود المتخصص، أو الثقافي في "حديث الأربعاء"6. ومن ذلك يبين أن ظهور العمود المتخصص، ابتداء، في مقال طه حسين، يعكس حاجة التجاوب بين الصحافة وطبقات الشعب المصري بعد ثورة 1919، والتي دفعت الكُتَّاب إلى أنحاءٍ من التصوير والتعبير سعيًا إلى أن تكون "مرآة صافية" صقيلة لحياة الشعب، يرى فيها الشعب نفسه, فيحب منها ما يحب,   1، 2 الدكتور إبراهيم إمام: تطور الصحافة الإنجليزية ص101. 3 فريزربوند: مرجع سبق ص309. 4، 5، 6 الدكتور إبراهيم إمام: دراسات في الفن الصحفي ص214. راجع للمؤلف: طه حسين وزوال المجتمع التقليدي، السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 ويبغض منها ما يبغض، ويدفعه حبه إلى الْتِمَاسِ الكمال، ويدفعه بضغه إلى التماس الإصلاح"1. فالعمود المتخصص إذن، ثمرة من ثمار الروابط الثقافية والاجتماعية التي ظهرت بظهور الترابط الاجتماعي متعدد الوجوه، وتجاوب الصحافة مع الطبقات الجديدة في المجتمعات المختلفة2, وهو عند طه حسين يحقق الصلة بين "الشعب وحياته الواقعة العامة"3، وهذه الحياة الواقعة "شعبية أو تريد أن تكون شعبية لا يستأثر بها فريق من الناس دون فريق"4. وفي ضوء هذه الرؤيا، تتعدد أذواق قرَّاء الصحف ومشاربهم ومستوياتهم، طبقيًّا واجتماعيًّا واقتصاديًّا وثقافيًّا5، وفي مواجهة هذه الحياة الواقعية الجديدة ليس للصحافة بُدٌّ من أن تتطور وتغير من أسلوب تحريرها واختيار موضوعاتها؛ فاتجهت المقالات إلى الاهتمام بمصالح الأفراد والجماعات المتعددة المذاهب والاتجاهات والأهداف، ونشأ عن هذا الاتجاه المقال الافتتاحي القصير, ثم فنّ العمود الذي أخذناه عن الصحافة الغربية6. ويمكننا أن نتبين في هذا المقال العمودي لونين مقاليين يصدران عن رؤيا طه حسين لوظيفته الصحفية، ونعني: فن العمود المتخصص، ثم فن العمود الرمزي.   1 ألوان ص32، 29. 2 الدكتور إبراهيم إمام ص215. 3، 4 ألوان ص 204، 205, الكاتب المصري في أغسطس 1946. 5 الدكتور إبراهيم إمام: نفس المرجع ص215. 6 المرجع نفسه ص25. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 فن العمود المتخصص : وفي صحافة طه حسين نجد هذا المقال العمودي يتجه صراحة إلى التخصص، في مواجهة التغير الثقافي في المجتمع المصري، ومتطلبات التنوير والتغيير، بحيث ينطبق على هذا اللون المقالي ما يذهب إليه بعض علماء الفن الصحفي1، من أن الأعمدة المتخصصة سوف تحتل أهمية خاصة في المستقبل، تقتضي الدراسة المدققة لها، لأن هذه الأعمدة تعكس اهتمامات القراء التي ترتبط بالحياة الواقعة المحيطة بالفن الصحفي، وهي تتعادل مع كل إبداع أدبي معروف لدى الكُتَّاب، كما أنها تتسم بسماتهم سواء بروح الفكاهة، أو الجدية الصارمة, كما يدور بعضها في فلك الاهتمامات الانسانية2، ولكنها تتفق جميعًا مهما تنوَّعَت أشكالها التحريرية وموضوعاتها المعبَّر عنها، في أنها تنشر دائمًا تحت عنوان ثابت، وفي مكان ثابت من الصحيفة لا يتغير أبدًا3، كما أنها تحمل توقيع الكاتب الذي تحمل طابعه في أسلوب التفكير والتعبير4، وهي أمور تجمع بين أشكال التحرير في العمود الصحفي، كذلك بالقياس إلى طه حسين. ذلك أن أساليب التحرير في مقاله طه حسين، والتي عرضنا لبعضها فيما تَقَدَّمَ، اتخذت في كثير من الأحيان شكل العمود المتخصص، فكانت تنشر في مكان ثابت دائمًا، وفي موعد ثابت "أسبوعي في الغالب", وبعنوان ثابت لا يتغير؛ فمقالاته التنويرية عن "القصص التمثيلية" نشرت في صحيفة "السياسة" في الصفحة الخامسة معظم الأحيان، أيام الآحاد دائمًا, تحت عنوان ثابت أسماه: "أدب الغرب"5. وكذلك مقالاته ورسائله التي كتبها من باريس ومن أقصى الغرب الفرنسي ومن بلجيكا وفيينا، اتخذت نفس الشكل العمودي، الذي اتخذ عنوانًا ثابتًا بدوره هو "من بعيد", وظل يؤثر هذا العنوان الثابت في مقالاته التي كان يكتبها في صحيفة "الجمهورية"6،   1، 2 المرجع السابق ص215. 3، 4 المرجع نفسه ص 215. 5 نشر هذا العنوان الثابت لمقاله التنويري ابتداء من عدد 28 يناير 1923 من "السياسة" في يوم الأحد، وقد سبقت هذا العنوان مقالات تنويرية أخرى احتلت نفس المكان، ولكنها لم تتخذ هذا العنوان الثابت مثل الأبناء والآباء" عن قصة "كبار الصبية" لبول جيرالدي في "السياسة" عدد 14 يناير 1923. 6 الجمهورية في 2 يوليو ص59، 29 يوليو 1976. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 والتي ذهبت إلى إبراز هذا العنوان في شكل جديد ثابت هو: "طه حسين يكتب" من بعيد1. ولعل شكلًا من أشكال العمود المتخصِّصِ لم يشع مثلما شاع "حديث الأربعاء" الذي احتلَّ مكانة الباب الثابت في صحيفتي "السياسة" و"الجهاد" في العشرينيات والثلاثينيات، وجمع من مقالاته ثلاثة أجزاء، تحدَّثْنَا عن مضمونها الثقافي في التغيير والتدعيم عند الحديث عن "المقال في الاتجاه الثقافي". على أننا هنا يجدر أن نشير إلى "مذكرات السكرتير"2, "وما تثيره من خطأ وقع فيه البعض حول "حديث الأربعاء" خاصة، والمنهج المقالي عند طه حسين، عامة. ذلك أن هؤلاء يذهبون إلى أن طه حسين قام بالتأريخ للإسلام تأثرًا بالمستشرقين الأجانب، وتأسيسًا على ملاحات شكلية في العلاقة بين "على هامش السيرة" و"على هامش الكتب القديمة" للكاتب الفرنسي جيل لوميتر، وهي أمور أشار إليها إبَّان معركة الشعر الجاهلي -عبد المتعال الصعيدي في الأربعاء"، وقد سبق أن ذهبنا إلى أن طه حسين قد تأثَّر بمناهج المستشرقين، وليس بآرائهم، فهذا كتاب "على هامش السيرة" يصدره بقوله: "ما قصدت إلا إحياء الأدب القديم, وإحياء ذكر العرب والأولين، بعد أن قرأت السيرة فامتلأت بها نفسي, وفاض بها قلبي, وانطلق بها لساني، وقد تعرَّفْنَا على مكان هذا الكتاب من منهج التدعيم للقيم الروحية الإيجابية في المجتمع المصري، وهو لا يعدل بكتب السيرة "كتبًا أخرى مهما تكن"، ويذكر عن هذا الكتاب قوله: "ويوم أن فرغت من الجزء الأول قلت للبعض، وفي وجود فريد"3، إنني أخذت عنوان "على هامش السيرة" من عنوان لكاتبٍ فرنسيٍّ هو "جيل لوميتر" الذي عاش تقريبًا ما بين 1853-1914، وكتابه الذي أخذت عنواني منه هو "على هامش الكتب القديمة", وفيه كان "جيل لوميتر" يقلد أسلوب الكتب الأجنبية القديمة مثل الإلياذة والأوديسا, ثم يعلِّقُ عليها بعد التقليد، ولعل مصدر تأثري هو في العنوان, ثم في أنني كتبت أشياء ليست هي السيرة في صميمها, ولكن تُعْتَبَرُ على هامشها، وقد قلت هذا أكثر من مرة.. جيل لوميتر يقلد الكتب الأجنبية القديمة، وأما كتبي فهي على هامش السيرة النبوية"4.   1 سامح كريم: طه حسين في معاركه الفكرية ص279, مجلة الإذاعة والتليفزيون في 22 أبريل 1972. 2، 3، 4 يقصد سكرتيره السابق: فريد شحاته المرجع السابق ص288. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 أما "حديث الأربعاء" فقد قرأ الناس فصوله في "السياسة" و"الجهاد", فقد كانت في "الأصل طائفة من مقالات في الصحف ضُمَّ بعضها إلى بعض.. ولأني كنت أكتبها للناس في يوم الأربعاء - لذلك سُمِّيَت بحديث الأربعاء.. كما يفعل الآن أحمد بهاء الدين في الأهرام حين ينشر أسبوعيًّا مقالًا موعده يوم الأحد ويسميه "حديث الأحد". ومن ذلك يبين محور التأثير والتأثُّر في مقال طه حسين، وهو المحور الذي يقوم -كما تَقَدَّمَ- على الأصالة والتجديد، فليست علاقة طه حسين بالثقافة الفرنسية علاقة التابع بالمتبوع، كما يخطئ منازلوه, بلا علاقة المهتدي بنماذج فنية أو فكرية يطبعها بطابعه، ويضفي عليها صبغته القومية. وهذه هي "الأصالة الحق، فليست الأصالة هي اقتصار المرء على حدود إمكانياته، وليست هي إباء التجاوب مع العالم الخارجي، لكي يبقى المرء كما هو دون تغيُّرٍ أو تحرير. ولكن الأصالة الحق هي القدرة على الإفادة من مظانّ الإفادة الخارجة عن نطاق الذات"1. وعلى ذلك تتحدد علاقة طه حسين بجلاء ذهنه بالفكر الفرنسي ومناهجه، وبالأخذ المفيد من الآراء والدعوات، وليس هناك تقليد في "حديث الأربعاء" إذن، لمقالات "سانت بيق" النقدية التي نشرها تحت عنوان "أحاديث الاثنين" في "المجلة الدستورية" Constution el1 من 1851 إلى 1862، ثم "أحاديث الاثنين الجديدة" التي نشرها بانتظام في مجلة "العريف Moniteur, ومجلة "العالمين "Reue de deur Mondes" وفي مجلة باريس2، ذلك أن طه حسين وسانت بيق، قد ذهب كلاهما إلى عنوان ثابت لمقالات ثقافية تتناول موضوعات مختلفة زمانيًّا ومكانيًّا، ولذلك يذهب طه حسين إلى أن العمود المتخصص في "حديث الأربعاء" مقالات وفصول متفرقة لا تؤلف" سفرًا ولا كتابًا كما أتصور السفر والكتاب. فأنا لم أتصور فصوله جملة, ولم أرسم لها خطة معينة, ولا برنامجًا واضحًا قبل أن أبدأ في كتابتها، وإنما هي مباحث متفرقة كتبت في ظروف مختلفة, وأيام متقاربة حينًا ومتباعدة حينًا آخر، فلست تجد فيها هذه الفكرة القوية الواضحة المتحدة التي يصدر عنها المؤلفون حين يؤلفون كتبهم وأسفارهم"3. ومن ذلك يبين أن فصول "حديث الأربعاء" جاءت استجابة آنية لظروف كتابتها وتحريرها، على النحو المتَقَدِّمِ، وهي -كما يقول- "فصول كانت   1 الدكتور محمد غنيمي هلال: مرجع سبق ص100، 101. 2 جوستاف لانسون: مرجع سبق ص384، 385. 3 حديث الأربعاء جـ1 ص5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 تنشر في صحيفة سيارة ليقرأها الناس جميعًا, فينتفع بقراءتها من ينتفع, ويتفكَّه بقراءتها من يتفكَّه، ولم يكن بُدٌّ لكاتبتها من أن يتجنَّب التعمق في البحث, والإلحاح في التحقيق العلمي، إذ كانت الصحف السيارة لا تصلح لمثل هذا"1, وهو في ذلك يشير إلى مقتضيات العمود الصحفي، رغم اتجاهه نحو التخصص، ذلك أن كاتب العمود يعبِّرُ "عَمَّا يشعر به" دون أن يحاول إعادة تحرير مقاله بأسلوب أدبي أو أسلوب عميق, أو لا يخطئ أبدًا، وهو كثيرًا ما يعترف بضعفه. ومنهجه في التحرير ينحصر في المزج بين الخفيف والقليل، والمضمون الجلد، وقليل من السخرية"2. ولعل في هذه الرؤيا تفسيرًا لما يذهب إليه طه حسين من أنه لم يكتب فصلًا من هذه الفصول إلا وهو يعلم أنه "شديد النقص، محتاج إلى استئناف العناية به والنظر فيه"3, يقول: "وأنا أقدِّرُ أنه سيتاح لي من الوقت وفراغ البال ما يُمَكِّنُنِي من استئناف تلك العناية وهذا النظر, حتى إذا فرغت منه ونشرته في "السياسة" أو "الجهاد" عرضت لغيره في مثل هذه الحال العقلية التي عرضت له فيها, معتزمًا أن استأنف العناية به والنظر فيه، مستحييًا أن أقدَّمه إلى الناس على ما فيه من نقص وحاجة إلى الإصلاح. والأيام تمضي والظروف تتعاقب مختلفة متباينة أشدَّ الاختلاف وأعظم التباين, ولكنَّها متفقة في شيء واحد, هو أنها كانت تحول دائمًا بيني وبين ما كنت أريد من تجديد العناية واستئناف النظر"4. ومن ذلك يبين مكان مقالات "حديث الأربعاء" من الرؤيا المقالية، ذلك أن المقال ليس بحثًا علميًّا أو فصلًا من فصول كتاب أدبي أو علمي, ولا قصة ولا محاضرة منظَّمة، ولا درامية مرتبة منطقيًا، وإنما المقال فكرة يتلقفها الكاتب من البيئة المحيطة به، ويتأثَّر بها5, وفي هذا الجوِّ الوجداني يُعَبِّرُ الكاتب عن هذه الفكرة بطريقةٍِ ما، حظها من النظام قليل، وحاجتها إلى الترتيب والتمحيص والتدقيق أقل، ذلك أن المقال لا يقصد إلى التعبير بالمنطق الشكلي الجامد، وإنما بالمنطق النفسي الإنساني6. فالمقال حديث يوشك أن يكون عاديًّا، يعرض الكاتب على قرائه فكرة أو اتجاهًا، كما يعرض لموضوع من الموضوعات التي يتحدَّث فيها مع بعض الجلساء7. وهو ما يشير إليه طه حسين في العمود المتخصص، حيث لا يفرغ لمقالاته   1، 2 حديث الأربعاء جـ1 ص5. 3 Olin Hinkl and John Henry; How to write Columns p. 39. 4 حديث الأربعاء جـ1 ص6. 5 حديث الأربعاء جـ1 ص6. 6، 7 الدكتور إبراهيم إمام: دراسات في الفن الصحفي ص180. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 "كما يفرغ المؤلف للكتاب"1، وهو الذي لم يعن "بهذه الفصول كما يعنى الباحث المحقق ببحث علمي وأدبي قَيِّمٍٍ"2، ويذهب إلى أن هذه المقالات "ناقصة شديدة الحاجة إلى الإصلاح"3 قد نَشَرَتْهَا "صحيفة سيارة، فأصبحت حقًّا لكم, فأنا أردُّ إليكم هذا الحق, ولست أسألك إلّا شيئًا واحدًا: وهو ألّا تنظروا إليها نظركم إلى كِتَابٍ في الأدب العربي قد فرغ له صاحبه, وعني بتحقيقه وتمحيصه"4، وهي مع ذلك مقالات على أفضل نحوٍ تصل إليه في "العمود المتخصص" الذي يُنْشَر في صحيفة سيارة. وعلى ذلك، فإن العمود المتخصص عند طه حسين، يمتاز بالرؤيا المقالية الواضحة لهذا الفنِّ عندما يتخصص كاتبه في موضوع من الموضوعات, ويوليه قدرًا من الدراسة والتفكير5، فهو يدرك أنه يكتب للكثرة القارئة من جمهور صحيفته، وهو لذلك يوجِّهُ مقالاته إليهم, ولا يكتبها "للعلماء ولا للمؤرخين: لأني لم أرد بها إلى العلم, ولم أقصد بها إلى التاريخ"6. وإنما هي صور عرضت له أثناء الاتصال الصحفي بالجماهير فأثبتها مسرعًا، ثم لم ير "بنشرها بأسًا, ولعله رأى في نشرها شيئًا من الخير، فهي تَرُدُّ على الناس أطرافًا من الأدب القديم قد أغفلت منهم وامتنعت عليهم، فليس يقرؤها منهم إلّا أولئك الذين أتيحت لهم ثقافة واسعة عميقة في الأدب العربي القديم"7. وهو لذلك يتوسّل بالعمود المتخصص في تصوير أشكال تحريرية جديدة تلائم "حياتهم التي يحيونها، وعواطفهم التي تثور في قلوبهم، وخواطرهم التي تضطرب في عقولهم"8، فليس في مقال طه حسين -إذن- تكلُّف ولا تصنُّع "ولا محاولة للإجادة، ولا اجتناب للتقصير, وإنما هو صورة يسيرة طبيعية صادقة لبعض ما يجد من الشعور حين يقرأ هذه الكتب"9. ولكنه يقوم على أسلوب في "التبسيط والشرح والتفسير واستنباط العبرة والوصول بها إلى قلوب الناس"10 وعقولهم، على النحو المتقدم. ولذلك وجدناه يتوسَّل في العمود المتخصص بأسلوب الحوار السقراطي   1، 2، 3 حديث الأربعاء جـ1 ص6، 7. 4 المرجع السابق ص7. 5 فريزربوند: مرجع سبق ص320. 6 على هامش السيرة جـ1 ص. هـ. 7 المرجع السابق جـ1، ص. هـ. 8، 9، 10 المرجع نفسه ص و، ط، ل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 وما يمتاز به من رعاية وسخرية لذيذة1 كستارٍ لطيف شفَّاف" يَنِمُّ بما دونه من حقٍّ وجد"2. لإعداد الإنسان العربي لكشف الحقائق و"إزالة الصدأ عن المرآة، حتى إذا أتمَّ صقلها, وتصفية جوهرها, تتجلى فيها الحقائق واضحة بينة3. كما يتوسّل بمنهج "التوليد السقراطي" على النحو المتقدِّم؛ لأنه كان يذهب إلى أن النفس مشتملة على الحقائق "كما تشتمل الأم على الجنين"4, وأن عمل هذا المنهج هو "استخراج هذه الحقائق من النفس, كما أن عمل القابلة هو استخراج الجنين من الأم"5.   1، 2، 3 قادة الفكر ص33، 47. 4، 5 المرجع السابق ص47. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 فن العمود الصحفي مدخل ... فن العمود الصحفي: ويرتبط هذا الفن المقالي كذلك بما اتصف به النصف الأول من هذا القرن في نهايته من عامل السرعة من جهة، وبالضغوط التي تعرَّضَت لها الصحافة المصرية، كما يبين من التشريعات الخاصة بالنشر منذ الثلث الأخير من القرن الماضي، والتي بلغت ذروتها في الحرب العالمية الثانية، كما تبيَّنَ فيما تَقَدَّمَ؛ بحيث أصبح المقال الموقَّع في الصحف اليومية في مواجهة ضغوطٍ لا تنبع كلها من داخل صناعة الصحف، وإنما تنبع من أعمال الرقابة الإدارية على الصحف, مستغرِقَةً أكثر السنوات التي عاشتها الصحافة الحديثة1. وتأسيسًا على هذا الفهم، فإن فنَّ العمود الصحفي يرتبط بهذه الظروف التي ذهبت بمقاله إلى التوسُّلِ بالرمز، كما تَقَدَّمَ، فقد أُعْلِنَت الأحكام العرفية في مصر حين أُعْلِنَت الحرب الثانية سنة 1939، ثم رُفِعَت بعد ست سنين، ولكنها لم تلبث أن أُعِيدَت حين أُعْلِنَت حرب فلسطين، ثم رُفِعَت بعد ثلاث سنين2 "فقد استمتعنا إذن -كما يقول طه حسين3- بالحرية الكاملة ثلاث سنين أثناء ثلاثة عشر عامًا. ومن قبل الأحكام العرفية الأولى كانت انقلابات سياسية لم يكن خطرها على حرية التفكير والتعبير أقل من خطر الأحكام العرفية؛ بحيث نستطيع أن نقول غير مسرفين: إننا حرمنا الحرية الحرة أكثر من خمس عشرة سنة في أقل من ربع قرن، والحرية قوام الحياة الأدبية الخصبة، فإذا ذهبت أجدب الأدب وعقم التفكير ما في ذلك شكّ, وقد قال نابليون ذات يوم: "ليس لدينا أدب جيد، وتبعة ذلك على وزير الداخلية", فقد أحسَّ نابليون إذن أن رقابة وزير الداخلية على الكُتَّاب قد ذهبت برونق الأدب واضطرته إلى العقم والجدب، كان ذلك منذ قرن ونصف قرن4، ويذهب طه حسين إلى أن حياة الناس من هذه الناحية لم تتغَيَّر رغم اختلاف العصور5. ذلك أن فنَّ القول في حياتنا الحديثة يعيش على "الإذاعة والنشر لا على إحسان المحسنين وعطف أصحاب الثراء والسلطان على الأدباء؛ فالأديب   1 جلال الدين الحمامصي: الصحيفة المثالية ص245. 2، 3 خصام ونقد ص9. 4، 5 المرجع السابق ص10. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 يكتب ليقرأة الناس, والناس لا يقرأونه إلّا إذا نُشِرَ كتابه أو مقاله، والكُتَّاب والمقال لا ينشران حين يتحَكَّم في نشرهما الرقيب, والرقيب يحظر على الناس أن ينشروا كتبهم وفصولهم حين تخوض هذه الكتب والفصول فيما لا تُحِبُّ الحكومة أن تخوض فيه"1. وهكذا خضعت الصحافة في مصر لمثل الظروف التي تخضع لها الصحافة في غيرها من الأقطار الأخرى, وأصبحت مضَّطرةً إلى استحداث فنون تحريرية جديدة تواجه المصادرة التي فُرِضَت على الصحف والكتب، حين كانت تريد "أن تبصِّرَ المصريين بحقائق أمورهم وشئونهم، ونظرت مصر التي كانت ترى أنها ملجأ الحرية في الشرق الأدنى، وأنها قائدة الشعوب العربية إلى الكرامة والعزة والاستقلال، وأنها آمنت بغي الدولة التركية القديمة وطغيانها أحرار سوريا ولبنان والعراق"2، نظرت مصر فإذا كِتَابٌ قد كتبه أحد أبنائها يُحَالُ بينه وبين المواطنين, وإذا به يُنْشَر "المعذبون في الرض" في لبنان، و"يُذاع في أقطار البلاد العربية، ثم يعود إلى مصر فيدخلها خائفًا يترقَّبُ, ويستخفي به قراءه استخفاء، ثم يُعاد طبعه ونَشْرَه في لبنان، والقراء من المصريين يسمعون بذلك فينكرون فيما بينهم وبين أنفسهم، ولكنهم لا يستطيعون أن يجهروا بهذا النكير"3. كانت مصر إذن -كما يقول طه حسين- قد عادت إلى: "مثل ما كانت عليه فرنسا أثناء القرن السابع عشر, حين كان بعض كُتَّابِهَا يفرون بكتبهم لينشروها في هولنده مخافة البأس والبطش وطغيان الرقيب"4, ومصدر ذلك عند الحكومة هو "الخوف الذي يورِّطُ في البغي، وهو الذعر الذي يدفع إلى الطغيان، وهو التنكيل بالكاتب من طريق التنكيل بكتابه، وهو الاستجابة للهوى, والانقياد للشهوة, والحكم في الناس بالحب والبغض لا بالحق والعدل, ولست أعرف أشد حمقًا ولا أجهل جهلًا ولا أغبى غباء من الذين يصدرون في حكمهم عن الخوف والذعر، وعن الشهوة والهوى، وعن الحب والبغض، فهم يورِّطُون أنفسهم في ألوان من السُّخْفِ لا تكاد تنقضي، يحسبون أن قدرتهم تبلغ كل شيء، مع أنها قدرة إنسانية محدودة, لها مدى لا تستطيع أن تتجاوزه، فهي تصادر كتابًا في مصر, وتظن أنها حالت بينه وبين المصريين، ثم لا تلبث أن تراه قد نشر في لبنان, وعاد إلى مصر فقرأه الناس فيها، وانتقض عليها كل ما أبرمت، وفسد عليها كل ما دبرت، واستبق الناس إلى هذا الكتاب, وتنافسوا في الظُّفْرِ به, ولو قد خلَّّت الحكومة بينهم وبينه لكان منهم القارئ له والمعرض عنه, ويحسبون أنهم يفهمون كل شيء، وأن عقولهم تنفذ إلى ما لا تنفذ إليه عقول غيرهم من الناس،   1 المرجع نفسه ص10. 2، 3، 4 المعذبون في الأرض ص10، 11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 وعقولهم، مع ذلك عقول إنسانية تفهم من الأمر قليلًا وتعيا عن فهم الكثير، ولو قد فطنت عقولهم لكل ما كانت الصحف تنشر من الفصول، ولكل ما كانت المطابع تذيع من الكتب، لعطَّلوا الصحف كلها تعطيلًا، ولأغلقوا المطابع كلها إغلاقًا، وأيّ شيء أدلُّ على ذلك من هذا الأدب الجديد الذي أنشأته حكومات الطغيان إنشاء"1. وفي ضوء هذه الرؤيا التي يحددها طه حسين لمواجهة الكُتَّاب المقاليين، وغير المقاليين للظروف السياسية، يمكن القول أنَّ فنَّ العمود الصحفي كان من أهم هذه الفنون الجديدة التي توسَّل بها طه حسين "حين اضطرت حكومات الطغيان الكتاب إلى العدول عن الصراحة إلى فنون من التعريض والتلميح ومن الإشارة والرمز، حتى استقلَّ هذا الأدب بنفسه, وتنافس القراء فيه تنافسًا شديدًا، وجعلوا يقرأون ويؤولون ويناقش بعضهم بعضًا في التأويل والتحليل، واستخراج المعاني الواضحة من الإشارات الغامضة"2. ومن آثار فن العمود الصحفي في مقال طه حسين، هذا الفن الجديد الذي اتخذ اسم "جنة الشوك"، وكان ينشره على شكل عمود في صحيفة "الأهرام" في الأربعينيات، ثم جمعت مقالاته في كِتَاب نُشِرَ لأول مرة عام 1945 3. واتخذ من هذا العمود الصحفي، اسمًا لعموده في جريدة "الجمهورية" في الستينيات. وفي هذا العمود الصحفي الذي يتوسَّل بالرمز، نجد ارتباط صحافة طه حسين بالظروف الاجتماعية والسياسية، التي ذهبت به -كما يقول- إلى التعبير عن "مظاهر كنا نبغضها ولا نستطيع أن نتحدث عنها في صراحة أثناء تلك الأيام السود، فكنَّا نؤثر الغموض على الوضوح، والرمز والألغاز على التصريح، والإشارة والتلميح على تسمية الأشياء بأسمائها، وكانت حكومة ذلك العهد ورقابتها تقرأ فلا تفهم، فتخلي بين الكُتَّاب وما يكتبون"4. وكذلك قهر هذا الفن المقال الجديد "بغي البغاء، وأفلت من رقابة الرقباء. وسجَّل على الظالمين ظلمهم، وعلى المفسدين إفسادهم، وأنشأ بينه وبين القراء لغة جديدة يفهمها الأدباء وقراؤهم، وفنًّا جديدًا يذوقه القراء ويحبونه   1 المرجع نفسه ص12. 2 المرجع نفسه ص12. 3 طبعته دار المعارف عام 1945. 4 المعذبون في الأرض ص21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 ويؤثرونه على فنون التصريح والوضوح. والأدب أشبه شيء بالنهر العظيم القوي الذي يندفع من ينابيعه فيشق مجراه حتى يصل إلى البحر، قاهرًا ما يلقاه من المصاعب, مقتحمًا ما يعترضه من العقاب، محتالًا في شق طريقه ألوانًا من الحيل تنتهي به كلها إلى غايته، فظلم الظالمين وبطش أصحاب الطغيان وتحكُّم الرقباء كل أولئك أضعف من أن يقوم في سبيل الأدب والفن, أو يحول بينها وبين القراء"1. ومن ذلك يبين أن السبب الذي أدَّى إلى ظهور فن العمود الصحفي في مقال طه حسين، هو نفسه السبب الذي جعله يرسل أنفاسًا "حارَّة محرقةً كأنها شُعَلٌ من نار تضيء لقرائنا الطريق, وتهديهم إلى قصد السبيل"2. ولعل في ذلك ما يجعلنا نذهب مع الباحثين في الصحافة إلى أن العمود الصحفي الإنساني هو الذي يمكن توزيعه على أكبر عدد ممكن من صحف العالم3 من جهة، وهو الذي يمكن أن تجمع فصوله في كتبٍ كما في "جنة الشوك" و"جنة الحيوان" من جهة أخرى. فإذا كانت الصحافة عملًا اجتماعيًّا محلي النزعة، فإن العمود الصحفي بطابعه الإنساني يستطيع أن يصل بالصحافة إلى مرتبة الأدب؛ لأنه يتجه دائمًا إلى النفس البشرية، وإلى الاهتمامات العامة4. وعن هذه الرؤيا كان يصدر طه حسين حين ذهب إلى أن فن العمود الصحفي في مقاله إنما هو "أدب جديد"5 جاء نتيجة لما "صُدِمَت به مصر من ألوان الكوارث في حياتها السياسية التي حَدَّتْ من حرية الرأي والقول بين حين وحين4، ذلك أن هذه الكوارث "زادت العقل المصري قوة وأيدًا؛ لأنها عامته العكوف على نفسه، وفتقت له ألوانًا من الحيل للتعبير عَمَّا كان يريد أن يعبر عنه"6، ولا ندري كما يتساءل طه حسين، "أكان من النافع أم غير النافع لمصر أن تتعثَّر في حياتها السياسية, ولكنَّ الشيء الذي لا شكَّ فيه هو أن هذه الأزمات السياسية التي وقفت الإنتاج الأدبي شيئًا ما، قد أنضجت هذا الأدب العربي ومنحته صلابة ومرونة في وقت واحد، علَّمته كيف يثبت للخطوب, وكيف ينفذ من المشكلات"7. فالظروف السياسية التي مرَّت بها مصر إذن هي السبب الحقيقي في ظهور العمود الصحفي في أدب طه حسين، على أن هذا السبب يرتبط كذلك بما اتصف به القرن العشرون من عامل السرعة، أو كما يصفه طه حسين, فأننا نعيش في "عصر السهولة والسرعة، في عصر الراديو والسينما والصحف   1، 2 نفسه ص13. 3 الدكتور إبراهيم إمام: مرجع سبق ص216. 4، 5، 6 ألوان ص25. 7 المعذَّبون في الأرض ص12. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 اليومية والمجلات اليسيرة والجمهور القارئ الضخم والمواصلات السريعة، وكل هذا سيعرض الأدب والأدباء -وقد أخذ يعرِّضُهم بالفعل- لمحنة قاسية، فسيلتجئ الراديو والصحف والمجلات إلى الأدباء، وسيتعجلهم في الإنتاج، وسيضطرهم إلى السرعة، وسيحول بينهم وبين الآناة التي تمكنهم من التجويد"1. وتأسيسًا على هذا الفهم وجدنا فنَّ العمود الصحفي في مقال طه حسين يلائم بين هذا كله، فيؤثر الفن بالإنتاج الهادئ البطيء الذي يحتفل به ويفرغ لتجويده ويذيعه في الناس متى أراد، ويقدِّم إلى الجمهور من طريق الصحف فن العمود الذي مهما يكن من "يسره, فلن يكون من الرخص والابتذال بحيث يصبح خطرًا على الجمهور2 "لأنه يقوم على أداء وظائف اجتماعية، كانت هي الأصل في ابتداعه كما تَقَدَّمَ. ذلك أن المقال الصحفي في أدب طه حسين على إطلاقه يسعى إلى أن يكون "مرآة صافية رائعة لحياة الشعب، يرى فيها الشعب نفسه, فيحب منها ما يحب, ويبغض منها ما يبغض، ويدفعه حبه إلى التماس الكمال، ويدفعه بغضه إلى التماس الإصلاح"3.   1، 2 المرجع نفسه ص32. 3 المرجع نفسه ص32. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 خصائص العمود الصحفي : ومقال العمود حديث شخصي يومي أو أسبوعي "كما في حديث الأربعاء", لكاتب معين يوقعه باسمه وتحت عنوان ثابت1 مثل: "حديث الأربعاء" في العمود الأسبوعي المتخصص، و"جنة الشوك" عند طه حسين، والعمود الصحفي عبارة عن فكرة أو رأي أو خاطر من الخواطر يَرِدُ على ذهن الكاتب، وكثيرًا ما كان هذا الرأي أو الخاطر يدور حول واقعة أو ظاهرة وقع عليها نظر المحرر في المحيط الذي يعيش فيه. ومعنى ذلك أن العمود الصحفي في بداية الأمر كاد لا يتعدَّى المحيط الاجتماعي2, على أننا نجد أن العمود الصحفي عند طه حسين يتجاوز المحيط الاجتماعي إلى المحيطين السياسي والثقافي كذلك، ذلك أن الغاية الأساسية من هذا الفن المقالي هي ربط القارئ بالكاتب وبالصحافة؛ لإرشاده وتسليته وتثقيفه بمادة خفيفة الظل، ويُعْتَبَرُ العمود رأيًا شخصيًّا وكتابته ذاتية. ولذلك نرى كاتب العمود يختلف أحيانًا في وجهة نظره عن سياسة الصحيفة في موضوع معين، ولا غبار عليه في إنتاج هذه الخطة. غير أن بعض علماء الصحافة مثل "ليبلنج A. J. Liebling" يذهب إلى أن   1 د. عبد العزيز شرف: فن المقال الصحفي، مرجع سبق. 2 الدكتور عبد اللطيف حمزة: مرجع سبق ص233. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 كاتب العمود لا يختلف عن كاتب المقال الافتتاحي؛ لأنه يعرض وجهة نظر الصحيفة لا وجهة نظره هو، على أن معظم الصحف ومنها صحف كبرى في العالم تؤثر إعطاء الكاتب حرية كافية للتعبير عن رأيه الشخصي في العمود الصحفي. ولكي يكون العمود الصحفي ناجحًا ومقروءًا، ينبغي ألا يهمل عاملًا هامًّا وهو اتصال الموضوع بالقارئ، من قرب أو بعد، فإن القارئ يشعر مباشرًا أو غير مباشر1. وتأسيسًا على هذا الفهم يمكن أن نذهب إلى أن طه حسين من أوائل الكُتَّاب الصحفيين في مصر الذين تمثَّلوا هذه الخصائص العمودية في المقال، ذلك أن العمود الصحفي -كما يقول "لونٌ من ألوان القول لم يطرقه أدباؤنا المعاصرون؛ لأنهم لم يلتفتوا إليه، أو لأنهم لم يحفَلُوا به، مع أنه من أشد فنون القول ملاءمة لهذا العصر الذي نعيش فيه, فنحن نعيش في عصر انتقال كما يقال لنا منذ أخذنا نعرف الحياة, وعصور الانتقال تمتاز بما يكثر فيها من اضطراب الرأي واختلاط الأمر وانحراف السيرة الفردية والاجتماعية عن المألوف من مناهج الحياة. وهذا كله يدفع إلى النقد، ويحمل على العناية بإصلاح الفاسد وتقويم المعوج, والدلالة على الخير ليقصد إليه، وعلى الشر ليتنكب سبيله، وإظهار ما لا يحسن في صور قوية أخاذة، عميقة الأثر في النفوس، شديد الاستهواء للذوق، عظيمة الحظ من ملاءمة الطبع"2. ومن ذلك يبين أن المقال العمودي عند طه حسين قد نشأ في الأصل من حاجة الاتصال بالواقع والتعبير عنه، فهو لم يرد إلى شيء إلّا إلى النقد الذي بالموضوع الذي يتصل به أكثر من الموضوع العام الذي لا يتصل بحياته اتصالًا, يسمونه بريقًا في هذه الأيام، والنقد الذي يوجَّه إلى ألوان من الحياة لا إلى أفراد بأعينهم من الناس. ومن المحقق أني لم أخترع هذا الكلام من لا شيء، ولم أشتق هذه الصور من الهواء، ولم ألتمسها في الصين ولا في اليابان ولا في بلاد الهند والسند، وإنما أنا أعيش في مصر، وأشارك المصريين في الحياة التي يحيونها، وآخذ بحظي مما في هذه الحياة مما يرضي وما يُسْخِطُ، وأنا بعد ذلك أعرف أقطارًا من الأرض سافرت إليها, أقمت فيها أو قرأت عنها في الكتب والأسفار, وأنا بعد هذا وذلك أعرف أجيالًا من الناس عشت بينهم, أو قرأت أخبارهم وعرفت آثارهم, فيما استطعت أن أظهر عليه من آثار الناس في الشرق والغرب، وفي الشمال والجنوب. ولست أزعم كأبي العلاء أني أعرف الناس جميعًا، وأني قد بلوت أجيال الناس جميعًا، فقد كان أبو العلاء غاليًا حين قال:   1 الدكتور إبراهيم إمام: نفس المرجع ص217. 2 جنة الشوك ص7، 18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 ما مر في هذه الدنيا بنو زمن ... إلا وعندي من أنبائهم طرف "وأنا واثق كلَّ الثقة بأن كثيرًا من أبناء الزمان قد مروا في هذه الدنيا وليس عندي من أنبائهم طرف طويل أو قصير، ولكني واثق بأني عرفت الناس، وبلوت أخبارهم وآثارهم إلى حَدٍّ ما، وتأثرت بما بلوت من ذلك، فسخطت حينًا ورضيت أحيانًا، وأظهرت ما وجدت من السُّخْطِ والرضا في صراحة تغنيني عن التلميح الغامض"1. ولعل في هذه الرؤيا العملية للواقع عند طه حسين ما يجعلنا نذهب مع كُتَّاب العمود الصحفي2، إلى أن الصحيفة ليست انعكاسًا للواقع الاجتماعي فحسب, أو تسجيلًا لهذا الواقع، ولكنها كذلك جزء من تاريخ المجتمع، تقوم بدور القيادة في القضايا المهمة، وتعرض الأخطاء وتكشفها, سواء الأخطاء التي ارتكبها الحزب السياسي الذي تؤيده الصحيفة، أو الأخطاء التي ترتكبها السلطة السياسية أو الحكومية. ذلك أن المواطنين ينشدون من صحيفتهم أن تكون جريئة في نضالها من أجل الحق3. وتَتَحَدَّدُ وظيفة المقال العمودي في ضوء هذه الرؤيا الصحفية للقضايا الاجتماعية المختلفة، حين تذهب هذه الوظيفة بالعمود الصحفي إلى اتخاذ موقف محدد من هذه القضايا، يقوم على تفسير الكاتب وتحليله لها، ورأيه الذاتي أيضًا، كما يقوم على تقويمه للواقع وحكمه الخاصٍّ الذي يتميز بالصواب في التفسير، والاستقلال في التقويم. وإذا كُنَّا نفضل المقال الموقع على غير الموقع لافتقار الأخير إلى الطابع الذاتي، فإن القراء المعاصرين يرحبون بعودة الطابع الذاتي" إلى المقال العمودي4. والطريف أن المقال العمودي لم يقترن بهذا الطابع الشخصي الباتِّ إلّا بعد فترة متأخرة من تاريخه، وبطريق الصدفة تقريبًا؛ فقد استحدثه "فرانكلين ب". أدامس, عندما أدخل في عموده "برج القيادة" مذكرات من "مفكرة بيبي" إذ أخذ يوقع العمود بالأحرف "ف. ب أ"5. ومن الطبيعي جدًّا أن تعكس المفكرة الطابع الشخصي؛ لأنها تعالج ما يراه كاتبها, وما يفعله ويحس به ويفكر فيه6. ومن ذلك يتضح أن المقال العمودي يتناول من حيث المضمون موادًّا   1 جنة الشوك ص7، 18. 2 دافد لورنس: "وجهة نظر كاتب عمود", فن الصحافة تحرير "أدموند. كوبانتر" ص86. 3 المرجع نفسه. 4 فريرز بوند: مرجع سبق ص311. 5، 6 فريزر بوند: مرجع سبق ص311. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 مختلفة، تجعل تصنيفها أمرًا من الصعوبة بمكان1. على أننا يمكن أن نميِّزَ في بعض المقالات العمودية لهجة فكاهية ساخرة, كما سيجيء في "جنة الشوك"، وبعضها يتَّسِم بلهجة جادة، والبعض الآخر يصور ضعف وقوة الانفعالات الإنسانية، كما سيبجيء في "جنة الحيوان"، ويغلب التعليق والتقويم في بعضها, والطرائف والأخبار في البعض الآخر. وإذا كانت معرفة الكاتب لقرائه وبيئته، تتيح له أن يتكلَّم بلغة الشعب من حوله في مقاله العمودي، الأمر الذي يجعل من الطبيعي في المستقبل أن يتَّجِه المؤرخون إلى دراسة الشعوب من خلال المقالات العمودية وكُتَّابها, دراسة دقيقة7 تعطي مؤشرات هامة لدراسة حركة التاريخ الاجتماعي في مكان وزمان معينين، فإن طه حسين يصدر في عموده الصحفي عن رؤيا اجتماعية واضحة تجعله يؤكد أن "ما يقال في نقد الناس وحمدهم إنما هو أشبه بالمزايا، يرى الناس فيها أنفسهم، لأننا لا ننقد عفاريت الجن، ولا نحمد الملائكة الأبرار، وإنما ننقد ونحمد ما نرى وما نعلم من أعمال الناس وآثارهم"2. على أن هذه الرؤيا الصحفية لمضمون المقال العمودي، هي التي تحدِّدُ بناءه وشكله التحريري، ذلك أن معظم المقالات العمودية إنما تصدر في تحريرها عن نموذج, أو عدة نمماذج تحددها الرؤيا الصحفية للكاتب, والتي تسهم في تكوينها مقوماته الخاصة ومصادر ثقافته المتنوعة3. وتأسيسًا على هذا الفهم فإن دراسة تحرير المقال العمودي عند طه حسين تشير إلى أنماط تحريرية جديدة في العمود الصحفي تصدر عن رؤياه الصحفية، ومقومات شخصيته، ومصادر ثقافته التي أسهمت في تكوين هذه الرؤيا، بحيث يمكن القول في نهاية الأمر أن العمود الصحفي في مقال طه حسين ثمرة من ثمار رؤياه الصحفية، وما تمتاز به من عناصر أصيلة، ومظاهر تجديدية، ولم ينشأ تقليدًا لفن مقالي حديث. فإذا كان قد استقرَّ عندنا أن المقال الصحفي يقوم على محورين أساسيين: المضمون الصحفي من نحو، والشكل التحريري من نحوٍ آخر، فإن التطور الذي حكم محوري الأصالة والتجديد في مقال طه حسين، واتجه بهما إلى هنا وهناك، يرتبط بوسيلة الاتصال الصحفي بالجماهير، من خلال توازن ذكي، إلى أبعد الحدود آفاقًا وتجديدًا، فجاء المقال عنده ثمرة التعادلية بين عناصر الأصالة والتجديد جميعًا.   1 Olin Hinkle and John Henry; op. cit., pp. 39-41. 2 جنة الشوك ص18. 3 Oline Hirtle John Henry. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 مضمون العمود الصحفي : وهذا المضمون في العمود الصحفي ليس شطرًا منضافًا إليه، وإنما يشكِّلُ صلبه، ومنطلقه إننا "نقول بعد أن نفكر, ونكتب بلغتنا هذه بعد أن نكتب مرات هذه الكتابة الداخلية فيما بيننا وبين أنفسنا، نكتب للناس بعد أن نكون استمعنا إلى هذا الذي نكتبه، هديرًا داخليًّا متصلًا, ونسمعه قبل نسمعه للناس, أو أن نحمله حملًا على آذانهم"1. ولأمرٍ ما قال قدماؤنا: "إن الشعر الجاهلي ديوان العرب، لأنهم لم يكادوا يعرفون شيئًا من أمر هؤلاء الجاهليين إلّا من طريق هذا الشعر2؛ فالأدب -كما يقول طه حسين3- يصور "حياة النفوس والقلوب والأذواق على نحوٍ لا يستطيع التاريخ أن يصوره، ولا أن يسجله, ولا أن ينقله إلينا نقلًا صحيحًا دقيقًا"4. فمضمون المال عند طه حسين -إذن- يستمد من هذه الرؤيا اتجاهه إلى بيئته ومجتمعه "يهبط إليهم فيشتق منهم مادته, ويجني منهم حلوهم ومرهم، ويستخلص منهم صفوهم وكدرهم ... ثم يخلو إلى نفسه, فيخلو إليها ويستخرج نتيجة هذا كله رائقة صفوًا يعرضها على الناس في الصورة التي يحبها هو، لا في الصورة التي يحبونها هم؛ فهو يعاشرهم ويخالطهم ويمازج حياتهم ممازجة دقيقة كل الدقة، خفية كل الخفاء، عيمقة كل العمق، ثم ينفصل عنهم فيعود إلى قمته تلك التي يحبها, ولا يستطيع أن يسوغ نفسه إلا فيها ... ثم يعود إليهم بعد ذلك صورة رائقة شائقة يذوقها منهم من هُيِّأَ لذوقها، ويسيغها منهم من أعد نفسه لإساغتها"5 ونتيجة ذلك عند طه حسين أن مقاله الصحفي بأشكاله التحريرية المختلفة "متصل بالناس أشد الاتصال، يشتق نفسه من أنفسهم اشتقاقًا، ثم يعود إليهم بعد تكوينه خلقًا جديدًا, يجب أن يتهيأوا لقوله, ويعدوا أنفسهم للرضى عنه أو السخط عليه6, ويقوم هذا المضمون المقالي في عمود طه حسين على الوضوح من جهة، والاتجاه نحو المضمون نفسه من جهة أخرى. فأما عنصر الوضوح في المضمون، فهو الذي يضمن الاتصال الصحفي الفعَّال بالجماهير، ذلك أن الكاتب -كما يقول: طه حسين- مطالبٌ بألا يكون "ممعنًا في الغرابة متعمدًا للغموض، وألا يؤدي -مضمونه- في ألفاظ وأساليب لا تعيش في هذه الأيام، وإنما كانت تعيش في العصور القديمة البعيدة العهد, فلا ينبغي لمن يكتب الآن أن يتكلَّف مذهب ابن المقفع، أو   1 الدكتور شكري فيصل: مرجع سبق ص751 Op. cit., p.41 2، 3 الدكتور طه حسين: خصام ونقد ص45، 28. 4 المرجع نفسه ص45، 28. 5، 6 المرجع نفسه ص28، 37. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 طريق الجاحظ, أو أسلوب الحريري والبديع الهمذاني، ولا ينبغي له أن يرهق الناس من أمرهم عسرًا؛ فيفرض عليهم الرجوع إلى المعاجم في كل سطر"1. وإذا كان العمود الصحفي بطابعه الإنساني يستطيع أن يصل بالصحافة إلى مرتبة الأدب2؛ لأنه يتجه دائمًا إلى النفس البشرية وإلى الاهتمامات العامة3. فإن جمال الأداء فيه -عند طه حسين- لا يكون في "غرابة اللفظ وخشونته, ولا في خفاء المعنى وغموضه، ولا في التواء الأسلوب وتعقده، وإنما الجمال شيء آخر يناقض هذه الخصال كل المناقضة ويخالفها أشد الخلاف"4، ولذلك يؤدي العمود الصحفي في "هذه اللغة اليسيرة في غير ابتذال، السهلة في غير إسفاف، الرصينة في غير إغراب"5. ذلك أن الكاتب أو الأديب "إنما ينتج لأن طبيعته تقضتيه الإنتاج، ولأن البيئة من حوله تقتضيه الإنتاج أيضًا، ولأن الله قد خلق الجماعة الإنسانية وفيها طائفة من الظواهر الاجتماعية، ومن هذه الظواهر أن ينتج الكُتَّاب والأدباء, ويسمع الناس أن يقرأوا"6. وليست هناك بيئة إنسانية، بادية أو متحضرة، متقدمة في الحضارة أو مقصرة فيها, إلا ولها لون من القول يلائم طاقة كُتَّابها للإنتاج "وطاقة أعضائها الآخرين للقراءة أو الاستماع. ومن أجل ذلك رأينا أهل البادية من العرب قبل أن يمسهم جناح من الحضارة يحفلون بما أتيح لهم في حياتهم تلك من الأدب. ويقول شاعر القبيلة، ويسمع لهم سائرها، ويحفظ كثير منهم عنه بعض ما يقول أو كل ما يقول, وقد يشيعونه من حولهم في حياتهم تلك المتنقلة, فيتجاوز شعر الشاعر قبيلته إلى قبائل أخرى, ويتفاوت شعر الشعراء في شيوع شعرهم وانتشاره، وما ينشأ عن ذلك لأصحابه من الشهرة وبُعْدِ الصَّوْتِ. وقد تغيَّرت أطوار تلك الأمة البادية، فتحضَّرت قليلًا أو كثيرًا، ولكنها لم تنس شعرها القديم من جهة، ولم تكتف به من جهة أخرى، وإنما حفظته، وأضافت إليه, وأنشأت شعرًا متحضرًا يشبه أو لا يشبه ما حفظت من شعرها القديم, ثم أغرقت في الحضارة وفرضت لغتها ودينها وأدبها على أمم أخرى، وأنشأت لونًا من الحضارة لم تألفه في عهودها الأولى, ولم تعرفه الأمم الأخرى قبل أن تخضع للسلطان الجديد. وهي في هذا الطور من حياتها لم تنس أدبها، ولم تُعْرِضْ عنه، ولم تكتف به، وإنما حفظته وأضافت إليه أيضًا"7.   1 المرجع السابق ص37. 2، 3 الدكتور إبراهيم إمام: مرجع سبق ص216. 4، 5، 6 الدكتور طه حسين: نفس المرجع ص37، 42. 7 المرجع السابق ص44. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 ولعل في ذلك ما يكشف عن مصدر الأصالة في مقال طه حسين، واتجاهه إلى أن يضيف إلى فن القول العربي، ويحتفظ بأصوله، ويقوم فنه المقالي الجديد على أساس من الارتباط بالحياة الواقعة، الأمر الذي يبين من اتجاهه نحو مضمون مقاله، وهو الاتجاه الذي يشترك في تحديده: سياسة الصحيفة واهتمام القراء وصياغة المقال، ولكن هذا الاتجاه في العمود الصحفي يعبر عن وجهة نظر الكاتب في سطور قليلة تتيح له حرية واسعة فيما يكتب ما دام يتحمَّل مسئولية الكتابة، وما دام يذيّل العمود بتوقيعه1. الأمر الذي يميِّزُ العمود الصحفي عن غيره من فنون المقال الصحفي، بحرية التعبير عن اتجاه الكاتب نحو مضمون مقاله إلى الدرجة التي تذهب بالعمود إلى أن يكون رأيًا شخصيًّا, وتحريره ذاتيًّا, كما نجد في اختلاف رأي العمود مع سياسة الصحيفة حول موضوع معين، ولا غبار عليه في انتهاج هذه الخطة2. والعمود الصحفي من هذه الوجهة يمتاز بما يذهب إليه "أصحاب الأصالة في الأدب"3 من أنهم كانوا "ينشئون الأدب فيما كانت طبيعة حياتهم تقتضيه من فنون القول, كانوا يتغنون الرضى إذا رضوا، ويتغنون السخط إذا سخطوا, يتغنون الحزن إن أصابهم الحزن، والسرور إن أتيح لهم السرور. كانوا يصورون ما كانوا يجدون من ألوان الحسِّ والعواطف والشعور"4. على أن كاتب العمود الصحفي في ضوء هذا الفهم -عند طه حسين- لا ينشئ مقاله "لفرد من الناس، ولا لجماعة محدودة منهم، وإنما ينشئه لبيئته التي يعيش فيها ولهذه البيئة كلها، وهو واثق بأن فنه سيُفْهَم ويُذَاق"5؛ لأنه صورة من حياة الناس تشتق منها وتعود إليها6. على أن اتجاه الكاتب نحو مضمون مقاله، بهذا الفهم، في العمود الصحفي، يقتضي حرية يأمن معها الغوائل, ولا يتعرَّض معها لشر أو كيد أو هوان. فالكاتب الحق -عند طه حسين- حرٌّ بطبعه "لا ينتظر أن تُهْدَى إليه الحرية من أحد غيره، وإنما تولد معه حريته يوم يولد، وتنمو معه حين ينمو، وتصحبه منذ يدخل الحياة إلى أن يخرج منها. وهو لا يؤثر في الدنيا شيئًا كما يؤثر الأدب الحر, وهو يزدري أدبه أشد الازدراء, ويضيق به أعظم الضيق, إن فَقَدَ حريته في يوم من الأيام"7. فالعمود الصحفي -إذن- عند طه حسين، موجَّه بطبعة في سبيل الحياة "بأقوم معانيها وأبقاها وأرقاها.. حياة العقول والقلوب التي لا تموت   1 الدكتور عبد اللطيف حمزة: مرجع سبق ص237. 2 الدكتور إبراهيم إمام: مرجع سبق ص217. 3، 4، 5 الدكتور طه حسين: نفس المرجع ص44، 48، 62. 6، 7 المرجع نفسه ص115. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 ولا يدركها البلى، لا حياة الأجسام التي تُخْلَق من تراب وتصير إلى تراب"1 وهذه الحياة -عند طه حسين- هي حياة الجماعات الإنسانية من حيث أنها جماعات طامحة بطبعها إلى الرقي, والسمو إلى الكمال بقدر الطاقة في جميع فروع النشاط الذي تبذل فيه جهودنا على اختلافها2. أو هي -الحياة- التي تتمثَّل في اهتمامات القارئ، والتي تشكل مادة العمود الصحفي ومضمونه3، حين يخوض في مشكلات الحياة المصرية في شجاعة وجرأة وإقدام4، وحين يقاوم "ما رأى أنه الباطل أشد المقاومة وأقساها، ويدافع عَمَّا رأى أنه الحق أعنف الدفاع وأقواه، ويعالج من المشكلات الاجتماعية والإنسانية ما أتاح له علمه ودرايته وطبعه وتجاربه أن يعالجه"5.   1، 2 المرجع نفسه ص117. 3 Olin Kinkl and John Henris, op. cit., p. 41. 4 خصام ونقد ص119، 122. 5 المرجع نفسه ص119، 122. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 تحرير العمود الصحفي : وتحرير العمود الصحفي لا يفصل بين الشكل والمضمون، ذلك أن شكل العمود ينبع من مضمونه ومن خلاله، وإذا كان بعض الدارسين للصحافة لا يجد بأسًا من أن يستخدم كاتب العمود أحيانًا الأسلوب الأدبي في تحريره، وأن يتميز هذا الأسلوب بالجمال عن طريق اختيار الألفاظ الجذابة والعبارات الرقيقة التي تعبِّر عن الفكرة تعبيرًا جميلًا1. فإن هذا العنصر التحريري يتمثَّل الأصالة في التراث العربي، ويضيف إليها، من خلال جلائها بروافد الثقافة الأوربية القديمة والحديثة, ويتناول في مقاله أغلب الفنون التي تناولها الشعراء، ويتفوَّق عليهم، كما فعل الجاحظ في النثر العربي من قبل2، وأتى بما لم يوفق الشعراء إلى أن يؤدوه. ذلك أن من عناصر الأصالة في تراثنا العربي: عمود الشعر، الذي لم "يستطع القدماء تحديده, ولكنهم حرصوا عليه أشد الحرص، وهذا الذي لم يستطع أحد من شعرائنا أن ينحرف عنه في حقيقة الأمر مهما يقل في مسلم ودعبل وأبي تمام والمتنبي وغيرهم من أصحاب التكلُّف والتصنُّع والبديع, فهؤلاء وأمثالهم قد همَّوا أن يجددوا, وجدَّدوا بالفعل في كثير من الأشياء, ولكنهم احتفظوا دائمًا بفصاحة اللغة وجزالتها، وبرونق الأسلوب ورصانته، كما احتفظوا بالأوزان القديمة، فلما جدَّدُوا لم يبتكروا إلّا أوزانًا يمكن أن تُرَدَّ إلى الأوزان القديمة على نحوٍ من الأنحاء"3.   1 الدكتور عبد اللطيف حمزة: مرجع سبق ص538. 2 من حديث الشعر والنثر ص56. 3 ألوان ص15، 16. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 ويمثِّلُ المقال العمودي هذا العنصر الأصيل، وغيره من عناصر الأصالة التي استطاعت أن تغلب الحوادث والخطوب وألوان التطور التي لا تسيطر على شعر المعاصرين في الأقطار العربية فحسب، ولكنها تسيطر على النثر العربي أيضًا, الذي اتخذ لنفسه أصولًا تقليدية تقارب أصول الشعر، فحرص على اللغة العربية، وعلى الفصاحة والجزالة، وعلى الرونق والرصانة، واستبقى مسحة بدوية تشيع في أثنائه, فتسبغ عليها "جمالًا ساذجًا لا يخلو من روعة وجلال"1. وعلى الرغم من تمثُّل طه حسين للثقافة الأوربية القديمة والحديثة, فقد حرص في مقاله على الأصول التقليدية حرصًا شديدًا, "واستمد أكثر هذه الأصول من الشعر الذي اتخذه لنفسه إمامًا أول الأمر, ثم نافسه وغالبه بعد ذلك"2. وإذا كنا نتجاوز الشبه الشكلي بين "عمود الشعر" و"العمود الصحفي", فإننا لا نستطيع تجاوز أصوله التقليدية التي تتمثل في: صحة الأداء، وجمال الأسلوب. ذلك أن "العمود الصحفي أشبه بالمقال الأدبي من حيث العناية باختبار الألفاظ، والاحتفاظ بحلاوة الأساليب, وفيه مجال كبير لبيان النبوغ الأدبي، أو القدرة البيانية التي يمتاز بها المحور الصحفي"3. فالأصل في تحرير العمود الصحفي بصفة خاصة، وفن المقال في أدب طه حسين بصفة عامة، إذن، كالأصل "في العمود الشعري تخيَّر اللفظ الصحيح الرصين الجزل للمعنى الصحيح المصيب، والملاءمة بين اللفظ, واللفظ وبين المعنى, والمعنى في كل ما يكوّن هذا الانسجام الخاصِّ الذي يستقيم له الشعر والنثر في لغتنا الفصحى"4. أما جمال الأداء على أية صورة من صوره, أو "مرتبة من مراتبه -فليس شرطًا في لغة العمود, ولكنه جائز في هذه المادة الصحفية أكثر من جوازه في بقية المواد الأخرى"5. وهذا الجمال في الأداء تقتضيه طبيعة طه حسين نفسه6، وأن فنَّ القول عنده -يأتلف من الألفاظ والمعاني والأساليب, وما يعرض من صور, وما يثير من عواطف, وما يبعث من شعور7، بحيث يمكن القول أن جمال الأداء في مقاله شيء شائع لا ينحصر في اللفظ أو في المعنى أو في الأسلوب8. ذلك أن الرؤيا الإبداعية في مقال طه حسين لا تفصل بين صورته ومادته، بين لغته ومعانيه، بين شكله ومضمونه، فنحن "لا نعرف المعاني المجردة التي تتخذ ثيابها من الألفاظ.   1، 2 المرجع نفسه ص16. 3 الدكتور عبد اللطيف حمزة: مرجع سبق ص238. 4 ألوان ص17. 5 الدكتور عبد اللطيف حمزة: نفس المرجع ص239. 6، 7، 8 خصام ونقد ص85، 86. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 ولا نعرف الألفاظ الفارغة التي تنتظر المعاني لتلبسها, وإنما نعرف الألفاظ والمعاني ممتزجة متحدة لا تستطيع أن تنفصل ولا أن تفترق، وما نعلم أننا نستطيع أن نتبادل المعاني مجردة دون ما يدل عليها من لفظ أو صورة أو رمز, وما نعلم أننا نستطيع أن نتبادل الألفاظ الجوف التي لا تدل على شيء، فليس ذلك من شأن العقلاء, وإنما هو شأن قد يعرض للمحمومين والمجانين"1. وإذن، فتحرير المقال الصحفي عند طه حسين لا يفصل بين صورته ومادته ويعتبرهما شيئًا واحدًا، ويضيف إليهما عنصرًا ثالثًا "إن صحَّ أن يستعمل العدد في مثل هذا الموضع.. وهذا العنصر يلزمهما لزومًا لا فكاك منه, وهو عنصر الجمال، فالناس يتحدثون بالألفاظ التي تدل على المعاني، وهم يتبادلون ما يدور في رءوسهم من الخواطر, ويحققون بهذه الألفاظ ذوات المعاني ما يحتاجون إليه من الأغراض والآداب"2. إن الجمال في العمود الصحفي -عند طه حسين- إذن، ليس عنصرًا إضافيًّا ولا لصيقًا بالمادة وصورتها وأدائها، ولكنه جزء من ذلك كله، يتخلل العرض والتصوير والأداء، كما يبين من الابتكار والإبداع والكشف والنفاذ إلى الحقيقة أو الواقع، هذا إلى غير ذلك من العناصر الكثيرة التي تؤلِّفُ الجمال في العمود الصحفي.   1 المرجع نفسه ص87، 88. 2 المرجع السابق ص88. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 فن العمود الرمزي : ويبين مما تَقَدَّمَ أن هذا الفن المقالي -عند طه حسين- فن جديد قديم، على النحو الذي يبين من "العمود الرمزي"، والذي يجعل هذه العبارة "صادقة كل الصدق, ملائمة كل الملاءمة لحقائق التاريخ الأدبي العام من جهة، ولحقائق التاريخ الأدبي العربي من جهة أخرى"1. ذلك أن هذا الفن -كما يقول طه حسين- كغيره من فنون القول قد نشأ منظومًا لا منثورًا4، فهو من نشأته الأولى في الأدب اليوناني مذهبٌ من مذاهب الشعر ولونٌ من ألوانه، نشأ يسيرًا ضئيلًا، ثم أخذ أمره يعظُم شيئًا فشيئًا, حتى سيطر أو كاد يسيطر على الأدب اليوناني في الإسكندرية, وغيرها من الحواضر اليونانية, في العصر الذي تلا فتوح الإسكندرية. وقد نشأ كذلك في الأدب اللاتيني ضئيلًا يسيرًا، حتى إذا اتصل اللاتينيون بالأدب اليوناني عامَّةً وبالأدب الإسكندري خاصة، ترجموا ثم قلدوا ثم برعوا، حتى أصبح هذا الفن من فنون الشعر اللاتيني ممتازًا أشدَّ الامتياز وأعظمه في القرنين الأول والثاني للمسيح، أي: في العصر المجيد من عصور الإمبراطورية الرومانية4. ويتوسَّلُ طه حسين بهذا الفن في عموده الرمزي النثري "جنة الشوك", وهو الفن الذي سماه اليونانيون واللاتينيون "أبيجراما" أي: نقشًا، واشتقوا هذا الاسم اشتقاقًا يسيرًا قريبًا من أن هذا الفن قد نشأ منقوشًا على الأحجار، فقد كان القدماء ينقشون على قبور الموتى وفي معابد الآلهة وعلى التماثيل والآنية والأداة، البيت أو الأبيات من الشعر، يؤدون فيها غرضًا قريبًا أول الأمر، ثم أخذ هذا الفن يعظم ويتعقَّد أمره، حتى نأى عن الأحجار، واستطاع أن يعيش في الذاكرة, وعلى أطراف الألسنة، ثم استطاع أن يعيش على أسلات الأقلام وفي بطون الكتب والدواوين. وقد أطلق اليونانيون واللاتينيون كلمة "أبيجراما" أول الأمر على هذا الشعر القصير الذي كان يُنْقَشُ على الأحجار، ثم على كل شعر قصير، ثم على الشعر القصير الذي كانت تصوّر فيه عاطفة من عواطف الحب, أو نزعة من نزعات الموج، أو نزعة من نزعات الهجاء, ثم   1، 2، 3 جنة الشوك ص9. 4 المرجع نفسه 9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 غلب الهجاء على هذا الفن، ولا سيما عند الإسكندريين وشعراء روما, وإن لم يخلص من الغزل والمدح. فلما كان العصر الحديث لم يعد الشعراء الأوربيون يطلقون هذا الاسم على الشعر القصير الذي يُقْصَدُ به إلى النقد والهجاء1. ذلك هو الأصل الأوربي القديم في مقال طه حسين، أما الأصل العربي القديم، فلم يكد يعرفه الأدب الجاهلي، أو نحن لا نعرف من الأدب الجاهلي ما يمكِّنُنَا من أن نقطع بأن الشعراء الجاهليين قد حاولوه أو قصدوا إليه2. ولم يعرفه الأدب الإسلامي "وقد يُرْوَى شيء منه بين الفرزدق وعبد الله بن الزبير مثلًا"3، وأكبر الظن أن الشعراء الإسلاميين لم يعرفوه؛ لأنهم لم يرثوه عن الفحول الجاهليين، ولأنهم لم يشهدوا حياة متحضرة مترفة كالتي عرفها شعراء الإسكندرية وشعراء روما، وإنما عرفوا حياة قد اتصلت بالحضارة, ولكنها لم تبرأ من البداوة، وقد حفظت تراثًا قديمًا ضخمًا, ومَذْهَبًا في الشعر في أناة ومهل لا تمتاز بالقصر ولا بالاختصار4. فلما كان العصر الثاني من عصور الحضارة الإسلامية أزهر في العراق هذا الأدب العباسي الجديد، وظهر هذا الفن في الأدب العربي قويًّا خصبًا مختلفًا ألوانه في البصرة والكوفة وبغداد5. ولكن حياته لم تطل، وإنما اقتضت ظروف السياسة والأدب أن يعدل الشعراء والفحول عنه عدولًا يوشك أن يكون تامًّا, وأن يستخفي به بعض الشعراء وبعض الكتاب، بل بعض الذين لا تعرف لهم سابقة في الشعر ولا في النثر6. ثم كانت عصور الضعف الأدبي، فذهب هذا الفن من فنون القول فيما ذهب، واستوقفت في عصرنا الحديث حياة تقليدية عُنِيَ فيها أدباؤنا بعمود الشعر، ولم يخالفوا عن سنة الفحول من الجاهليين والإسلاميين والمحدثين، فلم يحفلوا بهذا الفن الذي لم يزدهر في تاريخ الشعر العربي إلّا وقتًا قصيرًا. فقُلِّدَ الشعراء الأوربيون في هذا الفن كما قُلِّدُوا في غيره من الفنون، ثم ابتكروا فيه كما ابتكروا في غيره من الفنون، حتى أغنوا آدابهم منه بألوان رائعة. ولكن النهضة الشعرية التي دُفِعَ الأوربيون إليها منذ آواخر القرن الثامن عشر صرفتهم عنه إلى مذاهب أخر من الشعر صرفًا يكاد يكون تامًّا7. ومن ذلك يبين أن العمود الرمزي في مقاله طه حسين يقوم على هذه   1، 2، 3 ص12، 9، 10. 4 المرجع نفسه ص1. 5، 6 نفسه ص10. 7 المرجع نفسه ص10. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 الأصول، في تعبير نثريٍّ قصير، يتفق ومقتضيات الفن الصحفي الحديث؛ فالقصر إذن خصلة مقومة لهذا الفن المقالي، على النحو الذي تقوم عليه "الأبيجراما" في شكلها الشعري، وهذا الخصلة عند طه حسين -كذلك- من عناصر الأصالة في الحياة العربية، ذلك أن "الإيجاز هو الذي غلب في بداية الحركة الإسلامية جانب العمل على جانب القول"1. وهذا الإيجاز بالقياس إلى الفن الصحفي الحديث أمر جوهري، ذلك أن العمود الصحفي لا يتَّسِعُ لأكثر من الكلام عن فكرة واحدة، أو خاطر واحد، بحكم ظروف العصر من جهة، وظروف الصحيفة من جهة أخرى, التي لا تُخَصِّصُ إلّا حيزًا صغيرًا للعمود2، الأمر الذي يقتضي الإيجاز في التعبير، وعدم الجنوح إلى الإسهاب بحالٍ ما3. ومن أجل ذلك وجدنا العمود الصحفي في "جنة الشوك" لا يتجاوز خمسة عشر سطرًا بحدٍّ أقصى، على نحو ما تمتاز به"الأبيجراما", إلى جانب التركيز على فكرة واحدة. ومن ذلك مقال بعنوان: "حرية"4. "قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: "ألم تر إلى فلان وُلِدَ حرًّا وشبَّ حرًّا، وشاخ حرًّا، فلما دنا من الهرم آثر الرقَّ فيما بقي له من الأيام على الحرية التي صحبها في أكثر العمر؟!. "قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: أضعفته السن فلم يستطع أن يحتمل الشيخوخة والحرية معًا، وأنت تعلم أن الحرية تحمل الأحرار أعباء ثقالًا"5. ومن ذلك يبين الإيجاز البليغ المطابق لمقتضى الحال، وتكثيف الرأي السياسي في ألفاظ قليلة، في مواجهة النظام السياسي الذي يحظر التعبير المقالي المباشر الصريح، الأمر الذي ذهب بمقاله الرمزي إلى وضع المعاني الكثيرة في ألفاظ أقلّ منها، على نحو ما يسميه البلاغيون "إيجاز القصر"6 أو الإيجاز البلاغي الذي لا يُقَدَّرُ فيه محذوف، لأن الأقدار تتفاوت فيه، ليسهل إفلات العمود الصحفي من قلم الرقيب في فترات المحَنِ السياسية التي مرت بها مصر. ويوظِّفُ طه حسين هذه الأغراض البلاغية في عموده الرمزي الذي   1 الدكتور شكري فيصل, مرجع سبق ص755. 2، 3 الدكتور عبد اللطيف حمزة: مرجع سبق ص241. 4، 5 جنة الشوك ص25. 6 يحيى بن حمزة بن علي بن إبراهيم العلوي اليمني: كتاب الطراز المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز, مطبعة المقتطف سنة 1914, جـ2 ص119. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 يمتاز بخفَّةِ الظل وسلاسة الأسلوب، كما يمزج التعبير بالتهكُّم والسخرية مع الحكم والأمثال المتداولة، والنكات اللاذعة والاقتباسات الدالة والنقد البنَّاء, ومن ذلك1: "قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: إني أقرأ في شعر "كاتول" اللاتيني: "ألا تعمل خيرًا، ولا تنتظر شكرًا. فقد عمَّ الجحود وأصبح الإحسان هباء, ماذا أقول! بل أصبح ثقلًا ومصدرًا للضغينة. لقد بلوت هذه التجربة المرة حين رأيت أشد الناس حقدًا عليّ وبغضًا لي مَنْ كان يراني منذ حين مصدر نعمته وحاميه الوحيد". "قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: لم تتغير أخلاق الناس منذ قال شاعرك اللاتيني هذا الشعر، ولكنه صاحب عاجلة لم يكن ينتظر من الآجلة شيئًا, أما نحن فقد أدبنا الله أدبًا آخر، واقرأ إن شئت قوله عز وجل: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} . ثم يمتاز هذا الإيجاز في العمود الصحفي عند طه حسين بما يمتاز به. "الأبيجراما" من التأنُّقِ في اختيار الألفاظ بحيث ترتفع عن الألفاظ المبتذلة, دون أن تبلغ رصانة اللفظ الذي يَقْصِدُ إليه الشعراء الفحول في القصائد الكبرى، وإنما هو شيء بين ذلك لا يبتذل حتى يفهمه الناس جميعًا فتزهد فيه الخاصة، ولا يرتفع حتى لا يفهمه إلّا المثقفون الممتازون والذين يألفون لغة الفحول من الشعراء2. على أن هذه السمة في العمود الصحفي عند طه حسين لا تصدُر عن نفس المصدر الذي صدرت عنه "الأبيجراما" التي نشأت في حياة ناعمة مترفة في القصور3. ذلك أنها ترتبط عند طه حسين برؤياه اللغوية في الاتصال بالجماهير من جهة، وبالظروف السياسية التي تحجب التعبير المباشر من جهة أخرى، وكان عليه أن يتَّخِذَ مواقف محددة من هذه الظروف التي أحاطت بالمجتمع المصري، فتوسَّلَ بالرمز كما تَقَدَّمَ. كما أن العمود الصحفي عند طه حسين يمتاز بخصلة ثالثة تتصل بالمعنى، وهي أن يكون المعنى أثرًا من آثار العقل والإرادة والقلب جميعًا4، وهو يتَّفِقُ في هذه الخصلة كذلك مع "الأبيجراما" من حيث أنها ليست شعرًا عاطفيًّا يصدر عن القلب, أو يفيض به الطبع, وليس هو شعرًا يصنعه العقل وحده، وإنما هو مزاج من ذلك يسيطر الذوق عليه قبل كل شيء5. آثر العقل فيه -كما يذهب إلى ذلك طه حسين6- أنه نَقْدٌ لاذعٌ أو هجاءٌ ممض،   1، 2، 3 جنة الشوك ص69، 13، 14. 4، 5، 6 المرجع نفسه ص14، 15. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 أو تصوير دقيق لشيء يُكْرَه أو يُحَبُّ. وهذا كله يحتاج إلى بحث وتفكر وإلى رؤية وتأمُّل، ولا يأتي مستجيبًا لعاطفة من العواطف أو هوى من الأهواء. وأثر الإرادة فيه أنه لا يأتي عفو الخاطر ولا فيض القريحة1، وإنما يقصد الكاتب العمودي إلى عمله وإنشائه، ويستعد لتجويده والتأنق فيه2. وأثر القلب فيه -كما يقول طه حسين كذلك- أنه يفيض عليه شيئًا من حرارته وحياته، ويجري فيه روحًا من قوته التي يجدها عندما يُقْبِلُ على الخير, أو عندما يَنْفِرُ من الشرِّ، عندما يرضى، وعندما يسخط3. فالمعنى في العمود الصحفي -عند طه حسين- يتعاون القلب والإرادة والعقل والذوق على إنشائه، ونماذج هذا التعاون الصحيح في "جنة الشوك" عديدة، نذكر منها مقالًا بعنوان "ذاكرة"4. "قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: ما أرى ذاكرة الشعوب إلّا كهذه اللوحات السود التي توضع للطلاب والتلاميذ في غرفات الدرس وحجراته, يثبت عليها هذا الأستاذ ما يمحوه ذاك، وهي قابلة للمحو والإثبات، لا تستبقي شيئًا ولا تمتنع على شيء. "قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: هذا حق، ولكن وراء هذه اللوحات السود في ضمائر الشعوب، لوحات أخرى ناصعة تحفظ ما يسجِّل التاريخ من أعمال الناس, ومن وراء هذه وتلك كتابٌ لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، ثم يُسْأَلُ أصحابها عنها يوم لا تنفع خُلَّةٌ ولا شفاعة, فأضعف الناس عقلًا, وأوهنهم عزمًا, وأكلُّهم حدًّا, هو الذي لا يحفل إلّا بلوحاتك السود. والرجل الماهر الأثر ذو القلب الذكي والبصيرة النافذة، هو الذي يَحْفَلُ بما وراءها من هذه اللوحات الناصعة التي يكتب فيها التاريخ. والرجل كل الرجل هو الذي يمتاز بالضمير الحي والقلب النقي، والنفس الزكية، فلا يحفل بهذه ولا تلك، وإنما يحفل بهذا الكتاب الذي تحصي الحفظة فيه على الناس أعمالهم، لتعرض عليهم بين يدي الله في يوم مقداره خمسون ألف سنة مما يقدرون"5. ثم يمتاز العمود الصحفي عند طه حسين بخصلةٍ أخرى يصوِّرها2 على أن المقطوعة منه أشبه شيء بالنصل المرهف الرقيق ذي الطرف الضئيل الحادِّ, قد رُكِّبَ في سهمٍ رشيق خفيف لا يكاد ينزع عن القوس حتى يبلغ الرمية, ثم ينفذ منها في خِفَّةٍ وسرعة ورشاقة لا تكاد تُحَسُّ. ومن هنا امتاز هذا الفن المقالي بالسطر الأخير أو السطرين الأخيرين من   1، 2، 3 المرجع نفسه ص14، 15. 4 المرجع السابق ص32، 15. 5، 6 المرجع نفسه ص32، 5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 العمود، فهما يقومان منه مقام الطرف الضئيل النحيل الرشيق من نصل السهم. فإذا كان المقال مثلوم الحدِّ كليلًا لا يقطَعُ إلا بعد جَهْدٍ, ولا ينْفُذُ إلا بعد مشقة، فليس من هذا الفن في شيء1. وفي أدبنا العربي صور شعرية تحقق هذه الخصال في شعر بشَّار وحمَّاد ومطيع وأصحابهم في البصرة والكوفة وبغداد2. وفي عمود طه حسين صور مقالية تحقِّقُ هذه الخصال، منها3: "قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: ألم تر إلى فلان يطالب بالجلاء السريع -متى وضعت الحرب أوزارها- إلى أوربا! "قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: إلى أن يلي الحكم أو يشارك فيه"4. ونماذج هذه الخصال المرهفة الرقيقة في عمود طه حسين عديدة تزدحم بها مقالات "جنة الشوك", متميزة بالخِفَّةِ والحِدَّةِ، نذكر منها أيضًا5: "قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: ما بال فلان يرى آراء المسرفين من أهل الشمال، ويسير مسيرة المسرفين من أهل اليمين؟ "قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: لأنه له عقل الحر وأخلاق العبيد"6. ومن ذلك تبين السخرية الوظيفية التي تخضع للعقل والإرادة والذوق جميعًا، في عمود طه حسين، متميزة بالقصر والخِفَّةِ والحِدَّةِ، ليكون العمود الصحفي سريع الانتقال, يسير الفهم, كثير الدوران على ألسنة الناس, يسير الاستجابة إذا دعاه المتحدِّثُ في بعض الحديث, أو الكاتب في بعض ما يكتب, أو المحاضر في بعض ما يحاضر، ثم ليكون مجتذبًا للقارئين بما فيه من عناصر الخِفَّةِ والحِدَّةِ والمفاجأة، ثم ليكون بالغ الأثر آخر الأمر في نفوس الأفراد والجماعات، يدفعهم إلى ما يريد أن يدفعهم إليه من الخير، ويردَّهم عَمَّا يريد أن يردهم عنه من الشر "في غير مشقة ظاهرة أو جهد عنيف"7. على أن هذه الخصائص في عمود طه حسين، تجعل من المقال الصحفي فنًّا تطبيقيًّا وليس فنًّا تجريديًّا، لأنه لا يُقْصَدُ لذاته، وإنما يهدِفُ إلى تحقيق غايات معينة، ويؤدي وظائف محددة8. ومن أجل ذلك تتعاون فيه الإرادة والعقل والذوق والقلب تعاونًا صحيحًا9، لأداء وظائف التوجيه والنقد   1، 2، 3 المرجع نفسه ص15، 40. 4، 5، 6 المرجع نفسه ص40، 26. 7 المرجع نفسه ص16. 8 الدكتور إبراهيم إمام: مرجع سبق ص57. 9 جنة الشوك ص 15. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 والإرشاد والتقويم والإقناع، ولنقل الإيمان بأفكار الكاتب، وهذا الإيمان لا يمكن أن ينتقل بمجرد حرارة العاطفة، ولكنه يؤثر ويدوم إذا ما تعلق بحرارة الفكر1. ومن أجل ذلك وجدنا طه حسين يتوسَّلُ بفنٍّ من فنون النقد اللاذع والهجاء المرِّ الذي يُشَبِّهُهُ "بالسهام التي لا تنزع عن القوس إلّا أصمت وأردت من تصيب"2. ولكن هذا النقد اللاذع لا يقصد لذاته كما تذهب إلى ذلك "الأبيجراما", ولكنه نقد وظيفي يوجَّه إلى "ألوان من الحياة لا إلى أفراد بأعينهم من الناس"3, فقد انقضى عصر الهجاء منذ زمن طويل4, ولكنه يرتبط بالواقع المصري الذي يشتق منه صور المقال ويشارك المصريين في هذا الواقع، ويأخذ بحظه مما في حياتهم "مما يُرْضِي وما يُسْخِطُ"5. وفي ضوء هذه الرؤية الوظيفية، فإن النقد اللاذع في عمود طه حسين ليس فيه أية مسحة من التسامح مع النماذج الركيكة؛ لأن هذا النقد يُرْجِعُ الفعل الإنساني إلى العقل، وعندما ترتكب هذه النماذج حماقة أو ظلمًا, بل جريمة, فذلك لأنها تفكر تفكيرًا خاطئًا على نحو ما يذهب إليه فولتير6. ولذلك يذهب النقد اللاذع في العمود الصحفي عند طه حسين إلى إشعار نماذجه بالنقص في التفكير عن طريق السخرية والمسخ, حتى تُصْلِحَ من نفسها, وتُقَوِّمَ اعوجاجها من نفسها، وهي سخرية تقوم على الإرادة والعقل، ولذلك فإننا حين نحاول تحليل هذه السخرية الوظيفية الهادفة في عمود طه حسين نلاحظ أنها ذات طابع رياضي صارم، متفقًا في ذلك مع فولتير, فهي تنحصر بصفة خاصة في عمليتين: أولًا: إرجاع المجهول إلى المعلوم. ثانيًا: البرهنة بطريقة التفنيد. ومن "جنة الشوك"، نجد هذا المقال بعنوان "فيض"7، تتمثَّل فيه الخصائص الوظيفية العقلية في سخرية طه حسين. "قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: فَسِّرْ لي قول القائل: فاض الإناء".   1 الدكتور إبراهيم إمام: نفس المرجع ص57. 2، 3، 4 جنة الشوك ص17. 5 المرجع السابق ص17، 18. 6 جوستاف لانسون: مرجع سبق ص81. 7 جنة الشوك ص24. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 "قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: هذا مجازٌ يا بُنَيَّ في كل أمر تَجَاوَزَ حدَّه حتى أصبح لا يُطاق, ألم تسمع قول الشاعر: شكوت وما الشكوى لمثلي عادة ... ولكن كفيض النفس عند امتناعها قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: فإني أعرف أوعية لا تمتلئ, وآنية لا تفيض. قال الأستاذ الشيخ مبتسمًا: وما ذاك؟ قال الطالب الفتى: خزائن الأغنياء التي مهما يُصَبُّ فيها من المال فهي ناقصة، وجَهَنَّمُ التي يُقَالُ لها: هل امتلأت؟ فتقول: هل من مزيد؟ وعقول العلماء التي لا تبلغ حظًّا من المعرفة إلّا طمِعَت في أكثر منه. "قال الأستاذ الشيخ ضاحكًا: لقد أصبحت حكيمًا منذ اليوم, ولكن تعلَّم أن إناء واحدًا قد يفيض، فيصبح مضربًا للأمثال، ومصدرًا للعِبَرِ، وبعد الأثر في حياة الأجيال, ألا تذكر سيل العرم!! "1. ولكن في حين أن الرياضي يحوِّلُ صيغة الرياضة أمام عيوننا، ويقودنا إلى النتيجة التي يريدها بسلسلة متتابعة من القضايا التي تظل بديهية على الدوام، نجد طه حسين يحذف القضايا المتوسطة، ويستعيض عن القضية التي لم يقم البرهان على صدقها بالحقيقة التي تتضمنها "صحائح الأنباء", وعن القضية التي لم يبرهن على فسادها بالتناقض المنطقيّ الذي كانت تخفيه: غير أن هذه الاستعاضات الفورية للمعاني, وهذه الطريقة غير المتوقَّعة في إرجاع القضايا إلى حقائق بديهية، وإلى ضروب من التناقض تثير عقل القارئ الذي يذهب إلى أن الآراء العسيرة قد أصبحت حقائق بديهية يسيرة. وهذا مصدر الوظيفية الهادفة في مقال طه حسين، فقد استطاع أن يتجاوز الرمز في تحقيق وظائف المقال بصفات الوضوح، والسرعة التي يتميز بها أسلوبه في النقد اللاذع، فكل قصة أو حدث أو نادرة أو نبأ أو استشهاد بالشعر يشبه أن يكون تجربة حضرت تحضيرًا جيدًا، تؤدي إلى مضمون المقال, أو الخطأ الذي يكْمُن في أحد الآراء المجردة، ويؤلِّفُ العمود الصحفي عند طه حسين بين الحوادث الصغيرة الدالة بحيث تبرز منها الفكرة العامة بوضوح تام, ولعل مصدر ذلك أن العمود الصحفي في مقاله مؤلف بدقة رياضية من حيث الخطة والأسلوب, تتعاون فيه الإرادة والعقل والذوق والقلب جميعًا، في تصوير: "مرايا يمكن أن يرى الناس فيها أنفسهم, وليس عليهم ولا عليّ من ذلك بأس, فما أكثر ما نرى   1 جنة الشوك ص24. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 أنفسنا في كثير من آداب القدماء والمحدثين مهما تكن اللغات والعصور والظروف والبيئات التي تنشأ فيها هذه الآداب"1. ومن ذلك يبين أن الناحية الفنية في العمود الصحفي ناحية تطبيقية، وليست جماليةً تُقْصَدُ لذاتها بحالٍ من الأحوال، ذلك أن العمود الصحفي قد نشأ عند طه حسين -كما تَقَدَّمَ- ليواجه الضغوط التي تعرَّضت لها الصحافة المصرية نتيجةً لظروفها السياسية والداخلية، التي اضطرت الكُتَّابَ إلى العدول عن الصراحة إلى فنونٍ من التعريض والتلميح2، يتوسَّلُ بها في أداء وظائف المقال الصحفي الذي لم يَعُدْ قادرًا على النفاذ بها من سلطان الرقيب. ذلك أن العمود الصحفي عند طه حسين، إنما نشأ ليصوِّرَ نوعًا من أنواع حياة مجتمعه"3، وهو لذلك لا يتجه إلى الطوائف المثقفة وحدها، ولكنه يرتبط بسيادة الشعب المصري وحقَّه في أن يأخذ أفراده على اختلافهم بما يُتَاحُ لهم من حَظِّ المعرفة والثقافة4. وهو لذلك يصوِّرُ حقائق الحياة الواقعية، ويوجهها إلى ما ينبغي أن تتجه إليه, "ويبصِّرَ الناس بما يضرهم ليجتنبوه, وبما ينقصهم ليسعوا إليه"5. وبذلك يتخذ هذا الفن المقالي مكانه من أدب طه حسين في تحقيق الثورة العقلية التي تسبق ثورة السياسة، ودفع الناس إليها6. وعلى ذلك فإن التوسُّلَ بالرمز كضرورة صحفية في العمود الصحفيّ إنما يداور السلطان ويحتاط من شره, ويستخفي بكثير من آراء الكاتب في التلميح والإشارة واصطناع المجاز7، ليؤدي الوظائف الصحفية الهادفة في مقاومة "النظام الملكي المستأثر بالأمر من دون الشعب8، والساسة المحترفين كذلك، ومقاومة تعقيد آخر "كان يؤثر في حياتنا العقلية حتى أثناء مقاومتنا له تأثيرًا بعيد المدى, وهو تقعيد الاحتلال الأجنبي الذي كان يتغلغل في أعماق حياتنا المادية والسياسية, ويتدخَّلُ في كثير من مواقفنا, ويؤثر بذلك في مصالح الأفراد والجماعات, ويحالف النظام الملكي حينًا فيثقل علينا الهول، ويخالفه حينًا آخر فيأخذنا الشرُّ من جميع أقطارنا, ونضطر إلى كثير من المصانعة والموادعة، ونلاين حينًا ونخاشن حينًا آخر, ويشقى بتفرُّقِ الأهواء واختلاف   1 جنة الشوك ص18. 2 المعذَّبون في الأرض. 3، 4، 5 خصام ونقد ص45، 46، 54. 6 المرجع السابق ص58، 160. 7، 8 المرجع السابق ص58، 160. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 الميول والنزعات من حولنا. ونجد العناء كلَّ العناء في التماس ما نلتمس لأنفسنا من طريق التفكير والتعبير"1. فالتوسُّل بالشكل "الأبيجرامي" في العمود الصحفي -عند طه حسين- ليس غاية في ذاته، ولكنه توسُّلٌ وظيفي في مقاومة السلطان والاحتلال و"النظام الاقتصادي البغيض الذي شقيت به الأجيال"2 المصرية، والتي قسَّمَت "الشعب إلى الأغنياء المترفين الذين ينفقون بغير حساب فيما لا يغني عنهم ولا عن غيرهم شيئًا, والفقراء المعدَمِين الذين يشقون بغير حساب؛ لأنهم لا يجدون ما يقيم الأود أو يرضي حاجة الإنسان الذي يستطيع أن يكون إنسانًا"3. وعلى ذلك فإن النقد اللاذع والهجاء والسخرية في هذا العمود الصحفي أدوات وظيفية لترشيد الحياة المصرية4، وإلى هذه الوظيفية الهادفة يشير مقال بعنوان: "وصول"5: "لم يكن شيئًا ثم ارتقى حتى أصبح شيئًا مذكورًا, وقد سلك في تصعيده من الحضيض إلى القمَّة طريقًا وَعِرَةً ملتوية، يغمرها ضوء الشمس المشرقة المحرقة أحيانًا، وتنظر إليها الشمس من وراء نقاب من السحاب أحيانًا أخرى، ويحجبها ظلام قاتم فاحم في كثير من أجزائها. فلما ارتقى إلى القمة واطمأنَّ إلى مكانه منها، نسي ماضيه كلَّه، وأعرض عن المستقبل كلِّه، وعاش ليومه الذي هو فيه. نسي الماضي فلم يتعظ، وأعرض عن المستقبل فلم يتحفظ، ومضى مع هواه طاغيًا باغيًا، حتى أخاف الناس من نفسه، وأخاف نفسه من الحب لقوم يبغضهم أشد البغض، وإذا الناس من حوله مضطرون إلى أن يظهروا له حبًّا ملهكًا, ويضمروا له بغضًا مهلكًا، وإذا الأسباب بينه وبين الناس ترث، حتى أن أيسر الأمر لينتهي بها إلى الانقطاع. "قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: لقد سمعت منك ولكني لم أفهم عنك، وإنك لتحدثني بالألغاز منذ حين، فماذا تعني؟ وإلام تريد! ". "قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: إن حبَّ الاستطلاع إن نفعَ في بعض الوقت فقد يَضُرُّ في بعضه الآخر, وما عليك أن تفهم شيئًا وتغيب عنك أشياء! إنما هي مرايا تنصب للناس، فلينظر فيها من يشاء وليعرض عنها من يشاء, وربما كان الإعراض عنها خيرًا من النظر فيها، فقد ينظر فيها من   1، 2، 3 المرجع السابق ص163. 4، 5 جنة الشوك ص17، 26. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 يحب الاستطلاع مثلك فيسوءه ما يرى؛ لأنه يرى نفسه"1. فهذا الفن المقالي الجديد في صحافتنا العربية، إذن، مظهر من مظاهر الحياة الواقعة في مصر وما ألَمَّ بها من خطوبٍ يقتضيها "الاتصال بالسلطان والاشتراك في الحياة العامة"2، كما أنه مظهر من مظاهر الاتصال الوثيق بين فنون القول وحياة الشعب الذي أصبح في عصرنا "كل شيء، فعني به الأدباء والكُتَّابُ، ولم يحتج إلى أدبٍ شعبيٍّ خاصٍّ"3. وهو لذلك "ينطق بلسانه ويصوِّرُ آلامه وآماله"4, ولم يعد الكاتب في برج عاجيٍّ يعتزل الشعب، وإنما يصبح سيفًا في يده يسلِّطُه على رقاب الخارجين عليه. قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: وثب فلان أمس من أقصى اليمين إلى أقصى الشمال. قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: يئس من رضا الحكام فابتغى رضا الشعب. قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: ألم يكن لا معنى لليأس مع الحياة, ولا معنى للحياة مع اليأس! قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: فإن مدت له أسباب الحياة, ودعاه الأمل إلى يمين، فوثبة أخرى ترده من رضا الحكام إلى ما يريد, ما دام الإنسان قادرًا على أن يذهب ويجيء, فلا جناح عليه في أن يذهب ويجيء. قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: والمبدأ؟ قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: المبدأ وسيلة لا غاية"5! على أن هذا الفن الجديد في مقال طه حسين، يمتاز كذلك بطواعية اللغة العربية لا في المفردات فحسب، وإنما في التراكيب وصوَر الأداء جميعًا. ذلك أن التوسُّل بشكل "الأبيجراما"، لا ينقل هذا الشكل الشعري نقلًا، وإنما يتمثَّلُ خصائصه في استحداث فن مقالي نثري جديد يختلف أداء ومضمونًا، كما يمتاز يوظيفيته الهادفة، ومن حيث الشكل فقد عَرِفْنَا المقالة منذ أواخر القرن الماضي، وعرفنا أنواعها المختلفة, وفنونها المتباينة, ومحاولاتها الناجحة لتصوير ما نحتاج إلى أن يصوَّر لنا من ضروب الحياة التي نحياها،   1 جنة الشوك ص17، 26. 2 ألوان ص199، 205، 204. 3، 4 ألوان ص199، 205، 204. 5 جنة الشوك ص41، 8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 ناقدة مرة ومقرظة مرة أخرى، معلِّمَة مرةً معنيةً بالإمتاع الفني مرةً أخرى، متناولة للسياسة على اختلاف ألوانها, وللحياة الاجتماعية على تباين أشكالها، وللحياة العقلية على تنوُّعِ فروعها1. ولكن توسُّلِ طه حسين بفنون الشعر وتمثُّلِها في فنون النثر وإعادة خلقها خلقًا مقاليًّا جديدًا، يشير إلى تطويع اللغة العربية لفنون القول القديمة والحديثة، ذلك أن هذه اللغة ملك له "يطوعها لما يريد من أغراض الحياة الحديثة التي يحياها الناس"2. ولعلَّ في منافسته للشعراء وابتداع فنون جديدة من خلال النثر المقالي، ما يشير إلى أن تخليه عن قرض الشعر بعد مرحلة التكوين, إنما جاء أمرًا مقصودًا ليجدِّدَ عمود الشعر العربي المحافظ، كما تقدَّم، وليحقق ثورته على أساليب القدماء في التعبير الشعري والنثري، لا يُلْزِمُ نفسه أن ينظم الشعر كما كان ينظمه الجاهليون والإسلاميون والمحدَثُون من شعراء العصر العباسي أو من شعراء الأندلس, ولا يأخذ نفسه بأن يكتب كما كان يكتب ابن المقفع والجاحظ وغيرهما من الكُتَّابِ القدماء, وإنما يصطنع من الأساليب ما يلائم ذوقه وعقله الحديث من جهةٍ, وما يلائم حاجات عصره وما تثير هذه الحاجات في نفسه من العواطف والخواطر والآراء3. وجاء مقاله الصحفي بفنونه التحريرية المختلفة محققًا للصلة بين القديم والجديد, ملائمًا بين ما كان وما هو كائن4، محاولًا "أن يلائم بين هذا كله, وبين ما سيكون في مستقبل الأيام5". ذلك أن "الأمة الحية هي التي تساير الزمن وتتأثر الأحداث تأثُّر مَنْ ينتفع بها, ولا يفنى فيها, وأن تتطوَّر حسب ما تمليه الظروف6. وتأسيسًا على هذا الفهم، جاء فن العمود الصحفي في مقال طه حسين توطينًا لفنٍّ قوليٍّ في اللغة العربية، وتأصيلًا له فيها، وإسهامًا في تنميتها وتطويرها، ذلك أن الرؤيا الإبداعية في مقال طه حسين تقوم على شيئين اثنين، أحدهما ما يُرْسَى من رأي, أو يَجِدُّ من عاطفة وشعور7. والآخر امتحان قدرة اللغة العربية على أن تقبل فنونًا من القول لم يطرقها القدماء, وامتحان قدرته هو على أن يكون الصلة بين اللغة العربية وبين هذه الفنون والآداب8. وعن هذه الرؤيا الإبداعية يصدر العمود الصحفي في امتحان طه حسين   1 جنة الشوك ص8. 2 من أدبنا المعاصر ص156. 2، 4، 5 المرجع نفسه ص156. 6 المرجع نفسه ص157. 7، 8 جنة الشوك ص20، 21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 للغته ونفسه وذوق قرائه1، والذي أذاع مقطوعات منه في"الأهرام", فرضي الناس "وسخطوا وأثنوا وعابوا"2، ولكنه يمضي في تجربته المقالية الجديدة التي أثمرت مائة ونصف مائة من هذه المقطوعات نشرت في "جنة الشوك" في الأربعينيات, أضاف إليها ما يقارب هذا القدر بعد توليه رئاسة تحرير جريدة "الجمهورية" في "الستينيات", ولعل في ذلك ما يجلعنا نذهب إلى أن العمود الصحفي قد نجح في تصوير شخصية طه حسين وأفكاره وتأمُّلاته, تأسيسًا على أن كاتب العمود يعتبر القراء بمثابة أصدقاء حين يفضي إليهم بكلِّ ما يخطر على باله, أو يجيش في صدره من أفكار دون تكلُّف, على النحو الذي تصوِّره صلة الصداقة الرمزية بين "الطالب الفتى" و"أستاذه الشيخ".   1 جنة الشوك ص20، 21. 2 المرجع نفسه ص21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 الفصل السادس: فن اليوميات الصحفية في أدب طه حسين مدخل ... الفصل السادس: فن اليوميات الصحفية في أدب طه حسين يقترب فنّ "اليوميات الصحفية" من روح فنّ "العمود الصحفي" من حيث التعبير الشخصي الذي يَنِمُّ عن تفكير صاحبه، وروح المذهب الذي يعتنقه، ونظرته إلى الحياة، سواء كانت روحه ساخرة أو متواضعة أو مغرورة أو متبكرة. وقد تتناول اليوميات نقدًا سياسيًّا أو جتماعيًّا، والكاتب هنا يعبِّرُ عن وجهة نظره هو لا وجهة نظر الصحيفة. ويذهب بعض علماء الصحافة1 إلى أن المحرِّرَ الصحفيَّ ينبغي عليه أن يترك آراءه الخاصة عند باب غرفة التحرير، غير أن هذا الرأي لا يمكن أن ينطبق على كاتب اليوميات بصفة خاصة، ذلك لأن "اليوميات" أشبه بالمقال الأدبي من حيث العناية باختيار الألفاظ والاحتفاظ بطلاوة الأسلوب، بل لعلها أقرب إلى مقالات الاعترافات بصفة خاصة، فهي تقدِّمُ صورًا نابضة بالحياة زاخرة بالمعاني. وهي تتطلَّب سيطرة تامَّة على اللغة والتعبير بالأسلوب السهل الممتع، ولا شكَّ أن طواعية اللغة لا تتيسر إلّا للعارفين بها, والقادرين عليها, على النحو الذي يبين في مقال طه حسين، فكرًا وتسجيلًا، عرضًا وأداء، موقفًا وتعبيرًا، فإن اليوميات الصحفية يمكن أن تتلخَّص بأنها تتناول الفكرة والأداء، في وصل جماهير الناس بالحضارة ومعطيات العصر: آرائه وأفكاره وأدواته وآلاته وتشوقه وتطلعاته، عن طريق تطويع اللغة من جهة, والاستفادة من خصائصها التعبيرية والاشتقاقية وروحها الغني وأصالتها، فلم تعد "اليوميات" رسالة للخاصَّة بحكم التطور الاجتماعي والنزعات الحرة، ولم تعد أدبًا اعتزاليًّا في برج عاجي، ولكنها أضحت كلامًا يوجَّه إلى جماهير الناس في الجريدة اليومية, والمجلة الأسبوعية أو الشهرية، ولذلك تتسم باليسر والتبسط في الأسلوب وغياب الزخارف. وتأسيسًا على هذا الفهم، فإن هذا الفصل يحاول التعرُّف على فنٍّ مقالي جديد في صحافة طه حسين، هو "فن اليوميات الصحفية", ولذلك نبدأ بالتعرُّف على مقاله في بيئة التكوين بين الذاتية والموضوعية , ثم فن المقال الاعترافي، ونتحدَّث عن خصائص اليوميات في مقاله بعد ذلك.   1 الدكتور إبراهيم إمام: مرجع سبق ص218، 219. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 بين الذاتية والموضوعية : وغنيٌّ عن البيان أن لطه حسين أسلوبًا بيانيًّا مميزًا وفريدًا في الصحافة المصرية الحديثة، والمجال هنا لا يتسع لتحليل عناصر هذا الأسلوب وتحديده وتقييمه، فقد سبق أن حاولنا شيئًا من ذلك بالقدر اللازم لدراسة فنِّ المقال الصحفي في أدبه، على أن هذا الأسلوب في فنِّ اليوميات خاصة، جاء ثمرةً للتطور في مقاله من الذاتية إلى الموضوعية، وذلك أمرٌ طبيعيٌّ؛ لأن المقال الصحفي فن حضريّ خالص، يأتي متأخرًا في الحضارة، بعكس الشعر, فإنه أول الفنون الأدبية ظهورًا في العالم1، وذلك أمر طبيعي بالقياس إلى طه حسين نفسه كذلك، فقد بدأ في التعبير الأدبي بقول الشعر، وكان هذا الشعر أوَّل ما نُشِرَ في الصحف2، وهي -كما يبين بدايةً ذاتيةً نتيجة الاتجاه الأدبي المبكر، وفي ذلك ما يفسِّرُ نزوعه إلى النثر الفني في محاولاته الأولى، واتِّسام هذه المحاولات بالطابع الذاتي الذي يتَّخِذُ من موضوع المقال نقطة قفز إلى التعبير الذاتي, كما نجد في مقالي "الذوق والجمهور"3 و"الحب"4, وغيرهما من المقالات الأولى. ذلك أن المقالات الأولى في بيئة التكوين جاءت تعبيرًا عن إحساسه بالحياة وتجربته الناشئة فيها، وهي في هذا تقابل نزوعه المبكِّر إلى الشعر الغنائي؛ "لأن كليهما -المقال الأدبي والشعر الغنائي- يغوص بالقارئ إلى أعمق أعماق نفس الكاتب أو الشاعر، ويتغلغل في ثنايا روحه حتى يعثر على ضميره المكنون. فكل الفرق بين المقالة والقصيدة الغنائية هو فرقٌ في درجة الحرارة، تعلو وتتناغم فتكونُ قصيدةً, أو تهبط وتتناثر فتكون مقالة أدبية"5. وعلى ذلك فإن الكثير من قصائده الشعرية، يمكن مقابلتها بصور مقالية في بيئة التكوين، تعلو وتتناغم فتكون قصيدة: "يا شفى الله من الفسـ ... ـق نفوس العاشقين أنا المعذال في العشـ ... ـق إذا شاءوا فداء   1 المرجع نفسه ص171. 2 كانت أول قصيدة تنشر لطه حسين هي رثاء حسن باشا عبد الرازق سنة 1908 ومطلعها: تبين فقد بدَّلْتَ أدمعنا دمًا. الجريدة في 1908. 3 الجريدة في 31 يوليو 1911. 4 الجريدة في 7 نوفمبر 1912. 5 الدكتور زكي نجيب محمود: جنة العبيط ص10. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 إنما العشق رسول الفسـ ... ـق يدعو الجاهلين سيقولون بذيء ... ليس في الحق بذاء"1 وتهبط وتتناثر فتكون مقالة أدبية: "لا أخفي على الناس أن في طبيعتنا شغفًا بالجمال, وميلًا إلى الحسن، لكن إذا غلت نفوسنا في هذا الميل وذلك الشغف، لم يكن غلوُّها إلّا مرضًا يجب أن نداويه ونطب له. والحق أقول أنَّا قد بلغنا من الغلوِّ في ذلك مبلغًا لا يسعنا الصبر عليه, فقد أصبح حب الجمال سبيلًا إلى الغيّ، وداعية إلى الفسوق"! 2. ومن ذلك يبين الاستشعار المبكِّر بالذات عند طه حسين، بحيث يصبح الخيط جدَّ رفيع بين قصيدته الغنائية ومقالته الذاتية، على النحو الذي يبين من تمثُّلِهِ للمقالة الرومانسية عند المنفلوطي في المرحلة الأولى من التكوين، كما يبين من مقالة بعنوان "من أيهم أنا"3, وغيرها من المقالات التي تشف عن الغنائية الفردية التي وسمت كُتَّاب مصر في مطلع هذا القرن وفي مقدمتهم المنفلوطي4, كنتيجة لاصطدامه بسلطان المجتمع. على أن هذا الاتجاه الذاتي في مقال طه حسين ما يلبث أن تعمقه الثقافة الغربية، وتمثِّلُ الاتجاهات الجديدة، فيتنوع بتنوع تجاربه، ويتسم بطابع شخصيته المتفردة بين الكُتَّاب، كما سيبين عند دراسة المقال الاعترافي، حيث يقترب مقال طه حسين من فنِّ "مونتاني" الذي يُعَدُّ تعبيرًا صادقًا عن فن المقال الأوروبي. معمِّقًا هذا الاتجاه الذاتي في الحديث عن نفسه، وعن ذكريات صباه وشبابه، وعن الأحداث الطريفة المعجبة التي مَرَّ بها في طور الرجولة والاكتهال. وكان طه حسين شأنه في ذلك شأن "مونتاني" لا يتورَّع عن كشف عيوبه للناس.   1 الجريدة في 14 نوفمبر 1910, محمد سيد كيلاني: مرجع سبق ص70. 2، 3 الجريدة في 7 نوفمبر 1910, المرجع السابق ص38. 4 الدكتور عبد الحميد يونس: فن القصة ص35. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 فن المقال الاعترافي : على أن أثر عناصر التجديد والتقليد في تعميق هذا الاتجاه انتقل بالمقالة الذاتية إلى فنٍّ مقاليٍّ جديد يخدم أغراض الاتصال الصحفي بالجماهير، ونعني فن اليوميات الصحفية ، وفن المقال الاعترافي، الذي يجعل من مقالات "الأيام" وفصول "أديب" أساسًا لفنِّ اليوميات في الصحافة المصرية. ويتميز المقال الاعترافي عند طه حسين بأنه جاء صورة نابضة بالحياة، زاخرة بالمعاني "رسمها كاتب قدير عرف بغزارة العاطفة وجمال التصوير وعذوبة العبارة"1, ذلك أن مقالات الأيام "فضلًا عن كونها صورة رائعة أيضًا لكِفَاح شابٍّ فقد البصر منذ الصغر، وناضل في حياته حتى أصبح ملء السمع وملء البصر2، صورة معبِّرَة عن المجتمع التقليدي في مصر بما فيه ومن عليه، في نهاية القرن الماضي وأوائل هذا القرن. من أجل هذا أقبل المصريون وقراء العربية إقبالًا منقطع النظير على قراءة هذه المقالات منذ نشرت تباعًا في مجلة الهلال عام 1926, ثم جمعت فيما بعد في كتاب، ثم تُرْجِمَ هذا الكتاب إلى عدد من اللغات الأجنبية, ولعل في ذلك ما يُفَسِّرُ ارتباط المقال الاعترافي الذي يصوِّرُ المجتمع التقليدي المصري، بتلك القضية الفكرية التي شغلت الصحافة المصرية، والتي كانت تهدف أساسًا إلى زوال المجتمع التقليدي, ونعني قضية "الشعر الجاهلي". ولم يكن من قبيل المصادفة أن تُنْشَرَ فصول "الأيام" متتابعة في "الهلال" عام 1926, وكأنها استجابة نفسية شرطية للمحنة التي مَرَّ بها مؤلفها بسبب رأيه في انتحال الشعر الجاهلي3، وكأنها استجابة فكرية شرطية, كذلك تذهب إلى تصوير المجتمع الذي سبق كتابه في الشعر الجاهلي "إلى الدعوة لزواله، نفس الأمر الذي يفسِّرُ اقتران "أُدِيب" بمحنته الثانية, وفصله من الجامعة في فترة انتكاسة الدستور وحكم صدقي. ويوضِّحُ هذا الاقتران بين "الأيام" و"أُدِيب"، الطريق بين المواجهة الصريحة للذات، وبين ما يفرضه الإطار الاجتماعي على التعبير من رمز أو ما يشبه الرمز4. كما يسجِّل لهذه المقالات الاعترافية وظيفتين أساسيتين: أولاهما: أنها تعبير عن الذات في مرحلة التكوين وهي أهم مراحل العمر5. وثانيهما: أنها تعبير عن موقف نفسي خاص6, وعن موقف فكري عامٍّ يرتبط بزوال المجتمع التقليدي، استتبعا بالضرورة تداعي صور الطفولة   1، 2 الدكتور عبد اللطيف حمزة: مرجع سبق ص185. 3 الدكتور عبد الحميد يونس: طه حسين الغائب وضمير المتكلم, مرجع سبق ص65، 66. 4، 5، 6 المرجع نفسه ص65، 66. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 وبواكير الصبا وصور البيئة الريفية، فانتزعها من أعماق الذاكرة، وصوَّرَها بما يناسب الموقف النفسي والفكري، وهو الإكبار من شأن الفكر الإنساني, والإلحاح على حريته, والاستخفاف -بل الاستعلاء- على المحافظة والتقليدية والجمود. ويذكر الدكتور عبد الحميد يونس1 في هذا الاقتران بين المقال الاعترافي ومحنة الشعر الجاهلي، حين طلب إلى الدكتور طه حسين أن يكتب بنفسه مقدِّمة خاصة للطبعة البارزة من الأيام، أنه وجده يسجِّل هذه الحقيقة، وهي أنه كان استجابة "للهموم الثقال" التي كان يحسُّ بها وقتذاك, إبَّان الاضطهاد الذي وقع عليه من أجل تحرير الفكر باصطناع الشك في الروايات القديمة التي جعلها المحافظون في مكان المسلمات والمقدَّسات والبديهيات. على أن هذه الاستجابة "للهموم الثِّقَال" ترتبط باستجابة أساسية في استراتيجية القومية، ونعني: نشر المعرفة، ونشر الضوء في مصر الحديثة، وهذه الاستجابة هي التي تَكْمُنُ وراء المقالات الاعترافية عند طه حسين، لتعرية ذاته, وإظهار نفسه وبيئته في ما لها وما عليها، وذلك لإشراك الآخرين في التجارب النفسية والفكرية التي عاناها، ومحاولة تجنيب أبناء مجتمعه الآلام التي عاناها بسبب الأوضاع الاجتماعية التقليدية الجامدة2. وهي أيضًا التي تَكْمُن وراء واقعية التصوير في مقالات الأيام، ذلك أنَّ طه حسين حين يذهب إلى تصوير هذا المجتمع التقليدي، كان عليه أن يصفَ المجتمع الريفي أصدق الوصف، وأدق ما يكون التصوير، حتَّى يمكن تشخيص علل الجمود في هذا المجتمع, فلم يتكلَّف في تزويق الحديث، ولم يجنح إلى اختراع الحوادث، ولم يرغب في إخفاء الحقائق عن عين القارئ. ولذلك يذهب إلى التوسُّلِ بأسلوب اعترافيٍّ جديد يتيح له تقديم الشخصية, أو النموذج عندما يظهر على مسرح الأحداث لأول مرة3 كما تُقَدِّمُ الشخصية المسرحية نفسها بمنظرها الخارجي وأبرز سماته، ثم يتجاوزها إلى تفصيل دورها, أو رواية الحادثة التي تتطلَّب روايتها وجوده4. وهو أسلوب يتمتع بنوع من الحرية, أو قد يستساغ من التفكك في الحديث العام أو في الشخصيات الرئيسية، كما يذكر ويتذكر ما يشاء دون مراعاة ترتيب زمني أو معمار هندسي, كما يفعل الروائي حتى في أكثر أنواع الرواية   1 المرجع السابق ص66. 2 الدكتور علي سعد مرجع سبق ص35. 3 الدكتورة سهير القلماوي: "معه في أيامه" مجلة الثقافة, ديسمبر 1973. 4 المرجع نفسه ص21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 الحديثة، ثورة على الشكل والقواعد1، ذلك أن الاعتراف يتطلَّب حرية في عدد شخصياته وطريقة نمذجتهم، وفي تصوير الحالة النفسية والفكرية وقت كتابة المقال. وبهذا الأسلوب صوَّر صاحب الأيام رحلة طويلة ومجاهدة عنيفة وبذلًا وتضيحات في سبيل أن ينقل الحياة الفكرية في وطنه من حالة الجمود والتقليد إلى الحياة النابضة النشطة, التي تبشِّرُ بمجتمع حديث, وكانت حياته كلها صيحات متلاحقة في سبيل أن تنطلق من الحدود ومن جمود المجتمع التقليدي إلى هذا الفضاء الرحب. ومنذ أول سطور الأيام نَحُسُّ هذه الرغبة العارمة في نفس الصبي وهو يبدأ حديثه عن "السياج" الذي كان يسدُّ عليه الأفق. كم ذا يرمز السياج -على حَدِّ تعبير الدكتورة سهير القلماوي2- إلى شعوره بالقيد والسجن، وكم ذا يثير صوت المنشد على الشاطئ الآخر من القناة من أحلام الانطلاق والحرية. أو القناة محاطة من يمين وشمال بما هو أكثر من السياج بحدودٍ معنوية أو إنسانية أو حيوانية "العدويين" وكلابهم, وسعيد وشرَّه وزوجه "كوابس" ذات الحزام أو الحلقة من ذهب في أنفها التي تؤذي الصبي وهي تقبله إذا زارت منزله3. وشعوره بظرفه البصري الخاصِّ مبثوث في الأجزاء الثلاثة من الأيام, شعور صاحَبَه ما صاحبته النفس, فلقد نشر "الأيام" في كتاب: الجزء الأول سنة 1929, والجزء الثاني سنة 1940, والجزء الثالث قبيل وفاته سنة 1972، وعلى مدى الأجزاء الثلاثة، يشعرنا بمعاناته لهذا الظرف البصري وما يستتبعه من ألم وشعور بالشيئية على اختلافٍ واضح في تعبيره عنه في كل فترة من فترات حياته4. فما يلبث أن يخف هذا الشعور بالشيئية في الجزء الثالث, فهو يتحدَّث عن شابٍّ وصل إلى فرنسا في بعثة دراسية بَدَّلَت حاله تبدلًا كبيرًا, وعرف طريقه إلى الحياة5. الأمر الذي يجعلنا نذهب إلى أن إحساسه بظَرْفِه البصري لم يعد بنفس الحِدَّةِ التي كان عليها حين صوَّر المجتمع التقليدي الذي تسبَّبَ في هذا الظَّرف، ذلك أن مقالات الجزء الثالث تصوّرُ انتصار الإنسان المصري على جمود المجتمع التقليدي، وتجاوز قيوده بالعلم والمعرفة. ولقد فرض عليه هذا الظَّرف الخاصّ أن يرصد فنيًّا إيحاءات الصوت بالنسبة إليه، فلقد كان الصوت وسيلته إلى معرفة الشخص وحكمه عليه.   1، 2 المرجع نفسه ص21. 3، 4، 5 المرجع نفسه ص21-23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 "لا يكاد يمتدح أستاذًا إلّا امتدح صوته, ولا يكاد يذمُّ معلِّمًا إلّا ذمَّ صوته1, وعندما نتقدم في الأيام نرى إلى أي حَدٍّ اعتماده على الصوت في تلقي العالم الخارجي، يلوّن وصفه للناس وللأشياء وللحياة2. وفي أول سطور الأيام نراه يذكر كيف كان يشحذ حاسة السمع هذه, فهو "يمدُّ سمعه حتى يكاد يخترق الحائط"3 ليسمع المنشد بعد أن أُرْغِمَ على أن يكون شيئًا ملقى في البيت، وعندما كان ينصِتُ لأول مرة لشيخ أخيه وهو يلقي درسه يقول: "اجتمعت شخصية الصبي كلها حينئذ في أذنيه"4. ومن أهم آثار هذا الظَّرْف البصري، ما يتعلق بتصحيح مفهوم اللغة تصحيحًا يخلِّصُها من ذلك التصور الخاطئ الذي يراها صورًا ورموزًا تقرأ بالعين فحسب، كنتيجةٍ لاعتماده على حاسَّةِ السمع5، كما تَقَدَّمَ, وهو الأثر الذي يجعل لغة الأيام لغة فصيحة موسيقية، رغم واقعية التصوير، ذلك أن هذه اللغة التي يجربها على ألسنة نماذجه لا يجد القارئ فيها شيئًا من الغضاضة أو التكلُّف الذي يقلل تقليلًا واضحًا من صفة الواقعية6، وهو الأمر الذي يرتبط بقدرته الفَذَّةِ على تطويع اللغة لمقتضيات الفن المقالي. ويتوسَّلُ طه حسين باللغة الطَّيِّعة، والأسلوب الاعترافي الجديد, وواقعية التصوير توسُّلًا وظيفيًّا في مقاله، من خلال النمذجة الصحفية، التي تمتاز كذلك بالاهتمام البالغ بتصوير النفس الإنسانية في كل موقف من المواقف التي تعرض لنماذجه, ثم هو أبرع كاتب ييهئ الجو من الناحية النفسية لكي يتمكَّن قارؤه من أن يتابع القراءة, وهو يعتمد في كل ذلك على ما وهبه خالقه من عمق المشاعر، واتساع العواطف، ورحابة النفس، والقدرة على النمذجة الصحفية, كما يعتمد أخيرًا على قدرته على ما يُسَمَّى "بالتأمل الباطني", حتى لكأنَّ نفسه الباطنة دنيا كبيرة، أو مسرح ضخم يستطيع أن يكون فيه مخرجًا لشتى الروايات التمثيلية الإنسانية الخالدة. وذلك إلى جانب النمذجة الكاريكاتيرية الساخرة للمجتمع التقليدي البغيض إلى فكره، وما هي "إلّا أيام حتى سَئِمَ لَقْبَ الشيخ, وكره أن يدعى به، وأحسَّ أن الحياة مملوءة بالظلم والكذب, أو أن الإنسان يظلمه حتى أبوه، وأن الأُبوَّةَ والأمومة لا تعصم الأب والأم من الكذب والعبث والخداع"7. والأخ الأزهري الأكبر منصرف عن الفتى إلى أصحابه وكتبه، لا يحسُّ آلامه حتى يدفعه دفعًا إلى أن يجهش بالبكاء، والآخر يكذب ويتنَكَّر ويستولي على   1، 2، 3، 4 المرجع نفسه ص23, الأيام جـ1 ص144. 5 الدكتور عبد الحميد يونس: مرجع سبق ص68. 6 الدكتور عبد اللطيف حمزة: مرجع سبق ص187. 7 الأيام جـ1 ص38. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 ما كان الأب يرسله للفتى -أثناء بعثته- من مال قليل، وطلاب الأزهر وشيوخه جميعًا قد أصابتهم الآفات في نفوسهم أو عقولهم أو خلقهم. ولا يتعاطف طه حسين إلّا مع نوعَيْن من الشخصيات التي يرى فيها ثورة على المجتمع التقليدي، وهؤلاء هم الذين قُدِّرَ لهم أن يلعبوا أهم الأدوار في حياته العقلية والعامة، وأهمهم: الشيخ سيد المرصفي, ولطفي السيد, كما تَقَدَّمَ، أحدهما يذكِّرُه بأئمة البصرة والكوفة، والآخر يذكِّرُه بفلاسفة اليونان"1. أما النوع الآخر فيتمثَّل في ضحايا المجتمع التقليدي الجامد المتخلِّف الذي أفقده بصره، فَقَدَ هو عينيه، وبسببه أيضًا "فقدت أخته الصغرى حياتها"2. كانت "خفيفة الروح, طلقة الوجه, فصيحة اللسان, عذبة الحديث, قوية الخيال". مرضت عِدَّةَ أيام دون أن يعنى بها أحد, "فيستطيع الشيخ أن يتلو القرآن، وتستطيع هذه الأم أن تتضرَّع، ومن غريب الأمر أن أحدًا من هؤلاء لم يفكِّرْ في الطبيب"3, وكأنما كان موت الأخ الشاب بعدها هو عقاب هذه الأسرة التي تنمذج لمجتمع التقليدي في "علمه الآثم", وبموته الفاجع تغيَّرَت نفسية الفتى تغيرًا تامًّا، عرف الله حقًّا, وحرص على التقرُّب إليه، كما أظهر تعاطفه مع هذا الأخ وهذه الأخت احتجاجًا على هذا المجتمع الجامد الفقير الجاهل من الناحية الأخرى. ويقوم بناء المقال الاعترافي عند طه حسين على الحرية في المزج بين الرواية والسيرة الذاتية والاستبطانية، ويبدو جانب الرواية، بمعنى تتابع الفصول حسب منطقٍ فنيٍّ لا يلتزم سرد الأحداث في تتابعها الزمني أو المكاني, بل حسب تتابعها في وعي الفتى كما تصل إليه، يبدو هذا الجانب واضحًا في فصول الجزء الأول، وتبدو حركة الجماعة وراءه راكدة ساكنة، وفي الجزء الثاني يزداد نصيب صفحات السيرة، وتخضع لنوع من التتابع الزمني, ويتضح هذا أكثر في الجزء الثالث حين تعنف الحركة ويسرع الإيقاع، ولا يعود الفتى -وقد أصبح شابًّا- يخلوا إلى نفسه كثيرًا، إنما عليه أن يلاحق مشكلات حياته هذه الجديدة. من الأزهر إلى الجامعة، ومن القاهرة إلى فرنسا, مرة بعد مرة، وعليه أن يحقِّقَ أن ما كان امتيازًا ممنوحًا له بحكم عاهته، يجب أن يتحوَّل إلى امتياز وتفوق4. على أن هذا البناء الاعترافي الجديد، يتيح له، كما أتاح لروسُّو   1 الأيام جـ3 ص22. 2، 3 الأيام جـ1 ص123. 4 فاروق عبد القادر: "طه حسين والسيرة الذاتية والرواية" مجلة الطليعة, ديسمبر 1973. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 "تبيان" ماهية الرجل الطبيعي للمجتمع الفاسد"1، على النحو الذي تصوره فصول "أُدِيب", إلى جانب فصول "الأيام"، حيث يخلق كثيرًا من المبرِّرَات ليتسلَّلَ من وراء صاحبه في تبيان المجتمع التقليدي، بالخيال المنطق حينًا, وبالوسائل حينًا آخر، يقول طه حسين: "والغريب أنه كان يتحدث فيثير في نفسي مثل ما يثير في نفسه من الذكرى، ثم يتحدَّث عنِّي وعَمَّا أحبُّ, فكأنما أتحدث عن نفسي"2. ويبين تصوير طه حسين لموقفه من المجتمع التقليدي في نموذج "الأديب" الذي يكشف عن الصراع بين التقليد والتجديد في المجتمع المصري، ابن عمدة ميسور, أتمَّ تعليمه الثانوي, وعمل كاتبًا في إحدى الوزارات, ينفق نهاره في عمله, وليله في قراءة ما كان متاحًا من ألوان الثقافة آنذاك، ثم هو زوج سعيد بزوجته، مستقِرٌّ في بيته, ذلك على رابية فوق المدينة، لكنه "مضطرب ملتو، شديد الاضطراب والالتواء"3. يقول الأديب في رسالة إلى صاحبه: "أشعر بأن نشأتي في مصر هي التي دفعتني إلى هذا كله دفعًا, وفرضت عليَّ هذا كله فرضًا، لأني لم أنشأ نشأة منظَّمة، ولم تسيطر على تربيتي وتعليمي أصول مستقيمة مقررة، وإنما كانت حياتي كلها مضطربة أشد الاضطراب، تدفعني إلى يمين وتدفعني إلى شمال, وتقف بي أحيانًا بين ذلك"4. ومن ذلك يبين اضطراب النموذج بين مجتمعين: الأول تقليدي جامد, والآخر منطلق متحرر، يؤمن بالنظام والاضطراد، والعلم والفن والإنسانية. يقول "أديب" لصاحبه في إحدى رسائله: "اذهب إلى الأهرام، فما أظن أنك ذهبت إليها قط، وانفذ إلى أعماق الهرم الكبير، فستضيق فيه بالحياة, وستضيق بك الحياة, وستحسُّ اختناقًا, وسيتصبب جسمك عرقًا، وسيخَيَّلُ إليك أنك تحمل ثقل هذا البناء العظيم، وأنه يكاد يهلكك، ثم اخرج من أعماق هذا الهرم واستقبل الهواء الطلق الخفيف، واعلم بعد ذلك أن الحياة في مصر هي الحياة في أعماق الهرم، وأن الحياة في باريس هي الحياة بعد أن تخرج من هذه الأعماق"5. ونخلص من ذلك إلى أن المقال الاعترافي جاء ثمرةً من ثمار ارتباط الكاتب بالحياة الواقعة في مصر، وصدامه مع الاتجاه التقليدي الجامد، بحيث يمكن القول أن هذا الفن المقالي مراقبة ذاتية عبر المجتمع المصري، فليس المقال الاعترافي حكمًا تعليمية، ولكنَّه من الوجهة الصحفية تهيئة لفنٍّ مقالي جديد هو "فن اليوميات الصحفية" التي تهدف أساسًا إلى نقد القيم على صعيدين رئيسيين؛ الصعيد الاجتماعي، والصعيد الثقافي، من خلال أسلوبٍ يتَّسِمُ بالصدق أولًا، والنمذجة الصحفية والتصوير النفسي بعد ذلك.   1 جوستاف لانسون: مرجع سبق ص135. 2، 3، 4 أُدِيب ص30، 168-169. 5 المرجع نفسه ص151. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 0 فن اليوميات الصحفية : تقول "باترسون" في مقدمة كتابها عن فن المقال الصحفي: إن قراءة المذكرات واليوميات مفضلة؛ لأنها تدور حول قصص وأحداث تُعْتَبرُ أقرب إلى الواقع منها إلى أيِّ شيء آخر. وقد يعترف الكاتب بأخطائه وبإخفاقه في بعض مراحل حياته، ولكنه يعلل لهذا الإخفاق، فيكون الضعف البشري موضوعًا للمعالجة الفنية. وقد تتعرَّض اليوميات لبعض فئات المجتمع ولحالاتٍ غريبة من حالاته, أو بعض الأوضاع الشاذَّة, ولا شك أن ذلك يعود بالفائدة على القارئ، ويساعده في حياته الخاصة، وسلوكه مع الأفراد والجماعات؛ لأنه يقتدي غالبًا بكاتب هذا النوع من المقال في طريقة تغلُّبِه على الصعاب1. ومن ثَمَّ كان المقال الاعترافي من أكثر المقالات الذاتية ملاءمة للصحافة, ذلك أن كاتب هذا النوع من المقال كثيرًا ما يكون شخصًا غير عاديٍّ في نظر القارئ، ولذلك يحقِّقُ هذا المقال وظائف كثيرة من وظائف الصحافة؛ منها: الإعلام، والترفيه والإمتاع، والتوجيه بطريقة غير مباشرة. وفي هذه الأسباب ما يجعل المقال الاعترافي الذي شقَّ أرضه طه حسين من أهم مواد الصحافة الحديثة، التي تجذب إليها نظر القارئ؛ بحيث يمكن القول: إن طه حسين قد انتقل بالمقال الاعترافي من حَيِّزِ الأدب إلى حَيِّزِ الصحافة، متخذًا شكل "اليوميات" التي أصبحت مادةً لا غنى عنها في هذه الصحافة. والحق أن طه حسين، قد وضع بذور "اليوميات" في بيئة التكوين الصحفي, في المقالات التي نشرها في "السفور" في الفترة التي ساءت فيها حالة الجامعة ماليًّا وأعادته مع زملائه من أعضاء البعثة في أواخر عام 1915، ومكث في مصر ثلاثة أشهر, ظهر فيها ألمه لانقطاعه عن دراسته الجديدة، وانعكس ذلك في يومياته التي تضمَّنَت "حديث نفسه المر"2، وهي اليوميات التي تمثِّلُ نضوج اتجاهه الذاتي بعد تمرُّسِه على الكتابة في "الجريدة", وحصوله على   1 الدكتور إبراهيم إمام: مرجع سبق ص319. H. Patterson andd S. Hyde. Writing and Selling feature articles 1947. 2 ولدينا في الأدب الاعترافي عند الأستاذ أنيس منصور نموذج رفيع لهذا الفن, ولا سيما في كتبه "طلع البدر علينا، في صالون العقاد: كانت لنا أيام، قالوا، إلا قليلًا". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 الدكتوراه في مصر، واحتكاكه بالحياة الفرنسية مباشرة لفترة وجيزة، فاتسمت هذه اليوميات بتفكيره في تلك الفترة، ونظرته إلى الحياة، ومن هذه اليوميات التي نُشِرَت في "السفور" نقدِّم النماذج التالية: "5 نوفمبر 1915" "تريدونني على أن أكتب أيها الأصدقاء, ولقد علمتم ما لي بالكتابة من طوق, ولا إلى الإجادة من سبيل، ماذا تريدون من رجل لم يكدْ يأنس إلى حياة النور والهدى حتى ردَّته الأقدار إلى حيث الظلمة الداجية والضلال المبين، ماذا عسى أن تصنع بذكائنا في بلد قانع كمصر، قد رضي أهله بالقليل في كل شيء, فحسبهم من العلم والأدب ومن الفلسفة والحكمة، ألفاظ يلوكونها وجُمَل يرددونها بين الشفاة. "يا عجبًا كل العجب، يعود الناس إلى بلادهم بعد الغربة فرحين، ولقد عدت إلى مصر أسفًا محزونًا، ولقد أستحي أن أقول الحق فأعلن أني استقبلتها باكيًا..". "14 نوفمبر 1915" "ليس لي ماضٍ أنعم بذكره، ولا مستقبلٍ ألهو بالتفكير فيه، ولكن لي حاضرًا يهيج في قلبي ألوانًا من الحزن، ويغري بنفسي فنونًا من الأسى، ذلك الحاضر هو هذه الساعة, أذكر في هذه الساعة ثلاثة أيام، يوم ولدت، ويوم سافرت إلى أوروبا، وهذا اليوم".. "في مثل هذا اليوم ولدت منذ ست وعشرين سنة، وفي مثل هذا اليوم سافرت إلى أوربا منذ سنة واحدة، وأنا الليلة في القاهرة, أرجو ألا يصبح عليّ الغد إلّا وقد رحلت إلى حيث لا يرجع طاعن ولا يرجى لمرتحل إياب. لا تصبح أيها الليل عن هذا الغد. تلك الأشهر التي أمضيتها في فرنسا هي التي جعلت ليوم ميلادي في نفسي قيمة ما، فقد رأيت قومًا ليس فيهم من لا يتخذ هذا اليوم لنفسه عيدًا. "لم يجب الله دعائي فقد أشرقت عليَّ شمس يوم الأحد، ولو قد أشرقت عليَّ هذه الشمس في غير هذا البلد لكنت حريًا أن ألقى من أنواع البشر وألوان الابتهاج ما يَسُرُّ هذه النفس الحزينة, ويسلي عن هذا القلب الكئيب، ولكنها قد أشرقت عليَّ في مصر, فأقسم ما لقيت طول اليوم شيئًا يسر، ولقد لقيت كثيرًا مما يسوء، حيَّا الله وفاء فرنسا وبرها في هذين الشخصين يذكرانني من وراء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 البحر، فلولا أني قرأت كتابيهما آخر هذا اليوم لأشفقت على نفسي أن أقضي صريع الأسى"1. "14 نوفمبر 1915" "في مثل هذا اليوم منذ سنة كاملة وصلت إلى مونبيلييه، بلد لم أعهده، ولم أكن أقدر أن أراه؛ على أني لم أكد أمضي فيها ساعات حتى احتجت إلى كتابٍ فذهبت إلى المكتبة، وأخذت ما أردت، ودفعت إلى البائعة نقدًا كان عليها أن ترد علي فضله، ولم يكن لديها هذا الفضل, فردَّت إليَّ ما دفعت إليها وهي تقول: ستؤدي إليَّ ذلك متى شئت, قلت: ولكنك لا تعرفينني يا سيدتي، ولم تريني قبل اليوم, فإني بمدينتك حديث العهد، قالت مستضحكة: لا عليك. "ما أكثر ما زار الناس أوروبا، وما أكثر ما سعدوا بزيارتها وشَقُوا بفراقها، ولكن ما أسرع ما تَسَلَّوْا عنها وعادوا من حياتهم القديمة إلى ما كانوا فيه غير ضجرين، ولا والهين، ولكني أقسم ما تطاولت الأيام علي أوبتي إلّا أذكى تطاولها في نفسي اللوعة والحسرة، وضاعف في قلبي الهم والأسى.."إلخ. وفي هذه اليوميات وغيرها نجد أن طه حسين يستخدم ضمير المتكلم الذي يتحول عنه في المقال الاعترافي في "الأيام" إلى ضمير الغائب؛ لأنه في المقال الاعترافي كان يواجه التقليديين بسبب الشعر الجاهلي، وكان من المنطقي أن تكون يومياته الأولى بداية لاستخدام ضمير المتكلم, ولكنه اضطر إلى استعمال ضمير الغائب للأسباب التي ترتبط بظروف كتابة مقالاته الاعترافية، كما تَقَدَّمَ, وهي الظروف التي توضح الطريق بين المواجهة الصحيحة للذات، وبين ما يفرضه الإطار الاجتماعي على التعبير من رمز أو ما يشبه الرمز. على أن المواجهة الصريحة للذات في "اليوميات" الأولى بالسفور تُسْفِرُ عن سمة من سمات الأدب المصري في بيئة التكوين التي اتجهت إلى الرومانسية في كثير من الأحيان. ولكنها مع ذلك تنمُّ عن تفكير صاحبها ونظرته إلى بيئته   1 يصف الدكتور طه حسين هذه الفترة في مذكراته "الجزء الثالث من الأيام" وصفًا مسهبًا، مستخدمًا ضمير الغائب على عكس ما نجد في هذه اليوميات التي يستخدم فيها ضمير المتكلم مباشرة، يقول في صدد هذه اليومية: "وقد أقام صاحبنا في القاهرة قريبًا من ثلاثة أشهر, لا يعرف أنه شقي حياته كلها كما شقي فيها، ولا أنه سعد في حياته كلها كما سعد فيها, ولكن شقاءه كان طويلًا ملحًا, وسعادته كانت سريعة خاطفة. كان يشقى بالتبطُّل والفراغ والبؤس، وكان يسعد بذلك الصوت العذب الذي كان يناجيه بين حين وحين". إلخ. مذكرات طه حسين ص144-145. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 الأولى، وفي ذلك ما يجعلها نواة "لفن اليوميات الصحفية" التي يُعَبِّرُ فيها الكاتب عن وجهة نظره هو لا وجهة نظر صحيفته, كما تنمُّ عن أسلوب يقترب من أسلوب "مونتاني" الذي يقترب بدوره من أسلوب اليوميات الصحفية، وهكذا نجد أن ثَمَّةَ علاقة وثيقة بين فنون المقال منذ نشأتها الأدبية الأولى حتى تطوراتها الأخيرة في مقالات اليوميات الصحفية. وإذا كان طه حسين يُسْرِفُ التواضع -بعد ذلك بنصف قرن تقريبًا1- حين يذكر في يومياته بجريدة "الجمهورية" أنه ليس "من كُتَّاب اليوميات"2 ويقول: "ولو حاولت كتابتها لم أبلغ منها شيئًا, ولكن أكتب الآن شيئًا يشبهها من بعيد3، فإن ذلك لا ينفي ريادته وصلاحية أسلوبه الاعترافي لهذا الفن المقالي، الذي يتخذ هذا العنوان الثابت "من بعيد" دائمًا، في "السياسة" و"الجمهورية" من بعد، ذلك أن هذه اليوميات تطوَّرت في مقاله، لتتناول "ملاحظات لم أر من إملائها بدًّا"4، وهذه الملاحظات هي التي تكوّن صلب اليوميات "ومنطلقها، في مناقشة ظواهر سياسية أو اجتماعية أو ثقافية داخل سياق حركة الأحداث، ومن هذه الظواهر في يومياته بجريدة الجمهورية ما "يتصل بالأدب, ليس من الخير إهمالها, بل من الواجب التنبيه إليها؛ لأن في إهمالها شيئًا من التشويه لحقائق الأدب وجماله أيضًا"7. ومن ذلك يبين تميُّز "اليوميات" الصحفية، بتنوع موضوعاتها التي تصوِّر الحياة الإنسانية بخيرها وشرها، وتخلب العقل البشري والوجدان الإنساني، إلى جانب أنها قد تعالج السياسة والاقتصاد والشئون الاجتماعية والثقافية6. وهو لذلك يناقش في يومياته ظاهرة الشعر الحديث, وظاهرة تتعلق بضعف النقد الأدبي، وظاهرة أخرى تتعلق بالقصص الحديث، في مقال واحد، ومن خلال شواهد عملية من واقع الحياة الثقافية. كما يذهب في يومياته الأخرى إلى استقصاء ظواهر اجتماعية أو سياسية ترتبط في سياق واحد في إطار حركة الأحداث في المجتمع, يكتبها في أسلوب موثوق به، يعلِّلُ لهذه الظواهر، ويحللها ويستخلص الحلول والعلاج لها في نهاية اليوميات. ويقترب فن اليوميات في مقال طه حسين، من هذا الفن عند   1، 2، 3 جريدة الجمهورية في 7 أبريل 1960. 4 المرجع نفسه. 5 المرجع نفسه. 6 الدكتور إبراهيم إمام: مرجع سبق ص220. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 "أندرية جيد"1, من حيث ارتسام شخصيته فيها كأوضح ما يمكن أن تكون، ومن حيث تناولها في كثير من الأحيان لجوانب من حياته, كما رأينا في المقال الاعترافي، ومن حيث أن هذه اليوميات تبرأ من تزيين كاتبها لشخصه المعنوي أمام الناس "كما يزينون أشخاصهم المادية حين يلقونهم. يقتصدون في ذلك حينًا، ويسرفون في ذلك أحيانًا، ولكنهم يتكلَّفُون على كل حال، ويظهرون نفوسهم كاسية لا عارية"2 وهو لذلك يعرض في يومياته عن هذا الصنيع إعراضًا تامًّا، "لا غشَّ فيه ولا محاولة للغش"3 لا لأنه أراد أن يكون صريحًا صادقًا، بل لأنه لم يستطع إلّا أن يكون صريحًا صادقًا"4, وخصلة الصراحة والصدق هي المقوِّم الأول في فن اليوميات الصحفية عند طه حسين5. على أن هذه الخصلة لم تقيد بشيء إلا بقيود الفن، كنتيجة لإذاعة هذه اليوميات في الناس، وما يقتضيه ذلك من ظروف النظام والعرف بعد ذلك، كما يبين من استخدام ضمير الغائب في فصول الأيام، ولكنها مع ذلك تظهر الكاتب كما هو؛ لأنه توسَّلَ بضمير الغائب في إلغاء هذه القيود نفسها، فأقام من نفسه رقيبًا يلاحظ أدق الملاحظة ما كان يجري به قلمه في هذه اليوميات، وينبهه في سرعة وقوة إلى ما قد يدفعه الفن إليه من التكلُّف أحيانًا، ومن التفكير في الناس وفي أنهم قد يقرأون ما يكتب، فيرده إلى السذاجة والطبع، ويجرده من التكلُّف والزينة, ويضطره إلى ما ينبغي له "حين يخلو إلى نفسه من إرسال المزاج على سجيته"6 كما فعل صديقه "جيد", الذي تعوَّد مثله -من الناس، سخطهم وإنكارهم، ولذلك سقطت الفروق بين ما كان يكتب لنفسه، وما كان يكتب للناس، فجعل يكتب لتلك كما كان يكتب لأولئك، أو "جعل يكتب لأولئك كما يكتب لتلك. واستقام له طبعه الصادق الصريح في آثاره الخاصة والعامة"7. ولم يتحرَّج طه حسين من نشر يومياته ومقالاته الاعترافية في الصحف والمجلات، كما لم يتحرَّج "جيد" من نشر بعض يومياته في "المجلة الفرنسية الجديدة، التي أنشأها مع جماعة من أصدقائه، ثم في أسفار صغار8، ثم لم يتحرَّج من نشرها كاملة في أجزاء، كما فعل طه حسين كذلك حين نشر فصوله الاعترافية في أجزاء، و"ما يدعوه إلى التحرُّجِ، وقد صارح الناس من أمره بالعظيم! فليصارحهم بما بقي من أمره، فلن يستطيعوا له ضرًّا, ولن يستطيعوا له نفعًا، وقد عوَّدَ نفسه الاستقلال التام؛ فهو لا ينتظر من الناس شيئًا، كما أنه لا يخاف منهم شيئًا"9.   1، 2، 3 مجلة الثقافة في 28 نوفمبر 1939, فصول ص140، 141. 4، 5 المرجع نفسه ص141، 142. 6 المرجع نفسه ص141، 142. 7، 8، 9 المرجع نفسه ص143. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 وشخصية طه حسين في يومياته، كشخصية "جيد"؛ شخصية متمردة بأوسع معاني هذه الكلمة وأدقها، متمردة على العرف الأدبي وعلى القوانين التقليدية، وعلى النظام الاجتماعي, وعلى النظام السياسي"1 كما تَبَيَّنَ من دراسة مضمون مقاله فيما تَقَدَّمَ، فشخصيته متمردة على كل شيء "حتى على نفسها في أكثر الأحيان" وفي "كل إنسان حر، أو مؤمن بحريته، حظ من التمرُّدِ على هذا النظام أو ذاك، من نظم الحياة الاجتماعية. ولكنه يصانع ويداجي ويحتال ليلائم بين شخصيته وبين البيئة الاجتماعية التي يعش فيها"2. والناس قد عرفوا ذلك وأقروه وتواضعوا عليه، كما يذهب إلى ذلك طه حسين, ولكنه ينفرد في مواجهة هذا الاصطلاح العرفي بالملائمة بين بين تمرُّدِه الداخلي وسيرته الخارجية إن صحَّ هذا التعبير، يرى الرأي فيعلنه مهما تكن نتيجة ذلك، ويشتهي الشيء فيسعى إليه ويحققه مهما تكن نتيجة ذلك، ويحسُّ هذا الحس أو ذاك، ويشعر هذا الشعور أو ذاك، ويجد القدرة على تصوير حسه وشعوره فلا يتردد في تصوير حسه وشعوره، يقسو في هذا كله على الناس، ويقسو في هذا كله على نفسه، ولا يقبل "في هذه القسوة هوادة ولا موادعة"3. ومن أجل هذا قوبلت آراؤه التجديدية في الشعر الجاهلي وحديث الأربعاء وغيرها بالإنكار الشديد، وعابه التقليديون بالحق والباطل ولعلهم "عابوه بالباطل أكثر مما عابوه بالحق"4، كما تعرَّض "جيد" لمثل ذلك5، ويذكر طه حسين عن موقفه بإزاء هذا لإنكار6: "ولقد نشأنا نحاول الكتابة فقال الناس فينا ما نكره, وعابونا بكل ما يمكن أن يُعَابَ به الكاتب في أدبه وخلقه ونفسه, فلم يزدنا ذلك إلّا إقدامًا على العمل وجدًّا في التعلُّم والانتفاع بهجاء الهاجين وثناء المثنين, لم يبطرنا ثناء قط ولم يحزنَّا هجاء قط، وأعترف بل أشهد الله أني كنت أشد إقبالًا على الهجاء منِّي على الثناء"7. ذلك أن تمرده صريح صادق، وأن هذا التمرد الصريح الصادق هو الذي يميزه من غيره من الأدباء والكُتَّاب والمفكرين بصفة عامة، ومن كُتَّاب "اليوميات" بصفة خاصة؛ ذلك أنها تصوِّر نشأته ناقدًا لتأثره وتأثيره, مسجلًا لما يأتيه من خارج ولما يصدر عنه، مبينًا ما في هذا وذاك من خير أو شَرٍّ8. محاولًا إصلاح ما يراه شرًّا, والاستزادة مما يراه خيرًا, محاسبًا نفسه حسابًا شديدًا على ما أخذ   1، 2 المرجع نفسه ص143. 3 المرجع نفسه ص143. 4، 5 المرجع نفسه ص143. 6 جريدة الجمهورية في 7 أبريل 1960. 7 المرجع نفسه. 8 مجلة الثقافة في 28 نوفمبر 1939, فصول ص145. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 وما أعطى مراقبًا فنه مراقبة شديدة، ولذلك كان أقل الناس حظًّا من رضى النقاد وثنائهم عليه كما يقول، ولكن ذلك لم يغيِّر من سيرته مع نفسه ومع الناس، فمضى في طريقه كما مضى "جيد" قدمًا "حتى أغضب القراء غضبًا، وأكرههم على قراءته إكراهًا، وحملهم على الإعجاب بفنه حملًا، وأظهر للنقاد أن الأديب الممتاز يستطيع أن يفرض نفسه على قرائه, سواء رضي النقاد أم سخطوا"1. ومن أجل ذلك ينتقل في اليوميات من استعمال ضمير الغائب إلى ضمير المتكلم مرَّةً أخرى، رغم أن هذه اليوميات تتضمَّن اعترافات بأمور يدرك إنكار "المثقفين" لها، ويعترف بها في صراحة صادقة، ومن ذلك، اليوميات التي يتمثَّل فيها عهد "الصبا" والإلمام به "بين حين وحين"2؛ لأنها -كما يقول- يتمثَّل فيها "حياة الكثرة المطلقة من المصريين, ويمتزج فيها بهذه الكثرة المطلقة، ويلغي فيها ما بينه وبين هذه الكثرة من الفروق، ويشعر فيها شعورًا قويًّا جدًّا بأنه واحد من هذه الملايين التي لا تحصى من المصريين منذ عرف المصريون أرض مصر وعاشوا"3. يقول طه حسين مستخدمًا ضمير المتكلم: "هذا العهد الذي أحبه كلَّ الحب, وأبيح للمثقفين أن يسخروا مني لأني أحبه كل الحب، هو هذا الذي يتمثَّل حين يجتمع فريق من أهل القرى حول شيخ من مشايخ الطرق ليعقدوا مجلسًا من مجالس الذكر, وأنا أعرف ما يقول الذين ينكرون البدع, وأعرف أيضًا ما يقول الأوربيون عن مجالس الذكر, ولكن ماذا تريد؟ إني أحب هذه المجالس وأجد فيها نفسي الضائعة، وأتمثَّل فيها مصريتي القديمة والجديدة والمستقبلة، وأشعر فيها بهذا التضامن الذي أحب أن أجده دائمًا بين المصريين، ولا أكاد أصل إلى تلك الصحراء حتى أطلب إلى صاحبي أن يدعو لي مجلس الذكر، فيجتمع هؤلاء الفلاحون على ذكر الله كما تعودوا أن يذكروا، وعلى غناء المنشد في مدح النبي -صلى الله عليه وسلم- كما تعودوا أن يستمعوا له, وإذا أنا شديد الشوق إلى أن أنضمَّ إلى حلقتهم؛ فآتي ما يأتون من الحركات, وأنطق بما ينطقون به من الألفاظ، وأطرَبَ لما يطربون له من الغناء. قل ما شئت وتصوَّرْنِي كما أحببت، واحكم عليَّ بما تريد أن تحكم به، ولكني أحب حلقات الذكر وأطرب لإنشاد المنشدين وأجد في هذا الجو المصري الخالص لذَّة ومتاعًا وشعورًا بالمصرية الخالصة"4. ومن ذلك يبين أن طه حسين -كاتب اليوميات ليس منطويًا على نفسه،   1 مجلة الثقافة في 28 نوفمبر 1939, فصول ص145. 2، 3 من لغْوِ الصيف إلى جَدِّ الشتاء ص89. 4 المرجع نفسه ص89. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 بل يبدو من خلالها مبسط النفس Extorvert غير معقد، يرفع التكلُّف بينه وبين القارئ, ويعرض أفكاره في بساطة ويسر, لذلك يعالج في يومياته ظواهر تتسم بالطرافة، وإثارة اهتمام الناس كما يبين من حديثه عن "المنجمين"1, يقول: "لا تعجب ولا يأخذك الدهش، فقد فكرت في المنجمين وأطلت التفكير, ألم تزعم لنا الصحف أن السلطان يطارد التنجيم والمنجمين في مصر؟ فما يمنعني أن أفكر في التنجيم والمنجمين وأنا أقرأ في الصحف الأوربية. إن التنجيم ينهض في أوربا بعد كبوته, ويستيقظ بعد نومه الطويل، ويستردُّ مكانته العليا في قصور الملوك ودواوين الوزراء، أستغفر الله، بل في ميادين القتال، بل في الجامعات أيضًا. فهذه صحيفة فرنسية -التوفيل ليترير- تحدِّثُنا بأن صاحب الجلالة جورج الملك الإمبراطور، قد عُنِيَ بالتنجيم وحديث المنجمين، فأبى أن يسافر ابنه إلى استراليا في يوم كان المنجمون يخافون منه الشر "احترقت فيه طيارة فرنسية كانت تحمل حاكم الهند الصينية العام2. ثم يختم يومياته في مجلة "الثقافة", والتي اتخذت عنوان: "أحاديث الأسبوع" بقوله الساخر: "ألسنا نرى أن التحدث إلى النفس في التنجيم والمنجمين خيرٌ من التحدُّث إليها في الأدب والأدباء"3. وتكشف "أحاديث الأسبوع" عن ارتباط فن اليوميات في مقال طه حسين بقسوته على نفسه في الفن، وقسوته على غيره، كما يبين من الأحكام الصارمة التي يدمغ بها أصدقاءه وأحبَّ الناس إليه؛ في فنهم وأخلاقهم وصورهم وأشكالهم، كما يدمغ بها خصومه وأبغض الناس إليه, ثم لا يتردد في إذاعتها، وأصدقاؤه وخصومه "أحياء، مكا أنه هو حي أيضًا, ومن الممكن، بل من المحقَّقِ أنهم سيقرءونه وسيلقونه, ولكن أيَّ بأس عليه وقد أخذ نفسه بالحرية والاستقلال، وبالصراحة والصدق؟ "4. وفي "أحاديث الأسبوع" يتناول أكثر من ظاهرة، على النحو الذي تذهب إليه اليوميات الصحفية؛ ومن ذلك ما تناوله حول اجتماع الأدباء لإحياء "ذكر مختار" "وكان حديث الأدباء عن هذا الاجتماع طريفًا؛ لأنه لم يزد على أن ذكره وألَمَّ به دون يفسِّره أو يطلق عليه, وهل أحاديث غير الأدباء في مصر الآن خير من أحاديث الأدباء؟ فأنت تستطيع أن تلتمس النشاط عند أصحاب المال، أو عند غير أولئك وهؤلاء من طبقات الناس، فإن استطعت أن   1، 2، 3 من لغو الصيف ص106، 107. 4 مجلة الثقافة في 28 نوفمبر 1929. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 تجد صورة من صوره فأنت منصف حين تلوم الأدباء على القصور وتصيبهم بالفتور"1. أما الظاهرة الثانية في "أحاديث الأسبوع" فهي تتعلق "بحديث صحيفة اضطرها حكم القضاء إلى الصمت"2 و"تحدَّث الأدباء عن هذا الحدث الأدبي السياسي في السرِّ أو في الجهر، في النوم أو في اليقظة، في الحقيقة أو في الخيال, وتساءلوا ما باله لم ينطق الأدباء بشيء، فكان الجواب أن مصر الآن نائمة تستريح"3. والظاهرة الثالثة في هذه اليوميات -تتعلق بتكريم العقاد4. وهكذا يتناول طه حسين ظواهر لا تنفصل عن سياق حركة الأحداث والحياة بوجه عام، ويتلمَّس من هذه الظواهر ما يرتبط باهتمامات القراء وقت كتابة اليوميات وإذاعتها في الصحف أو المجلات. بل إن هذا الفن المقالي عند طه حسين يتناول من ظواهر الحياة المصرية ما يرتبط بحركة الأحداث راكدة أو متحركة، أو "من لَغْوِ الصيف إلى جَدِّ الشتاء"، وفي سخريته الجادة، فالصيف في يومياته "هو الفصل الذي يحسن فيه اللغو، وإن الشتاء هو الفصل الذي لا يحسن فيه إلا الجدُّ، ولا يمكن فيه إلا الجدّ"5، ويتناول في سخرية مرة "لغو المترفين" في الصيف، ويقابل هذا اللغو بجدٍّ آخر في الشتاء يرتبط برؤياه الاجتماعية: "جدٌّ خصبٌ حقًّا، جَدٌّ نافعٌ حقًّا، جدٌّ نعيش منه، ونلهو به" ولا يجني منه أصحابه إلا حياة كلها خشونه وشظف وحرمان، هو جدُّ هؤلاء الفلاحين الذين يعملون في الأرض، لا يحفلون بالبرد ولا يحفل بهم البرد، وفي الشتاء جدٌّ آخر، جَدٌّ يمزِّقُ القلوب، ويعذِّبُ النفوس، ويبعث اللوعة والأسى في أفئدة الذين يعرفون الرحمة واللين، ويذكرون حين يلهون أن في الأرض ليالي خير منها ظلمة القبور في الشتاء, هذا الجو المظلم القاتم المرهق المحرق الذي يصوره أجمل تصوير وأبلغه, تلك الأغنية المشهور؛ أغنية الإحسان التي ما استطعت أن أستقبل الشتاء منذ عرفها دون أن أسمعها مرة ومرة: "هذا الشتاء يقبل، ومعه حاشتيه الحزينة، إن الأشقياء ليألمون كثيرًا في الشتاء، إن من الحق علينا أن نحميهم من هذا الشقاء، إن البرد الشديد في دورهم المقفرة! "6.   1، 2، 3 من لغو الصيف إلى جدِّ الشتاء ص106، 108. 4 المرجع نفسه. 5، 6 المرجع نفسه ص118، 128. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 وفي هذه اليوميات، لم يعد أمام طه حسين مبَرِّرٌ لاستخدام ضمير الغائب، وهو لذلك يستخدم ضمير المتكلِّم في حديثه عن بعض ذكرياته التي تحدَّث عنها في الأيام من قبل، حين يتحدث عن ذكرياته في الأزهر مع صديقيه الزيات والزناتي في صراحة تامة1: "هذه مصري التي كان الزيات يريدني على أن أصورها له في الصباح, وأقسم لو فعلت لنفر مني وهزأ بي وازوَرَّ عني ازورارًا, ولكني واثق الآن بأني حين أتحدث إليه عنها أثير في نفسه عواطف يحبها وأحلامًا يرضاها, وأبلغ من استحسانه ما أقصر عنه من غير شكٍّ لو أني صوَّرت له مصر في الصباح هذه التي تبتدئ من داري في الزمالك، وتنتهي عند "الكواكب" في عابدين"2. كما نجد استخدام ضمير المتكلم أكثر صارحة وواقعية في يوميات طه حسين، حين يتحدث عن "أحاديث العيد"3, فهو لا يلتمس موضوعاته "في السماء حينًا، وفي السحاب حينًا، وبعيدًا عن حياته"4 ولكنه يتحدث إلى "نفسه وإلى أصدقائه في أيام العيد أحاديث مختلفة، منها الباسم ومنها العابس، فيها الجدّ وفيها الهزل"5 ومن ذلك قوله: "ولكني كنت أحتفظ لنفسي بأشدّ هذه الأحاديث مرارة ولذعًا؛ لأني أعلم أن الناس يكرهون في أيام العيد وفي غير أيام العيد مرارة الحزن ولذع الألم, وأشهد لقد استقبلت يوم العيد بحزن عميق؛ لأني استعرضت صورًا تعودت أن أستعرضها كلما أقبلت الأعياد، وفكَّرت فيمن أزوره ويزورني، وفيمن أسعى إليه ويسعى إليّ، فإذا كثير من هذه الصور قد محي من صفحة الحياة، ولم يبق له إلا رسم في صفحة القلب، قوي عند قوم، ضعيف ضئيل عند قوم آخرين"6. وقوله: "بهذا وأمثاله كنت أتحدث إلى نفسي أيام العيد، فإذا سألتني عَمَّا كنت أتحدث فيه إلى الناس, وعَمَّا كان الناس يتحدثون فيه إليَّ حين كنا نلتقي، فيا للبؤس! ويا للفقر, ويا للشقاء! ويا لجدب الحياة وإفلاس الأحياء! كنا نتحدث عن الأزمة المالية، وكنا نتحدث عن السياسة، وكنا نتحدث عن غدو المندوب السامي مع الطير يوم العيد, وما يحيط بغدوِّه ذلك من أسرار وأخبار، ومن تأويل وتعليل, ثم كنا نتحدث عن بعض هذه الأشياء الممتازة التي ظفرت   1 المرجع نفسه ص128، 132. 2، 3 المرجع نفسه ص128، 132. 4، 5، 6 المرجع نفسه ص132. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 بأحاديث الناس وشغل الصحف وعناية رجال الأمن. كنا نتحدث عن ذلك الخاتم، "الذي اضطرب له رجال الأمن, وعطلت له دار من دار التجارة، واتصل حوله تحقيق طويل دقيق, ولم تبح صحيفة مصرية عربية أو غير عربية لنفسها أن تعرض عنه أو تطوي أخباره عن قرائها، ثم أصبح الناس يوم العيد فإذا الصحف تنبئهم بأن سيدةً التقطته أمام مدرسة من المدارس, فظنته جوهرة من الزجاج ولم تعلم أنه حجر نفيس, وأن مدينة القاهرة مضطربة له أشد الاضطراب، وأن قيمته تربى على ألف من الجنيهات"1. ثم ينتقل طه حسين إلى الحديث عن "خاتمه" الذي فُقِدَ, وذكرياته معه في التوقيع به على المستندات وغيرها، حديثًا يقرب المسافة بين يومياته، وبين فن المعالم الصحفية Features الذي يتوسَّل به في عرض هذه اليوميات، من حيث الاعتماد على الجانب الإنساني، بحيث لا نجد خطًّا فاصلًا تمامًا بين كلٍّ من فنون الصحافة الحديثة والفن الآخر، لتداخلها في بعضها البض كتداخل الألوان في قوس قزح. ويبين هذا الأثر من عرض اليوميات في أسلوب قريب من أسلوب التناول القصصي، الذي يتوخَّى التأثير في نفس القارئ، كما يبين من استخدام الأساليب خفيفة الروح بما فيها من تشبيهات لطيفة وعبارات جذابة، وألوان ساخرة، وأساليب تتدفَّق بالحياة والحركة, يقول طه حسين في "أحاديث الأسبوع": "وكنت أقول لأصدقدائي وهم يبتسمون ويضحكون ويفلسفون: على رسْلِكُم أيها السادة، فلو سألتم ذلك الخاتم أو هذا الدبوس عَمَّا يعرفان من التاريخ, ولو قد أراد الخاتم وأراد الدبوس أن يَقُصَّا عليكم بعض ما يعرفان لما ابتسمتم ولا ضحكتم ولا أغرقتم في الفلسفة هذا الإغراق. فليست قيمة الخاتم والدبوس في هذه الجنيهات التي تربى على الألف أو تبلغ المئات فحسب، ولكن قيمتها فيما يحملان من ذكرى, وما يصوران من حياة, وفي هذه الصلة التي تصل بينهما وبين القلوب والنفوس. "قال صديق ماكر: فحدِّثْنَا إذن عن خاتمك الذي فقدته؛ فقد يظهر أنك فقدت خاتمًا أيضًا, وأن أمره قد ارتفع إلى الشرطة ثم هبط إلى الصحف ثم ذاع بين الناس. قلت: وإنك لتتحدث عن هذا الخاتم هازلًا كأنما تغضُّ من أمره وتزدريه، فهل تعلم أني حزنت عليه حزنًا شديدًا؟ وهل تعلم أنه ليس أقل خطرًا ولعله0   1 المرجع نفسه ص136. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 أعظم خطرًا عندي من ذلك الخاتم وهذا الدبوس؟ وهل تعلم أنه يمتاز من ذلك الخاتم وهذا الدبوس بأن له في الحياة المصرية العامة آثارًا باقية، به أصبح قوم دكاترة، وبه أدرك قوم آخرون إجازة الليسانس، وبه صُرِّف كثير من أمور الدولة, وقُضِيَ في مصالح كثير من الأساتذة والطلاب أعوامًا، فحدِّثْنِي أين يقع من هذا كله أثر ذلك الخاتم وهذا الدبوس في حياة المصريين؟ ومع ذلك فلم تبلغ قيمته ألفًا ولا مائة، ولا عشرة من الجنيهات أستغفر الله، بل لم تبلغ قيمته عشرة من القروش، وإنما كانت قيمته قرشًا ونصف قرش ليس غير، اتخذته حين كانت الأشياء رخيصة في ذلك الزمن الذي كنا نستطيع أن نبلغ فيه بالقرش كثيرًا من المآرب والحاجات، اتخذته في باب الخلق وأنا خارج ذات يوم من دار الكتب، وكنت في الرابعة والعشرين من العمر، وكنت أريد أن أسافر إلى أوربا، وأظهر لي هذا السفر أني شخص من الأشخاص، يجب أن أذكر مولدي، وأعرف سني, وأقدِّر ما آتي من الأعمال، في ذلك الوقت بحثت عن شهادة الميلاد وكانت ضائعة, فعرفت سني وكنت أجهلها، وفي ذلك الوقت قيل لي أنَّ من أتى عملًا أو قال قولًا وجب عليه أن يمضيه، فاتخذت هذا الخاتم؛ صنعه لي رجل كان يصنع الخواتم قريبًا من المحافظة، ثم عبر معي البحر، وصحبني في فرنسا طالبًا، وصحبني في الجامعة أستاذًا, عمل معي أعمال الدولة، وأمضى معي عن أمور الدولة، وكان صديقًا أمينًا، لست أدري كيف قبلت فراقه حينًا، وائتمنت عليه صاحبي حتى أقبل ذات يوم ينبئني أنه افتقده فلم يجده، هنالك ضقت به وضقت بالناس، وضقت بالحياة كلها وقتًا غير قصير، ثم زعم لي زاعم أن الأمر يجب أن يرفع إلى الشرطة فرفع إليها، وهبط إلى الصحف، ولكن الشرطة تلقَّت أمره باسمة، ولكن الصحف نشرت أمره مداعبة، ولكن الأصدقاء تحدثوا عنه مازحين، أفرأيت أن قيم الأشياء تختلف لا باختلاف آثارها ومكانتها, ولكن باختلاف أصحابها، فلو كنت رئيس الوزراء لما ابتسم الشرطي, ولما داعبت الصحف لأني فقدت خاتمًا، ولكني لست رئيس الوزراء، فيبتسم الشرطي، ولا يأتي حركة، وتداعب الصحف، وتمزح أنت ويمزح هؤلاء بهذا وأمثاله، كنا نتحدث أيام العيد"1. ومن ذلك يبين أن مادة الطرائف في اليوميات الصحفية عند طه حسين، تمتاز بقوة تنبع من الرؤيا الصحفية في مقاله، ومن أجل ذلك وجدنا في هذا النموذج، كل كلمة من الكلمات, أو عبارة من العبارات قادرة على المشاركة في موضوع اليوميات، مضيفة إليه أثرًا من الآثار التي تضفي على هذا الفن المقالي مغزى ودلالة. كما نلاحظ من هذا النموذج أن طه حسين لا يقدم كل ما يعرفه عن تفاصيل الموضوع، بل يكتفي بالإشارة عن العبارة، بحيث تبدو اليوميات   1 المرجع السابق ص137، 138. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 في مقاله، ضيافة لَبِقَة، تقدِّمُ إلى ضيوفها ما يشتهون فقط، ذلك أن طه حسين -كما يصف العقاد ثقافته اللاتينية1- يبدو في فن اليوميات متمتعًا بالأناقة الباريسية، وبالمهارة في تقديم معارفه إلى جماعة من جماعات الأندية، ذلك أن الأناقة واللباقة في اليوميات أداتان وظيفيتان تهدفان إلى التعرُّف على ما يحدث وما يقع من وراء الأستار2، وتجاوز الصور الخلابة التي يعطيها الأدباء لحياتهم فيما ينشئون3، ذلك أن السمة الفنية الخالصة هي أظهر ما يتصف به فنُّ اليوميات الصحفية المتمثِّل للثقافة الفرنسية عند طه حسين4. وتبين هذه السمة الفنية من الاستخدام الوظيفي للأسلوب القصصي وأسلوب الحوار في صياغة اليوميات الصحفية، وتبين كذلك من تقسيم هذه اليوميات إلى فقرات، كما تُقَسَّمُ القصة إلى فصول، بحيث لا تبدو أمام القارئ كأنها كتلة مصبوبة، أو مادة تملأ فراغًا في الصحيفة، ومن أجل ذلك وجدناه يتوسَّل بالطرائف الصحفية توسُّلًا وظيفيًّا، يعتمد الاعتماد كله على الواقع الملموس، شأنه في ذلك شأن الجاحظ الذي حفل أدبه بمادة النوادر والمُلَح. ولكنه يوظِّف هذه الطرائف وتلك النوادر لتزويد القارئ بما يُسَمَّى "الصور الخلفية" للحوادث، التي تُيَسِّرُ شرح الأسباب والنتائج والحقائق وما إلى ذلك. ويتمثَّل في تحرير يومياته وظيفة الإمتاع والمؤانسة، برواية القريب والطريف والعجيب من القصص الواقعية والخيالية على السواء. وقد ورثت الصحافة هذه المهمة الخطيرة التي يرى "ماكدوجال Mac Dougal" أنها تخفِّفُ العبء عن النفوس والعقول، وتجعل الحياة محتملةً رغم ما فيها من متاعب, وهكذا تصبح هذه الوظيفة ذات أثر نفسي حميد. ذلك أن الإيقاع الإعلامي يسير على أساس فترات من الأخبار تمثِّلُ التوتر، يعقبها فترات من الترفيه تمثِّلُ الهدوء والاسترخاء، ولذلك وجدنا طه حسين يذهب إلى أن المادة المقالية التي تلائم فصل الصيف لا تستقيم مع الأحاديث عن الشعر القديم إلى شيء من الراحة والهدوء، والقدرة على التفكير المطمئن, وهذا الفراغ الفنّي الذي يتيح للذوق أن يستأنس ويتمهَّل ويسبغ الأشياء في غير جهد ولا مشقة, ولا تعرض لهذا العناء السريع الذي نتعرض له حين يسلط الجو علينا هذا الحر الشديد"5.   1 الجهاد في 17 يناير 1933, مرجع سبق. 2، 3 الدكتور طه حسين: "لاتينيون وسكسونيون", مجلة الرسالة في 29 يناير 1933، مرجع سبق. 4 الرسالة في 5 فبراير 1933, مرجع سبق. 5 الجهاد في 17 يونيو 1935, بين بين ص20، 21، 22. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 وتأسيسًا على هذا الفهم، يذهب طه حسين إلى أن الكُتَّاب إذا لم يكن لهم "بُدٌّ من الكتابة فيجب أن يرفقوا بقرائهم إذا كتبوا، وألا يتحدَّثوا إليهم من الموضوعات فيما يكلفهم جهدًا وشططًا. والكاتب مدين لقرائه بهذا الرفق، أو قُلْ: إن الكاتب مدين لنفسه بأن يرفق بقرائه إن كان حريصًا حقًّا على أن يقرأوه، راغبًا حقًّا في أن يتحدث إلى عقولهم اليقظة المفكِّرة، لا في أن يكون سبيلهم إلى الضجر والسأم أو إلى الفتور والنوم"1، ويذهب إلى أن الكُتَّاب الغربيين يقدرون هذا الطور من حياتهم وحياة قرائهم قدره، فهم "يرفقون بأنفسهم وبالقرَّاء إذا أقبل الصيف، وهم يتخفَّفُون من الموضوعات الضخمة الفخمة والمسائل المشكلة المعضلة التي يعرضون لها في غير الصيف من فصول السنة، وهم لا يعرضون من الأحاديث إلّا للسهل اليسير الذي لا يكلف المتحدث ولا السامع مشقَّة, ولا يكلفه جهد التروية والتفكير، وهم ينتهون بفضل هذا الرفق بأنفسهم وبالقراء إلى إنشاء أدب خاصٍّ يتناول موضوعات قَلَّمَا تُتَنَاول في غير فصل الصيف, ويتناولها في صور قريبة مواتية قَلَّمَا تظهر في الشتاء أو الربيع, وهذا الأدب الخاص الذي تمتلئ به الصحف الغربية في هذا الفصل من فصول السنة, يمكن أن نسميه أدب الصيف أو أدب الأجازة، أو أدب الراحة والاستجمام"2. ومن ذلك يبين تمثُّل مقال طه حسين لوظيفة الإمتاع والمؤانسة كما تتمثَّلها الصحافة الأوربية، في تبديد كل آثار الضغط الإعلامي والتوتر العصبي, ولذلك يذهب طه حسين إلى أن هذه الوظيفة خليقة أن تلهم "الكاتب المجيد فصولًا خصبة قيّمة تثير في نفس القارئ كثيرًا من العواطف, وتدفعه إلى كثير من التفكير"3, وأن الموضوعات التي تثيرها -هذه الوظيفة- لا يمكن أن "يستنفد ما يقال عنها أو يكتب فيها، ودون أن يكرر الكُتَّاب ما يقولون أو يعيدوا ما يكتبون"4 ذلك أن "كلّ يوم يقبل إنما يحمل إلى الناس ذكريات لما مضى وآثارًا لما انقضى، فيها الرضى وفيها السخط، فيها اللذة وفيها الألم, ويحمل إليهم آمالًا فيما من الدهر كما يحمل إليهم خوفًا وإشفاقًا"5 ويذكر من ذلك أمر هذه الوظيفة فيما ينتجه الكُتَّاب الفرنسيون من فنونٍ في "تصوير هذا الفصل من الأدب الصيفي تلقاها في صحفهم على اختلافها،   1 الجهاد في 17 يونيو 1935, بين ص20، 21، 22. 2 المرجع نفسه ص23. 3، 4 بين بين ص23، 25. 5 بين بين ص23، 35. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 تلقاها في صحفهم الهازلة كما تلقَّاها في صحفهم الجادة"1. ويذهب إلى أن الصحافة المصرية لم تتمثَّل هذه الوظيفة تمثلًا صحيحًا؛ لأن كُتَّابها "لا يرفقون بقرائهم، بل يكتبون في الصيف كما كانوا يكتبون في الشتاء، فإن أخذوا بحظٍّ من هذا الرفق امتنعوا عن الكتابة امتناعًا، وصدوا عنها صدودًا، وأراحوا أنفسهم من الكَدِّ واستمتعوا بفترة قصيرة من الهدوء الذي أُهِّلَ له. ولكن الصحف لا بُدَّ من أن تظهر ولا بُدَّ من أن تظهر ممتلئة الأنهار. وهنا يلقى أصحاب الصحف من صناعتهم الجهد كل الجهد، ويلقى القراء من صحفهم العناء؛ أولئك يريدون أن يملأوا الصحف فلا يجدوا ما يملأونها به، وهؤلاء يريدون أن يقرأوا فلا يجدوا ما يقرأون, وكذلك يصبح الصيف فصل الكساد الأدبي"2. ويذهب طه حسين إلى علاج هذا الكساد عن طريق تمثُّلِ وظيفة الإمتاع على النحو الأمثل، عن طريق الاجتهاد في تغيير الأحاديث التي تعين الناس على استقبال الحياة واحتمالها ومعاشرتها "كما يفعل غيرنا من الناس"3. غير أن وظيفة الإمتاع والمؤانسة لا تتجاوز حدودها "فيصبح ضررها أكبر من نفعها"، ذلك أن وظيفية المقال الصحفي عند طه حسين تتصف بالتوازن والاتزان، فلا تسرف في الجدِّ إلى حَدِّ العبوس، ولا تتطَّرف في الترفيه إلى حَدِّ العبث, وإنما تسد الحاجات الإنسانية بما فيها من جوانب جادة وأخرى ضاحكة, ولذلك وجدنا اليوميات الصحفية تمثل الانتقال دائمًا "من لغو الصيف إلى جد الشتاء". وفي ضوء هذه الرؤيا الوظيفية لليوميات الصحفية، يذهب طه حسين إلى ابتداع أساليب جديدة في تحقيق الوظائف الجادة والضاحكة, ومن هذه الأساليب التوسُّل باليوميات في النقد والتقويم، من خلال تصوير نموذج من نماذج الحياة السياسية أو الاجتماعية العامة، يسجِّل "يوميات" تصور سلوكه من خلال خواطره وأفعاله، وتكشف عن جوانب الضعف في هذا النموذج، عن طريق الاعتراف الوظيفي الذي لا يأخذ من الخيال الأدبي سوى ابتداع القالب والأسلوب. ويبقى بعد ذلك متَّصِلًا بالواقع مستمدًا منه موضوعه، فينكر ما شاء من الأوضاع الغريبة في المجتمع أو في نظام الحكم، ويفلت في الوقت نفسه من سلطان الرقيب, ونذكر من ذلك ما نشره في "أحاديث الأسبوع":   1، 2، 3 المرجع السابق ص28، 31. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 القرين: من يوميات وزير قديم 1 "5 مايو سنة .... ". "لم أر قط أعجب مما رأيت اليوم، ولن أمضي في تسجيل الأحداث السياسية والإدارية والأعمال اليومية الخاصَّة التي تعوَّدت أن أسجلها في هذا الدفتر قبل أن أقصَّ هذا الحادث الغريب الذي شهدته أو الذي حدث لي في مكتبي صباح اليوم. "لم أكن نائمًا وما أعرف أن الوزراء تعودوا النوم في مكاتبهم، وما أعرف أني تلقيت النوم, أو أن النوم تلقاني إلّا حين آوي إلى مضجعي بعد أن ينتصف الليل. وقد أشهد مجلس الوزراء متعبًا مكدودًا، وأضيق بما يُقَال فيه أحيانًا من أحاديث لا تغني, وبما يُعْرَض فيه من شئون لا تعني وزارتي ولا تعني السياسة العامة, فأرسل نفسي في ألوانٍ من التفكير ليس بينها وبين مجلس الوزراء صلة. وقد أكون متعبًا فلا أستطيع التفكير, وإنما أظلُّ حاضرًا كالغائب وغائبًا كالحاضر، أسمع وأرى ولا ألقى إلى شيء مما أسمع وأرى بالًا، وأنا على هذا كله يَقِظٌ أشد اليقظة, متنبه أشد التنبيه, أرى بعض الزملاء وقد أخذ رأسه يخفق من النعاس، وأسمع بعض الزملاء وقد أخذ يَغُطُ لأنه أغرق في نوم عميق، وقد أعبث بهذا وألفت الزملاء في شيء من المكر إلى ذلك.. والمهم أني لم أتعلق على نفسي ولم يتعلق عليّ أحد بنومة في مجلس الوزراء"2 إلخ. ويستمر المقال في تسجيل اعتراف الوزير القديم، وكشف "القرين" لنقائصه وعيوبه، في أسلوب يشعر القارئ معه أنه يقرأ "يوميات" كتبها الوزير فعلًا نفسه، ولم يزد طه حسين على أن سجلها وأذاعها بين الناس، وتلك قدرة من قدرات طه حسين في أداء وظائف مقاله الصحفي على النحو الذي ينشده من وراء هذا النموذج. ومن أجل هذا تغدو "اليوميات الصحفية" في مقال طه حسين أقرب بأنواع فنه الصحفي إلى محيط الأدب، من حيث القيم الفنية التي يمتاز بها، مثل عمق التفكير, وغزارة الشعور, وجمال التعبير, والقدرة على التأمُّل في سلوك الأفراد والجماعات, ولكنَّها تمتاز عن المقال الأدبي بأنها تقصد الذيوع والانتشار في الاتصال بالجماهير, ولذلك تتعرَّض لبعض طبقات المجتمع، ولحالات غريبة من حالاته وأوضاع شاذة من أوضاعه قد تعود بالفائدة على القارئ.   1 من لغو الصيف إلى جَدِّ الشتاء ص129. 2 من لغو الصيف إلى جَدِّ الشتاء ص139. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 وإذا كانت الطريقة الجاحظية في الكتابة بخصائصها المعروفة من حيث الإسهاب والاستطراد واتساع العبارة وجذب القارئ وسحبه بلطف ومهارة، والقدرة على أن تؤدي أضخم المعاني بأيسر الألفاظ, والعناية بالجرس الموسيقي للفظ وموسيقى العبارة، أنسب الخصائص في تحرير "اليوميات الصحفية"1، فإن هذه الطريقة من أهم خصائص الأسلوب التحريري في مقال طه حسين بصفة عامة, وفي فن اليوميات بصفة خاصة، وقد تعرَّفْنَا على نمط مقالي خاصّ يتمثَّل الرسائل الجاحظية في صحافة طه حسين، على أن هذه الخصائص في يومياته ترتبط بنقل الأدب العربي من "أرستقراطيته في العصور الوسطى إلى ديمقراطيته عن طريق الصحافة بالمعنى الصحيح لهذه الكلمة"2. كما ترتبط بتفهُّم النفس البشرية من حيث هي، وتعكس في الوقت ذاته صورة للمجتمع الذي أحاط بالكاتب الصحفي في فترة من فترات الحياة. الأمر الذي يبين من تنوّع موضوعاتها في تصوير الحياة الإنسانية بخيرها وشرها، ومخاطبة العقل البشري والوجدان الإنساني، إلى جانب الرؤيا الوظيفية الواضحة التي تجعل محور اليوميات الصحفية دائمًا الانتقال "من لغو الصيف إلى جدِّ الشتاء", فتعالج السياسة والاقتصاد والشئون الاجتماعية. وما أقرب أسلوب اليوميات الصحفية عند طه حسين من أسلوب مقالات مونتاني الذاتية الأولى التي ظهرت مع عصر النهضة الأوربية، لتميزه بالأصالة والتأثُّر بأعمال الكُتَّاب العربي القدامى وخاصة الجاحظ، في موسيقاه الخاصة، واعتماده على الترادف والتكرار وتمسُّكه باستخدام المفعول المطلق وبالحال، إلى جانب سهولة أسلوبه في التعبير والواقعية في التصوير "والإيناس في إجراء الحديث، حتى ليشعر القارئ لمقالات طه حسين أنه إنما يجلس إلى صديق من أصدقائه، ويستمع إلى بعض إخوانه يدور معه حيث يدور، ويدخل معه في شجون من الحديث لا يحبُّ أن يصل إلى نهايتها", وهكذا نجد أن ثمة علاقة وثيقة بين فنون المقال منذ نشأتها الأدبية الأولى حتى تطوراتها الأخيرة في مقالات "اليوميات الصحفية".   1 الدكتور إبراهيم إمام: مرجع سبق ص219. 2 الدكتور عبد اللطيف حمزة: مرجع سبق ص192، 193. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 الفصل السابع: فن المقال الرئيسي الافتتاحي مدخل ... الفصل السابع: فن المقال الرئيسي الافتتاحي نتحدث في هذا الباب عن أربعة فنون تحريرية جديدة في المقال الصحفي عند طه حسين هي: المقال الرئيسي، والمقال النزالي، والمقال الكاريكاتيري, ثم المقال التحليلي والتقويم الصحفي في ضوء الفهم الوظيفي لفنِّ المقال الصحفي في أدب طه حسين، على النحو المتقدِّم، ذلك أنه يهدف أساسًا إلى التعبير عن أمور اجتماعية وأفكار عملية، بغية نقدها أو تحبيذها؛ فالوظيفة الاجتماعية الفكرية في مقال طه حسين تتقدَّم النواحي الفنية الجمالية، وتوظِّفُها من أجل الارتباط بحركة الأحداث في المجتمع. وتأسيسًا على هذا الفهم، فإن طه حسين في الصحافة المصرية يشبه سقراط الذي لو كان حيًّا في زماننا لكان أنسب عمل يشتغل به هو أن يكون كاتب مقال صحفي ينشره في جريدة يومية ويوقعه بإمضائه, كما يشبه الجاحظ الذي يذهب علماء الفن الصحفي إلى أنه جدير بأن يكون أول صحفي ممتاز لو أنه عاش في القرن الذي نعيش فيه. ذلك أن ثلاثتهم رجال شديدوا الانغماس في المجتمع، يلتقطون بعض الأمور التي تشغل الناس وتحرِّك تفكيرهم، ويتوسَّلون بأسلوب الحوار الكاشف الذي يعتمد على تقريب المنطق والفكرة, ولا يتعمَّد الإغراب والتعقيد. وهذا هو اسلوب المقال الصحفي الذي يبدأ من المعايشة، ذلك أن التحرير الصحفي لا يمكن أن ينعزل بحالٍ عن أحداث المجتمع وسياق حركته، لأن الارتباط بالحياة الواقعة فيه هو الذي يمسه بالحيوية والأهمية التي تصبغ عليه الصبغة الصحفية. وفي ضوء هذه الرؤيا نتناول فنّ المقال الصحفي في أدب طه حسين، ونبدأ بدراسة فن المقال الرئيسي في صحافته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 المقال الرئيسي الافتتاحي مدخل ... المقال الرئيسي الافتتاحي: ويُعْتَبَرُ هذا الفن من أهم فنون المقال الصحفي؛ لاعتماده في الشرح والتفسير والإيضاح على الحجج والبراهين, والإحصاءات والبيانات للوصول في نهاية الأمر إلى إقناع القارئ وكسب تأييده1. ذلك أن هذا المقال في مدلوله الاصطلاحي Leading Article يقود غيره من المقالات ويتقدمها من حيث تعبيره عن رأي الصحيفة كمؤسسة, ومن حيث تناوله لأهم الموضوعات بالقياس إلى سياستها التحريرية، ومن حيث المساحة الثابتة الممنوحة له, ولذلك فإن المقال الافتتاحي كثيرًا ما يكون غفلًا من التوقيع. غير أن اتجاه هذا المقال إلى التعبير "اللا شخصي ليس معناه الجفاف في التعبير، أو الجفاء في موقف الكاتب من القارئ، إذ أن خاصية التبسيط في الحديث والإيناس في السرد لا تزال أهم مميزات فن المقال الصحفي2, وهي المميزات التي يتسم بها مقال طه حسين في الصحافة المصرية، حتى "ليشعر القارئ للمقال من مقالاته أنه إنما يجلس إلى صديق من أصدقائه، ويستمع إلى بعض إخوانه، ويدور معه في شجون من الحديث لا يحب أن يصل إلى نهايتها3. وهي المميزات التي تجعل من مقاله الصحفي مقالًا يقوم على "روح المشاركة", وهي روح الديمقراطية الحقة التي تفرض المساواة بين الجميع، ومن هنا كان هذا الفن المقالي عند طه حسين يتَّسم بالهدوء والابتعاد عن الاستعلاء أو الخطابة. ذلك أن المقال الافتتاحي يهدف إلى الإقناع لا مجرَّد الاستمالة العاطفية؛ فالشواهد والأدلة والبراهين، سواء بالنصوص أو الإحصاءات أو المقارنات, ضرورة لازمة للتعليق على الأخبار والماجريات. وكثيرًا ما يكون المقال الافتتاحي بمثابة تعليق على الأخبار والأحداث الجارية، مع الاستشهاد بطبيعة الحال -بأمثلة تاريخية وتقارير إخبارية، ولذلك فإن كاتب المقال الافتتاحي يعتمد اعتمادًا كبيرًا على الأرشيف الصحفي، وعلى مذكراته الخاصة، بالإضافة إلى ذاكرته القوية4. ولذلك نجد كاتب المقال الافتتاحي -في نهاية الأمر، رغم عدم توقيعه باسمه معروفًا لدى جمهور القراء الذين تآلفوا مع أسلوبه, وتعودوا على فتح الصحيفة في صفحة معينة لقراءة ما يكتبه كاتبهم المفصل البسيط الأسلوب, والمقنع في حجته5. ومن أجل ذلك وجدنا الصحف العالمية تسجِّل على كل صفحة من صفحاتها، ما عدا واحدة, ما يجري في العالم الواسع من أحداث, وما يدور فيه من أفكار وآراء, وتستبقي صفحة واحدة فقط، وفي بعض الأحيان عمودًا واحدًا فحسب، لتجهر بآرائها هي وأفكارها. فحق الصحيفة في الإعراب عن رأيها في الأنباء التي تنشرها أمر طبيعي جدًّا؛ فالنبأ والرأي رفيقان يظهران جنبًا إلى جنب. ذلك أن   1 الدكتور إبراهيم إمام: نفس المرجع ص33، 207، 208. 2 المرجع نفسه ص23. 3 المرجع السابق ص208. 4 الدكتور عبد اللطيف حمزة: مرجع سبق ص185. 5 M. Lyle, Spencer: Editiorial writing, pp,. 157, 159. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 أول سؤال يبدر إلى أذهاننا عندما يأتينا شخص ما بأي معلومات تثير اهتمامنا هو "ما رأيك في هذا الأمر"؟ 1. ولذلك كانت الصحف في أيامها الأولى تنشر الأنباء على حدة والآراء على حدة، فتصدر إحداها في رسائل الأنباء، والأخرى في كراسات. وكان "دانيال ديفو" أول من وحَّدَ هذين التيارين الصحفيين في مطبوع واحد أسماه "ذي ريفيو" أصدره في لندن عام 1704 2. وينسب إلى ديفو أولية كتابة ما كان يُسَمَّى بالخطاب الافتتاحي Letter Introductory, وهو أول مقال حول موضوع سياسي أو اجتماعي هامّ تعليقًا على الحوادث الجارية يكتب بأسلوب شائق جذاب, ويظهر عادة في صدر الصحيفة وكأنه خطاب رقيق لطيف من الكاتب إلى القارئ فسمي بالخطاب الافتتاحي, وكان نواة للمقال الافتتاحي الذي نعرفه في الصحافة الحديثة3. وقد كان المقال الافتتاحي في القرن الماضي يشغل الصفحة الأولى وبعض أجزاء من الصفحات الأخرى4, ولم يتزحزح عن مكانه الممتاز في الصفحة الأولى إلّا في وقت قريب -أي منذ انحازت الصحافة الحديثة في الفترة الأخيرة إلى الخبَر، وقلًَّت عنايتها نوعًا ما بالمقال5, وليس أدلَّ على أهمية المقال الافتتاحي منذ نشأة الصحافة من أن كُتَّاب هذا المقال كانوا ولا يزالون -نوابغ الصحافة في كل أمة من الأمم، في كل فترة من فترات التاريخ6. ففي الصحافة المصرية اشتُهِرَ من كُتَّاب المقال: محمد عبد، أديب إسحاق، وعبد الله نديم، والزعيم مصطفى كامل، وأحمد لطفي السيد، وعبد القادر حمزة، وأمين الرافعي، وإبراهيم المازني، وحسين هيكل، والعقاد، وطه حسين، وغيرهم من أساطين الفكر والأدب والصحافة7. وفي الصحافة الإنجليزية لمعت أسماء كُتَّاب المقال من أمثال ديفو وأديسون وستيل، وجونسون، ووييلكيز وديكنز ولامب وبرنارد شو وغيرهم8. وكذلك كان كُتَّاب المقال من الأمريكيين من ألمع رجال الفكر والسياسة والأدب, ومنهم صمويل آدمز, وجون أدامز, وجوزيف وران, وصمويل كوبر, ورالف أمرسون, ووالتر لبمان, وغيرهم9. وقد كان المقال الافتتاحي ينبض بمهمة القيادة والزعامة, وكان وسيلة التوجيه والإرشاد والتنشئة الاجتماعية، كما كان الوسيلة المؤثِّرة لتكوين الرأي العام. ولا يزال المقال الافتتاحي يقوم بدور رئيسي في الصحافة الرفيعة أو صحافة الرأي.   1، 2، 3 الدكتور إبراهيم إمام: تطور الصحافة الإنجليزية ص296، 103. 4 الدكتور إبراهيم إمام دراسات في الفن الصحفي 209. 5، 6 الدكتور عبد اللطيف حمزة: مرجع سبق ص227. 7، 8، 9 الدكتور إبراهيم إمام, نفس المرجع ص209. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 العام المستنير كصحيفة التيمس الإنجليزية والنيويورك تايمز الأمريكية والموند الفرنسية وغيرها1. بل إن مقالات هذه الصحف قد تتجاوز في أهميتها وتأثيرها حدود البلاد التي تنشر فيها الصحيفة إلى بلاد أخرى2. ويرتبط المقال الافتتاحي -شأنه شأن فنون المقال- عند طه حسين، بقيادة الفكر التي تتنوع في العصر الحديث بين أمور مختلفة3؛ لأن ظروف الحياة نفسها قد وزَّعَتها بين هذه الأمور، فلم تستأثر الفلسفة، ولم يستأثر الشعر، ولم تسأثر السياسة، ولم يستأثر الدين بقيادة الفكر في فصل من فصول هذه القصص التي يكونها العصر الحديث, وإنما اشتركت هذه الأمور كلها في قيادة الفكر4, وأخذ كلٌّ منها بنصيب من توجيه العقل الإنساني والتأثير في الحياة والشعوب: "وآية ذلك أنك تنظر في أيِّ وقت من أوقات هذا العصر الحديث فإذا أنت أمام فلسفة تجاهد لتسيطر على الحياة، وسياسة تجاهد لتصوغ الحياة كما تحب، ودين يناضل ليحتفظ بمكانة سلطانه، وأدب يَجِدُّ ليكون له الفوق والفوز, ولكل واحد من هذه الأشياء زعماؤه وممثلوه والداعون إليه والذائدون عنه. حتى في الأوقات التي يُخَيّل إليك فيها أن أمرًا من الأمور قد ظهر تفوقه واستأثر بالفوز والغلبة, فقد يُخَيِّلُ إليك أن عصر الثورة الفرنسية مثلًا كان عصر سياسة ليس غير، ولكن فكِّر قليلًا وأتقن درس هذا العصر، تجد عصر سياسة وعصر حرب، وعصر علم، وعصر فلسفة، وعصر تشريع، بل عصر دين أيضًا، وتجد كل هذه الأمور تزدحم وتتنافس وتستبق إلى قيادة الفكر تريد أن تستأثر بها وتيسطر عليها"5. ولا شكَّ أن توزع قيادة الفكر، وتنوع الموضوعات يؤدي خدمة جليلة للصحافة الحديثة واسعة الانتشار، والتي يختلف قراؤها اختلافًا كبيرًا في الأذواق والأمزجة، فهناك مقالات حول الرياضة وأخرى حول الفن, بالإضافة إلى السياسة والاقتصاد والشئون العامة6, على أن الصحافة لم تفد فحسب من هذا التوزع في قيادة الفكر, ولكنها كانت سببًا في توزع هذه القيادة، ذلك أن الكاتب أو العالم أو الفيلسوف لم يكن يظفر بانتشار كتبه في العصور الأولى، إلّا إذا ظفر بشيء من الشهرة وبعد الصيت يرغب الناس في آثاره، ولم يكن الظفر بهذه الشهرة سهلًا، ولا يسيرًا7. أما الآن فقد يسَّرت المطبعة على كل ذي رأي أن يذيع رأيه ويناضل عنه، وعلى كل باحث   1، 2 المرجع نفسه ص209. 3 قادة الفكر ص133، 134. 4 قادة الفكر ص133، 134. 5 المرجع نفسه ص134. 6 الدكتور إبراهيم إمام: مرجع سبق ص210. 7 الدكتور طه حسين: نفس المرجع ص135. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 أن ينشر ثمرات بحثه بين الناس. ولم تكد تظهر المطبعة، وتأخذ فيما أخذت فيه من النشر والإذاعة، كما يقول طه حسين، حتى "ظهرت آثار ذلك قوية في حياة العصر الجديد، فكثرت الآراء واختلفت، أو قل: ظهرت كثرة الآراء واختلافها، واستطاعت أن تجاهد وتختصر وتتنافى في قوة وسرعة لم يكن للناس بهما عهد من قبل"1. ذلك أن المطبعة استتبعت شيئًا آخر غير الكتب والرسائل، استتبعت الصحف اليومية والدورية، وقد قوي ظهور "الصحف السياسية والعلمية والأدبية توزع قيادة الفكر، وانتهى به إلى حَدًّ غريب، فقد كان العلماء والكُتَّاب والفلاسفة ينشئون كتبهم وينشرونها، فيستغرق ذلك منهم الأشهر والأعوام، ويستتبع ذلك بطئًا فيما يكون بينهم من النزاع والنضال والاستباق إلى قيادة الفكر. أما بعد أن ظهرت الصحف فالنزاع يومي، أو أسبوعي، أو شهري، هو عنيف, وهو سريع، وهو متصل، وهو مؤثر في توزيع قيادة الفكر بمقدار ما يشتد ويسرع ويستمر"2. وينعكس أثر توزع قيادة الفكر في العصر الحديث، والذي جاء نتيجة للصحافة، كما تَقَدَّمَ، على ما تكتبه الصحف من تحليلٍ للأخبار وما وراءها, وعَمَّا يحمل كل خبر من مغزى، حتى يتمكَّن الأفراد والجماعات من حلِّ المشاكل التي تعرض في الحياة، سواء كانت مشكلات نفسية أم اقتصادية أم سياسية أم اجتماعية3. وفي ذلك ما يؤكد مسئولية كاتب المقال الافتتاحي تجاه الرأي العام، فهو يدرك تمام الإدراك أن صياغته للمقال ليست صياغة أدبية، ولا هي صياغة غير ملتزمة، وإنما هي صياغة ترتبط بسياسة الجريدة من ناحية, واهتمام القراء وميولهم من ناحية أخرى. لهذا نجد أن افتتاحيات الصحف الكبرى تعكس توزيع قيادة الفكر فيما تحتوي عليه من تعليق سياسي، وآخر اقتصادي، وثالث اجتماعي، ولا تهمل التعليق الطريف أو الخفيف الذي يقول بالتسلية والنقد والسخرية في وقت معًا4.   1 نفس المرجع السابق ص135. 2 المرجع نفسه ص136. 3 الدكتور عبد اللطيف حمزة: مرجع سبق ص227. 4 الدكتور إبراهيم إمام: مرجع سبق ص210. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 1- خصائص المقال الرئيسي عند طه حسين : وتأسيسًا على ما تَقَدَّمَ، نحاول أن نتعرَّف على أشكال التعبير في المقال الرئيسي عند طه حسين، فنجد أن هذا المقال الافتتاحي أو الرئيسي في الصحافة المصرية قد مَرَّ بطورين: أولهما: كانت فيه المقالة الرئيسية تحتلّ الصفحة الأولى, وكانت المقالة الرئيسية في هذا الطور طويلة مسرفة في الطول، حتى لقد بلغت في بعض الأحيان نحوًا من أربعة آلاف كلمة1, وكثيرًا ما كانت تذيَّل بتوقيع الكاتب. وثانيهما: أصبحت فيه المقالة الرئيسية تحتلُّ مكانًا آخر غير الصفحة الأولى منذ تركت هذه الصفحة للأخبار الخارجية -كما أصبحت لا تحمل توقيع الكاتب, وامتازت من حيث الطول بالقصر، بحيث لا يمكن أن تتجاوز -بشكلٍ ما- ستمائة وخمسين كلمة على الأكثر2. وقد ارتبط هذا الطور الأخير بالتطور الذي أصابته الصحافة بعد الحرب العالمية الأولى وما تلاها من أحداث قلبت الحياة المصرية رأسًا على عقب, حتى عودة الحياة الدستورية للبلاد بتصريح فبراير 1922, ثم ظهور الأحزاب المصرية المختلفة. فإذا قلنا أن صحيفة "السياسة" كانت أول صحيفة تظهر في هذا الطور على صورة من النضج الصحفي لم تعهد من قبل، وكان لها أثرها من بعد، فلعلنا نستطيع أن نقول: إنها من أوائل الصحف التي عرفت "المقال الافتتاحي" بصورته الحديثة، على يد "هيكل" في "حديث اليوم", والذي كان يكتبه بدون توقيع3, والمقال الرئيسي الموقَّع الذي كان يكتبه طه حسين إلى جانب هذا المقال الافتتاحي، الأمر الذي يجعلنا نؤثِرُ تسمية "المقال الرئيسي" عند دراسة فن المقال الصحفي في أدب طه حسين، لأنه مقال موقَّع في معظم الأحيان, في حين أن المقال الافتتاحي الذي عرفناه عند هيكل توفَّر لديه عنصر عدم التوقيع، وحينما تولى د. طه حسين رئاسة تحرير "كوكب الشرق", وأخذ في كتابة مقالها الافتتاحي الرئيسي، جعل عنوانه "حديث المساء"، ولكنه مضى يوقِّع على مقالاته، الأمر الذي يجعلنا نذهب إلى أن نموذج المقال الافتتاحي كان موجودًا بالقياس إلى هيكل وطه حسين، حين اختار الأول "حديث اليوم" لمقاله في "السياسة", وحين اختار الثاني "حديث المساء" لمقاله في "كوكب الشرق". على أننا نلاحظ إيثار طه حسين لكلمة "الحديث" في اختيار عنوان مقاله الثابت، فوجدناه يختار "حديث الأربعاء" لعموده الثقافي، وحين ينتقل إلى "كوكب الشرق" يجد فيها المقال الافتتاحي معنونًا بـ"مسألة اليوم"4 الذي يكتب فيه بضعة مقالات, إلى أن تظهر الصحيفة في ثوبها الجديد بعد   1، 2 الدكتور حمزة: مرجع سبق 230, ومن ذلك مقال للسيد علي يوسف بعنوان: "حفلة الوداع" وخطبة اللورد كرومر, المؤيد في 7 مايو 1907. 3 عبد العزيز شرف: مرجع سبق ص246. 4 كوكب الشرق في 8 مارس 1933. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 اشتراكه في تحريرها1. فيكتب بعنوان ثابت هو "حديث المساء"2، وهو العنوان الذي يشير مع غيره، إلى صفة كاتبه الذي يمتاز "بالإيناس في إجراء الحديث". ويحتلُّ عمودين من الصفحة السادسة في معظم "الأحوال", بعد أن جعل من صفحة الافتتاحيات في الصحيفة نموذجًا واقعيًّا لصحافته، يظهر فيه أثر النموذج الأوربي الذي يضمُّ إلى جانب المقال الرئيسي في هذه الصفحة عدة أعمدة تتألف من تعليقات سياسية واقتصادية واجتماعية، إلى جانب تعليق خفيف يشترك في تحريرها مع صفوة من كُتَّاب صحيفته. ومن ذلك يبين أن مقال طه حسين في صفحة الافتتاحيات، الذي كان يحتل يمينها بصفة مستمرة، يتسم بسمات خاصة يُعْرَف بها، فهو ينشر تحت عنوان ثابت، وفي مكان ثابت، ولكنه ليس غفلًا من التوقيع، على أن هذا الأمر الأخير، وإن كان يخرجه من دائرة المقال الافتتاحي إلّا أنه يسمه بسمات "المقال الرئيسي" لتكون التسمية أدق. وهو مع ذلك يتميز بخصائص فنية يتميز بها هذا المقال في الصحافة المعاصرة، كما يتميز بها الكاتب نفسه، فهذا المقال الرئيسي الموقَّع -عند طه حسين- يحمل قيمة مزدوجة من حيث الرأي, فهو يطرح رأي كاتبه المؤثر، ومن ناحية ثانية، يطرح رأيًا تسمح به سياسة الصحيفة, بل قد يختلف معها. وفي تاريخ صحافتنا المصرية أمثلة كثيرة لهذا المقال عند طه حسين, فيما كان ينشره الكُتَّاب من المدرسة الحديثة، مثل: العقاد وهيكل وعزمي وعبد القادر حمزة وغيرهم. "وكان المقال الرئيسي يبيع الصحيفة ويسبب رواجها"3. فهذا المقال الرئيسي عند طه حسين شأنه عند كُتَّاب المدرسة الحديثة يتميِّز بمقدرة الكاتب على تقصي مجريات الأحداث، وبكونه ثقة أو مرجعًا رفيع المستوى في الميدان الذي يكتب فيه، وتميزه بالخبرة الصحفية التي تبدأ من مرحلة التكوين في مدرسة الجريدة, إلى ما يتمتع به الكاتب من بلاغة في الأسلوب الصحفي، أسلوب الاتصال بالجماهير. وهي أمور تمكِّنُ طه حسين من تميز مقاله الصحفي بين مقالات كُتَّاب المدرسة الصحفية الحديثة، على أن هذه الأمور لا تتعارض مع خصيصة الثبات على سياسة واحدة, ونعني سياسة الصحيفة، التي "لا يصح أن تكون مذبذبة بين سياسات كثيرة"4، ذلك   1 كوكب الشرف في مارس 1933. 2 نشر "حديث المساء" لأول مرة في "كوكب الشرق" في العدد 2341، "22 مارس 1933". 3 جلال الدين الحمامصي مرجع سبق ص219. 4 الدكتور عبد اللطيف حمزة: نفس المرجع ص220. M. Lyle Spencer; op. cit., pp. 157-159. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 أن طه حسين لم يكتب في صحيفة من الصحف الحزبية إلّا وهو على درجة من الوفاق مع سياستها وسياسة حزبها، كما وجدنا في مقالاته في صحيفة "السياسة" اليومية، حين كان على وفاق مع "الأحرار الدستوريين", وكما وجدنا في مقالاته في صحيفة "كوكب الشرق" حين كان على وفاق مع "حزب الوفد"، وهي علاقة مبادئ وآراء وعقائد ومواقف يؤيدها الحزب وتدافع عنها الصحيفة. ولعل وضوح الرؤيا لمفهوم المقال الرئيسي من ناحية الحذر والاحتياط في إبداء الرأي هو الذي حدا بطه حسين إلى أن يُذَيِّلَ المقال بتوقيعه لتحديد الحدِّ الفاصل بين رأيه ورأي الحزب حين يصطدم الرأيان، لكيلا يعرِّض صحيفته للخطر، وهو بذلك يحسم المسألة التي تثار دائمًا حول "ضمير الكاتب" من خلال التوفيق بين الدوائر الثلاث التي تحكم المقال الرئيسي, ونعني: سياسة الجريدة، وصياغة المقال، واهتمام القراء. ومن أجل ذلك وجدناه يفكِّر عندما يكتب المقال مرتين، الأولى بوصفه كاتب المقال الرئيسي, والأخرى بوصف أنه يعبِّر عن رأي الصحيفة التي يكتب لها وباسمها هذه المادة، ويقول الدكتور طه حسين1 في توضيح ذلك: "كان هيكل لي رئيسًا, أو كان لي زميلًا, فلم يعرف قط للرياسة معنى, وإنما كان صديقًا للذين يعملون معه سواء أكان رئيسًا أم مرءوسًا, كنا نلتقي مساء كل يوم, فنتحدث ويجادل بعضنا بعضًا في تحرير صحيفة الغد, ثم نقتسم ما يكتب في هذه الصحيفة من الفصول, ويخلو كلٌّ منا إلى فصله، حتى إذا أتمه التقينا؛ فقرئ ما كتبه كل واحد منا وأقررناه جميعًا, وربما أصلحنا في هذا الفصل أو ذاك, ثم تصدر جريدة السياسة بعد غد. يرأس تحريرها "هيكل", ويشترك في تحريرها مع أصدقائه وزملائه"2. وأغلب الظنّ أنه كان يفعل ذلك في "كوكب الشرق" من خلال صلته بزعماء حزب الوفد، كما سبق القول في ذلك، وهو الأمر الذي يتيح لمقاله الرئيسي أن يوفِّق بين الدوائر الثلاث المشار إليها. أما الخصيصة الثالثة التي يشترط توافرها في المقال الرئيسي وهي: خصيصة التبسط في الحديث, والإيناس في السرد3, فهي من لوازم كتابات طه حسين، كما سبق أن تعرَّفْنَا عليها في أسلوبه الصحفي، فهو لا يستعلي على قرائه، وإنما يرتبط القارئ بمقال طه حسين بإحساس الألفة والصداقة, ولذلك يعتمد طه حسين في مقاله على الملاحظة، وضمير المخاطب، ويشعر القارئ   1، 2 من كلمته بكتاب "الدكتور محمد حسين هيكل" ص8. 3 الدكتور عبد اللطيف حمزة: نفس المرجع ص185. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 بأنه صديقه الذي يحدِّثُه حديثًا يهم القارئ والكاتب بدرجة متساوية، كما يشعر القارئ بأنه "يستمع إلى بعض إخوانه يدور معه, ويدخل معه في شجون من الحديث لا يحب أن يصل إلى نهايتها", ونجد في هذا الصدد تطبيق طه حسين للروح الديمقراطية التي يؤمن بها فيما يكتب؛ لأنه يجعل من المقال الصحفي محاولة هادئة لجذب القراء إلى صحيفته، سواء كانت صحيفة حزب أقلية مثل "السياسة", أو صحيفة حزب الأغلبية مثل "كوكب الشرق", فهو يشعر قراءه بأنهم شركاء في حلِّ المشكلات العامة، وفي ذلك ما يفسِّر اعتماده على ضمير المخاطب في معظم مقالاته، فهو مثلًا يقول: "إذا رأيت في النظام السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي شرًّا واقتنعت بأن إزالته واجبة، وبأن إقرار الخير مكانه أمر محتوم، كان من حقك أن تدعو لي ما ترى، وكان من الواجب عليك أن تلحَّ في الدعوة لما ترى، وكنت آثمًا في حق نفسك إن كتمت رأيك وأخفيته على الناس، وكنت آثمًا في حق الناس إن لم تدلهم على مواطن الشرِّ في حياتهم، ولم ترشدهم إلى ما فيه المنفعة والخير. "هذه أوليات يخيّل إلى مَنْ يقولها أنه لا يقول شيئًا جديدًا، ويُخَيَّلُ إلى من يسمعها أنه لا يسمع شيئًا طريفًا؛ لأن ترديدها قد كثر بين الناس في جميع العصور، وفي جميع البيئات, حتى سئمها القائلون والسامعون، ولكنها على ذلك ما زالت غامضة, ولا زال غموضها مصدر الشر الكثير في حياة الأمم والشعوب، ولعل غموضها مصدر ما نحن فيه الآن من فساد واضطراب. فقد نخطئ في الخلط بين الحق والواجب، وقد نغول في تقدير هذا الحق وهذا الواجب، وقد يضطرنا هذا الخطأ وهذا الإسراف إلى أن نريد الإصلاح فنسيء، ونقصد إلى الهداية فنضلَّ، ونتعمَّد الإرشاد فنتورط في الاعتداء، نقتنع بالرأي فيغرنا هذا الاقتناع، ويخيل إلينا أننا نحن وحدنا المصيبون، وأن غيرنا جميعًا مخطئون, ثم لا نلبث أن يملكنا هذا الغرور ويدفعنا إلى إهدار الحرية, وإذا نحن نحاول أن نفرض آراءنا على الناس فرضًا، وأن نكرههم على ما نحب لهم من الخير إكراهًا, وإذا نحن نزعم لأنفسنا العصمة ونبرئها من الخطأ، ونقدِّس آراءنا تقديسًا, ونتخذ الذين لا يشاركوننا فيها ولا يظاهروننا عليها أعداء, ونسير فيهم سيرة الأعداء. "ولعلك حين تريد أن تفهم الأزمة التي اضطرنا إليها رئيس الوزراء والذين يؤيديونه, لم تجد لها تفسيرًا غير هذا الغرور الذي يتورَّط فيه أصحاب الآراء في السياسة والاقتصاد والاجتماع. ظن رئيس الوزراء وأصحابه أن نظامنا السياسي القديم شرّ؛ لأنه لم يكن يلائم آمالهم وأطماعهم ومثلهم العليا   1 المرجع السابق ص185. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 في الحكم وتصريف الأمر. ورأوا أن في هذا النظام أصولًا يجب أن تزول، وأن تَقَرَّ مكانها أصول أخرى، رأوا أن الانتخاب العام المباشر لا يوصلهم إلى الحكم، ولا يضمن لهم كثرة الشعب، ورأوا أن سلطة البرلمان إذا اتسعت وبعدت حدودها لا تمكنهم من البقاء في الحكم إن أوصلتهم إليه المصادفات, ورفعتهم إليه الظروف، فأرادوا تخصيص الانتخاب وتضييقه, وأرادوا تقييد سلطان البرلمان والقصِّ من جناحه, وحاولوا أن يدعوا إلى ذلك فلم يفلحوا، وألَحُّوا في المحاولة فلم يستجب لهم أحد، ولم يؤمن لهم إنسان"1 إلخ. وهكذا يتدرَّج مع القارئ في حديث ممتع موجَّه إليه، مع إيناس في السرد، مما يشعر قارئه بأنه إنما يستمع إلى صديق يحدثه, لا إلى كاتب يعيش في برجه العاجيّ يلقي الكلمات إليه في استعلاء. وهذه الخصيصة في مقال طه حسين هي التي تُيَسِّرُ لمقاله الرئيسي أداء مهمة من أخصِّ المهام في هذه المادة الصحفية، ونعني: الإقناع عن طريق الشواهد والأمثلة المشتقة من الأحداث الجارية. وعند طه حسين نجد أن هذه الشواهد تتسع لتشمل الأحداث التي جرت في الماضي, والتجارب الإنسانية التي اختزنها في ذاكرته، إما بطريق الممارسة وإما بطريق الاطلاع. وقد وسمت هذه الوظيفة الإقناعية مقال طه حسين الصحفي، بحيث تثبت له تقوفًا في تحرير هذا المقال؛ لأنها تظهر ثقافته واطلاعه ووقوفه على التاريخ العام والتاريخ الخاص. ومن ذلك ما كتبه في المقال المتقدِّم، يستشهد به على حق الناس في مقاومة الاستبداد الذي يحكم به صدقي مصر، فيقول: "وربما كانت هذه الأيام التي تبتدئ العام الهجري الجديد، وتذكِّر المسلمين بتاريخهم حافلةً بالعبَر والعظات لمن أنساهم الغرور، فوجب عليهم أن يتذكَّروا. فإن الداعي إلى الإسلام، والمؤسس لهذه الدولة الإسلامية، لم يُهِنْ أحدًا، ولم يفرض على الناس دينه فرضًا، ولم يأخذهم بهذا الدين كرهًا، وإنما دعا الناس إليهم رفيقًا بهم، محبًّا لهم، شفيقًا عليهم, ولقي منهم في سبيل هذا الرفق عنتًا، وفي سبيل هذا الحب بغضًا، وفي سبيل الإشفاق قسوة وعنتًا، وما زال يدعوهم إلى سبيل رقة بالحكمة والموعظة الحسنة، ويجادلهم بالتي هي أحسن، فيستجيب له خيارهم, ويلقاه شرارهم بالبغي والعدوان، حتى ظهرت كلمة الله, وانتشر نوره وعَزَّ دينه، فآمن له الثائرون به، والمتنكرون له"2. ثم يخلص من ذلك المثل الذي يستشهد به في مناسبته إلى قوله:   1 كوكب الشرق في 28 أبريل 1933. 2 المرجع نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 "سيستقيل صدقي باشا أو سيقال، فينحلّ منْ حوله كل شيء، ويتفرَّق من حوله كل إنسان، وتعود الأمور بعده كما كانت قبله. أما المصلحون حقًّا فقد اعتزلوا الحكم، بل فارقوا الحياة وبقي إصلاحهم! وقوي بعدهم، واتسع سلطانهم؛ لأنهم لم يسلكوا إلى إصلاحهم هذه الطريق التي سلكها رئيس الوزراء, ولم يؤثروا أنفسهم بهذا الخير الذي آثر به رئيس الوزراء نفسه1".. إلى أن يقول في نهاية المقال: "أفيؤثر الله الرحمة واللين، والدعوة إلى الخير بالتي هي أحسن, ويأبى الناس إلّا أن يكرهوا الأمم والشعوب على ما لا تريد؟ "2. ويستشهد طه حسين بحوادث التاريخ الإسلامي في مقاله الصحفي على هذا النحو، فهو يتمثَّل الحديث التاريخي المشابه للحدث الجاري, ويقرن بينهما لتحقيق الإقناع المنشود، كما في مقاله عن "وداع"3، المديرين الراحلين، حين يذهب إلى أن أمرهم "لا يعدو قصة زيارة كل إقليم يودِّع مديره مستريحًا لهذا الوداع, ويستقبل مديره الجديد خائفًا من هذا الاستقبال"4. ومن ذلك يبين أنه يستشهد بالحدث التاريخي في مجال تناول الحدث الواقعي الذي يُسْتَشْهَدُ به في المقال، وهو هذا الإجراء الذي اتخذته حكومة صدقي بالنسبة لمديري الأقاليم، ونقلهم من أقاليمهم. أما الحدث التاريخي فهو واقعة زياد "لما ضبط العراق لمعاوية، وأقرَّ فيه النظام الجديد بالقهر والعنف، كتب إلى الخليفة يسأله أن يضمَّ إليه ولاية الحجاز، وهَمَّ الخليفة أن يفعل، وجزع أهل الحجاز حين انتهى إليهم هذا النبأ، فلجأوا إلى عبد الله بن عمر بن الخطاب -رضي الله عنهما، يسألونه أن يدعو على زياد فلم يدع عبد الله على أحد، ولكن استقبل القبلة فيما يُقَال، وسأل الله العافية، والسلامة والمغفرة للمسلمين, وكفى الله أهل الحجاز زيادًا, وأراح الله أهل العراق من زياد، لأنه نقل زيادًا إلى دارٍ أخرى، لا ولاية فيها إلّا الله، ولا سلطان فيها إلّا لله، وليس فيها خوف من والٍ، ولا إشفاق من أمير"5. وبعد أن يقرِنَ بين الحدثين، يؤكِّدُ للقراء أنه "بعيد كلَّ البعد عن أن يفكِّرَ في أنَّ بين ولاتنا في الأقاليم هؤلاء الذين نسميهم المديرين، وبين زياد شبهًا ما..! فقد كانت في زياد خصال من الشرِّ لم يبلغوها مع الشرور ... ! "6. وهكذا نجد في مقال طه حسين الاستشهاد بأحداث الماضي البعيد والقريب, وربطها بأحداث الحاضر لتأكيد فكرة يريدها من وراء مقاله، ومن ذلك في   1، 2 المرجع نفسه. 3، 4 كوكب الشرق في أول أبريل 1933. 5، 6 المرجع نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 مقال بعنوان: "نظام"1. قوله: "كره الحكماء في كل وقت، وفي كل مكان، وفي كل جيل, الغلوَّ والإسراف، وأحبوا دائمًا أن يكون القصد والاعتدال قوام ما يأتي الناس من عمل, وما ينهجون من نهج في الحياة, ويُخَيَّلُ إلينا أنَّ علماء الدين هم أحق الناس برعاية القصد, والحرص على الاعتدال, وهم أحق الناس بتجنُّب الإفراط، وتجنُّبِ التفريط معًا. فإذا كان الإسراف عيبًا فالتقصير عيب آخر, وعلماء الدين أجدر الناس أن يتجنبوا كل عيب, وأن يتجنبوا بنوعٍ خاصٍّ عيب الإفراط وعيب التفريط؛ لأنهما مصدر كثير من الرذائل, وسبيل كثير من الآثام. وقد قصَّر علماء الدين في ذات الدين تقصيرًا شديدًا أخذهم به الناس، ولاموهم عليه, فوقفوا صامتين جامدين من أمور ما كان ينبغي لهم منها الصمت ولا الجمود, وتركوا غيرهم من الذين لم يتخذوا حماية الدين صناعة, ولا الذَّوْدَ عن الدين مهنة، ولم يتقاضَوْا على ذلك من الدولة أجرًا, ولم ينالوا في ذلك من الدولة والناس ضروب التشريف والتعظيم، تركوا غيرهم من هؤلاء الناس يعملون ويقولون ويدفعون ويذودون، ومهما يَقُلْ القائلون, فإن بلاء غير الأزهريين في حماية الدين والذود عنه أعظم ألف مرة ومرة في هذه الأعوام الأخيرة من بلاء الأزهريين2. ثم يستشهد من الحياة الواقعة بموقف الأزهريين من التبشير: "فقد صمت شيوخ الأزهر فأطالوا الصمت, وهدأ شيوخ الأزهر فأطالوا الهدوء، واضطربت نفوس المسلمين والمصريين من حولهم أشد اضطراب ونفوسهم هادئة"3 و"ألحَّ الناس في كل الصحف المصرية الإسلامية على الشيوخ في أن يغضبوا للإسلام, ويظهروا شيئًا من الاستعداد للذود عنه والقيام عليه، وظل الشيوخ هادئين حتى نهض غيرهم فعمل. ثم أذن الله للشيوخ فاجتمعوا وقرروا، ثم قالوا ومضوا يقولون، وعملوا ومضوا يعملون، ولم نتردَّدْ نحن حين أخذ الشيوخ في القول والعمل في أن نعرف لهم ذلك، ونثني عليه, ونشجيعهم على المضي فيه, وندعو الناس إلى أن يثقوا بهم ويطمئنوا إليهم، ويغتبطوا بأنهم قد أخذوا يقومون بما هيئوا للقيام به"4 إلخ. على أنَّ طه حسين في سبيل أداء مهمة الإقناع في مقاله، لا يتوسَّل بربط أحداث الماضي بالحاضر فحسب، ولكنه يشتق أمثلة مقاله في معظمها من الأحداث الجارية في الحاضر، ولهذه الشواهد حيِّزٌ كبير في ماله، وكثيرًا ما يكون هذا المقال بمثابة تعليق على الأخبار والأحداث الجارية، مع الاستشهاد التقارير الإخبارية، وهو لذلك يكشف عن إلمام كاتبه بالموضوع الذي يكتب   1، 2 كوكب الشرف في 27 يوليو 1933. 3 كوكب الشرق في 27 يوليو 1933. 4 المرجع نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 فيه، والذي يبين من اطلاعه على ما يكتب في الكتب والصحف المصرية والأجنبية، ليقف على أفكار هذه الصحف والدوريات، شأنه في تحرير المقال الرئيسي شأنه في تحرير المقال النقدي والتنويري والثقافي، حين يقف على أحدث الآراء في النقد، أو أحدث الكتب في المادَّة التي هي موضوع نقده أو تنويره. ومن ذلك في مقال طه حسين أنه لا يتناول موضوعات مجردة، ولكنه يشتق هذه الموضوعات من الواقع الأمر الذي يجعل شواهده المؤيدة لفكرته مستمَدَّة من هذا الواقع أساسًا, فهو حين يكتب عن "الرشوة"1 في "حديث المساء"، لا يتناولها كفكرة مجردة، وإنما يتناولها في إطار جدتها الزمنية، وما تمليه الأحداث والشواهد في الحياة الواقعة، فهو يقول: "لا تغضب الوزراة، ولا يغضب الوزراء، ولا تغضب النيابة, ولا يغضب البرلمان، فلسنا نحن الذين يذكرون الرشون ويفصِّلون أمرها تفصيلًا، ولسنا نحن الذين يسيئون إلى سمعة مصر، ويغضُّون من قدرها, ويصورنها للناس في هذه الصورة المنكرة التي تمثِّلُ حكومتها قائمة على الرشوة، تشتري ضمائر الناس؛ فيبيعها الناس ضمائرهم بالمال! "لسنا نحن الذين يقولون شيئًا من هذا، ويأتون شيئًا من هذا, بل نحن نكتب لنصف ما نجد من الألم اللاذع والحزن الممض، حين يقال عن مصر مثل هذا الكلام، وحين تصور مصر للناس في مثل هذه الصورة"2. ثم ينتقل بعد هذا "التقديم" المثير لاهتمام القارئ إلى سرد "الشواهد" التي يتخذ منها موضوع مقاله، فيقول: "صحيفة إنجليزية من الصحف الكبرى، قد عُرِفَت بحبها للوزراة القائمة، وإيثارها إياها، لا نقول بالمودة والعطف، بل نقول بالغلوِّ في النصر والتأييد، لا تتحرَّج من أن تعلن أن رئيس الوزراء أحسَّ ضعف وزارته قبل مرضه, ثم أحسَّ تهالكها في هذا الضعف بعد أن أتاح الله له شيئًا من الشفاء، فأراد أن تسترد وزارته شيئًا من القوة، فاصطنع في سبيل ذلك الرشوة, وتوسَّل إلى ذلك بشراء الضمائر! يشتريها من الموظفين بالعلاوات والترقيات! ويشتريها من الزراع بهذه الأموال التي زعم أنه ينفقها لتخفيف ثقل الأزمة على الفلاحين"3. ويستشهد في هذا المقال بأقوال صحيفتين أجنبيتين هما "الديلي تلغراف"4 و"التيمس"5 في تأييد الظاهرة التي يناقشها مقاله   1 كوكب الشرق في 21 مايو 1933. 2 كوكب الشرق في 21 مايو 1933. 3، 4، 5 المرجع نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 والتي تذهب إلى أن "أمر الحكم في مصر قائم على الرشوة وبيع الضمائر! "1, وعلى هذا الاستشهاد الوظيفي يقوم المقال الصحفي عند طه حسين في تأكيد فكرته من وراء المقال. على أن هذه الخصيصة الإقناعية وما تقتضيه من شواهد وأمثلة مشتقة من الأحداث الجارية في الحاضر، ترتبط بخصيصة خامسة تجعل من مقال طه حسين مقالًا صحفيًّا من الطراز الأول، ونعني خصيصة الجدَّة الزمنية، أو مسايرة المقال للأحداث الجارية. ذلك أن المقال الرئيسي في صحافة طه حسين يعالج موضوعات الساعة و"مسألة اليوم" مهتمًّا بالأفكار التي تشغل أذهان الناس وقت ظهور الصحيفة، كما يبين من العنوان الثابت لمقاله الرئيسي: "حديث المساء". ذلك أن هذه الخصيصة ترتبط بانتظار القراء لرأي الصحيفة في كل حادث يعرض لهم، أو فكرة تُولَد بينهم، أو وضع من الأوضاع السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية يُرَادُ نقله إليهم. وقد تعرَّفْنَا عند دراسة مضمون المقال الصحفي في أدب طه حسين على مواكبته للأحداث السياسية والاجتماعية والثقافية، بما في ذلك شئون حزبه وعلاقته بالأحزاب الأخرى، ولذلك نجد في مقاله الصحفي كثرة "المقدِّمَات الخبرية" والشواهد المشتقة من سياق الأحداث، الأمر الذي يشير إلى عنصر "الجدَّة الزمنية" إشارةً صريحة، فلم يَعُدْ المقال -كما كان في بيئة التكوين- يتناول فكرة مجرَّدة، ولكنه يتناول الحدث الواقعي الذي تبرزه الحياة في صورة خبرية، ليدلي برأيه القائم أساسًا على هذه الشواهد العملية في الحياة الواقعة. فحين يكتب عن العمال ومشكلاتهم، يتَّخِذُ من "أضرابهم" مناسبة لإثارة هذه المشكلات واقتراح ما يتصوَّره لعلاجها، فيكتب في "حديث المساء" بعنوان: "حصار"2، مقدمًا له بهذه المقدمة الخبرية: "ما زال الخلاف متصلًا بين العمال وشركة السيارات، وما زالت مصالح الناس معطَّلة في غير عذر واضح ولا سبب مفهوم.. إلخ"3, ثم يدلف من هذه المقدمة إلى مناقشة المشكلة من جذورها، فهي ليست في مقاله منعزلة عن أحداث الحياة الواقعة، ولذلك يتَّخِذُ عنوان المقال عند طه حسين ألفاظًا زمنية توحي إلى هذه الخصيصة, ومن ذلك مقال بعنوان: " ... والآن"4, يقول فيه:   1 المرجع نفسه. 2، 3 كوكب الشرق في 17 يونيو 1933. 4 كوكب الشرق في 17 أبريل 1934. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 ".. نعم والآن نحب أن نعرف أين يكون الرضى وأين يكون السخط؟ ونحب أن نعرف أين يكون الأمل وأين يكون اليأس؟ ونحب أن نعرف آخر الأمر لمن تحكم مصر الآن؟ "فأما أين يكون الرضى عن الحياة المصرية الآن، فسؤال تستطيع أن تلقيه متى شئت؟ وحيث شئت؟ وعلى من شئت, وأنت واثق كل الثقة بأنك ستظفر بجواب سلبي واحد مهما تكن الظروف، ومهما تكن البيئات, ومهما يكن المسئولون، وهو أن هذا الرضى الذي تبحث عنه ليس في قلوب المصريين، ولا يمكن أن يكون في قلوب المصريين على اختلاف طبقاتهم وتباين منازلهم، وتفاوت حظوظهم من الثقافة والتعليم. لا نستثني من ذلك إلا الوزراء، وأشباه الوزراء، وأنصار الوزراء, وهم جماعة تستطيع أن تحصيهم, وأن تحقق في إحصائهم، حتى إذا فرغت من التحقيق والإحصاء الدقيق تستطيع أن تضيف إليهم مثلهم أو مثليهم هبة منك وتبرعًا، وأنت بعد هذا كله لن تبلغ الألف، ولن تتجاوز بهم المئات. وهؤلاء قد يخبرونك بأنهم راضون، وقد يقسمون لك جهد آبائهم أنهم راضون، ولكنك مع هذا تستطيع أن تشك وتستطيع أن ترتاب، بل تستطيع أن توقن أنهم ساخطون؛ ساخطون على خصومهم الذين ينكرون الحياة المصرية الحاضرة, ساخطون على مخالفيهم الذين لا يطمئنون إلى أساليب الحكم في هذه الأيام, ساخطون على أقلِّ تقدير على الشعب المصري, إذا لم يكونوا ساخطين على فنون الحكم في مصر"1. وتبين هذه الخصيصة كذلك من مقال بعنوان: "غدًا.."2، حيث تشير الألفاظ الزمنية في لغة طه حسين، إلى تمثُّل عنصر الجدَّة الزمنية تمثلًا مستمرًّا في مقاله، فهو لا يستخدم هذه الألفاظ في عنوان المقال فحسب، ولكنه يستخدمها كذلك في صلب المقال، مثل قوله: "إنما هم الوزراء ورئيسهم الذي سافر أمس ليستشفي ويستريح"3, وقوله: "وقد برئ رئيس الوزراء بعض الشيء من مرضه، وما زالت التيمس تقول: إن وزارته الآن لا رأس لها! "4, وقوله في مقال بعنوان: "عاصفة"5 يتناول فيه "موقف القضاة المصريين في المحاكم المختلطة من زملائهم الأجانب, وموقف هؤلاء الزملاء منهم"6: "ليست هذه - أي العاصفة- التي ثارت عنيفة يوم الأحد، فأفسدت الجوَّ، وجعلت التنفس فيه شاقًّا عسيرًا, فإن ثورة الريح مهما يبلغ بها العنف   1 المرجع نفسه. 2 كوكب الشرق في 7 أكتوبر 1933. 3، 4 كوكب الشرق في 17 مايو 1973. 5، 6 كوكب الشرق في 4 أبريل 1934. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 تنتهي إلى الهدوء، كما أن الجوَّ مهما يبلغ من الفساد ينتهي إلى الصلاح"1. وهذه العاصفة قد أثيرت "منذ حين"2. وقوله في النزال ضد الوزراة النسيمية: "نحن مضطرون إلى أن نقدِّرَ كلام "الليبرتية" قدرًا خاصًّا هذه الأيام؛ لأنا نعلم أن الليبرتية لا تنطق عن الهوى منذ تألَّفت الوزراة الجديدة. نعلم ذلك ولا نشك فيه, وكل شيء يدل على أننا غير مخطئين, ففي يوم الخميس الماضي نشرت الليبرتية مقالًا افتتاحيًّا بقلم كاسترو, أنبأتنا فيه بما يُنْتَظَرُ من الوزارة الجديدة, فلما كان الغد نشرت الليبرتية حديثًا مع رئيس الوزراء مطابقًا كل المطابقة لما كان يُنْتَظَرُ من الوزارة الجديدة. فلما كان بعد غدٍ وهو يوم السبت الماضي, طلب إلى الليبرتية لأمرٍ ما تصحيح شيء من حديثها مع رئيس الوزراء لم يكن يحتمل خطًأ ولا يحتاج إلى تصحيح"3, ويقول بعد ذلك في نفس المقال: "وقد نشرنا أمس مقالًا لليبرتية قلنا أنه عظيم الشأن. وبين يدينا اليوم مقال آخر لليبرتية ليس أقل خطرًا مما نشرناه أمس. والمقالان متصلان اتصالًا قويًّا ظاهرًا, فلنحاول فهمهما وتفسيرهما, فقد ينتج لنا ذلك ما طلبناه وألححنا فيه من برنامج الوزارة4" إلخ. ومن ذلك يبين أن خصيصة الجدَّة الزمنية في مقال طه حسين تجعله مسايرًا للأحداث الجارية، مرتبطًا بها، غير منعزل عنها، وهي لذلك ترتبط بخصيصة الإقناع عن طريق الشواهد والأمثلة المشتقة من الأحداث الجارية في الحاضر. أما الخصيصة السادسة في مقال طه حسين، فهي لا تنفصل عن الخصائص الأخرى في المقال الرئيسي، ونعني: خصيصة التوجيه والإرشاد, وهي خصيصة تختفي دائمًا وراء أسلوب طه حسين التصويري الاستقرائي, ذلك أن هذه الخصيصة تتميَّزُ عند طه حسين باتجاهه القويِّ نحو القارئ كما تَقَدَّمَ، وهو الاتجاه الذي يتميَّزُ بالإيناس والصلة المتبادلة بين الكاتب والقارئ، ذلك أن القرَّاء -كما يقول طه حسين- هم "كل شيء"5, وأن "الكُتَّاب دائبوا التفكير في قرَّائهم إذا قرأوا, وإذا فكَّروا حاولوا الإجادة، وإذا وُفِّقُوا أو لم يُوَفَّقُوا إليها"6. وكنتيجة لهذه الصلة القوية بين طه حسين وقرائه، وجدنا خصيصة التوجيه والإرشاد في مقاله الصحفي تختفي وراء أسلوبه الذي يسعى إلى رفع العامَّة إلى مستواه, في الوقت الذي لا يتعالى فيه على قرَّائه، وتلك مهارة "صحفية   1 كوكب الشرف في 4 أبريل 1934. 2 المرجع نفسه. 3، 4 السياسة في 8 ديسمبر 1922. 5، 6 مجلة الهلال في يوليو 1934. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 لا تستعصي على كثيرين من الكُتَّاب -متى قصدوا إليها- وكانت سياسة صحفهم ترمي إليها". وفي مقال طه حسين، نجد القصد واضحًا في مهارته الصحفية التي تصل قراءه به، وتبين خصيصة التوجيه والإرشاد في مقاله من قوله: "ليس من الأشياء التي تُحَبُّ أو يُشْتَدُّ إليها الميل، أن تلقى دروسًا في الأخلاق على قوم يجب أن يكونوا قدوة في حسن الأخلاق، بل ليس من الأشياء التي تُحْتَمَلُ، أو تبتغي أن تلفت الوزراء السابقين واللاحقين إلى هذه الواجبات اليسيرة التي تفرضها الأخلاق. "وحسب الكتاب أن يلفتوا الوزراء والمشتغلين بالحياة العامَّة إلى الواجبات السياسية التي تفرضها المصلحة العامة وتحتِّمُها الأخلاق في خدمة الشعوب. والأمر يزداد مشقَّةً وعسرًا حين يتصل العهد بالسابقين واللاحقين من وزراء هذا العهد السعيد، فهم معصومون من الخطأ، مبرؤون من العيب، منزَّهُون عن هذه الخصال التي يمكن أن تشين مثلك ومثلي من عامة الناس"1. ويخلص من سخريته بالوزارة القائمة إلى تأكيد خصيصة التوجيه التي لا يقبلها خصوم طه حسين. يقول: "وإذا كانت هذه حالهم فنحن جماعة الكُتَّاب نَتَجَنَّى عليهم, ونتجاوز الحدود في أمرهم حين نزعم أنهم قصَّروا في السياسة, أو أخطأوا في سبيل المنفعة العامَّة، أو أهملوا حقًّا من حقوق الناس وهُمْ كرام إلى أقصى حدود الكرم، حلماء إلى أبعد آماد الحلم، يقبلون منا التجني, ويعفون لنا عن النقد, ولا يخاصموننا في ذلك إلّا قليلًا، وقد يقرينا كرمهم فنغلو في النقد، ويطمعنا حلمهم فنغرق في التجني، وهم مع ذلك لا يغضبون ولا يعبسون، وإنما يمضون في العفو ويلحُّون في العطف، ويريحون النيابة من التحقيق، ويريحون المحاكم من القضاء، ويريحون الشرطة من أخذ الناس، ويريحون الناس من عنف الشرطة، ويعصمون أجسامهم من وقع السياط. فكيف بنا إذا تجاوزنا السياسة وشئونها, ونقدنا الوزراء السابقين واللاحقين فيما يتصل بأعمالهم وأقوالهم مما يتَّصل بالأخلاق. ولكن صناعة الكتابة، والكتابة في الصحف بنوع خاصٍّ؛ تدعو إلى شيء من التطفُّل؛ وتدفع أصحابها إلى أن يدخلوا فيما لا يعنيهم؛ ويعرضوا لما لا ينبغي أن يعرضوا له، ويقولوا فيما لا ينبغي أن يقولوا فيه. وأكبر الظن أن الوزراء السابقين واللاحقين من رجال هذا العهد السعيد سيعفون للكُتَّاب عن هذا التطفُّل كما يعفون لهم عن ذلك التجني   1 كوكب الشرق في 21 أكتوبر 1933. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 وسيصفحون عن نقدهم فيما يمسُّ الأخلاق، كما يصفحون عن نقدهم فيما يمسُّ السياسة. فإن العفو فضيلة من هذه الفضائل الواسعة التي لا تحصر ولا تقصر ولا تتناول شيئًا دون شيء، ولا تتجاوز إثمًا دون إثم، وإنما هي ميَّالة بطبعها إلى التجاوز عن السيئات جميعًا"1. وتتصل مهمة الإقناع بهذه الخصيصة التوجيهية في مقال طه حسين الذي يحرص على نقل الإيمان بأفكاره، ولذلك احتلَّ مقاله دورًا قياديًّا في توجيه الرأي العام المصري، فهو لا يكتفي بنقل الأفكار وتفسيرها، ولا ينقل إيمانه بأفكاره بمجرَّدَ حرارة العاطفة، ولكنه يؤثر ويدون لتعلقه "بحرارة الفكر". ذلك أن المقال الصحفي عند طه حسين لم يَعُدْ مجرَّد توجيه بلاغي كما كان في طور التكوين الصحفي، بل إنه على العكس من ذلك ينهج منهجًا خاصًّا في التحرير يقوم على الدليل والبرهان، ويعتمد على الحقائق والأرقام والبيانات والإحصاءات الدقيقة، وهذه هي وسائل الإقناع والتوجيه والإرشاد، وهي تعطيه من القوَّة والتأثير مالًا يمكن أن تحققه الألفاظ الضخمة الجوفاء.   1 المرجع نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 2- الوحدة العضوية في بنية المقال الرئيسي : ونخلُص مما تَقَدَّمَ إلى أن بنية المقال في صحافة طه حسين "وحدة" مستقلة, فلم يكن مجرَّدَ سردٍ للحقائق، أو إتيان بالشواهد، أو إيرادٍ للأمثلة, ولكنه وسيلة للتعبير عن رأي من آراء طه حسين، أو مذهب من المذاهب التي يروّج لها في الاجتماع أو السياسة أو الفكر، ولذلك نجد طه حسين يبسط هذه الآراء والمذاهب, ويبسط الحقائق التي يوردها لقرائه، بحيث تدعم فكرة المقال وموضوعه وغايته التي تنصبُّ دائمًا حول غرض واحد. وأغلب الظنِّ أن هذه "الوحدة" التي تربط بين أعضاء المقال الصحفي عند طه حسين، إنما ترتبط بما ذهب إليه من الدعوة للوحدة العضوية في تجديد الأدب، فلاحظنا فيما سقناه من نماذج, وما أطَّلَعْنَا عليه من التراث الصحفي لطه حسين، أنه يراعي النسب بين الأفكار والشواهد, وبين الشكل الخارجي للمقال أو البناء الفني، بحيث يخرج المقال الصحفي متكامل الأجزاء متناسق الشكل والمضمون. وفي هذا الإطار الفني استطاع طه حسين أن يحقِّقَ شكلًا جديدًا للمقال الرئيسي في الصحافة المصرية، يقول من خلاله أفكارًا جديدة في السياسة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 والاجتماع. فتوافر لمقاله التجديد والتحرُّر البياني، كما رأينا عند الحديث عن الأسلوب، على أن طه حسين قد استطاع كذلك أن يوفِّقَ بين الدوائر الثلاث المعروفة في المقال الرئيسي؛ سياسة الجريدة، وصياغة المقال، واهتمام القراء, فلم يعبِّرْ عن آرائه الذاتية كما عبَّر عنها في الأدب، بل إنه كان على وفاقٍ مع رأي الصحيفة والحزب الذي تمثِّلُه، بحيث يصعب الفصل بين رأي الصحيفة ورأي طه حسين؛ لأنه لم يكتب في صحيفة إلّا إذا كان على وفاقٍ معها، فكتب في "السياسة" حين كان على وفاق مع الأحرار الدستوريين, وكتب في "كوكب الشرق" حين اتفق مع حزب الوفد في مقاومة الحكومة الصدقية. وتأسيسًا على هذا الفهم يمكن أن نتبين في "بنية" المقال الرئيسي عند طه حسين هذه العناصر: أولًا: عنصر التقديم أو الفكرة المثيرة لاهتمام القارئ ومن ذلك تقديمه لمقال بعنوان: "لعب"1 يقول: "لعب مضحك لولا أن موضوعه التعليم! ولعب مسلي لولا أن موضوعه الشباب! لعب على كل حالٍ هذا التغيير الذي يصيب كليتين من كليات الجامعة، هما كلية الآداب والحقوق, بعد أن أصاب قانون الجامعة ولوائحها العامة. لعب على كل حال هذا النحو من التغيير والتبديل في برامج الدراسة ومناهجها, وفي نظم الدراسة وآمادها, دون أن يُتَاح لمنهجٍ أو برنامج أو نظام أمدٌ من المهلة ما يمكِّنُ من تجربته والحكم الصحيح عليه. ولكن ما الذي يمنع أن تُمَسَّ البرامج والمناهج والنظم والآماد، وقد غُيِّرَ القانون نفسه، وصدرت اللوائح العامة تصويرًا يلائم هذه المثل العليا، التي وضعتها الوزارة القائمة أمامها واتخذتها أصولًا للحكم! "2. ويرتبط هذا العنصر ارتباطًا "عضويًّا" بعنوان المقال، الأمر الذي يؤكِّد ما ذهبنا إليه فيما يتعلق بالوحدة التي تربط بين أجزاء المقال، فالتقديم لا يمكن أن ينفصل عن عنوان المقال عند طه حسين بحالٍ من الأحوال، بل إن كليهما متمِّمٌ للآخر، ولعلَّ في ذلك ما يفسِّر إيثاره لاختيار كلمة واحدة يعنون بها المقال، وهي كلمة مشعَّة موحية بمضمونه، لا تنفصل عن مقدمته أو صلبه   1 كوكب الشرق في 22 مايو 1933. 2 كوكب الشرق في 22 مايو 1933. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 أو خاتمته، ومن ذلك مقال بعنوان "شجاعة"1 "شجاعة" بارعة رائعة"، شجاعة فائقة رائعة، شجاعة سامقة ماحقة, هذه التي يُظْهِرُهَا بعض النواب من حين إلى حين! شجاعة لا أدري كيف يحتملها أصحابها، وكيف يثبتون لأثقالها الثقيلة، وأهوالها الهائلة، مع أنها مخيفة حقًّا، مروعة حقًّا؛ ومزعجة حقًّا للآمنين والخائفين على السواء! "شجاعة نادرة باهرة هذه التي يتخذها بعض النواب إذا تحدَّثوا عن خصومهم أفرادًا وجماعات تحت قبة البرلمان، فهم يطلقون ألسنتهم في هؤلاء الخصوم بالحق والباطل، وبالخطأ والصواب، وبالجدِّ والهزل, لا يُقَدِّرون شيئًا، ولا يحسبون حسابًا؛ وإنما ينطلقون وكأنما خُلِّيَ بينهم وبين الحركة، فليس إلى تسكيتهم ولا تهدئتهم من سبيل"2 إلخ. ويرتبط العنصر الثاني من عناصر تحرير المقال الرئيسي، ونعني: عنصر الحقائق والشواهد المؤيدة للفكرة، بعنصر التقديم ارتباطًا عضويًّا وثيقًا، ولكن هذه الوحدة "العضوية" في مقال طه حسين، لا تقوم على الترتيب الاحتمالي، بقدر ما تقوم على ترتيب المنهج الديكارتي في الاستقراء, والذي سبق أن تَبَيَّنَّاه في مقال طه حسين. ويقصد بالوحدة العضوية في مقال طه حسين، وحدة الموضوع، ووحدة الأفكار والآراء التي يثيرها الموضوع، وما يستلزم ذلك من ترتيب الشواهد المؤيدة لهذه الأفكار والآراء ترتيبًا استقرائيًّا به يَتَقَدَّمُ المقال شيئًا فشيئًا, حتى ينتهي إلى "خلاصة" تمثِّلُ العنصر الأخير من عناصر التحرير في مقال طه حسين، يستلزمها هذا الترتيب الاستقرائي للأفكار والشواهد والصور، بحيث تبدو عناصر المقال كالبنية الحيَّة، لكل جزء وظيفته فيها، ويؤدي بعضها إلى بعض عن طريق التسلسل في التفكير والمشاعر. وتقوم هذه الوحدة في مقاله طه حسين على التفكير الإبداعي النابع من رؤياه الإبداعية في منهج المقال، وفي الأثر الإقناعي الذي يريد أن يُحْدثه في قرائه، وفي الأجزاء التي تندرج في أحداث هذا الأثر الوظيفي بصفة عامة، بحيث تتمشَّى مع بنية المقال بوصفها وحدة حية، ثم في الأفكار والآراء والشواهد التي يشتمل عليها كل جزء، بحيث يتحرَّك به المقال إلى الأمام لإحداث الأثر الوظيفي المقصود منها، عن طريق التتابع الاستقرائي، وتسلسل الشواهد أو الأفكار، ووحدة الطابع, والوقوف على المنهج على هذا النحو -الذي تَعَرَّفْنَا عليه عند الحديث عن الرؤيا الإبداعية في مقال طه حسين- يساعد على ابتكار الأفكار الجزئية والشواهد التي تساعد على توكيد الأثر الوظيفي المراد في   1 كوكب الشرق في 18 مايو 1933. 2 المرجع السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 المقال، ذلك أن أبعاد الرؤيا الإبداعية في مقال طه حسين، تظهر لنا أنه يدرك منهجه جملة وفي وضوح قبل الشروع في الكتابة والتحرير، وهو المنهج الذي يشبه ما قاله ابن طباطبا في وصف عملية الشعر على الطريقة العربية، إذ يقول: "فإذا أراد الشاعر بناء قصيدته مَحَّضَ المعنى الذي يريد بناء الشعر عليه في فكره نثرًا، وأعدَّ له ما يلبسه إياه من الألفاظ التي تطابقه، والقوافي التي توافقه، والوزن الذي يسلس له القول عليه. فإذا اتفق له بيت يشاكل المعنى الذي يرومه أثبته، وأعْمَلَ فكره في شغل القوافي بما تقتضيه من المعاني، على غير تنسيق للشعر وترتيب لفنون القول فيه، بل يلعق كل بيت يتفق له نظمه، على تفاوت ما بينه وبين ما قبله، فإذا أكملت له المعاني، وكثرت الأبيات, وفَّقَ بينها بأبيات تكون نظامًا لها، وسلكًا جامعًا لما تشتَّتَ منها.. ويسلك الشاعر منهاج أصحاب الرسائل في بلاغاتهم، وتصرفهم في مكاتباتهم، فإن للشعر فصولًا كفصول الرسائل"1، وإذا صحَّ هذا المنهج في الشعر فإنه من باب أولى يصدق على منهج تحرير المقال، وهو الأمر الذي يضمن للمقال وحدة محكمة بين عناصره، صادرة عن ناحية وحدة الموضوع ووحدة الفكرة، ووحدة الشواهد التي يتضمنها، ذلك أن المقال الصحفي ليس مجرَّدَ سرد للحقائق, ولكنه وسيلة وظيفية للتعبير عن الرأي أو المذهب، أي: أن الوحدة في المقال الصحفي تقضي بها طبيعة الموضوع ووحدة الأثر الوظيفي الناتج عنه، الأمر الذي يفرض معالجة تحريرية يظهر بها المقال كأن له وحدة مستقلة بذاتها، وتقتضي هذه الوحدة استيفاء كل شاهد من شواهد المقال, وكل فكرة من أفكاره في موضعها المحدَّد لها من بنيته، قبل الانتقال إلى الشاهد التالي أو الفكرة التالية؛ وهو الأمر الذي يتوفَّر في مقال طه حسين، لتمثُّله الترتيب الاستقرائي في بنية المقال، كما تَقَدَّمَ. ويتفق هذا الترتيب الاستقرائي لعناصر المقال الصحفي عند طه حسين، مع الترتيب الذي استقرأه الباحثون في الصحافة، كما يبين من النموذج التالي:   1 محمد بن أحمد بن طباطبا العلوي: عيار الشعر ص5-6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 مخطَّط يسحب اسكنر. وتقوم هذه العناصر التي يتألَّفُ منها المقال الصحفي في أدب طه حسين على ما يسميه "ديكارت"1 بنظام الأسباب "الملائم، والذي يعني السير بالأفكار والشواهد بنظام، فيبدأ المقال بأبسط الموضوعات أو الشواهد, ويرتقي بالتدرُّج إلى معرفة أكثر الموضوعات تركيبًا، ولكنه يفرض "نظام الأسباب" الديكارتي حتى بين الموضوعات أو الشواهد التي لا تتتالى بالطبع، وهذا النظام هو الذي يحدِّدُ إطار الوحدة العضوية في المقال لتشمل البداية والتمهيد والصلب والخاتمة. وللوحدة أثر في الشواهد والحقائق المؤيدة للفكرة، إذ تصبح كالبنية الحيَّة في تحرير المقال، وإذكاء الإقناع فيه. فهي تتعاون جميعًا لرسم الصورة العامة للمقال، وتقدمها فيه على حسب المنهج الاستقرائي عند طه حسين في الإقناع. ولنضرب مثلًا هنا بمقالٍ رئيسيٍّ في "حديث المساء" وعنوانه: "صراع ... "2 وفيه يصوّر الصراع بين القومية المصرية والتسلُّط الأجنبي"3 في الثلاثينيات، فيبدأ مقدمة المقال بهذه الفقرة التي لا تنفصل عن العنوان: بدأ منذ أسابيع -"أي الصراع"- ولسنا نعرف متى ينتهي ولا كيف   1 مقال في المنهج, طبعة مصر, ص17, سنة 1943. Discours de la Methode. 2، 3 كوكب الشرق في 20 إبريل 1934. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 ينتهي، وإن كُنَّا نعرف حقَّ المعرفة كيف نريد، وكيف ينبغي أن ينتهي. وهو هذا الصراع بين القومية المصرية، والتسلُّط الأجنبي. إن هذا الصراع قائم منذ أمد بعيد، ولكنه لم يأخذ شكله الحادَّ العنيف إلا في هذه الأيام، كما أنه لم يختر لنفسه ميدانًا معينًا مرسوم الحدود إلّا في هذه الأيام أيضًا"1. ثم ينتقل إلى صلب المقال، فيصل بين التقديم وبين الشواهد: "ففي هذه الأيام ظهر الصراع بين القومية المصرية والتسلُّط الأجنبي حادًّا عنيفًا في المحاكم المختلطة, وهو قد اختار لنفسه إلى الآن ميدانين واضحين كل الوضوح، محددين كل التحديد؛ فأما أولهما: فرياسة الدوائر، وأما ثانيهما: فاصطناع اللغة العربية في كتابة الأحكام"2. ومن ذلك يبين المنهج الاستقرائي في بنية المقال، فهو يقسِّم المشلكة إلى ميدانين واضحين، ويبدأ من "الكلي" إلى "الجزئي"، فالكلي في تقديم المقال هنا هو: الصراع بين القومية المصرية والتسلُّط الأجنبي، والجزئي: هو ما يتفرَّع عن تقسيم المشكلة من شواهد، يقوم فيها بإحصاءات شاملة وفقًا للمنهج الديكارتي، سواء في الفحص عن الحدود الوسطى, أو في استعراض عناصر المسألة؛ بحيث يتحقق أنه لم يغفل شيئًا. فالمنهج التحريري في مقال طه حسين إذن استنباطي استقرائي يضع المبادئ البسيطة الواضحة, ويتدرج منها إلى النتائج. وفي المقال المتقدِّم، يتدرج في استقصاء شواهده، ثم يتدرج في تصوير الصراع بين القومية المصرية والتسلُّط الأجنبي، من خلال الشواهد والحقائق التي تؤيد فكرته الكلية التي طرحها في مقدمة المقال، يقول طه حسين في صلب المقال: "أما في الميدان الأول: فكان من حق القومية المصرية أن تنتهي إلى ما تريد في غير جدال ولا حوار، وفي غير أخذٍ ولا رَدٍّ طويلين, فليس هناك موانع من نصِّ القانون تحول بين القضاة المصريين وبين رئاسة الدوائر حين تتاح لهم هذه الرياسة، ولكن القومية المصرية مع ذلك لم تظفر بشيء إلى الآن, والله يعلم متى تظفر بما ينبغي لها من الفوز. والغريب أن امتناع الفوز عليها لم يأت من ضعف القضاة المصريين في الاستمساك بها, ولا من ظهور هؤلاء القضاة, ولكن ذلك جاء من أن الوزارة التي كان يجب أن تحمي ظهر هؤلاء القضاة قد انكشفت وأسلمت، ولم تستطع أن تَثْبُتَ في موقفها، ولا أن تحتفظ بحقها، بل لم   1 كوكب الشرق في 20 أبريل 1934. 2 المرجع نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 تستطيع أن تنظم انكشافها تنظيمًا ملائمًا للحق والكرامة, فقد كان وزير الحقانية يؤيد القضاة كل التأييد، يعلن ذلك في مجلس النواب, ويؤكد ذلك في مجلس الوزراء، ويكتب في ذلك إلى رئيس محكمة الاستئناف, فما هي إلّا أن يردَّ عليه الرئيس ردَّه القاسي المعروف حتى يكشف عنه زملاؤه، ثم ينكشف هو عن القضاة، وإذا الناس يشيعون هم بالاستقالة، وإذا رئيس الوزراء يكذب هذه الإشاعة، وإذا هو يهيئ رده على رئيس الاستئناف، ثم ينتظر بهذا الرد أيامًا، ثم يقال: إن هذا الردَّ مُحِّصَ تمحيصًا، ونُقِّحَ تنقيحًا، وإذا قضية المعاشات تؤجَّل أشهرًا طوالًا, وتنقل إلى دائرة أخرى، ثم يرسل الوزير رده بعد الأناة والانتظار، ثم تَتَقَدَّمُ الوزارة إلى مجلس الشيوخ, فيعلن رئيس الوزراء أن المسألة ستحل بالمفاوضات, أي: كما رأت الجمعية العمومية لمحكمة الاستئناف المختلطة.. إلخ"1. ويخلص من استعراض هذه الشواهد وفق "نظام الأسباب"، بالنسبة للميدان الأول من ميادين الصراع بين القومية المصرية والتسلط الأجنبي، إلى نتيجة طبيعية لتسلسل الشواهد التي ساقها المقال، يقول: "لم تظفر القومية المصرية إذن بشيء في هذا الميدان، لا لأن القضاة قصَّروا، ولا لأنَّ الأمة قصرت، ولا لأن الصحف قصَّرت، بل لأن الوزارة آثرت أن تتراجع، وأن تختار أيسر الأمرين، وأقلهما كلفة, وأبعدهما من الجهد والعناء، وأضمنهما للراحة والسلام وطول البقاء"2. ثم ينتقل من هذه الخلاصة، إلى القسم الثاني من "المشكلة", مرتقيًا بمقاله تدريجيًّا إلى معرفة أكثر الموضوعات تركيبًا، من خلال نظام الأسباب الذي يصل بين أجزاء المقال: "وأما في الميدان الثاني فمن حق القومية المصرية أيضًا أن تنتهي إلى ما تريد من غير حوار ولا جدال, ومن غير أخذ ولا رَدٍّ, وأكبر الظن أنها ستنتهي إلى ما تريد، لا لأن الوزارة ستثبت في الذَّوْد عنها أكثر مما ثبتت في الميدان الأول، بل لأنها ليست في حاجة إلى أن تؤيدها الوزارة، وإنما هي في حاجة إلى أن يؤيدها القضاة المصريون، ولم يعرف أحد عن القضاة المصريين إلى الآن أنهم بخلوا على قوميتهم بالنصر والتأييد مهما تكن الظروف. ذلك أن القوانين صريحة في أن لغة القومية المصرية إحدى اللغات الرسمية للمحاكم المختلطة، وقد أراد أحد المستشارين المصريين الأستاذ عبد السلام ذهني بك أن ينفِّذَ نص القانون، فكتب أحكامًا باللغة العربية، وليست هناك قوة تستطيع أن تحوِّلَ الأستاذ المستشار وزملاءه عن رأيهم إلّا أن تكون هناك قوة تستطيع أن تلقي القانون أو أن تغيِّرَه، أو أن تحمل القضاة على ألّا ينفذوه كاملًا.   1، 2 كوكب الشرق في 20 أبريل 1934. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 "وإذن القومية المصرية ظافرة من غير شك في هذا الميدان إلّا أن تتكشَّف الأيام والحوادث عن بعض وأن تتكشَّف عنه في هذه الظروف البديعة من الأعاجيب ... إلخ". وينتهي من تسلسل هذه الشواهد إلى سَوْقِ رأيه في هذه المسألة: "على أننا نعتقد أن الصِّرَاع بين اللغة العربية واللغات الأجنبية في المحاكم المختلطة لا ينبغي أن ينتهي عند هذا الحدّ، بل ينبغي أن يتَّسِعَ ميدانه، ويخيل إلينا أن المستشارين ليسوا إلا قادة في هذا الصراع, ولا بُدَّ من أن يتبعهم غيرهم، أن تكون اللغة العربية أداة عملية لا لكتابة الأحكام فحسب، بل المرافعات أيضًا يجب أن يخاصم المحامون المصريون والشرقيون باللغة العربية, ويجب أن تخاصم النيابة باللغة العربية أيضًا. ثم لا ينبغي أن يكون هذا مقصورًا على محكمة الاستئناف، بل يتجاوزها إلى المحاكم الابتدائية, فيجب أن تُكْتَب أحكام, وأن تكون مرافعات باللغة العربية فيها. وما دام القانون الذي لا سبيل إلى الخروج عليه يقرُّ اللغة العربية على ما يُرَاد لها من الحقِّ, فنحن واثقون بأن رجال القضاء والنيابة والمحاماة من المصريين والشرقيين لن يبلخوا على لغتهم بهذا الحق, ولن يقصروا في الذود عنه حتى تفرض هذه اللغة على المحاكم المختلطة فرضًا"1. هذا، وقد يستهل المقال بعنصر "الشواهد" المشتقة من الواقع والمعتمدة على الأخبار والماجريات، والتقارير الإخبارية، وفي هذا النَّمَط من أنماط التحرير في مقال طه حسين، نجد توجيهًا للمقال الافتتاحي في الصحافة المصرية الحديثة، إلى أن يصبح إخباريًّا في جوهره، بمعنى أنَّ ما فيه من رأي ومن توجيه ومن ترفيه يعتمد على الأخبار وتفسيرها واستغلالها في تأييد رأي سياسي أو آخر". على أن هذا النمط الإخباري في تحرير المقال الصحفي عند طه حسين يرتبط ارتباطًا وثيقًا كذلك بقواعد المنهج الديكارتي، الذي يعتمد على تقسيم المشكلة ما وسعه التقسيم طلبًا للوضوح، ولذلك يضع المبادئ البسيطة الواضحة التي يشتقها من التقارير الإخبارية، ويتدرَّج منها إلى النتائج. ويبين هذا النمط الإخباري في مقال طه حسين، من مقال في "حديث المساء" بعنوان: "فضائح"2، حيث تتخذ المقدمة النمط الخبري التالي: 1- مقاول أنشأ لبلدية الإسكندرية جزءًا من شارع الكورنيش.   1 المرجع السابق. 2 كوكب الشرق في 29 أكتوبر 1933. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 2- جماعة من المصريين في أبي جرج يظلمون، وتفرض عليهم ضرائب إضافية. 3- مهازل الدقهلية وعبث الإدارة برجال التعليم الأولى، يريدون الطربوش ولهم في ذلك الحق كل الحق وتريدهم هي على العمامة، جورًا وبغيًا"1. ثم ينتقل من هذه المقدمة الإخبارية لمقاله، إلى مناقشة كل عنصر من عناصرها، من خلال إحصاءات شاملة لكل مسألة من هذه المسائل الثلاث، بحيث يتحقَّق القارئ أنه لم يغفل شيئًا، ويتدرَّج منها إلى "خلاصة المقال" التي تستطيع أن تحقِّقَ في هذه الفضائح التي تذاع، والتي لا بُدَّ من توضيح الحقيقة فيها، ليعلم المصريون إلى أين يذهبون، وليعلم الأجانب مع من يعيشون. أفتظن أن هذه الوزارة ستضطر إلى أن تترك مناصبها، لتخلفها وزارة أخرى أقدر منها على حماية مصالح الشعب، وصيانة كرامة البلاد، وإقناع العالم المتحضِّر بأن مصر ليست بلد الشر, ولا مستقَرَّ الفساد، وإنما هي بلد متحضر راقٍ كغيره من البلاد المتحضِّرَة الراقية، قد يأثم فيه الناس, ولكنهم لا يلبثون أن يلقوا الجزاء على ما اقترفوا من الآثام"2. وبهذا المنهج في تحرير المقال الصحفي، تمكَّن طه حسين من تحقيق الوحدة بين دوائر المقال, الأمر الذي يسَّر لهذا المقال أن ينقُدَ ويوجِّه ويعارِض ويؤيد، ولذلك ازدهر هذا المقال الصحفي عند طه حسين في الاتجاه السياسي، الأمر الذي كان له أثره في تنمية الثقافة السياسية العامة للأمة بفضل وسيلة الاتصال الصحفي.   1 المرجع نفسه. 2 المرجع نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 3- طه حسين كاتب المقال الرئيسي : على أن طه حسين قد تمتَّع بجملة من الصفات أهَّلته لِأَنْ يستخدم هذا المنهج التحريري في المقال الرئيسي في الصحافة المصرية، منها: أولًا: أن طه حسين -كما رأينا- قد تمتَّع بحاسَّة صحفية دقيقة يتذوَّقُ بها الأحداث الجارية في محيطه، والأحداث الجارية في خارج هذا المحيط, وقد غذَّت هذه الحاسة الصحفية مصادر ثقافته الواسعة التي تنوعت في ينابيعها، وتكوينه الصحفي في مدرسة الجريدة، واطِّلاعه الناقد على الصحف الفرنسية أو المعبِّرة بالفرنسية، ومتابعته للصحف المصرية والعربية, كما سبق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 أن رأينا في شواهد مقاله، التي تشير إلى إلمامه الدقيق باتجاهات كل صحيفة يستشهد بما جاء فيها، بل إن الكثير من مقالات طه حسين، قد حرص على تفسير هذه الاتجاهات السياسية، ومن ذلك وصفه لـ"كاسترو" رئيس تحرير "الليبرتية" الموالية للوزارة النسيمية، بأنه "ذو الوطنية الزجاجية, ذو المصرية المتهمة. كاسترو المصري دون أن يتكلَّم لغة المصريين"1, ويضرب به المثل للصحفيين "الغرباء" الذين يستأجرهم "المصريون ليهينوا المصريين"2. ويصف هذه الصحيفة بأنها "يوحى إليها"3 من الوزارة الإدارية التي تنفق عليها لتنال "من الأحرار الدستوريين"4 وغيرهم, كما يكشف اتجاهات الصحف الوزارية الأخرى مثل صحيفة "الأفكار"5, التي يهبط إليها "الوحي من إحدى السماوات السياسية في مصر وهي كثيرة, بأن هناك خطة سياسية جديدة"6. ويصف صحيفة "الأفريكان ورلد"7 بضآلة القدر وصغر الشأن8، ويسخر مما كتبته "الأفريكان ورلد"9, ويتحدث عن رأيها في الوزارة الائتلافية على أنه حلمٌ من أحلام رئيس الوزراء، وأمنية من هذه الأماني التي تعبث برأس الرجل الضعيف، ولا سيما حين يستريح في ظل "الأهرام"؟! حيث تكثر الصور والأشباح التي تؤرِّق قومًا, وترسل الأحلام إلى آخرين! ولكن "السياسة" و"الأهرام" لم تسخرا مما كتبته "الأفريكان! "10. و"أما" السياسية " فالظاهر أنها خرصت على أن تعيد للناس ما لم يشك أحد فيه من الأحرار الدستوريين" يحرصون على أن "تجتمع كلمة المصريين على مقاومة الوزارة القائمة والذين يؤيدونها من الإنجليز"11. وتبين هذه الحاسة الصحفية الدقيقة من استخدامه الاستقرائي للعناصر الإخبارية في شواهد مقاله الصحفي، ومن ذلك مقال في "حديث المساء" بعنوان: "موقعه"12، يشير فيه إلى ما نشرته الأهرام من أن "الحكومة دفعت إلى السودان ثلاثة أرباع المليون تعويضًا لمن سيصيبهم الضرر من إقامة الخزان قبل أن تصدر الميزانية، بل قبل أن يقرَّها البرلمان, ودون استئذان للبرلمان في دفع هذا المقدار الضخم من المال لحكومة السودان, فإن يكن هذا حقًّا فلا تفسير له إلّا إحدى اثنتين, فإما أن يكون البرلمان مستعدًا أحسن الاستعداد للنزول عن حقوقه الدستورية للحكومة اعترافًا بجميلها عنده وفضلها عليه.   1، 2 السياسة في أول ديسمبر 1922. 3، 4 السياسة في 9 يناير 1923. 5، 6 السياسة في أول يناير 1923. 7، 8، 9 كوكب الشرق في 3 أبريل 1933. 10، 11 المرجع نفسه. 12 كوكب الشرق في 22 مارس 1933. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 وأنا أنكر هذا وأراه بعيدًا، لأن البرلمان حفيظ على الدستور لا ينزل عنه كله أو بعضه لإنسان كائنًا من كان, ومهما يكن له عليه من فضل أو جميل, وإما لأنَّ مرض رئيس الوزراء قد أعدى البرلمان بعض الشيء فأصابه هذا الفتور الشامل الذي يصيب المرضى والمعقدين، فتقصر ذاكرتهم ويقل حظهم من الملاحظة والمراقبة لما يجري حولهم من الحوادث, وما يثور بين أيديهم من المشكلات.. وأكبر الظن إن صحَّ هذا الخبر أن البرلمان لم يتعمَّد الإعراض عن هذا العمل الغريب من أعمال الحكومة, وإنما اضطره النسيان والضعف إلى هذا الإعراض والتقصير، فلعله ذاكر ما نسي، ومقبل على ما أعرض عنه، ومعنيٌّ بما فرض فيه، ومن المحقق الذي لا شك فيه أن مجلس النواب قد أقرَّ أمس قانونًا ينظِّمُ تعيين الأساتذة والمدرسين في الجامعة وتأديبهم, وأُقِرَّ هذا القانون في جلسة واحدة"1. ومن ذلك يبين أن صلب المقال يقوم على شواهد إخبارية، تُستَخْدَم استخدامًا استقرائيًّا من خلال حاسَّة صحفية دقيقة تتيح للكاتب أن ينفذ إلى مغزى الأخبار, وما يحمله الخبر من المعاني والتنبؤات, وتقوم هذه الحاسة الصحفية عند طه حسين، كما ذهب إلى ذلك في وصف الدكتور محمود عزمي2، على أن يكون الصحفي "من أعلم الناس بمصر، وبما يحدث فيها من الحوادث، ومن يضطرب فيها من الناس، وهو كذلك عالم حق العلم بطبيعة الحياة والأحياء في هذا البلد"3, فالصحفي لا يتصور "الأشياء من بعد، ولا ينتظر من الناس أكثر مما كان ينتظر منهم"4، وذلك أنه يجب أن يكون مقيمًا في قومه "يراهم كل يوم"، ويتحدث إليهم كل يوم، ويرى وقع الحوادث في نفوسهم، ويسمع تعبير ألسنتهم عن وقع هذه الحوادث، واضطراب أصواتهم بما تجد نفوسهم من لذَّةٍ وألم, ومن نعيم وبؤس, ومن سرور وحزن، ويحسُّ في أثناء هذا كله ما تخفيه الضمائر الخفية من رضى وسخط, ومن رجاء ويأس"5. والواقع أن هذه المكونات للحاسَّة الصحفية إنما تنبع من ذات طه حسين وصحافته، التي تقوم على هذه المقومات، وعلى هذه الحاسة الصحفية التي وصف بها صديقه, وهي الحاسة التي تكمن وراء نجاح المقال الرئيسي في صحافة طه حسين, وخاصة في المجال السياسي. ثانيًا: أن طه حسين قد تمتَّع بحاسَّة تاريخية كذلك، استطاع عن طريقها ربط الماضي بالحاضر، والتكهن بالمستقبل، على أن هذه الحاسة تدعمها أيضًا ثقافة طه حسين التاريخية، التي تشكِّل عنصرًا هامًّا من عناصر ثقافته الصحفية، وإذا كانت معاهد الصحافة في العالم قد لاحظت أهمية هذا العنصر في ثقافة   1 المرجع نفسه. 2، 3، 4 كوكب الشرق في 18 مارس 1933. 5 المرجع نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 الصحفي1، فإن التاريخ عند طه حسين أصبح "ينكر فلسفة التاريخ ويقنع بشيء واحد متواضع، ولكنه جليل الخطر, وهو الوصول إلى استكشاف الحقائق التي وقعت في الماضي استكشافًا علميًّا صحيحًا معتمدًا على البحث لا على الفلسفة, فهو كالكيمياء لا يزعم لنفسه القدرة على تحويل المعادن وإيجاد الذهب, وإنما يزعم لنفسه البحث عن الحقائق من حيث هي حقائق لا أكثر ولا أقل"2. وتأسيسًا على هذا الفهم، فإن هذه الحاسَّة التاريخية عند طه حسين تتيح لنا "التنبؤ بما سيكون, ما دمنا قد استطعنا أن نعرف ما كان"3 ويذهب طه حسين من ذلك إلى أن "التاريخ فنٌّ يعين على استكشاف المستقبل بفضل ما يعلم من حقائق الماضي"4, ولكنه يذهب إلى أننا قد علمنا أشياء كثيرة، ولكن ليس من شكٍّ في أننا لم نؤت من العلم إلا قليلًا، وفي أن ما نجهله أكثر جدًّا مما نعلمه، وليس من شك كذلك في أننا قد حقَّقْنَا من الرقي شيئًا كثيرًا في حياتنا العاملة والعاقلة"5. ومن ذلك يبنن أن الحاسَّة التاريخية في مقال طه حسين هي التي تمكِّنُه من ربط الماضي بالحاضر والتكهن بالمستقبل، أو كما يقول في مقال رئيسي بعنوان: "نذير"6. "قليل من الناس يستطيع أن ينصرف عن حديث اليوم إلى حديث أمس, وقليل جدًّا من الناس يستطيع أن ينظر إلى أحداث اليوم, ويتبين منها أحداث غد. ذلك لأن الحوادث الحاضرة التي تحيط بنا تشغلنا عن الماضي، والمستقبل جميعًا، وتحدُّ أعمالنا وتفكيرنا، فإذا نحن مثلها موفقون في كل ما نأتي وما نقول. ولو قد أتيح لكثير من الناس أن يفكروا في أمس، لاعتبروا بما كان فيه، ولجنبوا أنفسهم شرًّا كثيرًا, ولو قد أتيح لكثير من الناس أن يتبينوا ما ستشكف عنه غدًا أحداث اليوم، لأعرضوا عن كثير من الأعمال ولجنَّبُوا أنفسهم آلامًا كثيرًا، وضروبًا من الخطأ"6 إلخ. وقد ظهرت آثار هذه الحاسَّة التاريخية فيما كُتِبَ من مقالات صحفية, فهو يقول في المقال المتقدم: "والظاهر أن الوزراء ورجال الحكم هم أشد الناس إعراضًا عن أمس،   1 الدكتور إبراهيم إمام: مرجع سبق ص213. 2، 3، 4 الدكتور طه حسين: "أدبنا العربي بين أمسه وغده", مجلة الكاتب المصري أكتوبر 1945, مرجع سبق, ألوان ص17. 5 كوكب الشرق في 9 أبريل 1933. 6 كوكب الشرق في 9 أبريل 1933. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 ونفورًا من غد! وهم لذلك أشد الناس تعرضًا للخطأ، وتورطًا في الشر والإثم! وكأن الوزارة كما صورتها جريدة الشعب منذ أيام في تشبيه بديع, خمر معتَّقة لا يكاد يذوقها شاربها حتى ينسى كل شيء! فتمحو من نفسه أمس وتلقي بينه وبين غد حجاجًا صفيقًا! "1. ثم يذهب بعد ذلك إلى ربط ماضي مصر القريب بحاضرها، ليذكِّرَ الناس بالديمقراطية والدستور اللذين سلبهما صدقي ووزارته. وقد تعرَّفْنَا فيما تَقَدَّمَ على استخدام التاريخ في مقال طه حسين استخدامًا وظيفيًّا، فهو لا يقف موقف الحكم على صحة القضايا التاريخية أو بطلانها، وإنما يتوسَّلُ بأحداث التاريخ ونتائجه في التوجيه الوظيفي للمقال، فهو يحب الديمقراطية ويؤيدها، وليس المهم عنده صورة الحكم، أو نظام السلطة, وإنما المهم أن يكون هناك تساوٍ وديمقراطية، يضرب لها مثلًا بما شاهده في مؤتمر بلجيكا من ديمقراطية ملكها وحب الشعب له: "لا رقي للشعوب ولا استقرار للعروش إلّا إذا كانت الديمقراطية الصحيحة الواسعة أساس الصلة بين الشعوب والعروش"2. ولعل طه حسين يتفق في ذلك مع "تين"؛ فكلاهما يبحث عن حلٍّ للقضايا الاجتماعية من خلال نظرته للتاريخ ومراجعته للماضي، وكلاهما يريد تقدُّمَ وطنه وأمته، ويستمِدُّ من التاريخ توجيهًا للسمتقبل3. كما أنهما يتفقان في أن كلًا منهما يجمع من الأعمال قانونًا عامًّا, ويستخدم المنطق ولكن بأسلوبه وصوره4، ونجد آثار ذلك فيما كتبه طه حسين "من بعيد" في صحيفة "السياسة" اليومية، بعنوان: "مؤتمر العلوم التاريخية" يقدِّمُ فيه خلاصة ما دار في هذا المؤتمر, وكان قد قدَّمَ فيه "نصَّ معاهدة دفاعية هجومية" عقدت سنة 692هـ سنة 1292م بين الملك الأشرف خليل بن قلاوون وابن جايم الثاني ملك أراجون وأخويه وصهريه، وكلهم ملوك أسبانيا المسيحية، حاول في موضوعه أن يقوم بمهمتين؛ الأولى: تصحيح هذا النص وتقويم ما فيه من الاضطراب والتحريف, الثانية: إثبات أن هذا النص صحيح من الوجهة التاريخية, وأن هناك معاهدة عقدت حقًّا بين مصر وأسبانيا المسيحية في ذلك العصر5. ويتضح الاستخدام الوظيفي للتاريخ في مقال طه حسين، من مقال بعنوان:   1 المرجع السابق. 2 السياسة في 27 أبريل 1923, من بعيد ص73. 3، 4 الأب كمال قلته: مرجع سبق ص131، 129. 5 المرجع السابق ص129, السياسة في 26 أبريل 1923. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 "دائرة"1 يشير فيه إلى "الشعوب التي فتحت مصر وأخضعتها لسلطانها, وسلطت عليها شيئًا غير قليل من الظلم والجور, فلم تمح شخصيتها, ولم تلهها عن حقها واستقلالها "وقد ذكر" العرب بين هذه الشعوب"2 ولم يذكر الفتح العربي: "وأنا واثق بأن الفتح الإسلامي قد حمل إلى مصر خيرًا عظيمًا؛ لأنه حمل إليها الإسلام، ولكني واثق أيضًا بأن الحكم العربي في مصر لم يكن كله عدلًا وبرًّا, وإنما كثر فيه الجور والبغي على مصر, كما كَثُرَ على غيرها من البلاد الإسلامية بعد أن استحالت خلافة الخلفاء الراشدين إلى ملك قوامه البطش والقوة. وتاريخنا المصري حافل بظلم العُمَّال وبغي الولاة وارتفاع شكاة مصر إلى قصور الخلفاء من بني أمية وبني العباس؛ حيث كانت تهمل كثيرًا وتظفر بإنصاف الخلفاء أو محاولتهم للإنصاف أحيانًا. ولست أكتب هذه الكلمة لأفصِّل تاريخ الحكم العربي في مصر, إنما أريد أن أبيِّنَ لكم ولإخواننا العرب أني حين أشرت إلى العرب في ذلك المقال -"دائرة"- لم أرد غضًّا من أحد, ولا إساءة إلى أحد, وإنما أردت تقرير الحق في نفسه, والدفاع عن حق مصر الحديثة في الحرية والاستقلال"3. ومن ذلك الرد الذي كتبه طه حسين على ما نُشِرَ في جريدة "فتى العرب"4 الدمشقية حول مقال "دائرة" يبين أن طه حسين يستخدم التاريخ استخدامًا وظيفيًّا، يتضح في هذا المقال من "الدفاع عن حق مصر الحديثة في الحرية والاستقلال". وليس الأمر كما صوَّره السوريون أمرًا "شعوبيًّا"، يهدف إلى الغضِّ من "القومية العربية"، فذهبوا تأسيسًا على تصورهم إلى "النذير بمقاطعة كتب طه حسين وتحريقها5، ذلك أن طه حسين يؤكد لهؤلاء ولغيرهم أنه ليس شعوبيًّا ولم يكن "في يوم من الأيام شعوبيًّا، وإنما أنا رجل عربي الهوى؛ إذا سألت عواطفي وميولي ومثلي العليا في الأدب، فإذا ذهبت مذهب العلم في البحث والدرس فأنا رجل حريص على الإنصاف الخالص أجدُّ فيه ما وجدت إلى الجَدِّ فيه سبيلًا, ولا أوثر أمة على أمة, ولا شعبًا على شعب؛ لأن العلم لا يبيح لأهله مثل هذا الإيثار. وإذا ذهبت مذهب المتحدثين في السياسة المصرية, فأنا مصريٌّ قبل كل شيء وبعد كل شيء, لا أعدل بمصر بلدًا, ولا أوثر على الشعب المصري شعبًا آخر مهما يكن"6. وقد سبق أن تعرَّفْنَا على الاستخدام الوظيفي للتاريخ في شواهد المقال الصحفي عند طه حسين، ونكتفي في هذا الصدد بأن نشير إلى نماذج من مقالاته   1، 2 كوكب الشرق في 28 أغسطس 1932. 3 كوكب الشرق في 9 سبتمبر 1933. 4 كوكب الشرق في 9 سبتمبر 1933. 5، 6 المرجع نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 الصحفية التي يستخدم فيها التاريخ القريب والبعيد استخدامًا وظيفيًّا يقوم على حاسَّته التاريخية العلمية. ومن ذلك مقال بعنوان: "خاتمة"1, يتحدث فيه عن "عيد" من الأعياد التي مَرَّت بالمصريين أثناء فترة النكبة الدستورية فيذكر "عيدًا شُغِلَ فيه المصريون عن لذَّةِ الحياة وعن التحية والتهنئة.."؟ "كان ذلك قبل الحرب الكبرى حين شبَّت نار الحرب بين تركيا ودول البلقان، وحين دنت جيوش البلقانيين من قسطنطينية، وعرَّضت دار الخلافة للخطر، هناك شُغِلَ المصريون عن العيد، واتصلت نفوسهم بعاصمة الخلافة، يشفقون عليها، ويتمنَّون لها النجاة، وقد استجاب الله يومئذ لهذه النفوس، فلم تقتحم جيوش العدو خطوط المسلمين, وذاق المسلمون لذَّة الحياة فيما بقي من أيام العيد..! "أما عيدنا هذا الذي نحن فيه فقد شُغِلَ المصريون عنه شغلًا متصلًا, ومع أن الصحف لم تنقطع بل أخذت تنقل إليهم الأنباء، وتذيع فيهم الأخبار، فقد ظلوا قلقين مضطربين، تترجع نفوسهم في السماء بين اليأس والرجاء، أيّ الخصمين ينتصر في هذه الحرب الضروس التي تشب نارها، ويتلظَّى أوارها حول سمنود..! أهو الجيش الظافر! أم هو الرئيس الزائر .... ؟ "2. وفي مقال آخر يلجأ إلى التاريخ القريب يستدعيه في موضوعه، ليقرن بين أمرين متشابهين كما يبين من مقال بعنوان: "استجواب"3 حيث يبدؤ بقوله: "أظنه الاستجواب الثاني في تاريخ مجلس النواب القائم, فأما الأول فكان حول الجامعة, وكان المجلس حريصًا كل الحرص على أن يتعجَّل اليوم الذي يعرض فيه؛ لأن حياة الدولة يومئذ كانت تتعرض لخطر شديد, وقد عرض هذا الاستجواب وخرجت منه الحكومة ظافرة, وخرج منها المجلس منتصرًا، وخرجت منه الدولة آمنة في حياتها مطمئنة على مستقبلها"4. "أما الاستجواب الثاني: فهو هذا الذي تحدَّث المجلس أمس في تحديد موعده، وهو استجواب أقلَّ ما يوصف به أنه ضئيل الخطر, يدل على فراغ البال والعناية بصغائر الأمور، فهو يدور حول جبل الأولياء وأي شيء يكون جبل الأولياء"5.   1 كوكب الشرق في 8 أبريل 1913. 2 المرجع نفسه. 3 كوكب الشرق في 30 مارس 1933. 4، 5 المرجع نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 ويخلص من هذين الاستجوابين: الماضي والحاضر، إلى أن "الأمور مرهونة بأوقاتها, وأن سقوط الوزارة قد يكون, ولكن في الوقت الموقوت، وهذا الوقت الموقوت قد يكون في يونيو, وقد يكون في يوليو, وقد يكون قبل ذلك, وقد يكون بعد ذلك، ولكنه لن يحين إلّا بعد أن يتمَّ التدبير والتقدير لإقامة الخزان. فليؤجل الاستجواب شهرًا، وليؤجل الاستجواب شهرين، ولينظر الاستجواب قبل الشهر أو قبل الشهرين، فلن تفيد مصر من تأجيله أو تعجيله شيئًا"1. ثالثًا: أن طه حسين نتيجة لثقافته العريضة، والمتعمقة في بعض المجالات؛ كالأدب العربي والأدب الفرنسي والتاريخ والعلوم السياسية وغيرها، تمكن من الوقوف على المعلومات التي تمكِّنُه من الحكم الصائب والنظر الصادق، والتوجيه السليم. ولعل في ذلك ما يفسِّرُ رؤياه للجامعة كبيئة لا يتكوّن فيها العالم وحده والعامل وحده، وإنما يتكون فيها الرجل المثقَّف المتحضِّر الذي لا يكفيه أن يكون مثقفًا, بل يعنيه أن يكون مصدرًا للثقافة، ولا يكفيه أن يكون متحضرًا, بل يعنيه يكون مصدرًا للحضارة2. وفي ضوء هذه الرؤيا يذهب إلى أن تقوم الجامعة بتهيئة فريق من الشباب وتثقيفهم في فروع من العلم على وجه يمكِّنُهم بعد الظفر بالدرجات الجامعية من أن ينهضوا ببعض التبعات في أنحاء مختلفة من الحياة "نهوض الرجل المستنير المهذب الذي يحسن فهم الأمور وتقديرها, ويحسن التعبير عَمَّا فهم, والتصوير لما قدر, ويتصرف بعد هذا كله فيما يعرض له من الأمر تصرُّف الرجل ناضج العقل, نافذ البصيرة, العالِمِ بما يأتي وما يدع. وأنحاء الحياة هذه التي يهيأ لها هذا الفريق من الشباب كثيرة مختلفة؛ فمنها ما يكون في دواوين الحكومة ومصالحها, ومنها ما يكون في الصحف السيارة على اختلاف أغراضها ومذاهبها3. وتأسيسًا على هذا الفهم يذهب طه حسين إلى أن "حاجة الشباب الصحفي إلى الخلق المتين والثقافة العميقة الراقية أظهر من أن تحتاج إلى دليل"4، ولذلك يدعو في "مستقبل الثقافة" إلى إنشاء "مدرسة عملية للترجمة والتحرير والصحافة, يختلفون إليها متى بلغوا السنة الثالثة في كلية الآداب, ويدرسون فيها سنتين؛ بحيث إذا ظفروا بإجازتها مع الليسانس كانوا أهلًا للنهوض بأعمال الترجمة والتحرير والمشاركة في أعمال الصحافة"5, ويقترح طه حسين لهذه المدرسة تنظيمًا يسمح "للطلاب بأن يختلفوا إليها دون أن يجدوا   1 المرجع نفسه. 2، 3، 4 مستقبل الثقافة جـ2 ص443، 427، 429. 5 المرجع نفسه ص433. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 في ذلك مشقَّةً تصرفهم عن الدرس العلمي"1، ويقضي هذا التنظيم بأن تتألف من ثلاثة أقسام2: "القسم الأول: يتمرن الطلاب فيه على التحرير العربي, الذي يحتاج إليه في المصالح والدواوين, وفيه يدرسون اللغة العربية درسًا عمليًّا, ويدرسون اللغتين الإنجليزية والفرنسية درسًا عمليًّا أيضًا, يمكنهم من التخاطب والقراءة والإنشاء, ويدرسون ما لا بُدَّ من درسه من نظم الإدارة وإجراءاتها المختلفة, ثم يتثقَّفون ثقافة حسنة في تاريخ النظم الإدارية والدستورية, وفي تاريخ العلاقات السياسية الخارجية. "والقسم الثاني: يتمرَّن الطلاب فيه على الترجمة من الإنجليزية والفرنسية إلى العربية, ومن العربية إلى هاتين اللغتين, ويتثقَّفُون فيه الثقافة التي أشار إليها في القسم الأول. "وأما القسم الثالث: فيتمرَّن الطلاب فيه على أعمال الصحافة المختلفة؛ من تحرير وإدارة واستخبار وتوزيع, وذلك إلى تثقُّفِهم في المواد المشار إليها آنفًا, وتمرنهم على اللغتين الأجنبيتين إحداهما أو كلتيهما"3. ويشير طه حسين في هذا الاتجاه، إلى أن فرنسا قد أخذت بمثل هذا الجمع بين الثقافة والتمرين بالقياس إلى مدرسة العلوم السياسية4. ويؤيد هذا الاتجاه بالنسبة للتأهيل الصحفي، تأسيسًا على فهمه لثقافة المشتغلين بالصحافة، وما يجب أن تكون عليه. على أن الدعوة إلى التأهيل الصحفي في مصر ترجع إلى ما نشره الدكتور محمود عزمي في "السياسة" سنة 1923, يدعو فيها هذه الدعوة، ولكنَّ هذه الدعوة بقيت سرًّا مكتومًا إلى أن كانت سنة 1932, وكان عميد كلية الآداب هو الدكتور طه حسين, وتداول مع زملائه ومنهم الدكتور هيكل، بالفكرة التي نادى بها محمود عزمي سنة 1923, واتفق الرجلان. وكان أن كتب هيكل في اليوم الثاني مقالًا طويلًا يدعو فيه إلى وجوب إنشاء مثل هذا المعهد لتهيئة بيئة صحفية صالحة للمستقبل5, وأخذت جريدة السياسة في تأييد هذه الدعوة، والمطالبة بتحقيقها، وهي الدعوة التي لم تبدأ خطواتها التنفيذية إلّا في سنة 1939 6. ومن ذلك يبين أن ثقافة طه حسين لم تنعكس على مقاله الصحفي فحسب،   1، 2 المرجع نفسه. 3، 4 المرجع السابق ص435، 436، 515. 5، 6 عبد العزيز شرف: مرجع سبق ص374. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 ولكنها تجاوزت ذلك إلى تأهيل أجيال من الصحفيين يكون في مقدورها القيام بأعمال هذه الوسيلة الجماهيرية، التي يعتبرها أداة "لتثقيف الشعب وتهذيبه وتصفية ذوقه وتنقية طبعه، وتحقيق الصلة بين طبقاته, وتحقيق الصلة بينه وبين غيره من الشعوب"1. ونكتفي في هذا الصدد بأن نشير إلى نماذج من المقال الصحفي في أدب طه حسين، تكشف عن أثر ثقافته في توجيه مقاله توجيهًا وظيفيًّا. ومن هذه النماذج مقال بعنوان: "إذلال"2 يتحدث فيه عن "محنة العقل في الجامعة، هذه التي تريد أن تقصي عن مجالس الكليات كما أقصت عن مجلس الجامعة طائفة من الأساتذة المساعدين، هم الذين قامت عليهم الجامعة، سيصبحون منذ اليوم، وليس لهم إلّا إلقاء الدروس، وسيقضي فيهم الأجانب وكبار الموظفين وهم صاغرون! "3. ويستخدم في هذا الموضوع، الذي تدور فكرته حول محنة العقل4، شواهد تثبت أن "السياسة مصدر هذه المحنة"5 مستقاة من ثقافته، ومن هذه الشواهد قوله: "ومن قبل ذلك أُذِلَّ العقل في روسيا، فشُرِّدَ العلماء والكُتَّاب، وأُذيقوا ألوان الذل والعذاب، ولم تزل بهم سياسة البلاشفة حتى أخضعتهم لسلطانها، واضطرتهم إلى أن يكونوا لها أعوانًا وأبواقًا"6, ثم يقول بعد تفصيل ذلك في روسيا وألمانيا وإيطاليا7: "ولا بُدَّ لمصر من أن يمتحن فيها العقل كما يمتحن في هذه البلاد الأوربية الراقية، ولا بُدَّ للسياسة من أن تذل العقل في مصر، كما أذلَّت العقل في ألمانيا، وكما أذلَّته في روسيا، وكما أذلَّته في إيطاليا، لأن مصدر طغيان السياسة واحد في هذه البلاد كلها, مهما تختلف صوره وأشكاله، هو سخط على الديمقراطية، وإنكار لها، وتَبَرُّمٌ بها, ومحاولة لتطهير الشعوب منها. قوم يريدون أن يبسطوا سلطان العمال على غيرهم من الطبقات، فيحقِّقُون طغيان العمال، وقوم يريدون أن يحاربوا الشيوعية ويمكنوا الطبقات الوسطى من القضاء عليها, فيحققون طغيان هذه الطبقات, وقوم لا يجدون أمامهم شيئًا, لا يطمعون في التسلط, ولا يجدون أمامهم طبقات وسطى تحتاج إلى أن تقاوم وتدافع عن نفسها، ولكنهم يجدون أنفسهم وأطماعهم وأهواءهم وشهواتهم وإيمانهم لأنفسهم بالعصمة، فيريدون أن يخضعوا لأنفسهم أمة كاملة، وشعبًا بأسره، وأولئك   1 المرجع نفسه ص435، 436، 55. 2، 3، 4 كوكب الشرق 19 مايو 1933. 5، 6، 7 المرجع نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 وهؤلاء يخشون العقل فيحاربونه! ويحتاجون إلى العقل فيتملقونه! وأولئك وهؤلاء يتخذون وسائل القوة المادية العنيفة بإذلال العقل وإخضاعه لما يريدون! "1. وينتقل من تصويره لمحنة العقل في أوربا ليتحدث عن موضوعه الأساسي في مصر: "يجب أن يكون لمصر حظّها من فتنة العقل واضطهاده، فمصر جزء من أوربا، ويجب أن تأخذ بحظٍّ من كل ما يقع في أوربا!. "ظهرت الثورة الديمقراطية في أوربا، فثار بها بعضنا في مصر, ظهرت بدعة الدكتاتورية في أوربا فشغف بها بعضنا في مصر! ظهر إذلال العقل في أوربا، فجدت فيه حكومتنا في مصر! وهل يقع في الجامعة المصرية الآن إلّا هذا, إنما حياة الحكومة والجامعة حرب متصلة بين السياسة والعقل، قد انتصرت فيها السياسة على العقل انتصارًا مؤزَّرًا لا يعزى الناس عنه إلّا أنه موقوت يزول بزوال مصدره، وهو الوزارة القائمة"2 إلخ. وهكذا يبين أثر ثقافة طه حسين في التوجيه الوظيفي للثقافة في المقال الصحفي، الأمر الذي يتيح له الحكم الصائب، والنظر الصادق والتوجيه السليم. ومن هذه النماذج أيضًا، مقال بعنوان: "البرنامج المرن - لوزان"3 يستشهد فيه بفيلسوف من فلاسفة اليونان "ولعله أرخميدس- وكان يبحث عن نظرية من نظريات العلم. لا أذكر ما هي, وقد طال بحثه واشتد جهده, وتكلَّف عناءً كثيرًا, وإنه لفي الحمام ذات يوم أو ذات ليلة, ذات صباح أو ذات مساء, لا ينبؤنا بذلك التاريخ, إذ أُلْهِمَ الحلّ أو ظفر به, فأخذ يصيح "وجدت! وجدت! " "Evoraka! Evoraka! " هل فهمت الآن؟ " وهو يتمثَّل بهذا المثل تمثلًا وظيفيًّا في المقال، حيث يقابل بين هذا المثل بسياسة الوزارة التي "ما زالت تبحث عن حل لمشكلة لوزان"4. وقد يستدعي من ثقافته الأدبية بيتًا من الشعر الفرنسي أو العربي يستخدمه في المقال كذلك استخدامًا وظيفيًّا، كما فعل في مقاله له عن عيد الجهاد الوطني، وارتداد بعض رجال ثورة 1919 عن ثوريتهم: "وما رأيك في وزير من أبناء الثورة يشترك في إعلان الحرب على يوم الثورة5، في فترة الانتكاسة الدستورية، فيستدعي لهذا الوزير بيتًا "لشاعر فرنسيٍّ حديث يسأل نفسه هذا السؤال:   1، 2 المرجع نفسه. 3، 4 السياسة في 12 ديسمبر 1922. 5 كوكب الشرق في 13 نوفمبر 1933. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 - "ماذا صنعت، قل لي ماذا صنعت، بأيام الشباب"1. ومثل ذلك الاستشهاد الوظيفي، استشهاده ببيتين من الشعر العربي القديم، يتمثَّل بهما في تصوير "موقف الحكومة بإزاء المفاوضة مع الإنجليز"2 و"موقف الحكومة بإزاء مسألة الدين"3 وغيرها من المسائل التي "يخوض فيها الناس من المصريين والأجانب, فتثير في نفوسهم شكوكًا وريبًا, وتخلق جوًّا رديئًا قوامه سوء الظن وفساد الرأي وضعف التعاون, الذي يجب أن يكون بين الذين يعيشون على ضفاف النيل من المصريين والأجانب جميعًا، وكلٌّ يرتاب لصاحبه, وكلٌّ يخاف من صاحبه، وكلٌّ يصدق فيه قول الشاعر القديم: فإما أن تكون أخي بحق ... فأعرف منك غثي عن سميني وإلا فاضطرحني واتخذني ... عدوًّا أجتويك وتجتويني4 ومن ذلك يبين أن طه حسين من بين قادة الفكر ورجال القلم, قد أفاد من ثقافته العريضة والعميقة في بعض مواضعها على نحو ما نعلم عن ثقافته في مقاله الصحفي، وهو الأمر الذي جعلنا نذهب عند الحديث عن أسلوبه إلى أنه أسلوب ثقافي. رابعًا: وهو خلاصة ما تَقَدَّم من الصفات، أن طه حسين كاتب المقال الصحفي، نتيجة لمقومات شخصيته التي حاولنا التعرُّف عليها في القسم الأول؛ قد تمتَّع بحاسَّة اجتماعية مرهفة، وقدرة على الانغماس في المجتمع والاتصال بالجماهير، وموهبة في الحديث والإيناس، ونحو ذلك من الخصال التي تمكِّنُه من الوقوف على حقيقة الرأي العام، ذلك أن طه حسين -كما يقول خليل ثابت صاحب "المقطم"5 قد طابقت براعة الكاتب فيه براعة المحدث، وكان أسلوب طه حسين الكتابي أسلوب الحديث، ومن خصائص هذا الأسلوب أن يمضي فيه صاحبه عفو الخاطر الدافق، سهلًا لين المراس مسرعًا مستهلًّا، مستوقفًا مستفهمًا حازمًا، ساخرًا جادًّا قافزًا مستطردًا مرددًا معيدًا، همه الأول أن يظل ظافرًا بانتباه القارئ, فلا يدع إذنه تفرغ من نبرة الصوت وتسكاب الكلام"6. وعند طه حسين نجد أن هذه الحاسة قد نمت وتطوَّرت معه منذ اتصاله بالصحف، في الجريدة واللواء، والسفور، بل إنه تولى في مرحلة التكوين   1 المرجع نفسه. 2، 3، 4 كوكب الشرق في 28 مارس 1933. 5، 6 عبد العزيز شرف: طه حسين وزوال المجتمع التقليدي: مرجع سبق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 الصحفي سكرتارية تحرير مجلة "الهداية" مع الشيخ عبد العزيز جاويش، وقد أشار إلى ما أفاده من معرفة أدوار الصحيفة، كما تَقَدَّمَ، وتظهر هذه الإفادة فيما بعد حين يتولَّى رئاسة تحرير صحيفة كبيرة مثل "كوكب الشرق" اليومية، وحين يتولَّى كتابة المقال الرئيسي في صحيفة "السياسة" اليومية, إلى جانب عمله كمحرر "أدبي" للصحيفة؛ بحيث يمكن تشبيه خلاصة هذه الحواس الصحفية عند طه حسين بقوله عن الصحافة أنها "نار مضطرمة لا يَقْدِرُ على أن يُصْلَى بها إلّا الذين يهيئون لها أنفسهم ويسلكون إليها سبيلها, ويعرفون كيف يصلونها دون أن تحرقهم أو تحيلهم رمادًا, لا يغنون عن أنفسهم ولا عن غيرهم شيئًا. فليست الصحافة من اليسر بحيث يظن الشباب الطامحون إليها المتهافتون عليها، وإنما هي فن من أعسر الفنون الذي ينبغي أن يتهيأ له الآخذون فيه كأحسن ما يكون التهيؤ. والشباب الذي يريد أن يكون صحفيًّا لن يكفيه أن يقرأ الصحف, ويحاول تقليد ما ينشر فيها, ولن يكفيه أن يسمع ما يلقى من الدروس الكثيرة القيمة في معهد الصحافة أو في قسم الصحافة كما يقال الآن, بل يجب أن يتعلم هذا الفن في موطنه, ويبدأ من حيث يجب الابتداء, فيختلف إلى دار صحيفة من الصحف بالضبط كما يختلف إلى معهد الصحافة أو قسمها, ويقضي في هذه الدار بياض يومه أو سواد ليله أو كليهما أحيانًا, لا ليسمع فحسب, ولا ليكتب, ولكن ليرى آخر الأمر هذا الجهد الطويل والعناء الثقيل والصبر على المكاره التي لا يطيق أكثرها إلا الأقوياء المصممون"1. فالصحافة عند طه حسين "علم وعمل، وهي علم بالحياة أولًا وبحقائقها ودقائقها وأسرارها ومشكلاتها, وتهيؤ لاستقبال الأحداث وتعمقها وفق أسبابها ونتائجها"2. وقد تعرَّفنا فيما تقدَّم على فهم طه حسين للجمهور, ولطبيعة الاتصال الصحفي, وعلى مهارته الاتصالية، وهي أمور تكفل له في النهاية هذا التفوق في تحرير المقال الصحفي. كما تعرَّفْنَا على مكانه من الهيئة الاجتماعي والثقافية، وهو المكان الذي أسهم في هذا التفوق في التحرير الصحفي، نتيجة تأثيرها على سلوكه الاتصالي، وأسلوبه في الاتصال بالجماهير. ومن مظاهر ذلك التأثير في مقاله طه حسين، قوله: إن "للظروف السياسية ذوقًا كثيرًا جدًّا، دقيقًا جدًّا، شديد الحسِّ، شديد التأثر، شديد التفكير في غده, شديد الملاحظة لما قد يقال"3. ولكن هذا الذوق السياسي "دقيق حسَّاس فيما يمسّ الوزارة ورئيسها, وفيما يمسّ البرلمان وأعضاءه، ولكن أحدًا لا يشعر بدقته ولا يحسّه فيما يتصل بحياة هذا الشعب نفسه، فلم يسأل أحد عن   1، 2 من مقدمة الدكتورة طه حسين لكتاب الأستاذ جلال الدين الحمامصي "هذه هي صحافتنا بين الأمس واليوم" ص م، ن. 3 كوكب الشرق في 7 مايو 1933. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 آلام هذا الشعب متى تنتهي"1. ومن ذلك يبين أثر مكان طه حسين من الهيئة الاجتماعية، وهو المكان الذي ذهب به إلى الوقوف في صفوف الجماهير العريضة، على نحو ما فصلناه فيما تَقَدَّمَ. وتبين قدرة طه حسين على الانغماس في المجتمع من استقصائه لمظاهر سخط الناس في مصر على الحياة السياسية أثناء المحنة الدستورية, وهو يستقصي هذه المظاهر عند كل القاطنين مصر "مهما تكن الظروف، ومهما تكن البيئات، ومهما يكن المسئولون"2، كما يستقصيها عند المصريين "على اختلاف طبقاتهم وتباين منازلهم، وتفاوت حظوظهم من الثقافة والتعليم"3. ثم يستقصي هذه المظاهر عند الأجانب: "ستسمع منهم جوابًا يشبه جواب المصريين، فهم غير راضين، وهم غير مطمئنين، ومع ذلك فقد كانوا يعلنون الرضى منذ حين"4, ولكنهم "برغم هذا ليسوا راضين الآن، ولا مطمئنين، وإنما هم ساخطون أشد السخط, قلقون أعظم القلق، لماذا؟ لأن المصريين أنفسهم ساخطون قلقون، لأن الحياة كلها في مصر ساخطة قلقة مضطربة، ولأن الأجنبيّ لا يستطيع أن يرضى ولا أن يطمئن إلّا إذا رضي من حوله واطمأنَّّ الناس الذين يعيش معهم، ويعاملهم في كل يوم، ولأن سوء الظن بالأجنبي قد وجد السبل إلى نفوس المصريين لما ظهر من إسراف الرجال الرسميين في هذا العهد في إرضائهم ومحاباتهم وإيثارهم بالخير والبر دون أبناء الوطن. وإذا وصل سوء الظن بالأجانب في قلوب المواطنين فلا بُدَّ من أن يصل إلى قلوب الأجانب أنفسهم، ولا بُدَّ أن تقوم الصلات بين الوطنيين والأجانب على الشك والريبة، وعلى الحذر والاحتياط، وعلى الخوف وانتظار المكروه، وليس هذا كله مما يُقِرُّ الرضى في القلوب ويذود السخط عن النفوس"5 إلخ. ومن هذا الأسلوب الاستقصائي يبين أنه أسلوب في استقراء الرأي العام، يقوم على حاسة اجتماعية مرهفة، وقدرة على الانغماس في المجتمع بالغة، وموهبة في الاتصال بالجماهير. وهي أمور تجعل من فن "المقال الرئيسي" عند طه حسين مقالًا صحفيًّا في مكان الريادة من تاريخ الصحافة المصرية الحديثة.   1 المرجع نفسه. 2، 3، 4 كوكب الشرق في 17 أبريل 1934. 5 المرجع نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 الفصل الثامن: فن المقال النزالي يرتبط المقال النزالي بسياسة المقال الرئيسي ارتباطًا وظيفيًّا، ذلك أنه يتوسَّل به في مواجهة أو مهاجمة سياسة مناوئة للمذاهب والمبادئ والميول والاتجاهات التي يتفق فيها مع الحزب الذي يمثله في صحافته، وعندما نتحدث عن هذا الفن المقالي, فإن علينا أن نكون على بينة مسبَّقة من أنه فنٌّ خاصٌّ يُكتَبُ لأهداف معينة، في مقدمتها التأثير على القراء من جهة، ومناوئة لاتجاهات مضادة من جهة أخرى1. وفي ضوء هذا الفهم تتضح العلاقة الوظيفية بين فنِّ النزال وأغراض المقال الرئيسي أو الافتتاحي من حيث أنه يعبِّرُ عن الصحيفة ورأيها كمؤسسة، ولذلك يعفيه الباحثون في الصحافة من التخفُّفِ من الانحياز المسبَّق لرأي ما، ويذهبون إلى أنه ينطلق من آراء مسبَّقة، يؤيد كاتب المقال أن يحمل القارئ على اعتناقها، مستخدمًا الأسلوب النزالي الذي يحتمل شجب الآراء المخالفة وتسفيهها2. واكتسب هذا الفن المقالي في النزال خصائصه منذ كانت الصحافة النزالية في إنجلترا في القرن الثامن عشر، نوعًا من المصارعة الحرَّة، وسيلة المصارع فيها أن يصرع ولو بالكيد، وغايته منها أن يغلب بأية وسيلة3. لذلك كانت الخصومات الأدبية والسياسية تقوم بين الحين والحين, يخوض فيها الأدباء والصحفيون والساسة، على أن هذه الخصومات كانت في أغلبها حزبية شخصية، ليس فيها الشمول في المعاني، ولا تتعلق بمبادئ عامة، أو فلسفات جامعة، فارتبط المقال السياسي بالمسائل الحزبية والتصرفات الشخصية أكثر من ارتباطه بالموضوعات المذهبية العامة، التي بدأ الاهتمام بها قبيل الثورة الفرنسية4. ومع ذلك فقد كانت المقالات النزالية ذات أثر بارز في إرساء معاني الحرية5، شأنها في ذلك شأن المقالات النزالية في الصحافة المصرية التي اتجهت في اتجاهين؛ الأول: اتجاه الأدب، والثاني: اتجاه السياسة. ففي الأدب ظهرت معركة حامية الوطيس بين القديم والجديد، وهي المعركة التي بدأت على صفحات "الجريدة", وتناظر فيها: الرافعي عن القديم وطه حسين عن الجديد، ثم ما لبثت هذه المعركة أن انتقلت إلى صحيفة "السياسة" اليومية لمحررها هيكل، وما زال لهذه المعركة آثار في صحافتنا المصرية إلى اليوم. وفي الاتجاه الثاني من اتجاهات النزال السياسي كثرت المعارك بين الأحزاب   1، 2 M. Lyle, Spencer: op. cit., p. 43. 3، 4، 5 الدكتور إبراهيم إمام: فن المقال الصحفي في الأدب الإنجليزي ص215. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 المصرية التي ظهرت بعد الحرب العالمية الأولى، وأخذت تتزايد شيئًا فشيئًا فيما بعد. وقد انزلقت هذه المعارك السياسية أو الحزبية إلى مستوى الخوض في الأشخاص والأعراض. على أن الصحافة المصرية قديمة عهد بالنزال العنيف، فقد كانت بين المويلحي وعلي يوسف ملاحاة ومهاترات لا ندري لها سببًا غير المنافسة الصحفية بينهما1. ولكن هذا النزال العنيف "تحضَّر وتمدْيَن على يد صحيفة "السياسة", فصار أبلغ في الإيذاء. والعنفت السوقي القديم كان يقابل في الماضي من ضحاياه بالازدراء أو التأديب الجسماني، ولكن العنف المتحضِّر يحز ويؤلم ويرهق. فكانت إذ ذاك حرب الأعصاب قبل أن تخلق الكلمة, وكان من تلك الأيام أن أولعنا نحن المصريين بحب الصحافة المهاجمة وخصوصًا إذا تناولت الأشخاص. والناس يعرفون أن الصحف يتسع انتشارها حينما تكون معارضة، بل إن مؤيدي الحزب الحاكم يفضلون قراءتها على قراءة جرائد حزبهم، إذ هي ترضي في المعارضين والمؤيدين جميعًا ذلك الولع بتعقُّب الرجال الذي اكتسبناه أجمعين2. وعند الدكتور طه حسين، نجد هذا الفن النزالي والاتجاه القوى إليه منذ بيئة التكوين الصحفي، فهو حريص على النزال ليتابع "القراء ما يكتب"، وهي الرغبة التي أفصح عنها في مقالاته الأولى حينما طلب في مقال "من أيهم أنا"3 أن "يسمع كلمة لناقد", 4 أو "يرى مقالًا لعائب"5, بعد أن دعا "القراء إلى أن ينازعوه أطراف القول فيما يكتب أو يقول"6, وفي ذلك ما يشير إلى استجابته لمذهب "الغُلُوّ والإسراف" في التحرير الصحفي عند عند أستاذه الشيخ عبد العزيز جاويش7، وما يستتبعه من عنف في النقد والنزال، على النحو الذي تكشف عنه مقالاته الأولى في نقد المنفلوطي من عرضٍ كاريكاتيري, وسخرية مُرَّة لاذعة، فهو يسمي كتاب المنفلوطي "طاعون اللغة"8, ويخطابه ساخرًا على النمط البياني: ".. فلا أقسم بالزور وأحاديث الغرور، ما رزء الآباء في الأبناء, والأمهات بالبنات بأعظم ما رزء العلم بمثلك, وإني عليك من هذا لمن المشفقين"9 هي سخرية أقرب منها إلى الهجاء النثري، تدفعه   1 الدكتور عبد اللطيف حمزة: مرجع سبق ص176. 2 محمد شفيق غربان: تاريخ المفاوضات ص130. 3، 4، 5 الجريدة في 28 أكتوبر 1910. 6 المرجع السابق. 7 مذكرات طه حسين ص36. 8 العلم في 22 يناير 1911. 9 الشعب في 8 مايو 1911. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 حين يسمع بأن ما ينشر تحت عنوان "اللزوميات" في "المؤيد" هو للمنفلوطي، ولما يتبين حقيقة الأمر بعد، إلى أن ينقد ما نشر تحت هذا العنوان على أنه صادر من صاحب "النظرات" فيقول: "ومهما أكثر أبو فصاده من أقيسته، وأطال أبو العلاء في لزومياته، ومهما أغرق كلاهما في الإخفاء وانتحال الأسماء، ومهما نصبت لأحدهما الشباك، واختلفت في ثانيهما الآراء، فإن كثيرًا من الناس يعرفون من هما، ولا ينظرون إلى أقوالهما ... إلخ"1. على أن فن النزال في مقال طه حسين لم يلبث أن تطور ليغدو فنًّا قائمًا بذاته، يدور حول فكرة شاملة، ويسعى إلى الغلب والفوز والإقحام والتوجيه والتقويم، متوسِّلًا بالسخرية والتهكم في أحيان كثيرة، وقد يلجأ إلى الاستفهام الإنكاري، وهي أمور أكسبت مقاله النزالي بعد اتساع ثقافته ونضوجها سمات جدلية تتوسَّل بالمنطق والتفكير العقلي، على نحو ما تشير إليه المقالات الواعدة في "السفور"، حيث لم يعد يكتب حبًّا في الكتابة ورغبةً فيها فحسب، وإنما يترسَّم وظيفة اجتماعية للنزال لكي ينجاب عن المجتمع العربي "هذا الفتور، ويذاد هذا النوم2، ولعله من أجل ذلك "صنع" مساجلة "الحرب والحضارة" مع صديقه الدكتور محمد حسين هيكل الذي يقول: أذكر أن صديقي طه حسين كتب بعد أشهر من صدور السفور وبتوقيع "تأسيت" مقالًا قيمًا بعنوان: "الحرب والحضارة", أيد فيه النظرية القائلة بأن الحروب هي التي دفعت الإنسانية إلى الأمام، وهي التي قدَّمت العلم، وهي التي أنشأت الحضارة المختلفة وأقرتها بين بني الإنسان, وتلوت المقال كما كنت أتلو كل ما يُكْتَب في السفور، ولما ذهبت إلى القاهرة والتقيت وطه, سألني إن كنت قرأت مقاله.. فأبديت له إعجابي به ودهشتي للفكرة التي أملته في وقت تدوي فيه الميادين كلها بأهوال القتل والقتال والتخريب وإحراق المدن. فأجاب: "إنما كتبت هذا المقال لترد أنت عليه حتى نتجادل، ولتؤيد النظرية المضادة التي تذهب إلى أن الحروب طالما دمرت وخربت، وإن حماقة الإنسانية هي التي تدفعها للحروب". وراقتنا الفكرة جميعًا؛ لأنها "تدعو شبابنا للتفكير، وتدعو قراءنا لمتابعة ما نكتب". فالناس لا يحبون شيئًا حبهم الخلاف والجدل، وإن بلغا من العنف مبلغ النضال والحرب"3. وفي هذه المساجلة اتخذ "دكاترة السفور" على حدِّ تعبير الشيخ مصطفى عبد الرازق4 حديث الحرب فلسفة, وقاموا "بين صيحات التواكل وأنين   1 مصر الفتاة في 31 أغسطس 1909. 2 فصول ص11. 3 الدكتور محمد حسين هيكل, مذكرات جـ1 ص76، مجلة الهلال, فبراير 1935. 4 عبد العزيز شرف: فن المقال الصحفي في أدب محمد حسين هيكل ص147. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 الجرحى يتنازعون بينهم أمر الحضارة وعلاقتها بالحروب، يأبى الدكتور طه حسين إلّا أن يثبت نفع التقاتل للجمعيات البشرية, وعنده أن كلَّ مدنية في الأرض إنما تنبت تحت ظلال السيوف. ولكن الدكتور هيكل يفزع من سيلان الدماء الإنسانية, ولا يرى خيرًا في الحرب التي هي في نظره بقية مما تركت الوحشية في صدور الناس، فلسفة الأزهري القديم فلسفة مسلَّحة، وفلسفة الأستاذ المحامي دعة وسلام"1. وفي الفلسفة المسلَّحة عند طه حسين، نجد فكرة متكاملة لموضوع النزال؛ لأن طبيعة هذه المساجلة أشبه بالمناظرة الفكرية حول موضوعٍ يمسُّ البيئة العامة عن قرب, وهو موضوع الحرب الدائرة في العالم أثناء كتابتها، فهي أقرب إلى أن تكون موقفًا من المتناظرين إزاء المناخ العام، لا سيما وأن "السفور" قد نشأت في ظل الأحكام العرفية بعد "موت" الجريدة، ولم تكن لتصدر إلّا إذا أعلنت أن "لا شأن لها بالسياسة"2, ولذلك تنتقل هذه" الفلسفة المسلَّحة" إلى طورٍ جديد بعد ثورة 1919, وصدور صحيفة "السياسة" التي اتجهت في اتجاه المعارضة، وعرفت "كيف تشغل المفكرين المصريين" بمناهجها الجديدة3، فقد كان محرورها -كما يقول هيكل4- قد شعروا بأن ما أصاب الصحافة من هزال الحرب بسبب المراقبة جعلها بعيدة عن الغاية السامية التي وضعت لها, وذلك كله تجب مداواته ليتسع أمام النظر الحياة, وليشعر الناس بأن حريتهم في هذا المدى الواسع غير محدودة, وليقدروا ما كسبوه بسبب هذه الحرية من قوة في الحياة, ومن سلطان وسعادة للوصول إلى هذه الغاية.. جاهدنا، لتدخل الصحافة ما يقتضي الحال إدخاله من التجديد5. وتقوم الفلسفة المسلحة عند الأزهري القديم في هذا التجديد المقالي، الذي أدخلته "السياسة" في الصحافة المصرية من بعد، على الاتجاه نحو الهجوم دائمًا، بحيث يبقى خصمه "مدافعًا أبدًا"6، ونجد هذه القاعدة في فن النزال عند طه حسين، لا تشذُّ إلا حين يصدر كتابًا من كتبه فيتناوله بالبحث، كما نجد في نشأته ومقوماته الشخصية ومصادر ثقافته، من تقويم هذا النزال وتوجيهه.   1 عبد العزيز شرف: المرجع السابق ص147. 2 المرجع نفسه ص94, السفور في 21 يوليو 1915. 3 الدكتور إبراهيم عبده: مرجع سبق ص206. 4، 5 الدكتور محمد حسين هيكل: مرجع سبق ص170, السياسة في 2 نوفمبر 1922. 6 الدكتور محمد حسين هيكل: مجلة الهلال, فبراير 1935. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 ومن ذلك أن البيئة الأزهرية كانت تحفل بفنون الجدل، حين نشأ فيها طه حسين، ذلك أن الأجيال التي سبقته مثل: "محمد باشا صالح, وسعد باشا زغلول"1 كانت تحرص على هذا الجدل وتتفنن فيه، فكان سعد زغلول ينادي صاحبه ليتجادلا، ويترك له اختيار الجانب الذي يدافع عنه، ليتولى سعد الدفاع عن الجانب الآخر. و"حدث يومًا أن كان الشيخ محمد صالح غير متهيئ للجدل, فلما قال الشيخ سعد الله: هلمَّ نتجادل، قال الشيخ محمد: فليكن موضوعنا إذن "فائدة الجدل", واختار هو الدفاع عن أن للجدل فائدة, ودافع الشيخ سعد الله عن أن الجدل لا فائدة منه ولا غناء فيه"2. وفي ذلك ما يشير إلى أثر البيئة التي تمثلها الأزهري القديم في فلسفته المسلَّحة، إلى جانب الثقافة العربية القديمة، وما تشير إليه من توجيه في فنون الجدل عند طه حسين، فالجدل -كما يقول ابن خلدون3 هو: معرفة أدب المناظرة التي تجري بين أهل المذاهب الفقهية وغيرهم, فإنه لما كان باب المناظرة في الرد والقبول متسعًا, وكل واحد من المتناظرين في الاستدلال والجواب يرسل عنانه في الاحتجاج، ومنه ما يكون صوابًا, ومنه ما يكون خطأ, فاحتاج الأئمة إلى أن يضعوا آدابًا وأحكامًا يقف المتناظران عند حدودها في الرد والقبول4. وسُمِّيَتْ هذه الآداب "آداب البحث والمناظرة"5 على أن الخلاف والجدل في عرف العلماء العرب يختلفان عن البحث والمناظرة من حيث أن الغرض منهما الإلزام، والغرض من المناظرة إظهار الصواب6، فهي تعنى بخدمة الحقيقة والصواب، لا يعنيها الناس كما يعنيها إثبات الحق وبيان وجه الصواب. ويظهر أثر هذه الثقافة العربية القديمة، في تأثُّرِه بالفقه الذي درسه في الأزهر، فيذهب طه حسين إلى إيثار كلمة "الفقه" على كلمة "القانون" في مناظرته مع هيكل، ذلك أن الفقه عند طه حسين" ييسر" للكاتب دراسة نفوس الأفراد والجماعات ومعرفة خصائصهم، وما يعرض لهم في حياتهم الداخلية والخارجية من الأحداث والخطوب، وهو محتاج إلى هذا لأنه مضطر بحكم صناعته, سواء أكانت أدبًا أم فقهًا إلى أن يتحدث إلى الناس فيما يكتب وما يقول. وهو من هاتين الجهتين محتاج إلى العلم بشئون الناس, والتأثير في نفوسهم إذا تحدَّث إليهم في فصاحة وبلاغة وحسن أداء7. ويذهب تأسيسًا على هذا إلى أن الكاتب البارع أو المحامي الماهر لا تأتيهما البراعة من إتقان علوم الفقه بقدر ما تأتيهما من القدرة "على إقناع القضاة وقهر الخصوم"8.   1، 2 الدكتور محمد حسين هيكل: مجلة الهلال, فبراير 1935. 3، 4 المقدمة ص51 "مطبعة التقدم". 5، 6 حسين والي "الشيخ": الموجز ص32. 7 الدكتور طه حسين: "بين الأدب والقانون" مجلة يناير 1935. 8 المرجع نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 ومن ذلك يبين أثر البيئة الأزهرية وأثر "الفقه" وما يَضُمُّه من مسائل جدلية في تنمية الاتجاه الفطري إلى "النزال" عند طه حسين، وتوسّل هذا النزال بفنون الجدل المستقاة من ثقافته العربية القديمة، في إقناع القراء وقهر الخصوم. ذلك أن الثقافة العربية القديمة أيضًا قد زوَّدته بأسس جدلية توسَّلت بها الفرق الإسلامية، وأصحاب المقالات الفلسفية في الحوار وتقرير الآراء، والتي بدأت شفوية في الحديث والخطابة، ثم صارت كتابية تسجل في كتب ورسائل، كما نجد في مناظرة الهمذاني والخوارزمي في نيسابور1، ومناظرة "صاحب الديك" التي كتبها الجاحظ في "الحيوان" لبيان رأيين مختلفين، وغيرهما كثير. والباحث في أصول النمط النزالي في مقال طه حسين يجد امتداد التيار القديم في التحرير المقالي، والذي جعلناه في معطيات هذا البحث مؤثرًا من المؤثرات التي أنتجت فن المقال الصحفي في الصحافة العربية والمصرية، ومن أصول هذا التيار ما نجده عند العلماء العرب من تناول المتن والسند والدليل والتقسيم وغيرها من المسائل الموضوعية والمعنوية، وما نجده كذلك من ازدهار النزال في التيار القديم لارتباط نشأة النثر العربي بنشأة الأحزاب السياسية بعد تفوض نظام الخلافة وإقامة الملك2, ثم نشأة المناظرات العلمية والفلسفية والدينية بعد ذلك3. وذلك كله بالإضافة إلى فنِّ "الهجاء" الذي عرفته الثقافة العربية القديمة وتفننت فيه، وإلى هذا التيار القديم يُرْجِعُ طه حسين ازدهار "النمط النزالي" في المقال الصحفي بين الحربين، ذلك أن الخصومات السياسية قد يسَّرت اللغة تيسيرًا غريبًا، ومنحت العقول حِدَّة رائعة ونفاذًا بديعًا، واستطاعت أن تشغل الجماهير وتعلمهم العناية بالأمور العامة، والاهتمام لها, والتفكير المتصل فيها. وأحدثت أو قل: أحيت في النثر العربي فن الهجاء الذي أتقنه الجاحظ وقصر فيه من جاء بعده من الكُتَّاب. فقد أصبح هذا الهجاء السياسي من أهم الألوان لأدبنا العربي الحديث، فيه الحدة والعنف, وفيه المتعة واللذة، وفيه التنوع والاختلاف بتنوع الأمزجة واختلافها، وفيه الإيجاز والإطناب، وفيه التصريح والإشارة"4. وإلى جانب هذا الأثر القديم في ثقافة طه حسين نجد للثقافة الفرنسية الحديثة أثرها في توجيه مقاله النزالي، نكتفي من ذلك بإشارته إلى القصص التمثيلية التي تثير ألوانًا من النقد "لها خطرها، بعضها يتصل بالسياسة   1 رسائل بديع الزمان الهمذاني, ص47, ط بيروت 1921. 2، 3 الدكتور طه حسين: من حديث الشعر والنشر ص26. 4 ألوان ص27. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 فيختصم فيه الناس كما يختصمون في السياسة، وبعضها يتصل بالأدب, فيختصم فيه الأدباء دون غيرهم من الناس، وبعضها يتصل بالأدب والسياسة جميعًا"1, وكان للبيئة الفرنسية صداها في نزال طه حسين، فالناس في هذه البيئة" "يختصمون دائمًا، تفرض منافعهم عليهم هذا الاختصام، ولكنه اختصام لا يفسد الحياة، ولا ينغِّصُ العيش, ولا يدفع إلى المكر، ولا يغري بالكيد، ولا يغيِّر صداقة الأصدقاء، ولا يجعل بعض المواطنين لبعض عدوًا. وما أكثر ما يختصم المختصمون في مثل هذه البيئة أشد الاختصام وأعنفه في الصحف أو في البرلمان أو في غير الصحف والبرلمان من وجوه النشاط! ولكنهم على ذلك يلتقون وقد ألقوا عن أنفسهم ثقل الخصومة حين ألقوا عن أنفسهم ثقل العمل، وخلصت قلوبهم وضمائرهم لما يكون بين المثقفين حين يستقبلون مشهدًا من مشاهد الفن, أو موضوعًا من موضوعات الأدب أو خاطرًا من خواطر الفلسفة"2. ويتمثل هذه البيئة الفرنسية في نزالياته، حين يريد أن يختصم المصريون كما يختصم الفرنسيون وغيرهم من الشعوب المتحضرة الراقية، ذلك أن المصريين "يختصمون كما كان الناس يختصمون في بعض البيئات القديمة, لا يرعون في خصومتهم رفقًا ولا أناة ولا ذوقًا ولا وقارًا، وإنما هو العنف والإمعان في العنف حتى يصلوا إلى أبعد غاياته مهما تكن النتائج، يخلطون أنفسهم بأعمالهم وأعبائهم، ويسرفون في الإيمان بأنفسهم حتى يقدروا أنهم إذا نهضوا بالسياسة وأعبائها فإنما ينهضون بأمورهم الخاصة لا بأمور غيرهم من الناس. ولست أعرف أشد غرورًا ولا أعظم إمعانًا في الحمق من رجل يعيش في العصر الحديث ويمارس الأعمال العامة على النحو الحديث, ثم لا يفرق بين شخصه وبين أعماله العامة، ولا يقدر أنه حين ينهض بالمنصب أو يمارس السياسة ليس إلّا وكيلًا للشعب ينوب عنه في تدبير بعض أمره نيابة موقوته قد تقصر وقد تطول, ولكنها موقوته على كل حال"3. ومن ذلك يبين أثر البيئة الفرنسية في توجيه المقال النزالي عند طه حسين، توجيهًا يقوم على أن "الشعب في البلاد الحُرَّة يرى أن الحياة العامة ملك له هو لا للسياسة ولا للقادة4، ولذلك فإن واجب المقال النزالي يقضي عليه أن يوجه إلى احتمال "جد الحياة العامة, ويشقى بهذا الجد أحيانًا في نفسه وماله، فإن الحق الوطني المدني له أن ينعم بما في حياته العامة من خير, ويلهو بما في هذه الحياة العامة من فكاهة أو دعابة أو مزاح. والمهم هو أن حياة   1 رحلة الربيع والصيف ص65، 71، 74. 2، 3، 4 رحلة الربيع والصيف ص65، 71، 74. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 الشعب ملك للشعب، يبتئس بها حين تفرض عليه الابتئاس، ويبتهج بها حين تثير في نفسه الضحك. وليس للناهضين بأعباء هذه الحياة أن ينكروا ذلك أو يضيقوا به، فهم حين يقبلون النهوض بأعبائهم لا يشترطون على الشعب ألا يضحك منهم حين تدعو سيرتهم للضحك، وألا يتنَدَّر بهم حين تدعو سيرتهم للتندر, وكما أن الكاتب والشاعر والفيلسوف والعالم لا يشترطون على قرائهم قبل أن يقدموا إليهم آثارهم أن يعفوهم من النقد، فالساسة والقادة والموظفون لا يشترطون على الناس قبل النهوض بأعمالهم أن يعفوهم من النقد, سواء كان هذا النقد مرًّا أم حلوًا وجدًّا أم مزاحًا1". ومن ذلك يبين أيضًا أن طه حسين قد وجد في الصحافة الفرنسية نموذجًا للنزال الصحفي، كما وجد في "خصومتها السياسة لذة، لأن فيها ذكاء حادًّا, وفيها رقة في اللفظ, وفيها إصابة في الجدال، وفيها على هذا كله براءة من السب والشتم ولغو الكلام وهراء الحديث2". فإذا أضفنا إلى ذلك تمثله للأسلوب الديكارتي في مقاله الصحفي بصفة عامة، وفي مقاله النزالي خاصة، فسيتضح لنا الأثر الفرنسي في مقال طه حسين، وهو الأثر الذي ينمي الأثر العربي ويقوّمه، كما أثَّر التيار الصحفي في طور التكوين في توجيه مقاله النزالي، ذلك أن هذه البيئة الصحفية -كما تَقَدَّم- قد شهدت معارك قلمية ترتبط بنشأة الأحزاب السياسية في مصر، كما ترتبط بالحياة الأدبية في القرن الماضي وأوائل هذا القرن، على نحو ما نجد في معارك: عام الكف، وعام الكفء، وعام الكفر3. وقد تعَرَّفنا على أثر هذه البيئة من خلال تشجيع الشيخ جاويش للأسلوب النزالي في مقال طه حسين، ذلك أن مذهب الشيخ جاويش هو "مذهب الغُلُوِّ والإسراف4، فكان يحبب العنف إليه ويرغبه فيه، ويحرضه عليه تحريضًا5. على أن هذه المؤثرات الخارجية قد تضافرت جميعًا مع مقومات شخصية طه حسين ومصادر ثقافته على تطوير الأسلوب النزالي, الذي استجاب له طه حسين نتيجة لاتجاهه الشبيه بالفطري؛ فقد وجدنا من حادثة "اللقمة الشهيرة" أثر البيئة الأولى في اكتسابه صفة الجلد، التي جعلته يُحَرِّمُ على نفسه ضروبًا من اللعب وألوان الطعام والشراب1، وإلى هذه الصفة، ذهبنا إلى إرجاع جلده   1، 2 المرجع السابق ص75، 162. 3 عباس العقاد: رجال عرفتهم ص61 وما بعدها, الدكتور عبد اللطيف حمزة أدب المقالة جـ3 ص53. 4، 5 مذكرات طه حسين ص36. 6 الأيام جـ1 ص5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 في النزال العنيف، متى أتيحت له الوسائل, وملك أن يفصح عن حقيقته ومشاعره وآرائه في صبره على النزال وجرأته في مواجهة الخصوم، يرتبط بهذه الخصائص الشبيهة بالفطرية، ميل طه حسين الشديد إلى أن يكون في صفوف "المعارضة" أكثر مما يميل إلى صفوف "الإجماع", نجد ذلك الميل لديه منذ سافر إلى القرية أول مرة وهو طالب بسيط في الأزهر، فاستخفَّت به القرية وهي تحتفي بأخيه كلما شقَّ دروبها, بل تحتفي به غائبًا فترفع الصوت في السؤال عنه والاطمئنان عليه. فآذى نفسه ذلك فمضى ينقد كل شيء: دلائل الخيرات التي كان يعتز والده بقراءتها، ومجالس الشيوخ، وامتدَّ نقده إلى المحكمة الشرعية نفسها، فانتقم لنفسه صبيًّا وخرج من عزلته؛ وشغل الناس في القرية والمدينة بالحديث عنه والتفكير فيه. وتغيَّر مكانه من الأسرة، مكانه المعنوي إن صحَّ هذا التعبير، ولم تعرض عنه أمه وأخواته، ولم تقم الصلة بينهم وبينه على الرحمة والإشفاق، بل على شيء أكثر وآثر عند الصبي من الرحمة والإشفاق، وانقطع ذلك النذير الذي سمعه الصبي في أول الإجازة بأنه يبقى في القرية، ينقطع عن الأزهر, ويصبح فقيهًا يقرأ القرآن في المآتم والبيوت1. فاتجاه طه حسين إلى صحافة المعارضة منذ عودته إلى وطنه بعد ثورة 1919، سواء في صحافة الأحرار الدستوريين، أو في صحافة الوفد حين كان الوفد في معارضة صدقي، اتجاه أصيل في نفس طه حسين، منذ كان يجادل شيوخه في الأزهر حتى خرج منه عقب جدال. حتى السلطان نفسه عارضه فكان إذا غضب على شيخ انتصر له وأعلن انتصاره له في الصحف, وسعى إلى داره, ولزم درسه فيها, لا حبًّا في علمه" ولا تهالكًا على شيخه، ولكن تحديًا لذلك السلطان الذي كنا نراه جائرًا متحكمًا, ولا نريد أن نذعن لجوره ولا لتحكمه"2 وقد تعرفنا على آثار هذا الاتجاه في النزاليات الأولى لطه حسين، حين هاجم المنفلوطي الذي كان الناس "يجمعون" على الإعجاب به، إن جاز هذا التعبير، وكما تبيَّنَ من مساجلة "الحرب والحضارة" في السفور؛ وهي مساجلة "صنعها" طه حسين، على نحو ما تقدَّم تفصيل ذلك، يتوسَّل بها إلى القراء ليثير فيهم "الجدل والتفكير", ولم تلبث هذه النزاليات "أن تمثَّلت عناصر الثقافة القديمة والحديثة، والمقومات الشخصية, لتؤصل بعد عودته إلى وطنه فن المقال النزالي الصحفي في مزاج جيله, وتقيمه على تقاليد مكينة، كما تبيَّن من دراستنا لمصادرها في القديم والحديث، وهو فن يتوسَّل به رغم حزبيته إلى التعبير عن أفكار تتعلق بالمبادئ العامة، وتدور حول اتجاهات جديدة في إطار من "التعقيل" و"التنوير", ذلك أن قالب "النزال" في نهاية   1 المرجع نفسه. 2 أديب ص19. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 الأمر وسيلة لدعوة القراء إلى "التفكير", و"متابعة" ما يكتب الكُتَّاب؛ ليؤدي المقال وظائفه "التوجيهية" و"التقويمية" و"الإقناعية" على أفضل نحو ممكن. ولعل في كلمة "أندريه جيد" تليخصًا لمحور النزال في مقال طه حسين، ونعني قوله: "لتكن حياتك ثائرة مثيرة، لا تجعلها هامدة ساكنة"، فالقالب النزالي في مقال طه حسين وسيلة ثورية يتوسّل بها إلى هدم الهدم، والتقليد والمحاكاة، وهو لذلك ينتقل من الاعتماد على المنطق الأرسطي في طور التكوين، والذي كان يتخذ منه سلاحًا ذا حدَّيْن في مقاله النزالي، من حيث تنظيم التفكير والتسلُّح بعدته في النزال، إلى منطق جديد يتوسَّل بالأسلوب الديكارتي الوظيفي، حيث لم يعد يكتب "حبًّا في الكتابة ورغبة فيها"1 كما كان يفعل في طور التكوين الصحفي، ولكنه أصبح يكتب من خلال رؤيا وظيفية للمقال، تتغَيَّا التبسيط والتوجيه والتقويم والتثقيف، وما إلى ذلك من الوظائف التي تسهم في تكوين الرأي العام المصري، الذي يريده طه حسين على أن يكون "أشد أنواع الإصلاح سطوة وأعظمهم بطشًا"2. ذلك أن دوافع الكتابة والتحرير عند طه حسين، تأتي من أن "موضوعًا من الموضوعات مشكوك فيه, فلا بُدَّ من أن يثيبت, أو غامض فلا بُدَّ أن ينجلي، فلا بد من أن يعرف, أو ضعيف فلا بد من أن يقوى, أو قوي فلا بد من أن يضعف"3. فهذه الدوافع للكتابة والتحرير عند طه حسين تقتضي التوسُّل بوسائل جديدة "لهداية الذهن", كما ذهب إلى ذلك "ديكارت" في معارضة المنطق الأسططاليسي، ذلك أن هذه الوسائل تتيح للمقال الصحفي، وللقالب النزالي منه خاصة، السير على هدى؛ وخطة مرسومة، ومنهج محدد، ذلك أن ديكارت يذهب إلى أن أوَّل ما يلزم للمعرفة، وللإنسان الواعي، هو الشعور بضرورة المنهج، ثم إيجاده، وتطبيقه في مجالي النظر والعمل جميعًا, ويتحدد هذا المنهج في "قواعد مؤكدة تعصم الذهن الباحث من الوقوع في الخطأ، وتمكنه من بلوغ اليقين في جميع ما يستطيع معرفته، دون أن يستنفد قواه في جهود ضائعة"4، وهذه القواعد عند طه حسين هي التي تحدد منهجه المقالي في المعرفة ليبدد آثار ما تبقَّى من "عصور الظلمة المظلمة, والجمهور القبيح"4.   1 مذكرات طه حسين ص38. 2 السفور العدد 14. 3 الدكتور طه حسين" بين الأدب والقانون" مجلة الهلال يناير 1935, مرجع سبق. 4 الدكتور طه حسين: نفس المرجع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 وقد استطاع طه حسين بقواعد المنهج الديكارتي أن يثير لدى القراء الرغبة في "التفكير؛ لأن الإنسان الذي يشك لا بُدَّ أن يفكر، والشك هو دليل الفكرة, كما أن الفكر دليل الوجود، وتأسيسًا على هذا الفهم تصبح الكتابة أمرًا محتَّمًا -عند طه حسين؛ إذ لا بُدَّ من وجود "قوم يكتبون وكثرة من الناس لا بد من أن تقرأ"1. وهذه القراءة ليست "لقطع الوقت"2, ولكنها غذاء "العقل والذوق والقلب"3. ومن أجل هذه الغاية يصبح النزال في قاموس الكلمات الكاشفة، إن صحَّ هذا التعبير، يقابل "الخصام" في قاموس طه حسين4، ذلك أن الصحف في سبيل إثارة "التفكير" كانت تشترك "في درس موضوع واحد أثاره كاتب من الكُتَّاب, فأنكر عليه كاتب آخر بعض ما قال, أو كل ما قال، وأسرع إلى هذا الكاتب وذاك أنصارهما فاختصموا وأطالوا الاختصام، وانتفع القراء والكُتَّاب جميعًا بهذه الخصومات"5. بل إن هذه الخصومات أو النزاليات هي التي بنت لجيل طه حسين "مجدًا, وجعلتها من قادة الرأي"6. ذلك أن من طبيعة الكاتب نفسه أن "يكتب, ومن طبيعة نفسه أن يتصل بالناس، ليقرأوه ويشاركوه في الحس والذوق والشعور"7. والكاتب لذلك -عند طه حسين- ليس محتاجًا إلى أن "يرضي الناس عنه فحسب، ولكنه محتاج إلى أن يرضوا عنه ويسخطوا عليه"8, بل إنه يذهب إلى أن "الخصومة قوام الحياة, ولأمر ما قال الناس منذ أقدم العصور: إن الحياة صراع، وإن الحياة صراع، وإن الحياة جهاد"9. وفي ضوء الرؤية الوظيفية للنزال عند طه حسين، نحاول أن ننظر في عجالة سريعة، في خصائص المقال النزالي في صحافته, والتي تميز بها في أداء الوظائف الصحفية للمقال: أولًا: إن طه حسين يتوسّل بالنزال توسُّلًا وظيفيًّا في مقاله, فقد أراد إلى أن "يستيقظ النائم ويتنبه الغافل ويخرج الهادئ من هدوئه, ويزعج المطمئن الراضي عن اطمئنانه، ورضاه"10, وهو لم يرد إلى ذلك في النزال السياسي فحسب، ولكنه ذهب إلى ذلك في النزال الأدبي والثقافي أيضًا، ذلك أنه كان يذهب إلى أن لا شيء "أضرَّ بالحياة وأدفع لها إلى البلادة والجدب من هذا الذي يتورَّط فيه المثقفون من الخمود والركود، والرضى بما كان" والاطمئنان   1 المرجع نفسه. 2، 3، 4 خصام ونقد ص6، 7. 5، 6، 7 المرجع نفسه ص7، 23. 8، 9، 10 المرجع نفسه ص23، 143. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 إلى ما هو كائن، والاستخفاف بما يمكن أن يكون1". ويصرح طه حسين أنه كان يؤثر دائمًا "سخط العقول على رضاها، وأن أحب لها القلق وأكره لها ما يمكن أن تضطر إليه من هذا الأمن المخيف الذي ينتهي بها إلى الفتور وإيثار الدعة, والاطمئنان الذي يحبب إليها الراحة, ويغريها بالكسل, ويزين لها الاستسلام والتسليم أيضًا2". وفي ضوء هذا الفهم الوظيفي للنزال، فإن طه حسين في كثير من الأحيان هو الذي يطلق "السهام" الأولى، ويتخذ مكان "الهجوم" قبل أن يكون في "الدفاع"، ذلك أن النزال عند طه حسين إنما يكون "في سبيل الرأي أو في سبيل كلمة تقال, وليس من قالها3" ويتمثَّل في ذلك بقول الشاعر القديم: يموت الفتى من عثرة بلسانه ... وليس يموت المرء من عثرة الرجل4 وعثرة اللسان هذه -عند طه حسين, إنما يكون مصدرها "حب الحق والحرص على النصح للناس وإن كرهوا النصح والناصحين5، وهي لذلك في المقال النزالي تُعَرِّضُ الكُتَّاب والمصلحين للمحن "لأنهم يقولون ما لا يرضى الناس6"؛ ولأنهم يحاولون "أن يلقوا في روع الناس ما لم يألفوا, وما لم يحبوا ويريدون أن يحملوهم على منهج جديد من مناهج الحياة, مخالف للمناهج التي آثروها بالحب ووصلوا بها قلوبهم وعقولهم وصلًا, وكرهوا أن يزعجهم الناس عنها بعد أن طال اطمئنانهم إليها7". تلك هي الرؤيا الوظيفية للنزال في مقال طه حسين، حين يتجه في الاتجاه الثقافي والسياسي أو الاجتماعي، وهي الرؤية التي تجعله كما يقول الدكتور هيكل عنه "مهاجمًا" أبدًا، وكما ظهر أثر تلك الرؤية النزالية في مساجلاته الأولى حول "الحرب والسلام", ومع الرافعي وجورجي زيدان والمنفلوطي, وكما ظهر أثر الرؤيا في مقاله السياسي أو الاجتماعي من بعد، ذلك أنه كما يقول -يستطيع أن يحمل نفسه "على الصمت؛ لأنها تأبى إلا الكلام حين يوجد موضع الكلام"8؛ ولأنه إن "أكرهها على ما لا تحب" واضطرها اضطرارًا إلى الصمت, وحملها على الإغراق فيه, جاءه الراضون عنه والساخطون عليه: "فاستكرهني على القول وأخرجوني من العزلة", وخلطوني بأنفسهم, وأشركوني في خصوماتهم ومشكلاتهم التي لا تنقضي"9.   1، 2 المرجع نفسه ص57. 3، 4، 5 المرجع نفسه في 108، 109. 6، 7 المرجع نفسه ص109، 133. 8، 9 المرجع نفسه ص133. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 ذلك أن النزال -عند طه حسين- هو مصدر المذاهب الأدبية المختلفة, والمذاهب الفلسفية على اختلافها1، ولم تكن الخصومة بين العقاد والمازني وشوقي عنده -تجريحًا، لأنها "فتحت للمعاصرين من الأدباء المصريين أبوابًا جديدة في الفن, وآفاقًا جديدة في النقد, وعلمتهم أن الشعر لا ينبغي أن يكون تقليدًا للقدماء ومحاكاة لهم في رصانة اللفظ وجزالة الأسلوب وروعة النظم مهما تكن, ومكانة هؤلاء الأدباء, ومهما يعظم حظهم من التفوق والنبوغ. وإنما ينبغي أن يكون الشعر مقتطعًا من الحياة التي يحياها الناس في العصر الذي يقال فيه، مقتطعًا منها وسابقًا لها أيضًا؛ وفاتحًا لقرائه وسامعيه آفاقًا جديدة في التصور والحسِّ وفي الشعور والخيال"2. على أن النزال في مقال طه حسين يرتبط كما تَقَدَّم برؤية وظيفية، تبين من موقف مقاله من زوال المجتمع التقليدي، وهي الرؤيا التي جعلته يتخذ أسلوب الاستقراء الديكارتي أسلوبًا لمقاله النزالي، على النحو الذي أشرنا إليه، لأنه أنسب الأساليب في التغيير ومواجهة عوامل التدعيم الوسيطة، الأمر الذي يجعلنا نذهب إلى أن النزال في مقال طه حسين لا ينفصل عن الاستراتيجية الحضارية العامة التي صدرت عنها جميع مقالاته الصحفية في الاتجاهات المختلفة. ثانيًا: إن طه حسين -تأسيسًا على ما تَقَدَّم- لم ينازل أحدًا لمجرد الرغبة في التجريح، ولكنه يتمثل وظيفة النزال قبل أن يقدم عليه، وهو لذلك حين يتهيأ لنزال يدرس الأمر مليًّا، حتى يتمكَّن من تحقيق الإقناع المنشود، ومن ذلك أنه خاصم العقاد في غير "موطن من مواطن الخصومة"3. خاصمه في "السياسة, وخاصمه في الأدب، وخاصمه في غير السياسة والأدب أيضًا"4، ولكن هذه الخصومة كما يقول: "لم تغض من قدر العقاد في نفسي, وما أظن أن بين لدات العقاد وأترابه ومعاصريه من يقدره ويكبره مثل ما أقدره أنا وأكبره"5. وسبق أن أشرنا إلى أنه أثنى على أدب العقاد في جريدة "السياسة" حين كانت "الخصومة بين الوفديين والدستوريين كأعنف ما تكون الخصومات". لم يمنعني ذلك من أن أسجل أنه كاتب عظيم وشاعر ممتاز, وقد كانت الحرب سجالًا بينه وبيني, فلم يمنعه ذلك من أن يقوم مقام الرجل الكريم في مجلس النواب، فيدافع عني حين كان الوفديون جميعًا عليَّ حربًا"6. وقد خاصم الرافعي كما خاصمه العقاد, وخاصم المازني وهيكلًا وغيرهم كما خاصموه: "ولكن ذلك لم يمنعنا في يوم من الأيام من أن نكون أصدقاء يعرف بعضنا لبعض حقه, ويضمر بعضنا لبعض ما يضمر الصديق للصديق من   1، 2 المرجع نفسه ص143. 3 المرجع نفسه ص143. 4، 5، 6 المرجع نفسه ص145. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 الوفاء"1، كما خاصم توفيق الحكيم أو خاصمه توفيق الحكيم2: "وسله إن شئت عَمَّا تركت هذه الخصومة في نفسه, ولا تسلني أنا عَمَّا تركت هذه الخصومة في نفسي، فكل الناس يعرف أن الخصومة بين الناس وبيني مهما تشتد, فهي أهون شأنًا وأقل خطرًا من أن تترك في نفسي أثرًا". وتفرض هذه القواعد الأخلاقية على النزال أن يقضي كاتبه فيما يقضي فيه بعلم، وأن يحكم فيما يقدر على الحكم فيه"3، ويذهب طه حسين إلى أن القواعد هي التي جعلت كُتَّاب المقال النزالي في صحافتنا "بنَّائين، فهم لم يكونوا هدامين حين اختصموا"4، ذلك أن الخصومة في نهاية الأمر "قوام الحياة"5. على أن هذه القواعد النزالية، لم تشمل النزال الأدبي فحسب، وإنما تخطته بالتجاوز لتشمل النزال الصحفي عامة، في الأدب والسياسة والاجتماع والاقتصاد، وغيرها من ميادين النزال، وهي القواعد التي تمثَّلت في "دستور للنزال" تمثلته المدرسة الحديثة بصفة عامة, ومدرسة "السياسة" بصفة خاصة، ويتلخص هذا الدستور النزالي، كما يقول طه حسين في: "أن تفرغ الصحيفة للمسائل ذات الخطر التي يُعنى بها الناس في هذه الأيام -أي وقت صدروها- والتي قد تفيد الكتابة فيها بعض الشيء"6، وهو لذلك ينكر على "السياسة" أن تكتب فيها "لا يستوجب كل هذه الجهود"7، فرب واحد جيد يكفي "لإذاعة ما تريد السياسة أن تذيع من المناقشة والجدال"8، وتأسيسًا على هذا الفهم ينكر على "السياسة" أن تنشر فصلًا لكاتب "فيما يظهر لا يملك نفسه, كما ينبغي للذين يريدون أن يخوضوا في غمار الكتابة في السياسة، ويصنفوا بنوع خاص آراء الأحرار الدستوريين، الذين عرفناهم في قديم الزمان، لا يحبون همزًا ولا غمزًا، ولا يؤثرون شتمًا ولا سبًّا، موقوفًا على الهمز واللمز، وعلى التعريض السخيف، والتلميح الذي كنت أحب أن أجل السياسة عنه"9. ذلك أن "فن الكتابة السياسية على مذهب الأحرار الدستوريين خاصة، وعلى مذهب المثقفين عامة"10 يأبى الأسلوب الذي يتنافى مع القواعد الأخلاقية لفن النزال، وهي القواعد التي يصدر عنها طه حسين في نزاله، لذلك، فهو يؤثر الأسلوب العقلي في النزال، الذي يعصم ذهن الكاتب   1، 2 المرجع نفسه ص146. 3، 4، 5 المرجع نفسه ص142، 143. 6، 7 كوكب الشرق في أول يونيو 1933. 8، 9 المرجع نفسه. 10 المرجع نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 من الوقوع في الخطأ، ويمكنه من بلوغ الإقناع في جميع ما يستطيع معرفته، دون أن يستنفد قواه في جهود ضائعة. وقد وجد طه حسين في منهج ديكارت الفكري، وقواعد "هداية الذهن"1 أسسًا تحقق لمقاله النزالي خطة مرسومة، ومنهجًا محددًا، في مجال النظر والعمل, وهو في المجال السياسي أنسب المناهج التي تجعله يبدأ النظر من جديد حتى يتبين الحقيقة، ولكن هذا المنهج الديكارتي في نزال طه حسين يقابل وسيلة أخرى توسَّل بها في مقاله لاجتناب الخطأ في النزال، "حين يتحتم أن تُسْتَخْدم للتمحيص مع كثير من العناية والتأمل طريقة يعرفها المسلمون جيدًا, هي طريقة "التجريح والتعديل Inadmissible et Intole'rable, وطريقة التجريح والتعديل ابتدعها رواة السنة النبوية, مؤداها البحث الدقيق الذي يجب إجراؤه للتحقق من أمانة المحدِّث وصدقه، وكلما أريد التحقق من صحة حديث روجعت تلك المعلومات الخاصة بمن رواه من المحدثين, وقد انتهى الأمر بأن جعل من تلك المعلومات شبه معجمات يستطيع مراجعتها كل عالم, فيستخرج منها بعض القواعد التي تساعد في تقدير قيمة كل حديث. وتؤلف هذه القواعد عما يعرف "بمصطلح الحديث"1. ويقول طه حسين: "ويجب تطبيق هذه الطريقة على الوقائع التاريخية التي تأتي بها الرواية, فإذا كان الراوية أمينًا صادقًا.. سليم الذهن, أمكن تصديق ما يرويه.. إلخ3. ونجد آثار هذه الطريقة، وآثار المنهج الديكارتي في مقال طه حسين، بصفة عامة، وفي مقاله النزالي خاصة، ليكتشف الظواهر السياسية والاجتماعية والثقافية بأداة العقل، وليزيل الأوهام العالقة بالمجتمع التقليدي، على أن توكيده أن العقل ليس هو الملكة الوحيدة للمعرفة، يؤكد ما ذهبنا إليه من قبل، من ارتباط منهجه العقلي بإحساس عملي واقعي وظيفي، يتابع الظواهر ويتقرَّاها ويسيطر عليها من خلال مقاله الصحفي في نهاية الأمر. ومن نماذج هذا المقال الصحفي النزالي، مقال بعنوان "موقفان"4, يقول فيه: "الناس يقولون ويسرفون في القول، ويؤكدون ويلحون في التأكيد أنَّ صاحب المعالي وزير الأشغال لا يحب خزان جبل الأولياء ولا يطمئن إليه، ولا يرى على أقل تقدير العجلة في إقامته وتشييده وتكلف ما سنتكلفه من النفقات في   1، 2 فلسفة ابن خلدون الاجتماعية, ط1 القاهرة 1925. 3 كوكب الشرق في 11 مارس 1933. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 تلك الإقامة وهذا التشييد، وفي هذه الأيام التي تشتد فيها الحاجة، لا أقول إلى الاقتصادر والتدبير, بل إلى البخل والتقتير1. ومن تعبيراته في هذه الفقرة من المقال يبين المنهج الديكارتي في التوسُّل بالشك الذي يتضح من قوله: "الناس يقولون" و"يؤكدون" إلخ. وهذا الأمر الذي يميز مقالاته النزالية حيث يبدؤها بالشك، والمضي فيه إلى أبعد الحدود، وتعليق رأيه حتى يتبين الحقيقة. وهو لذلك يقول في المقال المتقدِّم بعد استعراض "شكوكه": وقد يكون من الحق على الحكومة لنفسها أولًا, ولمصر ثانيًا, وللإنجليز ثالثًا, أن تصدر بلاغًا تريح الناس فيه من الكلام حول موقف المستشار المالي في هذه المسألة, كما أراحتهم من الكلام حول موقف وزير الأشغال.. إلخ"2. إلى أن يقول في خاتمة المقال مؤكدًا على "استجلاء الحقيقة": "ونستطيع أن نؤكد للحكومة أن موقف المستشار المالي من خزان جبل الأولياء له خطره, وهو خليق بأن يتحدث فيه إلى رئيس الوزراء على شدة حاجته إلى الراحة والهدوء، هو خليق أن يسأل رئيس الوزراء عن الطريقة المثلى المعقولة التي ينبغي أن تسلك تجاهه وتوضيحه أمام الرأي العام"3. ويتفق هذا الأسلوب العقلي في النزال عند طه حسين مع اتجاهه الديمقراطي, ذلك أن "الذين يحبون الحياة الديمقراطية، ويحصرون عليها مخاصين، لا ينبغي أن يستمتعوا بخيرها ويضيقوا بشرها إلى هذا الحد، وإنما ينبغي أن يقبلوها كما هي، وأن يجدوا ما استطاعوا في إصلاح شرورها وعيوبها، لا بالعنف ولا بالشدة ولا بضيق النفوس وحرج الصدور، ولكن بالأناة والحلم، وبضبط النفس وقهر الهوى، وبالدعوة إلى الخير بالحجة والموعظة الحسنة، لا بالاستعداء ولا بالنذير"4. وتأسيسًا على هذا الفهم يذهب إلى تأييد الصحف الهازلة، في مواجهة رفض الدكتور هيكل لها، ذلك أن النزال في مفهوم طه حسين يقتضي أن تقول جميع الاتجاهات ما تشاء, وأن تتوسَّل إلى ذلك القول بما تشاء من وسائل صحفية؛ فحزب الوفد -كما يقول طه حسين- "كغيره من الأحزاب الديمقراطية، له صحفه الرسمية التي تصف آراءه، وتصور مذاهبه، وتدعو بلسانه، فهو مسئول عن هذه الصحف، ولكن هناك أشياعًا للوفد كثيرين، يتصلون به، وينتصرون له، ويدعون إليه بالكلام حينًا, وبالكتابة في الصحف حينًا آخر، وهؤلاء لا يستشيرون الوفد، ولا يصدرون فيما يكتبون عن وحي من الوفد،   1، 2، 3 كوكب الشرق في 11 مارس 1933. 4 كوكب الشرق في 31 مايو 1933. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 ولا يوجههم الوفد في الطرق التي يسلكونها، ومن حق الوفد لنفسه أن يشجعهم حين يدعون إلى مذهبه، وينتصرون لمبدئه، وليس من حق أحد أن ينكر ذلك على الوفد أو يلومه فيه"1. ذلك أن الأسلوب العقلي في النزال يقتضي مناخًا ديمقراطيًّا يتمكَّن فيه من أن يتناول الأشياء على النحو الذي يُبَيِّنُ "الحقيقة" ويكشف عنها، ذلك أيضًا أن "اليقين يقتضي الشك"2، الأمر الذي يصل بين النزال ووظيفة "المعارضة" من حيث تبيان "خطأ الوزارة"3 وطلب إصلاح هذا الخطأ، فإذا "قصرت الوزارة" فإن المقال النزالي مطالب بإظهار تقصيرها4، وإذا "شطت الوزارة"5 فإنه مطالب كذلك بتبيين "شططها, وطلب إليها أن ترتَدَّ إلى شيء من القصد والاعتدال"6, ومن أجل ذلك يأخذ المقال النزالي على "ديكتاتورية" صدقي كل سبيل، كما أخذ على التبشير والمبشرين كل سبيل كذلك، لأن مقاومة الاستبداد، لا تقل خطرًا عن مواجهة الخطر الذي يهدد معتقدات الناس، على أن هذا الفهم يدحض الزعم, روجت له صحف الوزارة بأن "المعارضين يتخذون قصة المبشرين وسيلة إلى إحراجها، وإنما الحق الذي لا شك فيه أن المعارضين قد أرادوا وما زالوا يريدون وسيريدون دائمًا أن تنهض الحكومة بما خلقت له، وهي إنما خلقت قبل كل شيء لحماية المواطنين من العدوان الخارجي، ومن فساد النظام واضطراب الأمن في داخل البلاد، وليس حماية للمواطنين من العدوان الخارجي أن يترك المبشرون يقدرون عليهم من كل مكان, فيعبثون بصبيانهم, ويسيئون إليهم في الدين والكرامة والأخلاق"7. على أننا لا نجد في مقالة النزالي مجرد فكر ليسعى للتفسير، وإنما نَحُسُّ به فكرًا يسعى للسيطرة على الواقع التاريخي والاجتماعي، إنه يعيد صياغة الأحداث وترتبها وتبويبها على نحوٍ منطقي عقلي صارم، بحيث نجد في مقاله النزالي رجل سياسة خبير بنفوس الرجال وأحوال الحياة، وذلك على الرغم من كثرة العبارات الظنية التشككية، التي يتوسَّل بها في التعبير عن "مواقفه" العملية المدروسة، ومن ذلك مقال بعنوان: "عناد"8 يقول فيه:   1 المرجع نفسه. 2 أندريه كرسون: ديكارت. 3، 4، 5 كوكب الشرق في 25 يونيو 1933. 6 المرجع نفسه. 7 المرجع نفسه. 8 كوكب الشرق في 13 مارس 1933. 9 السياسة في 3 ديسمبر 1922. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 "زعم المصريون أن المستشار المالي نصح للحكومة المصرية ألا تتعجل إنشاء خزان جبل الأولياء، ثم أكد المصريون هذا الزعم وجعلوه يقينًا، ثم نشرته الصحف, وطلبت وطلبنا معها إلى الحكومة أن تبين للناس وجه الحق فيه، وقد أخذ الإنجليز يزعمون وينشرون كما كان المصريون يزعمون وينشرون أن المستشار المالي لا ينصح بالمضي في هذا المشروع الآن، وكل شيء يدل على أن الإنجليز سيستقلون بعد ما زعموا كما زعم المصريون ثم استيقنوا، وإذن فمن المحَقَّق "إلى أن تقول الحكومة غير هذا"، أن الرجل الذي تصر الحكومة الإنجليزية على بقائه في منصبه بمصر رقيبًا على تصرفات مصر المالية أن يحتمل تبعة الصمت: على هذا التصرف الغريب في هذه الأزمة المنكرة، معنى ذلك كما قلنا من قبل أن هذا المستشار الإنجليزي لا يتردد في أن يقهر عواطفه الإنجليزية، ويعرض عن المنافع الإنجليزية، ويعلن إلى الحكومة رأيه مكتوبًا، وهو النصح بتأجيل المشروع الآن. "كل هذا حق إلى أن تنفيه الحكومة نفيًا صريحًا واضحًا لا يحيط به الغموض والإبهام مثل ما أحاط بموقف وزير الأشغال من هذا المشروع1". وتكاد بعض الألفاظ والتعبيرات في هذا القسم من المقال تشير إلى الأسلوب الديكارتي في استجلاء الحقيقة، ولكن هذه الحقيقة عند طه حسين هي الحقيقة العملية الواقعية، التي تحدد المعالم الأساسية للرؤيا الوظيفية عند كاتب المقال. ذلك أن الشك الديكارتي في مقال طه حسين، يتوسَّل بالأسس المنهجية، التي يضيف إليها طه حسين طريقه العقلي العملي العام، الذي يتسم بسمات ديكارتية أخرى غير الشك, مثل الوضوح والتميز في الحكم والتعبير والتحليل، كما يبين من المقال المتقدم حين يعتبر "الصمت" تبعة, وأن "النفي" يجب أن يكون "صريحًا واضحًا لا يحيط به الغموض والإبهام". وما إلى ذلك مما يشيع في مقالاته الأخرى. ومن هذه المقالات يمكن تفسير الحاجة المستمرة في نزالياته، على أن يكون لكل وزارة "برنامج واضح" يمكن أن "يناقش ويناله التنقيح والتمحيص"2. ذلك "أن لأمة المصرية قد كسبت في هذا العصر الجديد حقًّا جديدًا, وهي حريصة على أن تحتفظ بهذا الحق وتستمتع به, هذا الحق هو أن تقرأ لكل وزارة جديدة برنامجها الذي تبيِّنُ فيه آراءها السياسية, وخطتها في تحقيق هذه الآراء3".   1 كوكب الشرق في 13 مارس 1933. 2، 3 السياسة في 13 ديسمبر 1922. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 وفي سبيل هذا المطلب الدستوري يكتب بعنوان "وزارة بلا برنامج1" مؤكدًا منهجه في الوضوح والتعبير والتحليل: "إنما وزارة الأقوال تلك التي تعرض عن كل حركة منتجة, وتكتفي بضروب القول الحسن تبذلها من غير حساب, ولم يطالب أحد الوزارة بذلك, وإنما نطالبها ويطالبها معنا الجمهور كله بأن تبين لنا ماذا تريد أن تعمل, وكيف تريد أن تعمل للخير حقًّا. فإن الرأي العام إذا عرف برنامجها وخطتها استطاع أن يراقبها عن كثب, فيؤيدها إن أصابت, ويرشدها إن تعرَّضت للخطأ قبل أن تقع فيه؛ لأنه يعلم ما تريد, ويعلم خطتها في تحقيق ما تريد. وهو بهذا التأييد والإرشاد لا ينفع الوزارة وحدها, بل ينفع الأمة قبل كل شيء؛ لأنه ينبه الوزارة إلى ما تتعرَّض له من الخطأ, فإذا سمعت له هذه الوزارة أمَّنت منافع الأمة أن تضيع, وإذا لم تسمع له كان الرأي العام قد أدى واجبه, وبيِّنَ وجهة نظر الجمهور, فأصبح غير مسئول عَمَّا تتورط فيه الوزارة من الأغلاط2". ويتوسَّل طه حسين في سبيل الوضوح والتبسيط بطريقة التجريح والتعديل عند المسلمين كما تقدم، كما يتوسّل بالمنهج الديكارتي في النزال، ف"الصمت" و"الغموض" في الأعمال السياسية من أبغض الأمور لمقاله النزالي، ومقاومتهما للإشارة إليه، من مقال يكشف عنوانه عما ذهبنا إليه, ونعني مقال: "تكلم نسيم! 3 " "وكلام نسيم عجب من العجب, فقد عرفناه صامتًا إلّا عن ذكر الله والتسبيح بحمده والاعتماد عليه في القليل والكثير، والدقيق والجليل. تكلَّم نسيم وقد كان صامتًا، وسكن نسيم وقد كانت متحركًا, ذلك أن صاحب الدولة ورئيس وزارة الشعب يجمع خصلتين متناقضتين ولكنهما تميزان عظماء الرجال؛ فهو ساكت إذا تحرَّك, ساكن إذا تكلَّم. وآية ذلك أنه حكم شهرين وأكثر من شهرين فعمل كثيرًا. كثيرًا جدًّا, ولكنه لم يقل شيئًا إلا الاعتماد على الله والاستعانة بالله, ثم أقيل وسكن فبدأ يتكلم, ولست أزعم الآن أنه عمل خيرًا أو قال خيرًا, ولكني أثبت قبل كل شيء أن نسيم   1 السياسة في 3 ديسمبر 1922. 2 المرجع نفسه. 3 السياسة في 27 مايو 1923. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 باشا صامت إذا عمل، ناطق إذا لم يعمل. فلننظر ماذا قال بعد أن رأينا, أو بعبارة أصح, بعد أن احتملنا نازلة القضاء بما عمل. لننظر ماذا قال, لا لنستفيد ولا لنعتبر, فليس الكلام الذي نطق به نسيم اليوم موضعًا للفائدة أو العبرة. لننظر ماذا قال لنضحك, نعم لنضحك، فقد قال نسيم باشا شيئًا مضحكًا, ومضحكًا جدًّا, وليته عمل كما قال فأضحك ولم يبك, وسر ولم يحزن, ولكن الله أراد أن تكون أعمال نسيم باشا مبكية مؤلمة, وأقوال نسيم باشا مضحكة تبعث البهجة في النفوس. "تكلم نسيم. وهل تدري إلى مَنْ تَكَلَّمَ؟ "تكلَّم إلى الخواجا دورماني, وإلى مَنْ تريد أن يتحدث نسيم إذا لم يتحدث إلى الخواجا دورماني وإلى الخواجا كاسترو؟ فقد خلق كاسترو ودورماني بوقين لنسيم, وخلق نسيم أنفخ في هذين البوقين, وبين هذا النافخ بنت اليوم ولا بنت أمس. ولكنها قديمة. فكثيرًا ما نفخ نسيم قبل الحكم وأثناء الحكم. وكثيرًا ما زمَّر كاسترو ودورماني قبل الحكم وأثناء الحكم, وما يزالان يزمران بعد الحكم, ولكل مزمار سامع, كما أن لكل بوق نافخًا. فلكاسترو ودورماني ناس يسمعون ويطربون, كما أن لكاسترو ودورماني ناس يوحون وينفخون. "تكلم إذن نسيم باشا وهو بطبيعة الحال يدفع عن وزارتيه, نعم وزارتيه: عن وزارته الحديثة التي أضاعت نُصَّ السودان, ومسحت الدستور, وألقت على الكثرة المطلقة جرائم القتل رسميًّا, وعن وزارته القديمة التي حاولت قتل الروح الوطني وإفساد الخلق الوطني, وكادت توفق من هذا كله إلى شيء كثير. "نعم يدفع نسيم عن وزارتيه ولكنه لا ينهض بحجة, ولا يعتز بدليل, وإنما يصيح بأنه بريء, وبأنه مظلوم, وبأنه مخلص, وبأنه صادق, وبأنه مستجمع كل صفات الخير, وبأنه أراد أن يكون مسخ الدستور والعبث بحق الشعب محققًا لسلطان الأمة وسيطرتها على أمورها, وأن يكون النزول عن نص السودان مؤيدًا لحقوق مصر في السودان, مثبتًا لمركز المفاوض المصري يوم تدرس مسألة السودان, وأن يكون اتهام الكثرة المصرية بجرائم القتل موصلًا إلى تحسين الصلات بين المصريين والإنجليز. ولكن نسيمًا هو الذي ينفخ ودورماني هو الذي يصيح, وإذا صاح هذا ونفخ ذاك فليس لنا إلّا أن نضحك1! ". ومن ذلك النموج يبين توسُّل طه حسين بأدوات السخرية في التجريح   1 المرجع نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 والتعديل الذي يقوم على العقل، على أننا نجد في مقاله النزالي كذلك، اتجاهه وفق المنهج الديكارتي من "المعاني" إلى "الأشياء"1, أي: ألَّا ننسب إلى الأشياء إلّا ما ندركه إدراكًا بديهيًّا في معاني تلك الأشياء, وأن نرتب جميع أفكارنا في نسق خاص، بحيث يكون كل معنى منها مسبوقًا بكل المعاني التي يستند إليها، وسابقًا لجميع المعاني التي تستند إليه. ونجد نموذج هذا الاتجاه في المقال النزالي عند طه حسين، في مقال بعنوان: "نجدة"2 يقول فيه: "إذا قويت الوزارات آثرت الصراحة والحزم في القول والعمل، وإذا ضعفت الوزارات لجأت إلى الحيلة والالتواء فيما تعمل أو تقول, ويظهر أن وزارتنا قوية أشد القوة، عزيزة أشد العزة، ولكن قوتها تسمى ضعفًا في غير مصر، وصراحتها تُسمى التواء، وحزمها يُسمى حيلة ومداورة. وقد قلنا غير مرة أن للأمور العامة وضعين مختلفين، أحدهما: هذا الوضع القديم المألوف الذي تُسمى فيه الأشياء بأسمائها، هو هذا الذي نشهده في بلاد الأرض كلها، والأخر: هذا الوضع البديع الشاذ الذي تُسمى فيه الأشياء بنقائضها، وهو الذي نشهده في بلدنا السعيد، فنحن أحرار، ولكننا لا نستطيع أن نقول, ولا أن ننتقل, ولا أن يلقى ضحية الحركة الوطنية الحاضرة. وإليك بعض ما قال نسيم باشا مترجمًا ترجمة صادقة: -كلا! كلا! لن أقول شيئًا. "لقد أديت واجبي, واجبي كله على عسرة ومشقة أحيانًا, فإذا هدأت الشهوات وأحسن خصومنا فهم الحقائق فسيَرَوْنَ أن السياسة التي اتبعتها كانت "رسميًّا" السياسة الوحيدة الممكنة, وكانت على كل حال بمقتضى الظروف أحسن سياسة تعين الشعب على تحقيق الغاية التي يسعى إليها بكل قواه"3. ثم ينتقل بعد هذا الجزء الذي يتوسَّل فيه بوسائل طريقة الشك الديكارتي، إلى تقويم أقوال "نسيم", يقول طه حسين: "أقرأت! أفهمت! أمَّا أنا فقد قرأت وفهمت, كان سياسة نسيم باشا السياسة الوحيدة الممكنة, وكانت سياسة نسيم باشا السياسة الوحيدة التي تعين الشعب على تحقيق آماله, كانت السياسة الوحيدة الممكنة لأن السفر إلى لوزان كان مستحيلًا؛ ولأن إصدار الدستور كاملًا كان مستحيلًا؛ ولأن الاحتفاظ بنص السودان كان مستحيلًا.   1 أندريه كرسون: مرجع سبق. 2 كوكب الشرق في 29 أغسطس 1933. 3 المرجع نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 "كان يجب أن يقعد نسيم باشا عن لوزان, وكان يجب أن يمسح نسيم باشا الدستور, وأن يضحي بسلطان الشعب لرجال البلاط, وبنُصِ السودان للإنجليز, كان هذا واجبًا. ولكنا نستطيع أن نقول لدولة الباشا: إن هذا لم يكن واجبًا, وإن قومًا غيره كادوا يسافرون إلى لوزان, ويحتفظون بنص السودان, ويصدرون الدستور كاملًا، وإن قومًا غيره استطاعوا أن يبرئوا هذا الدستور من كثير من ضروب المسخ والتشويه, ولكن الأغرب من هذا أن تكون سياسة نسيم باشا هي السياسة الوحيدة التي تعين مصر على تحقيق آمالها, وأن يكون الفرد في لوزان معفيًا لمصر من ديون الجزية بعضنا بعضًا، ولا أن يجتمع بعضنا إلى بعض في حفل عام، أو خاص، إلّا إذا أذنت الوزارة ورضيت، والوزارة تأذن وترضى ولكن لأصدقائها وأنصارها، فأما خصومها فذلك شيء ليس لهم أن يستمتعوا به أو يفكروا فيه. ونحن آمنون, ولكن جرائم القتل والشروع في القتل يذاع بعضها كل يوم، فإذا هو مروّع مخيف, أشبه بما تشتمل عليه بعض البلاغات الرسمية حين تصور خسائر الأعداء من القتلى والجرحى في بعض المواقع الحربية المنظمة. فقد كانت خسائر مصر يوم كذا خمسة عشر أو ستة عشر أو أربعة عشر، منهم القتيل, ومنهم الجريح المشرف على الموت، ومنهم الجريح الذي يُرجى له الشفاء, ولا تذكر السرقات, ولا تذكر خطف الأطفال, ولا تذكر الاعتداء على الترع، فكل ذلك شيء لم يبق له خطر. ونحن موسرون, ولكن امرأة تكلف من يعرض ابنتها للبيع، ورجلًا يعجز عن أن يعول أهله، ومنهم زوجه وأطفاله فيصب عليهم الزيت ويشعل فيهم النار. ونحن مدبرون، ولكن الدول الأجنبية تأبى أن تجيبنا إلى فرض الضرائب على رعاياها؛ لأنها ترى من إسرافنا وتبذيرنا وإلقائنا للمال باليمين والشمال ما يقنعها بأنا أغنياء، فلا ينبغي أن نشق على سادتنا الأجانب بفرض الضرائب عليهم، والتسوية بينهم وبين عبيدهم المصريين. ونحن أعزة في بلادنا، ولكن طائفة من الأجانب يعتدون على ديننا وأخلاقنا وأعراضنا، سرًّا وجهرًا، فإذاحاولنا أن نرُدَّهم عن ذلك, أو نَحُول بينهم وبينه, قامت من دونهم قوى خفية وأخرى ظاهرة فردتنا نحن وصدتنا، وقالت: إياكم وفرض الرقابة على هؤلاء الناس، حتى تنظم لكم هذه الرقابة تنظيمًا برأي الإنجليز, وبعد استئذان المبشرين. "وعلى هذا النحو تجري أمورنا كلها معكوسة مقاومة, والناس عنها راضون، وإليها مطمئنون, ومنهم من يفاخر بها, ويتخذ منها الأدلة الواضحة على هذا الشأو البعيد، الذي قطعناه في سبيل الحرية والاستقلال، وعلى هذا المنزل الرفيع الذي نزلناه من التقدُّمِ والرقي حتى كدنا نبلغ الكمال، ونحن بالغوه من غير شك في آنٍ قريب جدًّا، متى فرغ رئيس الوزراء من الاصطياف والاستشفاء1".   1 المرجع نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 وهكذا ينتقل المقال النزالي من "المعاني" إلى "الأشياء"، وهذه الأشياء في مقال طه حسين، "شواهد" مشتقة من الواقع، وتعتمد على الأخبار والماجريات، ويتم الانتقال بين "المعاني" وبين هذه "الأشياء" من خلال ذهن عملي واقعي، يتوسّل بهذه الأشياء توسُّلًا وظيفيًّا لأداء المعاني التي يهدف إلى توصيلها لقارئه، بغرض "الإقناع" أو بغرض "التغيير". ثالثًا: استخدام الأسلوب الجدلي في غرض غير مباشر، لإحداث تأثير أقوى على القارئ من جهة الإقناع بفساد دعوى الخصوم، وقد أشرنا فيما تقدَّم إلى أثر الثقافة العربية في توجيه أسلوبه الجدلي، وجهة تقوم على تمثُّل فنون الجدل واستخدام أسرار اللغة العربية استخدامًا وظيفيًّا في أداء أغراض هذا الجدل من خلال النزال الصحفي، فمن مظاهر الأصالة في مقال طه حسين تمثُّله مناظرات المتكلمين والفلاسفة ورؤساء الفرق السياسية وجدلهم في الكوفة ومسجد البصرة في أول القرن الثاني للهجرة، ويؤيد كلٌّ منهم "مذهبه السياسي باللسان, بعد أن كان يؤيده بالسيف،1 والتأييد باللسان، هو النزال القولي في مقابل النزال الحربي، ولكن هذا النزال القولي يدعو "الناس إلى شيء كثير من التفكير والاعتبار والعظة"2. فالأسلوب الجدلي أسلوب إقناعي يتوسَّل به طه حسين في مقاله النزالي، الذي يتحدد مفهومه الجدلي بأنه يتوسَّل في تأييد رأيه بالبرهان وإبطال رأي منازله ودحض حجته. "والأصل فيه أن يكون حديثًا غير مكتوب، ولكن بعضه يكون كتابة كالجدل في الرسائل والجرائد والمجلات"3, ويقوم هذا الجدل المكتوب على "علم أدب البحث, وعلم الجدل لتنظيم الكلام على وجهٍ يعطي كل مجادل حقَّه"4. والجدل في مقال طه حسين النزالي، أسلوب يعتمد على الكشف عن "الحقائق, وتبين ما في الكلام من دخل, فترى الحجة قوية في ظاهرها حتى يدحضها بفكر دقيق ونظر ثاقب، فلا تجدي الفكرة الغامضة والعبارة المبهمة، بل تحدد الفكرة وتصاغ لها العبارة, لا تزيد عليها ولا تنقص، ويستولي الفكر لا الوهم على الكلام, فيصرفه تصريفًا لا يقوى عليه إلا من أوتي حظًّا من العقل الناقد والبيان القدير"5. وتأسيسًا على هذا الفهم، نجد أن الأسلوب الجدلي في نزاليات طه حسين غير مباشر، بمعنى أنه قد يتوسَّل بالحوار، كما أنه قد يتوسَّل بقالب الوصف والتصوير، أو القالب القصصي، كما سنجد في المقال الكاريكاتيري. على أن   1، 2 من حديث الشعر والنثر ص35. 3، 4 الدكتور طه حسين "وآخرون": التوجيه الأدبي ص23، 24. 5 الدكتور طه حسين "وآخرون": التوجيه الأدبي ص23، 24. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 هذه القوالب الفنية في النزال تشترك في عدة سمات نزالية تتغيَّا الإقناع، منها: 1- إن طه حسين حين يجادل يرتبط بخصمه، ويتقيد بأفكاره إلى حدٍّ ما، يستمع إليها، ثم يناقشها، ولذلك يردد في عبارته كثيرًا من ألفاظ منازله وعباراته، إذا كانت موضوع النزال. ومن ذلك مقال بعنوان: "همج"1، يستخدم فيه كلمه مهجورة عنوانًا لمقاله، من ألفاظ خصومه في مجلس النواب "في عهد صدقي", يقول طه حسين: "نعوذ بالله أن نحب هذه الكلمة، أو أن نؤثرها، أو أن نتخذها عنوانًا لفصلٍ من الفصول عن رضى بها أو ميل إليها، ولكنها كلمة أصبحت رسمية, أو كسبت حقًّا من الحقوق المدنية, فلم يبق بد من أن نقر لها بهذا الحق الذي كسبته أن نؤمن لها بهذه المزية التي ظفرت بها, أو أي حق أعظم من أن ينطق بهذه الكلمة نائب من النواب في مجلس النواب، على منبر النواب، وتحت قبة البرلمان, أو أيّ مزية أميز، وأي فضيلة أفضل من أن تسجَّل هذه الكلمة في مضبطة مجلس النواب، ومن أن تسجَّل على أن نائبًا قذف بها في وجه الوزراء وزملائه من النواب! "نعم امتازت هذه الكلمة، وكسبت حقوقًا، وليس على الصحف بأس أن تستعمل الألفاظ المهجورة، وتتخذها عنوانًا لما تكتب من الفصول بعد أن يمنحها النواب الحقوق المدنية، فيجب أن يقوم مجلس النواب الآن مقام المجمع اللغوي الذي أعلن تكوينه ثم لم يكن، وعزم على تأليفه ثم لم يؤلف، وأكبر الظن أن وزير التقاليد قدَّر في نفسه أن مجلس النواب يستطيع أن يستغني عن هذا المجمع، فيحيي المهجور من الكلام -وقد كدت أن أملي الهجر- ويضيف إلى اللغة ما ليس فيها، وما دام مجلس النواب قادرًا على أن يشرع في كل شيء، ويراقب كل شيء، ويقضي في كل شيء، فهو بإذن الله قادر أن يشرع في اللغة ويراقبها ويقضي فيها!!. "ولكن مجلس النواب لم يحدد أمس -ولعله يريد أن يحدد اليوم- معنى كلمة الهمج هذه، فليس لكلمة من الكلمات قيمة إلّا أن يُحَدَّدَ معناها، ويضبط ما تدل عليه، وكان النائب الذي نطق بهذه الكلمة وأدخلها في معجم البرلمان، مغضبًا ثائرًا، منغص المزاج، فيجب إذن أن لا يكون قد أراد بها دعابة ولا فكاهة ولا مزاحًا، وفضلًا عن أن يكون قد أراد بها تحية للمجلس أو ثناء عليه!   1 كوكب الشرق في 24 مايو 1933. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 "وغضب رئيس المجلس حين سمع هذه الكلمة لنفسه, ولنواب الأمة، ووزراء الدولة، فطلب إلى النائب المحترم أن يسترد كلمته هذه، ويظهر أن النائب المحترم من تلاميذ أستاذنا الشيخ محمد المهدي -رحمه الله، فقد أساء إلى بعض الناس بكلمة ساقها إليه، فلما طلب سحبها كما يقولون أجاب" "يا ولدي كلمة قيلت فكيف أسحبها" لذلك أبى النائب أن يسحب كلمة بعد أن قالها، وقد غضب المجلس، أو بعبارة أدق, اختلف المجلس في وقع هذه الكلمة، أكان شديدًا فينبغي أن يألم له النواب؟ أم كان خفيفًا فينبغي أن يغضي عنه النواب؟ لذلك لم يثوروا بصاحب الهمج هذه! وإنما ألحوا عليه في رفق ولطف في أن يستردها، ويعتذر منها، ولم يكن يعدل لين المجلس إلا شدة النائب! فقد كان المجلس يلح في الاعتذار، وكان صاحب الهمج، يكرر الهمج، حتى إذا أثقل زملاؤه عليه، لم يسحب الكلمة، وإنما سحب نفسه، وخرج من المجلس جديدًا شديدًا، يمزق بيديه مشروع القانون الذي كان يعرضه وزير التقاليد! وكان يدرسه المجلس ويظهر الميل إليه، والتأييد له، وكان النائب ينكره، ويرى أن الهمج لا يعرضونه ولا يقبلونه!! "هناك كانت حِدَّة وشدة، وهناك كانت ثورة وفورة، ولكنها لم تكن عامة ولا شاملة، وإنما كانت مقصورة على جماعة من النواب، لهم فيما يظهر أمزجة حادة، وحِسٌّ سريع التأثر، وكانت كثرة المجلس آخذة بالعفو، آمرة بالعرف، ميالة إلى الصفح، ولا سيما إذا قبل صاحب الهمج أن يتَقَدَّم بالاعتذار، وسترى اليوم إلى أين تبلغ هذه القضية: أيسحب النائب كلمته فيبقى في المجلس؟ أم يأبى النائب سحب كلمته فيسحبه المجلس من بين أعضائه سحبًا موقوتًا أو غير موقوت؟! ". ثم يختم المقال بهذه النتيجة الساخرة التي طرح معطياتها فيما تَقَدَّم من القول: "وإذن فستشهد القاهرة مساء اليوم ثورتين، ثورة في مجلس النواب، وثورة في مجلس الشيوخ، ولكنهما ستكونان بإذن الله خفيفتين كل الخفة، هادئتين كل الهدوء، لن تضطرم فيهما النار حتى يطفئها الاعتذار!! ثم يمضي الليل ويشرق النهار، ونقرأ أن نوقشت القوانين وأبواب الميزانية في المجلسين في سرعة دونها مر القطار السريع"1. ويبين التزامه بمناقشة الأفكار والآراء التي يطرحها خصمه، وترديده عبارات منازله في إطار من السخرية من مقال يكشف عنوانه عن هذه السمة بوضوح، ونعني مقال:   1 المرجع نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 "حديث وتصحيح أو تورط كاسترو"1. يقول فيه: "نحن مضطرون إلى أن نضع هذين العنوانين لما نريد أن نكتبه اليوم, مضطرون إلى ذلك لأنه حق, فبين يدينا حديث لصاحب الدولة رئيس الوزراء"1 مع كاسترو. وبين يدينا تصحيح لهذا الحديث, نُشِرَ الحديث يوم الجمعة, وصُحِّحَ يوم السبت, وتناول الناس الحديث وتصحيح الحديث راضين مبتهجين يوم الجمعة, ثم مغضبين متشائمين يوم السبت. "فهذا شأن العنوان الأول, فأما العنوان الثاني فحق أيضًا, حق كالعنوان الأول, كاسترو متورط. ومتورط جدًّا.. والله يعلم أننا مخلصون في الإشفاق عليه, بريئون من الشماتة فيه, فأما إنه متورط فيظهر ذلك إذا قرأت مقدمة الحديث ومقدمة التصحيح, فهو في مقدمة الحديث يقول بالحرف: "مع أن هذا الأمر يظهر مخالفًا لأدب اللياقة فقد أقدمنا عليه, وطلبنا مساء الأمس إلى صاحب الدولة توفيق باشا نسيم أن يستقبلنا". "أفهمت؟ طلب كاسترو3 إلى رئيس الوزراء مقابلة, وهو لم يطلب هذه المقابلة إلى وزير يؤلف وزارته ليتحدث إليه في الجو والمطر, وإنما أراد أن يتحدَّث, وقد تحدَّث بالفعل في السياسة, وتلطف الوزير فأجاب, وأجاب بصراحة في بعض المسائل, وبإجمال وغموض في بعضها الآخر. أي: أن كاسترو زار الوزير زيارة صحفي, وعلم الوزير أن هذه الزيارة صحفية, فتحدث إلى الزائر كما يجب أن يتحدث وزير إلى صحفي, فصرَّح حين يَحْسُن التصريح والتفصيل, وأجمل حين يحسُن الإجمال والغموض. وأكثر من هذا أن كاسترو نفسه قد صرَّح للوزير بأنه يحدثه كمعبِّر عن الرأي العام "كذا". "فأنت ترى أن كاسترو ذهب ليعلم علم رئيس الوزراء, ولعل رئيس الوزراء هو الذي خص كاسترو بأول حديث سياسي له في هذه الوزارة. فأنت تعلم وأنا أعلم أيضًا كيف تُلْقَى الأحاديث السياسية في مصر وفي غير مصر، ذهب كاسترو إذن ليعلم علم رئيس الوزارة بهذا يحدثنا يوم الجمعة, ولكن ما أمسى المساء, وما أشرقت شمس السبت, وما توافد الناس على رياسة الوزراء حتى استحالت الحال وتبدَّلت الأمور, وأراد الله أن يغيِّرَ كل شيء فظهر   1 السياسة في 4 ديسمبر 1922. 2 توفيق نسيم. 3 كاسترو رئيس تحرير "الليبرتية". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 إن كاسترو لم يذهب يوم الجمعة محدِّثًا ولا صحفيًّا, وإنما ذهب مهنئًا لا أكثر ولا أقل. "نستغفر الله! بل هناك أكثر من هذا, فإن كاسترو الذي كان صحفيًّا فأصبح مهنئًا, تحدَّث إلى الوزير في مسائل سياسية, ونشر الحديث على غير ما ألقاه الوزير, غيَّرَ وبدَّلَ, أضاف إلى الوزير ما لم يقل, وحمله ما لا يريد أن يحتمل1. ثم يقول بعد تفصيل المناقشة فيما قال "كاسترو": "الحق أنَّا لا نشمت في كاسترو ولا نلومه على تسرُّعِه في نشر شيء لم يتثبَّت صحته, فهو صحفي, وهو يعلم مقدار كلف الأمة بحرية المعتقلين والمبعدين, وحرصها على هذه الحرية, وهو بعد هذا كله مؤيد للوزارة الجديدة, فمن حقه ومن حق الأمة والوزارة عليه أن يسرع فينشر من الأحاديث ما من شأنه أن يرضي الأمة ويمهِّد للوزارة تمهيدًا حسنًا. "إذن فالرجل لم يفعل شيئًا غريبًا, وإنما أدَّى واجبًا واستمتع بحق, ولكن للسياسة شرها وخيرها. وللصحافة عرفها ونكرها, وقد أراد سوء الحظ أن يخطئ كاسترو فهم حديث الرئيس, أو أن يكون الرئيس قد تعجَّل ثم بدا له فاستأنى. أراد سوء الحظ على كل حال أن يعدنا كاسترو باسم رئيس الوزراء يوم الجمعة, وأن يخلف وعده بأمر رئيس الوزراء يوم السبت"2. على أن هذا التقيد بأفكار المنازل أو الخصم، يرتبط في المحل الأول -عند طه حسين- بالوظيفة الإقناعية، ولذلك نجده يردِّدُ في عباراته في هذا المقال الذي ينازل فيه رئيس تحرير صحيفة معبرة بالفرنسية، ألفاظًا من تعبير منازله، ويسجلها بلفظها الفرنسي, ولا يكتفي بترجمتها إلى العربية، ومن ذلك قول طه حسين: "وليس في ذلك شيء من المبالغة, فقد كان جواب رئيس الوزراء يوم الجمعة حين سُئِلَ عن الاعتقال والإبعاد, أن هذا الأمر لا يمكن أن يُقْبَلَ ولا يمكن أن يحتمل" ووددنا لو استطاع الناس جميعًا أن يشعروا بقوة هذين اللفظين في اللغة الفرنسية, كذلك كان جواب رئيس الوزراء يوم الجمعة. ولكن ظهر يوم السبت أن رئيس الوزراء لم يقل هذا ولم ينطق بهذين   1 السياسة في 4 ديسمبر 1922. 2 السياسة في 4 ديسمبر 1922. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 اللفظين القويين, بل كان أشد من ذلك حذرًا ومهارة في الجواب, فقال: "بديهيٌّ أن هذه الحال لا يمكن أن تدوم". "أترى الفرق بين الجوابين؟ أترى أن الأول كان جذوة مشتعلة, وأن الثاني هادئ هدوء السياسي الذي لا يريد أن يعدك, ولا يريد أن يدخل اليأس عليك, إذن فباسم رئيس الوزراء وعدنا كاسترو يوم الجمعة, وباسم رئيس الوزراء أخلفنا يوم السبت"1 ... إلخ. 2- إن موضوع النزال والجدل يكون مقسمًا تقسيمًا منطقيًّا، وفق المنهج الديكارتي كما تقدَّم، في تقسيم الموضوع ما وسعه التقسيم، ليدور الجدل حول أقسامه واحدًا بعد الآخر من خلال نظام الأسباب، الذي يجعل للموضوع "وحدة" عضوية، وطه حسين باستخدام الأسلوب الاستقرائي يقابل استخدام "الترديد والأقيسة المنطقية الأرسططاليسية في المناظرة العربية القديمة". والتي كان يستخدمها في طور تكوينه الصحفي قبل سفره إلى فرنسا، ذلك أن الاستقراء الديكارتي -كما تقدَّم- حل في منهج مقاله محل المنطق الأرسطي، لما يتمتع به الاستقراء من وسائل تعين كاتب المقال على "هداية الذهن", ومن ذلك مقال بعنوان: "خصومتان"2, يبين لنا أثر التقسيم الاستقرائي في تطوير الأسلوب الجدلي للنزال. "ثارت في مجلس النواب خصومتان عنيفتان في هذا الأسبوع, ذهبت إحداهما لغوًا كأن لم تكن, وكادت الأخرى تفسد الائتلاف بين حزبي الحكومة, لولا أن الذي بيده عقدة هذا الائتلاف لم يأذن بعد بالطلاق بين الحزبين الشقيقين3 كما تسميهما بعض الصحف. "فأما الخصومة العنيفة التي ذهبت لغوًا كأن لم تكن, فهي التي أثيرت حول سياسة التعليم, فقد خطب النواب وردَّ عليهم نواب آخرون. وتكلَّم وزير المعارف وخُيِّلَ إلى الذين قرأوا كلام أولئك وهؤلاء أن تغييرًا عظيم الخطر سينال سياسة التعليم في أصولها وفروعها، ثم سكنت العاصفة وصفي الجو وابتسمت السماء, ومضت سياسة التعليم كما تريد وزارة المعارف أن تمضي, إن كانت وزارة المعارف تعرف وجهًا تمضي فيه بسياسة التعليم". ثم ينتقل من ذلك إلى تقسيم "سياسة التعليم" إلى قسمين:   1 السياسة في 4 ديسمبر 1922. 2 كوكب الشرق في 20 مارس 1933. 3 حزب الاتحاد وحزب الشعب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 "فالواقع أن وزارة المعارف في هذا العهد السعيد قد اضطربت بين سياستين؛ إحداهما سياسة الوزير السابق وكانت تعتمد على التجديد والرقي، وكانت تعتمد أيضًا على تعرُّف العلل التي يشكو منها التعليم في مصر.. إلخ". إلى أن يقول: "ولكن وزير المعارف السابق ذهب إلى بروكسل, وخلفه الوزير القائم فذهب إلى بروكسل أيضًا, سياسة التعليم الأولى وقام التقليد مقام التجديد؛ فأقفلت معاهد، وألغيت أعمال.. إلخ"1. ثم ينتقل بعد تفصيل ذلك ما وسعه التفصيل إلى الخصومة الثانية والتي تتعلق بدار "الأوبرا", ويعلق بعد تفصيل هذه الخصومة الثانية كذلك بقوله: "وما كنت أظن أن سياسة التعليم تثير عاصفة لا تلبث أن تهدأ، وأن دار الأوبر تثير عاصفة تتجاوز مجلس النواب إلى أندية الأحزاب وإلى دور الوزراء القائمين والمستقلين, وتزعج حتى رئيس الوزراء الذي هو في أشد الحاجة إلى الراحة وهدوء البال, ولكن يريد أن تنعكس الأشياء دائمًا في مصر, فيهون التعليم كله وتعزّ الأوبرا, ويلقي وزير التقاليد في الدفاع عن التجديد "وأيّ تجديد" ما يطاق وما لا يطاق من خصومة الشعبين"2. 3- الأسلوب الجدلي في نزاليات طه حسين يعبِّر عن المعاني السياسية والمناظرات بين الأحزان وفي "المناظرات متسع للتهاون والتبسط في القول. فأما عندما تتكلف اللغة التعبير عن الفلسفة والعلول الدقيقة، فالتجوّز والتساهل والاتساع ليس من الأشياء التي تحتمل، بل من الأشياء التي تجد فيها اللغة كثيرًا من المشقة"3. ولعل في ذلك ما يفسِّر قول طه حسين أن المقالات النزالية يسَّرت اللغة العربية "تيسيرًا غريبًا"2 كما تقدَّم، على أن طه حسين، كان يتمثَّل الوظيفة الإقناعية للمقال النزالي، ولذلك كان يحذر كل الحذر من استعمال الغلوّ أو الصنعة، وما إليها من أدوات التأثير، الأمر الذي يجعل من لغة المقال النزالي تمثِّلُ تحولًا جديدًا في الصحافة المصرية بصفة عامة، وصحافة طه حسين بصفة خاصة لما يتيحه لها "الجدل" من مرونة! تتجاوز لغة الأدب, ولتصبح لغة "عملية" وظيفية مستقلة بنفسها، ومن ذلك أن طه حسين قد استحدث تراكيب جديدة في لغة الصحافة المصرية لم تخطر للأدباء الأولين على بال. فمن ذلك قوله:   1، 2 كوكب الشرق في 20 مارس 1933. 3 من حديث الشعر والنثر ص19. 4 ألوان ص29. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 "للظروف السياسية ذوق كثير جدًّا، دقيق جدًّا"1. وقوله: "ولكن الناس يحبون للحكومات أن تملك نفسها، وتضبط عواطفها، وتصطنع الحكمة والرفق فيما تقول"2. وقوله: "لنبين مواضع العوج في سياسة الوزارة القائمة"3. وقوله: ذاق مجلس النواب لذت الاستجواب! وقوله: "فقد يدعو فساد الظروف السياسية الداخلية للحكومة إلى أن تدور وتضطر، فتمضي حينًا، وترجع حينًا5.. إلخ". و.. "كل هذا يمكن تفسيره وتأويله في السياسة الداخلية؛ لأن السياسة الخارجية لا ينبغي أن تعتمد على مداورة الأحزاب ولا مصانعة الأصدقاء ومدافعة الخصوم"6. وقوله: "يظهر أن في جوَّ السياسة المصرية الخارجية غيومًا، لعلها خفيفة رقيقة ليس وراءها شيء، ولعلها ثقيلة ضعيفة وراءها أشياء"7 إلخ. وقوله: "والظاهر أن الوزارة المصرية القائمة تقف الآن مواقف مريبة"8. ومن ذلك أيضًا استحداث صفات ونعوت تكتسب مدلولات سياسية جديدة من خلال مقاله النزالي. مثل: -الوزارة الإدارية9. - المضاربة السياسية10. - الغموض السياسي11. - الصمت السياسي12. - الوحي السياسي13.   1 كوكب الشرق في 7 مايو 1933. 2 كوكب الشرق في 5 مايو 1933. 3 كوكب الشرق في 4 مايو 1933. 4 كوكب الشرق في 10 مايو 1933. 5، 6 كوكب الشرق في 2 أبريل 1933. 7 كوكب الشرق في 28 مارس 1933. 8 كوكب الشرق في 28 مارس 1933. 9 السياسة في أول ديسمبر 1922. 10 كوكب الشرق في 14 نوفمبر 1933. 11 كوكب الشرق في 2 أبريل 1933. 12 كوكب الشرق في 10 مايو 1933. 13 كوكب الشرق في 5 مايو 1933. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 - التمثيل السياسي المضحك1. - المؤتمر السياسي2. - أزمة سياسية.. أزمة اقتصادية3.. أزمة وزارية4. - الترقيع الوزاري5. - نادي سياسي6. - الحرج السياسي7. - الآلام السياسية والاقتصادية8. - سياسة المعاذير9. - وزير التقاليد10. - الجو الوزاري11. - الاضطراب السياسي12. - الوحدة الوطنية13. - الوزارة الميتة14. - البرنامج المرن15. - السياسة السلبية16. - الوطنية الزجاجية17. ثم من ذلك مما نراه من معان جديدة لبعض الأفعال. كما في قوله:   1 كوكب الشرق في 26 مارس 1933. 2 كوكب الشرق في 15 أبريل 1933. 3، 4، 5 كوكب الشرق في 14 أبريل 1933. 6 كوكب الشرق في 29 أبريل 1933. 7، 8 كوكب الشرق في 29 مايو 1933. 9 السياسة في 11 ديسمبر 1922. 10 كوكب الشرق في 30 يونيو 1933. 11 كوكب الشرق في 11 مايو 1933. 12 كوكب الشرق في 20 مارس 1933. 13 كوكب الشرق في 25 يوليو 1933. 14 كوكب الشرق في 4 أكتوبر 1933. 15 السياسة في 12 ديسمبر 1922. 16 السياسة في 15 ديسمبر 1922. 17 السياسة في أول ديسمبر 1922. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 ويظهر أن الأسلاك تضطرب بين الندرة والقاهرة1. والشاهد في قوله: "يضطرب", فقد أصبح لهذا الفعل معنًى جديدًا في لغة السياسة في الصحافة المصرية. وقوله: "فإذا أضفت إلى هذا أن الله قد سلَّط على مصر هؤلاء الإنجليز المقيمين في لندرة, والقابعين في وزارة الخارجية"2. معبرًا بذلك عن سلطات الاحتلال البريطاني في مصر. وقوله: "وهو الذي جعل في مصر هيئات سياسية مختلفة تحترب فيما بينها وتقتتل"3, فاستخدام فعلي "تحترب" و"تقتتل" هنا استخدام صحفي. وقوله: "يستمتع صغار الموظفين بالحرمان"4. وقوله: "وكذلك تستقبل مصر هذا النبأ"5. وقوله: "ويسكت رئيس الوزراء على هذا النبأ الثاني أيامًا6. وقوله: "ما أجدر المصريين جميعًا ألا تخرجهم المحنة عن أطوارهم, وألا تكدِّر الأزمة ما كانوا يتعزون به من مودة وحب وصفاء7". وقوله: "إنما النضال الصحيح يعصم الروح الوطني من الضعف"8. وقوله: "وضع الوزراء أصابعهم في آذانهم". وقوله: "فقد فتح باب الأزمة الوزارية مرات ثم أغلق9.. إلخ.. ومن ذلك يبين أن هذه الأساليب التي شارك طه حسين في استحداثها من خلال مقاله الصحفي، جاءت ثمرة للنزال الذي يسَّر اللغة، وابتعد بها عن لغة الأدب, وجعلها لغة صحفية عملية وظيفية، تخدم الوظيفة الإقناعية في النزال بصفة خاصة، ووظائف المقال الصحفي بصفة عامة.   1 السياسة في أول يناير 1923. 2 كوكب الشرق في 15 أغسطس 1933. 3 كوكب الشرق في 18 إبريل 1933. 4 كوكب الشرق في 16 مايو 1933. 5 كوكب الشرق في 23 أكتوبر 1933. 6 كوكب الشرق في 2 مايو 1933. 7 كوكب الشرق في 29 مايو 1933. 8 كوكب الشرق في 29 إبريل 1933. 9 كوكب الشرق في 6 يوليو 1933. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 رابعًا: الاستيثاق من أضعف الجوانب في كلام الخصوم نتيجة ما طُبِعَ عليه من قدرة جدلية، فما يلبث طه حسين أن يأخذ بتلابيب هذا الجانب ويظل في تحليله, ومجاراة منطقه في اشتقاق النتائج حتى يظهر كل ما يحمله هذا العنصر من الضعف ومن الحاجة إلى التقويم, ومن ذلك ما كتبه في "حديث المساء" بعنوان: "إذن"1 إلخ.. يقول: "سأل سائل في مجلس النواب الإنجليزي عن أمر المبشرين أمس، فأجابه وزير الخارجية جوابًا نحب أن نقف عند آخره؛ لأن آخره خليق بالتفكير، جدير أن يزيل بعض الغموض الذي يحيط بموقف الوزارة المصرية من مسألة التبشير, فالناس يذكرون أن المبشرين أثاروا غضب الناس في العام الماضي، وأن هذا الغضب استطاع أن يصل إلى البرلمان، وأن يثير لنفسه صدى في مجلس النواب، والناس يذكرون أن رئيس الوزراء أراد أن يردَّ على هذا الصدى، فأعلن أن الحكومة تفكِّر في إصدار قانون يمكن الدولة من مراقبة التعليم, ويمكنها بعد ذلك من إلقاء التبشير. "انتظر الناس أن يصدر هذا القانون في الدورة الماضية فلم يصدر، وانتظر الناس أن يذكر هذا القانون في خطبة العرش لهذا العام البرلماني فلم يذكر، وانتظر الناس أن يعرض القانون على البرلمان في دورته الأخيرة فلم يعرض. وأثار المبشرون غضب المصريين مرة أخرى، وكان غضب المصريين في هذه المرة عنيفًا وكان إجماعيًّا، فلم يكن بُدٌّ من أن يصل إلى البرلمان، ومن أن يحدث لنفسه صدى في المجلسين، ولم يكن بُدٌّ من أن تتكلم الوزارة، ومن أن تعمل لتسكت غضب المصريين, وترد على صداه في البرلمان، وانتظر الناس أن تتحدث الوزارة عن هذا القانون الذي وعدت به منذ عام فلم تتحدث، وكتبنا نحن وكتبت الصحف الأخرى تطلب إلى الحكومة أن تصدر هذا القانون، فلم تقل الحكومة شيئًا، ولكن صحيفتها لامتنا على ذلك أشد اللوم، وأنَّبَتْنَا على ذلك أشد التأنيب، وزعمت أننا نطالب الحكومة بما لا قِبَلَ لها به، ولأننا نتحداها ونتعمَّد تعجيزها وإحراجها، ونسيت أن رئيس الوزراء نفسه هو الذي وعد بإصدار هذا القانون، ثم ألحَّ المصريون في المطالبة بهذا القانون, ووضع الوزراء أصابعهم في آذانهم، وأعرضوا عن هذا الأمر إعراضًا، فالآن يُخَيّلُ إلينا أن وزير الخارجية البريطانية قد حلَّ بواجبه أمس هذا اللغز، وأزال بجوابه هذا الغموض, فهو يعلن إلى سائله في مجلس النواب الإنجليزي أنه أذن للمندوب السامي في مصر أن يتحدَّث إلى ولاة الأمور من   1 كوكب الشرق 6 يوليو 1933. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 المصريين في إمكان وضع نظام مراقبة مركزية على بعض النواحي لأعمال المبشرين. ومعنى ذلك إن فهمنا لغة الساسة البريطانيين, أن المندوب السامي مفوَّض من حكومته في أن يدرس مع حكومتنا أمر هذا التشريع الذي وعد به رئيس الوزراء منذ أكثر من عام، والذي انتظره الناس منذ صدر هذا الوعد من رئيس الوزراء، فلم يظفروا به إلى الآن، والذي كانت صحيفة الوزارة ترى مطالبة الحكومة، إسرافًا عليها وتعجيزًا لها، وتعمدًا لدفعها إلى الحرج والضيق1". ومن ذلك أيضًا مقال رئيسي بعنوان: "خوف ومكر"2 يقول فيه، بعد استيثاقه من كلام "الليبرتيه" وأضعف الجوانب في هذا الكلام، ثم يستمر في تحليل هذا الكلام حتى يظهركل ما يحمل هذا العنصر من ضعف إلى أن يقول: "أفهمت هذه الكلمة؟ أرأيت كيف كان السير موريس أيموس فيها موضع اللوم العنيف, وكيف كان يتعرَّض للفصل من وظيفته لأنه اجتمع إلى المائدة مع الأحرار الدستوريين؟ ولكن "الليبرتيه" نشرت في مساء 8 يناير مقالًا آخر جاء فيه ما يأتي: ".. إني أجلُّ أعظم إجلال سيدي المستشار القضائي, وكل إنسان يعلم أنه كان ولا يزال يؤيد أشد التأييد ذاكرة اتفاق بين مصر وانجلترا يضمن لهذا البلد حرية فعلية, وقد أقام أدلة كثيرة بينة تثبت عطفه على القضية القومية المصرية. "ولكن القوم كانوا قد أكدوا أنه قد كانت السياسة موضوع حديث طويل أثناء وليمة نادي محمد علي, وأردت أن أُلْفِتَ "كذا" المستر موريس أيموس إلى ما كان يمكن أن ينشأ عن هذه الإشاعات من إساءة إلى ما يمتاز به من المنزلة العالية "كذا" التي هو أهل لها "كذا"3". ويظل في تحليل هذا الكلام المتناقض الذي تنشره "الليبرتيه" إلى أن يقول: "فقد كان السير موريس إيموس يوم الجمعة موظفًا يخلُّ بواجباته, ويكيد مع أعداء الحكومة للحكومة التي تأجره, وكان يجب على هذه الحكومة أن تلفت هذا الموظف إلى واجباته, وأن تتشدد في ذلك حتى لا يفسد عليها الأمور, ولا يضطرب النظام, ثم أمسى السير موريس إيموس يوم الاثنين مستشارًا   1 المرجع نفسه. 2، 3 السياسة في 9 يناير 1923. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 للحكومة مسموع الكلمة فيها, نزيه المسلك معها, صادق الولاء لها, مؤديًا واجبه كما ينبغي, خليقًا أن يرفع إليه الاعتذار- والاستفغار بعد الحمد والثناء. "فما مصدر هذا التغير الشديد الذي تناول لهجة كاسترو فجعلها -لا نقول حلوة عذبة- وإنما نقول ذليلة ضارعة بعد أن كانت مرة قاسية؟ مصدر هذا التغيير وما قلناه لك أنه قد جرى خلف ستار. ولكن لكل قصة عظة وعبرة, ولقصتنا هذه عظاتها وعبرتها وهي كثيرة, منها أن الصحفيين قد أصبحوا في هذه الأيام ضحايا لهذا الوحي المضطرب الذي لا يثبت على شيء, ولا يثبت من شيء, فهم يؤدون فيعرفون, ثم يؤمرون فينكرون1".. إلخ. تلك هي خصائص المقال النزالي في صحافة طه حسين، كما استطعنا أن نستخلصها من خصائصه في التحرير الصحفي، والتي غذَّتْهَا ثقافة عميقة، وأفادت من ملكاته في التصوير والتعبير والجدل والسخرية، وهي الملكات التي نحاول أن ندرس أثارها في القالب الكاريكاتيري للمقال النزالي، على أن هذا النزال وإن كان يرتبط بالمبادئ الحزبية التي طُبِعَ بطبعها، فإنه عند أهل الثقافة السياسية أحرص على بيان الحقائق, وأعدل في إرسال الرأي، ولكنما للسياسة والصحافة أهواء تلطف وتعتدل نسبيًّا، غير أنها لا تنقرض ولا تتلاشى.   1 المرجع السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 الفصل التاسع: فن المقال الكاريكاتيرى الكاريكاتير الوظيفي في مقال طه حسين ... الفصل التاسع: فن المقال الكاريكاتيري ربما كان الجاحظ أول كاتب إسلامي يعالج فن "الكاريكاتير" في النثر العربي1، وهو فنٌّ لم يقصد فيه الجاحظ إلى الجد وإنما إلى الهزل2، تجعلنا نعتقد أن هذا الكاتب العباسي الكبير -يعتبر- واضعًا لأساس الكاريكاتور في الأدب العربي3. الذي نبغ فيه من رجال الصحافة والأدب منذ ظهور الصحافة الشعبية في مصر كثيرون، من أشهرهم: إبراهيم المويلحي صاحب "مصباح الشر"4، ثم الشيخ عبد العزيز البشري، وأحمد حافظ عوض5, وإبراهيم عبد القادر المازني، وطه حسين؛ في المرحلة الرابعة من مراحل تطور الصحافة المصرية التي تقع بين عامي 1922، 1942. الكاريكاتير الوظيفي في مقال طه حسين: على أن الكاريكاتير المقال عند طه حسين يتميز بالاستخدام الوظيفي في أداء وظائف المقال الصحفي، متوسلًا بالمبالغة والتجسيم كفن الكاريكاتير، إلى جانب سخريته النابعة من العقل، وتمثُّله طبيعة الروح المصرية وحبها الفطري للدعاية والسخرية، التي تتناسب مع طبيعة المصريين وتاريخ بلادهم6، ذلك أن السخرية المصرية في جملتها سخرية عملية حسية, لا تتمادى في الخيال, ولا تتعلّق بالغوامض، لأن أصحابها قوم عمليون يقيسون الأمور بمقياس الوقائع والتجارب العيانية7. وفي ذلك ما يشير إلى ملاءمة السخرية المصرية لمقومات الاتصال الصحفي بجماهير القراء، من حيث الاعتماد على مقاييس الواقع والتجارب العيانية، وعدم الإغراق في الخيال، ومن حيث الوظيفية الهادفة التي تجعل منها سلاحًا بتارًا في أيدي المصريين، وفي مقال طه حسين، لصيانة الاستقرار الفكري والاتجاه الاجتماعي ضد شتى عوامل التنافر أو المفارقة أو الابتداع والإغراب. ولذلك يتميز المقال الكاريكاتيري عند طه حسين بقيامه بوظيفة "المصحِّح الاجتماعي.   1 الدكتور عبد اللطيف حمزة: المدخل ص194. 2 الدكتور طه حسين: من حديث الشعر والنثر ص56. 3، 4، 5 الدكتور عبد اللطيف حمزة نفس المرجع ص194، 195. 6، 7 عباس محمود العقاد: سعد زغلول ص30، 31، 32. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 Social Correctian1، ومن ذلك ما كتبه بعنوان: "مغضب"2: "وبعد فما أنت وذاك وما سؤالك والإلحاح فيه، قوم يقدمون لك الفكاهة ويسلون عنك الهم، ويسرونك إذا أصبحت, ويسرونك إذا أمسيت, فما ينبغي لك إن كنت حكيمًا إلّا أن تتفكَّه وتتسلى وتضحك، ولا تسأل عن أشياء إن تبد لك تحمل إليك السوء، فابتسم للأيام فإنها تبتسم لك عن ثغر جميل منذ تمخَّضت لك عن هذه الوزارة البديعة". ومن ذلك تبين وظيفة الكاريكاتير في تقويم الحكم الدكتاتوري، من خلال السخرية الهادفة، ذلك أن هذه السخرية -كما يقول عن المصريين- هي "التي تحميهم من اليأس، وتدفعهم إلى المقاومة"3, ولذلك يتَّخذ طه حسين من الكاريكاتير في مقاله وسيلة تجعل منه سيفًا مصلتًا يسلطه المجتمع المصري على رقاب الخارجين على معاييره الإيجابية الجمعية, وكل من تسوّل له نفسه الخروج على هذه القوانين، على النحو الذي تشير إليه سخرية مقالاته الكاريكاتيرية من الخصوم السياسيين وغير السياسيين، وهي السخرية التي تقابل سلاح الجماعة في تأديب الخارجين عليها, حتى لا يجدون مناصًا من الجوع إلى حظيرتها. ومن أجل ذلك يذهب المقال الكاريكاتيري إلى تصحيح أو تعديل -تلك الآليَّات الضارة التي تنطوي عليها الحياة الاجتماعية، كما يقول برجسون، وكما نجد في مقالٍ كتبه طه حسين بعنوان: "عوجاء ... "4, حين يقول: "نعم. عوجاء شديدة الاعوجاج, ملتوية شديدة الالتواء, هذه الطريق التي يسلكها بعض الناس, يعلنون أنهم يبتغون بسلوكها وجه الله, فإذا هم يمضون إلى ما لا يلائم رضى الله ولا رضى الناس, وإنما يلائم أغراضًا واضحة وأغراضًا غير بينة، وأهواء أقل ما توصف به أنها لا تليق بكلام الناس"5. ويذهب من كاريكاتيره إلى تحليل هذه الظاهرة من ظواهر الحياة العامة، ويرجعها إلى "الأزمات السياسية والخلقية والاقتصادية التي تشقى بها مصر في هذه الأيام"6, ويحقق هذه الظاهرة في كثير من أنحاء الحياة المصرية7 "وما تسفر عنه من" انتشار هذا النوع من النفاق في حياتنا الاجتماعية، وانتشار هذا النوع من الفرق بين ما يقول كثير من الناس وما يعملون"8   1 الدكتور زكريا إبراهيم: سيكولوجية الفكاهة والضحك من 70-71. 2 كوكب الشرق في 4 أكتوبر 1933. 3 كوكب الشرق في 17 أبريل 1934. James Sully; An Essay on haughter. JLndon 1902. 4، 5، 6 كوكب الشرق في 8 أغسطس 1933. 7، 8 المرجع السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 ويتوسّل طه حسين بالكاريكاتير في ماله لتحقيق ضربٍ من "التغيير الاجتماعي" يتلاءم مع الاستراتيجية القومية في زوال المجتمع التقليدي على النحو المتقدِّم، إلى جانب وظيفته كجزء اجتماعي, ومن ذلك ما كتبه في "حديث المساء" بعنوان: "تهنئة" يقول: "نعم لا بُدَّ من تهنئة, بل من تهنئات كثيرة يساق بعضها إلى الأمة, ويساق بعضها إلى الحكومة، وتتصل بأشياء كثيرة لا ينبغي أن تمرَّ دون أن تهنأ عليها الحكومة. ولست أدري لماذا لا أحسُّ حاجة إلى الاستعمال في تهنئة الأمة, وإنما أنا حريص أشد الحرص على أن أقدِّمَ للحكومة قبل الأمة أصدق التهنئة وأخلصها, لما وفِّقَتْ إليه أمس من البراعة في التمثيل المضحك، والتفوق في فن التسلية وتجلية الهموم, ومع ذلك فليس من أعضاء الوزارة من درس في معهد التمثيل الذي ألغاه وزير التقاليد, أو غيره من معاهد التمثيل في أوربا"1. إلى أن يقول مقومًا سياسة الوزارة الصدقية مواصلًا سخريته: "ومصر في حاجة إلى حكومة من غير شك، ولكن الشعوب تحتاج أيضًا إلى المسلِّين والمضحكين, ولم تحتج مصر في يوم من الأيام إلى مَنْ يضحكها ويسليها كما احتاجت اليوم، وقد حاطت بها الخطوب من كل مكان"2. ويقول: "فليس في الأرض شعب من الشعوب يستطيع أن يفاخر الشعب المصري بأن له وزارة كوزارتنا تسوءه وتسرُّه معًا، وتغضبه وترضيه معًا، تُنْزِلُ بساحته الهموم والأحزان, حتى إذا غمرته من ذلك بما يطيق وما لا يطيق، رفعت له الستار عن مهزلة بديعة كلها دعابة وفكاهة، ولباقة وظرف، وأي شعب من الشعوب يستطيع أن يقول كما يقول الشعب المصري اليوم بحقٍّ "إن لي حكومة تجمع بين السياسة والإدارة والتمثيل، فتتفق السياسة والإدارة والتمثيل، ولا تأخذ على هذا إلا أجرًا واحدًا"3.. إلخ. فبهذا الأسلوب الكاريكاتيري يتناول طه حسين أعمال الحكومة وتصرفاتها، بهدف تقويم سياستها، يقول طه حسين: "أنا أريد أن ألقى سياستنا المصرية ضاحكًا دائمًا، لأن سياستنا المصرية أصبحت مضحكة, ومضحكة فحسب منذ حين"4. على أن هذه السخرية لا تهدف إلى "التطهير الكوميدي Catharsis comque" بالمعنى الأرسططاليسي، ولكنها تتسلَّط أساسًا على رقاب النماذج الركيكة من السياسيين المحترفين الذين تداولوا حكم مصر حينًا من الدهر، الأمر الذي يحدِّدُ الوظيفة الاجتماعية في المقال الكاريكاتيري عند طه حسين، والاستجابة لمطالب الرأي العام.   1 كوكب الشرق في 26 مارس 1933. 2 كوكب الشرق في 26 مارس 1933. 3، 4 المرجع نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 طه حسين كاتب المقال الكاريكاتيري : ويبين مما تَقَدَّمَ، تمثُّل طه حسين للسخرية المصرية في دلالتها العملية الواقعية الوظيفية، الأمر الذي يشير إلى تمتُّعه بما يسعى الإحساس الساخر في تحرير المقال، الذي يمكننا من أن نرى الشيء في كافة مظاهره "والتناقص بين بعض هذه المظاهر، الذي يكسبها دلالتها"1. وعلى الرغم من أن المقال الكاريكاتيري يشتق موضوعه ونماذجه من الحياة الواقعة، فإنه يستهدف "الكلي" أو "العام" في النمذجة الصحفية الكاريكاتيرية, ولذلك وجدنا مقالات طه حسين تحمل "اسم معنى" كما في "مغضب"2, و"سيارة"3, و"طير"4، و"خطبة"5، و"حصار"6, و"درس"7, و"غرابيل"8, و"فيئوم"6, و"عدوان"10, و"إضراب"11, و"جنون"12, و"أزياء"13. ويعني ذلك مما يشير إلى نمذجة المضمون الواقعي للمقال في عنوان واحد، يقوم على الملاحظة الخارجية وربط النتيجة الخارجية المستقاة من الواقع الملموس بأسباب داخلية عميقة، وتفنن المقال الكاريكاتيري في تصنيف الحركات المتشابهة لنماذجه ونقائصها المتكررة، وهو لذلك قد يعمد إلى منهج التجريد والتعيم الذي يلتجئ إليه عالم الطبيعة في استقرائه للحوادث، فيجمع المثالب السياسية أو الاجتماعية المتشابهة تحت عنوان واحد، ويدرج العيوب الأخلاقية أو الاجتماعية أو السياسية تحت "نوع مشترك" يشير إليه عنوان المقال، الذي يتخذ كلمة واحدة بصفة عامة عند طه حسين، والذي يشير إلى روح الانتقاد الكامنة لديه، والاتجاه نحو الغير في نمذجته الكاريكاتيرية.   1 جورج ديهاميل "وترجمة: الدكتور محمد مندور" دفاع عن الأدب ص204. 2 كوكب الشرق في 4 أكتوبر 1933. 3 كوكب الشرق في 4 مايو 1933. 4 كوكب الشرق في 2 مايو 1933. 5 كوكب الشرق في 8 مايو 1933. 6 كوكب الشرق في 6 إبريل 1933. 7 كوكب الشرق في 27 مارس 1933. 8 كوكب الشرق في أول مايو 1933. 9 كوكب الشرق في 28 مارس 1933. 10 كوكب الشرق في 4 أبريل 1933. 11 كوكب الشرق في 3 يونيو 1933. 12 كوكب الشرق في 6 يونيو 1933. 13 كوكب الشرق في 9 يونيو 1933. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 وتقوم هذه النمذجة الكاريكاتيرية في مقال طه حسين على طريقتين: الأولى: تعزل "من مجموع نفسية الشخص العاطفة التي ينسبها إليه, ويظهرها على أنها حالة طفيلية ذات وجود مستقل. ذلك أن هذه الطريقة في "الكوميديا" تخاطب من القارئ عقله1، ولذلك نجد طه حسين يتوسّل في هذه الطريقة بوسائل ملائمة تجعل القارئ لا يتأثر بالموقف العاطفي. على نحو ما نجد في "الأيام" من تصوير "سيدنا", وهو في جلسته التي اتخذها على دكة من الخشب صغيرة ليست بالعالية ولا بالمنخفضة، وقد وسعت على يمين الداخل من باب الكُتَّاب، حيث يمرُّ كل داخل بسيدنا وقد خلع عباءته، أو بعبارة أدق: دفيته، وجعلها في شكل المخدة عن يمينه يتكئ عليها، وهو مخلوع النعلين، متربعًا على الدكة, ينادي الصغار بأسمائهم، وهو يتطلَّع كالمبصرين إليهم، مع أنه مكفوف البصر إلا من بصيص ضئيل جدًّا من النور في إحدى عينيه، يمثل له الأشباح دون أن يمكنه تمييزها, ولكنه كان يخدع نفسه، ويظن أنه يعتمد في طريقه إلى الكُتَّاب وإلى البيت على اثنين من تلاميذه، يبسط ذراعه على كتفي كل واحد منهما, ويمشي الثلاثة في الطريق هكذا، وقد أخذوها على المارة حتى المارة لهم عنها2. وأما الطريقة الثانية، فهي ترتبط بالرؤيا الوظيفية للمقال الكاريكاتيري كذلك، وهي لذلك تتمثل في اقتران انعدام الانتباه بانعدام الروح الاجتماعية في النموذج، الذي ليس في مقدروه التوافق مع الجماعة. وهو الأمر الذي يميِّزُ "الضحك" كما يذهب إلى ذلك برجسون"3، بحيث يمكننا أن نقول: إن فن المقال الكاريكاتيري هو في الدرجة الأولى تجسيم للعيوب الاجتماعية، وتصوير للنماذج البشرية التي تَنِدُّ عن معايير الجماعة. وقد تفنَّنَ طه حسين في نمذجته الكاريكاتيرية لبعض الشخصيات "المنعزلة" عن المجتمع والخارجة عليه، والتي لم تنجح كذلك في التكيف، كما نجد في نموذج الحاكم المنعزل عن رعيته، والذي صوره لشخصية إسماعيل صدقي4, من خلال المقابلة بين حياته في الصيف واصطيافه في أوربا، وبين حياة الشعب في ظروف الأمة الاقتصادية والدستورية، وهي المقابلة التي تنتهي إلى انعدام الروح الاجتماعي في نموذج الحاكم، ووزرائه وأعوانه الذين يجب عليهم "إذا لهوا بهذا كله، ووجدوا لذة في هذا كله، أن يذكروا أولئك المساكين   1 الدكتور زكريا إبراهيم: مرجع سبق ص195. 2 الأيام ج1. 3 الدكتور زكريا إبراهيم: نفس المرجع ص197. 4 كوكب الشرق في 28 مايو 1933. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 الذين تدمي أقدامهم، وتحترق وجوههم, ويتنفَّسون هواء مزاجه اللهب، يعودون بعد طول الجهد وشدة العناء، ولعلَّ كثيرًا منهم لا يجدون ما يطمعون"1. ويتوسَّل طه حسين بهاتين الطريقتين في النمذجة التي تركِّز على "التصرفات" أفعالًا وأقوالًا، من خلال تصويرها تصويرًا آليًّا، لا يعبِّر إلّا عن جزء منفصل من الشخصية أو النموذج، ذلك أن وظيفة المقال الاجتماعية تقتضي امتداح المثل الأعلى والسخرية من نقيضه في نظام الحياة الاجتماعية والسياسية، وهو لذلك يتلمس العلاقة بين العادات الآلية من جهة, والتأثيرات الهزلية من جهة أخرى، ومعنى ذلك على حد تعبير "برجسون"2 أن كل انحراف للحياة في اتجاه الآلية لا بُدَّ أن يُوَلِّدَ فينا الضحك، ولذلك يذهب طه حسين إلى نمذجة هذا الانحراف الذي يتخذ صورة سلوك آلي رتيب، كما نجد في مقال بعنوان: "خطبة"3 يقول فيه: "ليست "أي: الخطبة" لرئيس الوزراء، فقد كفَّ المرض رئيس الوزراء عن الخطابة, واضطره إلى الإغراق في الصمت، أو إلى اختيار الوكلاء الذين يتحدثون عنه ويتكلمون بلسانه, وليس من شكٍّ في أن البيان قد خسر بهذا الصمت الذي أكره عليه رئيس الوزراء آيات لا تحصى"4, إلى أن يقول: ولكن الله -عز وجل- خليق أن يعوّض الوزارة مما فقدت، ويخلف عليها من خطيبها البارع خطيبًا بارعًا، ومن منطقيها الفذ منطيقًا فذًّا، وقد فعل فأقام وزير التقاليد خطيبًا للوزارة مكان رئيس الوزراء!! "5، ويستمر المقال على هذا النحو الكاريكاتيري في نمذجة السلوك الآلي لوزير التقاليد، منتهيًا إلى هذه السخرية: "إن الجهود التي بذلها الفلاسفة إلى الآن في تقويم العقول وتمرينها على التفكير الصحيح لم تؤت ثمرها، ولم تنته إلى نتائجها، إلّا عند شخص واحد، هو شخصه الكريم، ولذا فقد يصعب عليك أن تذوق هذه الخطبة، وتطمئنَّ إلى منطقها حين تقرؤها لأول مرة"6, و"إن من العسير على الرجال العاديين أن يذوقوا أو يفهموا كلام الأفذاذ الممتازين!! "7. ومن ذلك يبين أن الخصومات السياسية لم تيسِّر اللغة فحسب، ولكنها -كما يذهب إلى ذلك طه حسين8، قد "أحيت" في النثر العربي فن الهجاء الذي أتقنه الجاحظ, وقصر فيه من جاء بعده من الكُتَّاب. فقد أصبح هذا الهجاء   1 المرجع نفسه. 2 الدكتور زكريا إبراهيم: مرجع سبق ص176. 3، 4، 5 كوكب الشرق في 8 مايو 1933. 6، 7 المرجع نفسه. 8 ألوان ص27. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 السياسي من أهم الألوان لأدبنا العربي الحديث، فيه الحدة والعنف, وفيه المتعة واللذة، وفيه التنوع، والاختلاف بتنوع الأمزجة واختلافها، وفيه الإيجاز والإطناب، وفيه التصريح والإشارة1. على أن هذا الهجاء الكاريكاتيري في مقال طه حسين، لم يقصد به إلى الهزل كما ذهب الجاحظ إلى ذلك2، وإنما قصد به إلى الجدِّ، من حيث الوظيفية الهادفة في الكاريكاتير المقالي في الصحافة المعاصرة, سواء من جهة المحتوى أو الفنية. ولذلك فإن هذا الفن المقالي عند طه حسين لا تتقطَّع الأسباب بينه وبين عامَّة الناس وأوساط المثقفين والخاصة جميعًا، شأنه في ذلك شأن مقال البشري3، ذلك أن هؤلاء جميعًا يجدون فيه "اللذة القوية إذا أقرأوه أو سمعوا له، ولكنه مع ذلك, بل من أجل ذلك, يرتفع ويرتفع حتى يرضي خاصة الناس، ويبلغ إعجابهم، وينزل من قلوبهم أحسن منزل، ويقع من عقولهم وشعورهم أجمل موقع وألطفه، فهو فنّ مُيَسَّر ممهَّد موطَّأ الأكناف، فيه دماثة الرجل الذي حسنت أخلاقه، ورقَّت شمائله، وظرفت نفسه، واعتدل مزاجه؛ فهو محبَّب إلى الناس جميعًا، مقرَّبٌ إلى الناس جميعًا، يرغب الناس جميعًا في صحبته، ويكلف الناس جميعًا بعشرته، يتحرَّق الناس جميعًا إلى لقائه, ويعجز الناس جميعًا عن فراقه, وبعد العهد به"4، وما أقرب هذه السمات إلى نفس طه حسين، التي تتجلَّى في مقاله الكاريكاتيري، مكونة للروح الساخرة التي أشرنا إليها, والتي تصدر عن خصالٍ ثلاث, جمع بينها ولائم بينها جميعًا، وكون منها مزاجًا صحفيًّا هادفًا. وأول هذه الخصال أنه مصري تمثَّل بيئته المصرية في صعيد مصر، وفي بيئته القاهرية، إلى أن ثقافته ترتفع به إلى هذه الطبقة الممتازة التي تُحْسِنُ الحكم على الأشياء، فجاء مقاله مصري الحسِّ، مصري الشعور، مصري الذوق، مصري السخرية التي تميز بها المصريون بين جيرانهم في الزمن القديم والحديث5. بحكم لباقتهم المستفادة من قدم الحضارة, وبحكم الحوادث التي تلجئهم إلى التخفيف وقلة الاكتراث6، ومن أجل ذلك جاء مقال طه حسين متَّسِمًا في سخريته بالصبغة المصرية، مطبوعًا بطابع إقليمه وتاريخه، بحيث ينمُّ عن خصائصه الفكرية والنفسية, ويميِّزُه نمطًا وحده قليل النظائر بين أنماط المقال الصحفي.   1 ألوان ص27. 2 من حديث الشعر والنثر ص56. 3، 4 من مقدمة الدكتور طه حسين لكِتَاب عبد العزيز البشرى: المختار ج2 ص د، ي. 5، 6 عباس محمود العقاد: مرجع سبق ص30 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 والخصلة الثانية، أنه جاحظي الأسلوب كأشد ما يكون الأسلوب جاحظيًّا، يستخدمه استخدامًا وظيفيًّا هادفًا، ويتمثَّل تهكُّمه في الكاريكاتير تمثلًا وظيفيًّا، يستعين فيه بضروبٍ من المفارقات والمتناقضات التي تتجلَّى في الهوة السحيقة بين "ما كان عليه أحمد بن عبد الوهاب من عيوب جسدية, وما يدَّعيه من الكمال الجسماني"1، حتى لقد استطاع طه حسين أن يتوسَّل بهذا الأسلوب الجاحظي في توقيع جزاء اجتماعي على "صدقي باشا" إبَّان المحنة الدستورية، على النحو الذي نفذ إليه الجاحظ عند حديثه عن "أحمد بن عبد الوهاب". فهو أسلوب يتفوّق فيه على أصحاب التصوير الكاريكاتوري في العصر الحديث, الذي يعتمد على إبراز العيوب, وتجسيم بعض الأعضاء, وتصغير بعضها الآخر؛ بحيث تنجم عن هذا التباين صورة غريبة طريقة تبعث على السخرية. ويختلف المقال الكاريكاتيري عند طه حسين عنه عند الجاحظ، من حيث الوظيفية الهادفة عند الأول، في حين أنه عند الجاحظ يهدف إلى الفنِّ المحض والمتعة الخالصة, دون أن يقصد من ورائها إلى نصحٍ أو تهذيبٍ أو عبرة، كما نجد في مقال طه حسين. ولكنهما فيما عدا ذلك يتفقان في سهولة الأسلوب ومرونته ووضوحه, وفي أن هذا الأسلوب أصبح طيِّعًا يستطيع الكاتب أن يتصرَّف فيه كما يحب دون أن يستعصي عليه2. وفوق هذه المرونة واليسر يتفق أسلوب كل منهما في خصلة أخرى هي الموسيقى، فالنثر أيام الجاحظ، وعند طه حسين، لا يلذ العقل وحده ولا الشعور وحده، ولكنه يلذ العقل والشعور والأذن أيضًا؛ لأنه قد نُظِّمَ تنظيمًا موسيقيًّا, وأُلِّفَ تأليفًا خاصًّا له نسب خاصة، فهذه الجملة لها هذا المقدارمن الطول، وهذه الجملة تناسب هذا الموضوع، وإذا قصرت الجملة لاءمتها تلك الجملة, وإذا ضخمت ألفاظ هذه الجملة كانت الجملة التي تليها على حظٍّ من السهولة، وهكذا3, فنجد أن النثر أيام الجاحظ قد تغيَّرت موضوعاته, وطغت فنونه على فنون الشعر، وسهلت ألفاظه، وأصبح يسيرًا طبعًا، ودخلته الموسيقى، فغلب الشعر حتى في أخصِّ الأشياء به وهو الموسيقى، وهذا إلى العلوم التي عمد النثر عنها4، ونجد نفس الأمر بالقياس إلى طه حسين، الذي تخلَّى عن قرض الشعر منذ مرحلة التكوين ليتفرغ إلى النثر المقالي, الذي يمتاز بتغيُّر الموضوع وطغيان فنونه على فنون الشعر، ومنها هذا الفن الكاريكاتيري المقالي، الذي كان في الأصل غرضًا من أغراض الشعر, وهو: الهجاء، وسهلت ألفاظه، التي طوَّعها لما نشأت من الحاجات والأغراض5، ذلك أن الناس "لا يصطنعون الشعر للإعراب عما يضطرب في نفوسهم من شئون الحياة اليومية, وهم لا يحرِّرون الصحف شعرًا, ولا يكتبون فيما يريدون   1، 2، 3 من حديث الشعر والنثر ص62، 63. 4، 5 من أدبنا المعاصر ص158، 160. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 أن يكتبوا فيه حين يؤلفون الكتب شعرًا أيضًا, وإنما يصطنعون النثر في هذا العصر كما اصطنعوه في جميع العصور منذ تقدَّمت الحضارة لتأدية أغراضهم المختلفة"1. والخصلة الثالثة، عند طه حسين، أنه قد ألمَّ بحظٍّ كبير من الثقافة الأوربية، وذاقها وتمثلها، فأخذ من هذه الحضارة الأوربية شيئًا خفيف الظل, قوي التأثير في الوقت نفسه، يستطيع أن يلائم مصريته الموروثة وبغداديته المكتسبة"2, فتكَوَّن له من هذه الخصال الثلاث مزاج غريب اشتركت في إنشائه بغداد الجاحظ, وصعيد مصر, وباريس. اشتركت في تكوين هذا "الإحساس الساخر" في مقال طه حسين هذه الخصال الثلاث, ووفقت في هذا التكوين إلى أبعد مدى، وإلى مدى تتوازن فيه هذه العناصر وتأتلف، "ويحب بعضها بعضًا، ويطمئن بعضها إلى بعض، ويجتهد كلٌّ منهما في أن يعين صاحبيه"3 ومن هنا كان مقال طه حسين مرضيًا مقنعًا لطبقات المثقفين جميعًا؛ إذا قرأه الأزهريون أعجبوا به؛ لأن فيه شيئًا من الأزهر، شأنه في ذلك شأن الشيخ عبد العزيز البشري4، وإذا قرأه أبناء المدارس المدنية أعجبوا به؛ لأن فيه روحًا من أوربا, وإذا قرأه أوساط الناس الذين ليسوا من أولئك ولا هؤلاء، أعجبوا به؛ لأن فيه الروح العربي الخالص الجاحظي، ولعله لا يتعمَّد ذلك ولايصطنعه، وإنما هو وحي الطبع وإملاء الفطرة، من خلال جملة عربية رصينة، تمتاز بقوة الحسِّ التي تجعل كاتبها "لا يكاد يمر به شيء إلا التقطه التقاطًا، ورسمه في نفسه رسمًا, يخالطها مخالطة حتى يصبح كأنه جزء منها, ثم هو لا يكتفي بالتأثير وانتقاء ما يعرض لنفسه من الأشياء والخواطر، ولكنه سريع التأثُّر والتأثير. فهو إذا أحسَّ لا يكنُّ ما يحسُّه، ولكنه يعلنه ويظهره5 فهو يتلقى الأشياء -كصحفي- مسرعًا "ويعكسها مسرعًا. وتعمل نفسه الخفية أو ضميره المكنون فيما بين ذلك عملها الغريب الذي يظهر خواطره وأحكامه وتصويره للأشياء, كأروع ما تكون الخواطر والأحكام والتصوير"6. وليس هذا المنهج في تلقي الأشياء منهجًا صحفيًّا فحسب، ولكنه عند طه حسين منهج مستفاد من أسلوب المصريين في قياس الأمور بمقياس الوقائع والتجارب العيانية7، وهو المقياس الذي يقوم على إدراك النقائض بين الأشكال والصور, وبوجه التفاته إلى المشابهات اللفظية والتجنيسات المعنوية8.   1 من أدبنا المعاصر ص158، 160. 2، 3، 4 من مقدمة الدكتور طه حسين لكتاب البشري، مرجع سابق س و. 5، 6 المرجع نفسه ص2. 7، 8 عبد العزيز شرف: عباس محمود العقاد بين الصحافة والأدب، السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 العناصر الفنية في المقال الكاريكاتيري أولا: عنصر التجسيم للعيوب ... العناصر الفنية في المقال الكاريكاتيري: وتأسيسًا على هذا الفهم نجد أن الصورة الكاريكاتيرية المقالية عند طه حسين تتألف من جملة العناصر الآتية: أولًا: عنصر التجسيم للعيوب: أو المسخ للشخص الذي ينمذجه المقال الكاريكاتيري.. ذلك أن طريقة الكاريكاتير تقوم على المبالغة في تصوير العيوب، فالرجل ذو الأنف الكبير يبدو بريشة الرسام وقلم الكاتب كأن وجهه كله عبارة عن أنف, والرجل القصير يبدو كذلك كأنه أقصر من طفل, والرجل البدين يظهر في شكل البدانة والضخامة قَلَّ أن يكون له نظير في الحياة الواقعة نفسها, وهكذا1. وعند طه حسين نجد أن هذا العنصر جاحظي من حيث التصاقه بالحياة وبالواقع، يصوِّر جانبًا من طبائع فئة من الناس، ويعرضها بأسلوب قصصي شيق، والقصة عند طه حسين قصة وظيفية لا تهدف إلى الفن المحض والمتعة الخالصة، كما هي عند الجاحظ، ولكنها تهدف إلى أداء الوظائف الاجتماعية للكاريكاتير المقالي على النحو المتقدِّم، ويكفي أن ننظر في مقال بعنوان: "مدرسة"2, يهجو فيه الوزارة الصدقية، وهو من أوله إلى آخره هجاء سياسي، يتغيَّا أداء وظيفة "الجزاء الاجتماعي" في قالب قصصي كاريكاتيري. يبدأ طه حسين مقاله بمقدمة توضح المقصود بعنوان المقال, أي: "المدرسة", يقول: "أما ناظرها فحضرة صاحب الدولة إسماعيل صدقي باشا، وأما طلابها فينقسمون إلى ثلاثة أقسام؛ طلاب مرشَّحون وهم هؤلاء المستوزرون من أعضاء البرلمان ومن غير أعضاء البرلمان، لا يشترط فيهم إلّا شرط واحد نعرفه جميعًا ونقرُّه جميعًا، وهو ألا يكونوا من المعارضة! أو من أنصار المعارضة, أو إنما يظهر فيهم ظهورًا واضحًا استعدادٌ حسنٌ لتأييد الوزارات مهما تكن، ولتأييد صاحب الدولة صدقي باشا بنوع خاص. وطلاب عاملون, وهم حضرات المعالي والسعادة والعزة الذين يختارهم رئيس الوزراء بالفعل، ويعهد إليهم بتدبير   1 الدكتور عبد اللطيف حمزة: مرجع سبق ص198. 2 كوكب الشرق في 14 مارس 1933. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 أمور الدولة تحت إشرافه البارع، وفي ظلِّ سياسته الحكيمة، وطلابٌ مفصولون إما لأنهم أسرفوا في النجاح! أو لأنهم أسرفوا في الإخفاق أثناء وقت الدراسة والتمرين، وهم هؤلاء الوزراء الذين ينقلون أو يقولون أو يستقبلون، فمنهم من يعمل في سفارات الدولة، ومنهم من يستريح في بيته، وأولئك وهؤلاء ينتظرون أن يحتاج رئيس الوزراء إليهم، فيردهم إلى المدرسة ليستفيد من كفايتهم, أو ليدربهم ويمونهم مرة أخرى. "وأما هيئة التعليم في المدرسة ففرد واحد جمَّع الله فيه أفرادًا، وشخص واحد ألَّفَه الله من أشخاص، وكفاية واحدة صافّها الله من كفايات، وهذا الفرد المتحد المجتمع، وهذا الشخص المؤتلف المختلف، ذو الكفاية المحصورة الملتوية، هو حضرة صاحب الدولة رئيس الوزراء. وقد يعينه أساتذة مساعدون كما يقول الجامعيون، وقد يعينه مدرسون أيضًا، وهؤلاء الأعوان يختلفون، فبعضهم من المصريين، وبعضهم من الإنجليز، وبعضهم من الأوربيين بوجه عام1"، ثم يمضي طه حسين في هذا الكاريكاتير المقالي فيقول: "وأما أمد الدراسة في هذه المدرسة فيختلف طولًا وقصرًا، ويختلف عرضًا وضيقًا، باختلاف ما يستمتع به الطلاب من استعدادٍ للنجاح والتفوق، وللإخفاق والعجز، فمنهم من يقضي في المدرسة شهرًا ثم ينقل، ومنهم من يقضي في المدرسة عامًا ثم يوكَل إليه عمل آخر، ومنهم من يقضي في المدرسة عامين ثم يخرج، ومنهم من يقضي شهرين ثم يستقيل.. وكذلك أراد الله لمصر المستقلة أن تنشأ فيها هذه المدرسة الغربية التي لم تسبقنا إليها أمة من الأمم، إلا الأمة الإيطالية الصديقة، التي لم يؤسسها قبل رئيس وزرائنا إلا زعيم إيطاليا العظيم السنيور موسوليني، فقد لاحظ الناس جميعًا, وتحدَّثت الصحف الأوربية المختلفة أن الزعيم الإيطالي قد أنشأ مدرسة للحكم يهيئ فيها الإيطاليين لفهم النظام الإيطالي الجديد، فهو يجمع الوزراء ويفرقهم، وهو يُقِرُّهم ويقلقهم، وهو يريد أن يهيئ للغاشم أجيالًا من الوزراء إذا خلى منهم جيل، خلفه جيل آخر، ولم يقلده في هذا النحو من التعليم إلّا رئيس وزرائنا العظيم! أما هتلر فقد نهض بأعباء الحكم في ألمانيا وأمامه مثلان يستطيع أن ينظر: إلى إيطاليا فينتفع، ويستطيع أن ينظر إلى مصر فيستفيد، وأكبر الظن أنه سينظر إلى البلدين جميعًا, فكلاهما خليق أن يعلم فيحسن التعليم2! ". ثم ختم المقال بتأكيد الوظيفة التي من أجل أدائها كُتِبَ المقال: "إنما تجد سياستنا يوم تكون أمور الشعب إلى الشعب، ويوم يقضي   1، 2 المرجع نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 في أمور الشعب جهرة، ويوم تستشار الهيئات البرلمانية ولا يقتصر على تبليغها، والاستماع لما تقدّم من تحية وتهنئة وشكر وثناء. "فإلى أن يأتي هذا اليوم الذي تجد فيه السياسة المصرية، فتضطرنا إلى أن نجد في فهمها وتفسيرها، بل في بذل ما نملك من جهد لتقويمها إن اعوجَّت، وتوجيهها إن انحرفت، إلى أن يأتي هذا اليوم يحسُن أن نبعث مع سياستنا العابثة. ستسألني متى يأتي هذا اليوم؟ لمن يدري؟ لعله يكون أقرب مما تظن فأظن، فلننتظر باسمين1". ومن ذلك يبن أن هذا العنصر الكاريكاتيري في تجسيم العيوب يستمدُّ غذاءه من العقل والعلم2 والواقع، ذلك أن طه حسين يذهب إلى أن الجهل لم يكن في يوم من الأيام مصدرًا، "للخير، ولا وسيلة للإجادة، ولا طريقًا إلى البراعة الفنية. وما رأيك في مثالٍ يطمع في ابتكار الآيات الفنية وهو يجهل التشريح وما يتصل به من تكوين الجسم الإنساني، وما إلى ذلك من هذه العلوم التي لا سبيل إلى الإجادة الفنية بدونها؟! إن الإجادة الفنية إنما كانت أثرًا من آثار الشعور، ومظهرًا من مظاهر الحسِّ القوي والعواطف الدقيقة والخيال الخصب، فهي لغوٌ إذا لم تستمد غذاءها من العقل والعلم3". ويتوسَّل في تحقيق العنصر بأسلوبه الفريد الذي عُرِفَ به، وهو الأسلوب التصويري الذي يجنِّدُ له طه حسين طاقاته الفنية, وما يتمتع به من حسن عميق بمواقع الكلمات وجرسها ودلالاتها وإيحاءاتها، واستخدام هذا الأسلوب التصويري استخدامًا وظيفيًّا، يقوم على التشكيل الكاريكاتيري المتعمد والمقصود لأداء الوظيفة الاجتماعية للمقال.   1 المرجع نفسه. 2، 3 حافظ وشوقي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 ثانيًا: عنصر التوليد وهو ما يتاح للكاتب ولا يتاح للمصوّر، وبه يعمد الكاتب إلى توليد المعاني، واستطراد الأفكار، وكل معنى منها يذكر بآخر، وكل فكرة منها توحي بأخرى، وهكذا يستنفد طه حسين معانيه وأفكاره من خلال أسلوبه الاستقصائي الذي تميَّز به، على النحو المتقدِّم، والذي يقترب من الأسلوب الجاحظي المسترسل الذي لا يتعثَّر ولا يتلجلج، إذ يسوق عبارته ومزاوجاته, وكأن الألفاظ سخرت له تسخيرًا، فهو يختار منها ما يشاء، وما يؤدي وظيفة التوليد الكاريكاتيري في المقال، مستخدمًا التكرار الوظيفي وتلوين العبارة بالازدواج وبالتناغم الصوتي، ومعنى هذا أن عنصر التوليد يجعل الذهن ينتقل في لحظة واحدة من معنى إلى آخر، ولذلك يتوسَّل بالازدواج والتناغم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 الصوتي، وإطلاق العنان للغة، كما يقول برجسون1، ذلك أن عنصر التوليد اللغوي هو في صميمه عملية ذهنية تخفى تحت قناع "التلاعب بالألفاظ", نزوعًا خفيًّا يحاول أن يتستَّر تحت رداء المعنى المزدوج. ومن أمثلة استخدام هذا العنصر في المقال الكاريكاتيري عند طه حسين، مقال بعنوان: "بم يخفق البرق"2 يقول فيه: "يظهر أن البرق يخفق, ويخفق خفوقًا شديدًا, شديدًا وكثيرًا, ويظهر أن الأسلاك تضطرب, وتضطرب اضطرابًا عظيمًا, عظيمًا وسريعًا. البرق يخفق, والأسلاك تضطرب, وهناك أمور ذات بال يخفق بها البرق وتضطرب بها الأسلاك بين لندرا والقاهرة. والأمة واقفة موقف من يجهل كل شيء. تسأل فلا تجاب، وتتكلم فلا يعنى أحد بما تقول"3. ثم يقول في وصف العلاقة بين الصحف والمؤسسات السياسية التي تعبر عنها: "ثم تناقض فيها الوحي واضطرب وكثرت فيها اللغات واختلفت, فلم يعرف الناس من أمرها شيئًا. ولم يستطع أحد أن يتبين فيها للحكومة رأيًا"4. ثم يستطرد إلى أن يقول من خلال العمد إلى توليد المعاني: "أليس من الممكن أن يكون هذا الوحي الغريب قد نظر إلى الأمر كما تنظر الأم الفقيرة المعوزة العاجزة إلى طفلها الجائع, فهي تعلله وتغَنِّي له بما سيلقاه بعد حين من الحلوى والسكر ومختلف ألوان الطعام؟ كلا! ليست الأمة المصرية طفلًا, وليست الوزارة المصرية فقيرة ولا معوزوة ولا عاجزة, إنما هي وزارة فنية ثرية قادرة تقلدت مناصب الحكم, معلنة أنها ستعمل, ولم تعلن هذا إلّا وهي معتقدة أنها قادرة عليه. ليست الأمة طفلًا, وليست الوزارة عاجزة, فالأمة تطالب بالعمل وتنتظر نتيجة العمل, وهي تفهم حق الفهم ما تطالب به وما تنتظره، والوزارة قادرة تريد أن تعمل, ومن الممكن أن تعمل. ومن الممكن أن تظهر نتيجة عملها غدًا أو بعد غد. وإذن فمن الممكن أن تكون هناك خطة سياسية جديدة, وأن يخفق بها البرق وتضطرب بها الأسلاك, فما هذه الخطة وما موضوعها؟ "5. ومن نماذج هذا العنصر في مقاله طه حسين أيضًا، ما نشره في "حديث المساء" بعنوان: "مناظرة بين بحر ونهر- بمناسبة موضوع الإنشاء في الشهادة الابتدائية"، إذ يتخذ من هذه المناسبة مجالًا لتوليد المعاني   1 مرجع سبق ص157. 2، 3، 4، 5 السياسة في أول يناير 1923. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 واستطراد الأفكار عن عمدٍ وظيفي للسخرية من سياسة التعليم, يقول في مقدمة هذا المقال: "تفضَّلَ كاتب أديب من أصدقائنا فروى هذه المناظرة البديعة التي كانت بين بحر ونهر منذ شهر أو أكثر من شهر، والتي سمعها مفتش من مفتشي وزارة المعارف فأراد أن يمتحن بها الصبيان، لتتبين الحكومة: أصبياننا أبلغ، أم بحار الأرض وأنهارها؟!. "ومن المحقق أن نتيجة الامتحان ستظْهِرُ قصور الصبيان في هذا الفن من فنون البيان، ومن المحقق أيضًا أن إذاعة السؤال الذي ألقي على الأطفال قد شاقت الناس جميعًا إلى أن يعرفوا إجابة الأمر بين البحر والنهر، فلا جرم إثرنا أن نجعل مقال الكاتب الأديب "حديث المساء" في هذا اليوم، وإن نهدي هذا المقال بالنيابة عن صاحبه إلى وزير التقاليد ورجال التعليم في وزارة المعارف؛ لعلهم يشعرون بأن من أعسر الأمور وأشقَّها أن يقاس الصبيان في فن البيان بالأنهار والبحار. "ولعل الذي سيصححون الامتحان يستفيدون من هذا المقال، فيعرفوا وجه الحق في فضل البحر على النهر، أو فضل النهر على البحر، ويعصمهم ذلك من ظلم الصبيان المساكين. فنحن لا نشكُّ ولا نرتاب في أن علم المصححين بهذه المسألة كعلم التلاميذ؛ يسير ضئيل لا يجلو شكًّا ولا يزيل شبهةً، وأكبر الظن أن وزير التقاليد سيدعو إليه المفتش الذي وضع هذا السؤال، ليتبين منه أمر هذا المقال، أمطابق هو لما سمع من البحر والنهر، أم فيه شيء كثير أو قليل من التغيير والتبديل؟ "وأكبر الظن أن بلاغًا رسميًّا سيصدر لينبئنا برأي المفتش في هذا الحوار! "فليقرأ الناس ولينتظروا، وليقدِّمُوا معنا إلى الكاتب الأديب أجمل الشكر وأحسن الثناء1". ثم ينتقل بعد هذه المقدمة إلى تقديم حوار كاريكاتيري يسخر من سياسة التعليم ومن وزير التقاليد بين "نهر وبحر"، يقوم على التوليد اللفظي والمعنوي واستطراد الأفكار، وهكذا حتى يستنفد المقال أغراض السخرية والتقويم. وقد يعتمد هذا العنصر الكاريكاتيري على فهمٍ حرفيٍّ للكلمات يستثير السخرية، لما يكمن وراء هذا الفهم الحرفي من دلالة اجتماعية وسياسية، ومن ذلك مقال يعنونه طه حسين بلفظ عربي هو: "إقدام2" يستهلُّه بقوله:   1 المرجع السابق. 2 كوكب الشرق في 23 مارس 1933. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 "ولكنه إقدام خطر قد يجر إلى الشر، وينتهي إلى ما لا يحبه المقدِمُون أنفسهم، وقد لا تحتمله أيضًا صحة هذه الوزارة التي أخذتها العلل من أطرافها المختلفة، فأعجزتها عن النهوض بجلائب الأعمال؛ سواء أكانت هذه الأعمال نافعة أم ضارة. "نعم إقدامٌ خطر مريب معيب، هذا الذي أخذت تظهر آثاره وبوادره على أعمال الإدارة في الصعيد، فقد كانت الإدارة هادئة في أسوان، وكانت مستقرَّة تسمع وترى, وتألم وتغضب، ولكنها لا تضطرب أو لا تسرف في الاضطراب، بل تخلق بين الناس وبين أنفسهم، يحسون ويشعرون، ثم يعربون عَمَّا يجدون من حسٍّ وشعور, فيختفون ويصفقون ويهتفون, وكل شيء هادئ والنظام مستقر, إلا أن يكون إظهار الشعور والاستمتاع بالحرية الطبيعية التي يكفلها الدستور خروجًا على النظام وتكديرًا للصفو والهدوء. "كانت الإدارة هادئة مطمئنة في أسوان حين زارها الرئيس الجليل, فلم يحدث أو لم يكد يحدث شيء ذو بال، ولكن أشد الأحلام رزانة قد يخف, وأعظم الأحلام ثقلًا قد يطيش. ويظهر أن عمر الإدارة محدود مهما يطل, وإن حلمها ضيق مهما يتسع، وأنها قد ترى ما تكره هي وإن لم يكره الدستور ولا القانون ولا النظام, فتحتمله ساعة أو ساعات, وتصبر عليه يومًا أو أيامًا، ثم لا تلبث أن تتنكر له وتثور به وتعرض للناس, تأخذهم بكظم الحسِّ وكتمان الشعور والنزول عن حقهم الطبيعي في أن يغدوا ويروحوا ويأتوا من الأمر ما يحبون لتكريم من يحبون1". وهكذا ينتقل الكاتب من معنى إلى آخر, ومن شاهد إلى آخر، وكل معنى وكل شاهد يذكِّرُ بالآخر، وكل فكرة توحي بأخرى، إلى أن يقول: "نعم في مصر حياتان مختلفتان! إحداهما: حياة أمة كلها أمل؛ فهي تصبر وتبتسم، والأخرى: حياة وزارة كلها بأس؛ فهي تغضب وتتنكر, وهي تهيج وتثير الناس. وأي غرابة في أن يضيق من يملأ قلبه اليأس بمن يملأ قلبه الرجاء. إقدام خطر هذا الذي تظهر آثاره في الصيد خير منه الإحجام. ما أشد حاجة الوزارة إلى أن تفكر في نفسها, وتعنى بصحتها, وتعالج هذا الشلل الذي أصاب أطرافها, وتفرغ لهذا التمرد الذي دبَّ في أحزابها. فإن في هذا كله ما يشغلها عن زيارة الرئيس الجليل وصاحبه للصعيد، لتفرغ الحكومة لشئونها الصغيرة والكبيرة, ولتطمئن فلن يتعرض نظام. ولا أمن للخطر ولا لما يشبه الخطر إذا أخذت هي رجال الإدارة بالهدوء, وكفَّت هي يد الإدارة عن الناس. "إن استقرار النظام رهين باستقرار الإدارة, فإذا لم يكن بدٌّ من أن تعمل الحكومة شيئًا فلتجذب إليها بشدة لجم الإدارة, فقد يظهر أن في خيل الإدارة ميلًا إلى الجموح2". وهكذا حتى يستنفد الكاتب معانيه وأفكاره وشواهده ما استطاع, وهذا العنصر من عناصر الكاريكاتير المقالي يقودنا إلى الحديث عن عنصر آخر.   1 المرجع نفسه. 2 المرجع نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 ثالثًا: عنصر التشبيه أو التمثيل وهو العنصر الذي يستوحي فيه الكاتب خياله، ويستعين به في عملية "المسخ" المشار إليها، وكثيرًا ما يتوسَّل إلى ذلك بكلام القدماء، وأهاجي الشعراء، وحكايات العامة, أو نحو ذلك، وأكثر من ذلك أننا نجد في مقال طه حسين تحويلًا لهذا الكلام من معناه الأصلي الذي وضع له, إلى المعنى الجديد الذي أراده لمقاله الكاريكاتيري. ومن الأمثلة على ذلك أن طه حسين في سخريته من الوزارة الصدقية، استشهد بقول الشاعر القديم للحجاج1: أسد عليَّ وفي الحروب نعامة ... فتخاء تنفر من صفير الصافر هلا برزت إلى غزالة في الوغى ... بل كان قلبك في جناحي طائر "نعم لم يرع هؤلاء الوزراء الذين أفشوا سرَّ محلهم، وأذاعوا حديث رئيسهم، بكرامة الوزارة وكرامة الدولة معًا, وليس لذلك كله مصدرًا إلّا أن هؤلاء الناس قد كُلِّفُوا من الأمر ما لا يطيقون، وحُمِّلُوا من مناصب الدولة ما لم يهيأوا له، ولا ينبغي أن يؤتمنوا عليه، فإن الوزير الذي يلم به من الأمور السياسية ما يكره، فلا يملك نفسه أن يذيعه، ويتحدث به إلى الناس، ويلم به من الأمور السياسية ما يحب فلا يملك نفسه أن يتحدث به ويذيعه, هذا الوزير خليق أن لا يظل في منصبه يومًا أو بعض يوم؛ لأنه قد أقام البرهان لا يصلح للوزارة، ولا ينبغي أن ينهض بأعباء الحياة العامة2". على أن الاتجاه العام عند طه حسين في استخدام عنصر التشبيه والتمثيل، يتجه إلى استيحاء الواقع الملموس، والاعتماد على الشواهد العملية في الحياة السياسية والاجتماعية، ومن ذلك مقال يشبه فيه الوزراء بأنهم "غرابيل3.." كما جاء في عنوانه, يقول:   1 كوكب الشرق في أول مايو 1933. 2، 3 المرجع نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 "هم إذن غرابيل لا ينبغي أن تلقى إليهم الأسرار، ولا ينبغي أن يؤتمنوا على الأحاديث, وإنما يجب أن يستأثر رئيس الوزراء من دونهم بأسرار الدولة وشئونها ذات الخطر، فهم قد أذاعوا -إن صحت أنباء الأهرام- أسرارًا أقل ما توصف به أنها مزرية بكرامة الدولة، غاضَّة من قدرها، تظهرها مضطربة جزعة، لما يذاع من الأنباء عن نقل المندوب السامي من مصر، أو رجوعه إليها، وإقامته فيها، وتظهرها فزعة هلعة، لما يقال من أن اللجنة الإنجليزية المصرية راضية عن النظام القائم، أو ساخطة عليه، مؤيدة للوزارة أو متنكرة لها, وليس من كرامة الوزارة بحالٍ من الأحوال في نفوس المصريين، سواء كانوا من أصدقائها، أو من خصومها، أن تظهر على الوزارة أعراض هذا الضعف المخجل، وهي التي تتحدث بالاستقلال، وتزعم أنها شديدة التعلق بأسبابه، غالية في الحرص لأعلى مظاهره وأشكاله، بل على حقائقه التي لا تقبل الشك ولا تحتمل النزاع1". ثم يستشهد بقول الشاعر القديم للحجاج؛ بعد أن يقول: "إن كل مصري يستحي أن يعرف الأجانب الذين لا يقفون على دخائل الأمور، إن هذه الوزارة التي تذيق المصريين ألوان العذاب تخاف من الإنجليز إلى هذا الحد، وتجزع من سعي اللجنة الإنجليزية المصرية إلى هذا الحد، فهي تلقى المصريين بالشدة والعنف، وتلقى الإنجليز بالضراعة والخوف"2. ولعل في ذلك ما يفسر تمثله بقول الشاعر القديم، من خلال الشواهد العملية المستقاة من الواقع السياسي المعاش. ذلك أن القسم الأول من المقال يمثل حملة قوية يشنها طه حسين على الوزارة الصدقية، التي سارت في طريق الزيغ والضلال والاستبداد، ثم ينتقل في القسم الثاني إلى تفصيل ما أجمل في قسمه الأول، ويشرع بالرد على الشواهد المنسوبة إلى "الأهرام" في استطراد عُرِفَ به الجاحظ من قبل، ليشير بها إلى أن هذه الوزارة لا تتمالك نفسها، مشبهًا أعضاءها بأنهم "غرابيل" تظهر عليها "أعراض هذا الضعف المخجل" أمام الإنجليز, وهي التي في الجانب الآخر "تلقى المصريين بالشدة والعنف"، متوسِّلًا في هذا المقال باستعارات أضفت على الكاريكاتير بلاغة صحفية، وفيما عدا ذلك عدل طه حسين عن أسلوب المجاز إلى أسلوب الحقيقة تاركًا نفسه على سجيتها. وقد عمد تجاه "الخبر" الذي نشرته الأهرام إلى إسناده إليها ليكون في حِلٍّ من تبعته، فالعهدة على الراوي، والاعتماد على السند ظاهرة هامة تتمثَّل فيها أقوى سمات التحقق والتيقن التي أخذ بها العلماء المسلمون, وكان رجال الحديث أول من عمد إليها, ثم سرت إلى سائر أوجه المعرفة من تاريخ وأدب وشعر وسيرة.. فهذه الظاهرة الصحفية عند طه حسين أثر من آثار ثقافته العربية الإسلامية. الأمر الذي   1، 2 المرجع نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 يوضح لنا طريقة طه حسين الصحفية المكينة عندما يعزو الخبر إلى رواته أولاً, وعندما يظهرنا على موضع الشك في بعض أولئك الرواة ثانيًا، حين يستهلُّ المقال بقوله: "هم وزراؤنا إن صحت أنباء الأهرام، والظاهر أنها صحيحة". ومن نماذج هذا العنصر الكاريكاتيري كذلك مقال بعنوان: "طير ... 1" يقول فيه: "في جو مصر الآن طير تحلق حينًا وتقع حينًا آخر، وتتردد بين دواوين الوزراء، وإدارات بعض الصحف، وتلمّ بمجالس الناس في القاهرة والأقاليم، وليست هذه الطير جميلة الشكل، ولا رائقة المنظر؛ وليست هذه الطير خفيفة الحركة، ولا رشيقة في التحليق والوقوع، ولكنها قبيحة سمجة مخيفة ثقيلة الظل، عراض الأجنحة، وليست عذبة الصوت، ولا حلوة التغريد، ولا مسمعة للناس غناء البلابل، ولكنها بشعة الصوت، نابية اللحن، تصيح صياح البوم، وليست أسماؤها بالأسماء التي تدعو إلى التفاؤل وانتظار الخير، والابتسام للأمل، ولكنها أسماء تدعو إلى التشاؤم وتوقُع الشر، والتنكر للقنوط، فبعضها يسمى الكذب، وبعضها يسمى إفشاء السر، وبعضها يسمى سوء الظن، وهذه الطير تضطرب في جو مصر كله، فتفسده أشد الفساد، وهي تخفق بأجنحتها خفقًا عنيفًا يكاد يصم الأسماع، وهي تبعث من حين إلى حين صيحات منكرة تروع النفوس، وهي تنشر في الجو رائحة كريهة يتأذّى لها الزمن، وهي توشك أن تنتهي بالمصريين إذا لم تطرد عن وجوههم إلى شرٍّ كثير2! ". ثم ينتقل بعد ذلك يقدم شواهد من الصحف، تمثل هذه الصورة الكاريكاتيرية التي قدَّمها في مدخل المقال، يقول3: "صحيفة تذيع بين قرائها يوم الثلاثاء أن رئيس الوزراء تحدَّث في التليفون إلى وزير مصر المفوض في لندرة، ويسكت رئيس الوزراء على هذا النبأ, فإذا كان الغد تحدثت صحيفة أخرى بأن وزيرنا المفوض في لندرة أنبأ مكاتبها بأن قد كان بينه وبين رئيس الوزراء حديث في التليفون "ويسكت رئيس الورزاء على هذا النبأ الثاني أيامًا، وتتناول الصحف هذا النبأ بالتفسير والتعليق، ورئيس الوزراء صامت لا يتكلم، وساكن لا يتحرك, وفاتر لا يبدي قليلًا من نشاط، حتى إذا كان مساء أمس, زعم رئيس الوزراء للمقطم، أن هذا الحديث التليفوني لم يكن، فأين يكون الحق إذن؛ وأين يكون الباطل؟ وعند من نلتمس الصدق إذن؟ وعلى من نلقي تبعة الكذب4؟ ".   1، 2 كوكب الشرق في 2 مايو 1933. 3، 4 المرجع نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 ويواصل في القسم الثاني من المقال تقديم شواهده، مع إسنادها إلى رواتها من الصحف أو المسئولين من خلال طريقته الصحفية: "زعمت المقطم أن ناحية مسئولة في مصر تحدَّثت إلى زوير مصر في لندرة بالتليفون، وزعمت البلاغ أن وزير مصر المفوَّض في لندرة أنبأ مكابتها بأن هذا الحديث قد كان، وزعم رئيس الوزراء بعد أيام أن هذا الحديث لم يكن، فهناك طائر قبيح الشكل، بشع المنظر، فج الصوت، يتردد بين إدارة المقطم، وإدارة البلاغ, والمفوضية المصرية في لندرة, ومكتب رئيس الوزراء، واسم هذا الطائر قبيح لا يدل على صدق ولا نصح ولا حب للحق. وهو لا يدري أين يقع من هذه الأماكن التي يتردد بينها، وهو لا يهدأ ولا يستريح حتى يعرف له مستقَرًّا يستقر فيه, ووكرًا يؤي إليه، وهو سيفسد الجو بصيحاته المنكرة، وريحه المؤذية، حتى يصرف عن هذا الجو، ويُرَدَّ إلى وكره بعيدًا عن الأسماع والأحياء وإلا نعرف ... "! 1. ثم ينتقل إلى تصوير الطائر الآخر، والذي يظهر في مقاله: "قبيح الشكل، بشع المنظر، لا يدل اسمه على الصدق والنصح وحب الحق، وهو يتردد بين الأهرام ومكتب رئيس الوزراء، وهو لا يدري أين يستقر، وسيظل مفسدًا للجو، مؤذيًا حتى يُرَدَّ إلى وكر يستخفي فيه. "وهناك طائر آخر ليس أقل من هذا الطائر شرًّا ولا نكرًا، ولا يدل اسمه على أمانة في الحديث، ولا على حفظ للغيب, ولا على كتمان للسرِّ، وهو يتردد بين مكاتب الوزراء لا يدري إلى أيها يأوي, ولا على أيها يقع، وسيظل مفسدًا للجو مؤذيًا للنفوس، حتى يصرف شره عن الناس. ثم هناك طائر آخر مروع مخيف، ليس بشعًا كل البشاعة، ولا قبيحًا كل القبح، ولكنه مزاج من الأمرين، فيه استنكار الشر، واستبشاع الكذب، وإفشاء الأسرار، وفيه التماس الخير، واستقصاء الحق، والحرص على الأمانة، وحفظ الغيب، وهذا الطائر كان يقظًا كالنائم, نشيطًا كالهادئ، متحركًا كالساكن، فلمَّا صاحت تلك الطير المنكرة صيحتها المتصلة، اندفع من البقعة والنشاط في شيء عظيم، فهو يطير في كل جو، ويقف عند كل مجلس، ويسمع لكل حديث, ويتلقط كل نبأ، ويأبى على الناس أن يطمئنوا أويستريحوا، حتى يعلموا أيهما قال الحق في أمر الحديث التليفوني، أهو رئيس الوزراء؟ فيجب إذن أن يسأل وزير مصر في لندرة، كيف قال عن رئيس الوزراء غير الحق، وكيف تحدَّث بما لم يكن؟! أهو وزير مصر في نلدرة؟ فيجب إذن أن يسأل رئيس الوزراء كيف استباح لنفسه أن يكذِّب وزيرًا يمثل كرامة مصر وجلالها في بلد أجنبي هو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 إنجلترا, وعند قوم من الأجانب هم الإنجليز؟! أم هي الصحف قد قالت على الرجلين جميعًا ما لم يفعلا؟ ".. إلى أن يقول: "لا يريد هذا الطائر الذي يُسَمَّى سوء الظن أن يستريح، ولا أن يريح الناس حتى يتبين ويتبينوا معه وجه الحق في هذه القصة، ثم لا يريد هذا الطائر أن يستريح، ولا أن يريح الناس، حتى يتبين ويتبينوا معه وجه الحق ساطعًا وضَّاءًا جليًّا، فيما كان بين الأهرام ورئيس الوزراء, أو قل: فيما كان بين رئيس الوزراء وزملائه, فإن سكون الوزارة على تحدي الأهرام، وسكوت صحف الوزارة على هذا التحدي، وإغراق الوزارة وصحفها في صمت عميق بعد ما نشره مندوب الأهرام صباح أمس، دليل واضح على أن الرجل لم يخترع، ولم يبتكر، وإنما حدَّث فتحدث، وأتى بشيء فأذاعه بين قرائه، وأكبر الظن أن الذين تحدثوا إليه قد أرادوه على أن يذيع هذا الحديث، ليؤكدوا للناس أن ليس على الوزارة من بأس ولا خوف. "يظهر إذن أن الأهرام قد خرجت من هذه المعركة ظافرة صادقة، لا إثم عليها ولا تثريب، فيريد هذا الطائر أن يتبين، وأن يتبين الناس معه، أيهم قال غير الحق؟ ". ثم يختم المقال بعد هذا التصوير الذي يعلِّقُ من خلاله على شواهد سياسية من الواقع الملموس، فيكمل ما بدأ به في مستهله من بحث "طائره" الأخير عن العلم والتثبت، وكأن هذا "الطائر" الأخير، ينتقل بالقارئ إلى نقد المتن بعد نقد السند، فهو هنا يرجع إلى عقله، ويحاكم الأمر من جميع وجوهه: الوزراء، رئيس الوزراء، الصحف. واقفًا تجاه حكاية الطير "موقف الباحث المتشكك، إذ أن رواية الخبر شيء، وتصديقه شيء آخر، وهذا الشك وتقليب أوجه الرأي عند طه حسين من سمات الاستقراء الديكارتي في مقاله، وقد تجلَّت لنا شخصية طه حسين الفكرية فيما أبداه من بوادر الشك تجاه ما تناوله مقاله من خلال عرض كاريكاتيري ينتهي إلى هذه الخاتمة: "أرأيت إلى هذا الجو المنكر الذي نعيش فيه؟! أرأيت إلى هذه البيئة الخانقة التي نضطرب فيها؟ أرأيت إلى الصدق والكذب كيف يختلطان؟ أرأيت إلى الحق والباطل كيف يشتبهان؟ أرأيت إلى الأمانة والخيانة كيف تلتبسان؟ أرأيت إلى الريبة تصبح قاعدة من قواعد السياسة، وأصلًا من أصول العلاقة بين الحاكم والمحكوم؟ أرأيت إلى هذا كله؟ فكرت في هذا كله؟ أقدَّرت أثر هذا كله في حب الناس للوزارة، وثقتهم بها، واطمئنانهم إليها، أقدرت أثر هذا كله في أخلاق الناس حين يتصل بعضهم ببعض، وحين يتحدث بعضهم إلى بعض، وحين يأتمن بعضهم بعضًا على الأسرار؟ ألست توافقني على أن هذه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 البشعة المنكرة، التي تضطرب في جو مصر الآن، فتملأه فسادًا وشرًّا, خليقة أن ترد عن هذا الجو، ليعود إليه شيء من الخير والصلاح! "بلى, إنك لترى هذا الرأي كما أراه، وإنك لتحرص على أن يصفو الجو كما أحرص على ذلك، لتستقيم السياسة، وتصلح الأخلاق، ولكن مَنْ الذي يستطيع أن يذود هذه الطير المسفدة عن جو مصر؟ أحد رجلين: رئيس الوزراة حين يستقبل, أو النائب العام حين يأمر بالتحقيق"1. ومن نماذج عنصر التشبيه والتمثيل أيضًا، مقال يشبِّهُ فيه اضطراب الجو الوزاري بالكهرباء، فيقول في مقال بعنوان: "كهرباء"2: "لم تنتشر في الجو الوزاري كما انتشرت في هذه الأيام، فأصدقاء الوزارة وأولياؤهم يظلمون أنفسهم ويعيشون بعقولهم، إذ زعموا أن جوَّ الوزارة هادئ لا اضطراب فيه، صافٍ لا يشوبه كَدَر، وهم يظلمون أنفسهم، ويعيشون بعقولهم، إذا لم يعترفوا بأن الوزارة قد ضاقت بها السبل، وأخذت من كل مكان، وفسد الجو الذي تعيش فيه، وهي محصورة من كل ناحية، قد اضطرت إلى أن تقف موقف الدفاع، وموقف الدفاع الذي يستميت صاحبه ويستيأس، حتى لا يتحرَّج من الميل إلى الاستعانة بالعزائم والطلاسم والرُّقَى، وزيارة الأضرحة، والتصريح على قبور الأولياء"3. وفي هذا النموذج الأخير نجد أنفسنا بإزاء كاريكاتير قلمي يقوم على الربط بين الصورتين اللفظية والمحسوسة أو الملموسة. وهذا النمط الكاريكاتيري يقودنا إلى العنصر الرابع.   1 المرجع السابق. 2، 3 كوكب الشرق في 11 مايو 1933. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 رابعًا: عنصر التضاد وهو العنصر الذي يقوم على إدراك المفارقة أو انعدام التجانس، كما في الكثير من روائع الفكاهة الكلاسيكية المعروفة, والفكاهة هنا إنما تنحصر في التأليف بين عناصر متباعدة في الواقع، أو المزج بين حقائق متباينة بطبيعتها، أو التوفيق بين ظواهر متنافرة في العالم الخارجي. والأمثلة عديدة لا حصر لها على هذا العنصر في مقال طه حسين، نذكر منها مقالًا بعنوان: "سيارة" يقول فيه: "والله عز وجل لا يستحي أن يضرب مثلًا ما بعوضة فما فوقها، لأنه إنما يضرب الأمثال للحكمة والموعظة الحسنة، وليبين للناس قصد السبيل ويصرفهم عن جائرها، فمن حقنا، بل من الحق علينا أن نتأدب بأدب القرآن الكريم، وألَّا نتحرَّج من أن نتحدث إلى الناس في شيء ما، سيارة فما فوقها، لنبين لهم مواضع العوج في سياسة الوزارة القائمة، حين تعرض للكبائر، وحين تعرض للصغائر من الأمور. والناس يعلمون ما في سياسة الوزارة من العوج، حين تعرض للري، فتقيم الخزان هنا، وتمهد لإقامة الخزان هناك، وتعرض في هذا كله عن نصيحة الناصحين، ومشورة المشيرين، وهم يعلمون كذلك ما في سياسة الوزارة من ذلك العوج، حين تعرض لأمر الدين، فتعلن أنها لن تدفع إلّا ورقًا، وتمضي مع ذلك في خصومة قضائية، ولا تجد الشجاعة على أن تتخذ في هذا الأمر قرارًا حاسمًا يقطع الشك، ويزيل اللبس، وهم يعلمون ما في سياسة الوزارة القائمة من العوج، حين تضيق باستقلال الجامعة، حتى ترده إلى أبسط أشكاله، وتجعله قابلًا لأن يوضع في علبة صغيرة يضعها وزير التقاليد في جيبه! وحين تبسط سلطان الأزهر حتى تغمر به مدارس الدولة كلها، وهم يعلمون ما في سياسة الوزارة من العوج، حين تعرض لغير الري والدين والتعليم من المرافق المصرية الكبرى، فليس هناك بأس إذن.. من أن يقفوا عند هذه السيارة لحظة، وإن كانت ما تزال في باريس تهيأ وتعد، وتنتظر مقدم رئيس الوزراء!. "فأنا أريد أن أتحدث عن هذه السيارة التي كثر فيها الحديث بين الصحف، والتي اشترتها الدولة لرئيس الوزراء، وينتقل بها في أوربا أثناء أجازته الطويلة المقبلة. "زعموا أن رئيس الوزراء حين كان يجمع إلى الرياسة وزارتين، كان يستمتع بالتنقل في سيارات ثلاث، إحداهما: للرياسة، والأخرى للمالية، والثالثة للداخلية، فلما اشتدت الأزمة واستحكمت، أحسّ رئيس الوزراء حاجة الدولة إلى الاقتصاد، فأمر بإحدى هذه السيارات الثلاث فبيعت، وردَّ ثمنها إلى خزانة الدولة، واقتصدت الدولة ما كانت تحتاج إليه هذه السيارة، من النفقات في كل يوم، ولا تسل لماذا لم يبع رئيس الوزراء سيارتين من هذه السيارات، ولماذا لم يكتف بواحدة دون اثنتين، فيضيف اقتصادًا إلى اقتصاد، وتدبيرًا إلى تدبير. ولا تسل لماذا لم يبع رئيس الوزراء هذه السيارات الثلاث، ولم يكتف بسيارته الخاصة، ينفق عليها من أموال الدولة، إذا لم يكن بد من أن تتكلف الدولة نفقات انتقاله. لا تسل عن شيء من هذا، فقد تتهم بالبخل، وقد تتهم بالتعنت، وقد يقال: إنك تجهل أخلاق الوزراء، وما جرت به عادتهم في مصر، حين تلقى مثل هذا السؤال أو تفكر فيه! "1.   1 المرجع نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 ثم يمضي بمقاله في الكشف عن التناقض أو الاستحالة أو الانحراف عن المنطق من خلال عرضه الكاريكاتيري لضروب المفارقة أو التنافر أو الاختلال في القياس، فرئيس "الوزراء ليصبح منذ ذلك الوقت وليس له إلا سيارة واحدة، في سيارة المالية، ولكنه رئيس ووزير، له صفتان, فيجب أن تكون له سيارتان، ولا ينبغي أن يكون كغيره من الوزراء ذا سيارة واحدة، لهذا لم يقنع بسيارة المالية، وأزمع أن يشتري سيارة أخرى للرياسة، وتستطيع أن تلاحظ في غير فائدة ولا غناء، أن رئيس الوزراء مريض، وأن حركته قليلة، وانتقالاته محدودة، فسيارة واحدة كانت تكفيه، ولكنه كما قلت لك ذو صفتين، فيجب أن يكون ذا سيارتين! ولا تقل أن وزير التقاليد ذو صفتين، فهو وزير المعارف ورئيس الجامعة، فيجب أن يستقلَّ سيارتين، سيارة المعارف وسيارة الجامعة، فالفرق بين وزير التقاليد، ورئيس الوزراء، واضح جدًّا، لأن وزير التقاليد لا يتلقى رياسة الجامعة بمرسوم، وإنما هي صفة تنشأ له نشوءًا، وتنشأ له نتوءًا، فهي أشبه بالعِلَّة العارضة، منها بأي شيء، وهي ملازمة له، لا يستطيع أن يتخلص منها، إلا أن يستقيل من الوزارة"1. ثم يقول: "ومن المرجَّح كما يقول الناس، أن في القاهرة سيارات يمكن أن تشترى، منها الفخم الذي يليق برؤساء الوزارات، ومنها المتوسط الذي يليق بالوزراء، ومنها البسيط الذي يليق بأوساط الناس، ومن المرجَّح أيضًا أن شراء هذه السيارات من القاهرة أدنى إلى المألوف، وأقرب إلى الاقتصاد، ولكن رئيس الوزراء سيسافر إلى أوروبا في أجازة طويلة، ليستشفي ويستريح، وهو كما قلنا أمس، لا ينبغي أن يتخذ في أوروبا ما يتخذه عامة الناس من وسائل الانتقال، فيجب أن تكون له سيارته, وما دام رئيسًا للوزراء، وما دام وزيرًا للمالية، فيجب أن تكون له سيارتان تنتقلان معه حيثما وجه، وأينما ذهب، يستقلٌّ إحداهما وهو رئيس الوزراء, ويستقل الأخرى وهو وزير المالية! يستقلُّ كلًّا منهما في وقت من الأوقات، حين يفكِّرُ في إحدى هاتين الصفتين منفردة. "فإذا فكر فيهما مجتمعتين استقلَّ السيارتين في وقت واحد!! ولكن رئيس وزرائنا أرفق بخزانة الدولة، وأحرص على أموال الدولة، من أن يكلفها هذه النفات كلها، فليكتف إذن بإحدى السيارتين في أوروبا، وليستقلها مرة رئيسًا للوزراء وأخرى وزيرًا للمالية، وليجمع السيفين في غمد، حين لا يكون من ذلك بد..! "2. ومن ذلك يبين استخدام عنصر التضاد في التصوير الكاريكاتيري القلمي.   1، 2 المرجع نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 استخدام الخيال في النظر إلى الواقع، بحيث يعامل الواقعي على أنه لا واقعي، ويعامل اللاواقعي على أنه واقعي، كما يبين من "استقلال السيارتين في وقت واحد، ومن هنا, فإن للتناقض والتضاد دورًا هامًّا في المقال الكاريكاتيري؛ لأنه هو الذي يؤكد عامل "اللاواقعية L'irrealitee" واللاواقعية هي الصبغة المميزة للشيء المضحك أو للموضوع الفكاهي بصفة عامة"1. على أن طه حسين يضع في مقابل هذا العامل "اللاواقعي" موقفًا مناقضًا تمامًا؛ ليبرز الانحراف عن المنطق في موقف رئيس الوزراء الذي يصوره المقال، بحيث تظهر المفارقة والتنافر والاختلال في القياس عند تكامل المقال. يقول طه حسين: "أرأيت أنا لم نخطئ حين تحدَّثنا إليك في هذه القصة الصغيرة، قصة السيارة التي اشتريت لرئيس الوزراء، على حين يتحدث الكُتَّاب الآخرون إلى قرائهم في الخزانات والاستجوابات، وعودة المندوب السامي أو بقائه في لندرة، وما يسمونه الموقف السياسي، أرأيت أن تحدُّثَنا إليك عن هذه السيارة قد انتهى بك وبنا إلى خصال يجب أن يتدبرها، ويفكر فيها كل من ينصِّبُ نفسه للعمل في الحياة العامة؟ أولى هذه الخصال الاقتصاد الذي لا ينبغي لرؤساء الوزارات أن يقصروا فيه مهما يكن يسيرًا ضئيلًا، وقدوتهم في ذلك رئيس وزرائنا، حين آثر في أمر هذه السيارة ما آثر من الاقتصاد! ". "وثانية هذه الخصال اليقظة للمصلحة العامة، وللمصلحة الخاصة مهما تكن دقيقة غامضة, فلا ينبغي أن يشغلنا عن هذه المصلحة مرض مهما يكن مخيفًا، أو عمل مهما يكن دقيقًا. "وثالثة هذه الخصال الفناء في الإخلاص للرؤساء، فلا ينبغي إذا مرض رئيسك أن تهمل سيارته! ولا ينبغي إن أقام رئيسك أن تنسى أنه قد سافر! ولا ينبغي أن تنسى أنه قد يسافر! ولا ينبغي إن سافر رئيسك أن تنسى أنه قد يعود! وهذه مشكلة أَدَعُ لك ولغيرك من القراء أن تلتمسوا لها حلًّا؟ وما دام الإخلاص للرؤساء واجبًا، وما دام من الحق على المرءوسين أن يقدروا حركات رؤسائهم إذا سكنوا، وسكون رؤسائهم إذا تحركوا، فقد يكون من الحق على أعوان الوزارة أن يقدروا أنهم، وإن تولوا الوزارة وأطالوا المقام في مناصبها فقد يستقيلون. "صدقني أيها القارئ العزيز, إن من الحق عليك أن لا تتحرج من التفكير   1 الدكتور زكريا إبراهيم: مرجع سبق ص150. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 الطويل في أيسر الأشياء وأهونها، حتى حين تكون هذه الأشياء مما يشبه سيارة رئيس الوزارء! "1. ويؤكد شابيرو2، هذه الصيغة اللاواقعية التخيُّلية التي تُميِّز السخرية الكاريكاتيرية فيقول: "إن الاستحالة التي تكمن في صميم الشيء المضحك هي عبارة عن مفارقة حسية عيانية ظاهرة ... ولكن، لما لم يكن "للمحال" أي موضع في صميم شعورنا بالواقع، فإنه ما يكاد "المحال" يدرك، حتى يبادر الشعور إلى طرده، لأنه يرى فيه علامة على اللاواقعية أو اللاوجود". وإذن فالسخرية الكاريكاتيرية إنما تنشأ حينما ينفذ "التناقض" إلى صميم المقال، كما تبيَّن من النموذج السابق، وكما يبين من نموذج آخر يتوسَّل بالمفارقة والتضاد في تصوير إسماعيل صدقي، في مقال جعل عنوانه: "قمر"3. "هو رئيس وزرائنا أتمَّ الله له الشفاء، وأسبغ الله عليه العافية، وقد طلع أمس في سماء مجلس النواب فبهر الأبصار، وخلب العقول، وهزَّ القلوب في الصدور، وأطلق لسان أحد النواب المحترمين بهذه الجملة الشعبية الظريفة: "طلع القمر" ... ! "ولكن القمر يطلع في أول الشهر، ويطلع أثناءه، ويطلع في آخره, وله في مطالعه المختلفة هذه أسماء مختلفة، منها ما يبعث السرور والبهجة، ومنها ما يبعث الأمل والرجاء، ومنها ما يبعث في النفس شعورًا هادئًا شاحبًا لا بهجة فيه ولا سرور، ولا أمل فيه ولا رجاء، فالهلال يبعث في النفوس الأمل، لأنه سيصير بدرًا كاملًا كما قال أبو تمام، والبدر يبعث في النفوس بهجة وسرورًا وثقة، لأنه يصور القمر في أجمل صوره وأبهاها، وأخلبها للعقول والأبصار، أما القمر فلا يبعث في النفوس شيئًا خاصًّا، وإنما هو شعور هادئ قلَّمَا يتجاوز هذا الجمال العام، ففي أيِّ طور طلع قمر رئيس الوزراء أمس في مجلس النواب؟ لم يكن هلالًا من غير شك, فقد كان هلالًا منذ زمن بعيد حين ألَّف الوزارة ونهض بأعباء الحكم! ولم يكن بدرًا من غير شكٍّ, فقد كان بدرًا منذ زمن بعيد حين استحكم له الأمر واجتمعت له أسباب للقوة، فسيطر على مصر غير منازع ولا مدافع! فأجرى أمورها كما أحبَّ بيد قوية حازمة لا تعرف الضعف، ولا يجد الخَوَرُ إليها سبيلًا, أو أطلق لسانه بألوان الخطابة في السياسة حينًا، وفي الاقتصاد أحيانًا، بالعربية حينًا وبالفرنسية   1 كوكب الشرق في 4 مايو 1933. 2 M. Chapiro; L'illusion comique, Paris 1941, P. 95. 3 كوكب الشرق في 10 أبريل 1933. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 أحيانًا، في القاهرة حينًا, وفي الأقاليم أحيانًا، بل في مصر حينًا, وفي أوروبا أحيانًا"1 ... إلخ. ويتوسَّل طه حسين بالاواقعية الكاريكاتيرية في تصوير تناقض الوزارة، حين ينضاف عنصر المبالغة، والتهويل إلى عنصر التضاد أو المفارقة، فلا يلبث أن يخرج بموقف المقال كله إلى عالم آخر هو الاستحالة، التي تسخر من الواقع السيء، كما نجد ذلك في مقال بعنوان: "جوع"4 يقول فيه: "أما إن وزارتنا شفيقة على الفقراء، رفيقة بالبائسين تتولاهم بالبر الذي لا حد له, وتشملهم بالعطف الذي لا ينتهي إلى غاية، وتذود عنهم ألم الجوع، وترد عنهم المشقَّة والضر، وتغمرهم باليسر والنعيم، فشيء ليس إلى الشك فيه من سبيل، إلا أن تكون مكابرًا تحب المكابرة، أو مماريًا تتهالك على المرء، وفي أي بلد من بلاد الأرض ترى الفقراء والبائسين, رغم هذه الأزمة العنيفة ينعمون بخفض العيش، ويأخون من لذات الحياة ما يريدون وفوق ما يريدون كما تراهم في مصر الآن، تستيطع أن تطوف في المدن والقرى، وأن تجوب أقطار الريف, فلن ترى جائعًا ولا محرومًا, ولن ترى مفلسًا ولا مأزومًا، ولن ترى شقيًّا بالحياة ولا بائسًا منها، ولا زاهدًا فيها، إنما الناس جميعًا في صفوٍ لا يشوبه كَدَر، ولين لا تشوبه قسوة، كلهم فرح مرح, وكلهم سعيد مبتهج, وكلهم باسم للحياة, مقبل عليها, مستزيد منها، وتستطيع أن تطوف في القاهرة فترى من مظاهر السعادة واليسر، ومن آيات النعيم وصفو العيش ما يضطرك إلى أن تسأل نفسك: كيف أعرض الفقراء والبائسون من أهل الأرض عن مصر، وكيف لم يرحلوا إليها, ولم يتساقطوا عليها، وقد أصبحت مصر في هذه الأيام السود جنة الله في الأرض من غير شك ولا مراء، لقد كان يسخر فولتير حين صور في قصة من قصصه المشهورة قطرًا من الأقطار الأمريكية يمشي الناس فيه على الذهب, ويعبث الأطفال فيه بالأحجار الكريمة، وتنحط فيه قيمة المعدن والجوهر حتى يأبى الناس أن يتخذوهما أساسًا للتعامل, أو ثمنًا للبيع والشراء. "كان فولتير يسخر حين صور هذا القطر, فلو قد عاش فولتير إلى هذا العهد السعيد الذي نحن فيه لعلم أن سخريته قد أصبحت حقًّا، وأن هزله قد أصبح جدًّا, وأن مصر إذا لم يمش الناس فيها على الذهب، ولم يعبث الأطفال فيها بالدر والياقوت, فإن الناس فيها لا يعرفون ألمًا ولا ضرًّا، ولا يخافون أن يصيبهم ألم أو يمسُّهم ضر"3 ثم ينتقل طه حسين من هذا التصوير اللاواقعي للواقع، إلى ما يسميه   1، 2 المرجع نفسه. 3 المرجع نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 برجسون "بالموقف الوعر". فيصف الواقع السيء بعبارات الاحترام الرقيقة Respactability, ويذهب إلى كشف تنظيم أخلاقي للأخلاقية من خلال حدَّيْن أقصيين للمقارنة، هما الأكبر والأصغر، الأحسن والأسوء. ويتم النقل بينهما صعودًا أو هبوطًا، فإذا ضاقت المسافة قليلًا، تحصل على حدود يقل التضاد بينها شيئًا فشيئًا، كما يبين من النموذج السابق حين يكشف المقال عن تعارض الواقعي والمثالي، تعارض ما ينبغي أن يكون وما هو كائن، يقول طه حسين: "لهذا كله عجب أشد العجب, حين أقبل علي جماعة من الناس قد أضناهم الجوع, وأنهكهم الحرمان, وظهرت عليهم آثار السوء, وضعفت أصواتهم؛ لأنهم لا يجدون ما يقيم أودهم, ويمكنهم من أن يتحدثوا إليك في صوت ظاهر ممتلئ مستقيم، ولم أشك حين رأيت هؤلاء الناس البائسين المحرومين في أنهم جماعة من الأجانب الذين مسهم الضر في بلادهم, وضاقت بهم الحياة في أوطانهم، فأقبلوا إلى مصر يلتمسون فيها اليسر والسعة, ويفزعون إلى ما فيها من النعيم والرخاء. ولكنني لم أكد أتحدث إليهم وأسمع منهم حتى اشتد عجبي وانتهى إلى أقصاه؛ لأني علمت أن هؤلاء الناس مصريون، نعم مصريون!! "1. ومن ذلك يبين الاستخدام الوظيفي لعنصر التضاد في المقال الكاريكاتيري من خلال النقل بين الاتجاهين المتنافرين، فتارة يقول طه حسين ما ينبغي أن يكون متظاهرًا بالاعتقاد بأن هذا هو الكائن، وعلى ذلك يقوم التهكم Ironie, وتارة يمضي في عكس هذا الاتجاه فيصف ما هو كائن أدق الوصف بأن هذا ما ينبغي أن تكون عليه الأمور، وتلك هي طريقة السخرية الكاريكاتيرية.   1 المرجع نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 خامسًا: عنصر التندر: بحيث تأتي النوادر، كل واحدة منها وكأنها لم تذكر إلّا في هذا الموضع الذي يشير إليه الكاتب بالذات، أو كأنها لم تذكر إلّا من أجل هذا الشخص أو النموذج الذي يسخر منه، ويرتبط هذا العنصر عند طه حسين بالوحدة العضوية للمقال، التي تتيح له البراعة في طريقة التندر من خلالها، ولكن هذا العنصر عند طه حسين على ما يُسَمَّى بـ"الدعابة المغرضة tendentious, أو التندر الوظيفي الذي يشبع في المقال بعض الميول النزالية, أو الأغراض السياسية". وفي مقال طه حسين، نجد أن هذا العنصر الكاريكاتيري يفترض دائمًا وجود "الآخر" الذي يسخر منه، أو يهزأ به، وهو بذلك يؤدي وظيفته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 الاجتماعية، من حيث ترديد الأصداء ونشر الإشاعات الساخرة، ولكنه ظاهرة اجتماعية ترتبط بدائرة مغلقة، هي دائرة المقال الصحفي في مكان وزمان معينين، الأمر الذي يجعلنا حين نريد تفهم السخرية على حقيقتها في مقال طه حسين، أن نحدد الوظيفة النافعة التي تقوم بها, وهي في صميمها وظيفة اجتماعية، فالفكرة الموجهة في دراسة برجسون1، للضحك هي أن الظاهرة التي نحن بصددها لا تخرج عن كونها استجابة لبعض مطالب الحياة الجمعية، بمعنى أنه لا بُدَّ من أن تكون لعنصر التندر في المقال الكاريكاتيري دلالته الاجتماعية. ومن نماذج التندر الوظيفي في مقال طه حسين، اعتماده على هذا العنصر في مدخل مقال بعنوان: "إنذار"2.. يقول فيه: "كانوا يخوضون في ألوان مختلفة من الحديث، فقال قائل منهم: زعموا أن من أكل السمك، وشرب اللبن، ثم دخل الحمام لم يخرج منه إلّا مجنونًا, ولم ينكر على هذا القائل قوله من أصحابه، وكانوا كثيرين، إلا رجل واحد ألح في الإنكار والمماراة حتى ضاق به أصحابه، وحتى أقسم هو ليأكلنّ السمك، وليشربنَّ عليه اللبن, وليدخلن بعد ذلك الحمام، وليخرجنَّ منه موفور العقل متزن الطبع، معتدل المزاج. ورآه الناس بعد ظهر ذلك اليوم يطوف في شوارع القرية ويقف بأنديتها ومجالس أهلها عاريًا قد جمع ثيابه كلها على رأسه، واندفع في ضحك مخيف وهو يقول: زعموا أن مَنْ أكل السمك وشرب اللبن ودخل الحمام لم يخرج منه إلا مجنونًا. وقد فعلت ذلك كله، افترون علي أثرًا من آثار الجنون، أو مظهرًا من مظاهر الاضطراب. "والذين يعرفون هذه القصة التي يتندر بها الناس إذا ذكروا أكل السمك، وشرب اللبن، ودخول الحمام، لا يملكون أنفسهم أن يذكروها ويضحكوا منها ويغرقوا في الضحك إذا رأوا صحف الوزارة في هذه الأيام، ولا سيما إذا قرأوا الاتحاد التي ظهرت أمس، والشعب التي ظهرت اليوم"3.. إلخ. ثم يستمر بعد ذلك في التندر بما جاء في الصحيفتين، بحيث يبدو للقارئ عند نهاية المقال أن هذا التندر لم يذكر إلّا من أجل هاتين الصحيفتين موضع السخرية النزالية. ويذهب في توضيح استخفاف خصومه بالمنطق، إلى استخدام منطقٍ جديد يختلُّ فيه القياس، كما تبيَّن من قصة الرجل الذي أكل السمك وشرب اللبن ودخل الحمام.. فالاختلال في المنطق مقصود لأجل تحقيق السخرية، ويذكرنا هذا الاستخدام الوظيفي للتندر في المقال الصحفي بقياس "أبيمنيدس الكريتي" الذي يقول فيه: "إن كل   1 Bergson; "Le Rire Essai sur la sihnigication du comique" pp. 4-6. 2، 3 كوكب الشرق في 17 أغسطس 1923. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 أهل كريت كاذبون" وبما أن أبينمنيدس نفسه من كريت، إذن فهو كاذب, ومن ثَمَّ فإن أهل كريت صادقون ... إلخ. ومن أصداء هذا الاستخدام الوظيفي في نماذج عديدة من المقال النزالي، نذكر لطه حسين مقالًا بعنوان: "جنون"4 يقول فيه: "هو فنون من غير شك، فمنه الهادئ المطمئن، ومنه الهائج الحاد، ومنه الوادع الأنيس، ومنه النافع الجامع، ومنه ما يكون في الصمت، ومنه ما يكون في الكلام، ومنه ما يكون في السكون والاستقرار، ومنه ما يكون في الحركة والاضطراب، ومنه مايكون ضحكًا، ومنه ما يكون بكاء، ومنه ما يكون فنونًا أخرى لا سبيل إلى إحصائها إلا أن تقرأ كتب الأطباء، أو تسأل القائمين على المجانين في سراي العباسية، تلك التي ذكرها أحد النواب أمس، والتي زعم أنها تخرج لمصر سادتها وقادتها الذين يشرفون على أمورها، ويدبرون مرافقها هذه الأيام"؟!! "لا يعجب القراء، ولا يضغب النواب، ولا تسخط الحكومة، ولا تنشط النيابة، فأقسم ما ذكرت الجنون ولا فكرت فيه، وما كنت لأذكره الآن أو أفكر فيه، لولا أني قرأت صحف الصباح، فإذا بطل من أبطال النواب، يخطب في الاستجواب فيشرد الحساب، ويدخل من كل باب، حتى إذا انتهى إلى الأزمة وما تحتمل مصر من أثقالها، وتلقي من أهوالها، وذكر الصيارف وأمر الصيارف، وذكر شدة الحكومة في جباية الضرائب، وتجشُّم الفلاح للخطوب، واحتماله للكروب، وصبره على المكتوب، لم يشك في أن الذين يخضعونه لهذه المحن ويبتلونه بهذه الفتن إنما هي من خريجي سراي العباسية، ثم استنزل رحمة الله وعفوه ورضاه على سيده ومولاه قراقوش!. "فلست أنا الذي ذكر الجنون وفنونه، ولست أنا الذي ذكر قصر العباسية ومن فيه، ولكن من حقي فيما أظن إذا جرت ألسنة النواب بمثل هذا الكلام، أن أقف عنده وأتبين معناه، وأَدُلُّ الناس على خفاياه"1. ومن ذلك يبين اختلال القياس في نظام الحكم الذي ينازله مقال طه حسين, وهو الاختلال الذي يقوم على أداء الوظيفة الاجتماعية للمقال، والتي يكشف عنها المقال في خاتمته بسخرية مرة لاذعة. "ليتَعَزَّ هذا الشعب البائس التعس، أو ليعرض عن العزاء، ليصبر هذا الشعب البائس التعس، أو ليعجز عن الصبر، فليس للشعب خطر حين يتعزَّى، وحين يجزع، وليس للشعب خطر حين يصبر، وحتى يبلغ من اليأس، ما دام النواب يخطبون فيبرعون في الخطابة، ويختصمون فيتفرقون في الخصام،   1 المرجع نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 وينتهي الأمر إلى أن تظهر الحكومة بالشكر، وتنصرف الحكومة، وإن لواء الانتصار ليخفق على رءوس الوزراء!! "2. وهكذا يكشف المقال عن منطق زائف يقوم على اختلال القياس، ويسخر من نظام الحكم المنعزل عن الشعب، وكأنما يقوم بوظيفة "الجزاء الاجتماعي" الذي يسخر من منطق مختل, هو منطق "سراي العباسية" كما جاء في المقال؛ بحيث يبين لنا بوضوح أن "المغالطة" التي يقوم عليها المقال ليست مجرد فكاهة بريئة، وإنما هي مغالطة وظيفية تخدم أغراض النزال. وهنا نجد في نماذج المقال الكاريكاتيري عند طه حسين، "غرضًا" أو "وظيفة" تكمن وراء ذلك العرض الكاريكاتيري للمقال، وسواء كانت هذه الوظيفة اجتماعية أم نزالية أم معبِّرة عن أية أغراض أخرى، فإن من المؤكد أنها تكمن وراء الكثير من النوادر البريئة التي قد يوردها المقال بحسن نية في مظهرها، ومن ذلك يستمد المقال الكاريكاتيري طابعه الساخر المضحك لما يشيع فيه من وظيفية في البناء والتحرير. ونذكر في هذا الصدد مقالًا بعنوان: "حصار"1 يقول فيه طه حسين: "أقبل إلى مكتبه صباح يوم من الأيام، وجلس إلى مائدة عمله حيران واجمًا, ثم أخذ قلمًا وعبث به شيئًا من الوقت ثم ألقاه، ونظر أمامه دون أن يرى شيئًا، وفتح أذنيه جميعًا فلم يسمع شيئًا، والتفت عن يمينٍ واستلقى في كرسيه، ثم انحنى على مائدته، ثم أهوى بيده إلى زرٍّ كهربائي فمسَّه مسًّا, كان يريد أن يجعله رفيقًا خفيفًا، ولكن اضطراب نفسه جعله قويًّا عنيفًا، وأقبل الخادم مسرعًا, فألقى إليه أسماء في غير ترتيب ولا نظام، ولا لقب ولا شيء آخر، وإنما هي أسماء يجري بها لسانه، فتنفذ في أذن الخادم كما ينفذ السهم، ثم يسكت وينصرف الخادم وفي نفسه شيء غريب يحدِّثُه أن أمرًا ذا بال يملأ قلب الوزير خوفًا، ونفسه فزعًا واضطرابًا, وأغلق الخادم الباب من ورائه، وظل الوزير حيران واجمًا قلقًا في مكانه، ينفق جهدًا غير قليل؛ ليحتفظ بما يجب للوزراء من مظاهر الهدوء، واستقرار القلوب في الصدور. ويُفْتَح الباب ثم يغلق, وقد دخل فلان, وما يكاد يصافح الوزير حتى يفتح الباب ويدخل آخر، وتتصل هذه الحركة: باب يفتح، وشخص يدخل, وثغر يبتسم عن خوف، وثغور تبتسم عن جدة، وأيد تلتقي، وكراسي تقرب من المائدة، وأجسام تستوي عليها, ثم تهدأ الحركة، وتستقر الغرفة، ويصدر أمر الوزير بأن لا يفتح الباب إلّا إذا دقَّ الجرس، مهما يكن الأمر، ومهما يكن الطارق منا أو الطارقون.   1 المرجع السابق. 2 كوكب الشرق في 6 أبريل 1933. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 "ثم يسكت الوزير لحظة مقيدة كأنه يجمع الخواطر المشردة في نفسه، أو كأنه ينفذ من هذا الصمت وسيلة يهيئ بها من حوله للاستماع له, ثم يتكلّم فلا يخبر بشيء ولا ينذر بشيء، ولكنه يسأل عن شيء, يسأل أصحابه: - أقرأتم الصحف؟ فيقولون: نعم. الوزير: أرأيتم؟ القوم: ماذا؟ الوزير: ألم تروا شيئًا؟ القوم: شيئًا يستحق العناية.. لا. أحدهم: كل شيء هادئ مطمئن. الوزير: كل شيء هادئ مطمئن. أحد القوم: ليس في الصحف شيء غير عادي. ومن ذلك يبين استخدام القالب القصصي، واستخدام عنصر الحوار استخدامًا كاريكاتيريًّا يؤتي وظيفة السخرية التي ينطوي عليها هذا القالب القصصي. خصوصًا وأن فيها من المفاجأة التي يدور حولها موضوع المقال، وهي سَفَر النحاس إلى سمنُّود1، "وهو الأمر الذي كان يقض مضاجع الوزارة الصدقية"، حين يسافر في كل عيد وتحتاط الوزارة لسفره، وتحتاط لإقامته، وتحتاط لعودته2 ويتخذ طه حسين من هذا الأمر موضوعًا للسخرية من نظام الحكم الذي لا يقوم على أساس شعبي من جهة، ولتأييد سياسة الحرب الذي يعبر عنه في مقاله من جهة أخرى, وهو هنا "حزب الوفد"، من خلال أسلوب قصصي كاريكاتيري يوفِّر على كاتبه بهذا التلميح, وبذلك الإيحاء غير المباشر الإشارة الصريحة السافرة، أو النزال العلني النابي. ويتوسَّل بهذا الأسلوب الكاريكاتيري كذلك في السخرية من وزارة إسماعيل صدقي، في مقال بعنوان: "درس"3 يبين فيه العامل الذهني بوضوح، من خلال استخدام ذكائه ومنطقه وسرعة بديهته في السخرية, يقول طه حسين: "رئيس وزرائنا أستاذ تلاميذه الوزراء, يعلمهم كيف يحكمون، وكيف يدبرون أمور الشعب وفقًا لسياسته التي رسمها أو رسمت له, وهو يراقب حكمهم وتدبيرهم, فمن أجاد منهم أبقاه, ومن قصَّر منهم أقصاه!   1، 2 المرجع نفسه. 3 كوكب الشرق في 21 مارس 1933. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 "ووزير داخليتنا أستاذ تلاميذه المديرون والمحافظون وحكام الأقاليم, يعلمهم كيف يديرون أقاليمهم طبقًا للسياسة التي يمليها رئيس الوزراء, أو يبلغها إلى رئيس الوزراء, لهو يجمعهم إليه كلما سنحت فرصة للاجتماع, وهو يتصل بهم إذا لم يتمكَّن الشباب بلقاءهم، وهو إذا لقيهم مجتمعين، أو اتصل بهم منفردين، ألقى عليهم درسًا, ووجه إليهم أسئلة, فمن فهم الدروس وأحسن والجواب وأظهر ذلك بالسيرة العملية المرضية في سياسة الأقاليم وحكمها رقَّاه. ومن لم يظهر منه سَبْقٌ إلى الفهم، ولا مهارة في الجواب, ولا نشاط في السيرة العملية, تركه حيث هو، حتى يظهر تفوقه. ومن ظهر في فهمه التواء، وفي أجوبته انحراف، وفي سيرته اعوجاج عن السياسة المرسومة والخطط المعلومة، هبط به إلى إقليم دون إقليمه, أو انتزعه انتزاعًا من حكم الأقاليم!. "وقد كان أمس يومًا من أيام الدرس, ويومًا من أيام الامتحان, فقد اجتمع المديرون إلى أستاذهم الجديد ووزير الداخلية, فسمعوا منه وتحدثوا إليه, وتلقوا أسئلة وأجوبة عليها, وليس من اليسير أن نتعَرَّف بالتفصيل موضوع الدروس والامتحان, وإن قالت الصحف أمس واليوم كما تقول دائمًا: إن الأمن العام كان موضوع الحديث في هذا وذاك, ولكن من المرجَّح إن لم يكن من المحقَّقِ أن الدرس الذي ألقي صباح السبت على المصريين جميعًا, وعلى وزراء العالم كله ورجال الإدارة فيه, كان موضوع الحديث في درس أمس -ولعلك تذكر أن هذا الدرس قد ألقي في الهواء الطلق, ولم يكن محاضرة يكثر فيها الكلام, ولا مناظرة ينعقد فيها الحوار، وإنما كان درسًا عمليًّا أشبه بالتمرينات التي يؤخذ بها الطلاب في فصول الدرس. وكان موضوعًا معقدًا بعض التعقيد، زعيم أو زعيمان يزوران شعبًا يحبهما, والشعب يلقاهما بأروع مظاهر الحب لهما والسخط على خصومهما. والحكومة تكره حب الشعب لزعمائه, وتشفق من سخط الشعب على سادته القاهرين له, وتريد أن تريح نفسها من مظاهر الحب للزعماء, والسخط على القاهرين؛ لأن هذه المظاهر تكذب ما شاع وملأ الأسماع وطبق آفاق الدنيا وتردد في أجواء السماء, من أن الشعب لم يبق له إلا زعيم واحد يحبه ويفنى فيه, ويفديه بالأمهات والآباء والأبناء، وبما كان يملك أيام الرخاء, وبما لا يملك منذ ألمَّ به الشقاء، وهذا الزعيم هو رئيس الوزراء1! ".. إلخ. ومن ذلك يبين أن عنصر التندر في الكاريكاتير المقالي عند طه حسين عنصر وظيفي, يسخر من كل ما من شأنه أن ينحرف بأية قيمة من القيم الكبرى نحو قيمة أخرى أصغر، أو نحو حالة انعدام تام للقيمة، وهو الأمر الذي يتفق مع مذهب "لالو" عالم الجمال الفرنسي المشهور2. والذي يقرر أن   1 المرجع نفسه. 2، 3 الدكتور زكريا إبراهيم: مرجع سبق ص177, وهي معادلة صاغها كالآتي: Contraste Degradation = Devaluation. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 الموقف الخطير الذي لا يلبث أن يتكشَّف عن موقف تافه عديم الأهمية يستثير لدينا الضحك، كما تبين من النماذج المقدرة، حيث يتخذ طه حسين من المواقف الوزارية التي تبدو أمام الوزارة جدية خطيرة، مجالًا للسخرية منها بتحويلها إلى مواقف تافهة تستثير الضحك، وفي هذه الحالات -كما يقول شارل لالو3- ينشأ الضحك عن عملية "هبوط في القيمة تعبِّر عن انتقال مفاجئ من نغمة عليا إلى نغمة دنيا. والهبوط في القيمة يساوي في مقال طه حسين: التباين + الانحلال, وهكذا يقوم عنصر التندُّر في الكاريكاتير المقالي عند طه حسين على إظهارنا على المثالب والعيوب حتى نضحك منها، وليس من شأنه أن يكشف عن المحاسن والميزات حتى نعجب بها، وهو على هذا الفهم، يقوم بوظيفة النزال الصحفي من خلال نقد القيم السياسية, بمناسبة ظهور تفاوت بين قيمتين من بينها، وهذا النقد يتخذ صورة نغمتين متنافرتين يأتلف من مجموعها عمل فني، هو المقال الكاريكاتيري في نهاية الأمر. نخلص مما تقدَّم إلى أن المقال الكاريكاتيري عند طه حسين مقال صحفي وظيفي يقوم على العقل، ذلك أنه يقوم على السخرية الوظيفية, وليس على الفكاهة اللاوظيفية. والسخرية في كاريكاتير طه حسين تعتمد على الذكاء, فهي على نقيض الفكاهة تمامًا, ذات طابع وظيفي يتوسَّل بها طه حسين لتقوم بالتصحيح الاجتماعي "من حيث صيانة الاستقرار الفكري, والاتحاد العاطفي في المجتمع المصري ضد شتى عوامل التنافر والمفارقة أو الإعراب، كما يتوسّل بالكاريكاتير في مقاله إلى نقد الخارجين على المجتمع المصري، وقد يقوم بوظيفة النقد والإصلاح بالنسبة للجماعة ذاتها، كما تقدَّم، وهو أيضًا وسيلة فعالة لتحقيق ضربٍ من التغير الاجتماعي، فالمقال الكاريكاتيري في الفن الصحفي إذن يقوم بوظيفة المصلح الاجتماعي إلى جانب وظيفته كجزاء اجتماعي. كما أن العنصر الإدراكي، إلى جانب هذا العنصر الوظيفي في مقال طه حسين, يقترن بطابع السخرية المصرية التي تنصبُّ على "الجلافة والغفلة, فمثال الرجل الكامل عند المصريين هو اللبق اليقظ الذي يتجنب الخشونة, ويفطن للخداع والمراوغة, فلا تجوز عنده حيلة، وأي شيء هو أدنى إلى الطبيعة المصرية وأشبه بالتاريخ المصري من التراكم على هذا الأسلوب! "فالجلافة في القول أو في التصرف هي أول شيء يضحك منه أبناء أمة قديمة الحضارة, مصقولة الحاشية, تأنَّقت في الكلام حتى جعلته فنًّا كثير اللحون والإشارات، وتأنَّقت في الكياسة وآداب المعاملة والمعاشرة حتى جعلتها فنًّا كثير المراسم والأصول, لا يتقنه إلا من نشأوا عليه بالتربية والمرانة. أما الغفلة: فالمصري يزدريها ويزدري من يقع   1 المرجع السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 فيها؛ لأن الحوادث والنظام قد أحوجته إلى الحيلة وحسن التخلُّص, واضطرته إلى التصرُّف بين الناس على حذر وكياسة توافق مصلحته وتليق بأدبه"1، ولذلك وجدنا المقال الكاريكاتيري عند طه حسين يقترن بضرب من التنويه الخفي والتلميح الذكي، كما تبين من النماذج المتقدمة، حيث يشير من طرف خفي إلى شيء أو حدث أو شخص، قد يكون هذا الشخص وزيرًا أو رئيسًا للوزراء، دون أن يعرب صراحة عمَّا يقصد، كما يبين من الكاريكاتير السياسي في المقال، وكما تبين من الكاريكاتير الصحفي عند طه حسين بصفة خاصة، حيث يقتضي هذا النوع من الكاريكاتير المقالي النزالي، تفوقًا في النزال أو الهجوم "aggression", لكي يعرب بطريقة رمزية عن شعور العداء أو الرغبة في المهاجمة أو النزال. وقد يكون من الحديث المعاد أن نقول: إن الكاريكاتير الوظيفي في المقال الصحفي العربي في جانب كبير منه عملية عقلية تقترن بالكثير من مظاهر النشاط الذهني الذي تميز به: كالفطنة وسرعة البديهة والسخرية والتهكُّم والقدرة على التلميح والبراعة في الردِّ والتفنُّن في استخدام الأسرار اللغوية العربية.. إلخ، ولكن على الرغم من استخفاف المقال الكاريكاتيري بأحداث الواقع السياسي أو الاجتماعي، فإن هذا الاستخفاف لا يخلو من صبغة عقلية ناقدة تميَّزَ بها طه حسين، يخاطب من خلالها عقول قرائه أكثر مما يخاطب العاطفة والوجدان. ولو أننا رجعنا إلى تصنيف بعض علماء النفس لضروب الهزل، لوجدنا أنهم يقسمونها إلى ثلاثة أنواع هي "الفكاهة" "Humour" و"النكتة" "Espirt" والكوميديا "Comique", وتقابل هذه الأنواع الثلاثة في حياتنا النفسية، على التعاقب، الوجدان والنزوع والإدراك1. فالكوميديا هي من بين ضروب الهزل جميعًا أقربها إلى الكاريكاتير المقالي, من حيث القرب إلى قطب الإدراك أو العرفان أو المنطق، فالمقال الكاريكاتيري بالتالي "فن عقلي" يقوم كغيره من فنون المقال الصحفي على النشاط الإبداعي, وإذا صحَّ ما قاله "دولاكروا"3 من أن الفن صناعة خلق أكثر مما هو وجدان وعاطفة. فإن من واجبنا أن نطبق هذه الحقيقة على فن المقال الكاريكاتيري فنقول: إنه هو الآخر قدرة عقلية على تنظيم الواقع في جسم حي هو ما نسميه بالمقال الكاريكاتيري. ولكن المقال الكاريكاتيري كأثر فني بهذا المعنى ليس تصويرًا للقيم العليا والمثل الأخلاقية السامية، وإنما هو تحوير لمثالب الواقع وعيوبه ونقائص أشخاصه ومظاهر ضعفهم, في إطار ينطوي على "انسجام معكوس   1 عباس العقاد: مرجع سابق ص31، 32. 2، 3 الدكتور زكريا إبراهيم: مرجع سبق ص182. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 Harmonie Invarste3, وأخيرًا, فإن هذا الفن المقالي الكاريكاتيري يقوم عند طه حسين على صفات ذاتية؛ منها ظرفه في الأسلوب، وخفة الظل في الكتابة كأحسن ما تكون خفة الظل عند الإنسان المصري، وسعة الأفق, والذخيرة الهائلة من التجارب الإنسانية التي خبر بها الناس خبرة جيدة، وتنتظمها ثقافة عريضة متعسّفة في بعض المجالات. وفي الصحافة يتسع المجال للانتفاع بهذه الميزات، التي تتيح للمقال أن يتجه نحو "الكلي" أو "العام" من خلال نمذجة صحفية عامة، لشخصيات سياسية أو اجتماعية تعبِّر في الغالب عن ضربٍ من الانحراف عن المجتمع وقيمه ومُثُله العليا. وهذا ما يفعله على وجه التحديد عالم التاريخ الطبيعي حينما يجد نفسه بإزاء "نوع" واحد، فيحاول أن يصنِّف وأن يصف شتى الفصائل التي تندرج تحته1. ومن هنا فإن روح الانتقاد التي تميَّزَ بها طه حسين وجدت مرتعًا خصيبًا في شخص الآخرين. فاتجاه المقال الكاريكاتيري نحو الغير هو الذي أكسبه طابع "العمومية" الذي يتميز به الكاريكاتير.   1 المرجع السابق ص182. Ch. Lalo. "Esthetique du Rire", Paris, Flamnarion, 1949, p. 545. 2 المرجع السابق ص197. Cf. H. Bergson: op. cit., pp. 125-426. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 الفصل العاشر: المقال التحليلي والتقويم الصحفي مدخل ... الفصل العشر: المقال التحليلي والتقويم الصحفي نتحدث في هذا الفصل الأخير عن فنٍّ مقالي جديد في صحافة طه حسين، ونعني به المقال التحليلي وارتباطه بالتقويم الصحفي. ويقوم هذا الفن المقالي على ارتباطه بحدث جديد تجذب حيويته أذهان الناس وانتباههم، أي: "بالحدث الحي1" -إن جاز هذا التعبير، بالقياس إلى الناس, أو بالقياس إلى الكاتب نفسه، حين لا يجد بُدًّا من لفت انتباه الناس إليه. ولهذا فإن " التحليل الصحفي " يتعيّن عليه أن يطفئ رغبة ما لدى القارئ, سواء أدرك هذه الرغبة بنفسه, أو كانت هناك مصلحة -قد لا يتبينها القارئ- لتبصيره بها2. وبالقياس إلى الدكتور طه حسين، فإن التحليل الصحفي والتحليل الثقافي الذي تحدَّثنا عنه في "العمود الثقافي" يصدران عن رؤيا وظيفية شاملة، تجعل من المقال همزة الوصل بين العمل الغامض أو الصعب، وبين القارئ، متوسِّلًا في ذلك بكفايات عديدة جعلت منه مبسطًا بارعًا، كما تقدَّم، إلى جانب اطلاعه المتجدد على عديد من الموضوعات التي ترفد التحليل الصحفي كالتاريخ والعلوم السياسية وعلم الاجتماع وعلم النفس. كما أنه متجدد الاطلاع على الصحف المعبِّرة بالفرنسية في مصر وأوربا، إلى جانب الصحف العربية، وهذا النوع من الاطلاع يصدر عن عقلية ناقدة تتيح له استخدام أخبارها وتحليل اتجاهاتها من خلال تقويم صحفي يقوم على إدراك العلاقات واستخراج التعميمات منها. والدلائل على مقدرته هذه في مقالاته الصحفية، أكثر من أن تحصى، ولكن إذا كانت القدرة على التنبء هي مقياس التحليل الجيد، فمن الجدير بالملاحظة أن طه حسين قد تنبأ بأحداث سياسية عدة، وأحداث اجتماعية عديدة، قُدِّرَ لها أن تتحقق، مثل تنبئه باستقالة الوزارة النسيمية في العشرينات, والوزارة الصدقية في الثلاثينات, وما إلى ذلاك.   1، 2 جلال الدين الحمامصي. مرجع سبق ص254. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 التحليل الصحفي مدخل ... أ- التحليل الصحفي: وإذا كان طه حسين قد تمثَّل وظيفة التفسير والتبسيط في "التحليل الثقافي" كما تقدَّم، فإن هذه الوظيفة من أهم وظائف الفن الصحفي الحقيقي، لأنها تدور حول التفسير وإلقاء الضوء على الأنباء، وبيان آثار الأحداث في حياة الناس1. الأمر الذي يقتضي إتقان الفن الصحفي، وهضم المسائل العويصة، وسبر أغوارها بحيث يستطيع كاتب المقال التحليلي أن يتحدث عن أعظم الحقائق في أبسط الألفاظ2. ولقد تبين من دراسة مقومات الاتصال الصحفي عند طه حسين توافر هذا الإتقان، الذي ينتج مقالًا تحليليًّا في لغة الاتصال بالجماهير، التي تتميز بالبساطة والوضوح، والوظيفية الهادفة في أداء المضمون الصحفي. من هنا يمكن القول أن "التحليل الصحفي" عنصر مكمّل "للنبأ" بمعنى أنه "يثريه" ويكسب مدلوله دلالات أوسع، ويقربه للقارئ ولاهتماماته، بل قد يثير لديه اهتمامات جديدة, ويوسع أفقه بما يجذب انتباهه، وما يمتد إليه فضوله3. على أن "التحليل الصحفي" يضيف كذلك عنصر "الرأي" إلى "عنصر الخبر", ويكسب فهمه للحدث عمقًا، كما يتيح فرصة تصور معاني للحدث من أكثر من زاوية، وانطلاقًا من أكثر من رؤية. غير أن "التحليل الصحفي" عند طه حسين يضيف إلى هذين العنصرين عنصرًا ثالثًا مستفادًا من رؤياه النقدية، ونعني بهذا العنصر "التقويم", الذي لا يقتصر فقط على مجرد نقل النبأ وعرضه، أو إبداء الرأي فيه، ولكنه "يقوم" الرأي و"يقوم" النبأ، من خلال رؤياه الصحفية والفكرية لموضوع المقال.   1، 2 الدكتور إبراهيم إمام: دراسات فن الفن الصحفي ص67. 3 جلال الدين الحمامصي: مرجع سبق ص259. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 أولًا: "توقيت" المقال التحليلي ويبين مما تقدم أن عامل التوقيت أو الجدة الزمنية، يقتضي من التحليل الصحفي أن يقوم على نبأ جديد، يفضل أن يكون هذا النبأ منشورًا في نفس العدد الذي يقدَّم فيه التحليل1. على أن هذه القاعدة تتضمَّن بعض الاستثناءات، منها، أن التحليل في بعض الأحيان يتعين عليه أن يسبق حدوث الحالة الخبرية، وأن يتركَّز أو ينطوي على عناصر توقع، متعرضًا بالدراسة للاحتمالات المنتظرة. ومن ذلك ما كتبه طه حسين بعنوان: "غيوم"2، يقول في هذا المقال: "يظهر أن بجوِّ السياسة المصرية الخارجية غيومًا، لعلها خفيفة رقيقة ليس وراءها شيء، ولعلها ثقيلة خفيفة وراءها أشياء، ولعل الأيام المقبلة   1 جلال الدين الحمامصي: مرجع سبق ص259. 2 كوكب الشرق في 28 مارس 1933. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 تكشف عما تحجب هذه الغيوم من خير أو شر, ولكن الشيء الذي لا شك فيه, هو أن من الواجب العناية بهذه الغيوم وتتبعها في دقة وفطنة، ومن الواجب أيضًا أن يجدَّ المصريون في أن يقفوا منها موقف الصراحة التي لا تحتمل شكلًا ولا تأويلًا، وما الذي يمنعهم من ذلك وآمالهم ومثلهم العليا في حياتهم الداخلية, وفي علاقاتهم الخارجية واضحة كل الوضوح، جلية كل الجلاء، ووسائلهم إلى تحقيق هذه الآمال والوصول إلى هذه المثل العليا لا غموض فيها ولا إبهام1" إلخ. ومن ذلك يبين أن التحليل يقوم على عناصر توقع، وهو لذلك يحاكم الأمر من جميع وجوهه، واقفًا تجاه الموقف السياسي الذي يتناوله في صلب المقال موقف الباحث المتشكك، الأمر الذي يكشف عن عناصر توقع، تزرع الشك في عقل القارئ، كما يبين من خاتمة هذا المقال: "كل هذه مسائل يخوص فيها الناس من المصريين والأجانب, فتثير في نفوسهم شكوكًا وريبًا, وتخلق جوًّا ردئيًا قوامه سوء الظن وفساد الرأي وضعف التعاون الذي يجب أن يكون بين الذين يعشون على ضفاف النيل من المصريين والأجانب، كلٌّ يرتاب بصاحبه, وكلٌّ يخاف من صاحبه". على أن التحليل الصحفي في مقال طه حسين حين يسبق وقوع النبأ. يتوسَّل بهذا الأسلوب الاستقرائي الذي يضمن سلامة التحليل، ويسلك طريق العقل والمنطق والمحاكمة، وهي سبل العالم المحقق التي تميز بها في دراساته العلمية، وهي السبل التي توسَّل بها لكي يشعر القارئ بأهمية التحليل من جهة، ولكي يواجه المقتضيات الصحفية والسياسية من جهة أخرى، لما تفرضه من تحيز مسبَّق، وبحيث يبدو المقال التحليلي في نهاية الأمر متخذًا شكل الدراسة للاحتمالات المنتظرة أو المتوقفة. ولعل من أسباب التجائه إلى هذا الأسلوب في التحليل، اتجاه بعض الوزارات إلى الصمت، وعدم إصدار برامج سياسية واضحة، الأمر الذي يجعل من هذا الأسلوب أسلوبًا محتَّم الاستعمال في التحليل، لما يتيحه من توقع ومناقشة، كما يبين من مقال: "بم يخفق البرق2" السابق الإشارة إليه، والذي يتناول فيه بالتحليل ما ذهبت إليه صحيفة الوزاراة الإدارية قبل صدور دستور 1923، وهي صحيفة "الأفكار" بأن "دار المندوب السامي قد عرضت على الوزارة مطالب, وبأن الوزارة قد عرضت على دار المندوب السامي آراءها في خطة سياسية جديدة, وبأن الأسلاك تذهب وتجيء بالكلام الكثير بين لندرا والقاهرة في هذه الخطة السياسية الجديدة3".   1 كوكب الشرق في 28 مارس 1933. 2، 3 السياسة في أو يناير 1923. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 والسؤال الذي يطرحه طه حسين في التعليق على هذا النبأ، يفسِّر أسلوب التحليل الصحفي الذي يلجأ إليه عن عمد، يقول معقبًا: "فهل هذا حق؟ وإذا كان حقًّا فما هذه الخطة السياسية الجديدة؟ وما موضوعها, وما غايتها, وما الذي يقصد بها إليه؟ أسئلة تلقى, وأجوبة تنتظر. ولكن الأسئلة ستلقى دائمًا, والأجوبة ستنتظر دائمًا. فنحن في عهد صمت وغموض قد أقسمت الوزارة فيه ألَّا تقول شيئًا, وأراد سوء الحظ ألا تعمل شيئًا. فلنسأل ولنسأل دائمًا, فستسكت الوزارة وستسكت دائمًا, ولنلح ولنلح كثيرًاو فستظلّ الوزارة كما هي صامتة واقفة معلنة أنها لن تقول معتذرة إذا لم تعمل. يئسنا من القول وسنيأس من العمل أيضًا, وكل شيء يدل على أنَّا غير مخطئين حين نتنبأ بهذا اليأس. فإن وزارة تعلن أنها ليست وزارة قول, وأنها تزدري الكلام قليله وكثيره, وتسخر من الوعود على اختلافها, وأنها تُؤثِرُ العمل وتكلف به, وتريد أن يكون هذا العمل وحده مقياسًا لحكم الناس عليها ورأيهم فيها. ونقول: إن وزارة تعلن هذا كله ثم يمضي عليها اليوم والأسبوع والشهر دون أن تقول ودون أن تعمل, لا يمكن أن تكون وزارة عمل, كما لا يمكن أن تكون وزارة قول1". ومن ذلك يبين أن عنصر "التقويم" في التحليل الصحفي غير منفصل عن الاتجاه الحزبي عند الكاتب من جهة، وغير منفصل من الأحداث الخبرية من جهة أخرى، فهو ينتقل بعد ذلك إلى مناقشة نبأ "الأفكار" الذي لم تعلنه عبثًا، وإنما هو جزء من مقال موحى به من إحدى السماوات السياسية في مصر وهي كثيرة2". ثم يحشد المقال بسيل من التساؤلات التي تفسِّر نبأ هذه الصحيفة، في ضوء حركة الأحداث بهدف التشكيك في وجود خطة سياسية، كما زعمت الصحيفة، منها: "أليس من الممكن أن يكون موضوعها تصريح 28 فبراير؟ وأن تكون وزارة الشعب جادة في إرضاء الشعب؟ فقد سمعنا صحف الشعب تنكر هذا التصريح, وسمعناها غير مرة تقول: إن وزارة الشعب لا ترضى عن هذا التصريح ولا تطمئن إليه, فليس من البعيد أن تسعى وزارة الشعب في إلغاء تصريح 28 فبراير تحقيقًا لإرادة صحف الشعب. وإذا كان الأمر كذلك, فماذا يرد استبداله بهذا التصريح؟ فنحن نعلم أن الوزارة وزارة عمل, وعمل إيجابي. والإلغاء وحده سلب لا إيجاب, فهل هناك تصريح سيصدر في 28 يناير   1 السياسة في أول يناير 1923. 2 المرجع نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 ليخلف تصريح 28 فبراير؟ وما عسى أن يكون هذا التصريح, وما عسى أن يكون مقدار تغييره "للحالة السياسية بين مصر وإنجلترا؟ أتنزل فيه إنجلترا عن التحفُّظات كلها أو بعضها؟ أتنكر فيه إنجلترا كتاب لويد جورج إلى وزراء -المستعمرات؟ أتعدل إنجلترا عن تبليغها للدول تصريح 28 فبراير, وما جاء في هذا التبليغ؟ هل تحقق وزارة الشعب آمال الشعب"1. وتكشف هذه التساؤلات التي لجأ إليها طه حسين في مقاله التحليلي عن ضرورة اللجوء إلى هذا الأسلوب الاستقرائي التشككي في التحليل، ذلك أن النبأ الذي نشرته صحيفة "الأفكار" نبأ مبتور مستكمل، كما تقدَّم، فهو يكتفي بأن هناك "خطة سياسية جديدة يخفق بها البرق, وتضطرب بها الأسلاك بين لندرا والقاهرة"2، فالأسلوب الذي يلجأ إليه طه حسين في تحليل هذا النبأ، يتجه إلى أن يستقرئ ويضيف إلى النبأ البيانات الخلفية التي لا يعرفها القارئ، والتي لا تكتمل الصورة الخبرية إلا بتسجيلها. ولذلك يتوقَّف طه حسين عند كل "معنى" تغلفه علامة تساؤل؛ ليقدِّم للقارئ الإجابة التي تنساب ضمن التحليل الصحفي، فيحسّ القارئ بعد انتهائه من قراءة المقال أنه فاهم لكل شيء. ويبين إحساس طه حسين بقارئه من خلال التحليل الصحفي، من الخاتمة التي ختم بها مقاله، للإجابة عن التساؤلات التي طرحها في صلب هذا المقال: "وبينما نحن في هذا التفكير نتساءل عن هذه الخطة السياسية الجديدة, وعن موضوعها ونتائجها، أقبل مقبل فقال: إنك لتكلِّف نفسك عناء لا خير فيه, فليس هناك خطة سياسية جديدة, وكل الأمر أن المفاوضة -إن كان هناك مفاوضة- لا يمكن أن تتجاوز هذا الحادث المؤلم الذي وقع منذ أيام, فكثرت على أثره واشتدت مطالب الإنجليز. فهل هذا صحيح؟ "وما عسى أن يكون موقف الحكومة إزاء هذه المطالب الكثيرة الشديدة؟ أحق أن الأحكام العرفية لن تلقى الآن؟ أحق أن المبعدين لن يعودوا الآن؟ أحق أن المعتقلين لن يخرجوا الآن؟ أترضى الوزارة من الإنجليز المطالب؟ أتقبلها؟ قالوا -ولعلهم لم يصدقوا فيما قالوا: إن الوزارة أمضت هذا الزمن الطويل دون أن تتحدث إلى الإنجليز في أمر الأحكام العرفية, ولا في أمر المبعدين والمعتقلين. وقد نشرت الصحف أن الإنجليز أنفسهم قد تحدَّثوا إلى الوزارة بعد هذا الحادث المؤلم في هذه الأمور كلها, فماذا قالوا؟ وماذا قالت الوزارة؟   1 المرجع نفسه. 2 المرجع نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 وماذا اعتزموا؟ وماذا اعتزمت الوزارة؟ ألا تصدر الوزارة في هذا للناس بلاغًا أو نصف بلاغ"1. ومن هذه الخاتمة يبين كيف زرع طه حسين الشكَّ في نفس القارئ من خلال أسلوبه الاستقرائي تجاه نبأ "الأفكار", وكأنه يترك لقرائه الخيار في تصديقه أو عدم تصديقه، والحق أن الكاتب لم يعتبر الخبر أمرًا مسلَّمًا به، فطلب من الوزارة أن تصدر "بلاغًا أو نصف بلاغ". على أن المقال في مجموعة كما يبين من عنوانه: "بم يخفق البرق", مقال تحليل يسبق حديث الحالة الخبرية، وينطوي التحليل على عناصر توقع، كما أظهر العنوان اتجاهه إلى استقراء الاحتمالات المنتظرة.   1 المرجع نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 ثانيًا: التعليق على الخبر بعد وقوعه ذلك أن هناك أنباء قد تحيط بها جوانب غموض تستدعي الترتيب قبل تقديم التحليل, أو تستدعي استكمال بعض المعلومات لضمان صحة التحليل، وعدم ارتكاب أخطاء فادحة، وفي هذه الحالة يتأخر التحليل عن الحالة الخبرية، ويجيء نشره في عدد لاحق من الصحيفة. وعند طه حسين، نجد أنه يعقِّبُ مباشرة على الخبر بعد وقوعه، لكيلا تنتفي القاعدة المعروفة من قواعد الصحافة، ونعني قاعدة: "الجدة الزمنية، ومناقشة الحدث فور وقوعه, وهو ما زال حدثًا حيًّا، ذلك أن التحليل حين يتأخر دون مبرر يتحول من "تحليل صحفي" إلى دراسة أكاديمية، ويمكن أن يقال "بشكل عام: إن تحليلًا صحفيًّا قيمته 50%, وينشر في لحظة وقوع الحدث، أفضل صحفيًّا من تحليل قيمته 100% وينشر بعد وقوع الحدث بيوم أو أكثر"1. وهذه القاعدة نسبية بطبيعة الحال، ولكنها تشكِّل اتجاهًا عامًّا في المقال التحليلي عند طه حسين، يقوم على قدراته التحليلية التي تضمن له التحليل الوقتي على النحو الأفضل. وفي معظم المقالات التحليلية عند طه حسين، نجد موضوع المقال تعليقًا على خبر نشرته الصحف في اليوم السابق على صدور الصحيفة, أي: في نفس اليوم الذي يكتب فيه المقال، كما نجد ذلك في مقال بعنوان: "تحريض"2 يقول: "وقد نشرت "الجهاد" أمس، وأول أمس أخبارًا عن مذكرة سياسية   1 جلال الدين الحمامصي: مرجع سبق ص259. 2 كوكب الشرق في 5 مايو 1933. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 قيل إنها قدمت من دار المندوب السامي إلى رئيس الوزراء، وقيل إنها أحدثت شيئًا من الاضطراب غير قليل في بعض البيئات السياسية، فضاقت الوزارة بما نشرت "الجهاد", وكذبته في بلاغ رسميّ أذاعته أمس، وكان بلاغها الرسمي حازمًا مسرفًا في الحزم، وقد تعود الناس في هذه الأيام أن يحترموا بلاغات الحكومة الرسمية، على نحو ما احترمت "الأهرام" بلاغها الرسمي الذي أصدرته منذ أيام تكذب فيه ما أذيع من حديث رئيس الوزاء إلى زملائه في مجلسهم عن المندوب السامي، واللجنة الإنجليزية المصرية، فقد احترمت الأهرام هذا البلاغ, ولكنها أكدت ما قالت، وأكدته في حزم ليس أقل من حزم الحكومة في بلاغها، وتحدت الوزارة، واتهمت الوزراء بانهم أفضوا إليها بهذا الحديث الذي تكذبه الحكومة وتنكره، وانتظرت الأهرام نتيجة هذا التحدي، وانتظرته الصحف الأخرى أيضًا، وألح الناس على الوزارة أن تبين جلية الأمر في هذه القصة التي تزري بكرامة الحكومة، وتغض من قدرها، ولكن الحكومة ورئيسها تلقيا هذا التحدي، وهذا الإلحاح، بالنوم العيمق..1". ويستمر التحليل في "تقويم" السياسة الوزارية، إلى جانب استمراره في تقديم "التفسير" للنبأ في ضوء حركة الأحداث، ثم يتخذ من "بلاغ" الحكومة لصحيفة "الجهاد", والذي رأى فيه ألفاظًا تدل على شيء من الغيظ والحنق2" وسيلة لتقويم سياسة الحكومة, "والحكومات كغيرها من الجماعات عرضة للغضب وعرضة للغيظ، ولكن الناس يحبون للحكومات أن تملك نفسها وتضبط عواطفها وتصطنع الحكمة, والرفق فيما تقول, وتتجنب طائفة من الألفاظ لم تخلق لها, ولا سيما حين تزعم لنفسها ما تزعمه حكومتنا من أنها تريد أن يجد الناس فيها الأسوة الحسنة، والقدوة الصالحة. فالحكومة تسرف على نفسها إذن إسرافًا شديدًا، حين تندفع في إصدار البلاغات من غير حساب, وتمكن صحفة كالأهرام من أن تحترم بلاغها, ولكنها تأبى تصديقها، ومن أن تتحداها وتسرف في تحديها. وهي تسرف على نفسها إسرافًا شديدًا، حين تعمد إلى الشتم والسب في بلاغاتها الرسمية، وهي تزعم أنها غيرت النظام وتشددت في قوانين الصحف، لتمنع الشتم والسب. والواقع أن الحكومة لم تكن موفقة أمس في بلاغها الرسمي، فبعض الصحف لا يزال يصرّ على أن في الجو شيئًا ذا بال، وغيومًا مخيفة لم يستطع هذا البلاغ أن يبددها، والناس جميعًا ضحكوا من هذه الشدة اللفظية على قوم، وهذا الابتسام وهذه الاستكانة لقوم آخرين3.   1، 2، 3 المرجع نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 ثالثًا: التحليل الصحفي وحركة الأحداث ونخلص مما تقدَّم إلى أن المقال التحليلي الصحفي يقوم على تفسير النبأ أو الخبر في ضوء حركة الأحداث عمومًا، والنبأ الجديد المجهول الدلالة, تتكشَّف عناصره المجهولة بربطه ببعض الدلالات عن طريق تحديد موقعه داخل إطار مجموعة من الأنباء والأحداث المعلومة. ولكن إذا كان الخبر أو النبأ تشكيلًا لحدث من الأحداث، فإن المقال التحليلي لا يقوم على الخيال، والفرق بينهما أن الخبر أو النبأ يستمد عناصره من الواقع مباشرة، أما المقال التحليلي فينتظم تجاربه وعناصره المستمدة من الخبر, أي: من الواقع, بعد أن ينقله النبأ في شكله الخبري. وعلى ذلك فإن المقال التحليلي ليس غاية في نفسه، وليس فنًّا منفصلًا مستقلًّا, وإنما يرتبط بحركة الأحداث ارتباطًا لا انفصام له. أي: إنه كتحليل صحفي يفسر الأخبار ويغذيها ويقومها، بهدف مساعدة القارئ على تفهُّم حركة الأحداث من حوله، بتقويم المعايير المطلوبة من خلال التحليل والتفسير، ولذلك, فإن المقال التحليلي ينظر للأخبار باعتبارها سلوكًا اجتماعيًّا، الأمر الذي يحدد الدور الوظيفي للتحليل الصحفي في إطار حركة الأحداث في المجتمع المحلي أو الدولي. على أن عنصر التقويم الذي يضفيه طه حسين على تحليله الصحفي، يضيف إلى المقال التحليلي الحديث سمة أخرى تستحق أن ينوه بها، وهي أن كل كاتب تحليلي ينزع إلى أن تكون لديه صورة مجازية فائقة، أو عدد من الصور يرى من خلالها حركة الأحداث، وهذه الصورة بالتالي تشكل تحليله الصحفي وتنبئ عنه، وتجعله أحيانًا محدودًا، فالمقال التحليلي -على هذا الفهم- يمكن أن يتخذ صورة جرَّاح سحري يجري العملية دون أن يقطع الأنسجة الحية، وقد يكون في صورة "مولد" يظهر للواقع نسمة جديدة، تتيح لحركة الأحداث واقعًا مستقبليًّا أفضل. إن ما لاحظناه فيما تقدَّم من أسباب التحليل الصحفي ليترشح من خلال هذه الصور المجازية، كما يترشَّح من خلال شيء غير ملموس، نعني به جهاز الذكاء الشخصي لكاتب التحليل, ومعرفته ومهارته وحساسيته وقدرته على الكتابة الحالية، فالذكاء عند طه حسين يكفيه في مقاله بما يلائم التحليل الصحفي الذي يعالجه، والمعرفة من صحفية وغير صحفية؛ ليكون على وعي بما يتطلبه المقال التحليلي، والمهارة تتيح لهذا المقال أسلوبًا استقرائيًّا يضمن سلامة التحليل، والحساسية عند طه حسين هي التي أتاحت لمقاله دائمًا التنويه بالقيم الخاصة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 في النبأ الذي يتناوله بالتحليل, من حيث إنه يمثل عنصرًا في حركة الأحداث، والمقدرة على الكتابة والتحرير، على ما نعلمه عن طه حسين، أنه من أقدر الكُتَّاب الصحفيين على التعبير عمَّا أراد أن يقوله، وعلى التفنن في ابتداع أشكال فنية جديدة للتعبير في المقال، كما تبيَّن مما تقدَّم، وكما يبين من هذا الجزء الذي نتناول فيه فنًّا مقاليًّا جديدًا في صحافة طه حسين. ومهما يكن من أمر الموضوعية في الفن الصحفي، فإن الكاتب في طريقة التحليل الصحفي سيظل داخلًا -نسبيًّا- في المجال الذاتي، لاعتماده على "التقويم" و"تدوي" الأخبار، سيظل الأمر كذلك, سواء كان المقال التحليلي بناء مؤسسًا على التحليل الموضوعي الركين، يقيمه كاتب عارف عاقل، أو كان نزوة لا محل لها. أما المضمون الرئيسي الآخر في التحليل الصحفي, فهو تطوره في اتجاه ديمقراطيٍّ يركِّز على توضيح الحدث الجديد، كالتحليل الإخباري أو "التعليق", وهي نوعيات تتجاوز عنصر "التقويم", وإن كانت لا تستطيع تجاوز عنصر "التذوق الخبري"، ولكنها على أيّ حال تسعى إلى ألا تتضمَّن رأيًا يطرحه كاتب التحليل. ذلك أن تحليل "حالة خبرية عامة" في ضوء أحداث محددة، يحمل في العادة أكثر من وجهة، يمكن أن يتجه إليها الاجتهاد1. ومهما يكن من شيء، فإن "التحليل الصحفي" -خلافًا "للنبأ", لا بُدَّ أن يحتوي على "رأي" و"حكم"، أي: لا بُدَّ من توفُّر عناصر "التقويم" و"التقدير" و"التذوق" التي تجعل التحليل لا يقتصر على موضوعية النبأ وحدها، ولكن على موضوعية الكاتب التحليلي في نهاية الأمر. ولا يغض هذا العنصر "الذاتي" الناجم عن وجود رأي للمحلل من الحدث, "بل يجوز القول أن قيمة التحليل تزداد كلما كانت لهذا، "العنصر الذاتي" أصالة وخروجًا على المألوف2. وعند طه حسين، سبق أن تبين لنا تحمُّسه لطريقة "التقويم" في المقال النقدي، وهي الطريقة التي تميز تحليله الصحفي اعتمادًا على ثقافته العريضة والمتعمقة في بعض المجالات, مما يسعف التحليل في فهم حركة الأحداث وسيرها، كما تعتمد هذه الطريقة على تحليل ملابسات الحدث أو الخبر، بحيث يذهب التحليل إلى الفهم ووزن ما يحلله، إلى أن التحليل الصحفي عند طه حسين يقوم على نقدٍ عقلي لحركة الأحداث القابلة لأن تُصَاغ صحفيًّا، كما يقوم على نقدٍ عقلي للدوافع التي تكمن وراء الخبر أو الحدث ليتمكن في نهاية مقاله التحليل من "تقويم" الحدث، وتقديم حكمه النهائي، وهو حكم فريد قد يكشف عن طبيعته العامة. على أننا نجد أن غاية هذه الخطوات الأربع الأولى هي تحديد   1، 2 الحمامصي المرجع السابق ص260. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 المجال الذي سيتحقق فيه "التقويم" أو الحكم القاطع الفريد، وتضييقه قدر المستطاع. ويتحدد مجال "التقويم" بالدوائر الثلاث التي يتداخل بعضها في بعض في "المقال الرئيسي" بصفة عامة، ونعني بهذه الدوائر الثلاث: سياسة الجريدة, وصياغة المقال، واهتمام القراء. ذلك أن "التقويم" في المقال التحليلي يتصور هذه الدوائر الثلاث في تحريره دائمًا، حتى يبلغ الدرجة التي تسعى إليها الصحيفة، ويتطلع إليها القراء. ومن الوجهة المنطقية, فإن المقال التحليلي يبدأ بالنبأ الجدي المطلوب إجراء تحليل عنه أو حوله، ويتسع التحليل من هذه النقطة ليواجه هذا النبأ بأنباء أخرى داخل سياق حركة الأحداث عمومًا في أكثر من اتجاه. ويمكن للباحث تحديد هذه الاتجاهات في المقال التحليل عند طه حسين من خلال أهداف ثلاثة. 1- مقابلة النبأ الجديد بمعلومات وأنباء تنتمي إلى نفس القضية: أي: مقابلة وقوع النبأ الجديد بأنباء تخص نفس القضية في الماضي وتنتمي إليها، ونجد نموذج هذا الاتجاه في بناء مقال بعنوان يوحي بنتيجة منطقية هو: "إذن فقد استقالوا1" يقول في مقدمته: "إذن فقد كانت الوزارة جادة لا لاعبة حين رفعت استقالتها إلى جلالة الملك, كانت جادة لا لاعبة؛ لأنها أصرَّت على هذه الاستقالة, ولأن هذه الاستقالة قبلت؛ ولأن المناصب خلت من أصحابها. كانت الوزارة جادة إذن, كانت مستقيلة حقًّا. بينما كنا نحن نستنكر هذه الاستقالة, وننصح للوزارة أن تسردها؛ لأننا لا نفهمها ولا نستطيع تعليلها، وكنا نرجِّح في أنفسنا أن هذه الاستقالة لم تكن جدًّا, وإنما كانت ضربًا من مداعبة وزارة الشعب, ومن تمنع الشعب على الشعب بعد أن فرَّطت وزارة الشعب في حقوق الشعب2. وعلى الرغم من أن الغرض الأساسي في هذا التحليل هو النزال الصحفي، إلّا أننا نجد هذا المقال يقوم على خبر استقالة الوزارة النسيمية، ثم يتوسّل بالتحليل الصحفي في مقابلة هذا النبأ بأنباء تنتمي إلى نفس القضية، أي: الوزارة النسيمية، وهذه الأنباء تمثل حالة خبرية ماضية, أو موقفًا سابقًا على الخبر الجديد. يقول: "كنا نظن ذلك ونرجحه, وكان كل شيء يحملنا على أن نظن ذلك   1 السياسة في 11 فبراير 1923. 2 المرجع نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 ونرجحه. فنحن لم نعرف لوزارة الشعب موقفًا صريحًا بإزاء الشعب, ولم نسمع من وزارة الشعب كلمة صريحة تُلقى إلى الشعب, وإنما كنا أمام قوم صامتين لا يتكلمون إلا رموزًا وإيحاء, وإذا اصطنعوا كلمةً فهم لا يُدلون بها على معناها المعروف, وإنما يدلون بها على الألف معنى ومعنى؛ على معاني كثيرة منها ما يفهمها الناس ومنها ما لا يفهمون. كنا بإزاء قوم واقفين لا يكادون يتحركون.. فإذا تحركوا فمن وراء ستار, وفي احتياط لا يعدله احتياط, وحذر لا يشبهه حذر. فكان من حقنا بل من الحق علينا أن نظن الظنون, وأن نسمع الألفاظ فنذهب بها كل مذهب, ونسلك في فهمها كل طريق. "قالوا: سنذهب إلى لوزان, فدلت التجربة على أنهم لن يذهبوا, ثم قالوا: نحن مستقيلون, ففهمنا أن الأمر في هذه الجملة كما كان في غيرها من الجمل التي اشتبه الأمر فيها على الناس جميعًا حتى الراسخين في العلم. ظننا إذن أن القوم غير مستقيلين, وأنهم يتمنعون ويريدون أن يقسم الناس عليهم غلاظ الإيمان ومحرجاتها, وألححنا عليهم الإلحاح كله, وطلبنا إليهم أن يثبتوا وألا يستقيلوا. ثم ظهر أن كثيرًا من الناس يشاركوننا في هذه الأيمان, وفي هذا الإلحاح, فيطلبون إلى رئيس الوزراء أن يبقى, وإلى جلالة الملك أن يستبقيه, وإلى الصحف أن تعين على هذا البقاء والاستبقاء. ولكن وزارة الشعب أبت أن تبقى للشعب, فورطت هذا الشعب ثم انصرفت عنه, وتركته حائرًا لا يدري ماذا يفهم, ولا كيف يتأول, ولا كيف يقول1"؟. 2- مقابلة الأنباء المتعلقة بقضية معينة بأنباء ومعلومات تخفي قضايا أخرى ملازمة أو غير ملازمة لها زمنيًّا: أي: مقابلة النمط الخبري الذي ينطوي عليه النبأ الجديد، بأنماط خبرية مشابهة له, أو متعارضة معه، أو تثير مقابلتها له مفارقات معينة تساعد في استخلاص دلالات معينة. ويقوم هذا الاتجاه التحليلي أساسًا عند طه حسين على ثقافته العريضة, ومصادرها التي تتيح للتحليل أن يقابل الجديد في المجرى العام للأحداث, بحالات خبرية عامة تثير مقابلتها المفارقات التي تيسر استخلاص الدلالات، ومن ذلك المقال الذي كتبه "بمناسبة" عيد الثورة في مصر 2، والذي يمكن أن نتصوّر بناءه التحليلي على النحو التالي:   1 المرجع نفسه. 2 جريدة الجمهورية في 22 يوليو 1960. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 يوضح هذا النموذج بنية المقال التحليلي التي تقوم على مقابلة الأنباء المتعلقة بقضية معينة بأنباء ومعلومات أو حالات عامة سابقة أو ملازمة لها زمنيا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 ومن هذا النموذج التحليلي يبين أن طه حسين قد انطلق في تحليله الصحفي من نبأ جديد، وهو نبأ الاحتفال بعيد الثورة المصرية في سنة 1960، ويستهلّ مقاله بمقدمة تمهيدية تمهّد لاستخلاص دلالات جديدة له بمقابلته, واستخلاص النتائج المترتبة على مواجهته بأية حالة من الحالات الخبرية العامة السابقة عليه أو الملازمة له زمنيًّا، وهذه الحالات كما يبين من النموذج المتقدِّم: مقابلة الثورة المصرية بالثورة الفرنسية1، ثم مقابلة الثورة المصرية "هذه الأنباء التي تذاع في أقطار الأرض معلنة تحرر الشعوب من الاستعمار والاستبداد والظلم"2, واستخلاص دلالة من هذه المقابلة تذهب إلى أن "تحرر هذه الشعوب واستقلالها واستمتاعها بالحرية والكرامة والعزة, كل ذلك إنما هو أثر من آثار ثورتنا هذه3. ويقول معقبًا على ذلك: "فقد كنت موقنًا حين كتبت ما كتبت في الأهرام أن لنا جيرانًا في آسيا وفي القارة الأفريقية, وأن أنباء ثورتنا ستصل هؤلاء الجيران, وأنهم سيعلمون كثيرًا من نتائجها, وسيفرحون لنا وسيغبطوننا, وسيتمنون لأنفسهم مثل ما أتيح لنا من الثورة, أو شيئًا قريبًا مما أتيح لنا". "كنت أذكر تونس والمغرب الأقصى، وكنت أذكر العراق، وكنت أذكر المستعمرات الفرنسية في القارة الإفريقية. وكنت أقدر أن إخراج الملك المستبد من مصر, وأن الإصلاح الاجتماعي الذي بدئ به في مصر، وأن جلاء الجنود البريطانيين عن أرض مصر الذي ستجد فيه الثورة حتى تبلغه.. كنت أذكر أن هذا كله سيقع من قلوب جيراننا القريبين منا والبعيدين عنا مواقع الماء من ذي الغلة الصادي.. كما كان القدماء يقولون.. ثم لم ألبث أن رأيت الثورة تشب في غير موطن من هذه المواطن القريبة والبعيدة.. ولم ألبث أن رأيت بعضها يبلغ ما كان يريد بعد جهاد يعنُف حينًا ولا يبلغ العنف حينًا آخر"4. ثم ينتقل بعد ذلك مباشرة إلى تحليل حالات خبرية ملازمة لنبأ الثورة المصرية, ومقابلتها بثورات الشعوب في آسيا وإفريقيا، مبتدئًا بالشعوب العربية في شمال إفريقيا مركزًا على قضية الجزائر. يقول: "فهذه الأوطان في شمال إفريقيا تجاهد أعنف الجهاد وأقصاه, وتصلى نار العدوان والطغيان والأثم ... وتنتهي إلى أن تبلغ الغاية التي أرادت أن تبلغها, فتستقلّ تونس ويستقلّ المغرب الأقصى بعد خطوب.. أي خطوب.. وتوشك الجزائر أن تبلغ ما تريد من الاستقلال.. على رغم ما تمعن فيه فرنسا من المداورة. وعلى رغم ما تمعن فيه فرنسا أيضًا من ألوان الظلم والبغي ومن   1، 2، 3، 4 المرجع نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 ضروب تعذيب الأبرياء. "وها نحن أولًا نرى في هذه الأيام تتابع الأنباء التي تحدثنا باستقلال المستعمرات الفرنسية بعد أن ورطت فرنسا نفسها في تلك الشركة التي زعمت أنها ستنشئها بينها وبين مستعمراتها, فتفنى بذلك الثورة في تلك المستعمرات.. تعطيها القليل وتستأثر من دونها بالكثير.. تخيل إليها أنها حرة في حياتها الداخلية, وأن حياتها الاقتصادية والعسكرية والسياسية شركة بينها وبين فرنسا.. ولقد غلا رئيس الجمهورية الفرنسية في يوم من الأيام, فأعلن إلى هذه المستعمرات أنها حرة في أن تقبل هذه الشركة فتشرف بالتعاون مع فرنسا الكبرى, أو ترفض هذه الشركة فتشقى باستقلالها؛ لأنها لا تملك الوسائل التي تتيح لها حماية هذا الاستقلال. أعلن ذلك رئيس الجمهورية الفرنسية مطمئنًا إلى أن المستعمرات ستحرص أشد الحرص على أن تقبل الشركة, وتعيش مستقلة استقلالًا داخليًّا, وتشرف بالمشاركة فيما عدا ذلك من الشئون. ولكن بعض هذه المستعمرات آثرت الاستقلال فورًا, فاضطرت فرنسا إلى أن تعترف لها بهذا الاستقلال.. وقبلت كثرة المستعمرات هذه الشركة أولًا, ثم لم تلبث إلّا عامًا وبعض عام حتى طلبت استقلالها كاملًا موفورًا"1. ثم يستعرض أنباء هذه المستعمرات التي طلبت الاستقلال، ليستخلص هذه الدلالة: "وكذلك تفقد فرنسا كل مستعمراتها في هذه القارة الإفريقية.. ويضطر كاتب فرنسي إلى أن يسجِّل في إحدى الصحف الفرنسية الكبرى أن رئيس الجمهورية القائم قد نهض بالرياسة ليبقى على الإمبراطورية.. ويرد فرنسا دولة من الطبقة الثانية. "ولا يقف الأمر عند فرنسا وحدها.. فبريطانيا نفسها تتخلى عن بعض مستعمراتها في هذه القارة الإفريقية طوعًا أو كرهًا.. وبلجيكا تعلن استقلال الكونجو البلجيكي بعد خطوب شداد. وللكونجو البلجيكي قصة لم تنته بعد.. يظهر القراء على أنبائها في الصحف كل يوم.."2. ومن دلالات هذه الأنباء يذهب طه حسين إلى أن "الصورة الجغرافية لهذه القارة -تتغير, ويتعلم طلاب المدارس الثانوية شيئًا جديدًا في جغرافيا القارة الإفريقية. يتعلم هؤلاء الطلاب شيئًا ليتعلمه إخوانهم الذين سبقوهم في هذا العام.. وهو أن القارة الإفريقية قد تحرر أكثرها, ونشأت فيها دول لم تكن موجودة أثناء هذه السنة الدراسية, وستكون موجودة عاملة في الحياة الإنسانية أثناء العام الدراسي المقبل. "وحين نحتفل بعيد الثورة في هذا العام سنضطر إلى أن نذكر أن ثورتنا   1، 2 المرجع نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 كانت مقدمة لهذه الحرية التي أوشكت أن تُظِلَّ القارة الإفريقية كلها"1. ومن ذلك يبين أن مقابلة أنباء استقلال المستعمرات الإفريقية بالنبأ الأساسي الذي يحلله المقال، تنتهي إلى هذه الدلالة التي طرحها في معطيات المقال. وهو هنا يتوسّل بأسلوبه الاستقرائي كذلك في التحليل، وهو الأسلوب الذي يجعل المقال يذهب إلى أن الأمر "ليس مقصورًا على هذا الذي كان في القارة الإفريقية, ولكن هناك أوطانًا أخرى في آسيا قد تأثَّرت بهذه الثورة, سواء اعترفت بهذا التأثر أم لم تعترف.. فثورة العراق أثر من آثار الثورة المصرية منذ أعوام, وثورة الجيش التركي في هذه الأيام.. وما أشك في أن الترك يكرهون أشد الكره الاعتراف بأن لثورتنا أثرًا, ولكن الشيء المحقق هو أن هذا التشابه قائم, سواء كرهه الترك أو أحبوه"2. ومن ذلك يبين أن المقال التحليلي عند طه حسين أثر من آثار الأسلوب الاستقرائي الذي يذهب دائمًا من "المعاني" إلى "الأحداث", أي: إنه لا ينسب إلى الأحداث إلّا ما يدركه إدراكًا بديهيًّا في معاني تلك الأحداث، ولذلك يمضي طه حسين في هذا الاستقراء التحليلي قائلًا: "ومن يدري.. أتقف آثار ثورتنا في العالم الخارجي عند هذا الحدِّ أم تمضي في تأثيرها حتى لا يصبح في الأرض أثر من آثار الاستعمار كما عرفه الناس منذ أعوام. ولست أزعم أن الاستعمار قد انقضى بجميع صوره وأشكاله.. فالناس جميعًا يعلمون أن التحالف مع الدول الكبرى لون من ألوان الاستعمار, وشكل من أشكاله, ولكن أول الغيث قطر ثم ينهمر.. فمن حق كل مواطن في الجمهورية العربية المتحدة أن يشعر بشيء من الرضا العميق الذي يستأثر بالقلب والضمير, حين يذكر أن ثورة وطنه لم تكن مقصورة عليه, وإنما كانت مقدمة لزوال شكل بغيض من أشكال الاستعمار عن أوطان قريبة وبعيدة. ولم تكن مصر في يوم من الأيام أثرة ولا منطوية على نفسها.. ولم تكن سورية في يوم من الأيام أثرة ولا منطوية على نفسها, وإنما كان هذان القطران دائمًا يؤثران الخير؛ يحبانه لأهلهما, ويشيعانه في الوطان الأخرى ما وجدا إلى إشاعته سبيلًا. وهما الآن يؤديان واجبهما التاريخي حين يؤثران الخير ويشيعانه في الأوطان الأخرى. "وإذا كان خير الناس أنفعهم للناس, فخير الأوطان أنفعها للأوطان الأخرى"3. ولعل في النموذج المتقدم للتحليل الصحفي ما يوضِّح أثر الأسلوب الاستقرائي في المقال التحليلي من حيث ترتيب جميع الأنباء المقابلة   1، 2 المرجع السابق. 3 المرجع نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 واستخلاص الدلالات في نسق خاص، بحيث تكون كل دلالة منها مسبوقة بمعظم الدلالات التي تستند إليها، وسابقة لجميع الدلالات التي تستند إليها, ويسلمنا هذا الفهم إلى الاتجاه الثالث: 3- انتقاء زوايا محددة من "الجديد" الناشئ عن مقابلة "النبأ الجديد", بالحالة الخبرية العامة السابقة عليه: ويقوم هذا النمط التحليلي في مقال طه حسين على قواعد "هداية الذهن" عند ديكارت, وفي مقدمة هذه القواعد ما يسميه: "قاعدة التحليل"؛ ففي كل مسألة معقَّدَة يجب البحث عن الأفكار السيطة التي تكون "مطلق الموضوع", والتي تؤدي إلى تحليل هذا المطلق. ولكي تصل إلى هذه النتيجة يجب علينا تحليل المسألة المعقدة إلى مسائل أبسط، ولذلك يقوم المقال التحليلي عند طه حسين على انتقاء زوايا محددة من "الجديد" الناشئ عن مقابلة "النبأ الجديد" بالحالة الخبرية العامة السابقة عليه، وتحليل هذه الحالة الأخيرة إلى مسائل أبسط منها أيضًا، وبهذا يتمكَّن التحليل الصحفي عند طه حسين من استخلاص الدلالات التي تبدو بسيطة, ولا يمكن أن تحلل إلى أبسط منها، وهي التي تكون أساس كل تلك الدلالات، ويمكن أن نجد في نموذج التحليل الاستقرائي المتقدم، نمطًا مشابهًا لهذا التحليل الصحفي عند طه حسين، ولا يختلف النمط السابق عن النمط الجديد إلا في "انتقاء زوايا محددة من "الجديد"، وفي حين أن النمط السابق يقابل النبأ الجديد بالحالة الخبرية الملازمة له زمنيًّا، أو السابقة عيه, ومن ذلك النمط الاستقرائي في التحليل الصحفي نجد مقالًا لطه حسين بعنوان: "التبعة الكبرى! "1 يحلل فيه "زوايا محددة" ينتقيها من "نبأ" انفصال سوريا عن مصر, "ونقض" الوحدة دون استفتاء للشعب السوري ودون إيذان لمصر" عن طريق مقابلة هذه الزوايا المنتقاة من النبأ بالحالة الخبرية العامة السابقة عليه والمتصلة الوجود، كما يبين من هذا النموذج الاستقرائي في التحليل: ثم يتوسَّل طه حسين بعد ذلك بقاعدة أخرى من قواعد المنهج الديكارتي, ونعني قاعدة التأليف التي تلي تحديد الأفكار والبديهيات والمقدِّمات الضرورية للاستدلال، وهي الأشياء التي يعتمد عليها المقال التحليلي، فيذهب في مقاله على نحو ما يفعل علماء الهندسة، حين يضع أولًا الأفكار أو الدلالات البسيطة التي يستخلصها التحليل الصحفي، ثم يذهب من البسيط إلى المعقد، من   1 جريدة الجمهورية في 28 أكتوبر 1961. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 خلال نسق منطقي يبيِّنُ في كل خطوة كيف تعتمد الدلالة الأكثر تعقيدًا على الدلالة التي هي أبسط منها, والتي تعلوها مباشرة، وفي المقال المتقدِّم، نجد أن الدلالة التي يستخلصها طه حسين من مقابلة الزوايا الخبرية المنتقاة بالحالات الخبرية العامة المتصلة الوجود، هي أن "التبعة الكبرى" الناجمة عن الانفصال "يحتملها أولئك المتمردون في دمشق, والذين أيدوهم بالجاه, والذين أمدوهم بالمال, والذين ناصروهم جهرة من خارج سوريا وداخلها. يحتملها هؤلاء جميعًا لأنهم تعاونوا أولًا وأعانوا المستعمرين بعد ذلك على تفريق الكلمة, وإطماع العدو, وإغراء المتربصين بما كانوا يتمنونه ولا يستطيعون أن يحققوه. يحتملها هؤلاء جميعًا, وإن كانت ضمائرهم لا تحفل بالتبعات, ولا تهتم إلا لتحقيق المنافع العاجلة, والمآرب الخاصَّة غير معنية بوحدة العرب ولا بمنافعهم, ولا بما يكفل لهم الحياة الكريمة والعزة في بلادهم"1. وهذه الدلالة العامة تمثل خلاصة الدلالات الجديدة التي استخلصها الكاتب من النتائج المترتبة على مواجهة الخبر الذي يتناوله بأيّ من الحالات الخبرية المقابلة المتصلة الوجود: "هذه الأنباء التي تتحدث بها الإذاعات, وتنشرها الصحف, ويخفق بها البرق من أقطار الأرض, بأن لعبة الاستعمار في فلسطين قد أخذت تحوّل مجرى نهر الأردن, أقدمت على ذلك مطمئنة آمنة راضية النفس. ممدودة الأمل إلى المستقبل البعيد، لأنها بعد أن تفرقت كلمة العرب, واطمأنت بعد أن انتشر القلق حتى شمل الشعوب العربية كلها, وأحست القوة واليأس بعد أن أذن لها, أو أغراها أولئك الذين كانوا يحولون بينها وبين أمنها العزيز عليها, بأن تنعم على حساب البائسين, وتسعد على حساب الأشقياء, وتهين الكرامة العربية غير حاسبة لأحد حسابًا, وغير راجية لأحد وقارًا. "ما أكثر ما تحدث العرب بأن مجرى الأردن مقدَّس لا يمسه إلّا الذين يعرضون أنفسهم لأعظم الكوارث وأقساها, وما أكثر ما أنذر العرب بالحرب التي لا هوادة فيها إذا جرأت ألعوبة الاستعمار على أن تتعرض لمجرى هذا النهر, وعلى رغم هذا كله أخذت ألعوبة الاستعمار تعبث بهذا المجرى الذي كان مقدسًا أمس, وأصبح اليوم نهبًا مباحًا لإسرائيل، تعبث به كيف شاءت, وتغيره كما أرادت. "والعناصر المتحكمة في الجيش السوري مشغولة بالسياسة, حريصة على أن تحمي تمردها بحرب الشعب السوري؛ ليبقى الحكم في يدها, ولتنعم بتأييد الذين يؤيدونها بالجاه, ويمدونها بالمال, ويتهيأون لحرب الوطن السوري نفسه   1 المرجع نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 وإذلال الشعب السوري نفسه, إذا تعرَّض المتمردون لخطر خارجي أو داخلي"1. والدلالة المستخلصة من الحالة الخبرية المتعلقة بتحويل مجرى الأردن في غيبةٍ من الوحدة العربية، وانشغال الجيش السوري بتمرده, تتيح لإسرائيل قوة إلى قوة, وأمنًا إلى أمن"2 ذلك أن الاستعمار يرحب بهذا التمرد ويشجع الانفصال؛ لأنه إنما "يهمه أن تشقى الشعوب العربية, وأن تظهر حاجتها إلى معونة الاستعمار, وأن يمكَّن هذا كله للمستعمرين العودة إلى الأوطان العربية"3, ويخلص طه حسين من ذلك إلى أن هذا كله "دليل على أن تمرُّد المتمردين في سوريا لم يضعه المتمردون وحدهم, ولم يضعه أعوانهم من العرب وحدهم, وإنما شاركهم فيه المستعمرون بما لهم, وتحريضهم وتأييدهم"4. كما يخلص من دلالات الحالات الخبرية التي يستند إليها إلى أن "نقضهم للوحدة دون استفتاء للشعب السوري, ودون إيذان لمصر قد عرَّض سورية للخطر, وجرَّأ عليها إسرائيل, فاعتدت على أرضها. كيف يجادلون في هذا وهم يرون ويستمعون، أم تراهم يرضون عن هذا ويطمئنون إليه, ويؤثرون الألفة مع شعب عربي مثلهم, ويسخرون من اللاجئين المشرَّدين, ويستهزئون بالعرب الذين يضطهدون في وطنهم, وتصب عليهم المحن في بلادهم, ولا يكرهون أن يطمع فيهم غير إسرائيل, ولا يكرهون أن يتسلط عليهم الاستعمار فيسيرهم كما يشاء, ويصرِّفُ أمرهم كما يجب, لا لشيء إلّا لأنهم يستأثرون بمظاهر الحكم, ولن يكونوا من حقائق الحكم في شيء حين تمتد إليهم أيدي المستعمرين, ولكن المثل لا يكذب حين يقول: إذا لم تستح فاصنع ما شئت"5. وهنا نجد حرص المقال التحليلي عند طه حسين على أن يتوسّل بقواعد هداية الذهن عند ديكارت6، وهي القواعد التي تميِّز التحليل الصحفي بوضوح الأفكار وتميزها، لضمان سلامة التحليل القائم على الشك المنهجي في فحص الحالات الخبرية السابقة والملائمة والمتصلة الوجود، الأمر الذي يتيح للمقال التحليلي أن يكتشف بعض الدلالات التي لا تحتمل الشك، وهي نفسها الدلالات التي يحتاج إلى التحليل الصحفي، كما أن المجهود المبذول في التشكك في هذه الدلالات يضمن للكاتب إقناع القراء بسلامة القضايا الخبرية التي يتخذها كأساس لمقاله.   1 المرجع نفسه. 2، 3، 4، 5 المرجع نفسه. 6 اسم الكتاب باللاتينية regulae ad oirctionem ingeni. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 التقويم الصحفي مدخل ... ب- التقويم الصحفي: يذهب ديكارت إلى أن الذوق السليم أعدل الأشياء قسمة بين الناس؛ لأن كل إنسان يظن أنه مزود بقسط منه، بلغ من كفايته أن جعل هؤلاء الذين يصعب عليهم كل الصعوبة أن يزهدوا في شيء ما من الأشياء الأخرى، لا يرغبون عادة في المزيد من هذا الذوق1. وهذا يدل على أنه من غير المحتمل أن يكون كل الناس مخطئين في هذا الظن, ولكن الأحرى بهذا الأمر كما يقول ديكارت أيضًا، أن يدلنا على أن المقدرة على الحكم السليم تميز الحق من الباطل، وهو ما يسميه الناس حقًّا بالذوق السليم أو العقل2، أو كما يسميه طه حسين بالذوق العام3, وهذا الذوق واحد لا يتغير بتغير من تتحدَّث إليه. وقد تختلف الرسائل عسرًا ويسرًا, وتختلف لينًا وشدة باختلاف من تتحدث إليه. فللصحف لغة وأساليب ليست للكتب التي يؤلفها العلماء للعلماء, والأدباء للأدباء, ولكن ذلك شيء, واختلاف الذوق شيء آخر. وهؤلاء كُتَّاب أوروبا وأدباؤها يتحدث بعضهم إلى بعض, ويتحدثون إلى جمهور الناس في الفرنسية أو الإنجليزية أو الألمانية, فلا يختلف الذوق الأدبي فيما يكتبون باختلاف القراء، وإنما يؤثرون الوضوح والجلاء حينًا؛ فيطنبون ويسهبون ويصطنعون ألفاظًا ألفها الناس, ويؤثرون القصد والإيماء حينًا؛ فيوجزون ويتخيرون ألفاظًا منتقاة. والذوق هو الذوق، والكتابة هي الكتابة، وروح العصر الذي يعيشون فيه هو فيما يكتبون لنظرائهم, وفيما يكتبون لعامة الناس"4. ويذهب طه حسين كذلك إلى أن إرضاء "الذوق الحديث سيكلفنا أشياء كثيرة ترضاها أساليب البحث العلمي أو تحققها. لأن الذوق الحديث شيء يحرص عليه الرأي العام"5. وتأسيسًا على هذا الفهم، يمكن القول: إن التقويم الصحفي في المقال التحليلي عند طه حسين يصدر عن نفس الرؤيا النقدية التي صدر عنها مقاله النقدي، واتجاهه نحو "التقويم" الأدبي، الذي يصدر عن "تمحيص للعلم, ودلالة على ما فيه من حق يجب أن يبقى، وباطل يجب أن يزول، أو قل: على ما تعتقد أنه حق أو باطل"6، وبذلك يتفق طه حسين مع المبادئ المقنعة في التقويم حين تذهب إلى أن المحلِّلَ يجب أن يبدي "تواضعًا وحذرًا معقولين"7، كما أن من العدالة أن "نضيف بأن قلة من الناس هي التي تملك الموهبة والثقافة اللتين تتيحان لنا أخذ الأحكام مطمئنين، ولا يستثنى من ذلك الدارسون المحترفون في هذه الأمور"8 وهكذا لا يرجع اختلاف   1، 2 المرجع السابق. 3، 4، 5 حديث الأربعاء ج3 ص14، 16، 62. 6 المرجع نفسه ص81. 7، 8 ستانلي هايمن، مرجع سبق ص92. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 آرائنا إلى أنَّ بعضنا أرجح عقلًا من بعضنا الآخر، ولكن كما يقول ديكارت: إلى مجرد أننا نوجه أفكارنا في طرق مختلفة, وأننا لا نلحظ نفس الأشياء. ذلك أنه لا يكفي أن يكون لدينا عقل صائب، ولكن المهم هو أن نستخدمه استخدامًا جيدًا, ولذلك وجدنا للتقويم الصحفي أسسًا تستمد من التقويم النقدي عند طه حسين، والذي يعتبره أعدل الحاكمين. ومن الحق علينا أن نبين أن مفهوم التقويم الصحفي في المقال التحليلي عند طه حسين لم يَعُدْ ملتبسًا بالتجريح كما كان الحال في طور التكوين، وإنما أصبح التحليل الصحفي بعد ذلك يرادف التقويم المنصف, وبيان المحاسن والمساوئ، يتضح ذلك من بنيان التحليل نفسه، كما تقدَّم، حين يبدأ التحليل بالنبأ الجديد المطلوب إجراء تحليل عنه أو حوله، ويتسع التحليل من هذه النقطة ليواجه هذا النبأ بأنباء أخرى داخل سياق حركة الأحداث عمومًا في أكثر من اتجاه. وعلى ذلك يمكن أن نستخلص السمات العامة للتقويم الصحفي في مقال طه حسين فيما يلي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 أولًا: اعتماد التقويم الصحفي على الذوق أو العقل الذي يستخدمه استخدامًا جيدًا كما يذهب ديكارت إلى أن هذا الاستخدام الجيد للذوق, هو الذي يتضمن المقدرة على هذا الحكم السليم وتمييز الحق من الباطل، على أن هذا الذوق الصحفي عند طه حسين كما تقدَّم أيضًا على حاسة صحفية دقيقة يذوق بها الأحداث الجارية، كما يقوم على حاسَّة تاريخية وثقافة عريضة، إلى جانب حاسته الاجتماعية المرهفة، كما أن هذا الذوق الصحفي يتحدد في التقويم بتصوّر الدوائر الثلاث في كتابته دائمًا، ونعني: سياسة الجريدة, وصياغة المقال, واهتمام القراء. وقد سبق أن تعرّفنا على احتفال طه حسين الشديد بالذوق الصحفي في تذوق الأحداث وتقويمها، كما تبين من قوله: "إن للظروف السياسية ذوقًا كثيرًا جدًّا، دقيقًا جدًّا، شديد الحسِّ، شديد التأثر، شديد التفكير في غد، شديد الملاحظة"1. كما تبين من بنية التحليل الصحفي نفسها، التي ينتقي فيها أخبارًا معينة، يقابلها بحالات خبرية معينة، داخل حركة سياق الأحداث، وهو الانتقاء الذي يقوم على ذوقٍ صحفيٍّ في المحل الأول، ذلك أن هذا الذوق   1 كوكب الشرق في 7 مايو 1933. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 "يكون في الأدب والفن، والذوق يكون في الحياة الاجتماعية اليومية، ويكون خصلة من خصال الشعب الذي عظم حظُّه من الحضارة وإمعانه فيها"1. ويعرِّفُ "بعض المعاجم الذوق بأنه: ملكة طبيعية تسبق التفكير, وتعين على تمييز الجيد من الرديء، والحسن من القبيح, وما يليق مما لا يليق، ويقول هذا المعجم: إن لكل إنسان من هذا الذوق حظًّا، ولكن هذا الحظ يقوى ويضعف باختلاف ما يكون عليه الإنسان من ثقافة وحضارة واتراف في العقل والقلب والضمير.. ويقال كذلك: إن الذوق يتغير بما يصيب الحضارة من تطور, فيفسد بعد صلاح، ويقبح بعد حسن، ويشيع فساده وقبحه بمقدار ما يصيب الحضارة من ضعف وانحطاط"2. ويذهب طه حسين إلى أن الذوق كثيرًا "ما يفسد حين يطرأ على الحضارة المستقرة المطمئنة التي بعد بها العهد, وألفتها النفوس, وتوارثتها الأجيال, طارئ عارض عنيف يغير من سيرة الناس في حياتهم المادية أولًا، ثم في حياتهم العقلية بعد ذلك"3. ويذهب طه حسين إلى أن فساد الذوق الناجم عن إفساد الإنسان "يغير من جمال الطبيعة, ويغير كثيرًا من حقائق الأشياء، تدفعه إلى ذلك مصالحه العاجلة أحيانًا"4, ويؤدي إلى الخطأ في "الحكم والتقدير"5، وهو لذلك يبدي "حذرًا وتواضعًا معقولين" في التقويم الصحفي، فيبحث ويستقصي6، ويلفت القراء "إلى طبيعتهم الديمقراطية الحرة، وإلى ما تصب عليهم الظروف والأحداث من الفساد المتصل, الذي يحولها عن أصلها الجميل السمح إلى شيء آخر بعيد كل البعد عن السماحة والجمال"7، ويتوسَّل بذوقه السليم إلى تذوق الأحداث والأنباء من "صحف لا تحصى, ولا يحصى ما فيها من الكلام، تصابح الناس وتماسيهم، وثرثرة لا تحصى في الراديو تصابح الناس وتماسيهم، وهراء كثير لا يُحْصَى يشغل الناس عن أنفسهم وعن حياتهم، وعن آمالهم وعن آلامهم"8. ويتجه به الذوق الصحفي السليم إلى معرفة اهتمامات القراء، كما تبين من اتجاهه القويِّ إزاءهم، وكما يبين من ملاحظته للصحف المصرية في فصل الصيف حين لا تُعْنَى إلا بشيئين اثنين "أحدهما: موسم الامتحانات وما يثير من ضجيج وعجيج, ومن شكاة واستعطاف, ومن نقد للأسئلة ولومٍ للسائلين، والثاني: مصايف البحر وما تثير من هذا السخط الذي تمتلئ به نفوس جماعة   1، 2، 3 بين ص86، 87، 88. 4، 5، 6 المرجع السابق ص92. 7 المرجع نفسه ص93. 8 المرجع نفسه ص152. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 يصور هذا النموذج نمطا آخر من أنماط المقال التحليلي عند طه حسين يقوم على انتقاء زوايا محددة من "الجديد" الناشئ عن مقابلة النبأ الجديد بالحالة الخبرية العامة السابقة عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 من المتحرجين، يغضبون للحياء والأخلاق، ويكتبون الفصول الطوال يَسْتَعْدُونَ بها الحكومة على حماية الحياء والأخلاق. وما أظن أن كُتَّابنا يعنون بغير هذين الأمرين من أمور الصيف خاصة. هم إذن لا يرفقون بأنفسهم, ولا يرفقون بقرائهم، بل يكتبون في الصيف كما كانوا يكتبون في الشتاء، فإن أخذوا بحظٍّ من هذا الرفق امتنعوا عن الكتابة امتناعًا، وصدوا عنها صدودًا، وأراحوا أنفسهم من الكدِّ, واستمتعوا بفترةٍ قصيرة من الهدوء الذي هم أهل له. ولكن الصحف لا بُدَّ من أن تظهر, ولا بُدَّ من أن تظهر ممتلئة الأنهار, وهنا يلقى أصحاب الصحف من صناعتهم الجهد كل الجهد، ويلقى القراء من صحفهم العناء كل العناء؛ أولئك يريدون أن يملأوا الصحف فلا يجدون ما يلأونها بها، وهؤلاء يريدون أن يقرأوا فلا يجدون ما يقرأون, وكذلك يصبح الصيف فصل الكساد الأدبي العام, ومع ذلك, فما أبعد الصيف عن أن يكون فصلًا من فصول الكساد لو عرفنا كيف نستقبله ونحتمله ونعاشره ونفارقه كما يفعل غيرنا من الناس"1. ويبين أثر الذوق الصحفي في مقال طه حسين من تحديده مهمته بإزاء ملاحظته تلك: "على أني مجتهد منذ الآن في أن أغير للقراء من أحاديث الصيف, لعلي أن أعينهم وأعين نفسي على احتماله حتى تنجلي عنا غمرته, ولهم عليّ ألَّا أحدثهم في موضوع واحد مرتين حتى تنقضي هذه الأشهر الطوال". ويتضح أثر الذوق الصحفي من اختيار النبأ الذي يقوّمه في ضوء الحركة العامة للأحداث كما تقدَّم، ونكتفي في هذا الصدد بنموذج لمقال بعنوان: "عيد"2 يستهله ببيت شعر للمتنبي: عيد بأية حال عدت يا عيد ... بما مضى أم لأمر فيك تجديد "هذا سؤال ألقاه المتنبي على أحد الأعياد في مصر منذ ألف عام، وأظن أن كل شاعر أو غير شاعر يستطيع أن يلقيه اليوم على عيد الاستقلال الذي تنعم به مصر السعيدة, ويستطيع أن يلقيه في نفس اللهجة البائسة التي اصطنعها المتنبي، فقد تغيرت أشياء كثيرة منذ ألف عام في مصر، ولكن شيئًا واحدًا لم يتغير, وهو أن الشعب المصري ما زال كما تصوِّره قصيدة المتنبي؛ راضيًا ناعمًا رضيّ البال, تختلف عليه الأعياد فيستقبلها مبتهجًا مغتبطًا؛ لأنها تحمل إليه من ألوان السعادة والبهجة والغبطة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر"3. ثم يقول بعد هذا التمهيد: "وقد أرادت دورة الفلك أن يستقبل المصريون اليوم عيدين في نهار   1 جريدة الجهاد في أول يوليو 1935. 2 بين ص45. 3 المرجع نفسه ص52، 53. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 واحد: عيد قديم بَعُدَ به العهد, وهو عيد وفاء النيل، وعيد حديث قَرُبَ به العهد, وهو عيد الاستقلال". "ففي مثل هذا اليوم من سنة 1936 أمضى المصريون، وكانوا يومئذ مجتمعي الكلمة, موحدي الرأي، هذه المعاهدة التي تنظم الأمر بيننا وبين حلفائنا الإنجليز، ثم عادوا فقرروا أن هذا اليوم سيصبح عيدًا وطنيًّا يذكر فيه المصريون خطوة خطيرة خَطَوْهَا في سبيل الاستقلال"1. ويتخذ من المقابلة بين النبأين وسيلة لتقويم حركة الأحداث: "وفي النيل فيجب أن يسعد المصريون، وفي الحلفاء فيجب أن يسعد المصريون وهم سعداء، ألا ترى إلى الحكومة قد قررت إراحة الوزارات والمصالح من العمل في هذا العيد السعيد، فأباحت للموظفين أن يناموا حتى يرتفع الضحى، وأن يستيقظوا آمنين لا يشفقون من الانتقال إلى دواوينهم مع صعوبة الانتقال، ولا من هذه الأعمال الشاقة المرهقة التي ينهضون بها في مكاتبهم، وأذنت لهم بأن يقيموا في بيوتهم إن يشاءوا, ويختلفوا إلى أنديتهم وقهواتهم أن أحبوا، يلقى بعضهم بعضًا باسمًا، ويلقي بعضهم إلى بعض ألوان الحديث، يتندرون بما تنشر الصحف من أخبارهم، وأخبار نظرائهم، ويتحدثون بما تنشر الصحف من ضروب الخصام والصراع بين المصريين، ويتفكَّهون بما تنشر الصحف المضحكة من ألوان الفكاهة وفنون الصور وصنوف الإشاعات, ويجدون في هذا كله اللذة كل اللذة، والنعيم كل النعيم. ومتى تلتمس اللذة إذا لم تُلتمس في يوم العيد، ومتى يُطلب النعيم إذا لم يُطلب يوم فاء النيل بالري والثراء, ويوم وفاء الحلفاء بالكرامة والاستقلال"2. ويتوسّل بأدوات السخرية في التقويم القائم على المقابلة بين المثال والواقع: "فهم من أجل هذا كله يحتفلون بوفاء الحلفاء, كما يحتفلون بوفاء النيل. يوم من الأيام يمر وتتبعه أيام أخرى ليست خيرًا منه, وعسى ألا تكون شرًّا منه, نعيم قد قسم للقلة, وبؤس قد فرض على الكثرة، وسلطان قد أتيح للقلة، وخضوع قد فرض على الكثرة, ومصالح الحكومة ودواوينها معطلة، والموظفون يستريحون في الدور, ويقطعون الوقت في الأندية، والشمس تشرق باسمة ساخرة, والليل يقبل عابسًا مزدريًا، والأعلام تخفف، والشعب يعمل، والمتنبي وأمثاله يرسمون على ثغورهم هذه الابتسامة الحزينة الكئيبة المرة, ويسألون في صوت ساخر حزين: عيد بأية حال عدت يا عيد ... بما مضى أم الأمر فيك تجديد1   1، 2 المرجع نفسه ص52، 53. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 ثانيًا: إن طه حسين كان شديد الحفل بالأسلوب والوضوح في التحليل والتقويم سواء في طريقة الأداء اللغوي، أو في طريقة التعبير واتجاهاتها ومناهجها، ولعلَّ هذا الحفل أثر من آثار الأسلوب الديكارتي الذي توسَّل به في المقال التحليلي، ذلك أن القاعدة الأولى في هذا الأسلوب تقتضي عدم قبول شيء من الأشياء, أو خبر من الأخبار على أنه صحيح إلّا إذا عرف الكاتب المحلل في وضوح أنه كذلك. ومعنى هذا أن الكاتب المحلِّل يتلافى في حرص: التسرع والاندفاع، ولا يدخل في تقويمه إلّا ما يظهر لعقله على "نحو من الوضوح والتمييز, لا يترك معه مجالًا لوضعه موضع الشك". ولقد أعانه الأسلوب الاستقرائي في التحليل الصحفي على أن يتصور معظم الأشياء التي يمكن أن تكون محلًّّا لمعرفة الإنسان في ضوء حركة الأحداث، الأمر الذي مكَّن المقال التحليلي من التسلسل على نفس النمط الديكارتي -كما تقدَّم- وأنه لن تكون ثمة دلالات بعيدة إلّا ويصل إليها التحليل في النهاية، ولا غامضة إلّا ويكشفها مهما بلغ من بعدها وغموضها, وذلك من خلال التحليل في ضوء حركة الأحداث، التي تقتضي من المقال عدم الاقتناع بالأفكار, أو الاستنتاجات الخاطئة بحالٍ من الأحوال. فوضوح التحليل الصحفي من حيث المنهج يقوم على الدقة في مراعاة قواعد الأسلوب الاستقرائي، الأمر الذي ييسِّر للتحليل تفسير جميع المسائل والدلالات التي تنطوي عليها الأنباء في ضوء حركة الأحداث؛ بادئًا بالأبسط والأعم من الدلالات, ناظرًا إلى كل دلالة يصل إليها كقاعدة يستخدمها فيما بعد لكشف دلالات أخرى في التحليل الصحفي، ومن هنا ينجح المقال التحليلي في إقناع القارئ بأن الدلالات التي وصل إليها لن تبدو عديمة الجدوى، حين نتفق مع ديكارت1 على أن "لدينا حقيقة واحدة لكل شيء, وأن أي امرئ يكتشفها يعرف عنها كل ما يستطيع أن يعرفه إنسان"2، الأمر الذي يتيح للتحليل الصحفي تفهُّم موضوعاته بشكل أكثر تميزًا ووضوحًا، من خلال البحث عن كل ما يتعلق بموضوع معين في إطار الحركة العامة للأحداث، ذلك أن التحليل الصحفي في سبيل الوصول إلى دلالات الأنباء يرفض روابط القياس, ولا يثق إلا في الاستقراء, "وهو الطريق الوحيد الذي يكون باقيًا أمامنا؛ لأن جميع القضايا التي تستنبطها -مباشرة الواحدة من الأخرى, تخضع منذ تلك اللحظة للحدث الحق، على شرط أن يكون الاستنباط يقينًا. ولكننا لو أخذنا نتيجة عدة قضايا متعددة لا رابطة بينها، فإن مقدرة عقلنا لا تكون   1، 2 أندريه كرسون: مرجع سبق ص68، 70، 104. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 غالبًا من الكفاية بحيث نستطيع فهمها كلها في حدس واحد، وهي حالة يجب علينا أن نكتفي فيها بيقين هذه العملية. كما أننا لا نستطيع بنظرة واحدة أن نميز جميع الحلقات التي تشتمل عليها سلسلة أطول مما ينبغي، ولكننا إذا لحظنا مع ذلك ارتباط كل حلقة بالحلقة السابقة عليها والحلقة اللاحقة لها, فإن هذا سيكون كافيًا لكي نقول: إننا رأينا كيف تتصل الحلقة الأخيرة بالحلقة الأولى"1. وقد سبق فيما تقدَّمَ أن تعرَّفْنَا على توسُّل طه حسين بهذا الأسلوب الاستقرائي في التحليل الصحفي، وتبيَّن أن هذا الأسلوب يتيح للتحليل وضوحه وتميزه، عندما يذهب المقال التحليلي إلى البرهنة على قضايا معينة، فإنه يبرهن عليها ببعض الأنباء لكي ينتهي من طريق الاستقراء إلى نتيجة أو دلالة معينة، تخص كل الأنباء الأخرى. كما تبيَّنَ أن المقال التحليلي, أو التقويم الصحفي, يقوم على أسلوب منهجي، وليس هذا لأن بحث كل شيء في ترتيب ليس خير واقٍ من الأخطاء فحسب، ولكن أيضًا لأنه يحدث أحيانًا أنه إذا كان من الضروري دراسة كلٍّ من الأنباء المتعلقة بالهدف الذي يسعى إليه المقال، كلًّا على حدة، فإن حياة أي صحيفة لن تكفي لذلك، إما لأنَّ هذه الأنباء كثيرة التعدد, وإما لأنَّ نفس الأنباء تعود غالبًا تحت بصرنا من جديد, ولكننا لو وضعنا هذه الأشياء أو الأنباء في نظام جيِّد لكي يمكن ردها في معظم الأحيان إلى أنواع محددة, فإنه سيكفينا -كما يقول ديكارت2 أن نختبر بدقة نوعًا واحدًا من هذه الأنواع وشيئًا معينًا من كل هذه الأنواع, أو بعض الأنواع دون بعضها الآخر، وسنضمن على الأقلِّ أننا نمر على شيء واحد مرتين بلا فائدة, وسيسدي لنا هذا المنهج مساعدة يكون من شأنها أن تجعلنا نقوم بلا عناء وفي وقت قصير بعدد كبير من التحليلات الصحفية التي تبدو لنا واسعة للوهلة الأولى. ومن أثر هذا المنهج في مقال طه حسين -كما تقَدَّمَ- اتساع التحليل ليواجه النبأ الجديد بأنباء أخرى داخل سياق حركة الأحداث عمومًا في أكثر من اتجاه، فقد يُقَابَل النبأ الجديد بمعلومات وأنباء تنتمي إلى نفس القضية، أو مقابلة الأنباء الخاصة بقضية معينة بأنباء ومعلومات تُخْفِي قضايا أخرى ملازمة لها زمنيًّا، أي: مقابلة "النمط الخبري" الذي ينطوي عليه النبأ الجديد، بأنماط خبرية مشابهة له، أو متعارضة معه، أو تثير مقابلتها له مفارقات معينة تساعد في استخلاص دلالات معينة، ذلك أن المقال التحليلي أو التقويمي في صحافة طه حسين يدرك أنه يدور في الحياة السياسية "وما تستتبعه من   1، 2 المرجع السابق ص105. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 اضطراب"1 ولكن هذا كله لا يصرف مقاله عن "حياة العقل والشعور, ولذة العقل والشعور, إلى الشهوات السياسية والأهواء السياسية"2، فالعالم قد "اضطرب اضطرابًا لم يعرف التاريخ مثله، واستمرَّ هذا الاضطراب أعوامًا أزهقت فيها نفوس لا يكاد يبلغها الإحصاء، وجرت فيها الدماء أنهارًا دون أن تكون في هذا التعبير مبالغة أو غلوّ، وآمت فيها نساء, ويتَّمَت فيها أطفال, واختلَّ فيها التوازن الاقتصادي والخلقي والأدبي اختلالًا لا مثيل له3، ويقتضي ذلك كله أن يتجه المقال إلى التحليل والتقويم لحياة العقل والشعور، نتيجة اشتداد الصلات بين الأمم4، فحرصت "الحرص كله على أن يعرف بعضها بعضًا, ويفهم بعضها نفسيات بعضها الآخر. وما أحسب أن الأمم تعاونت على الحياة العقلية والشعورية في عصر من العصور كما تعاونت عليها أثناء الحرب الكبرى"5. وتأسيسًا على ذلك يقوم المقال التحليلي أو التقويمي عند طه حسين على الذوق والفهم معًا, "فقد تفهم أشياء كثيرة دون أن تذوقها"6, فما "تظن أن الذين يذقون الموسيقى ويطربون لها يفهمونها جميعًا، بل نعتقد أن الكثرة المطلقة من الذين يسمعون الموسيقى فيطربون ويتأثرون وينتهي بهم ذلك إلى شيء يشبه الذهول، لا يفهمون الموسيقة كما يفهمها الموسيقيون الأخصائيون، فأنت ترى أن الذوق والفهم شيئان مختلفان"7, ولكنهما حينما يجتمعان في التحليل الصحفي فإنهما يضمنان "الإصابة في الحكم"8 أو التقويم. كما أنَّ الفهم والذوق من خلال الاستقراء السليم يضمنان للمقال التحليلي في نهاية الأمر اتصالًا فعالًا بالجماهير؛ لأنه يتحدث إلى "الناس بلغتهم" حتى يفهمه الناس9, فكأنَّ هذه اللغة الصحفية لا تنفصل عن منهج التفكير الذي يتجه بالمقال التحليل نحو الوضوح والتميُّز، الأمر الذي يجعل التلازم بين منهج التفكير وطريقة التعبير تلازمًا لا انفصام له، فجاءت هذه الطريقة متيِّمزةً بالمرونة وإيثار العبارات الواضحة العقلية، وهي لغة تختلف عن "لغة السياسيين التي تضطرب بين الوضوح أو الغموض"10 ذلك أن أسلوب المقال بهذا المعنى هو أسلوب التحليل الذي يقتضي الوضوح واستنكار الاضطراب أو الخلل في لغة السياسيين وغير السياسيين. ولعل مما يجدر بالذكر أن مسألة الأسلوب هذه عند طه حسين قد صارت من الحيوية في رؤياه بحيث أصبحت على مرِّ الأيام محور قضية التجديد11.   1، 2، 3 حديث الأربعاء ج3 ص48. 4، 5 المرجع نفسه ص48، 16. 6، 7، 8 المرجع نفسه ص26، 27، 32. 9 المرجع نفسه ص26، 27، 32. 10 المرجع نفسه ص138. 11 مجلة الرسالة عام 38. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 ثالثًا: إتجاه طه حسين في مقاله التحليلي إلى ربط "حدث" التحليل الصحفي بدائرة اهتمامات القراء وذلك لما يتمتَّع به من حاسَّة اجتماعية مرهفة، وقدرة على الانغماس في المجتمع, وموهبة في الحديث والإيناس, ونحو ذلك من الخصال التي تمكِّنه من الوقوف على حقيقة الرأي العام. ويرتبط هذا الاتجاه بقدراته التذوقية والتقويمية, ووضوح تفكيره وأسلوبه على النحو المتقدِّم، الأمر الذي يجعل المقال التحليلي عنده يتضمَّن ما فيه "النفع والغناء"1. ذلك أن الحاجة إلى الكتابة نفسها كما يحددها طه حسين تتلخَّص في أن "هناك حاجة إلى الكتابة تأتي من أن موضوعًا من الموضوعات مشكوك فيه, فلا بُدَّ من أن يثبت، أو غامض فلا بُدَّ من أن ينجلي، أو مجهول فلا بُدَّ من أن يُعْرَف، أو ضعيف فلا بُدَّ من أن يقوى, أو قوي فلا بُدَّ من أن يضعف. وهناك حاجة إلى الكتابة تأتي من أن قومًا لا بُدَّ من أن يكتبوا, وقومًا آخرين لا بُدَّ من أن ينشروا, وكثرة من الناس لا بُدَّ من أن تقرأ"2. ومن ذلك تبين أهمية ربط كل تحليل أو تقويم صحفي بالجوانب المحلية التي تشغل القارئ، ومن هنا أيضًا كان علاج صحيفة لنبأٍ ما, يختلف عن علاج صحيفة أخرى لنفس النبأ حسب موقع الصحيفة، والمجتمع الذي تنتمي إليه. وتأسيسًا على ذلك, فإن طه حسين يذهب إلى إرضاء حاجات القارئ حتى لو كانت هذه الحاجة مجرَّد "حب الاستطلاع" أو "الفضول"3 كما يقول الصحفيون اليوم، وكما قال طه حسين: فإن "من يظن أن مثل هذه الكتابة فضولًا لا خير فيه"4 يخطئ "أشنع الخطأ"5, ذلك أن "مثل هذه الكتابة ليس فضولًا ولكنه تَرَفٌ, والترف الأدبي هو خير ما في الأدب من متاع"6. وقد سبق من النماذج المقالية المتقدِّمة، أن تعرَّفْنَا على اتجاه طه حسين القوي نحو قرائه، كما تبين من دراسة الأسلوب أيضًا، أن هذا الاتجاه يتمثَّل في "الإيناس" وأسلوب المحادثة، وتبيَّن من دراسة المضمون اهتمام الكاتب بالقضايا التي تشغل أذهان القراء، ونكتفي في هذا الصدد بنموذج تبين فيه هذه الاتجاهات القوية نحو القراء ومشاركتهم في تحليل موضوع المقال. يقول طه حسين تحت عنوان: "سؤال"7:   1، 2 مجلة الهلال في أول يناير 1935. 3 جلال الدين الحمامصي, مرجع سبق ص265. 4، 5، 6 مجلة الهلال في أول يناير 1935. 7 كوكب الشرق في أغسطس 1933. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 "لا يكاد يلقيه أحد على أحد؛ لأن جوابه مرسوم في القلوب, ماثل أمام العيون, يحسه الناس جميعًا، ويشعر به الناس جميعًا, لا يختلفون فيه إلّا أن يكونوا صحفيين تدفعهم الضرورات الصحفية إلى أن يكتبوا فصلًا من الفصول. "وهذا السؤال متصل بالمندوب السامي الذي أٌقْصِيَ عن مصر منذ أيام: أَنَجَحَ هذا المندوب في مهمته التي أقام لها في مصر أعوامًا أربعة، أم قضى الله عليه بالفشل والإخفاق؟ "الق هذا السؤال على مَنْ شئت من المصريين, فسيجيبك في غير تردد ولا اضطراب إلّا أن يكون صحفيًّا تلزمه الضرورات أن يكتب فصلًا من الفصول, أو تضطره ظروفه السياسية الخاصة إلى أن يرى لنفسه رأيًا يؤمن به, وللناس رأيًا آخر يعيش منه، سيجيبك هذا المصري بأن المندوب السامي المنقول لم يظفر بقليل ولا كثير من النجاح. "فنجاح المندوب السامي في مصر ينظر إليه فيما يظهر من وجهين اثنين لا ثالث لهما، أحدهما مصري والآخر إنجليزي، فهو ينجح عند المصريين إذا استطاع أن يزيل ما بين مصر وإنجلترا من أسباب الخلاف والخصومة, ويقرِّب بينهما من آماد هذا الخلاف وهذه الخصومة، فيقضي على ما يثور في نفوس المصريين من عواطف السخط على الإنجليز, والتنكر لهم وسوء الظن بهم، أو يخفف من هذه العواطف لما يثير في النفوس بسيرته من أن الإنجليز ليسوا من الظلم والعسف، وليسوا من الاعتداء والطغيان؛ بحيث كان الناس يظنون, وإنما السلم والصلات التي تقوم على المودة والاحترام لا على القوة والبأس, ولا على هم أنصار العدل والداعون إليه، وحماة الإنصاف والحريصون عليه، وأصحاب البطش والعدوان"1. ويستمر في تحليل اتجهات الرأي العام المصري إزاء نبأ نقل المندوب السامي في مقابل تحليل اتجاهات رأي الإنجليز، لينتهي إلى دلالة تَنُمُّ عن قربه من الرأي العام المصري في ذلك الوقت: "فلم يبلغ سوء ظن المصريين بالإنجليز في يوم من الأيام ما بلغه الآن، لا نستثني من ذلك إلا أيام الثورة حين كانت الدماء تسفك, والنفوس تزهق بأيدي الإنجليز"2. على أن الاتجاه نحو القراء في المقال التحليلي عند طه حسين، يتميز بالتحليل   1، 2 كوب الشرق في 18 أغسطس 1933. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 والتقويم من حيث إن هذا المقال يذهب إلى أن يكون "توقعيًّا" و"تفسيريًّا" و"تعبيريًّا" في معظم الأحوال. والمقصود بالتحليل التوقعي: أن المقال ينظر إلى الأمام ليستكشف الدلالات المستقبلة، في ضوء الحركة العامَّة للأحداث، بحيث يوحي للقارئ بأنه ينطلق من "موضوع اليوم"1. أو "حديث المساء", كما يحب طه حسين أن يكون عنوان مقاله الثابت. والمقصود بالمقال التفسيري: أن التحليل يستقرئ الأنباء، "ويغوص في أعماقها"2 ليفسِّر المغزى أو الدلالة التي تكْمُن فيها. إن المقال التحليل بصفة خاصة, والمقال الصحفي بصفة عامة في أدب طه حسين، يتجه إلى ذهن القارئ أكثر مما يتجه نحو عواطفه، ذلك أن هذا النمط المقالي يسعى أساسًا إلى إرضاء رغبة القارئ في الإعلام3, وتقتضي هذه الرغبة بالضرورة أن يكون المقال "تعبيريًّا" يساعد القارئ على التفكير الأكثر وضوحًا في المسائل والمشكلات التي تقع في نطاق اهتمامه العام4. وقد سبق أن تعرَّفْنَا على إغناء الأسلوب الاستقرائي لحاجات التميز والوضوح في مقال طه حسين، الأمر الذي يتيح لمقاله اتصالًا ناجحًا بجمهور قرائه، يستحوذ على اهتمامهم، ويثير لديهم الرغبة في التفكير، ويتيح لهم إمكانية ذلك. وصفوة القول: إن الرؤيا المنهجية السليمة تتيح للمقال أن يتصل اتصالًا فعَّالًا بحوافز الاهتمام عند القراء. ذلك أن ترتيب الحقائق والوقائع والآراء والشواهد التي ينتظمها التحرير المقالي تنظِّمُ المادة المنتقاة تنظيمًا يؤكد النقاط التي يُعْنَى بها القارئ في حدود المقال الصحفي5 كما تبيَّن مما تَقَدَّمَ، ومن تنظيم المقال الرئيسي بصفة عامة. ومن ذلك على سبيل التمثيل أن طه حسين حين يعالج موضوع "افتتاح البرلمان" في عام 1947، والذي سبق "عيد الجهاد وعيد الهجرة"6، ويعرض لخطبة "العرش التي ألقاها رئيس الوزراء في البرلمان"7، يربط ذلك كله بالجوانب المحلية التي كانت تشغل القراء المصريين في ذلك العام، ذلك أن المواطنين في "أثناء هذا كله كانوا يموتون مئات، ويمرضون مئات، يتخطَّفَهُم هذا الموت الطارئ، ويصرعهم هذا الموت الطارئ، ومن حولهم ألوف وألوف   1، 2، 3 Georgf fo mott and others, New Survey of Journalism, p. 289-290. 4 المرجع السابق. 5 M. Lyle Spencer: op. cit., p. 91. 6، 7 البلاغ في 17 نوفمبر 1947. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 يتخطَّفهم الموت العادي الذي لا يحمله الوباء، ويصرعهم المرض العادي الذي لا يحمله الوباء أيضًا. وفي أثناء هذا كذلك ملايين من المواطنين تنعم بالجهل الذي يحجب عنها حقائق الحياة، فلا ترى ما هي فيه، ولا توازن بين حياتها وحياة غيرها من أبناء الأوطان الأخرى ... وكانت هذه الملايين في أثناء ذلك أيضًا تنعم بفقرها الذي يشغلها بالتماس القوت وإطعام العيال وكسوتهم، دون أن تجد ما تسعى إليه، ولكنه يشغلها على كل حال بذلك، عن التفكير في حياتها, والموازنة بينها وبين حياة غيرها من أبناء الأوطان الأخرى! "كان هذا كله يحدث في الصحف من يوم الأربعاء الثاني عشر من شهر نوفمبر, بينما كان رئيس الوزراء ينبئ البرلمان بما فعلت الحكومة وبما ستفعل، موفَّقَة في الماضي والمستقبل لإنقاذ الشعب من الموت والمرض، ومن الفقر والجهل، ولتمكين مصر الخالدة المجيدة من أن ترفع رأسها العظيم الكريم بين الأمم الراقية، التي لم تبلغ ما بلغت من المجد والفخار! "1. ومن ذلك يبين أن طه حسين حين يركِّز على القضايا المحلية التي تشغل الرأي العام, ويستخدم السخرية المرة من السياسيين المحترفين، إنما يصل قراءه بالقضايا المصرية الجادة الملحة، مثيرًا كل عوامل إثارة حوافظ الاهتمام عند هؤلاء القراء, بهدف التغيير السياسي الذي يطمح إليه المقال، ولذلك يستهلُّ مقاله بقوله: "لا يغضب المواطنون الأعزاء أن نشقَّ عليهم في القول, ونعنف بهم في الحديث, فقد يجب أن يقال الحق وإن لم يبلغ من نفوسهم موضع الرضا, وقد يجب أن يقال الحق وإن بلغ في نفوسهم موضع الغضب, وأثار في قلوبهم موجدة وغيظًا. والمواطنون الأعزَّاء قد تعوَّدوا أن يُكَالَ لهم المدح كيلًا, ويهال عليهم الثناء هيلًا، حتى رضوا عن أنفسهم أعظم الرضا، وسخطوا على غيرهم أشد السخط، وناموا ملء جفونهم والأحداث لا تنام، وعاشوا ساهين لاهين تتخطَّفهم النوائب وتعبث بهم الخطوب، فلا يغير ذلك من رأيهم في أنفسهم وحياتهم شيئًا؛ لأنهم قد ألفوا الرضا عن أنفسهم، والاطمئنان على حياتهم، فأصبح من أعسر العسر أن تخرجهم من هذا الرضا, أو تزعجهم عن هذا الاطمئنان.. ولا بُدَّ مع ذلك من أن يبصروا بحقائق الأمر، ومن أن يخرجوا من رضاهم, ويزعجوا عن اطمئنانهم، ويعلموا أنهم يعيشون أبغض العيش, ويحيون أبشع الحياة"2. وهكذا تلتقي خيوط الرؤيا الصحفية لاهتمامات القرّاء، كما تلتقي بالتقويم السياسي أو الاجتماعي والثقافي، فإذا كانت "الحياة الأدبية في مصر   1 المرجع نفسه. 2 المرجع نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 يشملها فتور مهلك"1, فإن الحياة السياسية والاجتماعية -كما يبين مما تقدَّم- يشملها فتور "مدن من الهلاك"2 ومواجهة الأمرين وإن تعددت في الأساليب، إلا أنها تلتقي في رؤيا صحفية شاملة تذهب إلى استخدام المقال الصحفي في إيقاظ القراء، كما ذهبت إلى استخدام المقال النقدي "إيقاظ النائمين بالعنف3، وهو لذلك قد يتوسَّل بالنزال أو الكاريكاتير أو التحليل الصحفي، تعمدًا لإيقاظ قوم نيام، قد طال عليهم النوم حتى كاد يشبه الموت"4. أو كما يلخص حالهم في المثل العربي القديم: "جوع وأحاديث"5 الذي اتخذه عنوانًا للمقال المتقدِّم, ويذهب إلى أنه "لم يوضع إلّا لهم، ولم يضرب إلّا فيهم، ولم يصوِّر إلا ما دأبوا عليه وتورطوا فيه، من كلام كثير لا يغني، وعمل قليل لا يفيد"6. وصفوة القول: إن فن المقال الصحفي في أدب طه حسين بأساليب تحريره المتنوعة، يرتبط باستراتيجية قومية لا تفصل بين أساليب التحرير ومضمون المقال، من خلال نموذج اتصالي بالجماهير, يتمثَّل فيه مكانه من قيادة الفكر في تكوين الرأي العام المصري، الأمر الذي يوجِّه مقاله الصحفي إلى النهوض بمهام التوجيه والإرشاد والتقويم والتثقيف والتنشئة الاجتماعية، وهو لذلك يُعْنَى بالاجتماع والسياسة والاقتصاد عنايته بالفن والثقافة جميعًا، بحيث يمكن القول: إن طه حسين قد انتقل بالمقال الصحفي المصري من مرحلته اللغوية الأولى، إلى حيث أصبح يمثل العقل الذي يفسر ويوازن ويحلل ويشرح، ولم يعد ذلك اللسان المتبرع بالمدح أو الذمِّ وفقًا للأهواء دون ما ضابط. والواقع أن المقال الصحفي أخذ يقترب كثيرًا من الخبر والتحقيق الصحفي من حيث الموضوعية والدراسة، فهو عند طه حسين يشتق موضوعاته من الحياة الواقعة، وكذلك يشتق لغته من نفس تلك الحياة الواقعة، ويكتب باللغة التي يفهمها أكبر عدد ممكن من الشعب على اختلاف أذواقهم أو أفهامهم أو بيئاتهم وثقافاتهم، وهذه اللغة هي اللغة القومية في مستواها العملي وليست صورتها العامية، لأنها تمتاز بالبساطة والوضوح والإيناس واللطف والرشاقة، وتنأى ما أمكن عن صفات التعالي على القرَّاء, والتقَعُّر أو الغرابة في الأسلوب, والمبالغة في التعمق الذي لا تقبله طبيعة الصحف بحالٍ ما، على نحو ما تمثله البلاغة الجديدة في الاتصال بالجماهير.   1، 2، 3 مجلة الثقافة في 3 يناير 1939, فصول في الأدب والنقد ص11. 4 المرجع السابق ص10. 5، 6 البلاغ في 17 نوفمبر 1947, بين ص148. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 ومن أجل ذلك وجدنا فنَّ المقال الصحفي في أدب طه حسين يقوم على الوضوح والدقة الاستقرائية والتشويق في صياغة المقال. الأمر الذي يجعله يقاوم إغراء الزوايا المحيطة بالنبأ أو الحدث، ليجيء مقاله مركَّز الفكرة، محدَّد الموضوع، واضح الهدف، بسيط التعبير، فينتقي من هذه الزوايا ما يخدم أهداف المقال، وما يرتبط ارتباطًا وثيقًا بقضيته، ونحن نعرف أن "الكاتب الذي حدَّدَ أهداف مقاله، ويتذكرها طوال تحريره، لن يستسلم لإغراء الهوامش، أو النقاط التي قد تذهب بالموضع بعيدًا عن قضيته الأساسية، والتي تكون في الغالب على حساب المراحل الأخرى في تحليل الموضوع وتحرير المقال، وهي مراحل قد تتساوى في الأهمية1". فوضوح الهدف على نحو ما تشير إليه دراسة الرؤيا الإبداعية في مقال طه حسين وتحديده يعصمان المقال من الاقتضاب المخلِّ, أو الغموض الذي يَضُرُّ بعملية الاتصاب بجمهور القارئين. ذلك أن المقال الأمثل هو الذي يعطي الحقائق في أسلوب بسيط ومباشر يؤثر الوضوح ويفضله في الاتصال بالقارئين2. وهو الأمر الذي يرتبط بالرؤيا الإبداعية في مقال طه حسين كما تَقَدَّم، حيث تنبع بنية المقال وأسلوب تحريره من رؤيا تحرص على الوضوح والتميز، في نسق استقرائي يحتفظ باهتمام القراء، ويفجر رغبتهم في المعرفة، ويضعهم في حالة "ترقب" مستمر لما يجيء "من بعد"، كما يفعل الكاتب القصصي, ويمكن أن نتصور هذا النسق الاستقرائي في نمطين من الأنماط التي يتألَّف منها المقال الصحفي، في أدب طه حسين:   1 M. Lyl Spencer, op. cit., p. 93. 2 George Fox Matt and others, op. cit., p. 241. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 الصفحة بها رسوم 1- النمط الأول: "أ" شواهد مستقاة من الأنباء والاحداث والوقائع تتعلق بالنبأ الجديد. "ب" استخلاص دلالات جديدة للنبأ عن طريق مواجهته بحالات خبرية مقابلة. 2- النمط الثاني: "أ" نبأ جديد محدد، أو حدث معين، أو شاهد موضح. "ب" استقراء للنبأ الجديد أو الافتراض الناشئ عنه من خلال حالات خبرية سابقة أو ملازمة أو متصلة الوجود ومقابلتها بالنبأ الجديد المحدد في قمة الهرم "أ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 ويبين من هذين النمطين بنية المقال الصحفي أن الكاتب قد يتوسّل بالهرم المقلوب أو بالهرم المعتدل في بنية المقال، على أن النمطين يتوسَّلان بأدوات التحليل الاستقرائي في تحرير المقال الصحفي بصفة عامة. ويمكن أن نستخلص سمات هذا التحليل في بناء مقال طه حسين فيما يلي: أولًا: الاهتمام بمحور المقال ومقدمته، ومدخله التمهيدي، ومظاهر هذا الاهتمام في مقال طه حسين تتلخَّص فيما يلي: 1- العناية بعنوان المقال: يتميِّز عنوان المقال الصحفي عند طه حسين بأنه عنوان "إعلامي" يشير إلى مضمون المقال، وأغلب الظن أن طه حسين قبل أن يشرع في إملاء المقال يكون قد تصوَّر عنوانه ومدخله وشواهده وخلاصته، ولذلك وجدنا هذا العنوان يرتبط ارتباطًا عضويًّا بمقدمة المقال، ومحوره وخلاصته، رغم أن هذا العنوان في كثير من الأحوال لا يتجاوز الكلمة الواحدة، ولذلك فإن قدرة طه حسين في انتقاء هذه الكلمة المعبِّرة الإعلامية ميزةٌ يمتاز بها بين الكثيرين من معاصريه، كما أن اتجاه العنوان إلى هذا التركيز الإعلامي يوحي بأن صلة القرَّاء بالكاتب كانت قد تمكَّنَت وتوثَّقت عراها، بحيث يخيل إلينا أن القارئ حين يقرأ عنوان المقال عند طه حسين يجد نفسه مشوقًا إلى معرفة الدلالات التي تكثفها هذه الكلمة الواحدة, التي تجمع في حروفها الدلالة العامة التي استخلصها من شواهده وأخباره واستقرائه، ونجد من ذلك على سبيل التمثيل للارتباط العضوي بين العنوان ومحور المقال ومقدمته، هذا العنوان: "مفاوضات1": "ليس موضوعها استقلال مصر، فقد انقضى ولو إلى حينٍ ذلك العهد الذي كانت تُعنى فيه الوزارات, أو تستطيع فيه الوزارات أن تُعنى بالمفاوضة في استقلال مصر, وأصبحنا والحمد لله في عهد سعيد تُشْغَل الوزارات فيه عن الاستقلال بما هو أجلّ من الاستقلال خطرًا، وأبلغ من الاستقلال تأثيرًا في حياة مصر، فإذا أتيح لها أن تفكر في الاستقلال واستكماله, فإنما تفكِّر في ذلك لتدخله في بيان من هذه البيانات التي تذاع يوم تؤلف الوزارات2". وهكذا يبين من الضمير في كلمة "موضوعها" أن الضمير عائد على عنوان   1، 2 كوكب الشرق في 19 أكتوبر 1933. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 المقال, أي: "مفاوضات بحيث لا يمكن الاستمرار في قراءة المقال دون التفكير في عنوانه، الذي يواصل الكاتب مدخله التمهيدي في إزالة ملابسات الدلالة لهذا اللفظ الذي ينتقيه، ليستخدمه بعد ذلك استخدامًا نزاليًّا، يصور انشغال الحكومة عن القضايا الأساسية التي يمكن أن يدل عليها عنوان المقال إلى قضايا يسلي هَمَّ المحزون. "فقد علمت الآن أنها "أي: المفاوضات" هذه التي تجري بين الوزارة، أو بين عضوين من أعضاء الوزارة، وبين حزب الشعب, ولهذه المفاوضات خصائص تمتاز بها من جميع المفاوضات التي سبقتها، ومن جميع المفاوضات التي قد تلحقها. "ومصدر هذه الخصائص إنما هو الظروف التي أسقطت وزيرًا وأقامت مكانه وزيرًا آخر, وأحدثت في حزب الشعب اضطرابًا أقلَّ ما يوصف به أنه يسلي هم المحزون. ومن ذلك يبين أن طه حسين يستخدم العنوان استخدامًا وظيفيًّا لخدمة وظائف المقال والدلالة عليها، ففي المثَلِ المتقدِّم تعرَّفْنَا على غرض نزالي، ذهب العنوان إلى تحقيقه، الأمر الذي يجعل للعنوان عند طه حسين شخصية متميزة، يوفر لها الكاتب عدة خصائص في مقدمتها: تركيز عبارات العنوان بحيث يجرده من جميع الألفاظ التي يمكن الاستغناء عنها؛ وقد رأينا كيف أن هذا التركيز يصل بالعنوان في كثير من الأحيان إلى كلمة واحدة؛ ومن العناوين التي اتخذت كلمة واحدة1. - خلاف2. - أزمة3. - معضلة4. - ثورة5.   1 من كُتَّابِنَا الكبار الذين تأثَّروا بمدرسة طه حسين في هذا النمط المقالي الأديب الكبير ثروت أباظة. 2 كوكب الشرق في 21 مارس 1933. 3 كوكب الشرق في 14 أبريل 1933. 4 كوكب الشرق في 21 أبريل 1933. 5 كوكب الشرق في 23 مايو 1933. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 كما نجد في بعض العناوين النزالية استخدام فعل الأمر في التعبير عن العنوان, والحكمة في ذلك هي أن يستميل القارئ ويشعره بأنه يعيش في جوِّ الموضوع الذي يتحدث عنه المقال, ومن ذلك: - تعالوا فانظروا بمن ابتلاني؟ الوزارة الإدارية1 أو استخدام الفعل المضارع في التعبير عن العنوان لنفس الغرض, مثل: - الناس يتحدثون: الوفد والوزارة2. كما يستخدم علامات التعجب لتوحي بالسخرية أو التعجب في خدمة أغراض النزل: - الوزارة تعمل! 3. ومن خصائص العنوان في مقاله طه حسين كذلك حرصه الشديد على أن تكون ألفاظه ملائمة بقدر المستطاع لغرضه وللطراز الذي جُمِعَ به, ومن ذلك: - بين العروبة.. والفرعونية4. والغرض من ذلك هو تركيز عبارات العنوان, وتوفير الحيز الذي يمكن استغلاله في تحليل دلالات الموضوع، التي توحي إليها الكلمة المركزة أكثر من غيرها. ونخلص من ذلك إلى أن عنوان المقال عند طه حسين يشير إلى الارتباط العضوي بين العنوان وموضوع المقال الذي يعبِّرُ عنه، بل إن هذا الارتباط في كثير من الأحيان ارتباط لفظي، كما تبين من استخدام الضمير في النموذج المتقدِّم، وكما يبين من الارتباط بين هذا العنوان ومقدمة الموضوع. - تجربة 5 ... "ليس في نجاحها "أي: التجربة" شك ولا ريب، فيجب أن تستغلَّ، وأن تستغل إلى أقصاها! وهي هذه التجربة التي عمد إليها رئيس الوزراء ليتبيَّن ويتبيَّن الذين يؤيدونه، أيمكن أن تجري الأمور في مصر على وجه من الوجوه دون أن تكون فيها وزارة قائمة! ".. إلخ.   1 السياسة في أول ديسمبر 1922. 2 السياسة في 19 يناير. 3 السياسة في 29 ديسمبر 1922. 4 الجمهورية في 2 ديسمبر 1961. 5 كوكب الشرق في 14 مايو 1933. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 كما أن عنوان المقال عند طه حسين يشير صراحةً إلى قدرته على سبر الأسرار اللغوية العربية واستخدامها بما يخدم أغراض المقال، ويؤدي وظائف العنوان، ومن ذلك ما يشير إلى حصيلته اللغوية واستخدام أسرارها استخدامًا وظيفيًّا هذا العنوان: "رمتني بدائها وانسلت1. ويرتبط هذا العنوان كذلك بمقدمة المقال ارتباطًا عضويًّا, يقول: والتي رمتني بِدَائِهَا هي إذاعة دمشق والطائفة الطاغية الباغية التي تدير أمرها, وتوجه أحاديثها, وتفرض عليها في كل لحظة أن تغيّر حقائق الأشياء, وأن تتكلف الكذب على السوريين وغير السوريين في غير تحفُّظٍ ولا تحرُّج ولا استحياء. وداؤها الذي رمتني به هو أني لم أكتب المقال الذي نشرته الجمهورية صباح السبت الماضي من تلقاء نفسي, ولا من وحي ضميري, ولا من تفكير عقلي, وإنما أُمْلِيَ عليّ ذلك المقال فحفظته عن ظهر قلب, وأمليته كما تلقيته, وأرسلته إلى الجمهورية فنشرته كما تلقته مني2".. إلخ. "جوع وأحاديث3". كما يستخدم كلمة "بطر..! 4" عنوان المقال يردُّ فيه على مزاعم الانفصال السوري عن الوحدة. ويستخدم كلمتي: "التبعة الكبرى5" عنوانًا لمقال يحمِّل المتمردين في سوريا تبعات الانفصال كما تقدم، وما ترتَّب عنها من تحرُّش إسرائل, وتحويل مجرى الأردن. كما يستخدم عنوان: "السياسة السلبية6" للدلالة على سياسة الوزارة النسيمية. وكما أفاد أسلوب طه حسين من ثقافته الأوربية إلى جانب الثقافة العربية، فأضفى عليه مزاجًا خاصًّا؛ فيه من لغة العرب البيان والإشراق واللمح، وفيه من الفرنسية الوضوح والإبانة والدقة، يمكن القول كذلك أن عنوان مقاله قد أفاد من هذا المزاج ومن هذه السمات.   1 الجمهورية في 14 أكتوبر 1961. 2 الجمهورية في 14 أكتوبر 1961. 3 البلاغ في 17 نوفمبر 1947. 4 الجمهورية في 21 أكتوبر 1961. 5 الجمهورية في 18 أكتوبر 1961. 6 السياسة في ديسمبر 1922. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 ولذلك نجده في بعض الأحيان يستعير "عنوانًا" من كاتب فرنسي معروف, جعله عنوانًا لمقال له في صحيفة فرنسية1، كما نجد في عنوان: - "رسل البغضاء2". الذي استعاره من صيحفة "الفيجارو". وهذا المقال يصور أروع تصوير وأبرعه نفوس المحافظين من أنصار الاستعمار، وعقولهم وضمائرهم وقلوبهم أيضًا3. وإذا كان المازني قد أخذ على أسلوب طه حسين كثرة العطف حيث لا مقتضى هناك للكثرة، وكثرة التكرار للألفاظ, والترديد للعبارات, فقد رأينا أن هذا التكرار محمود صحفيًّا؛ لأنه يؤدي وظائف صحفية، وهو الأمر الذي يمتاز به مقال طه حسين في استخدام "العطف" كذلك في عنوان المقال، كان يكتب عنوانًا يقول: - "والآن ... 5". - "ثم ... 6". وفي هذا المقال تبدأ المقدمة بقوله: "نعم ثم، كلمة تتردد في جميع الأفواه, وتنفتح عنها جميع الشفاه، وتضطرب في كل قلب، وترتسم في كل عقل، وتفرض نفسها على كل ضمير، منذ ختم صدقي باشا، أو ختمت أعمال صدقي باشا, أو ختمت الظروف القاهرة لصدقي باشا حياته اليائسة "مساء الخميس". ومن ذلك يبين كيف منح طه حسين لهذا اللفظ مدلولًا سياسيًّا. ويتسم عنوان المقال عند طه حسين كذلك بحاسَّته المتميزة في بناء الجملة التي يشتمل عليها العنوان أو انتقاء الألفاظ بحيث لا تحتمل غموضًا أو إبهامًا، ومن ذلك: - "وقوف وصمت7" - "وزارة بلا برنامج8" - "إن الله مع الصابرين.. أهذا هو برنامج 10 الوزارة؟ " - "حديث وتصحيح, أو تورط كامسترو9"   1، 2، 3 الجمهورية في 2 سبتمبر 1960. 4 المازني, مرجع سبق. 5 كوكب الشرق في 6 سبتمبر 1933. 6 كوكب الشرق في 23 سبتمبر 1933. 7 السياسة في 28 نوفمبر 1922. 8 السياسة في 3 ديسمبر 1922. 9 السياسة في 4 ديسمبر 1922. 10 السياسة في 8 ديسمبر 1922. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 - "سياسة المعاذير1" - "البرنامج المرن - لوزان2" - "بم يخفق البرق3" - "خوف ومكر4" - "الوحي مشفق5" - "لا تفروا!! 6" - "إذن فقد استقالوا7" - "تكلّم نسيم! 8" وكثيرًا ما يكون للعنوان في مقال طه حسين بحد ذاته قيمة حقيقة في التحرير؛ إذ يمكنه أن يعبر عن الرأي الوارد في المقال الصحفي بأكلمه, أو يمهِّد الطريق إليه. على أنه يقتصر في بعض الأحيان الأخرى على أن يكون مجرد دافع أو حافز للانتباه. ومن ذلك يبين أن العنوان عند طه حسين؛ سواء أكان جملة أم كلمة واحدة فأكثر، يعتبر وحدة لغوية قائمة بذاتها، ولكنه لا يتعارض مع مبدأ تجريد العبارة أو الجملة أو الوحدات اللغوية التي يتألف منها العنوان من جميع الألفاظ التي يمكن الاتسغناء عنها، بحيث يجيء العنوان في نهاية الأمر مرتبطًا بمضمون المقال ارتباطًا عضويًّا، موحيًا بما فيه. 2- التقديم للمقال بالدلالة العامة المستخلصة في التمهيد لمحور الموضع: كما يبين من النمط الأول في بناء المقال, والذي يتخذ شكل الهرم المقلوب المستَخْدَم في القصة الخبرية، بمعنى: أن الكاتب يأتي بالفكرة الرئيسية, أو الدلالة العامة المستخلَصَة من استقرائه في صدر المقال، ثم ينتقل بعد ذلك إلى مقابلة   1 السياسة في 11 ديسمبر 1922. 2 السياسة في 12 ديسمبر 1922. 3 السياسة في أول يناير 1923. 4 السياسة في 9 يناير 1933. 5 السياسة في 11 فبراير 1923. 6 السياسة في 11 فبراير 1923. 7 السياسة في 11 فبراير 1923. 8 السياسة في 27 مايو 1923. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 الحدث الجديد بحالات خبرية سابقة أو ملازمة أو متصلة الوجود على النحو المتقدِّم, وفي هذا النمط المقالي عند طه حسين يبين الأثر الصحفي المستفاد من قالب القصة الخبرية، على أننا نرجِّح أن اتجاهه إلى هذا النمط إنما هو أثر من آثار الأسلوب الاستقرائي الديكارتي في التحليل، وفي هذا النمط المقالي نجد أن صدر المقال يشتمل على أهم النقط الرئيسية المستخلصة من الدلالة الجديدة لموضوع المقال، كما أن هذه الدلالة الجديدة ترتبط ارتباطًا عضويًّا بعنوان المقال كما تَقَدَّمَ، ومن ذلك أيضًا مقال بعنوان: - "مضاربة ... 1" يقول في مقدمته: "يظهر أنها قوام سياستنا الرسمية في هذه الأيام، ليست مقصورة على القطن، وإنما تتجاوزه إلى غيره من المصالح العامة التي تعنى بها الوزارة, أو تشتغل بها الأحزاب المؤتلفة حول الحكم. فلم يكن صدقي باشا إلّا مضاربًا حين أنذر بالاستقالة من الحكم، وحين أقدم عليها. كان يرجو أن يربح فلم يظفر إلا بالخزان، ولم يكن صدقي باشا إلّا مضاربًا حين فَصَلَ من الحزب مَنْ فصل؛ ثم سحب قراره سحبًا، وارتاح لعودة المفصولين, وطلب إلى حزبه أن يرتاح. "ولم يكن رئيس الوزراء إلا مضاربًا حين استقال من حزب الشعب، كان يقدِّر أنه سيضعف حزب الشعب أو سيضعف خصمه صدقي باشا رئيس حزب الشعب، فلم يبلغ مما كان يقدر شيئًا، لأن حزب الشعب لم يكن قويًّا فيضعف، ولأن صدقي باشا لم يستمد قوته في يوم من الأيام من حزب الشعب2". وهكذا ينتقل من الدلالة العامة المستخلصة من الأحداث، إلى مناقشة الأحداث الملازمة والمتصلة الوجود بالحالة السياسية, والتي يستخلص منها هذه الدلالة التي طرحها في مقدمة المقال، ذلك أن "كل شيء يأتيه هؤلاء الناس الآن مضاربة تقوم على حب الخطر والمجازفة، وعلى اللعب بما في اليد من الورق، فقد يربح اللاعب، وقد يخسر, وما دام الربح ممكنًا فلا ينبغي التقصير في طلبه والسعي إليه3". "ثم يختم المقال بنتيجةٍ تتفق مع الدلالة التي استخلصها في مقدمة المقال:   1، 2 كوكب الشرق في 14 نوفمبر 1933. 3 المرجع نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 "ما أعرف أن مصر احتاجت في يوم من الأيام إلى أن يطهر جوها السياسي كما تحتاج إلى ذلك في هذه الأيام1". 3- أما النمط الثاني في بنية المقال الصحفي عند طه حسين فهو نمط الهرم المعتدل: ذلك أن الفكرة النهائية أو الخلاصة أو الدلالة العامة المستخلصة تأتي في النهاية, وأما الشواهد والحالات الخبرية فتكون قبل ذلك، على أن قمَّة هذا الهرم تبدأ بحدث محَدَّد أو مثال معين؛ أو شاهد موضح، تتم مقابلته في صلب المقال بحالات خبرية سابقة أو ملازمة أو متصلة الوجود، من خلال الأسلوب الاستقرائي في العرض والتحليل والمقابلة، حتى ينتهي المقال عند قاعدة الهرم المعتدل بالدلالة الجديدة المستخلصة من هذا الاستقراء، داخل سياق حركة الأحداث, كما سبق أن عرضنا لنماذج من هذا النمط عند الحديث عن المقال التحليل. ونكتفي في هذا الصدد بنموذج واحد من مقالات طه حسين التي توسَّلت بهذا النمط في بنية المقال، ونعني مقال: "غموض ... 2"، والذي يبدؤه بحدث محدد يصدر به مقدمة المقال: "كان الناس يتهامسون في الأسبوع الماضي بأن شيئًا جديدًا قد طرأ في مسألة الدَّيْنِ وأداء فوائده ذهبًا أو ورقًا؟ وكانوا يتهامسون بألوان من الأحاديث في تفسير هذا الشيء الطارئ, وأشرنا نحن إلى هذا كله حين أخذنا الوزارة القائمة بالمواقف المريبة التي تقفها بإزاء المفاوضات والامتيازات والدَّيْن. ولم نرد أن نبسط القول، فقد زعموا أن من الحق على الصحف إذا عرضت لبعض المسائل السياسية الخارجية أن تصطنع الدقة وتحرص على الاحتياط، وألا تقول كل ما تعلم حتى لا تخرج الذين يشتغلون بهذه السياسة الخارجية, ولا تثير من المشكلات ما لا خير في أن يثار, لذلك لمَّحنا ولم نصرِّح, وأجملنا ولم نفصِّل, وقدرنا أن في هذا التلميح ما يكفي. "ولكن يظهر أن الأهرام تريد أن تخطو خطوة أوسع من خطوتنا نحن، فهي تلمِّح أيضًا ولكن تلميحها أقرب إلى التصريح, وهي تجمل ولكن إجمالها أدنى إلى التفصيل, وهي تحدثنا صباح اليوم بأن مسألة الدَّيْنِ قد طرأ عليها تعقيد   1 المرجع نفسه. 2 كوكب الشرق في 12 أبريل 1933. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 سياسي له قيمته وخطره، فالظاهر أن المندوب السامي قد ذهب إلى لندرة ليقنع حكومته بمعونة مصر في أن تدفع ذهبًا". ومن ذلك يبين أن صدر المقال يركِّز على حدث سياسي معين، يتخذ منه موضوع مقاله الصحفي، ثم يناقشه على النحو الذي تحدثنا عنه فيما تقدَّم، مناقشة استقرائية يخلص منها إلى دلالة عامة في خلاصة المقال, وبوسعنا أن نسمي صدر المقال تأسيسًا على ذلك "بوحدة الإعلام" في بنية المقال الصحفي. ثانيًا: التعريف بالموضوع ويمثّل هذا الجزء من المقال الصحفي العروة الوثقى التي يصل بها طه حسين مقدمة الموضوع بصلبه، والتمهيد لقارئه، حتى يستمرَّ في قراءة التفاصيل التي تؤيد فكرة الموضوع بعد ذلك، والآراء التي يوحي بها النبأ الأساسي, وفي بعض الأحيان يشرح المقال الصحفي الأسباب التي تولدت عنها هذه الآراء. وبوسعنا أن نسمي هذا الجزء بوحدة "رد الفعل" في المقال الصحفي التي تمهد للوحدة الثالثة, وهي الوحدة المحورية أو "وحدة المناقشة". ويتوسَّل طه حسين في بناء هذه الوحدة: وحدة رد الفعل، بوسيلتين: 1- وسيلة الضرب المتكرر على وتَرِ الاهتمام عن طريق التعبير المتنوع غير الممل: وقد سبق أن تعرَّفْنَا على خاصية التكرار في أسلوب طه حسين، واستخدامها استخدامًا وظيفيًّا يخدم وظائف المقال الصحفي، على أن من مظاهر هذا الاستخدام الوظيفي كذلك أن وحدة رد الفعل في مقاله، تتجه في معظم الأحوال إلى التأكيد من خلال أسلوب مشوِّق على الفكرة المحورية التي يهتم بها المقال، ومن أمثلة ذلك التكرار الوظيفي في مقال بعنوان: "أزمة2" بقوله: "ليست هي الأزمة الاقتصادية, فالناس جميعًا يلقون من شرِّها ونكرها ما يطاق وما لا يطاق، والناس جميعًا يتحدثون عنها بالمعقول وغير المعقول، والناس جميعًا يتمنَّون لها حلًّا, ويعجزون عن هذا الحل، لأن الذين إليهم الأمر لا يعملون ولا يخلون بين غيرهم وبين العمل. "وليست هي الأزمة الوزارية, فقد فتح باب هذه الأزمة مرات ثم أغلق، وانتهى الأمر إلى ما عرفت من ترقيع إِثْرَ ترقيع. وما زال باب الأزمة الوزارية مغلقًا منذ الترقيع الأخير، وإن كانت الحوادث والأحداث تقرع هذا الباب منذ   1 كوكب الشرق في 12 أبريل 1933. 2 كوكب الشرق في 14 أبريل 1933. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 حين مُلِحَّةً عنيفةً، وتوشك أن تنتهي إلى فتحه؛ لأن الشاعر القديم لم يكذب حين قال: أخلق لذي الصبر أن يحظى بحاجته ... ومدمن القرع للأبواب أن يلجأ "والحوادث والأحداث محتاجة إلى أزمة وزارية ملحة فيها، وهي ظافرة بها من غير شك، ولعل ظفرها أن يكون قريبًا, أقرب مما يظن المسلطون على مصر في هذه الأيام. فلا أريد إذن أن أتحدث إليك عن الأزمة الاقتصادية، ولا عن الأزمة الوزارية، لأني لا أريد أن أحزنك، ولأني لا أريد أن أعلِّلُكَ بالأماني والآمال, وإنما أريد أن أحدثك عن الأزمة البرلمانية، لأني أريد أن ألهيك بعض التلهية، وأسليك بعض التسلية، وأصرفك بعض الوقت عَمَّا أنت فيه من التفكير في السياسة والاقتصاد1" ... إلخ. 2- وسيلة التناقض، وعرض وجهة النظر المضادة أو المتناقضة، أو رأي مؤيد لهذه الوجهة المضادة: والاستيثاق من أضعف الجوانب في هذه الوجهة، ثم ما يلبث طه حسين أن يأخذ بتلابيب هذا الجانب ويظل في تحليله, ومجاراة منطقة في اشتقاق النتائج حتى يظهر كل ما يحمله هذا العنصر من الضعف من الحاجة إلى التقويم, ومن ذلك في "حديث المساء" مقال بعنوان: "جهاد ... 2" يقول فيه: "جهاد علمائنا في سبيل الله معروف، وذَوْدُ علمائنا عن حقِّ الله معروف، وبلاء علمائنا في ذات الله لا غبار عليه؛ وآية ذلك أن كلمة الإسلام هي العليا، لا في مصر وحدها، ولا في الشرق الإسلامي وحده، بل في البلاد التي تسود فيها الديانات الأخرى أيضًا. "لا يستطيع أحد أن يعرض للإسلام بسوء، فهو إن قال في الإسلام ما لا يحب المسلمون نهض له علماء الإسلام من أهل الأزهر، فما زالوا به يحاجونه ويجادلونه ويناضلونه، حتى يلزموه الحجة، ويفحموه ويضطروه إلى الإذعان وإلقاء السلاح. ومن عَرَّضَ للإسلام بعمل قليل أو كثير ينافي أصوله، أو يناقض قواعده، نهض له العلماء من أهل الأزهر، فردوه ردًّا، وصدوه صدًّا، واستعدوا عليه سلطان الدولة، وأجلبوا عليه خيل الدولة ورجلها، حتى يتوب ويثوب، أو ينزل به ما هو أهلٌ له من العقاب"3. ويستمر بهذا المنطق الساخر في تبيان تناقض مواقف رجال الأزهر مع الرسالة التي ينبغي أن يقوموا بها في أثناء الوزارة الصدقية:   1 المرجع السابق. 2 كوكب الشرق في 30 مايو 1933. 3 كوكب الشرق في 30 مايو 1933. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 "أنظر إليهم وقد اجتمع مجلس الشيوخ أمس، فكان مما نظر فيه أمرًا من الأمور، للدين فيه حكم قاطع ورأي ساطع، ومذهب واضح لا سبيل إلى النزاع فيه، وكان القانون الذي عُرِضَ على مجلس الشيوخ أمس؛ يريد أن ينحرف بعض الشيء عن حكم الدين, ويميل إلى أن يَزْوَّرَّ بعض الشيء عن حجة الصواب، فلما عُرِفَ أمرُ هذا القانون بين علماء الإسلام، قاضوا به، وتنكَّروا له، واجتمعوا أفواجًا يزورون شيخهم الأكبر، ملحين عليه أن يجرد عزمه، وينضي همه، ويذهب إلى مجلس الشيوخ حتى إذا عرض هذا القانون، أرسل على الشيوخ والوزراء من لسانه الغضِّ، وبيانه العذب، صواعق النذير والتحذير, حتى يسترد الوزراء قانونهم، أو يرفضه الشيوخ. وكانت أفواج العلماء قد كلفت نفسها هذا العناء في غير غناء، فما كان الشيخ أيده الله في حاجة إلى التنبيه، وما كان الشيخ أيده الله في حاجة إلى التذكير، وهل ينفق الشيخ بياض يومه وسواد ليله إلا ساهرًا ناظرًا, ومراقبًا محاسبًا يبحث شكوك الشاكين، وريب المرتابين، وكيد الكائدين, ومكر الماكرين, فيردَّ سهام هؤلاء جميعًا في نحورهم؛ ويحمي الإسلام من شرورهم! فكان أعزَّه الله وأصلح باله, لا يستقبل وفدًا من وفود العلماء, ولا يلقى فوجًا من أفواجهم إلا قال: "بارك الله فيكم، لقد نبهتم غير غافل, وأيقظتم غير نائم، فارجعوا مأجورين مشكورين موفورين!! "1. ثم ينتقل من هذا العرض لوجهة النظر الأخرى إلى تبيان المفارقة بين العناصر المتباعدة في الواقع، على النحو الذي ذهب إليه في المقال الكاريكاتيري: "حتى إذا كان مساء أمس، أقبل الشيخ ومن حوله زملاؤه العلماء الذين يشتركون في أعمال مجلس الشيوخ، وفي وجوههم سماحة الإيمان، وعلى وجوههم شدة الغضب للحقِّ، فلما دخلوا المجلس نظر إليهم الأعضاء من غير العلماء، امتلأت قلوبهم حبًّا ورعبًا! ثم عُرِضَ القانون, فما هي إلّا أن يهمَّ الشيخ بالكلام، حتى ينهض وزير الحقانية مضطربًا حيران، كأنما أخذه دوار، فيعلن في صوت متهدِّج من الخوف، أنه يرى على وجه الشيخ وأصحابه أبقاهم الله ذخرًا للإسلام، وعزًّا للمسلمين، إنكارًا لهذا القانون، فهو يسترده معتذرًا من تقديمه، واعدًا أن لا يعود إلى مثله، مستعطفًا للشيخ وأصحابه، فيغضي الشيخ في تواضع وعزة ورضى ويصفق الأعضاء، ويكفي الله المؤمنين القتال، فلا نزال ولا نضال، بل انتقال إلى جدول الأعمال!!. "كذلك تحدَّثت شهر زاد، ولكن الصباح لم يلبث أن لاح، فسكت عن الكلام المباح! وخرج الناس من بيوتهم مع الشمس، فاشتروا ما تعودوا أن يشتروه من الصحف، وقرأوا أخبار مجلس الشيوخ، فقرأوا شرًّا، ورأوا نكرًا،   1 المرجع نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 ووجدوا في الأهرام خلافًا لما تحدثت به شهر زاد! وجدوا أن الشيخ الأكبر أعزَّه الله وأبقاه تخلَّف عن المجلس مساء أمس، وأن الناس فسَّروا تخلفه بأنه أراد ألا يشترك في إقرار هذا القانون، ووجدوا في الأهرام أن تفسير الناس لغيبة الشيخ لم يكن فيما يظهر خطأ، فقد أيده خروج عالمين من علماء الدين، أحدهما مفتي الديار المصرية، من المجلس حين عُرِضَ هذا القانون, وأيده عالم ثالث من علماء الدين، وهو من كبار العلماء لم يخرج، ولكنه أعلن أنه لا يوافق على القانون. "أما الأعضاء الآخرون من غير العلماء, فقد وافقوا على هذا القانون بالإجماع, وأما وزير الحقَّانية فقد خرج ظافرًا بقانونه الذي أقرَّه المجلسان, كذلك قالت الأهرام صباح اليوم، أما الشعب فسكت عن غيبة الشيخ الأكبر, وعن خروج المفتي الأكبر وصاحبه، وذكرت مخالفة الشيخ الذي لم يغب ولم ينسحب. "وقرأ الناس هذا كله، فحاروا وداروا، أيصدقون شهرزاد؟ وإذن فيجب أن تُحَاكَمَ الأهرام؛ لأنها أهانت علماء الإسلام، وأضافت إلى شيوخ الدولة ووزرائها ما لم يفعلوا ولم يقولوا؟ أم يصدقون الأهرام؟ وإذن فيجب أن تحاكم شهرزاد؛ لأنها تخيِّلُ للناس غير الحق، وتصوِّر لهم أن علماءهم ورجال دينهم يؤدون واجبهم للدين على أحسن وجه, ويؤدون واجبهم للرأي على أحسن وجه، ولا ينسحبون، وإنما يحضرون ثم ينكرون ثم يظفرون، كذلك تصوِّر شهرزاد للمسلمين أمر علماء المسلمين، فتملأ قلوبهم ثقة وأملًا واطمئنانًا, حتى إذا أصبح الصباح، وأضاء بنوره ولاح، جاءت الأهرام بغير هذا الكلام، فخابت الآمال، وساءت الحال، وتبدَّل الناس من ثقتهم شكًّا, ومن طمأنينتهم خوفًا، ومن أملهم يأسًا!. "يجب أن تحاكم شهرزاد، ولكن أين شهرزاد؟ إنها تضرب في البلاد، ولعلها الآن في بغداد، أو في إرم ذات العماد، تلك التي شادتها عاد! "1. ثم ينتقل بعد ذلك إلى مناقشة القانون "الذي غاب له شيخ، وانسحب له شيخان، وأبى أن يوافق عليه شيخ رابع"2. ومن نماذج استخدام التضاد أو المفارقة في المقال الصحفي، مقال بعنوان: "خلاف"3 يقول فيه: "نعم خلاف في ظل الائتلاف، وشِقَاقٌ تحت جناح الوفاق، وخصام في   1، 2 المرجع نفسه. 3 كوكب الشرق في 21 مارس 1933. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 أحضان السلام، ولم لا؟ وأين وجدت الأخوة الذين لا يختلفون، ومتى رأيت الأشقاء الذين لا يختصمون، وإنما الحياة سبيل إلى اتفاق الرأي حينًا، واختلافه أحيانًا، ولا سيما حين تكثر المغريات، وحين تتيح الحظوظ للأصدقاء الأصفياء أن يقوى بعضهم, ويضعف بعضهم الآن, وأن يعز منهم فريق, وأن تمتلئ أيدي جماعة منهم بالخير، وتصفر أيدي جماعة أخرى من كل شيء, والأحزاب المؤتلفة في الحكم إنما تتألَّف من أفراد؛ فيهم فضائل الناس ونقائصهم, فهم يتفقون على المصالح العامة التي لا تضر أشخاصهم، وهم يختلفون عند المصالح الخاصة التي يمكن أن يفيدوا منها مالًا وجاهًا قليلًا أو كثيرًا.."1. ثالثًا: الوحدة المحورية - وحدة المناقشة وهي التي تمثِّل صلب المقال الصحفي، حيث تقوم على استقراء الشواهد والأحداث الخبرية، ومقابلتها بالفِكَرِ المحورية المستقاة من النبأ الجديد، بهدف استخلاص دلالات جديدة منها, ويتوسَّل طه حسين في بناء هذه الوحدة المحورية بوسيلتين هما: 1- استخدام الأمثلة والشواهد, وقد عرضنا لهذه الوسيلة عند الحديث عن المقال الرئيسي. 2- استخدام المقارنة أو المقابلة بهدف استخلاص دلالات جديدة في ضوء الحركة العامة للأحداث من خلال أسلوب استقرائي في التحليل، كما سبق تفصيل ذلك عند الحديث عن المقال التحليلي. رابعًا: الدلالة أو الخلاصة وهذه هي الوحدة الأخيرة في بنية المقال, ويتوصَّل الكاتب إلى استخلاصها عن طريق: 1- المقارنة أو المقابلة بالأحداث الخبرية المماثلة. 2- المقابلة بالأحداث الخبرية الأخرى التي قد تكون متماثلة أو غير متماثلة، ولكن هذه المقابلة تتم في إطار الحركة العامة للأحداث. ونخلص مما تقدَّمَ إلى أن المقال الصحفي عند طه حسين بأشكاله المتنوعة, والتي عرضنا لها في هذا البحث، يتسم في تحريره بطابع الأسلوب الاستقرائي، الذي يتوسَّلُ به طه حسين في أداء الوظائف الصحفية للمقال، واستثارة الاهتمام بالأفكار التي يتضمَّنُها موضوعه وأسلوبه في عرض تلك الأفكار، فهو يستخدم لغة صحفية تتسم بالوضوح والتميز، ويتوخَّى بلهجة المرجع الثقة، وبذلك يعمل على التخفيف من رد الفعل الناجم عن التسرع,   1 المرجع نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 واللامبالاة أحيانًا، لأن الأسلوب الاستقرائي ييسر سلامة التحليل وصحته، كما يحمل أسلوبه الخاص بمقتطفات مناسبة في مطالعاته, يتمثَّلها في أسلوبه؛ بحيث ترتبط بالبنية العامة للمقال ارتباطًا وثيقًا، ويتصوَّر بنية مقاله في ذهنه قبل الشروع في إملائه، وغالبًا تأتي البنية على شكل قطعة من النثر الحديث, تَتَّسِمُ بالرشاقة والحيوية والمتانة والمعرفة والأصالة. والواقع أن الأشكال المتنوعة للمقال الصحفي في أدب طه حسين قد نبعت وتشكَّلت من تصور طه حسين لوظائف المقال الصحفي: تفسير الأنباء، وتوجيه الرأي العام، والقيام بالحملات النزالية لمساندة القضايا الخيرة كما رآها، في ضوء الاستراتيجية القومية، وما تتضمنه من وسائل وغايات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 مراجع البحث : أولًا: المراجع العربية والمترجمة: إبراهيم إمام "دكتور": فن المقال الصحفي في الأدب الإنجليزي "رسالة دكتوراه", القاهرة 1955. تطور الصحافة الإنجليزية, القاهرة 1956. العلاقات العامة والمجتمع, القاهرة 1957. فن الإخراج الصحفي, القاهرة 1957. الإعلام والاتصال بالجماهير, القاهرة 1969. دراسات في الفن الصحفي, القاهرة 1972. إبراهيم عبده "دكتور": أعلام الصحافة المصرية, القاهرة 1948. تطور الصحافة المصرية, القاهرة 1951. إبراهيم عبد القادر المازني: قبض الريح, القاهرة 1927. إبراهيم اليازجي: لغة الجرائد "وهي المقالات التي نُشِرَت تباعًا في مجلة الضياء", القاهرة د. ت. أحمد أمين: زعماء الإصلاح في العصر الحديث, القاهرة 1948. أحمد بهاء الدين: فاروق ملكًا 1936-1952, القاهرة 1952. أحمد خاكي: قاسم أمين, القاهرة 1944. أحمد الشايب: الأسلوب, القاهرة 1963. أحمد شفيق "باشا": مذكراتي في نصف قرن ج2, القاهرة 1936. أحمد لطفي السيد: المنتخبات ج1, القاهرة 1945. المنتخبات ج2, القاهرة 1945. تأمُّلات في السياسة والأدب والاجتماع, القاهرة 1946. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 أشرف علي: "الدكتور محمد حسين هيكل", القاهرة 1958. قصة حياتي - كتاب الهلال, القاهرة 1962. آدمس "تشارلز": "ترجمة عباس محمود", الإسلام والتجديد في مصر "جزآن", القاهرة 1926. أدموند كوبلنتز "تحرير": "ترجمة أنيس صايغ", فن الصحافة, بيروت 1958. ألبرت حوراني: "ترجمة كريم عزقول", الفكر العربي في عصر النهضة, بيروت 1968. أميل بوافا: "ترجمة محمد إسماعيل محمد", تاريخ الصحافة, الألف كتاب, القاهرة 1957. أمين الخولي: فن القول, القاهرة 1947. أندريه جيد: "ترجمة - روايات الهلال", الباب الضيق، العدد 229. أندريه كرسون: "ترجمة الدكتور حسن سعفان", ديكارت، الألف كتاب, القاهرة 1961. توفيق الطويل "دكتور": أسس الفلسفة, القاهرة 1954. ثروت أباظة: ذكريات مع طه حسين. الجاحظ "أبو عثمان عمرو بن بحر": البيان والتبيين, تحقيق وشرح عبد السلام هارون, القاهرة 48، 1950. جلال الدين الحمامصي: معركة نزاهة الحكم, القاهرة 1957. هذه هي صحافتنا بين الأمس واليوم, القاهرة 1957. بين الخبر والموضوع الصحفي, القاهرة 1965. الصحيفة المثالية, القاهرة 1971. جوستاف لانسون: "ترجمة الدكتور محمود قاسم": تاريخ الأدب الفرنسي- ج -, القاهرة 1962. جورج فيل: "ترجمه ولخصه: إدجار موصلي, وحسن سلومة", الجريدة, الألف كتاب, القاهرة 1957. حافظ عفيفي "دكتور": على هامش السياسة, بعض مسائلنا القومية, القاهرة 1938. حافظ محمود: المعارك في الصحافة والسياسة والفكر, القاهرة 1969. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 حسين فوزي النجار "دكتور": لطفي السيد والشخصية المصرية, القاهرة 1963. أحمد لطفي السيد, أعلام العرب, القاهرة 1965. الجريدة: تاريخ وفن, القاهرة 1957. حسين المرصفي: الكلم الثمان, القاهرة 1869. خيري شلبي: "تحقيق وتعليق": محاكمة طه حسين, بيروت 1972. دار الهلال: طه حسين كما يعرفه كُتَّاب عصره, القاهرة 1966. دافيد بوتر: "ترجمة مصطفى غنيم", مخبرو الصحف, القاهرة 1966. زكريا إبراهيم "دكتور": سيكولوجية الفكاهة والضحك, مشكلات فلسفية د. ت. زكي مبارك "دكتور": النثر الفني في القرن الرابع, القاهرة 1934. زكي نجيب محمود "دكتور": جنة العبيط, أو أدب المقالة, القاهرة 1947. سامي الكيالي: مع طه حسين, سلسلة اقرأ "جزآن"، دار المعارف. ستانلي جونسون وجليان هاريس "ترجمة وديع فلسطين": استقاء الأنباء فن, القاهرة 1969. ستانلي هايمن: "ترجمة د. إحساو عباس ود. محمد يوسف نجم": النقد الأدبي ومدارسه الحديثة, بيروت 1958. سلامة موسى: الصحافة حرفة ورسالة, القاهرة 1958. البلاغة العصرية واللغة العربية, القاهرة 1964. سهير القلماوي "دكتورة": فن الأدب، المحاكاة, القاهرة 1954. سيد قطب: كتب وشخصيات, القاهرة 1946. شكري عياد "دكتور": فن القصة القصيرة في مصر "دراسة في تأصيل فن أدبي", القاهرة 67-1968. شكري فيصل "دكتور": الصحافة الأدبية, القاهرة 1960. شوقي ضيف "دكتور": الفن ومذاهبه في النثر العربي, القاهرة 1946. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 الأدب العربي المعاصر في مصر, القاهرة 1961. مع العقاد، سلسلة "اقرأ", القاهرة 1965. طه حسين "دكتور": دروس التاريخ القديم في الجامعة المصرية، نشرت في صحيفة الجامعة المصرية من 19-1924. صحف مختارة من الشعر التمثيلي عند اليونان, القاهرة 1920. قادة الفكر، ط10, القاهرة 1971. "ترجمة محمد عبد الله عنان": فلسفة ابن خلدون الاجتماعية, القاهرة 1925. حديث الأربعاء 3 أجزاء, القاهرة. في الشعر الجاهلي, القاهرة 1926. في الأدب الجاهلي, القاهرة 1927. الأيام ج1، 2, القاهرة 29-39. رحلة الربيع والصيف, بيروت 1957. حافظ وشوقي, القاهرة 1933. على هامش السيرة 3 أجزاء, القاهرة 1933. من بعيد, القاهرة 1935. أديب, القاهرة 1935. مستقبل الثقافة في مصر, جزآن, القاهرة 1938. لحظات, جزآن, القاهرة 1942. فصول في الأدب والنقد ط, القاهرة 1942. المعذبون في الأرض, بيروت 1949. مرآة الضمير الحديث, بيروت 1949. بين بين, بيروت 1952. خصام ونقد, بيروت 1955. نقد وإصلاح, بيروت، 1956. "وآخرون" العدوان الثلاثي على مصر, القاهرة 1956. من أدبنا المعاصر ط2, بيروت 1966. من لغو الصيف إلى جد الشتاء, القاهرة 1959. جنة الشوك, القاهرة 1962. أحاديث, بيروت 1959. ألوان، ط4, القاهرة 1970. مذكرات طه حسين, بيروت 1967. "وآخرون": "الثقافة الإنجليزية وأثرها في تقدُّم العالم", الحياة الحركة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 الفكرية في بريطاني, المجموعة الأولى للمحاضرات العربية، 13 مارس 1941-24 أبريل 1941. عباس محمود العقاد: الفصول, القاهرة 1922. سعد زغلول سيرة وتحية, القاهرة 1936. فرنسيس باكون - مجرب العلم والحياة, القاهرة 1945. بين الكتب والناس, القاهرة 1952. مراجعات في الآداب والفنون, القاهرة 1925. محمد عبده "أعلام العرب", القاهرة 1961. رجال عرفتهم "كتاب الهلال"، 1963. عبد الحميد يونس "دكتور": مجتمعنا، اخترنا لك العدد 24", القاهرة. "وآخرون": فن الإذاعة, سرس الليان, القاهرة، 1958. الأسس الفنية للنقد الأدبي, القاهرة 1966. عبد الرحمن بدوي "دكتور": "أشرف علي": إلى طه حسين في عيد ميلاده السبعين, القاهرة 1962. عبد الرحمن الرافعي: ثورة 1919 "جزآن", القاهرة 1946. في أعقاب الثورة، ط2, القاهرة 1959. عبد العزيز البشرى: في المرآة, القاهرة 1927. المختار ج2, القاهرة 1937. عبد العزيز شرف "دكتور": لطفي السيد فيلسوف أيقظ أمة، السنبلاوين 1963. عباس العقاد صحفيًّا, "مخطوط"، 1968. الدكتور محمد حسين هيكل صحفيًّا "رسالة ماجستير" 1972. الإعلام ولغة الحضارة, الرباط 1973. طه حسين وزوال المجتمع التقليدي, القاهرة 1977. عباس محمود العقاد بين الصحافة والأدب، بالاشتراك، مكتبة الأنجلو 1985. عبد العزيز فهمي: هذه حياتي "كتاب الهلال", القاهرة 1962. عبد اللطيف حمزة "دكتور: أدب المقال الصحفية في مصر "8 أجزاء". مستقبل الصحافة ج1, القاهرة 1961. المدخل في فن التحرير الصحفي, القاهرة 1965. عثمان أمين "دكتور": رائد الفكر المصري, القاهرة 1955. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 فؤاد دوارة: عشرة أدباء يتحدثون، كتاب الهلال, القاهرة 1965. فؤاد صروف: الصحافة والعمران، القاهرة 1929. فيل أولت: ترجمة أحمد قاسم جودة. وراء الأخبار ليلًا ونهارًا, القاهرة 1965. قاسم أمين: تحرير المرأة ط2, القاهرة 1941. كارل وارين: "ترجمة عبد الحميد سرايا". كيف تصبح صحفيًّا, القاهرة، د. ت. كمال قلته "الأدب": طه حسين وأثر الثقافة الفرنسية في أدبه, القاهرة 1973. م. محمد حسين "دكتور": الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر، القاهرة، ج1 من الثورة العرابية إلى قيام الحرب الأولى. محمد حسين هيكل "دكتور": مذكرات في السياسة المصرية, جزآن, القاهرة 51-53. محمد سامي البدراوي عويضة: النقد الأدبي عند طه حسين في مرحلة التكوين "رسالة ماجستير", القاهرة 63-64. محمد سيد كيلاني: طه حسين الشاعر والكاتب, القاهرة 1963. محمد شفيق غربال: تاريخ المفاوضات المصرية البريطانية, القاهرة 1952. محمد رشيد رضا: تاريخ الأستاذ الإمام محمد عبده "3 أجزاء", القاهرة 1342هـ. محمد زكي عبد القادر: محنة الدستور, القاهرة 1955. محمد عبد القادر حاتم "دكتور": الرأي العام, القاهرة 1972. الإعلام والدعاية, نظريات وتجارب, القاهرة 1972. محمد عبد المنعم خفاجي "دكتور": الأدب الحديث في مصر د. ت. التفسير الإعلامي للأدب العربي، بالاشتراك مع د. شرف. محمد غنيمي هلال "دكتور": الأدب المقارن, القاهرة 1961. محمد يوسف نجم "دكتور": فن المقالة, بيروت 1960. محمود عزمي: "دكتور": مبادئ الصحافة العامة, القاهرة 1941. نالينو: "كارلو": تاريخ الآداب العربية, القاهرة 1954. نعمات أحمد فؤاد "دكتور": أدب المازني, القاهرة 1966. قمم أدبية، 1966. ولبور شرام: "ترجمة محمد فتحي". أجهزة الإعلام والتنمية الوطنية, القاهرة 1970. يحيى بن حمزة العلوي: الطراز, القاهرة 1914. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 ثانيًا: الصحف والمجلات 1 الجريدة 1909-1914. 2 اللواء 1909. 3 مصر الفتاة 1909. 4 العلم 1910-1911. 5 الهداية 1910-1911 6 السفور 1915-1917 7 الاستقلال 1919-1922 8 الأهرام 1922 9 السياسة 1923-1930 10 السياسة الأسبوعية 1926 11 الاتحاد 1926 12 كوكب الشرق 1933 13 الوادي 1934 14 مجلة الهلال 1923-1963 15 الجهاد 1947-1950 16 البلاغ 1947-1950 17 المصري 1947-1950 18 مجلة الكاتب المصري 1945-1949 19 مجلة الرسالة 1933-1947 20 مجلة الثقافة 1939-1947 21 مجلة الجديد 1928 22 جريدة "الجمهورية" 1959-1964 23 مجلة النهضة الفكرية 1931 24 المقتطف 1906-1910 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 ثالثًا: أهم المراجع الأجنبية Alexander, J.: The Truth about Egypt. (London, 1911) . Berlo, D. K.: The process of communication: An Introduction to Theory and Practice (New York, 1963) . Bleyer, W. G.: How to write special feature Articles, (Boston 1919) - Blunt, S.w.: Secret History of the English Occupation of Egypt being. a personal Narrative of Events (London, 1907) . Co-oper, Lane (editor) : Theories of style, (New York, 1912) . Cortright, Rupert L., and George Hinds ;: Creative Discussion. (New York, 1951) Cromer, Earl: Modern Egypt (1 vol. London, 1920) . Curtis D. MacDougall: Interpretative Reporting (New York, 1972) . David Butler: The study of poletical behaviour, London, 1966) . Elgood, P.G.: The Transit of Egypt. (London 1928) . Etiembale: L'Art De L'Ecriture, (Paris 1946) . Fariq, K. A.: History of Arabic Literature, (Delhi, 1972) . George Fox Mott and others: New Survey of Journalism. (U.S.A, 1958;. Gibb H.: Studies on Islamic civilization, (Boston, 1963) . Hildick, E. W.: A close look at Newspapers. (London, 1966) . Hoviand, C. et A,: Communication and Persuasion, (Yale, U.S.A., 1953) . Imam I.: The language of Journalism, (Cairo, 1969) . Kampamffmayer and Khemiari: Leaders in contemporary Arabic Lite-ratuie, (part I, London, 1930) . Lerner, Daniel: The passing of Traditional Society: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 Modernizing The Middle East. (Illinois, U.S.A. 1964) . L. loyd, Lord: Egypt since cromer (2 Vols. London, 1933) . Perley Issac Reed: Writing Journalistic Features. (New York, 1931) . Pierre Cachia: Taha Hussein ; Hfis place in the Egyptian Literary Renai-sance. (London, 1960) . Richards, L.A.: Principles of Literary Criticism, London 1946) . Richard W. Budd, Robert K. Thrap, Lewis Donohew: Content Analysis of communications. (U.S.A., 1967) . Robert Guinning: The Technique of clear writing. (New York, 1952) . Roland E. Wolseley: Critical Writing for the Journalist. (New York 1959 Rudolph Flesch: The Art of Readable writing. (New York 1949) . Sapir, Edward: Language. (New York, 1921) . Spencer, M. Lyle Editorial Writing, Ethics, Policy, practice, (U-S.A 1924) . William L. Rivers: The mass Media, Reporting, Writing, Editing. (Delhi, 1967) . WoJseley and Campdl: Exploring Journalism. (New York, 1945 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 ملاحق البحث : ملحق رقم "1": نقابة الصحفيين تنعي فقيد الأدب العربي: نقابة الصحفيين تنعي إلى الأمة العربية، الرائد والمعلم، عميد الأدب العربي, الأستاذ الدكتور: طه حسين. وتذكر نقابة الصحفيين للرائد والمعلم، أنه قد كان من أبرز مَنْ كافحوا في سبيل حرية الرأي, وسجَّلَت صفحات الصحف والمجلات الأدبية له عديدًا من الدراسات والمنقاشات، وعندما تعرَّض للضغط الإداري، واضطهاد القصر الملكي، اتخذ من الصحافة منبره الحي النابض, فاتصل بالرأي العام عن طريق صريح مباشر، وتعرَّض للمحاكمات والاضطهاد، لكنه ككلِّ أصحاب الرسالات صمد ولم يضعف ولم يَلِنْ له عود. وبعد قيام الثورة كان طه حسين من أبرز الكُتَّاب الذين انتصروا لها ... وظلَّ يدافع عن الحريات العامة حتى أقعده المرض، فأخذ يتابع الحركة الفكرية والصحفية, ويبارك كل خطوة على طريق التحرر الوطني1.   1 إن الرائد والمعلم قد مضى، ولكنه ترك خلفه شعلة متقدة لن تنطفئ, وسيكون عزاؤنا فيه ما خلفه من تراث, ومن أجيال تعلَّمت حرية الرأي على يديه. الأهرام في 31/ 1973. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 من وثائق الجامعة ملحق رقم "2" كتاب طه حسين إلى رئيس الجامعة الأمير أحمد فؤاد بشأم التقدم للبعثة إلى أوروبا ... من وثائق الجامعة: ملحق رقم "2": كتاب طه حسين إلى رئيس الجامعة الأمير أحمد فؤاد, بشأن التقدُّم للبعثة إلى أوروبا "دولتلو أفندم رئيس الجامعة المصرية ... "أرفع إلى دولتكم, وإلى مجلس إدارة الجامعة، أني قرأت في الصحف إعلان الجامعة، أنها سترسل طالبين إلى أوروبا لدرس التاريخ وتقويم البلدان, وأنا شديد الحرص على أن أكون أحد هذين الطالبين، وعلى أن توجِّهني الجامعة إلى فرنسا لدرس التاريخ. واعتقادي أن الجامعة إنما تجعل مقياسها في اختيار الطلبة الكفاءة الحقيقية, وعلى ذلك أتشرف بأن أؤكد لدولتكم ولمجلس الإدارة أنَّ الجامعة قد جعلتني، فيما أعتقد، كفئًا لخدمتها بما علمتني من علم نافع، وما أدَّبتني به من أدب مفيد. "وأنا على يقين أن الجامعة ستستفيد مني كثيرًا إن قبلتني خادمًا لها، وهي لن تجني منِّي إلّا ثمر غرسها الطيب في مصر وفي أوربا. "نعم، إن الشروط التي تشترطها الجامعة في طلبة الإرساليات ينقضي بعضها، فإني لم أحصل على الشهادة الثانوية، كما أني مكفوف البصر، ولكنِّي أعتقد أن نقصان هذين الشرطين لا يضرني شيئًا. فأما الشرط الأول فلا يضرُّني نقصانه؛ لأن ما سمعته في الجامعة من العلم, وما أدَّيته فيها من الامتحان، وما أحرزته من الدرجات العظمى في جميع العلوم التي امتحنت فيها، وهي علوم الجامعة كلها إلا الآداب الأجنبية، وما تشرَّفت به في أثر ذلك من رضا مجلس الإدارة عني، وثناء الأساتذة غائبهم وحاضرهم عليّ, كل ذلك يقوم مقام الشهادة الثانوية, ويزيد عليها من غير شكٍّ ولا ريب، ولا سيما وأنا شارع في تعلُّم الفرنسية حتى أني لأفهم بها غير قليل، وقد أتممت منها مقدارًا يمكنني من دخول الجامعة في فرنسا بعد أشهر أقضيها هناك، ويضاف إلى ذلك أني أتممت في الجامعة درس تاريخ الشرق القديم, ونلت فيه الدرجة العظمى، ودرس تاريخ الإسلام، ونلت فيه أعظم درجة نالها طالب في الجامعة, ليس بيني وبين النهاية إلّا درجة واحدة، وأتممت درس اللغات القديمة السامية, ونلت فيها الدرجة العظمى أيضًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 وتلك مزية لم تجتمع لأحد من الطلبة المصريين في مصر, ولست أريد أن أمتدح بهذا، وإنما أريد أن أتحدَّث بفضل الجامعة عليّ، وأن هذا الفضل يجعلني أكثر الناس كفاءة لدرس التاريخ وخدمة الجامعة فيه. "أما الشرط الثاني وهو فقدان البصر, فليس يمنعني أن أسمع دروس الأساتذة ولا أن أؤديها، أي: ليس يمنعني أن أكون طالبًا وأستاذًا، وإذا كان قضاء الله قد قضى عليّ هذه البلية, فقد عوضني منها خيرًا. وأنا أُجِلُّ المجلس عن أن يتخذ بلية كهذه عقبة تحول بيني وبين ما أريد من الخير لنفسي وللجامعة. "حقًّا إن الجامعة إذا قبلت هذا الطلب ستضطر إلى أن تزيد في نفقتي ما يمكنني من الاستعانة بمن يكون معي في فرنسا، ولعمري لئن فعلت ذلك، فليس بضارٍّ لها، بل هو يدل على كرم نفس, وعلى تضحية في معونة مَنْ يحتاج إلى الإعانة.. على أني مستعد لأن تستردَّ الجامعة منِّي بعد عودتي من أوربا ما أنفقته عليّ زيادةً على النفقات العادية, تأخذه من مرتَّبي أقساطًا. وما أظن الجامعة تكره أن تتفضل علي بهذا القرض الجميل. "لذلك كله, أرفع إلى دولتكم, وإلى مجلس الإدارة هذا الطلب, راجيًا أن تتفضلوا بقبوله. ولكم الشكر الجميل والثناء المحمود. طه حسين طالب بالجامعة المصرية وعُرِضَ هذا الكتاب على مجلس الجامعة فلم يلق منه إلا الرفض؛ لأن صاحبه لا يحمل الشهادة الثانوية، بحكم آفته التي امتحن بها؛ ولأن إرساله إلى أوروبا سيكلف الجامعة نفقات إضافية تعين الفتى على أن يكون له رفيق يعينه على الاختلاف إلى الجامعة, وقراءة ما يحتاج إلى قراءته من الكتب. ولكن هذا الرفض لم يَفُلّ عزم الفتى ولم يثبط همته. وإذا هو يكتب إلى رئيس الجامعة هذا الكتاب الجديد1.   1 مذكرات طه حسين ص83. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 ملحق رقم "3": كتاب طه حسين إلى رئيس الجامعة, بشأن ترشيحه للبعثة ألى أوربا "دولتلو أفندم رئيس الجامعة المصرية. أرفع إلى دولتكم, وإلى مجلس الإدارة أني كنت قد طلبت إلى الجامعة الإذن لي في أن أكون من إرساليتها في أوربا, فرفض المجلس هذا الطلب في جلسته الأخيرة؛ لأنه يخالف الإرسالية. وإني لأعلم حق العلم قبل أن أرفع طلبي ذلك إلى دولتكم, وإلى المجلس أنه يخالف القانون؛ ولأني طلبت الاستثناء ورغبت فيه لما بيَّنت في ذلك الطلب من رغبتي في العلم, وحرصي على خدمة الجامعة, ولما اكتسبت بفضل الجامعة عليّ من المزايا التي تؤهلني لبلوغ هذه المنزلة، ولست أنكر على المجلس رفضه لهذا الطلب, فإنه لم ينفذ إلّا القانون, وما كان تنفيذ القانون بالأمر الذي يُنْكَر أو يُعَاب، غير أني أعيد هذا الطلب إلى المجلس راغبًا في أن يعيد النظر فيه، فإنه لم يرفض ذلك الطلب بالماضي إلّا لأمرين مجتمعين, أو كلٍّ منهما على حدة. "الأول: أني لا أحمل الشهادة الثانوية لأني مكفوف البصر، ولكن المجلس أجلّ عندي من أن يحسب لهذا الأمر حسابًا، فإنه لا يمنعني أن أكون طالبًا وأستاذًا, بدليل أن المجلس نفسه يقبلني طالبًا منتسبًا في الجامعة؛ أسمع دروسها, وأجوز امتحاناتها, وأنال شهاداتها. وإذا كانت الطبيعة قد حالت بيني وبين كثير من نعيم الحياة، فما ينبغي أن تكون الجامعة عونًا للطبيعة على حرماني لذَّة الانتفاع بالعلم والنفع به، مع أنها تعلم أني على ذلك أقدر ما أكون. "الثاني: احتياج الجامعة إذا أرسلتني إلى أن تنفق عليَّ أكثر من نفقتها العادية على طلابها في أوروبا, وأنا أعترف بأن للجامعة الحقَّ في تقدير هذا المانع المالي ومراعاته, وأن لها ألا تشتري خدمتي بهذا الثمن الغالي؛ لأني لا أستحقَّه؛ ولأنها لا تجده. "ولذلك أتشرف بأن أرفع إلى المجلس من جديد أني لا أطلب من النفقات إلّا المقدار الذي يطلبه غيري من الطلاب, وعلي أن أقوم بما أحتاج إليه مما يزيد على هذا المقدار، فلعلَّ ذلك كله يشرفني بقبول المجلس طلبي هذا مقدار حرصي على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 طلب العلم في غير مصر, مع ما احتمله في سبيل ذلك من الآلام والعناء، فإن هذا أدعى إلى قبول الطلب وتقديره مع الشكر الجميل والثناء الجزيل. طه حسين 5 مارس سنة 1913 وكأنَّ المجلس قد ضاق بهذا الكتاب الجديد, فرفضه كما رفض الكِتَابَ الأول, وسبب الرفض بأن طه حسين لا يعرف اللغة الفرنسية حقَّ معرفتها1. وأراد المجلس أن يهوِّن هذا الرفض عليه, فصاغه في صيغة التأجيل حتى يحسِنَ هذه اللغة مطمئنًا إلى أنه لن يجد إلى إحسانها سبيلًا، تحول بينه وبين ذلك أمنة تلك، ويعينها على ذلك فقر الفتى وإصفار يده من المال. فلم يزدد الفتى إلا عزيمة وتصميمًا، وكتب إلى رئيس الجامعة بعد شهور هذا الكتاب الثالث2: "صاحب السعادة رئيس الجامعة المصرية.. أعود الآن فأرفع إلى سعادتكم, وإلى مجلس إدارة الجامعة, رغبتي في السفر إلى أوربا لدرس العلوم الفلسفية أو التاريخية موفَدًا من قِبَلِ الجامعة، بعد أن رفضت هذا الطلب في السنة الماضية؛ فقرر مجلس الإدارة تأجيل سفري إلى هذه السنة ريثَمَا أقوى في اللغة الفرنسية, وإذا كنت قد وصلت من هذه اللغة إلى مقدارٍ لا بأس به, وسأتقدم في هذه السنة لامتحان شهادة العالمية في قسم الآداب. فأنا أرجو أن يتفضَّل مجلس الإدارة فيوفي لي وعده الكريم مع الشكر والثناء. طه حسين 19 يناير سنة 1914 واضطر مجلس الجامعة إلى نوعٍ من التحدي؛ فقرَّر النظر في إيفاد طه حسين إلى أوروبا إذا ظفر بشهادة العالمية "الدكتوراه". ولم يكن أحبَّ إليه من هذا التحدي, فأقبل على العناية بالدرس وإعداد الرسالة للامتحان, وتَقَدَّمَ لهذا الامتحان وظفِرَ بإجازة الدكتوراه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 ملحق رقم "3": "تابع": "صاحب العطوفة رئيس الجامعة المصرية قد عرضت منذ حين على الجامعة المصرية أن توفدَني إلى أوربا لأدرس فيها التاريخ والفلسفة, فكلفتني تعلُّم الفرنسية, ثم قَبِلَت الطَّلَب, وعلَّقَت تنفيذه بنَيْلِي شهادة العالمية, وإذ كنت قد فرغت من هذا كله بحمد الله, فلم يبق إلّا أن يحدِّد مجلس الإدارة موعد السفر, وتكتب الجامعة بذلك لأعدَّ له عدته. لذلك رفعت إلى عطوفتكم هذا الطلب راجيًا أن تتفضَّلوا بقبوله, ولكم الشكر أفندم. طه حسين 18 مايو 1914 وقررت الجامعة ضمَّ طه حسين إلى بعثتها بباريس, وأرسلت إليه هذا الكتاب. "حضرة المحترم الدكتور طه حسين اطلع مجلس الإدارة على العريضة المقدَّمة من حضرتكم بتاريخ 18 مايو سنة 1914, فقرَّرَ انضمامكم إلى إرسالية الجامعة بباريس لدراسة التاريخ, وأن يكون سفركم في الأسبوع الأول من شهر أغسطس القادم. وهذا إخطار لحضرتكم بذلك, واقبلوا وافر تحياتي. رئيس الجامعة المصرية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 ملحق رقم "4": صورة كتاب الاستقالة الذي رفعه لطفي السيد إلى وزير المعارف العمومية, بعد إخراج طه حسين من الجامعة في عهد صدقي: "هيلوبوليس 9 مارس سنة 1932. حضرة صاحب المعالي وزير المعارف العمومية. سيدي الوزير: "أتشرف بإخبار معاليكم أني أسفت لنقل الدكتور طه حسين عميد كلية الآداب إلى وزارة المعارف؛ لأن هذا الأستاذ لا يُسْتَطَاعُ فيما أعلم أن يُعَوَّضَ الآن على الأقل, لا من جهة الدروس التي يلقيها على الطلبة في الأدب العربي ومحاضراته العامة للجمهور، ولا من جهة هذه البيئة التي خلقها حوله, وبثَّ فيها روح البحث الأدبي, وهدى إلى طرائقه، ثم أسفت لأن الدكتور طه حسين أستاذ في كلية الآداب تنفيذًا لعقدٍ تَمَّ بين الجامعة القديمة ووزير المعارف, وعلى الأخصِّ لأنَّ نقله على هذه الصورة بدون رضى الجامعة فيما أعرف، كل ذلك يذهب بالسكينة والاطمئنان الضروريين لإجراء الأبحاث العلمية، وهذا بلا شكٍّ يفوت عليّ أجلَّ غرض قصدت إليه من خدمة الجامعة. "من أجل ذلك قصدت يوم الجمعة الماضي إلى حضرة صاحب الدولة رئيس مجلس الوزراء، واستغثته على هذا الحادث الجامعي الخطير، واقترحت على دولته تلافيًا للضرر من ناحية، واحترامًا لقرار الوزير من ناحية أخرى، أن يرجع الدكتور طه حسين إلى الجامعة أستاذًا لا عميدًا، خصوصًا أنه هو نفسه ألحَّ عليَّ في أن يتخلَّى عن العمادة منذ شهر، فلم أقبل، فتقبَّل دولة الرئيس هذا الاقتراح بقبول حسن، وأكد لي أنه سيشتغل بهذه المسألة منذ الغد, فاشتغل بها إلى أن علمت الآن أن اقتراحي غير مقبول, وأن قرار النقل نافذ بجملته, وعلى إطلاقه. ومن حيث إني لا أستطيع أن أُقِرَّ الوزارة على هذا التصرُّف الذي أخشى أن يكون سنَّةً تذهب بكل الفروق بين التعاليم الجامعية وأغيارها، أتشرف بأن أقدم بهذا إلى معاليكم استقالتي من وظيفتي، أرجو قبولها، كما أرجو أن تتقبلوا شكري على ما أبديتم من حسن المجاملة الشخصية مدَّةَ اشتراكنا في العمل. وأن تتقبلوا فائق احترامي. أحمد لطفي السيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 ملحق رقم "5": نموذج لفنِّ اليوميات الصحفية في مقال طه حسين طه حسين يكتب عن: الشعر الحديث.. وكُتَّاب القصة.. ونقَّادِهم: عندما اعتزمت أن أكتب "كل خميسٍ" لقراء الجمهورية، أهداني أستاذي الدكتور طه حسين هذا المقال، لأنشره في صفحتي.. فلمَّا قرأت المقال، لم أدر أهو تحية لـ"كل خميس", أم إيقاع بينها وبين الشرقاوي ومندور وغيرهما من الزملاء؟ شكرًا في الحالتين لأستاذي الكبير.. 1- ظواهر: لست من كُتَّاب اليوميات, ولو حاولت كتابتها لم أبلغ منها شيئًا, ولكن أكتب الآن شيئًا يشبهها من بعيد, فأحب أن يعلم قارئه أنه ليس من اليوميات في شيء, إنما هي ملاحظات لم أرَ من إملائها بدًّا؛ لأني أجد فيما تنشره الجمهورية مما يتَّصل بالأدب ظواهر ليس من الخير إهمالها, بل من الواجب التنبيه إليها؛ لأنَّ في إهمالها شيئًا من التشويه لحقائق الأدب ولجماله أيضًا.. ولست أنبِّه في هذه الكلمة إلى هذه الظواهر جميعًا؛ لأن ذلك يطول, وإنما أضرب لها الأمثال, وأرجو أن يتدبرها الذين يكتبون في الجمهورية من المتأدبين.. فمسألة الشعر الحديث التي يبدي فيها الأستاذ عبد الرحمن الشرقاوي ويعيد, يكثر فيها الكلام, ويتصل فيها الأخذ والرد, دون أن نرى من هذا الشعر الحديث شيئًا يفرض نفسه على الأدباء فرضًا, بل دون أن نرى منه شيئًا ذا طائل, وأنا أعلم أن من الشباب طائفة يرون لأنفسهم الحقَّ في أن ينحرفوا عن مناهج الشعر القديم وعن أوزانه وقوافيه خاصة. ولست أجادلهم في هذا الحق, بل ليس لي أن أجادلهم فيه, فأوزان الشعر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 القديم وقوافيه لم تتنزَّل من السماء, وليس ما يمنع الناس أن ينحرفوا عنها انحرافًا قليلًا أو كثيرًا أو كاملًا.. ولكنَّ للشعر قديمًا كان أو حديثًا أسسًا يجب أن تُراعى, وخصائص يجب أن تتحقق, فليس يكفي أن ينشئ الإنسان كلامًا على أيِّ نحوٍ من أنحاء القول, ثم يزعم لنا أنه قد أنشأ شعرًا حديثًا, وإنما يجب أن يحقّق في هذا الكلام الذي ينشئه أشياء ليس إلى التجاوز عنها سبيل؛ فالشعر يجب أن يبهر النفوس والأذواق بما ينشئ فيه الخيال من الصور, ويجب أن يسحر الآذان والنفوس معًا بالألفاظ الجميلة التي تمتاز أحيانًا بالرصانة والجزالة, وتمتاز أحيانًا بالرِّقَّة واللين, وتمتاز في كلِّ حالٍ بالامتزاج مع ما تؤديه من الصور؛ لتنشيء هذه الموسيقى الساحرة التي لا تنشأ هذه من انسجام الألفاظ فحسب, ولا من ارتسام الصور فحسب, وإنما تنشأ من هذا الائتلاف العجيب بين الصور في أنفسها, وبينها وبين الألفاظ التي تجلوها؛ بحيث لا يستطيع السمع أن ينبو عنها, ولا تستطيع النفس أن تمتنع عليها, ولا يستطيع الذوق إلا أن يذعن لها ويطمئن إليها, ويجد فيها من الراحة والبهجة ما يرضيه. فإذا استطاع الذين يحبون هذا الشعر الحديث أن يقدِّموا إلينا منه ما يمتِّعُنَا حقًّا, فمن الحمق أن ننكره, أو نلتوي عنه لا لشيء إلا لأنه لم يلتزم ما كان القدماء يلتزمون من الأوزان والقوافي. وابتكار الشعر الحديث والافتنان في هذا الابتكار ليس شيئًا يمتاز به شعراء العرب المعاصرون من الأمم الأخرى, وإنما هو شيء قد سبق إليه شعراء الغرب منذ وقت طويل, فشعراؤنا حين يُجَدِّدُون لا يبتكرون, وإنما يقلدون قومًا سبقوهم, وليس عليهم من ذلك بأس إذا أجادوا وأحسنوا وعرفوا كيف يبلغون من نفوس معاصريهم ما بلغ شعراء الغرب من نفوس الغربيين على ما يكون بين الغربيين من اختلاف اللغات وتباعد الأذواق. بل ليس شبابنا من العرب المعاصرين حين ينشئون شعرهم الحديث مبتكرين بالقياس إلى الشعراء القدماء من العرب, فما أكثر ما تطورت أوزان الشعر العربي القديم وقوافيه, والدارسون للأدب العربي لم يكد يعيش نصف قرن بعد ظهور الإسلام حتى أخذت أوزانه تخضع لألوان من التطور؛ دخلت عليه الموسيقى التي جاءت بها الشعوب المغلوبة, ودخلت عليه حضارة جديدة لم يألفها الشعراء العرب الجاهليون؛ فتغيرت النفوس وتطورت الطباع ورقَّت الأذواق وصفت. ولم يكن للشعر بُدٌّ من أن يتأثَّر بهذا كله, ويصبح ملائمًا للحضارة الجديدة وما أنشأت من طباع جديدة وأواق جديدة أيضًا. وقصرت أوزان الشعر وخفت لتكون ملائمة للتوقيع الموسيقي الحديث. وظهر ذلك التطور أول ما ظهر في الحجاز وفي المدينتين المقدستين بنوع خاص, وكان الحجاز جديرًا أن يكون قلعة المحافظة في الأدب العربي, ولكنه كان السابق إلى تطوير الشعر؛ لأنه كان السابق إلى الترف، والسابق إلى الموسيقى، والسابق إلى الغناء, والسابق بحكم هذا كله إلى تطوير الشعر بترقيق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 ألفاظه, وتقصير أوزانه, وتحضير صوره.. ولا أذكر ما طرأ في العراق من ألوان التطور الذي عرض للأدب كله؛ شعره ونثره منذ انتصف القرن الثاني للهجرة. فأما ما طرأ على الشعر في الأندلس فهو أظهر وأشهر وأقرب إلى أوساط المثقفين من أن أحتاج إلى الوقوف عنده. فليتوكل شبابنا من الشعراء على الله, ولينشئوا لنا شعرًا حرًّا أو مقيدًا, جديدًا أو حديثًا, ولكن ليكن هذا الشعر شائقًا رائعًا, ويومئذ لن يروا منَّا إلا تشجيعًا أيَّ تشجيع, وترحيبًا أيَّ ترحيب, ودفاعًا عنهم إن احتاجوا إلى الدفاع. 2 وظاهرة أخرى من ظواهرنا الأدبية محزنة حقًّا, وهي أمر هؤلاء الكُتَّاب القلقين الذين لا يكتبون لأنفسهم, ولا يكتبون لقرَّائهم, والذين لا يكفيهم إذا كتبوا أن يقرأهم الناس, وإنما يكتبون لتنشر أسماؤهم في الصحف, وليثني عليهم النقاد ثناء خالصًا متصلًا لا تشوبه شائبة, ولا تقفه تروية أو تفكير، فهم كبعض الشعراء القدماء الذين كانوا ينشئون المدح يبتغون به الجوائز, ولا يرضون عن ممدوح إلّا إذا أجزل لهم العطاء. هؤلاء الكُتَّاب متكسِّبون لا يكتبون ابتغاء المال وحده, وإنما يكتبون ابتغاء المال وحسن الثناء معًا. وويل للنقاد إن سكتوا عنهم, أو أخذوهم ببعض النقص, فهم في أنفسهم أرقى وأسمى وأكمل من أن ينقدوا. وليس بُدٌّ لهؤلاء من نقاد يلائمون أهواءهم؛ يثنون عليهم ثناءً غير منقطع, ويمدحونهم مدحًا غير منقوص, فإن سكت النقاد منهم, فهم المظلومون المهضومون والمضطهدون الذين تنكر أقدارهم على ارتفاعها, ولقد نشأنا نحاول الكتابة فقال الناس فينا ما نكسره, وعابونا بكل ما يمكن أن يعاب به الكاتب في أدبه وخلفه ونفسه, فلم يزدنا ذلك إلّا إقدامًا على العمل, وجدًّا في التعلم, والانتفاع بهجاء الهاجين وثناء المثنين, لم يبطرنا ثناء قط, ولم يحزنا هجاء قط, وأعترف بل أشهد الله أني كنت أشد إقبالًا على الهجاء مني على الثناء. وإني لأعرف في هذه الأيام كُتَّابًا تصيبهم ألوان من تعقيد النفوس لا لشيء إلّا لأن النقاد يسكتون عنهم أو يقولون في آثارهم بعض ما لا يحبون.. ففيهم هذا كله, وما هذا الفقر إلى التقريظ والإلحاح في طلب الثناء, ولم لا يكتب الناس لأن طباعهم تدفعهم إلى الكتابة دفعًا, ولأن لهم من رقة القلوب ودقة الشعور وخصب العقول ما يضطرهم إلى أن يقولوا للناس ما ينفعهم, أو ما يروقهم ويرضيهم, أو ما يؤدبهم ويهذب نفوسهم. ومن شباب كُتَّابِنَا من يجزعون للنقد أشد الجزع, ويهلعون منه أعظم الهلع, حتى وصفه بعضهم ذات يوم بأنه سفك لدمائهم وإزهاق لنفوسهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 من حق هؤلاء الكُتَّاب ألا يلتفت إليهم الناقدون. وأغرب من هذا كله أن من هؤلاء الكُتَّاب من لا يكاد يقرأ نقدًا لأثر من آثاره حتى يسرع إلى الرد عليه في عنف أي عنف, وفي إسفاف أي إسفاف أحيانًا. من ذا يعلم الشباب أنَّ الأديب مجاهد, وأن الأدب جهاد, وأن الذين يتصدَّون للجهاد يجب أن يكونوا أشجع من أن يرتاعوا للنقد أو يطمعوا في الثناء. 3 وظاهرة أخرى في أدبنا الذي تنشره الجمهورية, هو هذا التعجُّل, نجدها في هذا التسرع الذي يدفع بعض كُتَّابِنَا الموجودين إلى خطأ لم يكن لهم أن يتورَّطوا فيه؛ لأنهم لو أخذوا أنفسهم ببعض الأناة لبرئوا منه ومن أمثاله. فهذا صديقنا مندور يدفعه التسرُّع إلى أن يزعم في كلمة كتبها إلى أن يقول: إن القصص الحديث إنما نشأ في القرن التاسع عشر. عفا الله عنك أيها الصديق لقد علمناك قديمًا إلّا تعجل إلى الكتابة, وأن تتروَّى قبل أن تقول, وماذا تصنع بما كتب من القصص, بل من آيات القصص قبل القرن التاسع عشر, بل قبل القرن الثامن عشر. ماذا تصنع بما كتب سرفنتيس, أو ما كتبته مدام دي لا فييت, وما كتب ديدور, وما كتب فولتير لوساج, وما كتب القس بريفو, وما كتب الإنجليز في القرن الثامن عشر. وقد قرأت على أقل تقدير ما كتب فيلدنج وما كتب. فاتق الله واستأن بما تكتب, ذلك أجدر بك وأحرى ألا يعرضك لما تكره, وما أكثر ما تعرِّض الناس لما يكرهون. طه حسين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 ملحق رقم "6" لعل "1" " نموذج للثقافة اللغوية في المقال الصحفي" أرسل الأستاذ الدكتور طه حسين إلى جريدة المقطم هذا الكتاب: تَفَضَّلَ أديبٌ أمس فلفتني في المقطم إلى أن السياسة قد أنستني النحو, وإلى أني أخطئ حين أدخل أن المصدرية على الفعل المضارع حيق يقع خبرًا لعل, وإنما الصواب فيما قال الكاتب الأديب: أن لا تدخل أن على هذا الفعل, وهو قد قرأ في بعض كتب النحو أنَّ العرب يضعون المضارع خبرًا لعسى, فلا يبخلون عليه أن يحملوا عسى على لعل. وأنا أشكر للكاتب الأديب ظرفه ولطفه, وأحب أن ألفته إلى أن النحويين أيضًا يقولون: إن العرب تدخل أَنْ على المضارع في خبر لعل حملًا لها على عسى، ومن ذلك أن العرب يحملون كلًّا من هذين الحرفين على صاحبه, والحرف هنا معناه الكلمة, فلعل السياسة أن لا تكون قد أنستني أن عسى فعل لا حرف. وإذا كان الكاتب الأديب في حاجة إلى نصٍّ نحوي, فإني أرجو أن ينظر فيما كتبه ابن هشام في "المغني" عن لعلَّ, فسيجد ما يرضيه إن شاء الله. وسيعلم أني ما زلت شيخًا ذاكرًا للنحو ودروسه مهما تكن أشكال السياسة وألوانها, وإذا كان الكاتب الأديب في حاجة إلى شاهد من كلام العرب, أو مما اتفق المتقدمون على أنه كلام العرب, فإني أروي له بيتين يحضرانني الآن كثيرًا, ولكن السياسة التي لم تنسني تصرفني عن هذا البحث الآن, فحسب الكاتب الأديب أن يقرأ هذين البيتين؛ فأما أولهما فقول حسان في رثاء قتلى يوم الرجيع: لعل هذيلًا أن يروا بمصابه ... مصارع قتلى أو مقام المآتم وأما الثاني فقول الجميح يعاتب امرأته, وهو من شعراء المفضليات: فاقني لعلك أن تحظي وتحتلبي ... في سحبل من مسوك الضأن منجوب إلى أن يقول: "ولكنها السياسة لم تصرفني عن النحو, وإنما صرفتني عن الجدال فيه".   1 كوكب الشرق في 19 أبريل 1934. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 ملحق رقم "7": المقال الأول للدكتور طه حسين في صحيفة "كوكب الشرق" الوفدية عهد 1 أعترف بأني لا أهاب شيئًا كما أهاب رضا الناس عني, ولا أشفق من شيء كما أشفق من حسن ظنهم بي. فأنا شهد الله قَلَّما أرضى عن نفسي أو أحسن الظن بها، وما أذكر أني كتبت شيئًا أو أتيت شيئًا من الأمر إلّا وأنا مؤمن بأنه دون ما كان ينبغي أن أكتب، ودون ما ينبغي أن يرضى هؤلاء الأصدقاء الذين أعرفهم, والذين لا أعرفهم, والذين يتفضلون علي فيرضون عني, ويحسنون الرأي في, وأعجز أنا عن تصديق هذا الرأي وتصويب هذا الرضى. كذلك كنت منذ بدأت أكتب, ومنذ بدأت في أن أنهض بشيء من أعباء الحياة العامة، ويظهر أني سأظل كذلك أبدًا. فقد جاوزت من أطوار الحياة هذا الطور الذي يستطيع الناس أن يغيروا فيه آراءهم في أنفسهم, ويحسنوا بها الظنَّ, وينتظروا لها النموَّ والرقي والتقدم نحو الكمال. لذلك لا أدري كيف ألقى هؤلاء الأصدقاء الذين عرفوا أني سأكتب في "الكوكب", فأحبوا ذلك ورضوا عنه, وغلا بعضهم فاغتبط به وابتهج له. نعم ولا أدري كيف ألقى هؤلاء الذين تفضلوا فدعوني إلى الكتابة في الكوكب وألحوا عليَّ في ذلك إلحاحًا ملؤه المودة والبر والرغبة في الخير لي وللقراء مما سأكتبه. نعم لا أدري كيف ألقى أولئك وهؤلاء؛ لأني شديد الإشفاق من العجز عن تصديق أولئك وهؤلاء, وتحقيق القليل أو الكثير مما ينتظرون. ومع ذلك فقد أجبت شاكرًا دعوة الداعين, وقبلت مغتبطًا رضى الراضين، وأقبلت إلى أولئك وهؤلاء وأنا واثق مطمئِنٌّ إلى أني إن لم أبلغ ما يأملون في، ويرجون مني فلن أقصر عن الإخلاص الذي ليس فوقه إخلاص، ولن أفتر عن النصح الذي ليس بعده نصح، ولن أضنَّ بقوة أملكها أو جهد أقدر عليه، وإنما أبذل هذا كله صادق   1 كوكب الشرق في العدد 2328, السنة التاسعة, 9 مارس 1933. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 الرأي ماضي العزم، قوي الأمل، كأحسن ما يكون الرجل استعدادًا لاستقبال الخطوب، واحتمال الآلام في خدمة هذا البلد الحزين. وما أظن أن المصري يملك في هذه الأيام شيئًا يستطيع أن يقدمه إلى وطنه خيرًا من الإخلاص والنصح، وصدق العزيمة، وحسن الاستعداد لاستقبال الخطوب. فإن كان هذا هو الذي ينتظره مني أصحاب الكوكب وقراؤه, فهم واثقون منذ الآن بأنهم سيبلغون منه ما يريدون، وإن كانوا ينتظرون مني غير هذا فليعذروني إذا لم أعدهم بشيء. وأيّ شيء يستطيع العاملون أن يقدموه إلى مصر في هذه الأيام التي قُصَّت فيها الأجنحة، وشُدَّت فيها الألسنة فلا تقول إلا بحساب، وعُطِّلَت فيها الأقلام فلا تجري إلا بمقدار، وضُيِّق فيها على الناس فهم مضطرون إلى أن يفكِّروا ويطيلوا التفكير قبل أن يقولوا أو يكتبوا، إلى أن يقدروا فيطيلوا التقدير قبل أن ينشطورا لأمر من الأمور. كل شيء ضيق من حولنا, فقد استكشفت الوزارة منذ نضعت بالحكم, أو منذ همَّت أن تنهض بالحكم أن الدستور أوسع مما ينبغي فضيقته وبالغت في تضييقه, ولم تكد تعلن إلينا هذا التضييق وتأخذنا بتصغير عقولنا وتقصير ألسنتنا والكبح من أقلامنا والحجر على آمالنا لتلائم حياتنا الدستور الجديد حتى استكشفت أن هذا الدستور الجديد نفسه يكفل لنا حرياتٍ أكبر مما ينبغي, وإذا هي تضيق هذه الحريات بألوان التشريع مرة, وبسلطانها الإداري مرة أخرى، أو إذا هي قد اتَّخذت موازين دقيقة شديدة الدقة، رقيقة مسرفة في الدقة, حساسة جادة الحسِّ، تعيش بها ما ترى, وما نقول وما نعمل، وتأخذنا بما تنكر هي من ذلك كله ما لا ينكر العرف, ولا بما ينكر الدستور, ولا بما تنكر الديمقراطية الغالية في الضيق. وإذا انتقالنا في الغدوِّ والرواح يرصد ويرقب ويقدر فيباح أو يحذر, وإذا كلامنا يؤول على وجهه حينًا, وعلى غير وجهه أحيانًا. وإذا تفكيرنا يتهم, وإذا كل شيء نأتيه مرغوب عنه, وكل شيء نأباه مرغوب فيه, وتمضي الأسابيع والأشهر, وإذا الوزارة تستكشف أن هذا السياج الضيق الذي أحاطتنا به وحصرتنا فيه لا يكف؛ لأن عقولنا لا تزال واسعة أوسع من هذا السياج، وإرادتنا لا تزال قوية أقوى من سلطان الوزارة, فلا بُدَّ إذًا من أن تضيق العقول, وتضعف الإرادة, وتنحل العزائم. وأي وسيلة أدنى إلى تحقيق هذا من تضييق التعليم ومراقبته والسيطرة الشديدة المحرجة عليه في جميع فروعه وألوانه, وإذًا فلتبسط الوزارة سلطانها "وقد فعلت" على التعليم, ولتجمعه كلها إليها, ولتعصره كله في يدها، ولتضغط ما وسعها الضغط, ولتقبضه ما وجدت إلى قبضه سبيلًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 هذه مدارس لم يكن لها عليها سلطان فيجب أن تظلها بجناحها، وهذه مدارس حُرَّة قد يجد التعليم فيها من السعة ما لا تحب, فلتشرِّع لها القوانين التي تردها إلى حيث تريد هي من الضيق, وهؤلاء أبناء الشعب يقبلون على التعليم أفواجًا, فلتتخذ العدة لمقاومة هذا الإقبال الخطر. وأي شيء أخطر على مثل هذا السلطان الذي لا يريد أن يكون له حدٍّ من إقبال الناس على فروع التعليم الراقي. هذا وزير المعارف يعلن في مجلس النواب أن لا بُدَّ من تضييق التعليم الثانوي والعالي؛ لأنهما يخرجان من الشبان المثقفين أكثر مما ينبغي. فلنتوسَّع في التعليم الأوليِّ لنحارب الأمية, ولنتشدد في التعليم الثانوي والعالي؛ لنقلِّلَ عدد العاطلين في ظاهر الأمر, ولنضعف الخطر على السلطان الذي لا حدَّ له في حقيقة الأمر، ولندع التفكير في أن التعليم على اختلاف ألوانه حق للناس جميعًا يرديونه متى شاءوا وما استطاعوا أن يريدوه, لا يقيدهم في ذلك إلّا الامتحان والقدرة على النهوض بأثقاله. نعم ولندع التفكير في أن الرقي الصحيح لأمَّةٍ من الأمم رهين بانتشار الثقافة الصحيحة الخصبة التي يجدها الشبان في المدارس الثانوية والعالية وفي الجامعة، وأن الخطر الكبير على النظام الاجتماعي والسياسي معًا إنما يأتي من الغُلوِّ في نشر التعليم الإلزامي, والتقصير في نشر التعليم الراقي؛ لأنه ييهيء للبلاد جيشًا في إنصاف المتعلمين, أو أثلاث المتعلمين, أو أرباع المتعلمين الذين لا يرون الأشياء كما هي, ولا يقدرونها كما ينبغي أن تُقَدَّر, ثم لا يهيئ لهذا الجيش الخطر من المثقفين قادة مهرة يردونه عن الشطط, ويقودونه إلى الرقي والخير. ولندع التفكير في هذا كله, فهناك ما هو أهم من هذا كله وأجل خطرًا, وهو أن يستطيع السلطان الذي لا حدَّ له أن يستغرق كل شيء, ويستأثر بكل شيء, ويوجه الأمة إلى حيث يريد هو لا إلى حيث تريد آمالها ومنافعها ومثلها العليا في الحياة. كل شيء ضيق من حولنا, وليس الغريب أننا لم نرق في هذا العصر الذي خضعنا فيه لهذا السلطان، وإنما الغريب أننا لم نتأخر, بل ثبتنا حيث كُنَّا حين أنعم الله علينا بالوزارة القائمة. وليس الغريب أن عقولنا لم تزدد سعة وأن إرادتنا لم تزدد قوة وأنا لم نشق لأنفسنا طرقًا جديدة في العلم والسياسة وغيرهما من فروع الحياة، وإنما الغريب أن عقولنا وإرادتنا ما تزال بحيث كانت من السعة والقوة، وأنَّا مازلنا نقاوم ظافرين هذه العوادي, والمختلفة التي سلطت علينا من كل ناحية وأخذت علينا كل سبيل. نعم خير ما يستطيع المصري أن يقدمه لوطنه في هذه الأيام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 إنما هو الإخلاص في القول والعمل، والصدق في الرأي والمضاء في العزم والقوة على المقاومة والاستعداد لاحتمال المكروه, فإن الصراع بيننا وبين الحوادث التي تدهمنا مهما يطل أو يقصر, فإنما الفوز فيه لصاحب الإرادة القوية والعزيمة الماضية والقوة على المقاومة. وأنا أعاهد الذين سيقرأون لي أني سأكون محسنًا في هذا كله؛ بحيث يحبون, وما أظن أني أستطيع أن أشكر لهم ترحيبهم بي وحسن لقائهم لي، من أن أعطيهم على نفسي هذا العهد. طه حسين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 الفهرس : 5 مقدمة 25 الفصل الأول: الدكتور طه حسين ومدرسة الجريدة. 61 الفصل الثاني: طه حسين وبيئة المقال الصحفي في مصر. 91 الفصل الثالث: طه حسين وبلاغة الاتصال بالجماهير. 131 الفصل الرابع: أساليب التحرير في مقال طه حسين. 175 الفصل الخامس: طه حسين وفن العمود الصحفي. 211 الفصل السادس: فن اليوميات الصحفية في أدب طه حسين. 239 الفصل السابع: فن المقال الرئيسي الافتتاحي. 279 الفصل الثامن: فن المقال النزالي. 315 الفصل التاسع: فن المقال الكاريكاتيري. 351 الفصل العاشر: المقال التحليلي والتقويم الصحفي. 401 مراجع البحث. 410 ملاحق البحث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 المخطوطات ... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 الصفحة الثانية من كوكب الشرق في 10 مارس 1933وفيها "تصريح النحاس باشا وتحيته للدكتوره طهي حسين" ونشرت في اليوم السابق 9 مارس هذا التصريح بخط الرئيس الجليل ولعدم وضوح الخط تعيد نشره على النحو المبين في الصورة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431