الكتاب: وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان المؤلف: أبو العباس شمس الدين أحمد بن محمد بن إبراهيم بن أبي بكر ابن خلكان البرمكي الإربلي (المتوفى: 681هـ) المحقق: إحسان عباس الناشر: دار صادر - بيروت الطبعة: الجزء: 1 - الطبعة: 0، 1900 الجزء: 2 - الطبعة: 0، 1900 الجزء: 3 - الطبعة: 0، 1900 الجزء: 4 - الطبعة: 1، 1971 الجزء: 5 - الطبعة: 1، 1994 الجزء: 6 - الطبعة: 0، 1900 الجزء: 7 - الطبعة: 1، 1994 عدد الأجزاء: 7   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع، وهو ضمن خدمة التراجم] ---------- وفيات الأعيان ابن خلكان الكتاب: وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان المؤلف: أبو العباس شمس الدين أحمد بن محمد بن إبراهيم بن أبي بكر ابن خلكان البرمكي الإربلي (المتوفى: 681هـ) المحقق: إحسان عباس الناشر: دار صادر - بيروت الطبعة: الجزء: 1 - الطبعة: 0، 1900 الجزء: 2 - الطبعة: 0، 1900 الجزء: 3 - الطبعة: 0، 1900 الجزء: 4 - الطبعة: 1، 1971 الجزء: 5 - الطبعة: 1، 1994 الجزء: 6 - الطبعة: 0، 1900 الجزء: 7 - الطبعة: 1، 1994 عدد الأجزاء: 7   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع، وهو ضمن خدمة التراجم] ترجمة المؤلف " قاضي القضاة شمس الدين ابن خلكان " (1) أحمد بن محمد بن إبراهيم بن خلكان قاضي القضاة شمس الدين أبو العباس البرمكي الإربلي الشافعي، ولد بإربل سنة ثمان وستمائة وسمع بها " صحيح البخاري " من أبي محمد بن هبة الله بن مكرم الصوفي وأجاز له المؤيد الطوسي وعبد المعز الهروي وزينب الشعرية. روى عنه المزي والبرزالي والطبقة، وكان فاضلاً بارعاً متفنناً عارفاً بالمذهب حسن الفتاوي جيد القريحة بصيراً بالعربية علامة في الأدب والشعر وأيام الناس، كثير الاطلاع حلو المذاكرة وافر الحرمة، فيه رياسة كبيرة، له كتاب " وفيات الأعيان " وقد اشتهر كثيراً وله مجاميع أدبية. قد الشام في شبيبته وقد تفقه بالموصل على كمال الدين ابن يونس وأخذ بحلب عن القاضي بهاء الدين ابن شداد وغيرهما. ودخل مصر وسكنها مدة وتأهل بها وناب بها في القضاء عن القاضي بدر الدين السنجاري ثم قد الشام على القضاء في ذي الحجة سنة تسع وخمسين منفرداً بالأمر ثم أقيم معه في القضاء ثلاثة سنة أربع وستين وكان ذلك في جمادى الأولى جاء من مصر ثلاثة تقاليد لشمس الدين عبد الله بن محمد بن عطاء الحنفي ولزين الدين عبد السلام الزواوي المالكي ولشمس الدين عبد الرحمن ابن الشيخ أبي عمر الحنبلي فلم يقبل المالكي ووافق الحنفي والحنبلي، وكان الحنفي قبل ذلك نائبا للشافعي، ثم إن الأمر من مصر ورد بإلزام المالكي وامتنع المالكي والحنبلي من أخذ الجامكية وقالا نحن في كفاية. قال شهاب الدين أبو   (1) له ترجمة في الفرات 1، 100 وقضاة دمشق: 76 وطبقات السبكي 5: 14 والنجوم الزاهرة 7: 353 وشذرات الذهب 5: 371. وهذه منقولة عن الوافي (الجزء السابع) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1 شامة: ومن العجيب اجتماع ثلاثة من قضاة القضاة لقب كل واحد منهم شمس الدين في زمن واحد. واتفق أن الشافعي استناب نائباً لقبه شمس الدين فقال بعض الأدباء الظرفاء: أهل دمشق استرابوا ... من كثرة الحكام إذ هم جميعاً شموس ... وحالهم في الظلام وقال أيضاً: بدمشق آية قد ... ظهرت للناس عاما كلما ازدادوا شموسا ... زادت الدنيا ظلامها ثم عزل عن القضاء سنة تسع وستين بالقاضي عز الدين ابن الصائغ، ثم عزل ابن الصائغ بعد سبع سنين به، وقدم من مصر فدخل دخولا لم يدخل غيره مثله من الاحتفال والزحمة وأصحاب البغال والشهود وكان يوما مشهودا وجلس في منصب حكمه وتكلم الشعراء. ولما قدم ابن خلكان إلى دمشق ثانياً وكان لثامن سنة قال رشيد الدين الفارقي في ذلك: أنت في الشام مثل يوسف في مص ... ر وعندي أن الكرام جناس ولكل سبع شداد وبعد ال ... سبع عام يغاث فيه الناس وقال سعد الدين الفارقي: أذقت الشام سبع سنين جدبا ... غداة هجرته هجرا جميلا فلما زرته من أرض مصر ... مددت عليه من كفيك نيلا وقال ابن جعوان: لما تولى قضاء الشام حاكمه ... قاضي القضاة أبو العباس ذو الكرم من بعد سبع شداد قال خادمه ... ذا العام فيه يغاث الناس بالنعم وقال نور الدين ابن مصعب: رأيت أهل الشام طرا ... ما فيهم قط غير راض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2 نالهم الخير بعد شر ... فالوقت بسط بلا انقباض وعوضوا فرحة بحزن ... مذ أنصف الدهر في التقاضي وسرهم بعد طول غم ... قدوم قاض وعزل قاض فكلهم شاكر وشاك ... بحال مستقبل وماض قلت: بيتا رشيد الدين الفارقي خير هذه المقاطيع. وكان كريما جوادا ممدوحا فيه ستر وحلم وعفو، وحكايته في ذلك مشهورة. ثم عزل بابن الصائغ ودرس بالأمينية إلى أن مات عشية نهار السبت سادس عشرين شهر رجب سنة إحدى وثمانين بالنجيبية النورية وشيعة الخلائق. أنشدني من لفظه لنفسه شهاب الدين أحمد بن غانم كاتب الإنشاء يرثي قاضي القضاة شمس الدين: يا شمس علوم في الثرى قد غابت ... كم نبت عن الشمس وهي ما [إن] نابت لم تأت بمثلك الليالي أبدا ... إما قصرت عنه وإما هابت وكان وجيه الدين محمد بن سويد صاحبه وكان يسومه قضاء أشغال كثيرة ويقضيها، فحضر في بعض الأيام ورام منه أمراً متعذرا فاعتذر، فقال: ما يكون الصاحب صاحباً حتى يعرق جبينه مع صاحبه في جهنم، فقال القاضي: بلى يا وجيه الدين، صرنا معك قشلمشا وما ترضى. ويقال إنه عمل تاريخا للملك الظاهر ووصل نسبه بجنكزخان، فلما وقف عليه قال: هذا يصلح أن يكون وزيراً، اطلبوه، فطلب وبلغ الخبر الصاحب بهاء الدين ابن حنا فسعى في القضية إلى أن أبطل ذلك، وناسى السلطان عليه، فبقى في القاهرة يركب كل يوم ويقف في باب القرافة ويمشي قدام الصاحب إلى أن يوصله بيته، وافتقر حتى لم يكن له غير البغلة لركوبه، وكان له عبد يعمل بابا ويطعمه، والشيخ بهاء الدين ابن النحاس يؤثره، ومع ذلك فلا يحنو عليه الصاحب ولا يحن إلى الإحسان إليه، حتى فاوضه الدوادار وقال له: إلى متى يبقى هذا على هذه الحالة فجهز إلى مكانه بدمشق على القضاء. وحضر إليه وهو بالقاهرة عز الدين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 محمد بن شداد بكتب فقارس من الغور وانتقالها إلى الظاهر وقد ثبتت عليه بالشام وطلب منه الإشهاد عليه بما فيها لتثبت بمصر، قال: كيف اشهد علي قال: يأذن لك قاضي القضاة ابن رزين. فقال: لو كنت مولياً ما كنت آذن له، أفأكون مولى من جهته هذا لا يكون أبداً. واطلع الظاهر على ذلك فعظم عنده وتحقق شرف نفسه. وأمر له بدر الدين بيليك الخزندار تلك الأيام بألفي درهم ومائة إردب قمح فأبى من قبولها وتلطف معه مع القاصد، فقال: تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها، ولم يقبل وأصر على الامتناع مع الفاقة الشديدة. وكان له ميل إلى بعض أولاد الملوك وله فيه الأشعار الرائقة، يقال إنه أول يوم جاء إليه بسط له الطرحة وقال: ما عندي أعز من هذه، طأ عليها، ولما فشا أمرهما وعلم به أهله منعوه من الركوب فقال: يا سادتي إني قنعت وحقكم ... في حبكم منكم بأيسر مطلب إن لم تجودوا بالوصال تعطفاً ... ورأيتم هجري وفرط تجنبي لا تمنعوا عيني القريحة أن ترى ... يوم الخميس جمالكم في الموكب لو كنت تعلم يا حبيبي ما الذي ... ألقاه من ألمٍ إذا لم تركب لرحمتني ورثيت لي من حالةٍ ... لولاك لم يك حملها من مذهبي قسماً بوجهك وهو بدر طالع ... وبليل طرتك التي كالغيهب وبقامةٍ لك كالقضيب ركبت في ... أخطارها في الحب أصعب مركب وبطيب مبسمك الشهي البادر ال ... عذب النمير اللؤلؤي الأشنب لو لم أكن في رتبة أرعى لها ال ... عهد القديم صيانة للمنصب لهتكت ستري في هواك ولذ لي ... خلع العذار ولو ألح مؤنبي لكن خشيت بأن تقول عواذلي ... قد جن هذا الشيخ في هذا الصبي فارحم فديتك حرقة (1) قد قاربت ... كشف القناع بحق ذياك النبي لا تفضحن محبك الصب الذي ... جرعته في الحب أكدر مشرب أخبرني من لفظه القاضي جمال الدين عبد القاهر التبريزي قال: كان الذي   (1) في الأصل: خرقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 يهواه القاضي شمس الدين هو الملك المسعود وكان قد تيمه حبه فكنت أنام عنده في العادلية فتحدثنا في بعض الليالي إلى أن راح الناس من عنده فقال لي: نم أنت، وألقي علي فروة، وقام يدور حول البركة في بيت العادلية، ويكرر هذين البيتين إلى أن أصبح وتوضأ. والبيتان المذكوران: أنا والله هالك ... آيس من سلامتي أو أرى القامة التي ... قد أقامت قيامتي ويقال إنه سأل بعض أصحابه عما يقوله أهل دمشق عنه فاستعفاه فألح عليه فقال: يقولون إنك تكذب في نسبك وتأكل الحشيشة وتحب الغلمان. فقال: أما النسب والكذب فيه فإذا كان ولا بد منه فكنت أنتسب إلى العباس أو إلى علي بن أبي طالب أو إلى أحد الصحابة، وأما النسب إلى قوم لم يبق لهم بقية وأصلهم فرس مجوس فما فيه فائدة. وأما الحشيشة فالكل ارتكاب محرم وإذا كان ولا بد فكنت أشرب الخمر لأنه ألذ. وأما محبة الغلمان فإلى غد أجيبك عن هذه المسألة. قال قطب الدين البونيني: سمعت من يذكر إنما خرج له النسب إلى البرامكة أبو شامة، وليس كذلك. ووقفت على مجلدة من " تاريخ إربل " لوزيرها شرف الدين وقد ذكر وفاة ابن عم قاضي القضاة وقد نسبه إلى البرامكة ولعل ذلك قبل خروجه من إربل. وذكره الصاحب كمال الدين في " تاريخ حلب " ونسبه إلى البرامكة. ومن شعره: وسرب ظباء في غدير تخالعوا (1) ... بدور بأفق الماء تبدو وتغرب يقول عذولي والغرام مصاحبي ... أما لك عن هذي الصبابة مذهب وفي دمك المطلول خاضوا كما ترى ... فقلت له: ذرهم يخوضوا ويلعبوا ومنه مضمناً: كم قلت لما أطلعت وجناته ... حول الشقيق الغض دوحة آس   (1) الفوات: تخالهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 لعذاره (1) الساري العجول بخده ... ما في وقوفك ساعة من باس ومنه: لما بدا العارض في خده ... بثرت قلبي بالنعيم المقيم وقلت هذا عارض ممطر ... فجاءني فيه العذاب الأليم ومنه على ما قيل: انظر إلى عارضه فوقه ... لحاظه ترسل منها الحتوف تشاهد (2) الجنة في وجهه ... لكنها تحت ظلال السيوف ومنه: ولما أن تفرقنا ... وحالت نوب الدهر رأيت الشهد لا يحلو ... فما ظنك بالصبر ومنه: وما سر قلبي منذ شطت بم النوى ... نعيم ولا لهو ولا متصرف ولا ذقت طعم الماء إلا وجدته ... سوى ذلك الماء الذي كنت أعرف ولم أشهد اللذات إلا تكلفا ... وأي سرور يقتضيه التكلف ومنه: أحبابنا لو لقيتم في إقامتكم ... من الصبابة ما لا قيت في ظعني لأصبح البحر من أنفاسكم يبساً ... والبر من أدمعي ينشق بالسفن ومنه: تمثلتم لي وبالبلاد (3) بعيدة ... فخيل لي أن الفؤاد لكم مغنى وناجاكم قلبي على البعد والنوى ... فأوحشتم لفظاً وآنستم معنى   (1) الفوات: أعذاره. (2) الفوات: تعاين. (3) الفوات: والديار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 وقال في ملاح أربعة يلقب أحدهم بالسيف: ملاك بلدتنا بالحسن أربعة ... بحسنهم في جميع الخلق قد فتكوا تملكوا منهج العشاق وافتتحوا ... بالسيف قلبي ولولا السيف ما ملكوا ومنه: أي ليل على المحب أطاله ... سائق الظعن يوم زم جماله يزجر العيس طاوياً يقطع المه ... مه عسفاً وسهوله ورماله أيها السائق المجد ترفق ... بالمطايا فقد سئمن الرحاله وأنخها هنيهة وأرحها ... قد براها السرى وفرط الكلاله (1) لا تطل سيرها العنيف فقد بر ... ح بالصب في سراها الإطاله وتركتم وراءهم حلف وجد ... نادباً في محلكم أطلاله يسأل الربع عن ظباء المصلى ... ما على الربع لو أجاب سؤاله ومحال من المحيل جواب ... غير أن الوقوف فيها غلاله هذه سنة المحبين يبكو ... ن على كل منزل لا محاله يا ديار الأحباب لا زالت الأد ... مع في ترب ساحتيك مذاله (2) وتمشى النسيم وهو عليل ... في مغانيك ساحباً أذياله أين عيش مضى لنا فيك ما أس ... رع عنا ذهابه وزواله حيث وجه الشباب طلق نضير ... والتصابي غصونه مياله ولنا فيك طيب أوقات أنس ... ليتنا في المنام نلقي مثاله وبأرجاء جوك الرحب سرب ... كل عين تراه تهوى جماله من فتاة بديعة الحسن ترنو ... من جفون لحاظها مغتاله ورحيم الدلال حلو المعاني ... تتثنى أعطافه مختاله ذي قوام تود كل غصون ال ... بان لو أنها تحاكي اعتداله وجهه في الظلام بدر تمام ... وعذاراه حوله كالهاله   (1) الفوات: فرط السرى والكلاله. (2) الفوات: مساله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 ومن ذلك: كأنني يوم بان الحي عن إضم ... والقلب من سطوات البين مذعور ورقاء ظلت لفقد الإلف ساجعة ... تبكي عليه اشتياقاً وهو مأسور يا جيرة الحي هل من عودة فعسى ... يفيق من نشوات الشوق مخمور إذا ظفرت من الدنيا بقربكم ... فكل ذنب جناه الدهر مغفور وله في الدوبيت شيء كثير من أحسنه قوله: في هامش خدك البديع القاني ... أسرار هوى لكل (1) صب عان قد خرجها الباري فما أحسنها ... من حاشية بالقلم الريحاني وقوله: روحي بك يا معذبي قد شقيت ... في جنب رضاك في الهوى ما لقيت لا تعجل بالله عليها فعسى ... أن تدركها برحمة إن بقيت وقوله: يا سعد عساك تطرق الحي عساك ... قصداً فإذا رأيت من حل هناك قل صبك ما زال به الوجد إلى ... أن مات غراماً أحسن الله عزاك وكتب إليه السراج الوراق لغزاً في مئذنة: يا إماماً له ضياء ذكاء ... يتلاشى له ضياء ذكاء ما مسمى بالرفع يعرب والنص ... ب وإن كان مستقر البناء علم مفرد فإن رفعوه ... رفعوه عمداً لأجل النداء أنثوه ومنه قد عرف التذكي ... ر فانظر تناقض الأشياء وهو ظرف فأين من فيه ظرف ... ليجلي من هذه العمياء فأجاب (2) :.   (1) الفوات: تصحيح غرام كل. (2) بياض في الأصل بقدر ثلاثة أسطر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 قال شمس الدين أحمد بن المنير في قاضي القضاة المذكور: ليس شمس الضحى كأوصاف شمس الدي ... ن قاضي القضاة حاشا وكلا تلك مهما علت محلا ثنت ظ ... لا وهذا مهما علا مد ظلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 تحقيق الكتاب بين عامي 1835 و 1850، قام الأستاذ فردينند وستنفيلد بنشر كتاب ((وفيات الأعيان)) في اثني عشر جزءاً، وخصص الجزء الثالث عشر لاختلاف القراءات وللزيادات في النسخ المختلفة وللفهارس العامة. وقد اعتمد في طبعته هذه على النسخ الآتية: 1 - النسخة " أ ": وهي من مخطوطة بليدن نسخ القسم الأعظم منها لورسباخ من مخطوطة كان يملكها شولتز وأخيراً اشترتها مكتبة جوتنجن سنة 1917؛ وتتألف من ست مجلدات متوسطة الحجم من قطع الربع وفيها بعض صفحات خالية. وكان ما نسخه لورسباخ منها جيداً مساوياً مساوياً للأصل في دقته. 2 - النسخة " ب ": وهي من غوطا، وتشمل ما يقارب نصف الكتاب وتنتهي بترجمة أبي محمد عبد الملك بن هشام وتعد من اقدم المخطوطات إذ أنها كتبت بعد وفاة المؤلف باثنتى عشرة سنة إذ في آخرها: " كتب هذا الكتاب في مساء الأحد لثلاث بقين من جمادى الأول سنة 693، وكتبه العبد الفقير أبو الرحى ابن أبي الحسن بن يوسف ابن أبي الرحى بن سعيد الاسرائيلي بدمشق المحروسة عن اصل يملكه القاضي علاء الدين علي بن شمس الدين محمد بن غانم كاتب الديوان ". وهذه النسخة التي كان يملكها القاضي علاء الدين نسخت سنة 692 بخط تاج الدين معتوق بن سعد الاسعردي السميساطي وعلى النسخة تملكات مؤرخة آخرها سنة 1036، وعلى الصفحة الأولى منها ترجمة لابن خلكان مأخوذة من كتاب " تذكرة النبيه " لحسن بن حبيب الكلبي، وعلى هوامشها حواش وتعليقات لبعض العلماء تتفاوت في قيمتها. 3 - النسخة " ج ": وهي من برلين، كتبت بخط دقيق وجاءت في مجلد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 واحد يشمل الكتاب كله وتاريخ نسخها سنة 1083، فهي حديثة نسبيا كما أن تراجمها كثيرا ما تكون موجزة. 4 - النسخة " د ": وهي من برلين أيضاً وتقع في أربعة أجزاء إلا أن الجزء الرابع فيها ناقص، وهي من أشد النسخ إسهابا في الترجمات ومن أكثرها عدد تراجم وكثيرا ما يختلف ترتيب التراجم فيها عن النسخ الأخرى وقد كتب الجزء الثاني منها سنة 1126هـ وفي آخر الجزء الثالث عبارة هامة يذكر فيها المؤلف أنه ترك القاهرة لأنه عين قاضيا بدمشق ولهذا توقف عن إتمام الكتاب. 5 - النسخة " هـ ": وهي مخطوطة أخرى من غوطا وتاريخ نسخها 1201. وقد اختار الأستاذ وستنفيلد الاعتماد على نسخة " ب " لأنها أقدم النسخ وخاصة حين تتفق معها نسخة أخرى، ولم يكن يفارق قراءة " ب " إلا إذا اتفقت فيها النسخ الأخرى دونها، ويقول أن " ب " و " د " تتفقان كثيرا في القراءة بينما تتفق " أ " و " ج " في قراءة أخرى. وبعد أن مضى شوطا في العمل، اعتمد على مخطوطات أخرى منها " ف "، التي تمثل نسخة لبعض أصدقاء المحقق نسخها بخطه عن أصل في باريس. ثم حصل على نسخة ثالثة من غوطا - رقم 417 - وهي قطعة ناقصة من أولها وآخرها إلا أنها قديمة جيدة الخط والقراءة وهي تكمل النسخة " ب "، ويقول أنه لم يستطع الحصول على جميع المخطوطة عند تحقيقه الكتاب وإنما قرأ معضمها وقيد الخلاف بينها وبين سائر المخطوطات. ويبدو من هذا العرض أن طبعة وستنفيلد تمثل تلفيقا بين هذه المخطوطات العديدة في عدد التراجم لأنه ليست هناك نسخة من النسخ المذكورة قد استوفت ذلك العدد كاملاً. وقد انتهى عدد تراجم الكتاب في هذه الطبعة إلى 865 ترجمة، إلا أن بعضها لم يذكر منه إلا الاسم ولم يكتب المؤلف عنه شيئا من الخبر. ويبدو أن هذه العملية التلفيقية أمر لا معدا عنه لأن النسخ الخطية من الكتاب كثيرة جدا ولسنا نعلم أيها يمثل المرحلة الأولى في التأليف وأيها يمثل المرحلة الأخيرة وأيها هو الواقع بين المرحلتين؛ ولهذا آثرت إبقاء ما أختاره وستنفيلد على حاله واستأنست في مراجعة عمله بمخطوطتين: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 1 - النسخة " م ": وهي نسخة المتحف البريطاني - رقم 1505 التكملة 607 - وتحتوي التراجم من أول الكتاب وحتى آخره حرف الميم، تشبه أن تكون مسودة أولية للمؤلف لأن تراجمها شديدة الإيجاز وهي تنقص عددا كبيرا من التراجم التي وردت في النسخ الاخرى. 2 - النسخة " ط ": وهي أيضا في المتحف البريطاني وتحمل رقم 608/12 وتمثل الجزء الرابع من كتاب " الوفيات " وقد كتب على الورقة الأولى منها: " هذا الجزء فيه التكملة التي ألحقها بحرف الياء رحمة الله تعالى على مصنفه ورضوانه " وهي تقع في 153 ورقة، وفي آخرها: " تم الجزء الرابع من وفيات الأعيان وبه يتم الكتاب ". وتاريخ نسخها الخامس عشر من شهر رمضان المعظم قدره سنة 991، والتراجم فيها لا تعتمد الإيجاز كما هي حال القطعة السابقة. وقد جرى عملنا في تحقيق الجزئين الأولين بالاعتماد على طبعة وستنفيلد ونسخة " م "، ولهذا أثبت فروق القراءات بين النسخ في حواشي هذين الجزئين. ولما كانت نسخة " د " من أكثر النسخ زيادات، فقد أدرجت في المتن من زياداتها ما لا يخل بالسياق العام في التراجم، وأرجأت ما كان صورة أخرى فيها وجعلته ملحقا بآخر كل جزء. وتنتهي هذه الزيادات الملحقة التي أثبتها وستنفيلد في آخر الجزء الثاني. وأحيانا أشرت إلى بعض الزيادات التي وردت في " أ " و " ج " إذا كانت ذات أهمية واضحة. أما زيادات " ف " فإني لم أعتمدها في هذه الطبعة لأنه من التجوز أن تعد " ف " أصلا معتمدا. وقد قدرت أن يجيء هذا الكتاب في سبعة أجزاء، وأن يكون الجزء الثامن خاصاً بالفهارس المفصلة، وأنا أتوقع أن يكون اعتمادي في الأجزاء الأخرى بعد الثاني على مخطوطات جديدة بالإضافة إلى المخطوطة " ط ". وعند الحصول على ما يسعف في تحقيق هذا الكتاب من مخطوطات جديدة، ستتم الإشارة إلى ذلك تباعا، وسيدرج في الجزء الثامن ترجمة تفصيلية للمؤلف ودراسة لكتاب " وفيات الأعيان " وإني لأرجو أن أوضح هنالك شيئا من طبيعتي التأليف المتدرج الذي جرى عليه المؤلف في كتابه هذا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 ولا يفوتني في هذا المقام أن أتقدم بوافر الشكر إلى كل من الصديقين العزيزين: الأستاذ الدكتور يوسف فإن أس على مساعدته في توضيح المقدمات اللاتينية التي كتبها وستنفيلد في مطالع الأجزاء الاثني عشر؛ والأستاذ الدكتور وليد عرفات الذي تفضل فأرسل إلي فلمين مصورين عن نسختي المتحف البريطاني. ويطيب لي أيضاً في إخراج هذا الكتاب أثناء تغيبي عن بيروت في رحلة علمية طويلة. والله أسأل أن يعينني على إتمام الأجزاء الباقية منه بمنه وكرمه. بيروت في 3 آب (أغسطس) 1968 إحسان عباس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 بسم الله الرحمن الرحيم يقول الفقير إلى رحمة الله تعالى شمس الدين أبو العباس أحمد بن محمد بن إبراهيم بن أبي بكر بن خلكان، الشافعي، رحمه الله تعالى: بعد حمد الله تفرد بالبقاء، وحكم على عباده بالموت والفناء، وكتب لكل نفس أجل لا تجاوزه عند الانقضا، وسوى فيه بين الشريف والمشروف والأقوياء والضعفاء، أحمده على سوائغ النعم وضوافي الآلاء، حمد معترف بالقصور عن إدراك أقل مراتب الثناء، وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له شهادة مخلص في جميع الآناء، راجٍ رحمة ربه في الإصباح والإمساء، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أفضل الأنبياء، وأكرم الأصفياء، والداعي إلى سلوك المحجة البيضاء، صلى الله عليه وعلى آله السادة النجباء، صلاة دائمة بدوام الأرض والسماء، ورضي الله عن أزواجه وأصحابه البررة الأتقياء. هذا مختصر في التاريخ، دعاني إلى جمعه أني كنت مولعاً بالاطلاع على أخبار المتقدمين من أولي النباهة وتواريخ (1) وفياتهم وموالدهم (2) ، ومن جمع منهم كل عصر فوقع لي منهم شيء حملني على الاستزادة وكثرة التتبع، فعمدة إلى مطالعة الكتب الموسومة بهذا الفن، وأخذت من أفواه الأئمة (3) المتقنين (4) له ما لم أجده في كتاب، ولم أزل على ذلك حتى حصل عندي منه مسودات   (1) ب ج: وتاريخ. (2) ج: ومواليدهم. (3) أ: في المشايخ. (4) في نسخة: المتقدمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1 كثيرة في سنين عديدة (1) ، وغلق على خاطري بعضه فصرت إذا احتجت إلى معاودة شيء منه لا أصل إليه إلا بعد التعب في استخراجه، لكونه غير مرتب، فاضطررت إلى ترتيبه، فرأيت على حروف المعجم أيسر منه على السنين، فعدلت إليه، والتزمت فيه تقديم من كان أول اسمه الهمزة، ثم من كان ثاني حرف من اسمه الهمزة أو ما هو أقرب إليها، على غيره، فقدمت إبراهيم على أحمد لأن الباء أقرب إلى الهمزة من الحاء، وكذلك فعلت إلى آخره، ليكون أسهل للتناول (2) ، وإن كان هذا (3) يفضي إلى تأخير المتقدم وتقديم المتأخر في العصر (4) وإدخال من ليس من الجنس بين المتجانسين، لكن هذه المصلحة أحوجت إليه (5) . ولم أذكر في هذا المختصر أحداً من الصحابة رضوان الله عليهم، ولا من التابعين رضي الله عنهم، إلا جماعة يسيرة تدعو حاجة كثير من الناس إلى معرفة أحوالهم، وكذلك الخلفاء: ولم أذكر أحداً منهم اكتفاء بالمصنفات الكثيرة في هذا الباب، لكن ذكرت جماعة من الأفاضل الذين شاهدتهم ونقلت عنهم، أو كانوا في زمني ولم أرهم، ليطلع على حالهم من يأتي بعدي. ولم اقصر هذا المختصر على طائفة مخصوصة مثل العلماء أو الملوك أو الأمراء أو الوزراء أو الشعراء، بل كل من له شهرة بين الناس ويقع السؤال عنه ذكرته وأتيت من أحواله بما وفقت عليه، مع الإيجاز كيلا يطول الكتاب، أثبت وفاته ومولده إن قدرت عليه، ورفعت نسبه على ما ظفرت به، وقيدت من الألفاظ ما لا يؤمن تصحيفه، وذكرت من محاسن كل شخص ما يليق به من مكرمة أو نادرة أو شعر أو رسالة ليتفكه به متأمله ولا يراه مقصوراً على أسلوب واحد فيمليه، والدواعي إنما تنبعث لتصفح الكتاب إذا كان مفنناً.   (1) أ: كثيرة. (2) هذه رواية أد، وفي النسخ الأخرى: إلى التناول. (3) ب ج هـ: ذلك. (4) د: في بعض العصر. (5) د: تدعو إليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2 وبعد أن صار كذلك لم يكن بد من استفتاحه بخطبة وجيزة للتبرك بها؛ فنشأ من مجموع ذلك هذا الكتاب، وجعلته تذكرة لنفسي. وسميته كتاب " وفيات الأعيان، وأبناء أبناء الزمان، مما ثبت بالنقل أو السماع أو أثبته العيان " ليستدل على مضمون الكتاب بمجرد العنوان. فمن وقف عليه من أهل الدراية بهذا الشأن ورأى فيه خللاً فهو المثاب في إصلاحه بعد التثبيت فيه، فإني بذلت (1) الجهد في التقاطه من مظان الصحة، ولم أتساهل في نقله ممن لا يوثق به، بل تحريت فيه حسبما وصلت القدرة إليه. وكان ترتيبي له في شهور سنة أربع وخمسين وستمائة بالقاهرة المحروسة مع شواغل عائقة، وأحوال عن مثل هذا متضايقة، فليعذر الواقف عليه، وليعلم أن الحاجة المذكورة ألجأت إليه، لا أن النفس تحدثها الأماني من الانتظام في سلك المؤلفين بالمحال، ففي أمثالهم السائرة " لكل عمل رجال " ومن أين لي ذلك والبضاعة من هذا العلم قدر منزور، والمتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور، حرسنا الله تعالى من التردي في مهاوي الغواية، وجعل لنا من العرفان بأقدارنا أمنع وقاية، بمنه وكرمه، آمين.   (1) ج: قد بذلت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 حرف الهمزة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 فراغ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 (1) إبراهيم النخعي أبو عمران، وأبو عمار، إبراهيم بن يزيد بن الأسود بن عمرو بن ربيعة (2) بن حارثة بن سعد بن مالك بن النخع، الفقيه، الكوفي، النخعي؛ أحد الأئمة المشاهير، تابعي رأي عائشة رضي الله عنها ودخل عليها، ولم يثبت له منها سماع [وكان إبراهيم إذا طلبه إنسان لا يحب أن يلقاه خرجت الخادم فقالت اطلبه في المسجد؛ وقال آخر: كنا إذا خرجنا من عند إبراهيم يقول: إن سئلتم عني فقولوا لا ندري أين هو، فإنكم إذا خرجتم لا تدرون أين أكون] (3) . توفي سنة ست وقيل خمس وتسعين للهجرة، وله تسع وأربعون سنة، وقيل: ثمان وخمسون سنة، والأول أصح. ولما حضرته الوفاة (4) جزع جزعاً شديداً، فقيل له في ذلك، فقال: وأي خطر أعظم مما أنا فيه إنما أتوقع رسولاً يأتي علي من ربي إما بالجنة، وإما بالنار، والله لوددت أنها تلجلج في حلقي (5) إلى يوم القيامة. وأمه مليكة بنت يزيد بن قيس النخعية، أخت الأسود بن يزيد النخعي، فهو خاله رضي الله عنه. ونسبته إلى النخع - بفتح النون والخاء المعجمة وبعدها عين مهملة - وهي قبيلة كبيرة من مذحج باليمن. واسم النخع جسر بن عمرو بن علة بن خالد ابن مالك بن أدد، وإنما قيل له النخع لأنه انتخع من قومه: أي بعد عنهم،   (1) راجع في ترجمته ابن حبان: 101 وابن سعد 6: 270 - 284، وقال ابن سعد أجمعوا على أنه توفي سنة 96، وروى أنه نيف على خمسين سنة. (2) د: ابن ذهل بن ربيعة. (3) ما بين معقفين في كل موضع زيادة من نسخة د، إلا أن يذكر غير ذلك. (4) د: ولما اختصر. (5) أد: في صدري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 وخرج منهم خلق كثير، وقيل في نسبه غير هذا، هذا هو الصحيح، نقلته من جمهرة النسب لابن الكلبي. 2 - (1) أبو ثور صاحب الشافعي أبو ثور إبراهيم بن خالد بن أبي اليمان الكلبي الفقيه البغدادي صاحب الإمام الشافعي رضي الله عنه وناقل الأقوال القديمة عنه؛ وكان أحد الفقهاء الأعلام والثقات المأمونين في الدين، له الكتب المصنفة في الأحكام جمع فيها بين الحديث والفقه، وكان أول اشتغاله بمذهب أهل الرأي، حتى (2) قدم الشافعي العراق فاختلف إليه واتبعه ورفض مذهبه الأول، ولم يزل على ذلك إلى أن توفي لثلاث بقين من صفر سنة ست وأربعين ومائتين ببغداد، ودفن بمقبرة باب الكناس (3) ، رحمه الله تعالى. وقال أحمد بن حنبل: هو عندي في مسلاخ سفيان الثوري، أعرفه بالسنة منذ خمسين سنة. 3 - (4) أبو إسحاق المروزي أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد بن إسحاق المروزي الفقيه الشافعي؛ إمام   (1) انظر طبقات السبكي 1: 227 وتاريخ بغداد 6: 65. (2) د: إلى أن. (3) د: الكماس، والصواب ما أثبت في المتن. (4) تاريخ بغداد 6: 11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 عصره في الفتوى والتدريس، أخذ الفقه عن أبي العباس بن سريج وبرع فيه، وانتهت إليه الرياسة بالعراق بعد ابن سريج، وصنف كتباً كثيرة، وشرح مختصر المزني، وأقام ببغداد دهراً طويلاً يدرس ويفتي، وأنجب من أصحابه خلق كثير، وإليه ينسب درب المروزي ببغداد الذي في قطيعة الربيع (1) . ثم ارتحل إلى مصر في أواخر عمره فأدركه أجله بها فتوفي لتسع خلون من رجب سنة أربعين وثلثمائة، ودفن بالقرب من تربة الإمام الشافعي، رضي الله عنه؛ وقيل: إنه توفي بعد العتمة (2) من ليلة السبت لإحدى عشرة ليلة خلت من رجب من السنة المذكورة وذكره الخطيب في تاريخه. والمروزي - بفتح الميم وسكون الراء وفتح الواو وبعدها زاء معجمة - نسبة إلى مرو الشاهجان، وهي إحدى كراسي خراسان أربع مدن: هذه، ونيسابور، وهراة وبلخ. إنما قيل لها مروالشاهجان لتتميز عن مرو الروذ، والشاهجان: لفظ عجمي، تفسيره روح الملك، فالشاه: الملك، والجان: الروح، وعادتهم أن يقدموا ذكر المضاف إليه على المضاف، ومرو هذه بناها الإسكندر ذو القرنين، وهي سرير الملك بخراسان، وزادوا في النسبة إليها زاء كما قالوا في النسبة إلى الري: رازي، وإلى إصطخر: إصطخرزي، على إحدى النسبتين، إلا أن هذه الزيادة تختص ببني آدم عند أكثر أهل العلم بالنسب، ماعدا ذلك لا يزاد فيه الزاء، فيقال: فلان المروزي والثوب وغيره من المتاع مروي - بسكون الراء - وقيل: إنه يقال في الجميع بزيادة الزاء، ولا فرق بينهما، وهو من باب تغيير النسب، وسيأتي في ترجمة القاضي أبي حامد أحمد بن عامر المروروذي الفقيه الشافعي بقية الكلام على هذين البلدين، إن شاء الله تعالى.   (1) أ: قصبة الربيع؛ والصواب ما أثبت. (2) أب: بعد عتمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 4 - (1) الأستاذ الإسفرايني أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن مهران الإسفرايني الملقب بركن الدين، الفقيه الشافعي المتكلم الأصولي؛ ذكره الحاكم أبو عبد الله، وقال: أخذ عن الكلام والأصول عامة شيوخ نيسابور، وأقر له بالعلم أهل العراق، وخراسان، وله التصانيف الجليلة، منها: كتابه الكبير الذي سماه جامع الحلى في أصول الدين والرد على الملحدين رأيته في خمسة مجلدات، وغير ذلك من المصنفات، وأخذ عنه القاضي أبو الطيب الطبري أصول الفقه بإسفراين (2) وبنيت له المدرسة المشهورة بنيسابور، وذكره أبو الحسن عبد الغافر الفارسي، في سياق تاريخ نيسابور، فقال في حقه: أحد من بلغ حد الاجتهاد من العلماء لتبحره في العلوم واستجماعه شرائط الإمامة، وكان طراز ناحية الشرق، وكان يقول: أشتهي أن أموت بنيسابور حتى يصلي علي جميع أهل نيسابور فتوفي بها يوم عاشوراء، سنة ثماني عشرة وأربعمائة، ثم نقلوه إلى إسفراين، ودفن في مشهده، رحمة الله تعالى. واختلف إلى مجلسه أبو القاسم القشيري، وأكثر الحافظ أبو بكر البيهقي الرواية عنه في تصانيفه وغيره من المصنفين، رحمهم الله أجمعين، وسمع بخراسان أبا بكر الإسماعيلي، وبالعراق أبا محمد دعلج بن أحمد السجزي وأقرانهما، وسيأتي الكلام على إسفراين في ترجمة الشيخ أبي أحمد بن محمد الإسفرايني.   (1) ترجمته في طبقات السبكي 3: 111 والقطعة الثانية من The Histories of Nishapur الورقة: 35. (2) ب هـ: بإسرافين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 5 - (1) أبو اسحاق الشيرازي الشيخ أبو إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف، الشيرازي، الفيروزأبادي الملقب جمال الدين؛ سكن بغداد، وتفقه على جماعة من الأعيان منهم أبو أحمد عبد الوهاب بن محمد بن أمين وأبو عبد الله محمد بن عبد الله البيضاوي وأبو القاسم منصور بن عمر الكرخي وغيرهم وصحب القاضي أبا الطيب الطبري كثيراً، وانتفع به، وناب عنه في مجلسه، ورتبه معيداً في حلقته، وصار إمام وقته ببغداد، ولما بنى نظام الملك مدرسته ببغداد، ساله أن يتولاها، فلم يفعل، فولاها لأبي نصر ابن الصباغ صاحب الشامل مدة يسيرة، ثم أجاب إلى ذلك فتولاها، ولم يزل بها إلى أن مات، وقد بسطت القول في ذلك في ترجمة الشيخ أبي نصر عبد السيد بن الصباغ، صاحب الشامل، فليطلب منه. وسمع الحديث من أبي بكر أحمد بن محمد بن أحمد بن غالب الخوارزمي البرقاني الحافظ وأبي علي الحسن بن أحمد بن إبراهيم بن شاذان البزار وأبي الفرج محمد بن عبد الله الخرجوشي الشيرازى وغيرهم. وصنف التصانيف المباركة المفيدة، منها: المهذب في المذهب، والتنبيه في الفقه، واللمع وشرحها في أصول الفقه، والنكت في الخلاف، والتبصرة، والمعونة، والتلخيص (2) ، في الجدل، وغير ذلك، وانتفع به خلق كثير. وله الشعر الحسن، فمنه: سألت الناس عن خلٍ وفيٍ ... فقالوا ما إلى هذا سبيل تمسك إن ظفرت (3) بذيل (4) حر ... فإن الحر في الدنيا قليل   (1) طبقات السبكي 3: 89 - 111. (2) السبكي: الملخص. (3) أ: إن قدرت. (4) السبكي: برد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 وقال الشيخ أبو بكر محمد بن الوليد الطرطوشي الآتي ذكره إن شاء الله تعالى: كان ببغداد شاعراً مفلق، يقال له عاصم، فقال يمدح الشيخ أبا إسحاق قدس الله سره (1) : تراه من الذكاء نحيف جسمٍ ... عليه من توقده دليل إذا كان الفتى ضخم المعالي ... فليس يضره (2) الجسم النحيل وكان في غاية من الورع والتشدد (3) في الدين، ومحاسنه أكثر من أن تحصر. ولد في سنة ثلاث وتسعين وثلثمائة بفيروزاباذ، وتوفي ليلة الأحد، الحادي والعشرين من جمادى الآخرة، قاله السمعاني في الذيل، وقيل: في جمادى الأولى، قاله السمعاني أيضا، سنة ست وسبعين وأربعمائة، ببغداد، ودفن من الغد بباب أبرز (4) ، رحمة الله. ورثاه أبو القاسم ابن ناقياء، واسمه عبد الله، وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى، بقوله: أجرى المدامع بالدم المهراق ... خطب أقام قيامة الآماق ما لليالي لا تؤلف شملها (5) ... بعد ابن بجدتها أبي إسحاق إن قيل مات فلم يمت من ذكره ... حي على مر الليالي باقي وذكره محب الدين النجار في تاريخ بغداد، فقال في حقه: إمام أصحاب الشافعي، ومن انتشر فضله في البلاد، وفاق أهل زمانه بالعلم والزهد، وأكثر علماء الأمصار (6) من تلامذته. ولد بفير وزاباذ، بلدة بفارس، ونشأ بها، ودخل شيراز، وقرأ بها الفقه على أبي عبد الله البيضاوي، وعلى أبي أحمد   (1) هـ: روحه. (2) ج: يضيره. (3) هـ: والتشديد. (4) في الأصول: أبرز. (5) ج: شملنا. (6) أ: العلماء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 عبد الوهاب بن رامين، ثم دخل البصرة وقرأ على الحوزي، ودخل بغداد في شوال سنة خمس عشرة وأربعمائة وقرأ على أبي الطيب الطبري، ومولده في سنة ثلاث وتسعين وثلثمائة. وقال أبو عبد الله الحميدي: سألته عن مولده، فذكر دلائل دلت علىسنة ست وتسعين، قال: ورحلت (1) في طلب العلم إلى شيراز، في سنة عشر وأربعمائة، وقيل: إن مولده في سنة خمس وتسعين، والله أعلم. وجلس أصحابه للعزاء بالمدرسة النظامية، ولما انقضى العزاء رتب مؤيد الملك بن نظام الملك أبا سعد (2) المتولي مكانه، ولما بلغ الخبر نظام الملك كتب بإنكار ذلك، وقال: كان من الواجب أن تغلق المدرسة سنة لأجله، وزرى على من تولى موضعه، وأمرأن يدرس الشيخ أبو نصر عبد السيد بن الصباغ في مكانه، رحمهم الله تعالى. وفير وزاباذ - بكسر الفاء وسكون الياء المثناة من تحت وضم الراء المهملة وبعد الواو الساكنة زاء مفتوحة معجمة وبعد الألف باء موحدة وبعدالألف ذال معجمه - بلدة بفارس، ويقال: هي مدينة جور، قاله الحافظ أبو سعد ابن السمعاني في كتابه الأنساب (3) ، وقال غيره: هي بفتح الفاء، والله أعلم. 6 - (4) ابراهيم بن أدهم [أبوإسحاق إبراهيم بن منصور بن زيد بن جابر العجلي ويقال التميمي؛ أصله   (1) ج د هـ: ودخلت. (2) هـ: سعيد. (3) انظر اللباب 2: 232. (4) ترجمة إبراهيم بن أدهم في تهذيب ابن عساكر 2: 167 وكتاب التوابين: 149 وحلية الأولياء 7: 367، 8: 3 والبداية والنهاية 10: 135 وشرح المقامات 2: 82 والعبر 1: 238 والوافي 5: رقم 2390 وطبقات السلمي: 13؛ وقد انفردت النسختان ج د بالترجمة التي أثبتناها هنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 من بلخ وكان من أولاد الملوك، روى عن جماعة من التابعين كأبي إسحاق السبيعي وأبي حازم وقتادة ومالك بن دينار والأعمش وأبان (1) ، واشتغل بالزهد عن الرواية وكان يكون بالكوفة ثم بالشام؛ مر به يوماً بريد وهو ينطر كرماً فقال: ناولني من هذا العنب، فقال: ما أذن لي صاحبه، فقلب السوط وجعل يقنع رأسه، فطأطأ إبراهيم رأسه وقال: اضرب رأساً طال ما قد عصىالله، قال: فانخذل ومضى. وقال شقيق البلخي: قال لي إبراهيم أخبرني عما أنت عليه، فقلت: إذا رزقت أكلت وإذا منعت صبرت، قال: هكذا تعمل كلاب بلخ عندنا (2) . قلت له: فكيف (3) تعمل أنت قال: إذا رزقت آثرت وإذا منعت شكرت. وكان إبراهيم في البحر وهبت ريح (4) واضطربت السفن وبكى الناس فقيل لبعضهم (5) : هذا إبراهيم بن أدهم لو سألته أن يدعو الله، وكان (6) قائما في ناحية من السفينة ملفوف رأسه، فدنا إليه وقال: يا أبا إسحاق، ماترى ما فيه الناس فرفع رأسه وقال: اللهم قد أريتنا قدرتك فأرنا رحمتك، فهدأت السفن. قال رجل لبشر بن الحارث: إني أحب أن أسلك طريق إبراهيم بن أدهم، قال: لا تقوى، قال: ولم قال: لأن إبراهيم بن أدهم عمل ولم يقل وأنت قلت ولم تعمل. قال أبو سليمان الداراني: صلى إبراهيم خمس عشرة صلاة بوضوء واحد، وتوفي سنة140في الجزيرة وحمل إلى صور فدفن هناك، رحمه الله تعالى ونفعنا ببركاته، إنه على مايشاء قدير] .   (1) وأبان: زيادة من د وحدها. (2) عندنا: زيادة من د. (3) ج: كيف. (4) د: الريح. (5) د: فقال بعضهم. (6) د: قال وكان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 7 - (1) العراقي الخطيب أبو إسحاق إبراهيم بن منصور بن المسلم، الفقيه الشافعي المصري المعروف بالعراقي، الخطيب بجامع مصر؛ كان فقيهاً فاضلاً، وشرح كتاب المهذب، تصنيف الشيخ أبي إسحاق الشيرازي - رحمة الله تعالى - في عشرة أجزاء شرحاً جيداً، ولم يكن من العراق، وإنما سافر إلى بغداد، واشتغل بها مدة، فنسب إليها لإقامته بها تلك المدة، وعاد إلى مصر وتولى الخطابة بجامعها العتيق والإمامة به والتصدر، ولم يزل على الخطابة والإمامة به والإفادة إلى حين وفاته ومضى على سداد وأمر جميل. قرأ ببغداد الفقه على أبي بكر محمد بن الحسين الأرموي، وكان من أصحاب الشيخ أبي إسحاق الشيرازي، وعلى أبي الحسن محمد بن المبارك بن الخل البغدادي، وتفقه ببلده على القاضي أبي المعالي مجلي بن جميع الآتي ذكره إن شاء الله تعالى، وكان في بغداد يعرف بالمصري، فلما رجع إلى مصر قيل له: العراقي، والله أعلم. وقد روي عن الخطيب أبي إسحاق المذكور أنه كان يقول: أنشدني شيخنا ابن الخل المذكور ببغداد، ولم يسم قائلاً: في زخرف القول تزيين لباطله ... والحق قد يعتريه سوء تعبير تقول هذا مجاج النحل تمدحه ... وإن ذممت تقل قيء الزنابير مدحاً وذماً وما جاوزت وصفهما ... حسن البيان يري الظلماء كالنور وكانت ولادته بمصر، سنة عشر وخمسمائة، وتوفي يوم الخميس الحادي والعشرين من جمادى الأولى، سنة ست وتسعين وخمسمائة بمصر، ودفن بسفح المقطم، رحمة الله تعالى.   (1) طبقات السبكي 4: 201. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 والمسلم: بضم الميم وتشديد اللام. (1) وكان له ولد فاضل، نبيل القدر، اسمه أبو محمد عبد الحكم (1) ، ولي الخطابة بجامع مصر بعد وفاة والده، وكانت له خطب جيدة، وشعر لطيف. فمن شعره في العماد ابن جبريل، المعروف بابن أخي العلم - وكان صاحب ديوان بيت المال بمصر، وكان قد وقع فانكسرت يده - قوله: إن العماد بن جبريل أخي علمٍ ... له يد أصبحت مذمومة الأُثر تأخر القطع عنها وهي سارقة ... فجاءها الكسر يستقصي عن الخبر وله غير ذلك أشعار نادرة، ثم وجدت هذين البيتين في ديوان جعفر بن شمس الخلافة الآتي ذكره؛ والله أعلم. ومن شعر عبد الحكم المذكور في رجل وجب عليه القتل، فرماه المستوفي للقصاص بسهم فأصاب كبده فقتله، فقال عبد الحكم (2) : أخرجت من كبد القوس ابنها فغدت ... تئن والأم قد تحنو على الولد وما درت أنه لما رميت به ... ما سار من كبد إلا إلى كبد قلت: البيت الأول من هذين البيتين مأخوذ من قول بعض المغاربة: لا غرو من جزعي لبينهم ... يوم النوى وأنا أخوالهم فالقوس من خشب تئن إذا ... ما كلفوها فرقة السهم والبيت الثاني مأخوذ من قول الفقيه عمارة اليمني، الآتي ذكره إن شاء الله تعالى، في قصيدته الميمية التي ذكرتها هناك، وقد قدم من مكة - شرفها الله تعالى - إلى الديار المصرية، وامتدح بها مليكها يومئذ، - وهو الفائز عيسى بن الظافر العبيدي، ووزيره الصالح طلائع بن رزيك، وكلاهما مذكوران في هذا التاريخ، فقال من جملة القصيدة، يمدح العيس التي حملته إلى مصر:   (1) ترجمة عبد الحكم في المغرب (قسم مصر) : 257 وانظر حسن المحاضرة 1: 229. (2) البيتان في المغرب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 ورحن من كعبة البطحاء والحرم ... وفداً إلى كعبة المعروف والكرم فهل درى البيت أني بعد فرقته ... ما سرت من حرم إلا إلى حرم ومن شعر عبد الحكم أيضا: قامت تطالبني بلؤلؤ نحرها ... لما رأت عيني تجود بدرها وتبسمت عجباً فقلت لصاحبي ... هذا الذي اتهمت به في ثغرها قلت: وهذا المعنى مأخوذ من قول أبي الحسن علي بن عطية المعروف بابن الزقاق الأندلسي البلنسي (1) : وشادن (2) طاف بالكؤوس ضحىً ... فحثها والصباح قد وضحا والروض يبدي لنا شقائقه (3) ... وآسه العنبري قد نفحا قلت: وأين الأقاح قال لنا: ... أودعته ثغر من سقى القدحا فظل ساقي المدآم يجحد ما ... قال، فلما تبسم افتضحا وكان الوزير صفي الدين أبو محمد عبد الله بن علي المعروف بابن شكر وزيرالملك العادل بن أيوب بمصر، قد عزل عبد الحكم المذكور عن خطابة جامع مصر، فكتب إليه (4) : فلأي بابٍ غير بابك أرجع ... وبأي جود غير جودك أطمع سدت علي مسالكي ومذاهبي ... إلا إليك فدلني ما أصنع فكأنما الأبواب بابك وحده ... وكأنما أنت الخليقة أجمع قلت: والبيت الأخير مأخوذ من قول السلامي الشاعر المشهور، وهو: فبشرت آمالي بملكٍ هو الورى ... ودار هي الدنيا ويوم هو الدهر (5)   (1) ديوانه: 124 والوافي: 134 والشريشي 2: 13 والمغرب 2: 324. (2) الديوان: وأغيد. (3) أ: حدائقه. (4) المغرب: 258. (5) قبل البيت: إليك طوى عرض البسيطة جاعلا ... قصارى المطايا أن يلوح له القصر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 وسيأتي ذكرها في ترجمة عضد الدولة بن بويه في حرف الفاء، إن شاء الله تعالى. [ولعبد الحكم المذكور يستجلي زوجته: سترت وجهها بكف عليه ... شبك النقش وهي تجلى عروسا قلت لم يغن عنك سترك شيئاً ... ومتى غطت الشباك الشموسا وله أيضاً: ومأدبة بتنا بها في لذاذة ... يخيل لي أنا على الماء نوم فمن فوقنا الأفلاك والفلك تحتنا ... ففي تلك أقمار وفي تيك أنجم وله أيضاً: على مهل ففي الأحوال ريث ... أتخشى أن تضام وأنت ليث بمصر إن أقمت فأنت نيل ... وإن سرت الشآم فأنت غيث] وكانت ولادته ليلة الأحد تاسع عشر جمادى الآخرة سنة ثلاث وستين وخمسمائة. وتوفي سحرة الثامن والعشرين من شعبان سنة ثلاث عشرة وستمائة، بمصر، ودفن من الغد بسفح المقطم، رحمة الله تعالى عليه. وأنشدني ولده شيئاً كثيراً من شعره، وطريقته فيه لطيفة. (2) وأما العماد المذكور فهو أبو عبد الله محمد بن أبي الأمانة جبريل بن المغيرة بن سلطان بن نعمة، وكان فاضلاً مشهوراً بكثرة الأمانة فيما يتولاه، وتقلب في الخدم الديوانية بمصر والإسكندرية، وكانت ولادته سنة ثمان وخمسين وخمسمائة، وتوفي في خامس شعبان سنة سبع وثلاثين وستمائة بالقاهرة، رحمة الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 8 - ابن عسكر الموصلي أبو إسحاق إبراهيم بن نصر بن عسكر، الملقب ظهير الدين، قاضي السلامية، الفقيه الشافعي الموصلي؛ ذكره ابن الدبيثي (1) في تاريخه، فقال: أبو إسحاق من أهل الموصل، تفقه على القاضي أبي عبد الله الحسين بن نصر بن خميس الموصلي، بالموصل، وسمع منه، قدم بغداد وسمع بها من جماعة، وعاد إلى بلده، وتولى قضاء السلامية إحدى قرى الموصل، وروى بإربل عن أبي البركات عبد الرحمن بن محمد الأنباري النحوي شيئاً من مصنفاته. سمع منه ببغداد، وسمع منه جماعة من أهلها. انتهى كلامه. وكان فقيهاً فاضلاً أصله من العراق من السندية، تفقه بالمدرسة النظامية ببغداد وسمع الحديث ورواه. وتولى القضاء بالسلامية - وهي بلدة بأعمال الموصل - وطالت مدته بها. وغلب عليه النظم، ونظمه رائق. فمن شعره: لا تنسبوني يا ثقاتي إلى ... غدر فليس الغدر من شيمتي أقسمت بالذاهب من عيشنا ... وبالمسرات التي ولت أني على عهدكم لم أحل ... وعقدة الميثاق ما حلت ومن شعره أيضا: جود الكريم إذا ما كان عن عدة ... وقد تأخر لم يسلم من الكدر إن السحائب لا تجدي بوارقها ... نفعاً إذا هي لم تمطر على الأثر وما طل الوعد مذموم وإن سمحت ... يداه من بعد طول المطل (2) بالبدر   (1) ج هـ: الذهبي؛ ولم ترد ترجمته في مختصر الدبيثي. (2) أ: الوعد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 يا دوحة الجود لا عتب (1) على رجل ... يهزها وهو محتاج إلى الثمر وكان بالبوازيج - وهي بليدة بالقرب من السلامية - زواية لجماعة من الفقراء اسم شيخهم مكي، فعمل فيهم: ألا قل لمكي قول النصوح ... فحق النصيحة أن تستمع متى سمع الناس في دينهم ... بأن الغنا سنة تتبع وأن يأكل المرء أكل البعير ... ويرقص في الجمع حتى يقع ولو كان طاوي الحشا جائعا ... لما دار من طرب واستمع وقالوا سكرنا بحب الإله ... وما أسكر القوم إلا القصع كذاك الحمير إذا أخصبت ... ينقزها ريها والشبع ذكره أبو البركات ابن المستوفي في تاريخ إربل، وأثنى عليه، وأورد له مقاطيع عديدة ومكاتبات جرت بينهما. وذكره العماد الكاتب في الخريد فقال: شاب فاضل، ومن شعره قوله: أقول له صلني فيصرف وجهه ... كأني أدعوه لفعل محرم فإن كان خوف الإثم يكره وصلتي ... فمن أعظم الآثام قتلة مسلم توفي يوم الخميس ثالث شهر ربيع الآخر سنة عشر وستمائة بالسلامية، رحمه الله تعالى. وكان له ولد اجتمعت به في حلب، وأنشدني من شعره وشعرأبيه كثيراً، وكان شعره جيداً، ويقع له المعاني الحسنة. والسلامية: بفتح السين المهملة وتشديد اللام وبعد الميم ياء مثناة من تحتها ثم هاء، وهي بليدة على شط الموصل من الجانب الشرقي أسفل الموصل، بينهما مسافة يوم، فالموصل في الجانب الغربي. وقد خربت السلامية القديمة التي كان الظهير قاضيها، وأنشئت بالقرب منها بليدة أخرى وسموها السلامية أيضا.   (1) أ: لا عمت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 9 - (1) إبراهيم بن المهدي أبو إسحاق إبراهيم بن المهدي بن المنصور أبي جعفر بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب الهاشمي، أخو هارون الرشيد؛ كانت له اليد الطولى في الغناء والضرب بالملاهي وحسن المنادمة، وكان أسود اللون لأن أمه كانت جارية سوداء، واسمها شكلة - بفتح الشين المعجمة وكسرها، وسكون الكاف، وبعد اللام هاء - وكان مع سواده عظيم الجثة، ولهذا قيل له التنين، وكان وافر الفضل (2) ، غزير الأدب، واسع النفس، سخي الكف، ولم ير في أولاد الخلفاء قبله أفصح منه لساناً، ولا أحسن منه شعراً، بويع له بالخلافة ببغداد (3) بعد المائتين (4) والمأمون يومئذ بخراسان، وقصته مشهورة، وأقام خليفة بها مقدار سنتين، وذكر الطبري في تاريخه أن أيام إبراهيم بن المهدي كانت سنة واحد عشر شهراً واثني عشر يوماً. وكان سبب خلع المأمون وبيعة إبراهيم بن المهدي أن المأمون لما كان بخراسان جعل ولي عهده علي بن موسى الرضا الآتي ذكره في حرف العين إن شاء الله تعالى، فشق ذلك على العباسيين ببغداد خوفاً من انتقال الأمر عنهم إلى العلويين فبايعوا إبراهيم بن المهدي المذكور، وهوعم المأمون، ولقبوه المبارك. وقيل سموه المرضي، وكانت مبايعته يوم الثلاثاء لخمس بقين من ذي الحجة سنة إحدى ومائتين ببغداد، بايعه العباسيون في الباطن ثم بايعه أهل بغداد في أول يوم من المحرم سنة اثنتين ومائتين، وخلعوا المأمون، فلما كان يوم الجمعة   (1) أخباره في كتب التاريخ، انظر مثلاً الطبري (حوادث 201) والأغاني 10: 72 والورقة: 19 وأشعار أولاد الخلفاء: 17 - 49. (2) د: العقل. (3) ج د: سنة 202. (4) أج هـ: بعد الأمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 لخمس خلون من المحرم أظهروا ذلك، وصعد إبراهيم المنبر، وكان المأمون لما بايع علي بن موسى الرضا بولاية العهد أمر الناس بترك لباس السواد الذي هو شعار بني العباس، وأمرهم بلباس الخضرة، فعز ذلك على بني العباس أيضاً، وكان من جملة الأسباب التي نقموها على المأمون، ثم أعاد لبس السواد يوم الخميس لليلة بقيت من ذي القعدة سنة سبع ومائتين لسبب اقتضى ذلك، ذكره الطبري في تاريخه فلما توجه المأمون من خراسان إلى بغداد خاف إبراهيم على نفسه، فاستخفى، وكان استخفاؤه ليلة الأربعاء لثلاث عشرة ليلة بقيت من ذي الحجة سنة ثلاث ومائتين، وذلك بعد أمور يطول شرحها، ولايحتمل هذا المختصر ذكرها، ثم دخل المأمون بغداد يوم السبت لأربع عشرة ليلة بقيت من صفر سنة أربع ومائتين، ولما استخفى إبراهيم عمل فيه دعبل الخزاعي: نعر (1) ابن شكلة بالعراق وأهله ... فهفا إليه كل أطلس مائق إن كان، إبراهيم مضطلعاً بها ... فلتصلحن من بعده لمخارق ولتصلحن من بعد ذاك لزلزل ... ولتصلحن من بعده للمارق أنى يكون وليس ذاك بكائن ... يرث الخلافة فاسق عن فاسق ومخارق: بضم الميم وفتح الخاء المعجمة، وزلزل: بضم الزاءين المعجمتين، والمارق: هؤلاء الثلاثة كانوا مغنين في ذلك العصر. وأخبار إبراهيم طويلة شهيرة. وقال إبراهيم: قال لي المأمون، وقد دخلت عليه بعد العفو عني: أنت الخليفة الأسود، فقلت: يا أمير المؤمنين، أنا الذي مننت عليه بالعفو، وقد قال عبد بني الحسحاس (2) : أشعار عبد بني الحسحاس قمن له ... عند الفخار مقام الأصل والورق إن كنت عبداً فنفسي حرة كرما ... أو أسود الخلق إني أبيض الخلق   (1) هـ: نفر. (2) ديوانه: 55. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 فقال لي: يا عم أخرجك الهزل إلى الجد، وأنشد يقول: ليس يزرى السواد بالرجل الشه ... م ولا بالفتى الأديب الأريب إن يكن لسواد فيك نصيب ... فبياض الأخلاق منك نصيبي قلت: وقد نظم بعض المتأخرين، وهو الأعز وأبو الفتوح نصر الله بن قلاقس الإسكندري - وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى في حرف النون - هذا المعنى وزاد فيه وأحسن كل الإحسان، وهو قوله (1) : رب سوداء وهي بيضاء فعل ... حسد المسك عندها الكافور مثل حب العيون يحسبه النا ... س سواداً وإنما هو نور وجلس (2) المعتصم يوماً - وقد تولى الخلافة بعد المأمون - وعن يمينه العباس بن المأمون، وعن يساره إبراهيم بن المهدي، فجعل إبراهيم يقلب خاتماً في يده، فقال له العباس: يا عم ما هذا الخاتم فقال: خاتم رهنته في أيام أبيك فما فككته إلا في أيام أمير المؤمنين، فقال له العباس: والله لئن لم تشكر أبي على حقن دمك مع عظيم جرمك لا تشكر أمير المؤمنين على فك خاتمك، فأفحمه. وهذا إبراهيم في حديثه طول كثير (2) أورده أرباب التواريخ في كتبهم، لكن اختصرته، ونبهت على المقصود منه، وقد استوفى الطبرى وغيره الكلام فيه. ولما ظفر المأمون بإبراهيم شاور فيه أحمد بن أبي خلد الأحول الوزير، فقال: يا أمير المؤمنين، إن قتلته فلك نظراء، وإن عفوت عنه فما لك نظير. وكانت ولادته غرة ذي القعدة سنة اثنتين وستين ومائة، وتوفي يوم الجمعة لتسع خلون من شهر رمضان سنة أربع وعشرين ومائتين بسر من رأى، وصلى عليه ابن أخيه المعتصم، رحمه الله تعالى. وسر من رأى فيها ست لغات حكاها الجوهري في كتاب الصحاح في فصل   (1) ليسا في ديوانه المطبوع. (2) د: وأخبار إبراهيم بن المهدي طويلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 رأى، وهن: سر من رأى - بضم السين المهملة وفتحها - وسر من راء - بضم السين وفتحها وتقديم الألف على الهمزة في اللغتين - وساء من رأى، وسامرا، واستعمله البحتري ممدوداً في قوله: ونصبته علماً بسامراء ... ولا أعلم هل هي لغة شائعة أو استعمله كذلك ضرورة. وسر من رأى: مدينة بالعراق، بناها المعتصم في سنة عشرين ومائتين وفيها السرداب الذي ينتظر الإمامية خروج الإمام منه، وسيأتي ذكره في حرف الميم في المحمدين إن شاء الله تعالى. 10 - (1) ابراهيم النديم الموصلي أبو إسحاق إبراهيم بن ماهان - ويقال له أيضا: ميمون - بن بهمن بن نسك، التميمي بالولاء، الأرجاني، المعروف بالنديم، الموصلي: ولم يكن من الموصل، وإنما سافر إليها وأقام بها مدة، فنسب إليها، هكذا ذكره أبو الفرج الأصبهاني في كتاب " الأغاني ". وهو من بيت كبير في العجم. وانتقل والده ماهان إلى الكوفة وأقام بها. وأول خليفة سمعه المهدي بن المنصور، ولم يكن في زمانه مثله في الغناء واختراع الألحان وكان إذا غنى إبراهيم، وضرب له منصور المعروف بزلزل، اهتزلهما المجلس، وكان إبراهيم زوج أخت زلزل المذكور، وأخباره ومجالسه مشهورة. وحكي أن هارون الرشيد كان يهوى جاريته ماردة هوى شديداً، فتغاضبا   (1) انظر الأغاني 5: 142. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 مرة ودام بينهما الغضب، فأمر جعفر البرمكي العباس بن الأحنف أن يعمل في ذلك شيئا، فعمل (1) : راجع أحبتك الذين هجرتهم ... إن المتيم قلما يتجنب إن التجنب إن تطاول منكما ... دب السلو له فعز المطلب وأمر إبراهيم الموصلي فغنى به الرشيد، فلما سمعه بادر إلى ماردة فترضاها، فسألت عن السبب في ذلك، فقيل لها، فأمرت لكل واحد من العباس وإبراهيم بعشرة آلاف درهم، وسألت الرشيد أن يكافئهما، فأمر لهما بأربعين ألف درهم. وكان هارون قد حبس إبراهيم في المطبق، فأخبر سلم الخاسر أبا العتاهية بذلك، فأنشده (2) : سلم يا سلم ليس دونك سر ... حبس الموصلي فالعيش مر ما استطاب اللذات مذ غاب في المط ... بق رأس اللذات في الناس حر ترك الموصلي من خلق الله ... جمعا وعيشهم مقشعر حبس اللهو والسرور فما في ال ... أرض شيء يلهى به ويسر ولد إبراهيم المذكور بالكوفة سنة خمس وعشرين ومائة، وتوفي ببغداد سنة ثمان وثمانين ومائة بعلة القولنج، وقيل: سنة ثلاث عشرة ومائتين، والأول أصح، رحمة الله تعالى. وفي ترجمة العباس بن الأحنف خبر وفاته أيضاً فلينظر فيها، وقيل: مات إبراهيم الموصلي وأبو العتاهية الشاعر وأبو عمرو الشيباني النحوي في سنة ثلاث عشرة ومائتين في يوم واحد ببغداد، وإن أباه مات وهوصغير فكفله بنو تميم وربوه، ونشأ فيهم فنسب إليهم، والله أعلم. وسيأتي ذكر ولده إسحاق. وأرجان: بتشديد الراء المهملة، حكاه الجوهري والحازمي، وهي مذكرة في ترجمة أحمد الأرجاني.   (1) ديوانه العباس: 28 وقبلهما بيتان، والزهرة 1: 58 والنجوم الزاهرة 2: 126، وهما أيضاً في الأغاني. (2) ديوان أبي العتاهية: 535 والقطعة أيضاً في الأغاني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 11 - (1) إبراهيم الصولي إبراهيم بن العباس بن محمد بن صول تكين الصولي، الشاعر المشهور؛ كان أحد الشعراء المجيدين، وله ديوان شعر كله نخب، وهو صغير، ومن رقيق شعره: دنت بأناس عن تناءٍ زيارة ... وشط بليلى عن دنو مزارها (2) وإن مقيمات بمنعرج اللوى ... لأقرب من ليلى وهاتيك دارها وله نثر بديع، فمن ذلك ما كتبه (3) عن أمير المؤمنين، إلى بعض البغاة الخارجين يتهددهم ويتوعدهم، وهو أما بعد، فإن لأمير المؤمنين أناة، فإن لم تغن عقب بعدها وعيداً، فإن لم يغن أغنت عزائمه، والسلام وهذا الكلام مع وجازته في غاية الإبداع، فإنه ينشأ منه بيت شعر له أوله: أناة فإن لم تغن عقب بعدها ... وعيداً فإن لم يغن أغنت عزائمه وكان يقول: ما اتكلت في مكاتبتي قط إلا على ما يجلبه خاطري ويجيش به صدري، إلا قولي: وصار ما يحرزهم يبرزهم، وما كان يعقلهم يعتقلهم، وقولي في رسالة أخرى: " فأنزلوه من معقل إلى عقال، وبدلوه آجالاً من آمال " فإني ألممت بقولي " آجالا من آمال " بقول مسلم بن الوليد الأنصاري، المعروف بصريع الغواني، وهو (4) :   (1) ترجمة إبراهيم الصولي في معجم الأدباء 1: 164 وتاريخ بغداد 6: 117 والأغاني 10: 42 واعتاب الكتاب: 146، وله ديوان نشره العلامة الميمني في الطرائف الأدبية 126 - 194. (2) ديوانه: 145. (3) د: كتب به. (4) ديوان مسلم: 9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 موف على مهج في يوم ذي رهج ... كأنه أجل يسعى إلى أمل (1) وفي المعقل والعقال بقول أبي تمام (2) : فإن باشر الإصحار فالبيض والقنا ... قراه، وأحواض المنايا مناهله (3) وإن يبن حيطانا عليه فإنما ... أولئك عقالاته لا معاقله (4) وإلا فأعلمه بأنك ساخط ... عليه فإن الخوف لاشك قاتله وهو ابن أخت العباس بن الأحنف الحنفي الشاعر المشهور. ونسبته إلى جده صول المذكور، وكان أحد ملوك جرجان، وأسلم على يد يزيد بن المهلب بن أبي صفرة، وقال الحافظ أبو القاسم حمزة بن يوسف السهمي في " تاريخ جرجان (5) ": الصولي جرجاني الأصل، وصول من بعض ضياع جرجان، ويقال لها جول (6) ، وهو عم والد أبي بكر محمد بن يحيى بن عبد الله بن العباس الصولي، صاحب كتاب الوزراء وغيره من المصنفات، فإنهما يجتمعان في العباس المذكور. وقد ذكره أبو عبد الله محمد بن داود بن الجراح في كتاب الورقة فقال (7) : إبراهيم بن العباس بن محمد بن صول، بغدادى أصله من خراسان، يكنى أبا إسحاق، أشعر نظرائه الكتاب وأرقهم لساناً، وأشعاره قصار ثلاثة أبيات ونحوها إلى العشرة، وهو أنعت الناس للزمان وأهله غير مدافع، وأصله تركي، وكان صول وفيروز وأخوين ملكا جرجان، تركيان، تمجسا وصارا أشباه الفرس، فلما حضر يزيد بن المهلب بن أبي صفرة جرجان أمنهما، فلم يزل   (1) يقول: يوفي على المهج بالقتل؛ والرهج: الغبار، أي يوم الحرب. (2) ديوانه 3: 28. (3) الإصحار: البروز إلى الصحراء. (4) العقال: داء يعرض للخيل يعوقها عن الجري؛ المعاقل: الحصون وأصله من امتناع الرعول في الجبال، يقال: عقل الوعل إذا حصل في موضع عال لا يوصل إليه فيه. (5) أ: خراسان؛ وهو خطأ. (6) ج د: جون. (7) لم ترد له ترجمة في كتاب الورقة المطبوع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 صول معه، وأسلم على يده حتى قتل معه يوم العقر. وكان أبو عمارة محمد بن صول أحد جلة الدعاة، وقتله عبد الله بن علي العباسي، عم السفاح والمنصور، لما خلع مع مقاتل بن حكيم العكي وغيره. واتصل إبراهيم وأخوه عبد الله بذي الرياستين الفضل بن سهل، ثم تنقل في أعمال السلطان ودواوينه إلى أن توفي وهو يتقلد ديوان الضياع والنفقات بسر من رأى للنصف من شعبان سنة ثلاث وأربعين ومائتين. قال دعبل بن علي الخزاعي: لو تكسب إبراهيم بن العباس بالشعر لتركنا في غير شيء، هذا آخر ما نقلته من كتاب الورقة. وقد وقفت على ديوانه، ونقلت منه أشياء، منها قوله، وهذان البيتان يوجدان في ديوان مسلم بن الوليد الأنصاري، والله أعلم (1) : لا يمنعنك خفض العيش في دعة ... نزوع نفس إلى أهل وأوطان تلقى بكل بلاد إن حللت بها ... أهلاً بأهل وجيراناً بجيران وله - ويقال: إنه ما رددهما من نزلت به نازلة إلا فرج الله تعالى عنه -: ولرب نازلة يضيق بها الفتى ... ذرعاً وعند الله منها المخرج (2) ضاقت فلما استحكمت حلقاتها ... فرجت وكان يظنها لا تفرج ومن شعره: أولى البرية طراً أن تواسيه ... عند السرور الذي واساك في الحزن إن الكرام إذا ما أسهلوا ذكروا ... من كان يألفهم في المنزل الخشن وله - ويقال: إنه كتبها إلى محمد بن عبد الملك الزيات، وزير المعتصم -: وكنت أخي بإخاء الزمان ... فلما نبا صرت حربا عوانا وكنت أذم إليك الزمان ... فأصبحت منك أذم الزمانا   (1) هذه القطعة وما يليها في ديوان الصولي: 151، 171، 177، 166، 169 (وينسبان لغيره) ، 185 (وهما في شرح التبريزي 3: 115 دون عزو) ؛ وانظر المرزوقي: 1220. (2) ب هـ والديوان: مخرج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 وكنت أعدك للنائبات ... فها أنا أطلب منك الأمانا وله أيضاً: كنت السواد لمقلتي ... فبكى عليك الناظر من شاء بعدك فليمت ... فعليك كنت أحاذر وأورد له أبو تمام الطائي في كتاب الحماسة في باب النسيب: ونبئت ليلى أرسلت بشفاعة ... إلي، فهلا نفس ليلى شفيعها أأكرم من ليلى علي فتبتغي ... به الجاه أم كنت امرءاً لا أطيعها وله كل مقطوع بديع، والاختصار أولى بالمختصر. وسيأتي ذكر ابن أخيه بن يحيى الصولي في المحمدين، إن شاء الله تعالى. توفي إبراهيم الصولي المذكور منتصف شعبان سنة ثلاث وأربعين ومائتين بسر من رأى، رحمه الله تعالى. 12 - (1) نفطويه أبو عبد الله (2) إبراهيم بن محمد بن عرفة بن سليمان بن المغيرة بن حبيب بن المهلب ابن أبي صفرة الأزدي، الملقب نفطويه النحوي الواسطي؛ له التصانيف الحسان في الآداب، وكان عالماً بارعاً، ولد سنة أربع وأربعين ومائتين، وقيل: سنة خمسين ومائتين بواسط وسكن بغداد. وتوفي في صفر سنة ثلاث وعشرين   (1) ترجمة نفطويه في بغية الوعاة: 187 وتاريخ بغداد 6: 159 والزبيدي: 172 ونور القبس: 344 وانباه الرواة 1: 176 والفهرست: 81 ونزهة الألباء: 178. (2) هـ: أبو عبيد الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 وثلثمائة يوم الأربعاء، لست خلون منه، بعد طلوع الشمس بساعة. وقيل؛ توفي سنة أربع وعشرين وهو ابن مجاهد المقرىء ببغداد، والله أعلم، ودفن ثاني يوم بباب الكوفة، رحمه الله تعالى. قال ابن خالويه: ليس في العلماء من اسمه إبراهيم وكنيته أبو عبد الله سوى (1) نفطويه. ومن شعره ما ذكره أبو علي القالي في كتاب الأمالي (2) : قلبي عليك أرق من خديكا ... وقواي أوهى من قوى جفنيكا لم لا ترق لمن يعذب نفسه ... ظلماً وبعطفه هواه عليكا وفيه يقول أبو عبد الله محمد بن زيد (3) بن علي بن الحسين الواسطي المتكلم المشهور، صاحب الإمامة وكتاب إعجاز القرآن الكريم في نظمه وغيرهما: من سره أن لا يرى فاسقاً ... فليجتهد أن لا يرى نفطويه أحرقه الله بنصف اسمه ... وصير الباقي صراخاً عليه وتوفي أبو عبد الله محمد (4) المذكور سنة سبع - وقيل: سنة ست - وثلثمائة رحمة الله تعالى. حكى عبد العزيز بن الفضل قال: خرج القاضي أبو العباس أحمد بن عمر بن سريج، وأبو بكر محمد بن داود الظاهري، وأبو عبد الله نفطويه إلى وليمة دعوا لها، فأفضى بهم الطريق إلى مكان ضيق، فأراد كل واحد منهم صاحبه أن يتقدم عليه، فقال ابن سريج: ضيق الطريق يورث سوء الأدب، وقال ابن داود: لكنه يعرف مقادير الرجال، فقال نفطويه: إذا استحكمت المودة بطلت التكاليف. ونفطويه - بكسر النون وفتحها والكسر أفصح والفاء ساكنة - قال أبو   (1) د: إلا. (2) الأمالي 1: 207. (3) أ: يزيد. (4) ب هـ: أبو عبيد الله إبراهيم بن محمد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 منصور الثعالبي في أوائل كتاب لطائف المعارف (1) : إنه لقب نفطويه لدمامته وأدمته تشبيها له بالنفط، وهذا اللقب على مثال سيبويه، لأنه كان ينسب في النحو إليه، ويجري على طريقته، ويدرس كتابه، والكلام في ضبط نفطويه ونظائره كالكلام على سيبويه، وهو مذكور في ترجمته، واسمه عمرو، فليكشف منه. 13 - (2) أبو إسحاق الزجاج أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن السرى بن سهل الزجاج النحوي؛ كان من أهل العلم بالأدب والدين المتين، وصنف كتاباً في معاني القرآن وله كتاب الأمالي، وكتاب مافسر من جامع المنطق، وكتاب الاشتقاق، وكتاب العروض، وكتاب القوافي وكتاب الفرق، وكتاب خلق الإنسان، وكتاب خلق الفرس، وكتاب مختصر في النحو، وكتاب فعلت وأفعلت، وكتاب ما ينصرف وما لا ينصرف، وكتاب شرح أبيات سيبويه، وكتاب النوادر، وكتاب الأنواء، وغير ذلك. وأخذ الأدب عن المبرد وثعلب، رحمهما الله تعالى، وكان يخرط الزجاج، ثم تركه واشتغل بالأدب، فنسب إليه. روى أبو سليمان الخطابي عن أحمد بن الحسين الفرائضي قال: كان أصحاب المبرد إذا اجتمعوا واستأذنوا يخرج الآذن فيقول: إن كان فيكم أبو إسحاق الزجاج وإلا انصرفوا، فحضروا مرة ولم يكن الزجاج معهم؛ فقال لهم ذلك فانصرفوا، وثبت رجل منهم يقال له عثمان، فقال للآذن: قل لأبي العباس: انصرف القوم كلهم إلا عثمان فإنه لم   (1) لطائف: 48. (2) ترجمة الزجاج في انباه الرواة 1: 159 وبغية الوعاة: 179 وتاريخ بغداد 6: 89 والزبيدي: 81 والفهرست: 60 ومراتب النحويين: 136 ومعجم الأدباء 1: 130 ونزهة الألباء: 167 ونور القبس: 342. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 ينصرف، فعاد إليه الآذن وأخبره، فقال: قل له إن عثمان إذا كان نكرة انصرف، ونحن لا نعرفك فانصرف راشدا] . واختص بصحبة الوزير عبيد الله ابن سليمان بن وهب، وعلم ولده القاسم الأدب، ولما استوزر القاسم بن عبيد الله أفاد بطريقه مالاً جزيلاً. وحكى الشيخ أبو علي الفارسي النحوي قال (1) : دخلت مع شيخنا أبي إسحاق الزجاج على القاسم بن عبيد الله الوزير فورد إليه الخادم فساره بسراستبشر له، ثم نهض، فلم يكن بأسرع من أن عاد وفي وجهه أثر الوجوم، فسأله شيخنا عن ذلك لأنس كان بينهما، فقال له: كانت تختلف إلينا جارية لإحدى القينات فسمتها أن تبيعني إياها، فامتنعت من ذلك، ثم أشار عليها أحد من ينصحها بأن تهديها إلي رجاء أن أضاعف لها ثمنها، فلما جاءت أعلمني الخادم بذلك، فنهضت مستبشراً لافتضاضها فوجدتها قد حاضت، فكان مني ما ترى، فأخذ شيخنا الدواة من بين يديه، وكتب: فارس ماض بحربته ... حاذق بالطعن في الظلم رام أن يدمي فريسته ... فاتقته من دمٍ بدم قلت: وسيأتي في ترجمة بوران بنت الحسن بن سهل ذكر هذين البيتين على صورة أخرى، فيما جرى لها مع المأمون، والله أعلم بالصواب، ويحتمل أن تكون قضية المأمون مع بوران هي الأصل، وأن الزجاج تمثل بالبيتين لما جرى للوزير هذه القضية، والله أعلم. توفي يوم الجمعة تاسع عشر جمادى الآخرة سنة عشر - وقيل: سنة إحدى عشرة، وقيل: سنة ست عشرة - وثلثمائة، ببغداد، رحمة الله تعالى، وقد أناف على ثمانين سنة. وإليه ينسب أبو القاسم عبد الرحمن الزجاجي صاحب كتاب الجمل في النحو، لأنه كان تلميذه، كما سيأتي إن شاء الله تعالى في ترجمته، رحمه الله؛ وعنه أخذ أبو علي الفارسي أيضاً.   (1) قارن بما في انباه الرواة: 162. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 14 - (1) الافليلي أبو القاسم إبراهيم بن زكرياء (2) بن مفرج بن يحيى بن زياد بن عبد الله بن خالد بن سعد بن أبي وقاص القرشي الزهري المعروف بالإفليلي من أهل قرطبة؛ كان من أئمة النحو واللغة، وله معرفة تامة بالكلام على معاني الشعر، وشرح ديوان المتنبي شرحاً جيداً، وهو مشهور، وروى عن أبي بكر محمد بن الحسن الزبيدي كتاب الأمالي لأبي علي القالي، وكان متصدراً بالأندلس لإقراء الأدب، وولي الوزارة للمكتفي بالله بالأندلس، وكان حافظاً للأشعار ذاكراً للأخبار وأيام الناس، وكان عنده من أشعار أهل بلاده قطعة صالحة، وكان أشد الناس انتقادا للكلام، صادق اللهجة، حسن الغيب، صافي الضمير، عني بكتب جمة كالغريب المصنف، والألفاظ، وغيرهما. وكانت ولادته في شوال سنة اثنتين وخمسين وثلثمائة، وتوفي في آخر الساعة الحادية عشرة من يوم السبت ثالث عشر ذي القعدة سنة إحدى وأربعين وأربعمائة ودفن يوم الأحد بعد العصر في صحن مسجد خرب عند باب عامر بقرطبة، رحمة الله تعالى. والإفليلي - بكسر الهمزة وسكون الفاء وكسر اللام وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدهالام ثانية - هذه النسبة إلى الإفليل (3) ، وهي قرية بالشام كان أصله منها.   (1) ترجمة الافليل في الذخيرة 1/1: 240 والصلة: 94 وانباه الرواة 1: 183 وبغية الملتمس: 199 ومعجم الأدباء 2: 4. (2) تكرر في نسبه ذكر " زكريا " في الصلة. (3) ياقوت: افليلاء - بفتح الهمزة -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 15 - (1) الصابىء صاحب الرسائل أبو إسحاق إبراهيم بن هلال بن إبراهيم بن زهرون بن حبون الحراني الصابىء، صاحب الرسائل المشهورة والنظم البديع؛ كان كاتب الإنشاء ببغداد عن الخليفة وعن عز الدولة بختيار بن معز الدولة بن بويه الديلمي الآتي ذكره إن شاء الله تعالى، وتقلد ديوان الرسائل سنة تسع وأربعين وثلثمائة، وكانت تصدر عنه مكاتبات إلى عضد الدولة بن بويه بما يؤلمه، فحقد عليه، فلما قتل عز الدولة وملك عضد الدولة بغداد اعتقله في سنة سبع وستين وثلثمائة، وعزم على إلقائه تحت أيدي (2) الفيلة، فشفعوا فيه، ثم أطلقه في سنة إحدى وسبعين، وكان قد أمره أن يصنع له كتاباً في أخبار الدولة الديلمية، فعمل الكتاب التاجي فقيل لعضد الدولة: إن صديقا للصابىء دخل عليه فرآه في شغل شاغل من التعليق والتسويد والتبيض فسأله عما يعمل (3) ، فقال: أباطيل أنمقها، وأكاذيب (4) ألفقها، فحركت ساكنه وهيجت (5) حقده، ولم يزل مبعدا في أيامه. وكان متشددا في دينه، وجهد عليه عز الدولة أن يسلم فلم يفعل. وكان يصوم شهر رمضان مع المسلمين، ويحفظ القرآن الكريم أحسن حفظ، وكان يستعمله في رسائله، وكان له عبد أسود اسمه يمن، وكان يهواه، وله فيه المعاني البديعة، فمن جملة ماذكره له الثعالبي في كتاب الغلمان، قوله: قد قال يمن وهو أسود للذي ... ببياضه استعلى علو الخاتن   (1) ترجمة الصابئ في معجم الأدباء 2: 20 واليتيمة 2: 243 - 312. (2) أ: أرجل. (3) د: عما يعمله من ذلك. (4) أ: وأحاديث. (5) ج: وأهاجت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 ما فخر وجهك بالبياض وهل ترى ... أن قد أفدت به مزيد محاسن ولو أن مني فيه خالاً زانه ... ولو أن منه في خالاً شانني قلت: ومعنى البيت الثالث ينظر إلى قول ابن الرومي من جملة أبيات في جاريته السوداء، وهو قوله: وبعض ما فضل السواد به ... والحق ذو سلم وذو نفق أن لا يعيب السواد حلكته (1) ... وقد يعاب البياض بالبهق وهي أبيات مشهورة أحسن فيها كل الإحسان. وذكر له الثعالبي فيه أيضاً: لك وجه كأن يمناي خطت ... هـ بلفظ تمله آمالي فيه معنى من البدور ولكن ... نفضت صبغها عليه الليالي لم يشنك السواد بل زدت حسناً ... إنما يلبس السواد الموالي فبما لي أفديك إن لم تكن لي ... وبروحي أفديك إن كنت مالي وله كل شيْ حسن، من المنظوم والمنثور (6) . وتوفي يوم الاثنين - وقيل: يوم الخميس - لاثنتي عشرة ليلة خلت من شوال سنة أربع وثمانين وثلثمائة، ببغداد، وعمره إحدى وسبعون سنة. وذكر أبو الفرج محمد بن إسحاق الوراق المعروف بابن أبي يعقوب النديم البغدادي في كتابه " الفهرست " (2) ، أن الصابىء المذكور ولد سنة نيف وعشرين وثلثمائة وتوفي قبل سنة ثمانين وثلثمائة ودفن بالشونيزي. ورثاه الشريف الرضي بقصيدته الدالية المشهورة التي أولها (3) : أرأيت (4) من حملوا على الأعواد ... أرأيت كيف خبا ضياء النادي   (1) أ: حلته. (2) الفهرست: 134. (3) انظر ديوان الرضي 1: 381. (4) د: أعلمت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 وعاتبه الناس في ذلك لكونه شريفاً يرثي صابئاً، فقال: إنما رثيت فضله. وزهرون: بفتح الزاي المعجمة وسكون الهاء وضم الراء المهملة وبعد الواو نون. وحبون: بفتح الحاء المهملة وتشديد الباء الموحدة وبعد الواو نون. والصابىء: بهمزة آخره. وقد اختلفوا في هذه النسبة، فقيل: إنها إلى صابىء بن متوشلح (1) بن إدريس عليه السلام، وكان على الحنيفية الأولى. وقيل: إلى صابىء بن ماري، وكان في عصر الخليل عليه السلام، وقيل: الصابىء عند العرب من خرج عن دين قومه، ولذلك كانت قريش تسمي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، صابئا لخروجه عن دين قومه، والله أعلم. 16 - (2) الحصري صاحب زهر الآدب أبو إسحاق إبراهيم بن علي بن تميم، المعروف بالحصري، القيرواني الشاعر المشهور، وله ديوان شعر، وكتاب زهر الآداب وثمر الألباب جمع فيه كل غريبة في ثلاثة أجزاء، وكتاب المصون في سر الهوى المكنون في مجلد واحد فيه ملح وآداب. ذكره ابن رشيق في كتابه الأنموذج، وحكى شيئاً من أخباره وأحواله، وأنشد جملة من أشعاره، وقال: كان شبان القيروان يجتمعون عنده، ويأخذون عنه، ورأس عندهم، وشرف لديهم، وسارت تأليفاته وانثالت عليه الصلات من الجهات، واورد من شعره: إني أحبك حباً ليس يبلغه ... فهم، ولا ينتهي وصفي إلى صفته   (1) د: متوشلخ. (2) ترجمة الحصري في مسالك الأبصار (الورقة 309) وفيه نقل عن الانموذج لابن رشيق؛ وفي معجم الأدباء 2: 94 والذخير (الجزء الرابع، ولم يطبع بعد) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 أقصى نهاية علمي فيه معرفتي ... بالعجز مني عن إدراك معرفته وأورد له أبو الحسن علي بن بسام صاحب كتاب " الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة " بيتين في ضمن حكاية، وهما: أورد قلبي الردى ... لام عذارٍ بدا أسود كالكفر في ... أبيض مثل الهدى وهو ابن أبي الحسن علي الحصري الشاعر، وستأتي ترجمته في حرف العين. توفي أبو إسحاق المذكور بالقيروان سنة ثلاث عشرة وأربعمائة، وقال ابن بسام في الذخيرة: بلغني أنه توفي سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة، والأول أصح، رحمه الله تعالى. وذكر القاضي الرشيد بن الزبير في كتاب الجنان في الجزء الأول في ترجمة أبي الحسن علي بن عبد العزيز المعروف بالفكيك أن الحصري المذكور ألف كتاب زهر الآداب في سنة خمسين وأربعمائة، وهذا يدل على صحة ما قاله ابن بسام، والله أعلم. والحصري - بضم الحاء المهملة وسكون الصاد المهملة وبعدها راء مهملة - نسبة إلى عمل الحصر أو بيعها. والقيروان - بفتح القاف وسكون الياء المثناة من تحتها وفتح الراء المهملة وبعد الواوألف ونون - مدينة بإفريقية، بناها عقبة بن عامر الصحابي (1) ، رضي الله عنه. وإفريقية سميت باسم إفريقين بن قيس بن صيفي الحميري، وهو الذي افتتح إفريقية، وسميت به، وقتل ملكها جرجير، ويومئذ سميت البربر، قال لهم: ما أكثر بربرتكم، ويقال: إفريقس، والله أعلم. والقيروان في اللغة: القافلة، وهوفارسي معرب، يقال: إن قافلة نزلت بذلك المكان، ثم بنيت المدينة في موضعها فسميت باسمها، وهو اسم للجيش أيضا، وقال ابن القطاع اللغوي: القيروان بفتح الراء الجيش، وبضمها القافلة، نقله عن بعضهم، والله أعلم.   (1) كذا والصواب: عقبة بن نافع الفهري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 17 - (1) ابن خفاجة الأندلسي أبو إسحاق إبراهيم بن أبي الفتح بن عبد الله بن خفاجة الأندلسي الشاعر؛ ذكره ابن بسام في الذخيرة وأثنى عليه، وقال: كان مقيماً بشرق الأندلس ولم يتعرض لاستماحة ملوك طوائفها مع تهافتهم على أهل الأدب، وله ديوان شعر أحسن فيه كل الإحسان، ومن شعره في عشية أنس، وقد أبدع فيه (2) : وعشي أنس أضجعتني نشوة ... فيه تمهد مضجعي وتدمث خلعت علي به الأراكة ظلها ... والغصن يصغي والحمام يحدث والشمس تجنح للغروب مريضة ... والرعد يرقي والغمامة تنفث وله أيضاً، وهو معنى حسن: ما للعذار كأن وجهك قبلة ... قد خط فيه من الدجى محرابا وأرى الشباب وكان ليس بخاشع ... قد خر فيه راكعاً وأنابا ولقد علمت بكون ثغرك بارقاً ... أن سوف يزجي للعذار سحابا (8) وله أيضاً: أقوى محل من شبابك آهل ... فوقفت أندب منه رسماً عافيا مثل العذار هناك نؤياً داثراً ... واسودت الخيلان فيه أثافيا وقد أخذ بعض المتأخرين - وهو العماد أبو علي (3) بن عبد النور اللزني نزيل   (1) ترجمة ابن خفاجة في الذخيرة: 3 الورقة: 173 (نسخة بغداد) والقلائد: 231 والمطمح: 86 وبغية الملتمس: 202 وله أشعار وأخبار في نفح الطيب. (2) وردت هذه القطعة والقطعتان التاليتان في ديوانه: 285، 126، 61. (3) أ: العماد بن علي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 الموصل، وهو المذكور في ترجمة الشيخ كمال الدين موسى بن يونس - هذا المعنى فقال: ومعقرب الصدغين خلت عذاره ... نؤياً أثافي رسمه الخيلان فوقفت أبكيه بعيني عروة ... أسفاً عليه كأنه غيلان ولد أبو إسحاق المذكور بجزيرة شقر من أعمال بلنسية من بلاد الأندلس في سنة خمسين وأربعمائة، وتوفي بها سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة، لأربع بقين من شوال يوم الأحد. وشقر - بضم الشين المثلثة وسكون القاف والراء المهملة - وهي بليدة بين شاطبة وبلنسبة، وإنما قيل لها جزيرة لأن الماء محيط بها. وبلنسية - بفتح الباء الموحدة وفتح اللام وسكون النون وكسر السين المهملة وفتح الياء المثناة من تحتها. والأندلس - بفتح الهمزة وسكون النون وفتح الدال المهملة وضم اللام والسين المهملة - وهي جزيرة متصلة بالبر الطويل، والبر الطويل متصل بالقسطنطينية العظمى، وإنما قيل للأندلس جزيرة لأن البحر محيط بها من جهاتها إلاالجهة الشمالية، وهي مثلثة الشكل، فالركن الشرقي منها متصل بجبل يسلك منه إلى فرنجة، ولولاه لاختلط البحران. وحكي أن أول من عمرها بعد الطوفان أندلس بن يافث بن نوح عليه السلام، فسميت باسمه. 18 - (1) ابراهيم الغزي الشاعر أبو إسحاق إبراهيم بن يحيى بن عثمان بن محمد الكلبي الأشهبي، وقال ابن النجار في تاريخ بغداد: هو إبراهيم بن عثمان بن عباس بن محمد   (1) ترجمة الغزي في الخريدة (قسم الشام) 1: 4 - 75. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 ابن عمر بن عبد الله الأشهبي، الكلبي، الغزي الشاعر المشهور. شاعر محسن، ذكره الحافظ ابن عساكر في تاريخ دمشق، فقال: دخل دمشق وسمع بها من الفقيه نصر المقدسي، سنة إحدى وثمانين وأربعمائة، ورحل إلى بغداد وأقام بالمدرسة النظامية سنين كثيرة، ومدح ورثى غير واحد من المدرسين بها وغيرهم، ثم رحل (1) إلى خراسان وامتدح بها جماعة من رؤسائها، وانتشر شعره هناك، وذكر له عدة مقاطيع من الشعر، وأثنى عليه. انتهى كلام الحافظ. وله ديوان شعر اختاره لنفسه، وذكر في خطبته أنه ألف بيت. وذكره العماد الكاتب في الخريدة، وأثنى عليه، وقال: إنه جاب البلاد وتغرب، وأكثر النقل والحركات، وتغلغل في أقطار خراسان وكرمان، ولقي الناس، ومدح ناصر الدين مكرم بن العلاء وزير كرمان بقصيدته البائية التي يقول فيها، ولقد أبدع فيه (2) : حملنا من الأيام ما لا نطيقه ... كما حمل العظم الكسير العصائبا ومنها في قصر الليل، وهو معنى لطيف: وليل رجونا أن يدب عذاره ... فما اختط حتى صار بالفجر (3) شائبا وهي قصيدة طويلة. ومن جيد شعره المشهور: قالوا هجرت الشعر، قلت ضرورة ... باب الدواعي والبواعث مغلق خلت الديار فلا (4) كريم يرتجى ... منه النوال ولا مليح يعشق ومن العجائب أنه لا يشترى (5) ... ويخان فيه مع الكساد ويسرق   (1) أهـ: دخل. (2) الخريدة: 11. (3) هـ: بالصبح؛ وما أثبتناه مطابق لما في الخريدة. (4) د: لم يبق في الدنيا. (5) أ: ومن العجائب أن تراه كاسداً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 ومن شعره، وفيه صناعة مليحة: وخز الأسنة والخضوع لناقص ... أمران في ذوق النهى مران والرأي أن يختار فيما دونه ال ... مران وخز أسنة المران ومن شعره أيضاً (1) : من آلة الدست لم يعط الوزير سوى ... تحريك لحيته في حال إيماء إن الوزير ولا أزر (2) يشد به ... مثل العروض له بحر بلا ماء وله أيضاً: وجف الناس حتى لو بكينا ... تعذر ما يبل به الجفون فما يندى لممدوح بنان ... ولا يندى لمهجو جبين وله في القصائد المطولات كل بديع. ومن شعره أيضاً وهو مما تستملحه الأدباء وتستظرفه قوله من جملة قصيدة: إشارة منك تغنيني وأحسن ما ... رد السلام غداة البين بالعنم حتى إذا طاح عنها المرط من دهش ... وانحل بالضم سلك العقد في الظلم تبسمت فأضاء الليل فالتقطت ... حبات منتثر في ضوء منتظم والبيت الأخير منها ينظر إلى قول الشريف الرضي، من جملة قصيدة: وبات بارق ذاك الثغر يوضح لي ... مواقع اللثم في داج من الظلم وقد ألم به بعض البغاددة في مواليا على اصطلاحهم، فإنهم ما يتقيدون بالإعراب فيه، بل يأتون به كيفما اتفق، وهو:   (1) د: وله في الشهاب الوزير. (2) د: تدعى الوزير بلا أزر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 ظفرت ليلة بليلى ظفرة المجنون ... وقلت وافى لحظي طالع ميمون تبسمت فأضاء اللؤلؤ المكنون ... صار الدجى كالضحى فاستيقظ الواشون والأصل في هذا المعنى بيت أبي الطمحان القيني، وهو قوله (1) : أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم ... دجى الليل حتى نظم الجزع ثاقبه وهذا البيت من جملة أبيات، وهي: وإني من القوم الذين هُمُ هُمُ ... إذا مات منهم سيد قام صاحبه نجوم سماء كلما غاب كوكب ... بدا كوكب تأوي إليه كواكبه أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم ... دجى الليل حتى نظم الجزع ثاقبه ويقال: إن هذا البيت أمدح بيت قيل في الجاهلية، وقيل: هو أكذب بيت قيل. وما زال منهم حيث كانوا مسود ... تسير المنايا حيث سارت كتائبه وهذا أبو الطمحان هو: حنظلة بن الشرقي، من شعراء الجاهلية. ولد الغزي المذكور بغزة، وبها قبر هاشم جد النبي صلى الله عليه وسلم، سنة إحدى وأربعين وأربعمائة وتوفي سنة أربع وعشرين وخمسمائة مابين مرو وبلخ، من بلاد خراسان، ونقل إلى بلخ ودفن بها، ونقل عنه أنه كان يقول لما حضرته الوفاة: أرجو أن يغفر الله لي لثلاثة أشياء: كوني من بلد الإمام الشافعي، وأني شيخ كبير، وأني غريب، رحمه الله تعالى وحقق رجاءه. وغزة - بفتح الغين وتشديد الزاء المعجمتين وبعدها هاء - وهي البليدة المعروفة في الساحل الشامي، وقد يقع هذا الكتاب في يد من يكون بعيداعن بلادنا، ولا يعرف أين تقع هذه البليدة، ويتشوق إلى معرفة ذلك، فأقول:   (1) اسمه حنظلة بن الشرقي وقيل ربيعة بن كثافة بن جسر وله ترجمة في الشعر والشعراء: 304 والمؤتلف: 149 والأغاني 13: 3 والسمط: 322 والإصابة 2: 66 والخزانة 3: 426 وأبياته هذه في الأغاني: 9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 هي من أعمال فلسطين، على البحر الشامي، بالقرب من عسقلان، وهي في أوائل بلاد الشام من جهة الديار المصرية، وهي إحدى الرحلتين المذكورتين في كتاب الله العزيز في قوله تعالى: رحلة الشتاء والصيف وأتفق أرباب التفسير أن رحلة الصيف بلاد الشام، ورحلة الشتاء بلاد اليمن، وقد كانت قريش في متاجرها تأتي إلى الشام في فصل الصيف لأجل طيبة بلادها في هذا الفصل، وتأتي اليمن في فصل الشتاء، لأنها بلاد حارة لا تستطيع الدخول إليها في فصل الصيف، وقال أبو محمد عبد الملك بن هشام، في أوائل سيرة رسول الله، صلى الله عليه وسلم: أول من سن الرحلتين لقريش رحلة الشتاء والصيف هاشم جد النبي، صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر بعد هذا بقليل: قال ابن إسحاق: ثم هلك هاشم بن عبد مناف بغزة، من أرض الشام، تاجراً ثم قال بعد هذا بقليل: وقال مطرود بن كعب الخزاعي (1) يبكي بني عبد مناف جميعا، وذكر القصيدة، ومن جملتها: وهاشم في ضريح وسط بلقعةٍ ... تسفي الرياح عليه بين غزات قال أهل العلم باللغة: إنما قال غزات، وهي غزة واحدة، كأنه سمى كل ناحية منها باسم البلدة، وجمعها على غزات، وصارت من ذلك الوقت تعرف بغزة هاشم، لأن قبره بها، لكنه غير ظاهر ولا يعرف، ولقد سألت عنه لما اجتزت بها، فلم يكن عندهم منه علم. ولما توجه أبو نواس الشاعر المشهور من بغداد إلى مصر ليمدح (2) الخصيب بن عبد الحميد، صاحب ديوان الخراج بمصر، ذكر المنازل التي في طريقه، فقال: طوالب بالركبان غزة هاشمٍ ... وبالفرما من حاجهن شعور وفي بيت أبي نواس لفظتان تحتاجان إلى التفسير، إحداهما: الفرما وهي - بفتح الفاء والراء - المدينة العظمى التي كانت كرسي الديار المصرية في   (1) شاعر لجأ لعبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف لجناية كانت منه فحماه وأحسن إليه فأكثر مدحه (انظر معجم المرزباني: 283 وأمالي المرتضى 2: 268 وأنساب الأشراف 1: 62) . (2) ج: ليمتدح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 زمن إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام، ومن قراها أم العرب التي منها هاجر أم إسماعيل بن الخليل عليهما السلام، والفرما في اول الرمل: بين السائح والقصير، المنزلة المعروفة على يسار المتوجه إلى الشام من مصر، على ساحل البحر، رأيتها وقد خربت، ولم يبق منها سوى الآثار، وموضعها تل عال. ومن الاتفاق الغريب: أن إسماعيل أبو العرب، وأمه من أم العرب: القرية المذكورة؛ واللفظ الثاني قوله في آخر البيت شقور بضم الشين المعجمة والقاف - ويقال بفتح الشين أيضاً، والضم أصح - لأن الشقور بالضم بمعنى الأمور اللاصقة بالقلب المهمة، الواحد شقر، والله أعلم. 19 - (1) ابن قرقول أبو إسحاق إبراهيم بن يوسف بن إبراهيم بن عبد الله بن باديس بن القائد الحمزى، المعروف بابن قرقول صاحب كتاب مطالع الأنوار الذي وضعه على مثال كتاب مشارق الأنوار للقاضي عياض. كان من الأفاضل، وصحب جماعة من علماء الأندلس، ولم أقف على شيء من أحواله سوى هذا القدر، وكانت ولادته بالمرية من بلاد الأندلس، في صفر سنة خمس وخمسمائة، وتوفي بمدينة فاس يوم الجمعة أول وقت العصر سادس شوال (2) سنة تسع وستين وخمسمائة، وكان قد صلى الجمعة في الجامع، فلما   (1) ترجمته في التكملة: 151 وفي نسبه " أدهم " بين يوسف وإبراهيم، قال ابن الأبار: وكان رحالاً في طلب العلم حريصاً على لقاء الشيوخ، فقيهاً نظاراً أديباً حافظاً يبصر الحديث ورجاله، وقد صنف وألف مع براعة الخط وحسن الوراقة؛ حدث وأخذ عنه الناس، ولم يزل بمالقة إلى أن انتقل منها إلى سبتة في سنة 564 ثم إلى سلا. (2) التكملة: شعبان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 حضرته الوفاة تلا سورة الإخلاص، وجعل يكررها بسرعة، ثم تشهد ثلاث مرات، وسقط على وجهه ساجداً فوقع ميتاً، رحمة الله تعالى. وقرقول: بضم القافين، وسكون الراء المهملة بينهما، وبعد الواو لام والمرية - بفتح الميم وكسر الراء المهملة وتشديد الياء المثناة من تحتها، وبعدها هاء - وهي مدينة كبيرة بالأندلس على شاطىء البحر، من مراسي المراكب. وفاس - بالفاء والسين المهملة - وهي مدينة عظيمة بالمغرب بالقرب من سبتة. ونسبته الحمزي - بفتح الحاء المهملة وبعد الميم الساكنة زاء معجمة - إلى حمزة (1) آشير - بمد الهمزة وكسر الشين المثلثة وسكون الياء المثناة من تحتها، وبعدها راء مهملة - وحمزة هي بليدة بإفريقية، مابين بجاية وقلعة بني حماد، كذا ذكر لي جماعة من أهل تلك البلاد، وآشير مذكورة في ترجمة زيري بن مناد - الآتي ذكره إن شاء الله تعالى -. 20 - (2) أحمد بن حنبل الإمام أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد بن إدريس بن عبد الله بن حيان بن عبد الله بن أنس بن عوف بن قاسط بن مازن بن شيبان ابن ذهل بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل بن قاسط بن هنب بن أفصي بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن   (1) قال ابن الأباء إن حمزة موضع بناحية المسيلة من عمل بجاية. (2) له ترجمات كثيرة نكتفي بالإشارة منها إلى ترجمته في طبقات أبي يعلى ج 1 الترجمة الأولى، وفي تهذيب ابن عساكر 2: 28. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 عدنان، الشيباني، المروزي الأصل. هذا هو الصحيح في نسبه، وقيل: إنه من بني مازن بن ذهل بن شيبان بن ثعلبة بن عكابة، وهو غلط، لأنه من بني شيبان بن ذهل لا من بني ذهل بن شيبان، وذهل بن ثعلبة المذكور هو عم ذهل بن شيبان، فليعلم ذلك والله أعلم. وخرجت أمه من مرو وهي حامل به، فولدته في بغداد، في شهر ربيع الأول سنة أربع وستين ومائة، وقيل: إنه ولد بمرو وحمل إلى بغداد وهو رضيع. وكان إمام المحدثين، صنف كتابه المسند، وجمع فيه من الحديث ما لم يتفق لغيره، وقيل: إنه كان يحفظ ألف ألف حديث، وكان من أصحاب الإمام الشافعي - رضي الله تعالى عنهما - وخواصه، ولم يزل مصاحبه (1) إلى أن ارتحل الشافعي إلى مصر، وقال في حقه: خرجت من بغداد وما خلفت بها أتقى ولا أفقه من ابن حنبل، ودعي إلى القول بخلق القرآن [أيام المعتصم وكان أمياً لايقرأ ولا يكتب فقال أحمد: أنا رجل علمت علما ولم أعلم فيه بهذا، فأحضر له الفقهاء والقضاة فناظروه ... ] فلم يجب، فضرب وحبس وهو مصر على الامتناع، وكان ضربه في العشر الأخير من شهر رمضان، سنة عشرين ومائتين [وكانت مدة حبسه إلى أن خلي عنه ثمانية وعشرين يوماً وبقي إلى أن مات المعتصم فلما ولي الواثق منعه من الخروج من داره إلى أن أخرجه المتوكل وخلع عليه وأكرمه ورفع المحنة في خلق القرآن] . وكان حسن الوجه، ربعة يخضب بالحناء خضبا ليس بالقاني، في لحيته شعرات (2) سود. أخذ عنه الحديث جماعة من الأماثل، منهم محمد بن اسماعيل البخاري، ومسلم بن الحجاج النيسابوري، ولم يكن في آخر عصره مثله في العلم والورع. توفي ضحوة نهار الجمعة، لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول، وقيل: بل لثلاث عشرة ليلة بقين من الشهر المذكور، وقيل: من ربيع الآخر، سنة إحدى وأربعين ومائتين ببغداد، ودفن بمقبرة باب حرب، وباب   (1) أ: يصاحبه. (2) ب: شعيرات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 حرب منسوب إلى حرب بن عبد الله، أحد أصحاب أبي جعفر المنصور، وإلى حرب هذا تنسب المحلة المعروفة بالحربية، وقبر أحمد بن حنبل مشهور بها يزار، رحمه الله تعالى. وحزر من حضر جنازته من الرجال، فكانوا ثمانمائة ألف، ومن النساء ستين ألفا، وقيل: إنه أسلم يوم مات عشرون (1) ألفاً من النصارى واليهود والمجوس. وذكر أبو الفرج بن الجوزي في كتابه الذي صنفه في أخبار بشر بن الحارث الحافي رضي الله عنه في الباب السادس والأربعين ما صورته: حدث إبراهيم الحربي قال: رأيت بشر بن الحارث الحافي في المنام كأنه خارج من باب مسجد الرصافة وفي كمه شيء يتحرك، فقلت: مافعل الله بك فقال: غفرلي وأكرمني، فقلت: ماهذا الذي في كمك قال: قدم علينا البارحة روح أحمد بن حنبل فنثر عليه الدر والياقوت، فهذا مما التقطت، قلت: فما فعل يحيى بن معين وأحمد بن حنبل قال: تركتهما وقد زارا رب العالمين ووضعت لهما الموائد، قلت: فلم لم تأكل معهما أنت قال: قد عرف هوان الطعام علي فأباحني النظر إلى وجهه الكريم. وفي أجداده حيان - بفتح الحاء المهملة وتشديدالياء المثناة من تحتها، وبعد الألف نون، وبقية الأجداد لاحاجة إلى ضبط أسمائهم لشهرتها وكثرتها، ولولا خوف الإطالة لقيدتها. ورأيت في نسبه اختلافاً، وهذا أصح الطرق التي وجدتها. وكان له ولدان عالمان، وهما صالح وعبد الله، فأما صالح فتقدمت وفاته في شهر رمضان سنة ست وستين ومائتين، وكان قاضي أصبهان فمات بها، ومولده في سنة ثلاث ومائتين، وأما عبد الله فإنه بقي إلى سنة تسعين ومائتين، وتوفي يوم الأحد لثمان بقين من جمادى الأولى - وقيل: الآخرة - وله سبع وسبعون سنة، وكنيته أبو عبد الرحمن، وبه كان يكنى الإمام أحمد، رحمهم الله أجمعين.   (1) هـ: ستون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 21 - (1) ابن سريج أبو العباس أحمد بن عمر بن سريج، الفقيه الشافعي؛ قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في حقه في كتاب الطبقات: كان من عظماء الشافعيين، وأئمة المسلمين، وكان يقال له: الباز الأشهب، ولي القضاء بشيراز، وكان يفضل على جميع أصحاب الإمام الشافعي، حتى على المزني، وإن فهرست كتبه كانت تشتمل على أربعمائة مصنف، وقام بنصرة مذهب الشافعي ورد على المخالفين، وفرع على كتب محمد بن الحسن الحنفي. وكان الشيخ أبو حامد الإسفرايني يقول: نحن نجري مع أبي العباس في ظواهر الفقه دون دقائقه، وأخذ الفقه عن أبي القاسم الأنماطي، وعنه أخذ فقهاء الإسلام، ومنه انتشر مذهب الشافعي في أكثر الآفاق. وكان يناظر أبا بكر محمد بن داود الظاهري، وحكي أنه قال له أبو بكر يوماً [أنت تقول بالظاهر، فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره، فمن يعمل نصف مثقال فسكت محمد طويلا، فقال له أبو العباس لم لا تجيب فقال] أبلعني ريقي، فقال له أبو العباس: أبلعتك دجلة، وقال له يوماً: أمهلني ساعة، فقال: أمهلتك من الساعة إلى أن تقوم (2) الساعة، وقال له يوماً: أكلمك من الرجل فتجيبني (3) من الرأس، فقال له: هكذا البقر، إذا حفيت أظلافها دهنت قرونها. وكان يقال له في عصره: إن الله بعث عمر بن عبد العزيز على رأس المائة   (1) ترجمة أبي العباس ابن سريج في تاريخ بغداد 4: 287 وطبقات السبكي 2: 87 والعبر 2: 132 وتذكرة الحفاظ: 811 وشذرات الذهب 2: 247 والوافي 7، الورقة: 126. (2) د: إلى قيام. (3) أ: تكلمني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 من الهجرة، أظهر كل سنة وأمات كل بدعه، ومن الله تعالى على رأس المائتين بالإمام الشافعي حتى أظهر السنة وأخفى البدعة، ومن الله تعالى بك على رأس الثلثمائة حتى قويت كل سنة وضعفت كل بدعة، وكان له مع فضائله نظم حسن. وتوفي لخمس بقين من جمادى الأولى سنة ست وثلثمائة، وقيل: يوم الاثنين الخامس والعشرين من شهر ربيع الأول ببغداد، ودفن في حجرته بسويقة غالب بالجانب الغربي بالقرب من محلة الكرخ، وعمره سبع وخمسون سنة وستة أشهر، رحمه الله تعالى. وقبره ظاهر في موضعه يزار، ولم يبق عنده عمارة ولا قبر، بل هو منفرد هناك. [رأى أبو العباس المذكور في مرضه الذي مات فيه كأن القيامة قد قامت وإذا الجبار سبحانه يقول: أين العلماء فجاءوا؛ فقال: ماذا عملتم في ما عملتم فقالوا: يارب قصرنا وأسأنا، فأعاد السؤال كأنه لم يرضى به، وأراد جوابا آخر، فقلت: أما أنا فليس في صحيفتي الشرك وقد وعدت أن تغفر ما دونه، فقال: اذهبوا فقد غفرت لكم؛ ومات بعد ذلك بثلاثة أيام، رحمه الله تعالى] . وكان جده سريج رجلاً مشهوراً بالصلاح الوافر - وهو بضم السين المهملة وفتح الراء المهملة وسكون الياء المثناة من تحتها والجيم - ورأيت في بعض الأجزاء أنه كان أعجمياً لايعرف بالعربية شيئاً، وأنه رأى الباري سبحانه وتعالى في النوم وحادثه وقال له في الآخر: ياسريج طلب كن، فقال: ياخدا سر بسر، قالها ثلاثا، وهذا لفظ عجمي معناه بالعربية: ياسريج اطلب، فقال: يارب رأس برأس، كما يقال: رضيت أن أخلص رأسا برأس، ثم وجدت في تاريخ بغداد أن صاحب المنام المذكورهو سريج بن يونس بن إبراهيم بن الحارث المروزي الزاهد العابد صاحب الكرامات، وكانت وفاته في شهر ربيع الأول سنة خمس وثلاثين ومائتين ببغداد، رحمه الله تعالى، ورأيت بالمنام جزءا منفردا متصل السماع بالإسناد إلى سريج المذكور، والقول الأول كنت سمعته من بعض المشايخ. والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 22 - (1) ابن القاص أبو العباس أحمدبن أبي أحمد المعروف بابن القاص، الطبري، الفقيه الشافعي؛ كان إمام وقته في طبرستان، وأخذ الفقه عن ابن سريج المقدم ذكره، وصنف كتباً كثيرة: منها التلخيص، وأدب القاضي، والمواقيت والمفتاح، وغير ذلك، وقد شرح التلخيص أبو عبد الله الختن، والشيخ أبو علي السنجي، وهو كتاب صغير ذكره الإمام في النهاية في مواضع، وكذلك الغزالي، وجميع تصانيفه صغيرة الحجم كثيرة الفائدة، وكان يعظ الناس، فانتهى في بعض أسفاره إلى طرسوس، وقيل: إنه تولى بها القضاء، فعقد له مجلس وعظ، وأدركته رقة وخشية وروعة من ذكر الله تعالى، فخر مغشيا عليه، ومات سنة خمس وثلاثين وثلثمائة، وقيل: سنة ست وثلاثين، رحمة الله تعالى. وعرف والده بالقاص (2) لأنه كان يقص الأخبار والآثار. وطبرستان - بفتح الطاء المهملة وفتح الباء الموحدة وفتح الراء المهملة وسكون السين المهملة وفتح التاء المثناة من فوقها وبعد الألف نون - وهو إقليم متسع ببلاد العجم يجاور خراسان. وله كرسيان: سارية وآمل، وهومنيع بالأودية والحصون. وطرسوس - بفتح الطاء والراء المهملتين، وضم السين المهملة، وبعد الواو سين مهملة - وهي مدينة في الثغور الرومية عند المصيصة وأذنة، وبها   (1) ترجمة ابن القاص في طبقات السبكي 2: 103. (2) جعله بو سعد السمعاني نفسه القاص وقال: إنما سمي بذلك لدخوله ديار الديلم ووعظه بها وتذكيره، فسمي القاص ... قلت: وهذا يوافق ما تقدم من أنه كان يعظ الناس وكان شديد الخشوع والرقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 قبر المأمون بن هارون الرشيد، وقد جاء ذكرها في كتاب المهذب، والوسيط، في باب الوقف. 23 - (1) المروروذي القاضي أبو حامد أحمد بن عامر بن بشر بن حامد المروروذي، الفقيه الشافعي، أخذ الفقه عن أبي إسحاق المروزي، وصنف الجامع في المذهب، وشرح مختصر المزني، وصنف في أصول الفقه، وكان إماما لايشق غباره، ونزل البصرة ودرس بها، وعنه أخذ فقهاء البصرة. وقال أبو حيان التوحيدي: سمعت أبا حامد المروروذي يقول: ليس ينبغي أن يحمد الإنسان على شرف الأب ولا يذم عليه، كما لا يمدح الطويل على طوله، ولا يذم القبيح على قبحه. وتوفي سنة اثنتين وستين وثلثمائة، رحمه الله تعالى. ونسبته إلى مروروذ - بفتح الميم وسكون الراء المهملة وفتح الواو وتشديد الراء المهملة المضمومة، وبعد الواو ذال معجمة - وهي مدينة مبنية على نهر، وهي أشهر مدن خراسان بينها وبين مرو الشاهجان أربعون فرسخاً، والنهر يقال له بالعجمية الروذ - بضم الراء، وسكون الواو، وبعدها ذال معجمة - وهاتان المدينتان هما المروان وقد جاء ذكرهما في الشعر كثيراً، أضيفت إحداهما إلى الشاهجان وهي العظمى، والنسبة إليها مروزي (2) ، والثانية إلى النهر المذكور، ليحصل الفرق بينهما، والنسبة إليها مروروذي ومروزي أيضاً، قاله السمعاني، وهي من فتوح الأحنف بن قيس، ومذكورة في ترجمته،   (1) ترجمة أبي حامد المروروذي في طبقات السبكي 2: 82 والبداية والنهاية 11: 209 والوافي 7، الورقة: 4 والعبر 2: 326 وشذرات الذهب 3: 40 وفي كتب تلميذه أبي حيان التوحيدي كالامتاع والبصائر أخبار كثيرة عنه. (2) أج: مروي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 وكان على مقدمة (1) الجيش الذي كان أميره عبد الله بن عامر، وهو الذي سيره إليها، ومعنى الشاهجان روح الملك، وإنما أطلت الكلام في هذا لئلايقع الالتباس على أحد بين البلدين (2) فيقع الخطأ عند ذلك. 24 - (3) ابن القطان أبو الحسين أحمد بن أحمد بن محمد بن أحمد المعروف بابن القطان البغدادي الفقيه الشافعي؛ كان من كبار أئمة الصحاب، أخذ الفقه عن ابن سريج، ثم من بعده عن أبي إسحاق المروزي، ودرس ببغداد، وأخذ عنه العلماء، وله مصنفات كثيرة؛ وكانت الرحلة إليه بالعراق مع أبي القاسم الداركي، فلما توفي الداركي استقل بالرياسة. وذكره الشيخ أبو إسحاق في الطبقات وقال: مات سنة تسع وخمسين وثلثمائة، رحمة الله تعالى، وزاد الخطيب: في جمادى الأولى، وقال: هو من كبراء الشافعيين، وله مصنفات في أصول الفقه وفروعه، وذكر بناء بغداد في شذور العقود سنة ست وأربعين ومائة.   (1) ب هـ: تقدمة. (2) أ: على أحد فيهما. (3) ترجمة ابن القطان في تاريخ بغداد 4: 365 والوافي 7، الورقة: 155 (وكنيته فيه أبو الحسن) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 25 - (1) الطحاوي أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة بن عبد الملك الأزدي الطحاوي، الفقيه الحنفي؛ انتهت إليه رياسة أصحاب أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه بمصر، وكان شافعي المذهب يقرأ على المزني، فقال له يوماً: والله لاجاء منك شيء، فغضب أبو جعفر من ذلك، وانتقل إلى أبي جعفر ابن أبي عمران الحنفي، واشتغل عليه، فلما صنف مختصره قال: رحم الله أبا إبراهيم - يعني المزني - لو كان حياً لكفر عن يمينه. وذكر أبو يعلى الخليلي في كتاب " الإرشاد " (2) في ترجمة المزني أن الطحاوى المذكور كان ابن أخت المزني، وأن محمد بن أحمد (3) الشروطي قال: قلت للطحاوي: لم خالفت خالك واخترت (4) مذهب أبي حنيفة فقال: لأني كنت أرى خالي يديم النظر في كتب أبي حنيفة، فلذلك انتقلت إليه، وصنف كتباً مفيدة منها أحكام القرآن، واختلاف العلماء، وومعاني الآثار، والشروط، وله تاريخ كبير، وغير ذلك. وذكره القضاعي في كتاب " الخطط " (5) فقال: كان قد أدرك المزني وعامة طبقته، وبرع في علم الشروط، وكان قد استكتبه أبو عبيد الله محمد بن   (1) ترجمة الطحاوي في الفهرست: 207 وتهذيب ابن عساكر 2: 54 والمنتظم 6: 250 والجواهر المضية 1: 102 وتاج التراجم: 8 والوافي 8، الورقة: 3 والعبر 2: 186 والشذرات 2: 288 والنجوم الزاهرة 3: 239 وغاية النهاية 1: 116. (2) هو كتاب الإرشاد في علماء البلاد للشيخ أبي يعلى خليل بن عبد الله الخليلي القزويني (- 446) ذكر فيه المحدثين وغيرهم من العلماء على ترتيب البلاد إلى زمانه (كشف الظنون) . (3) د: أحمد بن محمد. (4) أ: وأخذت. (5) هو كتاب المختار في ذكر الخطط والآثار وهو في خطط مصر لأبي عبد الله محمد بن سلامة القضاعي (- 454) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 عبدة القاضي وكان صعلوكاً فأغناه، وكان أبو عبيد الله سمحاً جواداً، ثم عدله أبو عبيد علي بن الحسين بن حرب القاضي عقيب القضية التي جرت لمنصور الفقيه مع أبي عبيد، وذلك في سنة ست وثلثمائة، وكان الشهود يتعسفون (1) عليه بالعدالة لئلا تجتمع له رياسة العلم وقبول الشهادة، وكان جماعة من الشهود قد جاوروا بمكة في هذه السنة فاغتنم أبو عبيد غيبتهم وعدل أبا جعفر المذكور بشهادة أبي القاسم المأمون وأبي بكر بن سقلاب. وكانت ولادته سنة ثمان وثلاثين ومائتين، وقال أبو سعد السمعاني: ولد سنة تسع وعشرين ومائتين، وهو الصحيح، وزاد غيره فقال: ليلة الأحد لعشرخلون من ربيع الأول، وتوفي سنة إحدى وعشرين وثلثمائة، ليلة الخميس مستهل ذي القعدة بمصر ودفن بالقرافة، وقبره مشهور بها، وله ذكر في ترجمة الفقيه منصور بن إسماعيل الضرير، فينظر هناك، وتوفي والده سنة أربع وستين ومائتين، رحمه الله تعالى. ونسبته إلى طحا - بفتح الطاء والحاء المهملتين، وبعدهما ألف - وهي قرية بصعيد مصر، وإلى الأزد - بفتح الهمزة وسكون الزاء المعجمة وبالدال المهملة - وهي قبيلة مشهورة من قبائل اليمن. 26 - (2) أبو حامد الإسفرايني الشيخ أبو حامد أحمد بن أبي طاهر محمد بن أحمد الإسفرايني، الفقيه الشافعي؛ انتهت إليه رياسة الدنيا والدين ببغداد، وكان يحضر مجلسه أكثر من ثلثمائة   (1) هـ: ينفسون. (2) ترجمة أبي حامد الإسفرايني في طبقات السبكي 3: 24 وتاريخ بغداد 4: 368 والوافي 7، الورقة: 173 والعبر 3: 92 والشذرات 3: 178. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 فقيه، وعلق على مختصر المزني تعاليق، وطبق الأرض بالأصحاب، وله في المذهب التعليقة الكبرى، وكتاب البستان، وهو صغير، وذكر فيه غرائب، وأخذ الفقه عن ابي الحسن بن المرزبان، ثم عن أبي القاسم الداركي، واتفق أهل عصره على تفضيله وتقديمه في جودة (1) النظر. وقال الخطيب في تاريخ بغداد: إن أبا حامد حدث بشيء يسير عن عبد الله بن عدي وأبي بكر الإسماعيلي وإبراهيم بن محمد بن عبدل الإسفرايني وغيرهم، وكان ثقة، ورأيته غير مرة، وحضرت تدريسه في مسجد عبد الله ابن المبارك، وهوالمسجد الذي في صدر قطيعة الربيع، وسمعت من يذكر أنه كان يحضر درسه سبعمائة (2) متفقه، وكان الناس يقولون: لورآه الشافعي لفرح به. وحكى الشيخ أبو إسحاق في الطبقات أن أبا الحسين (3) القدوري الحنفي كان يعظمه ويفضله على كل أحد، وأن الوزير أبا القاسم علي بن الحسين حكى له عن القدوري أنه قال: أبو حامد عندي أفقه وانظر من الشافعي، قال الشيخ: فقلت له: هذا القول من القدوري حمله عليه اعتقاده في الشيخ أبي حامد وتعصبه بالحنفية على الشافعي رضي الله عنه، ولايلتفت إليه، فإن أباحامد ومن هو اعلم منه وأقدم على بعد من تلك الطبقة، وما مثل الشافعي ومثل من بعده إلا كما قال الشاعر: نزلوا بمكة في قبائل نوفل ... ونزلت بالبيداء أبعد منزل وروي عنه انه كان يقول: ما قمت من مجلس النظر قط فندمت على معنى ينبغي أن يذكر فلم اذكره، وروي أنه قابله بعض الفقهاء في مجلس المناظرة بما لا يليق، ثم أتاه في الليل معتذرا إليه، فأنشده يقول: جفاء جرى جهرا لدى الناس وانبسط ... وعذر أتى سرا فأكد ما فرط   (1) هـ: حدة. (2) أ: تسعمائة، وما ثبت في المتن موافق لما عند الخطيب، وبين الرقمين تسعة وسبعة ومضاعفاتهما اضطراب شديد في النسخ. (3) اج هـ: الحسن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 ومن ظن أن يمحو جلي جفائه ... خفي اعتذار فهو في أعظم (1) الغلط وكانت ولادته سنة أربع وأربعين وثلثمائة، وقدم بغداد في سنة ثلاث وستين وثلثمائة، وقال الخطيب: سنة أربع وستين، ودرس الفقه بها من سنة سبعين إلى أن توفي ليلة السبت لإحدى عشرة ليلة بقيت من شوال سنة ست وأربعمائة ببغداد، ودفن من الغد في داره ثم نقل إلى باب حرب في سنة عشر وأربعمائة، رحمه الله تعالى. قال الخطيب: وصليت على جنازته في الصحراء وراء جسر أبي الدن (2) . وكان الإمام في الصلاة عليه أبا عبد الله بن المهتدى (3) خطيب جامع المنصور، وكان يوماً مشهوداً بكثرة الناس وعظم الحزن وشدة البكاء. ونسبته إلى إسفراين - بكسر الهمزة وسكون السين المهملة وفتح الفاء والراء المهملة وكسر الياء المثناة من تحتها، وبعدها نون - وهي بلدة بخراسان بنواحي نيسابور، على منتصف الطريق إلى جرجان. والبيت الذي تمثل به الشيخ أبو إسحاق له ثان، وهو: حذرا عليها من مقالة كاشح ... ذرب اللسان يقول ما لم أفعل (4) 27 (5) أبو الحسن المحاملي أبو الحسن (6) أحمد بن محمد بن احمد بن القاسم بن إسماعيل   (1) د: غاية. (2) هـ: جسر الدن. (3) ما هنا موافق لما عند الخطيب، وقد اضطرب الاسم في أج هـ. (4) أج هـ: يفعل. (5) ترجمة المحاملي في تاريخ بغداد 4: 372 وطبقات السبكي 3: 20 والوافي 7، الورقة: 155 والعبر 3: 119 والشذرات 3: 202. (6) أ: أبو الحسين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 ابن سعيد (1) بن أبان الضبي المحاملي الفقيه الشافعي؛ أخذ الفقه عن الشيخ أبي حامد الإسفرايني، وله عنه تعليقة انسب إليه، ورزق من الذكاء وحسن الفهم ما أربى على أقرانه، وبرع في الفقه، ودرس في حياة شيخه أبي حامد وبعده، وسمع الحديث من محمد بن المظفر وطبقته، ورحل به أبوه إلى الكوفة وسمعه بها، وصنف في المذهب المجموع وهو كتاب كبير، والمقنع وهو مجلد واحد، واللباب وهو صغير، والأوسط. وصنف في الخلاف كثيراً، ودرس ببغداد، ذكره الخطيب في تاريخه. توفي يوم الأربعاء (2) لتسع (3) بقين من شهر ربيع الآخر سنة خمس عشرة وأربعمائة، رحمه الله تعالى، وكانت ولادته سنة ثمان وستين وثلثمائة. والضبي - بفتح الضاد المعجمة، وتشديد الباء الموحدة - نسبة إلى قبيلة كبيرة مشهورة. والمحاملي - بفتح الميم والحاء المهملة وكسر الميم الثانية واللام - ونسبته إلى المحامل التي يحمل عليها الناس في السفر. 28 - (4) أبو بكر البيهقي أبو بكر احمد بن الحسين بن علي بن عبد الله بن موسى البيهقي الخسروجردي الفقيه الشافعي الحافظ الكبير المشهور، وأحد زمانه وفرد أقرانه في الفنون، من كبار أصحاب الحاكم أبي عبد الله ابن البيع في الحديث، ثم الزائد عليه في   (1) هـ: ابن سعد. (2) د: الثلاثاء. (3) أ: لسبع. (4) ترجمة أبي بكر البيهقي في طبقات السبكي 3: 3 والقطعة الثانية من Hist. of Naish. (الورقة 29 ظ) وتذكرة الحفاظ: 1132. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 أنواع العلوم؛ أخذ الفقه عن أبي الفتح ناصر بن محمد العمري المروزي، غلب عليه الحديث، واشتهربه، ورحل في طلبه إلى العراق والجبال والحجاز، وسمع بخراسان من علماء عصره وكذلك ببقية البلاد التي انتهى إليها، وشرع في التصنيف فصنف فيه كثيراً حتى قيل: تبلغ تصانيفه ألف جزء، وهو أول من جمع نصوص الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه، في عشر مجلدات (1) ، ومن مشهور مصنفاته السنن الكبير السنن الصغير ودلائل النبوة، والسنن، والآثار وشعب الايمان، ومناقب الشافعي المطلبي ومناقب أحمد بن حنبل وغير ذلك. وكان قانعاً من الدنيا بالقليل، وقال إمام الحرمين في حقه: مامن شافعي المذهب إلا وللشافعي عليه منة، إلا أحمد البيهقي فإن له على الشافعي منة، وكان من أكثر الناس نصراً (2) لمذهب الشافعي، وطلب إلى نيسابور لنشر (3) العلم فأجاب وانتقل إليها، وكان على سيرة السلف، وأخذ عنه الحديث جماعة من العيان، منهم زاهر الشحامي ومحمد الفراوي وعبد المنعم القشيري وغيرهم. وكان مولده في شعبان سنة اربع وثمانين وثلثمائة، وتوفي في العاشر من جمادى الأولى سنة ثمان وخمسين وأربعمائة، بنيسابور، ونقل إلى بيهق، رحمه الله تعالى. ونسبته إلى بيهق - بفتح الباء الموحدة وسكون الياء المثناة من تحتها، وبعد الهاء المفتوحة قاف - وهي قرى مجتمعة بنواحي نيسابور على عشرين فرسخا منها، وخسر وجرد (4) من قراها، وهي بضم الخاء المعجمة.   (1) قال السبكي: وفي كلام شيخنا الذهبي أنه أول من جمع نصوص الشافعي، وليس كذلك بل هو آخر من جمعها، ولذلك استوعب أكثر ما في كتب السابقين، ولا أعرف أحداً بعده جمع النصوص لأنه سد الباب على من بعده. (2) د: نظراً. (3) د: لطلب. (4) ضبطها السبكي: بضم الخاء المعجمة وسكون السين المهملة وفتح الراء وسكون الواو وكسر الجيم وسكون الراء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 29 - (1) النسائي أبو عبد الرحمن أحمد بن علي بن شعيب بن علي بن سنان بن بحر النسائي، الحافظ؛ كان إمام أهل عصره في الحديث، وله كتاب السنن، وسكن بمصر وانتشرت (2) بها تصانيفه، وأخذ عنه الناس. قال محمد بن إسحاق الأصبهاني: سمعت مشايخنا بمصر يقولون: إن أبا عبد الرحمن فارق مصر في آخر عمره، وخرج إلى دمشق، فسئل عن معاوية وماروي من فضائله، فقال: أما يرضى معاوية أن يخرج (3) رأساً برأس، حتى يفضل وفي رواية أخرى: ما أعرف له فضيلة إلا لا أشبع الله بطنك. وكان يتشيع، فمازالوا يدفعون في حضنه حتى أخرجوه من المسجد، وفي روية أخرى: يدفعون في خصييه وداسوه، ثم حمل إلى الرملة فمات بها. وقال الحافظ أبو الحسن الدارقطني: لما امتحن النسائي بدمشق، قال: احملوني إلى مكة، فحمل إليها فتوفي بها، وهو مدفون بين الصفا والمروة. وكانت وفاته في شعبان من سنة ثلاث وثلثمائة. وقال الحافظ أبو نعيم الأصبهاني: لما داسوه بدمشق مات بسبب ذلك الدوس، وهو منقول، قال: وكان قد صنف كتاب الخصائص في فضل علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأهل البيت، وأكثر رواياته فيه عن أحمد بن حنبل، رحمه الله تعالى. فقيل له: ألا تصنف كتاباً في فضائل الصحابة رضي   (1) ترجمة النسائي في طبقات السبكي 2: 83 وتذكرة الحفاظ: 698 (وسماه أحمد بن شعيب ابن علي) والشذرات 2: 239 والعبر 2: 123. (2) ج: واشتهرت. (3) أ: يروح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 الله عنهم، فقال: دخلت دمشق والمنحرف عن علي رضي الله عنه كثير، فأردت أن يهديهم الله تعالى بهذا الكتاب، وكان يصوم يوماً ويفطر يوماً، وكان موصوفاً بكثرة الجماع. قال الحافظ أبو القاسم المعروف بابن عساكر الدمشقي (1) : كان له أربع زوجات يقسم لهن وسراري، وقال الدارقطني: امتحن بدمشق، فأدرك الشهادة، رحمه الله تعالى. وتوفي يوم الاثنين، لثلاث عشرة ليلة خلت من صفر، سنة ثلاث وثلثمائة بمكة، حرسها الله تعالى، وقيل: بالرملة من أرض فلسطين. وقال أبو سعيد عبد الرحمن بن أحمد بن يونس، صاحب تاريخ مصر، في تاريخه: إن أبا عبد الرحمن النسائي قدم مصر قديماً، وكان إماما في الحديث، ثقة ثبتا حافظا، وكان خروجه من مصر في ذي القعدة، سنة اثنتين وثلثمائة. ورأيت بخطي في مسوداتي أن مولده بنسأ في سنة خمس عشرة، وقيل: أربع عشرة ومائتين، والله تعالى أعلم. ونسبته إلى نسأ - بفتح النون وفتح السين المهملة وبعدها همزة - وهي مدينة بخراسان خرج منها جماعة من الأعيان. 30 - (2) القدوري أبو الحسين أحمد بن محمد بن احمد بن جعفر بن حمدان الفقيه الحنفي، المعروف بالقدوري؛ انتهت إليه رياسة الحنفية بالعراق. وكان حسن العبارة   (1) لم ترد له ترجمة في تهذيب ابن عساكر. (2) ترجمة القدوري في تاريخ بغداد 4: 377 وتاج التراجم: 7 والوافي 7، الورقة: 155 والعبر 3: 164 والشذرات 3: 233. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 في النظر. وسمع الحديث، وروى عنه أبو بكر الخطيب صاحب التاريخ، وصنف في مذهبه المختصر المشهور وغيره. وكان يناظر الشيخ أبا حامد الإسفرايني الفقيه الشافعي، وقد تقدم ذكره في ترجمة أبي حامد وما بالغ في حقه. وكانت ولادته سنة اثنتين وستين وثلثمائة، وتوفي يوم الأحد الخامس من رجب سنة ثمان وعشرين وأربعمائة ببغداد. ودفن من يومه بداره في درب (1) أبي خلف ثم نقل إلى تربة في شارع المنصور، ودفن هناك بجنب (2) أبي بكر الخوارزمي الفقيه الحنفي، رحمهما الله تعالى. ونسبته بضم القاف والدال المهملة وسكون الواو وبعدها راء مهملة إلى القدور التي هي جمع قدر. ولا أعلم سبب نسبته إليها (3) ، بل هكذا ذكره السمعاني في كتاب الأنساب (4) . 31 - (5) الثعلبي أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي النيسابوري المفسر المشهور؛ كان أوحد زمانه في علم التفسير، وصنف التفسير الكبير الذي فاق غيره من التفاسير. وله كتاب العرائس في قصص الأنبياء، صلوات الله وسلامه   (1) د: في داره بدرب. (2) أ: إلى جانب. (3) قيل نسبته إليها بعملها وبيعها. (4) انظر اللباب 2: 247. (5) ترجمة الثعلبي المفسر في طبقات السبكي 3: 23 ومعجم الأدباء 5: 36 وانباه الرواة 1: 119 وطبقات المفسرين: 5 والوافي 7، الورقة: 148 واللباب 1: 119 وبغية الوعاة: 154 وغاية النهاية 1: 100 والعبر 3: 161 والشذرات 3: 230 والنجوم الزاهرة 4: 283 وروضات الجنات: 68. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 عليهم، وغير ذلك. ذكره السمعاني وقال: يقال له: الثعلبي والثعالبي، وهو لقب له وليس بنسب، قاله بعض العلماء. وقال أبو القاسم القشيري: رأيت رب العزة عز وجل في المنام وهو يخاطبني وأخاطبه، فكان في أثناء ذلك أن قال الرب تعالى اسمه: أقبل الرجل الصالح، فالتفت فإذا أحمد الثعالبي مقبل. وذكره عبد الغافر بن إسماعيل الفارسي في كتاب سياق تاريخ نيسابور وأثنى عليه، وقال: هو صحيح النقل موثوق به. حدث عن أبي طاهر ابن خزيمة والإمام أبي بكر ابن مهران المقرىء، وكان كثير الحديث كثير الشيوخ. توفي سنة سبع وعشرين وأربعمائة، وقال غيره: توفي في المحرم سنة سبع وعشرين وأربعمائة. وقال غيره: توفي يوم الأربعاء لسبع بقين من المحرم سنة سبع وثلاثين وأربعمائة، رحمة الله تعالى. والثعلبي - بفتح الثاء المثلثة وسكون العين المهملة وبعد اللام المفتوحة باء موحدة، والنيسابوري - بفتح النون وسكون الياء المثناة من تحتها وفتح السين المهملة، وبعد الألف باء موحدة مضمومة، وبعد الواو الساكنة راء - هذه النسبة إلى نيسابور. وهي من احسن مدن خراسان، وأعظمها وأجمعها للخيرات، وإنما قيل لها: نيسابور لأن سابور ذا الأكتاف أحد ملوك الفرس المتأخرة لما وصل إلى مكانها أعجبه، وكان مقصبة، فقال: يصلح أن يكون ههنا مدينة، وأمر بقطع القصب وبنى المدينة، فقيل لها نيسابور. والني: القصب بالعجمي، هكذا قاله السمعاني في كتاب " الأنساب " (1) .   (1) انظر اللباب 3: 252. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 32 - (1) ابن أبي دواد أبو عبد الله أحمد بن أبي دواد فرج بن جرير بن مالك بن عبد الله بن عباد ابن سلام بن مالك بن عبد هند بن لخم بن مالك بن قنص بن منعة بن برجان بن دوس ابن الديل بن أمية بن حذافة بن زهر بن إياد بن نزار بن معد بن عدنان الإيادي القاضي؛ كان معروفاً بالمروءة والعصبية، وله مع المعتصم في ذلك أخبار مأثورة، ذكره أبو عبيد الله المرزباني في كتاب المرشد في أخبار المتكلمين فقال: قيل: إن أصلهم من قرية بقنسرين، واتجر (2) أبوه إلى الشام، وأخرجه معه وهو حدث فنشأ أحمد في طلب العلم وخاصة الفقه والكلام، حتى بلغ ما بلغ، وصحب هياج بن العلاء السلمي، وكان من أصحاب واصل بن عطاء، فصار إلى الاعتزال. قال أبو العيناء: مارأيت رئيسا قط أفصح ولا أنطق من ابن أبي دواد، وقال إسحاق بن إبراهيم الموصلي: سمعت ابن أبي دواد في مجلس المعتصم وهو يقول: إني لأمتنع من تكليم الخلفاء بحضرة محمد بن عبد الملك الزيات الوزير في حاجة كراهة أن أعلمه ذلك، ومخافة أن أعلمه التأتي لها؛ وهو أول من افتتح الكلام مع الخلفاء، وكانوا لايبدؤهم أحد حتى يبدؤوه، وقال أبو العيناء: كان ابن ابي دواد شاعراً مجيداً فصيحاً بليغاً. وقال المرزباني: وقد ذكره دعبل بن علي الخزاعي في كتابه الذي جمع فيه أسماء الشعراء وروى له أبياتاًحساناً، وكان يقول: ثلاثة ينبغي أن يبجلوا وتعرف أقدارهم: العلماء وولاة العدل والإخوان، فمن استخف بالعلماء   (1) ترجمة ابن أبي داود في تاريخ الطبري 11: 49 وطبقات المعتزلة: 62 والوافي 7، الورقة: 135 والعبر 1: 431 والشذرات 2: 93. (2) أ: وتاجر؛ ب: وتجر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 أهلك دينه، ومن استخف بالولاة أهلك دنياه، ومن استخف بالإخوان أهلك مروءته. وقال إبراهيم بن الحسن: كنا عند المأمون فذكروا من بايع من الأنصار ليلة العقبة، فاختلفوا في ذلك، ودخل ابن أبي دواد فعدهم واحدا واحدا بأسمائهم وكناهم وأنسابهم، فقال المأمون: إذا استجلس الناس فاضلا فمثل أحمد، فقال أحمد: بل إذا جالس العالم خليفة فمثل أمير المؤمنين الذي يفهم عنه، ويكون أعلم بما يقوله منه. ومن كلام أحمد: ليس بكامل من لم يحمل وليه على منبر ولو أنه حارس، وعدوه على جذع ولو أنه وزير. وقال أبو العيناء: كان الأفشين يحسد أبا دلف القاسم بن عيسى العجلي للعربية والشجاعة، فاحتال عليه حتى شهد عليه بجناية وقتل، فأخذه ببعض أسبابه، فجلس له وأحضره وأحضر السياف ليقتله، وبلغ ابن أبي دواد الخبر، فركب في وقته مع من حضر من عدوله، فدخل على الافشين وقد جيء بأبي دلف ليقتل، فوقف ثم قال: إني رسول أمير المؤمنين إليك، وقد أمرك أن لا تحدث في القاسم بن عيسى حدثاً حتى تسلمه إلي، ثم التفت إلى العدول، وقال: اشهدوا أني قد أديت الرسالة إليه عن أمير المؤمنين والقاسم حي معافى، فقالوا: قد شهدنا، وخرج، فلم يقدر الافشين عليه، وصار ابن أبي دواد إلى المعتصم من وقته، وقال: ياأمير المؤمنين، قد أديت عنك رسالة لم تقلها لي، ما أعتد بعمل خير خيراً منها، وإني لأرجو لك الجنة بها، ثم أخبره الخبر، فصوب رأيه ووجه من أحضر القسم فأطلقه ووهب له وعنف الافشين فيما عزم عليه. وكان المعتصم قد اشتد غيظه (1) على محمد بن الجهم البرمكي، فأمر بضرب عنقه، فلما رأى ابن أبي دواد ذلك، وأنه لاحيلة له فيه، وقد شد (2) برأسه وأقيم في النطع وهز له السيف، قال ابن أبي دواد للمعتصم: وكيف تأخذ ماله إذا قتلته قال: ومن يحول بيني وبينه قال: يأبى الله تعالى ذلك، ويأباه   (1) د: غضبه. (2) ب: شدوا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 رسوله صلى الله عليه وسلم، ويأباه عدل أمير المؤمنين، فإن المال للوارث إذا قتلته حتى تقيم البينة على ما فعله، وأمره باستخراج ما اختانه أقرب عليك وهو حي، فقال: احبسوه حتى يناظر، فتأخر أمره على مال حمله، وخلص محمد. وحدث الجاحظ أن المعتصم غضب على رجل من أهل الجزيرة الفراتية وأحضر السيف والنطع، فقال له المعتصم: فعلت وصنعت، وأمر بضرب عنقه فقال له ابن أبي دواد: يا أمير المؤمنين، سبق السيف العدل، فتأن في أمره فإنه مظلوم، قال: فسكن قليلاً، قال ابن أبي دواد: وغمرني البول فلم أقدر على حبسه، وعلمت أني إن قمت قتل الرجل، فجعلت ثيابي تحتي وبلت فيها حتى خلصت الرجل، قال: فلما قمت نظر المعتصم إلى ثيابي رطبة، فقال: يا أبا عبد الله كان تحتك ماء فقلت: لا يا أمير المؤمنين، ولكنه كان كذا وكذا، فضحك المعتصم ودعا لي، وقال: أحسنت بارك الله عليك، وخلع عليه وأمر له بمائة ألف درهم. وقال أحمد بن عبد الرحمن الكلبي: ابن أبي دواد روح كله من قرنه إلى قدمه، وقال لازون (1) بن إسماعيل: ما رأيت أحداً قط أطوع لأحد من المعتصم لابن أبي دواد، وكان يسأل الشيء اليسير فيمتنع منه، ثم يدخل ابن أبي دواد فيكلمه في أهله وفي أهل (2) الثغور وفي الحرمين وفي أقاصي أهل المشرق والمغرب، فيجيبه إلى كل ما يريد، ولقد كلمه يوما في مقدار ألف ألف درهم ليحفر بها نهراً في أقاصي خراسان، فقال له: وما علي من هذا النهر فقال: ياأمير المؤمنين، إن الله تعالى يسألك عن النظر في أمر أقصى رعيتك كما يسألك عن النظر في أمر أدناها، ولم يزل يرفق به حتى أطلقها. وقال الحسين بن الضحاك الشاعر المشهور لبعض المتكلمين: ابن أبي دواد عندنا لا يحسن اللغة وعندكم لا يحسن الكلام وعند الفقهاء لا يحسن الفقه، وهو عند المعتصم يعرف (3) هذا كله.   (1) هـ: لاوزن. (2) أ: عن أهله وأهل. (3) أ: يحسن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 وكان ابتداء اتصال ابن أبي دواد بالمأمون أنه قال: كنت أحضر مجلس القاضي يحيى بن أكثم مع الفقهاء، فإني (1) عنده يوماً إذ جاءه رسول المأمون فقال له: يقول لك أمير المؤمنين: انتقل إلينا وجميع من معك من أصحابك، فلم يحب أن أحضر معه، ولم يستطع أن يؤخرني، فحضرت مع القوم، وتكلمنا بحضرة المأمون فأقبل المأمون ينظر إلي إذا شرعت في الكلام ويتفهم ما أقول ويستحسنه، ثم قال لي: من تكون فانتسبت له، فقال: ما أخرك عنا فكرهت أن أحيل على يحيى، فقلت: حبسة القدر وبلوغ الكتاب اجله، فقال: لا أعلمن ما كان لنا من مجلس إلا حضرته، فقلت: نعم يا أمير المؤمنين، ثم اتصل الأمر. وقيل: قدم يحيى بن أكثم قاضياً على البصرة من خراسان من قبل المأمون في آخر سنة اثنتين ومائتين وهو حدث سنه نيف وعشرون سنة، فاستصحب جماعة من أهل العلم والمروءات منهم ابن أبي دواد، فلما قدم المأمون بغداد في سنة أربع ومائتين قال ليحيى: اختر لي من أصحابك جماعة يجالسونني ويكثرون الدخول إلي، فاختار منهم عشرين فيهم ابن أبي دواد، فكثرواعلى المأمون، فقال: اختر منهم، فاختار عشرة فيهم ابن أبي دواد، ثم قال: اختر منهم، فاختار خمسة فيهم ابن أبي دواد، واتصل أمره، وأسند المأمون وصيته عند الموت إلى أخيه المعتصم، وقال فيها: وأبو عبد الله أحمد بن أبي دواد لا يفارقك الشركة في المشورة في كل أمرك، فإنه موضع ذلك، ولاتتخذن بعدي وزيراً. ولما ولي المعتصم الخلافة جعل ابن أبي دواد قاضي القضاة، وعزل يحيى بن أكثم، وخص به أحمد حتى كان لا يفعل فعلاً باطناً ولا ظاهراً إلا برأيه، وامتحن ابن أبي دواد الإمام أحمد بن حنبل، وألزمه بالقول بخلق القرآن الكريم، وذلك في شهر رمضان سنة عشرين ومائتين. ولما مات المعتصم وتولى بعده ولده الواثق بالله حسنت حال ابن أبي دواد عنده، ولما مات الواثق بالله وتولى أخوه المتوكل فلج ابن أبي دواد في أول خلافته وذهب شقه الأيمن،   (1) هـ: فأنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 فقلد المتوكل ولده محمد بن احمد القضاء مكانه، ثم عزل محمد بن احمد عن المظالم في سنة ست وثلاثين ومائتين، وقلد يحيى بن أكثم. وكان الواثق قد أمر أن لا يرى أحد من الناس محمد بن عبد الملك الزيات الوزير إلا قام له، فكان ابن أبي دواد إذا رآه قام واستقبل القبلة يصلي، فقال ابن الزيات (1) : صلى الضحى لما استفاد عدواتي ... وأراه ينسك بعدها ويصوم لا تعد من عداوة مسمومة ... تركتك تقعد تارة وتقوم ومدحه جماعة من شعراء عصره؛ قال علي الرازي: رأيت أبا تمام الطائي عند ابن أبي دود ومعه رجل ينشد عنه قصيدة منها (2) : لقد أنست مساوئ كل دهرٍ ... محاسن أحمد بن أبي دواد وما سافرت في الآفاق إلا ... ومن جدواك راحلتي وزادي فقال له ابن أبي دواد: هذا المعنى تفردت به أو أخذته فقال: هو لي وقد ألممت فيه بقول أبي نواس (3) : وإن جرت الألفاظ منا بمدحة ... لغيرك إنساناً فأنت الذي تعني ودخل أبو تمام عليه يوماً (4) ، وقد طالت أيامه في الوقوف ببابه ولا يصل إليه، فعتب عليه مع بعض أصحابه، فقال له ابن أبي دواد: أحسبك عاتبا يا أبا تمام، فقال: إنما يعتب علىواحد وأنت الناس جميعا فكيف يعتب عليك! فقال له: من أين لك هذا يا أبا تمام فقال: من قول الحاذق - يعني أبانواس -   (1) ديوان ابن الزيات: 66. (2) من قصيدة له مطلعها: سقى عهد الحمى سبل العهاد ... وروض حاضر منه وبادي انظر ديوانه 1: 378 وأخبار أبي تمام للصولي: 141. (3) ديوان أبي نواس: 66 وأخبار الصولي: 142. (4) أخبار الصولي: 146. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 في الفضل بن الربيع: وليس لله بمستنكر ... أن يجمع العالم في واحد ولما ولي ابن أبي دواد المظالم قال أبو تمام قصيدة يتظلم إليه، من جملتها قوله (1) : إذا أنت ضيعت القريض وأهله (2) ... فلا عجب إن ضيعته الأعاجم فقد هز عطفيه القريض ترفعاً ... بعدلك (3) مذ صارت إليك المظالم ولولا خلال سنها الشعر ما درى ... بغاة العلى (4) من أين تؤتى المكارم قلت: ومدحه أبو تمام أيضا بقصيدته التي أولها (5) : أرأيت أي سوالف وخدود ... عنت لنا بين اللوى فزرود وما ألطف قوله فيها: وإذا أراد الله نشر فضيلة ... طويت أتاح لها لسان حسود لولا اشتعال النار فيما جاورت ... ما كان يعرف طيب عرف العود ومدحه مروان بن أبي الجنوب (6) بقوله: لقد حازت نزار كل مجد ... ومكرمة على رغم الأعادي فقل للفاخرين على نزار ... ومنهم خندف وبنو إياد رسول الله والخلفاء منا ... ومنا أحمد بن أبي دواد وليس كمثلهم في غير قومي ... بموجود إلى يوم التنادي   (1) ديوان أبي تمام 3: 183. (2) الديوان: إذا أنت لم تحفظه لم يك بدعة. (3) الديوان: توقعاً لعدلك. (4) الديوان: الندى. (5) الديوان 1: 388. (6) هو مروان الأصغر بن يحيى بن مروان بن أبي حفصة (انظر معجم المرزباني: 321) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 نبي مرسل وولاة عهد ... ومهدي إلى الخيرات هادي ولما سمع هذا الشعر أبو هفان المهزمي قال: فقل للفاخرين على نزار ... وهم في الأرض سادات العباد رسول الله والخلفاء منا ... ونبرأ من دعي بني إياد وما منا إياد إن أقرت ... بدعوة أحمد بن أبي دواد فقال ابن أبي دواد: ما بلغ مني أحد ما بلغ مني هذا الغلام المهزمي، لولا أني أكره أن أنبه عليه لعاقبته عقابا لم يعاقب أحد بمثله، جاء إلى منقبة كانت لي فنقضها عروة عروة. وكان ابن أبي دواد كثيراً ما ينشد، ولم يذكر أنهما له أو لغيره: ما أنت بالسبب الضعيف، وإنما ... نجح الأمور بقوة الأسباب فاليوم حاجتنا إليك، إنما ... يدعى الطبيب لشدة الأوصاب وذكر غير المرزباني عن أبي العيناء أن المعتصم غضب على خالد بن يزيد بن مزيد الشيباني - قلت: وسيأتي ذكره في ترجمة أبيه إن شاء الله تعالى - وأشخصه من ولايته لعجز لحقه في مال طلب من أسباب غير ذلك، فجلس المعتصم لعقوبته، وكان قد طرح نفسه على القاضي أحمد، فتكلم فيه فلم يجبه المعتصم، فلما جلس لعقوبته حضر القاضي أحمد فجلس دون مجلسه، فقال له المعتصم: يا أبا عبد الله، جلست في غير مجلسك، فقال: ما ينبغي لي أن أجلس إلا دون مجلسي هذا، فقال له: وكيف قال: لأن الناس يزعمون أنه ليس موضعي موضع من يشفع في رجل فيشفع، قال: فارجع إلى مجلسك، قال: مشفعاً أو غير مشفع قال: بل مشفعا، فارتفع إلى مجلسه، ثم قال: إن الناس لا يعلمون رضى أمير المؤمنين عنه إن لم يخلع عليه، فأمر بالخلع عليه، فقال: يا أمير المؤمنين، وقد استحق هو وأصحابه رزق ستة أشهر لا بد أن يقبضوها، وإن أمرت لهم بها في هذا الوقت قامت مقام الصلة، فقال: قد أمرت بها، فخرج خالد وعليه الخلع والمال بين يديه، وإن الناس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 في الطرق ينتظرون الإيقاع به، فصاح به رجل: الحمد الله على خلاصك يا سيد العرب، فقال له: اسكت، سيد العرب والله احمد بن أبي دواد. وكان بينه وبين الوزير ابن الزيات منافسات وشحناء، حتى إن شخصاً كان يصحب القاضي المذكور ويختص بقضاء حوائجه منعه الوزير المذكور من الترداد إليه، فبلغ ذلك القاضي، فجاء إلى الوزير وقال له: والله ما أجيئك متكثراً بك من قلة، ولا متعزراً بك من ذلة، ولكن أمير المؤمنين رتبك مرتبة أوجبت لقاءك، فان لقيناك فله، وإن تأخرنا عنك فلك، ثم نهض من عنده. وكان فيه من المكارم والمحامد ما يستغرق الوصف. وهجا بعض الشعراء الوزير ابن الزيات بقصيدة عدد أبياتها سبعون بيتاً فبلغ خبرها القاضي أحمد، فقال (1) : أحسن من سبعين بيتاً هجا ... جمعك معناهن في بيت ما أحوج الملك إلى مطرة ... تغسل عنه وضر الزيت فبلغ ابن الزيات ذلك، ويقال: إن بعض أجداد القاضي أحمد كان يبيع القار، فقال: يا ذا الذي يطمع في هجونا ... عرضت بي نفسك (2) للموت الزيت لا يزري بأحسابنا ... أحسابنا معروفة البيت قيرتم الملك فلم ننقه ... حتى غسلنا القار بالزيت وأصابه الفالج لست خلون من جمادى الآخرة سنة ثلاث وثلاثين ومائتين بعد موت عدوه الوزير المذكور بمائة يوم وأيام، وقيل: بخمسين يوماً، وقيل: بسبعة وأربعين يوماً، وسيأتي تاريخ وفاة الوزير في حرف الميم. ولما حصل له الفالج ولي موضعه ولده أبو الوليد محمد، ولم تكن طريقته   (1) ديوان ابن الزيات: 12. (2) الديوان: يا ايها المأفون راياً لقد، تعرضت نفسك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 مرضية، وكثر ذاموه وقل شاكروه، حتى عمل فيه إبراهيم بن العباس الصولي المقدم ذكره قبل هذا (1) : عفت مساو تبدت منك واضحة ... على محاسن أبقاها أبوك لكا فقد تقدمت أبناء الكرام به ... كما تقدم آباء اللئام بكا ولعمري لقد بالغ في طرفي المدح والذم، وهو معنى بديع. واستمر على مظالم العسكر والقضاء إلى سنة سبع وثلاثين ومائتين، فسخط المتوكل على القاضي أحمد المذكور وولده محمد، وأمر بالتوكيل على ضياعه، لخمس بقين من صفر من السنة المذكورة، وصرفه عن المظالم، ثم صرفه عن القضاء يوم الخميس لخمس خلون من شهر ربيع الأول من السنة، وأخذ من الولد مائة ألف وعشرين ألف دينار، وجوهراً بأربعين ألف دينار، وسيره إلى بغداد من سر من رأى، وفوض القضاء إلى القاضي يحيى بن أكثم الصيفي - وسيأتي ذكره في حرف الياء إن شاء الله تعالى - ولما شهد على ابن أبي دواد حين غضب عليه الخليفة بضياعه المأخوذة منه في الجناية حضر المجلس خلق كثير من الشهود وغيرهم، فقام رجل من الشهود - وكان القاضي منحرفا عنه في أيامه - فقال: تشهدنا عليك بما في هذا الكتاب فقال القاضي: لست هناك، وقال للباقين: اشهدوا علي، فجلس الرجل بخزي، وتعجب الناس من ثبوت القاضي وقوة قلبه في تلك الحال. وتوفي القاضي أحمد المذكور بمرضه الفالج في المحرم سنة أربعين ومائتين، ونقل عنه أنه قال: ولدت بالبصرة سنة ستين ومائة، وقيل: إنه كان أسن من اقاضي يحيى بن أكثم بنحو عشرين سنة، وهو يخالف ما ذكرته في ترجمة يحيى، لكن كتبته على ما وجدته، والله أعلم بالصواب. وتوفي ولده محمد قبله بعشرين يوماً في ذي الحجة رحمهما الله تعالى. وقد ذكر المرزباني في كتابه المذكور اختلافا كثيرا في تاريخ وفاته وموت ابنه، فأحببت ذكر جميع ما قاله؛ قال: ولى المتوكل ابنه أبا الوليد محمد   (1) ديوان الصولي: 162. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 ابن أحمد القضاء والمظالم بالعسكر مكان أبيه، ثم عزله عنها يوم الأربعاء لعشر بقين من صفر سنة أربعين ومائتين، ووكل بضياعه وضياع أبيه، ثم صولح على ألف ألف دينار، ومات أبو الوليد محمد بن أحمد ببغداد في ذي القعدة سنة أربعين ومائتين، ومات أبوه أحمد بعده بعشرين يوما، وذكر الصولي أن سخط المتوكل على ابن أبي دواد كان في سنة سبع وثلاثين، ثم ذكر المرزباني بعد هذا أن القاضي أحمد مات في المحرم سنة أربعين، ومات ابنه قبله بعشرين يوما، وقيل: مات ابنه في آخر سنة تسع وثلاثين، وكان موتهما ببغداد، وقيل: مات ابنه في ذي الحجة سنة تسع وثلاثين، ومات أبوه يوم السبت لسبع بقين من المحرم سنة أربعين، وكان بين موتهما شهر أو نحوه، والله أعلم بالصواب في ذلك كله. وقال أبو بكر ابن دريد: كان ابن أبي دواد مؤالفا لأهل الأدب من أي بلد كانوا، وكان قد ضم منهم جماعة يعولهم ويمونهم، فلما مات حضر ببابه جماعة منهم وقالوا: يدفن من كان ساقة الكرم وتاريخ الأدب ولا يتكلم فيه إن هذا وهن وتقصير، فلما طلع سريره قام إليه ثلاثة منهم فقال أحدهم: اليوم مات نظام الملك واللسن (1) ... ومات من كان يستعدى على الزمن وأظلمت سبل الآداب إذ حجبت ... شمس المكارم في غيم من الكفن وتقدم الثاني فقال: ترك المنابر والسرير تواضعاً ... وله منابر لو يشا وسرير ولغيره يجبي الخراج، وإنما ... يجبى إليه محامد وأجور وتقدم الثالث فقال: وليس فتيق المسك ريح حنوطه ... ولكنه ذاك الثناء المخلف وليس صرير النعش ما تسمعونه ... ولكنه أصلاب قوم تقصف   (1) أ: والسنن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 وقال أبو بكر الجرجاني: سمعت أبا العيناء الضرير يقول: ما رأيت في الدنيا أقوم على أدب من ابن أبي دواد، ما خرجت من عنده يوماً قط فقال: يا غلام خذ بيده، بل قال: ياغلام اخرج معه، فكنت أتقد هذه الكلمة عليه، فلا يخل بها، ولا أسمعها من غيره. وعلى الجملة فقد طالت هذه الترجمة، وإنما محاسنه كانت كثيرة، رحمه الله تعالى. ودواد: بضم الدال المهملة وفتح الواو وبعد الألف دال ثانية مهملة. والإيادي - بكسر الهمزة وفتح الياء المثناة من تحتها وبعد الألف دال مهملة - نسبة إلى إياد بن نزار بن معد بن عدنان. 33 - (1) الحافظ أبو نعيم أبو نعيم أحمد بن عبد الله بن أحمد بن إسحاق بن موسى بن مهران الأصبهاني الحافظ المشهور صاحب كتاب حلية الأولياء؛ كان من الأعلام المحدثين، وأكابر الحفاظ الثقات، أخذ عن الأفاضل، وأخذوا عنه، وانتفعوا به، وكتابه الحلية من أحسن الكتب، وله كتاب تاريخ أصبهان نقلت منه في ترجمة والده عبد الله نسبته على هذه الصورة، وذكر أن جده مهران أسلم، إشارة إلى أنه أول من أسلم من اجداده، وأنه مولى عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه - وسيأتي ذكر عبد الله بن معاوية، إن شاء الله تعالى - وذكر أن والده توفي في رجب سنة خمس وستين وثلثمائة، ودفن عند جده من قبل أمه.   (1) ترجمة الحافظ أبي نعيم في طبقات السبكي 3: 7 وتذكرة الحفاظ: 1092 وغاية النهاية 1: 71 وميزان الاعتدال 1: 52 والعبر 3: 170 والوافي 7، الورقة: 39 والشذرات 3: 245. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 ولد في رجب سنة ست وثلاثين وثلثمائة، وقيل: أربع وثلاثين، وتوفي في صفر، وقيل: يوم الاثنين الحادي والعشرين من المحرم سنة ثلاثين وأربعمائة بأصبهان، رحمه الله تعالى. واصبهان - بكسر الهمزة وفتحها وسكون الصاد المهملة وفتح الباء الموحدة، ويقال بالفاء أيضاً وفتح الهاء بعد الألف نون - وهي من أشهر بلاد الجبال، وإنما قيل لها هذا الاسم لأنها تسمى بالعجمية: سباهان وسبا: العسكر، وهان: الجمع. وكانت جموع عساكر الأكاسرة تجتمع إذا وقعت لهم واقعة في هذا الموضع، مثل عسكر فارس وكرمان والأهواز وغيرها، فعرب فقيل: اصبهان، وبناها إسكندر ذو القرنين، هكذا ذكره السمعاني (1) . 34 - (2) الخطيب البغدادي الحافظ أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت بن أحمد بن مهدي بن ثابت البغدادي، المعروف بالخطيب، صاحب تاريخ بغداد وغيره من المصنفات؛ كان من الحفاظ المتقنين العلماء المتبحرين، ولو لم يكن له سوى التاريخ لكفاه، فانه يدل على اطلاع عظيم، وصنف قريباً من مائة مصنف، وفضله أشهر من أن يوصف وأخذ الفقه عن أبي الحسن المحاملي والقاضي أبي الطيب الطبري وغيرهما، وكان فقيها فغلب عليه الحديث والتاريخ. ولد في جمادى الآخرة سنة اثنتين وتسعين وثلثمائة، يوم الخميس لست   (1) انظر الأنساب 1: 284. (2) ترجمة الخطيب البغدادي في تهذيب ابن عساكر 1: 398 وطبقات السبكي 3: 12 والمنتظم 8: 265 ومعجم الأدباء 4: 13 والوافي 7، الورقة: 92 وتذكرة الحفاظ: 1135 والعبر 3: 253 والشذرات 3: 311. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 بقين من الشهر، وتوفي يوم الاثنين سابع ذي الحجة سنة ثلاث وستين وأربعمائة ببغداد، رحمه الله تعالى، وقال السمعاني: توفي في شوال، وسمعت أن الشيخ أبا إسحاق الشيرازي رحمه الله تعالى كان من جملة من حمل نعشه، لأنه انتفع به كثيراً، وكان يراجعه في تصانيفه، والعجب أنه كان في وقته حافظ المشرق، وأبو عمر يوسف بن عبد البر - صاحب كتاب الاستيعاب - حافظ المغرب، وماتا في سنة واحدة - كما سيأتي في حرف الياء إن شاء الله تعالى -. وذكر محب الدين بن النجار في تاريخ بغداد أن أبا البركات إسماعيل بن أبي سعد الصوفي قال: إن الشيخ أبا بكر ابن زهراء الصوفي كان قد أعد لنفسه قبراً إلى جانب قبر بشر الحافي، رحمه الله تعالى، وكان يمضي إليه في كل أسبوع مرة وينام فيه ويقرأ فيه القرآن كله، فلما مات أبو بكر الخطيب - وكان قد أوصى أن يدفن إلى جانب قبر بشر - جاء أصحاب الحديث إلى أبي بكر بن زهراء، وسألوه أن يدفن الخطيب في القبر الذي كان قد أعده لنفسه وأن يؤثره به، فامتنع من ذلك امتناعاً شديداً، وقال: موضع قد أعددته لنفسي منذ سنين يؤخذ مني! فلما رأوا ذلك جاءوا إلى والدي الشيخ أبي سعد وذكروا له ذلك، فأحضر الشيخ أبا بكر ابن زهراء وقال له: أنا لا أقول لك أعطهم القبر، ولكن أقول لك: لو أن بشراً الحافي في الأحياء وأنت إلى جانبه فجاء أبو بكر الخطيب يقعد دونك، أكان يحسن بك أن تقعد أعلى منه قال: لا، بل كنت أقوم وأجلسه مكاني، قال: فهكذا ينبغي أن يكون الساعة، قال: فطاب قلب الشيخ أبي بكر وأذن لهم في دفنه، فدفنوه إلى جانبه بباب حرب. وكان قد تصدق بجميع ماله، وهو مائتا دينار، فرقها على أرباب الحديث والفقهاء والفقراء في مرضه، وأوصى أن يتصدق عنه بجميع ما عليه من الثياب، ووقف جميع كتبه على المسلمين، ولم يكن له عقب، وصنف أكثر من ستين كتاباً، وكان الشيخ أبو إسحاق الشيرازي أحد من حمل جنازته، وقيل: إنه ولد سنة إحدى وتسعين وثلثمائة، والله أعلم، ورؤيت له منامات صالحة بعد موته، وكان قد انتهى إليه علم الحديث وحفظه في وقته؛ هذا آخر ما نقلته من كتاب ابن النجار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 35 - (1) الراوندي أبو الحسين أحمد بن يحيى بن إسحاق الرواندي، العالم المشهور؛ له مقالة في علم الكلام، وكان من الفضلاء في عصره، وله من الكتب المصنفة نحو من مائة وأربعة عشر كتاباً، منها كتاب فضيحة المعتزل وكتاب التاج وكتاب الزمرد وكتاب " القصب " (2) وغير ذلك. وله مجالس ومناظرات مع جماعة من علماء الكلام، وقد انفرد بمذاهب نقلها أهل الكلام عنه في كتبهم. توفي سنة خمس وأربعين ومائتين برحبة مالك بن طوق التغلبي، وقيل: ببغداد، وتقديرعمره أربعون سنة، وذكر في " البستان " (3) أنه توفي سنة خمسين، والله أعلم، رحمه الله تعالى. ونسبته إلى راوند - بفتح الراء والواو وبينهما ألف وسكون النون وبعدها دال مهملة - وهي قرية من قرى قاسان بنواحي أصبهان. وراوند أيضاً ناحية ظاهر (4) نيسابور.   (1) ترجمة ابن الراوندي في الفهرست: 108 والمنتظم 6: 99 وكتاب الانتصار للخياط كله في الرد عليه، وقد ذكره أبو العلاء في رسالة الغفران: 461 وأنحى عليه ذاماً؛ وقد أبدى بعض المعلقين على هوامش نسخ " الوفيات " قلقاً شديداً لأن ابن خلكان لم يتناوله بالذم فجاء على هامس إحداها: " لم ينصف المصنف في سكوته عن ابن الراوندي وهو من مشاهير الزنادقة ... الخ " وقال في هامش أ: " وأخطأ ابن خلكان في عدم تجريحه وذكر ضلالاته ومخازيه وقد ذكره ابن الجوزي والذهبي وابن قاضي [شهبة] ". (2) هكذا ورد اسمه في أكثر الأصول؛ وفي د: الغصيب؛ وكلام المعري يرجح أن اسمه " القضيب " إذ قال: وأما القضيب فمن عمله أخسر صفقة من قضيب، وخير له من إنشائه، لو ركب قضيباً عند عشائه ... الخ. وفي المنتظم: " قضيب الذهب ". (3) هذا الاسم ينصرف إلى غير كتاب، ولعل المقصود هنا " البستان في النوادر والغرائب " للشيخ أبي حامد الإسفرايني. (4) د: بظاهر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 وقاسان: بالسين المهملة، وهي غير قاشان - بالشين المعجمة - المجاورة لقم. وهذه رواند التي ذكرها أبو تمام الطائي في كتاب الحماسة في باب المراثي، فقال (1) : ذكروا أن رجلين من بني أسد خرجا إلى أصبهان فآخيا دهقانا بها في موضع يقال له رواند وخزاق، ونادماه، فمات أحدهما وغير الآخر والدهقان ينادمان قبره: يشربان كأسين ويصبان على قبره كأساً، ثم مات الدهقان، فكان الأسدي الغابر ينادم قبريهما ويترنم بهذا الشعر: خليلي هبا طالما قد رقدتما ... أجد كما لا تقضيان كراكما أمن طول نوم لا تجيبان داعياً ... كأن الذي يسقي المدام سقاكما ألم تعلما ما لي براوند كلها ... ولا بخزاق من صديق سواكما أقيم على قبريكما لست بارحاً ... طوال الليالي أو يجبيب صداكما وأبكيكما حتى الممات، وما الذي ... يرد على ذي لوعة إن بكاكما فلو جعلت نفس لنفس وقاية ... لجدت بنفسي أن تكون فداكما أصب على قبريكما من مدامة ... فإلا تنالاها ترو ثراكما وخزاق - يضم الخاء المعجمة وبعدها زاي وبعد الألف قاف - قرية أخرى مجاورة لها، والله أعلم بالصواب. 36 - (2) الهروي أبو عبيد أحمد بن محمد بن محمد بن أبي عبيد العبدي المؤدب الهروي الفاشاني   (1) انظر الحماسة: 289 (شرح المرزوقي) . (2) ترجمة أبي عبيد الهروي في طبقات السبكي 3: 34 والوافي 7، الورقة: 62 والعبر 3: 75 والشذرات 3: 161. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 صاحب كتاب الغريب؛ هذا هو المنقول في نسبه، ورأيت على ظهر كتابه الغريبين أنه أحمد بن محمد بن عبد الرحمن، والله أعلم. كان من العلماء الأكابر، وما قصر في كتابه المذكور، ولم أقف على شيء من أخباره لأذكره سوى أنه كان يصحب أبا منصور الأزهري اللغوي، وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى، وعليه اشتغل وبه انتفع وتخرج، وكتابه المذكور جمع فيه بين تفسير غريب القرآن الكريم والحديث النبوي، وسار في الآفاق، وهو من الكتب النافعة. وقيل: إنه كان يحب البذلة ويتناول في الخلوة، ويعاشر أهل الدب في مجالس اللذة والطرب، عفا الله عنه وعنا. وأشار الباخرزي في ترجمة بعض أدباء خراسان إلى شيء من ذلك، والله أعلم. وكانت وفاته في رجب سنة إحدى وأربعمائة، رحمه الله تعالى. والهروي - بفتح الهاء والراء - نسبة إلى هراة وهي إحدى مدن خراسان الكبار فتحها الأحنف بن قيس صلحا من قبل عبد الله بن عامر. والفاشاني - بفتح الفاء وبعد الألف شين معجمة وبعد الألف الثانيةنون - نسبة إلى فاشان، وهير قرية من قرى هراة، ويقال لها باشان - بالباء الموحدة أيضاً - ذكره السمعاني، وقد تقدم في الذي قبله ذكر قاسان وقاشان، وهذه الأسماء الأربعة يقع بينها الاشتباه، وهي على هذه الصورة ولا لبس بعد هذا. 37 - (1) الخوافي أبو المظفر أحمد بن محمد بن المظفر الخوافي الفقيه الشافعي؛ كان أنظر   (1) ترجمة الخوافي: طبقات السبكي 4: 55 والوافي 7، الورقة: 68 والعبر 4: 133 والشذرات 3: 410. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 أهل زمانه، تفقه على إمام الحرمين الجويني، وصار أوجه (1) تلامذته، ولي القضاء بطوس ونواحيها، وكان مشهورا بين العلماء بحسن المناظرة وإفحام الخصوم وكان رفيق أبي حامد الغزالي (2) في الاشتغال، ورزق الغزالي السعادة في تصانيفه، والخوافي السعادة في مناظراته. وتوفي سنة خمسمائة بطوس، رحمه الله تعالى. ونسبته إلى خواف - بفتح الخاء المعجمة وبعد الواو المفتوحة ألف وبعد الألف فاء - وهي ناحية من نواحي نيسابور كثيرة القرى. 38 - (3) أخو الغزالي أبو الفتاح أحمد بن محمد بن أحمد الطوسي الغزالي الملقب مجد الدين أخو الإمام أبي حامد محمد بن محمد الغزالي الفقيه الشافعي؛ كان واعظا مليح الوعظ حسن المنظر صاحب كرامات وإشارات، وكان من الفقهاء (4) ، غير أنه مال إلى الوعظ فغلب عليه، ودرس بالمدرسة النظامية نيابة عن اًخيه أي حامد لما ترك التدريس زهادة فيه، واختصر كتاب أخيه أبي حامد المسمى بإحياء علوم الدين في مجلد مجلد واحد وسماه لباب الإحياء، وله تصنيف آخر سماه الذخيرة في علم البصيرة. وطاف البلاد وخدم الصوفية بنفسه، وكان مائلاً إلى الانقطاع والعزلة. وذكره ابن النجار في تاريخ بغداد فقال: كان قد قرأ القارئ بحضرته يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم - الآية فقال: شرفهم بياء الإضافة   (1) د: وكان أوحد. (2) ب هـ: محمد بن محمد الغزالي. (3) ترجمة أخي الغزالي في طبقات السبكي 4: 54 والمنتظم 9: 260 والوافي 7، الورقة: 62 والعبر 4: 45 والشذرات 4: 60. (4) أ: وكان فقيهاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 إلى نفسه بقولة يا عبادي، ثم أنشد يقول: وهان علي اللوم في جنب حبها ... وقول الأعادي إنه لخليع أصم إذا نوديت باسمي، وإنني ... - إذا قيل لي يا عبدها - لسميع قلت: ومثل هذا قول بعضهم: لا تدعني إلا بيا عبدها ... فإنه اشرف أسمائي وتوفي أحمد بقزوين في سنة عشرين وخمسمائة، رحمه الله تعالى. والطوسي - بضم الطاء المهملة وسكون الواو وبالسين المهملة - نسبة إلى طوس، وهي ناحية بخراسان تشتمل على مدينتين تسمى إحداهما طاببران: بفتح الطاء المهملة وبعد اللف باء موحدة ثم راء مفتوحة وبعد الألف الثانية نون، والأخرى نوقان: بفتح النون وسكون الواو وفتح القاف وبعد الألف نون، ولهما ما يزيد على ألف قرية. والغزالي - بفتح الغين المعجمة وتشديد الزاي المعجمة وبعد الألف لام - هذه النسبة إلى الغزال، على عادة أهل خوارزم وجرجان فانهم ينسبون إلى القصار القصاري، وإلى العطار العطاري، وقيل: إن الزاي مخففة نسبة إلى غزالة وهي قرية من قرى طوس، وهو خلاف المشهور، ولكن هكذا قاله السمعاني في كتاب الأنساب، والله أعلم. وقزوين - بفتح القاف وسكون الزاي المعجمة وكسر الواو وسكون الياء المثناة من تحتها، وبعدها نون - وهي مدينة كبيرة في عراق العجم عند قلاع الإسماعيلية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 39 - (1) ابن برهان أبو الفتح أحمد بن علي بن محمد الوكيل المعروف بابن برهان الفقيه الشافعي؛ كان متبحراً في الأصول والفروع والمتفق والمختلف، تفقه (2) على أبي حامد الغزالي وأبي بكر الشاشي والكيا أبي الحسن الخراسي، وصار ماهراً في فنونه، وصنف كتاب الوجيز في أصول الفقه. ولي التدريس بالمدرسة النظامية ببغداد دون الشهر، مات سنة عشرين وخمسمائة ببغداد دون رحمه الله تعالى. وبرهان: بفتح الباء الموحدة وسكون الراء وبعد الهاء ألف ونون. 40 - (3) النحاس النحوي أبو جعفر أحمد بن محمد بن إسماعيل بن يونس المرادي النحاس، النحوي المصري؛ كان من الفضلاء، وله تصانيف مفيدة منها: تفسير القرآن الكريم وكتاب إعراب القرآن وكتاب الناسخ والمنسوخ وكتاب في النحو اسمه التفاحة وكتاب في الاشتاق، وتفسير أبيات سيبويه، ولم يسبق إلى مثله، وكتاب الكافي في النحو، وكتاب   (1) ترجمة ابن برهان في طبقات السبكي 4: 42 والوافي 7، الورقة: 101 والشذرات 4: 61. (2) أ: قرأ. (3) ترجمة النحاس في انباه الرواة 1: 101 ومعجم الأدباء 4: 224 وبغيى الوعاة: 157 والوافي 7، الورقة: 175 والعبر 2: 246 والشذرات 2: 346 وروضات الجنات: 60 والزبيدي: 239 ونزهة الألباء: 201. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 المعاني وفسر عشرة دواوين وأملاها، وكتاب الوقف والابتداء صغرى وكبرى، وكتاب في شرح المعلقات السبع (1) ، وكتاب طبقات الشعراء وغير ذلك، وروى عن أبي عبد الرحمن النسائي، وأخذ النحو عن ابي الحسن علي بن سليمان الأخفش النحوي، وأبي إسحاق الزجاج، وابن الأنباري، ونفطويه، وأعيان أدباء العراق، وكان قد رحل إليهم من مصر. وكانت فيه خساسة وتقتير على نفسه، وإذا وهب عمامة قطعها ثلاث عمائم بخلاً وشحاً، وكان يلي شراء حوائجه بنفسه ويتحامل فيها على أهل معرفته، ومع هذا فكان للناس رغبة كبيرة في االأخذ عنه، فنفع وأفاد وأخذ عنه خلق كثير. وتوفي بمصر يوم السبت لخمس خلون من ذي الحجة سنة ثمان وثلاثين وثلثمائة، وقيل: سنة سع وثلاثين، رحمه الله تعالى؛ وكان سبب وفاته أنه جلس على درج المقياس على شاطىء (2) النيل، وهو في أيام زيادته، وهو يقطع بالعروض شيئاً من الشعر، فقال بعض العوام: هذا يسحر النيل حتى لايزيد فتغلو الأسعار (3) ، فدفعه برجله في النيل، فلم يوقف له على خبر. والنحاس - بفتح النون والحاء المشددة المهملة وبعد الألف سن مهملة - هذه النسبة إلى من يعمل النحاس، وأهل مصر يقولون لمن يعمل الأواني الصفرية النحاس.   (1) ب: المقدمات التسع. (2) أ: ساحل. (3) ج: فيغلو السعر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 41 - (1) العبدي النحوي أبو طالب أحمد بن بكر بن بقية العبدي النحوي؛ كان فاضلاً ماهراً، وشرح كتاب الإيضاح في النحو لأبي علي الفارسي وأحسن فيه، ولم أطلع على شيء من أحواله حتى أذكره (2) ، سوى أنه قرأ النحو على أبي سعيد السيرافي وأبي الحسن الرماني وأبي علي الفارسي. وتوفي في سنة ست وأربعمائة في شهر رمضان لعشر بقين منه يوم الخميس، رحمه الله تعالى. والعبدي - بفتح العين المهملة وسكون الباء الموحدة وبعدها دال مهملة - هذه النسبة إلى عبد القيس بن أفصى بن دعمي، وهي قبيلة كبيرة مشهورة. 42 - (3) ابن أبي سهل أبو العباس أحمد بن محمد بن عبد الكريم أبي سهل الكاتب صاحب كتاب " الخراج "؛ توفي سنة سبعين ومائتين، رحمه الله تعالى، ولم أعلم من حاله شيئاً   (1) ترجمة العبدي النحوي في معجم الأدباء 2: 236 وبغية الوعاة: 129 ونزهة الألباء: 230. (2) قال ياقوت. " قرأت في فوائد نقلت عن أبي القاسم المغربي الوزير أن العبدي أصيب بعقله واختل في آخر عمره ". (3) ذكره صاحب الفهرست: 135 وقال: يعرف بأبي سهل الأحول، من متقدمي الكتاب وأفاضلهم وكان عالما بصناعة الخراج متقدما في ذلك على أهل عصره. ونقل ياقوت (4: 143) ما أورده ابن النديم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 حتى أذكره، وكتابه مشهور، وما ذكرته إلا لأجل كتابه، فقد يتشوف الواقف عليه إلى معرفة زمانه. 43 - (1) ثعلب النحوي أبو العباس أحمد بن يحيى بن زيد بن سيار النحوي الشيباني بالولاء المعروف بثعلب؛ ولاؤه لمعن بن زائد الشيباني الآتي ذكره في حرف الميم، وإن شاء الله تعالى كان إمام الكوفيين في النحو واللغة، سمع ابن العرابي والزبيربن بكار وروى عنه الخفش الأصغر وأبو بكر ابن الانباري وأبو عمر الزاهد وغيرهم، وكان ثقة حجة صالحاً مشهوراً بالحفظ وصدق اللهجة والمعرفة بالعربية ورواية الشعر القديم، مقدماً عند الشيوخ منذ هو حدث، وكان ابن الأعرابي إذا شك في شيء قال له: ما تقول يا أبا العباس في هذا ثقة بغزارة حفظه. وكان يقول: ابتدأت في طلب العربية واللغة في سنة ست عشرة ومائتين، ونظرت في " حدود " الفراء (2) وسني ثماني عشرة سنة، وبلغت خمسا وعشرين سنة وما بقيت علي مسألة للفراء إلا وأنا أحفظها. وقال أبو بكر ابن مجاهد المقرئ (3) : قال لي ثعلب: يا أبا بكر، اشتغل أصحاب القرآن بالقرآن ففازوا، واشتغل أصحاب الحديث بالحديث ففازوا، واشتغلة أصحاب الفقه بالفقه ففازوا، واشغل ة أنا بزيد وعمرو، فليت شعري   (1) ترجمة ثعلب في تاريخ بغداد 5: 204 والفهرست: 74 ومعجم الأدباء 5: 102 ونزهة الألباء: 157 وانباه الرواة 1: 138 والزبيدي: 155 وبغية الوعاة: 172 والوافي 7، الورقة: 110 وغاية النهاية: 148 وتذكرة الحفاظ: 214 والعبر 2: 88 والشذرات 2: 207 والبداية والنهاية 11: 98 والنجوم 3: 133 ونور القبس: 334. (2) هو كتاب في الإعراب جمع فيه ستة وأربعين حداً. (3) أحمد بن موسى بن العباس ابن مجاهد من شيوخ القراء، توفي سنة 324 (انظر غاية النهاية 1: 139) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 ماذا يكون حالي في الآخرة فانصرفت من عنده، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم تلك الليلة في المنام (1) ، فقال لي: أقرىء أبا العباس عن السلام وقل له: أنت صاحب العلم المستطيل، قال أبو عبد الله الروذباري العبد الصالح: أراد أن الكلام به يكمل، والخطاب به يجمل، وأن جميع العلوم مفتقرة إليه. وقال أبو عمر الزاهد المعروف بالمطرز: كنت في مجلس أبي العباس ثعلب فسأله سائل عن شيء فقال: لا أدري، فقال له: أتقول لا أدري وإليك تضرب أكباد الإبل، وإليك الرحلة من كل بلد فقال له أبو العباس: لو كان لأمك بعدد ما لا أدري بعر لاستغنت. وصنف كتاب الفصيح وهو صغير الحجم كثير الفائدة، وكان له شعر، وقال أبو بكر ابن القاسم الأنباري في بعض أماليه: أنشدني ثعلب، ولا أدري هل هي له أو لغيره: إذا كنت قوت النفس ثم هجرتها ... فكم تلبث النفس التي أنت قوتها ستبقى بقاء الضب في الماء أو كما ... يعيش ببيداء المهامة حوتها قال ابن الأنباري: وزادنا أبو الحسن ابن البراء فيها: أغرك مني أن تصبرت جاهداً ... وفي النفس مني منك ماسيميتها فلو كان مابي بالصخور لهدها ... وبالريح ما هبت وطال خفوتها فصبراً لعل الله يجمع بيننا ... فأشكو هموماً منك فيك لقيتها وولد في سنة مائتين لشهرين مضيا منها، قاله ابن القراب في تاريخه (2) ، وقيل: سنة أربع ومائتين، وقيل: إحدى ومائتين، والذي يدل على انه ولد في سنة مائتين انه قال: رأيت المأمون لما قدم من خراسان في سنة أربع ومائتين وقد خرج من باب الحديد يريد الرصافة (3) والناس صفان، فحملني أبي   (1) أ: في النوم. (2) ابن القراب هو إسحاق بن إبراهيم بن محمد أبو يعقوب، كان محدثاً وقد ألف كتاب " تاريخ وفيات العلماء " وتوفي سنة 429 (انظر أعلام الزركلي 1: 285) . (3) د: قصر الرصافة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 على يده وقال: هذا المأمون، وهذه سنة أربع، فحفظت ذلك عنه إلى الساعة وكان سني تقديرا يومئذ أربع سنين. وتوفي يوم السبت لثلاث عشرة ليلة بقيت من جمادى الاولى، وقيل: لعشر خلون منها سنة إحدى وتسعين ومائتين ببغداد، ودفن بمقبرة باب الشام، رحمه الله تعالى، وكان سبب وفاته أنه خرج من الجامع يوم الجمعة بعد العصر، وكان قد لحقه صمم لايسمع إلا بعد تعب، وكان في يده كتاب ينظر فيه في الطريق فصدمته فرس فألقته في هوة، فأخرج منها وهو كالمختلط، فحمل إلى منزله على تلك الحال وهو يتأوه من رأسه، فمات ثاني يوم. وجده سيار: بفتح السين المهملة وتشديد الياء المثناة من تحتها وبعد اللف راء مهملة. والشيباني - بفتح الشين المثلثة وسكون الياء المثناة من تحتها وفتح الباء الموحدة وبعد الألف نون - نسبة إلى شيبان: حي من بكر بن وائل، وهما شيبانان: أحدهما سيبان بن ثعلبة بن عكابة، والآخر شيبان بن ذهل بن ثعلبة ابن عكابة، وشيبان الأعلى عم شيبان الأسفل. ومن تصانيفه كتاب المصون واختلاف النحوين ومعاني القرآن وماتلحن فيه العامة والقراءات ومعاني الشعر والتصغير وما ينصرف وما لا ينصرف وما يجرى وما لا يجرى والشواذ والأمثال والإيمان والوقف والابتداء والأفاظ والهجاء والمجالس والأوسط وإعراب القرآن والمسائل وحد النحو وغير ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 44 - (1) الحافظ السلفي الحافظ أبو طاهر أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد إبراهيم سلفة الأصبهاني الملقب صدر الدين؛ أحد الحفاظ المكثرين، رحل في طلب الحديث ولقي أعيان المشايخ وكان شافعي المذهب، ورد بغداد، واشتغل بها على الكيا أبي الحسن علي الهراسي في الفقه وعلى الخطيب أبي زكيريا يحيى بن علي (2) التبريزي اللغوي باللغة. وروى عن أبي محمد جعفر بن السراج وغيره من الأئمة الأمائل، وجاب البلاد وطاف الآفاق، ودخل ثغر الإسكندرية سنة إجدى عشرة وخمسمائة في ذي القعدة، وكان قدومه إليه في البحر من مدينة صور، وأقام به، وقصده الناس من الأماكن البيعيدة، وسمعوا عليه وانتفعوا به، ولم يكن في آخر عمره في عصره مثله، وبنى له العادل أبو الحسن علي بن السلار، وزير الظافر العبيدي صاحب مصر، في سنة ست وأربعين وخمسمائة مدرسة بالثغر المذكور وفوضها إليه، وهي معروفة به إلى الآن، وأدركت جماعة من أصحابه بالشام والديار المصرية، وسمعت عليهم وأجازوني. وكان قد كتب الكثير، ونقلت من خطة فوائد جمة، ومن جملة ما نقلت من خطه لأبي عبد الله محمد بن عبد الجبار الأندلسي من قصيدة: لولا اشتغالي بالأمير ومدحه ... لأطلت في ذاك الغزال تغزلي لكن أوصاف الجلال عذبن لي ... فتركت أوصاف الجمال بمعزل   (1) ترجمة السلفي في مختصر الدبيثي: 206 وطبقات السبكي 4: 43 والوافي 7، الورقة: 170 ومرآة الزمان 1: 361 وتهذيب ابن عساكر 1: 449 واللباب: " السلفي "، وتذكرة الحفاظ: 1298 وأزهار الرياض 3: 167، 283 والشذرات 4: 255، وفي كتابه " معجم السفر " أخبار كثيرة تتصل بحياته ونشاطه العلمي. (2) أبي ... علي: سفطت من اج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 ونقلت من خطه أيضا لبثينة صاحبة جميل ترثيه (1) : وإن سلوي عن جميل لساعة ... من الدهر ما حانت ولا حان حينها سواء علينا يا جميل بن معمر ... إذا مت بأساء الحياة ولينها وكان كثيراً ما ينشد: قالوا نفوس الدار سكانها ... وأنتم عندي نفوس النفوس وأماليه (2) وتعاليقه كثيرة، والاختصار بالمختصر أولى. وكانت ولادته سنة اثنتين وسبعين وأربعمائة تقريباً بأصبهان، وتوفي ضحوة نهار الجمعة - وقيل: ليلة الجمعة - خامس شهر ربيع الآخر سنة ست وسبعين وخمسمائة بثغر الإسكندرية، ودفن في وعلة، وهي مقبرة داخل السور عند الباب الخضر فيها جماعة من الصالحين كالطرطوشي وغيره. ووعلة: بفتح الواو وسكون العين المهملة وبعدها لام ثم هاء، ويقال: إن هذه المقبرة منسوبة إلى عبد الرحمن بن وعلة السبئي المصري، صاحب ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقيل غير ذلك، رحمه الله تعالى. قلت: وجدت العلماء المحدثين بالديار المصرية، من جملتهم: الحافظ زكي الدين أبو محمد عبد العظيم بن عبد القوي المنذري (3) ، محدث مصر في زمانه، يقولون في مولد الحافظ السفلي هذه المقالة. ثم وجدت في كتاب زهر الرياض المفصح عن المقاصد والأغراض، تأليف الشيخ جمال الدين أبي القاسم عبد الرحمن ابن أبي الفضل عبد المجيد بن إسماعيل بن حفص الصفراوي (4) الإسكندري، أن   (1) انظر الأغاني 8: 155. (2) قبل هذه الكلمة في د: وكان قد كتب الكتب كثيراً. (3) يعتمد عليه المؤلف كثيراً، وللمنذري عدة مؤلفات منها الترغيب والترهيب، والتكملة لوفيات النقلة، وتوفي بمصر سنة 656 (انظر طبقات السبكي 5: 108 والبداية والنهاية 13: 212 والفوات 1: 610) . (4) الصفراوي: نسبة إلى وادي الصفراء بالحجاز، وهو فقيه مالكي توفي سنة 636 (انظر غاية النهاية 1: 373) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 الحافظ أبا طاهر السفلي المذكور وهو شيخه - كان يقول: مولدي بالتخمين، لا باليقين، سنة ثمان وسبعين، فيكون مبلغ عمره على مقتضى ذلك ثمانياً وتسعين سنة، هذا آخر كلام الصفراوي المذكور. ورأيت في تاريخ الحافظ محب الدين محمد بن محمود المعروف بابن النجار البغدادي ما يدل على صحة ما قاله الصفراوي، فإنه قال: قال عبد الغني المقدسي: سألت الحافظ السفلي عن مولده، فقال: أنا أذكر قتل نظام الملك في سنة خمس وثمانين وأربعمائة، وكان لي من العمر حدود عشر سنين. قلت: ولو كان مولده على ما يقوله أهل مصر أنه في سنة اثنتين وسبعين ما كان يقول أذكر قتل الملك في سنة خمس وثمانين وأربعمائة، فانه على مايقولون قد كان عمره ثلاث عشرة سنة، أو أربع عشرة سنة، ولم تجر العادة أن من يكون في هذا السن يقول: أنا أذكر القضية الفلانية، وإنما يقول ذلك من يكون عمره تقديراً أربع سنين أو خمس سنين أو ستاً، فقد ظهر بهذا أن قول الصفراوي أقرب إلى الصحة، وهو تلميذه، وقد سمع منه أنه قال: مولدي في سنة ثمان وسبعين، وليس الصفراوي ممن يشك في قوله، ولا يرتاد في صحته، مع أننا ماعلمنا أن أحداً منذ ثلثمائة سنة إلى الآن بلغ المائة فضلاً عن أنه زاد عيها، سوى القاضي أبي الطيب طاهر بن عبد الله الطبري، فإنه عاش مائة سنة وسنتين - كما سيأتي في ترجمته إن شاء الله تعالى -. ونسبته إلى جده إبراهيم سلفة - بكسر السين المهملة وفتح اللام والفاء وفي آخره الهاء - وهو لفظ عجمي، ومعناه بالعربي ثلاث شفاه، لأن شفته الواحدة كانت مشقوقة، فصارت مثل شفتين غير الأخرى الأصلية، والأصل فيه سلبه بالباء، فأبدلت بالفاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 45 - (1) شرف الدين ابن منعة أبو الفضل أحمد ابن الشيخ العلامة كمال الدين أبي الفتح موسى ابن الشيخ رضي الدين أبي الفضل يونس بن محمد بن منعة بن مالك بن محمد بن سعد بن سعيد بن عاصم بن عائد بن كعب بن قس بن إبراهيم الإربلي الأصل، من بيت الرياسة والفضل والمقدمين بإربل، الفقيه الشافعي (2) الملقب شرف الدين؛ كان إماماً كبيراً فاضلاً عاقلاً حسن السمت جميل المنظر. شرح كتاب التنبيه في الفقه وأجاد شرحه، واختصر إحياء علوم الدين للإمام الغزالي مختصرين: كبيراً وصغيراً، وكان يلقي في جملة دروسه من كتاب الإحياء درساً حفظاً، وكان كثير المحفوظات غزير المادة، وهو من بيت العلم - وسيأتي ذكر أبيه وعمه وجده، رحمهم الله تعالى، في مواضعهم - ونسج على منوال والده في التفنن في العلوم، وتخرج عليه جماعة كبيرة، وتولى التدريس بمدرسة الملك المعظم مظفر الدين بن زين الدين صاحب إربل، رحمه الله تعالى، بمدينة إربل بعد والدي رحمه الله تعالى، وكان وصله إليها من الموصل في أوائل شوال سنة عشر وستمائة، وكانت وفاة الوالد ليلة الاثنين الثاني والعشرين من شعبان من السنة المذكورة. وكنت أحضر دروسه وأنا صغير، وما سمعت أحدا يلقي الدروس مثله، ولم يزل على ذلك إلى أن حج، ثم عاد وأقام قليلاً، ثم انتقل إلى الموصل في سنة سبع عشرة وستمائة، وفوضت إليه المدرسة القاهرية، وأقام بها ملازماً لاشتغال والإفادة إلى أن توفي يوم الاثنين الرابع والعشرين من شهر ربيع الآخر   (1) ترجمة شرف الدين ابن منعة في طبقات السبكي 5: 16 والوافي 8، الورقة: 91 والشذرات 5: 99. (2) ب: الشافعي المذهب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 سنة اثنتين وعشرين وستمائة. وكانت ولادته أيضاً بالموصل سنة خمس وسبعين وخمسمائة، رحمه الله تعالى. ولقد كان من محاسن الوجود، وما أذكره إلا وتصغر الدنيا في عيني، ولقد أفكرت فيه مرة فقلت: هذا الرجل عاش مدة خلافة الإمام الناصر لدين الله أبي العباس أحمد فإنه ولي الخلافة في سنة خمس وسبعين وخمسمائة، وهي السنه التي ولد فيها شرف الدين المذكور، وماتا في سنة واحدة، وكان مبدأ شروعه في شرح التنبيه بإربل، واستعار منا نسخة التنبيه عليها حواش مفيدة بخط بعض الأفاضل، ورأيته بعد ذلك وقد نقل الحواشي كلها في شرحه. (3) والفاضل الذي كانت النسخة والحواشي بخطه هو الشيخ رضي الدين أبو داود سليمان بن المظفر بن غانم بن عبد الكريم الجيلي (1) الشافعي المفتي بالمدرسة النظامية ببغداد وكان من أكابر فضلاء عصره، وصنف كتاباً في الفقه يدخل في خمس عشرة مجلدة، وعرضت عليه المناصب فلم يفعل، وكان متديناً. وتوفي يوم الأربعاء لثلاث خلون من شهر ربيع الأول من سنة إحدى وثلاثين وستمائة، ودفن بالشونيزية، وكان قد نيف على ستين سنة، رحمه الله تعالى، وكان قدومه بغداد من بلاده للاشتغال بعد سنة ثمانين وخمسمائة. رجعنا إلى الأول: وكان اشتغال شرف الدين المذكور على أبيه بالموصل ولم يتغرب لأجل الاشتغال، وكان الفقهاء يقولون: نعجب منه كيف اشتغل في وطنه وبين أهله وفي عزه واشتغاله بالدنيا، وخرج منه وما خرج، ولو شرعت في وصف محاسنه لأطلت، وفي هذا القدر كفاية.   (1) راجع ترجمته في طبقات السبكي 5: 56. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 46 - (1) ابن عبد ربه أبو عمر أحمد بن محمد بن عبد ربه بن حبيب بن حدير بن سالم، القرطبي مولى هشام بن عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان بن الحكيم الأموي، كان من العلماء المكثرين من المحفوظات والاطلاع على أخبار الناس، وصنف كتابه " العقد " وهو من الكتب الممتعة حوى من كل شيء، وله ديوان شعر جيد (2) ، ومن شعره: يا ذا الذي خط العذار (3) بوجهه ... خطين هاجا لوعة وبلابلا ما صح عندي أن لحظك صارم ... حتى لبست بعارضيك حمائلا وله في هذا (4) المعنى [وقيل: إنهما لأبي طاهر الكاتب، وقيل: لأبي الفضل محمد بن عبد الواحد البغدادي] (5) : ومعذر نقش العذار بمسكه ... خدا له بدم القلوب مضرجا لما تيقن أن عضب جفونه ... من نرجس جعل النجاد (6) بنفسجا   (1) ترجمة ابن عبد ربه في الجذوة: 94 (والبغية رقم 327) وابن الفرضي 1: 49 والمطمح 51 ومعجم الأدباء 4: 211 والوافي 8، الورقة: 3 وبغية الوعاة: 161، وله في اليتيمة والنفح والعقد وكتاب التشبيهات أشعار كثيرة. (2) قال الحميدي: وشعره كثير مجموع، رأيت منه نيفاً وعشرين جزءاً (أي كراسة) من جملة ما جمع للحكم. (3) ب هـ: الجمال. (4) هذا: زيادة من ب هـ. (5) ما بين معقفين زيادة من ب. (6) أ: العذار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 وأخذه البهاء أسعد السنجاري (1) ، فقال من جملة قصيدة: يا سيف مقلته كملت ملاحة ... ما كنت قبل عذاره بحمائل وله أيضاً: ودعتني بزفرة واعتناق ... ثم قالت متى يكون التلاقي وبدت لي فأشرق الصبح منها ... بين تلك الجيوب والأطواق يا سقيم الجفون من غير سقمٍ ... بين عينيك مصرع العشاق إن يوم الفراق أفظع يومٍ ... ليتني مت قبل يوم الفراق وله أيضاً (2) : إن الغواني إن رأينك طاوياً ... برد الشباب طوين عنك وصالا وإذا دعونك عمهن فإنه ... نسب يزيدك عندهن خبالاً وله من جملة قصيدة طويلة في المنذر بن محمد بن عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان الحكمي أحد ملوك الأندلس من بني أمية: بالمنذر بن محمدٍ ... شرفت بلاد الأندلس فالطير فيها ساكن ... والوحش فيها قد أنس قال الوزير المغربي في كتاب " أدب الخواص ": وقد روي أن هذه القصيدة شقت عند انتشارها على أبي تميم معد المعز لدين الله، وساءه ما   (1) هو أسعد بن يحيى بن موسى بن منصور من سنجار إحدى مدن الجزير العراقية، كان يتفقه شافعياً ثم غلب عليه قول الشعر فاشتهر به وقدم عند الملوك وعاش حتى ناهز التسعين، وكان كيساً لطيفاً فيه خفة روح، خرج من الموصل سنة 619 (ياقوت: سنجار، وستيرجم له ابن خلكان رقم: 92) . (2) يتكرر هذا الخطأ في المصادر المشرقية (انظر مسالك الأبصار 11: 172 والوافي) إذ إن هذين البيتين للأخطل في ديوانه: 43. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 تضمنته من الكذب والتمويه، إلى أن عارضها شاعره الإيادي التونسي بقصيدته التي أولها: ربع لزينب قد درس ... واعتاض من نطق خرس وهذا الشاعر هو أبو الحسن علي بن محمد الإيادي التونسي. ولابن عبد ربه: نعق الغراب فقلت: أكذب طائرٍ ... إن لم يصدقه رغاء بعير وفيه التفات إلى قول بعضهم: لهن الوجى لم كن عونا على النوى ... ولا زال منها ظالع وحسير وما الشؤم في نعق الغراب ونعيه ... وما الشؤم إلا ناقة وبعير وله غير ذلك كل معنى مليح. وكانت ولادته في عاشر رمضان سنة ست وأربعين ومائتين، وتوفي يوم الأحد ثامن عشر جمادى الأولى سنة ثمان وعشرين وثلثمائة، ودفن يوم الإثنين في مقبرة بني العباس بقرطبة، وكان قد أصابه الفالج قبل ذلك بأعوام، رحمه الله تعالى. والقرطبي - بضم القاف وسكون الراء المهمله وضم الطاء المهمله وفي آخرها الباء الوحدة - هذه النسبة إلى قرطبة، وهي مدينة كبيرة من بلاد الأندلس وهي دار مملكتها. وحُدير الذي هو أحد أجداده: بضم الحاء المهمله وفتح الدال المهمله وسكون الياء المثناة من تحتها والراء آخر الحروف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 47 - (1) أبو العلاء المعري أبو العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان بن محمد بن سليمان بن داود بن المطهر بن زياد بن ربيعة بن أنوربن أسحم بن أرقم بن النعمان بن عدي بن غطفان بن عمر بن بريح بن جديمة بن تيم الله ابن أسد بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن إلحاف بن قصناعة التنوخي المعري للغوي الشاعر؛ كان متضلعاً من فنون الأدب، قرأ النحو واللغة على أبيه بالمعرة، وعلى محمد بن عبد الله بن سعد النحوي بحلب، وله التصانيف الكثيرة المشهورة والرسائل المأثورة، وله من النظم لزوم ما لا يلزم وهو كبير يقع في خمسة أجزاء أو ما يقاربها، وله سقط الزند أيضاً، وشرحه بنفسه، وسماه ضوء السقط، وبلغني أن له كتباً سماه الأيك والغصون وهو المعروف بالهمزة والردف يقارب المائة جزء في الأدب أيضاً، وحكى لي من وقف على المجلد الأول بعد المائة من كتاب الهمزة والردف وقال: لا أعلم ما كان يعوزه بعد هذا المجلد. وكان علامة عصره. وأخذ عنه أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي، والخطيب أبو زكريا التبريزي وغيرهما. وكانت ولادته يوم الجمعة عند مغيب الشمس لثلاث بقين من شهر ربيع الأول سنة ثلاث وستين وثلثمائة بالمعرة، وعمي من الجدري أول سنة سبع وستين، غشى يمنى عينيه بياض وذهبت اليسرى جملة، قال الحافظ السلفي: أخبرني أبو محمد عبد الله (2) بن الوليد بن غريب الإيادي أنه دخل مع عمه على أبي   (1) معظم ما كتب عن أبي العلاء في المصادر القديمة قد جمع في كتاب باسم " تعريف القدماء بأبي العلاء " (دار الكتب: 1944) . (2) أ: أبو عبد الله محمد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 العلاء يزوره، فرآه قاعداً على سجادة لبد وهو شيخ، قال: فدعا لي ومسح على رأسي وكنت صبيا، قال: وكأني أنظر إليه الساعة وإلى عينيه إحداهما نادرة (1) والأخرى غائرة جدا، وهو مجدر الوجه، نحيف الجسم. ولما فرغ من تصنيف كتاب اللامع العزيزي في شرح شعر المتنبي وقرىء عليه أخذ الجماعة في وصفه فقال أبو العلاء: كأنما نظر المتنبي إلي بلحظ الغيب حيث يقول: أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي ... وأسمعت كلماتي من به صمم واختصر ديوان أبي تمام وشرحه وسماه ذكرى حبيب وديوان البحتري وسماه عبث الوليد وديوان المتنبي وسماه معجز أحمد وتكلم على غريب أشعارهم ومعانيها ومآخذهم من غيرهم وما أخذ عليهم، وتولى الانتصار لهم والنقد في بعض المواضع عليهم، والتوجيه في أماكن لخطئهم. ودخل بغداد سنة ثمان وتسعين وثلثمائة، ودخلها ثانية سنة تسع وتسعين، وأقام بها سنة وسبعة أشهر، ثم رجع إلى المعرة ولزم منزله، وشرع في التصنيف وأخذ عنه الناس، وسار إليه الطلبة من الآفاق، وكاتبه العلماء والوزراء وأهل الأقدار، وسمى نفسه رهين المحبسين للزومه منزله ولذهاب عينيه، ومكث مدة خمس وأربعين سنة لا يأكل اللحم تديناً لأنه كان يرى رأي الحكماء المتقدمين وهم لا يأكلونه كي لا يذبحوا الحيوان ففيه تعذيب له وهم لا يرون الإيلام في جميع الحيوانات. وعمل الشعر وهو ابن إحدى عشرة سنة، ومن شعره في اللزوم قوله: لا تطلبن بآلةٍ لك رتبهً ... قلم البليغ بغير جد مغزل سكن السماكان السماء كلاهما ... هذا له رمح وهذا أعزل وتوفي يوم الجمعة ثالث - وقيل: ثاني - شهر ربيع الأول، وقيل: ثالث عشره، سنة تسع وأربعين واربعمائة بالمعرة، وبلغني أنه أوصى أن   (1) هـ: بارزة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 يكتب على قبره هذا البيت: هذا جناه أبي علي ... وما جنيت على أحد وهو أيضا متعلق باعتقاد الحكماء، فانهم يقولون: إيجاد الولد وإخراجه إلى هذا العالم جناية عليه، لأنه يتعرض للحوادث والآفات. وكان مرضه ثلاثة أيام، ومات في اليوم الرابع، ولم يكن عنده غير بني عمه فقال لهم في اليوم الثالث (1) : اكتبوا عني، فتناولوا الدوي والأقلام، فأملى عليهم غير الصواب، فقال القاضي أبو محمد عبد الله التنوخي: أحسن الله عزاءكم في الشيخ فإنه ميت؛ فمات ثاني يوم. ولما توفي رثاه تلميذه أبو الحسن علي بن همام بقوله: إن كنت لم ترق الدماء زهادة ... فلقد أرقت اليوم من جفني دماً سيرت ذكرك في البلاد كأنه ... مسك فسامعة يضمخ أو فما وأرى الحجيج إذا أرادوا ليلة ... ذكراك أخرج فدية من أحرما وقد أشار في البيت الأول إلى ما كان يعتقده ويتدين به من عدم الذبح كما تقدم ذكره. وقبره في ساحة من دوار أهله، وعلى الساحة باب [صغير قديم] (2) ، وهو على غاية ما يكون من الإهمال وترك القيام بمصالحه، وأهله لايحتفلون به. والتنوخي - بفتح التاء المثناة من فوقها وضم النون المخففة وبعد الواو خاء معجمة - وهذه النسبة إلى تنوخ، وهواسم لعدة قبائل اجتمعوا قديماً بالبحرين، وتحالفوا على التناصر، وأقاموا هناك فسموا تنوخاً. والتنوخ: الإقامة، وهذه القبيلة إحدى القبائل الثلاث التي هي نصارى العرب، وهم: بهراء، وتنوخ، وتغلب. والمعري - بفتح الخميم والعين المهملة وتشديد الراء - وهذه النسبة إلى   (1) ب: فقال لهم في يوم ثالث وقيل ثان. (2) ما بين معقفين زيادة من ب هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 معرة النعمان، وهي: بلدة صغيرة بالشام بالقرب من حماة وشيزر، وهي منسوبة إلى النعمان بن بشير الأنصاري، رضي الله تعالى عنه، فإنه تديرها، فنسبت إليه، وأخذها الفرنج من المسلمين في محرم سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة ولم تزل بأيدي الفرنج من يومئذ إلى أن فتحها عماد الدين زنكي بن آق سنقر الآتي ذكره إن شاء الله تعالى سنة تسع وعشرين وخمسمائة، ومن على أهلها بأملاكهم. 48 - (1) ابن شهيد أبو عامر أحمد بن أبي مروان عبد الملك بن مروان بن ذي الوزارتين الأعلى أحمد بن عبد الملك بن عمر بن محمد بن عيسى بن شهيد الأشجعي الأندلسي القرطبي؛ هو من ولد الوضاح بن رزاح الذي كان مع الضحاك بن قيس الفهري يوم مرج راهط، ذكره ابن بسام في كتاب الذخيرة، وبالغ في الثناء عليه، وأورد له طرفاً وافراً من الرسائل والنظم والوقائع. وكان من أعلم أهل الأندلس (2) ، متفنناً بارعاً في فنونه، وبينه وبين ابن حزم الظاهري مكاتبات وماعبات، وله التصانيف الغربية البديعة، منها كتاب كشف الدك وإيضاح الشك، ومنها التوابع والزوابع، ومنها حانوت عطار، وغير ذلك. وكان فيه   (1) ترجمة أبي عامر ابن شهيد في الجذوة: 124 (والبغية رقم: 437) والذخيرة 1/1: 161 والمغرب 1: 78 والمطمح: 16 وإعتاب الكتاب: 74 والمطرب: 174 ومعجم الأدباء 2: 218 والوافي 7، الورقة: 70 واليتيمة 2: 38 والمسالك 11: 280 وله تاريخ ذكر كثير في نفح الطيب وبدائع البدائه وشرح الشريشي، وقد جمع شارل بلا ديوانه فأخل بكثير من شعره الموجود في المصادر. (2) قوله: " وكان من أعلم أهل الأندلس " يستدعي توقفاً، فقد عرف ابن شهيد بأنه كان قليل الإطلاع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 مع هذه الفضائل كرم مفرط، وله في ذلك حكايات ونوادر ومن محاسن شعره من جملة قصيدة (1) : وتدري سباع الطير أن كماته ... إذا لقيت صيد الكماة سباع تطير جياعاً فوقه وتردها ... ظباه إلى الأوكار وهي شباع وإن كان هذا معنى مطروقاً، وقد سبقه إليه جماعة من الشعراء في الجاهلية والإسلام، لكنه أحسن في سبكه وتلطف في أخذه. ومن رقيق شعره وظريفه قوله (2) : ولما تملأ من سكره ... ونام ونامت عيون العسس (3) دنوت إليه على بعده ... دنو رفق درى ما التمس أدب إليه دبيب الكرى ... واسمو إليه سمو النفس وبت به ليلتي ناعماً ... إلى أن تبسم ثغر الغلس أقبل منه بياض الطلى ... وأرشف منه سواد اللعس وما ألطف قول أبي منصور علي بن الحسن المعروف بصردر في هذا المعنى، وهو قوله (4) : وحي طرقناه على غير موعد (5) ... فما إن وجدنا عند نارهم هدى وما غفلت أحراسهم غير أننا ... سقطنا عليهم مثلما يسقط (6) الندى وقد استعمل هذا المعنى جماعة من الشعراء، والأصل فيه قول امرىء القيس (7) :   (1) انظر الذخيرة: 243. (2) الذخيرة: 245. (3) أج: فنام وملت عيون الحرس. (4) ديوان صردر: 39. (5) الديوان: زور موعد. (6) الديوان: سقط. (7) ديوانه: 31. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 سموت إليها بعدما نام أهلها ... سمو حباب الماء حالاً على حال ومعظم شعره فائق. وكانت ولادته سنة اثنتين وثمانين وثلثمائة، وتوفي ضحى نهارالجمعة سلخ جمادى الأولى سنة ست وعشرين وأربعمائة، بقرطبة. ودفن ثاني يوم في مقبرة أم سلمة، رحمه الله تعالى. وأبوه عبد الملك مذكور في كتاب الصلة (1) . وشهيد: بضم الشين المثلثة وفتح الهاء وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها دال مهملة. والأشجعي - بفتح الهمزة وسكون الشين المثلثة وفتح الجيم وبعدها عين مهملة - هذه النسبة إلى أشجع بن ريث بن غطفان، وهي قبيلة كبيرة. 49 - (2) ابن فارس أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكرياء بن محمد بن حبيب الرازي اللغوي؛ كان إماماً في علوم شتى، وخصوصاً اللغة فإنه أتقنها، وألف كتابه المجمل في اللغة، وهو على اختصاره جمع شيئاً كثيراً، وله كتاب حلية الفقهاء، وله رسائل أنيقة، ومسائل في اللغة، ويعايي (3) بها الفقهاء، ومنه اقتبس الحريري صاحب المقامات الآتي ذكره إن شاء الله تعالى ذلك الأسلوب، ووضع   (1) الصلة: 338. (2) ترجمة ابن فارس في معجم الأدباء 4: 80 وانباه الرواة 1: 92 والوافي 7، الورقة: 134 والديباج: 37 ونزهة الألباء: 219 وبغية الوعاة: 153 ودمية القصر: 257 واليتيمة 3: 402. (3) يعايي: يحاجي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 المسائل الفقهية في المقامة الطيبة، وهي مائة مسألة. وكان مقيماً بهمذان، وعليه اشتغل بديع الزمان الهمذاني صاحب المقامات - الآتي ذكره إن شاء الله تعالى - وله أشعار جيدة، فمنها (1) قوله: مرت بنا هيفاء مجدولة (2) ... تركية تنمى لتركي ترنو بطرف فاتر فاتنٍ (3) ... أضعف من حجة نحوي وله أيضاً: اسمع مقالة ناصح ... جمع النصيحة والمقه إياك واحذر أن تبي ... ت من الثقات على ثقه وله أيضاً: إذا كنت في حاجة مرسلاً ... وأنت بها كلف مغرم فأرسل حكيماً ولا توصه ... وذاك الحكيم هو الدرهم وله أيضاً: سقى همذان الغيث، لست بقائل ... سوى ذا، وفي الأحشاء نار تضرم وما لي لا أصفي الدعاء لبلدة ... أفدت بها نسيان ما كنت أعلم نسيت الذي أحسنته غير أنني ... مدين وما في جوف بيتي درهم وله أشعار كثيرة حسنة. توفي سنة تسعين وثلثمائة - رحمه الله تعالى - بالري، ودفن مقابل مشهد القاضي علي بن عبد العزيز الجرجاني. وقيل: إنه توفي في صفر سنة خمس وسبعين وثلثمائة بالمحمدية، والأول أشهر. والرازي - بفتح الراء المهملة وبعد الألف زاي - هذه نسبة إلى الري،   (1) أج: وله شعر جيد فمنه؛ قلت: وقطعه هذه في اليتيمة: 405 - 406. (2) هـ: ممشوقة، اليتيمة: مقدودة. (3) أج: فاتن فاتر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 وهي من مشاهير بلاد الديلم، والزاي زائدة فيها كما زادوها في المروزي عند النسبة إلى مرو الشاهجان. ومن شعره أيضاً: وقالوا كيف حالك قلت خير ... تقضى حاجة وتفوت حاج إذا ازدحمت هموم الصدر قلنا ... عسى يوماً يكون لها انفراج نديمي هرتي، وأنيس نفسي ... دفاتر لي، ومعشوقي السراج 50 (1) أبو الطيب المتنبي أبو الطيب أحمد بن الحسين بن الحسن بن عبد الصمد الجعفي الكندي الكوفي المعروف بالمتنبي الشاعر المشهور، وقيل: هو أحمد بن الحسين بن مرة بن عبد الجبار، والله أعلم. هو من أهل الكوفة، وقدم الشام في صباه وجال في أقطاره، واشتغل بفنون الأدب ومهر فيها، وكان من الكثيرين من نقل اللغة والمطلعين على غريبها وحوشيها، ولا يسأل عن شيء إلا واستشهد فيه بكلام العرب من النظم والنثر، حتى قيل: إن الشيخ أبا علي الفارسي، صاحب الإيضاح والتكملة، قال له يوماً: كم لنا من الجموع على وزن فعلي: فطالعت كتب اللغة ثلاث   (1) له ترجمة في الجزء الأول من اليتيمة وفي الخزانة؛ وحوله يدور كتاب الصبح المنبي؛ ومن المؤلفات الحديثة عنه كتاب المتنبي للعلامة محمو د شاكر، ومع المتنبي للدكتور طه حسين وذكرى أبي الطيب للدكتور عبد الوهاب عزام؛ ومن المفيد مراجعة الموضحة للحاتمي والوساطة للجرجاني ورسالة الصاحب في ذمه والإيضاح لمشكل شعره (مخطوط) والمنصف لابن وكيع (مخطوط) وغيرها كثير يعز على الحصر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 ليال علي أن أجد لهذين الجمعين ثالثاً، فلم أجد. وحسبك من يقول في حقه أبو علي هذه المقالة. وحجلى: جمع حجل، وهو: الطائر الذي يسمى القبج. والظربي: جمع ظربان - على مثال قطران - وهي دويبة منتنة الرائحة. وأما شعره فهو في النهاية، ولا حاجة إلى ذكر شيء منه لشهرته، لكن الشيخ تاج الدين الكندي رحمه الله كان يروي له بيتين لا يوجدان في ديوانه وكانت روايته لهما بالإسناد الصحيح المتصل به، فأحببت ذكرهما لغرابتهما، وهما: أبعين مفتقر إليك نظرتني ... فأهنتني وقد فتني من حالق لست الملوم أنا الملوم لأنني ... أنزلت آمالي بغير الخالق (14) ولما كان بمصر مرض، وكان له صديق يغشاه في علته، فلما أبل أنقطع عنه، فكتب إليه: وصلتني وصلك الله معتلاً، وقطعتني مبلاً، فإن رأيت أن لا تحبب العلة إلي، ولا تكدر الصحة علي، فعلت إن شاء الله تعالى. والناس في شعره على طبقات: فمنهم من يرجحه على أبي تمام ومن بعده، ومنهم من يرجح أبا تمام عليه، وقال أبو العباس أحمد بن محمد النامي الشاعر الآتي ذكره عقيب هذا: كان قد بقي من الشعر زاوية دخلها المتنبي، وكنت أشتهي أن أكون قد سبقته إلى معنيين قالهما ماسبق إليهما، أحدهما قوله: رماني الدهر بالأرزاء حتى ... فؤادي في غشاء من نبال فصرت إذا أصابتني سهام ... تكسرت النصال على النصال والآخر قوله: في جحفل ستر العيون غباره ... فكأنما يبصرن بالآذان واعتنى العلماء بديوانه فشرحوه، وقال لي أحد المشايخ الذين أخذت عنهم: وقفت له على أكثر من أربعين شرحاً ما بين مطولات ومختصرات، ولم يفعل هذا بديوان غيره، ولاشك أنه كان رجلاً مسعوداً، ورزق في شعره السعادة التامة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 وإنما قيل له المتنبي لأنه ادعى النبوة في بادية السماوة، وتبعه خلق كثير من بني كلب وغيرهم فخرج إليه لؤلؤ أمير حمص نائب الإخشيدية فأسره وتفرق أصحابه وحبسه طويلاً ثم استتابه وأطلقه، وقيل غير ذلك، وهذا أصح، وقيل: إنه قال: أنا أول من تنبأ بالشعر. ثم التحق بالأمير سيف الدولة بن حمدان في سنة سبع وثلاثين وثلثمائة، ثم فارقه ودخل مصر سنة ست وأربعين وثلثمائة، ومدح كافوراً الإخشيدي وأنوجور ابن الإخشيد، وكان يقف بين يدي كافور وفي رجليه خفان وفي وسط سيف ومنطقة ويركب بحاجبين من مماليكه وهما بالسيوف والمناطق، ولما لم يرضه هجاه وفارقه ليلة عيد النحر سنة خمسين وثلثمائة، ووجه كافور خلفه رواحل إلى جهات شتى فلم يلحق، وكان كافور وعده بولاية بعض أعماله، فلما رأى تعاليه في شعره وسموه بنفسه خافه، وعوتب فيه فقال: يا قوم، من ادعى النبوة بعد محمد صلى الله عليه وسلم، أما يدعي المملكة مع كافور فحسبكم. قال أبو الفتح ابن جني النحوي: كنت قرأت ديوان أبي الطيب المتنبي عليه، فقرأت عليه قوله في كافور القصيدة التي أولها: أغالب فيك الشوق والشوق أغلب ... وأعجب من ذا الهجر والوصل أعجب حتى بلغت إلى قوله: ألا ليت شعري هل أقول قصيدة ... ولا اشتكي فيها ولا أتعتب وبي ما يذود الشعر عني أقله ... ولكن قلبي يا ابنة القوم قلب فقلت له: يعز علي، كيف يكون هذا الشعر في ممدوح غير سيف الدولة فقال: حذرناه وأنذرناه فما نفع، ألست القائل فيه: أخا الجود، أعط الناس ما أنت مالك ... ولا تعطين الناس ما أنا قائل فهو الذي أعطاني كافوراً بسوء تدبيره وقلة تمييزه. وكان لسيف الدولة مجلس يحضره العلماء كل ليلة فيتكلمون بحضرته، فوقع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 بين المتنبي وبين ابن خالويه النحوي كلام، فوثب ابن خالويه على المتنبي فضرب وجهه بمفتاح كان معه، فشجه وخرج ودمه يسيل على ثيابه، فغضب وخر إلى مصر وامتدح كافوراً. ثم رحل عنه وقصد بلاد فارس، ومدح عضد الدولة بن بويه الديلمي، فأجزل جائزته، ولما رجع من عنده قاصداً إلى بغداد ثم إلى الكوفة في شعبان لثمان خلون منه عرض له فاتك بن أبي الجهل الأسدي في عدة من أصحابه، وكان مع المتنبي أيضاً جماعة من أصحابه، فقاتلوهم، فقتل المتنبي وابنه مُحسد وغلامه مفلح بالقرب من النعمانية، في موضع يقال له الصافية، وقيل حيال الصافية، من الجانب الغربي من سواد بغداد عند دير العاقول بينهما مسافة ميلين. وذكر ابن رشيق في كتاب " العمدة " (1) في باب منافع الشعر ومضاره أن أبا الطيب لما فر حين رأى الغلبة قال له غلامه: لا يتحدث الناس عنك بالفرار أبدا وأنت القائل: فالخيل والليل والبيداء تعرفني ... والحرب والضرب والقرطاس والقلم فكر راجعاً حتى قتل، وكان سبب قتله هذا البيت، وذلك يوم الأربعاء ليست بقين - وقيل: لثلاث بقين، وقيل: لليلتين بقيتا - من شهر رمضان سنة أربع وخمسين وثلثمائة، وقيل: إن قتله كان يوم الاثنين لثمان بقين من شهر رمضان، وقيل: لخمس بقين من شهر رمضان من السنة المذكورة. ومولده في سنة ثلاث وثلثمائة بالكوفة في محلة تسمى كندة فنسب إليها، وليس هو من كندة التي هي قبيلة، بل هو جعفي القبيلة - بضم الجيم وسكون العين المهملة وبعدها فاء - وهو جعفي بن سعد العشيرة بن مذحج، واسمه مالك بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان، وإنما قيل له سعد العشيرة لأنه كان يركب - فيما قيل - في ثلثمائة من ولده وولد ولده، فإذا قيل له: من هؤلاء قال: عشيرتي، مخافة العين عليهم.   (1) انظر العمدة 1: 45. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 ويقال: إن أبا المتنبي كان سقاء بالكوفة، ثم انتقل إلى الشام بولده، ونشأ ولده بالشام، وإلى هذا أشار بعض الشعراء في هجو المتنبي حيث قال: أي فضل لشاعر يطلب الفض ... ل من الناس بكرة وعشيا عاش حيناً يبيع في الكوفة الما ... ء، وحيناً يبيع ماء المحيا وسيأتي في حرف الحاء نظير هذا المعنى لابن المعذل في أبي تمام حبيب بن أوس الشاعر المشهور. ولما قتل المتنبي رثاه أبو القاسم المظفر بن علي الطبسي بقوله: لا رعى الله سرب هذا الزمان ... إذ دهانا في مثل ذاك اللسان ما رأى الناس ثاني المتنبي ... أي ثان يرى لبكر الزمان كان من نفسه الكبيرة في جي ... ش وفي كبرياء ذي سلطان هو في شعره نبي، ولكن ... ظهرت معجزاته في المعاني والطبسي - بفتح الطاء المهملة والباء الموحدة وبعدها سبن مهملة - هذه النسبة إلى مدينة في البرية بين نيسابور وإصبهان وكرمان يقال لها طبس. ويحكى أن المعتمد بن عباد اللخمي صاحب قرطبة وإشبيلية أنشد يوماً في مجلسه بيت المتنبي، وهو من جملة قصيدته المشهورة (1) : إذا ظفرت منك العيون بنظرة ... أثاب بها معيي المطي ورازمه وجعل يردده استحساناً له، وفي مجلسه أبو محمد عبد الجليل بن وهبون الأندلسي، فأنشد ارتجالاً: لئن جاد شعر ابن الحسين فإنما ... تجيد العطايا واللها تفتح اللها تنبأ عجبا بالقريض ولو درى ... بأنك تروي شعره لتألها وذكر الإفليلي أن المتنبي أنشد سيف الدولة بن حمدان في الميدان قصيدته التي أولها:   (1) راجع هذا الخبر في نفح الطيب 3: 194، 235 (ط. صادر) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 لكل امرئ من دهره ما تعودا ... وعادات سيف الدولة الطعن في العدا فلما عاد سيف الدولة إلى داره استعاده إياها، فأنشدها قاعداً، فقال بعض الحاضرين - يريد أن يكيد أبا الطيب - لو أنشدها قائماً لأسمع، فإن أكثر الناس لا يسمعون، فقال أبو الطيب: أما سمعت أولها: لكل امرئ من دهره ما تعودا ... وهذا من مستحسن الأجوبة، وبالجملة فسمو نفسه وعلو همته وأخباره وما جرياته كثيرة، والاختصار أولى. واسم ولده محسد: بضم الميم وفتح الحاء المهملة والسين المهملة المشددة وبعدها دال مهملة. 51 - (1) النامي الشاعر أبو العباس أحمد بن محمد الدارمي المصيصي المعروف بالنامي الشاعر المشهور؛ كان من الشعراء المفلقين، ومن فحولة شعراء عصره، وخواص مداح سيف الدولة بن حمدان، وكان عنده تلو أبي الطيب المتنبي في المنزلة والرتبة، وكان فاضلاً أديباً بارعاً عارفاً باللغة والأدب، وله أمال أملاها بحلب روى فيها عن ابي الحسن علي بن سليمان الأخفش وابن در ستويه وأبي عبد الله الكرماني وأبي بكر الصولي وإبراهيم بن عبد الرحمن العروضي وأبيه محمد المصيصي، وروى عنه أبو القاسم الحسين بن علي بن أبي أسامة الحلبي وأخوه أبو الحسين أحمد وأبو الفرج الببغاء وأبو الخطاب ابن عون الحريري (2) وأبو بكر الخالدي   (1) ترجمة النامي في اليتيمة 1: 241 والوافي 8، الورقة: 43. (2) هـ: الجزيري، ووردت في هـ مرة: الجريري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 والقاضي أبو طاهر صالح بن جعفر الهاشمي. ومن محاسن شعره قوله فيه من جملة قصيدة (1) : أمير العلا إن العوالي كواسب ... علاءك في الدنيا وفي جنة الخلد يمر عليك الحول، سيفك في الطلى ... وطرفك ما بين الشكيمة واللبد ويمضي عليك الدهر، فعلك للعلا ... وقولك للتقوى وكفك للرفد ومن شعره أيضاً: أحقاً أن قاتلتي زرود ... وأن عهودها تلك العهود وقفت وقد فقدت الصبر حتى ... تبين موقفي أني الفقيد فشكت في عذالي فقالوا ... لرسم الدار أيكما العميد وله مع المتنبي وقائع ومعارضات في الأناشيد. وحكى أبو الخطاب ابن عون الحريري النحوي الشاعر أنه دخل على أبي العباس النامي قال: فوجدته جالساً ورأسه كالثغامة بياضاً وفيه شعرة واحد سوداء، فقلت له: ياسيدي في رأسك شعرة سوداء، فقال: نعم، هذه بقية شبابي وأنا أفرح بها ولي فيها شعر، فقلت: أنشدنيه، فأنشدني: رأيت في الرأس شعرة بقيت ... سوداء تهوى العيون رؤيتها فقلت للبيض إذ تروعها ... بالله ألا رحمت (2) غربتها (3) فقل لبث السوداء في وطن ... تكون فيه البيضاء ضرتها ثم قال: يا أبا الخطاب بيضاء واحدة تروع ألف سوداء، فكيف حال سوداء بين ألف بيضاء! ومن شعره - وينسب إلى الوزير أبي محمد المهلبي، وليس الأمر كذلك -: أتاني في قميص اللاذ يسعى ... عدو لي يلقب بالحبيب   (1) هذه المقطوعة واثنتان بعدها في اليتيمة. (2) أ: ما ترحن. (3) د: وحدتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 وقد عبث الشراب بمقلتيه ... فصير خده كسنا اللهيب فقلت له بما استحسنت هذا ... لقد أقبلت في زي عجيب أحمرة وجنتيك كستك هذا ... أم أنت صبغته بدم القالوب فقال الراح أهدت لي قميصاً ... كلون الشمس في شفق المغيب فثوبي والمدام ولون خدي ... قريب من قريب من قريب وتوفي سنة تسع وتسعين وثلثمائة (1) ، وقيل: سنة سبعين أو إحدى وسبعين، بحلب، وعمره تسعون سنة، رحمه الله تعالى. والدارمي - بفتح الدال المهملة وبعد اللف راء مكسورة ثم ميم - هذهالنسبة إلى دارم بن مالك، بطن كبير من تميم. والمصيصي - بكسر الميم والصاد المهملة المشددة وسكون الياء المثناة من تحتها، وبعدها صاد ثانية مهملة - هذه النسبةإلى المصيصة، وهي مدينة على [ساحل] البحر الرومي تجاور طرطوس والسيس وتلك النواحي، بناها صالح بن علي عم أبي جعفر المنصور في سنة أربعين ومائة بأمر المنصور. 52 - (2) بديع الزمان الهمذاني أبو الفضل أحمد بن الحسين بن يحيى بن سعيد الهمذاني، الحافظ المعروف ببديع الزمان؛ صاحب الرسائل الرائقة (3) ، والمقامات الفائقة، وعلى منواله نسج الحريري مقاماته واحتذى حذوه واقتفى أثره، واعترف في خطبته بفضله، وأنه الذي أرشده إلى سلوك ذلك المنهج، وهو أحد الفضلاء   (1) ج: تسع وسبعين وثلاثمائة. (2) ترجم له الثعالبي في اليتيمة 4: 256 وانظر معجم الأدباء 2: 161. (3) أج: الأنيقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 الفصحاء، روى عن أبي الحسين احمد بن فارس صاحب " المجمل " في اللغة وعن غيره، وله الرسائل البديعة والنظم الميح، وسكن هراة من بلاد خراسان. فمن رسائله (1) : " الماء إذا طال مكثه، ظهر خبثه. وإذا سكن متنه، تحرك نتنه. وكذلك الضيف يسمج لقاؤه، إذا طال ثواؤه، ويثقل ظله، إذا انتهى محله. والسلام ". ومن رسائله (2) : " حضرته التي هي كعبة المحتاج، لاكعبة الحجاج. ومشعر الكرم، لا مشعر الحرم. ومنى الضيف، لا منى الخيف. وقبلة الصلات، لا قبلة الصلاة ". وله من تعزية (3) : الموت خطب قد عظم حتى هان، ومس قد خشن حتى لان. والدنيا قد تنكرت حتى صار الموت أخف خطوبها، وجنت (4) حتى صار أصغر ذنوبها. فلتنظر (5) يمنة، هل ترى إلا محنة ثم انظر يسرة هل ترى إلا حسرة. ومن شعره من جملة قصيدة طويلة (6) : وكاد يحكيك صوب الغيث منسكباً ... لو كان طلق المحيا يمطر الذهبا والدهر لو لم يخن، والشمس لو نطقت ... والليث لو لم يصد والبحر لو عذبا ومن شعره في ذم همذان، ثم وجدتهما لأبي العلاء محمد بن [علي بن] حسول الهمذاني: همذان لي بلد أقول بفضله ... لكنه من أقبح البلدان صبيانه في القبح مثل شيوخه ... وشيوخه في العقل (7) كالصبيان وله كل معنى مليح حسن من نظم ونثر.   (1) اليتيمة: 264. (2) اليتيمة: 259. (3) اليتيمة: 260. (4) هـ: وخبثت. (5) هـ: فانظر. (6) اليتيمة: 293. (7) د: في الفعل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 وكانت وفاته سنة ثمان وتسعين وثلثمائة مسموماً بمدينة هراة، رحمه الله تعالى. ثم وجدت في آخر رسائله التي جمعها الحاكم أبو سعيد عبد الرحمن بن محمد بن دوست ما مثاله: هذا آخر الرسائل، وتوفي رحمة الله تعالى بهراة يوم الجمعة الحادي عشر من جمادى الآخرة سنة ثمان وتسعين وثلثمائة؛ قال الحاكم المذكور: وسمعت الثقات يحكون أنه مات من السكنة وعجل دفنه، فأفاق في قبره وسمع صوته بالليل، وأنه نبش عنه فوجدوه قد قبض على لحيته ومات من هول القبر. 53 - (1) ابن طباطبا أبو القاسم أحمد بن إسماعيل بن إبراهيم طباطبا بن إسماعيل بن إبراهيم ابن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، الشريف الحسني الرسي (2) المصري؛ كان نقيب الطالبين بمصر، وكان من أكابر رؤسائها، وله شعر مليح في الزهد والغزل وغير ذلك، وذكره أبو منصور الثعالبي في كتاب اليتيمة وذكر له مقاطيع، ومن جملة ما أورد له قوله: خليلي إني للثريا لحاسد ... وإني على ريب الزمان لواجد أيبقي جميعاً شملها وهي ستة ... وأفقد من أحببته وهو واحد وأورد له أيضاً، وذكرها في أوائل الكتاب لذي القرنين بن حمدان، قوله: قالت لطيف خيال زارني ومضى ... بالله صفه ولا تنقص ولا تزد   (1) انظر اليتيمة 1: 428 والمغرب (قسم مصر) : 202 والوافي 7، الورقة: 176. (2) هـ: الزيني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 فقال أبصرته لو مات من ظمإ ... وقلت قف عن ورود الماء (1) لم يرد قالت صدقت الوفا في الحب (2) عادته ... يا برد ذلك الذي قالت على كبدي وله غير هذا أشياء حسنة. ومن شعره المنسوب إليه في طول الليل، وهو معنى غريب: كأن نجوم الليل سارت نهارها ... فوافت عشاء وهي أنضاء أسفار وقد خيمت كي يستريح ركابها ... فلا فلك جار ولا كوكب ساري ثم وجدت هذين البيتين في ديوان أبي الحسن ابن طباطبا من جملة قصيدة طويلة. ونقلت من ديوان أبي الحسن المذكور من جملة أبيات: بانوا وأبقوا في حشاي لبينهم ... وجداً إذا ظعن الخليط أقاما لله أيام السرور كأنما ... كانت لسرعة مرها أحلاما لو دام عيش رحمةً لأخي هوًى ... لأقام لي ذاك السرور وداما يا عيشنا المفقود خذ من عمرنا ... عاماً ورد من الصبا أياما ولا أدري من هذا أبو الحسن، ولا وجه النسبة بينه وبين أبي القاسم المذكور، والله أعلم. وذكره الأمير المختار المعروف بالمسبحي في تاريخ مصر وقال: توفي في سنة خمس وأربعين وثلثمائة، رحمه الله تعالى؛ وزاد غيره: ليلة الثلاثاء لخمس بقين من شعبان، ودفن في مقبرتهم خلف المصلى الجديد بمصر، وعمره أربع وستون سنة. وطباطبا - بفتح الطاءين المهملتين والباءين الموحدتين - وهو لقب جده إبراهيم، وإنما قيل له ذلك لأنه كان يلثغ فيجعل القاف طاء، وطلب يوماً ثيابه، فقال له غلامه: أجيء بدراعة فقال: لا، طباطبا، يرد قبا قبا،   (1) هذه هي رواية أج د واليتيمة؛ وفي ب هـ: قف لا ترد للماء. (2) هذه هي رواية أج واليتيمة؛ وفي سائر الأصول: وفاء الحب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 فبقي عليه لقباً، واشتهر به (1) . والرسي: بفتح الراء والسين المشددة المهملة، قال ابن السمعاني: هذه نسبة إلى بطن من بطون السادة العلوية. 54 - (2) أبو الرقعمق أبو حامد أحمد بن محمد الأنطاكي المنبور بأبي الرقعمق الشاعر المشهور؛ ذكره الثعالبي في اليتيمة فقال في حقه: هو نادرة الزمان، وجملة الإحسان، وممن تصرف بالشعر في أنواع الجد والهزل، وأحرز قصب الفضل، وهو أحد المداح المجيدين، والشعراء المحسنين، وهو بالشام كابن حجاج بالعراق. فمن غرر محاسنه قوله يمدح أبا الفرج يعقوب بن كلس وزير العزيز بن المعز العبيدي صاحب مصر، وسيأتي ذكرهما إن شاء الله تعالى: قد سمعنا مقاله واعتذاره ... وأقلناه ذنبه وعثاره والمعاني لمن عنيت ولكن ... بك عرضت فاسمعي يا جاره من تراديه أنه أبد الده ... ر تراه محللاً أزراره عالم أنه عذاب من الل ... هـ متاح لأعين النظاره هتك الله ستره فلكم هت ... ك من ذي تستر أستاره سحرتني ألحاظه وكذا ك ... ل مليح ألحاظه سحاره ما على مؤثر التباعد والإع ... راض لو آثر الرضى والزياره   (1) أورد هذا في عمدة أنساب الطالبيين ص: 141 ثم قال: وطباطبا بلسان النبطية: " سيد السادات ". (2) له ترجمة في اليتيمة 1: 326 والوافي 8، الورقة: 55 والشذرات 3: 155 والعبر 3: 70 ومعاهد التنصيص 2: 253. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 وعلى أنني وإن كان قد ع ... ذب بالهجر مؤثر إيثاره لم أزل لا عدمته من حبيب ... أشتهي قربه وآبى نفاره ومن مديحها: لم يدع لي العزيز في سائرالأر ... ض عدواً إلا وأخمد ناره كل يوم له على نوب الده ... ر وكر الخطوب بالبذل غاره ذو يد شأنها الفرار من البخ ... ل وفي حومة الندى كراره هي فلت عن العزيز عداه ... بالعطايا وكثرت أنصاره هكذا كل فاضل يده تم ... سي وتضحي نفاعة ضراره فاستجره فليس يأمن إلا ... من تفيا ظلاله واستجاره وإذا ما رأيته كطرقاً يع ... مل فيما يريده أفكاره لم يدع بالذكاء والذهن شيئاً ... في ضمير الغيوب إلا أثاره لا ولا موضعاً من الأرض إلا ... كان بالرأي مدركاً أقطاره زاده الله بسطة وكفاه ... خوفة من زمانه وحذاره وأكثر شعره جيد، وهو على أسلوب شعر صريع الدلاء القصار البصري. وأقام بمصر زماناً طويلاً، ومعظم شعره في ملوكها ورؤسائها، ومدح بها المعز أبا تميم معد بن المنصور بن القائم بن المهدي عبد الله، وولده العزيز، والحاكم بن العزيز، والقائد جوهراً، والوزير أبا الفرج ابن كلس، وغيرهم من أعيانها، وكل هؤلاء الممدوحين سيأتي ذكرهم في تراجمهم إن شاء الله تعالى. وذكره الأمير المختار المسبحي في تاريخ مصر وقال: توفي سنة تسع وتسعين وثلثمائة، وزاد غيره: في يوم الجمعة لثمان بقين من شهر رمضان، وقيل: في شهر ربيع الآخر، رحمه الله تعالى؛ وأظنه توفي بمصر. والأنطاكي - بفتح الهمزة وسكون النون وفتح الطاء المهملة وبعد الألف كاف - هذه النسبة إلى أنطاكية وهي مدينة بالشام بالقرب من حلب. والرقعمق - بفتح الراء والقاف وسكون العين المهملة وفتح الميم وبعدها قاف - وهو لقب عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 55 - (1) جحظة البرمكي أبو الحسن أحمد بن جعفر بن موسى بن يحيى بن خالد بن برمك المعروف بجحظة البرمكي النديم؛ كان فاضلاً صاحب فنون وأخبار ونجوم ونوادر ومنادمة، وقد جمع أبو نصر ابن المرزبان أخباره وأشعاره، وكان من ظرفاء عصره، وهو من ذرية البرامكة، وله الأشعار الرائقة، فمن شعره قوله: أنا ابن أناس مول الناس جودهم ... فأضحوا حديثاً للنوال المشهر فلم يخل من إحسانهم لفظ مخبر ... ولم يخل من تقريظهم بطن دفتر وله أيضاً: فقلت لها بخلت علي يقظى ... فجودي في المنام لمستهام فقالت لي وصرت تنام أيضا ... وتطمع أن أزورك في المنام وله أيضاً: أصبحت بين معاشرٍ هجروا الندى ... وتقبلوا الأخلاق من أسلافهم قوم أحاول نيلهم فكأنما ... حاولت نتف الشعر من آنافهم هات اسقنيها بالكبير وغنني ... ذهب الذين يعاش في أكنافهم وله أيضاً: يا أيها الركب الذي ... ن فراقهم إحدى البليه   (1) لجحظة البرمكي ترجمة في معجم الأدباء 2: 241 وتاريخ بغداد 4: 65 والفهرست: 145 وله تصانيف ذكرها ابن النديم منها: كتاب الطبيخ، وكتاب الطنبوريين، وكتاب الترنم..؛ وذكر ياقوت أن وفاته كانت سنة 324، وأنه كان وسخاً قذراً دني النفس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 وصيكم الصب المقي ... م بقلبه خير الوصيه وله أيضاً: وقائلة لي كيف حالك بعدنا ... أفي ثوب مثرٍ أنت أم ثوب مقتر فقلت لها لا تسأليني فإنني ... أروح وأغدو في حرامٍ مقتر وله ديوان شعر أكثره جيد، وقضاياه مشهورة، ومن أبياته السائرة قوله: ورق الجو حتى قيل هذا ... عتاب بين جحظة والزمان ولابن الرومي فيه، وكان مشوه الخلق: نبئت جحظة يستعير جحوظه ... من فيل شطرنج ومن سرطان وارحمتا لمنادميه تحملوا ... ألم العيون للذة الآذان وتوفي سنة ست وعشرين وثلثمائة، وقيل: سنة أربع وعشرين، بواسط، وقيل: حمل تابوته من واسط إلى بغداد، رحمه الله تعالى. وجحظة - بفتح الجيم وسكون الحاء المهملة وفتح الظاء المعجمة وبعدها هاء - وهو لقب عليه لقبه به عبد الله بن المعتز. قال الخطيب: وكانت ولادته في شعبان سنة أربع وعشرين ومائتين. وله ذكر في تاريخ بغداد، وفي كتاب " الأغاني ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 56 - (1) ابن دراج القسطلي أبو عمر أحمد بن محمد بن العاصي بن أحمد بن سليمان بن عيسى بن دراج الأندلسي القسطلي الشاعر الكاتب؛ كان كاتب المنصور بن أبي عامر وشاعره، وهو معدود في تاريخ الأندلس من جملة الشعراء المجيدين والعلماء المتقدمين، ذكره أبو منصور الثعالبي في يتيمة الدهر، وقال في حقه: كان بصقع الأندلس كالمتنبي بصقع الشام، وهو احد الشعراء الفحول، وكان يجيد ما ينظم ويقول، واورد له أشعاراً حسنةً، وذكره أبو الحسن ابن بسام في كتاب الذخيرة، وساق طرفاً من رسائله ونظمه، ونقلت من ديوانه - وهو جزءان - أن المنصور بن أبي عامر أمره أن يعارض قصيدة أبي نواس الحكمي التي مدح بها الخطيب بن عبد الحميد (2) صاحب الخراج بمصر التي أولها: أجارة بيتينا أبوك غيور ... وميسور ما يرجى لديك عسير فعارضها بقصيدة بليغة، من جملتها (3) : ألم تعلمي أن الثواء هو التوى ... وأن بيوت العاجزين قبور تخوفني طول السفار، وإنه ... لتقبيل كف العامري سفير   (1) راجع ترجمته في الذخرة 1/1: 43 والجذوة: 102 والصلة: 44 والمغرب 2: 60 واليتيمة 1: 438 والوافي 8، الورقة: 22 والمسالك 11: 201 والعبر 3: 142 والشذرات 3: 217 وقد نشر ديوانه بتحقيق الدكتور محمود مكي (دمشق: 1961) وانظر في مقدمات مزيداً من المصادر عنه وعن شعره. (2) قال في شرح ديوان أبي نواس (1: 215) : هو دهقان من أهل المذار شريف الآباء وليس بابن صاحب نهر أبي الخصيب، ذاك عبد للمنصور، وهذا كان رئيساً في أرضه فانتقل إلى بغداد وأصبح كاتب مهرويه الرازي ثم انتقل إلى الإمارة. (3) ديوانه: 298. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 دعيني أرد ماء المفاوز آجناً ... إلى حيث ماء المكرمات نمير فإن خطيرات المهالك ضمن ... لراكبها أن الجزاء خطير ومنها في وصف وداعه لزوجته وولده الصغير: ولما تدانت للوداع وقد هفا ... بصبري منها أنة وزفير تناشدني عهد المودة والهوى ... وفي المهد مبغوم النداء صغير عيي بمرجوع الخطاب ولحظه ... بموقع أهواء النفوس خبير تبوأ ممنوع القلوب ومهدت ... له أذرع محفوفة ونحور فكل مفداة الترائب مرضع ... وكل محياة المحاسن ظير عصيت شفيع النفس فيه وقادني ... رواح لتدآب السرى وبكور وطار جناح البين بي وهفت بها ... جوانح من ذعر الفراق تطير لئن ودعت مني غيوراً فإنني ... على عزمتي من شجوها لغيور ولو شاهدتني والهواجر تلتظي ... علي ورقراق السراب يمور أسلط حر الهاجرات إذا سطا ... على حر وجهي والأصيل هجير وأستنشق النكباء وهي لوافح ... وأستوطىء الرمضاء وهي تفور وللموت في عين الجبان تلون ... وللذعر في سمع الجريء صفير لبان لها أني من البين جازع ... وأني على مضى الخطوب صبور أمير على غول التنائف ماله ... إذا ريع إلا المشرفي وزير ولو بصرت بي والسرى جل عزمتي ... وجرسي لجنان الفلاة سمير وأعتسف الموماة في غسق الدجى ... وللأسد في غيل الغياض زئير وقد حومت زهر النجوم كأنها ... كواكب في خضر الحدائق حور ودارت نجوم القطب حتى كأنها ... كؤوس مها (1) والى بهن مدير وقد خيلت طرق المجرة انها ... على مفرق الليل البهيم قتير (2) وثاقب عزمي والظلام مروع ... وقد غضن أجفان النجوم فتور   (1) المها: البلور. (2) القتير: الشيب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 لقد أيقنت أن المنى طوع همتي ... وأني بعطف العامري جدير وهي طويلة، وفي هذا القدر منها كفاية. وإذا قد ذكرت هذه القصيدة فينبغي أن أذكر شيئاً من قصيدة أبي نواس التي وازنها أبو عمر؛ وكان أبو نواس قد خرج من بغداد قاصداً مصر ليمدح أبا نصر الخطيب بن عبد الحميد صاحب ديوان الخراج بها، فأنشده هذه القصيدة، وذكر المنازل التي مر عليها في طريقه، وقد ذكرت منها بيتاً في ترجمة أبي إسحاق إبراهيم بن عثمان الغزي، ولا حاجة إلى ذكر جميعها فإنها طويلة، ولكن أذكر الذي أختاره منها، فمن ذلك (1) : تقول التي من بيتها خفف محملي (2) ... عزيز علينا أن نراك تسير أما دون مصر للغنى متطلب ... بلى إن أسباب الغنى لكثير فقلت لها واستعجلتها بوادر ... جرت فجرى من جريهن غدير ذريني أكثر حاسديك برحلةٍ ... إلى بلدة فيها الخطيب أمير إذا لم تزر أرض الخصيب ركابنا ... فأي فتى بعد الخطيب تزور فما جازه جود ولا حل دونه ... ولكن يصير الجود حيث يصير فتى يشتري حسن الثناء بماله ... ويعلم أن الدائرات تدور ومنها أيضاً: فمن كان (3) أمسى جاهلاً بمقالتي ... فإن أمير المؤمنين خبير وما زلت توليه النصيحة يافعاً ... إلى أن بدا في العارضين قتير إذا هاله (4) أمر فإما كفيته ... وإما عليه بالكفي تشير ثم شرع من ههنا في ذكر المنازل، ثم قال في أواخرها:   (1) ديوان أبي نواس 1: 219 (تحقيق فاجنر) . (2) الديوان: موكبي. (3) الديوان: فمن يك. (4) الديوان: غاله، والصواب " عاله ": أي غلبه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 زها بالخصيب السيف والرمح في الوغى ... وفي السلم يزهو منبر وسرير جواد إذا الأيدي قبضن عن الندى ... ومن دون عورات النساء غيور فإني جدير إن بلغتك للغنى ... وأنت لما أملت منك جدير فإن تولني منك الجميل فأهله ... وإلا فإني عاذر وشكور ثم مدحه بعد هذه بعدة قصائد، ويقال إنه لما عاد إلى بغداد مدح الخليفة، فقيل له: وأي شيء تقول فينا بعد أن قلت في بعض نوابنا: إذا لم تزر أرض الخصيب ركابنا ... البيتان المذكوران؛ فأطرق ساعة ثم رفع رأسه وأنشد يقول: إذا نحن أثنينا عليك بصالح ... فأنت كما نثني وفوق الذي نثني وإن جرت الألفاظ منا بمدحةٍ ... لغيرك إنساناً فأنت الذي نعني ومن شعر أبي عمر المذكور من جملة أبيات (1) : إن كان واديك ممنوعاً فموعدنا ... وادي الكرى فلعلي فيه ألقاك وقد ألم في هذا البيت بقول الآخر: هل سبيل إلى لقائك بالجز ... ع فإن الحمى كثير الوشاة وكانت ولادته في المحرم سنة سبع وأربعين وثلثمائة (2) ، وتوفي ليلة الأحد لأربع عشرة ليلة بقيت (3) من جمادى الآخرة سنة إحدى وعشرين وأربعمائة، رحمه الله تعالى.   (1) ديوان ابن دراج: 539 وهو من إنشادات الثعالبي، ولم يرد في أصل الديوان. (2) أج: سنة 349. (3) أج: خلت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 ودراج - بفتح الدال المهملة وفتح الراء المشددة وبعد اللف جيم - وهو اسم جده. والقسطلي - بفتح القاف وسكون السين المهملة وفتح الطاء المهملة وتشديد اللام - هذه النسبة إلى قسطلة (1) ، وهي مدينة بالأندلس يقال لها قسطلة دراج، ولا أعلم أهي منسوبة إلى جده دراج المذكور أم إلى غيره، والله سبحانه أعلم. 57 - (2) ابن زيدون أبو الوليد أحمد بن عبد الله بن احمد بن غالب بن زيدون المخزومي الندلسيالقرطبي الشاعر المشهور؛ قال ابن بسام صاحب الذخيرة في حقه: كان أبو الوليد غاية منثور ومنظوم، وخاتمة شعراء بني مخزوم. أخذ من حر الأيام حراً (3) ، وفاق الأنام طراً، وصرف السلطان نفعاً وضراً، ووسع البيان نظماً ونثراً. إلى اديب ليس للبحر تدفقه، ولا للبدر تألقه. وشعر ليس للسحر بيانه، ولا للنجوم الزهر اقترانه. وحظ من النثر غريب المياني، شعري الألفاظ والمعاني. وكان من أبناء وجوه الفقهاء بقرطبة، وبرع أدبه،   (1) يقول الدكتور مكي (مقدمة الديوان: 29) : أكثر الباحثين على أنها (أي قسطلة) القرية الداخلة اليوم في حدود البرتغال وتسمى Cacella من أعمال منطقة الغرب (Algrve) وتقع على ساحل المحيط الأطلسي بين الحدود الإسبانية ومدينة طبيرة (Tavira) ؛ وهذا تصحيح لرأي ابن سعيد الجغرافي الأندلسي الذي عدها من منطقة جيان؛ غير أن الدكتور المحقق يميل إلى رأي ابن سعيد. (2) لابن زيدون ترجمة في الذخيرة 1/1: 289 والقلائد: 70 والمغرب 1: 63 والجذوة: 121 والمطرب: 164 واعتاب الكتاب: 207 والوافي 7، الورقة: 42 وقد نشر ديوانه عدة مرات آخرها بتحقيق الدكتور علي عبد العظيم (القاهرة: 1957) وله في نفح الطيب أخبار وأشعار كثيرة. (3) الذخيرة: أحد من جر الأيام جراً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 وجاد شعره، وعلا شأنه، وانطلق لسانه. ثم انتقل عن قرطبة إلى المعتضد عباد صاحب إشبيلية في سنة إحدى وأربعين وأربعمائة، فجعله من خواصه: يجالسه في خلواته، ويركن إلى إشاراته. وكان معه في صورة وزير. وذكر له شيئاً كثيراً من الرسائل والنظم، فمن ذلك قوله: بيني وبينك ما لو شئت لم يضع ... سر إذا ذاعت الأسرار لم يذع يا بائعاً حظه مني، ولو بذلت ... لي الحياة بحظي منه لم أبع يكفيك أنك إن حملت قلبي ما ... لا تستطيع قلوب الناس يستطع ته أحتمل واستطل أصبر وعز أهن ... وول أقبل وقل أسمع ومر أطع ومن شعره أيضاً: ودع الصبر محب ودعك ... ذائع من سرع ما استودعك يقرع السن على أن لم يكن ... زاد في تلك الخطا إذ شيعك يا أخا البدر سناء وسناً ... حفظ الله زماناً أطلعك إن يطل بعدك ليلي فلكم ... بت أشكو قصر الليل معك وله القصائد الطنانة، ولولا خوف الإطالة لذكرت بعضها. ومن بديع قلائده قصيدته النونية التي منها: نكاد حين تناجيكم ضمائرنا ... يقضي علينا الأسى لولا تأسينا حالت لبعدكم (1) أيامنا فغدت ... سودا وكانت بكم بيضاً ليالينا بالأمس كناوما يخشى تفرقنا ... واليوم نحن وما يرجى تلاقينا وهي طويلة، وكل أبياتها نخب، والتطويل يخرج بنا عن المقصود. وكانت وفاته في صدر رجب سنة ثلاث وستين وأربعمائة بمدينة إشبيلية، رحمه الله تعالى، ودفن بها.   (1) أج: لفقدكم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 (4) وذكر ابن بشكوال في كتاب " الصلة " (1) أباه وأثنى عليه، وقال: كان يكنى أبا بكر. وتوفي بالبيرة سنة خمس وأربعمائة، وسيق إلى قرطبة فدفن بها يوم الاثنين لست خلون من شهر ربيع الآخر من السنة. وكانت ولادته سنة أربع وخمسين وثلثمائة. وكان يخضب بالسواد، رحمه الله تعالى. (5) وكان لأبي الوليد المذور ابن يقال له أبو بكر (2) ، وتولى وزارة المعتمد بن عباد، وقتل يوم أخذ يوسف بن تاشفين قرطبة من ابن عباد المذكور لما استولى على مملكته، كما سيشرح بعد هذا في ترجمة المعتمد وابن ناشفين إن شاء الله تعالى، وذلك يوم الأربعاء ثاني صفر سنة أربع وثمانين وأربعمائة، وكان قتله بقرطبة. وزيدون: بفتح الزاي وسكون الياء المثناة من تحتها وضم الدال المهملة وعدها واو ونون. واما القرطبي فقد تقدم الكلام في ضبطه فلا حاجة إلى إعادته، وذلك في ترجمة أحمد بن عبد ربه، مصنف كتاب العقد، وأخذها الفرنج من المسلمين في شوال سنة ثلاث وثلاثين وستمائة. 58 - (3) ابن الأبار الخولاني أبو جعفر أحمد بن محمد الخولاني الأندلسي الإشبيلي المعروف بابن الأبار   (1) انرظ الصلة: 252. (2) اسم أبي بكر ابن زيدون (الابن) محمد، وقد كان في الوفد الذي أرسله المعتمد لاستصراخ يوسف ابن ناشفين. (3) ترجمة ابن الأبار الخولاني في الذخيرة 2: 52 (نسخة بغداد) والمغرب 1: 253 والجذوة: 107 وبغية الملتمس (رقم: 364) ومسالك الأبصار 11: 418 وله ذكر في النفح وكتاب البديع في وصف الربيع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 الشاعر المشهور؛ كان من شعراء المعتضد عباد بن محمد اللخمي صاحب إشبيلية، المجيدين في فنونه، وكان عالماً فجمع وصنف، وله في صناعة النظم فضل لايرد، وإحسان لايعد، فمن محاسن شعره قوله: لم تدر ما خلدت عيناك في خلدي ... من الغرام ولا ما كابدت كبدي أفديه من زائر رام الدنو فلم ... يسطعه من غرق في الدمع متقد خاف العيون فوافاني على عجل ... معطلا جيده إلا من الجيد عاطيته الكأس فاستحيت مدامتها ... من ذاك الشنب لعسول والبرد حتى إذا غازلت أجفانه سنة ... وصيرته بيد الصهباء طوع يدي أردت توسيده خدي وقل له ... فقال: كفك عندي أفضل الوسد فبات في حرم لا غدر يذعره ... وبت ظمآن لم أصدر ولم أرد بدر ألم وبدر التم ممتحق ... والأفق محلولك الأرجاء من حسد تحير الليل منه أين مطلعه ... أما درى الليل أن البدر في عضدي [وله أبيات ثابتة في المجموع الكبير بخطي في الكراس المنقول بالإسكندرية] (1) وله على هذا الأسلوب مقاطيع ملاح، وله ديوان شعر، وذكره ابن بسام في " الذخيرة ". وتوفي سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة، رحمه الله تعالى. والأبار: بفتح الهمزة وتشديد الباء الموحدة وبعد الألف راء. والخولاني - بفتح الخاء المعجمة وسكون الواو وبعد اللام ألف ونون - هذه النسبة إلى خولان بن عمرو، وهي قبيلة كبيرة نزلت الشام. والإشبيلي: نسبة إلى إشبيلية - بكسر الهمزة وسكون الشين المثلثة وكسر الباء الموحة وسكون الياء المثناة من تحتها وكسر اللام وفتح الياء تحتها نقطتان وبعدها هاء - وهي من اعظم بلا الأندلس.   (1) هذه العبارة المزيدة من د ذات أهمية بالغة في الكشف عن مراحل تأليف " الوفيات ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 59 - (1) المنازي الكاتب أبو نصر احمد بن يوسف السليكي المنازي الكاتب؛ كان من أعيان الفضلاء وأماثل الشعراء، وزرلأ بي نصر أحمد بن مروان الكردي، صاحب ميافارقين وديار بكر - وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى -. وكان فاضلاً شاعراً كافياً، وترسل إلى القسطنطينية مراراً، وجمع كتباً كثيرة ثم وقفها على جامع ميافارقين وجامع آمد، وهي إلى الآن موجودة بخزائن الجامعين، ومعروفة بكتب المنازي. وكان قد اجتمع بأبي العلاء المعري بمعرة النعمان، فشكا أبو العلاء إليه حاله، وأنه منقطع عن الناس وهم يؤذنه، فقال: مالهم ولك وقد تركت لهم الدنيا والآخرة فقال أبو العلاء: والآخرة أيضاً! وجعل يكررها، ويتألم لذلك، وأطرق فلم يكلمه إلى أن قام، وكان قد اجتاز في بعض أسفاره بوادي بزاعا فأعجبه حسنه وما هو عليه، فعمل فيه هذه الأبيات (2) : وقانا لفحه الرمضاء واد ... وقاه مضاعف النبت (3) العميم نزلنا دوحه فحنا علينا ... حنو المرضعات على الفطيم وأرشفنا على ظمإ زلالاً ... ألذ من المدامة للنديم   (1) للمنازي ذكر في العبر 3: 187 والشذرات 3: 259 وترجمة في الوافي 8، الورقة: 131 ومعجم البلدان: (منازجرد) . (2) أكثر المشارقة على أن هذه الأبيات للمنازي ولكن الأندلسيين ينسبونها إلى الشاعرة حمدونة بنت زياد؛ نقل صاحب النفح عن الرعيني قوله: " إن مؤرخي بلادنا نسبوها لحمدة من قبل أن يوجد المنازي الذي ينسبها له أهل المشرق ". وحكى ابن النديم في تاريخ حلب أن المنازي أنشدها لأبي العلاء فكان كلما أنشد مصراعاً سبقه ابو العلاء إلى الثاني (النفح 4: 288 - 289 ط. صادر) . (3) ج: الغيث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 يراعي الشمس أنى قابلته (1) ... فيحجبها ويأذن للنسيم تروع حصاه حالية العذارى ... فتلمس جانب العقد النظيم وهذه الأبيات بديعة في بابها. وذكره أبو المعالي الحظيري في كتاب " زينة الدهر " (2) وأورد له شيئاً من شعره، فمما أورد له قوله: ولي غلام طال في دقة ... كحظ إقليدس (3) لا عرض له وقد تناهى عقله خفة (4) ... فصار كالنقطة لا جزء له ويوجد له بأيدي الناس مقاطيع. وأما ديوانه فعزيز الوجود، وبلغني أن القاضي الفاضل (5) - رحمه الله تعالى - أوصى بعض الأدباء السفارة أن يحصل له ديوانه، فسأل عنه في البلاد التي انتهى إيها فلم يقع له على خبر، فكتب إلى القاضي الفاضل كتاباً يخبره بعدم قدرته عليه، وفيه أبيات من جملتها عجز بيت وهو: وأقفرمن شعر المنازي المنازل ... وكانت وفاته سنة سبع وثلاثين وأربعمائة، رحمه الله تعالى. والمنازي - بفتح الميم والنون، وبعد اللف زاي - هذه النسبة إلى مناز جرد - بزيادة جيم مكسورة وبعدها راء ساكنة ثم دال مهملة - وهي مدينة عند خرت برت، وهي غير مناز كرد القلعة من أعمال خلاط - وسيأتي ذكرها في ترجمة تقي الدين عمر صاحب حماة -.   (1) أج هـ: قابلتنا. (2) هو ذيل على دمية القصر لأبي المعالي سعد بن علي المعروف بالوراق الحظيري المتوفى سنة 568 (كشف الظنون 2: 972) . (3) ب: أوقليدس. (4) د: قلة؛ هـ: دقة. (5) د: الفاضل عبد الرحيم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 وخرت برت: هي حصن زياد المشهور. وبزاعا - بضم الباء الموحدة وفتح الزاي وبعد الألف عين مهملة ثم ألف - وهي قرية كبيرة مابين حلب ومنبج في نصف الطريق. 60 - (1) ابن الخياط الدمشقي أبو عبد الله أحمد بن محمد بن علي بن يحيى بن صدقة التغلبي المعروف بابن الخياط الشاعر الدمشقي الكاتب؛ كان من الشعراء المجيدين، طاف البلاد، وامتدح الناس، ودخل بلاد العجم وامتدح بها، ولما اجتمع بأبي الفتيان ابن حيوس الشاعر المشهور بحلب وعرض عليه شعره قال: قد نعاني هذا الشاب إلى نفسي، فقلما نشأ ذو صناعة ومهر فيها إلا وكان دليلاً على موت الشيخ منأ بناء جنسه، ودخل مرة إلى حلب وهو رقيق الحال لا يقدر على شيء، فكتب إلى ابن حيوس المذكور يستمنحه (2) شيئا من بره بهذين البيتين (3) : لم يبق عندي ما يباع بحبة ... وكفاك علما منظري عن مخبري إلا بقية ماء وجه صنتها ... عن أن تباع وأين أين المشتري فلما وقف عليهما ابن حيوس قال: لو قال وأنت نعم المشتري لكان أحسن. ولا حاجة إلى ذكر شيء من شعره لشهرة ديوانه، ولو لم يكن له إلا   (1) ترجمة ابن الخياط الدمشقي في تهذيب ابن عساكر 2: 67 وابن القلانسي: 234 والوافي 8، الورقة: 29 والعبر 4: 39 والشذرات 4: 54 وديوانه مطبوع بتحقيق المرحوم خليل مردم (دمشق: 1958) . (2) ج: يستميحه. (3) ديوانه: 278. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 قصيدته البائية التي أولها (1) : خذا من صبا نجد أماناً لقلبه ... فقد كاد رياها يطير بلبه لكفاه، وأكثر قصائده غرر، وتتمة هذه القصيدة: وإياكما ذاك النسيم فإنه ... متى هب كان الوجد أيسر خطبه خليلي لو أحببتما لعلمتما ... محل الهوى من مغرم القلب صبه تذكر والذكرى تشوق وذو الهوى ... يتوق ومن يعلق به الحب يصبه غرام على يأس الهوى ورجائه ... وشوق على بعد المزار وقربه وفي الركب مطوي الضلوع على جوى ... متى يدعه داعي الغرام يلبه إذا خطرت من جانب الرمل نفحة ... تضمن منها داؤه دون صحبة ومحتجب بين الأسنة معرض ... وفي القلب من غراضه مثل حجبه أغار إذا آنست في الحي أنة ... حذراً وخوفاً أن تكون لحبه وهي طويلة فنقتصر منها على هذا القدر. ومن شعره أيضا قوله (2) : سلوا سيف الحاظه الممتشق ... أعند القلوب دم للحق أما من معين ولا عاذر ... إذا عنف الشوق يوما رفق تجلى لنا صارم المقلتي ... ن مضنى (3) الموشح والمنتظق من الترك ما سهمه إذ رمى ... بأفتك من طرفه إذ رمق وليلة وافيته (4) زائراً ... سمير السهاد ضجيع القلق دعتني المخافة من فتكه ... إليه، وكم مقدم من فرق وقد راضت الكأس أخلاقه ... ووقر بالسكر منه النزق   (1) ديوانه: 170 وهي في مدح مجد الدين أبق بن عبد الرزاق. (2) ديوانه: 221. (3) الديوان: ماضي. (4) الديوان: راقبته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 وحق العناق فقبلته ... شهي المقبل والمعتنق وبت أخالج فكري به ... أزور طراً أم خيال طرق أفكر في الهجر كيف انقضى ... وأعجب للوصل كيف اتفق وللحب ما عز مني وهان ... وللحسن ما جل منه ودق ويعجبني من شعره بيتان من جملة قصيدة، وهما في غاية الرقة (1) : وبالجزع حي كلما عن ذكرهم ... أمات الهوى مني فؤاداً وأحياه تمنيتهم بالرقمتين ودارهم ... بوادي الغضا يا بعد ما أتمناه ومن شعره أيضاً يعتب على أهله وأصحابه (2) : يا من بمجتمع الشطين إن عصفت ... بكم رياحي فقد قدمت أعذاري لا تنكرن رحيلي عن دياركم ... ليس الكريم على ضيم بصبار وله أيضاً (3) : أتظنني لا أستط ... يع أحيل عنك الدهر ودي من ظن أن لا بد من ... هـ فإن منه ألف بد وكانت ولادته سنة خمسين وأربعمائة بدمشق، وتوفي بها في حاي عشر شهر رمضان سنة سبع عشرة وخمسمائة، رحمه الله تعالى، وقيل: إنه مات في سابع عشر شهر رمضان، والأول أصح.   (1) ديوانه: 73. (2) ديوانه: 156. (3) ديوانه: 139. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 61 - (1) الميداني أبو الفضل أحمد بن محمد بن احمد بن إبراهيم الميداني النيسابوري الأديب، كان فاضلاً عارفاً باللغة، اختص بصحبة أبي الحسن الواحدي صاحب التفسير، ثم قرأ على غيره، وأتقن فن العربية خصوصاً اللغة وأمثال العرب، وله فيها التصانيف المفيدة، منها كتاب الأمثال المنسوب إليه ولم يعمل مثله في بابه، وكتاب السامي في الأسامي وهو جيد في بابه، وكان قد سمع الحديث ورواه، وكان ينشد كثيراً وأظنهما له: تنفس صبح الشيب في ليل عارضي ... فقلت عساه يكتفي بعذاري فلما فشا عاتبته فأجابني ... ألا هل ترى صبحاً بغير نهار وتوفي يوم الأربعاء الخامس والعشرين من شهر رمضان سنة ثماني عشرة وخمسمائة بنيسابور، ودفن على باب ميدان زياد. والميداني - بفتح الميم وسكون الياء المثناة من تحتها وفتح الدال المهملة وبعد الألف نون - هذه النسبة إلى ميدان زياد بن عبد الرحمن، وهي محلة في نيسابور. وابنه أبو سعد سعيد بن أحمد كان أيضاً فاضلاً ديناً، وله كتاب الأسماء في الأسماء (2) ، وتوفي سنة تسع وثلاثين وخمسمائة، رحمه الله تعالى.   (1) للميداني ترجمة في معجم الأدباء 5: 45 وانباه الرواة 1: 121 ونزهة الألباء: 272 وبغية الوعاة: 155 والبداية والنهاية 12: 194 والوافي 7، الورقة: 157. (2) كذا ورد اسمه وفي كشف الظنون: أسما، ولعله " أسمى "؛ وقد ذكر أنه أخذ من كتاب أبيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 62 - (1) ابن الخازن الكاتب أبو الفضل أحمد بن محمد بن الفضل بن عبد الخالق المعروف بابن الخازن، الكاتب الشاعر الدينوري الصل البغدادي المولد والوفاة؛ كان فاضلاً نادرة في الخط أوحد وقته فيه، وهو والد ابي الفتح نصر الله الكاتب المشهور، كتب من المقامات نسخاً كثيرة وهي موجودة بأيدي الناس، واعتني بجمع شعر والده فجمع منه ديواناً، وهو شعر جيد حسن السبك جميل المقاصد، فمن ذلك قوله، وهو من المعاني البديعة: من يستقم يحرم مناه، ومن يزغ ... يختص بالإسعاف والتمكين انظر إلى الألف استقام ففاته ... عجم وفاز به اعوجاج النون وله أيضاً: من لي بأسمر حجبوه بمثله ... في لونه والقد والعسلان من رامه فليدرع صبراً على ... طرف السنان وطرفه الوسنان راح الصبا تثنيه لا ريح الصبا ... سكران بي من حبه سكران طرف كطرف جامح مرحمتى ... أرسلت فضل عنانه عناني وله أيضاً: أيا عالم الأسرار إنك عالم ... بضعف اصطباري عن مداراة خلقه ففتر غرامي فيه تفتير لحظه ... وأحسن عزائي فيه تحسين خلقه فحمل الرواسي دون ما أنا حامل ... بقلبي المعنى من تكاليف عشقه   (1) ترجمة ابن الخازن في المنتظم 9: 204 والوافي 8، الورقة: 34 والشذرات 4: 57. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 وكتب إلى الحكيم أبي القاسم الهوازي، وقد فصده فآلمه: رحم الإله مجدلين سليمهم ... من ساعديك مبضع بالمبضع فعصائب تأتيهم بمصائب ... نشرت فتطوي أذرعاً في الأذرع أفصدتهم بالله أم أقصدتهم ... وخزاً بأطراف الرماح الشرع دست المباضع أم كنانة أسهم ... أم ذو الفقار مع البطين الأنزع غرراً بنفسي إن لقيتك بعدها ... يا عنتر العبسي غير مدرع وكان الحكيم المذكور قد أضافه يوماً وزاد في خدمته، وكان في داره بستان وحمام فأدخله إليهما، فعمل أبو الفضل المذكور: وافيت منزله فلم أرحاجباً ... إلا تلقاني بسن ضاحك والبشر فيوجه الغلام أمارة ... لمقدمات حياء وجه المالك ودخلت جنته وزرت جحيمه ... فشكرت رضواناً ورأفة مالك ثم إني وجدت هذه الأبيات للحكيم أبي القاسم هبة الله بن الحسين بن علي الأهوازي الطبيب الأصبهاني، ذكرها العماد الكاتب في الخريدة له، وقال: توفي سنة نيف وخمسين وخمسمائة، وذكرها في ترجمة أبي الفضل ابن الخازن المذكور، والله أعلم لمن هي منهما. ومن شعره أيضاً -[أعني ابن الخازن]- : وأهيف ينميه إلى العرب لفظه ... وناظره الفتان يعزي إلى الهند تجرعت كأس الصبر من رقبائه ... لساعة وصل منه أحلى من الشهد وهادنت أعماماً له وخؤولةً ... سوى واحد منهم غيور على الخد كنقطة مسك أودعت جلنارة ... رأيت بها غرس البنفسج في الورد [وكان أبو بكر الخوارزمي يروي لمعاً من شعره كقوله في وصف العيار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 وذكر أنه لم يسمع في معناه أملح منه وهو: إن هذا العيار ألبس عطفي ... عسلياً وديني التوحيد] وله أيضاً: وافى خيالك فاستعارت مقلتي ... من أعين الرقباء غمض مروع ما استكملت شفتاي لثم مسلمٍ ... منه ولا كفاي ضم مودع وأظنهم فطنوا فكل قائل ... لو لم يزره خيالها لم يهجع فانصاع يسرق نفسه فكأنما ... طلع الصباح بها وإن لم يطلع وجل شعره مشتمل على معان حسان. وكانت وفاته في صفر سنة ثماني عشرة وخمسمائة، وعمره سبع وأربعون سنة، وقال الحافظ ابن الخوري في كتابه المنتظم: توفي سنة اثنتيي عشرة وخمسمائة، والله أعلم، رحمه الله تعالى. وكان ولده أبو الفتح نصر الله المذكور حياً في سنة خمس وسبعين وخمسمائة ولم أقف على تاريخ وفاته. 63 - (1) ناصح الدين الأرجاني أبو بكر أحمد بن محمد بن الحسين الأرجاني الملقب ناصح الدين؛ - كان قاضي تستر وعسكر مكرم -، وله شعر رائق في نهاية الحسن، ذكره العماد الكاتب الأصبهاني في كتاب الخريدة فقال: كان الأرجاني في عنفوان عمره   (1) راجع ترجمة الأرجاني في طبقات السبكي 4: 51 والوافي 7، الورقة: 181 والعبر 4: 121 والشذرات 4: 137، وله ديوان مطبوع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 بالمدرسة النظامية بأصبهان، وشعره من آخر عهد نظام الملك، منذ سنة نيف وثمانين وأربعمائة، إلى آخرعهده، وهو سنة أربع وأربعين وخمسمائة، ولم يزل نائب القاضي بعسكر مكرم، وهو مبجل مكرم، وشعره كثير والذي جمع منه لا يكون عشره، ولما وافيت عسكر مكرم سنة تسع وأربعين وخمسمائة لقيت بها ولده محمداً رئيس الدين أعارني إضبارة كبيرة من شعر والده. منبت شجرته أرجان، وموطن أسرته تستر وعسكر مكرم من خوزستان، وهو وإن كان في العجم مولده، فمن العرب محتده، سلفه القديم من الأنصار، لم يسمح بنظيره سالف الأعصار، أوسي الأس خزرجيه، قسي النطق إياديه، فارسي القلم وفارس ميدانه، وسلمان برهانه، من أبناء فارس الذين نالوا العلم المتعلق بالثريا، جمع بين العذوبة والطيب في الري والريا. انتهى كلام العماد. قلت: ونقلت من ديوانه أنه كان ينوب في القضاء ببلاد خوزستان، تارة بتستر وتارة بعسكر مكرم، مرة عن قاضيها ناصر الدين أبي محمد عبد القاهر بن محمد، ومن بعده عن عماد الدين أبي العلاء رجاء، وفي ذلك يقول: ومن النوائب أنني ... في مثل هذا الشغل نائب ومن العجائب أن لي ... صبراً على هذي العجائب وكان فقيهاً شاعراً، وفي ذلك يقول: أنا أشعر الفقهاء غير مدافعٍ ... في العصر، أو أنا أفقه الشعراء شعري إذا ماقلت دونه الورى ... بالطبع لا بتكلف الإلقاء كالصوت في قلل الجبال إذا علا ... للسمع هاج تجاوب الأصداء ومن شعره أيضاً: شاور سواك إذا نابتك نائبة ... يوماً وإن كانت من أهل المشورات فالعين تلقى كفاحاً ما دنا ونأى ... ولا ترى نفسها إلا بمرآة ومن شعره أيضاً: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 ما جبت آفاق البلاد مطوفاً ... إلا وانتم في الورى متطلبي سعيي إليكم في الحقيقة، والذي ... تجدون عنكم فهو سعي الدهر بي أنحوكم ويرد وجهي القهقرى ... عنكم فسيري مثل سير الكوكب فالقصد نحو المشرق الأقصى لكم ... والسير رأي العين نحو المغرب ومن شعره أيضاً ما كتبه إلى بعض الرؤساء يعتب عليه لعدم سؤاله عنه وقد انقطع عنه مدة: نفسي فداؤك أيهذا الصاحب ... يا من هواه علي فرض واجب لم طال تقصيري وما عاتبتني ... فأنا الغداة مقصر ومعاتب ومن الدليل على ملالك أنني ... قد غبت أياماً وما لي طالب وإذا رأيت العبد يهرب ثم لم ... يطلب فمولى العبد منه هارب وله أيضاً، وهومعنى غريب: رثى لي وقد ساويته في نحوله ... خيالي لما لم يكن لي راحم فدلس بي حتى طرقت مكانه ... وأوهمت إلفي أنه بي حالم وبتنا ولم يشعر بنا الناس ليلة ... أنا ساهر في جفنه وهو نائم وله من قصيدة وأجاد فيها: تأمل تحت ذاك الصدغ خالاً ... لتعلم كم خبايا في الزوايا وله أيضاً: شبت أنا والتحى حبيبي ... وبان عني وبنت عنه وأبيض ذاك السواد مني ... وأسود ذاك البياض منه وله أيضاً: سأل الفضا عنه وأصغى للصدى ... كيما يجيب فقال مثل مقاله ناداه أين ترى محط رحاله ... فأجاب أين ترى محط رحاله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 وله أيضاً: لو كنت أجهل ما علمت (1) لسرني ... جهلي كما قد ساءني ما أعلم كالصعو يرتع في الرياض، وإنما ... حبس الهزار لأنه يترنم (2) ومثله قول بعضهم: يقصد أهل الفضل دون الورى ... مصائب الدنيا وآفاتها كالطير لا يحبس من بينها ... إلا التي تطرب أصواتها وهذا ينظر إلى قول الغزي أبي إسحاق المقدم ذكره من جملة قصيدة طويلة: لا غرو أن تجني علي فضائلي ... سبب احتراق المندلي دخانه ونقتصر على هذه المقاطيع من شعره، ولا حاجة إلى ذكر شيء من قصائده المطولات خوفاً من الإطالة. وله أيضاً: أحب المرء ظاهره جميل ... لصاحبه وباطنه سليم مودته تدوم لكل هول ... وهل كل مودته تدوم وهذا البيت - أعني الثاني منهما - يقرأ معكوساً، ويوجد في ديوان الغزي المذكور أيضاً، والله أعلم. وله ديوان شعر فيه كل معنى لطيف. ومولده سنة ستين وأربعمائة، وتوفي في شهر ربيع الأول سنة أربع وأربعين وخمسمائة بمدينة تستر، رحمه الله تعالى، وقيل بعسكر مكرم. والأرجاني - بفتح الهمزة وتشديد الراء المهملة وفتح الجيم وبعد الألف نون - هذه النسبة إلى أرجان، وهي من كور الهواز من بلاد خوزستان،   (1) هـ: ما أقول. (2) هـ: يتكلم؛ والصعو: عصفور صغير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 وأكثر الناس يقولون: إنها بالراء المخففة، واستعملها المتنبي في شعره مخففة في قوله (1) : أرجان أيتهاالجياد، فإنه ... عزمي الذي يذر (2) الوشيج مكسرا وحكاها الجوهري في الصحاح، والحازمي في كتابه الذي سماه ما اتفق لفظه وافترق مسماه يتشديد الراء. وتستر - بضم التاء المثناة من فوقها وسكون السين المهملة وفتح التاء الثانية وبعدها راء - مدينة مشهورة بخوزستان، والعامة تسميها ششتر. وعسكر مكرم - قد اختلفوا في مكرم، فأكثر العلماء على أنه مكرم اخو مطرف بن سيدان بن عقيلة بن ذكوان بن حيان بن الخرزق بن عيلان بن حاوة بن معن بن مالك بن أعصر بن سعد بن قيس بن عيلان بن مضر بن نزار ابن معد بن عدنان، هكذا نسبه استخرجته على هذه الصورة من كتاب الجمهرة لابن الكلبي، وليس في نسبه باهلة، ومكرم المذكور يعرف بمكرم الباهلي الحاوي، والله اعلم. وقيل: هو مكرم أحد بني جعونة العامري. وقيل: هو مكرم مولى الحجاج بن يوسف الثقفي، نزله لمحاربة خرزاد ابن بارس فسمي بذلك. وخوزستان - بضم الخاء المعجمة وبعد الواو زاي ثم سين مهملة - وهوإقليم متسع بين البصرة وفارس.   (1) من قصيدته في مدح ابن العميد. (2) أ: يدع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 64 - (1) ابن منير الطرابلسي أبو الحسين أحمد بن منير بن أحمد بن مفلح الطرابلسي الملقب مهذب الدين عين الزمان الشاعر المشهور؛ له ديوان شعر، وكان أبوه ينشد (2) الأشعار، ويغني في أسواق طرابلس (3) ، ونشأ أبو الحسين المذكور، وحفظ القرآن الكريم وتعلم اللغة والأدب، وقال الشعر، وقدم دمشق فسكنها، وكان رافضياً كثير الهجاء خبيث اللسان، ولما كثر منه ذلك سجنه بوري بن أتابك طغتكين صاحب دمشق مدة وعزم على قطع لسانه، ثم شفعوا فيه فنفاه، وكان بينه وبين أبي عبد الله محمد بن نصر بن صغير المعروف بابن القيسراني (4) مكاتبات وأجوبة ومهاجاة، وكانا مقيمين بحلب ومتنافسين في صناعتهما كما جرت عادة المتماثلين. ومن شعره من جملة قصيدة: وإذا الكريم رأى الخمول نزيله ... في منزل فالحزم أن يترحلا (5) كالبدر لما أن تضاءل جد في ... طلب الكمال فحازه متنقلا سفها لحلمك أن رضيت بمشربٍ ... رنق ورزق الله قد ملأ الملا ساهمت عيسك مر عيشك قاعداً ... أفلا فليت بهن ناصية الفلا   (1) أطنب العماد في ترجمته وإيراد المختار من شعره في الخريدة (قسم الشام) 1: 76 وله ترجمة في تهذيب ابن عساكر 2: 97 وابن القلانسي: 322 والوافي 8، الورقة: 87 والنجوم الزاهرة 5: 299 والشذرات 4: 146 وله شعر كثير في " الروضتين " لأبي شامة. (2) أ: يعمل. (3) اه: ويغمي في الأسواق بطرابلس. (4) انظر الخريدة المذكورة: 96 والحاشية ونشأ بقيسارية فلسطين، وولد بعكا، ثم انتقل عن بلاده إلى دمشق. (5) أ: يتحولا، وبعض الأبيات في الخريدة: 89. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 فارق ترق كالسيف سل فبان في ... متنيه ما أخفى القراب وأخملا لا تحسبن ذهاب نفسك ميتةً ... ما الموت إلا أن تعيش مذللاً للقفر لا للفقر هبها إنما ... مغناك ما أغناك أن تتوسلا لا ترضى من دنياك ما أدناك من ... دنس وكن طيفاً جلا ثم انجلى وصل الهجير بهجر قوم كلما ... أمطرتهم شهداً جنوا لك حنظلا من غادر خبثت مغارس وده ... فإذا محضت له الوفاة تأولا لله علمي بالزمان وأهله ... ذنب الفضيلة عندهم أن تكملا طبعوا على لؤم الطباع فخيرهم ... إن قلت قال وإن سكت تقولا أنا من إذا ما الدهر هم بخفضه ... سامته همته السماك الأعزلا واعٍ خطاب الخطب وهو مجمجم ... راعٍ أكل العيس من عدم الكلا زعم كمنبلج الصباح وراءه ... عزم كحد السيف صادف مقتلا ومن محاسن شعره القصيدة التي أولها: من ركب البدر في صدر الرديني ... وموه السحر في حد اليماني وأنزل النير الأعلى إلى فلك ... مداره في القباء الخسرواني طرف رنا أم قراب سل صارمه ... وأغيد ماس أم أعطاف خطي أذلني بعد عز والهوى أبداً ... يستعبد الليث للظبي الكناسي ومنها أيضاً: أما وذائب مسكٍ من ذوائبه ... على أعالي القضيب الخيزراني وما يجن عقيقي الشفاه من ال ... ريق الرحيقي والثغر الجماني لو قيل للبدر من في الأرض تحسده ... إذا تجلس لقال ابن الفلاني أربى علي بشتى من محاسنه ... تألفت بين مسموع ومرئي إباء فارس في لين الشآم مع الظ ... رف العراقي والنطق الحجازي وما المدامة بالألباب أفتك من ... فصاحة البدو في ألفاظ تركي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 وله أيضاً (1) : أنكرت مقلته سفك دمي ... وعلى وجنته فاعترفت لا تخالوا خاله في خده ... قطرة (2) من دم جفني نطفت ذاك (3) من نار فؤادي جذوة ... فيه ساخت وانطفت ثم طفت وله من جملة قصدة: لا تغالطني فما تخ ... فى علامات المريب أين ذاك البشر يامو ... لاي من هذا القطوب ونقلت من خط الشيخ الحافظ المحدث زكي الدين عبد العظيم بن عبد القوي المنذري المصري رحمه الله تعالى قال: حكى لي أبو المجد قاضي السويداء، قال: كان بالشام شاعران ابن منير وابن القيسراني، وكان ابن منير كثيراً ما يبكت (4) ابن القيسراني بأنه ما صحب أحدا إلا نكب (5) ، فاتفق أن أتابك عماد الدين زنكي صاحب الشام غناه مغن على قلعة جعبر، وهو يحاصرها، قول الشاعر: ويلي من المعرض الغضبان إذ نقل ال ... واشي إليه حديثا كله زور سلمت فازور يزوي قوس حاجبه ... كأنني كأس خمر وهو مخمور فاستحسنها زنكي، وقال: لمن هذه فقيل: لابن منير، وهو بحلب، فكتب إلى والي حلب يسيره إليه سريعاً، فسيره، فليلة وصل ابن منير قتل أتابك زنكي - قلت: وسيأتي شرح الحال في ذلك على التفصيل في ترجمة زنكي إن شاء الله تعالى - قال: فأخذ أسد الدين شيركوه، صاحب حمص، نور الدين   (1) الخريدة: 80. (2) الخريدة: نقطة. (3) الخريدة: تلك. (4) هـ: يثلب. (5) هـ: ثلبه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 محمود بن زنكي وعسكر الشام وعاد بهم إلى حلب، وأخذ زين الدين علي ولد مظفر الدين صاحب إربل عساكر بلاد الشرق وعاد بهم إلى الموصل، وإلى سيف الدين غازي بن زنكي وملكه الموصل، فلما دخل ابن منير إلى حلب صحبة العسكر، قال له ابن القيسراني: هذه بجميع ما كانت تبكتني به! قلت: ولابن القيسراني المذكور في ابن منير، وكان قد هجاه: ابن منير هجوت مني ... حبراً أفاد الورى صوابه ولم تضيق بذاك صدري ... فإن لي أسوة الصحابه أشعاره لطيفة فائقة. وكانت ولادته سنة ثلاث وسبعين وأربعمائة بطرابلس، وكانت وفاته في جمادى الآخرة سنة ثمان وأربعين وخمسمائة بحلب، ودفن في جبل جوشن، بقرب المشهد الذي هناك، رحمه الله تعالى. وزرت قبره ورأيت عليه مكتوبا: من زار قبري فليكن مرقناً ... أن الذي ألقاه يلقاه فيرحم الله امرءا زارني ... وقال لي: يرحمك الله وذكره الحافظ ابن عساكر في تاريخ دمشق، فقال في ترجمته: حدث الخطيب السديد أبو محمد عبد القاهر بن عبد العزيز خطيب حماة، قال: رأيت أبا الحسين ابن منير الشاعر في النوم بعد موته، وأنا على قرنة (1) بستان مرتفعة، فسألته عن حاله وقلت له: اصعد إلي، فقال: ما أقدر من رائحتي، فقلت: تشرب الخمر فقال: شراً من الخمر يا خطيب، فقلت له: ما هو فقال: تدري ما جرى علي من هذه القصائد التي قلتها في مثالب الناس فقلت له: ما جرى عليك منها فقال: لساني قد طال وثخن حتى صار مد البصر، وكلما قرأت قصيدة منها قد صارت كلابا تتعلق في لساني، وأبصرته حافياً عليه ثياب رثة إلى غاية، وسمعت قارئا يقرأ من فوقه لهم من فوقهم ظلل   (1) أ: غرفة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 من النار - الآية ثم انتبهت مرعوبا. قلت: ثم وجدت في ديوان أبي الحكم عبيد الله الآتي ذكره أن ابن منير توفي بدمشق سنة سبع وأربعين، ورثاه بأبيات تدل على أنه مات بدمشق منها وهي هزلية على عادته في ذلك: أتوا به فوق أعواد تسير به ... وغسلوه بشطي نهر قلوط وأسخنوا الماء في قدر مرصصة ... وأشعلوا تحته عيدان بلوط وعلى هذا التقدير فيحتاج إلى الجمع بين هذين الكلامين، فعساه أن يكون قد مات بدمشق قم نقل إلى حلب فدفن بها، والله أعلم. ومنير: بضم الميم وكسر النون وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها راء. ومفلح: بضم الميم وسكون الفاء وكسر اللام وبعدها حاء مهملة. والطرابلسي - بفتح الطاء المهملة والراء وبعد الألف باء موحدة مضمونة ثم سين مهملة - هذه النسبة إلى طرابلس، وهي مدينة بساحل الشام قريبة من بعلبك، وقد تزاد الهمزة إلى أولها فيقال أطرابلس، وأخذها الفرنج سنة ثلاث وخمسمائة، وصاحبها يومئذ أبو علي عمار بن محمد بن عمار، بعد أن حوصرت سبع سنين، والشرح في ذلك يطول. وجوشن: بفتح الجيم وسكون الواو وفتح الشين المثلثة ثم نون [جبل بحلب] . 65 - (1) القاضي الرشيد ابن الزبير القاضي الرشيد أبو الحسين أحمد ابن القاضي الرشيد أبي الحسن علي ابن القاضي   (1) للقاضي الرشيد ترجمة في الخريدة (قسم مصر) 1: 200 والطالع السعيد: 52 ومعجم الأدباء 4: 51 والوافي 7، الورقة: 106 وكتاب الروضتين 1: 147 والشذرات 4: 197، 203 وفي معجم السفر للسلفي بعض أخبار عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 الرشيد أبي إسحاق إبراهيم بن محمد بن الحسين بن الزبير الغساني الأسواني؛ كان من أهل الفضل والنباهة والرياسة، صنف كتاب جنان الجنان وياض الأذهان وذكر فيه جماعة من مشاهير الفضلاء (1) ، وله ديوان شعر، ولأخيه القاضي المهذب (2) أبي محمد الحسن ديوان شعر أيضاً، وكان مجيدين في نظمهما ونثرهما. (6) ومن شعر القاضي المهذب - وهو معنى لطيف غريب - من جملة قصيدة بديعة: وترى المجرة والنجوم كأنما (3) ... تسقي الرياض بجدول ملآن لو لم تكن نهراً لما عامت بها ... أبداً نجوم الحوت والسرطان وله أيضا من جملة قصيدة: وما لي إلى ماءٍ سوى النيل غلة ... ولو أنه، أستغفر الله، زمزم وله كل معنى حسن، وأول شعر قاله سنة ست وعشرين وخمسمائة. وذكره العماد الكاتب في كتاب السيل والذيل وهو أشعر من الرشيد، والرشيد أعلم منه في سائر العلوم، وتوفي بالقاهرة سنة إحدى وستين وخمسمائة في رجب، حمه الله تعالى. وأما القاضي الرشيد فقد ذكره الحافظ أبو الطاهر السلفي - رحمه الله تعالى - في بعض تعاليقه، وقال: ولي النظر بثغر الإسكندرية في الدواوين السلطانية بغير اختياره في سنة تسع وخمسين وخمسمائة، ثم قتل ظلماً وعدواناً في المحرم سنة ثلاث وستين وخمسمائة، رحمه الله تعالى؛ وذكره العماد أيضاً في كتاب السيل والذيل الذي ديل به علىالخريدة فقال: الخضم الزاخر، والبحر العباب، ذكرته في الخريدة وأخاه المهذب، قتله شاور ظلماً لميله إلى أسد الدين شيركوه في سنة ثلاث وستين وخمسمائة، كان أسود الجلدة،   (1) زاد في هـ: وله كتاب العجائب والطرف والهدايا والتحف. (2) انظر أخبار المهذب وشعره في الخريدة: 204 والحاشية. (3) في رواية: في السماء كأنها، وفي الخريدة: في النجوم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 وسيد البلدة، أوحد عصره في علم الهندسة والرياضات (1) ، والعلوم الشرعيات، والآداب الشعريات، ومما أنشدني له الأمير عضد الدولة (2) أبو الفوارس مرهف بن أسامة بن منقذ، وذكر أنه سمعها منه: جلت لدي الرزايا بل جلت هممي ... وهل يضر جلاء الصارم الذكر غيري يغيره عن حسن شيمته ... صرف الزمان وما ياتي من الغير لو كانت النار للياقوت محرقة ... لكان يشتبه الياقوت بالحجر لا تغررن بأطماري وقيمتها ... فإنما هي أصداف على درر ولا تظن خفاء النجم من صغرٍ ... فالذنب في ذاك محمول على البصر قلت: وهذا البيت مأخوذ من قول أبي العلاء المعري في قصيدته الطويلة المشهورة، فإنه القائل فيها: والنجم تستصغر الأبصار رؤيته ... والذنب للطرف لا للنجم في الصغر وأورد له العماد الكاتب في الجزيرة أيضاً قوله في الكامل بن شاور: إذا ما نبت بالحر دار يودها ... ولم يرتحل عنها فليس بذي حزم وهب بها صباً ألم يدر أنه ... سيزعجه منها الحمام على رغم وقال العماد: أنشدني محمد بن عيسى اليمني ببغداد سنة إحدى وخمسين، قال: أنشدني القاضي الرشيد باليمن لنفسه في رجل: لئن خاب ظني في رجائك بعد ما ... ظننت بأني قد ظفرت بمنصف فإنك قد قلدتني كل منةٍ ... ملكت بها شكري لدى كل موقف لأنك قد حذرتني كل صاحبٍ ... وأعلمتني أن ليس في الأرض من يفي وكان الرشيد أسود اللون، وفيه يقول أبو الفتح محمود بن قادوس (3)   (1) هـ: والرياضة. (2) ده: عضد الدين. (3) ابن قادوس محمود بن إسماعيل الدمياطي كان كاتب الإنشاء بالحضرة المصرية وتوفي سنة 551 وترجمته وأشعاره في الخريدة: 226. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 الكاتب الشاعر يهجوه: يا شبه لقمان بلا حكمةٍ ... وخاسراً في العلم لا راسخاً سلخت أشعار الورى كلها ... فصرت تدعى الأسود السالخا وفيه أيضاً كما يغلب على ظني هذا: إن قلت من نار خلق ... ت وفقت كل الناس فهما قلنا صدقت فما الذي ... أضناك حتى صرت فحما وكان الرشيد سافر إلى اليمن رسولاً، ومدح جماعة من ملوكها، وممن مدحه منهم علي بن حاتم الهمداني قال فيه: لئن أجدبت أرض الصعيد وأقحطوا ... فلست أنال القحط في أرض قحطان ومذ كفلت لي مأرب بمآربي ... فلست على أسوان يوماً بأسوان وإن جهلت حقي زعانف خندفٍ ... فقد عرفت فضلي غطارف همدان فحسده الداعي في عدن على ذلك، فكتب بالأبيات إلى صاحب مصر، فكانت سبب الغضب عليه، فأمسكه وأنفذه إليه مقيداً مجرداً، وأخذ جميع موجوده، فأقام باليمن مدة ثم رجع إلى مصر، فقتله شاور كما ذكرناه، وكتب إليه الجليس بن الحباب: ثروة المكرمات بعدك فقر ... ومحل العلا ببعدك قفر بك تجلى إذا حللت الدياجي ... وتمر الأيام حيث تمر أذنب الدهر في مسيرك ذنباً ... ليس منه سوى إيابك عذر والغساني - بفتح الغين المعجمة والسين المهملة وبعد الألف نون - هذه النسبة إلى غسان وهي قبيلة كبيرة من الأزد شربوا من ماء غسان، وهو باليمن فسموا به. والأسواني - بضم الهمزة وسكون السين المهملة وفتح الواو وبعد الألف نون - هذه النسبة إلى أسوان، وهي بلدة بصعيد مصر، قال السمعاني: هي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 بفتح الهمزة، والصحيح الضم، هكذا قال لي الشيخ الحافظ زكي الدين أبو محمد عبد العظيم المنذري حافظ مصر، نفعنا الله به آمين. 66 - (1) أحمد القطرسي النفيس أبو العباس أحمد بين أبي القاسم عبد الغني بن أحمد بن عبد الرحمن بن خلف بن مسلم اللخمي المالكي القطرسي، المنعوت بالنفيس؛ كان من الأدباء، وله ديوان شعر أجاد فيه، ونقلت منه قصيدة يمدح بها الأمير شجاع الدين جلدك التقوي، المعروف بوالي دمياط، أولها: قل للحبيب أطلت صدك ... وجعلت قتلي فيك وكدك إن شئت أن أسلو فرد ... علي قلبي فهو عندك أخلفت حتى في زيا ... رتنا بطيف منك وعدك وأنا عليك كما عهد ... ت وإن نقضت علي عهدك أحرقت يا ثغر الحبي ... ب حشاي لما ذقت بردك وشهدت أني ظالم ... لما طلبت إليك شهدك أتظن غصن البان يع ... جبني وقد عاينت قدك أم يخدع التفاح أل ... حاظي وقد شاهدت خدك أم خلت آس عذارك ال ... منشوق يحمي منك وردك لا والذي جعل الهوى ... مولاي حتى صرت عبدك يا قلب من لانت معا ... طفه علينا ما أشدك أتظنني جلد الهوى ... أو أن لي عزمات جلدك   (1) للنفيس القطرسي ترجمة في الوافي 7، الورقة: 35؛ وقد صرح المؤلف بأن العماد ترجم له في الخريدة، ولكن يبدو أن ترجمته سقطت من القسم المصري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 وهي قصيدة جيدة، ونقتصر منها على هذا القدر خوف الإطالة. وجاب النفيس المذكور البلاد، ومدح الناس، واستجدى بشعره. وذكره العماد الكاتب في الخريدة، فقال: فقيه مالكي المذهب، له يد في علوم الوائل والدب، ومن شعره قوله: يسر بالعيد أقوام لهم سعة ... من الثراء، وأما المقترن فلا هل سرني وثيابي فيه قوم سبا ... أو راقني وعلى رأسي به ابن جلا يعني قوم سبأ مزقناهم كل ممزق، وابن جلا ما له عمامة، يشير إلى قول الشاعر سحيم بن وثيل الرباحي: أنا ابن جلا وطلاع الثنايا ... متى أضع العمامة تعرفوني وذكره العماد أيضاً في كتاب السيل فقال: كان من الفقهاء بمصر، وقد رأيت القاضي الفاضل يثني عليه، ووجدت له قصيدة كتبها من مصر إليه ونقلت من ديوانه أيضاً: يا راحلا وجميل الصبر يتبعه ... هل من سبيل إلى لقياك يتفق ما أنصفتك جفوني وهي دامية ... ولا وفى لك قلبي وهو محترق [ومن شعره أيضاً في الأمير فخر الدين إسماعيل بن ثعلب: مدحت الجعفري فما أثابت ... يداه فظن مدحي للثواب وما كان احتساب الأجر فيه ... على كذب المدائح في الحساب ومن شعره أيضاً: يأبى العذار المستدير بوجهه ... وكمال بهجة حسنه المنعوت فكأنما هو صولجان زمرد ... متلقف كرة من الياقوت] وله في كأس سقطت وهو معنى بديع: ما سقطت كاسك من علة ... لكن يد الفضل بتبديدها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 هيهات أن تحفظها راحة ... ما حفظت قط سوى جودها وله: فؤادي إليك شديد الظما ... وعيني تشكو لك الحاجبا فرتب لي الأذن سهلاً لديك ... فإني أرضى به راتباً [وكتب إلى القاضي الأسعد بن عثمان يستدعيه من جملة أبيات: صر إلينا على البراق وإلا ... جاءك العتب بعد فوت المراد وصار إليه وأنشده ارتجالاً: قد أجبت لنداء يا داعي ال ... مجد ولو كنت موثقاً في صفاد فودادي يصونني عن عتاب ... وبراقي عزيمتي في الوداد] وله في مغن اسمه حسام ويعرف بالأقرع وهي من الشعر المختار: وفتيان تملكت الحميا ... أزمة أمرهم ملك الأمير أرادوا من حسام أن يغني ... ليطربهم وذاك من الغرور فقلت لهم متى بالله غنى ... حسام قط في زمن السرور [ومن شعره أيضاً: لا تسأل اليوم عن حالي وعن خبري ... دهت فؤادي دواهي الحسن والقدر أصبحت قد ضل قلبي في هوى قمر ... فأعجب لمن ضل بين الشمس والقمر وله أيضا وكتب بهما إلى بعض أصدقائه يعاتبه: إن مسني من جنابٍ كنت أعهد لي ... فيه النعيم تكاليف من الشظف فالشمس والبدر حسبي أسوة بهما ... وربما كسفا في البيت والشرف ومن شعره يصف دير القصير أولها: قصرنا على دير القصير ركابنا ... ليالي قضاها السرور قصارا] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 محل يريك النيل والروض والمها ... ويدني من النجم البعيد مزارا وتهدي إلى أبصارنا وقلوبنا ... بغير عناء قوة وقدارا ويقتصر من شعره على هذا القدر. وكان جده يقال له قطرس. وتوفي في الرابع والعشرين من شهر ربيع الأول سنة ثلاث وستمائة بمدينة قوص، وقد ناهز سبعين سنة من عمره، رحمه الله تعالى. واللخمي - بفتح اللام وسكون الخاء المعجمة وبعدها ميم - هذه النمسبة إلى لخم بن عدي، واسمه مالك، وهو أخو جذام، واسم جذام عمر بن عدي، وكانا قد تشاجرا فلخم عمرو مالكا - أي لطمه - فضرب مالك عمرا بمدية فجذم يده - أي قطعها - فسمي مالك لخما، وسمي عمرو جذاماً لهذا السبب. والقطرسي - بضم القاف وسكون الطاء المهملة وضم الراء وبعدها سين مهملة - هذه النسبة كشفت عنها كثيراً ولم اقف لها على حقيقة، غير انه كان من أهل مصر، ثم أخبرني بهاء الدين زهير بن محمد الكاتب الشاعر - الآتي ذكره إن شاء الله تعالى - أن هذه النسبة إلى جده قطرس، وكان صاحبه، وروى عنه شيئا من شعره. (7) وجلدك: أبو المظفر عتيق تقي الدين عمر، صاحب حماة - الآتي ذكره إن شاء الله تعالى - وكان ديناً فاضلاً. ومات في الثامن والعشرين من شعبان سنة ثمان وعشرين وستمائة بالقاهرة، وقد ناهز ثمانين سنة، وله شعر، وروى عن الحافظ السلفي وغيره، ومن جملة ما روى بهاء الدين زهير من شعره في غلام يتعلم على الهندسة والهيئة: وذي هيئة يزهو بوجه مهندس ... أموت به كل يوم وأبعث محيط بأشكال الملاحة وجهه ... كأن به إقليدساً يتحدث فعارضه خط استواء وخاله ... به نقطة والصدغ شكل مثلث وتنسب هذه اليات إلى أبي جعفر العلوي المصري، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 67 - (1) ابن الرشيد أبو العباس أحمد بن هارون الرشيد بن المهدي بن المنصور الهاشمي المعروف بالسبتي؛ كان عبداً صالحاً، ترك الدنيا في حياة أبيه مع القدرة، ولم يتعلق بشيء من أمورها، وأبوه خليفة الدنيا، وآثرالانقطاع والعزلة، وإنما قيل له السبتي لأنه كان يتكسب بيده في يوم السبت شيئاً ينفقه في بقية الأسبوع، ويتفرغ للاشتغال بالعبادة، فعرف بهذه النسبة، ولم يزل على هذه الحال إلى أن توفي سنة أربع وثمانين ومائة قبل موت أبيه، رحمهما الله تعالى؛ وأخباره مشهورة، فلا حاجة إلى التطويل فيها، وذكره ابن الجوزي في شذور العقود وفي صفوة الصفوة وهو مذكور في كتاب " التوابين " وفي " المنتظم " أيضا. 68 - (2) ابن العريف أبو العباس أحمد بن محمد بن موسى بن عطاء الله الصنهاجي الأندلسي المريي المعروف بابن العريف؛ كان من كبار الصالحين والولياء المتورعين، وله المناقب   (1) انظر كتاب التوابين: 162 وصفة الصفوة: 2: 174 والوافي 8: الورقة: 100. (2) راجع ترجمة ابن العريف في الصلة: 83 والتحفة: 17 ومعجم الصدفي (رقم: 14) والبغية (رقم: 360) ونيل الابتهاج: 58 (على هامش الديباج) والوافي 8، الورقة: 50 وله أخبار وشعر في نفح الطيب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 المشهورة، وله كتاب " المجالس " (1) وغيره من الكتب المتعلقة بطريق القوم، وله نظم حسن في طرقهم أيضاً، ومن شعره (2) : شدوا المطي وقد نالوا المنى بمنى ... وكلهم بأليم الشوق قد باحا سارت ركائبهم تندى روائحها ... طيبا بما طاب ذاك الوفد أشباحاً نسيم قبر النبي المصطفى لهم ... روح إذا شربوا من ذكره راحا يا واصلين إلى المختار من مضرٍ ... زرتم جسوما وزرنا نحن أرواحا إنا أقمنا على عذرٍ وعن قدر ... ومن أقام على عذرٍ كمن راحا وبينه وبين القاضي عياض بن موسى اليحصبي مكاتبات حسنة، وكانت عنده مشاركة في أشياء من العلوم، وعنتية بالقراءات وجمع الروايات واهتمام بطرقها وحملتها، وكان العباد وأهل الزهد يألفونه ويحمدون صحبته. وحكى بعض المشايخ الفضلاء أنه رأى بخطه فصلا في حق أبي محمد علي بن أحمد المعروف بابن حزم الظاهري الأندلسي، وقال فيه: كان لسان ابن حزم المذكور وسيف الحجاج بن يوسف شقيقين، وإنما قال ذلك لأن ابن حزم كان كثير الوقوع (3) في الأئمة المتقدمين والمتأخرين، لم يكد يسلم منه أحد. ومولده يوم الأحد بعد طلوع الفجر ثاني جمادى الأولى سنة إحدى وثمانين وأربعمائة. وكانت وفاة ابن العريف المذكور سنة ست وثلاثين وخمسمائة بمراكش، رحمه الله تعالى، ليلة الجمعة أول الليل، ودفن يوم الجمعة الثالث والعشرين من صفر، وقد كان سعي به إلى صاحب مراكش، فأحضره إليها فمات، واحتفل الناس بجنازته وظهرت له كرامات، فندم على استدعائه؛ وصاحب مراكش الذي استدعاه هو علي بن يوسف بن ناشفين - الآتي ذكره في ترجمة أبيه يوسف إن شاء الله تعالى -.   (1) طبع هذا الكتاب باسم " محاسن المجالس " وقد ذكره حاجي خليفة في الموضعين، ولا أدري هل الثاني موجز للأول أو هما كتاب واحد. (2) وردت الأبيات في الوافي والنفح 4: 331 (ط. صادر) . (3) لفظة " الوقوع " هنا مضللة، لأنها قد توحي بالتهجم المتعسف، وابن حزم حاد اللهجة في النقد، ولكنه لا " يقع " في الأئمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 والمريي: هذه النسبة إلى المرية، وهي بفتح الميم وكسر الراء وتشديد الياء المثناة من تحتها وبعدها هاء، وهي مدينة عظيمة بالأندلس. 69 - (1) ابن الحطيئة اللخمي أبو العباس أحمد بن عبد الله بن احمد بن هشام بن الحطيئة اللخمي الفاسي؛ كان من مشاهير الصلحاء وأعيانهم، وكان مع صلاحه فيه فضيلة ومعرفة بالأدب، وكان رأساً في القراءات السبع، ونسخ بخطه كثيرا من كتب الأدب وغيرها، وكان جيد الخط، حسن الضبط، والكتب التي توجد بخطه مرغوب فيها للتبرك بها ولإتقانها. ومولده في الساعة الثامنة من يوم الجمعة سابع عشر جمادى الآخرة سنة ثمان وسبعين وأربعمائة بمدينة فاس، وانتقل إلى الديار المصرية، ولأهلها فيه اعتقاد كبير لما رأوه من صلاحه، وكان قد حج ودخل الشام، واستوطن خارج مصر في جامع راشدة، وكان لا يقبل لأحد شيئا ولا يرتزق على الإقراء، واتفق بمصر مجاعة شديدة فمشى إليه أجلاء المصريين وسألوه قبول شيء فامتنع، وكان عدلاً بزازاً في القاهرة، فتزوجها وسأل أن تكون أمها عندها، فأذن في ذلك، وكان قصدهم تخفيف العائلة عنه، وبقي منفردا ينسخ ويأكل من نسخه [وكان يعرض عليه المال فلا يقبل منه شيئا؛ قيل: جاء بعض التجار بمئزر أسود صوف وحلف عليه به، فقال: اجعله على ذلك الوتد، فأقام ثلاثين سنة موضعه. لم يزل بالشرق إلى نوبة مصر المشهورة وحريقها فنزل في دويرة بها ... ] وتوفي في أواخر المحرم سنة ستين وخمسمائة بمصر، ودفن في القرافة الصغرى   (1) ترجمة ابن الحطيئة في الوافي 7، الورقة: 59 وغاية النهاية 1: 71 والشذرات 4: 188. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 وقبره يزار بها، وزرته ليلا فوجدت عنده أنسا كثيرا، رحمه الله تعالى. وكان يقول: أدرجت سعادة الإسلام في أكفان عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أشار إلى الإسلام لم يزل في أيامه في نمو وازدياد، وشرع بعده في التضعضع والاضطراب. وذكر في كتاب " الدول المنقطعة " (1) في ترجمة أبي الميمون عبد المجيد صاحب مصر أن الناس أقاموا بلا قاض ثلاثة أشهرفي سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة ثم اختير في ذي القعدة أبو العباس ابن الحطيئة، فاشترط أن لا يقضي بمذهب الدولة فلم يمكن من ذلك، وتولى غيره، والله تعالى أعلم. والحطيئة: بضم الحاء المهملة وفتح الطاء المهملة وسكون الياء المثناة من تحتها وبعد الهمزة هاء. والفاسي - بفتح الفاء وبعد الألف سين مهملة - هذه النسبة إلى فاس وهي مدينة كبيرة بالمغرب بالقرب من سبتة خرج منها جماعة من العلماء. 70 - (2) ابن الرفاعي أبو العباس أحمد بن أبي الحسن علي بن أبي العباس أحمد المعروف بابن الرافاعي؛ كان رجلاً صالحاً فقيها شافعي المذهب، أصله من العرب، وسكن في البطائح بقرية يقال لها: أم عبيدة، وانضم إليه خلق عظيم من الفقراء، وأحسنوا الاعتقاد فيه وتبعوه. والطائفة المعروفة بالرفاعية والبطائحية من الفقراء   (1) كتاب من تأليف ابن ظافر الأزدي المتوفى سنة 623، قال حاجي خليفة: يقع في نحو أربع مجلدات (1: 762) . (2) ترجمة ابن الرفاعي في طبقات السبكي 4: 40 ومرآة الزمان: 370 وابن الساعي: 112 والوافي 7، الورقة: 105 والشذرات 4: 259. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 منسوبة إليه، ولأتباعه أحوال عجيبة: من أكل الحيات وهي حية، والنزول في التنانير وهي تتضرم بالنار فيطفئونها، ويقال: إنهم في بلادهم يركبون الأسود، ومثل هذا وأشباهه، ولهم مواسم يجتمع عندهم من الفقراء عالم لا يعد ولا يحصى، ويقومون بكفاية الكل. ولم يكن له عقب، وإنما العقب لأخيه، وأولاده يتوارثون المشيخة والولاية على تلك الناحية إلى الآن، وأمورهم مشهورة مستفيضة، فلا حاجة إلى الإطالة فيها. وكان للشيخ أحمد - مع ما كان عليه من الاشتغال بعبادته - شعر، فمنه على ما قيل: إذا جن ليلي هام قلبي بذكركم ... أنوح كما ناح الحمام المطوف وفوقي سحاب يمطر الهم والأسى ... وتحتي بحار بالأسى تتدفق سلوا أم عمرو كيف بات أسيرها ... تفك الأسارى دونه وهو موثق فلا هو مقتول ففي القتل راحة ... ولا هو ممنون عليه فيطلق (1) ولم يزل على تلك الحال إلى أن توفي يوم الخمسين الثاني والعشرين من جمادى الأولى سنة ثمان وسبعين وخمسمائة بأم عبيدة، وهو في عشر السبعين، رحمه الله تعالى. والرفاعي - بكسرالراء وفتح الفاء وبعد الألف عين مهملة - هذه النسبة إلى رجل من العرب، يقال له رفاعة، هكذا نقلته من خط بعض أهل بيته. وأم عبيدة: بفتح العين المهملة وكسر الباء الموحدة وسكون الياء المثناة من تحتها وبعد الدال المهملة المفتوحة هاء. والبطائح - بفتح الباء الموحدة والطاء المهملة وبعد الألف ياء مثناة من تحتها ثم حاء مهملة - وهي عدة قرى مجتمعة في وسط الماء بين واسط والبصرة، ولها شهرة بالعراق.   (1) يبدو أنه ضمن هذين البيتين فهما من قديم الشعر لشبيب بن البرصاء كما في الأغاني 12: 254، 272. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 71 - (1) أحمد بن طولون الأمير أبو العباس أحمد بن طولون، صاحب الديار المصرية والشامية والثغور؛ كان المعتز بالله قد ولاه مصر، ثم استولى على دمشق والشام أجمع وانطاكية والثغور في مدة اشتغال الموفق أبي أحمد طلحة بن المتوكل، وكان نائبا عن أخيه المعتمد على الله الخليفة وهو والد المعتضد بالله، بحرب صاحب الزنج. وكان أحمد عادلاً جواداً شجاعاً متواضعاً حسن السيرة صادق الفراسة، يباشر الأمور بنفسه ويعمر البلاد ويتفقد أحوال رعاياه ويحب أهل العلم، وكانت له مائدة يحضرها كل يوم الخاص والعام، وكان له ألف دينار في كل شهر للصدقة، فأتاه وكيله يوماً فقال: إني تأتيني المرأة وعليها الإزار وفي يدها خاتم الذهب فتطلب مني، أفأعطيها فقال له: من مد يده إليك فأعطه. وكان مع ذلك كله طائش السيف، قال القضاعي: يقال إنه أحصي من قتله ابن طولون صبراً ومن مات في حبشه فكان عددهم ثمانية عشر ألفا. وكان يحفظ القرآن الكريم، ورزق حسن الصوت، وكان من أدرس الناس القرآن، وبنى الجامع المنسوب إليه الذي بين القاهرة ومصر في سنة تسع وخمسين ومائتين، وهذه الزيادة حكاها الفرغاني في تارخه، وذكر القضاعي في كتاب الخطط أنه شرع في عمارته سنة أربع وستين ومائتين، وفرغ منه في سنة ست وستين ومائتين، والله أعلم، وأنفق على عمارته مائة ألف وعشرين ألف دينارعلى ما حكاه أحمد بن يوسف مؤلف سيرته. وكان أبوه مملوكاً أهداه نوح بن أسد الساماني عامل بخارى إلى المأمون في جملة رقيق حمله إليه في سنة مائتين، ومات طولون في سنة أربعين ومائتين.   (1) أخباره في كتب التواريخ العامة، وسيرة أحمد بن طولون للبولي، والمغرب (قسم مصر) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 وكانت ولادة ولده أحمد بسامرا في الثالث والعشرين من شهر رمضان سنة عشرين ومائتين، ويقال إن طولون تبناه ولم يكن ابنه، ودخل مصر لتسع - وقيل: لسبع - بقين من شهر رمضان سنة أربع وخمسين ومائتين، وقيل: يوم الاثنين لخمس بقين منه. وتوفي بها في ليلة الأحد لعشر بقين - وقال الفرغاني: لعشر خلون - من ذي القعدة سنة سبعين ومائتين بزلق الأمعاء، رحمه الله تعالى. وزرت قبره في تربة عتيقة بالقرب من الباب المجاور للقلعة على طريق المتوجه إلى القرافة الصغرى بسفح المقطم. وطولون: بضم الطاء المهملة وسكون الواو وضم اللام [وسكون الواو] وبعدها نون، وهو اسم تركي. والساماني - بفتح السين المهملة وبعد الألف ميم مفتوحة وبعد الألف الثانية نون - هذه النسبة إلى سامام، وهو جد الملوك السامانية بما وراء النهر وخراسان. وسامرا - بفتح السين المهملة وبعد الألف ميم مفتوحة ثم راء مشددة وبعدها ألف - مدينة كبيرة بناها المعتصم في سنة عشرين ومائتين بالعاق فوق بغداد، وحكى فيها الجوهري في كتاب الصحاح ست لغات في فصل رأى وهذه اللغة إحدى تلك الست، وليس هذا موضع استقصاء الست، وقد ذكرتها في ترجمة إبراهيم بن المهدي. 72 - (1) معز الدولة ابن بويه أبو الحسين أحمد بن بي شجاع بويه بن فناخسرو بن تمام بن كوهي بن   (1) أخباره في ابن الأثير وتجارب الأمم لمسكويه وتاريخ ابن خلدون والمنتظم لابن الجوزي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 شيرزيل الأصغر ابن شيركوه بن شيرزيل الأكبر ابن شيران شاه بن شيرفنه بن شستان شاه ين سسن فرو بن شروذيل (1) بن سناد (2) بن بهرام جور الملك بن يزد جردين بن هرمز كرمانشاه بن سابور ذي الأكتاف، وبقية النسب معروفة في ملوك بني ساسان فلا حاجة إلى الإطالة. وأبو الحسين المذكور يلقب معز الدولة، وهم ثلاثة إخوة، وسيأتي ذكر الجميع، وهو عم عضد الدولة وأحد ملوك الديلم، وكان صاحب العراق والأهواز وكان يقال له الأقطع لأنه كان مقطوع اليد اليسرى وبعض أصابع اليمنى، وسبب ذلك أنه كان في مبدأ (3) عمره وحداثة سنه تبعاً لأخيه عماد الدولة، وكان قد توجه إلى كرمان بإشارة أخويه عماد الدولة وركن الدولة، فلما وصلها سمع به صاحبها فتركها ورحل إلى سجستان من غير حرب، فملكها معز الدولة، وكان بتلك الأعمال طائفة من الأكراد قد تغلبوا عليها، وكانوا يحملون لصاحب كرمان في كل سنة شيئاً من المال بشرط أن لا يطأوا بساطه، فلما وصل معز الدولة سير إليه رئيس القوم وأخذ عهوده ومواثيقه بإجرائهم على عادتهم، ففعل ذلك، ثم أشار عليه كاتبه بنقض العهد وأن يسري (4) إليهم على غفلة ويأخذ أموالهم وذخائرهم، ففعل معز الدولة ذلك، وقصدهم في الليلفي طريق متوعرة، فأحسوا به فقعدوا له على مضيق، فلما وصل إليهم بعسكره ثاروا عليهم من جميع الجوانب، فقتلوا وأسروا، ولم يفلت منهم إلا اليسير، ووقع بمعز الدولة ضربات كثيرة، وطاحت يده اليسرى وبعض أصابع يده اليمنى، وأثخن بالضرب في رأسه وسائر جسده، وسقط بين القتلى، ثم سلم بعد ذلك، وشرح ذلك يطول، وكان وصوله إلى بغداد من جهة الأهواز، فدخلها متملكا يوم السبت لإحدى عشرة ليلة خلت من جمادى الأولى سنة أربع وثلاثين وثلثمائة، في خلافة المستكفي، وملكها بلا كلفة.   (1) د: شيرويل؛ هـ: شذويل؛ أ: سرديل. (2) ج د: سيساد؛ هـ: سناذ. (3) ده: مبتدإ. (4) د: يسير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 وذكر أبو الفرج ابن الجوزي في كتاب شذور العقود أن معز الدولة المذكور كان في أول أمره يحمل الحطب على رأسه، ثم ملك هو وإخوته البلاد وآل أمرهم إلى ما آل، وكان معز الدولة أصغر الإخوة الثلاثة، وكانت مدة ملكه العراق (1) إحدى وعشرين سنة وأحد عشر شهراً. وتوفي يوم الاثنين سابع عشر ربيع الآخر سنة ست وخمسين وثلثمائة ببغداد، ودفن في داره، ثم نقل إلى مشهد بني له في مقابر قريش. ومولده في سنة ثلاث وثلثمائة، رحمه الله تعالى. ولما حضره الموت أعتق مماليكه وتصدق بأكثر ماله (2) ، ورد كثيراً من المظالم. قال أبو الحسين (3) أحمد العلوي: بينا أنا في داري على دجلة بمشرعة القصب (4) في ليلة ذات غيم ورعد وبرق، سمعت صوت هاتف يقول (5) : لما بلغت أبا الحسي ... ن مراد نفسك في الطلب وأمنت من حدث الليا ... لي واحتجبت عن النوب مدت إليك يد الردى ... وأخذت من بيت الذهب قال: فإذا بمعز الدولة قد توفي في تلك الليلة. ولما توفي ملك موضعه ولده عز الدولة أبو المنصور بختيار، وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى. وبويه: بضم الباء الموحدة وفتح الواو وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها هاء ساكنة. وفناخسرو: بفتح الفاء وتشديد النون وبعد اللف خاء معجمة مضمومة ثم سين مهملة ثم سين مهملة ساكنة ثم راء مضمومة وبعدها واو.   (1) د: للعراق. (2) أج: أمواله. (3) أده: الحسن. (4) أ: بشرعة النصيب. (5) أ: خائف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 وتمام: بفتح التاء المثناة من فوقها وبعدها ميم مخففة مفتوحة وبعد الألف ميم. ولولا خوف التطويل لقيدت بقية الأجداد، وقد ضبطته بخطي، فمن نقله فلينقله على هذه الصورة فهو صحيح، وسيأتي ذكر أخويه عماد الدولة علي وركن الدولة حسن. 73 - (1) نصر الدولة ابن مروان الكردي أبو نصر أحمد بن مروان بن دوستك (2) ، الكردي الحميدي الملقب نصر الدولة صاحب ميافارقين وديار بكر؛ ملك البلاد بعد أن قتل أخوه أبو سعيد منصور ابن مروان في قلعة الهتاخ (3) ليلة الخميس خامس جمادى الولى سنة إحدى وأربعمائة، وكان رجلاً مسعوداً عالي الهمة حسن السياسة كثير الحزم، قضى من اللذات وبلغ من السعادة ما يقصر الوصف عن شرحه. وحكى ابن الأزرق الفارقي (4) في تاريخه أنه لم ينقل أن نصر الدولة المذكور صادرأحدا في أيامه، سوى شخص واحد، وقص قصته ولا حاجة إلى ذكرها، وأنه لم تفته صلاة الصبح عن وقتها مع انهماكه في اللذات، وأنه كان له ثلثمائة وستون جارية يخلو كل ليلة من ليالي السنة بواحدة، فلا تعود النوبة إليها إلا في مثل تلك الليلة من العام الثاني، وأنه قسم أوقاته: فمنها ما ينظر فيه في مصالح دولته، ومنها ما يتوفر فيه على لذاته والاجتماع بأهله وألزامه، وخلف أولاداً كثيرة، وقصده شعراء عصره ومدحوه وخلدوا مدائحه في دواوينهم.   (1) أخباره في المنتظم 8: 222 وانظر الوافي 8، الورقة: 79 والعبر 3: 229 والشذرات 3: 290 وابن الأثير 9: 347 - 349 وصفحات أخرى من هذا الجزء. (2) هـ: دوشك؛ الوافي: دوسك. (3) قلعة حصينة في ديار بكر. (4) هـ: الفارقاني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 ومن جملة سعاداته أنه وزر له وزيران كانا وزيري خليفتين: أحدهما أبو القاسم الحسين بن علي المعروف بابن المغربي صاحب ديوان الشعر والرسائل والتصانيف المشهورة، وكان وزير خليفة مصر وأنفصل عنه، وقدم على الأمير أبي نصر المذكور فوزر له مرتين، والآخر فخر الدولة أبو نصر بن جهير، كان وزيره ثم انتقل إلى وزارة بغداد - وسيأتي ذكرهما إن شاء الله تعالى -. ولم يزل على سعادته وقضاء أوطاره إلى أن توفي في التاسع والعشرين من شوال سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة، ودفن بجامع المحدثة، وقيل: في القصر بالسد لي، ثم نقل إلى القبة المعروفة بهم الملاصقة لجامع المحدثة. وعاش سبعا وسبعين سنة (1) ، وكانت إمارته اثنتين وخمسين سنة، وقيل اثنتين وأربعين سنة، رحمه الله تعالى. وميافارقين مشهورة فلا حاجة إلى ضبطها. والمحدثة - بضم الميم وسكرن الحاء المهملة وفتح الدال المهملة وبعدها ناء مثلثة - رباط بظاهر ميافارقين. والسدلي - بكسر السين المهملة والدال المهملة وبعدها لام مشددة مكسورة أيضا - قبة في القصر مبينة على ثلاث دعائم، وهو لفظ عجمي معناه ثلاث قوائم. وملك بعده ابنه نظام الدين أبو القاسم نصر. 74 - (2) المستعلي الفاطمي أبو لقاسم أحمد المنعوت بالمستعلي ابن المستنصر بن الظاهر بن الحاكم بن العزيز   (1) أج: 79 سنة. (2) انظر اتعاظ الحنفا: 282 والدرة المضيئة: 443 والنجوم الزاهرة 5: 142. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 ابن المعز بن المنصور بن القائم بن المهدي عبيد الله، وستأتي تتمة النسب عند ذكر المهدي في حرف العين وكيفية الاختلاف فيه، إن شاء الله تعالى. ولي الأمر بعد أبيه المستنصر بالديار المصرية والشامية، وفي أيامه اختلت دولتهم (1) ، وضعف أمرهم، وانقطعت (2) من أكثر مدن الشام دعوتهم، وانقسمت البلاد الشامية بين الأتراك والفرنج - خذلهم الله تعالى - فإنهم دخلوا الشام ونزلوا على انطاكية في ذي القعدة سنة تسعين وأربعمائة، ثم تسلموها في سادس عشر رجب سنة إحدى وتسعين، وأخذوا معرة النعمان في سنة اثنتين وتسعين وأخذوا البيت المقدس في شعبان سنة اثنتين وتسعين أيضاً، وكان الفرنج قد أقاموا عليه نيفاً وأربعين يوماً قبل أخذه، وكان أخذهم له ضحى يوم (3) الجمعة، وقتل فيه من المسلمين خلق كثير في مدة أسبوع، وقتل في الأقصى ما يزيد على سبعين ألفاً، وأخذوا من عند الصخرة من أواني الذهب والفضة مالا يضبطه الوصف، وانزعج المسلمون في جميع بلاد الإسلام بسبب أخذه غاية الانزعاج (4) - وسأتي ذكر طرف من هذه الواقعة في ترجمة الأفضل ابن أمير الجيوش في حرف الشين إن شاء الله تعالى -. وكان الأفضل شاهنشاه المنعوت بأمير الجيوش قد تسلمه من سكمان (5) بن أرتق في يوم الجمعة لخمس بقين من شهر رمضان سنة إحدى وتسعين، وقيل: في شعبان سنة تسع وثمانين، والله أعلم بالصواب، وولي فيه من قبله فلم يكن لمن فيه طاقة بالفرنج فتسلموه منه، ولو كان في يد الأرتقية لكان أصلح للمسلمين، ثم استولى الفرنج على كثير من بلاد الساحل في أيامه، فملكوا حيفا في شوال سنة ثلاث وتسعين، وقيساربة في سنة أربع وتسعين. ولم يكن للمستعلي مع الأفضل حكم، وفي أيامه هرب أخوه نزار إلى الإسكندرية، ونزار هو الأكبر وهو جد أصحاب الدعوة بقلعة الأ موت ولك القلاع وكان من أمره ما قد شهر، والشرح يطول (21) .   (1) أج: أحوالهم. (2) أج: وانقطع. (3) أ: ضحى نهار يوم. (4) هـ: الإزعاج. (5) أج: سقمان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 وكانت ولادة المستعلي لعشر ليال بقين من المحرم سنة تسع وستين وأربعمائة بالقاهرة، وبويع في يوم عيد غدير خم، وهو الثامن عشر من ذي الحجة سنة سبع وثمانين وأربعمائة، وتوفي بمصر يوم الثلاثاء لثلاث عشرة ليلة بقيت (1) من صفر سنة خمس وتسعين وأربعمائة، رحمه الله تعالى، [وله من العمر ثمان وعشرون سنة وأيام، فكانت مدة ولايته سبع سنين وكسراً؛ وتولى بعده ولده أبو علي المنصور الملقب بالآمر، وله من الهمر خمس سنين وشهر وأربعة أيام، ولم يكن في من تسمى بالخلافة قط أصغر منه ومن المستنصر، وكان المستنصر أكبر من هذا، ولم يقدر يركب وحده الفرس. وقام بتدبير دولته الأفضل ابن أمير الجيوش أحسن قيام إلى أن قتل في التاريخ المذكور في بابه في حرف الشين] . 75 - (2) عماد الدين ابن المشطوب أبو العباس أحمد ابن الأمير سيف الدين أبي الحسن علي بن أحمدبن أبي الهيجاء ابن عبد الله بن أبي الخليل (3) ابن مرزبان (4) الهكاري المعروف بابن المشطوب الملقب عماد الدين، والمشطوب لقب والده، وإنما قيل له ذلك لشطبة كانت بوجهه؛ كان أميراً كبيراً وافر الحرمة عند الملوك، معدوداً بينهم مثل واحد منهم، وكان عالي الهمة غزيرة الجود واسع الكرم شجاعاً أبي النفس تهابه الملوك وله وقائع مشهورة في الخروج عليهم، ولا حاجة إلى ذكرها. وكان من أمراء الدولة الصلاحية، فإن والده لما توفي وكانت نابلس إقطاعاً   (1) أج: خلت. (2) تجد أخباره في صفحات متفرقة من كتاب " مرآة الزمان ". (3) أج: عبد الجليل. (4) د: مهرزان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 له أرصد منها السلطان صلاح الدين رحمه الله تعالى الثلث لمصالح بيت المقدس وأقطع ولده عماد الدين المذكور باقيها. وجده أبو الهيجاء كان صاحب العمادية وعدة قلاع من بلاد الهكارية. ولم يزل قائم الجاه والحرمة إلى أن صدر منه في سنة دمياط ما قد شهر، وقد شرحت ذلك في ترجمة الملك الكامل، فانفصل عن الديار المصرية، وآلت حاله إلى أن حوصر في شهر بيع الآخر بتل يعفور (1) القلعة التي بين الموصل وسنجار، والقصة مشهورة، فراسله الأمير بدر الدين لؤلؤ أتابك صاحب الموصل ولم يزل يخدعه ويطمنه إلى أن أدعن للانقياد، وحلف له على ذلك، فانتقل إلى الموصل، وأقام (2) بها قليلاً، ثم قبض عليه، وذلك في سنة سبع عشرة وستمائة وأرسله إلى الملك الأشرف مظفر الدين ابن الملك العادل. وإنما قبض عليه تقريباً إلى قلبه، فإن خروجه في هذه الدفعة كان عليه، فاعتقله الملك الأشرف في قلعة حران، وضيق عليه تضييقا شديدا، من الحديد الثقيل في رجليه والخشب في يديه، وحصل في رأسه ولحيته وثيابه من القمل شيء كثير على ماقيل، وكنت أسمع بذلك في وقته وأنا صغير، وبلغني أن بعض من كان متعلقاً بخدمته كتب في ذلك الوقت إلى الملك الأشرف دوبيت في معناه وهو: يا من بدوام سعده دار فلك ... ما أنت من الملوك بل أنت ملك مملوكك ابن المشطوب في السجن هلك ... أطلقه فإن الأمر لله ولك ومكث على تلك الحال إلى أن توفي (3) في الاعتقال في شهر ربيع الآخر سنة تسع عشرة وستمائة، وبنت له ابنته قبة على باب مدينة رأس عين، ونقلته من حران إليها ودفنته بها، رحمه الله تعالى؛ ورأيت قبره هناك. ولما كان في السجن كتب إليه بعض الأدباء دوبيت، وهو:   (1) هـ: يعقوب؛ وهو تل أعفر أو يعفر (ياقوت) . (2) هـ: فأقام. (3) هـ: هلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 يا أحمد مازلت عماداً للدين ... يا أشجع من أمسك رمحاً بيمين لا تأس (1) إذا حصلت (2) في سجنهم ... ها يوسف قد أقام في السجن سنين وهذا مأخوذ من قول البحتري من جملة أبيات (3) : أما في رسول الله يوسف أسوة ... لمثلك محبوساً على الظلم والإفك أقام جميل الصبر في السجن برهة (4) ... فآل به الصبر الجميل إلى الملك وكانت ولادة الأمير عماد الدين في سنة خمس وسبعين وخمسمائة (5) تقديراً. ورأيت في بعض رسائل القاضي الفاضل أن الأمير سيف الدين أبا الحسن علي ابن أحمد الهكاري المعروف بالمشطوب كتب إلى الملك الناصر صلاح الدين يخبره بولادة ولده عماد الدين أبي العباس أحمد، وأن عنده امرأة أخرى حاملاً، فكتب القاضي الفاضل جوابه " وصل كتاب الأمير دالاً على الخبر بالولدين، الحال على التوفيق، والسائر كتب الله سلامته في الطريق، فسررنا بالغرة الطالعة من لثامها، وتوقعنا المسرة بالثمرة الباقية في أكمامها. (8) وأما والده سيف الدين المشطوب فإن السلطان صلاح الدين كان قد رتبه في عكا لما خاف عليها من الفرنج، هو بهاء الدين قراقوش - الآتي ذكره إن شاء الله تعالى - ولم يزل بها حتى حاصرها الفرنج بها وأخذوها. ولما خلص منها وصل إلى السلطان وهو بالقدس، يوم الخميس مستهل جمادى الآخرة سنة ثمان وثمانين وخمسمائة. قال ابن شداد (6) : دخل على السلطان بغته، وعنده أخوه الملك العادل، فنهض إليه واعتنقه، وسر به سروراً عظيماً، وأخلى المكان وتحث معه طويلاً.   (1) أده: لا تيأس. (2) د: جعلت. (3) ديوان البحتري: 1568. (4) د: مدة. (5) هـ: 557. (6) انظر سيرة ابن شداد: 201. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 وكانت وفاة سيف الدين يوم الخميس السادس والعشرين من شوال (1) سنة ثمان وثمانين وخمسمائة بنابلس، رحمه الله تعالى؛ هكذا ذكره العماد الكاتب الأصبهاني في كتاب البرق الشامي. وقال بهاء الدين بن شداد في كتابه سيرة صلاح الدين إنه نزفي يوم الأحد الثالث والعشرين من شوال من السنة المذكورة بالقدس الشريف، ودفن في داره بعد أن صلي عليه بالمسجد الأقصى. ولم يكن في أمراء الدولة الصلاحية أحد يضاهيه ولا يدانيه في المنزلة وعلو المرتبة، وكانوا يسمونه الأمير الكبير، وكان ذلك علماً عليه عندهم لا يشاركه فيه غيره، ورأيت بخط القاضي الفاضل " ورد الخبر بوفاة الأمير سيف الدين المشطوب، أمير الأكراد وكبيرهم. وكانت وفاته يوم الأحد الثاني والعشرين من شوال من السنة المذكورة بالقدس، وخبزه يوم وفاته بنابلس وغيرها ثلثمائة ألف دينار، وكان بين خلاصه من أسره وحضور أجله دون مائة يوم. فسبحان الحي الذي لا يموت، وتهدم به بنيان قوم، والدهر قاض ما عليه لوم ". قلت: وقوله " وتهدم به بنيان قوم " هذا الكلام حل فيه بيت الحماسة وهو (2) : فما كان قيس هلكه هلك واحد ... ولكنه بنيان قوم تهدما وهذا البيت من جملة مرثية عبدة بن الطبيب التي رثى بها قيس بن عاصم التميمي الذي قدم من البادية على النبي صلى الله عليه وسلم في وقد بني تميم في سنة تسع للهجرة، وأسلم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في حقه: هذا سيد أهل الوبر، وكان عاقلاً مشهوراً بالحلم والسودد، وهذا البيت لأهل العربية في إعرابه كلام ليس هذا موضع ذكره، وقد ذكره أبو تمام الطائي في باب المراثي من جملة ثلاثة أبيات، وهي: عليك سلام الله قيس بن عاصم ... ورحمته ما شاء أن يترحما   (1) ج: شعبان. (2) انظر السمط: 69 والحماسية رقم 263 (شرح المرزوقي) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 تحية من غادرته غرض الردى ... إذا زار عن شحط بلادك سلما فما كان قيس هُلكُه هلك واحد ... ولكنه بنيان قومٍ تهدما وهذا قيس أول من وأد البنات في الجاهلية للغيرة والأنفة من النكاح، وتبعه الناس في ذلك إلى أن أبطله الإسلام. (9) وأما الأمير بدر الدين لؤلؤ المذكور، فإنه توفي يوم الجمعة ثالث شعبان سنة سبع وخمسين وستمائة بقلعة الموصل، ودفن بها في مشهد هناك، وعمره مقدار ثمانين سنة، رحمه الله تعالى. 76 - (1) صلاح الدين الإربلي أبو العباس أحمد بن عبد السيد بن شعبان بن محمد بن جابر بن قحطان الإربلي الملقب صلاح الدين، وهو من بيت كبير بإربل؛ وكان حاجباً عن الملك المعظم مظفر الدين بن زين الدين صاحب إربل، فتغير عليه واعتقله مدة، فلما أفرج عنه خرج منها قاصداً بلاد الشام في سنة ثلاث وستمائة (2) صحبة الملك القاهر بهاء الدين أيوب ابن الملك العادل، فاتصل بخدمة الملك المغيث ابن الملك العادل، وكان قد عرفه من إربل، وحسنت حاله عنده، فلما توفي المغيث انتقل الصلاح إلأى الديار المصرية، وخدم الملك الكامل، فعظمت منزلته عنده، ووصل منه إلى ما لم يصل إليه غيره، واختص به في خلواته وجعله أميراً. وكان الصلاح ذا فضيلة تامة ومشاركات حسنة. بلغني أنه كان يحفظ   (1) للصلاح اربلي ترجمة في مرآة الزمان: 692 والوافي 7، الورقة: 29 والشذرات 143. (2) هـ: 606. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 " الخلاصة " في الفقه للإمام الغزالي، وله نظم حسن ودوبيت رائق، وبه تقدم عند الملوك. ثم إن الملك الكامل تغير عليه واعتقله في المحرم سنة ثماني عشرة وستمائة وهو بالمنصورة في قبالة الفرنج، ويره إلى قلعة القاهرة، ولم يزل في الاعتقال مضيقا عليه على هذه الحال إلى شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وعشرين وستمائة، فعمل الصلاح دوبيت وأملاه على بعض القيان، فغناه عند الملك الكامل، فاستحسنه وسأله: لمن هذا فقال: للصلاح، فأمر بالإفراج عنه، والدوبيت المذكور: ما أمر تجنيك على الصب خفي ... أفنيت زماني بالأسى والأسف ماذا غضب بقدر ذنبي ولقد ... بالغت وما أردت إلا تلفي وقيل: إن الدوبيت الذي كان سبب خلاصه قوله: اصنع ما شئت أنت أنت المحبوب ... ما لي ذنب، بلى كما قلت ذنوب هل تسمح بالوصال في ليلتنا ... تجلو صدأ القلب وتعفو وأتوب فلما خرج عادت مكانته عنده إلى أحسن مما كانت عليه. وكان الملك الكامل قد تغير على بعض إخوته - وهو الملك الفائز سابق الدين إبراهيم ابن الملك العادل - فدخل على الصلاح وسأله أن يصلح أمره مع أخيه الملك الكامل، فكتب الصلاح إليه (1) : من شرط صاحب مصر أن يكون كما ... قد كان يوسف في الحسنى لإخوته أسوا فقابلهم بالعفو، وافتقروا ... فبرهم، وتولاهم برحمته وعند وصول الأنبرور (2) صاحب صقلية إلى ساحل الشام في سنة ست   (1) اب هـ: فأجابه الصلاح وكتب إليه. (2) الأنبرور (eMPEROR) هو الإمبراطور فردريك الثاني صاحب صقلية، وقد زار البلاد المقدسة وأخذ القدس صلحاً من الملك؛ وكان عالماً متبحراً في علم الهندسة والرياضيات، وهو الذي وجه المسائل الصقليات إلى ابن سبعين، وفي بلاطه عاش كثير من العلماء وترجموا كثيراً من الكتب العربية، وقد طان الإمبراطور نفسه يتكلم العربية لأن قاضي صقلية هو الذي رباه (انظر: العرب في صقلية للدكتور إحسان عباس ص: 319 وفيه ذكر للمصادر الهامة عن هذا الإمبراطور) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 وعشرين وستمائة بعث الملك الكامل الصلاح إليه رسولاً، فلما قرر القواعد واستحلفه كتب إلى الملك الكامل: زعم الزعيم (1) الأنبرور بأنه ... سلم يدوم لنا على أقواله شرب اليمين فإن تعرض ناكثاً ... فليأكلن لذاك لحم شماله ومن شعره أيضاً: وإذا رأيت بنيك فاعلم أنهم ... قطعوا إليك مسافة الآجال وصل البنون إلى محل أبيهم ... وتجهز الآباء للترحال وأنشدني بعض أصحابنا له: يوم القيامة فيه ما سمعت به ... من كل هول فكن منه على حذر يكفيك من هوله أن لست تبلغه ... إلا إذا ذقت طعم الموت في السفر وكتب إليه شرف الدين ابن عنين الشاعر الدمشقي كتابناً من دمشق إلى الديار المصرية، قال لي صاحبنا عفيف الدين أبو الحسن علي بن عدلان النحوي المترجم الموصلي: إن هذا الكتاب كان على يده، وتضمن الوصية عليه، وفي أوله: أبثك ما لقيت من الليالي ... فقد قصت نوائبها جناحي وكيف يفيق من عنت الرزايا ... مريض ما يرى وجه الصلاح وللصلاح المذكور ديوان شعر وديوان دوبيت، وما زال وافر الحرمة عالي المنزلة عنده وعند الملوك. فلما قصد الملك الكامل بلاد الروم وهو في الخدمة   (1) أج د: اللعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 مرض في المعسكر بالقرب من السويداء، فحمل إلى الرها، فمات قبل دخولها في الخامس والعشرين من ذي الحجة سنة إحدى وثلاثين وستمائة ودفن بظاهرها، وقيل: مات يوم السبت العشرين من ذي الحجة ودفن بظاهر الرها بمقبرة باب حران، ثم نقله ولده من هناك إلى الديار المصرية، فدفنه في تربة هناك بالقرافة الصغرى في آخر شعبان سنة سبع وثلاثين وستمائة (1) ، وكنت يومئذ بالقاهرة. وكان تقدير عمره يوم وفاته ستين سنة، رحمه الله تعالى؛ ثم وقفت على تاريخ مولده في شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة بإربل. والإربلي - بكسر الهمزة وسكون الراء وكسر الباء الموحدة وبعدها لام - هذه النسبة إلى إربل، وهي مدينة كبيرة بالقرب من الموصل، من جهتها الشرقية. 77 - (2) ابن عبد الحميد الجرجاني أبو العباس أحمد بن أبي نصر الخصيب بن عبد الحميد بن الضحاك الجرجاني الأصل؛ كل وزير المستنصر بالله، ونفاه المستعين إلى جزيرة أقريطش بجريرة صدرت منه سنة 48 وكان ينسب إلى الطيش والتهور، وله في ذلك أخبار؛ وكان قد ركب يوماً فوقف له متظلم وشكا حاله فأخرج رجله من الركاب وزج المتكلم في فؤاده فقتله، فتحدث الناس بذلك فقال بعض الشعراء في ذلك الزمان هذين البيتين: قل للخليفة يابن عم محمد ... أشكل وزيرك إنه ركال أشكله عن ركل الرجال وإن ترد ... مالاً فعند وزيرك الأموال   (1) اج: سنة 639. (2) انظر ابن الطقطقي: 218 وابن الأثير 7: 111. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 يقال: ركله إذا رفسه، وأبوه الخصيب ممدوح أبي نواس الحكي، كان سبب توليته أن الرشيد قرأ يوماً في المصحف فانتهى إلى قوله تعالى: أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجرى من تحتي، الآية فقال: لعنه الله ما كان أرقعه، ادعى الربوبية بملك مصر، والله لأولينها أخس خدمي، فولاها الخصيب وكان على وضوئه. ولأبي نواس فيه قصيدتاه الرائيتان وكان قد قصده بهما إلى مصر وهو أميرها، وما أحسن قوله في إحداهما: تقول التي من بيتها خف مركبي ... عزيز علينا أن نراك تسير أما دون مصر للغنى متطلب ... بلى إن أسباب الغنى لكثير فقلت لها واستعجلتها بوادر ... جرت فجرى من جريهن عبير دعيني أكثر حاسديك برحلةٍ ... إلى بلدٍ فيه الخصيب أمير (1) وهي طويلة وأجازه عليها جائزة سنية. وكانت وفاة أحمد المذكور سنة 265 وكان نفيه إلى أقريطش في سنة248. وأقريطش جزيرة ببلاد المغرب (2) خرج منها جماعة من العلماء وأخذها الفرنج سنة350. 78 - (3) عزيز الدين المستوفي أبو نصر أحمد بن حامد بن محمد بن عبد الله بن علي بن محمود بن هبة الله بن أله الأصبهاني الملقب عزيز الدين المستوفي عم العماد الكاتب الأصبهاني،   (1) اكتفينا بهذا القدر من القصيدة وحذفنا 10 أبيات لأن القصيدة وردت في ترجمة ابن دراج. (2) كذا، وهو واضح الخطأ. (3) ترجمة عم العماد في المنتظم 10: 28 ومعجم الألقاء 1/4: 403 والنقل فيه عن الخريدة، وقال فيه العماد " اخترع في علم الاسيفاء رسوماً، وأجد فيه رقوماً، وصنف للمالك قانوناً، وتولى المملكة السلجوقية وكان صدور المملكة جهالاً يحسدون العزيز لعلمه ... ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى. كان العزيز المذكور رئيسا كبير القدر، ولي المناصب العلية في الدولة السلجوقية، ولم يزل مقدماً فيها، قصده بنو الحاجات، ومدحه الشعراء، وأحسن جوائزهم. وفيه يقول أبو محمد الحسن بن أحمد بن جكينا البغدادي الشاعر المشهور من جملة قصيدة: أميلوا (1) بنا نحو العراق ركابكم ... لنكتال من مال العزيز بصاعه وللقاضي أبي بكر أحمد بن محمد الأرجاني المقدم ذكره فيه مدائح، والأبيات البائية المذكورة في ترجمته هي من جملة قصيدة طويلة يمدح بها عزيز الدين المذكور، وكان ابن أخيه العماد يفتخر به كثيراً، وقد ذكره في أكثر تواليفه (2) ، وكان في آخر أمره متولي الخزانة للسلطان محمود بن محمد بن ملكشاه بن ألب أرسلان السلجوقي. وكان السلطان محمود المذكور زوج بنت عمه السلطان سنجر بن ملكشاه، فماتت عنده فطالبه عمه بما خرج معها في جهازها من أنواع التحف والغرائب التي لا توجد في خزائن الملوك، فجحدها محمود، وخاف من عزيز الدين ان يشهد بما وصل صحبتها لأنه كان مطلعاً عليه من جهة الخزانة، فقبض عليه وسيرة إلى قلعة تكريت، وكانت القلعة له إذ ذاك، فحبسه بها ثم قتله بعد ذلك في أوائل سنة خمس وعشرين وخمسمائة، رحمه الله تعالى. وذكر ابن أخيه العماد الكاتب في كتاب " الخريدة " أن مولده بأصبهان سنة اثنتين وسبعين وأربعمائة، وقتله سنة ست وعشرين وخمسمائة بتكريت، وكان قبضه ببغداد، وذكر العماد الكاتب أنه لما قتل كان الميران نجم الدين أيوب أبو السلطان صلاح الدين واخوه أسد الدين شيركو في القلعة المذكورة متوليي أمورها وأنهما دافعا عنه فما أجدى الدفاع.   (1) د ب هـ: فميلوا. (2) د: تعاليقه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 وأله - بفتح الهمزة وضم اللام وسكون الهاء - لفظة عجمية معناها بالعربية العقاب، وق تقدم الكلام في ضبط اصبهان فلا حاجة إلى الإعادة. 79 - (1) أبو العباس القسطلاني الشيخ أبو العباس أحمد بن علي القسطلاني صحب الشيخ أبا عبد الله القرشي وانتفع به وتمت عليه بركته وروى عنه وجمع جميع كلامه وما كان يصدر عنه في مجلد كبير ووقفت عليه ونقلت منه ما مثاله: قال أبو العباس أحمد بن علي القسطلاني رحمه الله في ذي الحجة سنة عشر وستمائة سمعت الشيخ أبا عبد الله القرشي يقول: كنت عند الشيخ أبي إسحاق إبراهيم بن طريف حاضراً فأتى ليه إنسان فسأله: هل يجوز للإنسان أن يعقد على نفسه عقداً لا يحله إلا بنيل مطلوبه فقال الشيخ: نعم، واستدل بحديث أبي لبابة الأنصاري في قصة بني النضير، وقوله صلى الله عليه وسلم: أما أنه لو أتاني لاستغفرت له ولكن إذا فعل ذلك بنفسه، فدعوه حتى يحكم الله فيه؛ قال: فسمعت هذه المسألة وعقدت على نفسي أنني لا أتناول شيئا إلا بإظهار قدره فمكثت ثلاثة أيام وكنت إذ ذاك أعمل في الحانوت صناعتي، فبينا أنا جالس على الكرسي إذ ظهر لي شخص بيده شيء في إناء فقال لي: اصبر إلى العشاء تأكل من هذا، ثم غاب عني، فبينا أنا في وردي بين العشاءين إذ انشق الجدار وظهرت لي حوراء بيدها ذلك الإناء الذي كان بيد ذلك الشخص فيه شيء يشبه العسل، فتقدمت إلي وألعقتني منه ثلاثا فصعقت وغشي علي ثم أفقت وقد ذهبت فلم يطب لي بعد ذلك طعام، وأشربت في قلبي تلك الصورة فما استحسنت بعدها شخصا ولا كنت أتمكن من سماع كلام الخلق.   (1) انفردت مخطوطة آيصوفيا 3532 بهذه الترجمة، وانظر الديباج: 67 ونيل الابتهاج: 63 على هامشه والشذرات 5: 179. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 80 - (1) أرتق أرتق بن اكسب جد الملوك الأرتقية؛ هو رجل من التركمان تغلب على حلوان والجبل ثم سار إلى الشام مفارقا لفخر الدولة أبي نصر محمد بن جهير خائفا من السلطان محمد بن ملكشاه، وذلك في سنة ثمان أوتسع واربعين وأربعمائة، وملك القدس من جهة تاج الدولة تتش السلجوقي الآتي ذكره إن شاء الله تعالى، ولما توفي أرتق في التاريخ المذكور فيه تولاه بعده ولداه سكمان وإبلغازي ابنا أرتق، ولم يزالا به حتى قصدهما الأفضل شاهنشاه (2) أمير الجيوش الآتي ذكره إن شاء الله تعالى من مصر بالعساكر، واخذه (3) منهما في شوال سنة إحدى وتسعين وأربعمائة (4) ، وتوجها إلى بلاد الجزيرة الفراتية وملكا ديار بكر. وصاحب قلعة ماردين الآن من أولاده، وملك ولده نجم الدين إيلغازي مدينة ماردين سنة إحدى وخمسمائة، وكان ولاه السلطان محمد شحنكية بغداد، وتوفي سكمان بن أرتق بعلة الخوانيق في طريق الفرات بين طرابلس والقدس، سنة ثمان وتسعين وأربعمائة. وكان أرتق رجلا شهما ذا عزمة (5) وسعادة وجد واجتهاد. وتوفي سنة أربع وثمانين وأربعمائة، رحمه الله تعالى. وهو بضم الهمزة وسكون الراء وضم التاء المثناة من فوقها وبعدها قاف. وأكسب: بفتح الهمزة وسكون الكاف وفتح السين المهملة وبعدها باء موحدة. وقيل: هو أكسك - بالكاف بد الباء - والله أعلم.   (1) لأرتق ترجمة في الوافي 8، الورقة: 155. (2) ب هـ: شاهنشاه. (3) د: فأخذه. (4) زاد في د: وقيل شعبان سنة 492. (5) أج هـ: عزيمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 81 - (1) أرسلان البساسيري أبو الحارث أرسلان بن عبد الله البساسيري التركي مقدم الأترك ببغداد، يقال: إنه كان مملوك بهاء الدولة بن عضد الدولة بن بويه، والله أعلم؛ وهو الذي خرج على الإمام القائم بأمر الله ببغداد، وكان قد قدمه على جميع التراك، وقلده الأمور بأسرها، وخطب له على منابر العراق وخوزستان فعظم أمرهوهابته الملوك، ثم خرج على الإمام القائم وأخرجه من بغداد، وخطب للمستنصر العبيدي صاحب مصر، فراح الإمام القائم إلى أمير العرب محيي الدين أبي الحارث مهارش بن المجلي العقيلي صاحب الحديثة وعانة فآواه وقام بجميع ما يحتاج إليه مدة سنة كاملة حتى جاء طغرلبك السلجوقي المذكور بعد هذا وقاتل البساسيري المذكور وقتله وعاد القائم إلى بغداد، وكان دخوله إليها في مثل اليوم الذي خرج منها بعد حول كامل، وكان ذلك من غرائب الاتفاق وقصته مشهورة، وقتله عسكر السلطان طغرلبك السلجوقي ببغداد يوم الخميس خامس عشر ذي الحجة، وقال ابن العظيمي: يوم الثلاثاء حادي عشر ذي الحجة سنة إحدى وخمسين وأربعمائة وطيف برأسه في بغداد وصلب قبالة باب النوبي. والبساسيري - بفتح الباء الموحدة والسين المهملة وبعد اللف سين مهملة مكسورة ثم ياء ساكنة مثناة من تحتها وبعدها راء - هذه النسبة إلى بلدة بفارس يقال لها بسا، والعربية فسا، والنسبة إلها بالعربي فسوي (2) ، ومنها   (1) انظر أخبار البساسيري في المنتظم 8: 201 والعبر 3: 225 والشذرات 3: 278 والوافي 8، الورقة: 157، وله ذكر في سيرة المؤيد هبة الله الشيرازي، وفي كتب التاريخ فيما يتصل بالأحداث بين الفاطميين والعباسيين (انظر مثلاً أخبار الدولة السلجوقية للحسيني ص: 18 - 22) . (2) ي د هـ: بالعربية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 الشيخ أبو علي الفارسي النحوي صاحب الإيضاح، ويقال له فسوي أيضا، وأهل فارس يقولون في النسبة إليها: البساسيري، وهي نسبة شاذة على خلاف الأصل، وكان سيد أرسلان المذكور من بسافنسب المملوك إليه، واشتهر بالبساسيري، هكذا ذكره السمعاني (1) نقلاً عن الديب أبي العباس احمد بن علي ابن بابه القاشي (2) ، وفي هذه اللفظة زيادة ليست في الأصل. ومات الأمير مهارش بن المجلس في صفر سنة تسع وتسعين وأربعمائة وقد ناهز ثمانين سنة، وهو مهارش بن المجلي بن عليث بن قبان بن شعب بن المقلد بن جعفر بن عمرو بن المهنا، وبقية نسبة ستأتي في ترجمة المقلد بن المسبب، إن شاء الله تعالى. 82 - (3) الملك العادل أتابك أبو الحارث أرسلان شاه بن عز الدين مسعود بن قطب الدين مودود بن عماد الدين زنكي بن آق سنقر صاحب الموصل المعروف بأتابك الملقب الملك العادل نور الدين، وسيأتي ذكر جماعة من أهل بيته إن شاء الله تعالى، كل واحد في حرفة. ملك نور الدين المذكور الموصل بعد وفاة أبيه في التاريخ المذكور هناك، وكان ملكا شهما عارفا بالأمور، وانتقل إلى مذهب الشافعي رضي الله عنه، ولم يكن في بيته شافعي سواه، وبنى مدرسة الشافعية بالموصل قل أن توجد مدرسة في حسنها. وتوفي ليلة الأحد التاسع والعشرين من رجيب سنة سبع وستمائة (4) في شبارة   (1) انظر الأنساب 2: 218. (2) في الأصول: القابسي، والتصويب عن الأنساب. (3) ترجمته في الوافي 8، الورقة: 157 والشذرات 5: 24 والتاريخ الباهر: 189 - 201. (4) د: 19 رجب سنة 609. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 بالشط ظاهر الموصل - والشبارة عندهم هي الحراقة بمصر - وكتم موته حتى دخل به إلى دار السلطنة بالموصل. ودفن في تربته التي بمدرسته المذكورة، رحمه الله تعالى. وخلف ولدين هما الملك القاهر عز الدين مسعود، والملك المنصور عماد الدين زنكي. وهما مذكوران في ترجمة جدهما عز الدين مسعود بن مودود بن زنكي فليطلب منه إن شاء الله تعالى، وقام بالمملكة بعده ولده الملك القاهر كما هومشروح هناك، وهو أستاذ الأمير بدر الدين أبي الفضائل لؤلؤ الذي تغلب على الموصل وملكها في سنة ثلاثين وستمائة في أواخر شهر رمضان، وكان قبل نائبا بها ثم استقل. وهو المذكور في ترجمة عماد الدين بن المشطوب. 83 - (1) أزهر السمان أبو بكر أزهر بن سعد (2) السمان الباهلي بالولاء البصري؛ روى الحديث عن حميد الطويل، وروى عنه أهل العراق، كان يصحب أبا جعفر المنصور قبل أن يلي الخلافة، فلما وليها جاءه أزهر مهنئا، فحجبه المنصور فترصد له (3) يوم جلوسه العام وسلم عليه، فقال له المنصور: ما جاء بك قال: جئت مهنئا بالأمر، فقال المنصور: أعطوه ألف دينار، وقولو له: قد قضيت وظيفة الهناء، فلا تعد إلي، فمضى وعاد في قابل، فحجبه فدخل عليه في مثل ذلك المجلس وسلم عليه، فقال له: ما جاء بك فقال له: سمعت أنك مرضت فجئتك عائدا، فقال: أعطوه ألف دينار وقولوا له: قد قضيت وظيفة العيادة   (1) ترجمة أزهر السمان في الوافي 8، الورقة: 172 والعبر 1: 339 والشذرات 2: 5. (2) أج: أسعد. (3) ج: فرصده أزهر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 فلا تعد إلي، فإني قليل الأمراض. فمضى وعاد في قابل، فقال له في مثل ذلك المجلس: ما جاء بك فقال: سمعت منك دعاء مستجابا فجئت لأتعلمه منك، فقال له: يا هذا، إنه غير مستجاب، إني في كل سنة أدعو الله به أن لا تأتيني وأنت تأتي. وله وقائع وحكايات مشهورة. وكانت ولادته سنة إحدى عشرة ومائة. وتوفي سنة ثلاث ومائتين، وقيل: سبع ومائتين، رحمه الله تعالى. وأزهر - بفتح الهمزة وسكون الزاي وفتح الهاء وبعدها راء - وهو اسمم علم. والسمان - بفتح السين المهملة وتشديد الميم وبعد الألف نون - هذه النسبة إلى بيع السمن وحمله. والبصري - بفتح الباء الموحدة وكسرها وسكون الصاد المهملة وبعدها راء - هذه النسبة إلى البصرة، وهي من أشهر مدن العراق وهي إسلامية، بناها عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في سنة أربع عشرة للهجرة على يد عتبة ابن غزوان، رضي الله عنه. قال ابن قتيبة في كتاب " أدب الكاتب " (1) في باب ما تغير من أسماء البلاد البصرة: الحجارة الرخوة فإن حذفوا الهاء قالوا: البصر - بكسر الباء - وإنما أجازوا في النسب بصري لذلك، والبصر أيضاً: الحجارة الرخوة، قاله في الصحاح. 84 - (2) أسامة بن منقذ أبو المظفر أسامة بن مرشد بن علي مقلد بن نصر بن منقذ الكناني   (1) أدب الكاتب: 457. (2) لأسامة ترجمة في معجم الأدباء 5: 188 وتهذيب ابن عساكر 2: 400 والخريدة (قسم الشام) 1: 499 والوافي 8، الورقة: 174 وكتابه " الاعتبار " يمثل جانباً من سيرة حياته، وله من الكتب المطبوعة: لباب الآداب والمنازل والديار وديوان شعره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 الكلبي الشيزري الملقب مؤيد الدولة مجد الدين، من أكابر بني منقذ أصحاب قلعة شيزر وعلمائهم وشجعانهم، له تصانيف عديدة في فنون الأدب. ذكره أبو البركات ابن المستوفي في تاريخ إربل وأثنى عليه وعده في جملة من ورد عليه وأورد له مقاطيع من شعره. وذكره العماد الكاتب في الخريدة وقال بعد الثناء عليه: سكن دمشق ثم نبت به كما تنبو الدار بالكريم، فانتقل إلى مصر فبقي بها مؤمراً مشاراً إليه بالتعظيم إلى أيام الصالح بن رزيك. ثم عاد إلى الشام وسكن دمشق، ثم رماه الزمان إلى حصن كيفا، فأقام به حتى ملك السلطان صلاح الدين - رحمه الله تعالى - دمشق، فاستدعاه وهو شيخ قد جاوز الثمانين. وقال غير العماد: إن قدومه مصر كان في أيام الظافر بن الحافظ والوزير يومئذ العادل بن السلار، فأحسن إليه وعمل عليه حتى قتل حسبما هو مشروح في ترجمته. قلت: ثم وجدت جزءا كتبه بخطه للرشيد بن الزبير حتى يلحقه بكتاب الجنان، وكتب عليه أنه كتبه بمصر سنة إحدى وأربعين وخمسمائة، فيكون قد دخل مصر في أيامه وأقام بها حتى قتل العادل بن السلار، إذ لا خلاف أنه حضر هناك وقت قتله. وله ديوان شعر في جزأين موجود في أيدي الناس ورأيته بخطه. ونقلت منه قوله (1) : لا تستعر جلداً على هجرانهم ... فقواك تضعف من صدود دائم واعلم بأنك إن رجعت إليهم ... طوعاً وإلا عدت عودة راغم ونقلت منه في ابن طليب المصري، وقد احترقت داره: انظر إلى الأيام كيف تسوقنا ... قسراً إلى الإقرار بالأقدار ما أوقد ابن طليب قط بداره ... ناراً وكان خرابها بالنار   (1) ديوانه: 42. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 (10) ومما يناسب هذه الواقعة أن الوجيه ابن صورة المصري دلال الكتب كانت له بمصر دار موصوفة بالحسن فاحترقت، فعمل نشء الملك أبو الحسن علي ابن مفرج المعروف بابن المنجم (1) المعري الأصل المصري الدار والوفاة: أقول وقد عاينت دار ابن صورة ... وللنار فيها مارج يتضرم كذا كل مال أصله من مهاوش ... فعما قليل في نهابر يعدم وما هو إلا كافر طال عمره ... فجاءته لما استبطأته جهنم والبيت الثاني مأخوذ من قوله صلى الله عليه وسلم من أصاب مالاً من مهاوش أذهبه الله في نهابر، والمهاوش: الحرام، والنهابر: المهالك. والوجيه المذكور: هو أبو الفتوح ناصر بن أبي الحسن علي بن خلف الأنصاري المعروف بابن صورة، وكان سمساراً في الكتب (2) بمصر، وله في ذلك حظ كبير، وكان يجلس في دهليز داره لذلك، ويجتمع عنده في يومي الأحد والأربعاء أعيان الرؤساء والفضلاء ويعرض عليهم الكتب التي تباع، ولا يزالون عنده إلى انقضاء وقت السوق، فلما مات السلفي سار إلى الإسكندرية لبيع كتبه، ومات في السادس عشر من شهر ربيع الآخر سنة سبع وستمائة بمصر ودفن بقرافتها، رحمه الله تعالى. ولابن منقذ من قطعة يصف ضعفه: فاعجب لضعف يدي عن حملها قلما ... من بعد حطم القنا في لبة الأسد ونقلت من ديوانه أيضاً أبياتاً كتبها إلى أبيه مرشد جوابا عن ابيات كتبها أبوه إليه، وهي (3) :   (1) كتب في الخريدة " نشو الدولة "، ضمن الصابون والملاهي واكتسب في عسف الناس المناهي، فشكوه فنفي إلى عيذاب ثم رحل إلى اليمن والشام في خدمة تورانشاه (انظر الخريدة 1: 168 والحاشية) . (2) أ: سمسار الكتب. (3) ديوان أسامة: 115. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 وما أشكو تلون أهل ودي ... ولو أجدت شكيتهم شكوت مللت عتابهم ويئست منهم ... فما أرجوهم فيمن رجوت إذا أدمت قوارصهم فؤادي ... كظمت على أذاهم وانطويت ورحت عليهم طلق المحيا ... كأني ما سمعت ولا رأيت تجنوا لي ذنوباً ما جنتها ... يداي ولا أمرت ولا نهبت ولا والله ما أضمرت غدراً ... كما قد أظهروه ولا نويت ويوم الحشر موعدنا وتبدو ... صحيفة ما جنوه وما جنيت وله بيتان في هذا الروي والوزن كتبهما في صدر كتاب إلى بعض أهل بيته في غاية الرقة والحسن، وهما: شكا ألم الفراق الناس قبلي ... وروع بالنوى حي وميت وأما مثل ما ضمت ضلوعي ... فإني ما سمعت ولا رأيت والشيء بالشيء يذكر، أنشدني الأديب أبو الحسين يحيى بن عبد العظيم المعروف بالجزار المصري (1) لنفسه في بعض أدباء مصر، وكان شيخاً كبيراً، وظهر عليه جرب فالتطخ بالكبريت، قال: فلما بلغني ذلك كتبت إليه: أيها السيد الأديب دعاءً ... من محب خال من التنكيت أنت شيخ وقد قربت من النا ... ر فكيف ادهنت بالكبريت ونقلت من خط الأمير أبي المظفر أسامة بن منقذ المذكور لنفسه، وقد قلع ضرسه، وقال: عملتهما ونحن بظاهر خلاط، وهو معنى غريب ويصلح أن يكون لغزاً في الضرس: وصاحب لا أمل الدهر صحبته ... يشقى لنفعي ويسعى سعي مجتهد   (1) الجمال أبو الحسين الجزار، كان أبوه وأقاربه جزارين بالفسطاط وكان هو في أول أمره قصاباً فحام على الأدب مدة حتى اشتهر. وشعره سهل يلقى قبولاً لسهولته وخفة روحه؛ وقد تجول كثيراً في البلاد المصرية وتوفي سنة 679 (المغرب: 296 وحسن المحاضرة 1: 327 والشذرات 5: 346 والنجوم الزاهرة 7: 345 والمسالك 12: 166 والفوات 2: 319) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 لم ألقه مذ تصاحبنا فحين بدا ... لناظري افترقنا فرقة الأبد قال العماد الكاتب: وكنت أتمنى أبداً لقياه وأشيم على البعد حياه حتى لقيته في صفر سنة إحدى وسبعين وسألته عن مولده، فقال: يوم الأحد السابع والعشرين من جمادى الآخرة سنة ثمان وثمانين وأربعمائة. قلت: بقلعة شيرز. وتوفي ليلة الثلاثاء الثالث والعشرين من شهر رمضان سنة اربع وثمانين وخمسمائة بدمشق، رحمه الله تعالى؛ ودفن من الغد شرقي جبل قاسيون ودخلت تربته وهي على جانب نهر يزيد الشمالي، وقرأت عنده شيئا من القرآن وترحمت عليه. وتوفي والده أبو أسامة مرشد سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة، رحمه الله تعالى. وشيزر - بفتح الشين المثلثة وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها زاي مفتوحة ثم راء - قلعة بالقرب من حماة وهي معروفة بهم، وسيأتي ذكرها في حرف العين عند ذكر جده علي بن مقلد، إن شاء الله تعالى. 85 - (1) ابن راهويه أبو يعقوب إسحاق بن أبي الحسن إبراهيم بن مخلد بن إبراهيم بن عبد الله ابن مطر (2) بن عبيد الله بن غالب بن عبد الوارث بن عبيد الله بن عطية بن مرة بن كعب بن همام بن أسد بن مرة بن عمرو بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم ابن مرة الحنظلي المروزي المعروف بابن راهوية؛ جمع بين الحديث والفقه والورع، وكان احد أئمة الإسلام، ذكره الدارقطني فيمن روى عن الشافعي   (1) ترجمته في تهذيب ابن عساكر 2: 409 والوافي 8، الورقة: 178 والعبر 1: 426 وطبقات السبكي 1: 232 والشذرات 2: 89 وتاريخ بغداد 6: 345. (2) ج: مظفر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 رضي الله عنه، وعدة البيهقي في أصحاب الشافعي، وكان قد ناظر الشافعي في مسألة جواز بيع دور مكة (1) ، وقد استوفى الشيخ فخر الدين الرازي صورة ذلك المجلس الذي جرى بينهما في كتابه الذي سماه مناقب الإمام الشافعي رضي الله عنه فلما عرف فضله نسخ كتبه وجمع مصنفاته بمصر. قال أحمد بن حنبل رضي الله عنه: إسحاق عندنا إمام من ائمة المسلمين، وما عبر الجسر أفقه من إسحاق، وقال إسحاق: أحفظ سبعين ألف حديث، وأذاكر بمائة ألف حديث، وما سمعت شيئاً قط إلا حفظته، ولا حفظت شيئا قط فنسيته، وله مسند مشهور، وكان قد رحل إلى الحجاز والعراق واليمن والشام، وسمع من سفيان بن عيينة ومن في طبقته، وسمع منه البخاري ومسلم والترمذي. وكانت ولادته سنة إحدى وستين، وقيل: سنة ثلاث وستين، وقيل: سنة ست وستين ومائة، وسكن في آخر عمره نيسابور، وتوفي بها ليلة الخميس النصف من شعبان - وقيل: الأحد، وقيل: السبت - سنة ثمان، وقيل: سنة ثلاثين ومائتين، وقيل: سنة ثلاثين ومائتين، رحمه الله تعالى. وراهويه - بفتح الراء وبعد الألف هاء ساكنة ثم واو مفتوحة وبعدها ياء مثناة من تحتها ساكنة وبعدها هاء ساكنة - لقب أبيه أبي الحسن إبراهيم، وإنما لقب بذلك لآنه ولد في طريق مكة، والطريق بالفارسية " راه " و " ويه " معناه وجد، فكأنه وجد في الطريق، وقيل فيه أيضا " راهويه " بضم الهاء وسكون الواو وفتح الياء، وقال إسحاق المذكور: قال لي عبد الله بن طاهر أمير خراسان: لم قيل لك ابن راهويه وما معنى هذا وهل تكره أن يقال لك هذا قلت: اعلم أيها الأمير أن أبي ولد في الطريق فقالت المراوزة راهويه لأنه ولد في الطريق، وكان أبي يكره هذا، وأما أنا فلست أكره ذلك. ومخلد: بفتح الميم وسكون الخاء المعجمة وفتح اللام وبعدها دال مهملة. والحنظلي - بفتح الحاء المهملة وسكون النون وفتح الظاء المعجمة وبعدها   (1) ذكر السبكي هذه المناظرة ص: 236. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 لام - هذه النسبة إلى حنظلة بن مالك، ينسب إليه بطن من تميم. والمزوزي: قد تقدم القول فيه في المروروذي. 86 - (1) ابن مرار الشيباني أبو عمرو إسحاق بن مرار الشيباني النحوي اللغوي؛ هو من رمادة الكوفة ونزل إلى بغداد، وهو من الموالي، وجاور شيبان للتأديب فيها فنسب إليها، وكان من الأئمة الأعلام في فنونه، وهي: اللغة والشعر، وكان كثير الحديث كثير السماع ثقةً، وهو عند الخاصة من أهل العلم والرواية مشهور معروف. والذي قصر به عند العامة من أهل العلم أنه كان مشتهر بشرب النبيذ. وأخذ عنه جماعة كبار، منهم: الإمام أحمد بن حنبل وأبو عبيد القاسم بن سلام ويعقوب بن للسكيت صاحب إصلاح المنطق، وقال في حقه: عاش مائة وثماني عشرة سنة، وكان يكتب بيده إلى أن مات، وكان ربما استعار الكتاب مني وأنا إذ ذاك صبي آخذ عنه وأكتب من كتبه. وقال ابن كامل: مات إسحاق بن مرار في اليوم الذي مات فيه أبو العتاهية وإبراهيم النديم الموصلي سنة ثلاث عشرة ومائتين ببغداد. وقال غيره: بل توفي سنة ست ومائتين، وعمره مائة وعشر سنين، وهو الأصح، رحمه الله تعالى. وله من التصانيف كتاب الخيل، وكتاب اللغات وهو المعروف بالجيم ويعرف أيضا بكتاب الحروف، وكتاب " النوادر الكبير " ثلاث نسخ، وكتاب   (1) لابن مرار أبي عمرو الشيباني ترجمة في الزبيدي: 211 وتاريخ بغداد 6: 329 ومعجم الأدباء 6: 77 والوافي 8، الورقة: 194 ونزهة الألباء: 61 وانباه الرواة 1: 221 وبغية الوعاة: 192 وتهذيب التهذيب 12: 182 والبداية والنهاية 10: 265 والشذرات 2: 23 ونور القبس: 277. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 غريب الحديث، وكتاب النخلة، وكتاب الإبل وكتاب خلق الإنسان. وكان قد قرأ دواوين الشعراء على المفضل الضبي. وكان الغالب عليه النوادر وحفظ الغريب وأراجيز العرب. قال ولده عمرو: لما جمع أبي أشعار العرب ودونها كانت نيفا وثمانين قبيلة، وكان كلما عمل منها قبيلة وأخرجها إلى الناس كتب مصحفاً وجعله بمسجد الكوفة، حتى كتب نيفاً وثمانين مصحفاً بخطه. ومرار - بكسر الميم وبعدها راءان بينهما ألف -. والشيباني: قد تقدم القول فيه. وقيل: توفي يوم الشعانين سنة عشر، والله أعلم. 87 - (1) إسحاق الموصلي أبو محمد إسحاق بن إبراهيم بن ماهان بن بهمن بن نسك التميمي بالولاء الأرجاني الأصل المعروف بابن النديم الموصلي، وقد سبق ذكر أبيه والكلام في نسبته ونسبه فأغنى عن الإعادة؛ كان من ندماء الخلفاء وله الظرف المشهور والخلاعة والغناء اللذان تفرد بهما. وكان من العلماء باللغة والأشعار وأخبار الشعراء وأيام الناس، وروى عنه مصعب بن عبد الله الزبيري والزبير ابن بكار وغيرهما. وكان له يد طولى في الحديث والفقه وعلم الكلام. قال محمد بن عطية العطوي الشاعر: كنت في مجلس القاضي يحيى بن أكثم، فوافى إسحاق بن إبراهيم الموصلي، وأخذ يناظر أهل الكلام حتى انتصف   (1) راجع ترجمة إسحاق الموصلي في الأغاني 17: 62، 20: 284، وطبقات ابن المعتز: 360 وانباه الرواة 1: 215 وتاريخ بغداد 6: 338 والوافي 8، الورقة: 179 ومعجم الأدباء 6: 5 وتهذيب ابن عساكر 2: 414 ونزهة الألباء: 116 ونزر القبس: 316. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 منهم، ثم تكلم في الفقه، فأحسن وقاس واحتج، وتكلم في الشعر واللغة، ففاق من حضر، ثم أقبل على القاضي يحيى فقال له: أعز الله القاضي! أفي شيء مما ناظرت فيه وحكيته نقص أو مطعن قال: لا، قال: فما بالي أقوم بسائر هذه العلوم قيام أهلها وانسب إلى فن واحد قد اقتصر الناس عليه يعني الغناء. قال العطوي: فالتفت إلي القاضي يحيى وقال لي: الجواب في هذا عليك، وكان العطوي من أهل الجدل، فقال القاضي يحيى: نعم، أعز الله القاضي! الجواب علي. ثم أقبل على إسحاق فقال: يا أبا محمد، أنت كالفراء والخفش في النحو فقال: لا، فقال: فأنت في اللغة ومعرفة الشعر كالأصمعي وأبي عبيدة قال: لا، قال: فأنت في علم الكلام كأبي الهذيل العلاف والنظام ابلخي قال: لا، قال: فأنت في الفقه كالقاضي وأشار إلى القاضي يحيى، قال: لا، قال: فأنت في قول الشعر كأبي العتاهية وأبي نواس قال: لا، قال فمن ههنا نسبت إلى مانسبت إليه لأنه لا نظير لك فيه، وأنت في غيره دون رؤساء أهله، فضحك وقام وانصرف. فقال القاضي يحيى العطوي: لقد وفيت الحجة حقها، وفيها ظلم قليل لإسحاق، وغنه ممن يقل في الزمان نظيره. وذكر صاحبنا عماد الدين أبو المجد إسماعيل بن باطيش الموصلي في كتابه الذي سماه التمييز والفصل: أن إسحاق بن إبراهيم الموصلي كان مليح المحاورة والنادرة، ظريفاً فاضلاً، كتب الحديث عن سفيان بن عينية ومالك بن أنس وهشيم بن بشير وأبي معاوية الضرير، وأخذ الدب عن الأصمعي وأبي عبيدة، وبرع في علم الغناء فغلب عليه ونسب إليه. وكان الخلفاء يكرمونه ويقربونه، وكان المأمون يقول: لولا ما سبق لإسحاق على ألسنة الناس واشتهر بالغناء لوليته القضاء، فإنه أولى وأعف وأصدق وأكثر ديناً وأمانة من هؤلاء القضاة، ولكنه اشتهر بالغناء وغلب على جميع علومه، مع أنه أصغرها عنده، ولم يكن له فيه نظير. وله نظم جيد ديوان شعر، فمن شعره ما كتبه إلى هارون الرشيد: وآمرة بالبخل قلت لها اقصري ... فليس إلى ما تأمرين سبيل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 أرى الناس خلان الجواد ولا أرى ... بخيلاً له في العالمين خليل وإني رأيت البخل يزري بأهله ... فأكرمت نفسي أن يقال بخيل ومن خير حالات الفتى لو علمته ... إذا نال شيئاً ان يكون ينيل عطائي عطاء المكثرين تكرما ... وما لي كما قد تعلمين قليل وكيف أخاف الفقر أو أحرم الغنى ... ورأي أمير المؤمنين جميل وكان كثير الكتب، حتى قال أبو العباس ثعلب: رأيت لإسحاق الموصلي ألف جزء من لغات العرب، وكلها بسماعه. وما رأيت اللغة في منزل أحد قط أكثر منها في منزل إسحاق ثم منزل ابن الأعرابي. ونقلت من حكاياته أنه قال: كان لنا جار يعرف بأبي حفص، وينبز باللوطي، فمرض جار له فعاده، فقال له: كيف تجدك إنما تعرفني فقال له المريض بصوت ضعيف: بلى، أنت ابو حفص اللوطي، فقال له: تجاوزت حد المعرفة، لا رفع الله جنبك. وكان المعتصم يقول: ما غناني إسحاق بن إبراهيم قط إلا خيل لي أنه قد زيد في ملكي. وأخباره كثيرة، وكان قد عمي في أواخر عمره قبل موته بسنتين. ومولده في سنة خمسين ومائة، وهي السنة التي ولد فيها امام الشافعي، رضي الله عنه، كما سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى. وتوفي في شهر رمضان سنة خمس وثلاثين ومائتين بعلة الذرب، وقيل: في شوال سنة ست وثلاثين، والأول أشهر، وقيل: توفي يوم الخميس بعد الظهر لخمس خلون من ذي الحجة سنة ست وثلاثينن رحمه الله تعالى. ورثاه بعض أصحابه بقوله: أصبح اللهو تحت عفر التراب ... ثاوياً في محلة الحباب إذا مضى الموصلي وانقرض الأن ... س ومجت مشاهد الأطراب بكت الملهيات حزنا عليه ... وبكاه الهوى وصفو الشراب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 وبكت آلة المجالس حتى ... رحم العود عبرة المضراب وقيل: إن هذه المرثية في أبيه إبراهيم، والصحيح الأول. 88 - (1) إسحاق بن حنين أبو يعقوب إسحاق بن حنين بن إسحاق العبادي، الطبيب المشهور؛ كان أوحد عصره في علم الطب، وكان يلحق بأبيه في النقل، وفي معرفته باللغات وفصاحته فيها. وكان يعرب كتب الحكة التي بلغة اليونانيين إلى اللغة العربية كما كان يفعل أبوه، إلا أن الذي يوجد من تعريبه في كتب الحكمة من كلام (2) أرسطا طاليس وغيره أكثر مما يوجد من تعريبه لكتب الطب، وكان قد خدم من الخلفاء والرؤساء من خدمه أبوه، ثم انقطع إلى القاسم بن عبيد الله وزير الإمام المعتضد بالله، واختص به، حتى إن الوزير المذكور كان يطلعه على أسراره، ويفضي إليه بما يكتمه عن غيره. وذكر ابن بطلان في كتاب دعوة الأطباء (3) أن الوزير المذكور بلغه ان إسحاق المذكور استعمل دواء مسهلاً، فأحب مداعبته، فكتب إليه: أبن لي كيف أمسيت ... وما كان من الحال وكم سارت بك الناق ... ة نحو المنزل الخالي   (1) ترجمة إسحاق بن حنين في الوافي 8، الورقة: 188 وابن أبي أصيبعة 1: 71 وتاريخ الحكماء: 80. (2) أب ج: من كتب. (3) انظر كتاب دعوة الأطباء: 65 وفي تهذيب ابن عساكر 1: 458 أن الذي كتب البيتين الأولين هو جحظة، أو صديق للصنوبري، أرسلهما إلى الصنوبري فأجابه بالبيتين على قافية الفاء، وهذان ثابتان في ديوان الصنوبري المخطوط (الورقة: 154 ب) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 فكتب إليه جوابه: بخير بت مسروراً ... رخي البال والحال فأما السير والناق ... ة والمرتبع الخالي فإجلالك أنساني ... هـ يا غاية آمالي وكنت قد وقفت في كتاب الكنايات على مثل هذه القضية، فذكر أن الأول كتب البيتين الأولين وأن الثاني كتب الجواب: كتبت إليك والنعلان ما إن ... أقلهما من المشي العنيف (1) فإن رمت الجواب إلي فاكتب ... على العنوان يوصل (2) في الكنيف وله ولأبيه المصنفات المفيدة في الطب - وسيأتي ذكر أبيه إن شاء الله تعالى - ولحقه الفالج في آخر عمره. وكانت وفاته في شهر ربيع الآخر سنة ثمان وتسعين، وقيل: تسع وتسعين ومائتين. والعبادي - بكسر العين المهملة وفتح الباء الموحدة وبعد اللف دال مهملة - هذه النسبة إلى عباد الحيرة، وهم عدة بطون من قبائل شتى نزلوا الحيرة وكانوا نصارى ينسب إليهم خلق كثير، منهم عدي بن زيد العبادي الشاعر المشهور وغيره، قال الثعلبي في تفسيره في سورة المؤمنين في قوله تعالى فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون أي مطيعون متذللون، والعرب تسمي كل من دان الملك عابدا له، ومن ذلك قيل لأهل الحيرة العباد، لأنهم كانو أهل طاعة لملوك العجم. والحيرة - بكسر الحاء المهملة وسكون الياء المثناة من تحتها وفتح الراء وبعدها هاء - وهي مدينة قديمة كانت لبني المنذر ومن تقدمهم من ملوك العرب مثل عمرو بن عدي اللخمي، وهو جد بني المنذر ومن بعده من أبنائه، وكانت   (1) ديوان الصنوبري: أغبهما من السير العنيف. (2) ديوان الصنوبري: يدفع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 من قبل عمرو لخاله الأبرش الأزدي صااحب الزباء، وخربت الحيرة، وبنيت الكوفة في الإسلام على ظهرها في سنة سبع عشرة للهجرة، بناها عمر ابن الخطاب - رضي الله عنه - على يد سعد بن ابي وقاص، رضي الله عنه. 89 - (1) الميهني أبو الفتح أسعد بن ابي نصر ابن ابي الفضل الميهني، الفقيه الشافعي الملقب مجد الدين؛ كان إماماً مبرزاً في الفقه والخلاف، وله فيه تعليقة مشهورة، تفقه بمرو ثم رحل إلى غرنة واشتهر بتلك الديار وشاع فضله، وقد مدحه الغزي المقدم ذكره، ثم ورد إلى بغداد وفوض إليه تدريس المدرسة النظامية ببغداد مرتين، فا لأولى في سنة سبع وخمسمائة، ثم عزل في ثامن عشر شعبان سنة ثلاث عشرة، والمرة الثانية في سنة سبع عشرة في شعبان، وخرج إلى العسكر في ذي القعدة من السننة، وتولى غيره مكانه، واشتغل عليه الناس وانتفعوا به وبطريقته الخلافية، وذكره الحافظ أبو سعد السمعاني في الذيل وقال: قدم علينا من جهة السلطان محمود السلجوقي رسولاً إلى مرو، ثم توجه رسولاً من بغداد إلى همذان فتوفي بها سنة سبع وعشرين وخمسمائة، رحمه الله تعالى، قال السمعاني في الذيل: سمعت أبا بكر محمد بن علي بن عمر الخطيب يقول: سمعت فقيهاً من أهل قزوين - وكان يخدم الإمام أسعد في آخر عمره بهمذان - قال: كنا في بيت وقت أن قرب أجله فقال لنا: اخرجوا من ههنا، فخرجنا، فوقفت على الباب وتسمعت فسمعته يلطم وجهه ويقول: يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله، وجعل يبكي ويلطم وجهه ويردد هذه الكلمة إلى أن مات، رحمه الله تعالى؛ ذكر لي هذا أو معناه فإني كتبته من حفظي.   (1) ترجمة المهيني في طبقات السبكي 4: 203 وفيه أسعد بن محمد بن أبي نصر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 والميهني - بكسر الميم وسكون الياء المثناة من تحتها وفتح الهاء والنون - وهذه النسبة إلى ميهنة، وهي قرية من قرى خابران (1) وهي ناحية بين سرخس وأبيورد من إقليم خراسان. 90 - (2) منتجب الدين العجلي أبو الفتوح أسعد بن أبي الفضائل محمود بن خلف بن أحمد بن محمد العجلي الأصبهاني الملقب منتجب (3) الدين الفقيه الشافعي الواعظ؛ كان من الفقهاء الفضلاء الموصوفين بالعلم والزهد مشهوراً بالعبادة والنسك والقناعة (4) لا يأكل إلا من كسب يده، وكان يورق ويبيع ما يتقوت به، وسمع ببلده الحديث على أم إبراهيم فاطمة بنت عبد الله الجوزدانية (5) ، والحافظ أبي القاسم إسماعيل بن محمد ابن الفضل وأبي الوفاء غانم بن أحمد بن الحسن الجلودي وأبي الفضل عبد الرحيم ابن أحمد بن محمد البغدادي وأبي المطهر القاسم بن الفضل بن عبد الواحد الصيدلاني (6) وغيرهم، وقدم بغداد وسمع بها من ابي الفتح محمد بن عبد الباقي بن سلمان المعروف بابن البطي في سنة سبع وخمسين وخمسمائة وغيره. وله إجازة (7) حدث بها من أبي القاسم زاهر بن طاهر الشحامي وأبي الفتح إسماعيل بن الفضل الإخشيد   (1) قال ياقوت: خابران ناحية ومدينة فيها عدة قرى بين سرخس وأبيورد من خراسان، ومن قراها ميهنة، وكانت مدينة كبيرة خرب أكثرها. (2) ترجمته في طبقات السبكي 5: 50 وشذرات الذهب 4: 344. (3) في بعض الأصول: منتخب. (4) د: والطاعة. (5) نسبة إلى جوزدان - بضم الجيم وسكون الواو والزاي - وهي محلة على باب أصبهان؛ وفي أج: الجوزجانية، والنسبة الثانية إلى جوزجان بخراسان. (6) هـ: الأنصاري. (7) د: أخبار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 وأبي المبارك عبد العزيز بن محمد الأزدي وغيرهم، وعاد إلى بلده وتبحر ومهر (1) واشتهر، وصنف عدة تصانيف، فمن ذلك شرح مشكلات الوجيز والوسيط للغزالي تكلم في المواضع المشكلة من الكتابين ونقل من الكتب المبسوطة عليهما، وله كتاب " تتمة التتمة " لأبي سعد المتولي وعليه كان الاعتماد في الفتوى بأصبهان. وكان مولده في أحد الربيعين سنة خمس أو أربع عشرة وخمسمائة بأصبهان. وتوفي بها في ليلة الخميس الثاني والعشرين من صفر سنة ستمائة، رحمه الله تعالى. والعجلي - بكسر العين المهملة وسكون الجيم وبعدها لام - هذه النسبة إلى عجل بن لجيم، وهي قبيلة كبيرة مشهورة من بني ربيعة الفرس، ولجيم - بضم اللام وفتح الجيم وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها ميم - وهو عجل ابن لجيم بن صعب بن علي بن بكر بن وائل، قال أبو عبيدة: كان عجل بن لجيم يعد في الحمقى بين العرب، وكان له فرس جواد، فقيل له: إن لكل فرس جواد اسما فما اسم فرسك فقال: لم أسمه بعد، فقيل له: فسمه، ففقأ إحدى عينيه وقال: قد سميته الأعور. وفيه قال بعض شعراء العرب: رمتني بنو عجل بداء أبيهم ... وهل أحد في الناس أحمق من عجل أليس أبوهم عار عين جواده ... فسارت به الأمثال في الناس بالجهل يقال: عار العين - بالعين المهملة - إذا فقأها.   (1) أج هـ: وتمهر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 91 - (1) الأسعد ابن مماتي القاضي الأسعد أبو المكارم أسعد بن الخطير أبي سعيد مهذب بن مينا بن زكريا بن أبي قدامة ابن أبي مليح مماتي المصري الكاتب الشاعر؛ كان ناظر الدواوين بالديار المصرية، وفيه فضائل، وله مصنفات عديدة ونظم سيرة السلطان صلاح الدين رحمه الله تعالى، ونظم كتاب كليلة ودمنة، وله ديوان شعر رأيته بخط ولده ونقلت منه مقاطيع، فمن ذلك قوله: تعاتبني وتنهى عن أمرٍ ... سبيل الناس أن ينهوك عنها أتقدر أن تكون كمثل عيني ... وحقك ما علي أضر منها وله في شخص ثقيل رآه بدمشق: حكى نهرين ما في الأر ... ض من يحكيهما أبدا حكى في خلقه ثورى ... وفي أخلاقه بردى وقد أخذ ابن مماتي معنى بيته هذين من قول بعضهم: ضاهى ابن بشران مدينة جلق ... فكلاهما يوم الفخار فريد ألفاظه بردى، وصورة خلقه ... ثورى، ونقص العقل من يزيد وله من جملة قصيدة طويلة: لنيرانه في الليل أي تحرقٍ ... على الضيف إن أبطا وأي تلهب   (1) ترجمة الأسعد ابن مماتي في معجم الأدباء 6: 100 وانباه الرواة 1: 231 والخريدة (قسم مصر) 1: 100 والنجوم الزاهرة 6: 178 وشذرات الذهب 5: 20 وحسن المحاضرة 1: 325 والبداية والنهاية 13: 53 ومسالك الأبصار 12: 58. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 وما ضر من يعشو إلى ضوء ناره ... إذا هو لم ينزل بآل المهلب وله في غلام نحوي: وأهيف أحدث لي نحوه ... تعجباً يعرب عن (1) ظرفه علامة التأنيث في لفظه ... وأحرف العلة في طرفه ومن شعره ثلاثة أبيات مذكورة في ترجمة يحيى بن نزار المنبجي في حرف الياء، وفي شعره أشياء حسنة. وذكره العماد الصبهاني في كتاب " الخريدة " وأورد له عدة مقاطيع، ثم أعقبه بذكر أبيه الخطير، وذكر كثيرا من شعره، فمن ذلك قوله في كتمان السر وبالغ فيه: وأكتم السر حتى عن إعادته ... إلى المسر به من غير نسيان وذاك أن لساني ليس يعلمه ... سمعي بسر الذي قد كان ناجاني وقال: لقيته بالقاهرة متولي ديوان جيش الملك الناصر، وكان هو وجماعته نصارى فأسلموا في ابتداء الملك الصلاحي (2) . وللمهذب ابن الخيمي في الأسعد ابن مماتي المذكور يهجوه: وحديث الإسلام واهي الحديث ... باسم الثغر عن ضمير خبيث لو رأى بعض شعره سيبويه ... زاده في علامة التأنيث وكان الحافظ أبو الخطاب ابن دحية المعروف بذي النسبين، رحمه الله تعالى، عند وصوله إلى مدينة إربل، ورأى اهتمام سلطانها الملك المعظم مظفر الين ابن زين الدين، رحمه الله تعالى، بعمل مولد النبي صلى الله عليه وسلم، حسبما هو مشروح في حرف الكاف من هذا الكتاب عند ذكر اسمه، صنف له كتابا سماه   (1) أ: يعرف من. (2) أج: الدولة الصلاحية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 " التنوير في مدح السراج المنير "، وفي آخر الكتاب قصيدة طويلة مدح بها مظفر الدين، أولها: لولا الوشاة وهم ... أعداؤنا ما وهموا وقرأ الكتاب والقصيدة عليه، وسمعنا نحن الكتاب على مظفر الدين في شعبان سنة ست وعشرين وستمائة والقصيدة فيه، ثم بعد ذلك ريت هذه القصيدة بعينها في مجموعة منسوبة إلى الأسعد ابن مماتي المذكور، فقلت: لعل الناقل غلط، ثم بعد ذلك رأيتها في ديوان الأسعد بكمالها، مدح بها السلطان الملك الكامل، رحمه الله تعالى، فقوي الظن. ثم إني رأيت أبا البركات ابن المستوفي قد ذكر هذه القصيدة في تاريخ إربل عند ذكر ابن دحية، وقال: سألته عن معنى قوله فيها: يفديه من عطا جما ... دى كفه المحرم فما أحار جوابا، فقلت: لعله مثل قول بعضهم: تسمى بأسماء الشهور فكفه ... جمادى وما ضمت عليه المحرم قال: فتبسم وقال: هذا أردت، فلما وقفت على هذا ترجح عندي أن القصيدة للأسعد المذكور، فإنها لو كانت لأبي الخطاب لما توقف في الجواب، وأيضاً فإن إنشاد القصيدة لصاحب إربل كان في سنة ست وستمائة. والأسعد المذكور توفي في هذه السنة كما سيأتي، وهو مقيم بحلب لاتعلق له بالدولة العادلية، وبالجملة فالله أعلم لمن هي منهما (26) . وكان الأسعد المذكور قد خاف على نفسه من الوزير صفي الدين بن شكر، فهرب من مصر مستخفيا وقصد مدينة حلب لائذا بجناب السلطان الملك الظاهر، رحمه الله تعالى، وأقام بها حتى توفي في سلخ جمادى الأولى سنة ست وستمائة يوم الأحد، وعمره اثنتان وستون سنة، رحمه الله تعالى، ودفن في المقبرة المعروفة بالمقام على جانب الطريق بالقرب من مشهد الشيخ علي الهروي. وتوفي أبوه الخطير في يوم الأربعاء سادس شهر رمضان من سنة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 سبع وسبعين وخمسمائة. ومينا: بكسر الميم وسكون الياء المثناة من تحتها وفتح النون وبعدها ألف. ومماتي - بفتح الميمين والثانية منهما مشددة وبعد الألف تاء مثناة من فوقها وهي مكسورة وبعدها ياء مثناة من تحتها - وهو لقب أبي مليح المذكور وكان نصرانياً، وإنما قيل له مماتي لأنه وقع في مصر غلاء عظيم، وكان كثير الصدقة والإطعام، وخصوصاً لصغار المسلمين، فكانوا إذا رأوه ناداه كل واحد منهم مماتي، فاشتهر به، هكذا اخبرني الشيخ الحافظ زكي الدين أبو محمد عبد العظيم المنذري، نفع الله به، ثم انشدني عقيب (1) هذا القول مرثية فيه وقال: أظن هذين البيتين لأبي طاهر لان مكنسة المغربي (2) ، وهما: طويت سماء المكرما ... ت وكورت شمس المديح من ذا أؤمل أو أرجي ... بعد موت أبي المليح ثم كشفت عنهما فوجدتهما له، فيه مدائح أيضاً [وكان أبو الطاهر ابن مكنسة خصيصاً بأبي مليح مماتي جد الأسعد المذكور؛ وكان في بستانه المعروف بظاهر مصر، مجاور جامع راشدة الحاكمي، منظرته المعروفة بالنزهة ولها البئر الموصوف ماؤها بشدة البرد والحلاوة في الصيف حتى إن صاحب قصر الحكمة كان ينفذ من يأخذ من مائها لشربه، وفيها يقول ابن مكنسة من جملة قصيدة يمدحه بها ويصف المنظرة: ومن عجائبها البئر التي انفردت ... بالقر في الحر والأمواه تضطرم كأنما ماؤها في كل هاجرة ... ريق الحبيب عقيب الهجر وهي فم]   (1) د: بعد. (2) هو إسماعيل بن محمد، عده العماد من شعراء مصر وقال: إن الأفضل جفاه بسبب هذين البيتين (الخريدة - قسم مصر 2: 203 وانظر الرسالة المصرية: 43 والفوات 1: 36) وتوفي ابن مكنسة سنة 510. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 92 - (1) البهاء السنجاري أبو السعادات أسعد بن يحيى بن موسى بن منصور بن عبد العزيز بن وهب (2) ابن هبان بن سوار بن عبد الله بن رفيع بن ربيعة بن هبان السلمي السنجاري الفقيه الشافعي الشعار المنعوت بالبهاء؛ كان فقيهاً، وتكلم في الخلاف، إلا أنه غلب عليه الشعر وأجاد فيه واشتهر به وخدم به الملوك وأخذ جوائزهم، وطاف البلاد ومدح الكابر، وشعره كثير في أيدي الناس، يوجد قصائد ومقاطيع، ولم أقف له على ديوان ولم أدر هل دون شعره أم لا، ثم وجدت له في خزانة كتب التربة الأشرفية بدمشق ديواناً في مجلد كبير. ومن شعره من جملة قصيدة مدح بها القاضي كمال الدين ابن الشهرزوري (3) : وهواك ما خطر السلو بباله ... ولأنت أعلم في الغرام بحاله ومتى وشى واش إليك بأنه ... سالٍ هواك فذاك من عذاله أوليس للكلف المعنى شاه ... من حاله يغنيك عن تسآله جددت ثوب سقامه، وهتكت ستر غرامه، وصرمت حبل وصاله ... أفزلة سبقت له أم خلة ... مألوفة من تيهه ولدلاله ياللعجائب من أسير دأبه ... يفدي الطليق بنفسه (4) وبماله بأبي وأمي نابل بلحاظه ... لا تتقي بالدرع حد نباله   (1) ترجمة البهاء السنجاري في الخريدة (قسم الشام) 2: 401 وقد أشرنا غلى بعض مصادر ترجمته فيما تقدم ص: 111. (2) د: وهيب. (3) هو كمال الدين أبو الفضل محمد بن عبد الله بن القاسم الشهرزوري كان قاضياً بدمشق؛ وسيترجم له ابن خلكان. (4) أ: بروحه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 ريان من ماء الشبيبة والصبا ... شرقت معاطفه بطيب زلاله تسري النواظر في مراكب حسنه ... فتكاد تغرق في بحار جماله فكفاه عين كماله في نفسه ... وكفى كمال الدين عين كماله كتب العذار (1) على صحيفة خده ... نوناً وأعجمها بنقطة خاله فسواد طرته كليل صدوده ... وبياض غرته كيوم وصاله ولولا خوف الإطالة لذكرتها جميعها. وهذا القدر هو المشهور له، وقد أضافوا إليها بيتين، ولا أتحققهما فتركتهما. وله أيضاً من جملة قصيدة: ومهفهف حلو الشمائل فاتر ... الألحاظ فيه طاعة وعقوق وقف الرحيق على مراشف ثغره ... فجرى به من خده راووق سدت محاسنه على عشاقه ... سبل السلو فما إليه طريق وله من قصيدة أخرى: هبت نسيمات الصبا سحرةً ... ففاح منها العنبر الأشهب فقلت إذ مرت بوادي الغضا ... من أين هذا النفس الطيب (11) وكان قد جاءنا ونحن في بلادنا في سنة ثلاث وعشرين وستمائة الشيخ جمال الدين أبو المظفر عبد الرحمن بن محمد المعروف بابن السنينيرة (2) الواسطي، وكان من أعيان شعراء عصره، ونزل عندنا بالمدرسة المظفرية، وكان قد طاف البلاد ومدح الملوك وأجازوه الجوائز السنية، وإذا قعد حضر عنده كل من له عناية بالأدب، وتجري بينهم محاضرات ومذكرات لطيفة، وكان قد طعن في السن، فقال يوماً: رافقني البهاء السنجاري في بعض الأسفار من سنجار إلى رأس عين، أو قال: من رأس عين إلى سنجار، فنزلنا في الطريق في مكان وكان   (1) هـ: الجمال. (2) هـ: السنينير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 له غلام اسمه إبراهيم، وكان يأنس به، فأبعد عنا الغلام فقام يطلبه فناداه: يا إبراهيم يا إبراهيم مراراً فلم يسمع نداءه لبعده عنا، وكان ذلك الموضه له صدى، فكلما قال: يا إبراهيم أجابه الصدى: يا إبراهيم، فقعد ساعة ثم أنشدني: بنفسي حبيب جار وهو مجاور ... بعيد عن الأبصار وهو قريب يجيب صدى الوادي إذا ما دعوته ... على أنه صخر وليس يجيب وكان للبهاء السنجاري صاحب، وبينهما (1) مودة أكيدة واجتماع كثير، ثم جرى بينهما في بعض الأيام عتاب وانقطع ذلك الصاحب عنه، فسير إليه يعتبه لانقطاعه، فكتب إليه بيتي الحريري اللذين ذكرهما في المقامة الخامسة عشرة وهما: لا تزر من تحب في كل شهر ... غير يوم ولا تزده عليه فاجتلاء الهلال في الشهر يوم ... ثم لا تنظر العيون إليه فكتب إليه البهاء من نظمه: إذا حققت من خلٍ وداداً ... فزره ولا تخف منه ملالاً وكن كالشمس تطلع كل يومٍ ... ولا تك في زيارته هلالاً وله، وهما من شعره السائر: لله أيامي على رامة ... وطيب أوقاتي على حاجر تكاد للسرعة في مرها ... أولها يعثر بالآخر وله من قصيدة في وصف الخمر، وهو معنى مليح: كادت تطير وقد طرنا بها طرباً ... لولا الشباك التي صيغت من الحبب وذكره عماد الدين الأصبهاني الكاتب في كتاب " السيل والذيل " وقال: أنشدني لنفسه:   (1) ج هـ: وكان بينهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 ومن العجائب أنني ... في لج بحر الجود راكب وأموت من ظمإٍ ول ... كن عادة البحر العجائب وله أشياء حسنة. وكانت ولادته سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة، وتوفي في أوائل سنة اثنتين وعشرين وستمائة بسنجار، رحمه الله تعالى. 93 - (1) المزني صاحب الشافعي أبو إبراهيم إسماعيل بن يحيى بن إسماعيل بن عمرو بن إسحاق المزني صاحب الإمام الشافعي رضي الله عنه؛ هو من أهل مصر، وكان زاهداً عالماً مجتهداً محجاجاً غواصا على المعاني الدقيقة، وهو غمام الشافعيين واعرفهم بطرقه وفتاويه وما ينقله عنه، صنف كتباً كثيرة في مذهب الإمام الشافعي، منها الجامع الصغير ومختصر المختصر والمنثور والمسائل المعتبرة والترغيب في العلم وكتاب الوثائق وغير ذلك، وقال الشافعي رضي الله عنه في حقه: المزني ناصر مذهبي (2) . وكان إذا فرغ من مسألة وأودعها مختصره قام إلى المحراب وصلى ركعتين شكرا لله تعالى. وقال أبو العباس أحمد بن سريج: يخرج مختصر المزني من الدنيا عذراء لم تفض، وهو أصل الكتب المصنفة في مذهب الشافعي رضي الله عنه، وعلى مثاله رتبوا ولكلامه فسروا وشرحوا. ولما ولي القاضي بكار بن قتيبة الآتي ذكره إن شاء الله تعالى القضاء بمصر   (1) ترجمة المزني في طبقات السبكي 1: 238 وقال أنه ولد سنة 175. (2) من أقوال الشافعي فيه: لو ناظر الشيطان لغلبه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 وجاءها من بغداد، وكان حنفي المذهب، توقع الاجتماع بالمزني مدة، فلم يتفق له، فاجتمعا يوماً في صلاة جنازة فاقل القاضي بكار لأحد أصحابه: سل المزني شيئاً حتى أسمع كلامه، فقال له ذلك الشخص: يا أبا إبراهيم،، قد جاء في الأحاديث تحريم النبيذ وجاء تحليله أيضاً، فلم قد متم التحريم على التحليل فقال المزني: لم يذهب أحد من العلماء إلى ان النبيذ كان حراما في الجاهلية ثم حلل، ووقع الاتفاق على انه كان حلالاً، فهذا يعضد صحة الأحاديث بالتحريم، فاستحسن ذلك منه، وهذا من الدلة القاطعة. وكان في غاية الورع، وبلغ من احتياطه أنه كان يشرب في جميع فصول السنة من كوز نحاس، فقيل له في ذلك، فقال: بلغني أنهم يستعملون السرجين في الكيزان، والنار لا تطهرها. وقيل إنه كان إذا فاتته الصلاة في جماعة صلى منفرداً خمساً وعشرين صلاة استراكا لفضيلة الجماعة، مستنداً في ذلك إلى قوله صلى الله عليه وسلم صلاة الجماعة أفضل من صلاة أحدكم وحده بخمس وعشرين درجة. وكان من الزهد على طريقة صعبة شديدة، وكان مجاب الدعوة، ولم يكن أحد من أصحاب الشافعي يحدث نفسه في شيء من الأشياء بالتقديم عليه، وهوالذي تولى غسل الإمام الشافعي، وقيل: كان معه أيضاً حينئذ الربيع. وذكره ابن يونس في اريخه وسماه، وجعل مكان اسم جده إسحاق مسلماً، ثم قال: صاحب الشافعي، وذكر وفاته كما تقدم (1) ، وقال: كانت له عبادة وفضل، ثقة في الحديث، لايختلف فيه حاذق من أهل الفقه، وكان أحد الزهاد في الدنيا وكان من خير خلق الله عز وجل، ومناقبه كثيرة. وتوفي لست بقين من شهر رمضان سنة أربع وستين ومائتين بمصر، ودفن بالقرب من تربة الإمام الشافعي، رضي الله عنه، بالقرافة الصغرى بسفح المقطم، رحمه الله تعالى، وزرت قبره هناك. وذكر ابن زولاق في تاريخه الصغير أنه عاش تسعاً وثمانين سنة، وصلى عليه الربيع بن سليمان المؤذن المرادي.   (1) كذا، وذكر وفاته لم يتقدم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 والمزني - بضم الميم وفتح الزاي وبعدها نون - هذه النسبة إلى مزينة بنت كلب، وهي قبيلة كبيرة مشهورة. 94 - (1) أبو العتاهية أبو إسحاق إسماعيل بن القاسم بن سويد بن كيسان العنزي بالولاء، العيني المعروف بأبي العتاهية الشاعر المشهور؛ مولده بعين التمر، وهي بليدة (2) بالحجاز قرب المدينة، وقيل: إنها من أعمال سقي الفرات، وقال ياقوت الحموي في كتابه المشترك إنها قرب الأنبار، والله أعلم. ونشأ بالكوفة وسكن بغداد، وكان يبيع الجرار فقيل له: الجرار، واشتهر بمحبة (3) عتبة جارية الإمام المهدي، وأكثر نسيبه فيها فمن ذلك قوله (4) : أعلمت عتبة أنني ... منها على شرفٍ مطل وشكوت ما ألقى إلي ... ها والمدامع تستهل حتى إذا برمت بما ... أشكو كما يشكو الأقل قالت: فأي الناس يع ... لم ما تقول فقلت: كل   (1) ترجمة أبي العتاهية في الأغاني 4: 3 والشعر والشعراء: 675 وطبقات ابن المعتز: 228 ومعاهد التنصيص 2: 285 والشذرات 2: 25 وتاريخ بغداد 6: 250 والموشح: 254 وقد حقق ديوانه الدكتور شكري فيصل (دمشق: 1965) . (2) أهـ: بلدة. (3) هـ: بحبه. (4) ديوانه: 598 وطبقات ابن المعتز: 228. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 وكتب مرة إلى المهدي وعرض بطلبها منه (1) : نفسي بشيء من الدنيا معلقة ... الله والقائم المهدي يكفيها إني لأيأس منها ثم يطمعني ... فيها احتقارك للدنيا وما فيها وقال أبو العباس المبرد في كتاب " الكامل " (2) : إن أبا العتاهية كان قد استأذن في أن يطلق له أن يهدي إلى أمير المؤمنين في النيروز والمهرجان، فأهدى له في أحدهما برنية ضخمة فيها ثوب ناعم مطيب قد كتب على حواشيه هذين البيتين المقدم ذكرهما، فهم بدفع عتبة إليه، فجزعت، وقالت: يا أمير المؤمنين، حرمتي وخدمتي، أتدفعني (3) إلى رجل قبيح المنظر بائع جرار ومتكسب بالشعر (4) فأعفاها وقال: املأوا له البرنية مالاً، فقال للكتاب: أمر لي بدنانير، وقالوا: ما ندفع إليك ذاك، ولكن إن شئت أعطيناك دراهم إلى أن يفصح بما أراد، فاختلف في ذلك حولاً، فقالت عتبة: لو كان عاشقاً كما يزعم لم يكن يختلف منذ حول في التمييز بين الدراهم والدنانير، وقد أعض عن ذكري صفحا. ومن مديحه (5) : إني أمنت من الزمان وصرفه ... لما علقت من المير حبالا لو يستطيع الناس من إجلاله ... تخذوا له حر الخدود نعالا إن المطايا تشتكيك لأنها ... قطعت إليك سباباً (6) ورمالا فإذا وردن بنا وردن خفائفاً ... وإذا صدرن بنا صدرن ثقالا وهذه الأبيات قالها في عمر بن العلاء، فأعطاه سبعين ألفا، وخلع عليه حتى   (1) ديوانه: 668 ومعاهد التنصيص. (2) الكامل 2: 302. (3) الكامل: أبعد حرمتي وخدمتي تدفعني ... الخ. (4) الكامل: بالعشق. (5) انظر ديوانه: 605. (6) د: فدافداً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 لا يقدر (1) أن يوم، فغار الشعراء من ذلك، فجمعهم ثم قال: يا معشر الشعراء عجباً لكم! ما أشد حسدكم بعضكم بعضاً! أحدكم يأتينا ليمدحنا بقصيدة يشبب فيها بصديقته بخمسين بيتا، فما يبلغنا حتى تذهب لذاذة مدحه ورونق شعره، وقد أتانا أبو العتاهية فشب بأبيات يسيرة، ثم قال، وانشد الأبيات المذكورة: فما لكم منه تغارون وكان أبو العتاهية لما مدحه بهذه الأبيات تأخر عنه بره قليلاً فكتب إليه يستبطئه (2) : أصابت علينا جودك العين يا عمر ... فنحن لها نبغي التمائم والنشر (3) سنرقبك بالأشعار حتى تملها ... وإن لم تفق منها رقيناك بالسور قال أشجع السلمي الشاعر المشهور: أذن الخليفة المهدي للناس في الدخول عليه فدخلنا، فأمرنا بالجلوس، فاتفق أن جلس بجنبي بشار بن برد وسكت المهدي فسكت الناس، فسمع بشار حساً فقال لي: من هذا فقلت: أبو العتاهية، فقال: أتراه ينشد في هذا المحفل فقلت: أحسبه سيفعل، فقال: فأمره المهدي أن ينشد، فأنشد (4) : ألا ما لسيدتي مالها ... أدلت فأحمل إدلالها قال: فنخسني بشار بمرفقه وقال: ويحك! أرأيت أجسر من هذا ينشد مثل هذا الشعر في مثل هذا الموضع، حتى بلغ إلى قوله: أتته الخلافة منقادةً ... إليه تجرر (5) أذيالها فلم تك تصلح إلا له ... ولم يك يصلح إلا لها ولو رامها أحد غيره ... لزلزلت الأرض زلزالها   (1) د: لم يستطع. (2) ديوانه: 557 وأمالي القالي 1: 243. (3) النشر: الرقى. (4) ديوانه: 197 وفي الحاشية تخريج مستقصى. (5) أ: تجرجر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 ولو لم تطعه بنات القلوب ... لما قبل الله أعمالها فقال لي بشار: انظر ويحك يا أشجع، هل طار الخليفة عن عرشه قال أشجع: فوالله ما انصرف أحد عن هذا المجلس بجائزة غير أبي العتاهية. وله في الزهد أشعار كثيرة، وهو من مقدمي المولدين في طبقة بشار وأبي نواس وتلك الطائفة، وشعره كثير. وكانت ولادته في سنة ثلاثين ومائة، وتوفي يوم الاثنين لثمان أو ثلاث خلون من جمادى الآخرة سنة إحدى عشرة (1) ، وقيل: ثلاث عشرة ومائتين ببغداد، وقبره على نهر عيسى قبالة قنطرة الزياتين، رحمه الله تعالى. ولما حضرته الوفاة قال: أشتهي أن يجيء مخارق المغني ويغني عند رأسي، والبيتان له من جملة أبيات (2) : إذا ما انقضت عني من الدهر مدتي (3) ... فإن عزاء الباكيات قليل سيعرض عن ذكري وتنسى مودتي ... ويحدث بعدي للخليل خليل وأوصى أن يكتب على قبره هذا البيت (4) : إن عيشاً يكون آخره المو ... ت لعيش معجل التنغيص ويحكى أنه لقي يوماً أبا نواس فقال له: كم تعمل في يومك من الشعر فقال له: البيت والبيتين، فقال أبو العتاهية: لكنني أعمل المائة والمائتين في اليوم، فقال أبو نواس لأنك تعمل مثل قولك: يا عتب مالي ولك ... يا ليتني لم أرك   (1) أ: سنة 210. (2) ديوانه: 317. (3) الديوان: إذا انقطعت عني من العيش مدتي. (4) لم يرد في ديوانه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 ولو أردت مثل هذا الألف والألفين لقدرت عليه، وأنا أعمل مثل قولي: من كف ذات حر في زي ذي ذكر ... لها محبان: لوطي، وزناء ولو أردت مثل هذا لأعجزك الدهر. ومن لطيف شعره قوله (1) : ولقد صبوت إليك حتى صار من فرط التصابي ... يجد الجليس إذا دنا ... ريح التصابي في ثيابي وحكاياته كثيرة. ومن شعره في عتبة جارية المهدي (2) : يا إخوتي إن الهوى قاتلي ... فيسروا (3) الأكفان من عاجل ولا تلوموا في اتباع الهوى ... فإنني في شغل شاغل ويقول فيها: عيني على عتبة منهلة ... بدمعها المنكب السائل يا من رأى قبلي قتيلاً بكى ... من شدة الوجد على القاتل بسطت كفي نحوكم سائلاً ... ماذا تردون على السائل إن لم تنيلوه، فقولوا له ... قولاً جميلاً بدل النائل أو كنتم العام على عسرة ... منه فمنوه إلى القابل وحكى صاعد اللغوي في كتاب " الفصوص ": أن أبا العتاهية زار يوماً بشار بن برد، فقال له أبو العتاهية: إني لأستحسن قولك اعتذاراً من البكاء، إذ تقول:   (1) ديوانه: 490. (2) ديوانه: 616. (3) د: فسيروا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 كم من صديق لي أسا ... رقه البكاء من الحياء وإذا تفطن لامني ... فأقول ما بي من بكاء لكن ذهبت لأرتدي ... فطرفت عيني بالرداء فقال له: أيها الشيخ، ما غرفته إلا من بحرك، ولا نحته إلا من قدحك، وأنت السابق حيث تقول (1) : وقالوا قد بكيت فقلت كلا ... وهل يبكي من الجزع الجليد ولكن قد أصاب سواد عيني ... عويد قذى له طرف حديد فقالوا ما لد معهما سواء ... أكلتا ملتيك أصاب عود قال صاعد: وتقدمهما إلى هذا المعنى الحطيئة حيث يقول (2) : إذا ما العين فاض الدمع منها ... أقول بها قذى وهو البكاء وكان أبو العتاهية ترك قول الشعر، فحكى قال: لما امتنعت من قوله أمر المهدي بحبسي في سجن الجرائم، فلما دخلته دهشت ورأيت منظراً هالني، فطلبت موضعاً آوي فيه، فإذا أنا بكهل حسن البزة والوجه عليه سيما الخير فقصدته، وجلست من غير سلام عليه لما أنا فيه من الجزع والحيرة والفكر، فمكثت كذلك ملياً، وإذا الرجل ينشد: تعودت مس الضر حتى ألفته ... وأسلمني حسن العزاء إلى الصبر وصيرني يأسي من الناس واثقاً ... بحسن صنيع الله من حيث لاأدري قال: فاستحسنت البيتين وتبركت بهما، وثاب إلي عقلي، فقلت له: تفضل - أعزك الله - علي بإعادتهما، فقال: يا إسماعيل، ويحك ما أسوأ أدبك وأقل عقلك ومروءتك، دخلت فلم تسلم علي تسليم المسلم على المسلم،   (1) لم ترد في ديوانه. (2) ديوان الحطيئة: 95. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 ولا سألتني مسألة الوارد على المقيم، حتى سمعت (1) مني بيتين من الشعر الذي لم يجعل الله تعالى فيك خيراً ولا أدباً ولا معاشاً غيره، طفقت تستنشدني مبتدئاً كأن بيننا أنساً وسالف مودة توجب بسط القبض، ولم تذكر ما كان منك، ولا اعتذرت عما بدا من إساءة أدبك، فقلت: اعذرني متفضلاً، فدون ما أنا فيه يدهش، قال: وفيم أنت تركت الشعر الذي هو جاهك عندهم وسببك إليهم، ولا بد أن تقوله فتطلق، وأنا يدعى الساعة بي، فأطلب بعيسى بن زيد ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن دللت عليه لقيت الله تعالى بدمه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم خصمي فيه، وإلا قتلت، فأنا أولى بالحيرة منك، وها أنت ترى صبري واحتسابي، فقلت: يكفيك الله عز وجل وخجلت منه، فقال: لا أجمع عليك التوبيخ والمنع، اسمع البيتين، ثم أعادهما علي مراراً حتى حفظتهما، ثم دعي به وبي. فقلت له: من أنت أعزك الله عز وجل قال: أنا حاضر صاحب عيسى بن زيد، فأدخلنا على المهدي، فلما وقفنا بين يديه قال الرجل: أين عيسى بن زيد قال: وما يدريني أين عيسى ابن زيد تطلبته فهرب منك في البلاد وحبستني، فمن أين أقف على خبره قال له: متى كان متوارياً وأين آخر عهدك به وعند من لقيته قال: ما لقيته منذ توارى، ولا عرفت له خبراً! قال: والله لتدلن عليه، او لأضربن عنقك الساعة، فقال: اصنع ما بدا لك، فوالله ما ادلك على ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والقى الله تعالى ورسوله عليه السلام بدمه، ولو كان بين ثوبي وجلدي ما كشفت لك عنه، قال: اضربوا عنقه، فأمر به فضربت عنقه، ثم دعا بي فقال: أتقول الشعر، أو أحقك به قلت: بل أقول، قال: أطلقوه، فأطلقت. وقد روى القاضي أبو علي التنوخي في البيتين المذكورين زيادة بيت ثالث، وهو: إذا أنا لم أقنع من الدهر بالذي ... تكرهت من طال عتبي على الدهر   (1) ب هـ: إذا سمعت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 وحكايات أبي العتاهية كثيرة. والعنزي - بفتح العين المهملة والنون وبعدها زاي - هذه النسبة إلى عنزة ابن أسد بن ربيعة. والعيني - بفتح العين المهملة وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها نون - هذه النسبة إلى عين التمر البلدة المذكورة في الأول. 95 - (1) أبو علي القالي أبو علي إسماعيل بن القاسم بن عيذون بن هارون بن عيسى بن محمد بي سلمان (2) القالي اللغوي، جده سلمان مولى عبد الملك بن مروان الأموي؛ كان أحفظ أهل زمانه للغة والشعر ونحو البصريين. أخذ الأدب عن أبي بكر ابن دريد الأزدي وأبي الأنباري ونفطويه وابن درستويه وغيرهم. وأخذ عنه أبو بكر محمد بن الحسن الزبيدي الأندلسي صاحب مختصر العين، وله التواليف الملاح (3) ، منها: كتاب الأمالي وكتاب البارع في اللغة، بناه على حروف المعجم، وهو يشتمل على خمسة آلاف ورقة، وكتاب المقصور والمدود وكتاب في الإبل ونتاجها وكتاب في حلي الإنسان والخيل وشياتها وكتاب فعلت وأفعلت وكتاب مقاتل الفرسان وكتاب شرح فيه القصائد المعلقات، وغير ذلك، وطاف البلاد، وسافر إلى بغداد في سنة   (1) ترجمة القالي في الزبيدي: 202 وابن الفرضي 1: 83 والجذوة: 154 (والبغية: 216) وانباه الرواة 1: 204 وبغية الوعاة: 198 ومعجم الأدباء 7: 25 والنفح 3: 70 (ط. صادر) وفي فهرسة ابن خير: 395 ثبت بالكتب التي أدخلها إلى الأندلس. (2) د: سليمان. (3) أ: الحسنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 ثلاث وثلثمائة، وأقام بالموصل لسماع الحديث من أبي يعلى الموصلي. ودخل بغدادفي سنة خمس وثلثمائة، وأقام بها إلى سنة ثمان وعشرين وثلثمائة، وكتب بها الحديث، ثم خرج من بغداد قاصداً الأندلس. ودخل قرطبة لثلاث بقين من شعبان سنة ثلاثين وثلثمائة واستوطنها، وأملى كتابه الأمالي بها، وأكثر كتبه بها وضعها بها، ولم يزل بها، ومدحه يوسف بن هارون الرمادي المذكورفي حرف الياء من هذا الكتاب بقصيدة بديعة ذكرت بعضها هناك فليطلب منه. وتوفي القالي بقرطبة في شهر ربيع الآخر، وقيل: جمادى الأولى، سنة ست وخمسين وثلثمائة ليلة السبت لست خلون من الشهر المذكور، وصلى عليه أبو عبد الله الجبيري. ودفن بمقبرة متعة ظاهر قرطبة، رحمه الله تعالى، ومولده في سنة ثمان وثمانين ومائتين في جمادى الآخرة بمنازجرد من ديار بكر، وقد تقدم الكلام عليها في ترجمة أحمد بن يوسف المنازي. وإنما قيل له القالي لأنه سافر إلى بغداد مع أهل قالي قلا فبقي عليه الاسم. وعيذون: بفتح العين المهملة وسكون الياء المثناة من تحتها وضم الذال المعجمة وبعد الواو نون. والقالي - نسبة إلى قالي قلا - بفتح القاف وبعد الألف لام مكسورة ثم ياء مثناة من تحتها ثم قاف بعدها لام ألف - وهي من أعمال ديار بكر، كذا قاله السمعاني، ورأيت في تاريخ السلجوقية تأليف عماد الدين الكاتب الأصبهاني: أن قالي قلا هي أرزن الروم، والله أعلم. وذكر البلاذري في كتاب البلدان وجميع فتوح الإسلام في فتوح أرمينية (1) ما مثاله: وقد كانت امور الروم تشعبت (2) في بعض الأزمنة، فكانوا كملوك الطوائف، فملك أرمينياقس رجل منهم، ثم مات فملكتها بعده امرأته وكانت تسمى قالي، فبنت مدينة قالي قلا، وسمتها قالي قاله،   (1) فتوح البلدان: 234. (2) فتوح: تشتتت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 ومعنى ذلك إحسان قالي، وصورت على باب من أبوابها، فعربت العرب قالي قاله، فقالوا: قالي قلا. 96 - (1) الصاحب ابن عباد الصاحب أبو القاسم إسماعيل بن أبي الحسن عباد بن العباس بن عباد بن احمد ابن إدريس الطالقاني؛ كان نادرة الدهر وأعجوبة العصر في فضائله ومكارمه وكرمه، أخذ الأدب عن أبي الحسين أحمد بن فارس اللغوي صاحب كتاب " المجمل " في اللغة، وأخذ عن ابي الفضل ابن العميد، وغيرهما. وقال أبو منصور الثعالبي في كتابه اليتيمة في حقه: ليست تحضرني عبارة أرضاها للإفصاح عن علو محله في العلم والأدب، وجلالة شأنه في الجود والكرم، وفرده بالغيات في المحاسن، وجمعه أشتات المفاخر، لأن همة قولي تنخفض عن بلوغ أدنى فضائله ومعاليه، وجهد وصفي يقصر عن أيسر فواضله ومساعيه. ثم شرع في شرح بعض محاسنه وطرف من أحواله. وقال أبو بكر الخوارزمي في حقه: الصاحب نشأ من الوزراة في حجرها، ودب ودرج من وكرها، ورضع أفاويق درها، وورثها عن آبائه كما قال أبو سعيد الرستمي في حقه: ورث الوزارة كابراً عن كابرٍ ... موصلة الإسناد بالإسناد   (1) ترجمة الصاحب ابن عباد في اليتيمة 3: 192 ومعجم الأدباء 6: 168 وبغية الوعاة: 196 ويضم كتاب " أخلاق الوزيرين " لأبي حيان قسماً كبيراً من أخباره؛ وقد ألف فيه الشيخ محمد حسن آل ياسين كتاباً ونشر عدداً من آثاره بما في ذلك ديوانه، وهناك مجموعة من رسائله حققها الدكتور عبد الوهاب عزام والدكتور شوقي ضيف (القاهرة: 1366) . أما مشاركته في الحياة السياسية فتراجع فيها الكتب المتصلة بتاريخ البويهيين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 يروي عن العباس عباد وزا ... رته وإسماعيل عن عباد وهو أول من لقب بالصاحب من الوزراء لأنه كان يصحب أبا الفضل ابن العميد، فقيل له: صاحب ابن العميد، ثم أطلق عليه هذا اللقب لما تولى الوزارة وبقي علماً عليه. وذكر الصابىء في كتاب التاجي أنه إنما قيل له الصاحب لأنه صحب مؤيد الدولة بن بويه منذ الصبا وسماه الصاحب، فاستمر عليه هذا اللقب واشتهر به، ثم سمي به كل من ولي الوزارة بعده. وكان أولاً وزير مؤيد الدولة أبي منصور بويه بن ركن الدولة بن بويه الديلمي تولى وزارته بعد أبي الفتح علي بن أبي الفضل ابن العميد المذكور في ترجمة أبيه محمد، فلما توفي مؤيد الدولة في شعبان سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة بجرجان استولى على مملكته أخوه فخر الدولة أبو الحسن علي، فأقر الصاحب على وزارته، وكان مبجلاً عنده ومعظماً نافذ الأمر. وأنشده أبو القاسم الزعفراني (1) يوما أبياتا نونية من جملتها (2) : أيا من عطاياه تهدي الغنى ... إلى راحتي من نأى أو دنا كسوت المقيمين والزائرين ... كسا لم نخل مثلها ممكنا وحاشية الدار يمشون في ... صنوف من الخز إلا أنا فقال الصاحب: قرأت في أخبار معن بن زائدة الشيباني أن رجلاً قال له: احملني أيها الأمير، فأمر له بناقة وفرس وبغل وحمار وجارية، ثم قال: لوعلمت أن الله سبحانه وتعالى خلق مركوبا غير هذا لحملتك عليه، وقد أمرنا لك من الخزبجية وقميص وعمامة ودراعة وسراويل ومنديل ومطرف ورداء وكساء وجورب وكيس، ولو علمنا لباسا آخر يتخذ من الخز لأعطيناكه. واجتمع عنده من الشعراء ما لم يجتمع عند غيره، ومدحوه بغرر المدائح (27)   (1) هو عمر بن إبراهيم من أهل العراق، كان واسطة عقد ندماء الصاحب وقال فيه الصاحب " وأما شيخنا أبو القاسم الزعفراني أيده الله فصورته لدي صورة الأخ، أو وده أرسخ " (اليتيمة 3: 346) . (2) انظر اليتيمة 3: 195. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 وكان حسن الجوبة [سريعها] ، رفع الضرابون من دار الضرب إليه رقعة في مظلمة مترجمة بالضرابين، فوقع تحتها في حديد بارد. وكتب بعضهم إليه ورقة أغار فيها على رسائله وسرق جملة من ألفاظه فوقع فيها هذه بضاعتنا ردت إلينا. وحبس بعض عماله في مكان ضيق بجواره، ثم صعد السطح يوماً فاطلع عليه فرآه فناداه المحبوس بأعلى صوته فاطلع فرآه في سواء الجحيم فقال الصاحب اخسأوا فيها ولا تكلمون ونوادره كثيرة. وصنف في اللغة كتاباً سماه المحيط وهو في سبع مجلدات، رتبه على حروف المعجم، كثر فيه الألفاظ وقلل الشواهد فاشتمل من اللغة على جزء متوفر، وكتاب الكافي في الرسائل وكتاب الأعياد وفضائل النيروز وكتاب الإمامة يذكر فيه فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه ويثبت إمامة من تقدمه، وكتاب الوزراء وكتاب الكشف عن مساوئ شعر المتنبي وكتاب أسماء الله تعالى وصفاته وله رسائل بديعة ونظم جيد، فمنه قوله (1) : وشادن جماله ... تقصر عنه صفتي أهوى لتقبيل يدي ... فقلت قبل شفتي وله في رقة الخمر (2) : رق الزجاج ورقت (3) الخمر ... وتشابها فتشاكل المر فكأنما خمر ولا قدح ... وكأنما قدح ولا خمر وله يرثي كثير بن أحمد الوزير وكنيته أبو علي (4) : يقولون لي أودى كثير بن أحمدٍ ... وذلك مرزوء علي جليل   (1) اليتيمة: 258. (2) المصدر نفسه: 263. (3) أ: وراقت. (4) كذا ورد، وفي اليتيمة: وقال يرثي ابا منصور ... الخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 فقلت دعوني والعلا تبكه معا ... فمثل كثير في الرجال قليل وحكى أبو الحسين محمد بن الحسين الفارسي النحوي أن نوح بن منصور أحد ملوك بني سامان كتب إليه ورقة في السر يستدعيه ليفوض إليه وزارته وتدبير أمر مملكته، فكان من جملة أعذاره إليه أنه يحتاج لنقل كتبه خاصة إلى أربعمائة جمل، فما الظن بما يليق بها من التجمل. وفي هذت القدر من اخباره كفاية. وكان مولده لأربع عشرة ليلة بقيت من ذي القعدة سن ست وعشرين وثلثمائة يإصطخر، وقيل: بالطالقان، وتوفي ليلة الجمعة الرابع والعشرين من صفر سنة خمس وثمانين وثلثمائة بالري، ثم نقل إلى أصبهان، رحمه االه تعالى، ودفن في قبة بمحلة تعرف بباب دزيه، وهي عامرة إلى الآن، وأولاد بنته يتعاهدونها بالتبييض. قال أبو القاسم بن أبي العلاء الشاعر الأصبهاني: رأيت في المنام قائلا يقول لي: لم لم ترث الصاحب مع فضلك وشعرك فقلت: ألجمتني كثرة محاسنه فلم أدر بم أبدأ منها، وقد خفت أن أقصر وقد ظن بي الاستيفاء لها، فقال: أجز ما أقوله، فقلت: قل، فقال: ثوى الجود والكافي معاً في حفيرة ... فقلت: ليأنس كل منهما بأخيه ... فقال: هما اصطحبا حيين ثم تعانقا ... فقلت: ضجيعين في لحدٍ بباب دزيه ... فقال: إذا ارتحل الثاوون عن مستقرهم ... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 فقلت: أقاما إلى يوم القيامة فيه ... ذكر هذا البياسي (1) في حماسته. ورأيت في أخباره أنه لم يسعد أحد بعد وفاته كما كان في حياته غير الصاحب فإنه لما توفي أغلقت له مدينة الري واجتمع الناس على باب قصره ينتظرون خروج جنازته، وحضر مخدومه فخر الدولة المذكور أولا وسائر القواد وقد غيروا لباسهم، فلما خرج نعشه من الباب صاح الناس بأجمعهم صيحة واحدة وقبلوا الأرض، ومشى فخر الدولة أمام الجنازة مع الناس وقعد للعزاء أياماً. ورثاه أبو سعيد الرستمي بقوله: أبعد ابن عباد يهش إلى السرى ... أخو أمل أو يستماح جواد أبى الله إلا يموتا بموته (2) ... فما لهما حتى المعاد (3) معاد وتوفي والده أبو الحسن عباد بن العباس في سنة أربع - أو خمس - وثلاثين وثلثمائة (4) ، رحمه الله تعالى؛ وكان وزير ركن الدولة بن بويه، وهو والد فخر الدولة المذكور، ووالد عضد الدولة فناخسرو ممدوح المتنبي. وتوفي فخر الدولة في شعبان سنة سبع وثمانين وثلثمائة، رحمه الله تعالى، ومولده في سنة إحدى وأربعين وثلثمائة. والطالقاني - بفتح الطاء المهملة وبعد الألف لام مفتوحة ثم قاف وبعد الألف الثانية نون - هذه النسبة إلى الطالقان، وهو اسم لمدينتين: إحداهما   (1) هو أبو الحجا يوسف بن محمد البياسي الأندلسي (- 653) وحماسته في مجلدين صنفها بتونس، جمع فيها ما اختاره من أشعار العرب جاهليها ومخضرمها وإسلاميها ومولدها، ومن أشعار المحدثين من أهل المشرق والأندلس، ورتبها كترتيب أبي تمام. (2) د: أبى ذاك أن الجود مات بموته. (3) د: الممات. (4) أ: سنة 389. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 بخراسان والأخرى من أعمال قزوين، والصاحب المذكور أصله من طالقان قزوين، لا طالقان خراسان. 97 - (1) أبو الطاهر السرقسطي أبو الطاهر إسماعيل بن خلف بن سعيد بن عمران الأنصاري المقرئ النحوي الأندلسي السرقسطي؛ كان إماماً في علوم الآداب ومتقنا لفن القراءات، وصنف كتاب العنوان في القراءات، وعمدة الناس في الاشتغال بهذا الشأن (2) عليه، واختصر كتاب الحجة لأبي علي الفارسي، وذكره أبو القاسم ابن بشكوال في كتاب الصلة، وأثنى عليه، وعدد فضائله (3) . ولم يزل على اشتغاله وانتفاع الناس به إلى أن توفي يوم الحد مستهل المحرم سنة خمس وخمسين وأربعمائة رحمه الله تعالى. والسرقسطي - بفتح السين المهملة والراء وضم القاف وسكون السين الثانية وبعدها طاء مهملة - هذه النسبة إلى مدينة في شرق الأندلس يقال لها سرقسطة من أحسن البلاد، وخرج منها جماعة من العلماء وغيرهم، وأخذها الفرنج من المسلمين في سنة اثنتي عشرة وخمسائة.   (1) ترجمة أبي الطاهر السرقسطي في الصلة: 105 وغاية النهاية 1: 164، وكان السرقسطي يقرئ في جامع عمرو بن العاص بمصر؛ وقال ابن بشطوال توفي سنة 453. (2) د: الفن. (3) إذا صح القول من ابن خلكان فإن ترجمة السرقسطي في " الصلة " تعد ناقصة، لأنه لم يثن عليه ولم يعدد قضائله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 98 - (1) المنصور العبيدي أبو الطاهر إسماعيل الملقب المنصور بن القائم بن المهدي صاحب إفريقية، وستأتي بقية نسبة عند ذكر جده المهدي في حرف العين إن شاء الله تعالى. وقد تقدم ذكر المستعلي، وهو من أحفاده. بويع المنصور يوم وفاة أبيه القائم - على ما سيأتي في ترجمته في حرف الميم -؛ وكان بليغاً فصيحاً يرتجل الخطب، وذكر أبو جعفر أحمد (2) بن محمد المروروذي قال: خرجت مع المنصور يوم هزم أبا يزيد (3) ، فسايرته وبيده رمحان، فسقط أحدهما مرارا فمسحته وناولته إياه، وتفاءلت له، فأنشدته: فألفت عصاها واستقر بها النوى ... كما قر عيناً بالإياب المسافر فقال: ألا قلت ما هو خير من هذا وأصدق وأوحينا إلى موسى أن ألقى عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون، فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون، فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين فقلت: يا مولانا أنت ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت ما عندك من العلم. قلت: ومن أحسن ما جاء في ذلك ما ذكره التيمي في سيرة الحجاج بن يوسف قال: أمر عبد الملك بن مروان أن يعمل باب بيت المقدس ويكتب عليه اسمه، وسأله الحجاج أن يعمل له باباً، فأذن له، فاتفق أن صاعقة وقعت   (1) راجع أخباره في اتعاظ الحنفا: 126 والدرة المضيئة: 116 وابن خلدون 4: 43 وابن عذاري 1: 218 وأعمال الأعلام (القسم الثالث) : 54 وخطط المقريزي. (2) ج هـ: محمد. (3) هو أبو يزيد مخلد بن كيداد النكاري الثائر على العبيدين وسيأتي بعد قليل طرف من خبره، وأخباره مفصلة في المراجع المذكورة قبلاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 فاحترق منها باب عبد الملك وبقي باب الحجاج، فعظم ذلك على عبد الملك، فكتب الحجاج إليه يلغني أن ناراً نزلت من السماء فأحرقت باب أمير المؤمنين ولم تحرق باب الحجاج، وما مثلنا في ذلك إلا كمثل ابني آدم إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يقبل من الآخر فسري عنه لما وقف عليه. وكان أبوه قد ولاه محاربة أبي يزيد الخارج عليه، وكان هذا أبو يزيد مخلد ابن كيداد رجلا من الإباضية يظهر التزهد وأنه إنما قام غضباً لله تعالى، ولا يركب غير حمار، ولا يلبس إلا الصوف، وله مع القائم والد المنصور وقائع (1) كثيرة، وملك جميع مدن القيروان، ولم يبق للقائم إلا المهدية، فأناخ (2) عليها أبو يزيد وحاصرها فهلك القائم في الحصار، ثم تولى المنصور فاستمر على محاربته واخفى موت أبيه، وصابر الحصار حتى رجع أبو يزيد عن المهدية، ونزل على سوسة وحاصرها (3) ، فخرج المنصور من المهدية ولقيه على سوسة فهزمه، ووالى عليه الهزائم إلى أن سره يوم الأحد لخمس بقين من المحرم سنة ست وثلاثين وثلثمائة، فمات بعد أسره بأربعة أيام من جراح كانت به، فأمر بسلخه وحشا جلده قطناً وصلبه وبنى مدينته في موضع الوقعة وسماها المنصورية (4) ، واستوطنها. وكان المنصور شجاعاً رابط الجأش، بليغا يرتجل الخطبة؛ وخرج في شهر رمضان سنة إحدى وأربعين من المنصورية إلى مدينة جلولاء (5) ليتنزه بها ومعه حظيته قضيب، وكان مغرماً بها، فأمطر الله سبحانه وتعالى عليهم بردا كثيراً وسلط عليهم ريحا عظيمة، فخرج منها إلى المنصورية، فاشتد عليه البرد فأوهن جسمه، ومات أكثر من معه، ووصل إلى المنصورية فاعتل بها فمات يوم الجمعة آخر شوال سنة إحدى وأربعين وثلثمائة، وكان سبب علته أنه   (1) أ: وقعات. (2) ج: وأناخ. (3) ج: وحصرها. (4) تقع على بعد نصف ميل من القيروان وهي نفسها " صبرة " المتصلة بالقيروان. (5) جلولاء - حسب تحديد ياقوت - مدينة قديمة بينها وبين القيروان أربعة وعشرون ميلاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 لما وصل المنصورية أراد أن يدخل الحمام، فنهاه طبيبه إسحاق بن سليمان الإسرائيلي (1) ، فلم يقبل منه، ودخل الحمام ففنيت الحرارة الغريزية منه ولازمه السهر، فأقبل إسحاق يعالجه والسهر باق على حاله، فاشتد ذلك على المنصور، فقال لبعض (2) الخدم: أما بالقيروان طبيب يخلصني (3) من هذا الداء فقالوا له ههنا شاب قد نشأ يقال له إبراهيم، فأمر بإحضاره، فحضر فعرفه حاله وشكا إليه ما به (4) ، فجمع له أشياء منومة، وجعلت في قنينة على النار وكلفه شمها فلما أدمن شمها نام، وخرج إبراهيم مسروراً بما فعل، وجاء إسحاق فطلب الدخول عليه فقالوا له: هو نائم، فقال: إن كان قد صنع له شيء ينام منه فقد مات، فدخلوا عليه فوجدوه ميتاً، فأرادوا قتل إبراهيم، فقال إسحاق: ماله ذنب، إنما داواه بما ذكره الأطباء، غير أنه جهل أصل المرض وما عرفتموه، وذلك أني كنت أعالجه وأنظر في تقوية الحرارة الغريزية، وبها يكون النوم، فلما عولج بما يطفئها علمت أنه قد مات. ودفن بالمهدية، ومولده بالقيروان في سنة اثنتين، وقيل: إحدى وثلثمائة، وكانت مدة لمكه سبع سنين وستة أيام، رحمه الله تعالى. وإفريقية - بكسر الهمزة وسكون الفاء وكسر الراء وسكون الياء المثناة من تحتها وكسر القاف وبعدها ياء معجمة باثنتين من تحتها، وهي مفتوحة وبعدها هاء - إقليم عظيم من بلاد المغرب، فتح في خلافة عثمان بن عفان، رضي الله عنه، وكرسي مملكته القيروان، واليوم كرسيها تونس.   (1) أبو عيقوب إسحاق بن سليمان الإسرائيلي: أصله من مصر وكان في أوليته كحالاً ثم يكن القيروان وتتلمذ على الطبيب إسحاق ابن عمران وخدم المهدي وخلفاءه من العبيديين، وله كتاب الحميات، خمس مقالات (ابن أبي أصيبعة 2: 36 - 37) . (2) هـ: لأحد. (3) أ: يخلص. (4) د: إليه ما يجده من السهر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 99 - (1) الطافر العبيدي أبو المنصور إسماعيل الملقب الظافر ابن الحافظ محمد بن المستنصر بن الطاهربن الحاكم بن العزيز بن المعز بن المنصور بن القائم بن المهدي وقد تقدم ذكر جده المنصور قبله. بويع الظافر (2) يوم مات أبوه بوصية أبيه، وكان أصغر أولاد ابيه سناً، وكان كثير اللهو واللعب والتفر بالجواري واستماع الأغاني، وكان يأنس إلى نصر بن عباس، وكان عباس وزيره - وسيأتي ذكره في ترجمة العادل علي بن السلار إن شاء الله تعالى - فاستدعاه إلى دار أبيه ليلاً سراً بحيث لم يعلم به أحد [وكانت] تلك الدار هي [المعروفة بدار يونس وهي] الآن المدرسة الحنفية المعروفة بالسيوفية، فقتله بها وأخفى قتله وقضيته مشهورة، وكان ذلك في منتصف المرحم سنة تسع وأربعين وخمسمائة، رحمه الله تعالى؛ وقيل: ليلة الخميس سلخ المحرم من السنة المذكورة (28) ومولده بالقاهرة يوم الأحد منتصف شهر ربيع الآخر، وفي: الأول، سنة سبع وعشرين وخمسائة. وكان من أحسن الناس صورة، ولما قتله نصر حضر إلى أبيه عباس وأعلمه بذلك من ليلته، وكان أبوه قد أمره بقتله لأن نصراً كان في غاية الجمال، وكان الناس يتهمونه به، فقال له أبوه: إنك أتلفت عرضك بصحبة الظافر، وتحدث الناس في أمركما، فاقتله حتى تسلم من هذه التهمة فقتله، فلما كان صباح تلك الليلة حضر عباس إلى باب القصر وطلب الحضور عند الظافر في شغل مهم، فطلبه الخدم في المواضع التي جرت عادته بالمبيت فيها فلم يوجد، فقيل له: ما نعلم أين هو، فنزل عن مركوبه ودخل القصر بمن معه ممن يثق إليهم وقال   (1) الظافر العبيدي: راجع أخباره في اتعاظ الحنفا: 286 والدرة المضيئة: 557 وابن خلدون 4: 73 وفي خطط المقريزي. (2) د: للظافر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 للخدم: أخرجوا إلي أخوي مولانا، فأخرجوا له جبريل ويوسف ابني الحافظ فسألهما عنه فقالا: سل ولدك عنه فغنه أعلم به منا، فأمر بضرب رقابهما وقال: هذان قتلاه. هذه خلاصة هذه القضية، وقد بسطت القول فيها في ترجمة الفائز عيسى بن الظافر المذكور، والله أعلم. والجامع الظافري الذي بالقاهرة داخل باب زويلة منسوب إليه، وهو الذي عمره ووقف عليه شيئاً كثيراً على ما يقال. 100 - (1) أشهب تلميذ مالك أبو عمرو أشهب بن عبد العزيز بن داود بن إبراهيم القيسي ثم الجعدي الفقيه المالكي المصري؛ تفقه على الإمام مالك، رضي الله عنه، ثم على المدنيين والمصريين. قال الإمام الشافعي، رضي الله عنه: ما رأيت أفقه من أشهب لولا طيش فيه، وكانت المنافسة بينه وبين ابن القاسم، وانتهت الرياسة إليه بمصر بعد ابن القاسم. وكانت ولادته مصر سنة خمسين ومائة، وقال أبو جعفر ابن الجزار في تاريخه: ولد سنة أربعين ومائة، توفي سنة أربع ومائتين بعد الشافعي بشهر، وقيل: بثمانية عشر يوماً. وكانت وفاة الشافعي، رضي الله عنه، في سلخ رجب من السنة المذكورة، وكانت وفاته بمصر ودفن بالقرافة الصغرى، وزرت قبره وهو مجاور قبر ابن القاسم، رحمه الله تعالى. ويقال: إن اسمه مسكين، وأشهب لقب عليه، والأول أصح. وكان ثقة فيما روى عن مالك، رضي الله عنه، وقال أبو عبد الله القضاعي   (1) ترجمة أشه في الديباج: 98 والعبر 1: 345 والشذرات 2: 12. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 في كتاب خطط مصر: كان لأشهب رياسة في البلد، ومال جزيل، وكان من أنظر أصحاب مالك، رضي الله عنه، قال الشافعي رحمه الله تعالى: ما نظرت أحداً من المصريين مثله لولا طيش فيه، ولم يدرك الشافعي رحمه الله تعالى بمصر من أصحاب مالك، رضي الله عنه، سوى اشهب وابن عبد الحكم. وقال ابن عبد الحكم: سمعت أشهب يدعو على الشافعي بالموت، فذكرت ذلك للشافعي فقال متمثلا (1) : تمنى رجال أن أموت وإن أمت ... فتلك سبيل لست فيها بأوحد فقل للذي يبغي خلاف الذي مضى ... تزود لأخرى غيرها فكأن قد قال: فمات الشافعي، فاشترى أشهب من تركته عبداً، ثم مات اشهب فاشتريت أنا ذلك العبد من تركة أشهب. وذكره ابن يونس في تاريخه فقال: أشهب القيسي ثم العامري من بني جعدة، يكنى أباعمرو أحد فقهاء مصر وذوي رأيها. ولد سنة أربعين ومائة وتوفي يوم السبت لثمان بقين من شعبان سنة أربع ومائتين، وكان يخضب عنفقته. وقال محمد بن عاصم المعافري: رأيت في المنام كأن قائلاً يقول: يا محمد، فأجبته، فقال: ذهب الذين يقال عند فراقهم ... ليت البلاد بأهلها تتصدع قال: وكان أشهب مريضاً، فقلت: ما أخوفني أن يموت أشهب، فمات في مرضه ذلك، والله أعلم.   (1) البيتان ينسبان لعبيد بن الأبرص: وقال الراجكوتي في ذيل السمط: 104 أنه وجد الشعر في كتاب الاختيارين منسوباً لمالك بن القين الخزرجي، وانظر أمالي القالي 2: 218 والعقد 4: 443 ومروج الذهب 3: 136. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 101 - (1) أصبغ المالكي أبو عبد الله أصبغ بن الفرج بن سعيد بن نافع الفقيه المالك المصري؛ تفقه بابن القاسم وابن وهب وأشهب. وقال عبد الملك بن الماجشون في حقه: ما أخرجت مصر مثل أصبغ، قيل له: ولا ابن القاسم قال: ولا ابن القاسم. وكان كاتب ابن وهب، وجده نافع عتيق عبد العزيز بن مروان بن الحكم الأموي والي مصر. [حكى عون بن عبد الله قال، قال لي أصبغ: سمعت من أبيك كلاماً نفعني الله تعالى به وهو: لأن يخطئ الإمام في العفو خير من أن يخطئفي العقوبة] (2) . وتوفي يوم الأحد لأربع بقين من شوال سنة خمس وعشرين ومائتين، وقيل: سنة ست وعشرين، وقيل: سنة عشرين، رحمه الله تعالى. وأصبغ: بفتح الهمزة وسكون الصاد المهملة وفتح الباء الموحدة وبعدها غين معجمة.   (1) ترجمة أصبغ في الديباج: 97 والعبر 1: 393 والشذرات 2: 56؛ ولأصبغ مؤلفات منها كتاب الأصول في عشرة أجزاء، وتفسير غريب الموطأ، وكتاب آداب الصيام، وكتب سماعه من ابن القاسم وكتاب الرد على أهل الأهواء وغيرها. (2) زيادة من نسخة آياصوفيا رقم: 3532. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 102 - (1) آق سنقر الحاجب أبو سعيد آق سنقر بن عبد الله الملقب قسيم الدولة المعروف بالحاجب، جد البيت الأنابكي أصحاب الموصل، وهو والد عماد الدين زنكي بن آق سنقر - الآتي ذكره إن شاء الله تعالى؛ كان مملوك السلطان ملكشاه بن ألب أرسلان السلجوقي، هو وبزان (2) ، صاحب الرها، ولما ملك تاج الدولة تتش ابن ألب أرسلان السلجوقي مدينة حلب في سنة478 استناب فيها آتى سنقر المذكور واعتمد عليه لأنه مملوك أخيه، فعصى عليه، فقصده تاج الدولة وهو صاحب دمشق يومئذ فخرج لقتاله وجرى بينهما مصاف وحرب شديدة انجلت عن قتل آق سنقر المذكور وذلك في جمادى الأولى سنة سبع وثمانين وأربعمائة ودفن بالمدرسة المعروفة بالزجاجية داخل حلب، رحمه الله تعالى. ورأيت عند قبره خلقاً كثيراً يجتمعون كل يوم (3) جمعة لقراءة القرآن الكريم، وقالوا: إن لهم على ذلك وقفاً عظيماً يفرق عليهم، ولا أعلم من الذي وقفه، ثم إني وجدت الذي وقفه ولد ولده: نور الدين محمود - الأتي ذكره إن شاء الله تعالى - وسيأتي في ترجمة تاج الدولة تتش خبر آق سنقر المذكور على خلاف هذه الواقعة، والله أعلم بالصواب. والزجاجية: بناها أبو الربيع سليمان بن عبد الجبار بن أرتق صاحب حلب وكان أولاً مدفوناً بقرنبيا، فلما ملك ولده عماد الدين زنكي حلب نقله إلى المدرسة ودلاه من سور البلد، وكان قتل آق سنقر على قرية يقال لها رويان بالقرب من سبعين من أعمال حلب، ذكره ياقوت الحموي.   (1) أخباره مفصلة في التاريخ الباهر: 4 - 15 والكامل، وانظر معجم الألقاب 3/4: 589. (2) يكتب أحياناً " بوزان " في التاريخ الباهر (انظر ص: 15) . (3) هـ: ليلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 103 - (1) آق سنقر البرسقي أبو سعيد آق سنقر البرسقي الغازي، الملقب قسيم الدولة سيف الدين؛ صاحب الموصل والرحبة وتلك النواحي، ملكها بعد أسباسلار مودود، وكان مودود بها وببلاد الشام من جهة السلطان محمد بن ملكشاه السلجوقي - الآتي ذكره إن شاء الله تعالى - فقتل مودود بجامع دمشق يوم الجمعة ثاني عشر شهر ربيع الآخر سنة سبع وخمسمائة، وكان قد وثب عليه جماعة من الباطنية فقتلوه، وآق سنقر يومئذ شحنة بغداد، كان ولاه إياها السطان محمد المذكور في سنة ثمان وتسعين وأربعمائة لما استقرت له السلطنة بعد موت أخيه بر كياروق، وفي سنة تسع وتسعين وجهه السلطان محمد لمحاصرة تكريت وكان بها كيقباذ ابن هزاراسب الديلمي المنسوب إلى الباطنية، فأصعد آق سنقر إليه في رجب من السنة المذكورة وحاصره إلى محرم من سنة خمسمائة، فلما كاد أن يأخذها أصعد إليه سيف الدولة صدقة فتسلمها، وانحدر كيقباذ صحبته ومعه أمواله وذخائره، فلما وصل إلى الحلة مات كيقباذ، فلما وصل خبر قتل مودودتقدم السلطان محمد إلى آق سنقر بالتجهيز إلى الموصل والاستعداد لقتال الفرنج بالشام، فوصل إلى الموصل وملكها وغزا، ودفع الفرنج عن حلب وقد ضايقوها بالحصار، ثم عاد إلى الموصل وأقام بها إلى أن قتل. وهو من كبراء الدولة السلجوقية وله شهرة كبيرة بينهم. قتلته الباطنية بجامع الموصل يوم الجمعة التاسع من ذي القعدة سنة عشرين وخمسمائة، وذكر ابن الجوزي في تاريخه أن الباطنية قتلته في مقصورة الجامع بالموصل سنة تسع عشرة وخمسمائة، وقال العماد: سنة عشرين، وذكر أنهم جلسوا له في   (1) انظر التاريخ الباهر: 24 - 31 وابن الأثير (الكامل) : ج 9 في صفحات متفرقة بين 501 - 633 ومعجم الألقاء 3/4: 588. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 الجامع بزي الصوفية، فلما انفتل من صلاته قاموا إليه وأثخنوه جراحا في ذي القعدة، وذلك لأنه كان تصدى لاستئصال شأفتهم وتتبعهم وقتل منهم عصبة كبيرة، رحمه الله تعالى. وتولى ولده عز الدين مسعود موضعه، ثم توفي يوم الثلاثاء الثاني والعشرينمن جمادى الآخرة سنة إحدى وعشرين وخمسمائة، رحمه الله تعالى؛ وملك بعده عماد الدين زنكي بن آق سنقر المذكور قبله - كما سيأتي في حرف الزاي إن شاء الله تعالى -. والبرسقي - بضم الباء الموحدة وسكون الراء وضم السين المهملة وبعدها قاف - ولا أعلم هذه النسبة إلى أي شيء هي ولم يذكرها السمعاني ثم إني وجدت نسبته بعد هذا إلى برسق، وكان من مماليك السلطان طغرلبك أبي طالب محمد - الآتي ذكره إن شاء الله تعالى - وتقدم في الدولة السلجوقية، وكان من الأمراء المشار إليهم فيها، المعدودين من أعيانهم. 104 - (1) أبو الصلت الأندلسي أبو الصلت أمية بن عبد العزيز بن أبي الصلت الأندلسي الداني؛ كان فاضلاً في علوم الآداب، صنف كتابه الذي سماه الحديقة على أسلوب يتيمة الدهر للثعالبي، وكان عارفاً بفن الحكمة، فكان يقال له: الأديب الحكيم، وكان ماهراً في علوم الأوائل، وانتقل من الأندلس وسكن ثغر الإسكندرية، وذكره العماد الكاتب في الخريدة وأثنى عليه وذكر شيئاً من نظمه،   (1) لأبي الصلت الأندلسي ترجمة في ابن أبي أصيبعة 2: 52 ومعجم الأدباء 7: 52 وتحفة القادم: 3 وتاريخ الحكماء: 80 والمغرب 1: 256 والخريدة (قسم المغرب) 1: 223 - 343 ونفح الطيب 2: 105 (ط. صادر) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 ومن جملة ما ذكر له [قوله لمن جاد عليه قبل مدحه: لا غرو أن سبقي يداك مدائحي ... فتدفقت جدواك مثل إنائها يكسى القضيب ولم يحن إثماره ... وتطوق الورقاء قبل غنائها ولأبي جعفر الجزار البطرني في ابن عباد (1) : وما زلت أجني منك والدهر ممحل ... ولا ثمر يجنى ولا زرع يحصد ثمار أياد دانياتٍ قطوفها ... لأغصانها ظل علي ممدد يرى جارياً ماء المكارم تحتها ... وأطيار شكري فوقهن تغرد ولأبي الصلت المذكور] : إذا كان أصلي من تراب فكلها ... بلادي وكل العالمين أقاربي ولا بد لي أن أسأل العيس حاجةً ... تشق على شم الذرى والغوارب ولم أر هذين البيتين في ديوانه (2) ، وأورد له أيضاً: وقائلة ما بال مثلك خاملاً ... أأنت ضعيف الرأي أم أنت عاجز فقلت لها ذنبي إلى القوم أنني ... لما لم يحوزوه من المجد حائز وما فاتني شيء سوى الحظ وحده ... وأما المعالي فهي عندي غرائز ولا وجدت هذا المقطوع أيضاً في ديوانه، والله أعلم، وله أيضا: جد بقلبي وعبث ... ثم مضى وما اكترث واحربا من شادن ... في عقد الصبر نفث يقتل من شاء بعي ... نيه ومن شاء بعث فأي ود لم يخن ... وأي عهد ما نكث   (1) في الأصل: في الصاحب ابن عباد المقدم ذكره، وهو خطأ، لأن الشاعر أندلسي، والأبيات في النفح 3: 413 (ط. صادر) . (2) لعل سبب ذلك أنهما ينسبان إلى أبي العرب الصقلي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 وله أيضاً: دب العذار بخده ثم انثنى ... عن لثم مبسمه البرود الأشنب لاغرو أن خشي الردى في لثمه ... فالريق سم قاتل للعقرب ومن شعره أيضاً: ومهفهفٍ شركت محاسن وجهه ... ما مجه في الكأس من إبريقه ففعالها من مقلتيه ولونها ... من وجنتيه وطعمها من ريقه [أخذ هذا المعنى من ابن حبوس حيث يقول: وممنطق يغني بلحظ جفونه ... عن كأسه الملأى وعن إبريقه فعل المدام ولونها ومذاقها ... في مقلتيه ووجنتيه وريقه] وأورد له أيضاً في كتاب " الخريدة " في ترجمة الحسن بن أبي الشخباء العسقلاني (1) : عجبت من طرفك في ضعفه ... كيف يصيد البطل الأصيدا يفعل فينا وهو في غمده ... ما يفعل السيف إذا جردا وشعره كثير وجيد، وكان قد انتقل في آخر الوقت إلى المهدية وتوفي بها يوم الاثنين مستهل سنة تسع وعشرين وخمسمائة، وقيل: في عاشر المحرم سنة ثمان وعشرين. وقال العماد في الخريدة: أعطاني القاضي الفاضل كتاب الحديقة وفي آخرها مكتوب: إنه توفي يوم الاثنين ثاني عشر المحرم سنة ست وأربعين وخمسمائة، رحمه الله تعالى، والصحيح هو الأول، فإن أكثر الناس عليه، وهو الذي ذكره الرشيد بن الزبيرفي الجنان، ومات بالمهدية، ودفن بالمنستير - وسيأتي ذكرها في ترجمة الشيخ هبة الله البوصيري إن   (1) سيترجم له ان خلكان في ما يلي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 شاء الله تعالى، ونظم أبياتاً، وأوصى أن تكتب على قبره، وهي آخر شيء قاله، وهي: سكنتك يا دار الفناء مصدقاً ... بأني إلى دار البقاء أصير وأعظم ما في الأمر أني صائر ... إلى عادل في الحكم ليس يجوز فيا ليت شعري كيف ألقاه عندها ... وزادي قليل والذنوب كثير فإن أك مجزياً بذنبي فإنني ... بشر عقاب المذنبين (1) جدير وإن يك عفو منه عني ورحمة ... فثم نعيم دائم وسرور ولما اشتد مرض موته قال لولده عبد العزيز: عبد العزيز، خليفتي ... رب السماء عليك بعدي أنا قد عهدت إليك ما ... تدريه فاحفظ فيه عهدي فلئن عملت به فإن ... ك لا تزال حليف رشد ولئن نكثت لقد ضلل ... ت وقد نصحتك حسب جهدي ثم وجدت في مجموع لبعض المغاربة ان أبا الصلت المذكور مولده في دانية مدنية من بلاد الأندلس في قران سنة ستين وأربعمائة، وأخذ العلم عن جماعة من أهل الأندلس، كأبي الوليد الوقشي قاضي دانية وغيره، وقدم الإسكندرية مع أمه في يوم عيد الأضحى من سنة تسع وثمانين وأربعمائة، ونفاه الأفضل شاهنشاه من مصر في سنة خمس وخمسمائة، وتردد بالإسكندرية إلى أن سافر في سنة ست وخمسمائة فحل بالمهدية، ونزل من صاحبها علي بن يحيى بن تميم ابن المعز بن باديس منزلة جليلة، وولد له بها ولد سماه عبد العزيز، وكان شاعراً ماهراً، له في الشطرنج يد بيضاء، وتوفي هذا الولد ببجاية في سنة ست وأربعين وخمسمائة. قلت: وهو الذي غلط فيه العماد الكاتب فيما نقله عن القاضي الفاضل، واعتقد أن أباه مات في هذا التاريخ.   (1) ج هـ: المجرمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 وصنف أمية وهو في اعتقال الأفضل بمصر رسالة العمل بالأصطرلاب، وكتاب " الوجيز " في علم الهيئة، وكتاب " الأدوية المفردة " وكتاباً في المنطق سماه " تقويم الذهن " وكتاباً سماه " الانتصار في الرد على علي بن رضوان " في رده على حنين بن إسحاق في مسائله، ولما صنف " الوجيز " للأفضل عرضه على منجمه أبي عبد الله الحلبي، فلما وقف عليه قال له: هذا الكتاب لا ينتفع به المبتدي ويستغني عنه المنتهي. وله من أبيات: كيف لا تبلى غلائله ... وهو بدر وهي كتان وإنما قال هذا لأن الكتان إذا تركوه في ضوء القمر بلي. وكان مرضه الاستسقاء، والله أعلم. 105 - (1) القاضي اياس أبو وائلة إياس بن معاوية بن قرة بن إياس بن هلال بن رباب بن عبيد بن سوأة بن سارية بن ذبيان بن سليم بن أوس بن مزينة المزني؛ وهو السن البليغ والألمعي المصيب، والمعدود مثلاً في الذكاء والفطنة، ورأسا لأهل الفصاحة والرجاحة. كان صادقا الظن لطيفاً في الأمور، مشهوراً بفرط الذكاء، وبه يضرب المثل في الذكاء، وإياه عنى الحريري في " المقامات " بقوله في المقامة السابعة: فإذا أمعيتي ألمعية ابن عباس، وفراستي فراسة   (1) ترجمة القاضي إياس وأخباره في المعارف لابن قتيبة: 467 وحلية الأولياء 3: 123 وسرح العيون وكتاب الأذكياء لابن الجوزي وشرح المقامات 1: 113 وميزان الاعتدال 1: 283 والحكايات عنه منثورة في كتب الأدب اعامة مثل البيان والتبيين والحيوان والكامل ومحاضرات الراغب والعقد وحدائث الأزاهر وغيرهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 إياس، وكان عمر بن عبد العزيز قد ولاه قضاء البصرة. وكان لإياس جد أبيه صحبة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل لمعاوية بن قرة والد إياس: كيف ابنك لك فقال: نعم الابن، كفاني أمر دنياي وفرغني لآخرتي. وكان إياس أحد العقلاء الفضلاء الدهاة. ويحكى من فطنته أنه كان في موضع فحدث فيه ما أوجب الخوف، وهناك ثلاث نسوة لا يعرفهن، فقال: هذه ينبغي أن تكون حاملاً، وهذه مرضعاً، وهذه عذراء، فكشف عن ذلك فكان كما تفرس (1) ، فقيل له: من أين لك هذا فقال: عند الخوف لايضع الإنسان يده إلا على أعز ما له ويخاف عليه، ورأيت الحامل قد وضعت يدها على جوفها، فاستدللت بذلك على حملها، ورأيت المرضع قد وضعت يدها على ثديها، فعلمت أنها مرضع، والعذراء وضعت يدها على فرجها، فعلمت أنها بكر. وسمع إياس بن معاوية يهودياً يقول: ما أحمق المسلمين، يزعمون أن أهل الجنة يأكلون ولا يحدثون، فقال له إياس: أفكل ما تأكله تحدثه قال: لا، لأن الله تعالى يجعله غذاء، قال فلم تنكر أن الله تعالى يجعل كل ما يأكله أهل الجنة غذاء ونظر يوماً إلى آجرة بالرحبة وهو بمدينة واسط، فقال: تحت هذه الآجرة دابة، فنزعوا الآجرة فإذا تحتها حية منطوية، فسألوه عن ذلك فقال: إني ما بين الآجرتين ندياً من بين جميع تلك الرحبة، فعلمت أن تحتها شيئاً يتنفس. ومر يوماً بمكان فقال: أسمع صوت كلب غريب، فقيل له: كيف عرفت ذلك قال: بخضوع صوته وشدة نباح غيره من الكلاب، فكشفوا عن ذلك فإذا كلب غريب مربوط والكلاب تنبحه. ونظر يوماً إلى صدع في الأرض فقال: في هذا الصدع دابة، فنظروا فإذا فيه دابة، فسألوه عنه فقال: إن الأرض لا تنصدع إلا عن دابة أو نبات.   (1) د: كما قال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 قال الجاحظ: إذا نظر الإنسان إلى موضع منفتح في أرض مستوية فيتأمله فإن رآه يتصدع في تهيل (1) وكان تفتحه مستوياً علم أنها كمأة، وإن خلط في التصدع والحركة علم أنها دابة. وله في هذا الباب من الفراسة أشياء غريبة كثيرة، ولولا خوف الإطالة لبسطت القول في ذلك، وبعض العلماء قد جمع جزءا كبيرا من أخباره. وكتب عمر بن عبد العزيز الأموي - رضي الله عنه - في أيام خلافته إلى نائبه بالعراق وهو عدي بن أرطاة ان اجمع بين إياس بن معاوية والقاسم بن ربيعة الحرشي فول قضاء البصرة أنفذهما، فجمع بينهما، فقال له إياس: أيها الأمير سل عني وعن القاسم فقيهي المصر الحسن البصري ومحمد بين سيرين، وكان القاسم يأتيهما وإياس لا يأتيهما، فعلم القاسم أنه إن سألهما اشارا به، فقال له: لا تسأل عني ولا عنه، فوالله الذي لاإله إلا هو إن إياس بن معاوية أفقه مني وأعلم بالقضاء فإن كنت كاذباً فما يحل لك أن توليني وأنا كاذب، وإن كنت صادقا فينبغي لك أن تقبل قولي، فقال له إياس (2) : إنك جئت برجل أوقفته على شفير جهنم فنجى نفسه منها بيمين كاذبة يستغفر الله منها وينجو مما يخاف، فقال عدي بن أرطاة: أما إذ فهمتها فأنت لها، واستقضاه. وروي عن إياس أنه قال: ما غلبني أحد قط سوى رجل واحد، وذلك أني كنت في مجلس القضاء بالبصرة، فدخل علي رجل شهد عندي أن البستان الفلاني - وذكر حدوده - هو ملك فلان، فقلت له: كم عدد شجره فسكت ثم قال: منذ كم يحكم سيدنا القاضي في هذا المجلس فقلت: منذ كذا، فقال: كم عدد خشب سقفه فقلت له: الحق معك، وأجزت شهادته. وكان يوماً في برية فأعوزهم الماء، فسمع نباح كلب فقال: هذا على رأس بئر، فاستقروا النباح فوجدوه كما قال، فقيل له في ذلك فقال: لأني سمعت الصوت كالذي يخرج من بئر. وكان له في ذلك غرائب.   (1) هـ: في تهيله. (2) د: إنك جئت برجل فأقمته على جهنم، فافتدى نفسه من النار أن تقذفه فيها بيمين حلفها كذباً ... الخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 وقال أبو إسحاق ابن حفص: رأى إياس في المنام أنه لا يدرك النحر، فخرج إلى ضيعة له بعبدسى - وعبدس: قرية من أعمال دست (1) ميسان يسن البصرة وخوزستان - فتوفي بها في سنة اثنتين وعشرين ومائة، وقال غيره: سنة إحدى وعشرين، وعمره ست وسبعون سنة. وقال إياس في العام الذي توفي فيه: رأيت في المنام كاني وأبي على فرسين فجريا معا فلم أسبقه ولم يسبقني، وعاش أبي ستا وسبعين سنة وأنا فيها، فلما كان آخر لياليه قال: أتدرون أي ليلة هذه ليلة أستكمل فيها عمر أبي، ونام فأصبح ميتاً، وكانت وفاة أبيه معاولة في سنة ثمانين للهجرة، رحمه الله تعالى. وإياس: بكسر الهمزة، وقرة: بضم القاف، ومزينة: قد تقدم القول عليها. وتراءى هلال شهر رمضان جماعة فيهم أنس بن مالك رضي الله عنه وقد قارب المائة، فقال أنس: قد رأيته، هو ذاك، وجعل يشير إليه فلا يرونه، ونظر إياس إلى أنس وإذا شعرة من حاجبه قد انثنت، فمسحها إياس وسواها بحاجبه، ثم قال له: يا أبا حمزة، أرنا موضع الهلال، فجعل ينظر ويقول ما أراه. 106 - ابن القرية أبو سليمان أيوب بن زيد بن قيس بن زرارة بن سلمة بن جشم بن مالك بن عمرو بن عامر بن زيد مناة بن عامر بن سعد بن الخزرج بن تيم الله بن النمر بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد   (1) في الأصول - ما عدا هـ - دشت؛ وضبطها ياقوت بالسين المهملة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 ابن عدنان المعروف بابن القرية الهلالي، والقرية: جدته، واسمها جماعة بنت جشم بن ربيعة بن زيد مناة بن عوف بن سعد بن الخزرج - وتمام النسب مذكور في أول الترجمة؛ كان أعرابياً أمياً، وهو معدود من جملة خطباء العرب المشهورين بالفصاحة والبلاغة، وكان قد أصابته السنة، فقدم عين التمر وعليها عامل للحجاج بن يوسف، وكان العامل يغدي كل يوم ويعشي، فوقف ابن القرية ببابه فرأى الناس يدخلون فقال: أين يدخل هؤلاء فقالوا: إلى طعام الأمير، فدخل فتغدى وقال: أكل يوم يصنع الأمير ما أرى فقيل: نعم، فكان يأتي كل يوم بابه للغداء والعشاء، إلى أن ورد كتاب من الحجاج على العامل، وهو عربي غريب لا يدري ما هو، فأخر لذلك طعامه، فجاء ابن القرية فلم ير العامل يتغدى، فقال: ما بال الأمير اليوم لا يأكل ولا يطعم فقالوا: اغتم لكتاب ورد عليه من الحجاج عربي غريب لا يدري ما هو، قال: ليقرئني الأمير الكتاب وأنا أفسره إن شاء الله تعالى، وكان خطيباً لسناً بليغاً، فذكر ذلك نلوالي فدعا به فلما قرئ عليه الكتاب عرف الكلام وفسره للوالي حتى عرفه جميع ما فيه فقال له: أفتقدر على جوابه قال: لست أقرأ ولا أكتب ولكن أقعد عند كاتب يكتب ما أمليه، ففعل، فكتب جواب الكتاب، فلما قرئ الكتاب على الحجاج رأى كلاما عربيا غريبا، فعلم أنه ليس من كلام كتاب الخراج، فدعا برسائل عامل عين التمر فنظر فيها فإذا هي ليست ككتاب ابن القرية، فكتب الحجاج إلى العامل أما بعد، فقد أتاني كتابك بعيداً من جوابك بمنطق غيرك، فإذا نظرت في كتابي هذا فلا تضعه من يدك حتى تبعث إلي بالرجل الذي صدر لك الكتاب، والسلام. قال: فقرأ العامل الكتاب على ابن القرية وقال له: تتوجه نحوه فقال: أقلني، قال: لا بأس عليك، وأمر له بكسوة ونفقة وحمله إلى الحجاج. فلما دخل عليه قال: أيوب، قال: اسم نبي وأظنك أمياً تحاول البلاغة ولا يستصعب عليك المقال، وأمر له بنزل ومنزل، فلم يزل يزداد به عجبا حتى أوفده على عبد الملك بن مروان، فلما خلع عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بن قيس الكندي الطاعة بسجستان وهي واقعة مشهورة بعثه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 الحجاج إليه رسولاً، فلما دخل عليه قال له: لتقومن خطيباً ولتخلعن عبد الملك ولتسبن الحجاج أو لأضربن عنقك، قال: أيها الأمير إنما أنا رسول، قال: هو ما أقول لك، فقالم وخطب وخلع عبد الملك وشتم الحجاج، وأقام هنالك. فلما انصرف ابن الأشعث مهزوماً كتب الحجاج إلى عماله بالري وأصبهان وما يليهما يأمرهم أن لا يمر بهم أحد من فل ابن الأشعث إلا بعثوا به أسيرا إليه، واخذ ابن القرية فيمن أخذ، فلما أدخل على الحجاج قال: أخبرني عما أسألك عنه، قال: سلني عما شئت، قال: أخبرني عن أهل العراق، قال: أعلم الناس بحق وباطل، قال: فأهل الحجاز، قال: أسرع الناس إلى فتنة وأعجزهم فيها، قال: فأهل الشام، قال: أطوع الناس لخلفائهم، قال: فأهل مصر، قال: عبيد من غلب، قال: فأهل البحرين، قال: نبيط استعربوا، قال: فأهل عمان، قال: عرب استنبطوا، قال: فأهل الموصل، قال: أشجع فرسان وأقتل للأقران، قال: فأهل اليمن، قال: أهل سمع وطاعة ولزوم للجماعة، قال: فأهل اليمامة، قال: أهل جفاء، واختلاف أهواء، وأصبرعند اللقاء، قال: فاهل بأس شديد، وشر عتيد، وزيف كثير، وقرى يسير، قال: أخبرني عن العرب، قال: سلني، قال: قريش، أطواها رماحاً، وأكرمها صباحاً، قال: فبنو سليم، قال: أعظمها مجالس، وأكرمها محابس، قال: فثقيف، قال: أكرمها جدوداً، وأكثرها وفوداً، قال: فبنو زبيد، قال: ألزمها للرايات، وأدركها للترات، قال: فقضاعة، قال: أعظمها اخطاراً، وأكرمها نجاراً، وأبعدها آثاراً، قال: فالأنصار، قال: أثبتها مقاماً، وأحسنها إسلاماً، وأكرمها أياماً، قال: فتميم، قال أظهرها جلداً، وأثراها عدداً، قال: فبكر بن وائل، قال: أثبتها صفوفاً، وأحدها سيوفاً، قال: فعبد القيس، قال: أسبقها إلى الغايات، وأصبرها تحت الرايات، قال: فبنو أسد، قال: أهل عدد وجلد، وعسر ونكد، قال: فلخم، قال: ملوك، وفيهم نوك، قال: فجذام، قال: يوقدون الحرب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 ويسعرونها، ويلقحونها ثم يمرونها، قال: فبنو الحارث، قال: رعاة للقديم، وحماة عن الريم، قال: فعك، قال: ليوث حاهدة، في قلوب فاسدة، قال: فتغلب، قال: يصدقون إذا لقوا ضرباً، ويسعرون للأعداء حراباً، قال: فغسان، قال: أكرم العرب أسحاباً، وأثبتها أنساباً، قال: فأي العرب في الجاهلية كانت أمنع من أن تضام قال: قريش، كانوا أهل رهوة لا يستطاع ارتقاؤها، وهضبة لا يرام انتزاؤها، في بلدة حمس الله ذمارها، ومنع جارها، قال: فأخبرني عن مآثر العرب في الجاهلية، قال: كانت العرب تقول حمير أرباب الملك وكندة لباب الملوك ومذحج أهل الطعان وهمدان أحلاس الخيل والأزد آساد الناس، قال: فأخبرني عن الأرضين، قال: سلني، قال: الهند، قال: بحرها در وجبلها ياقوت وشجرها عود وورقها عطر وأهلها طغام كقطع الحمام، قال: فخراسان، قال: ماؤها جامد، وعدوها جاحد، قال: فعمان، قال: حرها شديد، وصيدها عتيد، قال: فالبحرين، قال: كناسة بين المصرين، قال: فاليمن، قال: أصل العرب، وأهل البيوتات والحسب، قال: فمكة، قال: رجالها علماء جفاة، ونساؤها كساة عراة، قال: فالمدينة، قال: رسخ العلم فيها وظهر منها، قال: فالبصرة، قال: شتاؤها جليد، وحرها شديد، وماؤها ملح، وحربها صلح، قال: فالكوفة، قال: ارتفعت عن حر البحر وسلفت عن برد الشام، فطاب ليلها وكثر خيرها، قال: فواسط، قال: جنة بين حماة وكنة، قال: وما حماتها وكنتها قال: البصرة والكوفة تحسدانها وما ضرها ودجلة والزاب يتجاريان بإفاضة الخير عليها، قال: فالشام، قال: عروس بين نسوة جلوس، قال: ثكلتك أمك يا ابن القرية! لولا اتباعك لأهل العراق وقد كنت أنهاك عنهم أن تتبعهم فتأخذ من نفاقهم، ثم دعا بالسيف وأومأ إلى السياف أن أمسك، فقال ابن القرية: ثلاث كلمات أصلح الله الأمير كأنهن ركب وقوف يكن مثلا بعدي، قال: هات، قال: لكل جواد كبوة ولكل صارم نبوة ولكل حليم هفوة، قال الحجاج: ليس هذا وقت المزاح، ياغلام أوجب جرحه، فضرب عنقه. وقيل: إنه لما أراد قتله قال له: العرب تزعم أن لكل شيء آفة، قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 صدقت العرب، أصلح الله الأمير! قال: فما آفة الحلم قال: الغضب، قال: فما آفة العقل قال: العجب، قال: فما آفة العلم قال: النسيان، قال: فما آفة السخاء قال: المن عند البلاء، قال: فما آفة الكرام قال: مجاورة اللئام، قال: فما آفة الشجاعة قال: البغي، قال: فما آفة العبادة قال: الفترة، قال: فما آفة الذهن قال: حديث النفس، قال: فما آفة الحديث قال: الكذب، قال: فما آفة المال قال: سوء التدبير، قال: فما آفة الكامل من الرجال قال: العدم، قال: فما آفة الحجاج بن يوسف قال: أصلح الله المير، لاآفة لمن كرم حسبه وطاب نسبه وزكا فرعه، قال: امتلأت شقاقاً، وأظهرت نفاقاً؛ اضربوا عنقه، فلما رآه قتيلاً ندم. نقلت هذا كله من كتاب اللفيف، وإنما أطلت الكلام فيه لأنه كان متصلاً فما أمكن قطعه. وسأله بعض العلماء عن حد الدهاء فقال: هو تجرع الغصة وتوقع الفرصة. ومن كلامه في صفة العي: التنحنح من غير داء، والتثاؤب من غير ريبة، والإكباب في الأرض من غير علة. وكان قتله في سنة أربع وثمانين لهجرة، رحمه الله تعالى. وهذا ابن القرية هو الذي تذكره النحاة في أمثالها فيقولون: ابن القرية زمان الحجاج. وذكر أبو الفرج الأصبهاني في كتاب الأغاني (1) في ترجمة مجنون ليلى بعد أن استوفى أخباره فقال: وقد قيل إن ثلاثة أشخاص شاعت أخبارهم، واشتهرت أسماؤهم، ولا حقيقة لهم ولا وجود في الدنيا، وهم: مجنون ليلى، وابن القرية - يعني هذا المذكور -، وابن أبي العقب الذي تنسب إله الملاحم، واسمه يحيى بن عبد الله بن أبي العقب، والله أعلم. والقرية - بكسر القاف وتشديد الراء وتشديد الياء المثناة من تحتها وبعدها هاء - وهي أم جشم بن مالك بن عمرو، وكان عمرو المذكور قد تزوجها فلما مات تزوجها   (1) انظر الأغاني 2: 11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 ابنه مالك فأولدها جشم بن مالك المذكور، والقرية في اللغة: الحوصلة، وبها سميت المرأة، قال أهل العلم بالنساب: لما تزوج مالك ابن عمرو المذكور القرية - واسمها جماعة، كما تقدم في أول الترجمة - أولدها جشم جد أيوب ابن القرية المذكور، وكليباً، وهو جد العباس بن عبد المطلب، رضي الله عنه، عم رسول الله عليه وسلم من جهة أمه، فإن أمه نتيلة - بضم النون - وقيل: نتلة بفتحها، بنتحباب بن كليب بن ملك المذكور، فالعباس رضي الله عنه من أولاد القرية بهذا الاعتبار. وذكر ابن قتيبة في كتاب " المعارف " (1) أن ابن القرية هلالي، وأنه من بني هلال بن ربيعة بن زيد مناة بن عامر. وذكر ابن الكلبي أنه من بني مالك بن عمرو بن زيد مناة، فما يجتمع هلال ومالك إلا في زيد مناة، وليس هلال في عمود نسبة، والله تعالى أعلم. والهلالي - بكسر الهاء - نسبة إلى هلال بن ربيعة بن زيد مناة، بطن من النمر بن قاسط، وفي العرب أيضاً: هلال بن عامر بن صعصعة، قبيلة أخرى، وقد ذكر ابن الكلبي في كتاب جمهرة النسب هذين النسبين وصورة النكاح بينهما فيؤخذ منه. 107 - أيوب والد السلطان صلاح الدين أبو الشكر أيوب بن شاذي بن مروان الملقب الملك الأفضل نجم الدين والد السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، وسيأتي في ترجمة ولده صلاح الدين تتمة نسبة وصورة الاختلاف فيه، فينظر هناك، ولا حاجة إلى الإطالة بذكره ههنا. قال بعض المؤرخين: كان شاذي بن مروان من أهل دوين ومن أبناء أعيانها   (1) المعارف: 404. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 والمعتبرين بها، وكان له صاحب يقال له: جمال الدولة المجاهد بهروز - قلت: وهو المذكور في ترجمة صلاح الدين يوسف بن أيوب - قال: وكان من أظرف الناس وألطفهم وأخبرهم بتدبير الأمور، وكان بينهما من الاتحاد كما بين الأخوين، فجرت لبهروز قضية في دوين، فخرج منها حياء وحشمة، وذلك أنه اتهم بزوجة بعض الأمراء بدوين، فأخذه صاحبها فخصاه، فلما مثل به لم يقدر على الإقامة بالبلد، وقصد خدمة أحد الملوك السلجوقية، وهو السلطان غياث الدين محمد بن ملكشاه، الآتي ذكره إن شاء الله تعالى، واتصل باللالا الذي لأولاده، فوجده لطيفاً كافياً في جميع الأمور، فتقدم عنده وتميز، وفوض أحواله إليه، وجعله يركب مع أولاد السلطان مسعود إذا كان له شغل، فرآه السلطان يوما مع أولاده، فأنكر على اللالا، فقال له: إنه خادم، وأثنى عليه وشكر دينه وعفافه ومعرفته، ثم صار يسيره إلى السلطان في الأشغال، فخفف على قلبه، ولعب معه بالشطرنج والنرد فحظي عنده، واتفق موت اللالا، فجعله السلطان مكانه، وأرصده لمهامه، وسلم إليه أولاده، وسار ذكره في تلك النواحي، فسير إلى شاذي يستدعيه من بلده ليشاهد ما صار إليه من النعمة، وليقاسمه فيما خوله الله تعالى، وليعلم أنه ما نسبه، فلما وصل إليه بالغ في إكرامه والإنعام عليه. واتفق أن السلطان رأى أن يوجه المجاهد المذكور إلى بغداد والياً عليها ونائباً عنه بها، وكذا كانت عادة الملوك السلجوقية في بغداد يسيرون إليها النواب، فاستصحب معه شاذي المذكور، فسار هو وأولاده صحبته، وأعطى السلطان لبهروز قلعة تكريت، فلم يجد من يثق إليه في أمرها سوى شاذي المذكور، فأرسله إليها، فمضى وأقام بها مدة وتوفي بها، فولى مكانه ولده نجم الدين أيوب المذكور، فنهض في أمرها، وشكره بهروز وأحسن إليه، وكان أكبر سناً من أخيه أسد الدين شيركوه، الآتي ذكره إن شاء الله تعالى. قلت: وهذا الكلام بينه وبين الآتي ذكره في ترجمة صلاح الدين بعض الاختلاف، والله أعلم بالصواب، ولا شك أنه يحصل المقصود من مجموع الكلامين، فلينظر هناك أيضاً، وذكرت في تلك الترجمة أيضاً سبب المعرفة بين عماد الدين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 زنكي صاحب الموصل، وبين نجم الدين أيوب وأسد الدين شيركوه، فلا حاجة إلى ذكره هنا. ثم اتفق أن بعض الحرم خرجت من قلعة تكريت لقضاء حاجة، وعادت فعبرت على نجم الدين أيوب وأخيه أسد الدين شيركوه وهي تبكر، فسألاها عن سبب بكائها، فقالت: أنا داخلة في الباب الذي للقلعة، فتعرض إلي الإسفهسلار، فقام شيركوه وتناول الحربة التي تكون للإسفهسلار وضربه بها فقتله، فأمسكه أخوه نجم الدين أيوب واعتقله، وكتب إلى بهروز وعرفه صورة الحال ليفعل فيه ما يراه، فوصل إليه جوابه لأبيكما علي حق، وبيني وبينه مودة متاكدة، ما يمكنني أن أكافئكما بحالة سيئة تصدر مني في حقكما، ولكن أشتهي منكما أن تتركا خدمتي، وتخرجا من بلدي، وتطلبا الرزق حيث شئتما. فلما وصلهما الجواب ما أمكنهما المقام بتكريت، فخرجا منها ووصلا إلى الموصل، فأحسن إليهما الأتابك عماد الدين زنكي لما كان تقدم لهما عنده، وزارد في إكرامهما والإنعام عليهما، وأقطعهما إقطاعاً حسناً، ثم لما ملك الأتابك قلعة بعلبك استخلف بها نجم الدين أيوب، وهذا كله مذكور في ترجمة ولده صلاح الدين، وإن اختلفت العبارة، ورأيت في بعلبك خانقاه للصوفية يقال لها النجمية، وهي منسوبة إليه، عمرها في مدة إقامته بها، وكان رجلاً مباركاً كثير الصلاح، مائلاً إلى أهل الخير حسن النية، جميل الطوية. وفي أوائل ترجمة صلاح الدين طرف من أخبار والده نجم الدين أيوب، وكيف رتبه زنكي في بعلبك، وما جرى له بعد ذلك من الانتقال إلى دمشق، فأغنى عن شرحه ههنا. ولما توجه أخوه اسد الدين شيركوه إلى مصر لإنجاد شاور - على ما اشرحه في ترجمتيهما إن شاء الله تعالى - كان نجم الدين أيوب مقيماً بدمشق في خدمة نور الدين محمود بن زنكي رحمه الله تعالى، ولما تولى صلاح الدين ولده وزارة الديار المصرية في أيام العاضد صاحب مصر، استدعى أباه من الشام، فجهزه نورالدين وأرسله إليه ودخل القاهرة لست بقين من رجب سنة خمس وستين وخمسمائة، وخرج العاضد للقائه إكراماً لولده صلاح الدين يوسف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 وسلك معه ولده صلاح الدين من الأدب ماهو اللائق بمثله، وعرض عليه الأمر كله فأبى وقال: يا ولدي، ما اختارك الله تعالى لهذا الأمر إلا وأنت أهل له، ولا ينبغي أن تغير موضع السعادة، ولم يزل عنده حتى استقل صلاح الدين بمملكة البلاد كما هو مذكور في ترجمته. ثم خرج صلاح الدين إلى الكرك ليحاصرها وأبوه بالقاهرة، فركب يوماً ليسير على عادة الحند، فخرج من باب النصر أحد أبواب القاهرة، فشب به فرسه فألقاه في وسط المحجة، وذلك في يوم الاثنين ثامن عشر ذي الحجة من سنة ثمان وستين وخمسمائة، فحمل إلى داره، وبقي متألما إلى أن توفي يوم الأربعاء السابع والعشرين من الشهر المذكور، هكذا ذكره جماعة من المؤرخين، منهم عماد الدين الكاتب الأصبهاني، لكنه قال: إن وفاته كانت يوم الثلاثاء. ورأيت في تاريخ كمال الدين بن العديم فصلا نقله من تعليق العضد مرهف بن أسامة بن منقذ، قال: إنه توفي يوم الاثنين الثامن عشر من ذي الحجة. قلت: ظاهر الحال أن العضد ما اوقعه في هذا الوهم إلا أنه اعتقد أنه توفي في اليوم الذي سقط فيه عن فرسه، فان هذا التاريخ هو تاريخ سقوطه عن الفرس لا تاريخ وفاته، والله أعلم. ولما مات دفن إلى جاب أخيه أسد الدين شيركوه في بيت بالدار السلطانية ثم نقلا بعد سنين إلى المدينة الشريفة النبوية، على ساكنها أفضل الصلاة والسلام. ورأيت في تاريخ القاضي الفاضل الذي رتبه على الأيام وهو بخطه، يذكر فيه ما يتجدد في كل يوم، فقال: وفي يوم الخميس رابع صفر سنة ثمانين وخمسمائة وصل كتاب بدر الأسدي - يعني من المدينة - يخبر بوصول تابوتي الأميرين: نجم الدين أيوب وأسد الدين شيركوه، واستقرارهما بتربتهما مجاورين الحجرة المقدسة النبوية، نفعهما الله تعالى بمجاورتها. ولما عاد صلاح الدين من الكرك إلى الديار المصرية بلغة الخبر في الطريق فشق عليه حيث لم يحضره، وكتب إلى ابن أخيه عز الدين فروخ شاه بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 شاهانشاه بن أيوب، صاحب بعلبك، كتاباً بخط القاضي الفاضل يعزيه عن جده نجم الدين أيوب المذكور. ومن جملة فصوله: المصاب بالمولى الدارج، غفر الله ذنبه، وسقى بالرحمة تربه، ما عظمت به اللوعة، واشتدت به الروعة، وتضاعفت لغيبتنا عن مشهده الحسرة، فاستنجدنا بالصبر فأبى وأنجدت العبرة، فياله فقيدا فقدنا عليه العزاء، وهانت بعده الأرزاء، وانتثر شمل البركة بفقده، فهي بعد الاجتماع أجزاء: وتخطفته يد الردى في غيبتي ... هبني حضرت فكنت ماذا أصنع ورثاه الفقيد عمارة اليمني - الآتي ذكره إن شاء الله تعالى - بقصيدة طويلةأجاد في أكثرها، وأولها: هي الصدمة الأولى فمن بان صبره ... على هول ملقاه تضاعف أجره وقال ابن أبي الطي الأديب الحلبي في تاريخه الكبير: كان مولد نجم الدين أيوب ببلد سجستان، وقيل: إنه ولد بجبل جور وربي ببلد الموصل، ولم يوافقه على ذلك أحد، بل انفرد به، وإنما نبهت عليه كيلا يقف عليه من لا يعرف هذا الفن فيظن أنه صواب، وليس المر كذلك، بل الصحيح هو الذي ذكرته أولا. وشاذي - بالشين المعجمة وبعد الألف ذال معجمة مكسورة وبعدها باء مثناة من تحتها - وهذا الاسم عجمي، ومعناه بالعربي فرحان. ودوين - بضم الدال المهملة وكسر الواو وبعدها ياء مثناة من تحتها ساكنة ثم نون - وهي بلدة في أواخر إقليم أذربيجان من جهة الشمال تجاور بلاد الكرج، وينسب إليها الدويني والدوني أيضاً، بفتح الواو، والله أعلم. قلت: والمسجد والحوض اللذان بظاهر القاهرة، خارج باب النصر، عمارة نجم الدين أيوب أيضاً، ورأيت تاريخ بناء الحوض في الحجر المركب أعلاه في سنة ست وستين وخمسمائة، رحمه الله تعالى وقدس الله روحه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 107 - أيوب والد السلطان صلاح الدين (1) أبو الشكر أيوب بن شاذي بن مروان الملقب الملك الأفضل نجم الدين والد السلطان صلاح الدين يوسف؛ كان في أول أمره متسلماً قلعة تكريت هو وأخوه أسد الدين شيركوه يديران أحوالها وينظران في أمورها، وتوفي والدهما شاذي بها، وهناك قبره ظاهر معروف، وولد له بها السلطان صلاح الدين، ومولده هو بمدينة دوين من أعمال أذربيجان قم انتقل إلى الموصل وأقام بها مدة، ثم اتصل بخدمة نور الدين محمود بن زنكي صاحب الشام، وكان مقبلاً عليه مكرماً له، ولما وزر ولده صلاح الدين للعاضد صاحب مصر وذلك في سنة أربع وستين وخمسمائة كما هو مشهور توجه إليه والده نجم الدين من الشام ودخل القاهرة لست بقين من رجب سنة خمس وستين وخمسمائة وخرج العاضد للقائه وسلك صلاح الدين معه من الأدب ما جرت به العادة، وألبسه الأمر كله فأبى أن يلبسه وقال: يا ولدي ما اختارك الله لهذا الأمر إلا وأنت كفؤ له، ولاينبغي أن تغير موضع السعادة، فحكمه في الخزائن كلها وكان كريما يطلق فلا يرد. ولم يزل عنده حتى استقل صلاح الدين بملك الديار المصرية في اوائل المحرم سنة سبع وستين كما سيأتي في ترجمته في حروف الياء، فخرج نجم الدين يوماً من باب النصر أحد أبواب القاهرة فشب به فرسه فألقاه في وسط اللجة وذلك يوم الاثنين ثامن عشر ذي الحجة سنة568، وحمل إلى داره وبقي متألما إلى أن توفي يوم الأربعاء السابع والعشرين من الشهرالمذكور، ودفن عند قبر أخيه أسد الدين شيركوه رحمه الله تعالى، ثم بعد ذلك نقلاً إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم ودفنا هناك؛ ولما توفي كان السلطان صلاح الدين غائبا في غزوة   (1) الترجمة السابقة هي ما أوردته نسختا د وآياصوفيا، أما هذه فإنها ما ورد في سائر النسخ الأخرى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 الكرك وهي أول غزواته فبلغه الخبر وهو راجع في الطريق، فشق عليه حيث لم يحضر. ولقد كان رجلاً مباركاً كثير الصلاح مائلاً إلى أهل الخير حسن النية جميل الطوية لايتوسط إلا بالخير وظهرت ثمرة بركته وحسن اعتقاده في أولاده، ورأيت بمدينة بعلبك خانقاه لطيفة حسنة الوصف يقال لها النجمية وهي منسوبة إليه، وسألت أهل البلد عن سبب بنائها هناك فقالوا: كانت بعلبك إقطاعه يوم ذاك. والمسجد والحوض اللذان بظاهر القاهرة خارج باب النصر عمارته أيضا، ورأيت تاريخ بناء الحوض في الحجر المركب أعلاه في سنة 66. ولما مات رثاه الفقيه عمارة اليمني بقصيدة طويلة أولها: هي الصدمة الأولى فمن بان صبره ... على هول ملقاه تضاعف أجره وقال ابن أبي الطي الأديب الحلبي في تاريخه الكبير: مولد نجم الدين أيوب ببلد سجستان وقيل إنه ولد بجبل جودوربي ببلد الموصل ولم يوافقه على ذلك أحد بل انفرد به وإنما نبهت عليه ... الخ (1) .   (1) لا حاجة لإثبات بقية الفقرة فقد وردت نصاً في الترجمة السابقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 فراغ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 حَرْفُ البَاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 فراغ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 108 - (1) باديس الصنهاجي أبو مناد باديس بن المنصور بن بلكين بن زيري بن مناد الحميري الصنهاجي والد المعز بن باديس الآتي ذكره إن شاء الله تعالى، وبقية نسبه مذكور (2) في حرف التاء عند ذكر حفيده الأمير تميم؛ كان باديس المذكور يتولى (3) مملكة (4) إفريقية نيابة عن الحاكم العبيدي المدعي الخلافة بمصر، ولقبه الحاكم نصير (5) الدولة، وكانت ولايته بعد أبيه المنصور، وتوفي أبوه يوم الخميس لثلاث خلون من شهر ربيع الأول سنة ست وثمانين وثلثمائة، بقصره الكبير خارج مدينة صبرة (6) ، ودفن فيه ثاني يوم. وكان باديس المذكور ملكا كبيرا، حازم الرأي، شديد البأس، إذا هز رمحاً كسره. ومولده ليلة الأحد لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر الأول سنة أربع وسبعين وثلثمائة بآشير، المذكور في ترجمة إبراهيم بن قرقول، ولم يزل على ولايته وأموره جارية على الشداد، ولما كان يوم الثلاثاء التاسع والعشرون من ذي القعدة سنة ست وأربعمائة أمر جنوده بالعرض، فعرضوا بين يديه وهو في قبة السلام جالس إلى وقت الظهر، وسره حسن عسكره وأبهجه زيهم وما كانوا عليه، وانصرف إلى قصره، ثم ركب عشية ذلك النهار (6) في أجمل   (1) انظر ابن عذاري 1: 247 وأعمال الأعلام (القسم الثالث) : 69 وابن خلدون 6: 157. (2) هـ: مذكورة. (3) هـ: متولي. (4) أ: أمر. (5) أب: نصر. (6) قد تقدم أن مدينة صبرة هي التي سميت المنصورية. (6) قد تقدم أن مدينة صبرة هي التي سميت المنصورية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 مركوب، ولعب الجيش بين يديه، ثم رجع إلى قصره شديد السرور بما رآه من كمال حاله، وقدم السماط بين يديه فأكل مع خاصته وحاضري مائدته، ثم انصرفوا عنه وقد رأوا من سروره مالم يروه منه قط، فلما مضى مقدار نصف الليل من ليلة الأربعاء سلخ ذي القعدة سنة ست وأربعمائة (1) قضى نحبه، رحمه الله تعالى، فأخفوا امره ورتبوا أخاه كرامت ابن المنصور ظاهر، حتى وصلوا إلى ولده المعز فولوه، وتم له الأمر. وذكر في كتاب الدول المنقطعة أن سبب موته أنه قصد طرابلس، ولم يزل على قرب منها عازماً على قتالها، وحلف أن لا يرحل عنها حتى يعيدها فدنا للزراعة لسبب اقتضى ذلك تركت شرحه لطوله، قال: فاجتمع أهل البلد عند ذلك إلى المؤدب محرز (2) وقالوا: يا ولي الله، قد بلغك ما قاله باديس، فادع الله أن يزيل عنا بأسه، فرفع يديه إلى السماء وقال: يارب باديس اكفنا باديس، فهلك في ليلته بالذبحة، والله أعلم. والصنهاجي - بضم الصاد المهملة وكسرها وسكون النون وفتح الهاء وبعد الألف جيم - هذه النسبة إلى صنهاجة، وهي قبيلة مشهورة من حمير، وهي بالمغرب، وقال ابن دريد: صنهاجة بضم الصاد لا يجوز غير ذلك، وأجاز غيره الكسر، والله أعلم، وضبط أسماء أجداده سيأتي إن شاء الله تعالى.   (1) ذكر لسان الدين ابن وفاته كانت لعش بقين من ذي القعدة. (2) هو محرز بن خلف بن رزين الشيخ الصالح العابد، وقد نشرت مناقبه (مع مناقب الجبنياني) وطبع الكتاب بباريس سنة 1959. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 109 - (1) عز الدولة البويهي (بختيار) أبو منصور بختيار الملقب عز الدولة بن معز الدولة أبي الحسين أحمد بن بويه الديلمي، وقد تقدم ذكر أبيه وتتمة نسبة فلا حاجة إلى إعادته. ولي عز الدولة مملكة أبيه يوم موته في تارخه المذكور هناك، وتزوج الامام الطائع ابنته شاه زنان (2) على صداق مبلغة مائة ألف دينار، وخطب خطبة العقد القاضي أبو بكر ابن قريعة - الآتي ذكره في حرف الميم إن شاء الله تعالى - وذلك في سنة أربع وستين وثلثمائة. وكان عز الدولة ملكاً سرياً، شديد القوى، يمسك الثور العظيم بقرنيه فيصرعه، وكان متوسعاً في الإخراجات والكلف والقايم بالوظائف، حكى بشر الشمعي ببغداد قال: سئلنا عند دخول عضد الدولة بن بويه وهو ابن عم عز الدولة المذكور إلى بغداد لما ملكها بعد قله عن الدولة عن وظيفة الشمع الموقد (3) بين يدي عز الدولة، فقلنا: كانت وظيفة وزيره أبي الطاهر محمد بن بقية ألف من كل شهر، فلم يعاودوا التقصي استكثارا لذلك - وستأتي ترجمة الوزير المذكور في حرف الميم إن شاء الله تعالى -. وكان بين عز الدولة وابن عمه عضد الدولة منافسات في الممالك أدت إلى التنازع، وأفضت إلى التصاف والمحاربة، فالتقيا يوم الأربعاء ثامن عشر (4) شوال سنة سبع وستين وثلثمائة، فقتل عز الدولة في المصاف، وكان عمره ستاً   (1) انظر المنتظم 7: 81 وأخباره في صفحات متفرقة من تجارب الأمم وتاريخ ابن الأثير وج 4 من تاريخ ابن خلدون. (2) هـ: شاه زيان. (3) ج د: الموقود. (4) د: تاسع عشر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 وثلاثين سنة، وحمل رأسه في طست (1) ووضع بين يدي عضد الدولة، فلما رآه وضع منديله على عينيه (2) وبكى، رحمهما الله تعالى، وسيأتي ذكر عضد الدولة إن شاء الله تعالى. 110 - (3) بركياروق السلجوقي أبو المظفر بركياروق الملقب ركن الدين ابن السلطان ملكشاه بن ألب أرسلان بن داود بن ميكائيل بن سلجوق بن دقاق الملقب شهاب الدولة مجد الملك، أحد الملوك السلجوقية - وسيأتي ذكر جماعة منهم إن شاء الله تعالى -؛ ولي المملكة بعد موت أبيه، وكان أبوه قد ملك ما لم يملك غيره على ما سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى، ودخل سمرقند وبخارى وغزا بلاد ما وراء النهر، وكان أخوه السلطان سنجر - المذكور في حرف السين إن شاء الله تعالى - نائبه على خراسان، وفي محاربته قتل عمه تاج الدولة تتش بن ألب أرسلان - كما سيأتي عند ذكره في حرف التاء إن شاء الله تعالى - وكان مسعوداً، عالي الهمة، لم يكن فيه عيب سوى ملازمته للشراب (4) ، والإدمان عليه. ومولده في سنة أربع وسبعين وأربعمائة، وتوفي في الثاني عشر من شهر ربيع الآخر، وقيل: الأول، سنة ثمان وتسعين وأربعمائة ببروجرد وأقام في السلطنة اثنتي عشرة سنة وأشهراً، رحمه الله تعالى. وبركياروق: بفتح الباء الموحدة وسكون الراء والكاف وفتح الياء   (1) د: طست ذهب. (2) أج هـ: على وجهه. (3) أخباره في الجزء العاشر من ابن الأثير، وكتاب أخبار الدولة السلجوقية: 75 وما بعدها، وابن خلدون 5: 12 وما بعدها. (4) أج: الشراب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 المثناة من تحتها وبعد الألف راء مضمومة وواو ساكنة وقاف. وبروجرد - بضم الباء الموحدة والراء وسكون الواو وكسر الجيم وسكون الراء وبعدها دال مهملة - بلدة على ثمانية عشر فرسخا من همدان. 111 - (1) بركات الخشوعي الرفاء أبو الطاهر بركات ابن الشيخ أبي إسحاق إبراهيم ابن الشيخ أبي الفضل طاهر ابن بركات بن إبراهيم بن علي بن محمد بن أحمد بن العباس بن هاشم الخشوعي الدمشقي الجيروني الفرشي الرفاء الأنماطي؛ كان له سماعات عالية وإجازات تفرد بها وألحق الأصاغر بالأكابر، فإنه انفرد في آخر عمره بالسماع والإجازة من أبي محمد هبة الله بن احمد بن الأكفاني، وانفرد بالإجازة من أبي محمد القاسم الحريري البصري صاحب المقامات، أجازه في سنة اثنتي عشرة وخمسمائة من البصرة، وهو من بيت الحديث، حدث هو وأبوه وجده، وسئل أبوه: لم سموا الخشوعيين فقال: كان جدنا الأعلى يؤم بالناس، فتوفي في المحراب، فسمي الخشوعي نسبة إلى الخشوع. وكان مولد أبي الطاهر المذكور بدمشق في رجب سنة عشر وخمسمائة، وتوفي ليلة السابع والعشرين (2) من صفر سنة ثمان وتسعين وخمسمائة (3) بدمشق، ودفن من الغد بباب الفراديس على والده، رحمهما الله تعالى، وهو آخر من روى بالإجازة عن الحريري.   (1) ترجمته في العبر 4: 302 والشذرات 4: 335. (2) د: توفي لثلاث بقين ... الخ. (3) ذكره أبو شامة (الذيل: 28) في وفيات سنة 597. وقال الذهبي في العبر: توفي في سابع صفر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 والفرشي - بضم الفاء وسكون الراء وبعدها شين مثلثة - نسبة إلى بيع الفرس. والأنماطي: الذي يبيع الفرش أيضاً. والرفاء: معروف. واجتمعت بجماعة من أصحاب أبي الطاهر المذكور، وسمعت عليهم وأجازوني، ولقيت ولده بالديار المصرية، وكان يتردد إلي في كثير من الأوقات وأجازني جميع مسموعاته وإجازاته من أبيه. 112 - برجوان خادم العزيز الأستاذ أبو الفتوح برجوان الذي ينسب إليه حارة برجوان بالقاهرة؛ كان من خدام العزيز (1) صاحب مصر ومدبري دولته، وكان نافذ الأمرمطاعاً، نظر في أيام الحاكم في ديار مصر والحجاز والشام والمغرب وأعمال الحضرة، وذلك في سنة ثمان وثمانين وثلثمائة - وسيأتي في ترجمة العزيز نزار طرف من خبره إن شاء الله تعالى - وكان أسود. وقتل عشية يوم الخميس السادس والعشرين من شهر ربيع الآخر، وقيل: بل قتل يوم الخميس منتصف جمادى الأولى سنة تسعين وثلثمائة في القصر بالقاهرة بأمر الحاكم، ضربه أبو الفضل ريدان الصقلبي صاحب المظلة في جوفه بسكين فمات من ذلك. وذكر ابن الصيرفي الكاتب المصري في " أخبار وزراء مصر " (2) أن برجوان نظر في أمور المملكة في شهر رمضان من سنة سبع وثمانين وثلثمائة، ولما قتل خلف ألف سراويل دبيقي بألف تكة حرير، ومن الملابس والفرش والآلات والكتب والطرائف مالا يحصى كثرة، والله أعلم.   (1) د: الحاكم. (2) انظر هذا الكتاب ص: 27 - 28. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 وريدان المذكور هو الذي تنسب إليه الريدانية خارج باب الفتوح أحد أبواب القاهرة. ولما قتل برجوان رد الحاكم النظر في جميع ما كان بيده إلى قائد القواد أبي عبد الله الحسين ابن القائد جوهر - وسيأتي ذكره في ترجمة أبيه إن شاء الله تعالى -؛ ثم قتل الحاكم ريدان المذكور في أوائل سنة ثلاث وتسعين وثلثمائة، وكان المباشر لقتله مسعود الصقلبي صاحب السيف، رحمهم الله تعالى. وبرجوان: بفتح الباء الموحدة وسكون الراء وفتح الجيم والواو وبعد الألف نون. وريدان - بفتح الراء وسكون الياء المثناة من تحتها وفتح الدال المهملة وبعد الألف نون - هكذا وجدته مقيدا بخط بعض الفضلاء. والصقلبي - بفتح الصاد المهملة وسكون القاف وبعد اللام المفتوحة باء موحدة - هذه النسبة إلى الصقالبة، وهم جنس من الناس يجلب منهم الخدام. 113 - (1) بشار بن برد أبو معاذ بشار بن برد بن يرجوخ العقيلي بالولاء الضرير الشاعر المشهور؛ ذكر له أبو الفرج الأصبهاني في كتاب الأغاني ستة وعشرين جدا أسماؤهم أعجمية، أضربت عن ذكرها لطولها واستعجامها وربما يقع فيها التصحيف والتحريف، فإنه لم يضبط شيئاً منها، فلا حاجة إلى الإطالة فيها   (1) له ترجمة مفصلة في الأغاني 3: 129، 6: 228 والشعر والشعراء: 643 وطبقات ابن المعتز: 21 ونكت الهميان: 125 ومعاهد التنصيص 1: 97 وشذرات الذهب 1: 264 وتاريخ بغداد 7: 112 والموشح: 246 والسمط: 196. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 بلا فائدة، وذكر من أحواله وأموره فصولا كثيرة. وهو بصري قدم بغداد، وكان يلقب بالمرعث، وأصله من طخارستان من سبي المهلب بن أبي صفرة، ويقال: إن بشاراً ولد على الرق أيضا، وأعتقته امرأة عقيلية فنسب إليها، وكان أكمة ولد أعمى، جاحظ الحديقتين، قد تغشاهما لحم أحمر. وكان ضخماً عظيم الخلق والوجه مجدراً طويلاً، وهو في أول مرتبة المحدثين من الشعراء المجيدين فيه، فمن شعره في المشورة، وهو من أحسن شيء قيل في ذلك: إذا بلغ الرأي المشورة فاستعن ... بحزم نصيح أو نصاحة حازم ولا تجعل الشورى عليك غضاضة ... فريش الخوافي تابع للقوادم وما خير كف أمسك الغل أختها ... وما خير سيف لم يؤيد بقائم وله البيت السائر المشهور، وهو: هل تعلمين وراء الحب منزلة ... تدني إليك فإن الحب أقصاني ومن شعره، وهو أغزل بيت قاله المولدون: أنا والله أشتهي سحر عيني ... ك وأخشى مصارع العشاق ومن شعره أيضاً: يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة ... والأذن تعشق قبل العين أحيانا قالوا بمن لا ترى تهذي فقلت لهم ... الأذن كالعين توفي القلب ما كانا أخذ معنى البيت الأول لأب حفص عمر المعروف بابن الشحنة الموصلي من جملة قصيدة عدد أبياتها مائة وثلاثة عشر بيتاً يمدح بها السلطان صلاح الدين، رحمه الله تعالى، فقال: وإني امرؤ أحببتكم لمكارم ... سمعت بها والأذن كالعين تعشق (31) وشعر بشار كثير سائر، فنقتصر منه على هذا القدر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 وكان يمدح المهدي بن المنصور أمير المؤمنين، ورمي عنده بالزندقة، فأمر بضربه فضرب سبعين سوطاً، فمات من ذلك في البطيحة بالقرب من البصرة، فجاء بعض أهله فحمله إلى البصرة ودفنه بها، وذلك في سنة سبع، وقيل: ثمان وستين ومائة، وقد نيف على تسعين سنة، رحمه الله تعالى. ويروى عنه (1) أنه كان يفضل النار على الأرض، ويصوب رأي إبليس في امتناعه من السجود لآدم صلوات الله عليه وسلامه، وينسب إليه من الشعر في تفضيل النار على الأرض قوله: الأرض مظلمة، والنار مشرقة ... والنار معبودة مذ كانت النار وقد روي أنه فتشت كتبه فلم يصب فيها شيء مما كان يرمى به، وأصيب له كتاب فيه إني أردت هجاء آل سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس - رضي الله عنهم - فذكرت قرابتهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمسكت عنهم والله أعلم بحاله. وقال الطبري في تارخه (2) : كان سبب قتل المهدي لبشار أن المهدي ولى صالح بن داود أخا يعقوب بن داود وزير المهدي ولايةً، فهجاه بشار بقوله ليعقوب: هم حملوا فوق المنابر صالحاً ... أخاك فضجت من أخيك المنابر فبلغ يعقوب هجاؤه، فدخل على المهدي وقال له: إن بشارا هجاك، قال: ويلك، ماذا قال قال: يعفيني أمير المؤمنين من إنشادذلك، فقال: لا بد، فأنشده: خليفة يزني بعماته ... يلعب بالدبوق والصولجان أبدلنا الله به غيره ... ودس موسى في حر الخيزران   (1) هـ: وروي عنه. (2) تاريخ الطبري 10: 18 (حوادث سنة 169) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 فطلبه المهدي، فخاف يعقوب أن يدخل عليه فيمدحه فيعفو عنه، فوجه إليه من ألقاه في البطيحة. ويرجوخ: بفتح الياء المثناة من تحتها وسكون الراء وضم الجيم وبعد الواو الساكنة خاء معجمة. والعقيلي - بضم العين المهملة وفتح القاف وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها لام - هذه النسبة إلى عقيل بن كعب، وهي قبيلة كبيرة. والمرعث - بضم الميم وفتح الراء وتشديد العين المهملة المفتوحة وعدها ثاء مثلثة - وهو الذي في أذنه رعاث، والرعاث القرطة، واحدتها رعثة، وهي القرط، قلب بذلك لأنه كان مرعثاً في صغره، ورعثات (1) الديك المتدلي أسفل حنكه، والرعث: الاسترسال والتساقط، وكأن اسم القرطة اشتق منه، وقيل في تلقيبه بذلك غير هذا، وهذا أصح. وطخارستان - بضم الطاء المهملة (2) وفتح الخاء المعجمة وبعد الألف راء مضمومة وبعدها سين ساكنة مهملة ثم تاء مثناة من فوقها وبعد الألف نون - وهي ناحية كبيرة مشتملة على بلدان وراء نهر بلخ على جيحون خرج منها جماعة من العلماء. 114 - (3) بشرالحافي أبو نصر بشر بن الحارث بن عبد الرحمن بن عطاء بن هلال بن ماهان بن عبد الله، وكان اسم عبد الله بعبور، وأسلم على يد علي أبي طالب رضي الله   (1) أج: ورعاث. (2) ضبطه ياقوت بفتح الطاء. (3) ترجمته في حلية الأولياء 8: 336 وصفة الصفوة 2: 183 وتاريخ بغداد 7: 67. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 عنه، المروزي المعروف بالحافي، أحد رجال الطريقة رضي الله عنهم؛ كان من كبار الصالحين، وأعيان الأتقياء المتورعين، أصله من مرو من قرية من قراها يقال لها مابرسام (1) ، وسكن بغداد، وكان من أولاد الرؤساء والكتاب. وسبب توبته أنه أصاب في الطريق ورقة وفيها اسم الله تعالى مكتوب، وقد وطئتها الأقدام، فأخذها واشترى بدراهم كانت (2) معه غاليةً فطيب بها الورقة وجعلها في شق حائط، فرأى في النوم كأن قائلاً يقول له: يا بشر، طيبت اسمي لأطيبن اسمك في الدنيا والآخرة، فلما تنبه من نومه تاب. ويحكى أنه أتى باب المعافى بن عمران، فدق عليه الحلقة، فقيل: من فقال: بشر الحافي، فقالت بنت من داخل الدار: لو اشتريت نعلا بدانقين لذهب عنك اسم الحافي. وإنما لقب بالحافي لأنه جاء إلى إسكاف يطلب منه شسعاً لإحدى نعليه، وكان قد انقطع، فقال له الإسكاف: ما أكثر كلفتكم على الناس! فألقى النعل من يده والأخرى من رجله، وحلف لا (3) يلبس نعلاً بعدها. وقيل لبشر: بأي شيء تأكل الخبز فقال: أذكر العافية فأجعلها إداماً. ومن دعائه: اللهم إن كنت شهرتني في الدنيا لتفضحني في الآخرة فاسلبه عني. ومن كلامه: عقوبة العالم في الدنيا أن يعمى بصر قلبه. وقال: من طلب الدنيا فليتهيأ للذل. وقال بعضهم: سمعت بشراً يقول لأصحاب الحديث: أدوا زكاة هذا الحديث، قالوا: وما زكاته قال: اعملوا من كل مائتي حديث بخمسة أحاديث. [وروى عنه سري السقطي وجماعة من الصالحين، رضي الله تعالى عنهم. قال الجوهري: سمعت بشر بن الحارث يقول في جنازة أخته: إن العبد إذا قصر في طاعة الله سلبه الله من يؤنسه. وقال بشر: كنت في طلب صديق لي ثلاثين سنة فلم أظفر به، فمررت في بعض الجبال بأقوام مرضى   (1) أج: برسام، وضبطها ياقوت بفتح الباء وسكون الراء وسين مهملة. (2) أج: بدرهم كان؛ وفي الصفوة " وكنت لا أملك إلا درهماً فيه خمسة دوانق ". (3) هـ: وحلف بأن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 وزمني وعمي وبكم، فسألتهم، فقالوا: في هذا الكهف رجل يمسح عليهم بيديه فيبرأون بإذن الله تعالى وبركة دعائه، قال: فقعدت أنتظر فخرج شيخ عليه جبة صوف فلمسهم ودعا لهم، فكانوا يبرأون من عللهم بمشيئة الله تعالى؛ قال: غأخذت ذيله فاقل: خل عني ياسري، يراك تأنس بغيره فتسقط من عينه، ثم تركني ومضى] . وكان مولده سنة خمسين ومائة، وتوفي في شهر ربيع الآخر سنة ست وعشرين، وقيل: سبع وعشرين ومائتين، وقيل: يوم الأربعاء عاشر المحرم، وقيل: في رمضان بمدينة بغداد، وقيل: بمرو، رحمه الله تعالى. وكان لبشر ثلاث أخوات، وهن مضغة، ومخة، وزبدة، وكن زاهدات عابدات ورعات، وأكبرهن مضغة ماتت قبل موت أخيها بشر، فحزن عليها بشر حزناً شديداً، وبكى بكاء كثيراً، فقيل له في ذلك، فقال: قرأت في بعض الكتب أن العبد إذا قصر في خدة ربه سلبه أنيسه، وهذه أختي مضغة كانت أنيستي في الدنيا. وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: دخلت امرأة على أبي فقالت له: يا أبا عبد الله، إني امرأة أغزل في الليل على ضوء السراج، وربما طفىء السراج فأغزل على ضوء القمر، فهل علي أن أبين غزل السراج من غزل القمر فقال لها أبي: إن كان عندك بينهما فرق فعليك أن تبيني ذلك، فقالت له: يا أبا عبد الله أنين المريض هل هو شكوى فقال لها: إني أرجو أن لا يكون شكوى، ولكن هو اشتكاء إلى الله تعالى، ثم انصرفت؛ قال عبد الله: فقال لي أبي: يا بني ما سمعت إنساناً قط يسأل عن مثل ما سألت هذه المرأة، اتبعها؛ قال عبد الله: فتبعتها إلى أن دخلت دار بشر الحافي، فعرفت أنها أخت بشر، فأتيت أبي فقلت له: إن المرأة أخت بشر الحافي، فقال أبي: هذا والله هو الصحيح، محال أن تكون هذه المرأة إلا أخت بشر الحافي. وقال عبد الله أيضاً: جاءت مخة أخت بشر الحافي إلى أبي فقالت: يا أبا عبد الله، رأس مالي دانقان أشتري بهما قطنا فأغزله وأبيعه بنصف درهم، فأنفق دانقاً من الجمعة إلى الجمعة، وقد مر الطائف ليلة ومعه مشعل فاغتنمت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 ضوء المشعل وغزلت طاقين في ضوئه، فعلمت أن الله سبحانه وتعالى في مطالبة، فخلصني من هذا خلصك الله تعالى، فقال أبي: تخرجين الدانقين ثم تبقين بلا رأس مال حتى يعوضك الله خيرا منه؛ قال عبد الله: فقلت لأبي: لو قلت لها حتى تخرج رأس مالها، فقال: يابني سؤالها لا يتحمل التأويل، فمن هذه المرأة فقلت هي مخة أخت بشر الحافي، فقال أبي: من ههنا أتيت. وقال بشر الحافي: تعلمت الزهد من اختي فإنها كانت تجتهد أن لا تأكل ما لمخلوق فيه صنع. 115 - (1) بشر المريسي أبو عبد الرحمن بشر بن غياث بن أبي كريمة المريسي الفقيه الحنفي المتكلم؛ هو من موالي زيد بن الخطاب، رضي الله عنه. أخذ الفقه عن القاضي أبي يوسف الحنفي، إلا أنه استغل بالكلام، وجرد القول بخلق القرآن، وحكي عنه في ذلك أقوال شنيعة، وكان مرجئاً، وإليه تنسب الطائفة المريسية من المرجئة، وكان يقول: إن السجود للشمس والقمر ليس بكفر، ولكنه علامة الكفر. وكان يناظر الإمام الشافعي رضي الله عنه، وكان لا يعرف النحو ويلحن لحناً فاحشاً، وروى الحديث عن حماد ابن سلمة وسفيان بن عيينة وأبي يوسف القاضي وغيرهم، رحمهم الله تعالى. ويقال: إن أباه كان يهودياً صياغاً بالكوفة، وذكر ابن أبي عون الكاتب في كتاب " الأجوبة " أن أم بشر المريسي شهدت عند بعض القضاة فجعلت تلقن   (1) لبشر بن غياث المريسي ترجمة وأخبار في تاريخ بغداد 7: 56 والانتصار: 201 ومعم البلدان 4: 515 والوافي للصفدي؛ ومقالات الإسلاميين: 140، 143، 149، 515 والجواهر المضية: 164 وميزان الاعتدال 1: 322 وفرق النوبختي: 13. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 امرأة معها الشهادة، فقال الخصم للقاضي: ما تراها تلقنها، قالت له: يا جاهل إن الله تعالى يقول أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى - الآية قال عمارة بن وثيمة: أخبرني عبد الله بن إسماعيل بن عياش قال: كتب بشر المريسي إلى رجل يستقرض منه شيئا فكتب إليه الرجل: الدخل قليل والدين ثقيل والمال مكذوب عليه، فكتب إليه بشر: إن كنت كاذباً فجعلك الله صادقا، وإن كنت معتذراً بباطل فجعلك الله معتذراً بحق. وقال القاسم بن إسماعيل: قال لي الجاحظ: قال بشر المريسي وقد سئل عن رجل فقال: هو على أحسن حال واهنئوها، فضحك الناس من لحنه، فقال قالسم التمار: ماهذا إلا صواباً مثل قول ابن هرمة وهو: ان سليمى والله يكلؤها ... ضنت بشيء ما كان يرزؤها قال: فشغل الناس عن لحن المريسي بتفسير القاسم] (1) . وتوفي في ذي الحجة سنة ثماني عشرة، وقيل: تسع عشرة ومائتين، ببغداد. والمريسي - بقتح الميم وكرس الراء وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها سين مهملة - هذه النسبة إلى مريس وهي قرية بمصر، هكذا ذكره الوزير أبو سعد في كتاب النتف والطرف، وسمعت أهل مصر يقولون: إن المريس جنس من السودان بين بلاد النوبة وأسوان من ديار مصر وكأنهم جنس من النوبة، وبلادهم متاخمة لبلاد (2) أسوان، وتأتيهم في الشتاء ريح باردة من ناحية الجنوب يسمونها المريسي، ويزعمون أنها تأتي من تلك الجهة، والله أعلم، ثم إني رأيت بخط من يعتني بهذا الفن أنه كان يسكن في بغداد بدرب المريس فنسب إليه، قال: وهوبين نهر الدجاج ونهر البزازين، قلت: والمريس في بغداد هو الخبز الرقاق يمرس بالسمن والتمر كما يصنعه أهل مصر بالعسل بدل التمر، وهو الذي يسمونه البسيسة.   (1) هذه زيادة من نسخة أ. (2) أ: بناحية بلاد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 116 - (1) القاضي بكار بن قتيبة القاضي أبو بكرة بكار بن قتيبة بن أبي برذعة بن عبيد الله بن بشر بن عبيد الله بن أبي بكرة نفيع بن الحارث بن كلدة الثقفي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ كان حنفي المذهب، وتولى القضاء بمصر سنة ثمان - أوتسع - وأربعين ومائتين، وقيل: قدمها متوليا قضاءها من قبل المتوكل يوم الجمعة لثمان خلون من جمادى الآخرة سنة ست وأربعين ومائتين، وظهر من حسن سيرته وجميل طريقته ما هو مشهور، وله مع أحمد بن طولون صاحب مصر وقائع مذكورة، وكان يدفع له كل سنة ألف دينار خارجا عن المقرر له، فيتركها بختمها ولايتصرف فيها، فلما دعاه إلى خلع الموفق بن المتوكل - وهو والد المعتضد - من ولاية العهد امتع القاضي بكار من ذلك، والقضية مشهورة، فاعتقله أحمد، ثم طالبه بجملة المبلغ الذي كان يأخذه كل سنة، فحمله إليه بختمه، وكان ثمانية عشر كيساً، فاستحيا أحمد منه، وكان يظن أنه أخرجها وأنه يعجز عن القيام بها فلهذا طالبه، ولما اعتقله أمره أن يسلم القضاء إلى محمد بن شاذان الجوهري، ففعل، وجعله كالخليفة له، وبقي مسجوناً مدة سنين، ووقفه للناس مراراً كثيرة، وكان يحدث في السجن من طاق فيه لأن أصحاب الحديث شكوا إلى ابن طولون انقطاع إسماع الحديث من بكار وسألوه أن يأذن له في الحديث ففعل، وكان يحدث على ما ذكرناه. وكان القاضي بكار أحد البكائين التالين الكتاب الله عزوجل، وكان إذا فرغ من الحكم خلا بنفسه وعرض عليها قصص جميع من تقدم إليه وما حكم به وبكى، وكان يخاطب نفسه ويقول: يا بكار، تقدم إليك رجلان في كذا، وتقدم إليك خصمان في كذا،   (1) ترجمة بكار بن قتيبة في الكندي: 476، ورفع الإصر 1: 140. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 وحكمت بكذا، فما يكون جوابك غداً وكان يكثر الوعظ للخصوم إذا أراد اليمين، ويتلو عليهم قوله تعالى إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً - إلى آخر الآية، وكان يحاسب أمناءه في كل وقت، ويسأل عن الشهود في كل وقت. وكانت ولادته بالبصرة سنة اثنتين وثمانين ومائة، وتوفي وهو باق على القضاء مسجونا يوم الخميس لست خلون (1) من ذي الحجة سنة سبعين ومائتين بمصر، وبقيت مصر بعده بلا قاض ثلاث سنين، وقبره بالقرب من قبر الشريف ابن طبطبا وقبره مشهور هناك عند مصلى بني مسكين على الطريق تحت الكوم بينه وبين الطريق المذكور معروف باستجابة الدعاء عنده. وقيل: كانت ولايته القضاء سنة ست وأربعين ومائتين، وهو الأصح وقيل: سنة خمس وأربعين، رحمه الله تعالى. 116ب - القاضي بكار بن قتيبة القاضي أبو بكر بكار بن قتيبة بن أسد بن عبد الله بن بشر بن أبي بكرة بن نفيع بن كلدة الثقفي بن الحارث مولى صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حدث عن أبي دواد الطيالسي وغيره، وكان أحد الفقهاء على مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه، أخذ الفقه عن هلال بن يحيى بالبصرة وولي قضاء مصر أربعاً وعشرين سنة وستة أشهر وستة عشر يوماً. وكان من البكائين التالين لكتاب الله عز وجل، وكان يكثر الوعظ للخصوم ويتلو عليهم إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً اولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب   (1) ب: بقين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 أليم - هذا مع كل حالف، فمنهم من يرجع عن اليمين؛ وكان يحاسب أمناءه في كل شهر ويسأل عن الشهود. قال أبو حاتم ابن أخي بكار: قدم على عمي رجل من البصرة له علم وزهادة ونسك فأكرمه وقربة وأدناه، وذكر أنه كان معه في المكتب، فمضت به الأيام فجاء في شهادة ومعه شاهدان من شهود مصر فردياً عند عمي فما قبل شهادته، فقلت لعمي: هذا رجل زاهد وأنت تعرفه، قال: يا ابن أخي ما رددت شهادته إلا أنه كنا صغاراً وكنا على مائدة عليها أرز وفيه حلوى فنقبت الأرز بإصبعي فاقل لي: أخرقتها لتغرق أهلها فقلت له: أتهزأ بكتاب الله تعالى على الطعام ثم أمسكت عن كلامه مدة، وما أقدر على قبوله وأنا أذكر ذلك منه. ولم يزل على القضاء إلى أن جرى بينه وبين أحمد بن طولون ما جرى وذلك ان المعتمد على الله تعالى ابن جعفر المتوكل لما ولي الخلافة عقد لأخيه أبي أحمد ولقبه الموفق وأقبل المعتمد على لذاته واشتغل عن الرعية، فغلب على الأ نمر وقام به أحسن قيام وأتمه، فسار المعتمد في جمادى الآخرة سنة سبع وستين ومائتين يريد مصر بمكاتبة جرت بينه وبين أحمد بن طولون لما كان ابن طولون بدمشق، فلما بلغ الموفق ذلك وهو في قتال صاحب الزنج أنفذ غسكراً عليه إسحاق بن كنداج، فرد المعتد وسلمه إلى صاعد بين مخلد وحجر عليه، فكتب ابن طولون أن الموفق نكث بيعة المعتمد وأمر بجمع القضاة والفقهاء والأشراف وسيرهم إلى دمشق فاجتمعوا بها، وخلع الموفق لأن الفقهاء أفتوا بخلعه إلابكار ابن قيبة فقال له: أنت أوردت علي كتاباً من المعتمد ان الموفق ولي عهده فأورد علي كتابا منه بخلعه، فقال: هو الآن مغلوب مقهور، وأنا أحبسك حتى يرد كتابه، فقيده وحبسه واسترجع منه ما كان دفعه إليه من جوائزه، وولى أحمد بن طولون محمد بن شاذان الجوهري. ولم يزل بكار محبوساً إلى أن اعتل أحمد ابن طولون سننة سبع ومائتين، ولما مات قيل لبكار: انصرف إلى منزلك، فقال: الدار بأجرة وقد صلحت لي، فأقام وجاء أصحاب الدار يطلبون أجرة ما مضى فقال بكار: على مذهبي الغاصب لا أجرة عليه ولكن أدفع لكم في المستقبل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 وليس علي فيما مضى أجرة لأني كنت مغصوباً على نفسي؛ ومات العباس بن أحمد ابن طولون بعده باثنتي عشرة ليلة ومات بكار بعده بأربعين يوما وسنه تسع وثمانون سنة، وصلى عليه ابن أخيه محمد بن لا لحسين بن قتيبة، وعاش بعد عمه عشر سنين ودفن بمصر عند مصلى بني مسكين رحمه الله تعالى قريباً من قبر الشريف ابن طبا طبا، وقبره مشهور هناك على الطريق تحت الكوم بينه وبين الطريق المذكور، معروف باستجابة الدعاء عنده. 117 - (1) أبو بكر المخزومي أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمرابن مخزوم القرشي المخزومي، أحد الفقهاء السبعة بالمدينة، وكنيته اسمه - وعادة المؤرخين أن يذكروا من كنيته إسمه في الحرف الموافق لأول المضاف إليه، والمضاف إليه ههنا بكر لهذا ذكرته في الباء، ومن المؤرخين من يفرد للكنى بابا -؛ وكان أبو بكر المذكور من سادات التابعين، وكان يسمى راهب قريش (2) ، وأبوه الحارث أخو أبي جهل بن هشام من جلة الصحابة، رضي الله عنهم. ومولده في خلافة عمر بن الخطاب، رضي الله عنه؛ وتوفي سنة أربع وتسعين للهجرة رحمه الله تعالى، وهذه السنة تسمى سنة الفقهاء، وإنما سميت بذلك لأنه مات فيها جماعة منهم. وهؤلاء الفقهاء السبعة كانوا بالمدينة في عصر واحد، وعنهم انتشر العلم والفتيا   (1) ترجمته في طبقات ابن سعد 5: 207 والشذرات 1: 104 والعبر 1: 111 ونكت الهميان: 131. (2) قال ابن سعد: لكثرة صلاته ولفضله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 في الدنيا - ويأتي ذكر كل واحد منهم في حرفه، وننبه عليه في موضعه إن شاء الله تعالى - وقد جمعهم بعض العلماء في بيتين، فقال: ألا كل من لا يقتدي بأئمةٍ ... فقسمته ضيزى عن الحق خارجه فخذهم عبيد الله عروة قاسمٍ ... سعيد سليمان أبو بكر خارجة ولولا كثرة حاجة فقهاء زماننا إلى معرفتهم لما ذكرتهم، لأن في شهرتهم غنية عن ذكرهم في هذا المختصر، وإنما قيل لهم الفقهاء السبعة وخصوا بهذه التسمية لأن الفتوى بعد الصحابة رضوان الله عليهم صارت إليهم، وشهروا بها وقد كان في عصرهم جماعة من العلماء التابعين مثل سالم بن عبد الله بن عمر رضي الله عنه وأمثاله، ولكن الفتوى لم تكن إلا لهؤلاء السبعة، هكذا قاله الحافظ السلفي. 118 - (1) المازني النحوي أبو عثمان بكر بن محمد بن عثمان - وقيل: بقية، وقيل: عدي - بن حبيب المازني البصري النحوي؛ كان إمام عصره في النحو والأدب، وأخذ الأدب عن أبي عبيدة والأصمعي وأبي الأنصاري وغيرهم، وأخذ عنه أبو العباس المبرد وبه انتفع وله عنه روايات كثيرة، وله من التصانيف كتاب ما تلحن في العامة وكتاب التصريف وكتاب العروض وكتاب القوافي وكتاب الديباج عللاً خلاف كتاب أبي عبيدة. قال أبو حعفر الطحاوي الحنفي المصري: سمعت القاضي بكار بن قتيبة،   (1) ترجمة المازني في إنباه الرواة 1: 246 وتاريخ بغداد 7: 93 والزبيدي: 92 وغاية النهاية 1: 179 ونور القبس: 220 ومعجم الأدباء 7: 107 ونزهة الألباء: 124 وبغية الوعاة: 202. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 قاضي مصر، يقول: ما رأيت نحوياً قط يشبه الفقهاء إلا حيان بن هرمة والمازني، يعني أبا عثمان المذكور، وكان في غاية الورع. ومما رواه المبرد أن بعض أهل الذمة قصده ليقرأ عليه كتاب سيبويه وبذل له مائة دينار في تدريسه إياه، فامتنع أبو عثمان من ذلك، قال: فقلت له: جعلت فداك، أترد هذه المنفعة مع فاقتك وشدة إضاقتك فقال: إن هذا الكتاب يشتمل على ثلثمائة وكذا وكذا آية من كتاب الله عز وجل، ولست أرى أن أمكن منها ذمياً غيرة على كتاب الله وحمية له؛ قال: فاتفق أن غنت جارية (1) بحضرة الواثق بقول العرجي (2) : أظلوم إن مصابكم رجلاً ... أهدى السلام تحية ظلم فاختلف من كان بالحضرة في إعراب رجلاً، فمنهم من نصبه وجعله اسم إن، ومنهم من رفعه على أنه خبرها، والجارية مصرة على أن شيخها أباعثمان المازني لقنها إياه بالنصب، فأمر الواثق بإشخاصه. قال أبو عثمان (3) : فلما مثلت بين يديه قال: ممن الرجل قلت: من بني مازن، قال: أي الموازن أمازن تميم (4) ، أم مازن قيس، أم مازن ربيعة (5) قلت: من مازن ربيعة، فكلمني بكلام قومي، وقال: باسمك لأنهم يقلبون الميم باء والباء ميماً، قال: فكرهت أن أجيبه على لغة قومي كيلا أواجهه بالمكر (6) ، فقلت: بكر يا أمير المؤمنين، ففطن لما قصدته، وأعجب به، قم قال: ماتقول في قول الشاعر: أظلوم إن مصابك رجلاً ...   (1) نور القبس: أن مخارقاً غنى في مجلسه ... الخ. (2) ديوان العرجي: 193. (3) د: قال أبو العباس المبرد: حدثني المازني قال: لما قدمت سر من رأى دخلت على الواثق، فقال: ممن ... الخ. (4) هـ: أمازن بكر. (5) زاد في نور القبس: أم من مازن اليمن (6) نور القبس: فقلت على القياس: " مكر " - أي بكر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 أترفع رجلاً أم تنصبه (1) فقلت: بل الوجه النصب يا أمير المؤمنين، فقال: ولم ذلك فقلت: إن مصابكم مصدر بمعنى إصابتكم، فأخذ اليزيدي في معارضتي، فقلت: هو بمنزلة قولك إن ضربك زيداً ظلم فالرجل مفعول مصابكم وهو منصوب به والدليل عليه أن الكلام معلق إلى أن تقول ظلم فيتم، فاستحسنه الواثق وقال: هل لك من ولد قلت: نعم بنية (2) يا أمير المؤمنين، قال: ما قالت لك عند مسيرك فقلت: [طافت حولي] وأنشدت [وهي تبكي] قول الأعشى: أيا أبتا لا ترم (3) عندنا ... فإنا بخير إذا لم ترم أرانا إذا أضمرتك البلا ... د تجفى وتقطع منا الرحم قال: فما قلت لها قال: قلت [لها ما قال جرير] لابنته: ثقي بالله ليس له شريك ... ومن عند الخليفة بالنجاح قال: على النجاح، إن شاء الله تعالى، ثم أمر لي بألف دينار، وردني مكرماً (4) ، قال المبرد: فلما عاد إلى البصرة قال لي: كيف رأيت يا أبا العباس رددنا لله مائة فعوضنا ألفا. [وكان أبو عثمان مع علمه بالنحو متسعاً في الرواية؛ قال أبو القاسم الكوكني: حدثني العنزي قال: أنشد رجل أبا عثمان المازني شعراً له وقال: كيف تراه قال: أراك قد عملت عملاً بإخراج هذا من صدرك لأنك لو تركته لأورثك السل] . وروى المبرد عنه أيضاً قال: قرأ علي رجل كتاب سيبويه في مدة طويلة،   (1) ج: أبرفع ... بنصبه (2) ب هـ: بنت. (3) د ونور القبس: أبانا فلا رمت. (4) أختصر هنا، وفي المصادر ما يفيد أنه جعله معلماً لبعض ولده ولكن المازني كره البقاء وأحب العودة (نور القبس: 221 - 222) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 فلما بلغ آخره قال لي: أما أنت فجزاك الله خيرا، وأما أنا فما فهمت منه حرفاً. وتوفي أبوعثمان المازني المذكور في سنة تسع وأربعين ومائتين، وقيل: ثمان وأربعين، وقيل: ست وثلاثين ومائتين بالبصرة، رحمه الله تعالى. 119 - (1) بلكين جد باديس أبو الفتوح بلكين بن زيري بن مناد الحميري الصنهاجي؛ وهو جد باديس المقدم ذكره، ويسمى أيضاً يوسف، لكن بلكين أشهر، وهو الذي استخلفه المعز بن المنصور العبيدي على إفريقية عند توجهه إلى الديار المصرية، وكان استخلافه إياه يوم الأربعاء لسبع بقين من ذي الحجة سنة إحدى وستين وثلثمائة، وأمر الناس بالسمع والطاعة له، وسلم إليه البلاد، وخرجت العمال وجباة الأموال باسمه، وأوصاه المعز بأمور كثيرة، وأكد عليه في فعلها، ثم قال: إن نسيت ما أوصيتك به فلا تنس ثلاثة أشياء: إياك أن ترفع الجباية عن أهل البادية، والسيف عن البربر، ولا تول أحداً من إخوتك وبني عمك، فإنهم يرون أنهم أحق بهذا الأمر منك، وافعل مع أهل الحاضرة خيراً، وفارقه على ذلك، وعاد من وداعه، وتصرف في الولاية. ولم يزل حسن السيرة، تام النظر في مصالح دولته ورعيته إلى أن توفي يوم الأحد لسبع بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وسبعين، بموضع يقال له: واركلان مجاور إفريقية، وكانت علته القولنج، وقيل: خرجت في يده   (1) انظر أخباره في ابن عذاري 1: 228 وفي كتب التاريخ العامة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 بثرة فمات منها، رحمه الله تعالى. وكان له أربعمائة حظية، حتى قيل: إن البشائر وفدت عليه في يوم واحد بولادة سبعة عشر ولدا. وبلكين: بضم الباء الموحدة واللام وتشديد الكاف المكسورة وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها نون. وزيري: بكسر الزاي وسكون الياء المثناة من تحتها وكسر الراء وبعدها ياء. وبقية نسبه وضبط نسبته وألفاظه مذكور في حرف التاء عند ذكر حفيده الأمير تميم بن المعز بن باديس، رحمهم الله تعالى. وأما واركلان: فهو بفتح الواو وبعد الألف راء مفتوحة أيضا ثم كلف ساكنة وبعد اللام ألف نون. 120 - (1) بوران بوران بنت الحسن بن سهل، وسيأتي خبر أبيها إن شاء الله تعالى؛ ويقال: إن اسمها خديجة، وبوران لقب، والأول أشهر. وكان المأمون قد تزوجها لمكان أبيها منه، واحتفل أبوها بأمرها، وعمل من الولائم والأفراح ما لم يعهد مثله في عصر من الأعصار، وكان ذلك بفم الصلح وانتهى أمره إلى أن نثر على الهاشميين والقواد والكتاب والوجوه   (1) الذي أثار المؤلف إلى إفرادها بترجمة هو وصف ما أنفق في عرسها حين تزوجها المأمون؛ اي غرابة هذا الصنيع الذي لا يضاهيه في الأندلس إلا الأعذار الذنوبي (الذخيرة 1/4: 99) وقد أطنبت المصادر في الحديث عن هذا الحادث، انظر شرح البسامة: 270 وقبله قصة خرافية عن صلة المأمون ببوران قبل الزواج؛ وكذلك المسعودي (4: 30) ؛ والطبري 10: 271 (حوادث سنة 210) وابن طيفور: 113 وترجم لها السيوطي في نزهة الجلساء: 30. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 بنادق مسك فيها رقاع بأسماء ضياع وأسماء جوار وصفات دواب وغير ذلك، فكانت البندقة إذا وقعت في يد الرجل فتحها، فيقرأ ما في الرقعة، فإذا علم مافيها مضى إلى الوكيل المرصد لذلك فيدفعها إليه ويتسلم ما فيها سواء كان ضيعة أو ملكا آخر أو فرسا أو جارية أو مملوكاً. ثم نثر بعد ذلك على سائر الناس الدنانير والدراهم ونوافج المسك وبيض العنبر، وأنفق على المأمون وقواده وجميع أصحابه وسائر من كان معه من أجناده واتباعه، وكانوا خلقاً لا يحصى، حتى على الجمالين والمكاربة والملاحين وكل من ضمه عسكره، فلم يكن في العسكر من يشتري شيئاً لنفسه ولا لدوابه. وذكر الطبري في تاريخه (1) أن المأمون أقام عند الحسن تسعة عشر يوماً، يعد له في كل يوم ولجميع من معه ما يحتاج إليه، وكان مبلغ النفقة عليهم خمسين ألف ألف درهم، وأمر له المأمون عند منصرفه بعشرة آلاف ألف درهم، وأقطعه فم الصلح، فجلس الحسن وفرق المال على قواده وأصحابه وحشمه، ثم قال: بعد هذا خرج المأمون نحو الحسن لثمان خلون من شهر رمضان، ورحل من فم الصلح لسبع بقين من شوال سنة عشر ومائتين، وهلك حميد بن عبد الحميد يوم الفطر من هذه السنة، وقال غيره: وفرش للمأمون حصير منسوج بالذهب، فلما وقف عليه نثرت على قدميه لآلىء كثيرة، فلما رأى تساقط الآلىء المختلفة على الحصير المنسوج بالذهب قال: قاتل الله أبا نواس! كأنه شاهد هذه الحال حين قال (2) في صفة الخمر والحباب الذي يعلوها عند المزاج: كأن صغرى وكبرى من فواقعها ... حصباء در على أرض من الذهب وقد غلطوا أبا نواس في هذا البيت، وليس هذا موضع إبانة الغلط (3) .   (1) تاريخ الطبري 10: 272. (2) هـ: حتى قال. (3) هامش ب: يريد بتغليط أبي نواس أنه استعمل أفعل التفضيل بدون أحد الأمور الثلاثة وهي: من أو اللام أو الإضافة، لأن صغرى فعلى أفعل ... الخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 وأطلق له المأمون خراج فارس وكور الأهواز مدة سنة، وقالت الشعراء والخطباء في ذلك فأطنبوا. ومما يستظرف فيه قول محمد بن خازم الباهلي (1) : بارك الله للحسن ... ولبوران في الختن يا ابن هارون قد ظفر ... ت ولكن ببنت من فلما نمي هذا الشعر إلى المأمون قال: والله ما ندري خيراً أراد أم شراً. وقال الطبري أيضا: دخل المأمون على بوران الليلة الثالثة من وصوله إلى فم الصلح، فلما جلس معها نثرت عليهما جدتها ألف درة كانت في صينية ذهب، فأمر المأمون أن تجمع وسألها عن عدد الدر كم هو، فقالت: ألف حبة، فوضعها في حجرها وقال لها: هذه نحلتك، وسلي حوائجك، فقالت لها جدتها: كلمي يدك فقد أمرك، فسألته الرضى عن إبراهيم بن المهدي - قلت: وقد تقدم ذكره - فقال: قد فعلت، وأوقدوا في تلك الليلة شمعة عنبر وزنها أربعون منا في تور من ذهب، فأنكر المأمون ذلك عليهم وقال: هذا سرف. وقال غير الطبري: لما طب المأمون الدخول عليها دافعوه لعذؤر بها، فلم يندفع، فلما زفت إليه وجدها حائضا فتركها، فلما قعد للناس من الغد دخل عليه أحمد بن يوسف الكاتب وقال: يا أمير المؤمنين، هناك الله بما أخذت من الأمر باليمن والبركة، وشدة الحركة، والظفر بالمعركة، فأنشده المأمون: فارس ماض بحربته ... صادق (2) بالطعن في الظلم رام (3) أن يدمي فريسته ... فاتقته من دم بدم   (1) نشأ بالبصرة وسكن بغداد وكان كثير الهجاء ولم يمدح من الخلفاء إلا المأمون (الأغاني 14: 87 وطبقات ابن المعتز: 308 والورقة: 109 وتاريخ بغداد 2: 295) . (2) د: عارف. (3) أ: كاد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 يعرض بحيضها وهو من أحسن الكنايات، حكى ذلك أبو العباس الجرجاني في كتاب " الكنايات " (1) ، وقد رويت هذه القصة على غير هذا الوجه، والله أعلم بالصواب. وجرى هذا كله في شهر رمضان سنة عشر ومائتين، وعقد عليها في سنة اثنتين ومائتين، وتوفي المأمون وهي في صحبته، وكانت وفاته يوم الخميس لثلاث عشرة ليلة بقيت من رجب سنة ثماني عشرة ومائتين، وبقيت بعده إلى أن توفيت يوم الثلاثاء لثلاث بقين من شهر بيع الأول سنة إحدى وسبعين ومائتين وعمرا ثمانون سنة، لأن مولدها ليلة الاثنين لليلتين خلتا من صفر سنة اثنتين وتسعين ومائة وكانت وفاتها ببغداد، ويقال: إنها دفنت في قبة (2) مقابلة مقصورة جامع السلطان وإنها باقية إلى الآن، رحمها الله تعالى. وفم الصلح - بفتح الفاء وبعدها ميم وكسر الصاد المهملة وبعد اللام الساكنة جاء مهملة - وهي بلدة على دجلة قريبة من واسط، كذا ذكره السمعاني. وقال العماد الكاتب في الخريدة: الصلح نهر كبير، يأخذ من دجلة بأعلى واسط عليه نواح كثيرة، وقد علا النهر وآل أمر تلك المواضع إلى الخراب. قلت: والعماد بذلك أخبر من السمعاني، لأنه أقام بواسط زمانا طويلا، متولي الديوان بها. 121 - تاج الملوك بوري تاج الملوك أبة سعيد بوري بن أيوب بن شاذي بن مروان الملقب مجد الدين، قد تقدم ذكر أبيه، وهو أخو السلطان صلاح الدين، رحمه الله تعالى؛ وكان أصغر أولاد أبيه، وكانت فيه فضيلة، وله ديوان شعر فيه الغث والسمين   (1) انظر كتابات الجرجاني: 45. (2) هـ: بقية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 لكنه بالنسبة إلى مثله جيد؛ نقلت من ديوانه في أحد مماليكه وقد أقبل من جهة المغرب راكباً فرساً أشهب قوله: أقبل من أعشقه راكباً ... من جانب الغرب على أشهب فقلت: سبحانك ياذا العلا ... أشرقت الشمس من المغرب [ومما يناسب ذلك قول ابن طلحة الصقلي (1) : أيتها النفس إليه اذهبي ... فحبه المشهور من مذهبي مفضض الثغر له نقطة ... مسكية في خده المذهب أيأسني التوبة من حبه ... طلوعه شمسا من المغرب ولأحمد بن عثمان الأندلسي: لما رأيت شعاع خدك ذا ... متهللاً كتهلل البرق سبحت من عجب وقلت متى ... لشمس تطلع من سوى الشرق] وأورد له العماد الكاتب في كتاب " الخريدة ": يا حياتي حين يرضى ... ومماتي حين يسخط آه من ورد على خد ... يك بالمسك منقط بين أجفانك سلطا ... ن على ضعفي مسلط قد تصبرت وإن بر ... ح بي الشوق وأفرط فلعل الدهر يوماً ... بالتلاقي منك بغلط واورد له أيضا: أيا حامل الرمح الشبيه بقده ... ويا شاهرا سيفاً حكى لحظه عضبا ضع الرمح واغمد ما سللت فربما ... قتلت وما حاولت طعناً ولا ضربا وذكر له غير ذلك أيضا، وله أشياء حسنة.   (1) سقطت هذه العبارة من نسخة آياصوفيا، وألحقت الأبيات الثلاثة التالية ببيتي تاج الملوك بوري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 وكانت ولادته في ذي الحجة سنة ست وخمسين وخمسمائة، وتوفي يوم الخميس الثالث والعشرين من صفر سنة تسع وسبعين وخمسمائة، على مدينة حلب من جراحة أصابته عليها لما حاصرها أخوه السلطان صلاح الدين، رحمه الله تعالى، وأصابته الجراحة يوم نزولهم عليها، وهو السادس عشر من المحرم من السنة المذكورة، وكانت الجراحة طعنة في ركبته. قال العماد الأصبهاني في " البرق الشامي ": إن صلاح الدين كان قد أعد لعماد الدين صاحب حلب ضيافة في المخيم بعد الصلح وقبل دخوله البلد، فبينما هو جالس على السماط وعماد الدين إلى جانبه ونحن في أغبط عيش وأتم سرور إذ جاء الحاجب إلى صلاح الدين وأسر إليه بموت أخيه، فلم يتغير عن حالته وأمر بتجهيزه ودفنه سراً، وأعطى الضيافة حقها إلى آخرها، ويقال: إن صلاح الدين كان يقول: ما أخذنا حلب رخيصة بقتل تاج الملوك (1) . وبوري - بضم الباء الموحدة وسكون الواو وكسر الراء وبعدها ياء مثناة من تحتها - وهو لفظ تركي معناه بالعربية ذئب، انتهى، والله تعالى أعلم.   (1) أوردت نسخة من هذا الخبر بشيء من التغيير اليسير فلم أر إثباته في الزيادات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 حَرف التَاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 فراغ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 122 - (1) تتش السلجوقي تاج الدولة أبو سعيد تتش بن ألب أرسلان بن داود بن ميكائيل بن سلجوق ابن دقاق السلجوقي؛ كان صاحب البلاد الشرقية، فلما حاصر أمير الجيوش بدر الجمالي مدينة دمشق من جهة صاحب مصر - وكان صاحب دمشق يومئذ أتسز بن أوق بن الخوارزمي التركي - سير أتسز المذكور إلى تتش فاستنجد به (2) فأنجده وسار إليه بنفسه، فلما وصل إلى دمشق خرج إليه أتسز، فقبض عليه تتش وقتله واستولى على مملكته وذلك في سنة إحدى وسبعين وأربعمائة لإحدى عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الآخر (3) ، وكان قد ملك دمشق في ذي القعدة سنة ثمان وستين وأربعمائة، ورأيت في بعض التواريخ أن ذلك (4) كان في سنة اثنتين وسبعين، والله أعلم. ثم ملك حلب بعد ذلك في سنة ثمان وسبعين وأربعمائة كما تقدم في ترجمة آق سنقر، واستولى على البلاد الشامية، ثم جرى (5) بينه وبين ابن أخيه بر كياروق المقدم ذكره منافرات ومشاجرات أدت إلى المحاربة، فتوجه إليه وتصافا بالقرب من مدينة الري في يوم الأحد سابع عشر صفر سنة ثمان وثمانين وأربعمائة، فانكسر تتش المذكور، وقتل في المعركة ذلك النهار، ومولده في شهر رمضان سنة ثمان وخمسين وأربعمائة.   (1) أخبار تتش واستيلائه على دمشق وحلب في ابن القلانسي: 116، 120 - 125؛ وانظر في منازعته لبركياروق: تاريخ الدولة السلجوقية: 75 - 78 وراجع تاريخ ابن الأثير وابن خلدون؛ وهذه الترجمة قد سرد فيها المؤلف ولاة دمشق حتى استيلاء نور الدين عليها (انظر ولاة دمشق للصفدي) . (2) أج: فاستنجده. (3) هـ: الأول. (4) زاد في هـ: يعني قتل أتسز. (5) هـ: جرت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 وخلف ولدين: أحدهما فخر الملوك رضوان، والآخر شمس الملوك (1) أبو نصر دقاق، فاستقل رضوان بمملكة حلب، ودقاق بمملكة دمشق، وتوفي رضوان في سلخ جمادى الأولى سنة سبع وخمسمائة، ومن نوابه أخذ الفرنج أنطاكية في سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة، وتوفي دقاق في ثامن عشر شهر رمضان سنة سبع وتسعين وأربعمائة، ودفن في مسجد بحكر الفهادين (2) بظاهر دمشق الذي على نهر بردى، وكان قد حصل له مرض متطاول، وقيل: إن أمه سمته في عنقود عنب. فلما مات قام بالملك ظهير الدين أبو منصور طغتكين، وكان أتابكه وتزوج أمه في حياة أبيه، زوجه إياها وهو عتيق تتش رحمهم الله تعالى، وألاد الملك رضوان المقيمون بظاهر حلب هم أولاد رضوان المذكور. ولم يزل ظهير الدين طغتكين مالك دمشق إلى أن توفي يوم السبت لثمان خلون من صفر سنة اثنتين وعشرين وخمسائة. وتولى الأمر بعده ولده تاج الملوك أبو سعيد بوري، إلى أن توفي يوم الاثنين الحادي والعشرين من رجب سنة ست وعشرين وخمسمائة من جراحة أصابته من الباطنية. وتولى بعده ولده شمس الملوك إسماعيل إلى أن قتل يوم الأربعاء رابع عشر شهر ربيع الآخر سنة تسع وعشرين وخمسمائة، قتلته أمه خاتون زمرد بنت جاولي. وأجلست أخاه شهاب الدين أبا القاسم محمود بن بوري، فتولى الأمر بعده بدمشق إلى أن قتل ليلة الجمعة الثالث والعشرين من شوال سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة، قتله غلامه التغش ويوسف الخادم والفراش الخركاوي. وصبيحة قتله وصل أخوه جمال الدين محمد بن بوري من بعلبك وكان صاحبها، فملك دمشق وأقام بها إلى أن توفي ليلة الجمعة ثامن من شعبان سنة أربع وثلاثين وخمسمائة.   (1) أ: الملك. (2) د: ودفن في خانقاه الطواريس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 وتولى بعده مملكة دمشق ولده مجير الدين أبق بن محمد بن بوري بن طغتكين، إلى أن نزل عليها نور الدين محمود بن زنكي في التاريخ الآتي ذكره في ترجمته إن شاء الله تعالى وأخذها منه، وعرضه عنها حمص فأقام بها يسيرا ثم انتقل إلى بالس التي على الفرات بأمر نور الدين، وأقام بها مدة ثم توجه إلى بغداد وأقبل عليه الامام المقتفي، ولا أعلم متى مات. ولما كان بدمشق كان مدبر دولته معين الدين أنز بن عبد الله مملوك جده طغتكين، وهو الذي ينسب إليه قصر معين الدين ببلاد الغور من أعمال دمشق، وتوفي معين الدين المذكور في ليلة الثالث والعشرين من شهر ربيع الآخر سنة أربع وأربعين وخمسائة وهو الذي تزوج نور الدين محمود ابنته ثم تزوجها من بعده السلطان صلاح الدين رحمهم الله أجمعين. وله بدمشق مدرسة، ثم وجدت تاريخ وفاة مجير الدين أبق فذكرتها في ترجمة نور الدين محمود - الآتي ذكره إن شاء الله تعالى -. 123 - (1) تقية الصورية أم علي تقية بنت أبي الفرج غيث بن علي بن عبد السلام بن محمد بن جعفر السلمي الأرمنازي الصوري، وهي أم تاج الين أبي الحسن علي بن فاضل بن سعد الله بن الحسن بن علي بن الحسين بن يحيى بن محمد بن إبراهيم بن موسى بن محمد بن صمدون (2) الصوري الأصل. كانت فاضلة، ولها شعر جيد، قصائد ومقاطيع، وصحبت الحافظ أبا الطاهر أحمد بن محمد السلفي الأصبهاني - رحمه الله تعالى - زمانا بثغر   (1) تعرف لست النعم، وقد عدها العماد (الخريدة - قسم مصر 2: 221) من أهل الإسكندرية، ولها ذكر في معجم السفر للسلفي وترجمة في الوافي ونزهة الجلساء: 32 والشذرات 4: 26. (2) أ: حمدون؛ هـ: مهران. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 الإسكندرية المحروس، وذكرها في بعض تعاليقه الإسكندرية المحروس، وذكرها في بعض تعاليقه، وأثنى عليها وكتب بخطه: عثرت في منزل سكناي، فانجرح أخمصي، فشقت وليدة في الدار خرقة من خمارها وعصبته (1) ، فأنشدت تقية المذكورة في الحال لنفسها تقول: لو وجدت السبيل جُدت بخدي ... عوضاً عن خمار تلك الوليدة كيف لي أن أقبل اليوم رجلاً ... سلكت دهرها الطريق الحميدة نظرت في هذا المعنى إلى قول هارون بن يحيى المنجم: كيف نال العثار من لم يزل من ... هـ مقيماً في كل خطب جسيم أو ترقى الأذى إلى قدم لم ... تخط إلا إلى مقام كريم ولها غير ذلك أشياء حسنة. وحكى (2) لي الحافظ زكي الدين أبو محمد عبد العظيم المنذري رحمه الله أن تقية المذكورة نظمت قصيدة تمدح بها الملك المظفر تقي الدين عمر ابن أخي السلطان صلاح الدين رحمهما الله تعالى، وكانت القصيدة خمرية، ووصفت آلة المجلس وما يتعلق بالخمر، فلما وقف عليها قال: الشيخة تعرف هذه الأحوال من زمن صباها (3) ، فبلغها ذلك، فنظمت قصيدة أخرى حربية ووصفت الحرب وما يتعلق بها أحسن وصف، ثم سيرت إليه تقول: علمي بهذا كعلمي بهذا (4) ، وكان قصدها براءة ساحتها مما نسبها إليه. [وكانت قد سألت الشيخ الامام العالم أبا الطاهر اسماعيل بن عوف الزهريعن الشعر، فقال: هو كلام إن تكلمت بحسن فهو لك وإن تكلمت بشر فهو عليك] . وكانت ولادتها في صفر سنة خمس وخمسمائة بدمشق، ورأيت بخط الحافظ   (1) أ: وعصبت أخمصي. (2) هـ: ر ذكر. (3) اج وآيا صوفيا: الصبا. (4) أج وآيا صوفيا: بذاك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 السفلي أنها ولدت في المحرم من السنة المذكورة، وتوفيت في أوائل شوال سنة تسع وسبعين وخمسائة، رحمها الله تعالى. توفي والدها أبو الفرج (1) المذكور في أواخر سنة تسع وخمسائة، وقيل: في صفر، وكان ثقة، رحمة الله تعالى. وتوفي جدها علي بن عبد السلام ضحى يوم الأحد تاسع ربيع الآخر سنة ثمان وسبعين وأربعمائة بصور. وتوفي ولدها أبو الحسن علي المذكور في الخامس عشر من صفر سنة ثلاث وستمائة بثغر الإسكندرية عن سن عالية، وهو صوري الأصل مصري الدار (2) ، وكان فاضلاً في النحو والقراءات حسن الحظ والضبط لما يكتبه. وكان مولد أبيه فاضل المذكور في شوال سنة تسعين وأربعمائة بدمشق، هكذا نقلته من خط الحافظ السلفي، وتوفي في أول شهر ربيع الأول سنة ثمان وستين وخمسائة بالإسكندرية، وكنيته أبو محمد، نقلت وفاته من خط ولده أبي الحسن علي المذكور. والأرمنازي - بفتح الهمزة وسكون الراء وفتح الميم والنون وبعد الألف زاي - هذه النسبة إلى أرمناز، وهي قرية من أعمال دمشق، وقيل: من أعمال أنطاكية، والأول أصح، وذكر ابن السمعاني أنها من أعمال حلب، وقال لي من رأى أرمناز: إن بينها وبين عزار من أعمال حلب أقل من ميل من جانبها الغربي (3) . والصوري - بضم الصاد المهملة وسكون الواو وبعدها راء - هذه النسبة إلى مدينة صور، وهي من ساحل الشام، وهي الآن بيد الفرنج، خذلهم   (1) ذكره ياقوت نقلاً عن السمعاني في (أرمناز) وانظر الأنساب (أرمنازي) كما ذكر ترجمة لوالدها غيث بن علي نقلاً عن ابن عساكر. (2) أ: الديار. (3) وقف ياقوت عند هذا الخلاف في تحديد " أرمناز " بعد أن ذكر أنها من نواحي حلب، وأورد قول أبي سعد ابن السمعاني ثم قال: لا شك في أرمناز التي من نواحي حلب، فإن لم يكن أبو سعد اغتر بسماع محمد بن طاهر من أبي الحسن بصور ولم ينعم النظر وإلا فأرمناز قرية أخرى بصور، والله أعلم على أن الحافظ أبا القاسم ذكر في ترجمة علي بن عبد السلام الأرمنازي فقال: والد غيث الصوري الكاتب أصله من أرمناز قرية من ناحية أنطاكية بالشام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 الله تعالى، استولوا عليها في سنة ثماني عشرة وخمسائة، يسر الله فتحها على أيدي المسلمين، آمين. 124 - (1) أبو غالب التياني أبو غالب تمام بن غالب بن عمر اللغوي المعروف بالتياني من أهل قرطبة سكن مرسية؛ كان إماماً في اللغة وثقة في إيرادها، مذكوراً بالديانة والفقه والورع، وله كتاب مشهور جمعة في اللغة لم يؤلف مثله اختصارا وإكثارا، وله قصة تدل على دينه مع علمه (2) ، حكى ابن الفرضي أن الأمير أبا الجيش مجاهد بن عبد الله العامري وجه إلى أبي غالب المذكور أيام غلبته على مرسية، وأبو غالب ساكن بها، ألف دينار على أن يزيد في ترجمة هذا الكتاب مما ألفه أبو غالب لأبي الجيش مجاهد، فرد الدنانير وقال: والله لو بذلت لي الدنيا على ذلك لم أفعله، ولا استجزت الكذب، فإني لم أؤلفه لك خاصة، ولكن للناس عامة؛ فاعجب لهمة هذا الرئيس وعلوها، واعجب لنفس هذا العالم ونزاهتها. وقال ابن حيان: كان أبو غالب هذا مقدما في علم اللسان مسلمة له اللغة، وله كتاب جامع في اللغة سماه " تلقيح العين " (3) جم الإفادة. وتوفي بالمرية في إحدى الجماد يين سنة ست وثلاثين وأربعمائة (4) ، رحمه الله   (1) ترجمة أبي غالب التياني في الجذوة: 172 (والبغية: 236) والصلة: 124 وإنباه الرواة 1: 259 وبغية الوعاة: 209 ومعجم الأدباء 7: 135 وروضات الجنات: 140. (2) هذه القصة في الأصل مأخوذة من رسالة ابن حزم في فضل الأندلس (النفح 3: 172) وقد كررها الشقندي في رسالته (المصدر السابق: 190) . (3) انظر فهرسة ابن خير: 359. (4) أج: 433. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 تعالى؛ وأخذ اللغة عن أبيه وعن أبي بكر الزبيدي وغيرهما. والتياني: أظنه منسوبا إلى التين وبيعه، والله أعلم. 125 - (1) تميم بن المعز الفاطمي أبو علي تميم بن المعز بن المنصور بن القائم بن المهدي؛ كان أبوه صاحب الديار المصرية والمغرب، وهو الذي بنى القاهرة المعزية - وسيأتي ذكره في حرف الميم إن شاء الله تعالى - وقد تقدم ذكر جماعة من أهل بيته - وسيأتي ذكر الباقين إن شاء الله تعالى -؛ وكن تميم المذكور فاضلاً شاعراً ماهراً لطيفاً ظريفاً، ولم يل المملكة لأن ولاية العهد كانت لأخيه العزيز فوليها بعد أبيه، والعزيز أيضاً أشعار جيدة وقد ذكرهما أبو منصور الثعالبي في " اليتيمة " (2) ، وأورد لهما كثيراً من المقاطيع، فمن شعر تميم المذكور (3) : ما بان عذري فيه حتى عذراً ... ومشى الدجى في خده فتحيرا همت تقلبه عقارب صدغه ... فاستل ناظره عليها خنجرا والله لولا أن يقال تغيراً ... وصبا وإن كان التصابي أجدرا لأعدت تفاح الخدود بنفسجا ... لثما وكافور الترائب عنبرا وله أيضاً (4) :   (1) ترجمة تميم في الحلو السيراء 1: 291 ومسالك الأبصار (أول الجزء 12) ومقدمة ديوانه (ط. دار الكتب 1957) . (2) اليتيمة 1: 308 وقد عاد الثعالبي فأفرد لتميم ذكراً ص: 452 من الجزء نفسه. (3) أضيفت إلى الديوان: 464 ولم تكن في الأصول، عن اليتيمة وغيرها. (4) ديوانه: 398. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 أما والذي لا يملك الأمر غيره ... ومن هو بالسر المكتم أعلم لئن كان كتمان المصائب مؤلماً ... لإعلانها عندي أشد وآلم وبي كل ما يبكي العيون أقله ... وإن كنت منه دائما أتبسم وأورد له صاحب " اليتيمة " (1) : وما أم خشفٍ ظل يوماً وليلة ... ببلقعة بيداء ظمآن صاديا تهيم فلا تدري إلى أين تنتهي (2) ... مولهة حيرى تجوب الفيافيا أضر بها حر الهجير فلم تجد ... لغلتها من بارد الماء شافيا فلما دنت من خشفها انعطفت له ... فألفته ملهوف الجوانح طاويا بأوجع مني يوم شدت حملهم ... ونادى منادي الحي أن لا تلاقيا [وأورد له أبو الصلت أمية بن عبد العزيز في كتابه " الحديقة ": يوم لنا في النيل مختصر ... ولكل يوم مسرة قصر والسفن تصعد كالخيول بنا ... فيه وجيش الماء ينحدر فكأنما أمواجه عكن ... وكأنما داراته سرر ومن شعره أيضاً رحمه الله تعالى: اشرب على غيم كصبغ الدجى ... أضحك وجه الأرض لما بكى وانظر لماء النيل في مده ... كأنما صندل أو مسكا وكان قد وصل إلى عبد الله بن محمد الكاتب بيتان قيلا في وصف النيل فجمع شعراء إفريقية وأمرهم أن يقولوا في معناهما وقافيتهما فلم يأتوا بطائل وهما هذان البيتان: شربنا على النيل لما بدا ... بموجٍ يزيد ولا ينقص كأن تكاثف أمواجه ... معاطف جاريةٍ ترقص   (1) ديوانه: 462. (2) أج: تنتحي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 وأحسبهما للأمير تميم أو لبعض شعراء مصر، وذلك أن تميماً ركب في النيل ليلة متنزها فمر ببعض الطاقات المشرفة على النيل، وجاريةٍ تغني هذا الصوت: نبهت ندماني بدجلة موهنا ... والبدر في أفق السماء معلق والبدر يضحك وجهه في وجهها ... والماء يرقص حولها ويصفق فاستحسنه وطرب عليه وما زال يستعيدها فيه ويشرب عليه حتى انصرف وهو لا يعقل سكراً فلما أصبح عارضهما بالبيتين الأولين] . ومن المنسوب إليه أيضاً: وكما يمل الدهر من إعطائه ... فكذا ملالته من الحرمان وأشعاره كلها حسنة. وكانت وفاته في ذي القعدة سنة أربع وسبعين وثلثمائة بمصر، رحمه الله تعالى، هكذا قال صاحب " الدول المنقطعة " وزاد العتقي (1) في تاريخه أنه توفي يوم الثلاثاء مع زوال الشمس لثلاث عشرة ليلة خلت من الشهر المذكور، وأن أخاه العزيز نزار بن المعز حضر الصلاة عليه في بستانه، وغسله القاضي محمد بن النعمان وكفنه في ستين ثوباً، وأخرجه من البستان مع المغرب وصلى عليه بالقرافة، وحمله إلى القصر فدفنه بالحجرة التي فيها قبر أبيه المعز. وقال محمد بن عبد الملك الهمداني في كتابه الذي سماه " المعارف المتأخرة " (2) : إنه توفي سنة خمس وسبعين، والله أعلم. وقال غيرهما: إنه ولد سنة سبع وثلاثين وثلثمائة.   (1) العتقي: محمد بن عبد الرحمن بن القاسم بن جنادة (وعند القفطي في تاريخ الحكماء: 285 محمد ابن عبد الله بن محمد أبو عبد الرحمن العتقي) ، قدم مصر من إفريقية مه المعز وظل مقرباً من الفاطميين حتى أيام العزيز حين ألف كتاباً في أخبار بني أمية وبني العباس ذكر فيه أشياء من محاسنهم، فوجه العزيز على ذلك وصودرت صفية كانت له، وتوفي سنة 384، ولعل هذا الكتاب هو الذي يشير إليه المؤلف باسم تاريخ العتقي (انظر الوافي 3: 239) . (2) توفي الهمداني سنة 521؛ وكتابه " المعارف المتأخرة " مختصر، ومت كتبه تاريخ الطبري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 126 - (1) تميم بن المعز الصنهاجي أبو يحيى تميم بن المعز بن باديس بن المنصور بن بلكين بن زيري بن مناد ابن منقوش بن زناك بن زيد الأصغر بن واشفال بن وزغفي بن سري بن وتلكيابن سليمان بن الحارث بن عدي الأصغر، وهو المثنى، بن المسور بن يحصب بن زيد الغوث الأصغر بن سعد وهو عبد الله بن عوف بن عدي بن مالك بن زيد بن سدد بن زرعة، وهوحمير الأصغر، بن سبأ الأصغر بن كعب بن زيد بن سهل بن عمرو بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس بن وائل بن الغوث بن حيدان بن قطن بن عوف بن عريب بن زهير بن أيمن بن الهميسع بن عمرو بن حمير وهو العرنجج بن سبأ الأكبر بن يشجب بن يعرب ابن قحطان بن عابر وهو هود عليه السلام ابن شالخ بن إرفخشذ بن سام بن نوح عليه السلام، هكذا قاله العماد في الخريدة، الحميري الصنهاجي. ملك إفريقية وما والاها بعد أبيه المعز، وكان حسن السيرة، محمود الآثار، محباً للعلماء، معظماً لأرباب الفضائل، حتى قصدته الشعراء من الآفاق على بعد الدار كابن السراج الصوري وأنظاره، وجده المثنى بن المسور أول من دخل منهم إلى افريقية. ولأبي علي الحسن بن رشيق القيرواني فيه مدائح، فمن ذلك قوله (2) : أصح وأعلى ماسمعناه في الندى ... من الخبر المأثور منذ قديم أحاديث ترويها السيول عن الحيا ... عن البحر عن كف الأمير تميم   (1) ترجمة تميم الصنهاجي في الحلة السيراء 2: 21 والبيان المغرب 1: 298 وابن خلدون 6: 159 وأعمال الأعلام (القسم الثالث) : 73. (2) الحلة: 23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 وللأمير تميم المذكور أشعار حسنة، فمن ذلك قوله: إن نظرت مقلتي لمقلتها ... تعلم مما أريد نجواه كأنها في الفؤاد ناظره ... تكشف أسراره وفحواه وله أيضا: سل المطر العام الذي عم أرضكم ... أجاء بمقدار الذي فاض من دمعي إذا كنت مطبوعاً على الصد والجفا ... فمن أين لي صبر فأجعله طبعي وله أيضاً: وخمر قد شربت على وجوه ... إذا وصفت تجل عن القايس خدود مثل ورد في ثغور ... كدر في شعور مثل آس وذكره العماد الكاتب في كتاب السيل، وأورد له: فكرت في نار الجحيم وحرها ... يا ويلتاه ولات حين مناص فدعوت ربي أن خير وسيلني ... يوم المعاد شهادة الإخلاص وأشعاره وفضائله كثيرة، وكان يجيز الجوائز السنية، ويعطي العطاء الجزيل، وفي أيام ولايته اجتاز المهدي محمد بن تومرت - الأتي ذكره إن شاء الله تعالى - بإفريقية عند عوده من بلاد المشرق، وأظهر بها الانكار على من رآه خارجاً عن سنن الشريعة، ومن هناك توجه إلى مراكش وكان منه ما اشتهر. وكانت ولادة الأمير تميم المذكور بالمنصورية التي تسمى صبرة من بلاد إفريقية يوم الاثنين ثالث عشر رجب سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة، وفوض إليه أبوه ولاية المهدية في صفر سنة خمس وأربعين، ولم يزل بها إلى أن توفي والده في [رابع] شعبان سنة أربع وخمسين وأربعمائة كما سيأتي في ترجمته إن شاء الله تعالى، فاستبد بالملك، ولم يزل إلى أن توفي ليلة السبت منتصف رجب سنة إحدى وخمسمائة، ودفن في قصره، ثم نقل إلى قصر السيدة بالمنستير، رحمه الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 وخلف من البنين أكثر من مائة، ومن البنات ستين، على ما ذكر حفيده أبو محمد عبد العزيز بن شداد ابن الأمير تميم المذكور في كتاب أخبار القيروان رحمه الله تعالى. وقد تقدم ضبط بعض أجداده والباقي يطول ضبطه وقد قيدته بخطى، فمن أراد نقله فلينقله على هذه الصورة فإني نقلته من خط بعض الفضلاء. والصنهاجي: قد تقدم الكلام فيه. والمنستير: يأتي ذكرها في حرف الهاء إن شاء الله تعالى في ترجمة البوصيري. 127 - (1) توران شاه الملك المعظم شمس الدولة توران شاه بن أيوب بن شاذي بن مروان الملقب فخر الدين، وقد تقدم ذكر أبيه وأخيه تاج الملوك، وهو أخو السلطان صلاح الدين رحمه الله تعالى، وكان أكبر منه؛ وكان السلطان يكثر الثناء عليه ويرجحه على نفسه، وبلغه أن باليمن إنساناً يسمى عبد النبي بن مهدي يزعم أنه ينتشر ملكه حتى يملك الأرض كلها، وكان قد ملك كثيراً من بلادها واستولى على حصونها وخطب لنفسه، وكان السلطان قد ثبتت قواعده وقوي عسكره، فجهز أخاه شمس الدولة المذكور بجيش اختاره، وتوجه إليها من الديار المصرية في أثناء رجب سنة تسع وستين وخمسمائة، فمضى إليها، وفتح الله على يديه، وقتل الخارجي الذي كان فيها، وملك معظمها، وأعطى وأغنى خلقاً كثيراً، وكان كريماً أريحياً، ثم إنه عاد من اليمن والسلطان على حصار حلب، فوصل إلى دمشق في ذي الحجة سنة إحدى وسبعين، ولما رجع السلطان من الحصار وتوجه إلى الديار المصرية استخلفه بدمشق، فأقام بها مدة ثم انتقل إلى مصر.   (1) انظر طبقات السبكي 5: 52. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 وذكر ابن شداد في سيرة " صلاح الدين " (1) أنه توفي يوم الخميس مستهل صفر، وقال في موضع آخر من السيرة أيضاً: خامس صفر سنة ست وسبعين وخمسمائة، بثغر الإسكندرية المحروس، ونقلته أخته شقيقته ست الشام بنت أيوب إلى دمشق ودفنته في مدرستها التي أنشأتها بظاهر دمشق، فهناك قبره وقبرها وقبر ولدها حسام الدين عمر بن لاجين وقبر زوجها ناصر الدين أبي عبد الله محمد بن أسد الدين شيركوه صاحب حمص، وكانت تزوجته بعد لاجين، رحمهم الله أجمعين. وكانت وفاة حسام الدين المذكور ليلة الجمعة تاسع عشر شهر رمضان سنة سبع وثمانين وخمسمائة، وهذا حسام الدين المذكور هو سيد شبل الدولة كافوريبن عبد الله الحسامي الخادم صاحب المدرسة والخانقاه الشلبية اللتين في ظاهر دمشق على طريق جبل قاسون، ولهما شهرة في مكانهما. وله أوقاف كثيرة ومعروف نافع في الدنيا والآخرة، وكانت وفاته في رجب سنة ثلاث وعشرين وستمائة، ودفن في تربته المجاورة لمدرسته المذكورة. وسيأتي ذكر ناصر الدين محمد بن شيركوه في ترجمة أبيه في حرف الشين إن شاء الله تعالى. وتوفيت ست الشام المذكورة في سادس عشر ذي القعدة سنة ست عشرة وستمائة. وبعد الفراغ من هذه الترجمة وجدت بخط بعض الفضلاء ممن له عناية بهذا الفن زيادة على ماذكرته ههنا، فتركت ما هو مذكور في هذا المكان وأتيت بتلك الزيادة، فقال: لما تمهدت بلاد اليمن لشمس الدولة واستقامت له أمورها كره المقام بها لكونه تربية بلاد الشام، وهي كثيرة الخير، واليمن بلاد مجدبة من ذلك كله، فكتب إلى أخيه صلاح الدين يستقبل منها ويسأله الإذن له في العود إلى الشام، ويشكو (2) حاله وما يقاسيه من عدم المرافق التي يحتاج إليها، فأرسل إليه صلاح الدين رسولاً مضمون رسالته ترغيبه في الإقامة وأنها   (1) سيرة صلاح الدين: 52، 54. (2) هـ: في العودة إلى بلاد الشام، وشكا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 كثيرة الأحوال ومملكة كبيرة، فلما سمع الرسالة قال لمتولي خزانته: أحضر لنا ألف دينار، فأحضرها، فقال لأستاذ داره والرسول حاضر عنده: أرسل هذا الكيس إلى السوق يشترون لنا بما فيه قطعة ثلج، فقال أستاذ الدار: يا مولانا، هذه بلاد اليمن من أين يكون فيها ثلج فقال: دعهم يشترون بها طبق مشمش لوزير، فقال: من أين يوجد هذا النوع ههنا فجعل يعدد عليه جميع أنواع فواكه دمشق (1) وأستاذ الدار يظهر التعجب من كلامه، وكلما قال له عن نوع يقول له: يا مولانا من أين يوجد هذا ههنا فلما استوفى الكلام إلى آخره قال للرسول: ليت شعري ماذا أصنع بهذه الأموال إذا لم أنتفع بها في ملاذي وشهواتي فإن المال. لايؤكل بعينه، بل الفائدة فيه أن يتوصل به الانسان إلى بلوغ أغراضه. فعاد الرسول إلى صلاح الدين وأخبره بما جرى، فأذن له في المجيء. وكان القاضي الفاضل يكتب إليه الرسائل الفائقة، ويودعها شرح الأشواق، فمن ذلك أبيات مشهورة ذكرها في ضمن كتاب، وهي: لا تضجرن مما أتيت فإنه ... صدر لأسرار الصبابة ينفث أما فراقك واللقاء فإن ذا ... منه أموت وذاك منه أبعث حلف الزمان على تفرق شملنا ... فمتى يرق لنا الزمان ويحنث كم يلبث الجسم الذي ما نفسه ... فيه ولا أنفاسه كم يلبث حول المضاجع كتبكم فكأنني ... ملسوعكم وهي الرقاة النفث ولما وصل إلى دمشق في التاريخ المقدم ذكره ناب عن أخيه صلاح الدين بها لما عاد صلاح الدين إلى الديار المصرية، ثم انتقل إلى الديار المصرية في سنة أربع وسبعين وخمسمائة، وكان أخوه صلاح الدين قد سيره في سنة ثمان وستين وخمسمائة إلى بلاد النوبة ليفتحها قبل سفره إلى اليمن، فلما وصل إليها وجدها لا تساوي المشقة فتركها ورجع، وقد غنم شيئاً كثيراً من الرقيق، وكانت له من   (1) أ: الشام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 أخيه إقطاعات، ونوابه باليمن يجيبون له الأموال، ومات وعليه من الديون مائتا ألف دينار، فقضاها عنه صلاح الدين. وحكى صاحبنا الشيخ مهذب الدين أبو طالب محمد بن علي المعروف بابن الخيمي الحلبي نزيل مصر الأديب الفاضل، قال: رأيت في النوم شمس الدولة توران شاه بن أيوب وهو ميت، فمدحته بأبيات وهو في القبر، فلف كفنه ورماه إلي وأنشدني: لا تستقلن معروفاً سمحت به ... ميتاً فأمسيت منه عارياً بدني ولا تظنن جودي شابه بخل ... من بعد بذلي ملك الشام واليمن إني خرجت من الدنيا وليس معي ... من كل ما ملكت كفي سوى كفني ولما كان في اليمن استناب في زبيد سيف الدولة أبا الميمون المبارك بين منقذ الآتي ذكره في حرف الميم إن شاء الله تعالى. وتوران - بضم التاء المثناة من فوقها وسكون الواو وبعدها راء ثم بعد الألف نون - وهو لفظ أعجمي، وشاه - بالشين المعجمة - هو الملك باللغة العجمية، ومعناه ملك المشرق، وإنما قيل للمشرق توران لأنه بلاد الترك، والعجم يسمون الترك تركان، ثم حرفوه فقالوا: توران، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 فراغ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 حَرف الثَاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 فراغ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 128 - (1) ثابت بن قرة أبو الحسن ثابت بن قرة بن هارون (2) - ويقال زهرون - بن ثابت بن كرايا ابن إبراهيم بن كرايا بن مارينوس بن مالاجريوس (3) الحاسب الحكيم الحراني؛ كان في مبدإ أمره صيرفياً بحران، ثم انتقل إلى بغداد واشتغل بعلوم الأوائل فمهر فيها، وبرع في الطب. وكان الغالب عليه الفلسفة، وله تآليف كثيرة في فنون من العلم مقدار عشرين تأليفا، وأخذ كتاب إقليدس الذي عربه حنين بن إسحاق العبادي فهذبه ونقحه وأوضح منه ما كان مستعجماً، وكان من أعيان عصره في الفضائل، وجرى بينه وبين أهل مذهبه أشياء أنكروها عليه في المذهب، فرافعوه إلى رئيسهم فأنكر عليه مقالته ومنعه من دخول الهيكل، فتاب ورجع عن ذلك، ثم عاد بعد مدة إلى تلم المقالة، فمنعوه من الدخول إلى المجمع، فخرج من حران ونزل كفر توثا، وأقام بها مدة إلى أن قدم محمد ابن موسى من بلاد الروم راجعا إلى بغداد، فاجتمع به فرآه فاضلا فصيحا، فاستصحبه إلى بغداد وأنزله في داره، ووصله بالخليفة فأدخله في جملة المنجمين، فسكن بغداد وأولد الأولاد وعقبه بها إلى الآن. وكفر توثا - بفتح الكاف وسكون الفاء وفتح الراء وضم التاء المثناة من فوقها وسكون الواو وبعدها ثاء مثلثة - وهي قرية كبيرة بالجزيرة الفراتية بالقرب من دارا.   (1) لثابت بن قرة ترجمة في أخبار الحكماء: 115 والفهرست: 272 وابن أبي أصيبعة 1: 204 - 207 وطبقات صاعد: 37 وابن جلجل: 75 ومختصر الدول: 265. (2) الفهرست والقفطي: ابن مروان. (3) الفهرست والقفطي: ابن سالامويوس (سالامانس) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 وكانت ولادته سنة إحدى وعشرين ومائتين، وتوفي يوم الخميس السادس والعشرين من صفر سنة ثمان وثمانين ومائتين. وكان صابئي النحلة. (12) وله ولد يسمى إبراهيم (1) بلغ رتبة أبيه في الفضل، وكان من حذاق الأطباء ومقدمي أهل زمانه في صناعة الطب، وعالج مرة السري الرفاءالشاعر فأصاب العافية، فعمل فيه، وهو من أحسن ماقيل في طبيب: هل للعليل سوى ابن قره شافي ... بعد الإله، وهل له من كافي أحيا لنا رسم الفلاسفة الذي ... أودى، وأوضح رسم طب عافي فكأنه عيسى بن مريم ناطقاً ... يهب الحياة بأيسر الأوصاف مثلت له قارورتي فرأى بها ... ما اكتن بين جوانحي وشغافي يبدو له الداء الخفي كما بدا ... للعين رضراض الغدير الصافي وله فيه أيضاً: برز إبراهيم في علمه ... فراح يدعى وارث العلم أوضح نهج الطب في معشر ... ما زال فيهم دارس الرسم كأنه من لطف أفكاره ... يجول بين الدم واللحم إن غضبت روح على جسمها ... أصلح بين الروح والجسم (13) ومن حفدة ثابت المذكور أبو الحسن ثابت بن سنان بن ثابت بن قرة (2) ، وكان صابئي النحلة أيضاً، وكان ببغداد في أيام معز الدولة بن بويه المقدم ذكره، وكان طبيباً عالماً نبيلاً يقرأ عليه كتب بقراط وجالينوس، وكان فكاكاً للمعاني، وكان قد سلك مسلك جده ثابت في نظره في الطب والفلسفة   (1) انظر القفطي: 57 والفهرست: 272. (2) راجع أخباره في الفهرست: 302 والقفطي: 109 وابن أبي أصيبعة 1: 261 وطبقات صاعد: 37 وابن جلجل: 80 ومختصر الدول: 296 ومعجم الأدباء 5: 142. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 والهندسة وجميع الصناعات الرياضية للقدماء؛ وله تصنيف في التاريخ أحسن فيه (1) ، وقد قيل: إن الأبيات المذكورة أولا من نظم السري الرفاء إنما عملها فيه، والله أعلم. والحراني: نسبة إلى حران، وهي مدينة مشهورة بالجزيرة. ذكر ابن جرير الطبري - رحمه الله تعالى - في تاريخه أن هاران عم إبراهيم الخليل - عليه الصلاة والسلام - عمرها فسميت باسمه فقيل: هران، ثم إنها عربت فقيل: حران، وهاران المذكور: أبو سارة، زوجة إبراهيم، عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام. وكان لإبراهيم - عليه الصلاة والسلام - أخ يسمى هاران أيضاً، وهو أبو لوط عليه السلام، وقال الجوهري في كتاب " الصحاح ": وحران اسم بلد، والنسبة إليه حرناني على غير قياس، والقياس: حراني، على ما عليه العامة. 129 - (2) ذو النون المصري أبو الفيض ثوبان بن إبراهيم - وقيل: الفيض بن إبراهيم - المصري المعروف بذي النون، الصالح المشهور، أحد رجال الطريقة؛ كان أوحد وقته علماً وورعاً وحالاً وأدباً، وهو معدود في جملة من روى الموطأ عن الامام مالك رضي الله عنه؛ وذكر ابن يونس عنه في تاريخه أنه كان حكيماً فصيحاً، وكان   (1) قال القفطي: وعمل ثابت هذا كتاب التاريخ المشهور في الآفاق الذي ما كتب كتاب في التاريخ أكثر مما كتب وهو من سنة نيف وتسعين ومائتين وإلى حين وفاته في شهور سنة 363 وعليه ذيل ابن أخته هلال بن المحسن. (2) أخبار ذي النون في تهذيب ابن عساكر 5: 271 وتاريخ بغداد 8: 393 وأخبار الحكماء: 185. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 أبوه نوبيا، وقيل: من أهل إخيم، مولى لقريش. وسئل عن سبب توبته فقال: خرجت من مصر إلى بعض القرى، فنمت في الطريق في بعض الصحارى، ففتحت عيني فإذا أنا بقنبرة عمياء سقطت من وكرها على الأرض، فانشقت الأرض فخرجت منها سكرجتان: إحداهما ذهب والأخرى فضة، وفي إحادهما سمسم وفي الاخرى مساء، فجعلت تأكل من هذا وتشرب من هذا، فقلت: حسبي، قد تبت، ولزمت الباب إلى أن قبلني. (32) * وكان قد سعوا به إلى المتوكل فاستحضره من مصر، فلما دخل عليه وعظه، فبكى المتوكل ورده مكرماً؛ وكان المتوكل إذا ذكر أهل الورع بين يديه يبكي ويقول: إذا ذكر أهل الورع فحي هلا بذي النون. وكان رجلاً نحيفاً تعلوه حمرة، ليس بأبيض اللحية، وشيخه في الطريقة شقران العابد. ومن كلامه: إذا صحت المناجاة بالقلوب استراحت الجوارح. وقال إسحاق بن إبراهيم السرخسي بمكة: سمعت ذا النون وفي يده الغل وفي رجليه القيد وهو يساق إلى المطبق والناس يبكون حوله وهو يقول: هذا من مواهب الله تعالى ومن عطاياه، وكل فعاله عذب حسن طيب، ثم أنشد: لك من قلبي المكان المصون ... كل لوم علي فيك يهون لك عزم بأن أكون قتيلاً ... فيك والصبر عنك ما لا يكون ووقفت في بعض المجاميع على شيء من أخبار ذي النون المصري، رحمه الله تعالى، فقال: إن بعض الفقراء من الناس تلامذته فارقه من مصر وقدم بغداد فحضر بها سماعاً، فلما طاب القوم وتواجدوا قام ذلك الفقير ودار واستمع، ثم صرخ ووقع، فحركوه فوجدوه ميتا، فوصل خبره إلى شيخه ذي النون فقال لأصحابه: تجهزوا حتى نمشي إلى بغداد، فلما فرغوا من أشغالهم خرجوا إليها فقدموا عليها، وساعة قدومهم البلد قال الشيخ ائتوني بذلك المغني، فأحضروه إليه، فسأله عن قضية ذلك الفقير، فقص الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 عليه قصته. فقال له: مبارك؛ ثم شرع هو وجماعته في الغناء، فعند ابتدائه فيه صرخ الشيخ على ذلك المغني فوقع ميتا، فقال الشيخ: قيل بقتيل، أخذنا ثأر صاحبنا؛ ثم أخذ في التجهيز والرجوع إلى الديار المصرية، ولم يلبث ببغداد بل عاد من فوره. قلت: وقد جرى في زمني شيء من هذا يليق أن أحكيه ههنا، وذلك أنه كان عندنا بمدينة إربل مغن موصوف بالحذق والإجادة في صنعة الغناء يقال له: الشجاع جبريل بن الأواني، فحضر سماعاً قبل سنة عشرين وستمائة، فإنني أذكر الواقعة وأنا صغير، وأهلي وغيرهم يتحدثون بها في وقتها، فغنى الشجاع المذكور القصيدة الطنانة البديعة التي لسبط ابن التعاويذي - الآتي ذكره في حرف الميم في المحمد ين إن شاء الله تعالى - وأولها (1) : سقاك سار من الوسمي هتان ... ولا رقت للغوادي فيك أجفان إلى أن وصل إلى قوله منها: ولي إلى البان من رمل الحمى وطر ... فاليوم لا الرمل يصيبني ولا البان وما عسى يدرك المشتاق من وطر ... إذا بكى الربع والأحباب قد بانوا كانوا معاني المغاني، والمنازل أم ... وات إذا لم يكن فيهن سكان لله كم قمرت لبي بجوك أق ... مار وكم غازلتني فيك غزلان وليلة بات يجلو الراح من يده ... فيها أغن خفيف الروح جذلان خال من الهم في خلخاله حرج ... فقلبه فارغ والقلب ملآن يذكي الجوى بارد من ثغره شبم ... ويوقظ الوجد طرف منه وسنان إن يمسى ريان من ماء الشباب فلي ... قلب إلى ريقه المعسول ظمآن بين السيوف وعينيه مشاركة ... من أجلها قيل للآغماد أجفان فلما انتهى إلى هذا البيت قام بعض الحاضرين وقال له: يا شجاع، وأعد ما قلته، فأعاده مرتين أو ثلاثاً وذلك الشيخ متواجد، ثم صرخ صرخة هائلة   (1) ديوان سبط ابن التعاويذي: 412. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 ووقع، فظنوه قد أغمي عليه، فافتقدوه بعد أن انقطع حسه فوجدوه قد مات، فقال الشجاع: هكذا جرى في سماعي مرة أخرى، فإنه مات فيه شخص آخر. وهذه القصيدة من غرر القصائد، وهي طويلة مدح بها الامام الناصر لين الله أبا العباس أحمد بن المستضيء أمير المؤمنين العباسي في يوم عيد الفطر من سنة إحدى وثمانين وخمسائة، والله أعلم. ومحاسن الشيخ ذي النون كثيرة. وتوفي في ذي القعدة سنة خمس وأربعين - وقيل: ست وأربعين، وقيل: ثمان وأربعين ومائتين - رضي الله عنه بمصر، ودفن بالقرافة الصغرى، على قبره مشهد مبني، وفي المشهد أيضاً قبور جماعة من الصالحين رضي الله عنهم وزرته غير مرة. وثوبان: بفتح الثاء المثلثة وسكون الواو وفتح الباء الموحدة وبعد الألف نون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 حَرف الجيم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 فراغ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 130 - (1) جريرالشاعر أبو حزرة جرير بن عطية بن الخطفى، واسمه حذيفة، والخطفى لقبه، ابن بدر بن سلمة بن عوف بن كليب بن يربوع بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة ابن تميم بن مر التميمي الشاعر المشهور؛ كان من فحول شعراء الإسلام، وكانت بينه وبين الفرزدق مهاجاة ونقائض، وهو أشعر من الفرزدق عند أكثر أهل العلم بهذا الشأن، وأجمعت العلماء على أنه ليس في شعراء الإسلام مثل ثلاثة: جرير والفرزدق والأخطل. [قال محمد بن سلام: سمعت يونس يقول: ما شهدت مشهداً قط وذكر فيه جرير والفرزدق فاجتمع أهل المجلس على أحدهما. وقال أيضا: الفرزدق أشعر خاصة وجرير أشعر عامة] ؛ ويقال: إن بيوت الشعر أربعة: فخر ومديح وهجاء ونسيب (2) ، وفي الأربعة فاق جرير غيره، فالفخر قوله: إذا غضبت عليك بنو تميم ... حسبت الناس كلهم غضابا والمديح قوله (3) : ألستم خير من ركب المطايا ... واندى العالمين بطون راح والهجاء قوله: فغض الطرف إنك من نمير ... فلا كعبا بلغت ولا كلابا   (1) ترجمته في طبقات ابن سلام: 315 والأغاني 8: 3 والموشح: 118 والعيني 1: 91 وشرح شواهد المغني: 16 والخزانة 1: 36 والشعر والشعراء: 374 وانظر بروكلمان 1: 215. (2) د هـ: وتشبيب. (3) زاد في ب: في عبد الملك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 والنسيب1 (1) قوله: إن العيون التي في طرفها حور (2) ... قتلننا ثم لم يحيين قتلانا يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به ... وهن أضعف خلق الله أركانا (3) وحكى أبو عبيدة معمر بن المثنى - الآتي ذكره إن شاء اله تعالى - قال: التقى جرير والفرزدق بمنى وهما حاجان، فقال الفرزدق لجرير: فإنك لاقٍ بالمشاعر (4) من منى ... فخاراً فخبرني بمن أنت فاخر فقال له جرير: لبيك اللهم لبيك! قال أبو عبيدة: فكان أصحابنا يستحسنون هذا الجواب من جرير ويعجبون (5) به (33) *. وحكى أبو عبيدة أيضاً: خرج جرير والفرزدق مرتدفين على ناقة إلى هشام ابن عبد الملك الأموي، وهو يومئذ بالرصافة، فنزل جرير لقضاء حاجته، فجعلت الناقة تتلفت فضربها الفرزدق وقال: إلام تلفتين وأنت تحتي ... وخير الناس كلهم أمامي متى تردي الرصافة تستريحي ... من التهجير والدبر الدوامي ثم قال: الآن يجيئني جرير فأنشده هذين البيتين فيقول: تلفت أنها تحت ابن قينٍ ... إلى الكيرين والفاس الكهام متى ترد الرصافة تخز فيها ... كخزيك في المواسم كل عام قال: فجاء جرير والفرزدق يضحك، فقال: ما يضحكك يا أبا فراس فأنشده البيتين الأولين، فأنشده جرير البيتين الآخرين، فقال الفرزدق: والله   (1) د هـ: والتشبيب. (2) ب ج وآيا صوفيا: مرض. (3) اج هـ: إنساناً. (4) د وآيا صوفيا: بالمنازل. (5) د: ويتعجبون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 لقد قلت هذا، فقال جرير: أما علمت أن شيطاننا واحد وذكر المبرد في " الكامل " (1) أن الفرزدق أنشد قول جرير: ترى برصاً (2) بأسفل أسكتيها (3) ... كعنفقة الفرزدق حين شابا فلما أنشد النصف الول من البيت ضرب الفرزدق يده على عنفقته توقعاً لعجز البيت. [وحكى أبو عبيدة قال: كان [جرير] مع حسن تشبيبه عفيفاً، وكان الفرزدق فاسقا، وكان يقول: ما أحوجه إلى صلابة شعري وأحوجني إلى رقة شعره.] وحكى أبو عبيدة أيضاً قال: رأت أم جرير في نومها وهي حامل به كانها ولدت حبلاً من شعر أسود، فلما وقع (4) منها جعل (5) ينزو فيقع في عنق هذا فيخنقه، حتى فعل ذلك برجال كثيرة، فانتبهت مرعوبة، فأولت الرؤيا، فقيل لها: تلدين غلاما شاعراً ذا شر وشدة شكيمة وبلاء على الناس، فما ولدته سمته جريراً باسم الحبل الذي رأت أنه خرج منها، والجرير الحبل. وذكر أبو الفرج الأصبهاني في كتاب الأغاني في ترجمة جرير المذكور أن رجلاً قال لجرير: من أشعر الناس قال له: قم حتى أعرفك الجواب، فأخذ بيده وجاء به إلى أبيه عطية وقد أخذ عنزا له فاعتقلها وجعل يمص ضرعها فصاح به: اخرج يا أيت، فخرج شيخ دميم رث الهيئة (6) وقد سال لبن العنز على لحيته، فقال: أترى هذا قال: نعم، قال: أوَتعرفه قال: لا قال: هذا أبي، أفتدري لم كان يشرب من ضرع العنز قلت: لا، قال:   (1) الكامل 3: 45. (2) أج: بها برص. (3) الكامل: ترى الصبيان عاكفة عليها. (4) ب هـ وآيا صوفيا: سقط. (5) هـ: أخذ. (6) أ: رث الثياب والهيئة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 مخافة أن يسمع صوت الحلب فيطلب منه لبن، ثم قال: أشعر الناس من فاخر بمثل هذا الأب ثمانين شاعراً وقارعهم به فغلبهم جميعاً. وحكى صاحب " الجليس والأنيس " (1) في كتابه عن محمد بن حبيب عن عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير أنه قيل له: ما كان أبوك صانعاً حيث يقول: لو كنتُ أعلم أن آخر عهدهم ... يوم الرحيل فعلت ما لم أفعل فقال: كان يقلع عينيه ولا يرى مظعن أحبابه. وقال في الأغاني أيضاً: قال مسعود بن بشر لابن مناذر بمكة: من أشعر الناس قال: من إذا شئت لعب، ومن إذا شئت جد، فاذا لعب أطمعك لعبه فيه، وإذا رمته بعد عليك، وإذا حد فيما قصد له آيسك من نفسه، قال: مثل من قال: مثل جرير حيث يقول إذا لعب: إن الذين غدوا بلبك غادروا ... وشلا بعينك لا يزال معينا غيض من عبراتهن وقلن لي ... ماذا لقيت من الهوى ولقينا ثم قال حين جد: إن الذي حرم المكارم تغلباً ... جعل النبوة والخلافة فينا مضر أبي وأبو الملوك فهل لكم ... يا خزر تغلب من أب كأبينا هذا ابن عمي في دمشق خليفة ... لو شئت ساقكم إلي قطينا قال: فلما بلغ عبد الملك بن مروان قوله قال: ما زاد ابن المراغة على أن جعلني شرطياً له، أما إنه لو قال " لو شاء ساقكم إلي قطينا " لسقتهم إليه كما قال، قلت: وهذه الأبيات هجا بها جرير الأخطل التغلبي الشاعر المشهور. وقوله فيها جعل النبوة والخلافة فينا إنما قال ذلك لأن جريراً تميمي   (1) كتاب الجليس الصالح الكافي والأنيس الناصح الشافي لأبي الفرج المعافى بن زكريا النهرواني الجريري (- 390) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 النسب، وتميم ترجع إلى مضر بن نزار بن معد بن عدنان جد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالنبوة والخلافة وبنو تميم يرجعون إلى مضر. وقوله " يا خزر تغلب " خزر - بضم الخاء المعجمة وسكون الزاي وبعدها راء - وهو جمع أخزر مثل أحمر وحمير وأصفر وصفر وأسود وسود، وكل ما كان من هذا الباب، والأخزر: الذي عينيه ضيق وصفر، وهذا وصف العجم، فكأنه نسبه إلى المعجم وأخرجه عن العرب، وهذا عند العرب من النقائص الشنيعة. وقوله " هذا ابن عمي في دمشق خليفة " يريد به عبد الملك بن مروان الأموي، لأنه كان في عصره. والقطين - بفتح القاف - الخدم والأتباع. وقول عبد الملك مازاد ابن المراغة هو بفتح الميم وبعدها راء وبعد اللف غين معجمة وهاء، وهذا لقب لأم جرير هجاء به الأخطل المذكور، ونسبها إلى أن الرجال يتمرغون عليها، ونستغفر الله تعالى من ذكر مثل هذا (1) ، لكن شرح الواقعة أحوج إلى ذلك. ومن أخبار جرير أنه دخل على عبد الملك بن مروان فأنشده قصيدة أولها: أتصحو أم فؤادك غير صاحي ... عشية هم صحبك بالرواح تقول العاذلات علاك شيب ... أهذا الشيب بمنعني مزاحي تعزت أم حزرة ثم قالت ... رأيت الموردين (2) ذوي لقاح ثقي بالله ليس له شريك ... ومن عند الخليفة بالنجاح سأشكر إن رددت إلي ريشي ... وانبت القوادم في جناحي ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى العالمين بطون راح قال جرير: فلما انتهيت إلى هذا البيت كان عبد الملك متكئا فاستوى جالساً وقال: من مدحنا منكم فليمدحنا بمثل هذا أو فليسكت، ثم التفت   (1) د هـ: من ذكر هذا. (2) د: الواودين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 إلي وقال: يا جرير، أترى أم حزرة يرويها مائة ناقة من نعم بمني كلب قلت: يا أمير المؤمنين، إن لم تروها فلا أرواها الله تعالى، قال: فأمر لي بها كلها سود الحدق، قلت: يا أمير المؤمنين، نحن مشايخ وليس بأحدنا فضل عن راحلته، والإبل أباق، فلو أمرت لي بالرعاء (1) ، فأمر لي بثمانية، وكان بين يديه صحاف من الذهب وبيده قضيب، فقلت: ياأمير المؤمنين، والمحلب وأشرت إلى إحدى الصحاف (2) فنبذها إلي بالقضيب وقال: خذها لا نفعتك، وإلى هذه القضية أشار جرير بقوله: أعطوا هنيدة تحدوها ثمانية ... ما في عطائهم من ولا سرف قلت: هنيدة - بضم الهاء على صورة التصغير - اسم علم على المائة، وأكثر علماء الأدب يقولون: لا يجوز إدخال اللف واللام عليها، وبعضهم يجيز ذلك، قال أبو الفتح بن أبي حصينة (3) السلمي الحلبي الشاعر المشهور من جملة قصيدة (4) : أيها القلب لم يدع لك في وص ... ل العذارى نصف الهنيدة عذرا يعني خمسين سنة التي هي نصف المائة، والله أعلم. ولما مات الرزدق وبلغ خبره جريراً بكى وقال: أما والله إني لأعلم أني قليل البقاء بعده، ولقد كان نجماً واحداً وكل واحد منا مشغول بصاحبه، وقلما مات ضد أو صديق إلا وتبعه صاحبه، وكذلك كان. وتوفي في سنة عشر ومائة، وفيها مات الفرزدق كما سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى. وقال أبو الفرج ابن الجوزي: كانت وفاة جرير في سنة إحدى عشرة ومائة، وقال ابن قتيبة في كتاب " المعارف " (5) : إن أمه حملت به سبعة أشهر، وفي   (1) د: برعاتها؛ هـ: بالرعاة. (2) هـ: الصحائف. (3) هو الحسن بن عبد الله بن أبي حصينة المعري (- 456 أو التي بعدها) وديوانه مطبوع (دمشق: 1956) مع شرح لأبي العلاء المعري. (4) ديوانه 1: 303 وكتب فيه " هبيدة " موضع " هنيدة " وخفي لذلك على محقق الديوان. (5) المعارف: 595. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 ترجمة الفرزدق طرف من خبر موته فلينظر هناك إن شاء الله تعالى. وكانت وفاته باليمامة، وعمر نيفا وثمانين سنة. وحزرة: بفتح الحاء المهملة وسكون الزاي وفتح الراء وبعدها هاء. والخطفى: بفتح الخاء المعجمة والطاء المهملة والفاء وبعدها ياء - وقد تقدم الكلام في أنه لقب عليه، والله أعلم. 131 - (1) جعفر الصادق أبو عبد الله جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب، رضي الله عنهم أجمعين؛ أحد الأئمة الاثني عشر على مذهب الإمامية، وكان من سادات أهل البيت ولقب بالصادق لصدقه في مقالته وفضلُه أشهر من أن يذكر، وله كلام في صنعة الكيمياء والزجر والفأل، وكان تلميذه أبو موسى جابر بن حيان الصوفي الطرسوسي (2) قد ألف كتاباً يشتمل على ألف ورقة تتضمن رسائل جعفر الصادق وهي خمسمائة رسالة. وكانت ولادته سنة ثمانين للهجرة، وهي سنة سيل الجحاف، وقيل: بل ولد يوم الثلاثاء قبل طلوع الشمس ثامن شهر رمضان سنة ثلاث وثمانين. وتوفي في شوال سنة ثمان وأربعين ومائة بالمدينة، ودفن بالبقيع في قبر فيه أبوه محمد الباقر وجده علي زين العابدين وعم جده الحسن بن علي، رضي الله عنهم أجمعين، فلله دره من قبر ما أكرمه وأشرفه.   (1) انظر الأئمة الاثنا عشر: 85 (والترجمة منقولة عن ابن خلكان) وعلى الصفحة المقابلة ثبت بمصادر ترجمته، وأضف إليها صفة الصفوة 2: 94 وحلية الأولياء 3: 192. (2) أج: الطرطوسي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 وأمه أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، رضي الله عنهم أجمعين. وسيأتي ذكر الأئمة الاثنى عشر - رضي الله عنهم - كل واحد في موضعه إن شاء الله تعالى. (34) * وحكى كشاجم في كتاب " المصايد والمطارد " (1) أن جعفراً المذكور سأل أبا حنيفة - رضي الله عنهما - فقال: ما تقول في محرم كسر رباعية ظبي فقال: يا ابن رسول الله، ما أعلم ما فيه، فقال له: أنت تتداهى ولا تعلم أن الظبي لا يكون له رباعية وهو ثني أبدا. 132 - (2) جعفر البرمكي أبو الفضل جعفر بن يحيى بن خال بن برمك بن جاماس (3) بن يشتاسف البرمكي وزير هارون الرشيد؛ كان من علو القدر ونفاذ (4) الأمر وبعد الهمة وعظم المحل وجلالة المنزلة عند هارون الرشيد بحالة انفرد بها، ولم يشارك فيها، وكان سمح الأخلاق طلق الوجه ظاهر البشر، وأما جوده وسخاؤه وبذله وعطاؤه فكان أشهر من أن يذكر، وكان من ذوي الفصاحة والمشهورين باللسن والبلاغة، ويقال: إنه وقع ليلة بحضرة هارون الرشيد زيادة على   (1) المصايد: 202. (2) قد أطنب المؤلف في ترجمته، فلا حاجة إلى تعيين مصادرها، وإنما يحال على كتب التاريخ المختلفة التي تحدثت عن نكبة البرامكة؛ وفي العقد (5: 58 - 73) فصل من أخبارهم وكذلك في البسامة: 222 وأكثر ما أورده نقله المؤلف وفي مقدمة ابن خلدون محاكمة عقلية للروايات التي تنسب نكبتهم إلى علاقة جعفر بالعباسة. (3) هـ: ماجاس. (4) هـ: وتقادم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 ألف توقيع، ولم يخرج في شيء منها عن موجب الفقه، وكان أبوه ضمه إلى القاضي أبي يوسف الحنفي حتى علمه وفقهه، وذكره ابن القادسي في كتاب " أخبار الوزراء " (1) . واعتذر رجل إليه فقال له جعفر: قد أغناك الله بالعذر منا عن الاعتذار إلينا، وأغنانا بالمودة لك عن سوء الظن بك؛ ووقع إلى بعض عماله وقد شكي منه: قد كثر شاكوك وقل شاكروك، فإما اعتدلت وإما اعتزلت. ومما ينسب إليه من الفطنة أنه بلغه أن الرشيد مغموم لأن منجماً يهودياً زعم أنه يموت في تلك السنة، يعني الرشيد، وأن اليهودي في يده، فركب جعفر إلى الرشيد فرآه شديد الغم، فقال لليهودي: أنت تزعم أن أمير المؤمنين يموت إلى كذا وكذا يوماً قال: نعم، قال: وأنت كم عمرك قال: كذا وكذا، أمداً طويلاً، فقال الرشيد: اقتله حتى تعلم أنه كذب في أمدك كما كذب في أمده، فقتله وذهب ما كان بالرشيد من الغم، وشكره على ذلك، وأمر بصلب اليهودي، فقال أشجع السلمي في ذلك: سل الراكب الموفي على الجذع هل رأى ... لراكبه نجماً بدا غير أعور ولو كان نجم مخبراً عن منيةٍ ... لأخبره عن رأسه المتحير يعرفنا موت الإمام كأنه ... يعرفنا أنباء كسرى وقيصر أتخبر عن نحسٍ لغيرك شؤمه ... ونجمك بادي الشر يا شر مخبر ومضى دم المنجم هدراً بحمقه. وكان جعفر من الكرم وسعة العطايا كما هو مشهور، ويقال: إنه لما حج اجتاز في طريقه بالعقيق، وكانت سنة مجدبة، فاعرضته امرأة من بني كلاب وأنشدته:   (1) لم يذكره السخاوي في الإعلان بالتوبيخ، وقال القفطي في تاريخ الحكماء في تصويره لتسلسل التأليف في التاريخ: " ثم كمل عليه ابن الجوزي إلى بعد سنة ثمانين [وخمسمائة] ثم كمل عليه ابن القادسي إلى سنة 616 "؛ وهذا الذي يذكره القفطي يدل على أن ما يشير إليه كتاب في التاريخ العام، وهو غير كتابه أخبار الوزراء، وقد توفي محمد بن أحمد القادسي سنة (621هـ) . انظر تاريخ ابن كثير 13: 104. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 إني مررت على العقيق وأهله ... يشكون من مطر الربيع نزورا ما ضرهم إذا جعفر جار لهم ... أن لا يكون ربيعهم ممطورا فأجزل لها العطاء. قلت: والبيت الثاني مأخوذ من قول الضاحك بن عقيل الخفاجي من جملة أبيات: ولو جاورتنا العام سمراء لم نُبل ... على جدبنا أن لا يصوب ربيع لله دره، فما أحلى هذه الحشوة وهي قوله " على جدبنا "، وأهل البيان يسمون هذا النوع حشو اللوزينج. وحكى ابن الصابىء في كتاب " الأماثل والأعيان " (1) عن إسحاق النديم الموصلي عن إبراهيم بن المهدي قال: خلا جعفر بن يحيى يوماً في داره، وحضر ندماؤه وكنت فيهم، فلبس الحرير وتضمخ بالخلوق وفعل بنا مثله، وأمر بأن يحجب عنه كل أحد (2) إلا عبد الملك بن يحران قهرمانه، فسمع الحاجب عبد الملك دون ابن بحران، وعرف عبد الملك بن صالح الهاشمي مقام جعفر ابن يحيى في داره، فركب إليه، فأرسل الحاجب أن قد حضر عبد الملك فقال: أدخله، وعنده أنه ابن بحران، فما راعتنا إلا دخول عبد الملك بن صالح في سواده ورصافيته، فأربد وجه جعفر، وكان ابن صالح لا يشرب النبيذ، وكان الرشيد دعاه إليه فامتنع، فلما رأى عبد الملكحالة جعفر دعا غلامه فناوله سواده وقلنسوته ووافى باب المجلس الذي كنا فيه، وسلم وقال: أشركونا في أمركم، وافعلوا بنا فعلكم بأنفسكم، فجاءه خادم فألبسه حريرة واستدعى بطعام فأكل وبنبيذ فأتي برطل منه فشربه ثم قال لجعفر: والله ما شربته قبل اليوم، فليخفف عني، فأمر أن يجعل بين يديه باطية يشرب منها ما   (1) من مؤلفات هلال بن المحسن الصايئ (- 448) واسمه كاملاً " الأماثل والأعيان ومنتدى العواطف والإحسان " قال فيه ياقوت (7: 255) : جمع فيه أخباراً وحكايات مستطرفة مما حكي عن الأعيان والأكابر، وهو كتاب ممتع؛ وقال ابن خلكان إنه في مجلد واحد. (2) هـ: عن كل أحد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 يشاء. وتضمخ بالخلوق ونادمنا أحسن منادمة، وكان كلما فعل شيئاً من هذا سري عن جعفر، فلما أراد الانصراف قال له جعفر: اذكر حوائجك فإني ما أستطيع مقابلة ما كان منك، قال: إن في قلب أمير المؤمنين موجودة علي فتخرجها من قلبه وتعيد إلى جميل رأيه في، قال: قد رضي عنك أمير المؤمنين وزال ما عنده منك، فقال: وعلي أربعة آلاف ألف درهم ديناً، قال: تقضى عنك، وإنها لحاضرة، ولكن كونها من أمير المؤمنين أشرف بك وأدل على حسن ما عنده لك (1) ، قال: وإبراهيم ابني أحب أن أرفع قدره بصهر من ولد الخلافة، قال: قد زوجه أمير المؤمنين العالية ابنته، قال: وأوثر التنبيه على موضعه برفع لواء على رأسه، قال: قد ولاه أمير المؤمنين مصر، وخرج عبد الملك ونحن متعجبون من قول جعفر وإقدامه على مثله من غير استئذان فيه، وركبنا من الغد إلى باب الرشيد، ودخل جعفر وقفنا، فما كان بأسرع من أن دعي بأبي يوسف القاضي ومحمد بن الحسن وإبراهيم بن عبد الملك، ولم يكن بأسرع من خروج إبراهيم والخلع عليه واللواء بين يديه وقد عقد له على العالية بنت الرشيد وحملت إليه ومعها المال إلى منزل عبد الملك بن صالح، خرج جعفر فتقدم إلينا باتباعه إلى منزله، وصرنا معه، فقال: أظن قلوبكم تعلقت بأول أمر عبد الملك فأحببتم على آخره، قلنا: هو كذلك، قال: وقفت بين يدي أمير المؤمنين وعرفته ما كان من أمر عبد الملك من ابتدائه إلى انتهائه، وهو يقول: أحسن أحسن، ثم قال: فما صنعت معه فعرفته ما كان من قولي له، فاستصوبه وأمضاه، وكان ما رأيتم، ثم قال إبراهيم بن المهدي: فو الله ما أدري أيهم أعجب فعلاً: عبد الملك في شربه النبيذ ولباسه ماليس من لبسه وكان رجلاً ذا جد وتعفف ووقار وناموس، أو إقدام جعفر على الرشيد بما أقدم، أو إمضاء الرشيد ما حكم به جعفر عليه. وحكي أنه كان عنده أبو عبيد الثقفي فقصدته خنفساء، فأمر   (1) في نسخة آيا صوفيا: ثم قال: وعلي عشرة آلاف دينار، فقال: هي لك حاضرة من مالي ومن مال أمير المؤمنين ضعفها؛ والرواية - في جملتها - أكثر تفصيلاً في هذه النسخة منها في النسخ الأخرى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 جعفر بإزلتها، فقال أبو عبيد: دعوها عسى يأتين بقصدها لي خير، فإنهم يزعمون ذلك، فأمر له جعفر بألف دينار وقال: نحقق زعمهم، وأمر بتنحيتها، ثم قصدته ثانياً فأمر له بألف دينار أخرى. وحكي ابن القادسي في أخبار الوزراء أن جعفراً اشترى جارية بأربعين ألف دينار، فقالت لبائعها: اذكر ما عاهدتني عليه أنك لا تأكل لي ثمناً فبكى مولاها وقال: اشهدوا أنها حرة وقد تزوجتها، فوهب له جعفر المال ولم يأخذ منه شيئاً، وأخبار كرمه كثيرة، وكان أبلغ أهل بيته. وأول من وزر من آل برمك خالد بن برمك لأبي العباس عبد الله السفاح بعد قتل أبي سلمة حفص الخلال - كما سيأتي في ترجمته في حرف الحاء إن شاء الله تعالى - ولم يزل خالد على وزارته حتى توفي السفاح يوم الأحد لثلاث عشرة ليلة خلت من ذي الحجة سنة ست وثلاثين ومائة، وتولي أخوه أبو جعفر عبد الله المنصور الخلافة في اليوم المذكور، فأقر خالداً على وزارته، فبقي سنة وشهوراً،. وكان أبو أيوب المرياني قد غلب على المنصور فاحتال على خالد بأن ذكر للمنصور تغلب الأكراد على فارس، وأن لا يكفيه أمرها سوى خالد فندبه إليها، فلما بعد خالد عن الحضرة استبد أبو أيوب بالأمر. وكانت وفاة خالد سنة ثلاث وستين ومائة، ذكره ابن القادسي، وقال ابن عساكر في تاريخ دمشق: ولد خالد في سنة تسعين للهجرة، وتوفي سنة خمس وستين ومائة، والله أعلم. وكان جعفر متمكناً عند الرشيد، غالباً على أمره، واصلاً منه، وبلغ من علو المرتبة عنده ما لم يبلغه سواه، حتى إن الرشيد اتخذ ثوباً له زيقان، فكان يلبسه هو وجعفر جملة، ولم يكن للرشيد صبر عنه، وكان الرشيد أيضاً شديد المحبة لأخته ابنة المهدي، وهي من أعز النساء عليه، ولا يقدر على مفارقتها، فكان متى غاب أحد من جعفر والعباسة لا يتم له سرور، فقال: يا جعفر، إنه لا يتم لي سرور إلا بك وبالعباسة، وإني سأزوجها منك ليحل لكما أن تجتمعا، ولكن إياكما أن تجتمعا وأنا دونكما، فتزوجها على هذا الشرط. ثم تغير الرشيد عليه وعلى البرامكة كلهم آخر الأمر ونكبهم وقتل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 جعفراً واعتقل أخاه الفضل وأباه يحيى إلى أن ماتا - كما سيأتي في ترجمتها إن شاء الله تعالى -. وقد اختلف أهل التاريخ في سبب تغير الرشيد عليهم: فمنهم من ذهب إلى أن الرشيد لما زوج أخته العباسة من جعفر على الشرط المذكور بقيا مدة على تلك الحالة، ثم اتفق أن أحبت العباسة جعفراً وراودته، فأبى وخاف، فلما أعيتها الحيلة عدلت إلى الخديعة فبعثت إلى عتابة أم جعفر أن أرسليني إلى جعفر كأني جارية من جواريك اللاتي ترسلين إليه، وكانت أمه ترسل إليه كل يوم جمعة جارية بكر عذراء، وكان لا يطأ الجارية حتى يأخذ شيئاً من النبيذ، فأبت عليها أم جعفر، فقالت: لئن لم تفعلي لأذكرن لأخي خاطبتني بكيت وكيت، ولئن اشتملت من ابنك على ولد ليكونن لكم الشرف، وما عسى أخي يفعل لو علم أمرنا فأجابتها أم جعفر وجعلت تعد ابنها أن ستهدي إليه جارية عندها حسناء من هيئتها ومن صفتها كيت وكيت، وهو يطالبها بالعدة المرة بعد المرة، فلما علمت أنه قد اشتاق إليها أرسلت إلى العباسة أن تهيئي الليلة، ففعلت العباسة وأدخلت على جعفر، وكان لم يتثبت صورتها لأنه لم يكن يراها إلا عند الرشيد، وكان لا يرفع طرفه إليها مخافة، فلما قضى منها وطره قالت له: كيف رأيت خديعة بنات الملوك فقال: وأي بنت ملك أنت فقالت: أنا مولاتك العباسة، فطار السكر من رأسه، وذهب إلى أمه فقال: يا أماه بعتني والله رخيصاً، واشتملت العباسة منه على ولد، ولما ولدته وكلت به غلاماً اسمه رياش، وحاضنة يقال لها برة، ولما خافت ظهور الأمر بعثتهم إلى مكة. وكان يحيى بن خالد ينظر إلى قصر الرشيد وحرمه، ويغلق أبواب القصر وينصرف بالمفاتيح معه، حتى ضيق على حرم الرشيد، فشكته زبيدة إلى الرشيد، فقال له: با أبت - وكان يدعوه كذلك - ما لزبيدة تشكوك فقال: أمتهم أنا في حرمك يا أمير المؤمنين قال: لا، قال: فلا تقبل قولها في، وازداد يحيى عليها غلظة وتشديداً، فقالت زبيدة للرشيد مرة أخرى في شكوى يحيى، فقال الرشيد لها: يحيى عندى غير متهم في حرمي، فقالت: فلم لم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 يحفظ ابنه مما ارتكبه قال: وما هو فخبرته بخبر العباسة، قال: وهل على هذا دليل قالت: وأي دليل أدل من الولد قال: وأين هو قالت: كان هنا، فلما خافت ظهوره وجهت به إلى مكة، قال: وعلم بذا سواك قالت: ليس بالقصر جارية إلا وعلمت به، فسكت عنها، وأظهر إرادة الحج، فخرج له ومعه جعفر، فكتبت العباسة إلى الخادم والداية بالخروج بالصبي إلى اليمن، ووصل الرشيد مكة، فوكل من يثق به بالبحث عن أمر الصبي حتى وجده (1) صحيحاً، فأضمر السوء للبرامكة. ذكره ابن بدررون في شرح قصيدة ابن عبدون (2) التي رثى بها بني الأفطس والتي أولها: الدهر يفجع بعد العين بالأثر ... فما البكاء على الأشباح والصور أورده عند شرحه لقول ابن عبدون من جملة هذه القصيدة: وأشرقت جعفراً والفضل يرمقه ... والشيخ يحيى يريق الصارم الذكر ولأبي نواس أبيات تدل على طرف من الواقعة التي ذكرها ابن بدرون، والأبيات: ألا قل لأمين الل ... هـ وابن القادة الساسه إذا ما ناكث سر ... ك أن تفقده راسه فلا تقتله بالسيف ... وزوجه بعباسه وذكر غيره أن الرشيد سلم إليه أبا جعفر يحيى بن عبد الله بن الحسين الخارج عليه، وحبسه عنده، فدعا به يحيى إليه وقال له: أتق الله يا جعفر في أمري، ولا تتعرض أن يكون خصمك جدي محمد صلى الله عليه وسلم، فو الله ما أحدثت حدثاً، فرق له جعفر وقال: اذهب حيث شئت من البلاد،   (1) أ: فوجده. (2) شرح البسامة: 226. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 فقال: إني أخاف أن أوخذ فأرد، فبعث معه من أوصله إلى مأمنه، وبلغ الخبر الرشيد فدعا به وطاوله الحديث وقال: يا جعفر، ما فعل يحيى قال: بحاله، قال: بحياتي، فوجم وأحجم وقال: لا وحياتك، أطلقته حيث علمت أن لا سوء عنده، فقال: نعم الفعل، وما عدوت ما في نفسي، فلما نهض جعفر أتبعه بصره وقال: قتلني الله إن لم أقتلك. وقيل: سئل سعيد بن سالم عن جناية البرامكة الموجبة لغضب الرشيد فقال: والله ما كان منهم ما يوجب بعض علم الرشيد بهم، ولكن طالت أيامهم وكل طويل مملول، والله لقد استطال الناس الذين هم خير الناس أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه وما رأوا مثلها عدلاً وأمنا وسعة أموال وفتوح، وأيام عثمان رضى الله عنه حتى قتلوهما، ورأى الرشيد مع ذلك أنس النعمة بهم، وكثرة حمد الناس لهم، ورميهم بآمالهم دونه، والملوك تتنافس بأقل من هذا، فتعنت عليهم، وتجنى وطلب مساويهم، ووقع منهم بعض الإدلال، خاصة جعفر والفضل، دون يحيى، فإنه كان أحكم خبرة وأكثر ممارسة للأمور، ولاذ من أعدائهم بالرشيد، كالفضل بن الربيع وغيره، فستروا المحاسن وأظهروا القبائح، حتى كان ما كان، وكان الرشيد بعد ذلك إذا ذكروا عنده بسوء أنشد يقول (1) : أقلوا عليهم لا أبا لأبيكم ... من اللوم أو سدوا المكان الذي سدوا وقيل: السبب أنه رفعت إلى الرشيد قصة لم يعرف رافعها فيها: قل لأمين الله (2) في أرضه ... ومن إليه الحل والعقد هذا ابن يحيى قد غدا مالكاً ... مثلك، ما بينكما حد أمرك مردود إلى أمره ... وأمره ليس له رد وقد بنى الدار التي ما بنى ال ... فرس لها مثلاً ولا الهندُ الدر والياقوت حصباؤها ... وتربها العنبر والند   (1) البيت للحطيئة، ديوانه: 40. (2) هـ: لأمين الناس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 ونحن نخشى أنه وارث ... ملكك إن غيبك اللحد ولن يباهي العبد أربابه ... إلا إذا ما بطر العبد فلما وقف الرشيد عليها أضمر له السوء. [وكان من الأسباب أيضاً ما تعده العامة سيئاً، وهو أقوى الأسباب، ما سمع من يحيى بن خالد وهو يقول، وقد تعلق بأستار الكعبة في حجته: اللهم إن ذنوبي جمة عظيمة لا يحصيها غيرك، اللهم إن كنت تعاقبني لذلك فاجعل عقوبتي في الدنيا وإن احاط ذلك بسمعي وبصري ومالي وولدي حتى تبلغ رضاك، ولا تجعل عقوبتي في الآخرة، فاستجاب له. وقد رثتهم الشعراء بمرات كثيرة وذكرت أيامهم، فما استحسن من مراثيهم قول اشجع السلمي من أبيات: كأن أيامهم من حسن بهجتها ... مواسم الحج والأعياد والجمع] (1) وحكى ابن بدرون أن عليه بنت المهدي قالت للرشيد بعد إيقاعه بالبرامكة: يا سيدي، ما رأيت لك يوم سرور تام منذ قتلت جعفراً، فلأي شيئ قتلته فقال لها: يا حياتي لو علمت أن قميصي يعلم السبب في ذلك لمزقته. وكان تقل الرشيد لجعفر بموضع يقال له العمر، من أعمال الأنبار، في يوم السبت سلخ المحرم - وقيل: مستهل صفر - سنة سبع وثمانين ومائة. وذكر الطبري في تارخه (2) أن الرشيد لما حج سنة ست وثمانين ومائة، ومعه البرامكة، وقفل راجها من مكة وافق الحيرة في المحرم سنة سبع وثمانين [ومائة] فأقام في قصر عون العبادي أياما، ثم شخص في السفن حتى نزل العمر الذي بناحية الأنبار، فلما كان ليلة السبت سلخ المحرم أرسل أبا هاشم مسروراًالخادم وعه أبو عصمة حماد بن سالم في جماعة من الجند فأطافوا بجعفر، ودخل عليه سمرور وعنده ابن بختيشوع الطبيب وأبو زكار المغني   (1) ما بين معقفين زيادة من أ. (2) تاريخ الطبري 10: 84. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 الأعمى الكلواذاني وهو في لهوه، فاخرجه إخراجا عنيفاً يقوده، حتى أتى به منزل الرشيد فحبسه وقيده بقيد حمار، وأخبر الرشيد بمجيئه، فأمر الرشيد بضرب عنقه واستوفى حديثه هناك. وقال الواقدي: نزل الرشيد العمر بناحية الأنبار في سنة سبع وثمانين منصرفاً من مكة، وغضب على البرامكة، وقتل جعفرا فيأول يوم من صفر، وصلبه على الجسر ببغداد، وجعل رأسه على الجسر وفي الجانب الآخر جسده. وقال غيره: صلبه على الجسر مستقبل الصراة، رحمه الله تعالى. وقال السندي بن شاهك: كنت ليلة نائماً في غرفة الشرطة بالجانب الغربي، فرأيت في منامي جعفر بن يحيى واقفا بإزائي، وعليه ثوب مصبوغ بالعصفر، وهوينشد: كأن لك يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سارم بلى نحن كنا أهلها فأبادنا ... صروف الليالي والجدود العواثر فانتبهت فزعاً، وقصصتها على أحد خواصي فقال: أضغاث أحلام، وليس كل ما يراه الإنسان يجب أن يفسر، وعاودت مضجعي، فلم تنل عيني غمضاً حتى سمعت صيحة الرابطة والشرط وقعقعة لجم البريد ودق باب الغرفة، فامرت بفتحها، فصعد سلام الأبرش الخادم، وكان الرشيد يوجهه في المهمات، فانزعجت وأرعدت مفاصلي، وظننت أنه أمر في بأمر، فجلس إلى جانبي وأعطاني كتاباً ففضضته، وإذا فيه " يا سندي، هذا كتابناً بخطنا مختوم بالخاتم الذي في يدنا، وموصله سلام الأبرش، فماذا قرأته فقبل أن تضعه من يدك فامض إلى دار يحيى بن خالد - لا حاطه الله - وسلام معك حتى تقبض عليه، وتوقره حديداً، وتحمله إلى الحبس في مدينة المنصور المعروف بحبس الزنادقة، وتقدم إلى بادام (1) بن عبد الله خليفتك بالمصير إلى الفضل ابنه مع ركوبك إلى دار يحيى، وقبل انتشار الخبر، وأن تفعل به مثل ما تقدم به إليك في يحيى، وأن تحمله أيضاً إلى حبس الزنادقة، ثم بث بعد فراغك من   (1) ب هـ: باذام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 أمر هذين أصحابك في القبض على أولاد يحيى وأولاد إخوته وقراباته. وسرد صورة الإيقاع بهم ابن بدرون أيضاً سرداً فيه فوائد زائدة على هذا المذكور، فأحببت إيراده مختصرا ههنا؛ قال عقيب كلامه المتقدم: ثم دعا السندي بن شاهك فأمره بالمضي إلى بغداد والتوكل بالبرامكة وكتابهم وقراباتهم، وأن يكون ذلك سراً، ففعل السندي ذلك، وكان الرشيد بالأنبار بموضع يقال له العمر، ومعه جعفر، وكان جعفر بمنزله، وقد دعا أبا زكار وجواريه ونصب الستائر وأبو زكار يغنيه: ما يريد الناس منا ... مات ينام الناس منا إنما همهم أن ... يظهروا ما قد دفنا ودعا الرشيد ياسراً غلامه وقال: قد انتخبتك لمر لم أر له محمداً ولا عبد الله ولا القاسم، فحقق ظني، واحذر أن تخالف فتهلك، فقال: لو أمرتني بقتل نفسي لفعلت، فقال: اذهب إلى جعفر بن يحيى وجئني برأسه الساعة، فوجم لا يحير جواباً، فقال له: مالك ويلك قال: الأمر عظيم، وددت أني مت قبل وقتي هذا، فقال: امض لأمري، فمضى حتى دخل على جعفر وأبو زكار يغنيه: فلا تبعد فكل فتى سيأتي ... عليه الموت يطرق أو يغادي وكل ذخيرة لا بد يوماً ... وإن بقيت تصير إلى نفاد ولو فوديت من حدث الليالي ... فديتك بالطريف وبالتلاد فقال له: يا ياسر، سررتني بإقبالك وسؤتني بدخولك من غير إذن، فقال: الأمر أكبر من ذلك، قد أمرني أمير المؤمنين بكذا وكذا، فأقبل جعفر يقبل قدمي ياسر وقال: دعني أدخل وأوصي، قال لا سبيل إلى الدخول، ولكن أوصى بما شئت، قال: لي عليك حق، ولا تقدر على مكافأتي إلا الساعة، قال: تجدني سريعاً إلا فيما يخالف أمير المؤمنين، قال: فارجع وأعلمه بقتلي، فإن ندم كانت حياتي على يدك، وإلا أنفذت أمره في، قال: لا أقدر، قال: فأسير معك إلى مضربه وأسمع كلامه ومراجعتك، فإن أصر فعلت، قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 أما هذا فنعم، وسار إلى مضرب الرشيد فلما سمع حسه قال له: ما وراءك فذكر له قول جعفر، فقال له: يا ماص هن أمه، والله لئن راجعتني لأقدمنك قبله، فرجع فقتله وجاء برأسه، فلما وضعه بين يديه اقبل عليه ملياً ثم قال: يا ياسر، جئني بفلان وفلان، فلما أتاه بهما قال لهما: اضربا عنق ياسر، فلا أقدر أرى قاتل جعفر؛ انتهى كلامه في هذا الفصل. وذكر في كتابه قال: لما فهم جعفر من الرشيد الإعراض عند حجه معه ووصل إلى الحيرة ركب جعفر إلى كنيسة بها لأمر، فوجد فيها حجرا عليه كتابة لاتفهم، فأحضر تراجمة الخط وجعله فألا من الرشيد لما يخافه ويرجوه، فقرىء فإذا فيه: إن بني المنذر عام انقضوا ... بحيث شاد البيعة الراهب أضحوا ولا يرجوهم راغب ... يوماً ولا يرهبهم راهب تنفخ بالمسك ذفاريهم ... والعنبر الورد له قاطب فأصبحوا أكلا لدود الثرى ... وانقطع المطلوب والطالب فحزن جعفر وقال: ذهب والله أمرنا. قال الأصمعي: وجه إلي الرشيد بعد قتله جعفراً، فجئت فقال: أبيات أردت أن تسمعها، فقلت: إذا شاء أمير المؤمنين، فأنشدني: لو أن جعفر خاف أسباب الردى ... لنجا به منها طمر ملجم ولكان من حذر المنية حيث لا ... يرجو اللحاق به العقاب القشعم لكنه لما أتاه يومه ... لم يدفع الحدثان عنه منجم فعلمت أنها له فقلت: إنها أحسن أبيات في معناها، فقال: إلحق الآن بأهلك يا ابن قريب إن شئت. وحكي أن جعفراً في آخر أيامه أراد الركوب إلى دار الرشيد، فدعا بالاصطرلاب ليختار وقتاً وهو في داره على دجلة، فمر رجل في سفينة وهو لا يراه ولا يدري ما يصنع والرجل ينشد: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 يدبر بالنجوم وليس يدري ... ورب النجم يفعل ما يريد فضرب بالاصطرلاب الأرض وركب. ويحكى أنه رؤي على باب قصر علي بن عيسى بن ماهان بخراسان صبيحة الليلة التي قتل فيها جعفر كتاب بقلم جليل: إن المساكين بني برمك ... صب عليهم غير الدهر إن لنا في أمرهم عبرة ... فليعتبر ساكن ذا القصر ولما بلغ سفيان بن عيينة خبر جعفر وقتله وما نزل بالبرامكة حول وجهه إلى القبلة وقال: اللهم إنه كان قد كفاني مؤنة الدنيا فاكفه مؤنة الآخرة. ولما قتل أكثر الشعراء في رثاء آله، فقال الرقاشي من أبيات: هدأ الخالون من شجوي فناموا ... وعيني لا يلائمها منام وما سهرت لأني مستهام ... إذا أرق المحب المستهام ولكن الحوادث أرقتني ... فلي سهر إذا هجدَ النيام أصبت بسادة كانوا نجوماً ... بهم نُسقى إذا انقطع الغمام على المعروف والدنيا جميعاً ... لدولة آل برمك السلام فلم أر قبل قتلك يا ابن يحيى ... حساما فله السيف الحسام أما والله لولا خوف واش ... وعين للخليفة لا تنام لطفنا حول جذعك واستلمنا ... كما للناس بالحجر استلام وقال أيضاً يرثيه وأخاه الفضل: الا إن سيفا برمكيا مهندا ... أصيب بسيف هاشمي مهند فقل للعطايا بعد فضل تعطلي ... وقل للرزايا كل يوم تجددي وقال دعبل بن علي الخزاعي: ولما رأيت السيف صبح جعفرا ... ونادى مناد للخليفة في يحيى بكيت على الدنيا وأيقنت أنما ... قصارى الفتى فيها مُفارقة الدنيا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 وما هي إلا دولة بعد دولة ... تخول ذا نعمى وتعقب ذا بلوى إذا نزلت هذا منازل رفعة ... من الملك حطت ذا إلى غاية سفلى وقال صالح بن طريف فيهم: يا بني برمك واهاً لكم ... ولأيامكم المقتبله كانت الدنيا عروساً بكم ... وهي اليوم ثكول أرمله ولولا خوف الإطالة لأوردت طرفاً كبيراً من أقوال الشعراء فيهم مديحاً ورثاء. وقد طالت هذه الترجمة، ولكن شرح الحال وتوالى الكلام أحوج إليه. ومن أعجب ما يؤرخ (1) من تقلبات الدنيا بأهلها ما حكاه محمد بن غسان بن عبد الرحمن الهاشمي صاحب صلاة الكوفة، قال: دخلت علىوالدتي في يوم نحر، فوجدت عندها امرأة برزة في ثياب رثة، فقالت لي والدتي: أتعرف هذه قلت: لا، قالت: هذه أم جعفر البرمكي، فأقبلت عليها بوجهي وأكرمتها، وتحادثنا ومانا ثم قلت: يا أمه، ما أعجب ما رأيت! فقالت: لقد أتى علي يا بني عيد مثل هذا وعلى رأسي أربعمائة وصيفة، وإني لأعد ابني عاقاً لي، ولقد أتى علي يا بني هذا العيد وما منأي إلا جلدا شاتين أفترش أحدهما وألتحف الآخر، قال: فدفعت إليها خمسمائة درهم، فكادت تموت فرحاً بها، ولم تزل تختلف إلينا حتى فرق الموت بيننا. والعمر - بضم العين المهملة وسكون الميم وبعدها راء - هكذا وجدته مضبوطاً في نسخة مقروءة مضبوطة، وقال أبو عبيد عبد الله بن عبد العزيز بن محمد البكري في كتاب " معجم ما استعجم " (2) : " قلاية العمر " والعمر عندهم الدير (3) ، والله أعلم.   (1) اختلف نص هذه الحكاية في أعما ورد هنا ولكن المعنى واحد. (2) معجم ما استعجم: 1089. (3) العمر: من السريانية " عمرا " وهي تعني البيت ثم خصصت بالدير. أما القلاية فهي صومعة الراهب، ويضم الدير على هذا عدة قلايات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 132 - جعفر البرمكي أبو الفضل جعفر بن يحيى بن خالد بن برمك البرمكي وزير هارون الرشيد؛ كان من الكرم وسعة العطاء كما قد اشتهر، ويقال إنه لما حج ... العطاء. ولم يبلغ أحد من الوزراء منزلة بلغها من الرشيد؛ قال إبراهيم: قال لي جعفر بن يحيى يوماً: إني استأذنت أمير المؤمنين في الخلوة غداً فهل أنت مساعدي فقلت: جعلت فداك، انا أسعد بمساعدتك وأسر بمحادثتك، [قال: فبكر إلي بكور الغراب؛ قال: فأتيه عند الفحجر فوجدت الشمعة بين يديه] وهو ينتظرني للميعاد، فصلينا ثم أفضنا في الحديث، ثم قدم إلينا الطعام فأكلنا فلما غسلنا أيدينا جعلت علينا ثياب المنادمة وبخرنا وطيبنا ثم ضمخنا بالخلوق، ومدت الستارة، وظللنا بأنعم يوم مر بنا، ثم إنه ذكر حاجة فدعا الحاجب وقال: إذا أتى عبد الملك فأذن له - يعني قهرماناً له؛ فاتفق ان جاء عبد الملك ابن صالح عم الرشيد وهو من جلالة القدر والامتناع من منادمة أمير المؤمنين على أمر جليل، وكان الرشيد قد اجتهد أن يشرب معه قدحا فليم يقدر عليه رفعا لنفسه، فلما رفع لستر وطلع علينا سقط ما في أيدينا وعلمنا أن الحاجب قد غلط بينه وبين عبد الملك القهرمان، فأعظم جعفر ذاك وارتاع له، ثم ثام إليه إجلالاً، فلما نظر إلينا على تلك الحال دعا غلامه فدفع إليه سيفه وسواده وعمامته ثم قال: اصنعوا بناماصنعتم بأنفسكم؛ ثم قال: اصنعوا بنا ما صنعتم بانفسكم؛ قال: فجاء الغلمان فطرحوا عليه ثياباً وخلقوه ودعا بالطعام فطعم وشرب ثلاثاً، ثم قال: لتخفف عني فإنه شيء والله ما شربته قط، فتهلل وجه جعفر وفرح، ثم التفت إليه فقال: جعلت فداك، قد تطولت وتفضلت وساعدت فهل من حاجة تبلغ إليها مقدرتي وتحيط بها نعمتي فأقضيها مكافأة لما صنعت قال: بلى إن في قلب أمير المؤمنين علي هنة فاسأله الرضى عني، فقال له جعفر: قد رضي أمير المؤمنين عنك، ثم قال: وعلي عشرة آلاف دينار، فقال: هي لك حاضرة من مالي ولك من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 مال أمير المؤمنين ضعفها، ثم قال: وابني إبراهيم أحب أن اشد ظهره بصهر من أمير المؤمنين، قال: وقد زوجه أمير المؤمنين ابنته العالية، قال: وأحب أن تخفق عليه الألوية، قال: قد ولاه أمير المؤمنين مصر. فانصرف بعد الملك ابن صالح، قال إبراهيم بن المهدي: فبقيت متعجباً من إقدامه على أمير المؤمنين من غير استئذان وقلت: عسى أن يجيبه فيما سأل من الرضى والمال والولاية، فمتى أطلق لجعفر أو لغيره تزويج بناته فلما كان من الغد بكرت إلى باب الرشيد لأرى ما يكون، فدخل جعفر فلم يلبث أن دعا بأبي يوسف القاضي وإبراهيم بن عبد الملك بن صالح، فخرج إبراهيم وقد عقد نكاحه بالعالية بنت الرشيد وعقد له على مصر والرايات بين يديه وحملت البدر إلى منزل عبد الملك بن صالح، وخرج جعفر فأشار إلينا، فلما صرنا إلى منزله التفت إلينا فقال: تعلقت قلوبكم بحديث عبد المك فأحببتم علم آخره: لما دخلت على أمير المؤمنين ومثلت بين يديه قال: كيف كان يومك ياجعفر فقصصت عليه حتى بلغت إلى دخول عبد الملك بن صالح، وكان متكئاً فاستوى جالساً وقال: ايه لله أبوك! فقلت: سألني في رضاك يا أمير المؤمنين، قال: نعم فبم أجبته قلت: رضي أمير المؤمنين عنك، قال: قد أجزت، ثم ماذا قلت: وذكر أن عليه عشرة آلاف دينار، قال: فبم أجبته قلت: وقد قضاها أمير المؤمنين عنك، قال: قد قضيت، ثم ماذا قال: قد رغب أن يشد أمير المؤمنين ظهر ولده إبراهيم بصهر منه، قال: فبم أجبته قلت: قد زوجه أمبير المؤمنين ابنته العالية، قال: قد أمضيت ذلك، ثم ماذا لله أبوك قلت: واحب أن تخفق الألوية على رأسه، قال: فبم أجبته قلت: قد ولاه أمير المؤمنين مصر، قال: قد وليت، فأحضر إبراهيم والقضاة والفقهاء فحضروا وتمم له جميع ذلك من ساعته؛ قال إبراهيم بن المهدي: فوالله ما ادري أيهم أكرم وأعجب فعلا، ما ابتدأه عبد الملك من المساعدة وشرب الخمر ولم يكن شربها قط، ولبسه ما لبس من ثياب المنادمة وكان رجل جد، أم إقدام جعفر على الرشيد بما أقدم، وأم إمضاء الرشيد جميع ما حكم به جعفر عليه. وركب يوما الرشيد وجعفر يسايره، وقد بعث علي بن عيسى بهدايا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 خراسان بعد ولاية الفضل، فقال الرشيد لجعفر: أين كانت هذه أيام أخيك قال: في منازل أربابها. وبلغ الرشيد أن يهودياً ينجم بحكم في عمره ويقرب وقتاً، فأحضره وسأله عما قال فقال: استدللت من النجوم بكذا وكذا، ودخل جعفر فرأى غم الرشيد فقال له: أتحب أن يخرج هذا من صدرك قال: نعم، قال: سله عن عمره فإنه بالمعرفة به أولى به من غيره، قال: فسأله عن ذلك فقال: هو كذا وكذا، فقال جعفر: اضرب الآن عنقه لتعلم خطأه في عمرك وعمره. فيحكى أن الرشيد تغير عليه في آخر الأمر وكان سبب ذلك أن الرشيد كان لا يصبر عن جعفر وعن أخته هباسة بنت المهدي وكان يحضرهما إذا جلس للشرب فقال لجعفر: أزوجكما ليحل لك النظر غليها ولا تقربها فإني لا أطبق الصبر عنكما، فأجابه إلى ذلك، فزوجها منه، وكانا يحضران معه ثم يقوم عنهما وهما شابان، فجامعها جعفر فحملت منه فولدت له غلاما، فخاف الرشيد فسير به مع حواضن إلى مكة، واعطته الجواهر والنفقات. ثم إن عباسة وقع بينها وبين بعض جواريها شر، فأنهت أمرها إلى الرشيد، فحج هارون سنة186 وبحث عن الأمر فعلمه، وكان جعفر يصنع للرشيد طعاماً بعسفان إذا حج، فصنع ذلك الطعام ودعاه فلم يحضر عنده، وكان ذلك أول تغير أمرهم. وقيل كان سبب ذلك ... من أمره ما كان. وقيل من الأسباب أن جعفراً بنى داراً غرم عليها عشرين ألف درهم فرفع ذلك إلى الرشيد وقيل: هذه غرامة في دار فما ظنك بنفقاته وصلاته وغير ذلك فاستعظمه. وحكي أن جعفر بن يحيى لما عزم على الانتقال إلى قصره هذا جمع المنجمين لاختيار وقت ينتقل فيه اليه فاختاروا له وقتا من الليل، فلما حضر الوقت خرج على حمار من الموضع الذي كان منزله إلى قصره والطرق خالية والناس هادئون، فلما صار إلى سوق يحيى رأى رجلاً قائما وهو يقول: يدبر بالنجوم وليس يدري ... ورب النجم يفعل ما يريد فاستوحش ووقف ودعا بالرجل فقال له: أعد علي ما قلت، فأعاده فقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 ما أردت بهذا فقال: ما أردت به معنى من المعاني، لكنه شيء عرض لي وجاء على لساني فيهذا الوقت، فأمر له بدنانير ومضى لوجهه وقد تنغض عليه سروره. وكان من الأسباب أيضا ...... فاستجيب به. قال علماء السير: لما انصرف الرشيد عن الحج سنة187 وقيل 188، أرسل الرشيد مسرورا لخادم ومعه جماعة من الجند ليلا وعنده بختيشوع المتطبب وأبو زكار المغني وهو يغني: فلا تبعد ...... قال مسرور: فقلت له: يا أبا الفضل الذي جئت له هو والله ذاك، قد طرقك الأمر، أجب أمير المؤمنين، فوقع على رجلي يقبلها وقال: حتى أدخل فأوصي، فقلت: فأما الدخول فلا سبيل إليه وأما الوصية فاصنع ما شئت، فأوصى بما أراد وأعتق مماليكه، وأتتني رسل الرشيد تستحثني، فمضيت إليه وأعلمته وهو في فراشه، فقال: ائتني برأسه، فأتيت جعفراً فأخبرته فقال: الله أكبر فراجعه، فعدت أراجعه، فلما سمع حسي قال: يا ماص بظر أمه، ائتني برأسه، فرجعت إليه وأخبرته فقال: وأمره، فرجعت فحذفني بعمود كان في يده وقال: نفيت من المهدي ان لم تأتني برأسه لأقتلنك، قال: فخرجت فقتلته وحملت رأسه إليه، وكان قتله ليلة السبت أول ليلة من صفر بالأنبار وهوابن سبع وثلاثين سنة، ثم أمر بنصب رأسه على الجسر وتقطيع يديه وصلب كل قطعة على جسر، فلم يزل كذلك حتى مر عليه الرشيد حين خروجه إلى خراسان فقال: ينبغي أن يحرق هنا، فأحرق، ووجه الرشيد من ليلته إلى الرقة في قبض أمرائهم وما كان من رقيقهم ومواليهم وحشمهم. وحكي عن الأصمعي أنه قال: لما قتل الرشيد جعفر بن يحيى أرسل إلي ليلاً فراعني وأعجلني الرسل فزادوا في وجلي، فصرت إليه، فلما مثلت بين يديه أومأ إلي بالجلوس فجلست، ثم قال: لو أن جعفر ... الخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 ثم قال: إلحق بأهلك يا ابن قريب، فنهضت ولم أحر جوابا، وفكرت فلم أعرف لما كان منه معنى إلا أنه أراد أن يسمعني شعره فأحكيه. ولما نكبوا قال الرقاشي: الان استرحنا واسترحت ركابنا ... وأمسك من يجدي ومن كان يجتدي فقل للمطايا قد أمنت من السرى ... وطي الفيافي فدفداً بعد فدفد وقل للمنايا قد ظفرت بجعفر ... ولن تظفري من بعده بمسود وقل للعطايا بعد فضل تعطلي ... وقل للرزايا كل يوم تجددي ودونك سيفا برمكياً مهنداً ... أصيب بسيف هاشمي مهند وله أيضا في جعفر: أما والله لولا خوف واش ... الخ. ووقع جعفر في قصة رجل شكا بعض عماله: قد كثر شاكوك وقل شاكروك، فإما عدلت وإما اعتزلت. ورأى رجلاً في الشمس فقال: أفي الشمس قال: أطلب الظل، قال: لأولينك ولاية يطول فيها ظلك. وفضائله كثيرة رحمه الله تعالى. 133 - (1) جعفر بن حنزابة أبو الفضل جعفر بن الفضل بن جعفر بن محمد بن موسى بن الحسن بن الفرات المعروف بابن حنزابة؛ كان وزير بني الإخشيد بمصر مدة إمارة كافور، ثم استقل   (1) انظر ترجمة ابن حنزابة في تاريخ بغداد 5: 275 ومعجم الأدباء 7: 163 والوافي للصفدي ومواضع متفرقة في ج 4 من النجوم الزاهرة وكتاب الكندي والفوات 1: 203 والمغرب (قسم مصر) : 251 وسقطت ترجمته من تهذيب ابن عساكر مع أن المؤلف ذكره في الأصل وعنه نقل ابن خلكان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 كافور بملك مصر واستمر على وزارته، ولما توفي كافور استقل بالوزارة وتدبير المملكة لأحمد بن علي بن الإخشيد بالديار المصرية والشامية، وقبض على جماعة من أرباب الدولة بعد موت كافور وصادرهم، وقبض على يعقوب بن كلس وزير العزيز العبيدي - الآتي ذكره - وصادره على أربعة آلاف دينار وخمسمائة وأخذها منه، ثم أخذه من يده أبو جعفر مسلم بن عبيد الله الشريف الحسيني، واستتر عنده، ثم هرب مستتراً إلى بلاد المغرب؛ ولم يقدر ابن الفرات على رضى الكافورية والإخشيدية والأتراك والعساكر، ولم تحمل إليه أموال الضمانات، وطلبوا منه مالاً يقدر عليه، واضطرب عليه الأمر فاستتر مرتين ونهبت دوره ودور بعض أصحابه، ثم قدم إلى مصر أبو محمد الحسين بن عبيد الله بن طغج صاحب الرملة فقبض على الوزير المذكور وصادره وعذبه واستوزر عوضه كاتبه الحسن بن جابر الرياحي، ثم أطلق الوزير جعفر بوساطة الشريف أبي جعفر الحسيني، وسلم إليه الحسين أمر مصر وسار عنها إلى الشام مستهل ربيع الآخر سنة ثمان وخمسين وثلثمائة. وكان عالماً محباً للعلماء، وحدث عن محمد بن هارون الحضرمي وطبقته من البغداديين، وعن محمد بن سعيد البرجمي الحمصي، ومحمد بن جعفر الخرائطي، والحسن بن أحمد بن بسطام، والحسن بن أحمد الداركي، ومحمد بن عمارة بن حمزة الأصبهاني، وكان يذكر أنه سمع من عبد الله بن محمد البغوي مجلساً، ولم يكن عنده، فكان يقول: من جاءني به أغنيته، وكان يملي الحديث بمصر وهو وزير، وقصده الأفاضل من البلدان الشاسعة، وبسببه سار الحافظ أبو الحسن علي المعروف بالدارقطني من العراق إلى الديار المصرية، وكان يريد أن يصنف مسنداً فلم يزل الدارقطني عنده حتى فرغ من تأليفه، وله تواليف في أسماء ارجال والأنساب وغير ذلك. وذكر الخطيب أبو زكريا التبريزي في شحه ديوان المتنبي أن المتنبي لما قصد مصر ومدح كافوراً مدح الوزير أبا الفضل المذكور بقصيدته الرائية التي أولها: بادك هواك صبرت أو لم تصبرا ... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 وجعلها موسومة باسمه، فتكون إحدى القوافي جعفرا، وكان قد نظم قوله في هذه القصيدة: صغت السوار لأي كف بشرت ... بابن العميد وأي عبد كبرا بشرت بابن الفرات فلما لم يرضه صرفها عنه ولم ينشده إياه، فلما توجه إلى عضد الدولة قص أرجان وبها أبو الفضل ابن العميد وزير ركن الدولة بن بويه والد عضد الدولة - وسيأتي ذكرهم إن شاء الله تعالى - فحول القصيدة إليه ومدحه بها وبغيرها، وهي من غرر القصائد. وذكر الخطيب أيضاً في الشرح أن قول المتنبي في القصيدة المقصورة التي يذكر فيها مسيره إلى الكوفة ويصف منزلاً منزلاً ويهجو كافوراً: وماذا بمصر من المضحكات ... ولكنه ضحك كالبكا بها نبطي من أهل السواد ... يدرس أنساب أهل الفلا وأسود مشفره نصفه ... يقال له أنت بدر الدجى وشعر مدحت به الكركد ... ن بين القريض وبين الرقى فما كان ذلك مدحا له ... ولكنه كان هجو الورى إن المراد بالنبطي أبو الفضل المذكور، والأسود كافور، وبالجملة فهذا القدر ما غض منه، فما زالت الأشراف تهجى وتمدح. [وأنشد أبو اسحاق إبراهيم بن عبد الله النجيرمي بديها في الوزير أبي الفضل المذكور وقد دعا له داع فلحن في قوله: أدام الله أيامك، بخفض أيامك المنصوبة: لا غرو أن لحن الداعي لسيدنا ... وغص من دهشة بالعي والبهر فمثل هيبته حالت جلالتها ... بين البليغ وبين النطق بالحصر وإن يكن الأيام عن دهش ... في موضع النصب أو من قلة البصر فقد تفاءلت في هذا لسيدنا ... والفأل نأثره عن سيد البشر بأن أيامه خفض بلا نصب ... وأن دولته صفو بلا كدر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 وذكر الوزير أبو القاسم المغربي في كتاب " أدب الخواص ": كنت أحادث الوزير أبا الفضل جعفرا المذكور وأجاريه شعر المتتنبي، فيظهر من تفضيله زيادة تنبه على ما في نفسه خوفاً أن يرى بصورة من ثناه الغضب الخاص عن قول الصدق في الحكم العام، وذلك لأجل الهجاء الذي عرض له به المتنبي. وكانت ولادته ثلاث خلون من ذي الحجة سنة ثمان وثلثمائة، وتوفي يوم الأحد ثالث عشر صفر، وقيل: في شهر ربيع الأول سنة إحدى وتسعين وثلثمائة بمصر، رحمه الله تعالى، وصلى عليه القاضي حسين بن محمد بين النعمان، ودفن في القرافة الصغرى، وتربته بها مشهورة. وحنزابة - بكسر الحاء المهملة وسكون النون وفتح الزاي وبعد الألف باء موحدة مفتوحة ثم هاء - وهي أم أبيه الفضل بن جعفر، هكذا ذكره ثابت بن قرة في تاريخه، والخزابة في اللغة: المرأة القصيرة الغليظة. وذكره الحافظ ابن عساكر في تاريخ دمشق، وأورد من شعره قوله (1) : من أخمل النفس أحياها وروحها ... ولم يبت طاويا منها على ضجر إن الرياح إذا استدت عواصفها ... فليس ترمي سوى العالي من الشجر (2) وقال: كان كثير الإحسان إلى أهل الحرمين، واشترى بالمدينة داراً بالقرب من المسجد ليس بيتها وبين الضريح النبوي - على ساكنه أفضل الصلاة والسلام - سوى جدار واحد، وأوصى أن يدفن فيها، وقرر مع الأشراف ذلك، ولما مات حمل تابوته من مصر إلى الحرمين، وخرجت الأشراف إلى لقائه وفاء بما أحسن إليهم، فحجوا به وطافوا ووقفوا بعرفة ثم ردوه إلة المدينة ودفنوه بالدار المذكورة، وهذا خلاف ما ذكرته أولا، والله أعلم بالصواب، غير أني رأيت التربة المذكورة بالقرافة وعليها مكتوب " هذه   (1) البيتان في المغرب: 252 والفوات. (2) الفوات: فليس تقصف إلا عالي الشجر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 تربة أبي الفضل جعفر بن الفرات ثم إني رأيت بخط أبي القاسم ابن الصوفي (1) أنه دفن في مجلس داره الكبرى ثم نقل إلى المدينة. 134 - المتوكل على الله أبو الفضل جعفر بن المعتصم بن الرشيد بن المدي، وأمه تركية واسمها شجاع، بويع له لست بقين من ذي الحجة سنة 232، وقتل ليلة الأربعاء لثلاث خلون من شوال سنة 247 وله إحدى وأربعون سنة، ودفن في القصر الجعفري، وهو قصر ابتناه بسر من رأى. وقال الدولابي في تاريخه: أنه دفن هو والفتح بن خاقان وزيره ولم يصل عليهما، فكانت خلافته أربع عشرة سنة وتسعة أشهر وتسعة أيام. وقتل المتوكل محمد ولده المنتصر بالله بسرمن رأى وهو على خلوة مع وزيره، فابتدره باغر التركي بسيف، فقام وزيره الفتح بن خاقان في وجهه ووجوه القوم، فاعتوره القوم بسيوفهم فقتلوهما معا وقطعوهما حتى اختلطت لحومهما فدفنا معا، على ما قيل. وكان السبب في قتله على ماحكي أنه قدم المعتز على المنتصر، والمنتصر أسن منه، وكان يتوعده وسبه ويسب أمه ويأمر الذين يحضرون مجلسه من أهل السخف بسبه، فسعى في قتله ووجد الفرصة في تلك الليلة. وكان من الاتفاق العجيب أن المتوكل كان قد أهدي له سيف قاطع لا يكون مثله، فعرض على جميع حاشيته وكل يتمناه فقال المتوكل: لا يصلح هذا السيف إلا لساعد باغر، ووهبه له دون غيرة، فاتفق أنه أول داخل عليه فضربه به فقطع حبل عاتقه وكان ما ذكرنا من أمره. وحكى علي بن يحيى بن المنجم قال: كنت أقرأ على المتوكل قبل قتله   (1) هكذا في ب هـ؛ وفي سائر النسخ: ابن الصيرفي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 بأيام كتب الملاحم فوقف على موضع فيه أن الخليفة العاشر يقتل في مجلسه، فتوقفت عن قراءته فقال: ما لك فقلت: خير، قال: لا بد أن تقرأه فقرأته وحدت عن ذكر الخلفاء فقال: ليت شعري من هذا الشقي المقتول وكان مربوعاً أسمر خفيف شعر العارضين، رفع المحنة في الدين، وأخرج أحمد بن حنبل كما ذكرنا من الحبس وخلع عليه. وكان بالدينور شيخ يتشيع ويميل إلى مذهب الإمامة، وكان له أصحاب يجتمعون إليه ويأخذون عنه ويدرسون عنده، يقال له بشر الجعاب، فرفع صاحب الخبر بالدينور إلى المتوكل أن بالدينور رجلاً رافضياً يحضره جماعة من الرافضة ويتدارسون الرفض ويسبون الصحابة ويشتمون السلف، فلما وقف المتوكل على كتابه أمر وزيره عبيد الله بن يحيى بالكتاب إلى عامله على الدينور بإشخاص بشر هذا والفرقة التي تجالسه، فكتب عبيد الله بن يحيى بذلك، فلما وصل إلى العامل كتابه - وكان صديقا لبشر الجعاب حسن المصافاة له شديد الإشفاق عليه - همه ذلك وسق عليه فاستدعى بشرا واقرأه ما كوتب به في أمره وأمر أصحابه، فقال له بشر: عندي في هذا رأي إن استعملته كنت غير مستبطإ فيما أمرت به وكنت بمنجاة مما أنت خائف علي منه، قال: وما هو قال: بالدينور شيخ خفاف اسمه بشر ومن الممكن المتيسر أن تجعل مكان الجعاب الخفاف وليس بمحفوظ عنده ما نسبت إليه من الحرفة والصناعة، فسر العامل بقوله وهمد إلى العين من الجعاب فغير عينها وغير استواء خطها وانبساطه ووصل الباء بما صارت به فاء؛ فكان أخبره عن بشر الخفاف أنه أبله في غاية البله والغفلة وأنه هزأة عند أهل بلده وضحكة، وذلك أن أهل سواد البلد يأخذون من الخفاف التامة والمقطوعة بنسيئة ويعدونه بأثمانها عند حصول الغلة، فإذا حصلت وحازوا ما لهم منها ما طلوه بدينه ولووه بحقه واعتلوا بأنواع الباطل عليه، فإذا انقضى وقت السادر ودنا الشتاء واحتاجوا إلى الخفاف وما جرى مجراها، وافوا بشرا هذا واعتذروا إليه وخدعوه وابتدروا يعدونه الوفاء ويؤكدون مواعيدهم بالأيمان الكاذبة والمعاهدة الباطلة، ويضمنون له أداء الديون الماضية والمستأنفة، فيحسن ظنه بهم وسكونه ويستلم إليهم ويستأنف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 إعطاءهم من الخفاف وغيرها ما يريدونه، فإذا حضرت الغلة أجروه على العادة وحملوه على ما تقدم من السنة ثم لا يزالون على هذه الوتيرة من أخذ سلعة في وقت حاجتهم ودفعه عن حقه في إبان غلاتهم فلا يتنبه من رقدته ولا يفيق من سكرته؛ فانفذ صاحب الخبر كتابه وأشار بتقدم الخفاف أمام القوم والإقبال عليه بالمخاطبة وتخصيصه بالمسألة ساكناً إلى أنه من ركاكته وفهاهته بما يضحك الحاضرين ويحسم الاشتغال بالبحث عن هذه القصة، ويتخلص من هذه الثلاثة؛ فلما ورد كتاب صاحب الخبر أعلم عبيد الله بن يحيى المتوكل به وبحضور القوم، فأمر أن يجلس ويستحضرهم ويخاطبهم فيما حكي عنهم، وأمر فعلق بينه وبينهم سلبية ليقف على ما يجري ويسمعه ويشاهده، ففعل ذلك، وجلس عبيد الله واستدعى المحضرين، فقدموا إليه يقدمهم بشر الخفاف، فلما جلسوا أقبل عبيد الله على بشر فقال له: أنت بشر الخفاف فقال: نعم، فسكنت نفوس الحاضرين معه إلى تمام هذه الحيلة وإتمام هذه المدالسة وجواز هذه المغالطة، فقال له: إنه رفع إلى أمير المؤمنين من أرمكم شيء أنكره فأمر بالكشف عنه وسؤالكم بعد إحضاركم عن حقيقته، فقال له بشر: نحن حاضرون فما الذي تأمرنا به قال: بلغ أمير المؤمنين أنه يجتمع اليك قوم فيخوضون معك في الترفض وشتم الصحابة، فقال بشر: ما أعرف من هذا شيئاً، قال: قد أمرت بامتحانكم والفحص عن مذاهبكم، فقال: ما تقول في السلف فقال: لعن الله السلف، فقال له عبيد الله: ويلك أتدري ما تقول قال: نعم لعن الله السلف، فخرج خادم من بين يدي المتوكل فقال لعبيد الله: يقول لك أمير المؤمنين: سله الثالثة فإن أقام على هذا فاضرب عنقه، فقل له: إني سائلك هذه المرة فإن لم تتب وترجع عما قلت أمرت بقتلك، فما تقول الآن في السلف فقال: لعن الله السلف، قد خرب بيتي وأبطل معيشتي وأتلف مالي وأفقرني وأهلك عيالي، قال: وكيف قال: أنا رجل أسلف الأكرة وأهل الدستان الخفاف والتمسكات على أن يوفوني الثمن مما يحصل من غلاتهم، فأصير اليهم عند حصول الغلة في بيادرهم، فغذا أحرزوا الغلات دفعوني عن حقي وامتنعوا من توفيتي مالي، ثم يعودون عند دخول الشتاء فيعتذرون إلية ويحلفون بالله لا يعاودون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 مطلي وظلمي، فإنهم يؤدون إلي المتقدم والمتأخر من مالي، فأجيبهم إلى ما يلتمسونه وأعطيهم ما يطلبونه، فإذا جاء وقت الغلة عادوا إلى مثل ما كانوا عليه من ظلمي وكسر مالي فقد اختلت حالي وافتقرت عيالي؛ قال: فسمع ضحك عال من وراء السبيبة، وخرج الخادم فقال: استحلل هؤلاء القوم وخل سبيلهم؛ فقالوا: يا أمير المؤمنين في حل وسعة، فصرفهم فلما توسطوا صحن الدار قال بعض الحاضرين: هؤلاء قوم مجان محتالون وصاحب الخبر مسقط لا يكتب إلا بما يعلمه ويثق بصحته، وينبغي أن يستقصى الفحص عن هذا والنظر فيه، فأمر بردهم، فلما أمروا بالرجوع قال بعض الجماعة التابعة لبعض: ليس هذا من ذلك الذي تقدم فينبغي أن نتولى الكلام نحن ونسلك طريق الجد والديانة، فرجعوا فأمروا بالجلوس، ثم أقبل عبيد الله على القوم فقال: إن الذي كتب في أمركم ليس ممن تقدم على الكتب بما لا يقبله علما ويحيط [به] خبراً وقد أخذ أمير المؤمنين باستئناف امتحانكم وإنعام التفتيش عن أمركم، فقالوا: افعل ما أمرت به، فقال: من خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم قلنا: علي بن أبي طالب، فقال الخادم بين يديه: قد سمعت ما قالوا، فأخبر أمير المؤمنين به، فمضى ثم عاد فقال: يقول لكم أمير المؤمنين هذا مذهبي، فقلنا: الحمد لله الذي وفق أمير المؤمنين في دينه ووفقنا لاتباعه وموافقته على مذهبه، ثم قال لهم: ما تقولون في أبي بكر رضي الله عنه فقالوا: رحمة الله على ابي بكر نقول فيه خيراً، قال: فما تقولون في عمر قلنا: رحمة الله عليه ولا نحبه، قال: ولم قلنا: لأنه أخرج مولانا العباس من الشورى، قال: فسمعنا من وراء السبيبة ضحكاً أعلى من الضحك الأول ثم أتى الخادم فقال لعبيد الله عن المتوكل: أتبعهم صلة فقد لزمتهم في طريقهم مؤونة واصرفهم، فقالوا: نحن في غنى وفي المسلمين من هو أحق بهذه الصلة وإليها أحوج، وانصرفوا. وذكر أبو عبد الله حمدون قال: قال لي الحسين بن الضحاك: ضربني الرشيد في خلافته لصحبتي إياه ثم ضربني الأمين لمماثلتي ابنه عبد الله ثم ضربني المأمون لميلي إلى محمد ثم ضربني المعتصم لمودة كانت بيني وبين العباس بن المأمون ثم ضربني الواثق لشيء بلغه من ذهابي إلى المتوكل، وكل ذلك يجري مجرى الولع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 والتحذير لي، ثم أحضرني المتوكل وأمر شفيعا أن يولع بي، فتغاضب المتوكل علي، فقلت: يا أمير المؤمنين إن كنت تضربني كما ضربني آباؤك فاعلم أن آخر ضرب ضربته كان بسببك، فضحك وقال: بل أصونك وأكرمك. وقال المتوكل يوما لمن حضره: ما أرى أحسن من وصيف الصغير، يعني خادمه، فجعل كل يصفه غير بغا الكبير فال: يا بغا ما سكوتك اما تحب وصيفا قال: لا، قال: ولم قال: لأني أحب من يحبك ولا أحب من يحبه. ودخل أبو العيناء على المتوكل فقال له: بلغني عنك بذاء، قال: إن يكن البذاء صفة المحسن بإحسانه والميء بإساءته فقد مدح الله وذم قال نعم العبد إنه أواب وقال عز وجل هماز مشاء بنميم مناع للخير معتد أثيم عتل بعد ذلك زنيم فذمه حتى قذفه، وأما أن أكون كالعقرب التي تسلع النبي والذمي (1) بطبع لا يميز فقد أعاذ الله عبدك من ذلك، وقد قال الشاعر: إذا أنا بالمعروف لم أثن صادقاً ... ولم أشتم الجبس اللئيم المذمما ففيم عرفت الشر والخير باسمه ... وشق لي الله المسامع والفما ولما أسلم نجاح بن سلمة إلى موسى بن عبد الملك (2) الأصبهاني ليؤدي ما عليه من الأموال عاقبه فتلف في مطالبته، فحضر يوماً عند المتوكل فقال له: ما عندك من خبر نجاح بن سلمة قال: ما قال الله فوكزه موسى فقضي عليه، فاتصل ذلك بموسى فلقي الوزير عبيد الله بن يحيى بن خاقان فقال: أيها الوزير أردت قتلي فلم تجد لذلك سبيلاً إلا بإدخال أبي العيناء إلى أمير المؤمنين وعداوته لي، فعاتب عبيد الله أبا العيناء في ذلك فقال: والله ما استعذبت الوقيعة فيه حتى ذممت سيرته لك، فأمسك عنه. ثم دخل بعد ذلك أبو العيناء على المتوكل فقال: كيف كنت بعدي فقال: في أحوال مختلفة خيرها رؤيتك وشرها غيبتك، فقال: قد والله استقتك، قال إنما يشتاق العبد لأنه يتعذر عليه لقاء مولاه وأما السيد فمتى أراد عبيده دعاه، فقال له المتوكل: من أسخى من رأيت قال:   (1) في الأصل البني والمدمى؛ وانظر في التصحيح ثمار القلوب: 430. (2) في الأصل: عبد الله؛ وانظر هذه الحادثة في تاريخ ابن الأثير 7: 88. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 ابن أبي دواد، قال المتوكل: تأتي إلى رجل قد رفضته فتنسبه إلى السخاء قال: إن الصدق يا أمير المؤمنين على موضع من المواضع أنفق منه على مجلسك وإن الناس يغلطون فيمن ينسبونه إلى الجود لأن سخاء البرامكة منسوب إلى الرشد، وسخاء الفضل والحسن بن سهل منسوب إلى المأمون، وجود اب أبي دواد (1) منسوب إلى المعتصم، وإذا نسب الفتح وعبيد الله (2) إلى السخاء فذاك سخاؤك ياأمير المؤمنين، قال: صدقت فمن أبخل من رأيت قال: موسى بن عبد الملك، قال: وما رأيت من بخله قال: رأيته يحرم القريب كما يحرم الغريب، ويعتذر من الإحسان كما يعتذر من الإساءة، فقال له: قد وقعت فيه عندي وقعتين وما أحب ذلك، فالقه واعتذر إليه ولا يعلم أني وجهت بك، قال: يا أمير المؤمنين من يسكته بحضرة ألف قال: لن تخاف على الاحتراس من الخوف، فسار إلى موسى واعتذر كل واحد منهما إلى صاحبه، وافترقا إلى صلح، فلقيه بالجعفري فقال: يا أبا عبد الله قد اصطلحنا فمالك لا تأتينا قال أتريد أن تقتلني كما قتلت نفساً بالأمس ما أرانا إلا كما كنا أولاً. وكان المتوكل قد غضب على عبادة ونفاه إلى الموصل وكان عبادة من أطيب الناس وأخفهم روحا وأحضرهم نادرة، وكان أبوه من طباخي المأمون وكان معه، فخرج حاذقا بالطبيخ ثم مات أبوه ونحب. حكى أبو حازم الفقيه، وقد جرى ذكر عبادة، قال: ما كان أطرفه، قيل: وكيف قال: لما حصل بالموصل تبعه غرماؤه وطلبوه وقدموه إلى علي بن إبراهيم العمري وهو قاضي الموصل فحلف لواحد ثم لآخر ثم لآخر، فقال له علي بن إبراهيم: ويحك ترى هؤلاء كلهم قد اجتمعوا على ظلمك فاتق الله وارجع إلى نفسك، فإن كانت عسرة بإزائها نظرة، فقال: صدقت فديتك ليس كلهم ادعى الكذب ولا كلهم ادعى الصدق، ولكني دفعت بالله ما لا أطيق. وقيل له وقد مات زوج أخته: ما ورثت أختك من زوجها قال: أربعة أشهر وعشراً. وحكى علي بن الجهم قال: لما أفضت الخلافة إلى المتوكل أهدى إليه ابن طاهر   (1) في الأصل: ابن أبي داود. (2) في الأصل: عبد الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 من خراسان هدية جليلة فيها جوار فيهن جارية يقال لها محبوبة قد نشأت بالطائف وبرعت في الأدب وأجادت قول الشعر وحذقت الغناء وقربت من قلب المتوكل وغلبت عليه فكانت لا تفارق مجلسه، فوجد عليها مرة فهجرها أياما، وبكرت عليه فقال: يا علي قلت: لبيك يا أمير المؤمنين، قال رأيت الليلة في منامي كأني رضيت عن محبوبة وصالحتها وصالحتني، قلت: خيراً يا أمير المؤمنين أقر الله عينك وسرك، إنما هي عبدتك والرضى والسخط بيدك، فو الله أنا لفي ذلك إذ جاءت وصيفة فقالت: يا أمير المؤمنين سمعت صوت عود من حجرة محبوبة، فقال: قم بنا يا علي ننظر ما تصنع، فنهضنا حتى أتينا حجرتها فإذا هي تضرب العود وتغني: أدور في القصر لا أرى أحداً ... أشكو إليه ولا يكلمني كأنني قد أتيت معصيةً ... ليس لها توبة تخلصني فهل شفيع لنا إلى ملكٍ ... قد زارني في الكرى وصالحني حتى إذا ما الصباح لاح لنا ... عاد إلى هجره فصارمني قال: فصاح أمير المؤمنين وصحت معه، فسمعت فتلقته وأكبت على قدميه تقبلهما، فقال: ما هذا قالت: يا مولاي رأيت في ليلتي كأنك رضيت عني فتعللت بما سمعت، قال: وأنا والله رأيت مثل ذلك، فقال لي: يا علي رأيت أعجب من هذا كيف اتفق ورجعنا إلى الموضع الذي كنا فيه ودعا بالجلساء والمغنين واصطبح وما زالت تغنيه الأبيات يومه ذلك؛ قال: وزادت حظوة عنده حتى كان من أمره ما كان، فتفرق جواريه وصارت محبوبة إلى وصيف الكبير فما زالت حزينة باكية، فدعاها يوما وأمرها أن تغني فاستعفته وجيء بعود فوضع في حجرها فغنت. أي عيش يلذ لي ... لا أرى فيه جعفرا كل من كان في ضنى وسقام فقد برا ... غير محبوبة التي ... لو ترى الموت يشترى لاشترته بما حوته ... يداها لتقبرا ولبست السواد والصوف وما زالت تبكيه وترثيه حتى ماتت، رحمها الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 135 - (1) ابن السراج أبو محمد جعفر بن أحمد بن الحسين بن أحمد بن جعفر السراج المعروف بالقاري البغدادي؛ كان حافظ عصره، وعلامة زمانه، وله التصانيف العجيبة، منها كتاب مصارع العشاق وغيره، حدث عن أبي علي بن شاذان، وأبي القاسم ابن شاهين، والخلال، والرمكي، والقزويني، وابن غيلان، وغيرهم، وأخذ عنه خلق كثير، وروى عنه الحافظ أبو طاهر السلفي رحمه الله تعالى، وكان يفتخر بروايته مع أنه لقي أعيان ذلك الزمان وأخذ عنهم. وله شعر حسن، فمنه (2) : بان الخليط فأدمعي ... وجدا عليهم تستهل وحدا بهم حادي الفرا ... ق عن المنازل فاستقلوا قل للذين ترحلوا ... عن ناظري والقلب حلوا ودمي بلا حرم أتي ... ت غداة بينهم استحلوا ما ضرهم لو أنهلوا ... من ماء وصلهم وعلوا ومن شعره أيضاً رحمه الله تعالى: وعدت بأن تزوري كل شهر ... فزوري قد تقضى الشهرُ زوري   (1) راجع ترجمته في ذيل ابن رجب 1: 123 وبغية الزعاة: 211 ومعجم الأدباء 5: 153 وفيه نقل عن ابن عساكر؛ وكان السراج ذا طريقة جميلة ومحبة للعلم والأدب، وكان يسافر إلى مصر وغيرها، وتردد إلى صور عدة دفعات ثم قطن بها زماناً، وعاد غلى بغداد وأقام بها إلى أن توفي، وأكثر أشعاره في الزهد والفقه، وله سوى مصارع العشاق كتاب اسمه " زهد السودان ". (2) الأبيات في مصارع العشاق 1: 130. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 وشقة بيننا نهر المعلى ... إلى البلد المسمى شهرزور وأشهر هجرك المحتوم حق ... ولكن شهر وصلك شهر زور وأورد له العماد الكاتب الأصبهاني في كتاب " الخريدة ": ومدعٍ شرخ شبابٍ وقد ... عممه الشيب على وفرته يخضب بالوشمة عثنونه ... يكفيه أن يكذب في لحيته وله غير ذلك نظم جيد. وكانت ولادته إما في أواخر سنة سبع عشرة وأربعمائة أو أوائل سنة ثماني عشرة وأربعمائة، وذكر الشريف أبو المعمر المبارك بن أحمد بن عبد العزيزالأنصاري في كتاب " وفيات الشيوخ " أن مولده سنة ست عشرة ببغداد، وتوفي بها ليلة الأحد الحادي والعشرين من صفر سنة خمسمائة، ودفن بباب أبرز. 136 - (1) أبو معشر المنجم أبو معشر جعفر بن محمد بن عمر البلخي المنجم المشهور؛ كان إمام وقته في فنه، وله التصانيف المفيدة في علم النجامة، منها المدخل ووالزيج والألوف وغير ذلك، وكانت له إصابات عجيبة. رأيت في بعض المجاميع أنه كان متصلا بخدمة بعض الملوك، وأن ذلك الملك طلب رجلاً من اتباعه وأكابر دولته ليعاقبه بسبب جريمة صدرت منه،   (1) ترجمة أبي معشر في الفهرست: 277 وتاريخ الحكماء: 152 وابن أبي أصيبعة 1: 207 ومختصر الدول: 258 وطبقات صاعد: 56 وقد كتب عنه الأستاذ ر. لامي كتاباً بعنوان: (Abu Ma'shar and Latin Aristotelianism (Beirut 1962. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 فاستخفى، وعلم أن أبا معشر يدل عليه بالطرائق التي يستخرج بها الخبايا (1) والأشياء الكامنة، فأراد أن يعمل شيئاً لا يهتدي إليه ويبعد عنه حسه (2) فأخذ طستاً وجعل فيه دماً وجعل في الدم هاون ذهب، وقعد على الا هاون أياماً، وتطلب الملك ذلك الرجل وبالغ في التطلب، فلما عجز عنه أحضر أبا معشر وقال له: تعرفني موضعه بما جرت عادتك به، فعمل المسألة التي يستخرج بها الخبايا، وسكت زمانا حائرا، فقال له المك: ماسبب سكوتك وحيرتك قال: أرى شيئا عجيباً، فقال: وما هو قال: أرى الرجل المطلوب على جبل من ذهب والجبل في بحر من دم، ولا أعلم في العالم موضعاً من البلاد على هذه الصفة، فقال له: أعد نظرك وغير المسألة وجدد أخذ الطالع، ففعل ثم قال: ما أراه إلا كما ذ كرت، وهذا شيء ما وقع لي مثله، فلما أيس الملك من القدرة عليه بهذا الطريق أيضاً نادى في البلد بالأمان للرجل ولمن أخفاه، وأظهر من ذلك ما وثق به، فلما اطمأن الرجل ظهر (3) وحضر بين يدي الملك، فسأله عن الموضع الذي كان فيه، فأخبره بما اعتمده (4) ، فأعجبه حسن احتياله في إخفاء نفسه، ولطافة أبي معشر في استخراجه. وله غير ذلك من الإصابات. وكانت وفاته في سنة اثنتين وسبعين ومائتين، رحمه الله تعالى. والبلخي - بفتح الباء الموحدة وسكون اللام وبعدها خاء معجمة - هذه النسبة إلى بلخ، وهي مدينة عظيمة من بلاد خراسان فتحها الأحنف بن قيس التميمي في خلافة عثمان رضي الله عنه، وهذا الأحنف هو الذي يضرب به المثل في الحلم، وسيأتي ذكره في حرف الضاد إن شاء الله تعالى.   (1) أج هـ: وآيا صوفيا: الخفايا. (2) آيا صوفيا: حدسه. (3) ب د: خرج. (4) أ: بما فعل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 137 - (1) جعفر الأندلسي ممدوح ابن هانئ أبو علي جعفر بن علي بن أحمد بن حمدان الأندلسي صاحب المسيلة وأمير الزاب من أعمال إفريقية؛ كان سمحاً كثير العطاء مؤثراً لأهل العلم، ولأبي القاسم محمد بن هانئ الأندلسي فيه من المدائح الفائقة ما يجاوز حسنها حد الوصف، وهو القائل فيه: المدنفان من البرية كلها ... جسمي وطرف بابلي أحور والمشرقات النيرات ثلاثة ... الشمس والقمر المنير وجعفر وأما القصائد الطوال فلا حاجة إلى ذكر شيء منها. وكان أبوه علي قد بنى المسيلة، وهي معروفة بهم إلى الآن، وكان بينه وبين زيري بن مناد جد المعز بن باديس إحن ومشاجرات أفضت إلى القتال، فتواقعا وجرت بينهما معركة عظيمة، فقتل زيري فيها ثم قام ولده بلكين - المقدم ذكره في حرف الباء - مقام أبيه، واستظهر على جعفر المذكور، فعلم أنه ليس له به طاقة، فترك بلاده ومملكته وهر إلى الأندلس، فقتل بها في سنة أربع وستين وثلثمائة، رحمه الله تعالى، وشرح حديثه يطول وهذا القدر خلاصته والمسيلة - بفتح الميم وكسر السين المهملة وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها لام مفتوحة ثم هاء ساكنة - وهي مدينة من أعمال الزاب. والزاب - بفتح الزاي وبعد الألف باء موحدة - كورة بإفريقية، وقد تقدم ذكر إفريقية.   (1) انظر بعض أخباره في ترجمة أخيه يحيى في الحلة السيراء 1: 305 وابن عذاري 2: 242 وأعمال الأعلام: 60 وفي خبر عودة جعفر إلى الأندلس انظر المقتبس (تحقيق الحجي) في صفحات متعددة منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 138 - (1) ابن قلاح الكتامي أبو علي جعفر بن فلاح الكتامي؛ كان أحد قواد المعز أبي تميم معد بن المنصور العبيدي صاحب إفريقية، وجهزه مع القائد جوهر - الآتي ذكره - لما توجه لفتح الديار المصرية، فلما أخذ مصر بعثه جوهر إلى الشام، فغلب على الرملة في ذي الحجة سنة ثمان وخمسين وثلثمائة ثم غلب على دمشق فملكها في المحرم سنة تسع وخمسين بعد أن قاتل أهلها، ثم أقام بها إلى سنة ستين ونزل إلى الدكة فوق نهر يزيد بظاهر دمشق، فقصده الحسن بن أحمد القرمطي المعروف بالأعصم، فخرج إليه جعفر المذكور وهو عليل فظفر به القرمطي فقتله وقتل من أصحابه خلقا كثيرا، وذلك في يوم الخميس لست خلون من ذي القعدة سنة ستين وثلثمائة، رحمه الله تعالى. وقال بعضهم: قرأت على باب قصر القائد جعفر بن فلاح المذكور بعد قتله مكتوبا: يا منزلاً عبث الزمان بأهله ... فأبادهم بتفرق (2) لا يجمع أين الذين عهدتهم بكمرة ... كان الزمان بهم يضر وينفع وكان جعفر المذكور رئيساً جليل القدرممدوحاً، وفيه يقول أبو القاسم محمد بن هانىء الأندلسي الشاعر المشهور: كانت مساءلة الركبان تخبرني ... عن جعفر بن فلاح أطيب الخبر   (1) ترجمة جعفر بن فلاح في الحلة السيراء 1: 304 واتعاظ الحنفا (في عدة مواضع) والإشارة إلى من نال الوزارة: 30 - 32 والبيان المغرب 1: 231 وصفحات متفرقة من الدرة المضية (ج: 6) . (2) أج وآيا صوفيا: بتشتت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 حتى التقينا فلا والله ما سمعت ... أذني بأحسن مما قد رأى بصري والناس يروون هذين البيتين لأبي تمام في القاضي أحمد بن أبي دواد، وهوغلط، لأن البيتين ليسا لأبي تمام، وهم يروونهما عن أحمد بن دواد وهو ليس بابن دواد، بل ابن أبي دواد، ولو قال ذلك لما استقام الوزن. 139 - ابن شمس الخلافة أبو الفضل جعفر بن شمس الخلافة أبي عبد الله محمد بن شمس الخلافة مختار الأفضل الملقب مجد الملك الشاعر المشهور؛ كان فاضلاً حسن الخط، وكتب كثيراً، وخطه مرغوب فيه لحسنه وضبطه، وله تواليف جمع فيها أشياء لطيفة دلت على جودة اختياره (1) ، وله ديوان شعر أجاد فيه، نقلت من خطه لنفسه: هي شدة يأتي الرخاء عقيبها ... وأسى يبشر بالسرور العاجل وإذا نظرت فإن بؤساً زائلاً ... للمرء خير من نعيم زائل وله أيضا في الوزير ابن شكر، وهو الصفي أبو محمد عبد الله بن علي، عرف بابن شكر، وزير الملك الكامل رحمهما الله تعالى: مدحتك ألسنة الأنام مخافةً ... وتشاهدت لك بالثناء الأحسن أترى الزمان مؤخرا في مدتي ... حتى أعيش إلى انطلاق الألسن هكذا أنشدنيهما بعض الأدباء المصريين، ثم وجدتهما في مجموع عتيق ولم يسم   (1) طبع له كتاب " الآداب " (القاهرة 1930) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 قائلهما، وطريقته في الشعر حسنة. [وله أيضا: أعط وإن فاتك [الثراء] ودع ... سبيل من ضن وهو مقتدر فكم غني بالناس عنه غنى ... وكم فقير إليه يفتقر وله أيضاً: كفي وعرضي إذا ما ... سألت عن أخباري هذا من الكاس كاسٍ ... وذا من العار عاري] وكانت ولادته في المحرم سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة، وتوفي في الثاني عشر من المحرم سنة اثنتين وعشرين وستمائة بالموضع المعروف بالكوم الأحمر ظاهر مصر، رحمه الله تعالى. والأفضلي - بفتح الهمزة وسكون الفاء وفتح الضاد المعجمة وبعدها لام - هذه النسبة إلى الأفضل أمير الجيوش بمصر. وتوفي والده في ذي الحجة سنة تسع وستين وخمسمائة، ومولده سنة عشرين وخمسمائة. 140 - (1) جعبر القشيري الأمير جعبر بن سابق القشيري الملقب سابق الدين الذي تنسب إليه قلعة جعبر؛ لم أقف على شيء من أحواله سوى أنه كان قد أسن وعمي، وكان له ولدان يقطعان الطريق ويخيفان (2) السبيل، ولم يزل على ذلك والقلعة بيده حتى   (1) انظر معجم البلدان: (جعبر) وقد سماه هنالك " جعبر بن مالك ". (2) هـ: ويخوفان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 أخذها منه السلطان ملك شاه بن ألب أرسلان السلجوقي الآتي ذكره، ثم قتل بعد ذلك في أوائل سنة أربع وستين وأربعمائة، رحمه الله تعالى. هكذا وجدته في بعض التواريخ وفي نفسي منه شيء، فإن السلطان ملك شاه ما ملك إلا بعد قتل أبيه ألب أرسلان، وأبوه قتل في سنة خمس وستين وأربعمائة - كما سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى - إلا إن كان قد تغلب على القلعة في حياة أبيه وهو نائبه، أو يكون تاريخ وفاة جعبر غلطا، وقد نبهت عليه لئلا يتوهم من يقف عليه أن الغلط كان مني، أو أنه مر بي ولم أتنبه له، فاعلم ذلك. ثم إني بعد هذا حققت هذا الأمر، فوجدته أن ملك شاه السلجوقي لما توجه إلى حلب ليأخذها اجتاز بهذه القلعة، وقتل جعبرا المذكور لما بلغه عنه من الفساد وأخذ القلعة، وقتل جعبرا المذكور لما بلغه عنه من الفساد وأخذ القلعة منه وسار إلى حلب وذلك في سنة تسع وسبعين وأربعمائة، ويقال لهذه القلعة: الدوسرية، وهي منسوبة إلى دوسر غلام النعمان بن المنذر ملك الحيرة، وكان قد تركه على أفواه الشام، فبنى هذه القلعة فنسبت إليه. والجعبر في اللغة: القصير الغليظ، وهو بفتح الجيم وسكون العين المهملة وبعدها باء موحدة مفتوحة ثم راء. 141 - (1) نصير الدين جقر أبو سعيد جقر بن يعقوب الهمذاني الملقب نصير الدين؛ كان نائب عماد الدين زنكي صاحب الجزيرة [الفراتية] والموصل والشام، استنابه عنه بالموصل، وكان جباراً عسوفاً سفاكاً للدماء مستحلاً للأموال، قيل: إنه لما أحكم عمارة سور الموصل أعجبه إحكامه، فناداه مجنون نداء عاقل: هل تقدر أن تعمل سوراً يسد طريق   (1) أخباره في صفحات متفرقة من التاريخ الباهر لابن الأثير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 القضاء النازل وفي ولايته قصد الإمام المسترشد حصار الموصل، فنازلها وضايقها مدة، وكان جقر المذكور قد حصنها وحفر خنادقها فقاتل الخليفة ورجع عنها ولم ينل منها مقصوداً (1) ، وذلك في شهر رمضان سنة سبع وعشرين وخمسمائة، وكان بالموصل فروخ شاه ابن السلطان محمود السلجوقي المعروف بالخفاجي. وذكر ابن الأثير في " تاريخ دولة بني أتابك " (2) أن الخفاجي صاحب هذه الواقعة هو ألب أرسلان بن محمود بن محمد لتربية عماد الدين زنكي أتابك - ولذلك سمي أتابك، فإنه [اللالا] الذي يربي أولاد الملوك، فالأتا بالتركية (3) هو الأب، وبك هو الأمير، فأتابك مركب من هذين المعنيين - وكان جقر يعارضه ويعانده في مقاصده، فلما توجه عماد الدين زنكي لمحاصرة قلعة البيرة قرر الخفاجي مع جماعة من أتباعه أن يقتلوا جقر، فحضر يوماً إلى باب الدارللسلام فنهضوا (4) إليه فقتلوه وذلك في الثامن، وقيل: يوم الحميس التاسع من ذي القعدة سنة تسع وثلاثين وخمسمائة (5) ، ولى عماد الدين زنكي موضع جقر زين الدين علي بن بكتكين والد مظفر الدين صاحب إربل، فأحسن السيرة وعدل في الرعية، وكان رجلاً صالحاً، رحمه الله تعالى. ولما عاد زنكي إلى الموصل استصفى أموال جقر واستخرج ذخائره وصادر أهله وأقاربه، وكان جقر قد ولى بالموصل رجلاً ظالماً يسمى بالقزويني، فسار سيرة قبيحة وكثر شكوى الناس منه، فعزله وجعل مكانه عمر بن شكلة فأساء في السيرة أيضا فعمل في ذلك أبو عبد الله الحسين بن أحمد بن محمد بن شقاقا الموصلي المتوفي سنة ثلاث وثلاثين وخمسائة: يا نصير الدين يا جقر ... ألف قزويني ولا عمر   (1) قال ابن الأثير (الباهر: 47) : وحفظها نصير الدين أحسن حفظ وقام فيها المقام المرضي ... فأقام الخليفة محاصراً لها نحواً من ثلاثة أشهر فلم يظفر بشيء. (2) الباهر: 71. (3) أد: فإن أنا بالتركية. (4) أج: فوثبوا. (5) هـ: سنة 537. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 لو رماه الله في سقر ... لاشتكت من ظلمه سقر وجقر: بفتح الجيم والقاف وبعدهما راء، وهو اسم أعجمي وأظنه كان مملوكا 142 - (1) جميل بثينة أبو عمر وجميل بن عبد الله بن معمر بن صباح - بضم الصاد المهملة - ابن ظبيان بن حن - بضم الحاء المهملة وتشديد النون - ابن ربيعة بن حرام بن صبة ابن عبد بن كثير بن عذرة بن سعد بن هديم بن زيد بن ليث بن سود بن أسلم ابن الحاف بن قضاعة الشاعر المشهور؛ صاحب بثينة أحد عشاق العرب، عشقها وعو غلام، لما كبر خطبها فرد عنها فقال الشعر فيها، وكان يأتيها سراً ومنزلهما وادي القرى، وديوان شعره مشهور فلا حاجة إلى ذكر شيء منه. ذكره الحافظ ابن عساكر في " تاريخ دمشق " وقال: قيل له: لو قرأت القرآن كا أعود عليك من الشعر، فقال: هذا أنس بن مالك رضي الله عنه أخبرني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن من الشعر حكمة ". وجميل وبثينة كلاهما من بني عذرة، وكانت بثينة تكنى أم عبد الملك، والجمال والعشق في بني عذرة كثير؛ قيل لأعرابي من العذريين: ما بال قلوبكم كأنها قلوب طير تنماث كما ينماث الملح في الماء أما تتجلدون فقال: إنا ننظر إلى محاجر أعين لا تنظرون إليها، وقيل لآخر: ممن أنت فقال: أنا من قوم إذا أحبوا ماتوا، فقالت جارية سمعته: هذا عذري ورب الكعبة. وذكر صاحب اغاني أن كثير عزة كان راوية جيمل، وجميل كان   (1) لجميل ترجمة في الأغاني 8: 90 والخزانة 1: 191 والسمط: 29 والمؤتلف: 72، 168 وتهذيب ابن عساكر 3: 195 والموشح: 198. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 راوية هدبة بن خشرم وهدبة راويةالحطيئة، والحطيئة راوية زهير بن أبي سلمى وابنه كعب بن زهير. ومن شعر جميل من جملة أبيات: وخبرتماني أن تيماء منزل ... لليلى إذا ما الصيف ألقى المراسيا فهذي شهور الصيف عنا قد انقضت ... فما للنوى ترمي بليلى المراميا ومن الناس من يدخل هذه الأبيات في قصيدة مجنون ليلى، وليست له وتيماء خاصة: منزل لبني عذرة، وفي هذه القصيدة يقول جميل: وما زلتم يابثن حتى لو انني ... من الشوق استبكي الحمام بكى ليا وما زادني الواشون إلا صبابة ... ولا كثرة الناهين إلا تماديا وما أحدث النأي المفرق بيننا ... سلوا ولا طول الليالي تقاليا ألم تعلمي يا عذبة الريق أنني ... أظل إذا لم ألق وجهك صاديا لقد خفت ان ألقى المنية بغتة ... وفي النفس حاجات إليك كما هيا وكان كثير عزة يقول: جميل والله أشعر العرب حيث يقول: وخبرتماني أن تيماء منزل ... لليلى إذا ما الصيف ألقى المراسيا ومن شعره: إني لأحفظ سركم ويسرني ... لو تعلمين بصالح أن تذكري ويكون يوم لا أرى لك مرسلا ... أو نلتقي فيه علي كأشهر يا ليتني أقلى المنية بغتة ... إن كان يوم لقائكم لم يقدر ومنها: يهواك ما عشت الفؤاد وإن أمت ... يتبع صداي صداك بين الأقبر ومنها: إني إليك بما وعدت لناظر ... نظر الفقير إلى الغني المكثر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 يقضي الديون وليس ينجز موعداً ... هذا الغريم لنا وليس بمعسر ما أنت والوعد الذي تعدينني ... إلا كبرق سحابة لم تمطر ومن شعره من جملة قصيدة: إذا قلت ما بي يا بثينة قاتلي ... من الوجد قالت ثابت ويزيد وإن قلت ردي بعض عقلي أعش به ... بثينة قالت ذاك منك بعيد ومن شعره أيضاً: وإني لأرضى من بثينة بالذي ... لو استيقن الواشي لقرت بلابله بلا وبألا أستطيع وبالمنى ... وبالأمل المرجو قد خاب آمله وبالنظرة العجلى وبالحول تنقضي ... أواخره لا نلتقي وأوائله وله أيضاً: وإني لأستحيي من الناس أن أرى ... رديفاً لوصل أو علي رديف وأشرب رنقا منك بعد مودة ... وأرضى بوصل منك وهو ضعيف وإني للماء المخالط للقذى ... إذا كثرت وراده لعيوف وله من أبيات أيضاً: بعيد على من ليس يطلب حاجةً ... وأما على ذي حاجة فقريب بثينة قالت يا جميل أريتني ... فقلت كلانا يابثين مريب وأريبنا من لا يؤدي أمانة ... ولا يحفظ الأسرار حين يغيب وقال كثير عزة: لقيني مرة جميل بثينة فقال: من أين أقبلت فقلت: من عند أبي الحبيبة، يعني بثينة، فقال: وإلى أين تمضي قلت إلى الحبيبة، يعني عزة، فقال: لا بد أن ترجع عودك على بدئك فتتخذ لي موعداً من بثينة، فقلت: عهدي بها الساعة، وأنا أستحيي أن أرجع، فقال لابد من ذلك، فقلت: متى عهدك ببثينة فقال: من أول الصيف، وقعت سحابة بأسفل وادي الدوم فخرجت ومعها جارية لها تغسل ثيابا، فلما أبصرتني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 أنكرتني، فضربت يدها إلى الثوب في الماء بالتحفت به، وعرفتني الجارية فأعادت الثوب إلى الماء، وتحدثنا ساعة حتى غابت الشمس، فسألتها الموعد فقالت: أهلي سائرون، ولا لقيتها بعد ذلك، ولا وجدت أحدا آمنه فأرسله إليها، فقال له كثير: فهل لك أن آتي الحي فأتعرض بأبيات شعر أذكر فيها هذه العلامة إن لم أقدر على الخلوة بها قال: وذاك الصواب، فخرج كثير حتى أناخ بهم، فقال له أبوها: ما ردك يا ابن أخي قال: قلت أبياتا عرضت فأحببت أن أعرضها عليك، قال: هاتها، فأنشدته وبثينة تسمع: فقلت لها يا عز أرسل صاحبي ... إليك رسولاً والرسول موكل بأن تجعلي بيني وبينك موعداً ... وأن تأمريني بالذي فيه أفعل وآخر عهدي منك يوم لقيتني ... بأسفل وادي الدوم والثوب يغسل قال: فضربت بثينة جانب خدرها وقالت: أخسأ اخسأ، فقال لها أبوها: مهيم با بثينة فقالت كلب يأتينا إذا نوم الناس من وراء الرابية، ثم قالت للجارية: ابغينا من الدومات حطبا لنذبح لكثير شاة ونشويها له، فقال كثير: أنا أعجل من ذلك، وراح إلى جميل فأخبره، فقال جميل: الموعد الدومات. وخرجت بثينة وصواحبها إلى الدومات، وجاء جميل وكثير إليهن، فما برحوا حتى برق الصبح، فكان كثير يقول: ما رأيت مجلسا قط أحسن من ذلك المجلس، ولا مثل علم أحدهما بضمير الأخر، ما أدري أيهما كان أفهم (36) *. وقال الحافظ أبو القاسم المعروف بابن عساكر في تاريخه الكبير: قال أبو بكر محمد بن القاسم الأنباري: أنشدني أبي هذه الأبيات لجميل بن معمر قال: وتروى لغيره أيضاً، وهي (1) : ما زلت أبغي الحي أتبع فلهم ... حتى دفعت إلى ربيبة هودج   (1) هي في ديوان عمر بن أبي ربيعة: 73. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 فدنوت مختفيا ألم بيتها ... حتى ولجت إلى خفي المولج فتناولت رأسي لتعرف مسه ... بمخضب الأطراف غير مشنج قالت: وعيش أخي ونعمة والدي ... لأنبهن القوم إن لم تخرج فخرجت خيفة قولها فتبسمت ... فعلمت (1) أن يمينها لم تلجج فلثمت فاهاً آخذاً بقرونها ... شرب النزيف ببرد ماء الحشرج قال هارون بن عبد الله القاضي: قدم جميل بن معمر مصر على عبد العزيز ابن مروان ممتدحاً له، فأذن له وسمع مدائحه وأحسن جائزته، وسأله عن حبه بثينة فذكر وجدا كثيراً، فوعده فيأمرها وأمره بالمقام وأمر له بمنزل وما يصلحه، فما أقام إلا قليلاً حتى مات هناك في سنة اثنتين وثمانين. وذكر الزبير بن بكار عن عباس بن سهل الساعدي قال: بينما أنا بالشام إذ لقيني رجل من أصحابي فقال: هل لك في جميل فإنه يعتل نعوده فدخلنا عليه وهو يجود بنفسه، فنظر إلي وقال: يا ابن سهل، ما تقول في رجل لم يشرب الخمر قط ولم يزن ولم يقتل النفس ولم يسرق يشهد أن ىإله إلا الله قلت: أظنه قد نجا وأرجوا له الجنة، فمن هذا الرجل قال: أنا، قلت له: والله ما أحسبك سلمت وأنت تشبب منذ عشرين سنة ببثينة، قال: لا نالتني شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم وإني لفي أول يوم من أيام الآخرة وآخر يوم من أيام الدنيا إن كنت وضعت يدي عليها لريبة، فما برحنا حتى مات. وقال محمد بن أحمد بن جعفر الأهوازي: مرض جميل بمصر مرضه الذي مات فيه، رحمه الله تعالى، فدخل عيه العباس بن سهل الساعدي، وذكر هذه الحكاية، والله أعلم بالصواب. وذكر في " الأغاني " عن الأصمعي قال: حدثني رجل شهد جميلاً لما حضرته الوفاة بمصر أنه دعا به فقال له: هل لك أن أعطك كل ما أخلفه على أن تفعل شيئاً أعهده إليك قال: فقلت: اللهم نعم، فقال: إذا أنا مت   (1) هـ: فعرفت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 فخذ حلتي هذه واعزلها جانباً، وكل شيء سواها لك، وارحل إلى رهط بثينة، فإذا صرت إليهم فارتحل ناقتي هذه وركبها، ثم ألبس حلتي هذه واشققها، ثم اعل على شرف وصح بهذه الأبيات وخلاك ذم: صرخ النعي وما كنى بجميل ... وثوى بمصر ثواء غير قفول ولقد أجر البرد في وادي القرى ... نشوان بين مزارع وتخيل قومي بثينة فاندبي بعويل ... وابكي خليلك دون كل خليل قال: ففعلت ما أمرني به جميل، فما استتمت الأبيات حتى برزت بثينة كأنها بدر قد بدا في دجنة وهي تتثنى في مرطها حتى أتتني وقالت: يا هذا، والله إن كنت صادقا لقد قتلتني، وإن كنت كاذبا لقد فضحتني، قلت: والله ما أنا إلا صادق، وأخرجت حلته، فلما رأتها صاحت بأعلى صوتها وصكت وجهها، واجتمع نساء الحي يبكين معها ويندبنه حتى صعقت. فمكثت مغشيا عليها ساعة ثم قامت وهي تقول: وإن سلوي عن جميل لساعة ... من الدهر ما حانت ولا حان حينها سواء علينا يا جميل بن معمر ... إذا مت بأساء الحياة ولينها وقد تقدم ذكر هذين البيتين في ترجمة الحافظ أبي طاهر أحمد السلفي (1) ، قال الرجل: فما رأيت أكثر باكياً ولا باكية من يومئذ.   (1) انظر ما سبق ص: 106. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 143 - (1) جنادة الهروي أبو أسامة جنادة بن محمد اللغوي الأزدي الهروي؛ كان مكثرا من حفظ اللغة ونقلها، عارفاً بوحشيها ومستعملها، لم يكن في زمنه مثله في فنه، وكان بينه وبين الحافظ عبد الغني بن سعيد المصري وأبي الحسن علي بن سليمان المرىء النحوي الأنطاكي مؤانسة واتحاد كثير، وكانوا يجتمعون في دار العلم وتجري بينهم مذاكرت ومفاوضات في الآداب، ولم يزل ذلك دأبهم حتى قتل الحاكم صاحب مصر أبا أسامة جنادة وأبا الحسن المقرئ الأنطاكي المذكورين في يوم واحد، وهو في ذي القعدة سنة تسع وتسعين وثلثمائة، رحمهما الله تعالى، واستتر بسبب قتلهما الحافظ عبد الغني المذكور خوفاً على نفسه من مثل ذلك، حكى ذلك الأمير المختار المعروف بالمسبحي في تاريخه. والهروي - بفتح الها والراء وبعدها واو وياء - هذه النسبة إلى هراة وهي من أعظم مدن خراسان. وجنادة - بضم الجيم وفتح النون وبعد الألف دال مهملة مفتوحة ثم هاء ساكنة.   (1) ترجمة جنادة الهروي في معجم الأدباء 7: 209 وبغية الوعاة: 213. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 144 - (1) الجنيد الصوفي أبو القاسم الجنيد بن محمد بن الجنيد الخزاز القواريري، الزاهد المشهور؛ أصله من نهاوند، ومولده ومنشؤه العراق، وكان شيخ وقته وفريد عصره، وكلامه في الحقيقة مشهور مدون، وتفقه على أبي ثور صاحب الإمام الشافعي رضي اله عنهما، وقيل: بل كان فقيها على مذهب سفيان الثوري رضي الله عنه. وصحب خاله السري السقطي والحارث المحاسبي وغيرهما من جلة المشايخ رضي الله عنهم. وصحبه أبو العباس ابن سريج الفقيه الشافعي، وكان إذا تكلم في الأصول والفروع بكلام أعجب الحاضرين فيقول لهم: أتدرون من أين لي هذا هذا من بركة مجالستي أبا القاسم الجنيد، وسئل الجنيد عن العارف فقال: من نطق عن سرك وأنت ساكت، وكان يقول: مذهبنا هذا مقيد بالأصول والكتاب والسنة (2) . وحضر الجنيد موضعا فيه قوم يتواجدون على سماع يسمعونه وهو مطرق، فقيل له: أبا القاسم، ما نراك تتحرك! فقال (وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب، صنع الله) . ورئي يوماً وفي يده سبحة، فقيل له: أنت مع شرفك تأخذ في يدك سبحة فقال: طريق وصلت به إلى ربي لا أفارقه. وقال الجنيد: قال لي خالي سري السقطي: تكلم على الناس، وكان في قلبي حشمة من الكلام على الناس، فإني كنت أتهم نفسي في استحقاقي ذلك، فرأيت ليلة في المنام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت ليلة جمعة، فقال لي: تكلم على الناس، فانتبهت، وأتيت باب السري قبل أن أصبح، فدققت   (1) ترجمة الجنيد في ابن الأثير 8: 62 وحلية الأولياء 10: 255 وصفة الصفوة 2: 235 وتاريخ بغداد 7: 241 وطبقات أبي يعلى: 89 وطبقات السبكي 2: 28. (2) في نسخة آيا صوفيا: مقيد بالأصلين: الكتاب والسنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 الباب فقال لي: لم تصدقنا حتى قيل لك، فقعدت في غد الناس بالجامع وانتشر في الناس أن الجنيد قعد يتكلم على الناس، فوقف علي غلام نصراني متنكراً وقال: أيها الشيخ، ما معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم اتقوا فراسة المؤمن فإنه بنور الله فأطرقت ثم رفعت رأسي وقلت: أسلم فقد حان وقت إسلامك، فأسلم الغلام. وقال الشيخ الجنيد: ما انتفعت بشيء انتفاعي بأبيات سمعتها، قيل له: وما هي قال: مررت بدرب القراطيس فسمعت جارية تغني من دار فأنصت لها فسمعتها تقول: إذا قلت أهدى الهجر لي حلل البلى ... تقولين لولا الهجر لم يطب الحب وإن قلت هذا القلب أحرقه الهوى ... تقولي بنيران الهوى شرف القلب وإن قلت ما أذنبت قلت مجبية ... حياتك ذنب لا يقاس به ذنب فصعقت وصحت، فبينما أنا كذلك إذا بصاحب الدار قد خرج فقال: ما هذا يا سيدي فقلت له: مما سمعت، فقال: أشهدك أنها هبة من يلك، فقلت: قد قبلتها وهي حرة لوجه الله تعالى، ثم زوجتها لبعض أصحابنا بالرباط فولدت له ولداً نبيلاً، ونشأ أحسن نشوء، وحج على قدميه ثلاثين حجة على الوحدة. وآثاره كثيرة مشهورة. وتوفي يوم السبت - وكان نيروز الخليفة - سنة سبع وتسعين ومائتين، وقيل: سنة ثمان وتسعين آخر ساعة من نهار الجمعة ببغداد، ودفن يوم السبت بالشونيزية عند خاله سري السقطي، رضي الله عنهما. وكان عند موته - رحمه الله تعالى - قد ختم القرآن الكريم ثم ابتدأ في البقرة فقرأ سبعين آية، ثم مات. [قال محمد بن إبراهيم: رأيت الجنيد في المنام فقلت له: ما فعل الله بك قال: طاحت تلك الإشارات وغابت تلك العبارات وفنيت تلك العلوم ونفدت تلك الرسوم وما نفعنا إلا ركعات كنا نركعها في الأسحار] . وإنما قيل له " الخزار " لأنه كان يعمل الخز، وإنما قيل له القواريري لأن أباه كان قواريرياً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 والخزار: بفتح الخاء المعجمة وتشديد الزاي وبعد الألف زاي ثانية. والقواريري: بفتح القاف والواو وبعد الألف راء مكسورة ثم ياء مثناة من تحتها ساكنة وبعدها راء ثانية. ونهاوند - بفتح النون وقال السمعاني: بضم النون وفتح الهاء وبعد الألف واو مفتوحة ثم نون ساكنة وبعدها دال مهملة - وهي مدينة من بلاد الجبل، قيل: إن نوحا عليه السلام بناها، وكان اسمها نوح أوند، ومعنى أوند بنى فعربوها فقالوا: نهاوند. والشونيزية - بضم الشين المعجمة وسكون الواو وكسر النون وسكون الياء المثناة من تحتها وفي آخرها زاي - وهي مقبرة مشهورة ببغداد بها قبور جماعة من المشايخ (1) ، رضي الله عنهم، بالجانب الغربي. 145 - (2) جوهر الصقلي القائد أبو الحسن جوهر بن عبد الله، المعروف بالكاتب، الرومي؛ كان من موالي المعز بن المنصور بن الققائم بن المهدي صاحب إفريقية، وجهزه إلى الديار المصرية ليأخذها بعد موت الأستاذ كافور الإخشيدي، وسير معه العساكر، وهو المقدم، وكان رحيله من إفريقية يوم السبت رابع عشر شهر ربيع الأول سنة ثمان وخمسين وثلثمائة، وتسلم مصر يوم يوم الثلاثاء لآثنتي عشرة ليلة بقيت من شعبان من السنة المذكورة، وصعد المنبر خطيبا بها يوم الجمعة لعشر بقين من شعبان ودعا لمولاه المعز، فأقيمت الدعوة للمعز [في الجامع   (1) أج: من الشهداء. (2) أخبار جوهر الصقلي في اتعاظ الحنفا والدرة المضية وابن الأثير وابن خلدون، وخطط المقريزي والنجوم الزاهرة 4: 28 وتهذيب ابن عساكر 3: 416 وغيرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 العتيق، وسار جوهر إلى جامع ابن طولون وأمر بأن يؤذن فيه بحي على خير العمل وهو أول ما أذن؛ ثم أذن بعده بالجامع العتيق وجهر في الصلاة ببسم الله الرحمن الرحيم. ولما استقر جوهر بمصر شرع في بناء القاهرة وسير عسكراً إلى دمشق وغزاها فملكها] . ووصلت البشارة إلى مولاه المعز بأخذ البلاد وهو بإفريقية في نصف شهر رمضان المعظم من السنة المذكورة، ويدعوه إلى المسير ليه، ففرح فرحاً شديداً، ومدحه الشعراء فمن ذلك محمد بن هانئ الأندلسي من قصيدة: يقول بنو العباس قد فتحت مصر ... فقل لبني العباس قد قضي الأمر وقد جاوز الإسكندرية جوهر ... تطالعه البشرى ويقدمه النصر وأقام بها حتى وصل إليه مولاه المعز وهو نافذ الأمر، واستمر على علو منزلته وارتفاع درجته متولياً للأمور إلى يوم الجمعة سابع عشر المحرم سنة أربع وستين، فعزله المعز عن دواوين مصر وجباية أموالها والنظر في أحوالها، وكان محسناً إلى الناس، إلى أن توفي يوم الخميس لعشر بقين من ذي القعدة سنة إحدى وثمانين وثلثمائة، رحمه الله تعالى، وكانت وفاته بمصر، ولم يبق بها شاعر إلا رثاه وذكر مآثره. وكان سبب إنفاذ ملاه المعز له إلى مصر أن كافوراً الإخشيدي الخادم - الآتي ذكره في حرف الكاف - لما توفي استقر الرأي بين أهل الدولة أن تكون الولاية أحمد بن علي بن الإخشيد، وكان صغير السن، على أن يخلفه ابن عم أبيه أبو محمد الحسين بن عبد الله بن طغج، وعلى أن تدبير الرجال والجيش إلى شمول الإخشيدي، وتدبير الأموال إلى أبي الفضل جعفر بن الفرات الوزير، وذلك يوم الثلاثاء لعشر بقين من جمادى الولى سنة سبع وخمسين وثلثمائة، ودعي لأحمد بن علي بن الإخشيد على المنابر بمصر وأعمالها والشامات والحرمين، وبعده للحسين بن عبد الله، ثم إن الجند اضطربوا لقلة الأموال وعدم الاتفاق فيهم - كما ذكرناه في ترجمة جعفر بن الفرات المقدم ذكره - فكتب جماعة من وجوههم إلى المعز بإفريقية يطلبون منه إنفاذ العساكر ليسلموا له مصر، فأمر القائد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 جوهراً المذكور بالتجهز إلى الديار المصرية، واتفق أن جوهرا مرض مرضاً شديداً أيس منه فيه، وعاده مولاه المعز فقال: هذا لا يموت، وستفتح مصر على يديه، واتفق إبلاله من المرض، وقد جهز له كل ما يحتاج إليه من المال والسلاح والرجال، فبرز بالعساكر في موضع يقال له الرقادة ومعه أكثر من مائة ألف فارس، ومعه أكثر من ألف ومائتي صندوق من المال، وكان المعز يخرج إليه كل يوم ويخلو به ويوصيه، ثم تقدم إليه بالمسير وخرج لوداعه، فوقف جوهر بين يديه والمعز مككئاً على فرسه يحدثه سرا زمانا، ثم قال لأولاده: انزلوا لوداعه، فنزلوا عن خيولهم، ونزل أهل الدولة لنزولهم، ثم قبل جوهر يد المعز وحافر فرسه، فقال له: اركب، فركب وسار بالعساكر، ولما رجع المعز إلى قصره أنفذ لجوهر ملبوسه وكل ما كان عليه سوى خاتمه وسراويله، وكتب المعز إلى عبده أفلح صاحب برقة أن يترجل للقائد جوهر ويقبل يده عند لقائه، فبذل أفلح مائة ألف دينار على أن يعفى من ذلك، فلم يعف، وفعل ما أمر به عند لقائه لجوهر. ووصل الخبر إلى مصر بوصولهم، فاضطرب أهلها، واتفقوا مع الوزير جعفر بن الفرات على المراسلة في الصلح وطلب الأمان وتقرير أملاك أهل البلد عليهم، وسألوا أبا جعفر مسلم بن عبد الله الحسيني أن يكون سفيرهم فأجابهم، وشرط أن يكون معه جماعة من أهل البلد، وكتب الوزير معهم أيضا بما يريد، وتوجهوا نحو القائد جوهر يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة بقيت من رجب سنة ثمان وخمسين وثلثمائة، وكان جوهر قد نزل في تروجة - وهي قرية القرب من الإسكندرية - فوصل إليه الشريف بمن معه وأدى إليه الرسالة، فأجابه إلى ما التمسوه، وكتب له جوهر عهدا بما طلبوه، واضطرب البلد اضطراباً شديداً، وأخذت الإخشيدية والكافورية وجماعة من العسكر الأهبة للقتال، وستروا ما في دورهم وأخرجوا مضاربهم ورجعوا عن الصلح، وبلغ ذلك جوهرا فرحل إليهم، وكان الشريف قد وصل بالعهد والأمان في سابع شعبان، فركب إليه الوزير والناس واجتمع عند الجند فقرأ عليهم العهد، وأوصل إلى كل واحد جواب كتابه بما أراد من الإقطاع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 والمال والولاية، وأوصل إلى الوزير جواب كتابه وقد خوطب فيه بالوزير، فجرى فصل طويل في المشاجرة والامتناع، وتفرقوا عن غير رضى، وقدموا عليهم نحريراً الشوبزاني (1) ، وسلموا عليه بالإمارة، وتهيأوا للقتال، وساروا العساكر نحو الجيزة ونزلوا بها وحفظوا الجسور. ووصل القائد جوهر إلى الجيزة (2) ، وابتدئ بالقتال في الحادي عشر من شعبان، وأسرت رجال وأخذت خيل، ومضى جوهر إلى منية الصيادين، وأخذ المخاضة بمنية شلقان (3) ، واستأمن إلى جوهر جماعة من العسكر في المراكب وجعل أهل مصر على المخاضة من يحفظها، فلما رأى ذلك جوهر قال لجعفر بن فلاح: لهذا اليوم أرادك المعز، فعبر عريانا في سراويل وهو في مركب ومعه الرجال خوضا حتى خرجوا إليهم، ووقع القتال، فقتل خلق كثير من الإخشيدية وأتباعهم، وانهزمت الجماعة في الليل، ودخلوا مصر وأخذوا من دورهم ماقدروا عليه وانهزموا وخرج حرمهم (4) مشاة ودخلن على الشريف أبي جعفر في مكاتبة القائد بإعادة الأمان، فكتب إليه يهنئه بالفتح ويسأله (5) إعادة الأمان، وجلس الناس عنده ينتظرون الجواب، فعاد إليه بأمانهم، وحضر رسوله ومعه بند أبيض وطاف على الناس يؤمنهم ويمنع من النهب، فهدأ البلد وفتحت الأسواق وسكن الناس كأن لم تكن فتنة. فلما كان آخر النهار ورد رسوله إلى أبي جعفر بأن تعمل على لقائي يوم الثلاثاء لسبع عشرة ليلة تخلو من شعبان بجماعة الأشراف والعلماء ووجوه البلد (6) ، فانصرفوا متأهبين لذلك، ثم خرجوا ومعهم الوزير جعفر وجماعة الأعيان إلى الجيزة، والتقوا بالقائد، ونادى مناد: ينزل الناس كلهم إلا الشريف والوزير، فنزلوا وسلموا عليه واحداً واحداً، والوزير عن شماله والشريف عن يمينه، ولما   (1) هـ: الشونيزاني. (2) د هـ: الجزيرة. (3) أ: سلقان. (4) د: حريمهم. (5) ب: وسأله. (6) هـ: وبياض البلد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 فرغوا من السلام ابتدأوا في دخول البلد، فدخلوا من زوال الشمس وعليهم السلاح والعدد، ودخل جوهر بعد العصر وطبوله. وبنوده بين يديه، وعليه ثوب ديباج مثقل، وتحته فرس أصفر (1) ، وشق مصر، ونزل في مناخه موضع القاهرة اليوم، واختط موضع القاهرة. ولما أصبح المصريون حضروا إلى القائد للهناء، فوجدوه قد حفر أساس القصر في الليل، وكان فيه زورات جائت غير معتدلة فلم تعجبه، قم قال: حفرت في ساعة سعيدة فلآ أغيرها، وأقام عسكره يدخل إلى البلد سبعة أيام أولها الثلاثاء المذكور، وبادر جوهر بالكتاب إلى مولاه المعز يبشره بالفتح وأنفذ إليه رؤوس القتلى في الوقعة، وقطع خطبة بني العباس عن منابر الديار المصرية، وكذلك اسمهم من على السكة، وعرض عن ذلك باسم مولاه المعز، وأزال الشعار الأسود، وألبس الخطباء الثياب البيض، وجعل يجلس بنفسه في كل يوم سبت للمظالم بحضرة الوزير والقاضي وجماعة من أكابر الفقهاء. وفي يوم الجمعة الثامن من ذي القعدة أمر جوهر بالزيادة عقيب (2) الخطبة اللهم صل على محمد المصطفى، وعلى علي المرتضى، وعلى فاطمة البتول، وعلى الحسين سبطي الرسول، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، واللهم صل على الأئمة الطاهرين آباء أمير المؤمنين. وفي يوم الجمعة ثامن عشر (3) ربيع الآخر سنة تسع وخمسين صلى القائد في جامع ابن طولون بعسكر كثير، وخطب عبد السميع بن عمر العباسي الخطيب، وذكر أهل البيت وفضائلهم، رضي الله عنهم، ودعا للقائد، وجهر القراءة ببسم الله الرحمن الرحيم، وقرأ سورة الجمعة والمنافقين في الصلاة، وأذن بحي على خير العمل وهو أول من أذن به بمصر، ثم أذن به في سائر المساجد، وقنت الخطيب في صلاة الجمعة. وفي جمادى الأولى من السنة أذنوا في جامع مصر العتيق بحي على خير العمل   (1) د: اشقر. (2) أ: بعد؛ د: عقب. (3) د هـ: ثامن شهر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 وسر القائد جوهر بذلك، وكتب إلى المعز وبشره بذلك، ولما دعا الخطيب على المنبر للقائد جوهر أنكر عليه وقال: ليس هذا رسم موالينا. وشرع في عمارة الجامع بالقاهرة، وفرغ من بنائه (1) في السابع (2) من شهر رمضان سنة إحدى وستين، وجمع فيه الجمعة. قلت: وأظن هذا الجامع هو المعروف بالأزهر بالقرب من باب البرقية، بينه وبين باب النصر، مشهور بالحاكم الآتي ذكره. وأقام جوهر مستقلاً (3) بتدبير مملكة مصر قبل وصول مولاه المعز إليها أربع سنين وعشرين يوما، ولما وصل المعز إلى القاهرة - كما هو في ترجمته - خرج جوهر من القصر إلى لقائه، ولم يخرج معه شيئاً من آلته سوى ما كان عليه من الثياب، ثم لم يعد إليه، ونزل في داره بالقاهرة، وسيأتي أيضاً طرف من خبره في ترجمة مولاه المعز، إن شاء الله تعالى. وكان ولده الحسين قائد القواد للحاكم صاحب مصر، وكان قد خاف على نفسه من الحاكم، فهرب هو وولده وصهره القاضي عبد العزيز بن النعمان، وكان زوج أخته، فأرسل الحاكم من ردهم وطيب قلوبهم وآنسهم مدة مديدة ثم حضروا إلى القصر بالقاهرة للخدمة، فتقدم الحاكم إلى راشد الحقيقي (4) - وكان سيف النقمة - فاستصحب عشرة من الغلمان الأتراك، وقتلوا الحسين وولده وصهره القاضي، وأحضروا رأسيهما إلى بين يدي الحاكم، وكان قتلهم في سنة إحدى وأربعمائة، رحمهم الله تعالى، وقد تقدم خبر الحسين في ترجمة برجوان.   (1) أ: بنيانه. (2) أهـ: في السابع عشر. (3) ب هـ: مستقراً. (4) ج: الحنيفي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 146 - (1) جهاركس الصلاحي أبو المنصور جهاركس بن عبد الله الناصري الصلاحي الملقب فخر الدين؛ كان من كبراء أمراء الدولة الصلاحية، وكان كريما نبيل القدر عالي الهمة، بنى بالقاهرة القيسارية الكبرى المنسوبة إليه، رأيت جماعة من التجار الذين طافوا البلاد يقولون: لم نر في شيء من البلاد مثلها في حسنها وعظمها وإحكام بنائها، وبنى بأعلاها مسجدا كبيرا وربعا معلقا؛ وتوفي في بعض شهور سنة ثمان وستمائة بدمشق، ودفن في جبل الصالحية، وتربته مشهورة هناك، رحمه الله تعالى. وجهاركس - بكسر الجيم وفتح الهاء وبعد الألف راء ثم كاف مفتوحة ثم سين مهملة - وعناه بالعربي أربعة أنفس، وهو لفظ عجمي معربه أستار والأستار أربع أواقي، وهو معروف به.   (1) انظر صفحات متفرقة من مفرج الكروب (ج: 3) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 فراغ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 مُلحقات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 فراغ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 أ - زيادات نسخة د عند وستنفيلد فيما يلي الزيادات التي ألحقها وستنفيلد بطبعته لوفيات الأعيان آخذاً عن نسخة د عنده، وأرقامها المتسلسلة هنا هي أرقامها في متن هذا المجلد في المواضع المبينة صفحاتها في رأس كل زيادة. وقد وافقت هذه النسخة في بعض زياداتها غيرها من نسه هذا الكتاب، فأشرنا إلى ذلك في الحاشية. (1) (ترجمة إبراهيم بن المهدي، رقم: 9، ص: 40، س: 6) فقلد إبراهيم على بلاد الكوفة والسواد وخطب له على المنابر ونزل بعساكره على مدائن كسرى ثم رجع إلى بغداد وأقام بها والحسن بن سهل مقيم في حدود وساط خليفة عن المأمون والمأمون إذ ذاك ببلاد خراسان مقيم؛ ولم يزل إبراهيم ابن المهدي مقيماً ببغداد على أمره يدعى بأمير المؤمنين ويخطب له على منابر العرق إلى أن وصل المأمون من خراسان متوجهاً إلى العراق، وقد توفي علي ابن موسى الرضا، فلما أشرف المأمون من العرق وقرب من بغداد ضعف إبراهيم، وقصرت يده عن بذل الأموال، وتفرق الناس عنه، ولم يزل على ذلك إلى أن صلى عيد الأضحى من سنة 203 ثم عاد من الصلاة إلى قصر الرصافة وأطعم الناس طعام العيد ومضى من يومه إلى داره إلى آخر النهار، ثم خرج منها ليلاً فاستتر وانتقض أمره، وأقام في استتاره ست سنين وأربعة أشهر وعشرة أيام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 (2) (ترجمة إبراهيم بن المهدي، رقم: 9، ص: 41، س: 9) (1) وكان المأمون لما دخل بغداد اختفى عمه [إبراهيم] المذكور والفضل بن الربيع فجد المأمون في طلبهما، فأما إبراهيم فإنه أخذ لثلاث عشرة ليلة خلت من ربيع الآخر سنة 210 ليلاً وهو منتقب بيت امرأتين في زي امرأة، أخذه حارس فدفع إليه إبراهيم من إصبعه خاتماً له قدر عظيم، فلما رأى الحارس الخاتم وعليه فص ياقوت واستراب بالنسوة وحسر عن وجه إبراهيم فرأى لحيته فرفعه إلى صاحب الجسر وحمل إلى دار المأمون فأمر أن يقعد على هيئته إلى غد ليراه بنو هاشم والقواد والجند، وصيروا المقنعة التي كان منتقباً بها في عنقه والملحفة في صدره ليراه الناس كيف أخذ في حول إلى منزل أحمد بن أبي خالد فحبس عنده وبقي إلى أن دخل المأمون ببوران بفم الصلح فأم بحمل إبراهيم [بن المهدي] خلفه، فلما كان في الليلة التي دخل المأمون على بوران فيها وجلس المأمون معها يحادثها وهما على حصير ذهب، نثرت جدتها عليها ألف درة كبار كانت في صينية ذهب، فتناثر الدر على الحصير فلما رآه المأمون قال: قاتل الله أبا نواس كأنه حاضر هذا [المجلس] في قوله: كأن صغري وكبري من فواقعها ... حصباء درٍ على أرض من الذهب فأمر المأمون بجمعه فجمع ووضعه في حجرها وقال لها: هذه نحلتك فسلي حاجتك، فأمسكت فقالت لها جدتها: كلمي سيدك ومولاك وسليه حوائجك فقد أمرك، فسألته الرضى عن إبراهيم المذكور، فقال: قد فعلن، وسألته الإذن لأم جعفر زبيدة أم الأمين في الحج فأذن لها، فلما كان من الغد دعا إبراهيم فلما دخل عليه قال: هيه يا إبراهيم، فقال: يا أمير المؤمنين ولي الثأر   (1) وردت هذه الزيادة أيضاً في نسخة آيا صوفيا: 6 أ - 7 ب وما وضع بين معقفين فيها هو إضافة من هذه النسخة على نسخة د. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 محكم في القصاص والعفو أقر للتقوى، وقد جعلك الله فوق كل ذي ذنب كما جعل ذي ذنب دونك، فإن تعاقب فبحقك وإن تعف فبفضلك، قال: بل أعفو يا إبراهيم، فكبر وسجد ورفع رأسه قائلاً يمدح المأمون: يا خير من زملت إليه مطية ... بعد الرسول لآيس ولطامع من جملتها: فعفوت عن من لم يكن عن مثله ... عفو ولم يشفع إليك بشافع إلا العلو عن العقوبة بعدما ... ظفرت يداك بمسكتين خاضع فرحمت أطفالاً كأفراخ القطا ... وعويل عانسة كقوس النازع الله يعلم ما أقول فإنها ... جهد الألية من حنيف راكع ما إن عصيتك والغواة تمدني ... أسبابها إلا بنية طايع [إن الذي قسم الخلافة حازها ... في صلب آدم للإمام السابع] فذكر أن المأمون قال حين أنشده هذه القصيدة: أقول كما قال يوسف لأخوته (لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين) . وقيل إن المأمون استشار أصحابه في إبراهيم [بن المهدي] فأشار كل واحد بما حضره فأقبل على الحسن بن سهل فقال له: ما تقول أنت قال: يا أمير المؤمنين إن عاقبت فلك نظير وإن صفحت فلا نظير لك، فعفا عنه. وكان المأمون أرسل إلى شكلة أم إبراهيم يتوعدها [بالقتل] فأرسلت إليه: إني من أمهاتك فإن كان ابني عصى الله فيك فلا تعصه فيّ. وأما الفضل بن الربيع فسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى في ترجمته في حرف الفاء. وكان إبراهيم المذكور قد ترك الغناء آخر عمره وذلك أنه قال: كنت يوماً عند الرشيد في مجلس خلوة لم يحضره إلا جعفر بن يحيى البرمكي فبكى فقلت: يا أمير المؤمنين لا أبكى الله عينك، فقال: أنت أبكيتني يا إبراهيم لأنك مع كمالك وأدبك ومعرفتك قد اشتهرت بالغناء واخترته ولزمته حتى عطلت ما يسمو إليه مثلك وكأني بك غداً وقد ملك بعض ولد أخيك فأمرك ونهاك وامتهنك في الغناء وإنما امتهن المهدي بك؛ قال: فلما كان في أيام المعتصم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 حضر يوماً منها مجلسه وكان الإفشين حاضراً، فلما أرادوا الانصراف قال الإفشين: يا أمير المؤمنين جعلني الله فداك تطول على عبدك بالتقدم إلى الندماء أن يكونوا غداً عندي، فأمرهم المعتصم بالمسير إليه، فقال: ويجيبني سيدي إبراهيم، قال: يا عم أجبه، فصار إليه إبراهيم من غد وبكر عليه الندماء جميعاً فسر وشرب حتى سكر وكان طاغياً شديد العربدة لجوجاً فلما عمل فيه الكسر قال: يا إبراهيم غنيني صوتك الذي فيه مو مو، قال: لا أعرف هذا الصوت، قال: تغني والله أبداً كل شيء تحسنه حتى يمر هذا الصوت، قال: فغنى أصواتاً كثيرة وإلى بينها والإفشين ساكت ضارب بذقنه على صدره، ثم خطر ببال إبراهيم قول الرشيد وبكاؤه وإشفاقه عليه فغنى متفجعاً لذكره: لم ألق بعدهم قوماً فأخبرهم ... ألا يزيدهم حباً إليّ هم فرفع الإفشين رأسه وقال: هو هو، فقال إبراهيم: أما إنك لا تدري ما استخرجه، وانصرف فقطع الغناء وأهله ولم يتغن بقية أيامه حتى اعتل العلة التي توفي فيها؛ فإنه لما ثقل دعا المعتصم صالح بن الرشيد فقال: صر إلى عمي فقد بلغني أنه أصبح عليلاً فأحضره وانصرف إليّ بخبره، قال: فصرت إليه فإذا هو شديد العلة فسلمت عليه وسألته عن حاله فقال: صر إلى الحجرة فاخلع سيفك وسوادك وعد إليّ آنس بك ساعة، ففعلت، ودعا خادماً من خدمه فأمره أن يحضر طعاماً فأكلت وهو ينظر إليّ وأتبين الأسف في عينيه، ثم دعا لي بأرطال مطبوخ عجيب فشربت، ثم قال: يا غلام ادع بنعمة وخيزرانة، وكانت نعمة تغني وخيزرانة تضرب، فجاءنا فأمر هذه فضربت وهذه فغنت ثم قال: أسندني، فأسندناه فأمر خيزرانة فحطت من طبقتها ثم اندفع يغني: رب ركب قد أناخوا حولنا ... يشبون الخمر بالماء الزلال ثم أضحوا لعب الدهر بهم ... وكذاك الدهر حال بعد حال من رآنا فليوطن نفسه ... إنه منها على قرب زوال قال: فاستوفاه، فما سمعت قط شيئاً أحسن من غنائه فيه، ثم قال: بأبي أنت أزيدك قلت: ما أريد أن أشق عليك مع ما أراه من حالك فليتني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 كنت فداك، فقال: دعني أودع نفسي، وتغني: يا منزلاً لم تبل أطلاله ... حاشا لأطلالك أن تبلى لم أبك أطلالك لكنني ... بكيت عيشي فيك إذ ولى والعيش أولى ما بكاه الفتى ... لابد للمحزون أن يسلى فبكيت لطيب غنائه وشربت أرطالاً ومال على جنبه ونهضت فليست سوادي، فما خرجت من الحجرة حتى سمعت الصراخ عليه فصرت إلى المعتصم فأخبرته الخبر على وجهه فاسترجع وبكى وتفجع. (3) (ترجمة إبراهيم النديم الموصلي، رقم: 10، ص: 42، س: 17) سأله يوماً المعتصم عن معرفة النغم كيف يميز بينها على تشابهها واختلافها فقال: يا أمير المؤمنين إن من الأشياء ما يحيط به العلم ولا تؤديه الصفة، وكان يقول: حق الصوت الحسن أن يرد أربع مرات فالأولى بديهة والثانية للتفخيم والثالثة للفرح والرابعة للتشبع. قال (1) إبراهيم النديم: ولما أردنا الانصراف ليلة عن المأمون التفت إلى إبراهيم ابن المهدي المذكور قبله فقال: بحقي عليك يا عم لما صنعت أبياتاً وصنعت عليها لحناً، ثم قال لي مثل ذلك وقال: بكرا علي فقد اشتهيت الصبوح غداً، قال [أبو] إسحاق: فقلت والله لأكيدن إبراهيم ولأسرقنه، فلما صليت العشاء الآخرة ركبت وصرت إلى ساباط لإبراهيم كان له عليه مجلس يقعد فيه فدعوت الحارس فأعطيته ديناراً وقلت له: لا تعلم أحداً بمكاني، وصرفت غلامي وأمرته أن يأتيني بدابتي سحراً فلم ألبث أن جاء إبراهيم فجلس في مجلسه ذلك ودعا جواريه وجعل يلقنهن الشعر وقد صاغ عليه اللحن فهو يضرب بالعود وأنا أضرب على   (1) من هنا وحتى نهاية هذا الخبر، اشتركت نسخة د مع نسخة آيا صوفيا: 8 ب - 9 أفي هذه الزيادة، وما وضع بين معقفين فيها هو إضافات ضرورية من نسخة آيا صوفيا على نسخة د. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 فخذي إيقاع الصوت حتى أخذته وأحكمته، فلما كان السحر أتاني غلامي بدابتي فصرت من فوري إلى باب المأمون فقال لي أحمد بن هشام: بكرت، ثم دخل فأعلمه فأذن لي فدخلت على المأمون فقال: أكلت فقلت: لا، فدعا لي بالطعام، وقد كان أكل وشرب، فغنيته بشعر إبراهيم ولحنه وهو: قالت نظرت إلى غيري فقلت لها ... وماء دمعي من عيني محدور نفسي فداؤك طرف العين مشترك ... والقلب مني عليك الدهر مقصور العين تنظر أحياناً وباطنه ... مما يقاسي بظهر الغيب مستور فطرب المأمون عليه وشرب، فما لبثنا ساعة واحدة حتى استؤذن لإبراهيم ابن المهدي فأذن له فدخل فدعا له بالطعام وسقي ثم جلس فغنى هذا الشعر في هذا اللحن فقال المأمون: يا هذا أراك تسرق أشعار الناس وتدعيها لنفسك، واحمرت عيناه وغضب غضباً شديداً وكاد يسطو بإبراهيم، فقام إبراهيم على قدميه وقال: وقرابتك من رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيعتك في عنقي ما سبقني إليه أحد، فقال المأمون: هذا [أبو] إسحاق بعينه، وقال: يا أبا إسحاق غنه، فغنيته فبقي إبراهيم مبهوتاً لا يحير جواباً، فلما رأيت المأمون على تلك الحال قلت: يا أمير المؤمنين الشعر واللحن له ولكن سرقته منه اللصوص، وحدثته الحديث فسكن حينئذ وقال: يا أحمد بن هشام خذ من مال إبراهيم ثلاثين ألف درهم وادفعها إلى [أبي] إسحاق لتضييع إبراهيم سره، فغدوت على إبراهيم فقلت: أيها الأمير أقبلها مني، واعتذرت إليه فقال: لا أقبل منك ما جاد به أمير المؤمنين لكن كدت والله يسفك دمي يا أبا إسحاق فلا تعد في المزاج إلى مثلها فإن الملوك تعفو عن الكثير وتقتل في اليسير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 (4) (ترجمة إبراهيم الصولي، رقم: 11، ص: 44، س: 5) (1) ومن رقيق شعره قوله بين يدي المتوكل حين أحضر لمناظرته أحمد بن المدبر ارتجالاً: صد عني وصدق الأقوالا ... وأطاع الوشاة والعذالا أتراه يكون شهر صدود ... وعلى وجهه رأيت الهلالا فطرب المتوكل واهتز ووصله وخلع عليه وحمله وجدد له ولاية؛ وهل من التلطف والاستعطاف أكثر من هذا وكان محمد بن عبد الملك الزيات وزير المعتصم صديقاً لإبراهيم المذكور فلما ولي الوزارة صادره بألف ألف وخمسمائة ألف درهم فقال الصولي: وكنت أخي (الأبيات) ؛ وله فيه أيضاً: كن كيف شيت وقل ما تشا ... وابرق يميناً وارعد شمالا نجا بك لؤمك منجى الذباب ... حمته مقاذيره أن ينالا ولعمري لقد بالغ فيه؛ [وكان يقول: الخبز ليومه والطبيخ لساعته والنبيذ لسنته] (2) . ومن تغزل إبراهيم المذكور قوله: أراك فلا أرد الطرف كيلا ... يكون حجاب رؤيتك الجفون ولو أني نظرت بكل عين ... لما استقصت محاسنك العيون ومن شعره أيضاً: دنت بأناس. (البيتين)   (1) اشتركت في هذه الزيادة نسختا د وآيا صوفيا (9 ب) مع بعض الاختلاف في النص والترتيب. (2) ما بين معقفين سقط من د وثبت في نسخة آيا صوفيا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 (5) (ترجمة الصابئ، رقم: 15، ص: 52، س: 16) حضر يوماً مائدة المهلبي فامتنع من أكل باقلا عليها لأنه محرم على الصابئة كيفما كان مع السمك ولحم الخنزير ولحم الجمل وفراخ الحمام والجراد، فقال له المهلبي: يا أبا إسحاق لا تتبرد وكل من هذا الباقلا، فقال: أيها الوزير لا أريد أن أعصي الله في مأكول، فاستحسن ذلك منه. وكان الصاحب يحبه أشد المحبة ويتعصب له ويتعهده على بعد الدار بالمنح؛ وله رسائل وقصائد كثيرة إليه وفيه. ومن عنوان طبقته قوله يذم شخصاً (1) : هو أخفض قدراً ومكانة، وأظهر عجزاً ومهانة، من أن تستقل به قدم في مطاولتنا، أو تطمئن له ضلوع على منابذتنا، وهو في نشوزه عنا وطلبتنا إياه كالضالة المنشودة، وفيما نرجوه من الظفر به كالظلامة المردودة. وله (2) إلى بعض الوزراء وقد أهدى إليه دواة مرفعاً: قد خدمت مجلس سيدنا بدواة تداوي مرض عفاته، وتدوي قلوب عداته، على مرفع يؤذن بدوام رفعته، وارتقاء النوائب عن ساحته. ما أخرج من شعره في الغزل من ذلك قوله: تورد دمعي إذ جرى ومدامتي ... فمن مثل ما في الكأس عيني تسكب فو الله لا أدري أبالخمر أسبلت ... جفوني أم من عبرتي كنت أشرب وقوله: أقول وقد جردتها من ثيابها ... وعانقتها كالبدر في ليلة التم وقد لمت صدري بشدة ضمها ... لقد جبرت قلبي وإن أوهنت عظمي   (1) ورد هذا الخبر في نسخة آيا صوفيا: 11 ب أيضاً. (2) ورد هذا الخبر في نسخة آيا صوفيا: 11 ب أيضاً، مع اختلاف يسير في النص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 (6) (ترجمة الصابئ، رقم: 15، ص: 53، س: 13) وكتب إلى عضد الدولة يوم مهرجان مع اصطرلاب أهداه إليه: أهدي إليك ينو الآمال واحتفلوا ... في مهرجان جديد أنت معليه (1) لكن عبدك إبراهيم حين رأى ... علو قدرك عن شيء يدانيه لم يرض بالأرض مهداة (2) إليك فقد ... أهدى لك الفلك الأعلى بما فيه وقوله في مدخنة: ومحرورة الأحشاء تحسب أنها ... متيمة تشكو من الحب تبريحا تناجيك نجوى يسمع الأنف وحيها ... وتجهله الأذن السميعة إذ يوحى إذا استودعت سراً من الطيب مجملاً ... أشاعته تفصيلا وأفشته مشروحا يحرق فيها الند عوداً وبدأة ... فتأخذه جسماً وتبعثه روحا ومما يقارب ذلك ما حكى ابن السنبلي: بعث إلى صديق له ورداً وقرابه ليستقطر ماءه وكتب معه: يا سيداً أصبحت خلائقه ... كالروض ريح الصب تدمثه بعثت ورداً حياً إليك عسى ... تقبض لي روحه وتبعثه   (1) وردت هذه الأبيات الثلاثة آيا صوفيا: 11 ب أيضاً، والبيت الأول فيها: أهدى إليك بنو الآمال واحتشدوا ... في مهرجان عظيم أنت تعليه (2) آيا صوفيا: يهديها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 (7) (ترجمة الحصري، رقم: 16، ص: 54، س: 15) (1) [وذكره أبو الحسن علي بن بسام في كتاب " الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة "، وحكى من أخباره وأحواله وأنشد جملة من أشعاره، فمن ذلك ما حكاه أبو صفوان] العتكي قال: كان أبو إسحاق الحصري كلفاً بالمعذرين، وهو القائل: ومعذرين كان نبت خدودهم ... أقلام مسك تستمد خلوقا قرنوا البنفسج بالشقيق ونظموا ... تحت الزبرجد لؤلؤاً وعقيقا [قال:] وكان يختلف إليه غلام من أبناء أعيان أهل القيروان، وكان به كلفاً، فبينا هو (2) يوماً والحصري جالس عنده وقد أخذا في الحديث إذ أقبل الغلام [كما قيل] : في صورة كملت تخال بأنها ... بدر السماء لستة وثمان يعشي العيون ضياؤها فكأنه ... شمس الضحى تعشى بها العينان فقال له الشيخ: يا أبا إسحاق ما تقول فيمن هام بهذا الغلام وصبا بهذا الخد فقال له الحصري: الهيمان والله به في غاية الظرف، والصبوة إليه من تمام اللطف، لا سيما إذ شاب كافور خده هذا المسك الفتيت، وهجم على صبحه هذا الليل البهيم، ووالله ما خلت سواده في بياضه إلا بياض الإيمان في سواد الكفر، أو غيهب الظلماء في منير الفجر؛ فقال: صفه يا حصري، فقلت: من ملك رق القول حتى انقادت له صعابه، وذل له جموحه وسطع له شهابه، أقعد مني بذلك، فقال: صفه فإني معمل فكري فيه، ثم أطرقا لحظة فقال الحصري:   (1) اشتركت نسختا د وآيا صوفيا (12 أ - 12 ب) في هذه الزيادة، وما وضع بين معقفين فيها هو إضافة من نسخة آيا صوفيا على نسخة د. (2) أي الشيخ الذي يجالسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 أورد قلبي الردى ... لام عذار بدا أسود كالكفر في ... أبيض مثل الهدى فقال الشيخ: أتراك اطلعت على ضميري أم خضت بين جوانحي وزفيري فقال له: ولم ذاك أيها الشيخ قال: لأني قلت: حرك قلبي وطار صولج لام العذار ... أسود كالليل في أبيض مثل النهار (8) (ترجمة ابن خفاجة، رقم: 17، 2: 56، س: 14) (1) وله من أبيات يخاطب أبا بكر بن الحاج: وما صدت الحسناء عنك زهادة ... ولكن زهاها أنها تتعشق فظلت تجر الذيل تيهاً وإنها ... لأغلق رهناً في هواك وأعلق وإلا فما للقطر قد فاض عبرة ... هناك وما للرعد قد بات يشهق فدونكها حسناء، لا أن بعلها ... قلاها ولكن رب حسنا تطلق ومن شعره أيضاً: ورب ليالٍ بالنعيم أرقتها ... لمرضى جفون بالفرات نيام يطول علي الليل يا أم مالك ... وكل ليالي الصب ليل تمام وله أيضاً: تلاقي نسيبي في هواها وأدمعي ... فمن لؤلؤ نظم ومن لؤلؤ نثر وقد خلعت ليلاً علينا يد الهوى ... رداء عناقٍ مزقته يد الفجر   (1) اشتركت نسخة آيا صوفيا (13 أو 13 ب) مع نسخة د في هذه الزيادة، مع اختلاف يسير في ترتيب المقطوعات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 (9) (ترجمة إبراهيم الغزي الشاعر، رقم: 18، ص: 59، س: 1) وله أيضاً: تسمى بأسماء الشهور فكفه ... جمادى وما ضمت عليه المحرم وله أيضاً: أمط عن الدرر الزهر اليواقيتا ... واجعل لحج تلاقينا مواقيتا فثغرك اللؤلؤ المبيض لا الحجر ... المسود لاثمه يطوي السباريتا واللثم يجحف بالملثوم كثرته ... حاشا ثناياك من وصم وحوشيتا وفتية من كماة الترك ما تركت ... للرعد كراتهم صوتاً ولا صيتا قوم إذا قوبلوا كانوا ملائكة ... حسناً وإن قوتلوا كانوا عفاريتا (1) العلم يوتي ولا يأتي وليس لمن ... يغتابني فيه إلا أنه يوتى (10) (ترجمة المروروذي، رقم: 23، ص: 69، س: 18) حكى (2) أبو حامد المذكور قال: وقف سائل من هؤلاء الأنكاد علينا في جامع البصرة وفي المجلس جماعة فسأل وألح، فقلت له [وقد ضجرت] : يا هذا نزلت بواد غير ذي زرع، فقال: صدقت ولكن تجبى إليه ثمرات كل شيء، فضحكت منه الجماعة ووصلته بشيء. ومثل هذه النادرة ما أخبرني الفقيه أمين الدين ابن الفقيه نصر رحمه الله   (1) ورد هذا البيت والبيت الذي قبله في نسخة آيا صوفيا: 14 ب أيضاً. (2) اشتركت نسخة آيا صوفيا (16 ب) مع نسخة د في هذا الخبر، وما بين معقفين فيه زيادة آيا صوفيا (وانظر الإمتاع 3: 100) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 تعالى وهو يومئذ [شاب] وصاحب ديوان الأحباس يكتب أسمائهم يستعد بهم المضي للحاق بالمقام السلطاني في مهم، فاعتذر رجل منهم فخط على اسمه وكتب غيره، فقام رجل آخر ليعتذر فقال: المملوك كما قال الله تعالى: (إن بيوتنا عورة) فقال له الفقيه أمين الدين المذكور: صل، يشير إلى بقية الآية وهي قوله: (وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا) فضحك البرهان ضحكاً شديداً وقال: لا أجمع عليك بين تندير الفقيه وبين تكليفك للمجيء، ثم خط على اسمه وكتب غيره (11) (ترجمة ابن أبي داود، رقم: 32، ص: 38، س: 12) (1) حكى أبو مالك جرير بن أحمد بن أبي داود قال: قال الواثق يوماً لأبي تضجراً بكثرة حوائجه: يا أحمد قد اختلت بيوت الأموال بطلباتك للائذين بك والمتوسلين إليك، فقال: يا أمير المؤمنين نتائج شكرها متصلة بك وذخائر أجرها مكتوبة لك، وما لي من ذلك إلا عشق اتصال الأنس بعلو المدح فيك، فقال: يا أبا عبد الله، لا منعناك ما يزيد في عشقك ويقوي من همتك فينا ولنا. ومثل هذا حكى الثعالبي عن إبراهيم بن السندي قال: قلت في أيام ولايتي الكوفة لرجل من وجودها كان لا يخف كده ولا يجف قلمه ولا تستريح حركته في طلب حوائج الناس وإدخال المرافق على الضعفاء، وكان وجيهاً ذا مروة وفصاحة: خبرني عن الشيء الذي هون عليك هذا المنصب وقواك على تكاليف النصب ما هو فقال: قد والله سمعت تغريد الأطيار بالأسحار وأصوات القيان فما طربت قط كطربي من ثناء حسن من رجل محسن، قلت: لله درك ولله أنت قد حشيت مروة وكرماً. وقال أبو العيناء: ما رأيت أفصح لساناً ولا أصوب رأياً ولا أحضر حجة من   (1) اشتركت نسختا د آيا صوفيا (19 أ - 19 ب) في هذه الزيادة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 ابن أبي دؤاد؛ قال له الواثق: رفعت فيك رقعة فيها كيت وكيت، فقال: ليس بعجيب أن أحسد بمنزلتي من أمير المؤمنين فيكذب علي؛ قال: وزعموا أنك وليت القضاء رجلاً أعمى، قال: بلغني أنه إنما عمي على بكائه على أمير المؤمنين المعتصم فحفظت ذلك له وأمرته أن يستخلف؛ قال: وفيها أنك أعطيت شاعراً ألف دينار، قال: كان دونك ذلك، وقد أثاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كعباً وسلم كعباً وقال في آخر: اقطعوا لسانه عني، وهذا شاعر طائي مصيب محسن لو لم أدع إلا قوله فيك للمعتصم: فاشدد بهارون الخلافة إنه ... سكن لوحشتها ودار قرار ولقد علمت بأن ذلك معصم ... ما كنت تتركه بغير سوار فقال الواثق: قد وصلته بخمسمائة دينار. وقيل إنه دخل على الواثق بعدما حصل له الأمر فقال: ما زال قوم اليوم في ثلبك ونقصك يا أحمد، قال فقلت: يا أمير المؤمنين (لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم، والذي تولى كبره منهم عذاب عظيم) فالله ولي جزائه وعقاب أمير المؤمنين من ورائه، وما ضاع أمر أنت حافظه ولا ذل من كنت ناصره، فما قلت لهم يا أمير المؤمنين قال: قلت يا [أبا] عبد الله: وسعى إليّ بعيب عزة نسوة ... جعل الإله خدودهن نعالها (12) ترجمة أبي العلاء المعري، رقم: 47، ص: 114، س: 21) وله في الشمعة: وصفراء مثلي في هواها جليدة ... على نوب الأيام والعسف والضنك تريك ابتساماً دائماً وتهللاً ... وصبراً على ما نالها وهي في الهلك (1)   (1) ورد هذا البيت والبيتان اللذان بعده في نسخة آيا صوفيا: 26 أيضاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 فلو نطقت يوماً لقالت أظنكم ... تخالون أني من حذار الردى أبكي فلا تعجبوا من ضحكها وابتسامها ... فقد تدمع العينان من كثرة الضحك وله أيضاً: لك الحمد أمواه البلاد كثيرة ... عذاب وخصت بالملوحة زمزم هو الحظ عير الوحش ساف بأنفه ال ... خزامي وأنف العود بالعود يخزم ويقتصر من شعره على هذا القدر؛ وكان قد رثى الشريف أبا أحمد الموسوي الملقب بالطاهر وعزى ولديه أبا الحسن الملقب بالمرتضى [وأخاه الرضي] بقصيدة فائية فأجاد فيها (13) (ترجمة ابن شهيد، رقم: 48، ص: 117، س: 1) [وذكره ابن بسام في كتابه " الذخيرة " وبالغ في الثناء عليه وأورد له طرفاً وافراً من الرسائل والنظم والوقائع، فمن ذلك ما حكاه قال] (1) : كان المنصور قد عزم على الانفراد بالحرم وأمر بإحضار من جرى رسمه في مثل ذلك اليوم من الوزراء والندماء، وأحضر ابن شهيد في محفة لنقرس كحان به وأخذوا في شأنهم فمر لهم يوم لم يشهدوا مثله ووقت لم يعهدوا نظيره، وطما الطرب وسما بهم حتى تهايج القوم ورقصوا وجعلوا يرقصون بالنوبة حتى انتهى الدور إلى ابن شهيد، فأقامه الوزير أبو عبد الله ابن عياش فجعل يرقص وهو متوكئ عليه ويرتجل ويومئ إلى المنصور وقد غلبه السكر: هاك شيخ قاده عذر لكا ... قام في رقصته مستمسكاً عاقه عن هزها منفرداً ... نقرس أخنى عليه فاتكا   (1) هذا الخبر الذي جاءت به نسختا د وآيا صوفيا، لا يتصل بالمترجم به وإنما يروى عن أبيه، فإن أبا عمر صاحب الترجمة لم يدرك عهد المنصور بن أبي عامر؛ وما بين معقفين إضافة من نسخة آيا صوفيا، وقد سقط من د. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 أنا لو كنت كما تعرفني ... قمت إجلالاً على رأسي لكا قهقه الإبريق مني ضحكاً ... ورأى رعشة رجلي فبكي وكان حاضرهم ابن لنكك البغدادي وكان حسن النادرة سريعها فقال: لله درك يا وزير ترقص بالقائمة وتصلي بالقاعدة! فضجك المنصور والحاضرون. (14) (ترجمة المتنبي، رقم: 50، ص: 121، س: 9) وقال أبو بكر الخوارزمي: كان أبو الطيب المتنبي قاعداً تحت قول الشاعر: وإن أحق الناس باللوم شاعر ... يلوم على البخل الرجال ويبخل وإنما أعرب عن عادته وطريقته في قوله: بليت بلى الأطلال إن لم أقف بها ... وقوف شحيح ضاع في الترب خاتمه فحضرت عنده يوماً بحلب وقد أحضر مالاً من صلات سيف الدولة فصب بين يديه على حصير قد افترشه ووزن وأعيد في الكيس، وإذا بقطعة كأصغر ما يكون من ذلك المال وقد تخللت خلل الحصير فأكب عليه بمجامعه ينقره ويعالج استنفاذها منه ويشتغل بذلك عن جلسائه حتى توصل إلى إظهار بعضها فتمثل بيت قيس بن الخطيم: تبدت لنا كالشمس بين غمامة ... بدا حاجب منها وضنت بحاجب ثم استخرجها وأمر بإعادتها إلى مكانها من الكيس، وقال: إنها تحضر المائدة. وشرب (1) أبو الطيب ليلة عند بدر بن عمار فنظر إلى ابنه وقد جلس نحو الشمعة فقال:   (1) اشتركت نسختا د وآيا صوفيا: 28 أفي هذا الخبر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 أما ترى ما أراه أيها الملك ... كأننا في سماء ما لها حبك الفرقد ابنك والمصباح صاحبه ... وأنت بدر الدجى والمجلس الفلك ولما كان من الغد عرض عليه الصبوح فقال: رأيت المدامة غلابة ... تهيج للقلب اشواقه تسيء من المرء آدابه ... ولكن تطيب أخلاقه وقد مت أمس بها موتةً ... وما يشتهي الموت من ذاقه (15) (ترجمة المتنبي، رقم: 50، ص: 122، س: 3) ومن شعره في الحبس: كن أيها السجن كيف شيت فقد ... وطأت للموت نفس معترف لو كان سكناي فيك منقصة ... لم يكن الدر ساكن الصدف وحكى أبو الفتح عثمان بن جني قال: سمعته يقول: إنما لقبت بالمتنبي بقولي: أنا ترب الندى ورب القوافي ... وسمام العدى وغيظ الحسود أنا في أمة تداركها الل ... هـ غريب كصالح في ثمود وفي هذه القصيدة: ما مقامي بأرض نخلة إلا ... كمقام المسيح بين اليهود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 (16) (ترجمة بديع الزمان الهمذاني، رقم: 52، ص: 127، س: 19) وكان (1) صاحب عجائب وبدائع وغرائب، فمنها إنه كان ينشد القصيدة لم يسمعها قط وهي أكثر من خمسين بيتاً فيحفظها كلها ويؤديها من أولها إلى آخرها لا يخرك حرفاً، وينظر في الأربع والخمس الأوراق من كتاب لم يعرفه ولم يره نظرة واحدة خفيفة ثم يهذها عن ظهر قلبه هذاً ويسردها سرداً؛ وهذه الحالة في الكتب الواردة وغيرها، وكان يقترح عليه عمل قصيدة أو إنشاء رسالة في معنى بديعٍ وباب غريب فيفرغ منها في الوقت والساعة والجواب عنها فيها، وكان ربما يكتب الكتاب المقترح عليه فيبتدئ بآخر سطوره قم هلم جرا إلى الأول ويخرجه كأحسن شيء وأملحه، وكان مع هذا كله مقبول الصورة خفيف الروح حسن العشرة شريف النفس كريم العهد خالص الود حلو الصداقة مر العداوة، وكانت بينه وبين الخوارزمي منافرة ومناكرة ومناظرة بكته البديع فيها وأسكته؛ وتصرفت به أحوال جميلة وأسفار كثيرة ولم يبق من بلاد خراسان وسجستان وغزنة بلدة إلا دخلها وجنى ثمرتها واستفاد خيرها وميرها، وألقى عصاه بهراة واتخذها دار قراره ومجمع أسبابه، وحين بلغ شده وأربى على الأربعين سنة ناداه الله فلباه وفارق دنياه فقامت عليه نوادب الأدب وانثلم حد القلم، على أنه ما مات من لم يمت ذكره، ولقد خلد من بقي على الأيام نثره ونظمه، وأنا ذاكر من طرف ملحه ولفظ غرره ما هو غذاء القلب وقوت النفس ومادة الأنس. فصل (2) : وفيما يقول الناس من حكايتهم أن أعرابياً نام ليلة عن جمله ففقده فلما طلع القمر وجده فرفع إلى الله يده وقال: أشهد لقد أعليته وجعلت السماء بيته، ثم نظر إلى القمر فقال: إن الله صورك ونورك وعلى البروج دوّرك وإذا   (1) من يتيمة الدهر 4: 256، 287. (2) من هنا وحتى نهاية النص اشتركت نسختا د وآيا صوفيا (30 ب) في هذه الزيادة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 شاء كورك ولا أعلم مزيداً أسأله لك، ولئن أهديت قلبي سروراً لقد أهدى الله إليك نوراً، والشيخ ذلك القمر المنير، لقد أعلى الله قدره وأنفذ بين الجلود واللحوم أمره، ونظر إليه وإلى الذين يحسدونه فجعله فوقهم وجعلهم دون. فصول قصار: ما كل مائع ماء ولا كل سقف سماء ولا كل محمد رسول. وله: المرء لا يعرف ببرده والسيف لا يعرف بغمده. (17) (ترجمة جحظة البرمكي، رقم: 55، ص: 134، س: 10) (1) حدث علي بن سعيد الكاتب قال: قال لي جحظة: إن كتمت عليّ حدثتك بحديث ما مر على مسامعك مثله قط، قلت: أنا موضع سرك والمجالس بالأمانة، قال: اصطبحت أياماً فأصبحت يوماً مخموراً، فبينا أنا جالس على باب داري إذ أقبلت جارية متنقبة راكبة على حمار وبين يديها وصائف كالغزلان يحففن بها ويمسكن عنان حمارها وقد سطعت السكة من روائح طيبها، فبقيت مبهوتاً متحيراً أعجب من كمال خلقها ونور ما بدا لي من وجهها، فلما جاوزتني وقفت وتأملتني ساعة ثم سلمت فرددت عليها أحفى سلام وأبره وقمت على قدمي إجلالاً لها وإعظاماً، فقالت: يا فتى هل في منزلك محتمل للقايلة في هذا اليوم قلت: يا سيدتي على الرحب والسعة ولك الفضل والمنة؛ فما كذبت أن ثنت رجلها ونزلت، وقالت: أدخل بين يدي، وأمرت جواريها فدخلن بالحمار إلى الدهليز ثم دخلت وما أحسب جميع ما أراه إلا نوماً لا يقظة وشكاً لا يقيناً. فلما استقر بها المجلس مدت يدها إلى عجارها (2) فحلته كما قال الشاعر: فألقت قناعاً دونه الشمس واتقت ... بأحسن موصولين كفٍ ومعصم فتفكرت في أمري وأنا لا أعقل من السرور فقلت: هذه جارية مغنية   (1) اشتركت نسختا د وآيا صوفيا (33 أ - 33 ب) في هذه الزيادة. (2) آيا صوفيا: نقابها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 بلغها عني صوت من صنعتي فأرادت أن تأخذه عني، فقلت: يا سيدتي أتأذنين في أن أقرب ما حضر من طعام وشراب وأغنيك ما لعله بلغك من متخير أصواتي فقالت: ما على ذلك فوت، ولكن قم الآن وشأنك فاقض حاجتك ثم تصير إلى ما تريد. فقمت إليها وقد أخذني الروع حتى ما أملك نفسي مهابة لها، فلما فرغت مما لم أكن آمله ولا تسمو همتي إليه قلت: يا سيدتي هل لك في الطعام وأدعو بالعود فأغنيك ما قصدت له قال: عسى أن يكون هذا في يوم غير هذا، ومدت يدها إلى قناعها فاعتجرت به ونهضت مسرعة فلم أحر جواباً وبقيت متحيراً؛ فلما صارت إلى الدهليز لتركب قلت: سألتك بنعمة الله عليك ما خبرك قالت: لو تركت المسئلة كان أحب إليك وأعود عليك، قلت: لابد لي من علم حالك، قالت: أما إذ أبيت فسأصدقك؛ لي ابن عم هو بعلي يخالفني إلى جويرية لي مشوهة المنظر، فأقسمت بالأيمان المحرجة أن أطوف بغداد حتى أبذل نفسي لأقبح من أرى وجهاً وأوحش من أقدر عليه صورة، فأنا أطوف من الفجر إلى هذه الساعة فما رأيت بها أقبح منك، فبررت قسمي وإن عاد إلى مثل فعله عدت إليك إن لم أجد أوحش منك، وهذا يسير في جنب ما تبلغه الغيرة بصاحبها؛ ثم تولت عني وبقيت أخزى ممن دخل النار، فوالله ما ظننت يا أبا الحسن أن إفراط القبح لينتفع به حتى كان ذلك اليوم؛ قلت: هون عليك فإن القرد إنما يقع السرور به والضحك منه لتجاوزه في قبح الصورة، قال: فاكتم علي، قلت: نعم. (18) (ترجمة أحمد بن طولون، رقم: 71، ص: 174، س: 18) ولما مات أحمد تولى مكانه ولده أبو الجيش خمارويه وتزوج الخليفة المعتضد ابنته قطر الندى بنت خمارويه واسمها أسماء في سنة 281، وزفت إليه في سنة 82، وحمل إليها مهرها على مائة حمار مع شفيع الخادم، وجدد له ولاية مصر وخطب له ما بين برقة وهيت؛ وفي هذه السنة ذبح خمارويه بدمشق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 ذبحه خدمه، فحمل إلى مصر ودفن بها وهو ابن ثلاثين سنة، فأخذ الخدم وقتلوا وصلبوا بدمشق وحملت رؤوسهم إلى مصر فنصبت، وكان قتله ليلة الأحد لثلاث ليال بقين من ذي القعدة، وماتت قطر الندى بنت خمارويه المذكور في سنة 87، وكان خماوريه قد سأل المعتضد أن يزوج المكتفي بنته قطر الندى فقال المعتضد: بل أنا أتزوجها، وجعل صداقها ألف ألف درهم، وقيل: كان غرض المعتضد بزواجها افتقار بني طولون، وكذا كان، فإن أباها جهزها بجهاز لم يعمل مثله حتى قيل إنه كان لها ألف هاون ذهب. (19) (ترجمة معز الدولة بن بويه، رقم 72، ص: 176، س: 3) (1) وقال عز الدين بن الأثير (2) : كان ابتداء دولة بني بويه وهم عماد الدولة أبو الحسن علي وركن الدولة أبو علي الحسن ومعز الدولة الحسين أحمد أولاد أبي شجاع بويه بن فناخسرو بن تمام. وقال ابن مسكويه أنهم يزعمون أنهم من ولد يزدجرد بن شهريار آخر ملوك الفرس وأن والدهم أبا شجاع بويه كان متوسط الحال وماتت زوجته وخلفت له هؤلاء البنين الثلاثة، فلما ماتت اشتد حزنه عليها، فحكى شهربان (3) بن رستم الديلمي قال: كنت صديقاً لأبي شجاع بويه فدخلت إليه يوماً فعذلته على كثرة حزنه فقلت له: أنت رجل تحتمل الحزن وهؤلاء المساكين أولادك يهلكهم الحزن، وربما مات أحدهم فيتجدد لك من الأحزان ما ينسيك المرأة، وسليته بجهدي وأدخلته وأولاده إلى منزلي ليأكلوا طعاماً وشغلته عن حزنه؛ فبينما هم كذلك إذ اجتاز بنا رجل منجم ليأكلوا طعاماً وشغلته عن حزنه؛ فبينما هم كذلك إذ اجتاز بنا رجل منجم ومعزم ومعبر للمنامات ويكتب الرقي والطلسمات وغير ذلك، فأحضره أبو شجاع وقال له: رأيت في منامي كأنني أبو فخرج من ذكري نار عظيمة   (1) اشتركت نسختا د وآيا صوفيا (43 ب - 44 أ) في هذه الزيادة. (2) الكامل 8: 264 (ط. صادر) . (3) في نسخة آيا صوفيا وفي الكامل: شهريار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 استطالت وعلت حتى كادت تبلغ السماء، ثم انفرجت فصارت ثلاثة شعب وتولد من تلك الشعب عدة شعب، فأضاءت الدنيا بتلك النيران، ورأيت البلاد والعباد خاضعين لتلك النيران، فقال المنجم: هذا المنام عظيم لا أفسره إلا بخلعة وفرس ومركب، فقال له أبو شجاع: والله ما أملك إلا الثياب التي على جسدي فإن أخذتها بقيت عرياناً، فقال المنجم: فعشرة دنانير، قال: والله ما أملك دينارين فكيف عشرة فأعطاه شيئاً، فقال المنجم: أعلم أنك يولد لك ثلاثة أولاد يملكون الأرض ومن عليها ويعلو ذكرهم في الآفاق كما علت تلك النار ويولد لهم جماعة ملوك بقدر ما رأيت من تلك الشعب؛ فقال أبو شجاع: أما تستحي تسخر منا أنا رجل فقير وأولادي فقراء مساكين كيف يصيرون ملوكاً ثم قال المنجم: أخبرني توقيت ميلادهم، فأخبره، فجعل يحسب ثم قبض على يد أبي الحسن علي فقبلها وقال: هذا والله الذي يملك البلاد، ثم هذا بعده، وقبض على يد أخيه أبي علي الحسن، فاغتاظ منه أبو شجاع وقال لأولاده: اصفعوا هذا الحكيم فقد أفرط في السخرية بنا، فصفعوه وهو يستغيث ونحن نضحك منه، ثم قال لهم: اذكروا لي هذا إذا قصدتكم وأنتم ملوك، فضحكنا منه، وكان من أمرهم ما قد ذكر. (20) (ترجمة معز الدولة بن بويه، رقم: 72، ص: 176، س: 7) (1) وكان معز الدولة قد قلد أبا العباس عبد الله بن الحسين بن أبي الشوارب قضاء القضاة وأن يؤدي كل سنة مائتي ألف درهم وهو أول من ضمن القضاء ولم يسمع بذلك قبلها وكان الخليفة المطيع لله قد منعه من الدخول إليه وأمره أن لا يحضر المواكب لما ارتكبه من ضمان القضاء، ثم ضمنت الحسبة والشرطة ببغداد (2)   (1) اشتركت نسخة آيا صوفيا (44 أ) في هذه الزيادة مع نسخة د إلى قوله: في سنة 350. (2) انظر ابن الأثير 8: 536 - 537. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 وذلك في سنة 350؛ وفيها (1) كتب عامة الشيعة ببغداد بأمر معز الدولة على المساجد سب الصحابة، فأما الخليفة فكان محكوماً عليه لا يقدر على المنع، وأما معز الدولة فإن بعض الناس حك هذا المكتوب ليلاً فأراد أن يأمر بإعادته فأشار عليه الوزير أبو محمد المهلبي بأن يكتب مكان ما محي: لعن الله الظالمين لآل رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله، ولا يذكر أحداً في اللعن، ففعل ذلك. (21) (ترجمة المستعلي الفاطمي، رقم: 74، ص: 179، س: 22) (2) وذلك أن المستنصر عهد في حياته بالخلافة لابنه نزار فخلعه الأفضل وبايع للمستعلي، وسبب خلعه أن الأفضل ركب مرة في أيام المستنصر ودخل دهليز القصر من باب الذهب راكباً ونزار خارج والمجاز مظلم فلم يره الأفضل، فصاح به نزار: انزل يا أرمني، كلب على فرس، ما أقل أدبك! فحقدها عليه؛ فلما مات المستنصر خلعه خوفاً على نفسه وبايع للمستعلي، فهرب نزار إلى الإسكندرية فبايعه أهلها وسموه المصطفى لدين الله، وكان بها ناصر الدول افتكين فبايعه وخطب الناس ولعن الأفضل، وأعانه القاضي جلال الدولة ابن عمار قاضي الإسكندرية فسار إليه الأفضل وحاصره وأخذ افتكين فقتله، وقتل جلال الدولة [بن] عمار ومن أعانه وتسلم المستعلي نزاراً وبنى عليه حائطاً فمات.   (1) في ابن الأثير سنة 351؛ انظر ص: 542. (2) اشتركت نسختا د وآيا صوفيا (45 ب) في هذه الزيادة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 (22) (ترجمة عماد الدين بن المشطوب، رقم: 75، ص: 181، س: 10) وذلك أنه اتفق مع الأكراد الهكارية وأرادوا أن يخلعوا الملك الكامل ويملكوا أخاه الملك الفايز ليصير الحكم إليهم عليه وعلى البلاد، فبلغ الخبر إلى الملك الكامل ففارق المنزلة ليلاً جريدة وسار إلى أشموم طناح فنزل بها وأصبح العسكر وقد فقدوا سلطانهم، فركب كل إنسان منهم هواه، ولم يقف الأخ على أخيه، ولم يقدروا على أخذ شيء من خيامهم وذخائرهم وأموالهم وأسلحتهم إلا اليسير الذي يخف حمله وتركوا الباقي بحاله وتركوا الكامل. وأما الفرنج فإنهم أصبحوا فلم يروا من المسلمين أحداً على شاطئ النيل كجاري عادتهم، فبقوا لا يدرون ما الخبر، وإذا قد أتاهم من أخبرهم الخبر على حقيقته فعبروا حينئذ النيل إلى بر دمياط آمنين بغير منازع، وكان عبورهم في العشرين من ذي القعدة سنة 615 فغنموا ما في عسكر المسلمين، وكان عظيماً معجزاً للعادين، وكاد الكامل يفارق الديار المصرية لأنه لم يثق بأحد من عسكره، وكان الفرنج ملكوا الجميع بغير تعب ولا مشقة، فاتفق من لطف الله تعالى بالمسلمين أن وصل أخوه الملك المعظم ابن الملك العادل بعد هذه الحركة بيومين والناس في أمر مريج فقوي به قلبه واشتد ظهره وثبت جنانه، وأقام بمنزله، فركب الملك المعظم إلى ابن المشطوب فأخرجه من حينه إلى الشام فاتصل بالملك الأشرف مظفر الدين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 (23) (ترجمة الملك العادل أتابك، رقم: 82، ص: 194، س: 3) ودفن بقلعة دمشق ونقل منها إلى مدرسته التي أنشأها عند سوق الخواصين بالموصل؛ ومن عجيب الاتفاق أنه ركب ثاني شوال وركب إلى جانبه بعض الأمراء الأخيار، فقال له الأمير: سبحان من يعلم هل نجتمع هنا في العام المقبل أو لا فقال نور الدين: لا تقل هكذا، قل: سبحان من يعلم هل نجتمع بعد شهر أم لا؛ فمات نور الدين بعد أحد عشر يوماً، ومات الأمير قبل الحول، فأخذ كل واحد منهما بما قاله؛ وكان مولده سنة 569 (1) . وأما ما فعله من المصالح فإنه بنى أسوار مدن الشام كلها وقلاعها فمنها دمشق وحمص وحماة وحلب وشيزر وبعلبك وغيرها، وبنى المدارس الكثيرة للحنفية والشافعية وبنى الجامع النوري بالموصل وبنى المارستان والخانات في الطرق وبنى الخانات للصوفية في جميع البلاد، وكانت له همة عالية أعاد ناموس الأتابكي وحرمته بعد أن كانت قد ذهبت، وخافته الملوك، ولو لم يكن من فضيلته إلا أنه رحل الملك الكامل بن العادل عن ماردين بعد انفصال أبيه عنها سنة 95 وأبقاها على صاحبها. ولما حضره الموت أمر أن يرتب في الملك بعده ولده الملك القاهر عز الدين مسعود وحلف له الجند وأعطى ولده الأصغر عماد الدين زنكي قلعة الجندية وقلعة شوس وولايتهما وسيرهما إلى العقر، وأمر أن يتولى تدبير ملكهما والنظر في مصالحهما الأمير بدر الدين لؤلؤ لما رأى من عقله وسداده وحسن سياسته وتدبيره. وكان نور الدين يصلي كثيراً بالليل، وله فيه أوراد حسنة فكان كما قيل: جمع الشجاعة والخشوع لربه ... ما أحسن المحراب في المحراب وبالجملة فحسناته كثيرة ومناقبه غزيرة.   (1) في نسخة د: سنة 611، وهو خطأ بين لأن الملك العادل توفي سنة 607؛ وانظر التاريخ الباهر: 198. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 (24) (ترجمة إسحاق الموصلي، رقم: 87، ص: 204، س: 6) وذكر ابن السندي أن إسحاق النديم اتخذ دعوة فجاءته الهدايا من كل وجه؛ وكان في جيرانه رجل مملق، فوجه إليه بجراب أشنان وجراب ملح، وكتب إليه: لو تمت الإرادة لي بحسب النية وملكتني القدرة لبسط الجدة لبدرت السابقين إلى برك، ولكنت إمام المتقدمين في إكرامك، كن البضاعة قعدت عن الهمة، وقصرت عن مساواة أهل الثروة، وكرهت أن تطوي صحيفة البر، ولا يكون لي فيها ذكر، فوجهت بالمبتدأ لطيبه ويمنه، وبالمختوم به لطهارته ونظافته، مصطبراً على ألم التقصير؛ فأما ما سوى ذلك فالمعبر عنا فيه كتاب الله عز وجل (ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله) . ومما يناسب هذه النادرة ما حكى جعفر بن قدامة عن مية البرمكية قالت: كانت لأم علي بنت الراس جارية مغنية يقال لها مكر، وكانت من أحسن الناس وجهاً وغناء، وكان لها رفقاء من الكتّاب ووجوه التجار، كان أبو يحيى الكيبخي يعاشرها، فاقتصدت يوماً فأهدى إليها رفقاؤها صنوف الهدايا، وبعث إليها أبو يحيى ثلاث سلال مختومة فإذا سلة فيها ماش ومعه رقعة فيها: الماش خير من لاش، وفي الأخرى عصافير بأجنحتها فلما فتحت طارت ومعها رقعة فيها: يا سيدتي أعتقت عنك هؤلاء المساكين ولو كان بدلها عبيداً لأعتقتهم، وفتحت الأخرى فإذا هي فارغة وفيها رقعة مكتوب فيها: يا مولاتي لو كان عندي شيء لبعثت إليك بشيء، ولكن ليس عندي شيء فلم أبعث إليه بشيء، فضحكوا وبعثوا إليه بنصيب وافر من كل ما أهدي إليها، وكتبت إليه أم علي: أعطي لله عهداً إن لم تكن هديتك أملح من كل هدية وردت إلينا، وفي هداياي متسع والإنجاز أمثل؛ وأخباره كثيرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 (25) (ترجمة إسحاق الموصلي، رقم: 87، ص: 204، س: 15) قال أبو عبد الله أحمد بن حمدون النقيب: لقيت إسحاق بن إبراهيم الموصلي بعدما كف بصره فسألني عن أخبار الناس والسلطان فأخبرته ثم شكوت إليه غمي بقطع أذني فجعل يسألني ويعزيني، ثم قال لي: من المتقدم اليوم عند أمير المؤمنين والخاص من ندمائه قلت: محمد بن عمر، قال: ومن هذا الرجل وما مقدار أدبه وعلمه فقلت: أما أدبه فلا أدري، ولكني أخبرك بما سمعت منه منذ قريب؛ حضرنا الدار يوم عقد المتوكل لأولاده الثلاثة فدخل مروان بن أبي حفصة فأنشده قصيدته التي يقول فيها: بيضاء في وجناتها ... ورد فكيف لنا بشمه فسر بذلك سروراً شديداً وأمر فنثر عليه بدرة دنانير وأن تلقط وتطرح في حجره وأمره بالجلوس وعقد له على اليمامة والبحرين، فقال: يا أمير المؤمنين، ما رأيت كاليوم ولا أرى أبقاك الله ما دامت السموات والأرض، فقال محمد بن عمر: هذا بعد عمر طويل إن شاء الله، فقال لي إسحاق: ويلك، جزعت على أذنك، رغمك قطعها لمَ حتى تسمع مثل هذا الكلام ولك لو إن لك مكوك آذان أيش كان ينفعك مع هؤلاء وكان سبب قطع أذنه إن الفتح بن خاقان كان يعشق شاهك خادم المتوكل واشتهر الأمر فيه حتى بلغه، وله في أشعار منها: أشاهك ليلي مذ هجرت طويل ... وعيني دماً بعد الدموع تسيل وبي منك والرحمن ما أطيقه ... وليس إلى شكوى إليك سبيل أشاهك لو يجزى المحب يوده ... جزيت ولكن الوفاء قليل وكان أبو عبد الله يسعى فيما يحبه الفتح فعرف المتوكل الخبر فقال: إنما أردتك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 وأدنيتك لتنادمني ليس لتفسد عليّ غلماني، فأنكر ذلك وحلف يميناً حنث فيها فطلق كل حرة كانت وأعتق من كانت مملوكة، ولزمه حج سنتين، فكان يحج في كل عام، قال: فأمر المتوكل بنفيه إلى تكريت فأقام بها ثم جاءه زرافة في الليل، فلما دخل عليه قال: جئت في شيء ما كنت أحب أن أجيء في مثله، قال: وما هو قال: [قال] أمير المؤمنين بقطع أذنك وقال: قل له لست أعاملك إلا كما يعمل الفتيان، فرأى ذلك أسهل مما ظنه من القتل، فقطع غضروف أذنه في خارج ولم يستقصه وجعله في كافور كان معه وانصرف. (26) (ترجمة الأسعد بن مماتي، رقم: 91، ص: 212، س: 18) وكان (1) الأسعد المذكور قد مرض فعاده بعض أصحابه فوجده يغسل ويمزق أوراقاً تعاليق بخطه، فسأله عن السبب فقال: إني نظرت في العلوم فوجدتها مواهب من الله تعالى لا بكثرة الفحص والاشتغال، وذلك إني سألتني جويريتي النوبية عن طعام تصنعه لي اليوم موافق، فأخذت أعدد لها أنواع المزورات فضجرت، وقال لي: لا يقدر أحد على مرضاتك في مرضاتك، فهذا هو السبب الموجب لما تراه. ويقرب من ذلك ما أخبرني الفقيه أمين الدين علي بن المحلى أن الصاحب صفي الدين بن شكر أراد قارئاً للمدرسة التي أنشأها بالقاهرة المعزية يصلي بها التراويح، فاختير له شخصان اسم أحدهما زيادة والآخر مرتضى، وطولع بذلك فوقع على ظهر القصة: زيادة مرتضى زيادة.   (1) ورد هذا الخبر أيضاً في نسخة آيا صوفيا: 54 أ - 54 ب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 (27) (ترجمة الصاحب بن عباد، رقم: 96، ص: 229، س: 21) حكى بديع الزمان أبو الفضل الهمذاني (1) قال: لما أدخلني والدي إلى الصاحب ووصلت إلى مجلسه، واصلت الخدمة بتقبيل الأرض، فقال لي: يا بني أقعد كم تسجد كأنك هدهد. ويقرب من هذا ما حكى ابن بسام قال: رأيت الفكيك بين يدي الأمير أبي القاسم محمد بن عباد وهو ينشد من قصيدة مطولة: وأنت سليمان في ملكه ... كما أنا قدامك الهدهد وينشده ويعيده ويسجد، وفعل ذلك مراراً، وضحك أبو القاسم وأمر له بجائزة سنية. وحكى أبو الفتح عبدوس بن محمد الهمذاني حين قدم البصرة حاجاً سنة نيف وستين وأربعمائة أن الصاحب أبا القاسم ان عباد رأى أحد ندمائه متغير السحنة فقال له: ما الذي بك قال: حما، قال له الصاحب: قه، فقال له النديم: تعقيب لفظة حما بما صارت به " حماقة " ولطف النديم في صلة تعقيبه بما جعلت " قهوة " وكذا فلتكن مداعبة الفضلاء ومفاكهة الأدباء الأذكياء. واستؤذن عليه [أي] يوماً لإنسان طرسوسي فقال: الطر في لحيته والسوس في حنطته. وحكى أبو منصور الربيع قال: دخلت يوماً على الصاحب وطاولته الحديث فلما أردت القيام قلت: لعلي طولت فقال: بل تطولت (2) . وأهدى العميدي (3) قاضي قزوين إلى الصاحب كتباً وكتب معها: العميدي عبد كافي الكفاة ... وإن اعتد في وجوه القضاة   (1) انظر اليتيمة 3: 197 وما بعدها. (2) ورد هذا الخبر أيضاً في نسخة آيا صوفيا: 58 ب. (3) في الأصل واليتيمة: العميري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 خدم المجلس الرفيع بكتب ... مغنمات من حسنها مترعات فوقع تحتها: قد قبلنا من الجميع كتاباً ... ورددنا لوقتها الباقيات لست أستغنم الكثير فطبعي ... قول خذ ليس مذهبي قول هات قال: وكتب إليه بعض العلوية يخبر بأنه رزق مولوداً وسأله أن يسميه ويكنيه، فوقع في رقعته: أسعدك الله بالفارس الجديد، والطالع السعيد، فقد ملأ والله العين قرة والنفس مسرة، والاسم علي ليعلي الله ذكره، والكنية أبو الحسن ليحسن الله أمره، فإني أرجو له فضل جده وسعادة جده، وقد بعثت إليك لتعويذه ديناراً من مائة مثقال، قصدته به مقصد الفال، رجاء أن يعيش مائة عام، ويخلص خلاص الذهب الإبريز من نوب الأيام، والسلام. رفع الضرابون من دار الضرب رقعة إلى الصاحب في ظلامة له مترجمة بالضرابين، فوقع تحتها: في حديد بارد. وقال الصاحب يوماً: ما أفحمني أحد كالبديهي فإنه كان عندي يوماً وأتينا بفاكهة ومشمش فأمعن فيه، فاتفق أن قلت: إن المشمش يلطخ المعدة، فقال: لا يعجبني من يطب على مائدته (1) . ووقع في رقعة أبي محمد الخازن، وكان ذهب مغاضباً ثم كتب إليه يستأذنه لمعاودة حضرته: (ألم نربك فينا وليداً ولبثت فينا من عمرك سنين وفعلت فعلتك التي فعلت) . ورفع إليه بعض منهي الأخبار أن رجلاً غريب الوجه يدخل داره ويتلطف لاستراق السمع، فوقع تحتها: دارنا هذه خان يدخلها من وفى ومن خان (2) . وحبس بعض عماله لحاجة في نفسه فأشرف على دار الضرب فلما رآه ناداه   (1) اشتركت نسختا د وآيا صوفيا: 58 ب في إيراد هذه الحكاية باختلاف يسير في النص؛ وهنالك حكاية شبيهة بهذه ذكرها أبو حيان التوحيدي في المضيرة وذكر أنه هو المجيب للصاحب بذلك الجواب (انظر: معجم الأدباء 15: 7) . (2) وردت هذه الحكاية أيضاً في نسخة آيا صوفيا: 58 ب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 بأعلى صوته: (فاطلع فرآه في سواء الجحيم) فضحك الصاحب وقال: (اخسأوا فيها ولا تكلمون) ثم أمر بإطلاقه. وكتب إليه رجل رقعة أغار فيها على شيء من لفظه فوقع فيها: (هذه بضاعتنا ردت إلينا) (1) . وأطال شاب عنده المكث ولم يغيره في القيام فقال للفتى: من أين قال: من قم، قال: فإذاً قم. حكى أبو النصر العتبي قال: سمعت أبا جعفر دهقان بن ذي القرنين يقول: قدمت إلى الصاحب هدية أصحبنيها الأمير أبو علي محمد بن محمد برسمه فاعتذرت إليه بأن قلت إنها إذا نقلت من خراسان إلى حضرته كانت كالتمر ينقل إلى كرمان، فقال: قد ينقل التمر من المدينة إلى البصرة على جهة التبرك بها، وهذه سبيل ما يصحبك. وحكى الهمذاني قال: كان واحد من الفقهاء يعرف بابن الحصيري يحضر مجلس الصاحب بالليالي فغلبته عيناه مرة وخرجت منه ريح لها صوت، فخجل وانقط عن المجلس، فقال الصاحب: أبلغوه عني: يا ابن الحصيري لا تذهب على خجل ... لحادث كان مثل الناي والعود كأنها الريح لا تستطيع تحبسها ... إذ أنت لست سليمان بن داود وعرض مثل ذلك لبعض حاضري مجله فقال: إنه صرير التخت، فقال الصاحب: أخشى أن يكون صرير التحت. وحكى أبو الحسين النحوي قال: كان الصاحب منحرفاً عن أبي الحسين ابن فارس لانتسابه إلى خدمة آل العميد وتعصبه لهم، فأنفذ إليه من همذان كتاب " الحجر " من تأليفه فقال: رد الحجر من حيث جاءك، ثم لم تطب نفسه بتركه فنظر فيه وأمر له بصلة. وكان المأموني الأبهري الشاعر قد قال في شاعر آخر أبهري يهجوه:   (1) وردت هذه الحكاية أيضاً في نسخة آيا صوفيا: 58 ب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 كلانا إلى آدم نعتزي ... وتجمعنا آصرات الرحم ولكن له الفضل في أنه ... يصول بقرن وأني أجم واتفق أن أحضر مجلس الصاحب فقال له: من تكون فقال: الخادم المأموني الأبهري الشاعر، فقال: الأقرن أم الأجم فاستحيا وخجل. وقال (1) الصاحب بن عباد: ما أخجلني [قط] غير ثلاثة منهم أبو الحسن البديهي، فإنه كان في نفرٍ من جلسائي فقلت له وفد أكثر من أكل المشمش: لا تأكله فإنه يلطخ المعدة، فقال: ما يعجبني من يطب على مائدته؛ وآخر قال لي وقد خرجت من دار السلطان وأنا ضجر من أمرٍ عرض لي: من أين أقبلت يا مولانا فقلت: من لعنة الله، فقال: رد الله غربتك وأحسن على إساءته الأدب؛ وصبي مستحسن داعبته فقلت: ليتك تحتي، فقال: مع ثلاثة آخرين، يعني في الجنازة، فأخجلني (2) . ودخل أبو بكر الخوارزمي على الصاحب في أول لقائه إياه فارتفع على الحاضرين في مجلسه من العلماء والأدباء، والجماعة لا تعرفه، فتساءلوا عنه وغاظهم ما رأوا منه، وقال أحدهم: من ذا الكلب قولاً سمعه أبو بكر فالتفت إليه وقال: الكلب من لا يعرف للكلب مائة اسم ويحفظ في مدحه مائة مقطوعة وفي ذمه مثلها، فقال الصاحب: فأنت أبو بكر الخوارزمي، قال: نعم عبدك، قال له: حق لك، وقدمه وقربه. وصنع الصاحب لأصحابه دعوة وأعرض عن غيرهم، فصنع سديد الدولة أبو عبد الله محمد بن عبد الكريم الأنباري فيه: إن آثر الصاحب ذا ثروة ... وعاف ذا فقر وإفلاس لا غرو فالله إلى بيته ... دعا المياسير من الناس وذكر بعض الفقهاء عن وعد وعده إياه فقال: وعد الكريم ألذ من دين الغريم.   (1) اشتركت نسخة ف مع نسخة د من هنا وحتى آخر الزيادة. (2) وردت هذه الحكاية أيضاً في نسخة آيا صوفيا: 58 ب - 59 أ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 ولما رجع عن العراق سأله ابن العميد عن بغداد فقال: بغداد في البلاد كالأستاذ في العباد (1) . (28) (ترجمة الظافر العبيدي، رقم: 99، ص: 237، س: 12) وطرحوه في بئر في الدار وأخفي قتله؛ وكان الظافر أقطع ابن عباس قيلوب، وهي من أعظم قرى مصر، فدخل إليه مؤيد الدولة ابن منقذ وهو عند أبيه عباس فقال له نصر: قد أقطعني مولانا قيلوب، فقال له مؤيد الدولة: ما هي في مهرك كبير، فعظم عليه وعلى أبيه، وأنف من هذه الحال، وشرع في قتل الظافر بأمر أبيه، فحضر نصر عند الظافر وقال: أشتهي أن تجيء إلى داري لدعوة صنعتها ولا تكثر؛ فمشى إليه في نفر يسير من الخدم ليلاً فلما دخل الدار قتله رحمه الله تعالى. (29) (ترجمة آق سنقر البرسقي، رقم: 103، ص: 242، س: 19) (2) وكان (3) قد رأى تلك الليلة في منامه أن عدة من الكلاب ثارت به، فقتل بعضها ونال منه الباقي ما آذاه، فقص على أصحابه فأشاروا عليه بترك الخروج من داره عدة أيام، فقال: لا أترك الجمعة لشيء أبداً، فغلبوه على رأيه ومنعوه من قصد الجمعة، فعزم على ذلك. ثم أخذ المصحف يقرأ فيه فأول ما رأى (وكان أمر الله قدراً مقدوراً) فركب إلى الجامع على عادته، وكان يصلي في   (1) وردت هذه الحكاية أيضاً في نسخة آيا صوفيا: 59 أ. (2) هذه الزيادة أيضاً في نسخة آيا صوفيا: 63 ب - 63 أ، وما وضع بين معقفين فيها هو إضافة من هذه النسخة على نسخة د. (3) انظر ابن الأثير 10: 633، 643 - 644. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 الصف الأول فوثب عليه بضعة عشر نفساً عدة الكلاب التي رآها [في المنام] فجرحوه بالسكاكين، فجرح هو بيده منهم ثلاثة وقتل رحمه الله تعالى. وكان مملوكاً تركياً خيراً يحب العلم والصالحين ويرى العدل ويفعله ويحافظ على الصلوات في أوقاتها ويصلي من الليل مجتهداً. قل عز الدين بن الأثير: قال لي والدي رحمه الله تعالى عن بعض من كان يخدمه: كنت معه فكان يصلي كل ليلة كثيراً وكان يتوضأ هو بنفسه ولا يستعين بأحد، ولقد رأيته في بعض ليالي الشتاء بالموصل قد قام من فراشه وعليه فرجية صغيرة وبيده إبريق، فمشى نحو دجلة ليأخذ ماءً، فمنعني البرد من القيام، ثم إني خفته، فقمت إلى بين يديه لآخذ الإبريق منه، فمنعني وقال: يا مسكين ارجع إلى مكانك فإنه برد، فاجتهدت لآخذ الإبريق منه فلم يعطني وقام يصلي. وتولى بعده ولده عز الدين مسعود ثم توفي [يوم الثلاثاء الثاني والعشرين من جمادى الآخرة] سنة 521 رحمه الله تعالى (1) ، وقام بعده أخ له صغير، واستولى على البلاد مملوك للبرسقي اسمه جاوني؛ وكان السلطان محمود ذكر جماعة ممن يصلح للولاية فمنهم عماد الدين زنكي لما حضر إليه أعيان البلاد وقالوا: هذا طفل ولابد للبلاد من رجل شهم ذي رأي وتجربة، فاستحسن السلطان ذلك واستشارهم فيمن يصلح، فأشاروا بعماد الدين زنكي وبذلوا عنه مالاً جزيلاً يحمله إلى خزانة السلطان، فأجاب إلى توليته، كما سيأتي في حرف الزاي إن شاء الله تعالى. (30) (ترجمة القاضي إياس، رقم: 105، ص: 249، س: 5) ودخل الشام وهو غلام وتقدم خصمه وكان شيخاً إلى قاض لعبد الملك ابن مروان فقال له القاضي: أتتقدم شيخاً كبيراً قال: الحق أكبر منه، قال: اسكت، قال: فمن ينطق بحجتي قال: لا أظنك تقول حقاً حتى تقوم، قال:   (1) إلى هنا تنتهي الزيادة من نسخة آيا صوفيا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 لا إله إلا الله، فقام القاضي ودخل على عبد الملك، فخبره بالخبر، فقال: اقض حاجته وأخرجه عن الشام لا يفسد عليّ الناس. وقال إياس لأبيه وهو طفل وكان أبوه يؤثر أخاه عليه -: يا أبه تعلم ما مثلي ومثل أخي معك إلا كفرخ الحمام، أقبح ما يكون أصغر ما يكون، فكلما كبر ازداد ملاحة وحسناً، فتبني له العلالي وتتخذ له المربعات ويستحسنه الملوك، ومثل أخي مثل الجحش الصغير فأملح ما يكون أصغر ما يكون، وكلما كبر صار القهقري، إنما يصلح لحمل الزبل والتراب. قال المدائني: كان إياس بن معاوية بن قرة قاضياً فائقاً مرجياً، استقضاه عمر ابن عبد العزيز رضي الله عنه فلم يزل على القضاء سنة ثم هرب، وكان سبب هروبه ما حدث المدائني قال: قال أبو قبيصة: كان المهلب بن القاسم بن عبد الرحمن الهلالي تزوج أم شعيب بنت محمد بن الرهامس الطائي وأمها علياء بنت أبي صفرة، وأم القاسم بن عبد الرحمن فاطمة بنت أبي صفرة، وكان المهلب بن القاسم ماجناً يشرب، فشرب يوماً وامرأته بين يديه فناولها القدح فأبت أن تشربه ووضعته بين يديها فقال لها: أنت طالق ثلاثاً إن لم تشربيه، فقام إليها نسوة فقلن لها: اشربيه، وفي الدار ظبي حاجر، فعدا الظبي فمر بالقدح فكسره، فقامت المرأة وجحد المهلب فقال: لم أطلقك، ولم يكن لها شهود إلا نساء، فأرسلت إلى أهلها فحولوها إليهم، فاستدعى القاسم بن عبد الرحمن عدي بن أرطاة وقال: غلبوا بني على امرأته، فتعصب له عدي بردها، فخاصمه إياس وشهد لها نساء، فقال إياس: لئن قربتها لأرجمنك، فغضب عدي على إياس فقال له عمر بن يزيد الأسدي وكان عمر عدواً لإياس لأن إياساً [قضى] على أبيه بأرحاء كانت في يده لقوم فقال لعدي: انظر قوماً يشهدون على إياس أنه قذف المهلب بن القاسم فتحده ويعزل، قال: فانظر من يشهد عليه، فأتاه بيزيد الرشك وبابن أبي رباط مولى ضبيعة ليلاً، فأجمعوا على أن يرسل عدي إلى إياس إذا اصبح فيشهدان عليه، والقاسم بن ربيعة الجوشني ابن عدي، فقال عمر بن يزيد لعدي: إن القاسم سيأتي إياساً فيحذره، فاستحلف عدي القاسم لا يعلمه، فحلف القاسم، وخرج فمر بباب إياس فقرعه، فقالوا له: من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 قال: القاسم بن ربيعة، كنت عند الأمير فأحببت أن لا أصل إلى منزلي حتى أمر بك، ومضى؛ فقال غياس: ما جاء في هذه الساعة إلا لأمر قد علمه وخاف عليّ منه، فتوارى وخرج إلى واسط؛ واغتم عدي فقال له يوسف بن عبد الله بن عثمان بن أبي العاص: خذ الوثيق من الأمر إن أردت ألا يعتب عليك أمير المؤمنين، فاستقض الحسن، فولى عدي الحسن، وكتب إلى عمر رضي الله عنه يعيب إياساً. ويذكر أن قوماً رأوا إياساً وخالد بن أبي الصلت في بعض خرابات البصرة يتكلمان بما لا تنطق به الألسن، وبلغني أن إياساً يقول: إذا كانت السنة كثيرة الأمطار فهي سنة يسر، فكتب إليه عمر رضي الله عنه: ما رأيت أحداً كان أحن قولاً في إياس من أبيك، ولا رأيت أحداص في زماننا الثناء عليه أحسن منه عليه، وقد بلغني وصح من نياتكم لم يتحقق عندي وقد أحسنت إذ وليت الحسن. وولي عمر الحسن وكان الحسن لا يرى أن يرد شهادة مسلم إلا أن يجرح المشهود عليه الشاهد، فأتاه رجل فقال: يا أبا سعيد إن إياساً رد شهادتي، فقام معه الحسن إليه فقال: يا أبا واثلة لم رددت شهادة هذا المسلم وقد قال رسول الله صلى عليه وسلم: من صلى قبلتنا فهو مسلم له ما لنا وعليه ما علينا فقال: يا أبا سعيد إن الله يقول (ممن ترضون من الشهداء) وهذا ممن لا نرضاه، فلم يكلمه الحسن بعد ذلك. (31) (ترجمة بشار بن برد، رقم: 113، ص: 272، س: 22) (1) وهو من [الشعراء] مخضرمي الدولتين العباسية والأموية وقد نبغ فيهما ومدح وهجا وأخذ الجوائز السنية مع الشعراء.   (1) اشتركت نسخة ف مع نسخة د في هذه الزيادة، مع بعض الاختلاف في النص أحياناً، وورد في نسخة آيا صوفيا: 70 ب - 71 ب معظم ما جاء في هذه الزيادة، وسقط منها ما بين قوله: " وقيل لبشار: ما لكم معشر الشعراء ... " وقوله: " فلا تصدق حتى ترى "؛ وما وضع بين معقفين في هذه الزيادة هو إضافة من نسخة آيا صوفيا على النسختين الأخريين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 قال أبو عبيدة (1) : لقب المرعث لأنه كان في أذنه وهو صغير رعاث والرعاث القرطة واحدتها رعثة وجمعها رعاث، ورعثات الديك اللحم المتدلي تحت حنكه. قال محمد بن يزيد العجلي: سمعت الأصمعي يذكر أن بشاراً كان أشد تبرماً بالناس، وكان يقول: الحمد لله الذي أذهب بصري، فقيل له: ولم ذاك يا أبا معاذ فقال: لئلا أرى من أبغض. وكان يلبس قميصاً له لبنتان فإذا أراد أن ينزعه نزعه من أسفله، وبذلك تسمى المرعث. قال الأصمعي: ولد بشار أعمى فما نظر إلى الدنيا قط، وكان يشبه الأشياء في شعره بعضها ببعض فيأتي بما لا يقدر البصراء على أن يأتوا بمثله، فقيل له يوماً وقد أنشد قوله: كأن مثار النقع فوق رؤوسنا ... وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه ما قيل أحسن من هذا التشبيه، فمن أين لك هذا ولم تر الدنيا قط ولا شيئاً فيها فقال: إن عدم النظر يقوي ذكاء القلب ويقطع عنه الشغل بما ينظر إليه من الأشياء فيتوفر حسه وتذكر قريحته. وقال أبو العواذل زكريا بن هارون: قال لي بشار: لي اثنا عشر ألف قصيدة أفما في كل قصيدة بيت جيد وحكي عنه أنه قال: هجوت جريراً فأعرض عني ولو هجاني لكنت أشعر الناس. وكان بشار يدين بالرجعة ويكفر الجميع من الأمم ويصوب رأي إبليس في تقديم النار على الطين، وقد ذكر ذلك في شعره حيث يقول: الأرض مظلمة والنار مشرفة ... والنار معبودة مذ كانت النار رأيت في بعض الكتب أن عبد الله بن ظاهر لما قدم نيسابور صحبه من   (1) أكثر هذا من الأغاني 3: 134 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 أولاد المجوس شاب متطبب يدعي تحقيق الكلام فأظهر مسئلة تحريق النفس بالنار، وكان يزعم أن الجسد منتن في حال الحياة فإذا مات فلا حكمة في دفنه والتسبب إلى زيادة نتنه، وإن الواجب إحراقه وإذراء رماده، فقيل لبعض الفقهاء: إن الناس قد افتتنوا بمقالة المجوسي، فكتب الفقيه إلى عبد الله بن طاهر أن اجمع بيننا وبين هذا المجوسي نسمع منه؛ فاجتمعوا بمجلس عبد الله بن طاهر، فلما تكلم المجوسي بمقالته تلك قال له الفقيه: أخبرنا عن صبي تداعته أمه وحاضنته أيهما أولى به، فقال: الأم، فقال: إن هذه الأرض هي الأم منها خلق آدم وأولى بأولادها أن ترد إليها، وأنشد لأمية بن أبي الصلت: والأرض معقلنا وكانت أمنا ... فيها مقابرنا ومنها نولد فأفحم المجوسي وقطعه. وكان الأصمعي يقول: بشار خاتمة الشعراء والله ولولا أن أيامه تأخرت لفضلته على كثير منهم. ولقي أبو عمرو ابن العلاء بعض الرواة فقال: يا أبا عمرو من أبدع الناس بيتاً فقال: الذي يقول: لم يطل ليلي ولكن لم أنم ... ونفى عني الكرى طيف ألم روحي عني قليلاً واعلمي ... أنني يا عبد من لحم ودم [إن في بردي جسماً ناحلاً ... لو توكأت عليه لانهدم ختم الحب لها في عنقي ... موضع الخاتم من أهل الذمم] قال: فمن أمدح الناس قال: الذي يقول: لمست بكفي كفه ابتغي الغنى ... ولم أدر أن الجود من كفه يعدي فلا أنا منه ما أفاد ذوو الغنى ... أفدت وأعداني، فأتلفت ما عندي قال: فمن أهجى الناس قال: الذي يقول: رأيت السهيلين استوى الجود فيهما ... على بُعد ذا من ذاك في حكم حاكم سهيل بن عثمان يجود بماله ... كما جاد بالوجعا سهيل بن سالم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 قال: ويحك هذه الأبيات كلها لبشار. وقال محمد بن الحجاج: قلت لبشار: إني أنشدت فلاناً قولك: إذا كنت في كل الأمور معاتباً ... صديقك لم تلق الذي لا تعاتبه فعش واحداً أو صل أخاك فإنه ... مقارف ذنب مرة ومجانبه إذا أنت لم تشرب مراراً على القذى ... ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه فقال: ما كنت أظنه إلا لرجل كبير، فقال لي بشار: ويلك أفلا قلت له هو والله أكبر الإنس والجن وحدث الأصمعي قال: قلت لبشار: يا أبا معاذ، الناس يعجبون من أبياتك في المشورة، قال: يا أبا سعيد إن المشاور بين صواب يفوز بثمرته، أو خطأ يشارك في مكروهه، فقلت له: أنت والله في قولك أشعر منك في شعرك. وقيل لبشار: ما لكم معشر الشعراء لا تكافأون في قدر مديحكم قال: لأنا نكذب في العمل فنكذب في الأمل؛ ومثل هذا قيل لأبي يعقوب الخزيمي محمد ابن منصور بن زياد: شعرك في مديحك أجود من شعرك في مرائيك، قال: إن ذلك للرجاء وهذا للوفاء وبينهما بون. وقيل: كان بشار جالساً في دار المهدي والناس ينتظرون الإذن، فقال بعض موالي المهدي لمن حضر: ما عندكم في قول الله عز وجل (وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتاً) فقال له بشار: النحل التي تعرفها الناس، فقال: هيهات يا أبا معاذ، النحل بنو هاشم وقوله (يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه يه شفاء للناس) يعني أهل العم، فقال له بشار: أرني الله شرابك وطعامك وشفاءك مما يخرج من بطون بني هاشم فقد أوسعت غثاثة، فغضب وشتم بشاراً، وبلغ المهدي الخبر فدعا بهما وسألهما عن القصة فحدثه بشار بها، فضحك حتى أمسك على بطنه، ثم قال للرجل: فجعل الله طعامك وشرابك مما يخرج من بطون بني هاشم فإنك بارد غث. قال: ودخل يزيد بن منصور الحميري على المهدي وبشار بين يديه ينشده قصيدة امتدحه بها، فلما فرغ منها أقبل عليه يزيد من منصور وكان فيه غفلة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 فقال: يا شيخ ما صناعتك قال: أثقب اللؤلؤ، فضحك المهدي ثم قال لبشار: أعزب، أتتنادر على خالي فقال: وما أصنع به يرى شيخاً أعمى ينشد الخليفة شعراً يسأله عن صناعته. ووقف على بشار بعض المجان وهو ينشد شعراً بسكة فقال له: استر شعرك كما تستر عورتك، فصفق بشار بيديه وغضب وقال له: ويلك من أنت فقال: أنا أعزك الله رجل من باهلة وأخوالي سلول وأصهاري عك واسمي كلب ومولدي بأضاخ ومنزلي بنهر بلال، قال: فضحك بشار وقال: اذهب ويلك فأنت عتيق لؤمك، قد علم الله أنك استترت مني بحصون من حديد. ومر بشار برجل قد رمحته بغلة وهو يقول: الحمد لله شكراً، فقال له: استزده يزدك. ومر به قوم يحملون جنازة وهم يسرعون المشي بها فقال: ما لهم مسرعين أتراهم سرقوها فهم يخافون أن يلحقوا فتؤخذ منهم وكان رجل من أهل البصرة ممن كان يتزوج النهاريات قال: تزوجت امرأة منهن فاجتمعت معها في علو بيت وبشار تحتنا، أو كنا في سفل وبشار يعلوه [مع امرأة] ، فنهق حمار في الطريق فأجابه حمار في الجيران وحمار في الدار، فارتجت الناحية بنهيقهما، وضرب الحمار الذي في الدار برجله وجعل يدقها دقاً شديداً فسمعت بشاراً يقول للمرأة: نفح يعلم الله في الصور وقامت القيامة، أما تسمعين كيف يدق على أهل القبور حتى يخرجوا منها قال: ولم تلبث أن فزعت شاة وكانت في السطح فقطعت حبلها وعدت فألقت طبقاً فيه غضارة إلى الدار، فانكسرت، وتطاير حمام ودجاج كان في الدار لصوت الغضارة، وبكى صغير في الدار، فقال بشار: صح الخبر يعلم الله، أزفت الآزفة وزلزلت الأرض، فعجبت من كلامه وغاظني، فسألت: من المتكلم فقيل لي: بشار، فقلت: قد علمت أنه لا يتكلم بهذا غير بشار. وتوفي ابن لبشار فجزع عليه فقيل له: اجر قدمته وفرط أفرطته وذخر أحرزته، فقال: ولد دفنته وثكل تعجلته وغيب وعدته وانتظرته، والله لئن لم أجزع للنقص لم أفرح بالمزيد، وقال يرثيه من أبيات: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 عجبت لإسراع المنية نحوه ... وما كان لو مليته بعجيب قيل: رفع غلام بشار ليه في حساب نفقته جلاء مرآة عشرة دراهم، فصاح به بشار وقال: والله ما سمع بأعجب من هذا، جلاء مرآة أعمى عشرة دراهم، والله لو صدئت عين الشمس حتى يبقى العالم في ظلمة ما بلغت أجرة من يجلوها عشرة دراهم. وحضر بشار باب محمد بن سليمان فقال له الحاجب: اصبر، فقال: الصبر لا يكون إلا عن ثلاثة، فقال الحاجب: إني أظن وراء قولك هذا شراً، ولن أتعرض إليك، قم فأدخل. وقال هلال بن عطية لبشار وكان صديقاً له يمازحه: إن الله عز وجل لم يذهب بصر أحد إلا عوضه شيئاً، فما عوضك فقال: الطويل العريض، قال: وما هو قال: لا أراك ولا أمثالك من الثقلاء؛ ثم قال: يا هلال أتطيعني في نصيحة أخصك بها قال: نعم، قال: إنك كنت تسرق الحمير زماناً، ثم تبت وصرت رافضياً، فعد إلى سرقة الحمير فهي والله خير لك من الرفض؛ وكان هلال يستثقل، وفيه يقول بشار: وكيف يخف لي بصري وسمعي ... وحولي عسكران من الثقال إذا ما شئت صبحني هلال ... وأي الناس أثقل من هلال وقد قيل إن الذي خاطب بشاراً بهذه المخاطبة هو ابن سيابة، فلما أجابه بشار قال له: من أنت قال له: أنا ابن سيابة، قال: يا ابن سيابة، لو نكح الأسد لما افترس؛ قال: وكان يهتم بالابنة. وقالت امرأة لبشار: ما أدري لم تهابك الناس مع قبح وجهك، فقال بشار: أليس من قبحه يهاب الأسد وحكى محمود الوراق: أتينا بشاراً فأذن لنا فدخلنا والمائدة موضوعة بين يديه فلم يدعنا إلى طعامه، فلما أكل دعا بطست فكشف عن سوءته وبال، ثم حضرت الظهر والعصر والمغرب فلم يصل، فدنونا منه وقلنا له: أنت أستاذنا فقد رأينا منك أشياء نكرهها، قال: ما هي قلنا: دخلنا والطعام بين يديك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 فلم تدعنا، فقال: إنما أذنت لكم لتأكلوا ولو لم أرد ذاك لما أذنت لكم، قال: ثم ماذا قلنا: ودعوت بالطست ونحن حضور فبلت ونحن نراك، فقال: أنا مكفوف وأنتم بصراء وأنتم المأمورون بغض الأبصار دوني، قال: مه ثم ماذا قلنا: حضرت الظهر والعصر والمغرب فلم تصل، قال: إن الذي يقبلها تفاريق يقبلها جملاً. وحكى أبو أيوب الجرمي قال: قعد إلى جنب بشار رجل فاستثقله فضرط ضرطة، فظن الرجل أنها أفلتت، ثم ضرط أخرى فقال: أفلتت، ثم ضرط ثالثة فقال: يا أبا معاذ ما هذا فقال: مه أرأيت أم سمعت فقال: لا بل سمعت صوتاً قبيحاً، قال: فلا تصدق حتى ترى. وقيل إن امرأة قالت لبشار: أي رجل أنت لو كنت أسود الرأس واللحية، فقال بشار: أما علمت أن بيض البزاة أثمن من سود الغربان فقالت: أما قولك فحسن في السمع، فمن لك بأن يحسن [شيبك] في العين كما حسن [قولك] في السمع فكان بشار يقول: ما أفحمني إلا هذه المرأة. وقال بعض الشعراء: أتيت بشاراً وبين يديه مائتا دينار فقال لي: خذ منها ما شئت، أو تدري ما سببها قلت: لا، قال: جاءني فتى فقال: أنت بشار قلت: نعم، فقال لي: كنت آليت على نفسي أن أدفع إليك مائتي دينار، وذلك أني عشقت امرأة وجئت إليها وكلمتها فلم تلتفت إليّ فهممت بأن أتركها ثم ذكرت قولك: لا يؤنسك من مخبأةٍ ... قول تغلظه وإن جرحا عسر النساء إلى مياسرة ... والصعب يمكن بعدما جمحا فعدت إليها ولازمت فناءها، فلم أرجع حتى بلغت حاجتي. ولما بلغ المهدي هذان البيتان استدعاه فلما قدم عليه استنشده فأنشده إياهما، وكان المهدي غيوراً، فقال: تلك أمك يا عاض كذا وكذا من أمه، تحض النساء على الفجور وتقذف المحصنات المخبآت! والله لئن قلت بعد هذا بيتاً واحداً فيه تشبيب لآتين على نفسك! ولم يحظ بشيء منه فهجاه في قصيدة فقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 خليفة يزني بعماته ... يلعب بالدبوق والصولجان أبدلنا الله به غيره ... ودس موسى في حر الخيزران وأنشدها في حلقة ابن يونس النحوي فسعي به إلى يعقوب بن داود وكان بشار قد هجاه فقال: بني أمية هبوا طال نومكم ... إن الخليفة يعقوب بن داود ضاعت خلافتكم يا قوم فالتمسوا ... خليفة الله بين الناي والعود فدخل يعقوب على المهدي فقال: يا أمير المؤمنين إن هذا الأعمى الملحد الزنديق بشاراً قد هجاك، قال: بأي شيء قال: بما لا ينطق به لساني ولا يتوهمه فكري، فقال: بحياتي أنشدني إياه، فقال: والله لو خيرتني بين إنشادي إياه وضرب عنقي لاخترت ضرب عنقي، فحلف عليه المهدي بالأيمان المغلظة التي لا فسحة له فيها أن يخبره، فقال: أما لفظاً فلا ولكني أكتب لك، فكتبه ودفعه إليه فكاد ينشق غيظاً، وعمل على الانحدار إلى البصرة للنظر في أمرها، وما وكده غير بشار، فانحدر، فلما بلغ البطيحة سمع أذاناً في ضحى النهار فقال: انظروا ما هذا الأذان، فإذا بشار سكران فقال له: يا زنديق يا عاض بظر أمه، عجبت أن يكون هذا غيرك، أتلهو بالأذان في غير وقت صلاة وأنت سكران! ثم دعا بأبي نهيك وأمره بضربه فضربه بين يديه على صدر الحراقة سبعين سوطاً أتلفه فيها، فكان إذا أصابه السوط يقول: حس حس، وهي كلمة تقولها العرب للشيء إذا أوجع، فقال له بعضهم: انظر إلى زندقته يا أمير المؤمنين، يقول حس ولا يقول: بسم الله، فقال: ويلك أطعام هو فأسمي عليه قال له آخر: أفلا قلت: الحمد لله قال: أو هي نعمة فأحمد الله عليها إنما هي بلية أسترجع منها؛ فلما ضربه سبعين سوطاً بان الموت فيه، فألقي في سفينة، فقال: ليت عين أبي الشمقمق تراني حيث يقول: إن بشار بن برد ... تيس أعمى في سفينه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 ولما مات ألقيت جثته في البطيحة في موضع يعرف بالجرار فحمله الماء فأخرجه إلى دجلة، فجاء بعض أهله فحملوه إلى البصرة لدفنه؛ قال النوفلي: فأخرجت جنازته فما تبعه أحد إلا جارية سوداء سندية عجماء رأيتها خلف جنازته تصيح: واسيداه، ما تفصح؛ ولما نعي لأهل البصرة تباشر عامتهم وهناً بعضهم بعضاً، وحمدوا الله وتصدقوا ما كانوا قد بلوا به من لسانه. وقيل: كان سبب قتل بشار أن صالح بن داود لنا ولي أخوه يعقوب بن داود وزير المهدي البصرة قال يهجوه: هم حملوا فوق المنابر صالحاً ... أخاك فضجت من أخيك المنابر فبلغ ذلك يعقوب بن داود فسعى فيه بما تقدم. وكانت وفاته وقد ناهز تسعين سنة، ودفن بالبصرة في سنة سبع وقيل ثمان وستين ومائة، رحمه الله تعالى. (32) (ترجمة ذي النون المصري، رقم: 129، ص: 316، س: 8) وكان يعرف اسم الله الأعظم؛ قال يوسف بن الحسين: قيل لي إن ذا النون يعرف اسم الله الأعظم، فدخلت مصر وخدمته سنة ثم قلت: يا أستاذ إني قد خدمتك وقد وجب حقي عليك، وقيل لي إنك تعرف اسم الله الأعظم، وقد عرفتني ولا تجد له موضعاً مثلي فأحب أن تعلمني إياه؛ قال: فسكت عني ذو النون ولم يجبني وكأنه أومأ إلى أنه يختبرني؛ قال: فتركني بعد ذلك ستة أشهر ثم أخرج إليّ من بيته طبقاً ومكبة مشدوداً في منديل، وكان ذو النون يسكن الجيزة، فقال: تعرف فلاناً صديقنا من الفسطاط فقلت: نعم، قال: وأحب أن تؤدي هذا إليه. قال: فأخذت الطبق وهو مشدود وجعلت أمشي طول الطريق وأنا مفكر فيه: مثل ذي النون يوجه إلى فلان هدية ترى أي شيء هي فلم أصبر إلى أن بلغت الجسر، فحللت المنديل ورفعت المكبة، فإذا فأرة قفزت من الطبق ومرت؛ قال: فاغتظت غيظاً شديداً وقلت: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 ذو النون يسخر بي ويوجه مع مثلي فأرة! فرجعت على ذلك الغيظ، فلما رآني عرف ما في وجهي، فقال: يا أحمق إنما جربناك، ائتمنتك على فأرة فخنتني أفأئتمنك على اسم الله الأعظم مر عني فلا أراك أبداً (1) . وكان المتوكل قد أمر بإشخاصه سنة خمس وأربعين ومائتين فوصل إلى سر من رأى، فأنزله الخليفة في بعض الدور وأوصى به رجلاً يعرف بزرافة، وقال: إذا أنا رجعت من ركوبي فأخرج إليّ هذا الرجل، فقال له زرافة: إن أمير المؤمنين قد أوصاني بك؛ فلما رجع من الغد قال له: تستقبل أمير المؤمنين بالسلام، فلما أخرجه إليه قال: سلم على أمير المؤمنين، فقال ذو النون ليس هكذا جاءنا الخبر، إن الراكب يسلم على الراجل، قال: فتبسم الخليفة وبدأه بالسلام ونزل إليه فقال له: أنت زاهد مصر، قال: كذا يقولون، ثم وعظه، وأكرمه الخليفة ورده إلى مصر مكرماً. (33) (ترجمة جرير الشاعر، رقم: 130، ص: 322، س: 8) (2) حكى عقال بن شبة قال: كنت رديف أبي، فلقيه جرير على بغل فحياه أبي وألطفه فقلت له: أبعد ما قال لنا ما قال! [قال] : يا بني أفأوسع جرحي وحدث أبو الخطاب عن أبيه عن بلال بن جرير قال: قلت لأبي: ما هجوت قوماً إلا أفسدتهم سوى التيم، قال: إني لم أجد حسباً فأضعه ولا بناء فأهدمه. وحكى حماد عن أبيه عن إسحاق بن يحيى بن طلحة قال: قدم علينا جرير المدينة فحشدنا له، فبينا نحن عنده ذات يوم إذ قام لحاجته وجاء الأحوص فقال: أين هذا قلنا: قام آنفاً، ما تريد منه قال: أخزيه، والله إن   (1) وردت هذه الحكاية في نسخة آيا صوفيا: 80 ب أيضاً. (2) اشتركت نسخة ف مع نسخة د في هذه الزيادة مع بعض الاختلاف في النص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 الفرزدق لأشعر منه وأشرف، قلنا له: لا ترد ذلك، فلم يلبث أن جاء جرير فقال له الأحوص: السلام عليك، قال: وعليك السلام، قال: يا ابن الخطفي، الفرزدق أشعر منك وأشرف، فأقبل جرير علينا فقال: من الرجل قلنا: الأحوص بن محمد بن عاصم بن ثابت بن أبي الأفلح الأنصاري، قال: هذا الخبيث ابن الطيب، ثم أقبل عليه فقال: قد قلت: يقر بعيني ما يقر بعينها ... وأحسن شيء ما به العين قرت فإنه يقر بعينها أن يدخل فيها مثل ذراع البكر، أفيقر ذلك بعينك قال: وكان الأحوص يرمي بالأبنية، فانصرف وأرسل إليه بتمر وفاكهة؛ وأقبلنا نسأل جريراً وهو في مؤخر البيت وأشعب عند الباب فأقبل أشعب يسأله، فقال له جرير: والله إنك لأقبحهم وجهاً ولكني أراك أطولهم حسباً وقد أربمتني، قتال: أنا والله أنفعهم لك، فانتبه جرير وقال: وكيف قال: لأني أملح شعرك، وأندفع يغنيه قوله: يا أم ناجية السلام عليكم ... قبل الرحيل وقبل لوم العذل لو كنت أعلم أن آخر عهدكم ... يوم الرحيل فعلت ما لم أفعل قال: فأدناه جرير حتى ألصق ركبته بركبته وجعله أقربنا منه ثم قال: أجل والله إنك أنفعهم لي وأحسنهم ترتيباً لشعري، فأعاده عليه، وجرير يبكي حتى أخضلت لحيته بالدموع، ثم وهب لأشعب دراهم كانت معه، وكساه حلة من حلل الملوك، وكان يرسل إليه طول مقامه بالمدينة فيغنيه أشعب، ويعطيه جرير شعره فيغني فيه. وحكى (1) الهيثم بن عدي عن عوانة بن الحكم قال: لما استخلف عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وفد الشعراء إليه وأقاموا ببابه أياماً لا يؤذن لهم، فبينا هم كذلك وقد أزمعوا على الرحيل إذ مر بهم رجاء بن حيوة وكان   (1) ورد هذا الخبر كاملاً في نسخة آيا صوفيا 81 ب - 82 ب أيضاً مع بعض الاختلاف في النص عن نسختي د وف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 خطيباً من أهل الشام فلما رآه جرير داخلاً على عمر أنشأ يقول: يا أيها الرجل المرخي عمامته ... هذا زمانك فاستأذن لنا عمرا قال: فدخل فلم يذكر من أمرهم شيئاً؛ قال: ومر بهم بعده عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود (1) فقال له جرير: يا أيها الرجل المرخي مطيته ... هذا زمانك إني قد مضى زمني أبلغ خليفتنا إن كنت لاقيه ... إني لدى الباب كالمصفود في قرن لا تنس حاجتنا لقيت مغفرة ... قد طال مكثي عن أهلي وعن وطني قال: فدخل عون (2) على عمر فقال: يا أمير المؤمنين، الشعراء ببابك وسهامهم مسمومة وأقوالهم نافذة، قال: ويحك يا عون (3) ، ما لي وللشعراء قال: أعز الله أمير المؤمنين، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد امتدح فأعطى وفي ذلك أسوة، قال: وكيف ذلك قال: امتدحه العباس بن مرداس السلمي فأمر له بحلة فقطع بها لسانه، قال: وهل تروي من قوله شيئاً قال: نعم، وأنشده: رأيتك يا خير البرية كلها ... نشرت كتاباً جاء بالحق معلما شرعت لنا فيه الهدى بعد جورنا ... عن الحق لما أصبح الحق مظلماً ونورت بالبرهان أمراً مدنساً ... وأطفأت بالقرآن ناراً تضرما فمن مبلغ عني النبي محمداً ... وكل امرئ يجزي بما قد تكلما أقمت سبيل الحق بعد اعوجاجها ... وكانت قديماً ركنها قد تهدما أقمت علواً فوق عرش إلهنا ... وكان مكان الله أعلى وأعظما قال: ويحك يا عون (4) من بالباب منهم قال: عمر بن عبد الله بن أبي   (1) كذا أيضاً في الأغاني 8: 45 وفي نسختي ف وآيا صوفيا: عدي بن أرطاة. (2) ف وآيا صوفيا: عدي. (3) ف وآيا صوفيا: يا عدي. (4) ف وآيا صوفيا: يا عدي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 ربيعة المخزومي، قال: أو ليس الذي يقول: ثم نبهتها فهبت كعاباً ... طفلة ما تبين رجع الكلام ساعة ثم هومت ثم قالت ... ويلتا قد عجلت يا ابن الكرام أعلى غير موعد جئت تسعى ... تتخطى على رؤوس النيام ما تجشمت ما يريب من الأم ... ر ولا جئت طارقاً لخصام فلولا كان عدة الله إذ فجر كتم على نفسه، لا يدخل علي والله أبداً؛ فمن منهم سواه قال: همام بن غالب، يعني الفرزدق، فقال: أو ليس هو الذي يقول: هما دلتاني من ثمانين قامة ... كما انقض باز أقتم الريش كاسره فلما استوت رجلاي بالأرض قالتا ... أحي يرجى أم قتيل نحاذره لا يطأ والله هذا لي بساطاً أبداً، فمن سواه بالباب منهم قال: الأخطل، قال: يا عون (1) أليس الذي يقول: ولست بصائم رمضان طوعاً ... ولست بآكل لحم الأضاحي ولست بزاجر عيساً بكوراً ... إلى بطحاء مكة للنجاح ولست بزائر بيتاً بعيداً ... بمكة أبتغي فيه صلاحي ولست بقائم كالعير أدعو ... قبيل الصبح حي على الفلاح ولكني سأشربها شمولاً ... وأسجد عند منبلج الصباح والله لا يدخل علي أبداً وهو كافر، فهل رأيت سوى من ذكرت قال: نعم، رأيت الأحوص بن محمد الأنصاري، قال: أو ليس الذي يقول وقد أفسد على رجل من أهل المدينة جارية له حتى هرب بها منه: الله بيني وبين وسيدها ... يفر مني بها وأتبعه   (1) ف وآيا صوفيا: يا عدي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 اضرب عليه، فما هو بدون من ذكرت، فمن هاهنا سواه أيضاً قال: جميل بن معمر العذري، قال: هو الذي يقول: ألا ليتنا نحيا جميعاً وإن أمت ... يوافق لدى الموتى ضريحي ضريحها فما أنا في طول الحياة براغب ... إذا قيل قد سوي عليها صفيحها فلو كان عدو الله تمنى لقاءها في الدنيا فيعمل بعد ذلك صالحاً، والله لا يدخل علي أبداً، فهل سوى من ذكرت أحد قال: نعم جرير بن عطية، قال: نعم أما إنه الذي يقول: طرقتك صائدة القلوب وليس ذا ... وقت الزيارة فأرجعني بسلام فإن كان ولا بد فهو، قال: فأذن لجرير، قال: فدخل وهو يقول: إن الذي بعث النبي محمداً ... جعل الخلافة للإمام العادل وسع الخلائق عدله ووفاؤه ... حتى أرعوي وأقام ميل المائل إني لأرجو منك خيراً عاجلاً ... والنفس مولعة بحب العاجل فلما مثل بين يديه قال: يا جرير ويحك اتق الله ولا تقل إلا حقاً، فأنشأ يقول: أأذكر الجهد والبلوى التي نزلت ... أم قد كفاني بما بلغت من خبري كم باليمامة من شعثاء أرملةٍ ... ومن يتيم ضعيف الصوت والنظر ممن يعدك تكفي فقد والده ... كالفرخ في العش لم ينهض ولم يطر يدعوك دعوة ملهوف كأن به ... خبلا من الجن أو مساً من البشر خليفة الله ماذا تأمرون لنا ... لسنا إليكم ولا في دار منتظر ما زلت بعدك في همٍ يؤرقني ... قد طال في الحي إصعادي ومنحدري لا ينفع الحاضر المجهود بادينا ... ولا يعود لنا بدو على حضر إنا لنرجو إذا ما الغيث أخلفنا ... من الخليفة ما نرجو من المطر زان الخلافة إذ كانت له قدراً ... كما أتى ربه موسى على قدر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 هذي الأرامل قد قضيت حاجتها ... فمن لحاجة هذا الأرمل الذكر الخير ما دمت حياً لا يفارقنا ... بوركت يا عمر الخيرات من عمر فقال: ويحك يا جرير ما أرى لك فيما ههنا حقاً، قال: بلى يا أمير المؤمنين، أنا ابن سبيل ومنقطع بي، فأعطاه من صلب ماله أربعمائة درهم (1) ؛ قال: وقد ذكر أنه قال له: ويحك يا جرير لقد ولينا هذا الأمر وما نملك إلا ثلثمائة درهم، فمائة أخذها عبد الله ومائة أخذتها أم عبد الله، يا غلام أعطه المائة الباقية، قال: فأخذها وقال: والله هي أحب مال كسبته إليّ؛ قال: ثم خرج فقال له الشعراء: ما وراءك قال: ما يسوءكم، خرجت من عند أمير المؤمنين وهو يعطي الفقراء ويمنع الشعراء وإني عنه لراض، ثم أنشأ يقول: رأيت رقي الشيطان لا تستفزه ... وقد كان شيطاني من الجن راقيا [وقد كتبت هذا الخبر من طرق، والقصص فيها مختلفة] (2) . ويحكى أن جريراً لما قال: يا حبذا جبل الريان من جبل ... وحبذا ساكن الريان من كانا سأله الفرزدق: ولو كان ساكنه قروداً فقال له جرير: لو أردت لقلت ما كانا ولم أقل من كانا. (34) (ترجمة جعفر الصادق، رقم: 131، ص: 328، س: 5) قال الهيثم: حدثني بعض أصحاب جعفر الصادق قال: دخلت على جعفر وموسى بين يديه وهو يوصيه بهذه الوصية، فكان مما حفظت منها أن قال: يا   (1) آيا صوفيا: مائة درهم. (2) زيادة من آيا صوفيا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 بني أقبل وصيتي واحفظ مقالتي، فإنك إن حفظتها تعش سعيداً وتمت حميداً؛ يا بني إنه من [قنع بما قسم له استغنى، ومن مد عينيه إلى ما في يد غيره مات فقيراً، ومن لم يرض] (1) بما قسم الله له اتهم الله في قضائه، ومن استصغر زلة نفسه استعظم زلة غيره، ومن استصغر زلة غيره استعظم زلة نفسه؛ يا بني من كشف حجاب غيره انكشفت عورات بيته، ومن سل سيف البغي قتل به، ومن احتفر لأخيه بئراً سقط فيها، ومن داخل السفهاء حقر، ومن خالط العلماء وقر، ومن دخل مداخل التهم أتهم؛ يا بني قل الحق لك وعليك، وإياك والنميمة فإنها تزرع الشحناء في قلوب الرجال؛ يا بني إن طلبت الجود فعليك بمعادنه. قال أبو الحسن المدائني: بعث أبو جعفر المنصور إلى جعفر بن محمد فأتاه فقال: إني أريد أن أستشيرك في أمر؛ قد رأيت إطباق المدينة على ختري وقد تأنيت بهم مرة بعد أخرى ولا أراهم ينتهون، وقد رأيت أن أبعث إليهم من يجمر نخلها ويغور عيونها فما ترى فسكت جعفر فقال: ما بالك لا تتكلم قال: يا أمير المؤمنين إن سليمان بن داود أعطي فشكر وإن أيوب ابتلي فصبر وإن يوسف قدر فغفر، وقد جعلك الله من نسل الذين يغفرون ويصفحون، قال: فطفئ غيظه. ويقال إن سليمان بن علي عم المنصور أخذ غلاماً لجعفر فكتب جعفر إليه: أيها الأمير إن الإنسان ينام على الشك ولا ينام على الحرام، فإما أن رددت غلامي وإلا عرضت أمرك على الله خمس مرات في اليوم والليلة؛ فرده عليه. واشتكى (2) ابن لجعفر فاشتد جزعه عليه ثم أخبر بموته فسري عنه، فقيل له في ذلك فقال: إنا ندعو الله فيما نحب فإذا وقع ما نكره لم نخالف فيما أحب. وقيل له: ما بلغ من حبك له قال: كان يسرني ألا يكون لي ولد غيره فيشركه في حبي له؛ وفضله اشهر من أن يذكر.   (1) زيادة من نسخة آيا صوفيا. (2) ورد هذا الخبر في نسخة آيا صوفيا: 84 أيضاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 [وكان (1) المنصور أراد إشخاصه إلى العراق معه عند مسيره إلى المدينة فاستعفاه من ذلك فلم يعفه، فاستأذنه في المقام بعده أياماً ليصلح أموراً مختلفة، فأبى عليه، فقال له جعفر: سمعت أبي يحدث عن أبيه عن جده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الرجل ليبقى أمله وينقضي أجله فليصل رحمه فيزداد في عمره، قال: اله، لقد سمعت ذلك عن أبيك عن جدك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: اللهم نعم، فأعفاه من الشخوص وأقره بالمدينة وأجازه ووصله. وقيل إن المنصور وجه في إشخاص جعفر قبل قتل محمد بن عبد الله، فلما صار إلى النجف توضأ للصلاة ثم قال: اللهم بك استفتح وبك استنجح وبمحمد صلى الله عليه وسلم أتوجه، اللهم إني أدرأ بك في نحره وأعوذ بك من شره، اللهم سهل لي حزونته ولين لي عريكته وأعطني من الخير ما أرجو واضرب عني من الشدة ما أخاف وأحذر؛ قال: فلما دخل عليه قام إليه وأكرمه وبره وغلفه بيده وصرفه إلى منزله، وإنما أشخصه ليقتله. وقال له وسأله عن محمد ابن عبد اله فقال: أقول ما عندي (لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ولئن نصروهم ليولن الأدبار ثم لا ينصرون) ، فقال المنصور: في دون هذا القول منك كفاية، وسجد شكراً لله] . (35) (ترجمة جميل بثينة، رقم: 142، ص: 366، س: 18) (2) وعشق جميل بثينة وهو غلام صغير، فلما كبر خطبها فرد عنها، فقال الشعر، وكان يأتيها سراً، ومنزلها وادي القرى، فجمع له قومها ليأخذوه إذا أتاها، فحذرته بثينة فاستخفى وقال: ولو إن ألفاً دون بثينة كلهم ... غيارى وكل منهم مزمع قتلي   (1) من هنا إلى آخر النص زيادة من أ. (2) وردت مقاطع متفرقة من هذه الزيادة في نسخة ف، مع بعض الاختلاف في النص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 لحاولتها إما نهاراً مجارهاً ... وإما سرى ليل ولو قطعت رجلي وهجا قومها فاستعدوا عليه مروان، وهو يومئذ عامل معاوية على المدينة، فنذر ليقطعن لسانه، فلحق بجذام وهي قبيلة من اليمن، فأقام هناك إلى أن عزل مروان عن المدينة، فانصرف إلى بلادها، وكان يختلف إليها سراً. [وكان لما هدر السلطان دمه ضاقت عليه الأرض بما حبت] (1) ، وكان يصعد بالليل على قور رمل فيتنسم الريح من عوارض بثينة، حتى إذا تهور الليل ومل الوقوف أنشد: أبا ريح الشمال أما تريني ... أذوب وأنني بادي النحول هبي لي شمة من ريح بثنٍ ... ومني بالهبوب على جميل وقولي يا بثينة حسب نفسي ... قليلك أو أقل من القليل وينصرف مع الفجر، قال: وكانت بثينة تقول لجوار من الحي عندها: ويحكن إني لأسمع أنين جميل من بعض الغيران، فيقلن لها: أتقي الله فهذا من عمل الشيطان. وحدث (2) عمر بن شبة عن إسحاق قال: لقي جميل بثينة بعد تهاجر كان بينهما طالت مدته، فتعاتبا ساعة فقالت له: ويحك يا جميل تزعم أنك تهواني وأنت الذي تقول: رمى الله في عيني بثينة بالقذى ... وفي الغر من أنيابها بالقوادح قال: فأطرق طويلاً يبكي ثم قال: بل أنا القائل: ألا ليتني أعمى أصم تقودني ... بثينة لا يخفى عليّ كلامها فقالت: وما حملك على هذه المنى أو ليس في سعة العافية ما كفانا وكان (3) تربة بن الحمير رحل إلى الشام فمر ببني عذرة فرأته بثينة فجعلت   (1) زيادة من نسخة آيا صوفيا 94 أ - 94 ب، وقد ورد فيها هذا الخبر كاملاً. (2) ورد هذا الخبر في نسخة آيا صوفيا (94 أ) أيضاً. (3) نص هذه الرواية في نسختي ف وآيا صوفيا (94 أ) يختلف عن نصها في نسخة د. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 تنظر إليه، فشق ذلك على جميل، وذلك قبل أن يظهر على حبه لها، فقال له جميل: من أنت قال: أنا توبة بن الحمير، قال: هل لك إلى الصراع قال: ذلك إليك، فنبذت إليه بثينة ملحفة مورسة فاتزر بها ثم صارعه، فصرعه جميل، ثم قال: هل لك في السباق قال: نعم، فسابقه جميل، فقال له توبة: يا هذا إنك إنما تفعل هذا بروح هذه الجالسة، ولكن اهبط بنا إلى الوادي، فهبطا وانطلقت بثينة راجعة، فصرعه توبة وسبقه فقال: يا جميل، أخبرتك أنك لا تقوم لي وأنك بروحها غلبتني. وقال (1) الهيثم بن عدي: قال لي صالح بن حسان: هل تعرف بيتاً نصفه أعرابي في شملة بالبادية وآخره مخنث يتفكك من مخنثي العقيق قلت: لا أدري، قال: قد أجلتك فيه حولاً، فقلت: لو أجلتني حولين ما علمت، قال: قول جميل: ألا أيها الركب النيام ألا هبوا (2) ... هذا أعرابي في شملة، ثم قال: أسائلكم (3) هل يقتل الرجل الحب ... كأنه والله من مخنثي العقيق. وحدث (4) الزبير بن بكار عن رجل من العرب قال: دخلت حماماً بمصر يقال له حمام القر فإذا برجل لم أر من خلق الله رجلاً أحسن منه فظننته قرشياً فأعظمته وسألته من هو فقال: أنا جميل بن عبد الله، قلت: أصاحب بثينة فضحك وقال: نعم والله لأراها ستغلب على نسبي كما غلبت على عقلي، قلت له: قد ملأت بلاد الله تنويها بذكرها، وصار اسمها لك نسباً. والله إني لأظنها حديدة العرقوب دقيقة الظنبوب كثيرة وسخ المرفق [فضحك حتى استلقى] (5) .   (1) ورد هذا الخبر أيضاً في نسخة آيا صوفيا: 95 أ. (2) ف وآيا صوفيا: ألا أيها النوام ويحكمو هبوا. (3) ف وآيا صوفيا: نسائلكم. (4) ورد هذا الخبر أيضاً في نسخة آيا صوفيا: 94 أ. (5) زيادة من آيا صوفيا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 (36) (ترجمة جميل بثينة، رقم: 142، ص: 369، س: 19) (1) قال سهل بن سعد الساعدي أو ابنه عياش: لقيني رجل من أصحابي فقال: هل لك في جميل فإنه يعتل، فدخلنا عليه وهو يكيد بنفسه، وما يخيل إليّ أن الموت يكرثه، فقال: ما تقول في رجل لم يزن قط ولم يشرب خمراً ولم يقتل نفساص حراماً قط، يشهد أن لا إله إلا الله قلت: أظنه والله قد نجا، فمن هذا الرجل قال: أنا، قلت: والله ما سلمت وأنت منذ عشرين سنة تنسب ببثينة، قال: إني لفي آخر يوم من أيام الدنيا وأول يوم من أيام الآخرة، فلا نالتني شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم إن كنت وضعت يدي عليها لريبةٍ قط. فما قمنا حتى مات.   (1) اشتركت نسخة ف مع نسخة د في هذه الزيادة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 فراغ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 440 ب زيادات نسخة آيا صوفيا بعد أن قطعت طباعة هذا الجزء شوطاً كبيراً، وقعت إليّ نسخة من وفيات الأعيان (آيل صوفيا رقم: 3532) ، تبين لي عند المقابلة أنها تحوي زيادات هامة على الأصول التي اعتمدناها، كما هو مبين في المقدمة. وقد رأينا أن نورد زيادات هذه النسخة على نص هذا المجلد هنا استدراكاً، ورتبناها بحسب تسلسل التراجم في متن الكتاب، وبيتنا موضع الزيادة محدداً برقم الترجمة والصفحة والسطر والعبارة السابقة لها. أما حين اتفقت زيادات هذه النسخة مع زيادات نسخة د المبينة في القسم أ، فقد اكتفينا بالإشارة إلى ذلك هناك. إبراهيم النخعي (الترجمة رقم: 1، ص: 25، س: 13، بعد قوله: إلى يوم القيامة) وقال له بعض أصحابه يوماً: كيف أصبحت يا أبا عمران فقال: إن كان من رأيك أن تسد خلتي أو تقضي ديني أو تكسو عورتي خبرتك، وإلا فليس المجيب بأعجب من السائل؛ وقيل له: أين كنت قال: حيث احتيج إليّ؛ وقيل له: ممن أنت قال: من ذوي. (آيا صوفيا: 2 ب 3 أ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 إبراهيم بن أدهم (الترجمة رقم: 6، ص: 31، س: 17، بعد قوله: وأنت قلت ولم تعمل) ومر إبراهيم في سوق البصرة فاجتمع الناس إليه فقالوا: يا أبا إسحاق، إن الله عز وجل يقول في كتابه العزيز (ادعوني أستجب لكم) ونحن ندعوه منذ دهر فلا يستجيب لنا، فقال إبراهيم: ماتت قلوبكم في عشرة أشياء؛ أولها: عرفتم الله ولم تؤدوا حقه، والثاني: قرأتم القرآن ولم تعملوا به، والثالث: ادعيتم حب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركتم سنته، والرابع: ادعيتم عداوة الشيطان ووافقتموه، والخامس: قلتم إنكم تحبون الجنات ولم تعملوا لها، والسادس: قلتم نخاف النار وذهبت أنفسكم بها، السابع: قلتم إن الموت حق ولم تستعدوا له، والثامن: اشتغلتم بعيوب إخوانكم ونسيتم عيوبكم، والتاسع: أكلتم نعمة الله ولم تشكروها، والعاشر: دفنتم موتاكم ولم تعتبروا بهم. قال علي بن بكار: كنا جلوساً بالمصيصة وفينا إبراهيم بن أدهم، فقدم رجل من خراسان فقال: أيكم إبراهيم بن أدهم فقال القوم: هذا، هذا، وأشاروا إليه، قال: إن اخوتك بعثوني إليك؛ فلما ذكر اخوته أخذ بيده فنحاه وقال: ما جاء بك قال: أنا مملوك معي دراهم عشرة آلاف وفرس وبغلة بعث بها اخوتك إليك؛ قال: إن كنت صادقاً فأنت حر وما معك لك، اذهب فلا تخبر أحداً. (آيا صوفيا: 5 أ 5 ب) العراقي الخطيب (الترجمة رقم: 7، ص: 36، س: 10، بعد قوله: فأنت غيث) ولأبي تمام حبيب بن أوس الطائي عند خروج المعتصم إلى أرض مصر: أرض مصرّدة وأخرى تثجم ... منها التي رزقت وأخرى تحرم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 442 وإذا تأملت البقاع وجدتها ... تشقى كما تشقى الرجال وتنعم (1) ولتاج الدين ابن الجراح في هذا المعنى: آن أن تطوي الشآم إلى مص ... ر وتنسى الوحول والأمطار وترى البلدة التي شرف الل ... هـ ثراها فإنها لك دار بلدة من نعوتها صفة الجن ... ة تجري من تحتها الأنهار كل فصل يدور فصل ربيع ... ولياليه كلها سحار (آيا صوفيا: 4 أ 4 ب) إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك (ترجمة زائدة بعد ترجمة ابن عسكر الموصلي، رقم: 8) أبو إسحاق إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك، وأمه أم ولد اسمها نعمة وقيل خشف. بويع له في ذي الحجة سنة ست وعشرين ومائة ثم خلع نفسه وسلم الأمر إلى مروان بن محمد الجعدي، وبايعه في صفر سنة سبع وعشرين ومائة، وكانت ولايته شهرين وعشرة أيام، ولم يزل باقياً إلى سنة اثنتين وثلاثين ومائة، فقتله أبو عون يوم الزاب، وقيل: غرق يومئذ، وقيل: قتله مروان وصلبه. ويقال إنه كان عاجزاً ضعيف الري، وكان أتباعه يسلمون عليه تارة بالخلافة وتارة بالإمارة وتارة بغير ذلك. وكان خفيف العارضين، رحمه الله تعالى. (آيا صوفيا: 5 أ)   (1) رواية الديوان 3: 195: تثري الرجال وتعدم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 إبراهيم النديم الموصلي (ترجمة رقم: 10، ص: 42، س: 18، بعد قوله: زوج أخت زلزل المذكور) قال إبراهيم الموصلي: أمر المأمون يوماً بإحضاري، فدخلت إليه وهو مصطبح، ونعم جاريته بين يديه تغنيه، وهي يومئذ وصيفة، فقال لي: يا أبا إسحاق، قد أصبحت نشيطاً، فاسمع غناء هذه الصبية فإن كان فيه ما تأخذه عليها فأصلحه، فقال لها: غني، فغنت: وزعمت إني ظالم فهجرتني ... ورميت في قلبي بسهم نافذ فنعم ظلمتك فاغفري وتجاوزي ... هذا مقام المستجير العائذ فسمعت ما أذهلني وأطربني، فشرب ثلاثة أرطال متوالية وأمر فسقيت مثلها، ثم قال لها: غني، فغنت في خفيف ثقيل: فإن كان حقاً ما زعمت أتيته ... إليك فقام النائحات على قبري وإن كان ما بلغت عني باطلاً ... فلا مت حتى تسهري الليل من ذكري فطرب وشرب ثلاثة أرطال وأمر فسقيت مثلها، ثم قال: يا أبا إسحاق، عن أنت صوتاً وتغني هي صوتاً، فإذا أعجبه من غنائي صوت قال: أعده عليها، فأعيده مرتين أو ثلاثاً حتى تأخذه وتراسلني فيه، وعلى رأسه وصيفة كأنها الشمس بيدها جام مذهب فيه شراب مثله وهي تسقيه فقال فيها: قمر تحمل شمساً ... مرحباً بالنيرين ذهب في ذهب يس ... عى به غصن لجين هذه قرة عين ... حملت قرة عين لا جرى بيني ولا بي ... نكما طائر بين ثم قال: يا أبا إسحاق، عن في هذه الأبيات خفيفاً وألقه على نغم، ففعلت، وغنته غناء طرب وشرب عليه أرطالاً. ثم قال لأبي محمد اليزيدي: هل رأيت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 444 قط احسن من يومنا فقال: والله إنه لحسن، أعيذك بالله، فتلقه بشكر الله، فقال: صدقت وبررت وذكرتني في موضع أذكار؛ وأمر بإخراج مائة ألف درهم يتصدق بها، فأخرجت ثم قال: يحمل إلى منزل أبي إسحاق مثلها، فلما انصرفت وجدتها قد سبقتني إلى منزلي. (آيا صوفيا: 8 أ 8 ب) الصابئ صاحب الرسائل (الترجمة رقم: 15، ص: 52، س: 14، بعد قوله: وكان يستعمله في رسائله) وقيل لأبي إسحاق الصابئ: إن الصاحب بن عباد قال: ما بقي من أوطاري وأغراضي إلا أن أملك العراق وأتصدر ببغداد وأستكتب أبا إسحاق الصابئ ويكتب عني وأغير عليه، فقال الصابئ: ويغير علي وإن أصبت. وكتب إلى أبي الخير عن رقعة وصلت منه، وكان أهدى إليه جملاً: وصلت رقعتك ففضضتها عن خط مشرق، ولفظ مونق، وعبارة مصيبة، ومعانٍ غريبة، واتساع في البلاغة يعجز عنها عبد الحميد في كتابته، وسحبان لي خطابته، وتصرف بين جد أمضى من القدر، وهزل أرق من نسيم السحر، وتقلب في وجوه الخطاب، الجامع للصواب، إلا أن الفعل قصر عن القول لأنك ذكرت حملاً جعلته بصفتك جملاً، وكان المعيدي الذي تسمع به لا أن تراه؛ فلما أن حضر رأيت كبشاً متقادم الميلاد، من نتاج قوم عاد، قد أفنته الدهور، وتعاقبت عليه العصور، وظننته أحد الزوجين اللذين جعلهما نوح في سفينته، وحفظهما لذريته، صغر عن الكبر وكبر عن القدم فبانت دمامته، وقصرت قامته، وعاد ناحلاً ضئيلاً، بالياً هزيلاً، بادي الأسقام، عاري العظام، جامعاً للمعايب، مشتملاً على المثالب، يعجب العاقل من حلول الحياة به، ومن تأتي الحركة فيه، لأنه عظم مجلد ملبد، لا تجد فوق عظامه سلباً، ولا تلقى يدك منه إلا خشباً، قد طال للكلأ فقده، وبعد بالمرعى عهده، لم ير ألقت إلا نائماً، ولا عرف الشعير إلا حالما. وقد كنت ملت إلى استبقائه لما تعرفه من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 محبتي للتوفير، ورغبتي في التثمير، وجمعي للولد، وادخاري لغد، فلم أجد فيه مستبقياً لبقاء، ولا مدفعاً لعناء، لأنه ليس بأنثى فتلد، ولا بفتى فينسل، ولا بصحيح فيرعى، ولا بسليم فيبقى؛ فقلت: أذبحه ليكون وظيفة للعيال، وأقيمه رطباً مقام قديد الغزال، فأنشدني وقد أضرمت النار وحدت الشفار: أعيذها نظرات منك صادقة ... أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورم ثم قال: وما الفائدة في ذبحي ولست بذي لحم فأصلح للأكل لأن الدهر قد أكل لحمي، ولا ذي جلد يصلح للدباغ لأن الأيام قد مزقت أدمي، ولا ذي صوف يصلح للغزل لأن الحوادث قد حصت وبري؛ فإن أردتني للوقود فكيف يعز أنفي من ناري ولريقي حرارة جمري بريح قتاري فلم يبق إلا أن تطالبني بذحل أو بيني وبينك دم. فوجدته صادقاً في مقالته، ناصحاً في مشورته، ولم أعلم من أي أمريه أعجب: أمن مطالبته للدهر بالبقاء، أم صبره على الضر والبلاء، أم قدرتك عليه مع عدم مثله، أم هديتك إياه للصديق مع خساسة قدره. ويا ليت شعري وأنت فيما أنت فيه، وهديتك هذا الذي كأنه نشر من القبور، أو قام عند النفخ في الصور، ما كنت مهدياً لو أني رجل من عرض الكتاب كأبي علي وأبي الخطاب ما كنت مهدياً إلا كلباً أجرباً أو قرداً أحدباً، والسلام. (آيا صوفيا: 10 ب 11 ب) الصابئ صاحب الرسائل (الترجمة رقم: 15، ص: 53، س: 12، بعد قوله: إن كنت مالي) ومن بديع شعره قوله: وكم من يد بيضاء حازت كمالها ... يد لك لا تسود إلا من النقس إذا رقشت بيض الصحائف خلتها ... تطرز بالظلماء أودية الشمس (آيا صوفيا: 11 ب) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 ابن خفاجة (الترجمة رقم: 17، ص: 57، س: 4، بعد قوله: كأنه غيلان) ومن شعره أيضاً: نبه وليدك من صباه بزجره ... فلربما أغفى هناك ذكاؤه وأنهره حتى تستهل دموعه ... في وجنتيه وتلتظي أحشاؤه فالسيف لا يذكو بكفك تارة ... حتى تسيل بصفحتيه دماؤه ومن شعره أيضاً: ولقد جريت مع الصبى جري الصبا ... وشربتها من كف أحوى أحور ناجيت منه عطارداً ولربما ... قبلته فلثمت وجه المشتري ومن شعره أيضاً: وبدا هلال في نقاب طالع ... ولربما اتخذ النقاب فأقمرا (آيا صوفيا: 13 أ 13 ب) إبراهيم الغزي الشاعر (الترجمة رقم: 18، ص: 59، س: 7، بعد قوله: بحر بلا ماء) ومن شعره أيضاً: يا من ذنوبي عنده الفضل الذي ... لولا مزيته لكان مسالمي يشقى القضيب إذا ذوى أما إذا ... أبدى الثمار فكم له من راحم ومن شعره أيضاً: سألت الكويفي في قبلة ... فخر على وجهه وانبطح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 وقال: فهمت دليل الخطاب ... ومن عشق الدن باس القدح وفائدة الفقه أن تهتدي ... إلى صيغة الغرض المقترح ابن أبي داود (الترجمة رقم: 32، ص: 88، س: 9، بعد قوله: ما يستغرق الوصف) دخل يوماً على المعتصم فقال له: كان عندي إنسان يذكرك بكل قبيح، فقال: الحمد لله الذي أحوجه إلى الكذب علي وأغنائي عن الصدق عنه. وقيل: أمر الواثق أحمد بن أبي دؤاد ان يصلي بالناس في يوم عيد، وكان عليلاً، قال: يا أبا عبد الله، كيف كان عيدكم قال: كنا في نهار ولا شمس فيه، فضحك وقال: أنا يا أبا عبد الله مؤيد بك. ولبس ابن أبي دؤاد طيلساناً فزال عن منكبه فقال: ما أحسن ألبس الجديد، فقال له أبو العلاء المنقري: إن كنت لا تحسن أن تلبسه فإنك تحسن أن تلبسه، فرماه إليه. وقال يوماً: لله در البرامكة، عرفوا تقلب الدول فبادروا بالمعروف قبل العوائق. وتخطى فتى من بني هاشم عنده رقاب الناس فقال: يا فتى إن الأدب ميراث الأشراف، ولست أرى عندك من سلفك إرثاً. (آيا صوفيا:19 أ 19 ب) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 448 الحافظ السلفي (الترجمة رقم: 44، ص: 106، س: 3، بعد قوله: بأساء الحياة ولينها) ونقلت من خطه: وحذار ثم حذار من واد شطا ... فيه تقصر سيرها الأظعان فهناك تقتنص البزاة حمائم ... وكذا الأسود تصيدها الغزلان (آيا صوفيا:23 أ) ابن عبد ربه (الترجمة رقم: 46، ص: 112، س: 3، بعد قوله: من نطق خرس) ومن شعره الذي سمعه المتنبي وحكم بأنه شاعر الأندلس: يا لؤلؤاً يسبي العقول انيقا ... ورشاً بتعذيب القلوب رفيقا ما إن رأيت ولا سمعت بمثله ... دراً يعود من الحياء عقيقا وإذا نظرت إلى محاسن وجهه ... أبصرت وجهك في سناه غريقا يا من تقطع خصره من ردفه ... ما بال قلبك لا يكون رقيقا (آيا صوفيا: 24 ب) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 أبو العلاء المعري (الترجمة رقم: 47، ص: 114، س: 21، بعد قوله: وهذا اعزل) وله من قصيدة: ما سرت إلا وطيف منك يصحبني ... سرى أمامي وتأويباً على أثري لو حط رحلي فوق النجم دافعه ... ألفيت ثم خيالاً منك منتظري والخل كالماء يبدي لي ضمائره ... مع الصفاء ويخفيها مع الكدر وله أيضاً: وإني وإن كنت الأخير زمانه ... لآت بما لم تستطعه الأوائل وإن كان في لبس الفتى شرف له ... فما السيف إلا غمده والحمائل ولي منطق لم يرض لي كنه منزلي ... على أنني بين السماكين نازل ينافس يومي في أمسي تشرفاً ... وتحد أسحاري عليّ الأصائل وطال اعترافي بالزمان وصرفه ... فلست أبالي من تغول الغوائل فلو بان عضدي ما تأسف منكبي ... ولو مات زندي ما بكته الأنامل إذا وصف الطائي بالبخل مادر ... أو عير قساً بالفهاهة بأقل وقال السها للشمس أنت خفية ... وقال الدجى يا صبح لونك حائل وطاولت الأرض السماء سفاهة ... وفاخرت الشهب الحصى والجنادل فيا موت زر إن الحياة ذميمة ... ويا نفس جدي إن دهرك هازل وما أحسن قوله فيها: وإن كنت تهوى العيش فابغ توسطاً ... فعند التناهي يقصر المتطاول توقى البدور النقص وهي أهلة ... ويدركها النقصان وهي كوامل وله أيضاً: أرى العنقاء كبر أن تصادا ... فعاند من تطيق له عنادا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 450 فظن بسائر الإخوان شراً ... ولا تأمن على سر فؤادا فلو خبرتهم الجوزاء خبري ... لما طلعت مخافة أن تكادا وكم عين تؤمل أن تراني ... وتفقد عند رؤيتي السوادا ولو ملأ السها عينيه مني ... أبر على مدى زحل وزادا وله أيضاً: تعب كلها الحياة فما أع ... جب إلا من راغب في ازدياد إن حزناً في ساعة الموت أضعا ... ف سرور في ساعة الميلاد وله أيضاً: والشيء لا يكثر مداحه ... إلا إذا قيس إلى ضده لولا غضا نجد ونمامه ... ولم يثن بالطيب على رنده وله أيضاً: قد أورقت عمد الخيام وأعشبت ... شعب الرحال ولون رأسي أغبر ولقد سلوت عن الشباب كما سلا ... غيري ولكن للحزين تذكر ابن فارس (الترجمة رقم: 49، ص: 119، س: 15، بعد قوله: في جوف بيتي درهم) وله أيضاً: وقالوا كيف حالك قلت خير ... نقضي حاجة وتفوت حاج إذا ازدحمت هموم الصدر قلنا ... عسى يوماً يكون لها انفراج نديمي هرتي وأنيس نفسي ... دفاتر لي ومعشوقي السراج (آيا صوفيا:27 أ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 451 أبو الطيب المتنبي (الترجمة رقم: 50، ص: 123، س: 24، بعد قوله: مخافة العين عليهم) وذكر الوزير أبو القاسم المغربي في كتاب " أدب الخواص " في " جعفي " أربع لغات فقال: يقال " جعفي " منسوب منون مشدد، و " جعفيّ " مشدد غير منون، ويقال " جعفي " غير مشدد، ويقال " جعف " بوزن فعل ثلاثياً من غير ياء النسبة. (آيا صوفيا: 28 ب) النامي الشاعر (الترجمة رقم: 51، ص: 126، س: 19، بعد قوله: بين ألف بيضاء) ولظافر الحداد قريب من هذا المعنى وهو قوله: ونفر صبح الشيب ليل شبيبتي ... كذا عادتي في الصبح مع من أحبه ولميسر غلام المحسن الصوري: عاتبت في المرآة شيبي ضاحكاً ... فلقيت مبسمه بدمع فائض وودت أن بياضه في مقلتي ... أسفاً وأن سواده في عارضي وللأمير عز الدولة أبي الحسن علي بن مرشد: سقياً لدهر مضى والشمل مشتمل ... على السرور ويا بؤساً لذا الزمن وروض رأسي أثيث النبت ناعمه ... ريّان أحذر أيامي فيتبعني فاعتضت بالشيب يا بؤساص لمنظره ... فليتني قبله أدرجت في كفني (آيا صوفيا: 29 أ 29 ب) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 452 بديع الزمان الهذاني (الترجمة رقم: 52، ص: 128، س: 3، بعد قوله: فمن رسائله:) " أنا لقرب دار ملاوي " كما طرب النشوان مالت به الخمر "، ومن الارتياح للقائه " كمنا انتفض العصفور بلله القطر "، ومن الامتزاج بولائه " كما التقت الصهباء والبارد العذب "، ومن الابتهاج بمزاره " كما اهتز تحت البارح الغصن الرطب. " وله مكن رسالة: " يعز علي أيد الله الشيخ أن ينوب في خدمته قلمي عم قدمي، ويسعد برؤيته رسولي دون وصولي، ويرد مشرع الأنس به كتابي قبل ركابي، ولكن ما الحيلة والعوائق جمة: وعلي أن أسعى وليس عليّ إدراك النجاح. " فصل: " وقد حضرت داره وقبلت جداره، وما بي حب الحيطان ولكن شغف القطان، ولا عشق الجدران ولكن شوق إلى السكان. " فصل من رقعة: " مثلك ومثل السفارة مثل الفارة، طفقت تقرص الحديد، فقيل لها: ما تصنعين الناب ودقة رأسه، والحديد وشدة بأسه، فقالت: أشهد ولكن أجهد، وإن تنج من تلك الأسباب فمجيء الذباب لمقاديرك لا معاذيرك. " فصل من كتاب إلى الأمير أبي نصر الميكالي: " كتابي، أطال الله بقاء الأمير، ويودي أن أكونه فأسعد به دونه، ولكن الحريص محروم، ولو بلغ الرزق فاه ولاه قفاه، وبعد فإني في مفاتحته بين نفس تعد، ويد ترتعد، ولم [لا يكون ذلك] (1) وهو البحر إن لم أره فقد سمعت خبره، والليث وإن لم ألقه فقد تصورت خلقه، والملك العادل وإن لم أكن لقيته فقد بلغني صيته، ومن رأى من السيف أثره فقد رأى أكثره، وهذه الحضرة وإن احتاج إليها   (1) زيادة من رسائل بديع الزمان: 238، واليتيمة 4: 263. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 453 المأمون ولم يستغن عنها قارون، فإن الأحب إلي أن أقصدها قصد موال، والرجوع عنها بحمال، أحب إلي من الرجوع عنها بمال؛ قدمت التعريف، وأنا أنتظر الجواب الشريف. " فصل: " أنا أخاطب الشيخ الإمام، والكلام معجون، والحديث شجون، وقد يوحش اللفظ وكله ود، ويكره الشيء وليس من فعله بد؛ هذه العرب تقول: لا أبا لك في الأمر إذا أهم (1) ، وقاتله الله ولا تريد به الذم، وويل أمه للأمر إذا تم (2) ، وللألباب في هذا الباب أن تنظر في القول إلى قائله، فإذا كان ولياً فهو للولاء وإن خشن، وإن كان عدواً فهو للبلاء وإن حسن. " فصل في مدح الأمير خلف بن أحمد: " جزى الله هذا الملك أفضل ما جزى مخدوماً عن خدمه، ومنعماً عن نعمه، وأعانه على هممه، فلو إن البحار مدده، والسحاب يده، والجبال ذهبه، لقصرت هما يهبه، فوالله ما التمرة بالبصرة إلا أجل خطراً من البدرة بهذه الحضرة، إني لأراها تحمل إلى المنتجعين تحت الذيل في اليل، ولا أيسر وجوداً من الدنيا [ر] بهذه الديار؛ المرء في سنة من نومه، وقصاراه قوت يومه، إذ يقرع الباب عليه قرعاً خفياً، ويسأل به سؤالاً حفياً، ويعطى ألفاً حلياً. " فصل: " وأجدني إذا قرأت قصة الخليل عليه السلام والذبيح إسماعيل، أحس من نفسي لسيدنا بتلك الطاعة، وأظنه لو تلني للجبين وأخذ مني باليمين ؤليقطع مني الوتين لصنته عن الأذنين، علي بذلك من الله ميثاق غليظ، والله على ما أقول حفيظ. " (آيا صوفيا: 29ب، 30 أ 30 ب)   (1) الرسائل: 249: تم؛ اليتيمة 4: 263: هم. (2) في الرسائل: 249 واليتيمة 4: 263: للمرء إذا اهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 454 ابن طباطبا (الترجمة رقم: 53، ص: 129، س: 15، بعد قوله: أورد له قوله:) تأمل نحولي والهلال إذا بدا ... لليلته في أفقه أينا أضنى على أنه يزداد في كل ليلة ... نمواً وجسمي بالضنى ذائباً يفنى وأورد له أيضاً: أترى النجم حار في الأفق أم أس ... بل ليلي على نهاري ذيلا أم كما عاد وصله لي هجراً ... عاد أيضاً به نهاري ليلا وأورد له أيضاً: نفسي الفداء لغائب عن ناظري ... ومحله في القلب دون حجابه لولا تمتع مقلتي بجماله ... لوهبتها لمبشري بإيابه وأود له أيضاً.. (آيا صوفيا: 31 أ) أبو الرقعمق (الترجمة رقم: 55، ص: 132، س: 17، بعد قوله: ابن كلس) وقال أبو الرقعمق: كان لي إخوان أربعة وكنت أنادمهم في أيام الأستاذ كافور، فجاءني رسولهم في يوم بارد، وليس لي كسوة تحصنني من البرج، فقال: إخوانك يقرأون عليك السلام ويقولون: قد اصطبحنا اليوم وذبحنا أرخاة سمينة فاشته ما يعمل لك منها، فكتبت إليهم: أحبابنا عزموا الصبوح بسحرة ... فأتى رسولهم إلي خصوصا قالوا: اقترح لوناً يجاد طبيخه ... قلت: اطبخوا لي جبة وقميصا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 455 فذهب الرسول بالرقعة، فما شعرت حتى عاد ومعه أربع خلع وأربع صرر في كل صرة عشرة دنانير؛ فلبست إحدى الخلع وصرت إليهم. (آيا صوفيا: 32 أ) جحظة البرمكي (الترجمة رقم: 55، ص: 134، س: 6، بعد قوله: بين جحظة والزمان) وله في دير العذارى: ألا هل إلى دير العذارى ونظرة ... إلى من به قبل الممات سبيل وهل لي به يوماً من الدهر سكرة ... تعلل نفسي والمشوق عليل إذا نطق القسيس بعد سكوته ... وشمعل مطران ولاح قتيل غدونا على كأس الصبوح بسحرة ... فدارت علينا قهوة وشمول نريد انتصاباً للمدام بزعمنا ... ويرعشنا إدمانها فنميل سقى الله عيشاً لم يكن فيه دولة ... أتم ولم ينكر عليّ عذول قال أبو الفرج الاصبهاني: كان الرشيد كثيراً ما ينزل هذا الدير ويشرب فيه، وكان به ديراني ظريف؛ قال الرشيد للديراني: لم سمي بهذا الأسم فقال: يا أمير المؤمنين، كانت المرأة من النصارى في سالف الزمان إذا وهبت نفسها لله تعالى سكنت في هذا الدير، فرفع إلى بعض ملوك الفرس أنه اجتمع فيه عذراى في نهاية الحسن والجمال، فوجه إلى عامله بتلك الناحية أن يحمل جميعهن إليه؛ وبلغهن ذلك فجزعن وقلقن وبتن ليلتهن تلك فأحيينها صلاة وتقديساً وتضرعاً وبكاء ودعاء إلى الله أن يكفيهن أمره، فأصبح ميتاً وبقين على حالهن فأصبحن صياماً شكراً لله تعالى، وجعل النصارى صيام ذلك اليوم فرضاً واجباً يصومونه من كل سنة. وهذا الدير بسر من رأى. (آيا صوفيا: 32 ب 33 أ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456 ابن زيدون (الترجمة رقم: 57، ص: 140، س: 18، بعد قوله: وما يرجى تلاقينا) ومن شعره: إني ذكرتك بالزهراء مشتاقاً ... فالأفق طلق ووجه الأرض قد راقا وللنسيم اعتلال في أصائله ... كأنه رق لي فاعتل إشفاقا ومن شعره: يا قمراً مطلعه المغرب ... قد ضاق بي من حبك المذهب ألزمتني الذنب الذي جئته ... صدقت فاصفح أيها المذنب ومن شعره: ما للمدام تديرها عيناك ... فتميل من نشوتها عطفاك هلا مزجت لعاشقيك [سلافها] ... ببرود ظلمك أو بعذب لماك بل ما عليك وقد محضت لك الهوى ... من أن أفوز بحظوة المسوك (آيا صوفيا: 35 أ) ابن الخازن الكاتب (الترجمة رقم: 62، ص: 150، س: 20، بعد قوله: في الورد) ومن شعره أيضاً: تسل يا قلب عن سمح بمهجته ... مبذل كل من يلقاه يعرفه مجمش بخفي اللحظ ناظره ... رمز الحواجب يدينه ويصرفه كالماء أي صدٍ يأتيه ينهله ... والغصن أي نسيم هب يعطفه وليس يقتلني إلا تهتكه ... مع الأنام ولي وحدي تعففه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 457 ومن شعره مما يكتب على سجاد: فرشت خدي للعشاق قاطبة ... فصحن خدي لهم أرض إذا عشقوا لولا اخضراري من سقيا مدامعهم ... لكنت من زفرات الوجد أحترق ومن شعره أيضاً: يدور علينا بالمدامة منثني ال ... معاطف يغري الناظرين بعشقه له شفق أبدته في وجناته ... شموس العقار حين غابت بأفقه (آيا صوفيا: 37 أ 37 ب) ناصح الدين الأرجاني (الترجمة رقم: 63، ص: 153، س: 4، بعد قوله: نحو المغرب) ومن شعره أيضاً: فلولا الهوى ما كان نوح حمائمٍ ... على عذبات الجزع مما شجانيا نوادب أبلين الحداد فما يرى ... عليها سوى ما زر في الجيد باقيا ولما التقى الواشون والحي ظاعن ... وقد لاح للتوديع مني دانيا بدت في محياه خيالات أدمعي ... صفاءً وظنوا أن بكى لبكائنا ومن شعره أيضاً: قد أشعل الشيب رأسي للبلى عجلا ... والشمع عند اشتعال الرأس ينسبك فإن يكن راعها من لونه يقق ... فطالما راقها من قبله حلك ومنها، وكان استوزر قبل هذا الممدوح وزير فقتل: أنتم فرازين هذا الدست نعرفكم ... وهم بياذقة إن صف معترك فما تفرزن منهم بيذق أبداً ... إلا غدا رأسه في الترب ينمعك وله أيضاً: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 458 غالطتني إذ كست جسمي ضنى ... كسوة أعرت من الجلد العظاما ثم قالت أنت عندي في الهوى ... مثل عيني، صدقت لكن سقاما (آيا صوفيا: 38 أو 38 ب) ابن منير الطرابلسي (الترجمة رقم: 64، ص: 158، س: 14، بعد قوله: كله زور) مقصر الصدغ ممدود ذؤابته ... بي منه وجدان: ممدود ومقصور سلمت فازور يزوي قوس حاجبه ... كأنني كأس خمر وهو مخمور فيه محاسن شتى قد فتنت بها ... وكل مفتتن بالحسن معذور مهفهف في هواه ما استجرت به ... إلا وجدت غرامي وهو منصور وله مما يكتب على سرج: للسبعة النيرات عن شرفي ... عجز وفي العالمين تبريج وهل أداني في نيل مكرمة ... والبحر فوقي وتحتي الريح (آيا صوفيا: 39 أ) أحمد القطرسي النفيس (الترجمة رقم: 66، ص: 165، س: 14، بعد قوله: وهو مخترق) قلت: وهذه المبالغة في التفجع مأخوذة من قول ابن سنان الخفاجي الحلبي من جملة مرثية: أعنف فيك الوجد وهو مبرح ... وأعتب فيك الدمع وهو نجيع (آيا صوفيا: 41 ب) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 459 صلاح الدين الأربلي (الترجمة رقم: 76، ص: 186، س: 16، بعد قوله: وجه الصلاح) وكتب إليه مع هدية: لو كنت مهدٍ على مقدار قدركم ... لكنت أهدي إليك السهل والجبلا وإنما العبد أهدى كنه قدرته ... والنمل يعذر في القدر الذي حملا (آيا صوفيا: 47 أ) ابن عبد الحميد الجرجاني (الترجمة رقم: 77، ص: 188، س: 10، بعد قوله: بلد فيه الخصيب أمير) إذا لم تزر أرض الخصيب ركابنا ... فأي فتى بعد الخصيب تزور فتى يشتري حسن الثناء بماله ... ويعلم أن الدائرات تدور فما جازه جود ولا حل دونه ... ولكن يصير الجود حيث يصير ولم تر عيني سؤدداً مثل سؤددٍ ... يحل أبو نصر به ويسير ومنها: فمن كان أمسى جاهلاً بمقالتي ... فإن أمير المؤمنين خبير وما زلت تولية النصيحة يافعاً ... إلى أن بدا في العارضين قتير إذا غاله أمر فإما كفيته ... وإما عليه بالكفي تشير إليك رمت بالقوم هوج كأنما ... جماجمها تحت الرحال قبور ومنها: وإني جدير إذ بلغتك بالغنى ... وأنت بما أملت منك جدير فإن تولني منك الجميل فأهله ... وإلا فإني عاذر وشكور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 460 ومن الأخرى قوله: أنت الخصيب وهذه مصر ... فتدفقا فكلاكما بحر لا تقعدا بي عن مدى أملي ... شيئاً فما لكما [به] عذر ويحق لي إذ صرت بينكما ... أن لا يحل بساحتي فقر وأجازه عليهما جائزة سنية، ومدحه أيضاً بقصيدته النونية التي يقول فيها: أنا في ذمة الخصيب مقيم ... حيث لا تهتدي صروف زماني لا تخافي عليّ غول الليالي ... ومكاني من الخصيب مكاني (آيا صوفيا: 48 أ) أسامة بن منقذ (الترجمة رقم: 84، ص: 199، س: 1، بعد قوله: فرقة الأبد) ونقلت منه أيضاً: خلع الخليع عذاره في فسقه ... حتى تهتك غاية الإفراط يأتي ويؤتى ليس ينكر ذا ولا ... هذا كذلك إبرة الخياط ونقلت منه، وقالها بدمشق: إن يستروا وجه إحساني بكفرهم ... فالشمس أدنى سحاب عن يسترها وإن هم كدروا صفوي بغشهم ... فالعين أدنى القذى فيها يكدرها ونقلت أيضاً: اصبر على ما كرهت تحظ بما ... تهوى فما جازع بمعذور إن اصطبار الجنين في ظلم ال ... أحشاء أفضى به إلى النور وقال أيضاً بحماة: اصبر إذا ناب خطب وانتظر فرجاً ... يأتي به الله بعد الريث واليأس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 461 إن اصطبار ابنة العنقود إذ حبست ... في ظلمة القار أداها إلى الكاس وقال في المعنى: من رزق الصبر نال بغيته ... ولاحظته السعود في الفلك إن اصطبار الزجاج للسبك وال ... نيران أدناه من فم الملك وكان حين دخوله إلى القاهرة كتب إلى أبي الفضل الحصكفي الآتي ذكره رقعة هذه نسختها: التقطت أطال الله بقاء سيدنا الإمام الأجل العالم معين الدين قدوة الشريعة تاج العلماء زين الأدباء من نفيس جوهره الفاخر، وإن حلئت عن بحره العذب الزاخر، ألفاظاً أحيت موات فهمي، وإن كانت تدق عن إدراك وهمي، لا أقول هي السحر الحلال، والماء الزلال، والرياض الأريضة، واللثائم المفضوضة، بل روح الحياة المحبوبة، ونيل الأماني المطلوبة، تحليت من نظمها بالعقود، واحتلبت من زقها ماء العنقود، وعودت فضلاً ذلل عاصيها، وملك أزمتها ونواصيها، وإن زماناً سمح بمثله لغير منسوب إلى بخل، وإن عاق عن الفوز بنظره عوائق الزمان، وغيبني من الاستعداد بمفاكهته شقوة الحرمان، فلساني خطيب بالثناء عليه، وقلبي حيث كنت مرتهن لديه، وأنا أهدي إلى حضرته السامية سلاماً أعذب من السلسبيل، وارق من النسيم العليل، وأصفى من الرحيق، وأذكى من المسك الفتيق، واسأله أن يتحفني بذكر خدمه وأداته، ويحيلني بما حضره من درر ذاته، لأستضيء بنور شعاعه، وافتخر بروايته وسماعه، ومولاي الرئيس الأجل أدام الله علوه يوضح بتصديق أملي، والصفح عن زللي، لا زال منعماً إن شاء الله تعالى. فكتب أبو الفضل إليه جواباً هذه نسخته: أنا من ألفاظ حضرته بين السور العاصم وسوار المعاصم، إذ خر ذا أشرف للباس، وأفخر بالشرف من اللباس، سور ضرب له باب بين أهل الرحمة وأهل العذاب، وسوار اختلت عندها الألباب، وتحلت بها الأحباب، وهلا زدت هاء فازددت بها بهاء، فقلت بين سورة فضلها لا يكذب، وصورة ترى كل ملك دونها يتذبذب، ولما نبهني من رقدة الذهول، وتيهني عن وهدة الخمول، رفعتني النباهة، ونفعتني الانتباهة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 462 فكتبت يدي عجلاً وقلت جعلت فداه مرتجلاً: كتاب فضضت الختم عند وصوله ... عن الفرقد العلوي لا أم فرقد فملت كأني قد ثملت بقهوة ... أديرت على شدود الغريض ومعبد وكتب أسامة المذكور من إربل إلى أخيه أبي الحسن الآتي ذكره إن شاء الله صدر كتاب: وإن امرءاً أضحى بإربل داره ... وفي شيزر أحبابه وشجونه لغير ملوم في احنين إليهم ... ومعذورة أن تستهل جفونه وقال وهو بمصر: إن كنت في مصر مجهولاً وقد شهرت ... فضائلي بين بدو الناس والحضر فما على الشمس من عار تعاب به ... إذا اختفى نورها عن غير ذي بصر (آيا صوفيا: 50 ب 51 ب) الأسعد بن مماتي (الترجمة رقم: 91، ص: 213، س: 19، بعد قوله: وهي فم) وكان ابن مكنسة ينادمه، فاتفق أن سرقت نعله في بعض الليالي، وكانت حمراء، فكتب إليه: لالكتي أثمن من عمتي ... وهمتي أكبر من قدرتي كأنها في قدمي شعلة ... من جهة المريخ قد قدت وزنتها [عندي] ورب العلى ... أعز من رأسي ومن قمتي وأنت يا مولاي يا من به ... ومن نداه أسبغت نعمتي متى تغافلت على أخذها ... من بعد هذا سرقت لحيتي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 463 فضحك من الأبيات وأنفذ له عشرين ديناراً وعشرين طاق أدم واستخدم للمجلس فراشاً بثلاثة دنانير في الشهر وجراية كل يوم لحفظ نعال الندماء. (آيا صوفيا: 54 ب) المزني صاحب الشافعي (الترجمة رقم: 93، ص: 218، س: 12، بعد قوله: خمس وعشرين درجة) وسئل عن الموت فقال: هو فزع الأغنياء وشهوة الفقراء. وكان يقول: من التمس من الإخوان الرخصة عند المشورة، ومن الأطباء عند المرض، ومن الفقهاء عند الشبهة، فقد أخطأ الرأي وازداد مرضاً وحمل الوزر. ومناقبه كثيرة. (آيا صوفيا: 55 ب) الصاحب بن عباد (الترجمة رقم: 96، ص: 230، س: 3، بعد قوله: ردت إلينا) ووقع في رقعة من يعتذر من ترك حضوره لخوف الثقل على حضرته فقال: متى يثقل الجفن على العين.. وله جواب كتاب: وصل كتاب مولاي، فكانت فاتحته أحسن من كتاب الفتح، وواسطته أنفس من واسطة العقد، وخاتمته أشرف من خاتم الملك. (آيا صوفيا: 58 أ، 59 ب) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 464 الصاحب بن عباد (الترجمة رقم: 96، ص: 232، س: 12، بعد قوله: حتى المعاد معاد) ورثاه أيضاً أبو القاسم غانم بن محمد الأصبهاني بقوله: ما مت وحدك بل كل الذي ولدت ... حواء طراً بل الدنيا بل الدين تبكي عليك العطايا والصلات كما ... بكت عليك الرعايا والسلاطين قام السعاة وكان الخوف أقعدهم ... واستيقظوا بعدما مت الملاعين لا يعجب الناس منهم إن هم انتشروا ... مضى سليمان فانحل الشياطين (آيا صوفيا: 59 ب) المنصور العبيدي (الترجمة رقم: 98، ص: 236، س: 14، بعد قوله: رحمه الله تعالى) تتألف هذه الزيادة من رواية طويلة منقولة عن ابن بسام (الذخيرة 4/1: 9) خلط فيها كاتبها بين المنصور بن أبي عامر والمنصور العبيدي، ولذلك لم نر وجهاً لنقل نصها هنا. (آيا صوفيا: 60 ب 61 أ) أبو الصلت الأندلسي (الترجمة رقم: 104، ص: 244، س: 7، بعد قوله: فوقهن تغرد) وله أيضاً، أعني أمية المذكور: تلاقت الأضداد في جسمه ... على اتفاق بينها واصطلاح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 465 إن لان عطفاه قسا قلبه ... أو ثبت الخلخال جال الوشاح وله في الشمعة: وناحلة صفراء لم تدر ما الهوى ... فتبكي لهجر أو لطول بعاد حكتني نحولاً واصفراراً وحرفة ... وفيض دموع واتصال سهاد وله أيضاً: تجري الأمور على قدر القضاء وفي ... طي الحوادث محبوب ومكروه فربما سرني ما بت أحذره ... وربما ساءني ما بت أرجوه (آيا صوفيا: 63 ب) القاضي إياس (الترجمة رقم: 105، ص: 249، س: 23، بعد قوله: وكان له في ذلك غرائب) وقال حبيب: سمعت إياس بن معاوية يقول: ما كلمت أحداً من أصحاب الأهواء بعقلي كله غلا القدرية، فإني قلت لهم: ما الظلم بينكم قالوا: إن يأخذ الإنسان ما ليس له، فقلت لهم: فإن لله عز وجل كل شيء. واستودع رجل رجلاً من أمناء إياس مالاً وخرج المستودع إلى مكة، فلما رجع طلبه فجحده، وأتى إياساً فأخبره، فقال له إياس: أعلم بك أنك أتيتني قال: لا، قال: فنازعته عند أحد قال: لا، لم يعلم بهذا أحد، قال: فانصرف واكتم أمرك ثم عد إليّ بعد يومين. فمضى الرجل، فدعا إياس أمينة ذلك وقال: قد اجتمع عندي مال كثير أريد أن أسلمه إليك، أفحصين منزلك قال: نعم، قال: فأعد موضعاً للمال وقوماً يحملونه. وعاد الرجل إلى إياس فقال له: إني أخبر القاضي. فأتي الرجل صاحبه فقال: مالي وإلا أتيت القاضي وشكوت إليه حالي وأخبرته بأمري، فدفع إليه ماله، فرجع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 466 الرجل إلى إياس فقال: قد أعطاني المال، وجاء الأمين إلى إياس لوعده فزبره وانتهره وقال: لا تقربني خائن. وحدث المدائني عن أبي محمد القرشي قال: استودع رجل رجلاً مالاً ثم طلبه فجحده، فخاصمه إلى غياس فقال الطالب: إني دفعت إليه المال، قال: ومن شيء كان في ذلك الموضع قال: شجرة، قال: فانطلق إلى ذلك الموضع وانظر إلى الشجرة فلعل الله تعالى يوضح لك هناك ما يبين به حفك لعلك دفنت مالك عند الشجرة ونسيت فتذكر إذا رأيت الشجرة. فمضى الرجل وقال إياس للمطلوب: اجلس حتى يرجع خصمك، فجلس وإياس يقضي بين الناس وينظر إليه ساعة؛ ثم قال: يا هذا، أترى صاحبك بلغ موضع الشجرة التي ذكر قال: لا، قال: يا عدو الله، إنك لخائن! قال: أقلني أقالك الله، فأمر من يحتفظ به حتى جاء الرجل فقال له إياس: قد أقر بحقك فخذه منه. وصحب إياس رجلاً في سفر، فلما أراد أن [يفارقه] (1) قال له الرجل: أخبرني عن عيوني، قال: سل غيري، فإني كنت أراك بعين الرضى، يشير إلى قول القائل: وعين الرضى عن كل عيب كليلة ... ولكن عين السخط تبدي المساويا (آيا صوفيا: 64 ب) بشار بن برد (الترجمة رقم: 113، ص: 272، س: 22، بعد الرقم (31)) قال محمد بن الحجاج: كنا مع بشار [فجاءه] رجل فسأله عن منزل رجل ذكره له، فجعل بشار يفهمه ولا يفهم، فأخذه بيده وقام يقوده إلى منزل الرجل وهو يقول:   (1) زيادة لابد من مثلها ليستقيم المعنى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 467 أعمى يقود بصيراً لا أبا لكم ... قد ضل من كانت العميان تهديه حتى صار إلى منزل الرجل، ثم قال له: هذا منزله يا أعمى. ولما سمع بشار قول العباس بن الأحنف: لما رأيت الليل سد طريقه ... دوني وعذبني الظلام الراكد والنجم في كبد السماء كأنه ... أعمى تحير ما لديه قائد قال: قاتل الله هذا الغلام، ما رضي إذ جعله أعمى حتى جعله بلا قائد! ومن شعره، أعني بشاراً: أقول وليلتي تزداد طولاً ... أما لليل عندكم نهار جفت عيني عن التغميض حتى ... كأن جفونها عنها قصار (آيا صوفيا: 71 ب 72 أ) بشر الحافي (الترجمة رقم: 114، ص: 276، س: 9، بعد قوله: بمرو، رحمه الله تعالى) قال أبو بكر الباقلاني: سمعت أبي يقول: سمعت بشر بن الحارق ونحن معه بباب حرب، وأراد الدخول إلى المقبرة فقال: الموتى داخل السور أكثر منهم خارج السور وكان يقول: إذا أعجبك الكلام فاصمت، وإذا أعجبك الصمت فتكلم، وإذا هممت بغلاء السعر فاذكر الموت فإنه يذهب عنك هم الغلاء. (آيا صوفيا: 72 ب) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 468 بشر المريسي (الترجمة رقم: 115، ص: 277، س: 17، بعد قوله: وغيرهم رحمهم الله تعالى) وكان صحب مجوسياً في سفر فقال له بشر: أسلم، قال المجوسي: حتى يريد الله، قال: قد أراد الله ذلك وشاءه ولكن الشيطان ليس يدعك، قال المجوسي: فأنا مع أقواهما، فقطعه وأفحمه. (آيا صوفيا: 73 أ) تقية الصورية (الترجمة رقم: 123، ص: 298، س: 9، بعد قوله: إلى مقام كريم) ولها من قصيدة في الحافظ المذكور: أعوامنا قد أشرقت أيامها ... وعلا على ظهر السماك خيامها والروض مبتسم بنور أقاحه ... لما بكى فرحاً عليه غمامها والنرجس الغض الذي أحداقه ... ترنو فيفهم ما يقول خزامها وشقائق النعمان في وجناته ... خالات مسك حاكها رقامها وبنفسج لبس الحداد لحزنه ... أسفاً على مهج يزيد غرامها والجلنار على الغصون كأكؤس ... خرطت عقيقاً والنضار مدامها وغصون آس شبهته عيوننا ... غيداء يثنى قدها وقوامها وكأنما زهر الرياض عساكر ... في موكب منشورة أعلامها يبدي نسيم الصبح سر عبيرها ... فينم عن طيب بها نمامها يا صاح قم لسعادة قد أقبلت ... وتنبهت بعد الكرى نوامها واجمع خواطرنا لنجلو فكرها ... لما تجرد للقريض حسامها مدح الإمام على الأنام فريضة ... فخر الأئمة شيخها وإمامها (آيا صوفيا: 77 أ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 469 تميم بن المعز الفاطمي (الترجمة رقم: 125، ص: 303، س: 6، بعد قوله: عارضهما بالبيتين الأولين) وأورد له علي بن سعيد في المرقص: أطلع الحسن من جبينك شمساً ... فوق ورد من وجنتيك أطلا فكأن العذار خاف على الور ... د جفافاً فمد بالشعر ظلا وأورد له أيضاً: كأن بقايا الليل والصبح طالع ... بقية لطخ الكحل في الأعين الزرق (آيا صوفيا: 78 ب) جرير الشاعر (الترجمة رقم: 130، ص: 322، س: 3، بعد قوله: أضعف خلق الله أركانا) ودخل جرير على الوليد وعنده عدي بن الرقاع، فقال الوليد لجرير: أتعرف هذا قال: لا، قال: هو ابن الرقاع، قال جرير: شر الثياب ما كانت فيه الرقاع، قال: إنه من عاملة، قال: عاملة ناصبة، قال: ما تريد من رجل يمدح أحياء بني أمية ويرثي موتاهم والله لئن هجوته لأركبنه عنقك، فخرج جرير وابن الرقاع وراءه، فقال: أيها الناس، كدت أخرج إليكم وهذا القرد على عنقي. (آيا صوفيا: 81 أ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 470 جعفر الصادق (الترجمة رقم: 131، ص: 327، س: 9، بعد قوله: رضي الله عنهم أجمعين) كان عالماً زاهداً عابداً، روى عن أبيه وعطاء وعكرمة، قال محمد بن أبي القاسم عن يحيى بن الفرات قال: قال جعفر بن محمد لسفيان الثوري: لا يتم المعروف إلا بثلاثة: تعجيله وتصغيره وستره. حدث الزبير عن محمد بن يحيى الربعي [قال:] قال ابن شبرمة: دخلت أنا وأبو حنيفة على جعفر بن محمد فسلمت عليه، وكنت له صديقاً، ثم أقبلت عليه فقلت: أمتع الله بك، هذا رجل من أهل العراق له فقه وعلم، فقال جعفر: لعله الذي يقيس الدين بريه ثم أقبل عليه فقال له: اتق الله ولا تقس الدين برأيك فإن أول من قاس إبليس إذ أمره الله بالسجود لآدم فقال: (أنا خير منه الآية الكريمة) . ثم قال له: هل تحسن أن تقيس رأسك من جسدك فقال: لا، فقال: أخبرني عن الملوحة في العين، وعن المرارة في الأذن، وعن الماء في المنخرين، وعن العذوبة في الفم، لأي شيء جعل ذلك قال: لا أدري، قال له جعفر: إن الله تبارك وعلا خلق العينين فجعلهما شحمتين، وجعل الملوحة فيهما مناً على ابن آدم، ولولا ذلك لذابتا فذهبتا، وجعل المرارة في الأذنين مناً منه عليه، وجعل الماء في المنخرين ليصعد منه النفس وينزل ويجد منه الريح الطيبة من الريح الردية، وجعل العذوبة في الفم ليجد ابن آدم لذة مطعمه ومشربه. ثم قال لأبي حنيفة: أخبرني عن كلمة أولها شرك وآخرها إيمان، ما هي قال: لا أدري، قال: قول الرجل: لا إله إلا الله، فلو قال: لا إله ثم أمسك كان مشركاً، فهذه كلمة أولها شرك وآخرها إيمان. ثم قال: ويحك أيهما أعظم عند الله: قتل النفس التي حرم أم الزنا قال: لا بل قتل النفس، قال جعفر: إن الله قد رضي وقبل في قتل النفس بشاهدين ولم يقبل في الزنا إلا أربعة، فكيف يقوم لك قياس ثم قال: أيهما أعظم عند الله: الصوم أم الصلاة قال: الصلاة، قال: فما بال المرأة إذا حاضت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 471 تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة اتق الله يا عبد الله ولا تقس، فإنا نقف نحن غداً وأنت ومن خالفنا بين يدي الله عز وجل فنقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال الله تعالى، وتقول أنت وأصحابك: سمعنا وأرينا، فيفعل بنا وبكم ما يشاء. (آيا صوفيا: 83 أ 83 ب) جعفر البرمكي (الترجمتان رقم: 132أو 132ب، ص: 328 و 342، إضافات متفرقة) وقال إدريس بن بدر: عرض رجل للرشيد فقال: نصيحة، فقال لهرثمة: خذ إليك الرجل وأسأله عن نصيحته، فسأله، فأبى أن يخبره وقال: هي سر من أسرار الخليفة، فأخبره هرثمة فقال له الرشيد: لا يبرح هذا الباب حتى أفرغ له. فلما كان في الهاجرة وانصرف من كان عنده دعا به فقال: أخلني، فالتفت هارون إلى فتيته فقال: انصرفوا يا فتيان، فوثبوا وبقي خاقان وحسين على رأسه، فنظر إليهما الرجل فقال الرشيد: تنحيا عنا، ففعلا، ثم أقبل [على] الرجل فقال: هات ما عندك، قال: على أن تؤمنني، قال: على أن أؤمنك وأحسن إليك، قال: كنت بحلوان في خان من خاناتها، فإذا أنا بيحيى بن عبد الله في دراعة صوف وكساء صوف أخضر غليظ وإذا معه جماعة ينزلون إذا نزل ويرحلون إذا رحل ويكونون منه برصد يوهمون من رآهم أنهم لا يعرفونه وهم أعوانه ومع واحد منهم منشور يأمن به أن تعرض لهم؛ فقال: تعرف يحيى بن عبد الله قال: نعم أعرفه قديماً وذلك الذي حقق معرفتي له بالأمس، قال: فصفه، قال: مربوع أسمر رقيق البشرة أجلح حسن العينين عظيم البطن، قال: صدقت هو ذاك، فما سمعته يقول قال: ما سمعته يقول شيئاً غير أني رأيته يصلي ورأيت غلاماً من غلمانه أعرفه قديماً جالساً على باب الخان، فلما فرغ من صلاته أتاه بثوب غسيل فألقاه في عنقه ونزع الجبة والصوف فقال له: أحسن الله جزاك وشكر سعيك، فمن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 472 أنت قال: رجل من أفناء هذه الدولة وأصلي من مرو ومولدي ببغداد، قال: فمنزلك بها قال: نعم، فأطرق ملياً ثم قال: كيف احتمالك لمكروه تمتحن به في طاعتي قال: أبلغ في ذلك حيث أحب أمير المؤمنين، قال: كن بمكانك حتى أرجع، فدخل حجرة كانت خلف ظهره فأخرج كيساً فيه ألفا دينار فقال: خذ هذه ودعني وما أدبر فيك، فأخذها وضم عليه ثيابه ثم قال: يا غلام، فأجابه خاقان وحسين، فقال: اصفعوا ابن اللخناء، فصفعوه نحواً من مائة، ثم قال: أخرجوه إلى من بقي من الدار وعمامته في عنقه وقولوا: هذا جزاء من يسعى ببطانة أمير المؤمنين وأوليائه، ففعلوا ذلك وتحدثوا بخبره، ولم يعلم بحال الرجل أحد ولا بما ألقي إلى الرشيد حتى كان من أمر البرامكة ما كان وكان الحسن بن علي بن عيسى يقول: الشره قتل جعفر بن يحيى، فقيل له: إن الناس يقولون إن ذنبه أمر بعض أخوات الرشيد، فقال: هذا من رواية الجهال، من كان يجسر على الرشيد إنما كان جعفر من حاز ضياع الدنيا لنفسه، وكان الرشيد إذا سافر لا يمر بضيعة ولا بستان إلا قيل: هذا لجعفر، فما زال ذلك حتى جنى على نفسه بأن وجه بعض الطالبيين في يوم نوروز من غير أن يكون قد أمره بقتله، فاستحل بذلك دمه؛ وقيل: أرادت البرامكة إظهار الزندقة وإفساد الدولة فقتلهم لذلك حدث داود بن الجراح قال: قال لي الفضل بن مروان: كنت أعمل في أبواب ضياع الرشيد الحساب، فنظمت في حساب السنة التي نكب فيها البرامكة فوجدت ثمن هدية دفعتين من مال الرشيد أهداهما إلى جعفر بن يحيى بضعة عشر ألف دينار، وفيه بعد شهور من هذه السنة ثمن نفط وقطن برسم حرق جثة جعفر درهم ونصف. وكان جعفر طويل العنق؛ حكي أن الرشيد قام من مجلسه يريد الدخول إلى بعض حجره، وأن جعفراً أسرع فرفع له الستر، وإن الرشيد تأمل عنقه فقال له: ما تتأمل مني أمير المؤمنين فقال: حسن عنقك، فقال: لا والله ما تأملت مني إلا موضع سيفك منها، فقال له: أعيذك بالله من هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 473 القول، واعتنقه وقبله؛ فلما قتله بعد ذلك قال للفضل بن الربيع: قاتل الله جعفراً، وذكر هذا الخبر وقال: والله ما تأملت عنقه إلا لموضع السيف منها. ولما عزم جعفر على بناء قصره شاور أباه يحيى بن خالد فيه فقال: هو قميصك إن شئت فوسعه وإن شئت فضيقه. وأتاه وهو يبني داره هذه، وإذا الصناع يبيضون حيطانها فقال: إنك تغطي الذهب بالفضة، فقال له جعفر: ليس في كل أوان يكون ظهور الذهب أصلح، ولكن هل ترى عيباً قال: نعم، مخالطتها دور السفل والسوقة وقال إسحاق بن سعد القطربلي: أخبرني أبو حفص عمر بن فرج قال: انصرفت مع عمرو بن مسعدة يوماً من الشماسية والمأمون بها في زلال لعمرو بن مسعدة، فلما صرنا بازاء قصر جعفر بن يحيى قال عمرو: يا أبا حفص، سرت أنا وجعفر يوماً كمسيرنا هذا، فلما نظر إلى البناء قال لي: يا أبا الفضل إني لأعلم أن هذا ليس من بناء مثلي ولكن قلت إن بقي فهو قصر جعفر، وإن شره السلطان إليه في وقت من الأوقات فهو قصر جعفر، وإن مضت عليه الأيام فإنما يقال: قصر جعفر، ويبقى لي اسمه وذكره، وربما مر عليه بعض من لنا عنده معروف فترحم علينا. ثم قال عمرو: فوالله لكأن جعفراً كان ينظر إلى ما آلت إليه الحال فيه. ولما مضت ثلاثة أيام من قتل الرشيد جعفراً، قال الرشيد لمسرور: ما كان جعفر يصنع لما أخذته قال: كان يلعب بالشطرنج ويشرب وعنده جبريل ابن بختيشوع الطبيب، قال: فما قال حين مسه حد السيف قال: سمعته يقول: أهون بها من قتلة ولا سيما إذا كانت في طاعة الله، فقال الرشيد: ويلي على ابن الفاعلة، أراد أن يوهم أني قتلته في هوى نفسي، لا بل في طاعة الله واختصم إليه رجلان فقال لأحدهما: أنت خلي وهذا شجي، فجوابك يجري على برد العافية وجوابه يجري على حر المصيبة. ورفع رجل إلى جعفر رقعة ذكر فيهل قصد إياه بأمل طويل ورجاء فسيح، فوقع على ظهرها: هذا يمت بحرمة الأمل وهي أقرب الوسائل وأثبت الوصائل، فليعجل له من ذلك عشرون ألف درهم، وليمتحن ببعض الكفاية، فإن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 474 وجدت عنده فقد ضم إلى حقه وإلى حرمته حرمة، وإن قصر عن ذلك فعلينا معوله وإلينا موئله وفي مالنا سعة له. ورفع رجل إليه يسأله الاستعانة، وكان يعرفه ويخبره، فوقع على ظهر رقعته: قد رأيناك فما أعجبتنا ... وبلوناك فلم نرض الخبر ووقع على رقعة لمحبوس: إن العدوان أوبقه والتوبة تطلقه ولما ولي جعفر بن يحيى خراسان، دخل عليه أشجع السلمي فأنشده وذكر خروجه: أتصير يا قلب أم تجزع ... فإن الديار غداً بلقع إلى أن بلغ فيها: تريد الملوك مدى جعفر ... ولا يصنعون كما يصنع وكيف ينالون غاياته ... وهم يجمعون ولا يجمع وليس بأوسعهم في الغنى ... ولكن معروفه أوسع وكان يقول: من تسبب إلينا بشفاعة في عمل فقد حل عندنا محل من نهض بغيره، ومن لم ينهض بنفسه لم يكن للعمل أهلا [ووقع] في قصة محبوس: لكل أجل كتاب. (آيا صوفيا: 84 ب 88 ب) جعفر بن حنزابة (الترجمة رقم: 133، ص: 348، س: 24، بعد قوله: بلا كدر) ومما يناسب هذه الواقعة أن قتيبة بن مسلم لما ولي خراسان صعد المنبر فسقط القضيب من يده، فكره ذلك وتشاءم به، فقام إليه رجل فقال: ليس كما ذهب الأمير ولكن كما قال الشاعر: فألقت عصاها واستقرت بها النوى ... كما قر عيناً بالإياب المسافر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 475 المتوكل على الله (الترجمة رقم: 134، ص: 350، س: 6، بعد قوله: سنة 232) وكان سبب البيعة إنه لما توفي الواثق حضر الدار أحمد بن أبي دواد وايتاخ ووصيف ومحمد بن عبد الملك الزيات وعزموا على البيعة لمحمد بن الواثق؛ فأحضره وهو غلام أمرد قصير، فألبسوه دراعة سوداء وقلنسوة رصافية، فإذا هو قصير، فقال لهم وصيف: أما تتقون الله تولون مثل هذا الخلافة وهو لا تجوز معه الصلاة يعني لصغره -. فتناظروا فيمن يولونها، فذكر أحمد بن أبي دواد جعفراً أخا الواثق، فأحضره، فقام أحمد فألبسه الطويلة وعممه وقبله بين عينيه وقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته؛ وأراد ابن الزيات أن يلقبه المنتصر فقال أحمد بن أبي دواد: قد رأيت لقباً أرجو أن يكون موافقاً وهو المتوكل على الله، فأمر بإمضائه وكتب به إلى الآفاق؛ وقيل: بل رأى المتوكل في منامه قبل أن يستخلف كأن سكراً ينزل عليه من السماء مكتوب عليه " المتوكل على الله "، فقصها على أصحابه فقالوا: هي والله الخلافة، فبلغ ذلك الواثق فحبسه، وضيق عليه ويقال إنه كان يغلو في بغض علي، رضوان الله عليه. (آيا صوفيا: 89 ب) المتوكل على الله (الترجمة رقم: 134، ص: 356، س: 23، بعد قوله: رحمها الله تعالى) واصطبح المتوكل يوماً فأمر بإحضار الحسين الخليع، وكان قد كبر وضعف، فحمل إليه في محفة حتى وضع بين يديه، فسلم بالخلافة، وعلى رأس المتوكل شفيع يرفل في قراطق ممنطق بمنطقة ذهب وفي يده قهوة حمراء يتلألأ نورها وبين يديه طبقان مرصعان بورد أحمر وأبيض؛ فأمر شفيعاً أن يناول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 476 الحسين رطلاً ويحييه بوردة ويلاعبه، فناوله شفيع رطلاً فشربه، ثم حياه بوردة وقرص يده فقال: وكالوردة الحمراء حيا بأحمر ... من الورد يسعى في قراطق كالورد له عبثات عند كل تحيةٍ ... بعينيه تستدعي الخلي إلى الوجد سقى الله دهراً لم [أبت] فيه ليلة ... من الدهر إلا من حبيب على وعد فضحك المتوكل وطرب وقال: أحسنت والله يا حسين، سل ما شئت، فقال: يأذن أمير المؤمنين في الانصراف، قال: حدثني بحديث في الورد يكون مختصراً، قال: نعم يا أمير المؤمنين؛ بلغني أن الورد فيما مضى من سالف الدهر كان كله أبيض، وأن قضيبي ورد تعاشقا، فغمز أحدهما صاحبه فأحمر المغموز خجلاً، فمنه حمرة الورد إلى هذه الغاية؛ فضحك المتوكل حتى استلقى، وأمر بحمله إلى منزله، وحملت معه أربعة آلاف دينار. ورمى المتوكل عصفوراً فأخطأه، فقال ابن حمدون: أحسنت يا أمير المؤمنين، قال: أتهزأ بي كيف أحسنت قال: إلى العصفور يا مولاي، قال: لقد دققت النظر. وقال المتوكل لزنام الزامر: تأهب للخروج معي إلى دمشق، فقال: يا أمير المؤمنين، الناي في كمي والريح في فمي. قال عبد الأعلى بن عباد النرسي: دخلت على المتوكل فقربني وألزمني وقال: قد كنا هممنا لك بمعروف فتدافعت الأيام، فقلت: أحسن الله جزاء أمير المؤمنين على حسن نيته وكرم طويته، أفلا أنشدتك لبعض الشعراء شيئاً في مثل هذا قال: بلى، فأنشدته: لأشكرنك معروفاً هممت به ... إن اهتمامك بالمعروف معروف ولا ألومك إن لم تمضه قدراً ... فالشيء بالقدر المحتوم مصروف فقال: يا غلام، دواة وقرطاس، فكتبهما بيده. ورأى الفتح بن خاقان في لحية المتوكل شيئاً، فلم يمسه بيده ولا قال له شيئاً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 477 لكنه نادى يا غلام، مرآة أمير المؤمنين، فجيء بها، فقابل بها وجهه حتى أخذ ذلك الشيء بيده. ومن عجائب الظفر ما حكاه الصولي أن المتوكل قال: ركبت إلى دار الواثق أزوره في مرضه الذي مات فيه، فدخلت الدار وجلست في الدهليز ليؤذن لي، فسمعت بكاء بنياحة تشعر بموته، فتحسست وإذا ايتاخ ومحمد بن عبد الملك الزيات يأتمران فيّ، فقال محمد: نقتله في التنور، وقال ايتاخ: بل ندعه في الماء البارد حتى يموت ولا يرى عليه أثر القتل. فبينا هم كذلك إذ جاء أحمد بن أبي داود وكان القاضي يومئذ فمنعه الخدام الدخول، فدافعهم حتى دخل، فجعل يحدثهما بما لا أعقله لما داخلني من الخوف واشتغال القلب بإعمال الحيلة في الهرب والخلاص مما ائتمر به فيّ. فبينا أنا كذلك، إذ خرج الغلمان يتعادون إليّ ويقولون: انهض يا مولانا، فما شككت أن أدخل وأبايع ولد الواثق وينفذ فيّ ما قد قرر. فدخلت فلقيني أحمد بن أبي دواد، فقبل يدي وأمسكهما إلى أن أتي السرير وقال لي: اصعد إلى المكان الذي أهلك الله له؛ فلما صعدت وجلست سلم عليّ بالخلافة، وجاء محمد بن عبد الملك الزيات وايتاخ فسلما علي أيضاً، ثم دخل القواد فسلموا، ثم الناس على طبقاتهم. فلما انقضت المبايعة بقيت متعجباً مما اتفق مع ما سمعته من كلام الزيات وايتاخ، فسألت عن الحال كيف جرى، فقيل لي: بينا محمد وايتاخ في تقرير ما سمعته، إذ دخل عليهما ابن أبي دواد فسلم ثم قال: أنا رسول المسلمين إليكما وهم يقرءون السلام عليكما ويقولون لكما: قد بلغنا وفاة إمامنا وعند الله نحتسبه، وأنتما المنظور إليكما في هذا الأمر، فمن اخترتما لإمامتنا فقالا: محمداً ابنه، فقال: بخ بخ، ابن أمير المؤمنين إلا أنه صغير لا يصلح للإمامة؛ فمن غيره قالا: فلان وفلان، وعدّا جماعة، إلى أن قالا: وجعفر بن المعتصم، فقال: رضي المسلمون، اصفقا على يدي، فصفقا، ثم أرسل إليّ، فكان ما أرى، قال المتوكل: فبقي ما قاله ابن الزيات وايتاخ في نفسي فقتلتهما بما اعتزما به على قتلي، فقتلت ابن الزيات في التنور وإيتاخ بالماء البارد. ولما قتل الأتراك المتوكل بمواطأة ابنه المنتصر وأفضى الأمر بعده وبعد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 478 المستعين إلى المعتز، لم تزل أمه قبيحة تحرضه على الإيقاع بقتلة أبيه، فكان يمنيها ذلك ويعلم أنه لا يقوى بهم مع شدة شوكتهم، فأبرزت قبيحة يوماً للمعتز قميص المتوكل الذي قتل وضرج بدمه وجعلت تبكي وتحرضه على الطلب بدمه، فقال: يا أمي، أرفعي وإلا صار القميص قميصين؛ فعندها أمسكت ولم تعد. (آيا صوفيا: 90 أ 91 أ) أبو معشر المنجم (الترجمة رقم: 136، ص: 359، س: 15، بعد قوله: غير ذلك من الإصابات) ومما يناسب هذا من فطن المتطببين ما رواه الحسين بن إدريس الحلواني قال: سمعت الإمام محمد بن إدريس الشافعي يقول: ما أفلح سمين قط إلا أن يكون محمد بن الحسن، قيل له: ولمَ قال: لأنه لا يعدو العاقل إحدى خصلتين: إما أن يهتم لآخرته ومعاده، أو لدنياه في معاشه، والشحم مع الهم لا ينعقد، فإذا خلا من المعنيين صار في حد البهائم فانعقد الشحم؛ ثم قال: كان ملك في الزمان الأول وكان مثقلاً كثير الشحم لا ينتفع بنفسه، فجمع المتطببين وقال: احتالوا لي بحيلة تخف عني لحمي هذا قليلاً؛ قال: فما قدروا له على شيء؛ قال: فذكر له رجل عاقل أديب متطبب فاره، فبعث إليه وأشخصه فقال له: عالجني ولك الغنى، قال: أصلح الله الملك، أنا طبيب منجم، دعني حتى أنظر الليلة في طالعك أي دواء يوافقه فأسقيك؛ قال: فغدا عليه فقال: أيها الملك الأمان، قال: رأيت طالعك يدل على أن عمرك شهر، فإن اخترت عالجتك، وإن أردت بيان ذلك فاحبسني عندك، فإن كان لقولي حقيقة فخل عني، وإلا فاستقص مني؛ قال: فحبسه؛ قال: ثم رفع الملك الملاهي واحتجب عن الناس وخلا وحده مغتماً كلما انسلخ يوم ازداد غماً حتى هزل، خف لحمه، ومضى لذلك ثمانية وعشرون يوماً، فبعث إليه وأخرجه، فقال: ما ترى قال: أعز الله الملك، أنا أهون على الله من أن أعلم الغيب، والله لا أعرف عمري فكيف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 479 أعرف عمرك إنه لم يكن عندي دواء إلا الغم، فلم أقدر أجلب إليك الغم إلا بهذه العلة، فأذاب شحم الكلى؛ فأجازه وأحسن إليه. (آيا صوفيا: 92 أ) جميل بثينة (الترجمة رقم: 124، ص: 366، س: 18، بعد الرقم (35)) وقيل إن عائشة بنت طلحة أرسلت إلى كثير فقالت: يا ابن أبي جمعة، ما الذي يدعوك إلى أن تقول في عزة من الشعر ما قلت وليست من الحسن على ما تصف، ولو شئت صرفت ذلك عنها إلى غيرها ممن هو أولى به منها أنا ومثلي، فإني أشرف وأجمل وأوصل من عزة، وإنما أرادت أن تخبره بذلك، فقال: إذا ما أرادت خلة أن تزيلها ... أبينا وقلنا الحاجبية أولُ سنوليك عرفاً إن أردت وصالنا ... ونحن لتلك الحاجبية أوصلُ لها مهل لا يستطاع إدراكه ... وسابقة في القلب لا تتحول فقال له عائشة: أخطأت استك الحفرة يا أبا صخر؛ لقد أسميتني خلة وما أنا لك بخلة، وعرضت عليّ وصلك وما أريده، ولو أردته أنت لكرهته أنا، وإنما أردت أن أبول ما عندك قولاً وفعلاً فما أفلحت ولا أنجحت؛ هلا قلت كما قال سيدك جميل: ويقلن إنك قد رضيت بباطلٍ ... منها فهل لك في اجتناب الباطل ولباطل ممن أحب حديثة ... أشهى إليّ من البغيض الباذل وقال بعض الرواة: دخلت بثينة وعزة على عبد الملك بن مروان، فانحرف إلى عزة وقال: أنت عزة كثير قالت: لست لكثير بعزة ولكني أم بكر، قال أتروين قول كثير: وقد زعمت أني تغيرت بعدها ... ومن ذا الذي يا عزّ لا يتغير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 480 تغير خلقي والمودة كالذي ... عهدت ولم يخبر بسرك مخبر قالت: لست أروي هذا ولكني أروي قوله: كأني أنادي أو أكلم صخرة ... من الصم لو تمشي بها العصم زلت صفوحاً فما تلقاك إلا بخيلة ... فمن مل منها ذلك الوصل ملت ثم انحرف إلى بثينة فقال: أأنت بثينة جميل قالت: نعم، قال: ما الذي رجا فيك جميل حتى لهج بذكرك من بين نساء العالمين قالت: الذي رجا فيك الناس فجعلوك خليفتهم؛ قال: فضحك حتى بدا ضرس له أسود لم ير قبل ذلك، وفضل بثينة على عزة في الجائزة، ثم أمرهما أن تدخلا على عاتكة، فدخلتا عليها، فقالت لعزة: أخبرني عن قول كثير: مضى كل ذي دين فوفى غريمه وعزة ممطول معنى غريمها ما كان دينه وما كنت وعدته قالت: كنت وعدت قبلة ثم تأثمت منها، قالت: وددت أنك فعلت وأني تحملت إثمها عنك، ثم ندمت عاتكة واستغفرت الله وأعتقت عن هذه الكلمة أربعين رقبة. قال الحافظ ابن الجوزي: لما عرض عبد الملك بأنه قد كان له سر مكتوم وخبر مجهول ليوبخها ويلطخها بمعرته، عرفته أنها كانت صماء عن الهزل بخيلة بالقليل من الوصل وحدث الزبير بن بكار عن أبي الحارث مولى هشام بن المغيرة قال: شهدت عمر بن أبي ربيعة وجميل بن عبد الله بن معمر وقد اجتمعا بالأبطح، فأنشد جميل قصيدته التي يقول فيها: فلو تركت عقلي معي ما طلبتها ... ولكن طلابيها لما فات من عقلي خليلي فيما عشتما هل رأيتما ... قتيلاً بكى من حب قاتله قبلي قال: فأنشده عمر بن أبي ربيعة قوله: جرى ناصح بالود بيني وبينها ... فقربني يوم الحصاب إلى قتلي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 481 فلما توافقنا عرفت الذي بها ... كمثل الذي بي حذوك النعل بالنعل فانتهي فيها إلى قوله: فسلمت واستأنست خيفة أن يرى ... عدو مكاني أو يرى كاشح فعلي فقالت وأرخت جانب الستر إنما ... معي فتحدث غير ذي رقبة أهلي فقلت لها ما لي بهم من ترقب ... ولكن سري ليس يحمله مثلي فقال جميل: هيهات يا أبا الخطاب، لا أقول والله مثل هذا أبداً، ما خاطب النساء مخاطبتك أحد، ثم قام مشمراً. ويروى أن جميلاً لما أنشد عمر قوله: خليلي فيما عشتما هل رأيتما (الأبيات المقدم ذكرها) قال له جميل: أنشدني يا أبا الخطاب، فأنشده: ألم تسأل الأطلال والمتربعا فلما انتهى إلى قوله فيها: فلما توافقنا وسلمت أشرقت ... وجوه زهاها الحسن أن تتقنعا تبالهن بالعرفان لما رأينني ... وقلن: امرؤ باغٍ أضل وأوضعا وقربن أسباب الهوى لمتيم ... يقيس ذراعاً كلما قسن إصبعا قال: فصاح جميل واستخذى وقال: ألا إن النسيب أخذ من هذا، وما أنشد حرفاً، فقال له عمر: اذهب بنا إلى بثينة حتى نسلم عليها، فقال له جميل: قد أهدر لهم السلطان دمي إن وجدوني عندها، وهاتيك أبياتها؛ فأتاها عمر حتى وقف على أبياتها وتأنس حتى كلم فقال: يا جارية أنا عمر بن أبي ربيعة فأعلمي بثينة مكاني، فخرجت إليه بثينة في مباذلها وقال: يا عمر، لا أكون من نسائك اللاتي تزعم أن قد قتلهن الوجد بك، فانكسر عمر، وإذا امرأة أدماء طويلة. (آيا صوفيا: 94 أ 95 ب) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 482 الجنيد الهروي (الترجمة رقم: 144، ص: 373، س: 12، بعد قوله: الكتاب والسنة) وسئل عن قوله تعالى (سنقرئك فلا تنسى) قال: سنقرئك التلاوة فلا تنسى العمل؛ وعن قوله تعالى (ودرسوا ما فيه) قال: تركوا العمل بما فيه؛ قيل للجنيد: ما القناعة قال: أن لا تجاوز إرادتك ما هو لك في وقتك وسأله الجريري يوماً عن قول عيسى: (تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك) ، قال: هو والله أعلم تعلم ما أنا لك عليه وما لك عندي ولا أعلم ما لي عندك إلا ما أخبرتني به وأطلعتني، فهذا معناه، والله أعلم. (آيا صوفيا: 96 أ 96 ب) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 483 مقدمة اعتمدنا في تحقيق هذا الجزء على المخطوطات الآتية: 1 - النسخ التي أشار إليها وستنفيلد في مطبوعته، وقد تقدم الحديث عنها في مقدمة الجزء الأول. 2 - مخطوطة المتحف البريطاني (رقم: 1505، التكملة: 607) وقد تقدم وصفها أيضا في مقدمة الجزء الأول. 3 - مسودة المؤلف (المتحف البريطاني رقم: 25735 Add.) ، وتقع في 293 ورقة، وقد كتب على الورقة الثانية فيها بخط غير خط الأصل: مسودة المرحوم ابن خلكان عليه رحمة الله المليك المنان بخطه. وعلى هذه الورقة ما يفيد أن النسخة كانت ملكا لمسعود بن إبراهيم سنة 1704، وعلى الورقة التي تليها: " كتاب وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، عني بجمعه لنفسه ولمن شاء الله تعالى من بعده الفقير إلى رحمة الله تعالى أحمد بن محمد بن إبراهيم بن أبي بكر بن خلكان ". وعلى هذه الورقة نفسها إن النسخة كانت من كتب أبي بكر ابن رستم بن أحمد بن محمود الشرواني، كما تملكها محمد بن سالم بن معز الله بن سالم ابن واصل، وعليها تعليق بخط هذا الأخير في تبيان مزايا الكتاب وتفضيله على سائر الكتب المؤلفة في التراجم لما اشتمل عليه من المذكرات الأدبية والفوائد الفقهية والنكت الغريبة اللطيفة. وهي نسخة جيدة دقيقة الضبط، وعلى هوامشها عنوان لكل ترجمة، كما امتلأت تلك الهوامش بالتحشيات التي أضافها المؤلف بعد أن كتب الصورة الأولى من كتابه. وقد أمحى بعض هذه الحواشي في الخُمس الأول من ورقات هذه النسخة، كما أن هناك تحويلات أو إشارات إلى تحويلات لم تثبت فيها، ويبدو أن المؤلف قد أثبتها في كراسات منفصلة. كذلك فإن المؤلف قد ضرب على أشياء كان قد أثبتها ثم بدا له فيها فأسقطها أو أثبت ما رآه أصلح منها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1 وقد جاء على الورقة الأخيرة من هذه النسخة: نجز الأول ويتلوه في أول الجزء الثاني حرف الفاء إن شاء الله تعالى، الحمد لله وحده وصلى الله على خير خلقه محمد وآله وصحبه وسلم؛ وكان الفراغ منه يوم الجمعة بعد الصلاة رابع عشر شهر ربيع الأول من الكتاب (قبل أن يكمل المؤلف حرف الياء بتراجم طويلة) وتنتهي عند آخر ترجمة غيلان بن عقبة المشهور بذي الرمة، ولكن الإضافات في حواشيها تدل على أن المؤلف تعهدها بالزيادة والتبديل بعد تاريخ نسخها، فهناك حاشية تشير إلى أنه قد أضاف ما أضافه سنة 675، وذلك بعد عودة المؤلف من الشام إلى القاهرة بسنوات. وإذا صح هذا التقدير فإن هذه النسخة تمثل - مع ما يضاف إليها من التحويلات - الشكل الذي ارتضاه المؤلف لكتابه. 4 - نسخة أحمد الثالث (رقم: 2919) ورمزها س: وتتكون هذه النسخة من ثلاثة أجزاء: الجزء الأول في 267 ورقة (18 سطراً × 12 كلمة) ، وينتهي بترجمة أبي الحسن الأشعري، وفي آخره: بلغ مقابلة وتصحيحاً بالنسخة الكبرى ولله الحمد. الجزء الثاني في 259 ورقة، وينتهي بترجمة المعتمد بن عباد. الجزء الرابع في 207 ورقات، ويبدأ بترجمة يحيى بن زياد المعروف بالفراء وينتهي بخاتمة المؤلف؛ وقد كتب في آخره أيضاً: بلغ مقابلة وتصحيحاً بالنسخة الكبرى فصح صحتها والحمد له. فهذه النسخة تنقص الجزء الثالث الذي يبدأ بترجمة المعتصم بن صمادح وينتهي بترجمة يحيى بن معمر. وهي نسخة حسنة الضبط في الجملة وتاريخ نسخها في شهر محرم الحرام ثمان وثلاثين وثمانمائة، وقد قوبلت على نسخة حازت تقدير أحد الأئمة وهو الشيخ العلامة مفتي المسلمين أبو محمد عبد الرحيم جمال الدين بن الحسن بن علي الأسنوي، فقد كتب على تلك النسخة ما نصه: " أعلم أن نسخ هذا الكتاب سقية غالباً وهذه النسخة من أصحها متناً وضبطاً ومقابلة على خط مؤلفها ". والحقيقة أن المقابلة بين هذه النسخة ومسودة المؤلف بترز حقيقة هامة وهي أن النسخة التي أثنى عليها الأسنوي قوبلت على نسخة بخط المؤلف قبل أن يضع عليها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 2 الزيادات والحواشي اللاحقة. ولهذا فإن النسخة س تكاد تكون صورة أمينة لما قيده المؤلف في المرحلة الأولى من تأليفه لهذا الكتاب. 5 - نسخة آيا صوفيا (رقم: 3532) ورمزها ص: تقع 244 ورقة (25 سطراً × 15 كلمة) وهي مكتوبة بخط نسخ دقيق واضح، وتنتهي بترجمة عبد الرحمن ابن عبد الله السهيلي صاحب " الروض الأنف "، وقد جاء في آخرها: " نجز الجزء الأول من وفيات الأعيان بحمد الله ومنه وإعانته وحسن توفيقه يوم الخميس سادس عشرين رجب الفرد سنة خمس وثلاثين وسبعمائة، علقه لنفسه الفقير إلى الله تعالى عز وجل محمد بن الحسين بن محمود البالسي عفا الله عنه وسامحه بمنه ولطفه وكرمه، يتلوه في الجزء الثاني ترجمة أبي جعفر المنصور الخ ". فهي نسخة قديمة نسبياً من حيث تاريخها، وتتفق كثيراً مع مسودة المؤلف، ولكنها احتوت ترجمات زائدة لم يشر إليها المؤلف في مسودته، كما حلفت بزيادات كثيرة في كثير من التراجم المشتركة. ومما يلفت النظر أن أكثر الترجمات المزيدة فيها يخرج على الخطة التي صرح بها المؤلف في مقدمته حين قال: " ولم ذكر في هذا المختصر أحداً من الصحابة رضوان الله عليهم ولا من التابعين رضي الله عنهم إلا جماعة يسيرة تدعو حاجة كثير من الناس إلى معرفة أحوالهم، وكذلك الخلفاء لم أذكر أحداً ". فمن أمثلة التراجم المزيدة ترجمات أبي بكر الصديق وعائشة وعبد الله بن العباس وعبد الله بن الزبير وبي جعفر المنصور. 6 - نسخة الظاهرية (رقم: 5418) ورمزها ر: وهي نسخة كاملة من ويات الأعيان تقع في 488 (37 سطراً × 16 كلمة) وقد جاء في آخرها: " وقد وقع إتمام كتابة هذا الكتاب بحمد الله وعونه في اليوم السابع والعشرين من شهر رجب الفرد سنة خمس وخمسين ومائة وألف على يد الحقير السيد إبراهيم بن الحكيم غفر الله له بمنه وكرمه آمين ". فهي تمثل نسخة حديثة قليلة الاحتفال بالضبط والدقة، ولكنا اعتمدنا لأن فيها زيادات يتفق بعضها مع زيادات ص ومسودة المؤلف. وتنفرد ر بزيادات تتفق فيها أحياناً مع النسخة التي رمزنا لها بالحرف د من نسخ وستنفيلد. وبعد حصولنا على هذه المخطوطات الجديدة، أصبح من الضروري أن نعدل في خطتنا التي جرينا عليها في الجزء الأول؛ فقد أصبحت مسودة المؤلف تمثل أصلاً معتمداً للنص الأصلي الذي أثبتناه في المتن، وقد كانت هذه النسخة ذات عون كبير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 3 لنا في ترجيح القراءة المعتمدة لدى اختلاف النسخ. ثم إننا بدلاً من أن نضيف زيادات النسخ في آخر الجزء كما فعلنا في الجزء الأول، أثبتنا الزيادات المستمدة من النسخ: ص، ر، د، في المتن نفسه، وميزنا هذه الزيادات بوضعها بين معقفين مع الإشارة إلى ذلك في الحواشي. وفي هذا الجزء أيضاً أثبتنا العناوين التي وضعها المؤلف نفسه في مسودته بعد أن كنا نلتزم بعناوين مطبوعة وستنفيلد. وسيجد من يتتبع تراجم هذا الجزء والأجزاء التي تليه ترجمات إضافية لم ترد في أصل المؤلف أو في معظم مطبوعات الكتاب، وقد أشرنا في الحواشي إلى كل إضافة من هذا النوع. وقد كان حصولنا على المخطوطة ص سابقاً لحصولنا على سائر النسخ، ولهذا استخرجنا ما فيها من زيادات وألحقناها في آخر الجزء الأول تاليةً للزيادات المستخرجة من نسخة د. وهنالك وجدنا أن هذه النسخة - أي ص - قد انفردت بترجمة لم ترد في غيرها من النسخ وهي ترجمة: إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك التي لم نستطع أن نعطيها رقماً منفرداً. أما الترجمات العارضة التي تصدى لها ابن خلكان في أثناء كتابه، فقد جرينا في هذا الجزء أيضاً على تمييزها بالرقم العربي، وجعلنا الترقيم فيه تالياً للترقيم في الجزء الأول. وسوف يكون اعتمادنا في تحقيق الأجزاء التالية على عدد آخر من المخطوطات سنشير إليها في المواضع الملائمة لذلك. ويطيب لي في ختام هذه الكلمة أن أتقدم بأوفر الشكر وأتمه إلى جميع الأصدقاء الذين قدموا لي العون المسعف على إنجاز هذا العمل، وأخص بالذكر منهم: الصديق الدكتور عزت حسن أمين المكتبة الظاهرية بدمشق الذي تفضل فأمدني بمكير وفيلم من نسخة الظاهرية؛ والصديق محمد بن تاويت الطنجي الأستاذ بالمعهد الإسلامي الأعلى في اسكدار لما قدمه لي من مساعدة كبيرة أثناء مراجعتي للمخطوطات في مكتبات استانبول؛ والأخ الدكتور وليد عرفات الذي ذلل كل صعوبة عملية في سبيل الحصول على صورة من مسودة المؤلف؛ كما أشكر القائمين على القسم الشرقي في المتحف البريطاني على مالقيته لديهم من معونه صادقة. والله أسأل أن يعينني على إنجاز سائر هذا العمل بحوله وقوته. بيروت في تشرين الأول (أكتوبر) 1969 إحسان عباس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 4 حَرف الحَاء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 9 147 - (1) أبو تمام أبو تمام حبيب بن أوس بن الحارث بن قيس بن الأشج بن يحيى بن مروان بن مر بن سعد بن كاهل (2) بن عمرو بن عدي بن عمرو بن الغوث (3) بن طيىء - واسمه جلهمه - بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن يشجب ابن يعرب بن قحطان الشاعر المشهور؛ [وذكر (4) أبو القاسم الحسن بن بشر بن يحيى الآمدي في كتاب " الموازنة بن الطائيين " ما صورته: والذي عند أكثر الناس في نسب أبي تمام: أن أباه كان نصرانياً من أهل جاسم، قرية من قرى دمشق، يقال له: تدوس (5) العطار، فجعلوه أوساً، وقد لفقت له نسبة إلى طيىء، وليس فيمن ذكر فيها من الآباء من اسمه مسعود، وهذا باطل ممن عمله، ولو كان نسبه صحيحاً لما جاز أن يلحق طيئاً بعشرة آباء (6) .   (1) ترجمة أبي تمام في طبقات ابن المعتز: 287 والأغاني 16: 303 وتاريخ بغداد 8: 248 وتهذيب ابن عساكر 4: 18، وفيه كتب الصولي كتابه " أخبار أبي تمام " (ط. القاهرة: 1937) وكتب الآمدي كتاب " الموازنة " بينه وبين البحتري. (2) ص س: كامل. (3) أج: غوث؛ س: الحرث. (4) ما بين معقفين لم يرد إلا في م ر، مع إيجاز في م. (5) أ: ندوس؛ م: فدرس. (6) لم أجد هذا في " الموازنة "، ولكني وجدت عند ذكر البيت " إن كان مسعود.. " قول الآمدي (1: 534) : " إن كان مسعود " يعني مسعوداً أخا ذي الرمة، ولا يعرف له بيت واحد بكى فيه الديار، وهذا من معاني أبي تمام الغامضة التي يسأل عنها، وما زلت أرى الناس قديماً يخبطون فيه، وإنما ذكر مسعوداً لأنه كان ينهى ذا الرمة عن البكاء على الديار، وذلك كقول: إن كان حاتم قد شح فلست منه، أي أنه إن كان بعد كرمه وجوده قد رأى إن البخل فلست مقتدياً به. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 11 قلت: وذكر الآمدي هذا في قول أبي تمام: إن كان مسعود سقى أطلالهم ... سبل الشؤون فلست من مسعود وقد سقط في النسب بين قيس ودفاقة (1) ستة آباء. وقول أبي تمام: " فلست من مسعود "، لا يدل على أن مسعوداً من آبائه بل هذا كما يقال: " ما أنا من فلان ولا فلان مني "، يريدون به البعد منه والأتفة، ومن هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ولد الزنا ليس منا) ، و (علي مني وأنا منه) . وقد ساق الخطيب أبو بكر في " تاريخ بغداد " نسبه، وفيه تغيير يسير. وقال الصولي (2) : قال قوم: إن أبا تمام هو حبيب بن تدوس النصراني، فغير، فصار أوساً] . كان أوحد (3) عصره في ديباجة لفظه ونصاعة (4) شعره وحسن أسلوبه، وله كتاب " الحماسة " (5) التي دلت على غزارة فضله وإتقان معرفته بحسن اختياره، وله مجموع آخر مسماه " فحول الشعراء "، جمع فيه بين طائفة كبيرة من شعراء الجاهلية والمخضرمين والإسلاميين، وله كتاب " الاختيارات من شعر الشعراء "، وكان له من المحفوظ ما لا يلحقه فيه غيره، قيل إنه كان يحفظ أربع عشرة (6) ألف أرجوزة للعرب غير القصائد والمقاطيع، ومدح الخلفاء وأخذ   (1) هـ: وذفافة. (2) قال الصولي في أخبار أبي تمام: " وهو حبيب بن أوس الطائي صليبة ". (3) ر: واحد. (4) د: وفصاحة. (5) تصدى له شراح كثيرون؛ ومن شروحه المشهورة شرح التبريزي وشرح المرزوقي؛ وحاكاه في الاختيار عدد كبير في المغرب والمشرق سموا كتبهم باسم الحماسة؛ ولأبي تمام " الحماسة الصغرى " وهو كتاب الوحشيات، نشر بتحقيق الأستاذ عبد العزيز الميمني الراجكوتي وزاد في حواشيه الأستاذ محمود محمد شاكر (دار المعارف: 1963) . (6) كذا في المسودة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 12 جوائزهم، وجاب البلاد، وقصد البصرة وبها عبد الصمد بن المعذل (1) الشاعر، فلما سمع بوصوله - وكان في جماعة غلمانه وأتباعه - فخاف من قدومه أن يميل الناس إليه ويعرضوا عنه، فكتب إليه قبل دخوله البلد (2) : أنت بين اثنتين تبرز للنا ... س وكلتاهما بوجه مذال لست تنفك راجياً لوصال ... من حبيب أو طالباً لنوال أي ماء يبقى لوجهك هذا (3) ... بين ذل الهوى وذل السؤال فلما وقف على الأبيات أضرب عن مقصده ورجع، وقال: قد شغل هذا ما يليه فلا حاجة لنا فيه. وقد ذكرت نظير هذه الأبيات في ترجمة المتنبي في حرف الهمزة. [ (4) ولما قال (5) ابن المعذل هذه الأبيات في أبي تمام، كتبها ودفعها إلى وراق كان هو وأبو تمام يجلسان إليه ولا يعرف أحدهما الآخر، وأمر أن تدفع إلى أبي تمام، فلما وافى أبو تمام وقرأها قلبها وكتب: أفي تنظم قول الزور والفند ... وأنت أنقص من لا شيء في العدد أشرجت (6) قلبك من غيظ على حنق ... كأنها حركات الروح في الجسد أقدمت ويلك من هجوي على خطر ... كالعير يقدم من خوف على الأسد وحضر عبد الصمد، فلما قرأ البيت الأول وقال: ما أحسن علمه بالجدل، أوجب زيادة ونقصاناً على معدوم، ولما نظر إلى البيت الثاني قال: الإشراج   (1) أج د هـ: المعدل. (2) انظر الصولي: 241 - 242 والشريشي 2: 189 والأغاني 13: 254. (3) ب ج: لحر وجهك يبقى. (4) ما بين معقفين انفردت به م ر. (5) هذا الخبر مخالف للذي قبله بعض المخالفة ومن حتى المؤلف أن يصدره بمثل قوله " ويقال إن ... الخ " وانظر الأغاني 13: 255 وديوانه 4: 351. (6) اشرج الشيء: شده بالشرج وهي العرى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 13 من عمل الفراشين ولا مدخل له ههنا، فلما قرأ البيت الثالث عض على شفته وقال: قتل. وقال الصولي (1) : قد ذكر ذلك أبو الفتح محمود بن الحسين المعروف بكشاجم في كتاب " المصايد والمطارد "، عند قوله فيه: وأغفل الجاحظ في باب ذكر انقياد بعض المأكولات لبعض الآكلات ذكر الحمار الذي يرمي بنفسه على الأسد إذا شم ريحه] . ولما أنشد أبو تمام دلف العجلي قصيدته البائية المشهورة التي أولها (2) : على مثلها من أربع وملاعب ... أذيلت مصونات الدموع السواكب استحسنها وأعطاه خمسين ألف درهم وقال له: والله إنها لدون شعرك، ثم قال له: والله ما مثل هذا القول في الحسن إلا ما رثيت به محمد بن حميد الطوسي، فقال أبو تمام: وأي ذلك أراد الأمير قال: قصيدتك الرائية التي أولها: كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر (3) ... فليس لعين لم يفض ماؤها عذر وددت والله أنها لك في، فقال: بل أفدي الأمير بنفسي وأهلي وأكون المقدم قبله، فقال: إنه لم يمت من رثي بهذا الشعر. وقال العلماء: خرج من قبيلة طيىء ثلاثة، كل واحد مجدي في بابه: حاتم الطائي في جوده، وداود بن نصير الطائي في زهده، وأبو تمام حبيب بن أوس في شعره. وأخباره كثيرة (4) ورأيت الناس مطبقين على أنه مدح الخليفة بقصيدته   (1) يبدو أن المؤلف هنا ينقل عن شرح الصولي لشعر أبي تمام، فهذا التعليق لم يرد في كتابه " أخبار أبي تمام "؛ وانظر: المصايد والمطارد: 46 ففيه النص والخبر عن التهاجي بين أبي تمام وعبد الصمد بن المعذل وتعليق عبد الصمد على أبيات أبي تمام؛ ولم يرد في م ر قوله " وقال الصولي ". (2) ديوانه 1: 205 والخبر في الصولي: 121 - 125. (3) ر: الدهر. (4) وأخباره كثيرة: سقطت من ص. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 14 السينية (1) ، فلما انتهى فيها إلى قوله: إقدام عمرو في سماحة حاتم ... في حلم أحنف في ذكاء إياس قال له الوزير: أتشبه أمير المؤمنين بأجلاف العرب فأطرق ساعة، ثم رفع رأسه وأنشد: لا تنكروا ضربي له من دونه ... مثلاً شروداً في الندى والباس فالله قد ضرب الأقل لنوره ... مثلاً من المشكاة والنبراس فقال الوزير للخليفة: أي شيء طلبه فأعطه، فإنه لا يعيش أكثر من أربعين يوماً، لأنه قد ظهر في عينيه الدم من شدة الفكر، وصاحب هذا لا يعيش إلا هذا القدر، فقال له الخليفة: ما تشتهي قال: أريد الموصل، فأعطاه إياها، فتوجه إليها، وبقي هذه المدة ومات؛ وهذه القصة لا صحة لها أصلاً. وقد ذكر أبو بكر الصولي في كتاب " أخبار أبي تمام " (2) ، أنه لما أنشد هذه القصيدة لأحمد بن المعتصم وانتهى إلى قوله: إقدام عمرو - البيت المذكور - قال له [أبو يوسف يعقوب بن الصباح] (3) الكندي الفيلسوف، وكان حاضراً: الأمير فوق من وصفت، فأطرق قليلاً ثم زاد البيتين الآخرين، ولما أخذت القصيدة من يده لم يجدوا فيها هذين البيتين، فعجبوا من سرعته وفطنته. ولما خرج قال أبو يوسف، وكان فيلسوف العرب: هذا الفتى يموت قريباً. ثم قال بعد ذلك: وقد روي هذا على خلاف ما ذكرته، وليس بشيء، والصحيح هو هذا. وقد تتبعتها وحققت صورة ولايته للموصل، فلم أجد سوى أن الحسن   (1) مطلع هذه القصيدة (ديوانه 2: 242) : ما في وقوفك ساعة من باس ... نقضي ذمام الأربع الادراس (2) أخبار أبي تمام: 231 - 232. (3) لم يرد في المسودة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 15 ابن وهب ولاه يريد الموصل، فأقام بها أقل من سنتين ثم مات بها. والذي يدل على أن القضية ليست صحيحة أن هذه القصيدة ما هي في أحد من الخلفاء، بل مدح بها أحمد بن المعتصم، وقيل أحمد بن المأمون، ولم يل واحد منهما الخلافة، والحيص بيص ذكر في رقاعة السبع اللاتي كتبها إلى الامام المسترشد يطلب منه بايعقوبا أن الموصل كانت إجازة لشاعر طائي، فإما أنه بنى الأمر على ما قاله الناس من غير تحقيق، أو قصد أن يجعل هذا ذريعة لحصول بايعقوبا له، والله أعلم [وتابعه في الغلط ابن دحية في كتاب " النبراس "] (1) . [وذكر الصولي (2) أن أبا تمام لما مدح محمد بن عبد الملك الزيات الوزير بقصيدته التي منها قوله: ديمة سمحة القياد سكوب ... مستغيث بها الثرى المكروب لو سعت بقعة لإعظام أخرى ... لسعى نحوها المكان الجديب قال له ابن الزيات: يا أبا تمام، إنك لتحلي شعرك من جواهر لفظك وبديع معانيك ما يزيد حسناً على بهي الجواهر في أجياد الكواعب، وما يدخر لك شيء من جزيل المكافأة إلا ويقصر عن شعرك في الموازاة. وكان بحضرته فيلسوف، فقال له: إن هذا الفتى يموت شاباً، فقيل له: ومن أين حكمت عليه بذلك فقال: رايت فيه من الحدة والذكاء والفطنة مع لطافة الحس وجودة الخاطر ما علمت به أن النفس الروحانية تأكل جسمه كما يأكل السيف المهند غمده، وكذا كان، لأنه مات وقد نيف على ثلاثين سنة. قلت: وهذا يخالف ما سيأتي في تاريخ مولده ووفاته بعد هذا إن شاء الله تعالى] (3) .   (1) ما بين معقفين سقط من س ص والمسودة. (2) لم يرد هذا الخبر في كتاب أخبار أبي تمام؛ وفي الديوان (1: 296) إن القصيدة في مدح محمد بن الهيثم بن شبانة. (3) هذا النص لم يرد في ص والمسودة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 16 ولم يزل شعره (1) غير مرتب حتى جمعه أبو بكر الصولي، ورتبه على الحروف، ثم جمعه علي بن حمزة الأصبهاني، ولم يرتبه على الحروف، بل على الأنواع. وكانت ولادة أبي تمام سنة تسعين ومائة، وقيل: سنة ثمان وثمانين ومائة، وقيل: سنة اثنتين وسبعين (2) ومائة بجاسم، وهي قوية من بلد الجيدور (3) من أعمال دمشق بين دمشق وطبرية، ونشأ بمصر، قيل إنه كان يسقي الناس ماء بالجرة في جامع مصر، وقيل كان يخدم حائكاً ويعمل عنده [بدمشق وكان أبوه خماراً بها، وكان أبو تمام أسمر طويلاً فصيحاً حلو الكلام فيه تمتمة يسيرة] ثم اشتغل وتنقل إلى أن صار منه ما صار. وتوفي بالموصل - على ما تقدم - في سنة إحدى وثلاثين ومائتين، وقيل إنه توفي في ذي القعدة، وقيل في جمادى الأولى سنة ثمان وعشرين، وقيل تسع وعشرين ومائتين، وقيل في المحرم سنة اثنتين وثلاثين ومائتين، رحمه الله تعالى. [قال (4) البحتري: وبنى عليه أبو نهشل ابن حميد الطوسي قبة، قلبت: ورأيت قبره بالموصل خارج باب الميدان، على حافة الخندق، والعامة تقول: هذا قبر تمام الشاعر. وحكى لي الشيخ عفيف الدين أبو الحسن علي بن عدلان الموصلي النحوي المترجم (5) ، قال: سألت شرف الدين أبا المحاسن محمد بن عنين الشاعر - الآتي ذكره في هذا الكتاب في حرف الميم إن شاء الله تعالى - عن معنى قوله: سقى الله دوح الغوطتين ولا ارتوت ... من الموصل الحدباء إلا قبورها لم حرمها وخص قبورها فقال: لأجل أبي تمام.   (1) هذا عن الفهرست: 165. (2) كذا في المسودة وص، وفي سائر النسخ: وتسعين. (3) أ: الجورلان؛ د: حلوان. (4) ما بين معقفين سقط من ص س والمسودة. (5) ولد سنة 583 وكان ماهراً بحل المترجم والألغاز ولذلك لقب المترجم، وتوفي بالقاهرة سنة 666 (انظر الفوات 2: 121 وبغية الوعاة: 343 والنجوم الزاهرة 7: 226) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 17 وهذا البيت من قصيدة لابن عنين المذكور يمدح بها السلطان الملك المعظم شرف الدين عيسى ابن الملك العادل بن أيوب - وسيأتي ذكره في حرف العين إن شاء الله تعالى - أولها (1) : أشاقك من عليا دمشق قصورها ... وولدان أرض النيربين وحورها وهي من أحسن قصائده] . ورثاه الحسن بن وهب بقوله (2) : فجع القريض بخاتم الشعراء ... وغدير روضتها حبيب الطائي ماتا معاً فتجاورا في حفرة ... وكذاك كانا قبل في الأحياء وقيل: إن هذين البيتين لديك من رثى بهما أبا تمام، والله أعلم. [ورثاه الحسن أيضاً بقوله من قصيدة: سقى بالموصل القبر الغريبا ... سحائب ينتحبن له نحيبا إذا أظللنه أظللن فيه ... شعيب المزن يتبعها شعيبا ولطمن البروق به خدوداً ... وشققن الرعود به جيوبا فإن تراب ذاك القبر يحوي ... حبيباً كان يدعى لي حبيبا] (3) ورثاه محمد بن عبد الملك الزيات وزير المعتصم بقوله وهو يومئذ وزير، وقيل إنهما لأبي الزبرقان عبد الله بن الزبرقان الكاتب مولى بني أمية: نبأ أتى من أعظم الأنباء ... لما ألم مقلقل الأحشاء قالوا حبيب قد نوى فأجبتهم ... ناشدتكم لا تجعلوه الطائي   (1) انظر ديوان ابن عنين: 15. (2) وردت هذه المرائي في أخبار الصولي: 276، 275، 277. (3) ما بين معقفين سقط من ص والمسودة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 18 [ (1) ولأبي تمام المذكور: لو يعلم الركن من قد جاء يلثمه ... لظل يلثم منه موطئ القدم وللبحتري أيضاً في هذا المعنى: ولو أن مشتاقاً تكلف فوق ما ... في وسعه لسعى إليك المنبر ولما سار المأمون إلى بلاد الشام يريد غزو الروم مدحه أبو تمام بقصيدتين فلم يجد من يوصلهما إليه وذلك قبل قدوم أبي تمام العراق، ثم صار إلى العراق في خلافة المعتصم، فمن ذلك قوله في المأمون قصيدة قال فيها: ثم انبرت أيام عجر أردفت ... نحوي أسى فكأنها أعوام ثم انقضت تلك السنون وأهلها ... فكأنها وكأنهم أحلام فأخذها حتى بلغ فيها: اتضعضعت عبرات عينك أن دعت ... ورقاء حين تضعضع الإظلام لا تشجين لها فإن بكاءها ... ضحك وإن بكاءك استغرام هن الحمام فإن كسرت عيافة ... من حائهن فإنهن حمام حكي عن يموت بن المزرع قال (2) : كان أحمد بن المدبر إذا مدحه شاعر ولم يرض شعره أمر غلمانه أن يمضوا به إلى المسجد فلا يفارقوه أو يصلي مائة ركعة، فكان هذا دأبه؛ قال: فتحاماه الشعراء غلا الأفراد المجيدون فأتاه أبو عبد الله الحسين بن عبد السلام المصري المعروف بالجعل فاستأذنه في النشيد فقال له: عرفت الشرط قال: نعم، فأنشده: أردنا في أبي حسن مديحاً ... كما بالمدح تنتجع الولاة   (1) انفردت نسختا ر د بهذا النص الطويل الذي أثبتناه بين معقفين ولم تشترك معهما نسخة ص إلا ي جزء يسير منه وقعت أجزاؤه مختلفة في ترتيبها عما هي عليه في النسختين المذكورتين. (2) انظر تهذيب ابن عساكر 4: 306 - 307. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 19 فقلنا أكرم الثقلين طراً ... ومن كفيه دجلة والفرات فقالوا يقبل المدحات لكن ... جوايزه عليهن الصلاة فقلت لهم وما يغني عيالي ... صلاتي إنما الشأن الزكاة فيأمرني بكسر الصاد منه ... فتصبح لي الصلاة هي الصلات فضحك ابن المدبر وقال: من أين أخذت هذا ومن أين وقع لك فقال: أخذته من قول أبي تمام: هن الحمام فإن كسرت عيافة ... قال: فأعجبه صدقه ووصله. ومن قصيدته الأخرى التي مدح بها المأمون التي أولها: كشف الغطاء فأوقدي أو أخمدي ... ويقول فيها: أولي أمة أحمد ما أحمد ... بمضيع ما أوليت أمة أحمد أما الهدى فقد اقتدحت بزنده ... للعالمين فويل من لا يهتدي حدث الصولي عن محمد بن يحيى قال: حدثني يحيى بن علي قال: كان محمد ابن القاسم بن مهرويه يقدم دعبلاً على أبي تمام، فقلت له: بأي شيء قدمته فلم يأت بمقنع، فجعلت أنشده محاسنهما فإذا محاسن أبي تمام أكثر وأطرز وإذا عيوب دعبل أعظم وافحش، فأقام على رأيه وتعصبه لدعبل فقلت: يا أبا جعفر أتحكم في الشع ... ر وما فيك آلة الحكام إن نقد الدينار إلا على الص ... رف صعب فكيف نقد الكلام قد رأيناك ليس تفرق في الأش ... عار بين الأرواح والأجسام إنما يعرف العتيق من المح ... دث قين في وقت عرض الحسام لا تقس دعبلاً إذن بحبيب ... ليس خف البعير مثل السنام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 20 قال عبد الله بن المعتز: جاءني محمد بن يزيد النحوي فجرى ذكر أبي تمام فلم يوفه حقه، فقال له رجل من الكتاب كان في المجلس، ما رأيت أحداً أحفظ لشعر أبي تمام منه: يا أبا العباس، ضع يدك على من شئت من الشعراء ثم انظر أيحسن أن يقول مثل ما قاله أبو تمام لأبي المغيث موسى بن إبراهيم الرافقي يعتذر إليه: لعمري لقد أقوت مغانيكم بعدي ... ومحت كما محت وشائع من برد وأنجدتم من بعد إتهام داركم ... فيا دمع أنجدني على ساكني نجد ثم مر فيها حتى بلغ إلى قوله في الاعتذار: أتاني مع الركبان ظن ظننته ... لففت له رأسي حياءً من المجد كريم متى أمدحه والورى ... معي ومتى ما لمته لمته وحدي حدث الصولي قال: كان أبو تمام إذا كلمه إنسان أجابه قبل انقضاء كلامه كأنه قد علم ما يقول فاعد جوابه، فقال له رجل: يا أبا تمام لم لا تقول من الشعر ما يعرف فقال: وأنت لم لا تعرف من الشعر ما يقال فأفحمه. وكان الذي قال له هذا أبو سعيد الضرير بخراسان، وكان هذا من علماء الناس وكان متصلاً بالطاهرية. قال علي بن محمد بن عبد الكريم: لما صار إلينا أبو تمام مقدمه من مصر عمل قصيدته التي أولها: أرامة كنت مألف كل ريم ... فاتصل خبرها بعتبة بن عصيم الذي يهجوه أبو تمام، وهو كلبي من قضاعة، وكان أديباً شاعراً، فأحب أن يسمع هذه القصيدة من أبي تمام فقال لمن حضر: ايتوني به، فجاءوا به فأنشده إياها، فلما فرغ قال: أحسنت يا غلام على صغر سنك، فسكت أبو تمام وقال: يا عم أنشدني من شعرك، فأنشده قصيدة، فلما فرغ قال: يا عم ما أحسنت على كبر سنك، فقال عتبة لبني عبد الكريم: أخرجوا هذا من بلدنا فليس يصلح أن يقيم في بلدنا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 21 قال الصولي: ومن باب الجود قول أبي تمام: بيمن أبي إسحاق طالت يد الهوى ... وقامت قناة الدين واشتد كاهله هو البحر من أي النواحي أتيته ... فلجته المعروف والجود ساحله تعود بسط الكف حتى لو أنه ... دعاها لقبض لم تجبه أنامله وللبحتري في هذا المعنى: لا يتعب النائل المبذول همته ... وكيف يتعب عين الناظر النظر وهذان البيتان لا غاية وراءهما. قال (1) ابن أبي داود لأبي تمام: إن لك أبياتاً أنشدتها فلو قلتها زاهداً أو معتبراً أو حاثاً على طاعة الله تعالى لكنت قد أحسنت وبالغت، فأنشدنيها، قال: ما هي قال: التي قافيتها: " فأدخلها "، فأنشده: ما لي أرى الحجرة الفيحاء مقفلة ... عني وقد طال ما استفتحت مقفلها كأنها جنة الفردوس معرضة ... وليس لي عمل زاك فأدخلها حدث الصولي قال: دخل أبو تمام على أحمد بن أبي داود فقال له: ما أحسن هذا فمن أين أخذته قال: من قول الحاذق في الفضل بن الربيع: وليس لله بمستنكر ... أن يجمع العالم في واحد وحدث الصولي عن الحسن بن وهب قال: لما أدخل المازيار على المعتصم وكان عليه شديد الغيظ قيل له: لا تعجل عليه فإن عنده أمولاً جمة، فأنشد بيت أبي تمام: إن الأسود أسود الغاب همتها ... يوم الكريهة في المسلوب لا السلب ثم قتله؛ وكذلك جمال الدين بن رشيق أفتى ببيت المتنبي في النصراني الذي سب   (1) أخبار أبي تمام: 146. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 22 رسول الله صلى الله عليه وسلم أول ما ولي الملك الصالح مصر وهو: لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى ... حتى يراق على جوانبه الدم فعمل بمقتضاه. وحدث علي بن يحيى بن علي بن مهدي قال: كان المنجمون حكموا لما خرج المعتصم إلى الروم بأنه لا يرجع من وجهه، فلما فتح ما فتح وخرب عمورية في شهر رمضان سنة 223 وانصرف سالماً، قال أبو تمام: السيف أصدق أنباء من الكتب ... في حده الحد بين الجد واللعب بيض الصفائح لا سود الصحائف في ... متونهن جلاء الشك والريب والعلم في شهب الأرماح لامعة ... بين الخميسين لا في السبعة الشهب وقيل إنه كرر إنشاد هذه القصيدة ثلاثة أيام فقال له المعتصم: لم تجلو علينا عجوزك قال: حتى أستوفي مهرها يا أمير المؤمنين، فأمر له بمائة وسبعين ألف درهم عن كل بيت منها ألف. قال الحسن بن وهب: دخل أبو تمام على محمد بن عبد الملك الزيات فأنشده قصيدته التي أولها: لهان علينا أن نقول وتفعلا ... فلما بلغ إلى قوله: ووالله لا آتيك غلا فريضة ... وآتي جميع العالمين تنفلا وليس امرءاً في الناس كنت سلاحه ... عشية يلقى الحادثات بأعزلا فقال: أما والله ما أحب بمدحك مدح غيرك لتجويدك وإبداعك ولكن تنقص مدحك ببذلك له لغير مستحقه، فقال: لسان العذر معقول وإن كان فصيحاً، ومر في القصيدة فأمر له بخمسة آلاف درهم وكتب إليه بعد ذلك: رأيتك سهل البيع سمحاً وإنما ... يغالي إذا ما ضن بالشيء بايعه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 23 فأما الذي هانت بضائع بيعه ... فيوشك أن تبقى عليه بضايعه فأجابه أبو تمام: أبا جعفر إن كنت أصبحت تاجراً ... أساهل في بيعي له من أبايعه فقد كنت قبلي شاعراً تاجراً به ... تساهل من عادت عليك منافعه قال الصولي: لما كلم خالد بن يزيد ابن أبي دواد في أمر أبي تمام قال أبو تمام يشكره: لأشكرنك إن لم أوت من أجلي ... شكراً يوافيك عني آخر الأبد وإن توردت من بحر البحور ندى ... فلم أنل منه إلا غرفة بيدي قال محمد بن يزيد النحوي (1) : خرج أبو تمام إلى خالد بن يزيد وهو بأرمينية فامتدحه فأمر له بعشرة آلاف درهم ونفقة لسفره وأمره أن لا يقيم إن كان عازماً على الخروج، فودعه ومضت عليه أيام فركب يزيد ليتصيد فرآه تحت شجرة وقدامه زكرة فيها نبيذ وغلام بيده طنبور فقال: حبيب قال: خادمك وعبدك، فقال له: ما فعل المال فقال: علمني جودك السماح فما ... أبقيت شيئاً لدي من صلتك ما مر شهر حتى سمحت به ... كأن لي قدرة كمقدرتك تنفق في اليوم بالهبات وفي ... الساعة ما تجتبيه في سنتك فلست أدري من أين تنفق لو ... لا أن ربي يمد في هبتك فأمر له بعشرة آلاف درهم أخرى فأخذها وانصرف. ولأبي تمام وقد اعتل الياس صاحب عبد الله بن طاهر: فإن يكن وصب قاسيت سورته ... فالورد حلف لليث الغابة الأضم (2)   (1) أخبار أبي تمام: 158 ومن هنا تلتقي النسخة ص بالنسختين ر د. (2) الورد: الحمى، الأضم: الغضبان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 24 إن الرياح إذا ما أعصفت قصفت ... عيدان نجد ولم يعبأن بالرتم بنات نعش ونعش لا كسوف لها ... والشمس والبدر منها الدهر في الرقم (1) فليهنك الأجر والنعمى التي سبغت ... حتى جلت صدأ الصمصامة الخذم قد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت ... ويبتلي الله بعض القوم بالنعم قال محمد بن هبيرة النحوي: حجب أبو تمام عن إسحاق بن إبراهيم المصعبي فقال: يا أيها الملك المرجو نائله ... وجوده لمراعي جوده كتب ليس الحجاب بمقص عنك آمله ... إن السماء ترجى حين تحتجب وقيل لأبي تمام (2) : قد هجاك مخلد الموصلي فلو هجوته، قال: الهجاء يرفع منه إذ ليس هو شاعراً؛ لو كان شاعراً لم يكن من الموصل، يعني أن الموصل لا يخرج منها شاعر، وكان مخلد قد هجاه بقوله: يا نبي الله في الشع ... ر ويا عيسى بن مريم أنت من أشعر خلق الل ... هـ ما لم تتكلم وكان لأبي تمام حبسة إذا تكلم. قرأت في كتاب المستنير، أن أبا تمام والخثعمي اجتمعا في مجلس أنس، فقام أبو تمام إلى الخلاء فقال له الخثعمي: ندخلك قال: نعم وأخرجك، فتعجب الحاضرون من هذا الابتداء البديع والجواب العجيب. وكان لأبي تمام صديق قليل البضاعة في الشرب يسكر من قدحين، فكتب إليه يوماً يدعوه: إن رأيت أن تنام عندنا فافعل. ودخل على جعفر بن سليمان يعزيه بأخيه محمد بن سليمان وقد كان جزع عليه جزعاً عظيماً، فقال جعفر حين رآه: إن يكن عند أحد فرج فعند حبيب،   (1) الرقم: الداهية. (2) أخبار أبي تمام: 234. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 25 فلما سلم قال: أيها الأمير التمس ثواب الله بحسن الجزاء والتسليم الأمر الله، واذكر مصيبتك في نفسك تنسك مصيبتك في غيرك والسلام] . ومحاسن حبيب كثيرة. وجاسم: بفتح الجيم وبعد الألف سين مهملة مكسورة ثم ميم. وأما النسب فهو مشهور فلا حاجة إلى ضبطه. والجيدور - بفتح الجيم وسكون الياء المثناة من تحتها وضم الدال المهملة وسكون الواو وبعدها راء - وهو إقليم من عمل دمشق يجاور الجولان. والطائي: منسوب إلى طيىء القبيلة المشهورة، وهذه النسبة على خلاف القياس، فإن قياسها طيئي لكن باب النسب يحتمل التغيير، كما قالوا في النسبة إلى الدهر دهري وإلى سهل سهلي - بضم أولهما - وكذلك غيرهما. 148 - (1) حاتم الأصم حاتم بن عنوان الأصم من أهل بلخ؛ كان أوحد من عرف بالزهد والتقلل واشتهر بالورع والتقشف، وله كلام يدون في الزهد والحكم. واسند الحديث عن شقيق البلخي وشداد بن حكيم البلخي أيضاً، وروى عنه حمدان بن ذي النون ومحمد بن فارس البلخيان. وقدم حاتم بغداد في ايام أبي عبد الله أحمد بن حنبل واجتمع معه؛ قيل لما دخل حاتم بغداد في ايام أبي عبد الله أحمد بن حنبل اجتمع إليه أهل بغداد فقالوا: يا ابا عبد الرحمن، أنت رجل أعجمي   (1) اختلف في اسم أبيه فقيل: هو حاتم بن عنوان أو حاتم بن يوسف أو حاتم بن عنوان بن يوسف؛ وكان من صحاب شقيق البلخي، زاهداً صاحب مواعظ وحكم، ولد بخراسان، وتوفي سنة 237 (انظر أخباره في حلية الأولياء 8: 73 وطبقات السلمي: 91 وشذرات الذهب 2: 87 وعبر الذهبي 1: 424 وصفة الصفوة 4: 134 وتاريخ بغداد 8: 241) ؛ قلت: وهذه الترجمة انفردت بها النسخة ر، ووردت في ص بعد ترجمة حرملة بن يحيى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 26 وليس يكفك أحد إلا قطعته لأي معنى فقال حاتم: معي ثلاث خصال بها أظهر علي خصمي، قالوا: أي شيء هي قال: أفرح إذا أصاب خصمي، وأحزن له إذا أخطأ، وأخفض نفسي لا تتجاهل عليه، فبلغ ذلك أحمد بن حنبل، فقال: سبحان الله ما أعقله من رجل! وقال أبو جعفر الهروي: كنت مع حاتم كرة وقد أراد الحج، فلما وصل إلى بغداد قال: يا أبا جعفر، أحب أن ألقى أحمد بن حنبل، فسألنا عن منزله ومضينا إليه فطرقت عليه الباب فلما خرج قلت: يا أبا عبد الله أخوك حاتم؛ قال: فسلم عليه ورحب به وقال بعد بشاشته به: أخبرني يا حاتم فيم أتخلص من الناس قال: يا أبا عبد الله في ثلاث خصال، قال: وما هي [قال:] أن تعطيهم مالك ولا تأخذ من مالهم شيئاً؛ قال: وتقضي حقوقهم ولا تستقضي منهم حقاً؛ قال: وتحمل مكروههم ولا تكره واحداً منهم على شيء؛ قال: فأطرق احمد ينكت بإصبعه الأرض ثم رفع رأسه وقال: يا حاتم، إنها لشديدة، فقال له حاتم: وليتك تسلم وليتك تسلم وليتك تسلم. وقال رجل لحاتم: على أي شيء بنيت أمرك قال: على أربع خصال: على أن لا أخرج من الدنيا حتى أستكمل رزقي وعلى أن رزقي لا يأكله غيري، وعلى أن أجلي لا أدري متى هو، وعلى أن لا أغيب عن الله طرفة عين، وقال: لو أن صاحب خبر جلس إليك ليكتب كلامك لاحترزت منه، وكلامك يعرض على الله فلا تحترز منه. وقال رجل لحاتم الأصم: بلغني أنك تجوز المفاوز من غير زاد، فقال حاتم: بل أجوزها بالزاد وإنما زادي فيها أربعة أشياء، قال: وما هي قال: أرى الدنيا كلها ملكاً لله، وأرى الخلق كلهم عباد الله وعياله، والأسباب والأرزاق بيد الله، وأرى قضاء الله نافذاً في كل أرض لله؛ فقال له الرجل: نعم الزاد زادك يا حاتم؛ أنت تجوز به مفاوز الآخرة. وقال حاتم: جعلت على نفسي إن قدمت مكة أن أطوف حتى أنقطع، وأصلي حتى أنقطع، وأتصدق بجميع ما معي، فلما قدمت مكة صليت حتى انقطعت وطفت كذلك فقويت على هاتين الخصلتين ولم أقوى على الأخرى؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 27 قال: كنت أخرج من هاهنا ويجيء من هاهنا. وقال حاتم: وقع الثلج ببلخ فمكثت في بيت ثلاثة ومعي أصحابي فقلت: يخبرني كل رجل منكم بهمته؛ قال: فأخبروني فإذا ليس فيهم أحد لا يريد إلا ان يتوب من تلك الهمة؛ قال: فقالوا لي: همتك أنت يا أبا عبد الرحمن، قال: قلت: ما همتي إلا شفقة على إنسان يريد أن يحمل رزقي في هذا الطين؛ قال: وإذا رجل قد جاء ومعه جراب خبز وقد زلق فابتلت ثيابه بطين، وقال: يا [أبا] عبد الرحمن، خذ هذا الخبز. قال حاتم: خرجت في سفر ومعي زاد فنفد زادي في وسط البرية فكان قلبي في السفر والحضر واحداً. قيل لحاتم: من [أين] تأكل فقال: (ولله خزائن السموات والأرض ولكن المنافقين لا يفقهون) . وقال: لي اربع نسوة وتسعة من الأولاد، فما طمع الشيطان أن يوسوس غلي في شيء من أرزاقهم. وقال حاتم: لقينا الترك فكان بيننا جولة فرماني تركي بوهق فأقلبني عن فرسي ونزل عن دابته وقعد على صدري وأخذ بلحيتي هذه الوافرة وأخرج من خفه سكيناً ليذبحني بها، فوحق سيدي ما كان قلبي عنده ولا عند سكينة إنما كان قلبي عند سيدي فأنظر ماذا ينزل به القضاء، فقلت: يا سيدي قضيت علي أن يذبحني هذا فملى الرأس والعين أنا لك وملكك. فبينما أنا أخاطب سيدي وهو قاعد على صدري آخذ بلحيتين إذ رماه المسلمون بسهم فما اخطأ حلقه، فسقط عني فقمت أنا إليه وأخذت السكين من يده وذبحته، فما هو إلا أن تكون قلوبكم عند السيد حتى تروا من عجائب لطفه ما لم تروا من الآباء والأمهات. وقال أبو بكر الوراق: حاتم الأصم لقمان هذه الأمة؛ قيل: جاءت امرأة فسالت حاتماً عن مسألة، فاتفق أن خرج منها في تلك الحالة صوت فخجلت، فقال لها حاتم: ارفعي صوتك، وأرى من نفسه أنه أصم، فسرت المرأة بذلك وقالت: لم يسمع الصوت، فغلب عليه اسم الصمم. وجاء إليه رجل فقال: يا أبا عبد الرحمن أي شيء رأس الزهد ووسط الجزء: 2 ¦ الصفحة: 28 الزهد وآخر الزهد فقال حاتم: رأس الزهد الثقة بالله ووسطه الصبر وآخره الخلاص؛ رحمه الله تعالى. 149 - (1) الحجاج بن يوسف أبو محمد الحجاج بن يوسف بن الحكم بن أبي عقيل بن مسعود بن عامر بن معتب ابن مالك بن كعب بن عمرو بن سعد بن عوف بن قسي - وهو ثقيف -[ذكره ابن الكلبي في جمهرة النسب، وقال: فولد منبه بن النبيت قسياً، وهو ثقيف فيما يقال والله أعلم، فمن ينسب ثقيفاً إلى إياد فهذا هو نسبهم، ومن نسبهم إلى قيس فيقول: قسي بن منبه بن بكر بن هوازن، ويقولون: كانت أم قسي أميمة بنت سعد بن هذيل عند منبه بن النبيت، فتزوجها منبه بن بكر، بجاءت بقسي معها من الإيادي والله أعلم] (2) الثقفي عامل عبد الملك بن مروان على العراق وخراسان، فلما توفي عبد الملك وتولى الوليد أبقاه على ما بيده. وقال المسعودي في كتاب " مروج الذهب " (3) : إن أم الحجاج الفارعة بنت همام بن عروة بن مسعود الثقفي، كانت تحت الحارث بن كلدة الثقفي الطائفي حكيم العرب، فدخل عليها مرة سحراً فوجدها تتخلل، فبعث إليها بطلاقها، فقالت: لم بعثت إلي بطلاقي هل لشيء رابك مني قال: نعم،   (1) أخباره في كتب التاريخ كالطبري وابن الأثير واليعقوبي والإمامة والسياسة والعيون والحدائق ومروج الذهب؛ وفي العقد 5: 13 قطعة من أخباره. (2) ما بين معقفين انفردت به ر. (3) انظر مروج الذهب 3: 132. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 29 دخلت عليك في السحر وأنت تتخللين، فإن كنت بادرت (1) الغداء فأنت شرهة، وإن كنت بت والطعام بين أسنانك فأنت قذرة، فقالت: كل ذلك لم يكن، لكني تخللت من شظايا السواك (2) ؛ فتزوجها بعده يوسف بن أبي عقيل الثقفي، فولدت له الحجاج مشوهاً لا دبر له، فنقب عن دبره، وأبى أن يقبل ثدي أمه أو غيرها، فأعياهم أمره، فيقال: إن الشيطان تصور لهم في صورة الحارث بن كلدة المقدم ذكره، فقال: ما خبركم قالوا: بني ولد ليوسف من الفارعة، وقد أبى أن يقبل ثدي أمه، فقال: اذبحوا جدياً أسود وأولغوه دمه، فإذا كان في اليوم الثاني فافعلوا به كذلك، فإذا كان اليوم الثالث فاذبحوا له تيساً أسود وأولغوه دمه، ثم اذبحوا له أسود سالخاً فأولغوه دمه، واطلوا به وجهه، فإنه يقبل الثدي في اليوم الرابع، قال: ففعلوا به ذلك؛ فكان لا يصبر عن سفك الدماء لما كان منه في أول أمره؛ وكان الحجاج يخبر عن نفسه أن أكبر لذاته سفك الدماء وارتكاب أمور لا يقدم عليها غيره. وذكر ابن عبد ربه في " العقد " (3) أن الفارعة المذكورة كانت زوجة المغيرة ابن شعبة، وانه هو الذي طلقها لأجل الحكاية المذكورة في التخلل؛ وذكر أيضاً أن الحجاج وأباه كان يعلمان الصبيان بالطائف، ثم لحق الحجاج بروح بن زنباع الجذامي وزير عبد الملك بن مروان، فكان في عديد شرطته إلى أن رآى عبد الملك انحلال عسكره وأن الناس لا يرحلون برحيله ولا ينزلون بنزوله، فشكا ذلك إلى روح بن زنباع، فقال له: إن في شرطتي رجلاً لو قلده أمير المؤمنين أمر عسكره لأرحل الناس برحيله وأنزلهم بنزوله يقال له الحجاج ابن يوسف، قال: فإنا قد قلدناه ذلك، فكان لا يقدر أحد أن يتخلف عن الرحيل والنزول إلا أعوان روح بن زنباع، فوقف عليهم يوماً وقد أرحل الناس وهم على طعام يأكلون فقال لهم: ما منعكم أن ترحلوا برحيل أمير المؤمنين قالوا له: انزل يا ابن اللخناء فكل معنا، قال لهم: هيهات،   (1) س: باكرت. (2) زاد في ص هنا قال: كنت فبنت، فقالت: والله ما فرحنا إذ كنا ولا حزنا إذ بنا؛ وهي من قصة أخرى، ولا حاجة لإيرادها بعد قوله في صدر القصة " فبعث إليها بطلاقها ". (3) انظر العقد 5: 13 - 14. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 30 ذهب ما هنالك، ثم أمر بهم فجلدوا بالسياط وطوفهم في العسكر وأمر بفساطيط روح فأحرقت بالنار، فدخل روح على عبد الملك باكياً، وقال: يا أمير المؤمنين، إن الحجاج الذي كان في شرطتي ضرب غلماني وأحرق فساطيطي، قال: علي به، فلما دخل عليه قال له: ما حملك على ما فعلت قال: أنا ما فعلت، قال: ومن فعل قال: أنت فعلت، إنما يدي يدك، وسوطي سوطك، وما على أمير المؤمنين أن يخلف لروح عوض الفسطاط فسطاطين، وعوض الغلام غلامين ولا يكسرني فيما قدمني له، فأخلف لروح ما ذهب له، وتقدم الحجاج في منزلته، وكان ذلك أول ما عرف من كفايته. وكان للحجاج في القتل وسفك الدماء والعقوبات غرائب لم يسمع بمثلها، ويقال: إن زياد ابن أبيه أراد أن يتشبه بأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه في ضبط الأمور والحزم والصرامة وإقامة السياسات إلا أنه أسرف وتجاوز الحد، وأراد الحجاج أن يتشبه بزياد فأهلك ودمر (1) . وخطب يوماً فقال في أثناء كلامه: أيها الناس، إن الصبر عن محارم الله أيسر من الصبر على عذاب الله، فقام إليه رجل فقال: ريحك يا حجاج، ما أصفق وجهك وأقل حياءك! فأمر به فحبس، فلما نزل عن المنبر دعا به فقال له: لقد اجترأت علي، فقال له: أتجترئ على الله فلا ننكره، ونجترئ عليك فتنكره فخلى سبيله. وذكر أبو الفرح ابن الجوزي في كتابه تلقيح فهوم أهل الأثر أن الفارعة أم الحجاج هي المتمنية، ولما تمنت كانت تحت المغيرة بن شعبة، وقص قصتها، ونذكرها مختصرة، وهي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه طاف ليلة في المدينة فسمع امرأة تنشه في خدرها: هل من سبيل إلى خمر فأشربها ... أم من سبيل إلى نصر بن حجاج فقال عمر رضي الله عنه: لا أرى معي في المدينة رجلاً تهتف به العوائق في خدورهن؛ علي بنصر بن حجاج، فأتي به، فإذا هو أحسن الناس وجهاً   (1) وكان للحجاج ... ودمر: سقط من ر س. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 31 وأحسنهم شعراً، فقال عمر رضي الله عنه: عزيمة من أمير المؤمنين لتأخذن من شعرك، فأخذ من شعره فخرج له وجنتان كأنهما شقتا قمر، فقال: اعتم، فاعتم ففتن الناس بعينيه، فقال عمر رضي الله عنه: والله لا تساكنني ببلدة أنا فيها، قال: يا أمير المؤمنين، ما ذنبي قال: هو ما أقول لك، وسيره إلى البصرة؛ هذه خلاصة القصة، وبقيتها لا حاجة إلى ذكره. ونصر المذكور ابن حجاج بن علاط السلمي، وأبوه صحابي رضي الله عنه، وقيل: إن المتمنية هي جدة الحجاج أم أبيه، وهي كنانية. وحكى أبو أحمد العسكري في كتاب " التصحيف " (1) أن الناس غبروا يقرؤون في مصحف عثمان بن عفان رضي الله عنه نيفاً واربعين سنة إلى أيام عبد الملك بن مروان، ثم كثر التصحيف وانتشر بالعراق، ففزع الحجاج بن يوسف الثقفي إلى كتابه وسألهم أن يضعوا لهذه الحروف المشتبهة علامات، فيقال: إن نصر بن عاصم قام بذلك فوضع النقط أفراداً وأزواجاً وخالف بين أماكنها، فغبر الناس بذلك زماناً لا يكتبون إلا منقوطاً، فكان مع استعمال النقط أيضاً يقع التصحيف، فأحدثوا الإعجام، فكانوا يتبعون النقط الإعجام، فإذا أغفل الاستقصاء عن الكلمة فلم توف حقوقها اعترى التصحيف، فالتمسوا حيلة، فلم يقدروا فيها إلا على الأخذ من أفواه الرجال بالتلقين. [حكى القاضي أبو الفرح المعافى في كتاب الجليس والأنيس قال: لما أراد الحجاج بن يوسف الخروج من البصرة إلى مكة شرفها الله تعالى: خطب الناس فقال: يا أهل البصرة، إني أريد الخروج إلى مكة، وقد استخلفت عليكم محمد ابني وأوصيته فيكم بخلاف ما أوصى به رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأنصار، فإنه أوصى أن يقيل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم، ألا وإني قد أوصيته فيكم أن لا يقبل من محسنكم ولا يتجاوز عن مسيئكم؛ إلا وإنكم قائلون بعدي كلمة ليس يمنعكم من إظهارها إلا الخوف: لا أحسن الله له الصحابة، واني معجل لكم الجواب: لا أحسن الله عليكم الخلافة] (2) .   (1) التصحيف: 13. (2) هذه الفقرة من ص ر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 32 [قال أبو العباس المبرد (1) في إسناد ذكره آخره عبد الملك بن عمير الليثي قال: بينا نحن في المسجد الجامع بالكوفة وأهل الكوفة يومئذ ذوو حال حسنة يخرج الرجل منهم في العشرة والعشرين من مواليه إذ أتانا آت فقال: هذا الحجاج ابن يوسف قد قدم أميراً على العراق، فإذا به قد دخل المسجد متعمماً بعمامة غطى بها أكثر وجهه متقلداً سيفاً متنكباً قوساً يؤم المنبر، فقام الناس نحوه حتى صعد المنبر فمكث ساعة لا يتكلم، فقال الناس بعضهم لبعض: قبح الله بني أمية حيث تستعمل مثل هذا على العراق، قال عمير بن ضابئ البرجمي: ألا أحصبه لكم فقالوا: أمهل حتى ننظر، فلما رأى عيون الناس إليه حسر اللثام عن فيه ونهض فقال: أنا ابن جلا وطلاع الثنايا ... متى أضع العمامة تعرفوني ثم قال: والله يا أهل الكوفة والعراق إني لأرى رؤوساً قد أينعت وحان قطافها وإني لصاحبها، وكأني أنظر إلى الدماء بين العمائم واللحى، وإن أمير المؤمنين نثر كنانته فعجم عيدانها فوجدني أمرها عوداً وأصلبها مكسراً، فرماكم بي لأنكم طال ما أوضعتم في الفتنة واضطجعتم في مراقد الضلال، والله لأحزمنكم حزم السلمة ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل، فإنكم لكأهل (قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون) . والله إني ما أقول إلا وفيت ولا أهم إلا أمضيت ولا أخلق إلا فريت، وإن أمير المؤمنين أمرني بإعطائكم أعطياتكم وأن أوجهكم لمحاربة عدوكم مع المهلب بن أبي صفرة، وإني أقسم بالله لا أجد رجلاً تخلف بعد أخذ عطائه بثلاثة أيام إلا ضربت عنقه؛ يا غلام اقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين إلى من بالكوفة من المسلمين، سلام عليكم، فلم يقل أحد شيئاً، فقال الحجاج: اكفف يا غلام، ثم أقبل على الناس فقال: يسلم عليكم أمير المؤمنين فلم تردوا عليه شيئاً هذا أدب ابن نهية، أما والله لاؤدبنكم   (1) الكامل 1: 380. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 33 غير هذا الأدب أو لتستقيمن، اقرأ عليهم يا غلام كتاب أمير المؤمنين، فلما بلغ إلى قوله: سلام عليكم، لم يبق أحد في المسجد إلا قال: وعلى أمير المؤمنين السلام، ثم نزل فوضع للناس أعطياتهم فجعلوا يأخذون حتى أتاه شيخ يرعش كبراً فقال: أيها الأمير إني من الضعف على ما ترى ولي ابن هو أقوى على الأسفار مني أفتقبله بدلاً مني فقال الحجاج: نفعل أيها الشيخ، فلما ولى قال له قائل: اتدري من هذا أيها الأمير قال: لا، قال: هذا عمير بن ضابئ البرجمي الذي يقول أبوه في عثمان بن عفان: هممت ولم أفعل وكدت وليتني ... تركت على عثمان تبكي حلائله ودخل هذا الشيخ على عثمان مقتولاً فوطئ بطنه فكسر ضلعين من أضلاعه؛ فقال: ردوه، فلما رد قال له الحجاج: أيها الشيخ هلا بعثت إلى أمير المؤمنين عثمان رحمه الله تعالى بديلاً يوم الدار؛ إن في قتلك أيها الشيخ لصلاحاً للمسلمين، يا حرسي اضربن عنقه؛ فجعل الرجل يضيق عليه أمره فيرتحل ويأمر وليه أن يلحقه بزاده، ففي ذلك يقول عبد الله بن الزبير الأسدي: تجهز فإما أن تزور ابن ضابئ ... عميراً وإما أن تزور المهلبا وكان من قصة عمير بن ضابئ أن أباه ضابئ بن الحارث البرجمي وجب عليه حبس عند عثمان بن عفان رضي الله عنه وأدب، وذلك أنه كان استعار كلباً من قوم فأعاروه إياه ثم طلبوه منه وكان فحاشاً فرمى أمهم به، فقال في بعض كلامه: فأمكم لا تتركوها وكلبكم ... فإن عقوق الوالدات كبير فاضطغن على عثمان رضي الله عنه ما فعل، فلما دعي ليؤدب شد سكيناً في ساقه ليقتل بها عثمان رحمه الله فعثر عليه فأحسن أدبه، ففي ذلك يقول: هممت ولم أفعل] (1) .   (1) انفردت النسخة د بالقطعة كلها الواقعة بين معقفين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 34 [ولما أسرف (1) الحجاج في قتل أسارى دير الجماجم وإعطاء الأموال، بلغ ذلك عبد الملك فكتب إليه: أما بعد، فقد بلغ أمير المؤمنين سرفك في الدماء وتبذير الأموال ولا يحتمل أمير المؤمنين هاتين لأحد من الناس، وقد حكم عليك في الدماء في الخطإ بالدية وفي العمد بالقود وفي الأموال بردها إلى موضعها ثم العمل فيها برأيه، وإنما أمير المؤمنين أمين الله وسيان عنده منع حق وإعطاء باطل، فإن كنت أردت الناس لك فما أغناهم عنك وغن كنت أردتهم لنفسك فما أغناك عنهم، وسيأتيك من أمير المؤمنين لين وشدة، فلا يؤنسنك إلا الطاعة ولا يوحشنك إلا المعصية، وظن بأمير المؤمنين كل شيء إلا احتمالك على الخطأ، وإذا أعطاك الله الظفر بقوم فلا تقتلن جانحاً ولا أسيراً؛ وكتب في أسفل كتابه: إذا أنت لم تترك أموراً كرهتها ... طلبت رضاي بالذي أنت طالبه وتخشى الذي يخشاه مثلك هارباً ... إلي فها قد ضيع الدر حالبه وإن تر مني غفلة قرشية ... فيا ربما قد غص بالماء شاربه وإن تر مني وثبة أموية ... فهذا وهذا كله أنا صاحبه فلا تأمنني والحوادث جمة ... فإنك مجزى بالذي أنت كاسبه ولا تعد ما يأتيك مني وإن تعد ... يقوم بها يوم عليك نوادبه ولا ترفعن للناس حقاً علمته ... ولا تغضبن، فاللين للناس جانبه فأجابه الحجاج: أما بعد، فقد أتاني كتاب أمير المؤمنين يذكر فيه سرفي في الدماء وتبذيري للأموال، ولعمري ما بلغت في عقوبة أهل المعصية ما هم أهله وما قضيت في أهل الطاعة ما استحقوه، فإن كان قتلي أولئك العصاة سرفاً وإعطائي أولئك المطيعين تبذيراً فليسوغني أمير المؤمنين ما سلف وليحد لي حداً أنتهي إليه إن شاء الله تعالى، ولا قوة إلا بالله، ووالله ما سلبت نعمة إلا بكفرها ولا تمت إلا بشكرها، ولا أصبت القوم خطأ فأديهم ولا ظلمتهم فأقاد بهم، ولا أعطيت إلا لك ولا قتلت إلا فيك، وأما ما أتاني من أمريك فأبينهما عزة أعظمها محنة،   (1) قارن بما في تهذيب ابن عساكر: 67؛ وهذه القطعة واردة في د ص ر مع بعض اختلاف بينها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 35 وقد عبأت للعزة الجلاد وللمحنة الصبر؛ وكتب في أسفل كتابه (1) : إذا أنا لم أبغ رضاك وأتقي ... ذاك فيومي لا تزول كواكبه وما لامرىء بعد الخليفة جنة ... تقيه من الأمر الذي هو كاسبه أسالم من سالمت من ذي هوادة ... ومن لم تسالمه فإني محاربه إذا قارف الحجاج منك خطيئة ... فقامت عليه في الصباح نواديه إذا أنا لم أدن الشفيق لصنعه ... وأقص الذي تسري إلي عقاربه فقف لي على حد الرضى لا أجوزه ... مدى الدهر حتى يرجع الدر حالبه وإلا فدعني والأمور فإنني ... شفيق رقيق أهلته تجاربه فلما قرأ عبد الملك كتابه قال: خاف أبو محمد صولتي ولن أعود إلى ما يكره] . [وذكر حماد الراوية أن الحجاج سهر ليلة بالكوفة فقال لحرسه: ايتني بمحدث من المسجد، فأتاه بسبرة بن الجعد، فدخل وسلم بلسان ذلق وقلب شديد، فقال له الحجاج: ممن الرجل قال: من بني شيبان، قال: ما اسمك قال: سبرة بن الجعد، قال: يا سبرة، قرأت القرآن قال: قد جمعته في صدري، فإن عملت به فقد حفظته وإن خالفته فقد ضيعته، فاتخذه الحجاج سميراً، فما كان يتطلب شيئاً من الحديث إلا وجد عنده منه. وكان يرى رأي الخوارج، وكان من أصحاب قطري بن الفجاءة المزني التميمي، والفجاءة أمه، وكانت من بني شيبان، وإنما هو رجل من تميم. وكان قطري يومئذ يحارب المهلب، فبلغ قطرياً ما كان من سبرة مع الحجاج، فكتب إليه من جملة قصيدة: لشتان ما بين ابن جعد وبيننا ... فلما قرأ كتابه بكى وركب فرسه واخذ سلاحه ولحق بقطري؛ وطلبه الحجاج فلم يقدر عليه ولم يرع الحجاج إلا وكتاب فيه شعر قطري الذي كان كتب به   (1) هذه الأبيات لم ترد إلا في النسخة ر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 36 إليه وفي أسفل الكتاب أبيات من جملتها: فمن مبلغ الحجاج أن سميره ... قلى كل دين غير دين الخوارج فطرح الكتاب إلى عنبسة بن سعيد وقال: هذا من سميري الشيباني وهو [خارجي] ولا نعلم به. قال القاضي أبو الفرج المعافى: حدث العتبي قال: كانت امرأة من الخوارج يقال لها فراشة، وكانت ذات نية في رأي الخوارج تجهز أصحاب البصائر ولم يظفر بها، وكان الحجاج يدعو الله أن يمكنه منها أو من بعض من جهزته فراشه، فمكث ما شاء الله ثم جيء برجل فقيل له: هذا ممن جهزته فراشة، فخر ساجداً ثم رفع رأسه فقال: يا عدو الله، قال: أنت أولى بها يا حجاج، قال: أين فراشة قال: مرت تطير منذ ثلاث، قال: أين تطير قال: ما بين السماء والأرض، قال: أعن تلك سألتك عليك لعنة الله قال: عن تلك أخبرتك عليك غضب [الله] ، قال: سألتك عن المرأة التي جهزتك وأصحابك، قال: وما تصنع بها قال: أضرب عنقها، قال: ويلك يا حجاج ما أجهلك، أدلك وأنت عدو الله على من هو ولي الله لقد ضللت إذن وما أنا من المهتدين، قال: فما رأيك في أمير المؤمنين عبد الملك قال: على ذلك الفاسق لعنة الله ولعنة اللاعنين، قال: ولم، لا أم لك قال: إنه أخطأ خطيئة طبقت ما بين السماء والأرض، قال: وما هي قال: استعماله إياك على رقاب المسلمين، فقال لجلسائه: ما رأيكم فيه قالوا: نرى أن تقتله قتلة لم يقتل مثلها أحد، قال: ويحك يا حجاج، جلساء أخيك أحسن مجالسة من جلسائك، قال: وأي أخوي تريد قال: فرعون حين شاور في موسى فقالوا: أرجئه وأخاه، وأشار هؤلاء عليه بقتلي، قال: فهل جمعت القرآن قال: ما كان مفرقاً فأجمعه، قال: أقرأته ظاهراً قال: معاذ الله بل قرأته وأنا أنظر إليه، قال: فكيف تراك تلقى الله إن قتلتك قال: ألقاه بعملي وتلقاه بدمي، قال: إذن أعجلك إلى النار، قال: لو علمت أن ذلك إليك أحسنت عبادتك واتقيت عذابك ولم أبغ خلافك ومناقضتك، قال: إني قاتلك، قال: إذن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 37 أخاصمك لأن الحكم يومئذ إلى غيرك، قال: نقمعك عن الكلام السيء؛ يا حرسي اضرب عنقه، واومأ إلى السياف ألا تقتله، فجعل يأتيه من بين يديه ومن خلفه ويروعه بالسيف، فلما طال ذلك رشح جبينه، قال: جزعت من الموت يا عدو الله قال: لا يا فاسق ولكن أبطأت علي بما فيه راحة؛ قال: يا حرسي، أوجب جرحه، فلما أحسن بالسيف قال: لا إله إلا الله، والله لقد أتمها ورأسه في الأرض. وقال القاضي (1) : لما حمل الأسري إلى الحجاج وهو حينئذ بواسط القصب قبل أن يبني مدينة واسط قال لحاجبه: قدم إلي سيدهم فيروز بن الحصين، فقال: له الحجاج: أبا عثمان ما أخرجك مع هؤلاء قال: فتنة عمت الناس، فقال: اكتب لي أموالك، قال: ثم ماذا قال: اكتبها أولاً، قال: ثم أنا آمن على دمي قال: اكتبها ثم أنظر، قال: اكتب يا غلام، ألف ألفي الف، حتى ذكر مالاً كثيراً، فقال الحجاج: أين هي وعند من هي قال: لا والله لا جمعت بين مالي ودمي، فأمر الحجاج فعذب بأنواع العذاب، وكان من جملة ما عذب به أن يشد عليه القصب الفارسي المشقوق ثم يجر حتى يجرح جسده ثم ينضح عليه الخل والملح؛ فلما أحس بالموت قال: إن الناس لا تشكن أني قتلت ولي ودائع وأموال عند الناس لا تؤدى إليكم أبداً، فأظهروني للناس ليعلموا أني حي فيؤدوا المال، فأخرج قصاح في الناس: من عرفني فقد عرفني؛ أنا فيروز، إن لي عند أقوام مالاً فمن كان لي عنده شيء فهو له وهو منه في حل فلا يؤدين أحد منه درهماً، ليبلغ الشاهد الغائب؛ فأمر به الحجاج فقتل. وجلس الحجاج يوماً لقتل أصحاب عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بن قيس، فقام رجل منهم فقال: أصلح الله عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بن قيس، قال: سبك عبد الرحمن يوماً فرددت عليه، فقال: من يعلم ذلك قال: أنشد الله رجلاً سمع ذلك إلا شهد به، فقام رجل من الأسرى فقال: قد كان ذاك أيها الأمير، قال: خلوا عنه، ثم قال للشاهد: فما منعك أن تنكر كما أنكر قال: لقديم بغضي إياك، قال: ولنخل عنه لصدقه.   (1) أوردت نسخة ر قبل هذه القصة حديث الحجاج مع الغضبان بن القبعثري. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 38 قال أبو الحسن المدائني: لما ظفر الحجاج بأصحاب ابن الأشعث، جلس لضرب أعناقهم عامة النهار، فأتي آخرهم برجل من بني تميم قال له: والله يا حجاج لئن كنا قد اسأنا في الذنب لما أحسنت في العقوبة، فقال الحجاج: أف لهذه الجيف أما فيها رجل يحسن مثل هذا وعفا عنه (1) . ولما حضر الشعبي بين يدي الحجاج سلم بالإمرة ثم قال: أيها الأمير، إن الناس قد أمروني أن أعتذر إليك لغير ما يعلم الله أنه الحق، وايم الله لا أقول في هذا المقام إلا حقاً، قد والله خرجنا عليك واجتهدنا كل الجهد فما ألونا فما كنا بالفجرة الأقوياء ولا البررة الأتقياء، ولقد نصرك الله علينا وظفرك بنا، فإن سطوت فبذنوبنا وما جرت إلينا أيدينا، وإن عفوت عنا فبحلمك وبعد الحجة لك علينا، فقال له الحجاج: أنت والله أحب إلي ممن يدخل علي يقطر سيفه من دمائنا ثم يقول ما فعلت وما شهدت؛ قد أمنت عندنا يا شعبي، فانصرف (2) . وقال الشعبي: سمعت الحجاج تكلم بكلام ما سبقه إليه أحد، يقول: أما بعد، فإن الله كتب على الدنيا الفناء وعلى الآخرة البقاء، فلا فناء لما كتب عليه البقاء، ولا بقاء لما كتب عليه الفناء، فلا يغرنك شاهد الدنيا عن غائب الآخرة واقهروا طول الأمل بقصر الأجل. وكان إبراهيم النخعي هارباً من الحجاج مدة أيامه ثم ظهر بعده فقيل له: أين كنت قال: بحيث يقول الشاعر: عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى ... وصوت إنسان فكدت أطير وذكر الحسن بن محمد بن هلال الصابئ أن الحجاج انفرد يوماً عن عسكره فمر برجل يسقي ضيعة له، فقال له: كيف حالكم مع أميركم فقال: لعنه   (1) ورد بعذ هذا الموضع في النسخة ر: وأتي الحجاج بامرأة من الخوارج فجعل يكلمها وهي لا تنظر إليه، فقيل: الأمير يكلمك وأنت لا تنظرين إليه، قالت: إني أستحيي أن أنظر إلى من لا ينظر الله إليه. (2) وردت هذه القصة عن الشعبي في النسخة د على نحو مغاير وهي هنالك متفقة مع ما جاء في تهذيب ابن عساكر 7: 150 - 151. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 39 الله، المبيد المبير الحقود، عجل الله الانتقام منه، فقال له: تعرفني قال: لا والله، قال: أنا الحجاج، فرأى الرجل أن دمه قد طاح فرفع عصاً كانت معه وقال: أتعرفني أنا أبو ثور المجنون، وهذا يوم صرعي، وأزبد وأرغى وهاج وأراد أن يضرب رأسه بالعصا، فضحك منه وانصرف. وكان الحجاج كثيراً ما يسأل القراء، فدخل عليه يوماً رجل فقال له: ما قبل قوله تعالى: (أمن هو قانت آناء الليل) . فقال: (قل تمتع بكفرك قليلاً إنك من أصحاب النار) ، قال: فما سأل أحداً بعدها. وخطب في يوم جمعة فأطال الخطبة، فقام إليه رجل فقال: إن الوقت لا ينتظرك والرب لا يعذرك، فأمر به إلى الحبس، فأتاه آل الرجل فقالوا: إنه مجنون، فقال: إن أقر على نفسه بما ذكرتم خليت سبيله، فقال الرجل: لا والله لا أزعم أنه ابتلاني وقد عافاني. وممن هرب من الحجاج محمد بن عبد الله بن نمير الثقفي، وكان يشبب بزينب بنت يوسف أخت الحجاج وهو الذي يقول: تضوع مسكاً بطن نعمان أن مشت ... به زينب في نسوة عطرات فلما أتي به الحجاج قال: والله أيها الأمير إن قلت إلا خيراً، إنما قلت: يخضبن أطراف البنان من التقى ... ويخرجن شطرا الليل معتجرات قال: فأخبرني عن قولك: ولما رأت ركب النميري أعرضت ... وكن من أن يلقينه حذرات ما كنتم قال: كنت على حمار هزيل ومعي صاحب على اتان مثله، فعفا عنه. ولما قتل الحجاج عبد الله بن الزبير ارتجت مكة بالبكاء والعويل، فأمر الحجاج بالناس فجمعوا إلى المسجد ثم صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا أهل مكة، بلغني بكاؤكم واستفظاعكم قتل عبد الله بن الزبير، ألا وإن ابن الزبير كان من أحبار هذه الأمة حتى رغب في الخلافة ونازع فيها أهلها وخلع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 40 طاعة الله واستكن إلى حرم الله، ولو كان شيء مانعاً للقضاء لمنعت آدم حرمة الجنة لأن الله تعالى خلقه بيده ونفخ فيه من روحه واسجد له ملائكته واباحة جنته، فلما كان منه ما كان أخرجه من الجنة بخطيئته، وآدم أكرم على الله من ابن الزبير، والجنة أعظم حرمة من الكعبة، فاذكروا الله يذكركم، ونزل. قال مالك بن دينار: ربما سمعت الحجاج يذكر ما صنع به أهل العراق وما صنع بهم فوقع في نفسي أنهم يظلمونه لبيانه وحسن تخلصه للحجج. قال القاضي المعافى بن زكريا في كتاب الجليس والأنيس: حدث الزبير ابن بكار عن الزهري قال: لما ولي الحجاج بن يوسف الحرمين بعد قتل عبد الله ابن الزبير استحضر إبراهيم بن طلحة بن عبيد الله وقربه في المنزلة، فلم يزل على حاله عنده حتى خرج إلى عبد الملك زائراً له فخرج معه فعادله لا يترك في بره وإجلاله وتعظيمه شيئاً، فلما حضر باب عبد الملك حضر به معه، فلما دخل على عبد الملك لم يبدأ بشيء بعد السلام إلا أن قال: قدمت عليك يا أمير المؤمنين برجل الحجاز لم أدع له والله فيها نظيراً في كمال المروءة والأدب والرئاسة والديانة والستر وحسن المذهب والطاعة والنصيحة مع القرابة ووجوب الحق، إبراهيم ابن طلحة بن عبيد الله، وقد أحضرته بابك ليسهل عليه إذنك وتلقاه ببشرك وتفعل به ما يفعل بمثله ممن كانت مذاهبه، فقال عبد الملك: ذكرتنا حقاً واجباً ورحماً قريبة؛ يا غلام ايذن لإبراهيم بن طلحة، فلما دخل قربه حتى أجلسه على فراشه ثم قال له: يا ابن طلحة إن أبا محمد أذكرنا ما لم نزل نعرفك به من الفضل والأدب وحسن المذهب مع قرابة الرحم ووجوب الحق، فلا تدعن حاجة من خاص أمرك ولا عامه إلا ذكرتها، قال: يا أمير المؤمنين، إن أولى الأمور أن تفتح بها الحوائج وترجى به الزلف ما كان لله عز وجل رضى ولحق نبيه صلى الله عليه وسلم أداء ولك فيه ولجماعة المسلمين نصيحة، وأن عندي نصيحة لا أجد بداً من ذكرها ولا يكون البوح بها إلا وأنا خال فأخلني ترد عليك نصيحتي، قال: دون أبي محمد قال: نعم، قال: قم يا حجاج، فلما جاوز الستر قال: قل يا ابن طلحة نصيحتك، قال: الله يا أمير المؤمنين، قال: الله، قال: إنك عمدت إلى الحجاج مع تغطرسه وتعجرفه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 41 وبعده عن الحق وركونه إلى الباطل فوليته الحرمين وفيهما من فيهما وبهما من بهما من المهاجرين والأنصار والموالي المنتسبة الأخيار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبناء الصحابة يسومهم الخسف ويقودهم العسف ويحكم فيهم بغير السنة ويطؤهم بطغام من أهل الشام ورعاع لا روية لهم في إقامة حق ولا إزاحة باطل، ثم ظننت أن ذلك فيما بينك وبين الله ينجيك وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم يخلصك إذا جاثاك للخصومة في أمته أما والله لا تنجو هناك إلا بحجة تضمن لك النجاة فأبق على نفسك أو دع، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فاستوى عبد الملك جالساً وكان متكئاً فقال: كذبت لعمر الله ومنت ولؤمت فيما جئت به، قد ظن بك الحجاج ما لم يجده فيك وربما ظن الخير لغير أهله، قم فأنت الكاذب المائن الحاسد، قال: فقمت والله ما أبصر طريقاً؛ فلما خلفت الستر لحقني لاحق من قبله فقال للحاجب: احبس هذا الرجل وأدخل أبا محمد الحجاج، فلبثت ملياً وأنا لا أشك أنهما في أمري، ثم خرج الآذن فقال: قم يا ابن طلحة فادخل، فلما كشف لي الستر لقيني الحجاج وأنا داخل وهو خارج، فاعتنقني وقبل ما بين عيني ثم قال: إذا جزى الله المتآخيين بفضل تواصلهما فجزاك الله أفضل ما جزى به أخاً، فو الله لئن سلمت لك لأرفعن ناظرك ولأعلين كعبك ولأتبعن الرجال غبار قدميك، قال: فقلت: يهزأ بي، فلما وصلت إلى عبد الملك أدناني حتى أجلسني في مجلسي الأول ثم قال: يا ابن طلحة لعل أحداً من الناس شاركك في نصيحتك، قال: قلت: لا والله ولا أعلم أحداً كان أظهر عندي معروفاً ولا أوضح يداً من الحجاج، ولو كنت محابياً أحداً بديني لكان هو ولكني آثرت الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، ولو أردت الدنيا لكان لي في الحجاج أمل، فقال: قد علمت ذلك، وقد أزلت الحجاج عن الحرمين لما كرهت من ولايته عليهما وأعلمته أنك استنزلتني له عنهما استصغاراً ووليته العراقين لما هناك من الأمور التي لا يرحضها إلا مثله وأعلمته أنك استدعيتني إلى التولية له عليهما استزادة له ليلزمه من ذمامك ما يؤدي به عني عليك أجر نصيحتك، فاخرج معه فإنك غير ذام صحبته مع تقريظه إياك ويدك عنده، قال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 42 فخرجت على هذه الجملة] . [وروي عن محمد بن المنتشر بن الأجدع الهمداني قال: دفع إلي الحجاج ازارمرد ابن الهربذ وأمرني أن استخرج منه وأغلظ عليه، فلما انطلقت به قال لي: يا محمد إن لك شرفاً وديناً وإني لا أعطي على القسر شيئاً وارفق بي، قال ففعلت، فأدى إليّ في أسبوع خمسمائة ألف؛ قال: فبلغ ذلك الحجاج فأغضبه فانتزعه من يدي ودفعه إلى رجل كان يتولى له العذاب فدق يديه ورجليه فلم يعطهم شيئاً؛ قال محمد بن المنتشر: فإني لأمر يوماً في السوق فإذا به معروضاً على حمار مدقوق اليدين والرجلين، فخفت الحجاج إن أتيته وتذممت فملت إليه فقال لي: إنك وليت مني ما ولي هؤلاء فأحسبت وإنهم صنعوا بي ما ترى ولم أعطهم شيئاً، وها هنا خمسمائة ألف درهم عند فلان فخذها فهي لك، قال: فقلت: ما كنت لآخذ منك على معروفي أجراً ولا لأرزأك على هذه الحال شيئاً، قال: فأما إذا أتيت فاستمع أحدثك؛ حدثني بعض أهل دينك عن نبيك صلى الله عليه وسلم قال: إذا رضي الله عن قوم أمطرهم المطر في حينه، وجعل الماء عند سمحائهم واستعمل عليهم خيارهم، وإذا سخط عليهم استعمل عليهم شرارهم، وجعل المال عند بخلائهم وأمطرهم المطر في غير حينه؛ قال: فانصرفت فما وضعت ثوبي حتى أتاني رسول الحجاج فأمرني بالمصير إليه، فألفيته جالساً على فرشه والسيد منتضى بين يديه، فقال: ادن، فدنوت شيئاً، ثم قال: ادن، فدنوت شيئاً، ثم صاح الثالثة: ادن لا أبا لك، فقلت: والله ما بي إلى الدنو من حاجة وفي يد الأمير ما أرى، فأضحك الله سنه وأغمد عني سيفه فقال لي: اجلس، ما كان من حديث الأمس فقلت: والله أيها الأمير ما غششتك منذ استنصحتني ولا كذبتك منذ استخبرتني ولا خنتك منذ ائتمنتني، ثم حدثته الحديث، فلما صرت إلى ذكر الرجل الذي عنده المال أعرض عني بوجهه وأومأ إلي بيده ثم قال: لا تتمه، ثم قال: إن للخبيث نفساً وقد سمع الأحاديث. ويقال: كان الحجاج إذا استغرب ضاحكاً وإلى بين الاستغفار، وإذا صعد المنبر تلفع بمطرفه ثم تكلم رويداً فلا يكاد يسمع ثم يتزيد في الكلام حتى يخرج الجزء: 2 ¦ الصفحة: 43 يده من مطرفه ويزجر الزجرة فيفزع بها من في أقصى المسجد؛ وكان يطعم كل يوم على ألف مائدة ثريد وطرف من شواء وسمكة طرية ويطاف به في محفة على تلك الموائد ليتفقد أمور الناس، وعلى كل مائدة عشرة، ثم يقول: يا أهل الشام اكسروا الخبز لئلا يعود عليكم؛ وكان له ساقيان أحدهما يسقي الماء والعسل والآخر يسقي اللبن. ولما دخل الحجاج إلى مكة اعتذر إلى أهلها لقلة ما وصلهم به، فقال قائل منهم: إنا والله لا نعذرك وأنت أمير العراقين وابن عظيم القريتين، وذلك أن عروة بن مسعود ولده من قبل أمه، والقريتان مكة والطائف. أمر الحجاج ابن القرية أن يأتي هند بنت أسماء فيطلقها بكلمتين ويمتعها بعشرة آلاف درهم، فأتاها فقال لها: إن الحجاج يقول لك كنت فبنت، وهذه عشرة آلاف درهم متعة لك، فقالت: قل له فما حمدنا وبنا فما ندمنا، وهذه الدراهم مشاركتك إياي بطلاقي (1) ] . [ووفد الحجاج على الوليد بن عبد الملك في خلافته فوجده في بعض نزهه فاستقبله، فلما رآه ترجل له وقبل يده وجعل يمشي وعليه درع وكنانة وقوس عربية، فقال له الوليد: اركب أبا محمد، فقال: يا أمير المؤمنين دعني أستكثر من الجهاد في خدمتك فإن ابن الزبير وابن الأشعث شغلاني عنه، فعزم عليه الوليد حتى ركب. ودخل الوليد داره فتغلل في غلالة ثم أذن للحجاج فدخل في حالة تلك وأطال الجلوس عنده إذ جاءت جارية فساررته وانصرفت، فقال الوليد للحجاج: أتدري ما هذا أبا محمد قال: لا والله، قال: بعثت ابنة عمي أم البنين بنت عبد العزيز تقول: ما مجالستك هذا الأعرابي المستلئم في السلاح وأنت في غلالة، فأرسل إليها إنه الحجاج، فراعها ذلك وقالت: والله ما أحب أن يخلو بك وقد قتل الخلق، فقال الحجاج: يا أمير المؤمنين دع عنك مفاكهة النساء بزخرف القول، فإنما المرأة ريحانة وليست بقهرمانة، فلا تطلعهن على سرك ولا مكايدة عدوك ولا تطمعهن في غير أنفسهن ولا تشغلهن بأكثر من   (1) قوله: وروي عن محمد بن المنتشر حتى قوله " بطلاقي ": انفردت بهذا النص كله النسخة د. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 44 زينتهن وإياك ومشاروتهن، وأكثر من ذلك. ثم نهض الحجاج فخرج ودخل الوليد على أم البنين فأخبزها بمقالة الحجاج فقالت: أحب أن تأمره غداً بالتسليم علي، أفعل. فلما غدا الحجاج على الوليد قال له: يا أبا محمد صر إلى أم البنين فسلم عليها، فقال: اعفني من ذلك يا أمير المؤمنين، قال: لابد منه؛ فمضى الحجاج إليها فحجبته طويلاً ثم أذنت له وتركته قائماً ولم تأذن له في الجلوس ثم قالت: إيه يا حجاج، أنت الممتن على أمير المؤمنين بقتل ابن الزبير وابن الأشعث أما والله لولا أن الله علم أنك أهون خليقته ما ابتلاك برمي الكعبة وقتل ابن ذات النطاقين؛ فأما ابن الأشعث فقد والله وإلى عليك الهزائم حتى لذت بأمير المؤمنين عبد الملك فأغاثك بأهل الشام وأنت في أضيق من القرن فأظلتك رماحهم ولطالما نفض نساء أمير المؤمنين المسك عن غدائرهن وبعنه في الأسواق حتى أخرج في أرزاق البعوث إليك، ولولا ذلك لكنت أذل من البقعة، وأما ما أشرت به على أمير المؤمنين من ترك لذاته والامتناع عن بلوغ أوطاره من نسائه فإنه غير قابل منك ولا مصغ إلى نصيحتك، فإن كن يفرجن عن مثلك فما أولاه بالقبول منك؛ ثم قالت لجواريها: أخرجوه عني، فدخل على الوليد من فوره فقال: يا أبا محمد، ما كنت فيه قال: والله يا أمير المؤمنين ما سكتت حتى كان بطن الأرض أحب إلي من ظهرها، فضحك الوليد حتى فحص برجليه ثم قال: يا أبا محمد أنها ابنة عبد العزيز. وقيل أن أم البنين المذكورة كانت تهوى وضاح اليمن الشاعر، وكان جميلاً، وكانت ترسل إليه فيدخل إليها ويقيم عندها، وإذا خافت وارته في صندوق عندها وأقفلت عليه؛ وهو القائل: حتام نكتم حزننا حتاما ... وعلام نستبقي الدموع علاما يا رب أمتعني بطول بقائها ... واجبر بها الأرمال والأيتاما قد أصبحت أم البنين مريضة ... تخشى وتشفق أن يكون حِماما فدخل الخادم إليها مفاجأة فرأى وضاحاً عندها فأدخلته الصندوق وأقفلت عليه، فطلب منها الخادم حجراً نفيساً كان يعرف عندها فمنعته إياه بخلاً به الجزء: 2 ¦ الصفحة: 45 فمضى وأخبر الوليد بالحال، فقالت له: كذبت يا ابن الفاعلة، ثم جاء الوليد إلى أم البنين فدخل وهي جالسة في ذلك البيت تمشط رأسها، وكان الخادم قد وصف له الصندوق، فجلس الوليد فوقه ثم قال: يا أم البنين ما أحب هذا البيت إليك دون البيوت، فلم اخترته قالت: لأنه مجمع حوائجي كلها فأنا أتناولها منه من قريب، فقال: هبي لي صندوقاً من هذه الصناديق، فقالت: كلها بحكمك يا أمير المؤمنين، فقال: إنما أريد واحداً منها، فقالت: خذ أيها شئت، فقال: هذا الصندوق الذي تحتي، فقالت غيره أحب إليك منه فإن لي فيه أشياء أحتاج إليها، فقال: ما أريد سواه، فقالت: خذه، فدعا بالخدم وأمرهم بحمله حتى انتهى إلى مجلس فوضعه فيه ثم دعا عبيداً له عجماً وأمرهم بحفر بئر في المجلس فحفرت إلى الماء، ثم دعا بالصندوق فوضعه على شفير البئر ودنا منه وقال: يا صاحب الصندوق إنه بلغنا شيء إن كان حقاً فقد دفناك ودفنا ذكرك إلى آخر الدهر، وإن كان باطلاً فإنما دفنا الخشب وما أهون ذلك. ثم قذف به في البئر وهيل عليه التراب وسويت الأرض ورد البساط عليه، فما رؤي الوضاح بعد ذلك اليوم ولا أبصرت أم البنين في وجه الوليد غضباً حتى فرق الموت بينهما. وقيل: حضر بساط الحجاج رجل تعين عليه القتل وحضر أهل القود بحضوره، فلما فرض النطع وسل السيف اتفق أن ملأ عينه في حالة تلك فرأى بريق السيف ولمعان برق فاستنظر ثم أنشد مرتجلاً: تألق البرق من نجد فقلت له ... يا أيها البرق إني عنك مشغول يكفيك ما قد ترى من ثائر حنق ... في كفه كصبيب الماء مسلول فلما رأى الحجاج ما كان من حضوره ذهنه وجودة شعره عطف عليه إشفاقاً له وعرض على طالبيه أن يؤدي عنه ديته، فجلعوا يأبون وجعل يتولج في تحليل القصة ويتدرج في تنفيس الدية حتى بذل لهم دية ملك، فلما أبوا وعتوا قال لحرسه: فكوا قيده وخلوا سبيله فإن من لم ينس أحبته في هذا المقام لجدير أن لا يُقتل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 46 وقيل: أخذ الحجاج أعرابياً سرق فأمر بضربه فضرب، فكلما ضربه بالسوط قال: اللهم شكراً، فأتاه ابن عم له وقال: والله ما دعا الأمير إلى التمادي في ضربك إلا لكثرة شكرك لأن الله تعالى يقول: (ولئن شكرتم لأزيدنكم) . فأمر بإطلاقه. وحدث (1) محمد بن القاسم الأنباري عن المدائني عن مولى لعنبسة بن سعيد بن العاص قال: كنت أدخل مع عنبسة إذا دخل على الحجاج، فدخل يوماً ودخلت معه وليس عند الحجاج أحد غير عنبسة فقعدت، فجيء الحجاج بطبق رطب فأخذ الخادم منه شيئاً فجاءني به، ثم جيء بطبق آخر فأتاني الخادم منه بشيء، ثم جيء بطبق آخر حتى كثرت الأطباق، وجعل لا يأتون بشيء إلا جاءني منه بشيء حتى ظننت أن ما بين يدي أكثر مما عندهم؛ ثم جاء الحاجب فقال: امرأة بالباب، فقال الحجاج: أدخلها، فدخلت، فلما رآها الحجاج طأطأ رأسه حتى ظننت أن ذقنه قد أصاب الأرض، فجاءت حتى قعدت بين يديه، فنظرت فإذا امرأة حسنة الخلق ومعها جاريتان لها فإذا هي ليلى الأخيلية، فسألها الحجاج عن نسبها فانتسبت له، فقال لها: يا ليلى ما الذي أتى بك قالت: إخلاف النجوم وقلة الغيوم وكلب البرد وشدة الجهد وكنت لنا بعد الله الرفد، فقال لها: صفي لنا الفجاج، فقالت: الفجاج مغبرة والأرض مقشعرة والمبرك معتل وذو العيال مختل والهالك للقل والناس مسنتون، رحمة الله يرجون، قد أصابتنا سنون مجحفة مبلطة لم تدع لنا هبعاً ولا ربعاً ولا عافطة ولا نافطة، أذهبت الأموال ومزقت الرجال وأهلكت العيال؛ ثم قالت: إني قلت في الأمير قولاً، قال: هاتي، فأنشأت تقول: أحجاج لا يفلل سلاحك إنما ال ... منايا بكف الله حيث يراها أحجاج لا تعطي العداة مناهم ... ولا الله يعطي للعداة مناها إذا نزل الحجاج أرضاً مريضة ... تتبع أقصى دائها فشفاها شفاها من الداء العضال الذي بها ... غلام إذا هز القناة سقاها   (1) انظر أمالي القالي 1: 85. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 47 سقاها فرواها بشرب سجاله ... دماء رجال حيث مال حشاها إذا سمع الحجاج ذكر كتيبة ... أعد لها قبل النزول قراها أعد لها مسمومة فارسية ... بأيدي رجال يحلبون صراها فما ولد الأبكار والعون مثله ... ببحر ولا أرض يجف ثراها قال: فلما قالت هذا البيت قال الحجاج: قاتلها الله، والله ما أصاب صفتي شاعر منذ دخلت العراق غيرها، ثم التفت إلى عنبسة بن سعيد فقال: والله إني لأعد للأمر عسى أن لا يكون أبداً، ثم التفت إليها فقال: حسبك ويحك، ثم قال: يا فلان، اذهب بها إلى فلان فقل له: اقطع لسانها، فأمر بإحضار حجام، فقالت: ثكلتك أمك، أما سمعت ما قال إنما أمرك بقطع لساني بالبر والصلة، فبعث إليه فاستشاط الحجاج غضباً وهم بقطع لسانه فقال: ارددها، فلما دخلت عليه قالت: كاد والله أيها الأمير يقطع مقولي، ثم أنشأت تقول: حجاج أنت الذي ما فوقه أحد ... إلا الخليفة والمستغفر الصمد حجاج أنت شهاب الحرب إن لقحت ... وأنت للناس نور في الدجى يقد ثم أقبل الحجاج على جلسائه فقال: أتدرون من هذه قالوا: لا والله أيها الأمير، إلا أننا لم نر امرأة قط أفصح منها لساناً ولا أحسن محاورة ولا أملح وجهاً ولا أرصن شعراً منها، قال: هذه ليلى الأخيلية التي مات توبة الخفاجي من حبها، ثم التفت إليها فقال: أنشدينا يا ليلى بعض ما قال فيك توبة، فقالت: نعم أيها الأمير؛ هو الذي يقول: حمامة بطن الواديين ترنمي ... سقاك من الغر الغوادي مطيرها أبيني لنا لا زال ريشك ناعماً ... ولا زلت في خضراء غض نضيرها وكنت إذا ما جئت ليلى تبرقعت ... فقد رابني منها الغداة سفورها يقول رجال: لا يضيرك نأيها ... بلى، كل ما شف النفوس يضيرها بلى قد يضير العين أن تكثر البكا ... ويمنع منها نومها وسرورها وقد زعمت ليلى بأني فاجر ... لنفسي تقاها أو عليها فجورها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 48 فقال الحجاج: يا ليلى ما رابه من سفورك قالت: أيها الأمير كان يلم بي كثيراً فأرسل إلي: آتيك، ففطن الحي به فترصدوا له، فلما أتاني سفرت، فعلم أن ذلك لشر فلم يزد على التسليم والرجوع، فقال: لله درك هل رأيت منه شيئاً تكرهينه قالت: لا والذي أسأله أن يصلحك، غير أنه قال لي مرة قولاً ظننت أنه قد خضع لبعض الأمر فأنشأت أقول: وذي حاجة قلنا له لا تبح بها ... فليس إليها ما حييت سبيل لنا صاحب لا ينبغي أن نخونه ... وأنت لأخرى صاحب وخليل لا والله الذي أسأله أن يصلحك ما رأيت منه شيئاً حتى فرق الموت بيننا؛ قال: ثم مه قالت: ثم لم يلبث أن خرج في غزاة فأوصى ابن عمه: إذا أتيت الحاضر من بني عبادة فناد بأعلى صوتك: عفا الله عنها هل أبيتن ليلة ... من الدهر لا يسري إلي خيالها فخرجت وأنا أقول: وعنه عفا ربي وأحسن حاله ... فعز علينا حاجة لا ينالها قال: ثم مه قالت: ثم لم يلبث ان مات، فأتى ناعيه؛ قال: فأنشدينا بعض مراثيك فيه، فأنشدته: لتبك العذارى من خفاجة نسوة ... بماء شؤون العبرة المتحدر قال: فأنشدينا قولك فيه: كأن فتى الفتيان توبة، لم ينخ ... قلائص يفحصن الحصى بالكراكر فأنشدته، فلما فرغت من القصيدة قال محصن الفقعسي - وكان من جلساء الحجاج -: من هذا الذي يقال هذا فيه فو الله إني لأظنها كاذبة، فنظرت إليه ثم قالت: والله أيها الأمير إن هذا القائل لو رأى توبة لسره ألا يكون في داره عذراء إلا وهي حامل منه، فقال الحجاج: هذا وأبيك الجواب وقد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 49 كنت عنه غنياً؛ ثم قال لها: سلي يا ليلى تعطي، قالت: أعط فمثلك أعطى فأحسن، قال: لك عشرون، قالت: زد فمثلك زاد فأجمل، قال: لك أربعون، قالت: زد فمثلك زاد فأفضل، قال: لك ستون، قالت: زد فمثلك زاد فأكمل، قال: لك ثمانون، قالت: زد فمثلك زاد فتمم، قال: لك مائة واعلمي يا ليلى أنها غنم، قالت: معاذ الله أيها الأمير، أنت أجود جوداً وأمجد مجداً وأورى زنداً من أن تجعلها غنماً، قال: فما هي ويحك يا ليلى قالت: مائة ناقة برعائها، فأمر لها بها، ثم قال: ألك حاجة بعدها قالت: نعم أيها الأمير، تدفع غلي النابغة الجعدي في قيد، قال: قد فعلت، وقد كان يهجوها وتهجوه، فبلغ ذلك النابغة فخرج هارباً عائذاً بعبد الملك بن مروان فاتبعته إلى الشام فهرب إلى قتيبة بن مسلم بخراسان فاتبعته على البريد بكتاب الحجاج إلى قتيبة فماتت بقومس، وقيل بحلوان. وكان الحجاج إذا سمع بنوح في دار هدمها، فلما مات ابنه وأخوه حن إلى النوح، وكان يعجبه أن يسمعه، وكان كثيراً ما يتمثل بهذا البيت: هل ابنك إلا ابن من الناس فاصبري ... فلن يرجع الموتى جنين المآتم وكان يتمثل بهذا البيت أيضاً وهو: فإن تحتسب تؤجر وإن تبكه تكن ... كباكية لم يحي ميتاً بكاؤها] (1) وبالجملة فأخبار الحجاج كثيرة، وشرحها يطول. وهو الذي بنى مدينة واسط وكان شروعه في بنائها في سنة أربع وثمانين للهجرة وفرغ منها في سنة ست وثمانين، وإنما سماها واسط لأنها بين البصرة والكوفة فكأنها توسطت بين هذين المصرين؛ وذكر ابن الجوزي في كتاب " شذور العقود " المرتب على السنين أنه فرغ من بنائها في سنة ثمان وسبعين، وكان قد ابتدأ من سنة خمس وسبعين، والله أعلم. ولما حضرته الوفاة أحضر منجماً فقال له: هل ترى في علمك ملكاً يموت   (1) إلى هنا ينتهي هذا النص الطويل الذي انفردت به ص ر وشاركت في بعضه النسخة د. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 50 قال: نعم، ولست هو، فقال: وكيف ذلك قال المنجم: لأن الذي يموت اسمه كليب، فقال الحجاج: أنا هو والله، بذلك كانت سمتني أمي، فأوصى عند ذلك. ويشبه هذا (1) قول الداعي علي بن محمد بن علي الصليحي (2) - وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى - وهو الذي كان داعياً باليمن وملك البلاد اليمنية كلها وقهر ملوكها، حتى قدر الله انقضاء مدته، فخرج من صنعاء إلى مكة على عزم الحج في سنة ثلاث وسبعين وأربعمائة (3) ، حتى إذا كان بالمهجم ونزل بظاهرها بضيعة يقال لها أم الدهيم وبئر أم معبد أدركه فيها على حين غفلة سعيد بن نجاح الأحول الذي كان أبوه صاحب تهامة، وقتله الصليحي واخذ مملكته، وهرب منه أولاده سعيد المذكور وإخوته، وكان سعيد في قل ممن تابعه حتى دخل مخيم الصليحي، والناس يعتقدون أنه من جملة العسكر وحواشيه، فلم يشعر بأمرهم إلا عبد الله بن محمد أخو الصليحي، فركب وقال لأخيه: يا مولانا اركب، فهو والله الأحول بن نجاح، والعدد الذي جاءنا به كتاب أسعد بن شهاب البارحة من زبيد، فقال الصليحي لأخيه: طب نفساً فإني لا أموت إلا بالدهيم وبئر أم معبد، معتقداً أنها أم معبد الخزاعية التي نزل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم حين هاجر ومعه أبو بكر - وهي بين مكة والمدينة مما يلي مكة بالقرب من الجحفة - فقال له بعض أصحابه: قاتل عن نفسك، فو الله هذا هو بئر الدهيم بن عيسى، وهذا المسجد موضع خيمة أم معبد بن الحارث العبسي، فأدركه لما سمع ذلك زمع اليأس من الحياة، فلم يرم مكانه، وقتل لوقته هو وأخوه وأهله، وملك سعيد الأحول عسكره وملكه (4) . (14) وهذا سعيد الأحول هو أخو الملك جياش المشهور الفاضل، وأبوه نجاح   (1) هذا الاستطراد لم يرد في المخطوطات التي اعتمدناها، وإنما ثبت في المطبوعات، وسيذكر المؤلف طرفاً منه في ترجمة الصليحي فيما بعد. (2) تجد تفصيلاً في كتاب " الصليحيون " للهمداني وحسن محمود 62 - 112. (3) رجح مؤلفا كتاب " الصليحيون " أن وفاته كانت سنة 459، وانظر تاريخ عمارة اليمني: 55. (4) وردت هذه القصة في تاريخ عمارة: 93 - 94. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 51 الملك كان عبداً لمرجان الملك، وكان عبداً لحسين بن سلامة مولى الأستاذ رشد الحبشي، وكان الحسين ورشد قبله كل منهما هو صاحب الأمر والملك في المعنى وفي الصورة كالوزير عن آخر ملوك بني زياد باليمن وهو طقل من أولاد أبي الجيش إسحاق بن إبراهيم بن محمد بن زياد يقال له عبد الله، وقيل إبراهيم، وقيل زياد، وهو الذي انقرضت دولتهم به على يد عبد يقال له قيس مولى مرجان المذكور، وسببه أن الطفل المذكور لما مات أبوه أبو الجيش كفله مولاه مرجان المذكور وعمة للطفل، وكان لمرجان عبدان أحدهما نجاح أبو سعيد والآخر قيس (1) ، فغلبا على أمره، وكان قيس يحكم بالحضرة ونجاح يتولى أعمال الكدراء والمهجم وأعمالاً أخرى غيرها، ووقع التنافس بين قيس ونجاح على وزارة الحضرة، وكان قيس غشوماً ظالماً ونجاح رؤوفاً عادلاً، فاتهم قيس عمة ابن زياد بالميل عليه إلى نجاح، فقبض عليها وعلى ابن أخيها مرجان ملاه لأجل شكوى قيس إليه منهما وسلمهما إلى قيس، فبنى عليهما حائطين، وهما قائمان بالحياة يناشدانه الله أن لا يفعل، فهلكا سنة سبع وأربعمائة، ونمي ذلك إلى نجاح، فسار للأخذ بثأرهما، وحارب قيساً وجرت بينهما أمور أسفرت عن ظفر نجاح بقيس وملكه الحضرة. وقتل قيس في بعض الوقائع على باب زبيد، ولما فتح نجاح زبيد وهي حضرة الملك يومئذ في سنة اثنتي عشرة وأربعمائة، قال لمرجان مولاه: ما فعل مواليك وموالينا قال: هم في ذلك الحائط، فأخرجهما وصلى عليهما ودفنهما في مشهد بناه لهما وجعل مرجاناً موضعهما، وبنى عليه الحائط حتى هلك. ومات نجاح المذكور بالسم بحيلة تمت عليه مع جارية أهداها له الصليحي المذكور في الكدراء سنة اثنتين وخمسين وأربعمائة. ولما مات نجاح كتب للصليحي في سنة ثلاث وخمسين إلى المستنصر صاحب مصر يسأمره في إظهار الدعوة لهم فأمره فخرج وكان منه ما كان، والله أعلم. وكان الحجاج ينشد في مرض موته هذين البيتين، وهما لعبيد بن سفيان العكلي (2) :   (1) في تاريخ عمارة (136) : نفيس، وفي أصل النسخة " قيس ". وشرح الخبر كله في المصدر المذكور. (2) انظر تهذيب ابن عساكر: 82. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 52 يا رب قد حلف الأعداء واجتهدوا ... أيمانهم أنني من ساكني النار أيحلفون على عمياء ويحهم ... ما ظنهم بقديم العفو غفار وكتب إلى الوليد بن عبد الملك كتاباً يخبره فيه بمرضه، وكتب في آخره: إذا ما لقيت الله عني راضياً ... فإن سرور النفس فيما هنالك فحسبي حياة الله من كل ميت ... وحسبي بقاء الله من كل هالك لقد ذاق هذا الموت من كان قبلنا ... ونحن نذوق الموت من بعد ذلك وكان مرضه بالأكلة وقعت في بطنه، ودعا بالطبيب لينظر إليها، فأخذ لحما وعلقه في خيط وسرحه في حلقه وتركه ساعة ثم أخرجه وقد لصق به دود كثير. وسلط الله تعالى عليه الزمهرير، فكانت الكوانين تجعل حوله مملوءة ناراً وتدنى منه حتى تحرق جلده وهو لا يحس بها؛ وشكا ما يجده إلى الحسن البصري ر فقال له: قد كنت نهيتك ألا تتعرض إلى الصالحين فلججت، فقال له: يا حسن، لا أسألك أن تسال الله أن يفرج عني، ولكني أسألك أن تسأله أن يعجل قبض روحي ولا يطيل عذابي، فبكى الحسن بكاء شديداً. وأقام الحجاج على هذه الحالة بهذه العلة خمسة عشر يوماً، وتوفي في شهر رمضان، وقيل في شوال سنة خمس وتسعين للهجرة وعمره ثلاث، وقيل أربع وخمسون سنة، وهو الأصح. وقال الطبري في تاريخه الكبير: توفي الحجاج يوم الجمعة لتسع بقين من شهر رمضان سنة خمس وتسعين، وقال غير الطبري (1) : لما جاء موت الحجاج إلى حسن البصري سجد لله تعالى شكراً، وقال: اللهم إنك قد أمته فأمت عنا سنته. وكانت وفاته بمدينة واسط ودفن بها، وعفي قبره وأجري عليه الماء، رحمه الله تعالى وسامحه. وكان قد رأى في منامه أن عينيه قلعتا، وكانت تحته هند بنت المهلب بن أبي صفرة الأزدي - وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى - وهند بنت أسماء بن   (1) خبر سجود الحسن عند موت الحجاج ورد في العقد 5: 49. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 53 خارجة، فطلق الهندين اعتقاداً منه أن رؤياه تتأول بهما، فلم يلبث أن جاءه نعي أخيه محمد من اليمن في اليوم الذي مات فيه ابنه محمد، فقال: والله هذا تأويل رؤياي، محمد ومحمد في يوم واحد، إنا لله وإنا إليه راجعون، ثم قال: من يقول شعراً يسليني به فقال الفرزدق (1) : إن الرزية لا رزية مثلها ... فقدان مثل محمد ومحمد ملكان قد خلت المنابر منهما ... أخذ الحمام عليهما بالمرصد (15) وكانت وفاة أخيه محمد لليال خلت من رجب سنة إحدى وتسعين للهجرة، وهو والي اليمن، فكتب الوليد بن عبد الملك إلى الحجاج يعزيه، فكتب الحجاج جوابه: يا أمير المؤمنين، ما التقيت أنا ومحمد منذ كذا وكذا سنة إلا عاماً واحداً، وما غاب عني غيبة أنا لقرب اللقاء فيها أرجى من غيبته هذه في دار لا يتفرق فيها مؤمنان. ومعتب: بضم الميم وفتح العين المهملة وتشديد التاء المثناة من فوقها وكسرها وبعدها الباء الموحدة. والثقفي - بفتح الثاء المثلثة والقاف وبعدها الفاء - هذه النسبة إلى ثقيف، وهي قبيلة كبيرة مشهورة بالطائف. 150 - (2) حجاج بن أرطاة حجاج بن أرطاة أبو أرطاة النخعي الكوفي، سمع عطاء بن أبي رباح وغيره، وروى عنه الثوري وشعبة وحماد بن زيد وهشيم وابن المبارك وزيد بن هارون،   (1) انظر العقد: 48 وفيه شعر آخر للفرزدق. (2) ترجمة حجاج بن أرطاة في شذرات الذهب 1: 229، قال أحمد: لا يحتج به؛ خرج له مسلم مقروناً بغيره؛ وقد خرج له الأربعة وابن حيان. وانظر تذكرة الحفاظ: 186 وقال: لم يخرج له البخاري، وقال: مات ظناً سنة تسع وأربعين ومائة؛ وميزان الاعتدال 1: 458، واتهمه الأصمعي بقبول الرشوة، وذكر الذهبي أن وفاته كانت سنة 145هـ!؛ وتاريخ بغداد 8: 230؛ قلت: وقد انفردت بهذه الترجمة النسخ د ر ص. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 54 وكان من حفاظ الحديث ومن الفقهاء، واستفتي وهو ابن ست عشرة سنة، وولي القضاء بالبصرة إلا أنه كان مدلساً عمن لم يلقه فيرسل تارة عن مجاهد وتارة عن الزهري ولم يلقهما. قال أبو العباس المبرد في " الكامل " (1) [وغيره] : وخبرت أن قاصاً كان يكثر الحديث عن هرم بن حيان، فاتفق هرم معه مرة في المسجد وهو يقول: حدثنا هرم بن حيان، فقال له: يا هذا أتعرفني أنا هرم بن حيان ما حدثتك من هذا بشيء قط، قال له القاص: وهذا من عجائبك أيضاً؛ إنه ليصلي معنا في مسجدنا خمسة عشر رجلاً اسم كل رجل منهم هرم بن حيان، فكيف توهمت أنه ليس في الدنيا هرم بن حيان غيرك ويقرب من هذا أنه كان في الرقة قاص يكنى أبا عقيل يكثر من التحدث عن بني إسرائيل فنظن به الكذب، فقال له يوماً الحجاج بن حنتمة: ما كان اسم بقرة بني إسرائيل قال: حنتمة، فقال له رجل من ولد أبي موسى الأشعري: في أي الكتب وجدت هذا قال: في كتاب عمرو بن العاص؛ انتهى كلام المبرد. وكان الحجاج بن أرطاة المذكور مع المنصور في وقت بناء مدينته وتولى خطها ونصب قبلة مسجدها، وهو أول من ولي القضاء لبني العباس بالبصرة، وكان فيه تيه كثير خارج عن الحد؛ جاء يوماً إلى حلقة البتي فجلس في عرض الحلقة، فقيل له: ارتفع إلى الصدر، فقال: أنا صدر حيث كنت؛ وقال أبو يوسف: كان الحجاج بن أرطاة لا يشهد جمعة ولا جماعة ويقول: أكره مزاحمة الأنذال. وقال عبد الملك بن عبد الحميد: حدثني أبي غير مرة قال: مكث الحجاج ابن أرطاة يتعيش من غزل أمة له كذا وكذا سنة، وكأنه قال ستين سنة، ثم أخرجه أبو جعفر المنصور مع ابنه المهدي إلى خراسان فقدم بسبعين مملوكاً. وقال: ربما رأيته - يعني الحجاج - يضع يده على رأسه ويقول: قتلني حب الشرف.   (1) الكامل 2: 209. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 55 وكان حجاج بن أرطاة يقع في أبي حنيفة رضي الله عنه ويقول: إن أبا حنيفة لا يعقل لله عقلة. وكان في اصحاب أبي جعفر وضمه إلى المهدي فلم يزل معه حتى توفي في سنة خمسين ومائة بالري، رحمه الله تعالى، والمهدي بها يومئذ في خلافة أبي جعفر. وكان ضعيفاً في الحدث. 151 - (1) ابن مسكين أبو عمر الحارث بن مسكين المصري مولى محمد بن زياد بن عبد العزيز بن مروان؛ رأى الليث بن سعد وسأله وسمع سفيان بن عيينة الهلالي وعبد الرحمن ابن القاسم العتقي وعبد الله بن وهب القرشي وروى عنه كافة المصريين. وكان فقيهاً على مذهب مالك بن أنس رضي الله عنه، وكان ثقة في الحديث ثبتاً، حمله المأمون إلى بغداد في ايام المحنة وسجنه لأنه لم يجب إلى القول بخلق القرآن، فلم يزل ببغداد محبوساً إلى أن ولي جعفر المتوكل فأطلقه وأطلق جميع من كان في السجن. حدث الحارث ببغداد ورجع إلى مصر وكتب إليه المتوكل بعهده على قضاء مصر فلم يزل يتولاه من سنة سبع وثلاثين ومائتين إلى أن صرف في سنة خمس وأربعين. ولما خرج الحارث من بغداد إلى مصر اغتنم عليه أبو علي ابن الجوري غماً شديداً، فكتب إلى سعدان بن يزيد وهو مقيم بمصر يشكو ما نزل به من غم لفقد الحارث بن مسكين، وكان كتب في أسفل كتابه: من كان يسليه نأي عن أخي ثقةٍ ... فإنني غير سالٍ آخر الأبدِ   (1) انفردت نسختا ص ر بهذه الترجمة. قلت: وانظر ترجمة الحارث بن مسكين في الكندي: 467 - 476 ورفع الاصر 1: 167 - 182 وطبقات السبكي 1: 249 وطبقات الشيرازي الورقة: 45 وتذكرة الحفاظ: 514 والشذرات 2: 121 وتاريخ بغداد 8: 216. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 56 ففرقت بيننا الأقدار واضطربت ... بالوجد والشوق نار الحزن في الكبد فأجابه سعدان بن يزيد: أيها الشاكي إلينا وحشة ... من حبيب نأيه عنه بعد حسبك الله أنيساً فبه ... يأنس المرء إذا المرء سعد كل أنس بسواه زائل ... وأنيس الله في عز الأبد وكانت ولادة الحارث بن مسكين في سنة أربع وخمسين ومائة، وتوفي لثلاث بقين من ربيع الأول سنة خمسين ومائتين، وصلى عليه يزيد بن عبد الله - أمير كان على مصر - وكبر عليه خمساً، رحمه الله تعالى. 152 - (1) المحاسبي أبو عبد الله الحارث بن أسد المحاسبي البصري الأصل الزاهد المشهور؛ أحد رجال الحقيقة (2) ، وهو ممن اجتمع له علم الظاهر والباطن، وله كتب في الزهد والأصول وكتاب " الرعاية " له، وكان قد ورث من أبيه سبعين ألف درهم، فلم يأخذ منها شيئاً، قيل: لأن أباه كان يقول بالقدر، فرأى من الورع أن لا يأخذ ميراثه، وقال: صحت الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يتوارث أهل ملتين شتى) ، ومات وهو محتاج إلى درهم.   (1) ترجمة الحارث المحاسبي في تهذيب التهذيب 2: 134 وصفة الصفوة 2: 207 وطبقات السلمي: 56 وحلية الأولياء 10: 73 وميزان الاعتدال 1: 430 وتاريخ بغداد 8: 211 وطبقات السبكي 2: 37؛ وللحارث عدا الرعاية عدة مؤلفات منها: شرح المعرفة والمسائل في الزهد وغيره وآداب النفوس والبعث والنشور. (2) ر: الطريقة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 57 ويحكى عنه أنه كان إذا مد يده إلى طعام فيه شبهة تحرك على إصبعه عرق، فكان يمتنع منه. وسئل عن العقل ما هو، فقال: نور الغريزة مع التجارب، يزيد ويقوى بالعلم والحلم. وكان يقول: فقدنا ثلاثة أشياء: حسن الوجه مع الصيانة، وحسن القول مع الأمانة، وحسن الإخاء مع الوفاء (1) . وتوفي في سنة ثلاث وأربعين ومائتين، رحمه الله تعالى. والمحاسبي: بضم الميم وفتح الحاء المهملة وبعد الألف سين مهملة مكسورة وبعدها باء موحدة. قال السمعاني (2) : وعرف بهذه النسبة، لأنه كان يحاسب نفسه، وقال: كان أحمد بن حنبل رضي الله عنه يكرهه لنظره في علم الكلام وتصنيفه فيه، وهجره فاستخفى من العامة، فلما مات لم يصل عليه إلا أربعة نفر. وله مع الجنيد بن محمد حكايات مشهورة. 153 - (3) أبو فراس ابن حمدان أبو فراس الحارث بن أبي العلاء سعيد بن حمدان بن حمدون الحمداني ابن عم ناصر الدولة وسيف الدولة ابني حمدان - وسيأتي تتمة نسبه عند ذكرهما إن شاء الله تعالى -؛ قال الثعالبي في وصفه (4) : " كان فرد (5) دهره، وشمس   (1) في اللمع: 246: ثلاث إذا وجدت متع بهن وقد فقدناهن: حسن القول مع الديانة، وحسن الوجه مع الصيانة، وحسن الأخاء مع الوفاء. (2) انظر اللباب 3: 103. (3) ترجمة أبي فراس الحمداني في اليتيمة 1: 48 - 103 والمنتظم 7: 68 وتهذيب ابن عساكر 3: 439 وزبدة الحلب 1: 157 وشذرات الذهب 3: 24؛ وانظر ديوانه: 460 - 479 حيثن جمع المحقق ترجمات له من مصادر مختلفة. (4) د: في كتاب اليتيمة. (5) ج هـ: فريد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 58 عصره، أدباً وفضلاً، وكرماً ومجداً، وبلاغة وبراعة، وفروسية وشجاعة، وشعره مشهور سائر (1) ، بين الحسن والجودة والسهولة والجزالة والعذوبة والفخامة والحلاوة، ومعه رواء الطبع وسمة الظرف وعزة الملك، ولم تجتمع هذه الخلال قبله إلا في شعر عبد الله بن المعتز. وأبو فراس يعد اشعر منه عند أهل الصنعة ونقدة الكلام. وكان الصاحب بن عباد يقول: بدئ الشعر بملك وختم بملك، يعني امرأ القيس وأبا فراس. وكان المتنبي يشهد له بالتقدم والتبريز ويتحامى جانبه فلا ينبري لمباراته ولا يجترئ على مجاراته، وإنما لم يمدحه ومدح من دونه من آل حمدان تهيباً له وإجلالاً، لا إغفالاً وإخلالاً. وكان سيف الدولة يعجب جداً بمحاسن أبي فراس ويميزه بالإكرام على سائر قومه ويستصحبه في غزواته وستخلفه في أعماله ". وكانت الروم (2) قد أسرته في بعض وقائعها، وهو جريح قد أصابه سهم بقي نصله في فخذه، ونقلته إلى خرشنة، ثم منها قسطنطينية، وذلك في سنة ثمان. وأربعين وثلثمائة، وفداه سيف الدولة في سنة خمس وخمسين. قلت: هكذا قال أبو الحسن علي بن الزراد الديلمي، وقد نسبوه في ذلك إلى الغلط، وقالوا: أسر أبو فراس مرتين، فالمرة الأولى بمغارة الكحل في سنة ثمان وأربعين وثلثمائة، وما تعدوا به خرشنة، وهي قلعة ببلاد الروم والفرات يجري من تحتها، وفيها يقال: إنه ركب فرسه وركضه برجله، فأهوى به من أعلى الحصن إلى الفرات، والله أعلم، والمرة الثانية أسره الروم على منبج في شوال سنة إحدى وخمسين، وحملوه إلى قسطنطينية. وأقام في الأسر أربع سنين، وله في السر أشعار كثيرة مثبتة في ديوانه. وكانت مدينة منبج إقطاعاً له، ومن شعره (3) : قد كنت عدتي التي أسطو بها ... ويدي إذا اشتد الزمان وساعدي   (1) أ: شائع. (2) انظر اليتيمة: 75. (3) ديوانه: 73 وهي مما كتبه لسيف الدولة حين سار هذا إلى ديار بكر وتخلف أبو فراس بالشام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 59 فرميت منك بضد ما أملته ... والمرء يشرق بالزلال البارد فصبرت كالولد التقي لبره ... أغضى على ألم لضرب الوالد وله أيضاً (1) : أساء فزادته الإساءة حظوة ... حبيب على ما كان منه حبيب يعد علي الواشيان (2) ذنوبه ... ومن أين للوجه الجميل (3) ذنوب وله أيضاً (4) : سكرت من لحظه لا من مدامته ... ومال بالنوم عن عيني تمايله فما السلاف دهتني بل سوالفه ... ولا الشمول ازدهتني بل شمائله ألوى بعزمي (5) أصداغ لوين له ... وغال قلبي بما (6) تحوي غلائله ومحاسن شعره كثيرة. وقتل في واقعة جرت بينه وبين موالي أسرته في سنة سبع وخمسين وثلثمائة. ورأيت في ديوانه أنه لما حضرته الوفاة كان ينشد مخاطباً ابنته (7) : أبنيتي لا تجزعي (8) ... كل الأنام إلى ذهاب نوحي علي بحسرة ... من خلف سترك والحجاب قولي إذا كلمتني ... فعييت عن رد الجواب زين الشباب أبو فرا ... س لم يمتع بالشباب   (1) ديوانه: 39. (2) الديوان: العاذلون. (3) الديوان: المليح. (4) ديوانه: 302. (5) ج: بصبري. (6) ج: وغال عزمي ما. (7) ديوانه: 47. (8) الديوان: لا تحزني. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 60 وهذا يدل على أنه لم يقتل، أو يكون قد جرح وتأخر هوته، ثم مات من الجراحة. [وقيل إن هذا الشعر قاله وهو أسير في أيدي الروم، وكان قد جرح ثم أسر ثم خلص من الأسر، فداه سيف الدولة مع من فودي من أسرى المسلمين] . قال ابن خالويه: لما مات سيف الدولة عزم أبو فراس على التغلب على حمص، فاتصل خبره بأبي المعالي بن سيف الدولة وغلام أبيه قرغويه، فأنفذ إليه من قاتله، فأخذ وقد ضرب ضربات فمات (1) في الطريق. وقرأت في بعض التعاليق: أن أبا فراس قتل يوم الأربعاء لثمان خلون من شهر ربيع الآخر سنة سبع وخمسين وثلثمائة، في ضيعة تعرف بصدد. وذكر ثابت بن سنان الصابئ في تاريخه (2) ، قال: في يوم السبت لليلتين خلتا من جمادى الأولى من سنة سبع وخمسين وثلثمائة، جرت حرب بين أبي فراس، وكان مقيماً بحمص، وبين أبي المعالي بن سيف الدولة، واستظهر عليه أبو المعالي وقتله في الحرب وأخذ رأسه وبقيت جثته مطروحة في البرية إلى أن جاءه بعض الأعراب فكفنه ودفنه. قال غيره: وكان أبو فراس خال أبي المعالي، وقلعت أمه سخينة عينها لما بلغها وفاته، وقيل إنها لطمت وجهها فقلعت عينها. وقيل لما قتله قرغويه لم يعلم به أبو المعالي، فما بلغه الخبر شق عليه. ويقال: إن مولده كان في سنة عشرين وثلثمائة، والله أعلم. وقيل: سنة إحدى وعشرين. (16) وقتل أبوه سعيد في رجب سنة ثلاث وعشرين وثلثمائة، قتله ابن أخيه ناصر الدولة بالموصل، عصر مذاكيره حتى مات لقصة يطول شرحها، وحاصلها أنه شرع في ضمان الموصل وديار ربيعة من جهة الراضي بالله، ففعل ذلك سراً، ومضى إليها في خمسين غلاماً، فقبض ناصر الدولة عليه حين وصل   (1) ب هـ: ثم مات. (2) انظر الجزء الأول: 315 والحاشية رقم: 1. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 61 إليها ثم قتله، فأنكر ذلك الراضي حين بلغه، رحمهم الله تعالى. [وحكى ابن خالويه أيضاً (1) قال: كتب أبو فراس إلى سيف الدولة وقد شخص من حضرته إلى منزله بمنبج كتاباً صدره: كتابي أطال الله بقاء مولانا من المنزل وقد وردته ورود السالم الغانم مثقل الظهر والظهر وفراً وشكراً، فاستحسن سيف الدولة بلاغته ووصف براعته، وبلغ ذلك أبا فراس فكتب إليه: هل للفصاحة والسما ... حة والعلا عني محيد إذ أنت سيدي الذي ... ربيتني وأبي سعيد في كل يوم أستفي ... د من العلاء وأستزيد ويزيد في إذا رأي ... تك للندى خلق جديد وكان سيف الدولة قلما ينشط لمجلس الأنس لاشتغاله عنه بتدبير الجيوش وملابسة الخطوب وممارسة الحروب، فوافت حضرته إحدى المحسنات من قيان بغداد، فتاقت نفس أبي فراس إلى سماعها ولم ير أن يبدأ باستدعائها قبل سيف الدولة، فكتب إليه يستحثه على استحضارها: محلك الجوزاء أو أرفع ... وصدرك الدهناء أو أوسع وقلبك الرحب الذي لم يزل ... للجد والهزل به موضع رفه بقرع العود سيفاً غدا ... قرع العوالي جل ما يسمع فبلغت هذه الأبيات الوزير المهلبي فأمر القيان والقوالين بتحفظها وتلحينها، وصار لا يشرب إلا عليها. وأهدى الناس إلى سيف الدولة فأكثروا، فكتب إليه أبو فراس: نفسي فداؤك قد بعث ... ت بعهدتي بيد الرسول أهديت نفسي إنما يه ... دى الجليل إلى الجليل   (1) اليتيمة 1: 49. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 62 وجعلت ما ملكت يدي ... صلة المبشر بالقبول وعزم سيف الدولة على غزو واستخلاف أبي فراس على الشام فكتب إليه قصيدة منها: قالوا المسير فهز الرمح عامله ... وارتاح في جفنه الصمصامة الخذم حقاً لقد ساءني أمر ذكرت له ... لولا فراقك لم يوجد له ألم لا تشغلن بأمر الشام تحرسه ... إن الشآم على من حله حرم وإن للثغر سوراً من مهابته ... صخوره من أعادي أهله القمم لا يحرمني سيف الدين صحبته ... فهي الحياة التي تحيا بها النسم وما اعترضت عليه في أوامره ... لكن سألت ومن عاداته نعم وكتب إليه يعزيه: لابد من فقد ومن فاقد ... هيهات ما في الناس من خالد كن المعزى لا المعزى به ... إن كان لابد من الواحد وله أيضاً: المرء نصب مصايب ما تنقضي ... حتى يوارى جسمه في رمسه فمؤجل يلقى الردى في أهله ... ومعجل يلقى الردى في نفسه وله أيضاً وقد سمع حمامة تنوح بقربه على شجرة عالية وهو في الأسر فقال: أقول وقد ناحت بقربي حمامة ... أيا جارتا هل بات حالك حالي معاذ الهوى ما ذقت طارقة النوى ... ولا خطرت منك الهموم ببال أتحمل محزون الفؤاد قوادم ... على غصن نائي المسافة عالي أيا جارتا ما أنصف الدهر بيننا ... تعالي أقاسمك الهموم تعالي تعالي تري روحا لدي ضعيفة ... تردد في جسم يعذب بالي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 63 أيضحك مأسور وتبكي طليقة ... ويسكت محزون ويندب سالي لقد كنت أولى منك بالدمع مقلة ... ولكن دمعي في الحوادث غالي] (1) وخرشنة - بفتح الخاء المعجمة وسكون الراء وفتح الشين المثلثة والنون - وهي بلدة بالشام على الساحل، وهي للروم (2) . وقسطنطينية - بضم القاف وسكون السين المهملة وفتح الطاء المهملة وسكون النون وكسر الطاء المهملة وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها نون - من أعظم مدائن الروم بناها قسطنطين، وهو أول من تنصر من ملوك الروم. 154 - (3) حرملة أبو حفص وأبو عبد الله حرملة بن يحيى بن عبد الله بن حرملة بن عمران بن قراد مولى سلمة بن مخرمة التجيبي (4) الزميلي المصري صاحب الإمام الشافعي رضي الله عنه؛ كان أكثر أصحابه اختلافاً إليه واقتباساً منه، وكان حافظاً للحديث، وصنف " المبسوط " و " المختصر ". وروى عنه مسلم بن الحجاج فأكثر في   (1) ما بين معقفين في ص د فقط. (2) على هامش ب: سبحان الله، قد ذكر في هذه الترجمة أن خرشنة من بلاد الروم والفرات يجري تحتها وفيها أسر أبو فراس ويقال أنه طاح منها بفرسه إلى الفرات قم أعقب ذلك بقوله عن خرشنة المذكورة: بلدة بالشام على الساحل! (3) ترجمة حرملة صاحب الشافعي في طبقات الشيرازي، الورقة 27 وطبقات السبكي 1: 257 وتهذيب التهذيب 2: 229 وميزان الاعتدال 1: 472؛ وكان حرملة أكثر الناس تحديثاً على ابن وهب لأن ابن وهب استخفى في منزله سنة وأشهراً لما طلب ليتولي القضاء، وقد أثنى عليه ابن معين وضعفه غيره، وقيل إنه لكثرة ما روى انفرد بغرائب. (4) س: التجيبي بالولاء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 64 صحيحه من ذكره [روى عن محمد بن وهب المصري وغيره] (1) ، ومولده في سنة ست وستين ومائة، وتوفي ليلة الخميس لتسع بقين من شوال سنة ثلاث وأربعين ومائتين بمصر، وقيل أربع وأربعين، رحمه الله تعالى. والتجيبي - بضم التاء المثناة من فوقها وكسر الجيم وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها باء موحدة - هذه النسبة إلى تجيب، وهو اسم امرأة نسبة إليها أولادها. وقراد - بضم القاف وفتح الراء المهملة وبعد الألف دال مهملة. والزميلي - بضم الزاي وفتح الميم وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها لام - هذه النسبة إلى بني زميل، وهو بطن من تجيب. (17) وتوفي حرملة بن عمران، جد حرملة المذكور، في صفر سنة ستين ومائة، ومولده سنة ثمانين للهجرة، رحمه الله تعالى. 155 - (2) الحسن بن علي بن أبي طالب أو بمحمد الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وأمه فاطمة صلوات الله عليها بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ بويع له يوم مات أبوه رضي الله عنه، وكان أشبه الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقام بالكوفة إلى شهر ربيع الأول سنة إحدى وأربعين، وقتل عبد الرحمن بن ملجم، يقال إنه ضربه   (1) زيادة في ص. (2) أخباره في كتب التاريخ كالطبري وابن الأثير والمسعودي واليعقوبي ومقاتل الطالبيين، وانظر تهذيب التهذيب 2: 295 وتهذيب ابن عساكر 4: 199 وحلية الأولياء 2: 35 وصفة الصفوة 1: 319؛ الأئمة الأثنا عشر ص 63 والصفحة المقابلة حيث مصادر ترجمته. وقد انفردت النسخة ص بهذه الترجمة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 65 بالسيف فاتقاه بيده فندرت وقتله، ثم سار إلى معاوية فالتقيا بمسكن من أرض الكوفة، فاصطلحا وسلم إليه الأمر وبايعه لخمس بقين من شهر ربيع الأول، ويقال إنه أعطاه خمس آلاف درهم ورجع إلى المدينة، وقال قوم انه صالحه بأذرح في جمادى الأولى وأخذ مائة ألف دينار، روى ذلك كله الدولابي. وكانت خلافته ستة أشهر وخمسة أيام؛ روى الشعبي قال: أنا شهدت خطبة الحسن - يعني حين سلم الأمر إلى معاوية -: قام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، إن أكيس الكيس التقى وأحمق الحمق الفجور، وإن هذا الأمر الذي اختلفت فيه أنا ومعاوية إنما هو حق لامرئ كان أحق بحقه مني أو حق لي تركته لمعاوية إرادة لصالح الأمة وحقنا لدمائهم، وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين. روى سفينة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الخلافة بعدي ثلاثون عاماً ثم تكون ملكاً أو ملوكاً. وكان آخر ولاية الحسن رضي الله عنه تمام ثلاثين سنة وثلاثة عشر يوماً من أول خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه. ولم يزل الحسن بالمدينة إلى أن مات بها في شهر ربيع الأول سنة تسع وأربعين وله سبع وأربعون سنة، وقيل مات سنة خمسين، وهو أشبه بالصواب، وصلى عليه سعيد بن العاص ودفن بالبقيع، ويقال إنه دفن مع أمه صلوات الله عليها. وقال القتبي: يقال ان امرأته جعدة بنت الأشعث سمته ومكث شهرين، وأنه ليرفع من تحته كل يوم كذا وكذا طست من دم. وكان يقول: سقيت السم مراراً ما أصابني ما أصابني في هذه المرة. وخلف عليها رجل من قريش فأولدها غلاماً، فكان الصبيان يقولون له: يا ابن مسمة الأزواج. ولما كتب مروان إلى معاوية بشكاته كتب إليه أن أقبل المطي إلي بخبر الحسن؛ ولما بلغه موته سمع تكبيراً من الحضر، فكبر أهل الشام لذلك التكبير فقالت فاختة زوجة معاوية: أقر الله عينك يا أمير المؤمنين، ما الذي كبرت له قال: مات الحسن، قالت: أعلى موت ابن فاطمة تكبر قال: والله ما كبرت شماتة بموته ولكن استراح قلبي. وكان ابن عباس بالشام، فدخل عليه فقال: يا ابن عباس، هل تدري ما حدث في أهل بيتك قال: لا أدري ما حدث الجزء: 2 ¦ الصفحة: 66 إلا أني أراك مستبشراً وقد بلغني تكبيرك وسجودك، قال: مات الحسن، قال: إنا لله، يرحم الله أبا محمد، ثلاثاً؛ ثم قال: والله يا معاوية لا تسد حفرته حفرتك ولا يزيد نقص عمره في يومك، وإن كنا أصبنا بالحسن لقد أصبنا بإمام المتقين وخاتم النبيين، فسكن الله تلك العبرة وجبر تلك المصيبة وكان الله الخلف علينا من بعده. وكان أوصى لأخيه الإمام الحسين: إذا أنا مت فادفني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إن وجدت إلى ذلك سبيلاً، وإن منعوك فادفني ببقيع الغرقد، فلبس الحسين ومواليه السلاح وخرجوا ليدفنوه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج مروان بن الحكم في بني أمية فمنعوهم من ذلك. وقيل: لما احتضر الحسن رضي الله عنه قال: أخرجوني إلى الصحراء لعلي أنظر في ملكوت السموات، يعني الآيات؛ فلما أخرج قال: اللهم إني أحتسب نفسي عندك فإنها أعز الأنفس علي، فكان مما صنع الله له أنه احتسب نفسه. ومن طريف أخباره ما ذكره أبو العباس المبرد (1) أن مروان بن الحكم قال يوماً: إني مشغوف ببغلة الحسن، فقال له ابن أبي عتيق: إن دفعتها إليك أتقضي لي ثلاثين حاجة قال: نعم، قال: فإذا اجتمع الناس عندك العشية فإني آخذ في مآثر قريش ثم أمسك عن الحسن، فلمني على ذلك؛ فلما أخذ القوم مجالسهم أفاض في أولية قريش؛ قال له مروان: ألا تذكر أولية أبي محمد وله في هذا ما ليس لأحد قال: إنما كنا في ذكر الأشراف ولو كنا في ذكر الأنبياء لقدمنا ما لأبي محمد؛ فلما خرج ليركب تبعه ابن أبي عتيق فقال له الحسن وتبسم: ألك حاجة قال: نعم، البغلة، فنزل عنها ودفعها إليه. وذكر ابن عائشة أن رجلاً من أهل الشام قال: دخلت المدينة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام فرأيت رجلاً راكباً على بغلة لم أر أحسن وجهاً ولا سمتاً ولا ثوباً ولا دابة منه، فمال قلبي إليه فسألت عنه فقيل: هذا الحسن بن علي ابن أبي طالب، فامتلأ قلبي له بغضاً وحسدت علياً أن يكون له ابن مثله،   (1) الكامل 2: 237. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 67 فصرت إليه وقلت له: أأنت ابن علي بن أبي طالب قال: أنا ابنه، قلت: فعل بك وبأبيك - أسبهما؛ فلما انقضى كلامي قال لي: أحسبك غريباً قلت: أجل، قال: مل بنا، فإن احتجت إلى منزل أنزلناك أو إلى مال آسيناك أو إلى حاجة عاوناك؛ قال: فانصرفت عنه وما على الأرض أحب ألي منه وما فكرت فيما صنع وصنعت إلا شكرته وخزيت نفسي. وحكى صاحب " العقد " قال (1) : بينا معاوية جالس في أصحابه إذ قيل له: الحسن بالباب، فقال معاوية: إنه إن دخل علينا أفسد ما نحن فيه، فقال له مروان بن الحكم: ايذن له فإني أسأله عما ليس عنده فيه جواب، قال معاوية: لا تفعل فإنهم قوم ألهموا الكلام، وأذن له، فلما دخل وجلس قال له مروان: أسرع الشيب إلى شاربك يا حسن، إن ذلك من الخوف، قال الحسن: ليس كما بلغك ولكنا معشر بني هاشم طيبة أفواهنا، عذبة شفاهنا، فنساؤنا يقبلن علينا بأنفاسهن وقبلهن، وأنتم معشر بني أمية فيكم بخر شديد، فنساؤكم يصرفن أفواههن وأنفاسهن عنكم إلى أصداغكم، فإنما يشيب منكم موضع العذار من أجل ذلك؛ قال مروان: أما إن فيكم يا بني هاشم خصلة سوء، قال: ما هي قال: الغلمة، قال: أجل، نزعت الغلمة من نسائنا ووضعت في رجالنا ونزعت الغلمة من رجالكم ووضعت في نسائكم، فما قام لأموية إلا هاشمي؛ فغضب معاوية وقال: قد كنت أخبرتكم فأبيتم حتى سمعتم ما أظلم عليكم بيتكم وافسد مجلسكم؛ فخرج الحسن رضوان الله عليه وهو يقول: ومارست هذا الدهر خمسين حجة ... وخمساً أرجي قابلاً بعد قابل فما أنا في الدنيا بلغت جسيمها ... ولا في الذي أهوى كدحت بطائل وقد أشرعت في المنايا أكفها ... وأيقنت أني رهن موت معاجل قال الحسن رضي الله عنه لحبيب بن مسلمة الفهري (2) : رب مسير لك في غير   (1) العقد 4: 20. (2) العقد 4: 21. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 68 طاعة الله، قال: أما مسيري إلى أبيك فلا، قال: بلى، ولكنك أطعت معاوية على دنيا قليلة، فلئن كان قام بك في دنياك لقد قعد بك في آخرتك، فلو كنت إذ فعلت شراً قلت خيراً كنت كما قال الله تعالى: (خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئا) (التوبة: 102) . ولكنك كما قال الله تعالى: (كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون) (المطففون: 14) . وقيل: دار بين الحسن والحسين كلام فتقاطعا فقيل للحسين: لو أتيت أخاك فهو أكبر سناً منك، فقال: إن الفضل للمبتدئ وأنا أكره أن يكون لي الفضل على أخي، فبلغ ذلك الحسن فأتاه. وكان الحسن إذا فرغ من الوضوء تغير لونه، فقيل له في ذلك فقال: حق على من أراد أن يدخل على ذي العرض أن يتغير لونه. 156 - (1) الحسن البصري أبو سعيد الحسن بن أبي الحسن يسار البصري؛ كان من سادات التابعين وكبرائهم، وجمع كل فن من علم وزهد وورع وعبادة. وأوبه مولى زيد بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه، وأمه خيرة مولاة أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وربما غابت في حاجة فيبكي فتعطيه أم سلمة، رضي الله عنها، ثديها (2) تعلله به إلى أن تجيء أمه، فدر عليه ثديها فشربه، فيرون أن تلك   (1) ترجمة الحسن البصري في طبقات ابن سعد 7: 16 وتهذيب التهذيب 2: 263 وميزان الاعتدال 1: 527 وتذكرة الحفاظ: 71 وحلية الأولياء 2: 131 وطبقات الشيرازي، الورقة: 24 وأقواله وأخباره منثورة في البيان والتبيين وأمالي المرتضى وقد جمع ابن الجوزي في سيرته كتاباً؛ ودرسه إحسان عباس دراسة نقدية في كتاب بعنوان " الحسن البصري " واشار إلى مصادر أخرى عنه (دار الفكر العربي - القاهرة 1952) . (2) أ: لبنها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 69 الحكمة والفصاحة من بركة ذلك. قال أبو عمرو بن العلاء: ما رأيت أفصح من الحسن البصري ومن الحجاج ابن يوسف الثقفي، فقيل له: فأيهما كان أفصح قال: الحسن. ونشأ الحسن بوادي القرى، وكان من أجمل أهل البصرة، حتى سقط عن دابته فحدث بأنفه ما حدث. وحكى الأصمعي عن أبيه قال: ما رأيت أعرض زنداً من الحسن، كان عرضه شبراً. [وكان الحسن يقص في الحج، فمر به علي بن الحسين عليهما السلام، فقال له: يا شيخ أترضى نفسك للموت قال: لا، قال: فلله في أرضه معاد غير هذا البيت قال: لا، قال: فثم دار للعمل غير هذه الدار قال: لا، قال: فعملك للحساب قال: لا، قال: فلم تشغل الناس عن طواف البيت قال: فما قص الحسن بعدها. وقيل إن رجلاً أتى الحسن فقال: يا أبا سعيد إني حلفت بالطلاق ان الحجاج في النار فما تقول اقيم مع امرأتي أم أعتزلها فقال له: قد كان الحجاج فاجراً فاسقاً وما أدري ما أقول لك، إن رحمة الله وسعت كل شيء؛ وإن الرجل أتى محمد بن سيرين فأخبره بما حلف فرد عليه شبيهاً بما قاله الحسن؛ وإنه أتى عمرو بن عبيد فقال له: أقم مع زوجتك فإن الله تعالى إن غفر للحجاج لم يضرك الزنا، ذكر ذلك المختار في تاريخه. وكان في جنازة وفيها نوائح ومعه رجل فهم الرجل بالرجوع فقال له الحسن: يا أخي إن كنت كلما رأيت قبيحاً تركت له حسناً أسرع ذلك في دينك. وقيل له: ألا ترى كثرة الوباء فقال: انفق ممسك واقلع مذنب، واتعظ جاحد. ونظر إلى جنازة قد ازدحم الناس عليها فقال: مالكم تزدحمون ها تلك هي ساريته في المسجد، اقعدوا تحتها حتى تكونوا مثله؛ وحدث الحسن بحديث فقال له رجل: يا أبار سعيد عن من فقال: وما تصنع بعمن أما أنت فقد نالتك موعظته وقامت عليك حجته؛ وقال له رجل: أنا أزهد منك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 70 [وأفصح] ، قال أما أفصح فلا، قال: فخذ علي كلمة واحدة، قال: هذه؛ وقال لفرقد بن يعقوب: بلغني أنك [لا تأكل] الفالوذج، فقال: يا أبا سعيد أخاف ألا اؤدي شكره، قال الحسن: يا لكع هل تقدر تؤدي شكر الماء البارد الذي تشربه وقيل للحسن: إن فلاناً اغتابك، فبعث إليه طبق حلوى وقال: بلغني أنك أهديت إلي حسناتك فكافأتك؛ وقريب من هذا قول سفيان بن الحسين، قال: كنت جالساً عند إياس بن معاوية فنلت من إنسان فقال: هل غزوت العام الترك والروم ولم يسلم منك أخوك المسلم وسمع رجلاً يشكو عليه إلى آخر فقال: أما إنك تشكو من يرحمك إلى من لا يرحمك] (1) . ومن كلامه: ما رأيت يقيناً لا شك فيه أشبه بشك لا يقين فيه إلا الموت (2) . ولما ولي عمر بن هبيرة الفزاري العراق وأضيفت إليه خراسان، وذلك في أيام يزيد بن عبد الملك، استدعى الحسن البصري ومحمد بن سيرين والشعبي وذلك في سنة ثلاث ومائة فقال لهم: إن يزيد خليفة الله استخلفه على عباده، وأخذ عليهم الميثاق بطاعته، وأخذ عهدنا بالسمع والطاعة، وقد ولاني ما ترون فيكتب إلي بالأمر من أمره فأقلده ما تقلده من ذلك الأمر، فما ترون فقال ابن سيرين والشعبي قولاً فيه تقية، فقال ابن هبيرة: ما تقول يا حسن فقال: يا ابن هبيرة خف الله في يزيد ولا تخف يزيد في الله، إن الله يمنعك من يزيد، وإن يزيد لا يمنعك من الله، وأوشك أن يبعث إليك ملكاً فيزيلك عن سريرك ويخرجك من سعة قصرك إلى ضيق قبرك، ثم لا ينجيك إلا عملك؛ يا ابن هبيرة إن تعص الله فإنما جعل الله هذا السلطان ناصراً لدين الله وعباده فلا تركبن دين الله وعباده بسلطان الله، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق؛   (1) زيادة انفردت بها النسخة د. (2) بعد هذا الموضع جاءت هذه الزيادة في النسخة أ: وكان يقول: إذا أشرب القلب حب الدنيا لم تنجع فيه المواعظ، كالجد إذا استحكم فيه الداء لم ينجع الدراء. وقال إبراهيم بن عيسى اليشكري: ما رأيت أطول حزناً من الحسن، ما رأيته قط إلا حسبته حديث عهد بمصيبة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 71 فأجازهم ابن هبيرة وأضعف جائزة الحسن، فقال الشعبي لابن سيرين: سفسفنا له فسفسف لنا (1) . ورأى الحسن يوماً رجلاً وسيماً حسن الهيئة، فسأل عنه فقيل: إنه يسخر للملوك ويحبونه، فقال: لله أبوه، ما رأيت أحداً طلب الدنيا بما يشبهها إلا هذا. وكانت أمه تقص للنساء، ودخل عليها يوماً وفي يدها كراثة تأكلها، فقال لها: يا أماه، ألقي هذه البقلة الخبيثة من يدك، فقالت: يا بني إنك شيخ قد كبرت وخرفت، فقال: يا أماه، أينا أكبر (2) وأكثر كلامه حكم وبلاغة. وكان أبوه من سبي ميسان، وهو صقع بالعراق. ومولد الحسن لسنتين بقيتا من خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالمدينة، ويقال إنه ولد على الرق، وتوفي بالبصرة مستهل رجب سنة عشر ومائة، رضي الله عنه، وكانت جنازته مشهودة؛ قال حميد الطويل: توفي الحسن عشية الخميس، وأصبحنا يوم الجمعة ففرغنا من أمره، وحملناه بعد صلاة الجمعة، ودفناه فتبع الناس كلهم جنازته واشتغلوا به، فلم تقم صلاة العصر بالجامع، ولا أعلم أنها تركت منذ كان الإسلام إلا يومئذ، لأنهم تبعوا كلهم الجنازة حتى لم يبق بالمسجد من يصلي العصر. وأغمي على الحسن عند موته، ثم أفاق فقال: لقد نبهتموني من جنات وعيون ومقام كريم. وقال رجل قبل موت الحسن لابن سيرين: رأيت كأن طائراً أخذ أحسن حصاة بالمسجد، فقال: إن صدقت رؤياك مات الحسن، فلم يكن إلا قليلاً حتى مات الحسن (3) .   (1) وردت في أبعد هذا الموضع الزيادة الآتية: وقال لمطرف بن عبد الله بن الشخير: يا مطرف غلط أصحابك، فقال مطرف: إني أخاف أن أقول ما لا أفعل، فقال الحسن: رحمك الله وأينا يفعل ما يقول لود الشيطان أنه ظفر بهذا منكم فلم يأمر أحد بمعروف ولم ينه عن منكر. (2) وكانت أمه ... أكبر: لم يرد في المسودة. (3) وكانت جنازته ... مات الحسن: لم يرد في المسودة، وهاهنا يضاً زيادة من النسخة أ: وحكى المعافى بن زكريا في كتاب " الجليس والأنيس " عن الأصمعي قال: حدثنا مبارك ابن فضالة عن ثابت البناني قال: انصرفت من جنازة الحسن فقلت لبنتي: والله ما رأيت جنازة قط اجتمع فيها من الناس اجتمع فيها وإن كان الحسن لأهلاً لذلك، فقالت لي بنتي: يا أبه، ما ذلك إلا لستر الله، فحجزت والله نفسي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 72 ولم يشهد ابن سيرين جنازته لشيء كان بينهما، ثم توفي بعده بمائة يوم، كما سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى. وميسان - بفتح الميم وسكون الياء المثناة من تحتها وفتح السين المهملة وبعد الألف نون - قال السمعاني: هي بليدة بأسفل البصرة. 157 - (1) الزعفراني أبو علي الحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني صاحب الإمام الشافعي رضي الله عنه؛ برع في الفقه والحديث وصنف فيهما كتباً، وسار ذكره في الآفاق، ولزم الشافعي حتى تبحر، وكان يقول: أصحاب الأحاديث كانوا رقوداً حتى أيقظهم الشافعي، وما حمل أحد محبرة إلا وللشافعي عليه منة. وكان يتولى قراءة كتب الشافعي عليه، وسمع من سفيان بن عيينة ومن في طبقته مثل وكيع ابن الجراح وعمرو بن الهيثم ويزيد بن هارون وغيرهم، وهو أحد رواة الأقوال القديمة عن الشافعي (2) رضي الله عنه، ورواتها أربعة: هو وأبو ثور وأحمد بن حنبل والكرابيسي، ورواة الأقوال الجديدة ستة: المزني والربيع بن سليمان   (1) ترجمة الزعفراني في الفهرست: 211 وتاريخ بغداد 7: 407 وتهذيب التهذيب 2: 318 وطبقات الشيرازي، الورقة: 28 وطبقات السبكي 1: 250 وتذكرة الحفاظ: 525؛ وقد أخطأ الذهبي بقوله إنه منسوب إلى درب الزعفران ونبه السبكي على هذا الخطأ، إذ الدرب منسوب إليه. (2) يعني آراءه الفقهية في العراق قبل رحيله إلى مصر، وبمصر أصبحت للشافعي أقوال جديدة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 73 الجيزي والربيع بن سليمان المرادي والبويطي وحرملة ويونس بن عبد الأعلى - وقد تقدم ذكر بعضهم والباقي سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى - وروى عنه البخاري في صحيحه وابو داود السجستاني والترمذي وغيرهم. وتوفي سلخ شعبان - وقال ابن قانع: في شهر رمضان - سنة ستين ومائتين، وذكر السمعاني في كتاب " الأنساب " (1) أنه توفي في شهر ربيع الآخر سنة تسع وأربعين ومائتين، رحمه الله تعالى. والزعفراني - بفتح الزاي وسكون العين المهملة وفتح الفا والراء وبعد الألف نون - هذه النسبة إلى الزعفرانية، وهي قرية بقرب بعداد، والمحلة التي ببغداد تسمى درب الزعفران منسوبة إلى هذا الإمام لأنه أقام بها. قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في طبقات الفقهاء: وفيه مسجد الشافعي رضي الله عنه، وهو المسجد الذي كنت أدرس فيه بدرب الزعفراني، ولله الحمد والمنة. 158 - (2) أبو سعيد الإصطخري أبو سعيد الحسن بن أحمد بن يزيد بن عيسى بن الفضل الإصطخري الفقيه الشافعي؛ كان من نظراء أبي العباس ابن سريج وأقران أبي علي ابن أبي هريرة، وله مصنفات حسنة في الفقه منها كتاب الأقضية، وكان قاضي قم،   (1) انرظ الأنساب 6: 298. (2) ترجمة أبي سعيد الاصطخري في طبقات الشيرازي، الورقة: 31 وطبقات السبكي 2: 193 والمنتظم 6: 302 وأنساب السمعاني 1: 286 والفهرست: 213 ومن كتبه كتاب الفرائض الكبير وكتاب الشروط والوثائق والمحاضر والسجلات، وقد سقطت هذه الترجمة من النسخة م. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 74 وتولى حسبة بغداد، وكان ورعاً (1) متقللاً، واستقضاه المقتدر على سجستان فسار إليها فنظر في مناكحاتهم (2) فوجد معظمها على غير اعتبار الولي، فأنكرها وأبطلها عن آخرها. وكانت ولادته في سنة أربع وأربعين ومائتين، وتوفي في جمادى الآخرة يوم الجمعة ثاني عشرة، وقيل رابع عشرة، وقيل مات في شعبان سنة ثمان وعشرين وثلثمائة، رحمه الله تعالى. والإصطخري - بكسر الهمزة وسكون الصاد المهملة وفتح الطاء المهملة وسكون الخاء المعجمة وبعدها راء - هذه النسبة إلى إصطخر، وهي من بلاد فارس، خرج منها جماعة من العلماء (3) رحمهم الله تعالى، وقد قالوا في النسبة إلى إصطخر إصطخرزي أيضاً بزيادة الزاي، كما زادوها في النسبة إلى مرو والري فقالوا مروزي ورازي. 159 - (4) أبو علي ابن أبي هريرة أبو علي الحسن بن الحسين بن أبي هريرة الفقيه الشافعي؛ أخذ الفقه عن أبي العباس ابن سريج وأبي إسحاق المروزي، وشرح مختصر المزني وعلق عنه الشرح أبو علي الطبري ، وله مسائل في الفروع، ودرس ببغداد وتخرج عليه خلق كثير، وانتهت إليه إمامة العراقيين، وكان معظماً عند السلاطين والرعايا إلى أن توفي في رجب سنة خمس وأربعين وثلثمائة، رحمه الله تعالى.   (1) هـ: متورعا. (2) أ: مناكحتهم. (3) أ: الأكابر العلماء. (4) ترجمة ابن أبي هريرة في طبقات السبكي 2: 206 والفهرست: 215 وتاريخ بغداد 7: 298. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 75 160 - (1) أبو علي الطبري أبو علي الحسن بن القاسم الطبري الفقيه الشافعي؛ أخذ الفقه عن أبي علي ابن أبي هريرة المقدم ذكره، وعلق عنه التعليقة المشهورة المنسوبة إليه، وسكن ببغداد ودرس بها بعد أستاذه أبي علي المذكور، وصنف كتاب " المحرر " في النظر، وهو أول كتاب صنف في الخلاف المجرد، وصنف أيضاً كتاب " الافصاح " في الفقه، وكتاب " العدة " وهو كبير يدخل في عشرة أجزاء، وصنف كتاباً في الجدل، وكتاباً في أصول الفقه. وتوفي ببغداد سنة خمس وثلثمائة، رحمه الله تعالى. والطبري - بفتح الطاء المهملة والباء الموحدة وبعدها راء - هذه النسبة إلى طبرستان - بفتح الطاء المهملة والباء الموحدة وبعدها راء والسين المهملة الساكنة والتاء المثناة من فوقها المفتوحة وبعد الألف نون - وهي ولاية كبيرة تشتمل على بلاد كثيرة أكبرها آمل، خرج منها جماعة من العلماء، والنسبة إلى طبرية الشام " طبراني " - على ما سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى - ورأيت في عدة كتب من طبقات الفقهاء أن اسمه الحسن كما هو هاهنا، ورأيت الخطيب في تاريخ بغداد قد عده في جملة من اسمه الحسين [والله أعلم بالصواب] .   (1) ترجمة أبي علي الطبري الشافعي في طبقات الشيرازي، الورقة: 32 وطبقات السبكي 2: 217 وسماه " الحسين " والفهرست: 214 ولم يذكر من مؤلفاته إلا مختصر مسائل الخلاف؛ وانظر تاريخ بغداد 8: 87 (باسم الحسين) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 76 161 - (1) أبو علي الفارقي أبو علي الحسن بن إبراهيم بن علي بن برهون الفارقي الفقيه الشافعي؛ كان مبدأ اشتغاله بميافارقين على أبي عبد الله محمد الكازروني، فلما توفي انتقل إلى بغداد واشتغل على الشيخ أبي إسحاق الشيرازي صاحب المهذب وعلى أبي نصر ابن الصباغ صاحب " الشامل "، وتولى القضاء بمدينة واسط. حكى الحافظ أبو طاهر السلفي، رحمه الله تعالى، قال: سألت الحافظ أبا الكرم خميس بن علي بن أحمد الحوزي (2) بواسط عن جماعة منهم القاضي أبو علي الفارقي المذكور، فقال: هو متقدم في الفقه، وقضى بواسط بعد أبي تغلب فظهر من عقله وعدله وحسن سيرته ما زاد على الظن به. وسمع الحديث من الخطيب أبي بكر ومن في طبقته، وكان زاهداً متورعاً. له كتاب " الفوائد " على المهذب وعنه أخذ القاضي (3) أبو سعد عبد الله بن أبي عصرون - كما سيأتي في ترجمته إن شاء الله تعالى - وكان يلازم ذكر الدرس من الشامل إلى أن توفي. وكانت وفاته يوم الأربعاء الثاني والعشرين من المحرم سنة ثمان وعشرين وخمسمائة بواسط؛ ومولده سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة بميافارقين في شهر ربيع الآخر؛ ودفن في مدرسته، رحمه الله تعالى. وبرهون: بفتح الباء الموحدة وسكون الراء وضم الهاء وبعد الواو الساكنة نون؛ والفارقي: معروف فلا حاجة إلى ضبطه.   (1) ترجمة أبي علي الفارقي في طبقات السبكي 4: 209. (2) محدث واسط. وكان السلفي يثني عليه، والحوز المنسوب إليها قرية شرقي واسط، توفي سنة 510 (تذكرة الحفاظ: 1262) ؛ وفي أج: الجويزي. (3) أج: الشيخ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 77 162 - (1) السيرافي أبو سعيد الحسن بن عبد الله المرزبان السيرافي النحوي المعروف بالقاضي؛ سكن بغداد وتولى القضاء بها نيابة عن أبي محمد ابن معروف، وكان من أعلم الناس بنحو البصريين، وشرح كتاب سيبويه فأجاد فيه، وله كتاب " الفات الوصل والقطع "، وكتاب " أخبار النحويين البصريين "، وكتاب " الوقف والابتداء "، وكتاب " صنعة الشعر والبلاغة "، و " شرح مقصورة ابن دريد "، وقرأ القرآن الكريم على أبي بكر ابن مجاهد، واللغة على ابن دريد، والنحو على أبي بكر ابن السراج النحوي، وكان الناس يشتغلون عليه بعدة فنون: القرآن الكريم والقراءات (2) وعلوم القرآن والنحو واللغة والفقه والفرائض والحساب والكلام والشعر والعروض والقوافي. وكان نزهاً عفيفاً جميل الأمر حسن الأخلاق، وكان معتزلياً، ولم يظهر منه شيء (3) ، وكان لا يأكل إلا من كسب يده، ينسخ ويأكل منه، وكان أبوه مجوسياً اسمه بهزاد (4) فأسلم فسماه ابنه أبو سعيد المذكور عبد الله، وكان كثيراً ما ينشد في مجالسه: اسكن إلى سكن تسر به ... ذهب الزمان وأنت منفرد ترجو غداً وغد كحاملة ... في الحي لا يدرون ما تلد   (1) ترجمة السيرافي النحوي في الفهرست: 62 - 63 وتاريخ بغداد 7: 341 والجواهر المضية 1: 196 وطبقات الزبيدي: 129 والانباه 1: 313 ومعجم الأدباء 8: 145 ومعجم البلدان (سيراف) ونزهة الالباء: 211 وفي مؤلفات التوحيدي أخبار كثيرة عنه كما صنف القفطي في أخباره مؤلفاً مستقلاً، وقد طبع كتابه أخبار النحويين البصريين بعناية الزيني وخفاجي (القاهرة 1955) بعد طبعة بيروت 1336. (2) أ: والقراءات السبع. (3) يقول القفطي: وكان يذكر عنه الاعتزوال ولم يكن يظهر ذلك. (4) هـ: نهراذ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 78 وكان بينه وبين أبي الفرج الأصبهاني صاحب كتاب " الأغاني " ما جرت العادة بمثله بين الفضلاء من التنافس، فعمل فيه أبو الفرج (1) : لست صدراً ولا قرأت على صد ... ر ولا علمك البكي بشاف لعن الله كل نحو وشعر ... وعروض يجيء من سيراف وتوفي يوم الاثنين ثاني رجب سنة ثمان وستين وثلثمائة ببغداد، وعمره أربع وثمانون سنة، ودفن بمقبرة الخيرزان، رحمه الله تعالى، وقيل أنه توفي سنة أربع وستين، وقيل سنة خمس وستين، والصحيح هو الأول والله أعلم. وقال ولده أبو محمد يوسف (2) : أصل أبي من سيراف، وبها ولد وبها ابتدأ بطلب العلم، وخرج منها قبل العشرين ومضى إلى عمان وتفقه بها، ثم عاد إلى سيراف، ومضى إلى عسكر مكرم فأقام بها عند أبي محمد ابن عمر المتكلم، وكان يقدمه ويفضله على جميع أصحابه، ودخل بغداد، وخلف القاضي أبا محمد ابن معروف على قضاء الجانب الشرقي ثم الجانبين. والسيرافي - بكسر السين المهملة وسكون الياء المثناة من تحتها وفتح الراء وبعد الألف فاء - هذه النسبة إلى مدينة سيراف، وهي من بلاد فارس على ساحل البحر مما يلي كرمان، خرج منها جماعة (3) من العلماء، رحمهم الله تعالى؛ وسيأتي في ترجمة ولده يوسف تتمة الكلام على سيراف، إن شاء الله تعالى.   (1) معجم الأدباء: 148. (2) قارن بما في انباه الرواة: 314. (3) هـ: طائفة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 79 163 - (1) أبو علي الفارسي أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار بن محمد بن سليمان بن أبان الفارسي النحوي؛ ولد بمدينة فسا واشتغل ببغداد، ودخل إليها سنة سبع وثلثمائة، وكان إمام وقته في علم النحو، ودار البلاد، وأقام بحلب عند سيف الدولة بن حمدان مدة، وكان قدومه عليه في سنة إحدى وأربعين وثلثمائة، وجرت بينه وبين أبي الطيب المتنبي مجالس، ثم انتقل إلى بلاد فارس وصحب عضد الدولة ابن بويه وتقدم عنده وعلت منزلته حتى قال عضد الدولة: أنا غلام أبي علي الفسوي في النحو، وصنف له كتاب الإيضاح، والتكملة في النحو، وقصته فيه مشهورة. ويحكى أنه كان يوماً في ميدان شيراز يساير عضد الدولة، فقال له: لم انتصب المستثنى في قولنا: قام القوم إلا زيداً فقال الشيخ: بفعل مقدر، فقال لهك كيف تقديره (2) فقال: أستثني زيداً، فقال له عضد الدولة: هلا رفعته وقدرت الفعل امتنع زيد فانقطع الشيخ، وقال له: هذا الجواب ميداني. ثم إنه لما رجع إلى منزله وضع في ذلك كلاماً حسناً وحمله إليه فاستحسنه، وذكر في كتاب الإيضاح أنه انتصب بالفعل المتقدم بتقوية إلا. وحكى أبو القاسم ابن أحمد الأندلسي قال (3) : جرى ذكر الشعر بحضرة أبي علي وأنا حاضر، فقال: إني لأغبطكم على قول الشعر، فإن خاطري لا يوافقني على قوله مع تحقيقي العلوم التي هي من مواده، فقال له رجل: فما قلت قط   (1) ترجمة أبي علي الفارسي في الفهرست: 64 وتاريخ بغداد 7: 275 وغاية النهايو 1: 206 ولسان الميزان 2: 195 ومعجم الأدباء 7: 232 ونزهة الألباء 217 وانباه الرواة 1: 273. (2) هـ: كيف تقدره. (3) قارن بما في الانباه: 275. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 80 شيئاً منه قال: ما أعلم أن لي شعراً إلا ثلاثة أبيات في الشيب، وهي قولي: خضبت الشيب لما كان عيباً ... وخضب الشيب أولى أن يعابا ولم أخضب مخافة هجر خل ... ولا عيباً خشيت ولا عتابا ولكن المشيب بدا ذميماً ... فصيرت الخضاب له عقابا ويقال إن السبب في استشهاده في باب كان من كتاب " الإيضاح " ببيت أبي تمام الطائي وهو قوله (1) : من كان مرعى عزمه وهمومه ... روض الأماني لم يزل مهزولا لم يكن ذلك لأن أبا تمام ممن يستشهد بشعره، لكن عضد الدولة كان يحب هذا البيت وينشده كثيراً، فلهذا استشهد به في كتابه. ومن تصانيفه كتاب " التذكرة " وهو كبير، وكتاب " المقصور والممدود "، وكتاب " الحجة " في القراءات، وكتاب " الإغفال " فيما أغفله الزجاج من المعاني، وكتاب " العوامل المائة " وكتاب " المسائل الحلبيات " وكتاب " المسائل البغداديات " وكتاب " المسائل الشيرازيات " وكتاب " المسائل القصريات " وكتاب " المسائل العسكرية " وكتاب " المسائل البصرية " وكتاب " المسائل المجلسيات " وغير ذلك (2) . وكنت رأيت في المنام في سنة ثمان وأربعين وستمائة وأنا يومئذ بمدينة القاهرة كأنني قد خرجت إلى قليوب ودخلت إلى مشهد بها فوجدته شعثاً، وهو عمارة قديمة، ورأيت به ثلاثة أشخاص مقيمين مجاورين، فسألتهم عن المشهد وأنا متعجب لحسن بنائه وإتقان تشييده: ترى هذا عمارة من فقالوا: لا نعلم، ثم قال أحدهم: إن الشيخ أبا علي الفارسي جاور في هذا المشهد سنين عديدة،   (1) من قصيدة له في مدح نوح بن عمرو السكسكي، انظر ديوانه 3: 67، قال شارح الديوان: هذا البيت ذكره أبو علي الفارسي في كتابه المعروف بالعضدي وإنما ذكره على سبيل التمثيل لا أنه يستشهد به ... وقد أنكر ذلك على أبي علي لأن طبقته لم تجر عادتهم به. (2) سقط من النسخة س ذكر أسماء مصنفات أبي علي؛ وانظر مزيداً منها في معجم الأدباء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 81 وتفاوضنا في حديثه، فقال: وله مع فضائله شعر حسن، فقلت: ما وقفت له على شعر، فقال: أنا أنشدك من شعره، ثم أنشد بصوت رقيق طيب إلى غاية ثلاثة أبيات، فاستيقظت في أثر الإنشاد ولذة صوته في سمعي، وعلق على خاطري منها البيت الأخير وهو: الناس في الخير لا يرضون عن أحد ... فكيف ظنك سيموا الشر أو ساموا وبالجملة فهو أشهر من أن يذكر فضله ويعدد، وكان متهماً بالاعتزال (1) . وكانت ولادته في سنة ثمان وثمانين ومائتين. وتوفي يوم الأحد لسبع عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الآخر، وقيل ربيع الأول، سنة سبع وسبعين وثلثمائة رحمه الله تعالى ببغداد، ودفن بالشونيزي. والفارسي: لا حاجة إلى ضبطه لشهرته. ويقال له أيضاً ابو علي الفسوي - بفتح الفاء والسين المهملة وبعدها واو - هذه النسبة إلى مدينة فسا (2) من أعمال فارس، وقد تقدم ذكرها في ترجمة البساسيري. وقليوب - بفتح القاف وسكون اللام وضم الياء المثناة من تحتها وسكون الواو وبعدها باء موحدة - وهي بليدة صغيرة بينها وبين القاهرة مقدار فرسخين أو ثلاثة ذات بساتين كثيرة.   (1) انظر طبقات المعتزلة: 131. (2) في طبقات المعتزلة أن هذا الاسم بضم الفاء، وقارن بما في اللباب " الفسوي ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 82 164 - (1) أبو أحمد العسكري أبو أحمد بن عبد الله بن سعيد العسكري؛ أحد الأثمة في الآداب والحفظ، وهو صاحب أخبار ونوادر، وله رواية متسعة، وله التصانيف المفيدة: منها كتاب التصحيف الذي جمع فيه فأوعب وغير ذلك، وكان (2) الصاحب بن عباد يود الاجتماع به ولا يجد إليه سبيلاً، فقال لمخدومه مؤيد الدولة بن بويه: إن عسكر مكرم قد اختلت أحوالها، وأحتاج إلى كشفها بنفسي، فأذن له في ذلك، فلما أتاها توقع أن يزوره أبو أحمد المذكور فلم يزره، فكتب الصاحب إليه: ولما أبيتم أن تزوروا وقلتم ... ضعفنا فلم نقدر على الوخدان أتيناكم من بعد أرض نزوركم ... وكم منزل بكر لنا وعوان نسائلكم هل من قرى لنزيلكم (3) ... بملء جفون لا بملء جفان وكتب مع هذه الأبيات شيئاً من النثر، فجاوبه أبو أحمد عن النثر بنثر مثله، وعن هذه الأبيات بالبيت المشهور، وهو: أهم بأمر الحزم لو أستطيعه ... وقد حيل بين العير والنزوان فلما وقف الصاحب على الجواب عجب عن اتفاق هذا البيت له، وقال: والله   (1) ترجمة أبي أحمد العسكري في معجم الأدباء 8: 233 ومعجم البلدان (عسكر مكرم) وانباه الرواة 1: 310 وبغية الوعاة: 221 والخزانة 1: 97 واللباب 2: 136 وابن كثير 11: 320 وكتابه " التصحيف " مطبوع (القاهرة 1963) . (2) هذه القصة سقطت من س. (3) أ: لنزوركم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 83 لو علمت أنه يقع له هذا البيت لما كتبت إليه على هذا الروي. وهذا البيت لصخر بن عمرو بن الشريد أخي الخنساء (1) ، وهو من جملة أبيات مشهورة، وكان صخر المذكور قد حضر محاربة بني أسد، فطعنه ربيعة ابن ثور الأسدي فأدخل بعض حلقات الدرع في جنبه. وبقي مدة حول في اشد ما يكون من المرض، وامه وزوجته سليمى تمرضانه (2) ، فضجرت زوجته منه، فمرت بها امرأة فسألتها عن حاله، فقالت: لا هو حي فيرجى، ولا ميت فينسى (3) ، فسمعها صخر فأنشد: أرى أم صخر لا تمل عيادتي ... وملت سليمى موضعي (4) ومكاني وما كنت أخشى أن أكون جنازة ... عليك، ومن يغتر بالحدثان لعمري لقد نبهت من كان نائماً ... وأسمعت من كانت له أذنان وأي امرئ ساوى بأم حليلة ... فلا عاش إلا في شقاً وهوان أهم بأمر الحزم لو أستطيعه ... وقد حيل بين العير والنزوان فللموت خير من حياة كأنها ... معرس يعسوب برأس سنان وكانت ولادته يوم الخميس لست عشرة ليلة خلت من شوال سنة ثلاث وتسعين ومائتين، وتوفي يوم الجمعة لسبع خلون من ذي الحجة سنة اثنتين وثمانين وثلثمائة، رحمه الله تعالى. وأخذ عن أبي بكر ابن دريد؛ وله من التصانيف كتاب " المختلف والمؤتلف " وكتاب " علم المنطق " (5) وكتاب " الحكم والأمثال " وكتاب " الزواجر " وغير ذلك. والعسكري - بفتح العين المهملة وشكون السين المهملة وفتح الكاف وبعدها   (1) انظر الخير والأبيات في الأغاني 15: 63. (2) ر: تعلللانه. (3) الأغاني: فينعى. (4) ر: مضجعي. (5) كذا سماه هنا ووقع عند القفطي " علم النظم " ويقابله عند ياقوت " كتاب صناعة الشعر ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 84 راء - هذه النسبة إلى عدة مواضع، فأشهرها عسكر مكرم، وهي مدينة من كور الأهواز، ومكرم الذي تنسب إليه مكرم الباهلي، وهو أول من اختطها فنسبت إليه، وأبو أحمد المذكور من هذه المدينة، وسيأتي العسكري منسوباً إلى شيء آخر إن شاءالله تعالى. 165 - (1) ابن رشيق القيروان أبو علي الحسن بن رشيق المعروف بالقيرواني؛ أحد الأفاضل البلغاء، له التصانيف المليحة منها: كتاب العمدة في معرفة صناعة الشعر ونقده وعيوبه، وكتاب الأنموذج والرسائل الفائقة والنظم الجيد. قال ابن بسام في كتاب " الذخيرة ": بلغني أنه ولد بالمسيلة وتأدب بها قليلاً، ثم ارتحل إلى القيروان سنة ست وأربعمائة. وقال غيره: ولد بالمهدية سنة تسعين وثلثمائة،، وأبوه مملوك رومي من موالي الأزد، وتوفي سنة ثلاث وستين وأربعمائة. وكانت صنعة أبيه في بلدة - وهي المحمدية - الصياغة، فعلمه أبوه صنعته، وقرأ الأدب بالمحمدية، وقال الشعر، وتاقت نفسه إلى التزيد منه وملاقاة أهل الأدب، فرحل إلى القيروان واشتهر بها ومدح صاحبها واتصل بخدمته، ولم يزل بها إلى أن هاجم العرب القيروان وقتلوا أهلها وأخربوها، فانتقل إلى جزيرة صقلية، وأقام بمازر إلى أن مات (2) .   (1) ترجمة ابن رشيق في انباه الرواة 1: 298 ومعجم الأدباء 8: 110 وشذرات الذهب 3: 297 وبغية الوعاة: 220 وعنوان الأريب: 52، وقد جمع الأستاذ الميمني شعره في كتاب سماه " النتف من شعر ابن رشيق وابن شرف " ثم قام الدكتور عبد الرحمن ياغي بجمعه وزاد فيه (دار الثقافة - بيروت: 1962) . (2) ذكر القفطي إن ابن رشيق لما حل بصقلية نزل على ابن مطكود أمير مازر فأكرمه واختصه وقرأ عليه كتبه؛ قال: ومن جملة ما رأيته من قراءاته عليه كتاب العمدة في صنعة الشعر.. ولم يزل عنده إلى أن مات بمازر في حدود سنة خمسين وأربعمائة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 85 ورأيت بخط بعض الفضلاء أنه توفي سنة ست وخمسين وأربعمائة بمازر، والأول أصح، رحمه الله تعالى، وهي قرية بجزيرة صقلية - وسيأتي ذكرها في ترجمة المازري إن شاء الله تعالى - وقيل إنه توفي ليلة السبت غرة ذي القعدة سنة ست وخمسين وأربعمائة بمازر -، والله أعلم. [وكانت بينه وبين ابن شرف القيروان وقائع وماجريات وهما أديبا بلاد المغرب وشاعراها. وكان ابن شرف أعور؛ قيل: مر يوماً وبيده كتاب فقال له ابن رشيق: ما في كتابك قال: الدريدية، يعرض بقول ابن دريد فيها: والعبد لا يردعه إلا العصا ... يشير إلى أنه مولى، فقال له ابن رشيق: أما أبي فرشيق لست أنكره ... قل لي أبوك وصوره من الخشب ومن شعره أيضاً وقد غاب المعز بن باديس عن حضرته وكان العيد ماطراً: تجهم العيد وانهلت بوادره ... وكنت أعهد منه البشر والضحكا كأنه جاء يطوي الأرض من بعد ... شوقاً إليك فلما لم يجدك بكى وقال أيضاً وقد أمره المعز بوصف أترجة مصبعة كانت بين يديه بديهاً: أترجة سبطة الأطراف ناعمة ... تلقى العيون بحسن غير منحوس كأنها بسطت كفاً لخالقها ... تدعو بطول بقاء لابن باديس ومن شعره أيضاً: لو اورقت من دم الأبطال سمر قنا ... لأورقت عنده سمر القنا الذبل إذا توجه في أولى كتائبه ... لم تفرق العين بين السهل والجبل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 86 فالجيش ينفض حوليه أسنته ... نفض العقاب جناحيها من البلل هذا البيت من فرائده وهو ملتفط من قول أبي صخر الهذلي: وإني لتعروني لذكرك فترة ... كما انتفض العصفور بلله القطر ولابن رشيق المذكور رحمه الله تعالى: ومن حسنات الدهر عندي ليلة ... من العلم لم تترك لأيامها ذنبا خلونا بها ننفي الكرى عن جفوننا ... بلؤلؤة مملوءة ذهباً سكبا وملنا لتقبيل الخدود ولثمها ... مميل جياع الطير تلتفط الحبا ومن شعره أيضاً: صنم من الكافور بات معانقي ... في حلتين تعفف وتكرم فكرت ليلة وصله في صده ... فجرت بقايا أدمعي كالعندم فطفقت أمسح ناظري في نحره ... إذ شيمة الكافور إمساك الدم ومن شعره رحمه الله: قالوا رأينا فلاناً ليس يوجعه ... ما يوجع الناس من هجو به قذفا فقلت لو أنه حي لأوجعه ... لكنه مات من جهل وما عرفا وما هجوت فلاناً غير تجربة ... وذو الرماية لا يستشعر الهدفا] (1) ومن شعره (2) : أحب أخي وإن أعرضت عنه ... وقيل على مسامعه كلامي ولي في وجهه تقطيب راض ... كما قطبت في وجه المدام ورب تقطب من غير بغض ... وبغض كامن تحت ابتسام   (1) ما بين معقفين زيادة من د ص ر على اختلاف في الترتيب. (2) هذه المقطعات في ديوانه: 171، 71، 142، 200، 172. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 87 ومن شعره: يا رب لا أقوى على دفع (1) الأذى ... وبك استعنت على الضعيف الموذي ما لي بعثت إلي ألف بعوضة ... وبعثت واحدة إلى نمروذ ومن شعره على ما حكاه ابن بسام في " الذخيرة " (2) : أسلمني حب سليمانكم ... إلى هوى أيسره القتل قالت لنا جند ملاحاته ... لما بدا ما قالت النمل قوموا ادخلوا مسكنكم قبل أن ... تحطمك أعينه النجل وله وقد كبر وضعف مشيه، وهو معنى غريب: إذا ما خففت كعهد الصبا ... أبت ذلك الخمس والأربعونا وما ثقلت كبراً وطأتي ... ولكن أجر ورائي السنينا وله أيضاً: وقائلة ماذا الشحوب وذا الضنى ... فقلت لها قول المشوق المتيم هواك أتاني وهو ضيف أعزه ... فأطعمته لحمي واسقيته دمي ومن تصانيفه أيضاً: " قراضة الذهب "، وهو لطيف الجرم (3) كبير الفائدة، وله كتاب " الشذوذ " في اللغة، يذكر فيه كل كلمة جاءت شاذة في بابها. [وكتاب " طراز الأدب " وكتاب " الممادح والمذام " وكتاب " متفق التصحيف " وكتاب " تحرير الموازنة " وكتاب " الاتصال " وكتاب " المن والفداء " وكتاب " غريب الأوصاف التشبيهات لما انفرد به المحدثون " وكتاب " أرواح الكتب " وكتاب " شعراء الكتاب " وكتاب " المعونة " في   (1) أ: حمل. (2) في المسودة: في الخريدة، وهو وهم. (3) ج: الحجم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 88 الرخص والضرورات وكتاب " الرياحين " وكتاب " صدق المدائح " وكتاب " الأسماء المعربة " وكتاب " إثبات المنازعة " وكتاب " معالم التاريخ " وكتاب " التوسع في مضايق القول " وكتاب " الحيلة والاحتراس "] (1) . [وكانت بينه وبين أبي عبد الله محمد بن أبي سعيد بن أحمد المعروف بابن شرف القيرواني وقائع وماجريات يطول شرحها، وقصدنا الاختصار] (2) . ورشيق: بفتح الراء وكسر الشين المعجمة وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها قاف. والمسيلة: قد تقدم ذكرها فلا حاجة إلى إعادته. 166 - (3) ابن أبي الشخباء الشيخ المجيد أبو علي الحسن بن عبد الصمد بن أبي الشخباء العسقلاني صاحب الخطب المشهور والرسائل المحبرة؛ كان من فرسان النثر، وله فيه اليد الطولى. ويقال: إن القاضي الفاضل، رحمه الله تعالى، كان جل اعتماده على حفظ كلامه وإنه كان يستحضر أكثره. وذكره عماد الدين الأصبهاني في " الخريدة " فقال: " المجيد مجيد كنعته، قادر على ابتداع الكلام ونحته، له " الخطب البديعة والملح الصنيعة "، وذكره ابن بسام في الذخيرة وسرد له جملة من الرسائل، وذكر هذا المقطوع من نظمه، وهو من بعض قصيد:   (1) زيادة من ر د. (2) تكرر ما بين معقفين لتداخل الترجمات من النسخ المختلفة، وهذا موضع العبارة في المسودة. (3) ترجمة ابن أبي الشخباء في الخريدة قسم العسقلاني) ومعجم الأدباء 9: 152 وفيه الحسن ابن محمد بن عبد الصمد والذخيرة (القسم الرابع - وهو الجزء الخاص بغير الأندلسيين) وأورد له صاحب الريحان والريعان جملة من رسائله وخطبه، ولعله اعتمد في ذلك على الذخيرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 89 ما زال يختار الزمان ملوكه ... حتى أصاب المصطفى المتخيرا قل للألى ساسوا الورى وتقدموا ... قدما هلموا شاهدوا المتأخرا تجدوه أوسع في السياسة منكم ... صدراً وأحمد في العواقب مصدرا إن كان رأي شاوروه أحنفاً ... أو كان بأس نازلوه عنترا قد صام والحسنات ملء كتابه ... وعلى مثال صيامه قد أفطر ولقد تخوفك العدو بجهده ... لو كان يقدر أن يرد مقدرا إن أنت لم تبعث إليه ضمراً ... جرداً بعثت إليه كيداً مضمرا يسري ما حملت رجال أبيضاً ... فيه ولا ادرعت كماة أسمرا خطروا إليك فخاطروا بنفوسهم ... وأمرت سيفك فيهم أن يخطرا عجبوا لحلمك أن تحول سطوة ... وزلال خلقك كيف عاد مكدرا لا تعجبوا من رقة وقساوة ... فالنار تقدح من (1) قضيب أخضرا وقد اقتصرت منها على هذا القدر خوفاً من التطويل (2) . ومن المنسوب إلى ابن أبي الشخباء أيضاً قوله: يا سيف نصري والمهند يانع ... وربيع أرضي والسحاب مصاف أخلاقك الغر النميرة ما لها ... حملت قذى الواشين وهي سلاف والإفك في مرآة رأيك ما له ... يخفى وأنت الجوهر الشفاف ورأيت في ديوانه البيتين المشهورين: حجاب وإعجاب وفرط تصلف ... ومد يد نحو العلا بتكلف ولو كان هذا من وراء كفاية ... عذرنا ولكن من وراء تخلف [ومن شعره أيضاً: يجود بالماء غيث السحب منقطعاً ... وغيث كفك بالأموال متصل   (1) المسودة: في. (2) أد: الإطالة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 90 جاري نداك ولم يظفر ببغيته ... فحمرة البرق في حافاته خجل ومن شعره: ومهفهف علق السقام بطرفه ... وسرى فخيم في معاقد خصره مزقت أثواب الظلام بثغره ... ثم انثنيت أحوكها من شعره] (1) وذكر أنه توفي مقتولاً بخزانة البنود، وهي سجب بمدينة القاهرة المعزية، سنة اثنتين وثمانين وأربعمائة، رحمه الله تعالى. والشخباء: بفتح الشين المثلثة وسكون الخاء المعجمة وبعد الباء الموحدة ألف ممدودة. والعسقلاني: نسبة إلى مدينة عسقلان وهي مشهورة على الساحل. 167 - (2) ابن زولاق أبو محمد الحسن بن إبراهيم بن الحسين بن الحسن بن علي بن خالد (3) بن راشد بن عبد الله بن سليمان بن زولاق الليثي مولاهم (4) المصري، كان فاضلاً في التاريخ، وله فيه مصنف جيد، وله كتاب في خطط مصر استقصى فيه، وكتاب " أخبار قضاة مصر " جعله ذيلاً على كتاب أبي عمر محمد بن يوسف بن يعقوب الكندي الذي ألفه في   (1) البيتان الأولان في د وهامش س والتاليان في د وحدها. (2) ترجمة المؤرخ ابن زولاق في ابن كثير 11: 321 وتاريخ ابن الوردي 1: 351 ولسان الميزان 2: 191، ومن كتابه " سيرة الاخشيد " احتفظ ابن سعيد في المغرب بقطعة وافرة. وله أيضاً سيرة ابن طولون وسيرة خمارويه (انظر تاريخ بروكلمان 1: 129) . (3) س: خلف. (4) مولاهم: سقطت من س. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 91 أخبار قضاة مصر وانتهى فيه إلى سنة ست وأربعين ومائتين، فكمله ابن زولاق المذكور، وابتدأ بذكر القاضي بكار بن قتيبة، وختمه بذكر محمد بن النعمان، وتكلم على أحواله إلى رجب سنة ست وثمانين وثلثمائة؛ وكان جده الحسن بن علي من العلماء المشاهير. وكانت وفاته - أعني أبا محمد - يوم الثلاثاء الخامس والعشرين من ذي القعدة سنة سبع وثمانين وثلثمائة، رحمه الله تعالى. ورأيت في كتابه الذي صنفه في أخبار قضاة مصر، في ترجمة القاضي أبي عبيد، أن الفقيه منصور بن إسماعيل الضرير توفي في جمادى الأولى سنة ست وثلثمائة، ثم قال: قبل مولدي بثلاثة أشهر، فعلى هذا التقدير تكون ولادة ابن زولاق المذكور في شعبان سنة ست وثلثمائة. وروى عن الطحاوي. وزولاق: بضم الزاي وسكون الواو وبعد اللام ألف قاف. والليثي - بفتح اللام وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها ثاء مثلثة - هذه النسبة إلى ليث بن كنانة، وهي قبيلة كبيرة. قال ابن يونس المصري: هو ليثي بالولاء. 168 - (1) ملك النحاة أبو نزار الحسن بن أبي الحسن صافي بن عبد الله بن نزار بن أبي الحسن النحوي المعروف بملك النحاة؛ ذكره العماد الكاتب في " الخريدة " فقال: كان من الفضلاء المبرزين، وحكى ما جرى بينهما من المكاتبات بدمشق، وبرع في   (1) ترجمة ملك النحاة في تهذيب ابن عساكر 4: 166 وانباه الرواة 1: 305 ومرآة الزمان: 295 وابن الدبيثي: 281 ومعجم الأدباء 8: 122 وطبقات السبكي 4: 210 وابن كثير 12: 272 وبغية الوعاة: 220 والخريدة (قسم العراق) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 92 النحو حتى صار أنحى أهل طبقته (1) ، وكان فهماً فصيحاً ذكياً إلا أنه كان عنده عجب بنفسه وتيه، لقب نفه ملك النحاة، وكان يسخط على من يخاطبه بغير ذلك. وخرج عن بغداد بعد العشرين (2) وخمسمائة، وسكن واسط مدة، وأخذ عنه جماعة من أهلها أدباً كثيراً، واتفقوا على فضله ومعرفته. وذكره أبو البركات ابن المستوفي في " تاريخ إربل " فقال: ورد إربل وتوجه إلى بغداد سومع بها الحديث، وقرأ مذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه وأصول الدين على أبي عبد الله القيرواني، والخلاف على أسعد الميهني، وأصول الفقه على أبي الفتح ابن برهان صاحب " الوجيز " و " الوسيط " في أصول الفقه، وقرأ النحو على الفصيحي، وكان الفصيحي قد قرأ على عبد القاهر الجرجاني صاحب " الجمل الصغرى " (3) . ثم سافر إلى خراسان وكرمان وغزنة، ثم رحل إلى الشام واستوطن دمشق، وتوفي بها يوم الثلاثاء ثامن شوال، ودفن يوم الأربعاء تاسعه سنة ثمان وستين وخمسمائة وقد ناهز الثمانين، ودفن بمقبرة باب الصغير، رحمه الله تعالى. [ثم ظفرت بمولده في سنة تسع وثمانين وأربعمائة، بالجانب الغربي من بغدادبشارع دار الرقيق] (4) . وله مصنفات كثيرة في الفقه والأصلين والنحو (5) ، وله ديوان شعر، ومدح النبي صلى الله عليه وسلم بقصيدة (6) ، ومن شعره: سلوت بحمد الله عنها فأصبحت ... دواعي الهوى من نحوها لا أجيبها   (1) ر: زمانه. (2) ص: بعد العشر. (3) س: الصغير. (4) ما بين معقفين انفردت به س. (5) من مصنفاته: الحاوي والعمد والمنتخب وكلها في النحو، وله أيضاً المقتصد في التصويف وأسلوب الحق في القراءات والتذكرة السفرية والحاكم في فقه الشافعي ومختصر في أصول الفقه ومختصر في أصول الدين. (6) ص: بقصائد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 93 على أنني لا شامت إن أصابها ... بلاء، ولا راض بواش يعيبها وله أشياء حسنة، وكان مجموع فضائل. 169 - (1) أبو محمد العسكري أبو محمد الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى الرضا بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم؛ أحد الأئمة الاثني عشر على اعتقاد الإمامية، وهو والد المنتظر صاحب السرداب ويعرف بالعسكري، وأبوه علي يعرف أيضاً بهذه النسبة - وسيأتي ذكره وذكر بقية الأئمة إن شاء الله تعالى -. وكانت ولادة الحسن المذكور يوم الخميس في بعض شهور سنة إحدى وثلاثين ومائتين وقيل سادس شهر ربيع الأول، وقيل الآخر، سنة اثنتين وثلاثين ومائتين (2) . وتوفي يوم الجمعة، وقيل يوم الأربعاء لثماني ليال خلون من شهر ربيع الأول، وقيل جمادى الأولى سنة ستين ومائتين بسر من رأى، ودفن بجنب (3) قبر أبيه، رحمهما الله تعالى. والعسكري - بفتح العين المهملة وسكون السين المهملة وفتح الكاف وبعدها راء - هذه النسبة إلى سر من رأى. ولما بناها المعتصم وانتقل إليها بعسكره   (1) ترجمة أبي محمد العسكري في الأئمة الأثني عشر: 113، وراجع الصفحة المقابلة في مصادر ترجمته وانظر مصادر أخرى في حاشية الأعلام للزركلي 2: 216. (2) وقيل سادس ... ومائتين، سقط من س م ر. (3) ص: إلى جانب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 94 قيل لها العسكر (1) ، وإنما نسب الحسن المذكور إليها لأن المتوكل أشخص أباه عليا إليها (2) وأقام بها عشرين سنة وتسعة أشهر، فنسب هو وولده إليها. 170 - (3) أبو نواس أبو علي الحسن بن هانئ بن عبد الأول بن الصباح المعروف بأبي نواس الحكمي الشاعر المشهور؛ كان جده مولى الجراح بن عبد الله الحكمي والي خراسان، ونسبته إليه. ذكر محمد بن داود بن الجراح في كتاب " الورقة " (4) أن أبا نواس ولد بالبصرة ونشأ بها، ثم خرج إلى الكوفة مع والبة بن الحباب، ثم صار إلى بغداد. وقال غيره: إنه ولد بالأهواز ونقل منها وعمره سنتان. وأمه أهوازية اسمها جلبان، وكان أبوه من جند مروان بن محمد، آخر ملوك بني أمية، وكان من أهل دمشق، وانتقل إلى الأهواز للرباط فتزوج جلبان وأولدها عدة أولاد منهم: أبو نواس وأبو معاذ؛ فأما أبو نواس فأسلمته أمه إلى بعض العطارين، فرآه أبو أسامة والبة بن الحباب، فاستحلاه (5) ، فقال له: إني أرى فيك مخايل،   (1) س: العسكرية. (2) أ: أباه عاملاً عليها. (3) ترجمة أبي نواس في الأغاني 20: 3 وتاريخ بغداد 7: 436 والشعر والشعراء: 680 وتهذيب ابن عساكر 4: 254 وطبقات ابن المعتز: 193 والموشح: 263 ونزهة الألباء: 249، ولابن منظور كتاب مفرد في أخباره وكذلك لأبي هفان، وانظر بروكلمان 2: 24 (من الترجمة العربية) . (4) لم يرد هذا في كتاب الورقة المطبوع، وهذا القسم الذي طبع لا يمثل كتاب الورقة لأنه أخل بترجمات كثيرة. (5) ر: فاستحسنه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 95 أرى لك أن لا تضيعها، وستقول الشعر، فاصحبني أخرجك (1) ، فقال لهك ومن أنت فقال: أنا أبو أسامة والبة بن الحباب، فقال: نعم، أنا والله في طلبك، ولقد أردت الخروج إلى الكوفة بسبب لآخذ عنك وأسمع منك شعرك؛ فصار أبو نواس معه وقدم به بغداد، فكان أول ما قاله من الشعر، وهو صبي (2) : حامل الهوى تعب ... يستخفه (3) الطرب إن بكى يحق له (4) ... ليس ما به لعب تضحكين لاهية ... والمحب ينتحب تعجبين من سقمي ... صحتي هي العجب وهي أبيات مشهورة. وروى أن الخصيب صاحب ديوان الخراج بمصر سأل أبا نواس عن نسبه فقال: أغناني أدبي عن نسبي، فأمسك عنه. وقال إسماعيل بن لوبخت: ما رأيت قط أوسع علماً من أبي نواس، ولا أحفظ منه مع قلة كتبه، ولقد فتشنا منزله بعد موته فما وجدنا له إلا قمطراً فيه جزاز مشتمل على غريب ونحو لا غير. وهو في الطبقة الأولى من المولدين، وشعره عشرة أنواع، وهو مجيد في العشرة، وقد اعتنى بجمع شعره جماعة من الفضلاء: منهم أبو بكر الصولي وعلي بن حمزة وإبراهيم بن أحمد بن محمد الطبري المعروف بتوزون، فلهذا يوجد ديوانه مختلفاً، ومع شهرة ديوانه لا حاجة إلى ذكر شيء منه. [وكان أبو نواس قوي البديهة والارتجال؛ روي أن الخصيب قال له مرة   (1) أخرجك: سقطت من س. (2) ديوانه: 366؛ ولم يرد في س من هذه الأبيات غير بيت واحد. (3) ر س: يستفزه. (4) الديوان: فحق له. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 96 وهو بالمسجد الجامع: أنت غير مدافع في الشعر ولكنك لا تخطب، فقام من فوره فقال مرتجلاً: نحلتكم يا أهل مصر نصيحتي ... ألا فخذوا من ناصح بنصيب رماكم أمير المؤمنين بحية ... أكول لحيات البلاد شروب فإن يك باقي إثم فرعون فيكم ... فإن عصا موسى بكف خصيب ثم التفت إليه وقال: والله لا يأتي بمثلها خطيب مصقع فكيف رأيت فاعتذر إليه وحلف: ما كنت إلا مازحاً] (1) . ورأيت في بعض الكتب أن المأمون كان يقول: لو وصفت الدنيا نفسها لما وصفت بمثل قول أبي نواس (2) : ألا كل حي هالك (3) وابن هالك ... وذو نسب في الهالكين عريق إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت ... له عن عدو في ثياب صديق والبيت الأول ينظر إلى قول امرئ القيس (4) : فبعض اللوم عاذلتي فإني ... سيكفيني التجارب وانتسابي إلى عرق الثرى وشجت عروقي ... وهذا الموت يسلبني شبابي وقد سبق في ترجمة الحسن البصري نظير هذا المعنى. وما أحسن ظنه بربه عز وجل حيث يقول (5) : [تكثر ما استطعت من الخطايا ... إذا كان القدوم على كريم وقال وهي من رواية أخرى:]   (1) زيادة من د. (2) ديوانه: 192. (3) الديوان: أرى كل حي هالكاً. (4) ديوان امرئ القيس: 97 - 98. (5) لم ترد في باب الزهد من ديوانه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 97 تكثر ما استطعت من الخطايا ... فإنك بالغ ربا غفورا ستبصر إن وردت عليه عفواً ... وتلقى سيداً ملكاً كبيرا تعض ندامة كفيك مما ... تركت مخافة النار السرورا (1) وهذا من أحسن المعاني وأغربها؛ وأخباره كثيرة. ومن شعره الفائق المشهور قصيدته الميمية التي حسده عليها أبو تمام حبيب المقدم ذكره ووازنها بقوله (2) : دمن ألم بها فقال سلام ... كم حل عقدة صبره الإلمام وأول قصيدة أبي نواس المشار إليها، وهي مما مدح به الأمين محمد بن هارون الرشيد أيام خلافته (3) : يا دار ما صنعت (4) بك الأيام ... لم يبق فيك بشاشة تستام (5) يقول من جملتها في صفة ناقته: وتجشمت بي هول كل تنوفة ... هوجاء فيها جرأة إقدام تذر المطي وراءها فكأنها ... صف تقدمهن وهي إمام وإذا المطي بنا بلغن محمداً ... فظهورهن على الرجال حرام وهذا البيت له حكاية سيأتي ذكرها في ترجمة ذي الرمة غيلان الشاعر المشهور. (18) وقد أذكرني هذا البيت واقعة جرت لي مع صاحبنا جمال الدين محمود   (1) أد: الشرورا. (2) ديوان أبي تمام 3: 150. (3) ديوان أبي نواس: 63. (4) الديوان: فعلت. (5) الديوان: ضامتك والأيام ليس تضام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 98 ابن عبد الله الإربلي الأديب المجيد في صناعة الألحان وغير ذلك، فإنه جاءني إلى مجلس الحكم العزيز بالقاهرة المحروسة في بعض شهور سنة خمس وأربعين وستمائة وقعد عندي ساعة، وكان الناس يزدحمون (1) لكثرة أشغالهم حينئذ، ثم نهض وخرج، فلم أشعر إلا وقد حضر غلامه وعلى يده رقعة مكتوب فيها هذه الأبيات: يا أيها المولى الذي بوجوده ... أبدت محاسنها لنا الأيام إني حججت إلى مقامك حجة ال ... أشواق لا ما يوجب الإسلام وأنخت بالحرم الشريف مطيتي ... فتسربت واستاقها الأقوام فظللت أنشد عند نشداني لها ... بيتاً لمن هو في القريض إمام " وإذا المطي بنا بلغن محمداً ... فظهورهن على الرجال حرام " فوقفت عليها وقلت لغلامه: ما الخبر فذكر أنه لما قام من عندي وجد مداسة قد سرق، فاستحسنت منه هذا التضمين. والعرب يشبهون النعل بالراحلة، وقد جاء هذا في شعر المتقدمين والمتأخرين، واستعمله المتنبي في مواضع من شعره. ثم جاءني من بعد جمال الدين المذكور، وجرى ذكر هذه الأبيات، فقلت له: ولكن أنا اسمي أحمد، لا محمد، فقال: علمت ذلك، ولكن أحمد ومحمد سواء، وهذا التضمين حسن ولو كان الاسم أي شيء كان. وكان محمد الأمين المقدم ذكره قد سخط على أبي نواس لقضية جرت له معه، فتهدده بالقتل وحبسه، فكتب إليه من السجن (2) : بك أستجير من الردى ... متعوذاً من سطو باسك وحياة رأسك لا أعو ... ذ لمثلها، وحاية رأسك من ذا يكون أبا نوا ... سك إن قتلت أبا نواسك (3)   (1) هـ: مزدحمين. (2) ديوانه: 107. (3) قوله: ومن شعره الفائق حتى هذا الموضع لم يرد في المسودة، وعند موضعه علامة تحويل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 99 وله معه وقائع كثيرة. [حدث أحمد بن معاوية الباهلي عن عطاء الملك قال: دخلنا المسجد الجامع فإذا على السارية - مكتوب بخط جليل - التي إليها أبو عبيدة يجلس: صلى الإله على لوط وشيعته ... أبا عبيدة قل بالله آمينا قال: فقال لي أبو عبيدة: امحه، قلت: لا أناله، فركع وارتفعت على ظهره حتى محوته فقلت: لم يبق إلا الطاء، فقال: الطامة في الطاء، فمحوتها، فلما جلس قال: والله ما أتهم بهذا إلا الخبيث الماجن المتهنك - يعني أبا نواس -؛ قال: فبلغ قوله أبا نواس، فحلف أنه لم يفعل ذلك، فقبل يمينه. وكان أبو عبيدة يحب أبا نواس ويقدمه لظرفه وأدبه، وكان أبو نواس يتعلم من أبي عبيدة ويشنأ الأصمعي ويهجوه، فقيل له: ما تقول في الأصمعي فقال: بلبل في قفص؛ قيل: فما تقول في خلف الأحمر قال: جمع العلم وفهمه؛ قيل: فما تقول في أبي عبيدة قال: ذاك أديم طوي على علم] (1) . [وكان بمصر رجل يعرف بالحسن بن عمر الأجهري يقول الشعر الضعيف، وكان ناقص العقل، فقيل له: إن أردت أن يعلو شأنك في الشعر فاهج أبا نواس، فأتاه وهو جالس في المجلس والناس حوله فأنشده: ألا قل للنواسي الض ... عيف الحال والقدر خبرنا منك أحوالاً ... فلم نحمدك في الخبر وما روعت بالمنظ ... ر ولكن رعت بالكدر قال: وكان هذا الشاعر من أوحش الناس صورة، فنظر إليه أبو نواس وقال: بم أهجوك وبأي شيء أصفك وقد سبقني الله تعالى إلى توحش منظرك وتقبيح مخبرك وهل أكون إن قلت شيئاً إلا سارقاً من ربي ومتكلفاً   (1) زيادة من ر ص. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 100 على ما قد كفاني فقال له بعض من معه: اهجه على حال لا نقول إنه أفحمك، فقال من وزن شعره: بما أهجوك لا أدري ... لساني فيك لا يجري إذا فكرت في هجو ... ك أبقيت على شعري قال: فقاموا على أبي نواس فقبلوا رأسه وصفقوا الأيدي جهرا] (1) . [حدث الصولي عن عبد الله بن محمد بن حفص قال: غلست يوماً إلى المسجد فإذا بأبي نواس يكلم امرأة عند باب المسجد، وكنت أعرفه في مجالس الحديث والآداب، فقلت له: مثلك يقف هذا الموقف بحق أو باطل فاعتذر ثم كتب إلي ذلك اليوم هذه الأبيات: إن التي أبصرتها ... سحراً تكلمني رسول دست إلي رسالة ... كادت لها نفسي تزول من واضح الخدين يق ... صر خطوه ردف ثقيل متنكب قوس الصبا ... يرمي وليس له رسيل فلو أن أذنك عندنا ... حتى تسمع ما تقول لرأيت ما استقبحت من ... أمري لديك هو الجميل] (2) [وحكى الصولي عن إسماعيل بن نصر أخي محمد بن نصر الذي يقول فيه أبو نواس من جملة قصيد: فصلى هذه في وقت هذي ... فكل صلاته أبداً قضاء وذاك محمد تفديه نفسي ... وحق له وقل له الفداء] قال: رأيت أبا نواس وقد صلى الظهر وقام يتطوع فقلت له: ما بدا لك في   (1) زيادة انفردت بها ر. (2) زيادة من ص ر وقد استطردت النسختان بعد ذلك إلى ذكر حكاية طويلة قليلة الأهمية في ترجمة أبي نواس، لا نظن أن المؤلف يتورط في إيراد أمثالها، ولذلك لم نثبتها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 101 هذا قال: ليصعد إلى السماء اليوم خبر ظريف. حكى الصولي عن أبي العتاهية قال: لقيت أبا نواس في المسجد الجامع فعذلته وقلت له: أما آن لك أن ترعوي أما حان لك أن تزدجر فرفع رأسه إلي وقال: أتراني يا عتاهي ... تاركاً تلك الملاهي أتراني مفسداً بالنس ... ك عند القوم جاهي قال: فلما ألححت عليه بالعذل أنشأ يقول: لن ترجع الأنفس عن غيها ... ما لم يكن منها لها زاجر قال: فوددت اني قلت هذا البيت بكل شيء قلته. وقال أبو العتاهية: قد قلت عشرين ألف بيت في الزهد وددت أن لي مكانها الأبيات الثلاثة التي قالها أبو نواس وهي: يا نواسي توقر ... وتعز وتصبر إن يكن ساءك دهر ... فلما سرك أكثر يا كبير الذنب عفو الله عن ذنبك أكبر ... وأشيع عن أبي نواس أنه رجع عما كان عليه من البطالة وشرب الخمر وزهد في اللذات، فاجتمع أصحابه وأقبلوا عليه يهنئونه بذلك، فوضع بين يديه باطية وجعل لا يدخل عليه أحد يهنئه إلا شرب بين يديه رطلاً وأنشد: قالوا نزعت ولما يعلموا وطري ... في كل أغيد ساجي الطرف مياس كيف النزوع وقلبي قد تقسمه ... لحظ العيون وقرع السن بالكاس قال محمد بن نافع: كان أبو نواس لي صديقاً، فوقع بيني وبينه هجرة في آخر عمره، ثم بلغتني وفاته فتضاعف علي الحزن؛ فبينا أنا بين النائم واليقظان إذا رأيته فقلت: أبا نواس قال: لات حين كنية، قلت: الحسن بن هانئ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 102 قال: نعم، قلت: ما فعل الله بك قال: غفر لي بأبيات قلتها في علتي قبل موتي وهي تحت الوسادة؛ فأتيت أهله فلما رأوني أجهشوا بالبكاء فقلت لهم: قال أخي شعراً قبل موته، قالوا: لا نعلم إلا أنه دعا بدواة وقرطاس وكتب شيئاً لا ندري ما هو، قلت: ايذنوا لي أدخل؛ قال: فدخلت إلى مرقده فإذا ثيابه لم تحرك بعد، فرفعت وسادة فلم أر شيئاً ثم رفعت أخرى فإذا أنا برقعة فيها مكتوب: يا رب إن عظمت ذنوبي كثرة ... فلقد علمت بأن عفوك أعظم إن كان لا يدعوك إلا محسن ... فمن الذي يرجو ويدعو المجرم أدعوك رب كما أمرت تضرعاً ... فإذا رددت يدي فمن ذا يرحم ما لي إليك وسيلة إلا الرجا ... وجميل عفوك ثم أني مسلم] (1) وقد سبق في ترجمة أبي عرم أحمد بن دراج القسطلي ذكر بعض قصيدة أبي نواس الرائية (2) . وذكره الخطيب أبو بكر في " تاريخ بغداد " وقال: ولد في سنة خمس وأربعين وقيل سنة ست وثلاثين ومائة، وتفي في سنة خمس، وقيل ست، وقيل ثمان وتسعين ومائة ببغداد، ودفن في مقابر الشونيزي، رحمه الله تعالى. وإنما قيل له أبو نواس لذؤابتين كانتا له تنوسان على عاتقيه. والحكمي - بفتح الحاء المهملة والكاف وبعدها ميم - هذه النسبة إلى الحكم بن سعد الشعيرة، قبيلة كبيرة باليمن منها الجراح بن عبد الله الحكمي، وكان أمير خراسان، وقد تقدم أن أبا نواس من مواليه فنسب إليه. وقد تقدم الكلام على سعد العشيرة في ترجمة المتنبي في حرف الهمزة. وأما الصولي فتأتي ترجمته في المحمدين، وعلي بن حمزة لم أقف له على ترجمة (3) .   (1) زيادة من ص ر. (2) انظر الجزء الأول ص: 135: 188. (3) قد صرح ابن النديم (الفهرست: 160) أن علي بن عمزة الأصفهاني عمل ديوان أبي نواس على الحروف، وقد ترجم ياقوت (معجم الأدباء 13: 203) لعلي بن حمزة الأصفهاني هذا ويؤخذ من ترجمته أنه من رجال القرن الثالث. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 103 (19) وتوزون أخذ الأدب عن أبي عمر الزاهد وبرع فيه، وكان يسكن بغداد، وتوفي في جمادى الأولى سنة خمس وخمسين وثلثمائة، رحمه الله تعالى. 171 - (1) ابن وكيع التنيسي أبو محمد الحسن بن علي بن أحمد بن محمد بن خلف بن حيان بن صدقة بن زياد الضبي المعروف بابن وكيع التنيسي الشاعر المشهور؛ أصله من بغداد ومولده بتنيس. ذكره أبو منصور الثعالبي في " يتيمة الدهر "، وقال في حقه: " شاعر بارع، وعالم جامع، قد برع على أهل زمانه، فلم يتقدمه أحد في أوانه، وله كل بديعة تسحر (2) الأوهام، وتستعبد الأفهام "، وذكر مزدوجته المربعة (3) ، وهي من جيد النظم، وأورد له غيرها، وله ديوان شعر جيد، وله كتاب بين فيه سرقات ابي الطيب المتنبي سماه " المنصف " (4) ، وكان في لسانه عجمة، ويقال له العاطس، ومن شعره (5) : سلا عن حبك القلب المشوق ... فما يصبو إليك ولا يتوق جفاؤك كان عنك لنا عزاء ... وقد يسلي عن الولد العقوق وله أيضاً:   (1) ترجمة ابن وكيع التنيسي في اليتيمة 1: 372 - 400. (2) أج: نظم يسحر. (3) قصيدة كل أربعة أشطار منها على قافية وأولها: رسالة من كلف عميد ... حياته في قبضة الصدود بلغه الشوق مدى المجهود ... ما فوق ما يلقاه من مزيد (4) من هذا الكتاب قطعة تمثل الجزء الأول (جامعة ييل: 167) . (5) هذه القطعة والتي تليها في اليتيمة: 396، 397. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 104 [كأنها في الكؤوس إذ جليت ... من عسجد رق لونه وصفا أغضبها الماء حين مازجها ... وأزبدت في كؤوسها أنفا در حباب يود مبصره ... لو كان يوماً لأذله شنفا وله أيضاً] (1) : إن كان قد بعد اللقاء فودنا ... دان، ونحن على النوى أحباب كم قاطع للوصل يؤمن وده ... ومواصل بوداده يرتاب وله أيضاً: لقد شمت بقلبي ... لا فرج الله عنه كم لمته في هواه ... فقال لابد منه ولقد ألم به بعضهم فقال: لا رعى الله عزمة ضمنت لي ... سلوة القلب والتصبر عنه ما وفت غير ساعة ثم عادت ... مثل قلبي تقول لابد منه ومثله قول أسامة بن منقذ الشيزري المقدم ذكره (2) : لا تستعر جلداً عن هجرانهم ... فقواك تضعف عن صدود دائم واعلم بأنك إن رجعت إليهم ... طوعاً، وغلا عدت عودة راغم وقال بعض الفقهاء: أنشدت الشيخ مرتضى الدين أبا الفتح نصر بن محمد بن مقلد القضاعي الشيزري المدرس كان بتربة الإمام الشافعي رضي الله عنه بالقرافة لابن وكيع المذكور: لقد قنعت همتي بالخمول ... وصدت عن الرتب العاليه   (1) زيادة من ر. (2) ديوان أسامة: 42. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 105 وما جهلت طيب طعم العلا ... ولكنها تؤثر العافية فأنشدني لنفسه على البديهة: بقدر الصعود يكون الهبوط ... فإياك والرتب العاليه وكن في مكان إذا ما سقطت ... تقوم ورجلاك في عافيه وله أيضاً - أعني ابن وكيع (1) -: أبصره عاذلي عليه ... ولم يكن قبل ذا رآه فقال لي لو هويت هذا ... ما لامك الناس في هواه قل لي إلى من عدلت عنه ... فليس أهل الهوى سواه فظل من حيث ليس يدري ... يأمر بالحب من نهاه وكنت أنشدت هذه الأبيات لصاحبنا الفقيه شهاب الدين محمد ولد الشيخ تقي الدين عبد المنعم المعروف بالخيمي فأنشدني لنفسه في المعنى: لو رأى وجه حبيبي عاذلي ... لتفاصلنا على وجهٍ جميل وهذا البيت من جملة أبيات، ولقد أجاد فيه وأحسن في التورية. وله كل معنى حسن. وكانت وفاة ابن وكيع المذكور يوم الثلاثاء لسبع بقين من جمادى الأولى سنة ثلاث وتسعين وثلثمائة بمدينة تنيس، ودفن في المقبرة الكبرى في القبة التي بنية له بها، رحمه الله تعالى. (20) ووكيع (2) - بفتح الواو وكسر الكاف وسكون الياء المثناة من تحتها   (1) اليتيمة: 396. (2) انظر ترجمة وكيع " محمد بن خلف " في الفهرست: 114 حيث ورد باسم أبي محمد بكر بن محمد بن خلف (وهو خطأ فيما يبدو) والوافي 3: 43 والمنتظم 6: 152 وابن كثير 11: 130 وغاية النهاية 2: 137، ومن كتبه المطبوعة " أخبار القضاة وتواريخهم ". وله سوى ما ذكره ابن خلكان: كتاب الغرر (أو الغرة) وكتاب المسافر وكتاب التصرف والنقد والسكة وكتاب البحث. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 106 وبعدها عين مهملة - وهو لقب جده أبي بكر محمد بن خلف، وكان نائباً في الحكم بالأهواز لعبدان الجواليقي. وكان فاضلاً نبيلاً فصيحاً من أهل القرآن والفقه والنحو والسير وأيام الناس وأخبارهم، وله مصنفات كثيرة، فمنها: كتاب " الطريق " (1) وكتاب " الشريف " (2) وكتاب " عدد آي القرآن والاختلاف فيه " وكتاب " الرمي والنضال " وكتاب " المكاييل والموازين " وغير ذلك، وله شعر كشعر العلماء. وتوفي يوم الأحد لست بقين من شهر ربيع الأول سنة ست وثلثمائة ببغداد. وقال ابن قانع: توفي عبدان الأهوازي سنة سبع وثلثمائة بعسكر مكرم، رحمه الله تعالى. والتنيسي - بكسر التاء المثناة من فوقها وكسر النون المشددة وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها سين مهملة - نسبة إلى تنيس مدينة بديار مصر بالقرب من دمياط، بناها تنيس بن حام بن نوح عليه السلام فسميت باسمه. (21) وتوفي المرتضى الشيزري المذكور في سنة ثمان وتسعين وخمسمائة بمصر، ودفن بسفح المقطم، رحمه الله تعالى. 172 - (3) ابن العلاف الشاعر أبو بكر الحسن بن علي بن أحمد بن بشار بن زياد المعروف بابن العلاف الضرير النهرواني الشاعر المشهور؛ كان من الشعراء المجيدين، وحدث عن أبي عمر   (1) هذا الكتاب يسمى أيضاً كتاب " النواحي " ويحتوي على أخبار البلدان ومسالك الطرق ولم يتمه. (2) هو على مثال كتاب المعارف لابن قتيبة. (3) انظر ترجمة ابن العلاف الشاعر في نكت الهميان: 139، وقد أورد قصيدته في رثاء الهر، والمنتظم 6: 237. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 107 الدوري المقرئ وحميد بن مشعدة البصري ونصر بن علي الجهضمي ومحمد بن إسماعيل الحساني، وروى عنه عبد الله بن الحسن بن النخاس وأبو الحسن الخراجي القاضي وابو حفص ابن شاهين وغيرهم (1) ، وكان ينادم الإمام المعتضد بالله. وقال (2) : بت ليلة في دار المعتضد مع جماعة من ندامائه، فأتانا خادم ليلاً فقال: أمير المؤمنين يقول: أرقت الليلة بعد انصرافكم فقلت: ولما انتبهنا للخيال الذي سرى ... إذا الدار قفر والمزار بعيد وقد أرتج علي تمامه، فمن أجازه بما يوافق غرضي أمرت له بجائزة، قال: فأرتج على الجماعة وكلهم شاعر فاضل، فابتدرت وقلت: فقلت لعيني عاودي النوم واهجعي ... لعل خيالاً طارقاً سيعود فرجع الخادم إليه ثم عاد فقال: أمير المؤمنين يقول: قد أحسنت، وقد أمر لك بجائزة. وكان لأبي بكر المذكور هر يأنس به، وكان يدخل أبراج الحمام التي لجيرانه ويأكل فراخها، وكثر ذلك منه، فأمسكه أربابها فذبحوه، فرثاه بهذه القصيدة وقد قيل: إنه رثى بها عبد الله بن المعتز - الآتي ذكره إن شاء الله تعالى - وخشي من الإمام المقتدر أن يتظاهر بها لأنه هو الذي قتله، فنسبها إلى الهر وعرض به في أبيات منها، وكانت بينهما صحبة أكيدة. وذكر محمد بن عبد الملك الهمداني في تاريخه الصغير الذي سماه " المعارف المتأخرة " في ترجمة الوزير أبي الحسن علي بن الفرات ما مثاله: قال الصاحب أبو القاسم ابن عباد: أنشدني أبو الحسن ابن أبي بكر العلاف وهو الأكول المقدم في الأكل في مجالس الرؤساء والملوك قصائد أبيه في الهر، وقال: إنما كنى بالهر عن المحسن بن الفرات أيام محنته لأنه لم يجسر أن يذكره ويرثيه. قلت أنا: وهذا المحسن ولد الوزير المذكور، وسيأتي خبر ذلك في ترجمة   (1) وحدث عن.. وغيرهم: سقط من س. (2) انظر المنتظم: 237. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 108 أبيه أبي الحسن علي بن محمد بن الفرات إن شاء الله تعالى. وذكر صاعد اللغوي في كتاب " الفصوص " قال: حدثني أبو الحسن المرزباني قال: هويت جارية لعلي بن عيسى غلاماً لأبي بكر ابن العلاف الضرير، ففطن بهما فقتلا جميعاً وسلخا وحشيت جلودهما تبناً، فقال أبو بكر مولاه هذه القصيدة يرثيه بها وكنى عنه بالهر، والله أعلم. وهي من أحسن الشعر وأبدعه، وعددها خمسة وستون بيتاً، وطولها يمنع من الإتيان بجميعها فنأتي بمحاسنها، وفيها أبيات مشتملة على حكم فنأتي بها، وأولها: يا هر فارقتنا ولم تعد ... وكنت عندي بمنزل الولد فكيف ننفك عن هواك وقد ... كنت لنا عدة من العدد تطرد عنا الأذى وتحرسنا ... بالغيب من حية ومن جرد وتخرج الفأر من مكامنها ... ما بين مفتوحها إلى السدد يلقاك في البيت منهم مدد ... وأنت تلقاهم بلا مدد لا عدد كان منك متفلتاً (1) ... منهم ولا واحد من العدد لا ترهب الصيف عند هاجرة ... ولا تهاب (2) الشتاء في الجمد وكان يجري ولا سداد لهم ... أمرك في بيتنا على سدد حتى اعتقدت الأذى لجيرتنا ... ولم تكن للأذى بمعتقد وحمت حول الردى بظلمهم ... ومن يحم حول حوضه يرد وكان قلبي عليك مرتعداً ... وأنت تنساب غير مرتعد تدخل برج الحمام متئداً ... وتبلغ الفرخ غير متئد وتطرح الريش في الطريق لهم ... وتبلغ اللحم بلع مزدرد أطعمك الغي لحمها فرأى ... قتلك أربابها (3) من الرشد   (1) د: منقلباً. (2) د: تخاف. (3) النكت: أصحابها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 109 حتى إذا داوموك واجتهدوا ... وساعد النصر كيد مجتهد كادوك دهراً فما وقعت وكم ... أفلت من كيدهم ولم تكد فحين أخفرت وانهمكت وكا ... شفت وأسرفت غير مقتصد صادوك غيظاً عليك وانتقموا ... منك وزادوا ومن يصد يصد ثم شفوا بالحديد أنفسهم ... منك ولم يرعووا على أحد ومنها: فلم تزل للحمام مرتصداً ... حتى سقيت الحمام بالرصد لم يرجموا صوتك الضعيف كما ... لم ترث منها لصوتها الغرد أذاقك الموت ربهن كما ... أذقت أفراخه يداً بيد ومنها: كأن حبلاً حوى بجودته ... جيدك للخنق كان ممن مسد كأن عيني تراك مضطرباً ... فيه وفي فيك رغوة الزبد وقد طلبت الخلاص منه فلم ... تقدر على حيلة ولم تجد فجدت بالنفس والبخيل بها ... أنت ومن لم يجد بها يجد فما سمعنا بمثل موتك إذ ... مت ولا مثل عيشك النكد عشت حريصاً يقوده طمع ... ومت ذا قاتل بلا قود ومنها: يا من لذيذ الفراخ أوقعه ... ويحك هلا قنعت بالغدد ألم تخف وثبة الزمان كما ... وثبت في البرج وثبة الأسد عاقبة الظلم لا تنام وإن ... تأخرت مدة من المدد أردت أن تأكل الفراخ ولا ... يأكلك الدهر أكل مضطهد هذا بعيد من القياس وما ... أعزه في الدنو والبعد لا بارك الله في الطعام إذا ... كان هلاك النفوس في المعد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 110 كم دخلت لقمة حشا شره ... فأخرجت روحه من الجسد ما كان أغناك عن تسورك ال ... برج ولو كان جنة الخلد قد كنت في نعمة وفي دعة ... من العزيز المهيمن الصمد تأكل من فأر بيتنا رغداً ... وأين بالشاكرين للرغد وكنت بددت شملهم زمناً ... فاجتمعوا بعد ذلك البدد فلم يبقوا لنا على سبد ... في جوف أبياتنا ولا لبد وفرغوا قعرها وما تركوا ... ما علقته يد على وتد وفتتوا الخبز في السلال فكم ... تفتتت للعيال من كبد ومزقوا من ثيابنا جدداً ... فكلنا في المصائب الجدد ونقتصر من هذه القصيدة على هذا القدر فهو زبدتها. وكانت وفاته سنة ثماني عشرة، وقيل تسع عشرة وثلثمائة، وعمره مائة سنة، رحمه الله تعالى. والنهرواني - بفتح النون وسكون الهاء وفتح الراء والواو وبعد الألف نون - هذه النسبة إلى النهروان، وهي بليدة قديمة بالقرب من بغداد، وقال السمعاني: هي بضم الراء، وليس بصحيح. 173 - (1) أبو الجوائز الواسطي أبو الجوائز الحسن بن علي بن محمد بن باري الكاتب الواسطي؛ كان من الفضلاء، سكن بغداد دهراً طويلاً، وذكره الخطيب في تاريخه فقال: وعلقت   (1) ترجمة ابي الجوائز الواسطي في تاريخ بغداد 7: 393. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 111 عنه أخباراً وحكايات وأناشيد وأمالي عن ابن شكرة الهاشمي وغيره، ولم يكن ثقة، فإنه ذكر لي أنه من ابن سكرة وكان يصغر عن ذلك. وكان أديباً شاعراً حسن الشعر في المديح والأوصاف وغير ذلك، فمما أنشدنيه لنفسه قوله: دع الناس طراً واصرف الود عنهم ... إذا كنت في أخلاقهم لا تسامح ولا تبغ من دهر تظاهر رنقه ... صفاء بنيه فالطباع جوامح وشيئان معدومان في الأرض: درهم ... حلال وخل في الحقيقة ناصح انتهى قول الخطيب. وله تواليف حسان وخط جيد وأشعار رائقة، وقفت له على مقاطيع كثيرة ولم أر له ديواناً ولا أعلم هل دون شعره أم لا. ومن أشعاره السائرة قوله: براني الهوى بري المدى وأذابني ... صدودك حتى صرت أمحل من أمس فلست أرى حتى أراك وإنما ... يبين هباءُ الذر في ألق الشمس [ومن شعره: أقول وجرس الحلي يمنع وصلها ... وقد عاد ذاك القرب وهو بعاد هبي كل ذي نطق يغار عليكم ... فكيف يغار الحلي وهو جماد] (1) ومن شعره أيضاً وفيه لزوم ما لا يلزم: واحزني من قولها ... خان عهودي ولها وحق من صيرني ... وقفاً عليها ولها ما خطرت بخاطري ... إلا كستني ولها وكانت وفاته سنة ستين وأربعمائة، رحمه الله تعالى. وقال الخطيب:   (1) زيادة من ص د. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 112 سمعت أبا الجوائز يقول: ولدت في سنة اثنتين وثمانين وثلثمائة، وغاب عني خبره في سنة ستين وأربعمائة، انتهى كلام الخطيب. قلت: وقد صح أن وفاته كانت في سنة ستين كما ذكرته أولاً، والله أعلم، وإن كان الخطيب لم يصرح به بل اقتصر على انقطاع خبره لا غير. 174 - (1) العلم الشاتاني أبو علي الحسن بن سعيد بن عبد الله بن بندار بن إبراهيم الشاتاني الملقب علم الدين؛ كان فقيهاً غلب عليه الشعر وأجاد فيه واشتهر به، وكان قد ترك بلده ونزل الموصل واستوطنها (2) ، وكان يتردد منها إلى بغداد، وكان الوزير أبو المظفر ابن هبيرة كثير الإقبال عليه والإكرام له. وذكره العماد الكاتب في " الخريدة " [وأثنى عليه] وأورد له أشعاراً، وقال: مدح صلاح الدين بقصيدة أولها: أرى النصر معقوداً برايتك الصفرا ... فسر وافتح (3) الدنيا فأنت بها أحرى ومنها:   (1) ترجمة الشاتاني في مختصر الدبيثي: 279 وطبقات السبكي 4: 210 ومعجم البلدان " شاتان " وتهذيب ابن عساكر 4: 177 وقال: قدم دمشق في سنة 531، وعقد مجلس الوعظ وعاد إلى وطنه ثم انتقل إلى الموصل وخدم دولة أتابك زنكي وولده محمود الملقب نور الدين وروسل إلى الخليفة المقتفي وإلى أطراف وعاد إلى دمشق سنة 568، وانظر أيضاص الألقاب 1/4: 575، ولقبه علم الدين، وكان يعرف بقاع؛ قال العماد: " وكان إذا قيل له يا علم الدين قاع، جرى عليه من ذلك أمر عظيم "، وكان يحفظ جل أشعاره ويوردها من خاطره حتى كأنما يقرأها من كتاب. (2) هـ: واستوطن بها. (3) هـ: واملك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 113 يمينك فيها اليمن واليسر في اليسرى ... فبشرى لمن يرجو الندى بهما بشرى وكان مولده في سنة عشر وخمسمائة وتوفي في شعبان سنة تسع وتسعين وخمسمائة بالموصل، رحمه الله تعالى. وذكره ابن الدبيثي في ذيله، وأثنى عليه. وشاتان - بفتح الشين المعجمة وبعد الألف تاء مثناة من فوقها وبعد الألف الثانية نون - وهي بلد بنواحي ديار بكر (1) . 175 - (2) ناصر الدولة ابن حمدان أبو محمد الحسن الملقب ناصر الدولة ابن أبي الهيجاء عبد الله بن حمدان بن حمدون ابن الحارث بن لقمان بن راشد بن المثنى بن رافع بن الحارث بن غطيف بن محربة بن حارثة بن مالك بن عبيد بن عدي بن أسامة بن مالك بن بكر بن حبيب بن عمرو بن غنم بن تغلب، التغلبي؛ كان صاحب الموصل وما والاها، وتنقلت به الأحوال تارات إلى أن ملك الموصل بعد أن كان نائباً بها عن أبيه، ثم لقبه الخليفة المتقي لله " ناصر الدولة " وذلك في مستهل شعبان سنة ثلاثين وثلثمائة، ولقب أخاه " سيف الدولة " في ذلك اليوم أيضاً، وعظم شأنهما. وكان الخليفة المكتفي بالله قد ولى أباهما عبد الله بن حمدان الموصل وأعمالها في سنة اثنتين وتسعين ومائتين، فسار إليها ودخلها في أول سنة ثلاث وتسعين ومائتين، وكان ناصر الدولة أكبر سناً من أخيه سيف الدولة وأقدم منزلة عند   (1) أ: بديار بكر من نواحيها. (2) أخبار ناصر الدولة في تجارب الأمم وتاريخ ابن الأثير (صفحات كثيرة من الجزء الثامن) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 114 الخلفاء، وكان كثير التأدب معه؛ وجرت بينهما يوماً وحشة، فكتب إليه سيف الدولة: لست أجفو وإن جفيت ولا أت ... رك حقاً علي في كل حال إنما أنت والد والأب الجا ... في يجازى بالصبر والإحتمال [ (1) حكى هلال بن المحسن عن معز الدولة ابن بويه وكان منازلاً لناصر الدولة أبي محمد بن حمدان، فجاءه غلام فقال: إن اغتلت ابن حمدان وقتلته ما يكون لي عليك قال: اقتراحك؛ ووعده وعداً ملأ به صدره، فمضى واختلط بعكسر ناصر الدولة وتوصل إلى أن عرف موضع منامه ليلاً من خيمته، ثم جاء وقد اشتمل على دشنة فدخل الخيمة من تحت الطنب وقد تفرق الناس ونام الحراس فوجد ناصر الدولة نائماً على سرير وفي جانب الخيمة شمعة وعلى بعد منه جماعة، فتأمل موضع رأسه من رجليه ثم أطفأ الشمعة لئلا يصيح إذا جرحه فينذر به ويؤخذ، وجاءه يريد الموضع الذي فيه رأسه، فاتفق أن ناصر الدولة تقلب من جنب إلى جنب فزال عن المكان وجاء الغلام يريد موضعه فغرز الدشنة غرزاً استقصى فيه وظن أنه قد بلغ المراد، فأحسن ناصر الدولة بعدوه فانتبه فرأى الشمعة وقد أطفئت وأطناب الخيمة مرفوعة، فصاح بالغلمان فبادروا وجاءوا بضوء وشاهدوا الصورة فجزع، وأمر بالزيادة في الاحتراس ولم يعلم كيف جرى الأمر، وعاد الرجل فأخبر معز الدولة أنه قد قتل ناصر الدولة فلم يعطه ما وعده به لكنه أطلق له شيئاً وقال لأبي جعفر الصيمري: من يقدم على الملوك مثل إقدام هذا لا يجوز استبقاؤه فضلاً أن يوثق بمكانه، وما الذي يؤمننا أن يبذل لأعدائنا مثل ما بذل لنا فأرحني منه كيف شئت، فأخذه الصيمري فغرقه] . وكتب إليه مرة أخرى وذكرها الثعالبي في " اليتيمة " (2) :   (1) ما بين معقفين زيادة من د، وقارن تجارب الأمم 2: 94. (2) اليتيمة 1: 46 وابن الأثير 8: 580. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 115 رضيت لك العليا وقد كنت أهلها ... وقلت لهم بيني وبين أخي فرق ولم يك بي (1) عنها نكول وإنما ... تجافيت (2) عن حقي فتم لك الحق ولا بد لي من أن أكون مصلياً ... إذا كنت أرضى أن يكون لك السبق [وأورد له أيضاً قوله: قد جرى في دمعه دمه ... فإلى كم أنت تظلمه رد عنه الطرف منك فقد ... خرقته منك أسهمه كيف يسطيع التجلد من ... خطرات الوهم تؤلمه] (3) وكان ناصر الدولة شديد المحبة لأخيه سيف الدولة، فلما توفي سيف الدولة - في التاريخ الآتي ذكره في ترجمته إن شاء الله تعالى - تغيرت أحوال ناصر الدولة وساءت أخلاقه وضعف عقله، إلى أن لم يبق له حرمة عند أولاده وجماعته، فقبض عليه ولده أبو تغلب فضل الله الملقب عدة الدولة المعروف بالغضنفر بمدينة الموصل باتفاق من إخوته، وسيره إلى قلعة أردمشت (4) في حصن السلامة، وذكر شيخنا ابن الأثير في تاريخه أن هذه القلعة هي التي تسمى الآن قلعة كواشي، وذلك في يوم الثلاثاء الرابع والعشرين من جمادى الأولى سنة ست وخمسين وثلثمائة، ولم يزل محبوساً بها إلى أن توفي يوم الجمعة وقت العصر ثاني عشر شهر ربيع الأول سنة ثمان وخمسين وثلثمائة، ونقل إلى الموصل ودفن بتل توبة شرقي الموصل؛ وقيل إنه توفي سنة سبع وخمسين. وقال محمد بن عبد الملك الهمذاني في كتاب " عنوان السير " في آخر ترجمة ناصر الدولة ما مثاله: ولم يزل - يعني ناصر الدولة - مستولياً على ديار الموصل وغيرها حتى قبض عليه ابنه الغضنفر في سنة ست وخمسين وثلثمائة، وكانت   (1) د: وما كان لي. (2) د: تجاوزت. (3) زيادة من د. (4) هـ: اودمست؛ أ: ازدمشت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 116 إمارته هناك اثنتين وثلاثين سنة، وتوفي يوم الجمعة الثاني عشر من شهر ربيع الأول سنة سبع وخمسين وثلثمائة (1) ، رحمه الله تعالى، وقتل أبوه ببغداد وهو يدافع عن الإمام القاهر بالله - وقصته مشهورة - لثلاث عشرة ليلة بقيت من المحرم سنة سبع عشرة وثلثمائة، رحمه الله تعالى. (22) وأما الغضنفر (2) بن ناصر الدولة فإنه جرت له مع عضد الدولة ابن بويه لما ملك بغداد بعد قتله بختيار ابن عمه المقدم ذكره - وقد كان معه في الواقعة التي قتل فيها - قضايا يطول شرحها، وحاصلها أن عضد الدولة قصده بالموصل فهرب منه إلى الشام ونزل بظاهر دمشق، والمستولي عليها قسام العيار، فكتب إلى العزيز بن المعز صاحب مصر يسأله تولية الشام، فأجابه إلى ذلك ظاهراً ومنعه باطناً. فتوجه إلى الرملة في المحرم سنة سبع وستين، وبها المفرج بن الجراح البدوي الطائي، فهري منه ثم جمع له جموعاً وعاد إليه، فالتقيا على بابها في يوم الاثنين لليلة خلت من صفر من السنة، فانهزم أصحابه وأسر وقتل يوم الثلاثاء ثاني صفر المذكور، ومولده يوم الثلاثاء لإحدى عشرة ليلة خلت من ذي القعدة سنة ثمان وعشرين وثلثمائة (3) . ونقلت نسبهم على هذه الصورة من كتاب " أدب الخواص " للوزير أبي القاسم الحسين ابن المغربي، وقال محمد بن أحمد (4) الأسدي النسابة: اسم تغلب دثار، وإنما سمي تغلب لأن أباه وائلاً قصدته اليمن في داره لتسبي أهله، فصرخ في أهله وعشيرته، فنصر على اليمن، وكان تغلب طفلاً، فتبرك به وقال: هذا تغلب، فسمي به (5) .   (1) وقال محمد بن عبد الملك ... وثلثمائة: سقط من س. (2) انظر تاريخ ابن الأثير 8: 692. (3) وأما الغضنفر ... وثلثمائة: سقط من س. (4) ص: أحمد بن محمد. (5) وقال محمد ... فسمي به: سقط من س. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 117 176 - (1) ركن الدولة ابن بويه أبو علي الحسن بن بويه بن فناخسرو الديلمي الملقب ركن الدولة؛ وقد تقدمت تتمة نسبه في حرف الهمزة عند ذكر أخيه معز الدولة أحمد. وكان ركن الدولة المذكور صاحب أصبهان والري وهمذان وجميع عراق العجم، وهو والد عضد الدولة فناخسرو ومؤيد الدولة أبي منصور بويه وفخر الدولة أبي الحسن علي، وكان ملكاً جليل القدر عالي الهمة، وكان أبو الفضل ابن العميد - الآتي ذكره إن شاء الله تعالى - وزيره، ولما توفي استوزر ولده أبا الفتح علياً؛ وكان الصاحب بن عباد وزير ولده مؤيد الدولة، ولما توفي وزر لفخر الدولة - وقد تقدم ذلك في حرف الهمزة في ترجمة الصاحب -. وكان مسعوداً ورزق السعادة في أولاده الثلاثة، وقسم عليهم الممالك فقاموا بها أحسن قيام. وكان ركن الدولة المذكور أوسط الأخوة الثلاثة، وهم عماد الدولة أبو الحسن علي وركن الدولة المذكور ومعز الدولة أبو الحسين أحمد - وقد سبق ذكره - وكان عماد الدولة أكبرهم، ومعز الدولة أصغرهم. [ولما كان في سنة 339 سار الخراسانيون منصور بن قراتكين ومن معه إلى الري، وكان ركن الدولة ببلاد فارس، فلما وصل جرت بينه وبينهم حروب عدة، وضاقت الميرة على الطائفتين وذبحوا دوابهم، ولو أمكن ركن الدولة الانهزام لفعل، فاستشار وزيره أبا الفضل ابن العميد في بعض الليالي في الهرب، فقال: لا ملجأ لك إلا إلى الله تعالى، فانو للمسلمين خيراً وصمم العزم على حسن السيرة والإحسان فإن الحيل البشرية كلها تقطعت بنا وإن انهزمنا تبعونا وأهلكونا وهم أكثر منا فلا يفلت منا أحد، فقال له: قد سبقتك إلى هذا،   (1) أخبار ركن الدولة ابن بويه في ابن الأثير وتجارب الأمم وتاريخ ابن خلدون والمنتظم؛ وراجع آدم متز 1: 30. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 118 فلما كان ثلث الليل الأخير أتاهم الخبر أن منصوراً وعسكره قد عادوا إلى الري وتركوا خيامهم، وكان سبب ذلك أن الميرة والعلوفة ضاقت عليهم أيضاً إلا أن الديلم كانوا يصبرون ويقتنعون بالقليل من الطعام وكان الخراسانية بالضد منهم. وحكى أبو الفضل ابن العميد (1) قال: استدعاني ركن الدولة تلك الليلة في الثلث الأخير وقال لي: قد رأيت الساعة في منامي كأني على دابتي فيروز وقد انهزم عدونا وأنت تسير إلى جانبي وقد جاءنا الفرج من حيث لا نحتسب فممدت عيني فرأيت على الأرض خاتماً فأخذته وإذا فصه من فيروز فجعلته في إصبعي فتبركت به وانتبهت وقد أيقنت بالظفر، فإن الفيروزج معناه الظفر، وكذلك لقب الدابة فيروز، قال ابن العميد: فأتانا الخبر والبشارة بأن العدو قد رحل فما صدقنا حتى تواردت الأخبار، فركبنا ولا نعرف سبب هزيمتهم، وسرنا حذرين من كمين، وسرت إلى جانب ركن الدولة وهو على فرسه فيروز، فصاح ركن الدولة لغلام بين يديه: ناولني ذلك الخاتم، فأخذ خاتماً من الأرض فناوله إياه فإذا هو من فيروزج فجعله في إصبعه وقال: هذا تأويل رؤياي، وهذا الخاتم الذي رأيت من ساعة، وهذا من أحسن ما يحكى وأعجبه. وكان ركن الدولة يقول: مثل خراسان في صعوبة فتحها ونزارة دخلها كابن آوى: يصعب صيده ولا يحصل خيره؛ وهو معنى قول الشاعر: إن ابن آوى لشديد المقتنص ... هو إذا ما صيد ريح في قفص] (2) وتوفي ركن الدولة ليلة السبت لاثنتي عشرة ليلة بقيت من المحرم سنة ست وستين وثلثمائة بالري، ودفن في مشهده. ومولده تقديراً في سنة أربع وثمانين ومائتين، قاله أبو إسحاق الصابئ، وملك أربعاً وأربعين سنة وشهراً وتسعة أيام، وتوى بعده ولده مؤيد الدولة، رحمه الله تعالى.   (1) قارن بما في تجارب الأمم 2: 141. (2) ما بين معقفين انفردت به النسخة د. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 119 177 - (1) الحسن بن سهل أبو محمد الحسن بن سهل بن عبد الله السرخسي؛ تولى وزارة المأمون بعد أخيه ذي الرياستين الفضل وحظي عنده، وقد تقدم في حرف الباء ذكر ابنته بوران وصورة زواجها من المأمون والكلفة التي احتفل بها والدها الحسن فلا حاجة إلى إعادتها. وكان المأمون قد ولاه جميع البلاد التي فتحها طاهر بن الحسين - وقد ذكرته في ترجمته - وكان عالي الهمة كثير العطاء للشعراء وغيرهم، وقصده بعض الشعراء وأنشده: تقول خليلتي لما رأتني ... أشد مطيتي من بعد حل أبعد الفضل ترتحل المطايا ... فقلت نعم إلى الحسن بن سهل فأجزل عطيته. وخرج مع المأمون يوماً يشيعه، فلما عزم على مفارقته قال له المأمون: يا أبا محمد، الك حاجة قال: نعم يا أمير المؤمنين تحفظ علي من قلبك ما لا أستطيع حفظه إلا بك. وقال بعضهم: حضرت مجلس الحسن ابن سهل وقد كتب لرجل كتاب شفاعة، فجعل الرجل يشكره، فقال الحسن: يا هذا، علام تشكرنا إنا نرى الشفاعات زكاة مروءاتنا [ثم أنشأ يقول: فرضت علي زكاة ما ملكت يدي ... وزكاة جاهي أن أعين وأشفعا فإذا ملكت فجد فإن لم تستطيع ... فاجهد بوسعك كله أن تنفعا] (2)   (1) أخبار الحسن بن سهل في الطبري وابن الأثير وتاريخ بغداد لابن طيفور والوزراء والكتاب للجهشياري وتاريخ بغداد للخطيب 7: 309 وتاريخ ابن الوردي 1: 217 والفخري: 203، وله أخبار وأقوال منثورة في كتب الأدب كعيون الأخبار والكامل والبيان وغيرها. (2) زيادة من ص. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 120 قال الحاكي: وحضرته يوماً وهو يملي كتاب شفاعة، فكتب في آخره: إنه بلغني أن الرجل يسأل عن فضل جاهه يوم القيامة، كما يسأل عن فضل ماله. وقال لبنيه: يا بني تعلموا النطق، فإن فضل الإنسان على سائر البهائم به، وكلما كنتم بالنطق أحذق كنتم بالإنسانية أحق. [وكان سهل والد الحسن المذكور يتقهرم (1) ليحيى بن خالد بن برمك، وضم يحيى الحسن والفضل ابني سهل إلى ابنيه الفضل وجعفر يكونان معهما، فضم جعفر بن سهل إلى المأمون وهو ولي عهد فغلب عليه ولم يزل معه إلى أن قتل بخراسان، فكتب المأمون إلى الحسب بن سهل وهو ببغداد يعزيه بأخيه ويعلمه أنه قد استوزره وأجراه مجراه، فلم يكن أحد من بني هاشم ولا من القواد يخالف للحسن أمراً ولا يخرج له من طاعة، إلى أن بايع المأمون لعلي بن موسى الرضا بالعهد، فغضب بنو العباس وخلعوا المأمون وبايعوا إبراهيم بن المهدي، فحاربه الحسن بن سهل، فضعف عنه، فانحدر الحسن إلى فم الصلح فأقام به، ووجه من فم الصلح من حارب إبراهيم، فضعف أمر إبراهيم واستتر، وقد تقدم ذكر ذلك. ثم دخل المأمون بغداد وكتب إلى الحسن بن سهل فقدم عليه، فزاد المأمون في كرامته وتشريفه عند تسليمه عليه وذلك في سنة أربع ومائتين. قال ثعلب: قيل للحسن وقد كثر عطاؤه على اختلال حاله: ليس في السرف خير، فقال: بل ليس في الخير سرف. فرد اللفظ واستوفى المعنى. ودخل على الحسن أعرابي مدحه بشعر استحسنه، فلما فرغ منه قال له الحسن: اجلس واحتكم، وهو يظن أن الأعرابي صغير الهمة؛ فقال: ألف ناقة، فوجم الحسن ولم تكن في وسعه يومئذ، وكره أن يفتضح، فأطرق إطراقة ثم قال: يا أعرابي، ليس بلدنا بلد إبل ولكن كما قال امرؤ القيس (2) : إذا ما لم تكن إبلاً فمعزى ... كأن قرون جلتها العصي قال: قد رضيت، قال: فالحق يحيى بن خاقان يعطك ألف شاة، فصار إلى   (1) يتقهرم: يعمل قهرماناً. (2) ديوانه: 136. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 121 يحيى فأعطاه عن كل شاة ديناراً. وكتب الحسن بن سهل إلى الحسن بن وهب وقد اصطبح في يوم غنيم لم يمطر: أما ترى تكافؤ الطمع واليأس في يومنا هذا بقرب المطر وبعده كأنه قول كثير (1) : وإني وتهيامي بعزة بعدما ... [تخليت مما بيننا] وتخلت لكالمرتجي ظل الغمامة كلما ... تبوأ منها للمقيل اضمحلت وأمنيتي إلا في لقائك، ورقعتي هذه الأبيات، وقد أدرت زجاجات أخذت من عقلي ولم تتحيفه، وبعثت نشاطاً حركني على الكتاب إليك، فرأيك في إمطاري سروراً بسار خبرك، إذ حرمت السرور بالمطر في هذا اليوم، موفقاً إن شاء الله تعالى. فأجابه الحسن بن وهب: وصل كتاب الأمير أيده الله ويدي عاملة وفمي طاعم، فلذلك تأخر الجواب قليلاً، وقد رأيت تكافؤ إحسان هذا اليوم وإساءته وما استحق ذماً لأنه إن أشمس حكى ضيائك وحسنك، وإن أمطر أشبه سخاءك وجودك، وإن أغام فلم يشمس ولم يمطر فقد أشبه طيب ظلك ولذة فنائك؛ وسؤال الأمير أيده الله عني نعمة من الله أعفي بها آثار الزمان المسيء، وأنا كما يحب الأمير، صرف الله الحوادث عنه وعن حظي منه. ووقع الحسن بن سهل في رقعة: وقد أمرنا لك بشيء هو دون قدرك إلى استحقاق وفوق الكفاية مع الاقتصار. وتعرض إليه رجل فقال له: من أنت قال: أنا الذي أحسنت إلي عام كذا، فقال: مرحباً بمن توسل إلينا بنا. وافتعل رجل على الحسن كتاباً إلى إبراهيم الرازي - وكان أمير الأهواز - فقال له: والله لئن كنت صادقاً فما في ملكي ما يفي بحق الوزير، وإن كنت مفتعلاً فما في قدرتي ما يفي بعقوبتك، فحبسه وبعث يستعلم أمر الكتاب، وبلغ ذلك الحسن فأمر أن يكتب إليه: أما كان في صغير ما أنعمنا به عليك ما تصدق به مخلية رجل توسل بنا إن كان مبطلاً فكيف وهو محق   (1) من تائيته التي أوردها القالي في أماليه 2: 105. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 122 وكان الحسن بن سهل يقول: عجبت لمن يرجو من فوقه كيف يحرم من دونه. ونظر يوماً إلى رجل في مجلسه يعبس في كأسه فقال: ما أنصفتها: تضحك في وجهك وتعبس في وجهها. وكان يقول: من أدمن شم النرجس في الشتاء أمن البرسام في الصيف] (1) . ولم يزل على وزارة المأمون إلى أن ثارت عليه المرة السوداء، وكان سببها كثرة جزعه على أخيه الفضل لما قتل - وسيأتي خبره في حرف الفاء إن شاء الله تعالى - واستولت عليه حتى حبس في بيته ومنعته من التصرف. وذكر الطبري في تاريخه أن الحسن بن سهل في سنة ثلاث ومائتين غلبت عليه السوداء، وكان سببها أنه مرض مرضاً شديداً فهاج به من مرضه تغير عقله حتى شد في الحديد وحبس في بيت، فاستوزر المأمون أحمد بن أبي خالد. وكانت وفاته سنة ست وثلاثين في مستهل ذي الحجة، وقيل خمس وثلاثين ومائتين، بمدينة سرخس، رحمه الله تعالى. ومدحه يوسف الجوهري بقوله: لو أن عين زهير عاينت حسناً ... وكيف يصنع في أمواله الكرم إذا لقال زهير حين يبصره ... هذا الجواد على العلات، لا هرم قلت: وحديث زهير وهرم بن سنان مذكور في آخر هذا الكتاب في ترجمة يحيى بن عيسى المعروف بابن مطروح فليكشف منه؛ وللحسن بن سهل في ترجمة أبي بكر محمد الخوارزمي الشاعر ذكر فلينظر هناك. والسرخسي - بفتح السين والراء المهملتين وسكون الخاء المعجمة وبعدها سين مهملة - هذه النسبة إلى سرخس وهي من بلاد خراسان.   (1) زيادة من ص، لم ترد في المسودة وسائر النسخ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 123 178 - (1) الوزير المهلبي أبو محمد الحسن بن محمد بن هارون بن إبراهيم بن عبد الله بن يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلب بن أبي صفرة الأزدي المهلبي الوزير؛ كان وزير معز الدولة أبي الحسين أحمد بن بويه الديلمي - المقدم ذكره في حرف الهمزة - تولى وزارته يوم الاثنين لثلاث بقين من جمادى الأولى سنة تسع وثلاثين وثلثمائة. وكان من ارتفاع القدر واتساع الصدر وعلو الهمة وفيض الكف على ما هو مشهور به، وكان غاية في الأدب والمحبة لأهله. وكان قبل اتصاله بمعز الدولة في شدة عظيمة من الضرورة والضائقة، وكان قد سافر مرة ولقي في سفره مشقة صعبة واشتهى اللحم فلم يقدر عليه فقال ارتجالاً (2) : ألا موت يباع فأشتريه ... فهذا العيش ما لا خير فيه ألا موت لذيذ الطعم يأتي ... يخلصني من العيش الكريه إذا أبصرت قبراً من بعيد ... وددت لو أنني مما يليه ألا رحم المهيمن نفس (3) حر ... تصدق بالوفاة على أخيه وكان معه رفيق يقال له: ابو عبد الله الصوفي، وقيل أبو الحسين العسقلاني، فلما سمع الأبيات اشترى له بدرهم لحماً وطبخه وأطعمه، وتفارقا. وتنقلت بالمهلبي الأحوال، وتولى الوزارة ببغداد لمعز الدولة المذكور، وضاقت الحال   (1) ترجمة الوزير المهلبي وأخباره في كتب التاريخ العامة، وانظر المنتظم 7: 9 والييمة 2: 224 والفوات 1: 256 وورودها في الفوات وهو استدراك على ان خلكان مما يحسن التوقف عنده، وشذرات الذهب 3: 9 ومعجم الأدباء 9: 118. (2) اليتيمة: 224 - 225. (3) د: روح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 124 برفيقه في السفر الذي اشترى له اللحم (1) ، وبلغه وزارة المهلبي فقصده وكتب إليه: ألا قل للوزير فدته نفسي ... مقالة مذكر (2) ما قد نسيه أتذكر إذ تقول لنضك عيش (3) ... " ألا موت يباع فأشتريه " فلما وقف عليه تذكره وهزته أريحية الكرم، فأمر له في الحال بسبعمائة درهم ووقع في رقعته (4) (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء) ثم دعا به فخلع عليه وقلده عملاً يرتفق به. ولما ولي المهلبي الوزارة بعد تلك الإضاقة عمل: رق الزمان لفاقتي ... ورثى لطول تحرقي فأنالني ما أرتجيه ... وحاد عما (5) أتقى فلأطفحن عما أتا ... هـ (6) من الذنوب السبق حتى جنايته بما ... صنع المشيب بمفرقي وله أيضاً (7) : قال لي من أحب والبين قد ج ... د وفي مهجتي لهيب الحريق (8) ما الذي في الطريق تصنع بعدي ... قلت أبكي عليك طول الطريق ومن المنسوب إليه في وقت الإضاقة من الشعر ما كتبه إلى بعض الرؤساء،   (1) أج: في السفرة التي اشترى له فيها اللحم. (2) أواليتيمة: مقال مذكر. (3) أ: لضيق؛ ج: حال. (4) د: قصته. (5) اليتيمة: ما أرتجي وأجار مما. (6) ج: فلأغفرن له الكثير. (7) اليتيمة: 239 والفوات: 258. (8) اليتيمة: والبين قد بدد مواصلاً للشهيق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 125 وقيل إنهما لأبي نواس: ولو أني استزدتك فوق ما بي ... من البلوى لأعوزك المزيد ولو عرضت على الموتى حياة ... بعيش مثل عيشي لم يريدوا وقال أبو إسحاق الصابئ صاحب الرسائل: كنت يوماً عند الوزير المهلبي فأخذ ورقة وكتب، فقلت بديها (1) : له يد برعت جوداً بنائلها ... ومنطق دره في الطرس ينتثر فحاتم كامن في بطن راحته ... وفي أناملها سحبان مستتر وكان لمعز الدولة (2) مملوك تركي في غاية الجمال، يدعى تكين الجامدار، وكان شديد المحبة له، فبعث سرية لمحاربة بعض بني حمدان وجعل المملوك (3) المذكور مقدم الجيش، وكان الوزير المهلبي يستحسنه ويرى أنه من أهل الهوى لا مدد الوغى، فعمل فيه: طفل يرق الماء في ... وجناته ويرف عوده ويكاد من شبه العذا ... رى فيه أن تبدو نهوده ناطوا بمعقد خصره ... سيفاً ومنطقة تؤوده جعلوه قائد عسكر ... ضاع الرعيل ومن يقوده وكذا كان، فإنه ما أنجح في تلك الحركة، وكانت الكرة عليهم. ومن شعره النادر في الرقة قوله (4) : تصارمت الأجفان لما صرمتني ... فما نلتقي إلا على عبرة تجري   (1) الفوات: 259. (2) اليتيمة: 226. (3) ص: تكين. (4) اليتيمة 2: 239 والفوات: 260. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 126 ومحاسن الوزير المهلبي كثيرة. وكانت ولادته ليلة الثلاثاء لأربع بقين من المحرم سنة إحدى وتسعين ومائتين بالبصرة. وتوفي يوم السبت لثلاث بقين من شعبان (1) سنة اثنتين وخمسين وثلثمائة في طريق واسط، وحمل إلى بغداد، فوصل إليها ليلة الأربعاء لخمس خلون من شهر رمضان من السنة المذكورة، ودفن في مقابر قريش في مقبرة النوبختية، رحمه الله تعالى. والمهلبي - بضم الميم وفتح الهاء وتشديد اللام المفتوحة وبعدها باء موحدة - هذه النسبة إلى المهلب المذكور أولاً، وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى. ولما مات الوزير المذكور رثاه أبو عبد الله الحسين بن الحجاج الشاعر المشهور (2) - وسيأتي ذكره - بقوله: يا معشر الشعراء دعوة موجع ... لا يرتجى فرج السلو لديه عزوا القوافي بالوزير فإنها ... تبكي دماً بعد الدموع عليه مات الذي أمسى الثناء وراءه ... والعفو عفو الله (3) بين يديه هدم الزمان بموته الحصن الذي ... كنا نفر من الزمان إليه فليعلمن بنو بويه أنه ... فجعت به أيام آل بويه   (1) ر: لثلاث بقين من المحرم. (2) معجم الأدباء 9: 138. (3) ياقوت: وجميل عفو الله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 127 179 - (1) الوزير نظام الملك أبو علي الحسن بن علي بن إسحاق بن العباس الملقب نظام الملك قوام الدين الطوسي؛ ذكر السمعاني، في كتاب " الأنساب " في ترجمة الراذ كان، أنها بليدة صغيرة بنواحي طوس، قيل إن نظام الملك كان في نواحيها (2) ، وكان من أولاد الدهاقين، واشتغل بالحديث والفقه، ثم اتصل بخدمة علي بن شاذان المعتمد عليه بمدينة بلخ - وكان يكتب له - فكان يصادره في كل سنة، فهرس منه وقصد داود بن ميكائيل بن سلجوق، والد السلطان ألب أرسلان فظهر له منه النصح والمحبة، فسلمه إلى ولده ألب أرسلان وقال له: اتخذه والداً ولا تخالفه فيما يشير به، فلما ملك ألب أرسلان - كما سيأتي في موضعه من حرف الميم إن شاء الله تعالى - دبر أمره فأحسن التدبير، وبقي في خدمته عشر سنين، فلما مات ألب أرسلان وازدحم أولاده على الملك وطد المملكة لولده ملك شاه فصار الأمر كله لنظام الملك، وليس للسلطان إلا التخت والصيد، وأقام على هذا عشرين سنة. ودخل على الإمام المقتدى بالله، فأذن له في الجلوس بين يديه، وقال له: يا حسن، رضي الله عنك برضاء أمير المؤمنين عنك. وكان مجلسه عامراً بالفقهاء والصوفية، وكان كثير الإنعام على الصوفية، وسئل عن سبب ذلك فقال: أتاني صوفي وأنا في خدمة بعض الأمراء فوعظني وقال: اخدم من تنفعك خدمته ولا تشتغل بمن تأكله الكلاب غداً، فلم أعلم   (1) أخبار نظام الملك في الكتب التاريخية العامة، وانظر كتاب الروضتين 1: 25 وابن العبري: 192 - 195 وتاريخ الدولة السلجوقية: 66 - 71 وطبقات السبكي 3: 135 - 145 وشذرات الذهب 3: 373. (2) ذكر السمعاني ... نواحيها: سقط من س. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 128 معنى قوله، فشرب ذلك الأمير من الغد [إلى الليل] وكانت له كلاب كالسباع تفترس الغرباء بالليل، فغلبه السكر فخرج وحده فلم تعرفه الكلاب فمزقته، فعلمت أن الرجل كوشف بذلك، فأنا أخدم الصوفية لعلي أظفر بمثل ذلك. وكان إذا سمع الأذان أمسك عن جميع ما هو فيه. وكان إذا قدم عليه إمام الحرمين أبو المعالي وأبو القاسم القشيري صاحب الرسالة بالغ في إكرامهما وأجلسهما في مسنده. وبنى المدارس والربط والمساجد في البلاد (1) ، وهو أول من أنشأ المدارس فأقتدى به الناس. وشرع في عمارة مدرسته ببغداد سنة سبع وخمسين وأربعمائة، وفي سنة تسع وخمسين جمع الناس على طبقاتهم ليدرس بها الشيخ أبو إسحاق الشيرازي، رحمه الله تعالى، فلم يحضر، فذكر الدرس أبو نصر ابن الصباغ، صاحب " الشامل "، عشرين يوماً، ثم جلس الشيخ أبو إسحاق بعد ذلك. وهذا الفصل قد استقصيته في ترجمة أبي نصر عبد السيد بن الصباغ صاحب " الشامل " فلينظر هناك. وكان الشيخ أبو إسحاق إذا حضر وقت الصلاة خرج منها وصلى في بعض المساجد، وكان يقول: بلغني أن أكثر آلاتها غصب (2) . وسمع نظام الملك الحديث وأسمعه، وكان يقول: إني لأعلم أني لست أهلاً لذلك، ولكني أريد أربط (3) نفسي في قطار (4) النقلة لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويروى له من الشعر قوله: بعد الثمانين ليس قوه ... قد ذهبت شره الصبوه كأنني والعصا بكفي ... موسى ولكن بلا نبوه وقيل: إن هذين البيتين لأبي الحسن محمد بن أبي الصقر الواسطي - وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى -.   (1) انظر المدارس التي بناها في السبكي: 137. (2) ص: مغصوبة. (3) ج: أريد ربط. (4) هـ: كتاب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 129 [ويروى له أيضاً - أعني نظام الملك -: تقوس بعد طول العمر ظهري ... وداستني الليالي أي دوس فأمشي والعصا تمشي أمامي ... كأن قوامها وتر بقوس] (1) وكانت ولادة نظام الملك يوم الجمعة الحادي والعشرين من ذي القعدة سنة ثمان وأربعمائة بنوقان، إحدى مدينتي طوس، وتوجه صحبة ملك شاه إلى أصبهان، فلما كانت ليلة السبت عاشر شهر رمضان سنة خمس وثمانين وأربعمائة أفطر وركب في محفته (2) ، فلما بلغ إلى قرية قريبة من نهاوند يقال لها سحنة (3) ، قال: هذا الموضع قتل فيه خلق كثير من الصحابة زمن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، رضي الله عنهم أجمعين، فطوبى لمن كان معهم، فاعترضه في تلك الليلة صبي ديلمي على هيئة الصوفية معه قصة، فدعا له وسأله تناولها، فمد يده ليأخذها فضربه بسكين في فؤاده، فحمل إلى مضربه فمات، وقتل القاتل في الحال بعد أن هرب، فعثر في طنب خيمة فوقع، وركب السلطان إلى معسكره، فسكنهم وعزاهم، وحمل إلى أصبهان ودفن بها. وقيل: إن السلطان دس عليه من قتله فإنه سئم طول حياته، واستكثر ما بيده من الاقطاعات، ولم يعش السلطان بعده سوى خمس وثلاثين يوماً، فرحمه الله تعالى لقد كان من حسنات الدهر. ورثاه شبل الدولة أبو الهيجاء مقاتل بن عطية بن مقاتل البكري - الآتي ذكره إن شاء الله تعالى - وكان ختنه فإن نظام الملك زوجه ابنته - فقال (4) : كان الوزير نظام الملك لؤلؤة ... نفيسة صاغها الرحمن من شرف عزت فلم تعرف الأيام قيمتها ... فردها غيرة منه إلى الصدف   (1) زيادة من ص س. (2) أج هـ: محفة. (3) سحنة: إلى الشمال الغربي من نهاوند ولا تزال تعرف بهذا الاسم إلى اليوم. (4) أخبار الدولة السلجوقية: 71. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 130 وقد قيل: إنه قتل بسبب تاج الملك أبي الغنائم المرزبان بن خسروفيروز المعروف بابن دارست (1) ، فإنه كان عدو نظام الملك، وكان كبير المنزلة عند مخدومه ملك شاه، فلما قتل رتبه موضعه في الوزارة، ثم إن غلمان نظام الملك وثبوا عليه فقتلوه وقطعوه إرباً إرباً في ليلة الثلاثاء ثاني عشر المحرم من سنة ست وثمانين وأربعمائة، وعمره سبع وأربعون سنة، وهو الذي بنى على قبر الشيخ أبي إسحاق الشيرازي، رحمه الله تعالى. 180 - (2) فخر الكتاب الجويني أبو علي الحسن بن علي بن إبراهيم الملقب فخر الكتاب الجويني الأصل البغدادي الكاتب المشهور؛ كتب كثيراً، ونسخ كتباً توجد في أيدي الناس بأوفر الأثمان لجودة خطها ورغبتهم فيه، وذكره العماد الكاتب في " الخريدة " وبالغ في الثناء عليه، وقال: كان من ندماء أتابك زنكي بالشام، وأقام بعده عند ولده نور الدين محمود في ظل الإكرام، ثم سافر إلى مصر في أيام ابن رزيك، وتوطن بها إلى هذه الأيام، وليس بمصر الآن من يكتب مثله، وأورد له مقطوع (3) شعر كتبه إلى القاضي الفاضل، ولولا أنه طويل لذكرته. وتوفي سنة أربع وثمانين، وقيل: ست وثمانين وخمسمائة، بالقاهرة، رحمه الله تعالى (4) .   (1) انظر شرح هذا في أخبار الدولة السلجوقية: 67. (2) ترجمة فخر الكتاب الجويني في معجم الأدباء 9: 34 ومعجم الألقاب 4/ 3: 143. (3) أ: مقاطيع. (4) هامش س: الصحيح أنه توفي سنة ست وثمانين لأني رأيت جزءا بخطه ذكر أنه كتبه في سنة خمس وثمانين وأن عمره حينئذ إحدى وثمانون سنة ونصف، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 131 والجويني - بضم الجيم وفتح الواو وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها نون - هذه النسبة إلى جوين، وهي ناحية كبيرة من نواحي نيسابور، ينسب إليها جماعة كثيرة من العلماء. وكان (1) كثيراً ما ينشد لبعض العراقيين (2) : يندم المرء على ما فاته ... من لبانات إذا لم يقضها وتراه فرحاً مستبشراً ... بالتي أمضى كأن لم يمضها إنها عندي وأحلام (3) الكرى ... لقريب بعضها من بعضها 181 (4) الكرابيسي صاحب الشافعي أبو علي الحسين بن علي بن يزيد الكرابيسي البغدادي؛ صاحب الإمام الشافعي، رضي الله عنهما، وأشهرهم بانتياب مجلسه وأحفظهم لمذهبه، وله تصانيف كثيرة في أصول الفقه وفروعه. وكان متكلماً عارفاً بالحديث، وصنف أيضاً في الجرح والتعديل وغيره، وأخذ عنه الفقه خلق كثير.   (1) من هنا حتى آخر الترجمة من س. (2) نسبت هذه الأبيات لعمران بن حطان (انظر مجموع شعر الخوارج: 19 وديوان المعاني: 4) . (3) هـ: كأحلام. (4) ترجمة الكرابيسي في تاريخ بغداد 8: 64 وطبقات الشيرازي، الورقة: 28 وتهذيب التهذيب 2: 359 وطبقات الشافعية 1: 251 والفهرست: 181. وانظر " الكرابيسي " في الأنساب واللباب. وكان الكرابيسي أولا على مذهب أهل الرأي ثم تفقه للشافعي، وقد اختلف مع أحمد بن حنبل في بعض المسائل، وكان من متكلمي أهل السنة في المقالات عول عليه من بعده في فهم مذاهب الخوارج وأهل الأهواء، وله كتاب المدلسين في الحديث وكتاب " الإمامة ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 132 وتوفي سنة خمس وأربعين، وقيل: سنة ثمان وأربعين ومائتين، وهو أشبه بالصواب، رحمه الله تعالى. والكرابيسي - بفتح الكاف والراء وبعد الألف باء موحدة مكسورة ثم ياء مثناة من تحتها ساكنة وبعدها سين مهملة - هذه النسبة إلى الكرابيس، وهي الثياب الغليظة، واحدها كرباس - بكسر الكاف - وهو لفظ فارسي (1) عرب وكان أبو علي المذكور يبيعها فنسب إليها. 182 - (2) ابن خيران أبو علي الحسين بن صالح بن خيران الفقيه الشافعي؛ كان من جلة الفقهاء المتورعين وأفاضل الشيوخ، وعرض عليه القضاء ببغداد في خلافة المقتدر فلم يفعل، فوكل الوزير أبو الحسن علي بن عيسى بداره مترسماً، فخوطب في ذلك فقال: إنما قصدت ذلك ليقال كان في زماننا من وكل بداره ليتقلد القضاء فلم يفعل، وكان يعاتب أبا العباس ابن سريج على توليته، ويقول: هذا الأمر لم يكن فينا، وإنما كان في أصحاب أبي حنيفة، رضي الله عنه. [ومثل هذا: دعا عثمان رضي الله عنه عبد الله بن عمر فقال: اذهب، كن قاضياً. قال: أو تعفيني يا أمير المؤمنين قال: لا، اذهب كن قاضياً، قال: لا تعجل يا أمير المؤمنين، ألم تسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من عاذ بالله فقد عاذ بمعاذ " قال: بلى، قال: فإني أعوذ بالله أن أكون قاضياً، قال: وما يمنعك من ذلك وأبوك كان يقضي بين الناس قال: يمنعني قول النبي   (1) ر س: عجمي. (2) ترجمة ابن خيران في طبقات الشيرازي، الورقة: 31 وطبقات السبكي 2: 213 وتاريخ بغداد 8: 53 والمنتظم 6: 244. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 133 صلى الله عليه وسلم ": من كان قاضياً بين المسلمين فقضى بجهل فهو في النار، ومن كان قاضياً بحق أو بعدل سأل أن ينفلت كفافاً، فما أرجو من القضاء بعد هذا] (1) . وكانت وفاته يوم الثلاثاء لثلاث عشرة ليلة بقيت من ذي الحجة سنة عشرين وثلثمائة، قاله أبو العلاء ابن العسكري، وقال الحافظ أبو الحسن الدارقطني: توفي في حدود سنة عشر وثلثمائة، وصوبه الحافظ أبو بكر الخطيب في ذلك، وقال: وهم أبو العلاء العسكري (2) ، رحمه الله تعالى. وخيران: بفتح الخاء المعجمة وسكون الياء المثناة من تحتها وفتح الراء وبعد الألف نون. 183 - (3) القاضي حسين أبو علي الحسين بن محمد بن أحمد المرورودي الفقيه الشافعي المعروف بالقاضي صاحب التعليقة في الفقه؛ كان إماماً كبيراً صاحب وجوه غريبة في المذهب، وكلما قال إمام الحرمين في كتاب " نهاية المطلب " والغزالي في " الوسيط والبسيط ": " وقال القاضي " فهو المراد بالذكر لا سواه. أخذ الفقه عن أبي بكر القفال المروزي - الآتي ذكره إن شاء الله تعالى في العبادلة - وصنف في الأصول والفروع والخلاف، ولم يزل يحكم بين الناس ويدرس ويفتي، وأخذ عنه الفقه جماعة من الأعيان، منهم أبو محمد الحسين بن مسعود الفراء البغوي صاحب كتاب " التهذيب " وكتاب " شرح السنة " وغيرهما.   (1) ما بين معقفين زيادة من د. (2) الصواب أن أبا عبد الله (لا أبو العلاء) الحسين بن محمد بن عبيد العسكري ينقل عن أبي العلاء محمد الواسطي تاريخ وفاة ابن خيران، فالذي وقع في الوهم هو الواسطي. (3) ترجمة القاضي حسين المروروذي في طبقات السبكي 3: 155. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 134 وتوفي في سنة اثنتين وستين وأربعمائة بمروروذ، رحمه الله تعالى. وقد تقدم الكلام على مروروذ في حرف الهمزة. 184 - (1) أبو علي السنجي أبو علي الحسين بن شعيب بن محمد السنجي الفقيه الشافعي؛ أحد الأئمة المتقنين (2) ، أخذ الفقه بخراسان عن أبي بكر عبد الله القفال المروزي هو والقاضي حسين الذي تقدم ذكره والشيخ أبو محمد الجويني والد إمام الحرمين - وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى - وشرح الفروع التي لأبي بكر ابن الحداد المصري (3) شرحاً لم يقاربه فيه أحد، مع كثرة شروحها، فإن القفال شيخه شرحها، والقاضي أبو الطيب الطبري شرحها، وغيرهما، وشرح أيضاً كتاب " التلخيص " (4) لأبي العباس ابن القاض شرحاً كبيراً، وهو قليل الوجود، وله كتاب " المجموع " وقد نقل منه أبو حامد الغزالي في كتاب " الوسيط " وهو أول من جمع بين طريقتي العراق وخراسان، وكان فقيه أهل مرو في عصره. وكان يقال في عصره: الأئمة بخراسان ثلاثة: مكثر محقق ومقل محقق ومكثر غير محقق، فالمكثر المحقق أبو علي السنجي والمقل المحقق أبو محمد الجويني   (1) ترجمة السنجي في طبقات السبكي 3: 150. (2) ج: المتقين، وفي سائر النسخ: المتقدمين، وأثبتنا ما في مسودة المؤلف. (3) توفي أبو بكر ابن الحداد سنة 345 وكتابه الفروع في مذهب الشافعي صغير الحجم إلا أنه دقق المسائل فيه غاية التدقيق، ومن شراحها عدا من ذكره المؤلف أبو إسحاق الاسفرايني (418) وأبو القاسم القوراني (461) وأبو بكر الصيدلاني. (4) هو التلخيص في الفروع لأبي العباس أحمد بن محمد بن يعقوب ابن القاص الطبري (- 335) . وممن شرحه القفال والاستراباذي محمد بن الحسن (- 386) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 135 والمكثر غير المحقق ناصر المروزي (1) . وكانت وفاته في سنة نيف وثلاثين وأربعمائة، رحمه الله تعالى. والسنجي - بكسر السين المهملة وسكون النون وبعدها جيم - نسبة إلى سنج، وهي قرية كبيرة من قرى مرو. 185 - (2) الفراء البغوي أبو محمد الحسين بن مسعود بن محمد، المعروف بالفراء، البغوي الملقب ظهير الدين (3) الفقيه الشافعي المحدث المفسر؛ كان بحراً في العلوم، وأخذ الفقيه عن القاضي حسين بن محمد - كما تقدم في ترجمته - وصف في تفسير كلام الله تعالى، وأوضح المشكلات من قول النبي صلى الله عليه وسلم، وروى الحديث ودرس، وكان لا يلقي الدرس إلا على الطهارة، وصنف كتباً كثيرة، منها كتاب " التهذيب " في الفقه، وكتاب " شرح السنة " في الحديث، و " معالم التنزيل " في تفسير القرآن الكريم، وكتاب " المصابيح " و " الجمع بين الصحيحين " وغير ذلك. توفي في شوال سنة عشر وخمسمائة (4) بمروروذ، ودفن عند شيخه القاضي حسين بمقبرة الطالقان، وقبره مشهور هنالك، رحمه الله تعالى. ورأيت في كتاب " الفوائد السفرية " التي جمعها الشيخ الحافظ زكي الدين   (1) وكان ياقل ... المروزي: ثبت في مسودة المؤلف ونسخة ص وحدهما. (2) ترجمة الفراء البغوي في طبقات السبكي 4: 214 وتهذيب ابن عساكر 4: 345 (استطرادا لا من أصل التاريخ) . (3) الملقب ظهير الدين: من ص ومسودة المؤلف وحدهما. (4) س: ست عشرة وخمسمائة؛ ص: عشرين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 136 عبد العظيم المنذري أنه توفي في سنة ست عشرة وخمسمائة (1) ، ومن خطه نقلت هذا، والله أعلم. ونقلت عنه أيضاً أنه ماتت له زوجة فلم يأخذ من ميراثها شيئاً، وأنه كان يأكل الخبز البحت، فعذل في ذلك، فصار يأكل الخبز مع الزبيب (2) . والفراء: نسبة إلى عمل الفراء وبيعها. والبغوي - بفتح الباء الموحدة والغين المعجمة وبعدها واو - هذه النسبة إلى بلدة بخراسان بين مرو وهراة يقال لها بغ وبغشور بفتح الباء الموحدة وسكون الغين المعجمة وضم الشين وبعدها واو ساكنة ثم راء - وهذه النسبة شاذة على خلاف الأصل، هكذا قال السمعاني في كتاب " الأنساب ". 186 - (3) الحليمي أبو عبد الله الحسين بن الحسن بن محمد بن حليم الفقيه الشافعي المعروف بالحليمي الجرجاني؛ ولد بجرجان (4) سنة ثمان وثلاثين وثلثمائة، وحمل إلى بخاري، وكتب الحديث عن أبي بكر محمد بن أحمد بن حبيب وغيره، وتفقه على أبي بكر الأودني (5) وأبي بكر القفال، ثم صار إماماً معظماً مرجوعاً إليه بما وراء   (1) كذا ورد أيضا في طبقات السبكي. (2) قوله: ورأيت ... الزبيب: سقط من س؛ ص ر: بالزبيب. (3) ترجمة الحليمي في طبقات السبكي 3: 147 والأنساب واللباب: " الحليمي ". (4) ج: بخراسان. (5) أ: الأزدي، والأودني بضم الألف وسكون الواو وفتح الدال المهملة والنون نسبة إلى أودنة وهي من قرى بخارى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 137 النهر، وله في المذهب وجوه حسنة، وحدث بنيسابور وروى عنه الحافظ الحاكم وغيره. وتوفي في جمادى الأولى - وقيل في شهر ربيع الأول - سنة ثلاث وأربعمائة، رحمه الله تعالى، ونسبته إلى جده حليم المذكور. 187 - (1) الوني الحاسب أبو عبد الله الحسين بن محمد الوني الفرضي الحاسب؛ كان إماماً في الفرائض وله فيها تصانيف كبيرة مليحة أجاد فيها، وسمع الحديث من أصحاب أبي علي الصفار وغيرهم، وسمع منه أبو حكيم عبد الله بن إبراهيم الخبري صاحب " التخليص " في الحساب والخطيب التبريزي وغيرهما، وهو شيخ الخبري في علم الحساب والفرائض، وانتفع به وبكتبه خلق كثير. وتوفي شهيداً ببغداد في ذي الحجة سنة إحدى وخمسين وأربعمائة في فتنة البساسيري المقدم ذكره. والوني - بفتح الواو وتشديد النون - هذه النسبة إلى ون، وهي قرية من أعمال قهستان أظنه منها.   (1) ترجمة الوني في طبقات السبكي 3: 163 والأنساب واللباب " وني ". ونكت الهميان: 145. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 138 188 - (1) ابن خميس الكعبي أبو عبد الله (2) الحسين بن نصر بن محمد بن الحسين بن القاسم بن خميس بن عامر المعروف بابن خميس الكعبي الموصلي الجهني الملقب تاج الإسلام مجد الدين الفقيه الشافعي؛ أخذ الفقه عن أبي حامد الغزالي ببغداد وعن غيره، وولي القضاء برحبة مالك بن طوق، ثم رجع إلى الموصل وسكنها، وصنف كتباً كثيرة، منها " مناقب الأبرار " (3) على أسلوب رسالة القشيري، ومنها " مناسك الحج " و " أخبار المنامات ". ذكره الحافظ أبو سعد السمعاني في تاريخه، وأثنى عليه. وكان يروي عن أبي إسحاق إبراهيم بن عثمان الكلبي الغزي الشاعر - المقدم ذكره - في وزير عميد الدولة ابن جهير، قوله: من آلة الدست لم يؤت الوزير ... ....... (البيتين) (4) وخميس جدة الأعلى. وتوفي في شهر ربيع الاخر سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة (5) ، رحمه الله تعالى. والجهني - بضم الجيم وفتح الهاء وبعدها نون - هذه النسبة إلى جهينة، وهي قرية قريبة من الموصل تجاور القرية التي فيها العين المعروفة بعين القيارة   (1) ترجمة ابن خميس الكعبي في طبقات السبكي 4: 217. (2) س: أبو عبد الرحمن. (3) ذكر فيه أنه تتبع مسموعاته ووما جمعه العلماء من أخبار الصالحين كطبقات السلمي والحلية وبهجة الأسرار والرسالة القشيرية، فجمع الجميع بحذف الأسانيد. (4) انظر ج 1: 59 من هذا الكتاب. (5) ولد الكعبي في 20 محرم سنة 466 بالموصل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 139 التي ينفع الاستحمام بمائها من الفالج والرياح الباردة، وهي مشهورة، وهما في بر الموصل أسفل من الموصل، وجهينة أقرب من عين القيارة؛ والجهني أيضاً نسبة إلى جهينة وهي قبيلة كبيرة من قضاعة. والكعبي - بفتح الكاف وسكون العين المهملة وبعدها باء موحدة - هذه النسبة إلى بني كعب، وهم أربع قبائل ينسب إليها، ولا أعلم المذكور إلى أيها ينتسب. والموصلي معروف. 189 - (1) الحلاج أبو مغيث (2) الحسين بن منصور الحلاج الزاهد المشهور؛ هو من أهل البيضاء وهي بلدة بفارس، ونشأ بواسط والعراق، وصحب أبا القاسم الجنيد وغيره، والناس في أمره مختلفون: فمنهم من يبالغ في تعظيمه، ومنهم من يكفر. ورأيت في كتاب " مشكاة الأنوار " تأليف أبي حامد الغزالي فصلاً طويلاً في حاله، وقد اعتذر عن الألفاظ التي كانت تصدر عنه مثل قوله " أنا الحق " وقوله " ما في الجبة إلا الله " وهذه الإطلاقات التي ينبو السمع عنها وعن ذكرها   (1) ترجمة الحلاج وأخباره في الفهرست: 190 - 192 وطبقات السلمي: 307 ولسان الميزان 2: 314 وميزان الاعتدال 1: 548 وتاريخ بغداد 8: 112 ومرآة الجنان 2: 253 وتاريخ ابن الأثير 8: 126 والمنتظم 6: 160 والفخري: 234 وابن كثير 11: 132 وتجارب الأمم 1: 76 وصلة عريب: 86، وانظر أخبار الحلاج من جمع ماسينيون (باريس 1957) وديوانه (جمع ماسينيون، المجلة الآسيوية، باريس 1931) وقد نشر ماسينيون أيضا " الاصول الأربعة " وتتعلق بسيرة الحلاج (باريس 1914) وألف فيه رسالة بعنوان: (La passion d'al - Hosayn - ibn - Mansour al - Hallaj (Paris 1922. (2) كنيته في بعض المصادر تختلف عما أثبته المؤلف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 140 وحملها كلها على محامل حسنة، وأولها، وقال: هذا من فرط المحبة وشدة الوجد، وجعل هذا مثل قول القائل (1) : أنا من أهوى ومن أهوى أنا ... نحن روحان حللنا بدنا فإذا أبصرتني أبصرته ... وإذا أبصرته أبصرتنا [وكان ابتداء حاله على ما ذكره عز الدين ابن الأثير في تاريخه أنه كان يظهر الزهد والتصوف والكرامات ويخرج للناس فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء ويمد يده إلى الهواء ويعيدها مملوءة دراهم عليها مكتوب: قل هو الله أحد، ويسميها دراهم القدرة، ويخبر الناس بما يأكلون وما يصنعون في بيوتهم، ويتكلم بما في ضمائر الناس، فافتتن به خلق كثير واعتقدوا فيه الحلول؛ وبالجملة فإن الناس اختلفوا فيه اختلافهم في المسيح عليه السلام، فمن قائل إنه حل فيه جزء إلهي ويدعي فيه الربوبية، ومن قائل إنه ولي الله تعالى وأن الذي يظهر منه من جملة كرامات الصالحين، ومن قائل أنه ممخرق ومستغش وشاعر كذاب ومتكهن والجن تطيعه فتأتيه بالفاكهة بغير أوانها. وكان قدم من خراسان إلى العراق وسار إلى مكة فأقام بها سنة في الحجر لا يستظل تحت سقف شتاء ولا صيفاً، وكان يصوم الدهر فإذا جاء العشاء أحضر له الخادم كوز ماء وقرصاً فيشربه ويعض من القرص ثلاث عضات من جوانبه ويترك الباقي ولا يأكل شيئاً آخر النهار. وكان شيخ الصوفية بمكة عبد الله المغربي يأخذ أصحابه إلى زيارة الحلاج فلم يجده في الحجر وقيل قد صعد إلى جبل أبي قبيس، فصعد إليه فرآه على صخرة حافياً مكشوف الرأس والعرق يجري منه إلى الأرض، فاخذ أصحابه وعاد ولم يكلمه وقال: هذا يتصبر ويتقوى على قضاء الله وسوف يبتليه الله بما يعجز عنه صبره وقدرته؛ وعاد الحسين إلى بغداد. انتهى كلام ابن الأثير] (2) .   (1) ديوان الحلاج: 93. (2) زيادة من النسخة أ (قارن ابن الأثير 8: 126) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 141 [وكان في سنة 299 ادعى للناس أنه إله وأنه يقول بحلول اللاهوت في الأشراف من الناس، وانتشر له في الحاشية ذكر عظيم، ووقع بينه وبين الشبلي وغيره من مشايخ الصوفية، فبعث به المقتدر إلى عيسى ليناظره، فأحضر مجلسه وخاطبه خطاباً فيه غلظة، فحكي انه تقدم إليه وقال له فيما بينه وبينه: قف من حيث انتهيت ولا تزد علي شيئاً وإلا خسفت الأرض من تحتك، وكلاماً في هذا المعنى، فتهيب عيسى مناظرته واستعفى منها فنقل في سنة 309 إلى حامد بن العباس الوزير، فحدث غلام لحامد كان موكلاً بالحلاج قال: دخلت عليه يوماً ومعي الطبق الذي عادتي أن أقدمه إليه كل يوم، فوجدته قد ملأ البيت بنفسه وهو من سقفه إلى أرضه وجوانبه ليس فيه موضع، فهالني ما رأيت منه ورميت الطبق من يدي وهربت؛ وحم هذا الغلام من هول ما رأى وبقي مدة محموماً، فكذبه حامد وشتمه وقال: ابعد عني؛ وكان دخوله إلى بغداد مشهراً على جمل وحبس في دار المقتدر، وأفتى العلماء بإباحة دمه. وكان الحلاج قد أنفذ أحد أصحابه إلى بلد من بلدان الجبل ووافقه على حيلة يعملها، فخرج الرجل فأقام عندهم سنتين يظهر النسك والعبادة وقراءة القرآن والصوم، فغلب على البلد حتى إذا تمكن أظهر أنه عمي فكان يقاد إلى مسجده ويتعامى في كل أحد شهوراً، ثم أظهر أنه زمن فكان يحبو ويحمل إلى المسجد النبي صلى الله عليه وسلم في النوم يقول أنه يطرق هذا البلد عبد صالح مجاب الدعوة تكون عافيتك على يديه ودعائه، فاطلبوا لي كل من يجتاز من الفقراء أو من الصوفية لعل الله تعالى أن يفرج عني، فتعلقت النفوس لورود العبد الصالح، ومضى الجل الذي بينه وبين الحلاج فقدم البلد ولبس الثياب الصوف الرقاق وتفرد في الجامع فقال الأعمى: احملوني إليه، فلما حصل عنده وعلم أنه الحلاج قال له: يا عبد الله رأيت في النوم كذا وكذا فادع الله تعالى لي، فقال: ومن أنا وما تحكي ثم دعا له ومسح يده عليه فقام مبصراً صحيحاً، فانقلب البلد وكثر الناس على الحلاج، فتركهم وخرج من البلد وأقام المتعافي المبرأ مما فيه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 142 شهوراً ثم قال لهم: إن من حق الله عندي ورده جوارحي علي أن أنفرد بالعبادة انفراداً أكثر من هذا، وان يكون مقامي في الغز، وقد عملت على الخروج إلى طرسوس، فمن كانت له حاجة يحملها، فأخرج هذا ألف درهم وقال: اغز بهذه عني، واخرج هذا مائة دينار وقال: اخرج بها غزاة من هناك، وأعطاه كل أحد شيئاً فاجتمع له ألوف دنانير ودراهم، فلحق بالحلاج وقاسمه عليها. وكان قد جرى منه كلام في مجلس حامد وزير المقتدر بحضرة القاضي أبي عمر وقد قرئ عليه رقعة بخطه أن الإنسان إذا أراد الحج ولم يمكنه أفرد في داره شيئاً لا يلحقه نجاسة ولا يدخله أحد ومنع من يطرقه فإذا حضرت أيام الحج طاف حوله طوافه بالبيت الحرام، فإذا انقضى ذلك وقضى من المناسك ما يقضي بمكة مثله جمع ثلاثين يتيماً وعمل لهم ما يمكنه من الطعام وأحضرهم إلى ذلك البيت وقدم إليهم ذلك الطعام وتولى خدمتهم بنفسه، فإذا أكلوا وغسلوا أيديهم كسا كل واحد منهم قميصاً ودفع إليه سبة دراهم أو ثلاثة، فإذا فعل ذلك قام له قيام الحج، فلما فرغ منها التفت إليه أبو عمر القاضي وقال له: من أين لك هذا قال: من كتاب " الإخلاص " للحسن البصري، فقال له أبو عمر: كذبت يا حلاج، اللهم قد سمعنا كتاب " الإخلاص " للحسن بمكة وليس فيه شيء مما ذكرت] (1) الخ. ومن الشعر المنسوب إليه على اصطلاحهم وإشاراتهم قوله (2) : لا كنت إن كنت أدري كيف كنت، ولا ... لا كنت إن كنت أدري كيف لم أكن وقوله أيضاً على هذا الاصطلاح (3) : ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له ... إياك إياك أن تبتل بالماء   (1) زيادة من النسخة د. (2) ديوانه: 118. (3) ديوانه: 122. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 143 وغير ذلك مما يجري هذا المجرى وينبني على هذا الأسلوب. وقال أبو بكر ابن ثواية القصري: سمعت الحسين بن منصور وهو على الخشبة يقول: طلبت المستقر بكل أرض ... فلم أر لي بأرض مستقرا أطعت مطامعي فاستعبدتني ... ولو أني قنعت لكنت حرا والبيت الذي قبل قوله: لا كنت إن كنت أدري ... ... أرسلت تسأل عني كيف كنت وما ... لاقيت بعدك من هم ومن حزن وقيل: إن بعضهم كتب إلى أبي القاسم سمنون بن حمزة الزاهد يسأله عن حاله، فكتب إليه هذين البيتين، والله أعلم. وبالجملة فحديثه طويل وقصته مشهورة والله يتولى السرائر. وكان جده مجوسياً وصحب هو أبا القاسم الجنيد ومن في طبقته، وأفتى أكثر علماء عصرة بإباحة دمه. ويقال: إن أبا العباس ابن سريج كان إذا سئل عنه يقول: هذا رجل خفي عني حاله، وما أقول فيه شيئاً (1) . وكان قد جرى منه كلام في مجلس حامد بن العباس وزير الإمام المقتدر بحضرة القاضي أبي عمر، فأفتى بحل دمه وكتب خطه بذلك وكتب معه من حضر المجلس من الفقهاء، فقال لهم الحلاج: ظهري حمى ودمي حرام، وما يحل لكم أن تتأولوا علي بما يبيحه (2) ، وأنا اعتقادي الإسلام ومذهبي السنة وتفضيل الأئمة الأربعة الخلفاء الراشدين وبقية العشرة من   (1) عن إبراهيم بن شيبان قال: دخلت على ابن سريج يوم قتل الحلاج فقلت: يا أبا العباس ما تقول في فتوى هؤلاء في قتل هذا الرجل قال: لعلهم نسوا قول الله تعالى " أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله ". وقال الواسطي: قلت لابن سريج: ما تقول في الحلاج قال: أما أنا فأراه حافظا للقرآن عالما به ماهرا في الفقه عالما بالحديث ... (أخبار الحلاج: 106) . (2) أ: يبيحه الأئمة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 144 الصحابة، رضوان الله عليهم أجمعين، ولي كتب في السنة موجودة في الوراقين فالله الله في دمي، ولم ينزل يردد هذا القول وهم يكتبون خطوطهم إلى أن استكملوا ما احتاجوا إليه ونهضوا من المجلس، وحمل الحلاج إلى السجن. وكتب الوزير إلى المقتدر يخبره بما جرى في المجلس وسير الفتوى، فعاد جواب المقتدر بأن القضاة إذا كانوا قد أفتوا بقتله فليسلم إلى صاحب الشرطة، وليتقدم إليه بضربه ألف سوط، فإن مات من الضرب وإلا ضربه ألف سوط أخرى؛ ثم تضرب عنقه، فسلمه الوزير إلى الشرطي وقال له ما رسم به المقتدر، وقال: إن لم يتلف بالضرب فتقطع يده ثم رجله ثم يده ثم رجله ثم تحز رقبته وتحرق جثته، وإن خدعك وقال لك: أنا أجري الفرات ودجلة ذهباً وفضة، فلا تقبل ذلك منه ولا ترفع العقوبة عنه، فتسلمه الشرطي ليلاً، وأصبح يوم الثلاثاء لسبع بقين، وقيل لست بقين من ذي القعدة (1) ، سنة تسع وثلثمائة، فأخرجه عند باب الطاق، واجتمع من العامة خلق كثير لا يحصى عددهم، وضربه الجلاد ألف سوط، ولم يتأوه بل قال للشرطي لما بلغ ستمائة: ادع بي إليك، فإن لك عندي نصيحة تعدل فتح قسطنطينية (2) ، فقال له: قد قيل لي عنك إنك تقول هذا واكثر منه وليس إلى أن أرفع الضرب عنك سبيل، فلما فرغ ضربه قطع أطرافه الأربعة، ثم حز رأسه وأحرق جثته، ولما صارت رماداً ألقاها في دجلة، ونصب الرأس ببغداد على الجسر، وجعل أصحابه يعدون أنفسهم برجوعه بعد أربعين يوماً. واتفق أن زادت دجلة في تلك السنة زيادة وافرة، فادعى أصحابه أن ذلك بسبب إلقاء رماده فيها. وادعى بعض أصحابه أنه لم يقتل، وإنما ألقى شبهه على عدو له. [وادعى بعضهم أنه رآه في ذلك اليوم بعد الذي عاينوه من الحال التي جرت عليه وهو راكب على حمار في طريق النهروان وقال لهم: لعلكم مثل هؤلاء النفر الذين ظنوا أني هو المضروب والمقتول؛ ومن شعره المنسوب إليه:   (1) ج: ذي الحجة. (2) في المسودة: قسطنطينية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 145 متى سهرت عيني لغيرك أو بكت ... فلا بلغت ما أملت وتمنت وإن أضمرت نفسي سواك فلا رعت ... بأرض المنى من وجنتيك وجنت] (1) وشرح حاله فيه طول، وفيما ذكرناه كفاية. والحلاج: بفتح الحاء المهملة وتشديد اللام وبعدها ألف ثم جيم. وإنما لقب بذلك لأنه جلس على حانوت حلاج واستقضاه شغلاً، فقال الحلاج: أنا مشتغل بالحلج، فقال له: امض في شغلي حتى أحلج عنك، فمضى الحلاج وتركه، فلما عاد رأى قطنه جميعه محلوجاً. [وقيل إنه كان يتكلم قبل أن ينسب إليه على الأسرار ويخبر عنها، فسمي بذلك حلاج الأسرار] . والبيضاء: بفتح الباء الموحدة وسكون الياء المثناة من تحتها وفتح الضاد المعجمة وبعدها همزة ممدودة (2) . قلت: وبعد الفراغ من هذه الترجمة، وجدت في كتاب " الشامل " في أصول الدين، تصنيف الشيخ العلامة إمام الحرمين أبي المعالي عبد الملك ابن الشيخ أبي محمد الجويني رحمهما الله تعالى - الآتي ذكره إن شاء الله تعالى - فصلاً ينبغي ذكره ههنا والتنبيه على الوهم الذي وقع فيه، فإنه قال، وقد ذكر طائفة من الأثبات الثقات: إن هؤلاء الثلاثة تواصوا على قلب الدولة، والتعرض لإفساد المملكة، واستعطاف القلوب واستمالتها، وارتاد كل واحد منهم قطراً: أما الجنابي فأكناف الأحساء، وابن المقفع توغل في أطراف بلاد الترك، وارتاد الحلاج قطر بغداد، فحكم عليه صاحباه بالهلكة والقصور عن درك الأمنية لبعد أهل العراق عن الانخداع؛ هذا آخر كلام إمام الحرمين، رحمه الله. قلتك وهذا كلام لا يستقيم عند أرباب التواريخ، لعدم اجتماع الثلاثة المذكورين في وقت واحد: أما الحلاج والجنابي فيمكن اجتماعهما لأنهما كانا في عصر واحد، ولكن لا أعلم هل اجتمعا أم لا. والمراد بالجنابي هو أبو طاهر سليمان بن أبي سعيد الحسن بن بهرام القرمطي، رئيس القرامطة   (1) زيادة من د. (2) إلى هنا انتهت الترجمة في س. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 146 وحديثهم وحروبهم وخروجهم على الخلفاء والملوك مشهور فلا حاجة إلى الإطالة بشرحه في هذا المكان، بل إن يسر الله تعالى تحرير التاريخ الكبير، فسأذكر فيه حديثهم مستوفى، إن شاء الله تعالى. وبعد أن جرى ذكرهم، فينبغي أن نذكر منه فصلاً مختصراً ههنا، حتى لا يخلو هذا الكتاب من حديثهم، فأقول: إن شيخنا عز الدين أبا الحسن علي بن محمد المعروف بابن الأثير ذكر في تاريخه الكبير الذي سماه " الكامل " أول أمرهم، وأطال الحديث فيه، وشرح في كل سنة ما كان يجري لهم فيها، فاخترت ههنا شيئاً من ذلك طلباً للإيجاز. وأول ما شرع فيه في سنة ثمان وسبعين ومائتين، فقال (1) : في هذه السنة تحرك قوم بسواد الكوفة يعرفون بالقرامطة، ثم بسط القول في ابتداء أمرهم، وحاصله: أن رجلاً أظهر العبادة والزهد والتقشف، وكان يسف الخوص ويأكل من كسبه وكان يدعو الناس إلى إمام من أهل البيت، رضي الله عنهم؛ وأقام على ذلك مدة، فاستجاب له خلق كثير، وجرت له أحوال أوجبت له حسن الاعتقاد فيه، وانتشر ذكرهم بسواد الكوفة. (23) ثم قال شيخنا ابن الأثير بعد هذا في سنة ست وثمانين ومائتين (2) : وفي هذه السنة ظهر رجل من القرامطة يعرف بأبي سعيد الجنابي بالبحرين، واجتمع إليه جماعة من الأعراب والقرامطة وقوي أمره، فقتل من حوله من أهل تلك القرى. وكان أبو سعيد المذكور يبيع للناس الطعام، ويحسب لهم بيعهم، ثم عظم أمرهم وقربوا من نواحي البصرة، فجهز إليهم الخليفة المعتضد بالله جيشاً يقاتلهم مقدمة العباس بن عمرو الغنوي، فتواقعوا وقعة شديدة، وانهزم أصحاب العباس واسر العباس، وكان ذلك في آخر شعبان سنة سبع وثمانين فيما بين البصرة والبحرين. وقتل أبو سعيد الأسري وأحرقهم، واستبقى   (1) تاريخ ابن الأثير 7: 444. (2) المصدر السابق: 493، 498، 511. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 147 العباس ثم أطلقه بعد أيام وقال له: امض إلى صاحبك وعرفه ما رأيت، فدخل بغداد في شهر رمضان من السنة، وحضر بين يدي المعتضد فخلع عليه. ثم إن القرامطة دخلوا بلاد الشام في سنة تسع وثمانين ومائتين، وجرت بين الطائفتين وقعات يطول شرحها. ثم قتل أبو سعيد المذكور في سنة إحدى وثلثمائة (1) ، قتله خادم له في الحمام وقام مقامه ولده أبو طاهر سليمان بن أبي سعيد، ولما قتل أبو سعيد كان قد استولى على هجر والقطيف والطائف وسائر بلاد البحرين. (24) وفي سنة إحدى عشرة وثلثمائة (2) في شهر ربيع الآخر منها، قصد أبو طاهر وعسكره البصرة وملكوها بغير قتال، بل صعدوا إليها ليلاً بسلالم الشعر، فلما حصلوا بها واحسوا بهم ثاروا إليهم فقتلوا متولي البلاد ووضعوا السيف في الناس فهربوا منهم، وأقام أبو طاهر سبعة عشر يوماً يحمل منها الأموال، ثم عاد إلى بلده، ولم يزالوا يعيشون في البلاد ويكثرون فيها الفساد من القتل والسبي والنهب والحريق إلى سنة سبع عشرة وثلثمائة، فحج الناس فيها، وسلموا في طريقهم. ثم وافاهم أبو طاهر القرمطي بمكة يوم التروية، فنهبوا أموال الحجاج وقتلوهم حتى في المسجد الحرام وفي البيت نفسه؛ وقلع الحجر الأسود وأنفذه إلى هجر، فخرج إليه أمير مكة في جماعة من الأشراف فقاتلوه فقتلهم أجمعين وقلع باب الكعبة، واصعد رجلاً ليقلع الميزاب فسقط فمات، وطرح القتلى في بئر زمزم ودفن الباقين في المسجد الحرام من غير كفن ولا غسل ولا صلاة على أحد منهم. وأخذ كسوة البيت فقسمها بين أصحابه، ونهيب دور أهل مكة، فلما بلغ ذلك المهدي عبيد الله صاحب إفريقية - الآتي ذكره إن شاء الله تعالى - كتب إليه ينكر عليه ذلك ويلومه ويلعنه ويقيم عليه القيامة، ويقول له: حققت على شيعتنا ودعاة دولتنا الكفر واسم الإلحاد بما قد فعلت، فإن لم   (1) تاريخ ابن الأثير 8: 83. (2) المصدر السابق: 143، 147. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 148 ترد على أهل مكة وعلى الحجاج وغيرهم ما قد أخذت منهم، وترد الحجر الأسود إلى مكانه وترد كسوة الكعبة، فأنا بريء منك في الدنيا والآخرة. فلما وصله هذا الكتاب أعاد الحجر، واستعاد ما أمكنه من أموال أهل مكة فرده. ثم ذكر شيخنا ابن الأثير في سنة تسع وثلاثين وثلثمائة أن القرامطة ردوا الحجر إلى مكة وقالوا: أخذناه بأمر وأعدناه بأمر. وكان بجكم التركي أمير بغداد والعراق قد بذل لهم في رده خمسين ألف دينار فلم يردوه، وردوه الآن. وقال غير شيخنا: إنهم ردوه إلى مكانه من الكعبة المعظمة لخمس خلون من ذي القعدة، وقيل من ذي الحجة من السنة، في خلافة المطيع لله، وإنه لما أخذوه تفسخ تحته ثلاثة جمال قوية من ثقله، وحملوه لما أعادوه على جمل واحد ضعيف فوصل به سالماً. قلت: وهذا الذي ذكره شيخنا - من كتاب المهدي إلى القرمطي في معنى الحجر، وأنه رده لذلك - لا يستقيم، لأن المهدي توفي سنة اثنتين وعشرين وثلثمائة، وكان رد الحجر في سنة تسع وثلاثين، فقد ردوه بعد موته بسبع عشرة سنة، والله أعلم. ثم قال شيخنا عقيب هذا: ولما أرادوا رده حملوه إلى الكوفة، وعلقوه بجامعها حتى رآه الناس، ثم حملوه إلى مكة، وكان مكثه عندهم اثنتين وعشرين سنة. قلت: وقد ذكر غير شيخنا أن الذي رده هو ابن سنبر، وكان من خواص أبي سعيد. ثم ذكر شيخنا في سنة ستين وثلثمائة (1) أن القرامطة وصلوا إلى دمشق فملكوها وقتلوا جعفر بن فلاح نائب المصريين - وقد سبق في ترجمة جعفر المذكور طرف من خبر هذه القضية - ثم بلغ عسكر القرامطة إلى عين شمس، وهي على باب القاهرة، وظهروا عليهم، ثم انتصر أهل مصر عليهم فرجعوا عنهم. قلت: وعلى الجملة فالذي فعلوه في الإسلام لم يفعله أحد قبلهم ولا بعدهم من   (1) تاريخ ابن الأثير 8: 614. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 149 المسلمين، وقد ملكوا كثيراً من بلاد العراق والحجاز وبلاد الشرق والشام إلى باب مصر، ولما أخذوا الحجر تركوه عندهم في هجر، وقتل أبو طاهر المذكور في سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة. والقرمطي: بكسر القاف وسكون الراء وكسر الميم وبعدها طاء مهملة؛ والقرمطة في اللغة تقارب الشيء بعضه من بعض، يقال: خط مقرمط، ومشي مقرمط، إذا كان كذلك. وكان أبو سعيد المذكور قصيراً مجتمع الخلق أسمر كريه المنظر، فلذلك قيل له قرمطي. وقد ذكر القاضي أبو بكر الباقلاني فصلاً طويلاً من أحوالهم في كتاب " كشف أسرار الباطنية ". وأما الجنابي: فإنه بفتح الجيم وتشديد النون وبعد الألف باء موحدة، وهذه النسبة إلى جنابة، وهي بلدة من أعمال فارس متصلة بالبحرين عند سيراف، والقرامطة منها، فنسبوا إليها. والأحساء - بفتح الهمزة وسكون الحاء المهملة وبعدها سين مهملة ثم همزة ممدودة - وهي كورة في تلك الناحية، فيها بلاد كثيرة منها جنابة المذكورة وهجر والقطيف - وهي بفتح القاف وكسر الطاء المهملة وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها فاء - وغير ذلك من البلاد؛ والأحساء: جمع حسي - بكسر الحاء وسكون السين المهملة - والحسي: ماء تنشفه الأرض من الرمل، فإذا صار إلى صلابة أمسكته فتحفر العرب عنه الرمل فتستخرجه. ولما كانت هذه الأرض كثيرة الأحساء سميت بهذا الاسم، وصار علماً عليها لا تعرف إلا به. وأما البحرين فقد قال الجوهري في كتاب " الصحاح ": البحرين بلد، والنسبة إليه بحراني، وقال الأزهري: إنما ثنوا البحرين لأن في ناحية قراها بحيرة على باب الأحساء وقرى هجر بينها وبين البحر الأخضر الأعظم عشرة فراسخ، وقدرت البحيرة ثلاثة أميال في مثلها، ولا يغيض ماؤها، وهو راكد زعاق، وهذه النواحي كلها بلاد العرب، وهي وراء البصرة تتصل بأطراف الحجاز وهي على ساحل البحر المتصل باليمن والهند، بالقرب من جزيرة قيس ابن عميرة وهي التي تسميها العامة كيش، وهي في وسط البحر بين عمان وبلاد فارس، وفي تلك الناحية أيضاً رامهرمز وغيرها من البلاد، والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 150 (25) وأما ابن المقفع (1) فهو عبد الله ابن المقفع (2) الكاتب المشهور بالبلاغة، صاحب الرسائل البديعة، وهو من أهل فارس، وكان مجوسياً فأسلم على يد عيسى بن علي عم السفاح والمنصور الخليفتين الأولين من خلفاء بني العباس، ثم كتب له واختص به. ومن كلامه " شربت من الخطب ريا، ولم أضبط لها رويا، فغاضت ثم فاضت، فلا هي هي نظاما، وليست غيرها كلاما ". وقال الهيثم ابن عدي: جاء ابن المقفع إلى عيسى بن علي فقال له: قد دخل الإسلام في قلبي، وأريد أن أسلم على يدك، فقال له عيسى: ليكن ذلك بمحضر من القواد ووجوه الناس، فإذا كان الغد فاحضر؛ ثم حضر طعام عيسى عشية ذلك اليوم، فجلس ابن المقفع يأكل ويزمزم على عادة المجوس، فقال له عيسى: أتزمزم وأنت على عزم الإسلام فقال: أكره أن أبيت على غير دين، فلما أصبح أسلم على يده. وكان ابن المقفع مع فضله يتهم بالزندقة، فحكى الجاحظ أن ابن المقفع ومطيع بن إياس ويحيى بن زياد كانوا يتهمون في دينهم؛ قال بعضهم: فكيف نسي الجاحظ نفسه وكان المهدي بن المنصور الخليفة يقول: ما وجدت كتاب زندقة إلا وأصله ابن المقفع؛ وقال الأصمعي: صنف ابن المقفع المصنفات الحسان منها " الدرة اليتيمة " التي لم يصنف في فنها مثلها؛ وقال الأصمعي: قيل لابن المقفع: من أدبك فقال: نفسي، إذا رأيت من غيري حسناً أتيته وإن رأيت قبيحاً أبيته. واجتمع ابن المقفع بالخليل بن أحمد صاحب العروض، فلما افترقا قيل للخليل: كيف رايته فقال: علمه أكثر من عقله، وقيل لابن المقفع: كيف رأيت الخليل فقال: عقله أكثر من علمه. ويقال: إن ابن   (1) وضع وستنفيلد لهذه الترجمة رقماً. (2) ترجمة ابن المقفع في الجهشياري: 109 والفهرست: 118 وابن أبي أصيبعة 1: 308، وله ترجمة في أنساب الأشراف نشرها الدكتور محمد نجم بمجلة الأبحاث (بيروت 1963) وقد كتبت عن ابن المقفع كتب عديدة منها لخليل مردم وعباس اقبال (بالفارسية) وعبد اللطيف حمزة وغفراني الخراساني، وفي الجزء الأول من ضحى الإسلام فصل عنه وكذلك لجبراييلي بحث (مضمن في كتاب من تاريخ الإلحاد في الإسلام) وبحث لكراوس (مضمن في كتاب التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية للكتور عبد الرحمن بدوي) وانظر بروكلمان (3: 92 - 102 من الترجمة العربية) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 151 المقفع هو الذي وضع كتاب " كليلة ودمنة "، وقيل: إنه لم يضعه وإنما كان باللغة الفارسية فعربه ونقله إلى العربية، وإن الكلام الذي في أول هذا الكتاب من كلامه. وكان ابن المقفع يعبث بسفيان بن معاوية بن يزيد بن المهلب بن أبي صفرة أمير البصرة وينال من أمه ولا يسميه إلا بابن المغتلمة، وكثر ذلك منه، فقدم سليمان وعيسى ابنا علي البصرة - وهما عما المنصور - ليكتبا أماناً لأخيهما عبد الله بن علي من المصور، وكان عبد الله المذكور قد خرج على ابن أخيه المنصور وطلب الخلافة لنفسه، فأرسل إليه المنصور جيشاً مقدمه أبو مسلم الخراساني، فانتصر أبو مسلم عليه. وهرب عبد الله بن علي إلى أخويه سليمان وعيسى، واستتر عندهما خوفاً على نفسه من المنصور، فتوسطا له عند المنصور ليرضى عنه، ولا يؤاخذه بما جرى منه، فقبل شفاعتهما، واتفقوا على أن يكتب له أمان من المنصور، وهذه الواقعة مشهورة في كتب التواريخ. وقد أتيت منها في هذا المكان بما تدعو الحاجة إليه لينبني الكلام بعضه على بعض. فلما أتيا البصرة قالا لعبد الله ابن المقفع: اكتبه أنت وبالغ في التأكيد كي لا يقتله المنصور. وقد ذكرت أن ابن المقفع كان كاتباً لعيسى بن علي، فكتب ابن المقفع الأمان وشدد فيه حتى قال في جملة فصوله: " ومتى غدر أمير المؤمنين بعمه عبد الله بن علي، فتساؤه طوالق، ودوابه حبس، وعبيده أحرار، والمسلمون في حل من بيعته ". وكان ابن المقفع يتنوق في الشروط فلما وقف عليه المنصور عظم ذلك عليه، وقال: من كتب هذا فقالوا له: رجل يقال له عبد الله ابن المقفع يكتب لأعمامك، فكتب إلى سفيان متولي البصرة المقدم ذكره يأمره بقتله، وكان سفيان شديد الحنق عليه للسبب الذي تقدم ذكره، فاستأذن ابن المقفع يوماً على سفيان، فأخر إذنه حتى خرج من كان عنده، ثم أذن له فدخل، فعدل به إلى حجرة فقتل فيها. وقال المدائني: لما دخل ابن المقفع على سفيان، قال له: أتذكر ما كنت تقول في أمي فقال: أنشدك الله أيها الأمير في نفسي، فقال: أمي مغتلمة إن لم أقتلك قتلة لم يقتل بها أحد، وأمر بتنور فسجر، ثم أمر بابن المقفع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 152 فقطعت أطرافه عضواً عضواً، وهو يلقيها في التنور، وهو ينظر، حتى أتى على جميع جسده، ثم أطبق عليه التنور، وقال: ليس علي في المثلة بك حرج لأنك زنديق وقد أفسدت الناس. وسأل سليمان وعيسى عنه فقيل: إنه دخل دار سفيان سليماً ولم يخرج منها، فخاصماه إلى المنصور، وأحضراه إليه مقيداً، وحضر الشهود الذين شاهدوه وقد دخل داره ولم يخرج، فأقاموا الشهادة عند المنصور، فقال لهم المنصور: أنا أنظر في هذا الأمر، ثم قال لهم: أرأيتم إن قتلت سفيان به ثم خرج ابن المقفع من هذا البيت - وأشار إلى باب خلفه - وخاطبكم ما تروني صانعاً بكم أأقتلكم بسفيان! فرجعوا كلهم عن الشهادة، وأضرب عيسى وسليمان عن ذكره، وعلموا أن قتله كان برضا المنصور. ويقال: إنه عاش ستاً وثلاثين سنة. وذكر الهيثم بن عدي أن ابن المقفع كان يستخف بسفيان كثيراً، وكان أنف سفيان كبيراً، فكان إذا دخل عليه قال: السلام عليكما، يعني نفسه وأنفه؛ وقال له يوماً: ما تقول في شخص مات وخلف زوجاً وزوجة يسخر به على رؤوس الناس، وقال سفيان يوماً: ما ندمت على سكوت قط، فقال له ابن المقفع: الخرس زين لك فكيف تندم عليه! وكان سفيان يقول: والله لأقطعنه إرباً إرباً وعينه تنظر، وعزم على أن يغتاله، فجاءه كتاب المنصور بقتله فقتله. وقال البلادري: لما قدم عيسى بن علي البصرة في أمر أخيه عبد الله بن علي قال لابن المقفع: اذهب إلى سفيان في أمر كذا وكذا، فقال: ابعث إليه غيري، فإني أخاف منه، فقال: اذهب فأنت في أماني، فذهب إليه ففعل به ما ذكرناه، وقيل: إنه ألقاه في بئر المخرج وردم عليه الحجارة، وقيل أدخله حماماً وأغلق عليه بابه فاختنق. قلت: ذكر صاحبنا شمس الدين أبو المظفر يوسف الواعظ سبط الشيخ جمال الدين أبي الفرج ابن الجوزي الواعظ المشهور في تاريخه الكبير الذي سماه " مرآة الزمان " أخبار ابن المقفع وما جرى له وقتله في سنة خمس وأربعين ومائة، ومن عادته أن يذكر كل واقعة في السنة التي كانت فيها، فيدل على أن قتله كان في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 153 السنة المذكورة، وفي كلام عمر بن شبه في كتاب " أخبار البصرة " ما يدل على أن ذلك كان في سنة اثنتين وأربعين ومائة أو ثلاث وأربعين. ولا خلاف في أن سليمان بن علي المقدم ذكره مات في سنة اثنتين وأربعين ومائة، وقد ذكرنا أنه قام مع أخيه عيسى بن علي في طلب ثأر ابن المقفع، فيدل أيضاً على أنه قتل في هذه السنة، والله أعلم. وابن المقفع له شعر، وهو مذكور في كتاب " الحماسة "، وسيأتي في ترجمة أبي عمرو ابن العلاء المقرئ له مرثية فيه. وقد قيل: إنها لولده محمد بن عبد الله ابن المقفع على ما ذكرته هناك من الخلاف، فلينظر فيه (1) . وكيفما كان، فإن تاريخ قتله لم يكن بعد سنة خمس وأربعين ومائة وإنما كان فيها أو فيما قبلها، وإذا كان كذلك، فكيف يتصور أن يجتمع بالحلاج والجنابي - كما ذكره إمام الحرمين رحمه الله تعالى - ومن ها هنا حصل الغلط، وايضاً فإن ابن المقفع لم يفارق العراق، فكيف يقول: إنه توغل في بلاد الترك، وإنما كان مقيماً بالبصرة ويتردد في بلاد العراق، ولم تكن بغداد موجودة في زمنه، فإن المنصور أنشأها في مدة خلافته: فاختطها في سنة أربعين ومائة، واستتم بناءها ونزلها في سنة ست وأربعين، وفي سنة تسع وأربعين تم جميع بنائها، وهي بغداد القديمة التي كانت بالجانب الغربي على دجلة، وهي بين الفرات ودجلة كما جاء في الحديث المروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه تنشأ مدينة في هذا المكان، وهذا الحديث هو الذي ذكره الخطيب أبو بكر البغدادي في أول تاريخه الكبير وقد غاب عني الآن لفظه فلهذا لم أذكره. وبغداد في هذا الزمان هي الجديدة التي في الجانب الشرقي وفيها دور الخلفاء، وهي قاعدة الملك في هذا الوقت، وكان السفاح وأخوه المنصور قد نزلا بالكوفة، ثم بنى السفاح بليدة عن الأنبار سماها الهاشمية، فانتقلا إليها، ثم انتقلا إلى الأنبار، وبها مت السفاح وقبره ظاهر بها، وأقام المنصور على ذلك إلى أن بنى بغداد فانتقل إليها.   (1) هي الحماسة: 282 (شرح المرزوقي: 863) في رثاء يحيى بن زياد وسوردها المؤلف في ترجمة أبي عمرو ان العلاء؛ ولكن لعل الأرجح أن " أبا عمرو " المرثي في القصيدة ليس هو أبا عمرو ابن العلاء وتكون القصيدة صحيحة النسبة لعبد الله ابن المقفع، قال ابن خلكان: " ولكنها مشهورة في أبي عمرو المذكور " وإذا كان الأمر كذلك فإنها ليست لعبد الله بن المقفع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 154 والمقفع - بضم الميم وفتح القاف وتشديد الفاء وفتحها وبعدها عين مهملة - واسمه داوديه، وكان الحجاج بن يوسف الثقفي في أيام ولايته العراق وبلاد فارس قد ولاه خراج فارس فمد يده وأخذ الأموال، فعذبه فتقفعت يده فقيل له المقفع، وقيل: بل ولاه خالد بن عبد الله القسري - الآتي ذكره إن شاء الله تعالى - وعذبه يوسف بن عمر الثقفي الآتي ذكره لما تولى العراق بعد خالد، والله أعلم أي ذلك كان. وقال ابن مكي في كتاب " تثقيف اللسان " ويقولون: ابن المقفع والصواب ابن المقفع - بكسر الفاء - لأن أباه كان يعمل القفاع ويبيعها. قلت: والقفاع بكسر القاف جمع قفعة بفتح القاف، وهي شيء يعمل من الخوص شبيه الزبيل لكنه بغير عروة، والقول الأول هو المشهور بين العلماء، وهو فتح الفاء. قلت: ولما وقفت على كلام إمام الحرمين - رحمه الله تعالى - ولم يمكن أن يكون ابن المقفع أحد الثلاثة المذكورين قلت: لعله أراد المقنع الخراساني الذي ادعى الربوبية، وأظهر القمر - كما شرحته في ترجمته بعد هذا في حرف العين - فإن اسمه عطاء، ويكون الناسخ قد حرف كلام إمام الحرمين فأراد أن يكتب المقنع فكتب المقفع فإنه يقرب منه في الخط. فيكون الغلط والتحريف من الناسخ لا من الإمام، ثم أفكرت في أنه لا يستقيم أيضاً، لأن المقنع الخراساني قتل نفسه بالسم في سنة ثلاث وستين ومائة - كما ذكرناه في ترجمته - فما أدرك الحلاج والجنابي أيضاً. (26) وإذا أردنا تصحيح هذا القول وأن ثلاثة اجتمعوا واتفقوا على الصورة التي ذكرها إمام الحرمين فما يمكن أن يكون الثالث إلا ابن الشلمغاني، فإنه كان في عصر الحلاج والجنابي، وأموره كلها مبنية على التمويهات، وقد ذكره جماعة من أرباب التاريخ، فقال شيخنا عز الدين بن الأثير في تاريخه الكبير في سنة اثنتين وعشرين وثلثمائة فصلاً طويلاً اختصرته (1) ، وهو: وفي هذه   (1) تاريخ ابن الأثير 8: 290 ومعجم الأدباء 1: 234 (في ترجمة إبراهيم بن أبي عون) ومعجم البلدان " شلمغان " والأنساب واللباب " الشلمغاني ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 155 السنة قتل أبو جعفر محمد بن علي الشلمغاني المعروف بابن ابي العزاقر، وسبب ذلك أنه أحدث مذهباً غالياً في التشيع والتناسخ وحلول الإلهية فيه، إلى غير ذلك مما يحكيه، وأظهر ذلك من فعله أبو القاسم الحسين بن روح الذي تسميه الأمامية " الباب " فطلب ابن الشلمغاني فاستتر وهرب إلى الموصل وأقام سنين، ثم انحدر إلى بغداد وظهر عنه أنه يدعي الربوبية، وقيل: إنه تبعه على ذلك الحسين بن القاسم بن عبيد الله بن سليمان بن وهب الذي وزر للمقتدر بالله وابنا بسطام وإبراهيم بن أحمد بن أبي عون وغيرهم، وطلبوا في أيام وزارة ابن مقلة للمقتدر فلم يوجدوا، فلما كان في شوال سنة اثنتين وعشرين وثلثمائة ظهر ابن الشلمغاني، فقبض عليه ابن مقلة وحبسه وكبس داره، فوجد فيها رقاعاً وكتباً ممن يدعي أنه على مذهبه يخاطبونه بما لا يخاطب به البشر بعضهم بعضاً، فعرضت على ابن الشلمغاني فأقر أنها خطوطهم وأنكر مذهبه، واظهر الإسلام، وتبرأ مما يقال فيه. وأحضر ابن أبي عون وابن عبدوس معه عند الخليفة، فأمر بصفعه فامتنعا، فلما أكرها مد ابن عبدوس يده فصفعه، وأما ابن أبي عون فإنه مد يده إلى لحيته ورأسه، وارتعدت يده وقبل لحية ابن الشلمغاني ورأسه وقال: إلهي وسيدي ورازقي، فقال له الخليفة الراضي بالله: قد زعمت أنك لا تدعي الإلهية فما هذا فقال: وما علي من قول ابن أبي عون والله يعلم أنني ما قلت له إنني إله قط، فقال ابن عبدوس: إنه لم يدع إلهية، إنما ادعى أنه الباب إلى الإمام المنتظر، ثم أحضروا مرات ومعهم الفقهاء والقضاة، وفي آخر الأمر أفتى الفقهاء بإباحة دمه، فأحرق بالنار في ذي القعدة من سنة اثنتين وعشرين وثلثمائة. (27) وذكره محب الدين بن النجار في " تاريخ بغداد " في ترجمة ابن أبي عون المذكور وقال: إن ابن أبي عون ضربت عنقه بعد أن ضرب بالسياط ضرباً مبرحاً لمتابعته ابن الشلمغاني، وصلب ثم أحرق بالنار، وذلك في يوم الثلاثاء لليلة خلت من ذي القعدة من السنة المذكورة. قلت: وابن أبي عون هو صاحب التصانيف المليحة منها " التشبيهات " و " الأجوبة المسكتة " وغير ذلك، وكان من أعيان الكتاب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 156 والشلمغاني - بفتح الشين المعجمة وسكون اللام وبعدها ميم ثم غين معجمة وبعد الألف نون - هذه النسبة إلى شلمغان، وهي قرية بنواحي واسط، وقد ذكره السمعاني في كتاب " الأنساب " أيضاً، والله أعلم. 190 - (1) ابن سينا الرئيس أبو علي الحسين بن عبد الله بن سينا الحكيم المشهور؛ كان أبوه من أهل بلخ، وانتقل منها إلى بخارى، وكان من العمال الكفاة، وتولى العمل بقرية من ضياع بخارى يقال لها خرميثنا (2) من أمهات قراها، وولد الرئيس أبو علي وكذلك أخوه بها، واسم أمه ستارة (3) وهي من قرية يقال لها أفشنة بالقرب من خرميثنا. [ولما ولد أبو علي كان الطالع السرطان درجة شرف المشتري والقمر على شرف درجته والزهرة على درجة شرفها وسهم السعادة في تسع من السرطان وسهم الغيب في أول السرطان مع سهيل والشعرى اليمانية] (4) . ثم انتقلوا إلى بخارى، وتنقل الرئيس بعد ذلك في البلاد، واشتغل بالعلوم وحصل الفنون، [ولما بلغ (5) عشر سنين من عمره كان قد أتقن علم القرآن العزيز والأدب وحفظ أشياء من أصول الدين وحساب الهندسة والجبر والمقابلة، ثم توجه   (1) ترجمة الشيخ الرئيس ابن سينا في تاريخ الحكماء: 413 وابن أبي أصيبعة: 239 وابن العبري: 187 وخزانة الأدب 4: 466 ولسان الميزان 2: 291، وانظر البحوث التي نشرت في كتاب المهرجان الألفي وكتاب مؤلفات ابن سينا وضع الأب جورج قنواتي (القاهرة 1950) . (2) هـ: خرتمش. (3) ر: سارة؛ م: شادة. (4) زيادة من ر. (5) ولما بلغ ... وكان نادرة: سقط من س ص والمسودة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 157 نحوهم الحكيم أبو عبد الله الناتلي (1) ، فأنزله أبو الرئيس أبي علي عنده، فابتدأ أبو علي يقرأ عليه كتاب إيساغوجي واحكم عليه علم المنطق وإقليدس والمجسطي وفاقه أضعافاً كثيرة، حتى أوضح له منها رموزاً وفهمه إشكالات لم يكن للناتلي يد بها، وكان مع ذلك يختلف في الفقه إلى إسماعيل الزاهد، يقرأ ويبحث ويناظر، ولما توجه الناتلي نحو خوارزم شاه مأمون بن محمد اشتغل أبو علي بتحصيل العلوم كالطبيعي والإلهي وغير ذلك، ونظر في النصوص والشروح وفتح الله عليه أبواب العلوم، ثم رغب بعد ذلك في علم الطب وتأمل الكتب المصنفة فيه، وعالج تأدباً لا تكسباً، وعلمه حتى فاق فيه الأوائل والأواخر في أقل مدة وأصبح فيه عديم القرين فقيد المثل، واختلف إليه فضلاء هذا الفن وكبراؤه يقرؤون عليه أنواعه والمعالجات المقتبسة من التجربة، وسنه إذ ذاك نحو ست عشرة سنة. وفي مدة اشتغاله لم ينم ليلة واحدة بكمالها ولا اشتغل في النهار بسوى المطالعة، وكان إذا أشكلت عليه مسألة توضأ وقصد المسجد الجامع، وصلى ودعا الله عز وجل أن يسهلها عليه ويفتح مغلقها له. وذكر عند الأمير نوح بن نصر الساماني (2) صاحب خراسان في مرض مرضه فأحضره وعالجه حتى برئ، واتصل به وقرب منه، ودخل إلى دار كتبه وكانت عديمة المثل، فيها من كل فن من الكتب المشهورة بأيدي الناس وغيرها مما لا يوجد في سواها ولا سمع باسمه فضلاً عن معرفته، فظفر أبو علي فيها يكتب من علم الأوائل وغيرها وحصل نخب فوائدها واطلع على أكثر علومها، واتفق بعد ذلك احتراق تلك الخزانة، فتفرد أبو علي بما حصله من علومها، وكان يقال: إن أبا علي توصل إلى إحراقها لينفرد بمعرفة ما حصله منها وينسبه إلى نفسه. ولم يستكمل ثماني عشرة سنة من عمره إلا وقد فرغ من تحصيل العلوم بأسرها التي عاناها، وتوفي أبوه وسن أبي علي اثنتان وعشرون سنة، وكان يتصرف   (1) ب هـ: البابلي. (2) تولى حكم خراسان وما وراء النهر بعد أبيه نصر بن أحمد سنة 331 ولقب بالأمير الحميد، وبقي في الحكم حتى توفي سنة 343، وكان حسن السيرة كريم الأخلاق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 158 هو ووالده في الأحوال ويتقلدان للسلطان الأعمال. ولما اضطربت أمور الدولة السامانية خرج أبو علي من بخارى إلى كركانج، وهي قصبة خوارزم، واختلف إلى خوارزم شاه علي بن مأمون بن محمد، وكان أبو علي على زي الفقهاء ويلبس الطيلسان، فقرروا له في كل شهر ما يقوم به، ثم انتقل إلى نسا وأبيورد وطوس وغيرها من البلاد، وكان يقصد حضرة الأمير شمس المعالي قابوس بن وشمكير في أثناء هذه الحال، فلما أخذ قابوس وحبس في بعض القلاع حتى مات - كما سيأتي شرحه في ترجمته في حرف القاف من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى - ذهب أبو علي إلى دهستان ومرض بها مرضاً صعباً، وعاد إلى جرجان، وصنف بها الكتاب الأوسط - ولهذا يقال له " الأوسط الجرجاني " - واتصل به الفقيه أبو عبيد الجوزجاني، واسمه عبد الواحد، ثم انتقل إلى الري واتصل بالدولة، ثم إلى قزوين ثم إلى همذان، وتولى الوزارة لشمس الدولة، ثم تشوش العسكر عليه، فأغاروا على داره ونهبوها وقبضوا عليه وسألوا شمس الدولة قتله فامتنع، ثم أطلق فتوارى، ثم مرض شمس الدولة بالقولنج فأحضره لمداواته واعتذر إليه وأعاده وزيراً، ثم مات شمس الدولة وتولى تاج الدولة فلم يستوزره، فتوجه إلى أصبهان وبها علاء الدولة أبو جعفر ابن كاكويه، فأحسن إليه. وكان أبو علي قوي المزاج، وتغلب عليه قوة الجماع حتى أنهكته ملازمته وأضعفته ولم يكن يداوي مزاجه، وعرض له قولنج، فحقن نفسه في يوم واحد ثماني مرات فقرح بعض أمعائه وظهر له سحج، واتفق سفره مع علاء الدولة، فحصل له الصرع الحادث عقيب القولنج، فأمر باتخاذ دانقين من كرفس في جملة ما يحقن به، فجعل الطبيب الذي يعالجه فيه خمسة دراهم منه، فازداد السحج به من حدة الكرفس فطرح بعض غلمانه في بعض أدويته شيئاً كبيراً من الأفيون، وكان سببه أن غلمانه خانوه في شيء، فخافوا عاقبة أمره عند برئه؛ وكان مذ حصل له الألم يتحامل ويجلس مرة بعد أخرى ولا يحتمي ويجامع، فكان يمرض أسبوعاً ويصلح أسبوعاً، ثم قصد علاء الدولة همذان من أصبهان ومعه الرئيس أبو علي، فحصل له القولنج في الطريق ووصل إلى همذان وقد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 159 ضعف جداً وأشرفت قوته على السقوط، فأهمل المداواة وقال: المدبر الذي في بدني قد عجز عن تدبيره فلا تنفعني المعالجة، ثم اغتسل وتاب وتصدق بما معه على الفقراء، ورد المظالم على من عرفه وأعتق مماليكه وجعل يختم في كل ثلاثة أيام ختمة، ثم مات في التاريخ الذي يأتي في آخر ترجمته إن شاء الله تعالى] (1) . وكان نادرة عصره في علمه وذكائه وتصانيفه، وصنف كتاب " الشفاء " في الحكمة، و " النجاة " و " الإشارات " و " القانون " وغير ذلك مما يقارب مائة مصنف ما بين مطول ومختصر ورسالة في فنون شتى، وله رسائل بديعة: منها رسالة " حي بن يقظان " ورسالة " سلامان وابسال " ورسالة " الطير " وغيرها، وانتفع الناس بكتبه، وهو أحد فلاسفة المسلمين. وله شعر، فمن ذلك قوله في النفس: هبطت إليك من المحل الأرفع ... ورقاء ذات تعزز وتمنع محجوبة عن كل مقلة عارف ... وهي التي سفرت فلم تتبرقع وصلت على كره إليك وربما ... كرهت فراقك وهي ذات تفجع أنفت وما ألفت فلما واصلت ... ألف مجاورة الخراب البلقع وأظنها نسيت عهوداً بالحمى ... ومنازلاً بفراقها لم تقنع حتى إذا اتصلت بهاء هبوطها ... من ميم مركزها بذات الأجرع علقت بها ثاء الثقيل فأصبحت ... بين المعالم والطلول الخضع تبكي وقد نسيت عهوداً بالحمى ... بمدامع تهمي ولما تقلع حتى إذا قرب المسير إلى الحمى ... ودنا الرحيل إلى الفضاء الأوسع وغدت تغرد فوق ذروة شاهق ... والعلم يرفع كل من لم يرفع وتعود عالمة بكل خفية ... في العالمين فخرقها لم يرقع فهبوطها إذ كان ضربة لازم (2) ... لتكون سامعة لما لم تسمع فلأي شيء أهبطت من شاهق ... سام إلى قعر الحضيض الأوضع   (1) انفردت به ر. (2) ج: لازب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 160 إن كان أهبطها الإله لحكمه ... طويت عن الفطن اللبيب الأروع (1) إذ عاقها الشرك الكثيف فصدها ... قفص عن الأوج الفسيح الأربع فكأنها برق تألق بالحمى ... ثم انطوى فكأنه لم يلمع ومن المنسوب إليه أيضاً، ولا أتحققه، قوله: اجعل غذاءك كل يوم مرة ... واحذر طعاماً قل هضم طعام واحفظ منيك ما استطعت فإنه ... ماء الحياة يراق في الأرحام وينسب إليه البيتان اللذان ذكرهما الشهرستان في أول كتاب " نهاية الأقدام " وهما (2) : لقد طفت في تلك المعاهد كلها ... وسيرت طرفي بين تلك المعالم فلم أر إلا واضعاً كف حائر ... على ذقن أو قارعاً سن نادم [ومن شعره أيضاً: هذب النفس بالعلوم لترقى ... فترى الكل فهي للكل بيت إنما النفس كالزجاجة والعل ... م سراج وحكمة الله زيت فهي إن أشرقت فإنك حي ... وهي إن أظلمت فإنك ميت] (3) وفضائله كثيرة ومشهورة. وكانت ولادته في سنة سبعين وثلثمائة في شهر صفر، وتوفي بهمذان يوم الجمعة من شهر رمضان سنة ثمان وعشرين وأربعمائة ودفن بها. وحكى شيخنا عز الدين أبو الحسن علي بن الأثير في تاريخه الكبير (4) أنه توفي بأصبهان، والأول أشهر، رحمه الله تعالى.   (1) ج: اللوذعي. (2) انظر نهاية الأقدام: 3. (3) زيادة من ص. (4) تاريخ ابن الأثير 9: 456. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 161 وكان الشيخ كما الدين بن يونس (1) رحمه الله تعالى يقول: إن مخدومه سخط عليه واعتقله، ومات في السجن، وكان ينشد: رأيت ابن سينا يعادي الرجال ... وفي السجن مات أخس الممات فلم يشف ما نابه بالشفا ... ولم ينج من موته بالنجاة وسينا: بكسر السين المهملة وسكون الياء المثناة من تحتها وفتح النون وبعدها ألف ممدودة. 191 - (2) الخليع الشاعر أبو علي الحسين بن الضحاك بن ياسر الشاعر البصري المعروف بالخليع، مولى لولد سلمان بن ربيعة الباهلي الصحابي رضي الله عنه، وأصله من خراسان؛ وهو شاعر ماجن مطبوع حسن الافتنان في ضروب الشعر وأنواعه، واتصل في مجالسه الخلفاء إلى ما لم يتصل إليه إلا إسحاق بن إبراهيم النديم الموصلي، فإنه قاربه في ذلك أو ساواه، وأول من صحب منهم الأمين محمد بن هارون الرشيد، وكان اتصاله به في سنة ثمان وتسعين ومائة وهي السنة التي قتل فيها الأمين، ولم يزل مع الخلفاء بعده إلى أيام المستعين، [ما عدا المأمون، فإنه لم يدخل   (1) هو أبو عمران موسى بن يونس بن محمد بن منعة، كان حكيماً متزهداً يدرس بالموصل وقد أجاب عن مسائل بعث بها الانبرور (فردريك الثاني) وله عدد من المؤلفات (انظر ابن ابي أصيبعة 1: 338) . (2) ترجمة الخليع في طبقات ابن المعتز: 286 والأغاني 7: 143 وتاريخ بغداد 8: 54 ومعجم الأدباء 9: 5 وشذرات الذهب 2: 123، وقد جمع ديوانه الأستاذ عبد الستار فراج (دار الثقافة - بيروت: 1960) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 162 عليه ولم يختلط به وذلك لأنه رثى الأمين فقال: هلا بقيت لسد فاقتنا ... أبداً وكان لغيرك التلف وقد كان فيك لمن مضى خلف ... فاليوم أعوز بعدك الخلف فلما ورد المأمون بغداد أمر أن يكتب من يصلح لمنادمته من أهل الأدب فأثبت له قوم وذكر فيهم الحسين بن الضحاك فقال: أليس القائل: وكان لغيرك التلف والله لا أرى وجهه على الطريق؛ فلم يحظ في أيام المأمون بشيء] (1) . [وقد كان وقت خدمته للمتوكل ضعف كبراً فكتب إليه يستعفيه من الخدمة بأبيات (2) : أسلفت أسلافك من خدمتي ... في مدتي إحدى وستينا وكنت ابن عشرين وخمس وقد ... وفيت بضعاً وثمانينا إني لمعروف بضعف القوى ... وإن تجلدت أحايينا فإن تحملت على كبرتي ... خدمة أبناء الثلاثينا هدت قواي ووهت أعظمي ... وصرت في العلة عزونا وعزون هذا كان نديماً للمعتصم ثم للمتوكل] (3) . وهو في الطبقة الأولى من الشعراء المجيدية وبينه وبين أبي نواس ماجريات لطيفة ووقائع حلوة. وسمي بالخليع لكثرة مجونه وخلاعته. ذكره ابن المنجم في كتابه " البارع " وأبو الفرج الأصبهاني في " الأغاني " وكل منهما أورد طرفاً من محاسن شعره، فمن ذلك قوله (4) :   (1) زيادة من ر ليست في المسودة؛ وانظر الشعر في ديوانه: 79. (2) الأبيات في ديوانه: 121. (3) زيادة من د ر ليست في المسودة. (4) وردت هذه المقطعات في ديوانه: 58، 54، 76، 45، 43. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 163 صل بخدي تلق عجيبا ... من معان يحار فيها الضمير فبخديك للربيع رياض ... وبخدي للدموع غدير وله أيضاً: أيا من طرفه سحر ... ويا من ريقه خمر تجاسرت فكاشفت ... ك لما غلب الصبر وما أحسن في مثل ... ك أن ينتهك الستر فإن عنفني الناس ... ففي وجهك لي عذر وله: لا وحبيك لا أصا ... فح بالدمع مدمعا من بكى شجوه استرا ... ح وإن كان موجعا كبدي في يهواك أس ... قم من أن تقطعا لم تدع صورة الضنى ... في السقم موضعا وذكر في كتاب " الأغاني " أن هذه الأبيات أوردها أبو العباس ثعلب النحوي - المقدم ذكره - للخليع المذكور وقال: ما بقي من يحسن أن يقول مثل هذا. وله: إذا خنتم بالغيب عهدي فمالكم (1) ... تدلون إدلال المقيم على العهد صلوا وافعلوا فعل المدل بوصله ... وإلا فصدوا وافعلوا فعل ذي الصد وله من قصيدة: سقى الله عصراً لم أبت فيه ليلة ... من الدهر إلا من حبيب على وعد وذكر أبو عبد الله ابن حمدون عن الحسين بن الضحاك قال: كان يألفني   (1) أ: عهد مودتي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 164 فتى من أهل الشام عجيب الخلقة والشكل غليظ جلف جاف، فكنت أحتمل ذلك منه وكان حظي التعجبن منه، وكان يأتيني بكتب عشقية له ما رأيت كتبا أحلى منها ولا أظرف ولا أشكل من معانيها، ويسألني أن أجيب عنها فأجهد نفسي في الجوابات وأصرف عنايتي إليها على علمي أن الشامي بجهله لا يميز بين الخطإ والصواب، ولا يفرق بين الابتداء والجواب، فلما طال ذلك علي حسدته وتنبهت على إفساد حاله عندها فسألته عن اسمها فقال: بصبص، فكتبت إليها عنه في جواب كتاب منها كان جاءني به: أرقصني حبك يا بصبص ... والحب يا سيدتي يرقص أرمصت أجفاني لطول البكا ... فما لأجفانك لا ترمص أوحشني وجهك كذاك الذي ... كأنه من حسنه عصعص قال: فجاءني بعد ذلك فقال: يا أبا علي ما كان ذنبي إليك وما أردت بما صنعت بي فقلت له: وما ذاك عافاك الله فقال: ما هو إلا أن وصل إليها ذلك الكتاب حتى بعثت إلي: إني مشتاقة إليك والكتاب لا ينوب عن الرؤية، فتعالى إلى الروشن الذي بالقرب من بابنا، فقف بحياله حتى أراك؛ فتزينت بأحسن ما قدرت عليه وصرت إلى الموضع، فبينا أنا واقف أنتظر مكلماً لي أو مشيراً إلي وإذا شيء قد صب علي فملأني من فرقي إلى قدمي فأفسد ثيابي وسرجي وصبرني وجميع ما علي ودابتي في نهاية السواد والنتن والقذر، وإذا هو ماء قد خلط ببول وسواد وسرجين، وانصرفت بخزى وكان ما مر بي من الصبيان وسائر من مررت به من الطنز والضحك والصياح أعظم مما جرى علي ولحقني من أهلي ومن منزلي، وشر من ذلك وأعظم من كل ما ذكرت أن رسلها انقطعت عني جملة، قال: فجعلت أعتذر إليه وأقول: إن الآفة أنها لم تفهم الشعر لجودته، وأنا أحمد الله على ما ناله وأسر بالشماتة به] (1) . [حدث محمد بن جعفر بن قدامة عن محمد بن عبد الملك قال: كنا في مجلس   (1) زيادة من د ص لم ترد في المسودة، وانظر ديوانه: 69. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 165 ومعنا الحسين بن الضحاك ونحن على شراب وعندنا مغنية فعبث الخليع بالمغنية وجمشها فصاحت بالحسين واستخفت به، فأنشأ الخليع يقول (1) : لها في خدها عكن ... وثلثا وجهها ذقن وأسنان كريش البط ... بين أصولها عفن قال: فضحكنا وبكت المغنية حتى قلنا إنها عميت وما انتفعنا بها بقية يومنا؛ وشاع هذان البيتان فكسدت من أجلهما، وكانت إذا حضرت في مجلس أنشدوا البيتين فتجن؛ ثم إنها هربت من سر من رأى فما عرفنا لها بعد ذلك خبراً. حدث الصولي عن أحمد بن حمدون قال: أمر المتوكل بأن ينادمه الحسين بن الضحاك ويلازمه فلم يطق ذلك لكبر سنه، فقيل له: هو يطيق الذهاب إلى القرى والمواخير فيشرب فيها ويعجز عن خدمتك، فبلغه ذلك؛ قال ابن حمدون: فدفع إلي أبياتاً فأوصلتها إلى المتوكل وهي قوله (2) : أما في ثمانين وفيتها ... عذير وإن أنا لم أعتذر فكيف وقد جزتها صاعداً ... مع الصاعدين بتسع أخر وقد رفع الله أقلامه ... عن ابن ثمانين دون البشر سوى من أصر على فتنة ... وألحد في دينه أو كفر وإني لمن أسراء الإله ... في الأرض نصب صروف القدر فإن يقض لي عملاً صالحاً ... أناب وإن يقض سوءاً غفر وقد بسط الله لي عذره ... فمن ذا يلوم إذا ما عذر وما للحسود وأشياعه ... وكذب بالوحي إلا حجر (3) قال ابن حمدون: فلما أوصلتها شفعتها بكلام أعتذر وأقول: لو أطاق خدمة   (1) ديوانه: 109. (2) ديوانه: 52. (3) ديوانه: ومن كذب الحق إلا حجر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 166 أمير المؤمنين لكان أسعد بها، فقال المتوكل: صدقت، خذ له عشرة آلاف درهم فاحملها إليه، فأخذتها وحملتها (1) . حدث أبو العيناء قال: حج الحسين بن الضحاك فمر في منصرفه على موضع يعرف بالقريتين، وإذا جارية كأنها القمر في ليلة التم تتطلع من تحت ثيابها وتنظر إلى حرها ثم تضربه بيدها وهي تقول: ما أضيعني وأضيعك، فأنشأ الحسين يقول (2) : مررت بالقريتين منصرفاً ... من حيث يقضي ذوو الهوى النسكا إذا فتاة كأنها قمر ... للتم لما توسط الفلكا واضعة كفها على حرها ... تقول واضيعتي وضيعتكا قال: فلما سمعت قوله ضحكت وغطت وجهها وقالت: وافضيحتاه وقد سمعت ما قلت! وقال الحسين بن الضحاك: كنت جالساً في داري في يوم شات وقد أفطر المأمون وأمر الناس بالإفطار فجاءتني رقعة الحسن بن رجاء يقول فيها (3) : هززتك للصبوح وقد نهاني ... أمير المؤمنين عن الصيام وعندي من قيان الكرخ عشر ... يطيب بها مصافحة المدام ومن أمثالهن إذا انتشينا ... ترانا نجتني ثمر الحرام فكن أنت الجواب فليس شيء ... أحب إلي من حذف الكلام فوردت رقعته وقد أرسل إلى محمد بن الحارث غلاماً له نظيف الوجه ومعه ثلاثة غلمان حسان، ومعه رقعة منشورة قد ختم أسفلها مثل المناشير فيها (4) : سر على اسم الله يا أحسن من غصن لجين ...   (1) وردت بعد هذا الموضع حكاية تقدمت في ترجمة المتوكل 1: 353 ولذلك حذفناها. (2) ديوانه: 91. (3) ديوانه: 102. (4) المصدر نفسه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 167 في ثلاث من بني الروم إلى دار حسين ... فاسخص الكهل إلى مولاك يا قرة عيني ... أره العنف إن استعصى وطالبه بدين ... ودع اللفظ وكلمه بغمز الحاجبين ... واحذر الرجعة من وجهك في خفي حنين ... قال: فمضيت مع غلمان محمد بن الحارث وتركت الحسن] (1) . وكانت وفاته سنة خمسين ومائتين وقد قارب مائة سنة، رحمه الله تعالى. وقال الخطيب في " تاريخ بغداد "، يقال: إنه ولد في سنة اثنتين وستين ومائة. 192 - (2) ابن الحجاج الشاعر أبو عبد الله الحسين بن أحمد بن محمد بن جعفر بن محمد بن الحجاج؛ الكاتب الشاعر المشهور ذو المجون والخلاعة والسخف في شعره، كان فرد زمانه في فنه، فإنه لم يسبق إلى تلك الطريقة، مع عذوبة الألفاظ وسلامة شعره من التكلف، ومدح الملوك والأمراء والوزراء والرؤساء، وديوانه كبير، أكثر ما يوجد في عشر مجلدات، والغالب عليه الهزل، وله في الجد أيضاً أشياء حسنة. وتولى حسبة بغداد وأقام بها مدة، ويقال: إنه عزل بأبي سعيد   (1) ما بين معقفين زيادة من ر د ص مع اختلاف بينها في الترتيب، ولم ترد هذه الزيادات في المسودة. (2) ترجمة ابن الحجاج في تاريخ بغداد 8: 14 ويتيمة الدهر 3: 136 وابن كثير 11: 329 ومطالع البدور 1: 39 والامتاع والمؤانسة 1: 137 ومعجم الأدباء 9: 206. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 168 الإصطخري الفقيه الشافعي، وله في عزله أبيات مشهورة لا حاجة إلى إثباتها ها هنا. ويقال: إنه في الشعر في درجة امرئ القيس، وإنه لم يكن بينهما مثلهما لأن كل واحد منهما مخترع طريقة. [وقد أفرد أبو الحسن الموسوي المعروف بالرضي من شعره في المديح والغزل وغيرهما ما جانب السخف، وكان شعراً متخيراً حسناً جيداً] (1) ومن جيد شعره وجده هذه الأبيات: يا صاحبي استيقظا من رقدة ... تزري على عقل اللبيب الأكيس هذي المجرة والنجوم كأنها ... نهر تدفق في حديقة نرجس وأرى الصبا قد غلست بنسيمها ... فعلام شرب الراح (2) غير مغلس قوما اسقياني قهوة رومية ... من عهد قيصر دنها لم يمس صرفا تضيف إذا تسلط حكمها ... موت العقول إلى حياة الأنفس [وأورد له أيضاً: نمت بسري في الهوى أدمعي ... ودلت الواشي على موضعي يا معشر العشاق إن كنتم ... مثلي وفي حالي فموتوا معي وأورد له أيضاً: يا من إليها من ظلمها الهرب ... ردي فؤادي فقل ما يجب ردي حياتي إن كنت منصفة ... ثم إليك الرضا أو الغضب طلبت قلبي فلم أفتك به ... سبحان من لا يفوته الطلب] (3) ومن شعره:   (1) اليتيمة: 69، ما بين معقفين زيادة من ر وحدها. (2) اليتيمة شربي الراح. (3) زيادة من د لم ترد في المسودة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 169 قال قوم لزمت حضرة حمد ... وتجنبت سائر الرؤساء قلت ما قاله الذي أحرز المع ... نى قديماً قبلي من الشعراء " يسقط الطير حيث يلتقط الحب ... وتغشى منازل الكرماء " وهذا البيت الثالث لبشار بن برد، وقد ضمنه شعره. [وأورد له أيضاً في الورد: جنى في البستان لي وردة ... أحسن من إنجازه وعدي وقال والوردة في كفه ... من قدح أذكى من الند اشرب هنيئاً لك يا عاشقي ... ريقي من كفي على خدي ودعي ابن الحجاج إلى دعوة وتأخر عنه الطعام قليلاً فقال: يا ذاهباً في داره جائياً ... بغير معنى وبلا فائدة قد جن أضيافك من جوعهم ... فاقرأ عليهم سورة المائدة] (1) [ومثل هذا ما ذكره أبو الفرج الأصبهاني في كتاب " الأغاني " قال: دعانا أبو محمد ابن الشاب يوماً ودعا جحظة البرمكي وأطال حبس الطعام جداً، وجاع جحظة فأخذ دواة وقرطاساً وكتب: ما لي وللشاب وأولاده ... لا قدس الوالد والوالده قد حفظوا القرآن واستعملوا ... ما فيه إلا سورة المائدة] ورمى بها إلي فقرأتها ودفعتها إلى ابن الشاب فقرأها ووثب مسرعاً وقدم الطعام وأكلنا وانصرفنا وقطعة جحظة بعد ذلك، فكان يجهد جهده في أن يجيبه فلا يفعل، فإذا عاتبناه قال: حتى يحفظ تلك السورة] (2) .   (1) زيادة من د لم ترد في المسودة، وانظر البيتين الأخيرين في اليتيمة 3: 82. (2) زيادة من ص ر ولم ترد في المسودة كما لم ترد في الأغاني. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 170 وكانت وفاة ابن الحجاج يوم الثلاثاء السابع والعشرين من جمادى الآخرة سنة إحدى وتسعين وثلثمائة بالنيل، وحمل إلى بغداد، رحمه الله تعالى، ودفن عند مشهد موسى بن جعفر، رضي الله عنه. وأوصى أن يدفن عند رجليه، وأن يكتب على قبره " وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد ". وكان من كبار الشعراء الشيعة، ورآه (1) بعد موته بعض أصحابه في المنام، فسأله عن حاله، فأنشد: أفسد سوء مذهبي ... في الشعر حسن مذهبي [وحملي الجد على ... ظهر حصان اللعب] لم يرض مولاي علي ... سبي لأصحاب النبي [وقال لي ويحك يا ... أحمق لم لم تتب من سب قوم من رجا ... آلاءهم لم يخب رمت الرضا جهلاً بما ... أصلاك نار اللهب] (2) ورثاه الشريف الرضي بقصيدة من جملتها (3) : نعوه على حسن ظني به ... فلله ماذا نعي الناعيان رضيع ولاء له شعبة ... من القلب مثل رضيع اللبان وما كنت أحسب أن الزمان ... يفل مضارب ذاك اللسان بكيتك للشرد السائرات ... تعنق ألفاظها بالمعاني ليبك الزمان طويلاً عليك ... فقد كنت خفة روح الزمان والنيل - بكسر النون وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها لام - وهي بلدة على الفرات بين بغداد والكوفة خرج منها جماعة من العلماء وغيرهم، والأصل   (1) في د: ورآه أبو الفضل ابن الخازن في النوم. (2) الأبيات بين معقفين زيادة من ر لم ترد في المسودة. (3) ديوان الشريف الرضي 2: 441. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 171 فيه نهر حفرة الحجاد بن يوسف في هذا المكان ومخرجه من الفرات وسماه باسم نيل مصر، وعليه قرى كثيرة. 193 - (1) الوزير المغربي أبو القاسم الحسين بن علي بن الحسين بن علي بن محمد بن يوسف بن بحر بن بهرام ابن المرزبان بن ماهان بن باذان بن ساسان بن الحرون بن بلاش بن جاماس ابن فيروز بن يزدجر بن بهرام جور المعروف بالوزير المغربي؛ ورأي جماعة من أهل الأدب يقولون: إن أبا علي هارون بن عبد العزيز الأوارجي الذي مدحه المتنبي بقصيدته التي أولها: أمن ازديارك في الدجى الرقباء ... إذ حيث كنت من الظلام ضياء خاله، ثم إني كشفت عنه فوجدت المذكور خال أبيه، وأما هو فأمه بنت محمد بن إبراهيم بن جعفر النعماني، ذكره في " أدب الخواص ". وكانت وفاة الأوارجي المذكور في جمادى الأولى سنة أربع وأربعين وثلثمائة (2) . والوزير أبو القاسم المغربي المذكور هو صاحب الديوان: الشعر والنثر، وله " مختصر إصلاح المنطق " (3) وكتاب " الإيناس "، وهو مع صغر حجمه كثير الفائدة ويدل على كثرة اطلاعه، وكتاب " أدب الخواص " وكتاب " المأثور في ملح الخدور " وغير ذلك.   (1) ترجمة الوزير المغربي في معجم الأدباء 9: 79 ورجال النجاشي: 51 والشذرات 3: 210 ولسان الميزان 2: 301، وانظر الإشارة غلى من نال الوزارة: 66 وصفحات متفرقة من ج: 9 من تاريخ ابن الأثير. (2) ورأيت جماعة ... وثلثمائة: سقط النص من س. (3) أهدى منه نسخة إلى المعري فكتب إليه أبو العلاء رسالته المعروفة برسالة الاغريض. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 172 وجدت في بعض المجاميع ما صورته: وجد بخط والد الوزير المعروف بالمغربي على ظهر " مختصر إصلاح المنطق " الذي اختصره ولده الوزير ما مثاله: " ولد - سلمه الله تعالى، وبلغه مبالغ الصالحين - أول وقت طلوع الفجر من ليلة صباحها يوم الأحد الثالث عشر من ذي الحجة سنة سبعين وثلثمائة، واستظهر القرآن العزيز وعدة من الكتب المجردة في النحو واللغة ونحو خمسة عشر ألف بيت من مختار الشعر القديم، ونظم الشعر وتصرف في النثر وبلغ من الخط إلى ما يقصر عن نظراؤه، ومن حساب المولد والجبر والمقابلة إلى ما يستقل بدونه (1) الكاتب، وذلك كله قبل استكماله أربع عشرة سنة. واختصر هذا الكتاب، فتناهى في اختصاره وأوفى على جميع فوائده حتى لم يفته شيء من ألفاظه، وغير من أبوابه ما أوجب التدبير تغييره للحاجة إلى الاختصار، وجمع كل نوع إلى ما يليق به. ثم ذكرت له نظمه بعد اختصاره فابتدأ به، وعمل منه عدة أوراق في ليلة، وكان جميع ذلك قبل استكماله سبع عشرة سنة، وأرغب إلى الله سبحانه في بقائه ودوام سلامته ". انتهى كلام والده. ومن شعر الوزير المذكور (2) : أقول لها والعيس تحدج للسرى ... أعدي لفقدي ما استطعت من الصبر سأنفق ريعان الشبيبة آنفاً ... على طلب العلياء أو طلب الأجر أليس من الخسران (3) أن ليالياً ... تمر بلا نفع وتحسب من عمري ومن شعره أيضاً: أرى الناس في الدنيا كراع تنكرت ... مراعيه حتى ليس فيهن مرتع فماء بلا مرعى ومرعى بغير ما ... وحيث ترى ماء ومرعى فمسبع وله في غلام حسن الوجه حلق شعره:   (1) هـ: به. (2) هذه المقطعات في معجم الأدباء: 88، 87، 86، 89. (3) ص: الحرمان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 173 حلقوا شعره ليكسوه قبحا ... غيرة منهم عليه وشحا كان صبحاً عليه ليل بهيم ... فمحوا ليله وابقوه صبحا ومن شعره أيضاً: إني أبثك عن حدي ... ثي والحديث له شجون غيرت موضع مرقدي ... ليلاً ففارقني السكون قل لي فأول ليلة ... في القبر كيف ترى أكون (1) ولما ولد للوزرير المذكور ولده أبو يحيى عبد الحميد كتب إليه أبو عبد الله محمد بن أحمد صاحب ديوان الجيش بمصر أبياتاً منها: قد أطلع الفأل منه معنى ... يدركه العالم الذكي رأيت جد الفتى علياً ... فقلت جد الفتى علي وكان الوزير المذكور من الدهاة العارفين [وكان خبيث الباطن، إذا دخل عليه الفقيه سأله عن النحو وإذا دخل عليه النحوي سأله عن الفقه والفرائض] . ولما قتل الحاكم صاحب مصر أباه وعمه وأخويه، وهرب الوزير وصل إلى الرملة، واجتمع بصاحبها المتغلب عليها حسان (2) بن مفرج بن دغفل بن الجراح الطائي وبنيه وبني عمه، وأفسد نياتهم على الحاكم صاحب مصر المذكور (3) .   (1) سرد في نسخة د هنا قصة نصر بن حجاج، وقد وردت في ترجمة الحجاج بن يوسف في هذا الجزء (رقم 149) فأغنى عن إعادتها في هذا الموضع. (2) سقطت كلمة " حسان " من النسخ. (3) عند هذا الحد في د ما يلي: (وقد رأينا إثبات النص في الحاشية لأن إدراجه في المتن يحدث اضطراباً في سياق الترجمة) : وقال لحسان إن أبا الفتوح الحسن بن جعفر صاحب مكة لا مطعن في نسبه، والصواب أن تنصبه إماماً وأطمعه في الملك وحقق له سهولة الأمر، فأصغى إلى ذلك وبايعه، وبايعه شيوخ الحسنيين، وحسن له أبو القاسم أن أخذ مال البيت وما فيه من فضة، فضربه دراهم وتلقب الراشد بالله وخطب بمكة لنفسه وسار لاحقاً بابن الجراح، فلما قرب من الرملة تلقاه مفرج وسائر العرب وقبلوا الأرض بين يديه وسلموا عليه ب " أمير المؤمنين "، ولقيهم متقلداً بسيف زعم أنه ذو الفقار، وفي يده قضيب ذكر أنه قضيب رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين يديه ألف عبد أسود ونزل الرملة وبادر بالأمر بالمعروف وإقامة العدل وخطب له بالرملة، وقلق الحاكم بسببه وخاف وأرسل غلى بني الجراح أموالاً كثيرة واستمالهم بها عن أبي الفتوح، فأحس بذلك ابو الفتوح فقال للمغربي: غررتني بوعدك وأخرجتني من بلدي ونعمتي وحصلتني في أيدي العرب يبيعونني غلى الحاكم ولا آمن على نفسي ويجب أن تخلصني كما أوقعتني، فإنني راض من الغنيمة بالإياب، فشجعه المغربي، ثم ركب أبو الفتوح إلى المفرج وقال له: فارقت نعمتي وكشفت في عداوة الحاكم صفحتي إنما لسكوني غلى ذمامك وثقتي بقولك ولي في عنقك عهود وأرى حساناً ولدك قد أصلح أمره مع الحاكم فأنا خائف من غدره وما أريد إلا العود إلى وطني، فسيره المفرج إلى وادي القرى، واستجار المغربي بالمفرج وسأله أن يسيره إلى العراق فأنفذه، ثم ورد بغداد وقصد فخر الملك، فاتهمه القادر بالله أنه ورد في إفساد على الدولة، فراسل فخر الملك فأخرجه عن بغداد، فمضى إلى الموصل وتقلد كتابة فراس بن المقلد، ولما توفي فخر الملك عاد لى بغداد فقلده مشرف الدولة الوزارة بغير خلع ولا لقب، ثم استشعر المغربي الخوف من نزول بغداد فهرب منها إلى قرواس بالأنبار فكانت وزارته عشرة أشهر، وتوجه إلى ديار بكر ووزر ... الخ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 174 ثم توجه إلى الحجاز، وأطمع صاحب مكة في الحاكم ومملكة الديار المصرية، وعمل في ذلك عملاً قلق الحاكم بسببه وخاف على ملكه، وقصته في ذلك طويلة إلى أن (1) أرضى الحاكم بني الجراح ببذل الأموال لهم، واستمالهم إليه. وكان صاحب مكة - وهو أبو الفتح الحسن بن جعفر العلوي - قد استدعوه ووصل إليهم وبايعوه بالخلافة ولقبوه بالرشيد بتدبير أبي القاسم المذكور، فلم يزل الحاكم يعمل الحيل حتى استمال بني الجراح إليه، وانتقض أمر أبي الفتوح وهرب إلى مكة. وقصد الوزير أبو القاسم العراق هارباً من الحاكم ومفارقاً لبني الجراح، وقصد فخر الملك أبا غالب ابن خلف الوزير، ورفع خبره إلى الإمام القادر بالله فاتهمه أنه ورد لإفساد الدولة العباسية، وراسل فخر الملك في إبعاده، فاعتذر عنه فخر الملك وقام في أمره. واتفق انحدار فخر الملك من بغداد إلى واسط، فأخذ أبا القاسم في جملته، وأقام معه بواسط على جملة من الرعاية، إلى أن توفي فخر الملك مقتولاً، وشرع الوزير أبو القاسم في استعطاف قلب الإمام القادر بالله   (1) من هنا حتى قوله ... توجه غلى ديار بكر: لم يرد في المسودة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 175 والتنصل مما نبذل به، حتى صلح له بعض الصلاح، وعاد إلى بغداد وأقام قليلاً، ثم أصعد إلى الموصل. واتفق موت أبي الحسن ابن أبي الوزير كاتب معتمد الدولة أبي المنيع قرواش أمير بني عقيل، فتقلد كتابته موضعه، ثم شرع أبو القاسم يسعى في وزارة الملك مشرف الدولة البويهي، ولم يزل يعمل السعي إلى أن قبض على الوزير مؤيد الملك أبي علي، فكوتب الوزير أبو القاسم بالحضور من الموصل إلى الحضرة، وقلد الوزارة من غير خلع ولا لقب ولا مفارقة الدراعة، وأقام كذلك حتى جرى من الأحوال ما أوجب مفارقة مشرف الدولة بغداد، فخرج معه منها وقصدا أبا سنان غريب بن محمد بن مقن ونزلا عليه وأقاما بأوانا. وبينا هو على ذلك إذ عرض له إشقاق من مخدومه مشرف الدولة دعاه إلى مفارقته، فانتقل بعد ذلك إلى أبي المنيع قرواش بالموصل، وأقام عنده، ثم تجدد من سوء رأي الإمام القادر فيه ما ألجأته الضرورة بسبب ما كوتب به قرواش وغريب في معناه إلى مفارقته والإبعاد عنه، وقصد أبا نصر ابن مروان بميافارقين وأقام عنده على سبيل الضيافة إلى أن توفي، وقيل: إنه لما توجه إلى ديار بكر وزر لسلطانها أحمد بن مروان المقدم ذكره، فأقام عنده إلى أن توفي في ثالث عشر شهر رمضان (1) سنة ثماني عشرة وأربعمائة، وقيل: ثمان وعشرين، والأول أصح، وكانت وفاته بميافارقين، وحمل إلى الكوفة بوصية منه، وله في ذلك حديث يطول شرحه، ودفن بها في تربة مجاورة لمشهد الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وأوصى أن يكتب على قبره (2) : كنت في سفرة الغواية والجه ... ل مقيماً (3) فحان مني قدوم تبت من كل مأثم فعسى يم ... حى بهذا الحديث ذاك القديم بعد خمس وأربعين، لقد ما ... طلت، إلا أن الغريم كريم   (1) د: توفي يوم الجمعة الخامس عشر وقيل السادس عشر من شهر رمضان. (2) معجم الأدباء: 82 ولم ترد الأبيات في المسودة. (3) أج هـ: زماناً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 176 وكان قتل أبيه وعمه وأخويه في الثالث من ذي القعدة سنة أربعمائة، رحمهم الله تعالى. ورأيت في بغض المجاميع أنه لم يكن مغربياً، وإنما أحد أجداده، وهو أبو الحسن علي بن محمد كانت له ولاية في الجانب الغربي ببغداد، وكان يقال له: المغربي، فأطلق عليهم هذه النسبة، ولقد رأيت خلقاً كثيراً يقولون هذه المقالة، ثم بعد ذلك نظرت في كتابه الذي سماه " أدب الخواص " فوجدت في أوله " وقد قال المتنبي: وإخواننا المغاربة يسمونه المتنبه، فأحسنوا ": أتى الزمان بنوه في شبيبته ... فسرهم وأتيناه على الهرم (1) فهذا يدل على أنه مغربي حقيقة لا كما قالوه، والله أعلم. ثم أعاد هذا القول بعينه لما ذكر النابغة الجعدي وشعره وأنشد عنده قول المتنبي: وفي الجسم نفس لا تشيب بشيبه ... ولو أن ما في الوجه منه حراب (2) ونقلت نسبه المذكور في الأول من خط أبي القاسم علي بن منجب بن سليمان المعروف بابن الصيرفي المصري صاحب الرسائل، وذكر أنه منقول من خط الوزير المذكور، والله أعلم بصحته.   (1) شرح الواحدي: 723. (2) شرح الواحدي: 681. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 177 194 - (1) ابن خالويه أبو عبد الهل الحسين بن أحمد بن خالويه النحوي اللغوي؛ أصله من همذان ولكنه دخل بغداد وأدرك جلة العلماء بها مثل أبي بكر ابن الأنباري وابن مجاهد المقرئ وأبي عمر الزاهد وابن دريد، وقرأ على أبي سعيد السيرافي، وانتقل إلى الشام واستوطن حلب، وصار بها أحد أفراد الدهر في كل قسم من أقسام الأدب، وكانت إليه الرحلة من الآفاق، وآل حمدان يكرمونه ويدرسون عليه ويقتبسون منه. وهو القائل: دخلت يوماً على سيف الدولة بن حمدان فلما مثلت بين يديه قال لي: اقعد، ولم يقل اجلس، فتبينت بذلك اعتلاقه بأهداب الأدب، واطلاعه على أسرار كلام العرب، وإنما قال ابن خالويه هذا لأن المختار عند أهل الأدب أن يقال للقائم: اقعد، وللنائم أو الساجد: اجلس، وعلله بعضهم بأن القعود هو الانتقال من العلو إلى السفل، ولهذا قيل لمن أصيب برجله مقعد، والجلوس هو الانتقال من السفل إلى العلو، ولهذا قيل لنجد: جلسا لارتفاعها، وقيل لمن أتاها: جالس، وقد جلس، ومنه قول مروان بن الحكم لما كان والياً بالمدينة يخاطب الفرزدق: قل للفرزدق والسفاهة (2) كاسمها ... إن كنت تارك ما أمرتك فاجلس أي: اقصد الجلسا، وهي نجد. وهذا البيت من جملة أبيات ولها قصة طويلة، وهذا كله وإن جاء في غير موضعه لكن الكلام شجون.   (1) ترجمة ابن خالويه في الفهرست: 84 ويتيمة الدهر 1: 123 ومعجم الأدباء 9: 200 وانباه الرواة 1: 324 وبغية الوعاة: 231 وطبقات السبكي 2: 212 ونزهة الألباء 214 والشذرات 3: 71. (2) أ: والفهاهة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 178 ولابن خالويه المذكور كتاب كبير (1) في الأدب سماه " كتاب ليس " وهو يدل على اطلاع عظيم، فإن مبنى الكتاب (2) من أوله إلى آخره على أنه ليس في كلام العرب كذا وليس كذا، وله كتاب لطيف سماه " الآل " وذكر في أوله أن الآل ينقسم إلى خمسة وعشرين قسماً، وما أقصر فيه، وذكر فيه الأئمة الاثني عشر وتواريخ مواليدهم ووفياتهم وأمهاتهم، والذي دعاه إلى ذكرهم أنه قال في جملة أقسام الآل " وآل محمد بنو هاشم ". وله كتاب " الاشتقاق " وكتاب " الجمل " في النحو، وكتاب " القراءات " وكتاب " إعراب ثلاثين سورة من الكتاب العزيز " وكتاب " المقصور والممدود " وكتاب " المذكر والمؤنث " وكتاب " الألفات " (3) وكتاب " شرح المقصورة لابن دريد " وكتاب " الأسد "، وغير ذلك. ولابن خالويه مع أبي الطيب المتنبي مجالس ومباحث عند سيف الدولة، ولولا خوف الإطالة لذكرت شيئاً منها. وله شعر حسن، فمنه قوله على ما نقله الثعالبي في كتاب " اليتيمة " (4) : إذا لم يكن صدر المجالس سيد ... فلا خير فيمن صدرته المجالس وكم قائل: ما لي رأيتك راجلاً ... فقلت له: من أجل أنك فارس وخالويه: بفتح الخاء الموحدة وبعد الألف لام مفتوحة وواو مفتوحة أيضاً وبعدها ياء مثناة من تحتها ساكنة ثم هاء ساكنة. وكانت وفاة ابن خالويه في سنة سبعين وثلثمائة بحلب، رحمه الله تعالى.   (1) كذا وصفه المؤلف؛ وقد نشره ديرنبرغ في مجلة Hebraica (المجلد العاشر) والنص يحتل ص 11 - 64. (2) ج: الكلام. (3) س: الألقاب. (4) اليتيمة: 124. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 179 195 - (1) أبو علي الجياني أبو علي الحسين بن محمد بن أحمد الغساني الجياني (2) الأندلسي المحدث؛ كان إماماً في الحديث والأدب، وله كتاب مفيد سماه " تقييد المهمل " ضبط فيه كل لفظ يقع فيه اللبس من رجال الصحيحين، وما أقصر فيه، وهو في جزأين، وكان من جهابذه المحدثين، وكبار العلماء المسندين (3) ، وكان حسن الخط جيد الضبط، وكان له معرفة بالغريب والشعر والأنساب، وكان يجلس في جامع قرطبة ويسمع منه أعيانها، ولم أقف على شيء من أخباره حتى أذكر طرفاً منها. وكانت ولادته في المحرم سنة سبع وعشرين وأربعمائة، وطلب الحديث سنة أربع وأربعين، وتوفي ليلة الجمعة لاثنتي عشرة ليلة خلت من شعبان سنة ثمان وتسعين وأربعمائة، رحمه الله تعالى. والجياني - بفتح الجيم وتشديد الياء المثناة من تحتها وبعد الألف نون - هذه النسبة إلى جيان، وهي مدينة كبيرة بالأندلس، وبأعمال الري قرية يقال لها جيان أيضاً. والغساني: قد تقدم الكلام عليه.   (1) ترجمة أبي علي الجياني المحدث في الصلة: 141 وتذكرة الحفاظ: 1233 وبغية الملتمس: 249 وأزهار الرياض 3: 149. (2) ذكر ابن بشكوال أن أبا علي لم يكن من جيان وإنما أصلهم من الزهراء، وانتقل أبوه في الفتنة البربرية (حوالي 400) إلى جيان. (3) كذا في ص والمسودة؛ وفي النسخ الأخرى: المفيدين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 180 196 - (1) البارع الدباس أبو عبد الله الحسين بن محمد بن عبد الوهاب بن أحمد بن محمد بن الحسين بن عبيد الله بن القاسم بن عبيد الله بن سليمان بن وهب الوزير الحارثي من بني الحارث ابن كعب بن عمرو الدباس البدري المنعوت بالبارع الشاعر المشهور الأديب النديم البغدادي؛ كان نحوياً لغوياً مقرئاً حسن المعرفة بصنوف الآداب، وأفاد خلقاً كثيراً، خصوصاً بإقراء القرآن الكريم. وهو من بيت الوزارة، فإن جده القاسم كان وزير المعتضد [والمكتفي بعده] وهو الذي سم ابن الرومي الشاعر - كما سيأتي ذكره في ترجمته إن شاء الله تعالى - وعبيد الله كان وزيراً أيضاً، وسليمان بن وهب الوزير تغني شهرته عن ذكره - وستأتي ترجمته إن شاء الله تعالى -. والبارع المذكور من أرباب الفضائل، وله مصنفات حسان وتواليف غريبة، وديوان شعر جيد، وكان بينه وبين الشريف أبي يعلى ابن الهبارية مداعبات لطيفة، فإنهما كانا رفيقين ومتحدين في الصحبة، فاتفق أن البارع المذكور تعلق بخدمة بعض الأمراء، وحج، فلما عاد حضر الشريف إليه مراراً فلم يجده، فكتب إليه قصيدة طويلة دالية يعاتبه فيها إلى أنه تغير عليه بسبب الخدمة، وأولها: يا ابن ودي وأين مني ابن ودي ... غيرت طرفه الرياسة بعدي (2)   (1) ترجمة البارع الدباس في معجم الأدباء 10: 147 وانباه الرواة 1: 328 وبغية الوعاة: 236 وغاية انهاية 1: 251 والشذرات 4: 69 وابن كثير 12: 201. (2) أ: عندي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 181 ولولا ما أودعها من السخف والفحش لذكرتها (1) ، فكتب إليه البارع المذكور جوابها، وأطال فيها، وضمنها أيضاً شيئاً من الفحش، وأولها: وصلت رقعة الشريف أبي يع ... لى فحلت محل لقياه عندي فتلقيتها (2) بأهلاً وسهلاً ... ثم ألصقتها بطرفي وخدي وفضضت الختام عنها فما ظن ... ك بالصاب إذ يشاب بشهد بين حلو من العتاب ومر ... هو أولى به وهزل وجد وتجن (3) علي من غير جرم ... بملام يكاد يحرق جلدي يدعي أنني حجبت (4) وقد زا ... ر مراراً، حاشاه من قبح رد ثم دع ذا، ما للرياسة والحج ... أبن لي من حل أنف وعقد فبماذا علمت بالله أني ... قد تنكرت (5) أو تغير عهدي من تراني: أعامل أم وزير ... لأمير أم عارض للجند أنا إلا ذاك الخليع الذي تع ... رف أرضى ولو بجرة دردي وإذا صح لي مليح فذاك ال ... يوم عيدي وصاحب الدست عبدي أتراني لو كنت في النار مع ها ... مان أنساك في جنان الخلد   (1) ذكر في ر وهامش س أبياتاً منها وهي: عقدت أنفه علي فطبعي ... وهو ضدان بين حل وعقد صد عني وليس أول خل ... راع ودي منه بهجر وصد شغلته عني الرياسة فاستعلى ... فخليته وذلك جهدي أفلما حججت لا قبل الله ... تعالى مسعاك أخلفت وعدي اي فرق بيني وبينك هل أنت ... سوى شاعر وأنت مكدي وحرام الزمان فهي يمين ... برة أنني سأبعث جندي وأجازيك بالتبظرم والتيه ... وكيل الهجاء مداً بمد (2) أج: فتأملتها. (3) هـ: وتجر. (4) د هـ: احتجبت. (5) أ: تغيرت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 182 أو لو أني عصبت بالتاج أسلو ... ك ولو كنت عانياً في القد أنا أضعاف ما عهدت على العه ... د وإن كنت لا تجازي بود ومنها: أم لأني من سائر النا ... س بفرد بين الأكارم فرد صان وجهي عن اللئام وأولا ... ني جميلاً منه إلى غير حد فتعففت واقتنعت بتدفي ... ع زماني وقلت إني وحدي لا لأني أنفت مع ذا من الكد ... ية، أين الكرام حتى أكدي ونقتصر من هذه القصيدة على هذه الأبيات، ففيها سخف لا يليق ذكره وغيره مما لا حاجة إليه. ومن شعره أيضا (1) : أفنيت ماء الوجه من طول ما ... أسأل من لا ماء في وجهه أنهي إليه شرح حالي الذي ... يا ليتني مت ولم أنهه فلم ينلني كرما رفده ... ولم أكد أسلم من جبهه والموت من دهر نحاريره ... ممتدة الأيدي إلى بلهه [وأورد له الحظيري في كتاب " زينة الدهر " وذكر أنه نقلها من خطه وذكر أنه قال هذه القصيدة بمكة في سنة 472: ذكر الأحباب والوطنا ... والهوى والإلف والسكنا فبكى شجواً وحق له ... مدنف بالشوق حلف ضنى أبعدت مرمى يد رجمت ... من خراسان به اليمنا خلست من بين أضلعه ... بالنوى قلباً له ضمنا   (1) زيادة لم ترد في المسودة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 183 من لمشتاق يميله ... ذات سجع ميلت فننا كلما هاج الهديل به ... طرباً هاجت له شجنا لم تعرض بالحنين بمن ... مسعد إلا وقال أنا لك يا ورقاء أسوة من ... لم تذيقي جفنه الوسنا بك أنسي مثل أنسك بي ... فتعالي نبد ما كمنا نتشاكى ما نجن إذا ... نحت شجواً صحت واحزنا غير أني منك أعدل إن ... عاد سري في الهوى علنا أنا لا أنت البعيد هوى ... أنا لا أنت الغريب هنا أنا فرد يا حمام وها ... أنت وألإلف القرين ثنا أنصفونا يا بني حسن ... ليس هذا منكم حسنا كم أحلت محرماتكم ... بالعيون النجل أنفسنا نحن وفد الله عندكم ... ما لكم جيرانه ولنا لم يجرنا منكم حرم ... من أتاه خائفاً أمنا] (1) وكانت ولادته في العاشر من صفر سنة ثلاث وأربعين وأربعمائة ببغداد. وتوفي يوم الثلاثاء سابع عشر جمادى الآخرة، وقيل الأولى، سنة أربع وعشرين وخمسمائة، وكان قد عمي في آخر عمره، رحمه الله تعالى. والدباس - بفتح الدال المهملة وتشديد الباء الموحدة وبعد الألف سين مهملة - وهذا يقال لمن يعمل الدبس أو يبيعه. والبدري - بفتح الباء الموحدة وسطون الدال المهملة وبعدها راء - هذه النسبة إلى البدرية، وهي محلة ببغداد المحروسة وكان البارع المذكور يسكنها فنسب إليها.   (1) زيادة من ر د لم ترد في المسودة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 184 197 - (1) الطغرائي السيد فخر الكتاب أبو إسماعيل الحسين بن علي بن محمد بن عبد الصمد الملقب مؤيد الدين الأصبهاني المنشئ المعروف بالطغرائي؛ كان غزير الفضل لطيف الطبع، فاق أهل عصره بصنعة النظم والنثر. ذكره أبو سعد ابن السمعاني في نسبة المنشئ من كتاب " الأنساب "، وأثنى عليه، وأورد قطعة من شعره في صفة الشمعة، وذكر أنه قتل في سنة خمس عشرة وخمسمائة. والطغرائي المذكور له ديوان شعر جيد، ومن محاسن شعره قصيدته المعروفة بلامية العجم، وكان عملها ببغداد في سنة خمس وخمسمائة يصف حاله ويشكو زمانه، وهي التي أولها (2) : أصالة الرأي صانتني عن الخطل ... وحلية الفضل زانتني لدى العطل [مجدي أخيراً ومجدي أولاً شرع ... والشمس رأد الضحى كالشمس في الطفل فيم الإقامة بالزوراء لا سكني ... بها ولا ناقتي فيها ولا جملي ناء عن الأهل صفر الكف منفرد ... كالسيف عري متناه عن الخلل فلا صديق إليه مشتكى حزني ... ولا أنيس إليه منتهى جذلي   (1) ترجمة الطغرائي في معجم الأدباء 9: 56 والأنساب واللباب: " المنشئ ". ومقدمة الغيث المسجم في شرح لأمية العجم للصفدي، وللأستاذ علي جواد الطاهر كتاب عنه (بغداد: 1963) . (2) في ص س والمسودة وهي طويلة تنيف على ستين بيتاً أودعها كل غريبة وهي من مختار الشعر ونقاوته ولولا طولها لذكرتها لكنها مشهورة موجودة بأيدي الناس. أما ر فقد أوردت القصيدة كاملة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 185 طال اغترابي حتى حن راحلتي ... ورحلها وقرى العسالة الذبل وضج من لغب نضوي وعج لما ... يلقى ركابي ولح الركب في عذلي أريد بسطة كف أستعين بها ... على قضاء حقوق للعلا قبلي والدهر يعكس آمالي ويقنعني ... من الغنيمة بعد الكد بالقفل وذي شطاط كصدر الرمح معتقل ... بمثله غير هياب ولا وكل حلو الفكاهة مر الجد قد مزجت ... بشدة البأس منه رقة الغزل طردت سرح الكرى عن ورد مقلته ... والليل أغرى سوام النوم بالمقل والركب ميل على اكوار من طرب ... صاح وآخر من خمر الهوى ثمل فقلت أدعوك للجلى لتنصرني ... وأنت تخذلني في الحادث الجلل تنام عيني وعين النجم ساهرة ... وتستحيل وصبغ الليل لم يحل فهل تعين على غي هممت به ... والغي يزجر أحياناً عن الفشل إني أريد طروق الحي من إضم ... وقد حماه رماة من بين ثعل يحمون بالبيض والسمر اللدان به ... سود الغدائر حمر الحلي والحلل فسر بنا في ذمام الليل معتسفاً ... فنفحة الطيب تهدينا إلى الحلل فالحب حيث العدا والأسد رابضة ... حول الكناس لها غاب من الأسل نؤم ناشئة بالجزع قد سقيت ... نصالها بمياه الغنج والكحل قد زاد طيب أحاديث الكرام بها ... ما بالكرائم من جبن ومن بخل تبيت نار الهوى منهن في كبد ... حرى ونار القرى منهم على قلل يقتلن أنضاء حب لا حراك بها ... وينحرون كرام الخيل والإبل يشفى لديغ العوالي في بيوتهم ... بنهلة من غدير الخمر والعسل لعل إلمامة بالجزع ثانية ... يدب منها نسيم البرء في عللي لا أكره الطعنة النجلاء قد شفعت ... برشقة من نبال الأعين النجل ولا أهاب الصفاح البيض تسعدني ... باللمح من خلل الأستار والكلل ولا أخل بغزلان تغازلني ... ولو دهتني أسود الغيل بالغيل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 186 حب السلامة يثني هم صاحبه ... عن المعالي ويغري المرء بالكسل فإن جنحت إليه فاتخذ نفقاً ... في الأرض أو سلماً في الجو واعتزل ودع غمار العلا للمقدمين على ... ركوبها واقتنع منهن بالبلل رضى الذليل بخفض العيش مسكنة ... والعز تحت رسيم الأينق الذلل فادرأ بها في نحور البيد حافلة ... معارضات مثاني اللجم بالجدل إن العلا حدثتني وهي صادقة ... فيما تحدث أن العز في النقل لو أن في شرف المأوى بلوغ منى ... لم تبرح الشمس يوماً دارة الحمل أهبت بالحظ لو ناديت مستمعاً ... والحظ عني بالجهال في شغل لعله إن بدا فضلي ونقصهم ... لعينه نام عنهم أو تنبه لي أعلل النفس بالآمال أرقبها ... ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل لم أرض بالعيش والأيام مقبلة ... فكيف أرضى وقد ولت على عجل غالى بنفسي عرفاني بقيمتها ... فصنتها عن رخيص القدر مبتذل وعادة النصل أن يزهى بجوهره ... وليس يعمل إلا في يدي بطل ما كنت أوثر أن يمتد بي زمني ... حتى أرى دولة الأوغاد والسفل تقدمتني أناس كان شوطهم ... وراء خطوي إذ أمشي على مهل هذا جزاء امرئ أقرانه درجوا ... من قبله فتمنى فسحة الأجل وإن علاني من دوني فلا عجب ... لي أسوة بانحطاط الشمس عن زحل فاصبر لها غير محتال ولا ضجر ... في حادث الدهر ما يغني عن الحيل أعدى عدوك أدنى من وثقت به ... فحاذر الناس واصحبهم على دخل وحسن ظنك بالأيام معجزة ... فظن شراً وكن منها على وجل غاض الوفاء وفاض الغدر وانفرجت ... مسافة الخلف بين القول العمل وشان صدقك عند الناس كذبهم ... وهل يطابق معوج بمعتدل إن كان ينجع شيء في ثباتهم ... على العهود فسبقُ السيف للعذَل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 187 يا وارداً سؤر عيش كله كدر ... أنفقت صفوك في أيامك الأول فيم اقتحامك لج البحر تركبه ... وأنت يكفيك منه مصة الوشل ملك القناعة لا يخشى عليه ولا ... يحتاج فيه إلى الأنصار والحول ترجو البقاء بدار لا ثبات لها ... فهل سمعت بظل غير منتقل ويا خبيراً على الأسرار مطلعاً ... أصمت ففي الصمت منجاة من الزلل قد رشحوك لأمر لو فطنت له ... فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل ومن رقيق شعره قوله: يا قلب مالك والهوى من بعد ما ... طاب السلو وأقصر العشاق أو ما بدا لك في الإفاقة والألى ... نازعتهم كأس الغرام أفاقوا مرض النسيم وصح والداء الذي ... تشكوه لا يرجى له إفراق وهذا خفوق البرق والقلب الذي ... تطوى عليه أضالعي خفاق وله أيضاً: أجما البكا يا مقلتي فإننا ... على موعد للبين لا شك واقع إذا جمع العشاق موعدهم غداً ... فواخجلتا إن لم تعني مدامعي ومن شعره: ولا غرو إن أهديت من فيض بره ... إليه قليلاً ليس يعتده نزرا فإني رأيت الغيم يحمل ماءه ... من البحر غمراً ثم يهدي له قطرا ومن شعره: لا تحقرن الرأي وهو موافق ... حكم الصواب وإن بدا من ناقص فالدر وهو أجل شيء يقتنى ... ما حط رتبته هوان الغائص وله أيضاً: أخاك أخاك فهو أجل ذخر ... إذا نابتك نايبة الزمان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 188 وإن رابت إساءته فهبها ... لما فيه من الشيم الحسان تريد مهذباً لا غش فيه ... وهل عود يفوح بلا دخان ومن شعره: ما فلان: إلا كجيفة ميت ... والضرورات أحوجتنا إليه فمن اضطر غير باغ ولا عا ... د فلا إثم في الكتاب عليه وله من أبيات: لا غرو إن حزت المروءة والتقى ... والدين والدنيا لم تتصدع إن النواظر والقلوب صغيرة ... تحوي الكبيرة وليس بالمستبدع وله: جامل أخاك إذا استربت بوده ... وانظر به عقب الزمان يعاد فإن استمر على الفساد فخله ... فالعضو يقطع للفساد الزائد (1) وذكره أبو المعالي الحظيري في كتاب " زينة الدهر " وذكر له مقاطيع، وذكره أبو البركات ابن المستوفي في " تاريخ إربل " وقال: إنه ولي الوزارة بمدينة إربل مدة، وذكر العماد الكاتب في كتاب " نصرة الفترة وعصرة الفطرة " - وهو تاريخ الدولة السلجوقية - أن الطغرائي المذكور كان ينعت بالأستاذ، وكان وزير السلطان مسعود بن محمد السلجوقي بالموصل، وأنه لما جرى المصاف بينه وبين أخيه السلطان محمود بالقرب من همذان وكانت النصرة لمحمود، فأول من أخذ الأستاذ أبو إسماعيل وزير مسعود، فأخبر به وزير محمود، وهو الكمال نظام الدين أو طالب علي بن أحمد بن حرب السميرمي، فقال الشهاب أسعد - وكان طغرائياً في ذلك الوقت نيابة عن النصير الكاتب -: هذا الرجل ملحد، يعني الأستاذ، فقال وزير محمود: من يكن ملحداً يقتل، فقتل ظلماً.   (1) تتفاوت النسخ ص د ر في عدد المقطوعات التي أوردتها من شعر الطغرائي، ولم يرد منها في المسودة إلا المقطوعتان الأوليان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 189 وقد كانوا خافوا منه، ولا قبل عليه لفضله، فاعتدوا قتله بهذه الحجة، وكانت هذه الواقعة سنة ثلاث عشرة وخمسمائة، وقيل إنه قتل سنة أربع عشرة، وقيل ثماني عشرة، وقد جاوز ستين سنة، وفي شعره ما يدل على أنه بلغ سبعاً وخمسين سنة لأنه قال وقد جاءه مولود (1) : هذا الصغير الذي وافى على كبري ... أقر عيني ولكن زاد في فكري سبع وخمسون لو مرت على حجر ... لبان تأثيرها في صفحة الحجر والله تعالى أعلم بما عاش بعد ذلك، رحمه الله تعالى. (28) وقتل الكمال السميرمي الوزير المذكور يوم الثلاثاء سلخ صفر سنة ست عشرة وخمسمائة في السوق ببغداد عند المدرسة النظامية، وقيل: قتله عبد أسود كان للطغرائي المذكور، لأنه قتل أستاذه. والطغرائي - بضم الطاء المهملة وسكون الغين المعجمة وفتح الراء وبعدها الف مقصورة - هذه النسبة إلى من يكتب الطغري، وهي الطرة التي تكتب في أعلى الكتب فوق البسملة بالقلم الغليظ، ومضمونها نعوت الملك الذي صدر الكتاب عنه، وهي لفظة أعجمية. والسميرمي - بضم السين المهملة وفتح الميم وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها راء ثم ميم - هذه النسبة إلى سميرم، وهي بلدة بين أصبهان وشيراز، وهي آخر حدود أصبهان.   (1) ديوانه: 78، وهما من أبيات قالها في أبنه الأصغر علي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 190 198 - أبو الفوارس ابن الخازن أبو الفوارس الحسين بن علي بن الحسين المعروف بابن الخازن الكاتب؛ كان فريد عصره في الكتابة، وكتب ما لم يكتبه أحد، فإنه كتب فيما كتب خمسمائة نسخة من كتاب الله العزيز ما بين ربعة وجامع، وله شعر حسن، فمن ذلك قوله: عنت الدنيا لطالبها ... واستراح الزاهد الفطن كل ملك نال زخرفتها ... حسبه مما حوى كفن يقتني مالاً ويتركه ... في كلا الحالين مفتتن أملي كوني على ثقة ... من لقاء الله مرتهن أكره الدنيا وكيف بها ... والذي تسخو به وسن لم تدم قبلي على أحد ... فلماذا الهم والحَزَن قال محمد بن أبي الفضل (1) الهمذاني المؤرخ في " ذيل تجاب الأمم " لمسكويه: توفيابن الخازن المذكور في ذي الحجة سنة اثنتين وخمسمائة فجأة، رحمه الله تعالى. وقال الشريف أبو العمر المبارك بن أحمد الأنصاري: توفي ليلة الثلاثاء، ودفن من الغد، وهو اليوم السادس والعشرون من الشهر المذكور.   (1) ص: محمد بن عبد الملك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 191 199 - (1) أبو عبد الله الشيعي أبو عبد الله الحسين بن أحمد بن محمد بن زكريا المعروف بالشيعي القائم بدعوة عبيد الله المهدي جد ملوك مصر؛ وقصته في القيام بالغرب مشهورة، وله بذلك سيرة مسطورة، وسيأتي في حرف العين عند ذكر المهدي عبيد الله طرف من أخباره إن شاء الله تعالى. وأبو عبد الله المذكور من أهل صنعاء اليمن، وكان من الرجال الدهاة الخبيرين بما يصنعون، فإنه دخل إفريقية وحيداً بلا مال ولا رجال، ولم يزل يسعى إلى أن ملكها، وهرب ملكها أبو مضر زيادة الله آخر ملوك بني الأغلب منه إلى بلاد المشرق وهلك هناك، وحديثه يطول. ولما مهد القواعد للمهدي ووطد له البلاد وأقبل المهدي من المشرق، وعجز عن الوصول إلى أبي عبد الله المذكور، وتوجه إلى سجلماسة، وأحس به صاحبها اليسع آخر ملوك بني مدرار، فأمسكه واعتقله، ومضى إليه أبو عبد الله وأخرجه من الاعتقال وفوض إليه أمر المملكة - اجتمع به أخوه أبو العباس أحمد، وكان هو الأكبر، أعني أحمد، وندمه على ما فعل، وقال له: تكون أنت صاحب البلاد والمستقل بأمورها وتسلمها إلى غيرك وتبقى من جملة الأتباع، وكرر عليه القول، فندم أبو عبد الله على ما صنع واضمر الغدر، واستشعر منهما المهدي، فدس عليهما من قتلهما في ساعة واحدة، وذلك في منتصف جمادى الآخرة سنة ثمان وتسعين ومائتين بمدينة رقادة بين القصرين، رحمهما الله تعالى.   (1) أخبار أبي عبد الله الشيعي القائم بدعوة العبيديين في ابن الأثير وابن عذاري واتعاظ الحنفا والدرة المضية وابن خلدون، وتعد رسالة افتتاح الدعوة للقاضي النعمان من أكثر المصادر إسهاباً في تبيان جهوده في سبيل الدعوة العبيدية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 192 والشيعي - بكسر الشين المعجمة وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها عين مهملة - هذه النسبة إلى من يتولى شيعة الإمام علي بن أبي طالب، رضي الله عنه. ورقادة - بفتح الراء وتشديد القاف وبعد الألف دال مهملة وبعد الدال هاء ساكنة - مدينة من أعمال القيروان من بلاد إفريقية (1) . (29) وأما زيادة الله فقد ذكره الحافظ ابن عساكر في " تاريخ دمشق " فقال (2) : هو أبو مضر زيادة الله بن عبد الله بن إبراهيم بن أحمد بن محمد بن الأغلب ابن إبراهيم بن سالم بن عقال بن خفاجة، وهو زيادة الله الأصغر، آخر ملوك بني الأغلب بإفريقية، التميمي، وقال: قدم دمشق سنة اثنتين وثلثمائة مجتازاً إلى بغداد حين غلب على ملكه بإفريقية، ثم قال في آخر الترجمة: بلغني أن زيادة الله توفي بالرملة في سنة أربع وثلثمائة في جمادى الأولى منها، ودفن بالرملة، فساخ قبره فسقف عليه وترك مكانه، وهو من ولد الأغلب بن عمرو المازني البصري، وكان الرشيد ولى عمراً المغرب بعد أن مات إدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، رضي الله عنهم، فما زال بالمغرب إلى أن توفي وخلف ولده الأغلب ثم أولاده إلى أن صار الأمر إلى زيادة الله هذا. انتهى ما ذكره ابن عساكر. وفي ترجمة أبي القاسم علي بن القطاع اللغوي هذا النسب، وبينهما اختلاف قليل، لكني نقلته على ما وجدته في الموضعين. وقال غير ابن عساكر: توفي أبو مضر زيادة الله بن محمد بن إبراهيم بن الأغلب بالرقة، وحمل تابوته إلى القدس الشريف، ودفن بها في سنة ست وتسعين ومائتين، وكانت مدة مملكته إلى أن خرج عن القيروان خمس سنين وتسعة أشهر وخمسة عشر يوماً. وكان سبب خروجه من القيروان أن أبا عبد الله الشيعي المذكور لما هزم إبراهيم بن الأغلب (3) ، بلغ الخبر زيادة الله المذكور فشد   (1) هنا تنتهي هذه الترجمة في س؛ وكل ما يلي موجود على هوامش مسودة المؤلف. (2) انظر تهذيب ابن عساكر 5: 395 (ولم يسبق نسبه كاملا) ، وراجع الحلة السيراء 1: 175. (3) في افتتاح الدعوة: إيراهيم بن أبي الأغلب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 193 أمواله وأخذ خواص حرمه وخرج من رقادة ليلاً، وبعد خروجه بويع إبراهيم بن الأغلب (1) . وكانت مملكة بني الأغلب مائتي سنة واثنتي عشرة سنة وخمسة أشهر وأربعة عشر يوماً، والشرح في ذلك يطول فاختصرته. 200 - (2) حسان التنوخي أبو ليلى حسان بن سنان بن أوفى بن عوف التنوخي وهو جد إسحاق بن البهلول؛ [سمع أنس بن مالك رضي الله عنه؛ روى عنه ابن ابنه إسحاق، وقال أبو حاتم محمد بن يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن البهلول: قال جدي إسحاق عن جدي حسان] (3) قال: خرجت في وفد من أهل الأنبار إلى الحجاج إلى واسط نتظلم إليه من عامله علينا الرقيل، فدخلنا ديوانه فرأيت شيخاً والناس حوله يكتبون عنه، فسألت عنه فقيل لي: أنس بن مالك، فوقفت عليه فقال لي: من أين فقلت: من الأنبار، جئنا إلى الأمير نتظلم إليه، فقال لي: بارك الله فيك، فقلت: حدثني بشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم يا خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: سمعته يقول: مر بالمعروف وأنه عن المنكر ما استطعت؛ وأعجلني أصحابي فلم أسمع منه غير هذا الحديث؛ [قال أبو حاتم] وكان إسحاق (4) يقول: أرجو أن أكون ممن سبقت [فيه] دعوة   (1) يؤخذ مما ورد في افتتاح الدعوة (الورقة 103) أن بيعة إبراهيم لم تتم وأن أهل القيروان قالوا له: اخرج عنا لا نبتلى من أجلك. (2) ترجمته في البداية والنهاية 10: 175 وفيه حسان بن أبي سنان ابن أبي أوفى. وقد انفردت بهذه الترجمة النسخ: د ص ر، ووردت في ص بعد الترجمة التالية، ولم ترد في مسودة المؤلف. (3) زيادة من ر. (4) كذا ولعله: حسان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 194 رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: طوبى لمن رآني ولمن رأى من رآني. وكان من بركة دعاء أنس لحسان أنه عاش مائة سنة وعشرين سنة، وخرج من أولاده جماعة فقهاء وقضاة ورؤساء وصلحاء [وكتاب وزهاد؛ ولذ حسان سنة ستين من الهجرة] ، وتوفي سنة 180 رحمه الله تعالى [وكان أحياناً يكنى أبا العلاء] ولد بالأنبار على النصرانية وكانت دينه ودين آبائه [وكانت له حين أسلم ابنه بالغة فأقامت على النصرانية فلما حضرتها الوفاة أوصت لدير تنوخ بالأنبار] ؛ وكان حسان يتكلم ويقرأ ويكتب بالفارسية والسريانية والعربية ولحق الدولتين، فلما قلد أبو العباس السفاح ربيعة الرأي قضاء الأنبار، أتي بكتب مكتوبة بالفارسية فلم يحسن أن يقرأها، [فطلب رجلاً] ثقة ديناً يحسن قراءتها فدل على حسان بن سنان فجيء به فكان يقرأ له الكتب الفارسية، فلما اختبره رضي مذهبه واستكتبه على جميع أمره. 201 - (1) أبو سلمة الخلال أبو سلمة حفص بن سليمان الخلال الهمداني مولى السبيع وزير أبي العباس السفاح أول خلفاء بني العباس؛ وأبو سلمة أول من وقع عليه اسم الوزير (2) ، وشهر بالوزارة في دولة بني العباس ولم يكن من قبله يعرف بهذا النعت، لا في دولة بني أمية ولا في غيرها من الدول. وكان السفاح يأنس به، لأنه كان ذا مفاكهة   (1) ترد أخبار أبي سلمة في مصادر الدعوة العباسية، وانظر في مقتله تاريخ الطبري (حوادث: 132) والفخري: 137 - 139 وسائر المصادر التاريخية المتعلقة بتلك الفترة. (2) تكاد المصادر تجمع على هذا غير أن ابن خلدون يقول في مقدمته (2: 606) عن بني أمية: " ثم استفحل الملك بعد ذلك الظهر المشاور والمعين في أمور القبائل والعصائب واستئلافهم وأطلق عليه اسم الوزير ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 195 حسنة وممتعاً في حديثه، أديباً، عالماً بالسياسة والتدبير، وكان ذا يسار ويعالج الصرف بالكوفة، وأنفق أموالاً كثيرة في إقامة دولة بني العباس، وصار إلى خراسان في هذا المعنى، وأبو مسلم الخراساني يومئذ تابع له في هذا الأمر، وكان يدعو إلى بيعة إبراهيم الإمام أخي السفاح، فلما قتله مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية بحران وانقلبت الدعوة إلى السفاح، توهموا من أبي سلمة المذكور أنه مال إلى العلويين، فلما ولي السفاح واستوزره بقي في نفسه منه شيء، فيقال: إن السفاح سير إلى أبي مسلم وهو بخراسان يعرفه بفساد نية أبي سلمة ويحرضه على قتله، ويقال: إن أبا مسلم لم اطلع على ذلك كتب إلى السفاح وعرفه بحاله وحسن له قتله، فلم يفعل، وقال: هذا الرجل بذل ماله في خدمتنا ونصحنا، وقد صدرت منه هذه الزلة، فنحن نغتفرها له. فلما رأى أبو مسلم امتناعه من ذلك سير جماعة كمنوا له ليلاً، وكانت عادته أن يسمر عند السفاح، فلما خرج من عنده وهو في مدينته بالأنبار ولم يكن معه أحد وثبوا عليه وخبطوه بأسيافهم، وأصبح الناس يقولون: قتلته الخوارج، وكان قتله بعد خلافة السفاح بأربعة أشهر، وولي السفاح الخلافة ليلة الجمعة ثالث عشر شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وثلاثين ومائة. ولما سمع السفاح بقتله أنشد: إلى النار فليذهب ومن كان مثله ... على أي شيء فاتنا منه نأسف وذكر في كتاب " أخبار الوزراء " أن قتله كان في رجب سنة اثنتين وثلاثين ومائة. وكان أبو سلعة يقال له: وزير آل محمد، فلما قتل عمل في ذلك سليمان ابن المهاجر البجلي: إن المساءة قد تسر وربما ... كان السرور بما كرهت جديرا إن الوزير وزير آل محمد ... أودى فمن يشناك كان وزيرا ولم يكن خلالاً، وإنما كان منزله بالكوفة في حارة الخلالين، فكان يجلس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 196 عندهم لقرب داره منهم، فسمي خلالاً (1) . والهمداني - بفتح الهاء وسكون الميم وفتح الدال المهملة وبعد الألف نون - وهذه النسبة إلى همدان، وهي قبيلة عظيمة باليمن. والسبيع: يذكر في حرف العين عند ذكر أبي إسحاق السبيعي إن شاء الله تعالى. وقد اختلف أرباب اللغة في اشتقاق الوزارة على قولين: أحدهما أنها من الوزر - بكسر الواو - وهو الحمل، وكأن الوزير قد حمل عن السلطان الثقل، وهذا قول ابن قتيبة، والثاني: أنها من الوزر - بفتح الواو والزاي - وهو الجبل الذي يعتصم به لينجى به من الهلاك، وكذلك الوزير معناه الذي يعتمد عليه الخليفة أو السلطان ويلتجئ إلى رأيه، وهذا قول أبي إسحاق الزجاج، والله أعلم (2) . 202 - (3) حفص بن غياث القاضي أبو عمرو بن غياث بن طلق بن معاوية بن مالك بن الحارث بن ثعلبة ابن عامر بن ربيعة بن جشم بن وهبيل بن سعد بن مالك بن النخع بن مذحج   (1) في ترجيح تلقيبه بالخلال رأيان آخران: أنه كانت له حوانيت يعمل فيها الخل أو أن اللقب نسبة إلى خلل السيوف وهي أغمادها. (2) زاد الماوردي (الأحكام السلطانية: 24) رأيا ثالثا وهو أن الوزارة مشتقة من " الأرز " وهو الظهر، لأن الملك يقوي بوزيره كقوة البدن بالظهر. (3) ترجمته في طبقات الشيرازي، الورقة: 40 وعبر الذهبي 1: 214 وتاريخ بغداد 8: 188 ورجال النجاشي: 97 وميزان الاعتدال 1: 567 وتذكرة الحفاظ: 297 وطبقات ابن سعد 6: 271 (الطبعة الأوروبية) وتهذيب التهذيب 2: 415. وقد وردت هذه الترجمة في ص ر، وثبت بعضها في مطبوعة وستنفيلد، ولم ترد في مسودة المؤلف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 197 النخعي الكوفي؛ سمح عبد الله بن عمر العمري وهشام بن عمرو وإسماعيل بن أبي خالد وأبا إسحاق الشيباني والأعمش وخلقاً سواهم؛ روى عنه ابنه عمر وأبو نعيم الفضل بن دكين وعفان بن مسلمة وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين وعامة الكوفيين. ولي القضاء ببغداد وحدت بها ثم عزل وولي قضاء الكوفة؛ قال حميد بن الربيع: لما جيء بعبد الله بن إدريس وحفص بن غياث ووكيع ابن الجراح إلى أمير المؤمنين هارون الرشيد ليوليهم القضاء دخلوا عليه، فأما ابن إدريس فقال: السلام عليكم، وطرح نفسه كأنه مفلوج، فقال هارون: خذوا بيد الشيخ، لا فضل في هذا؛ وأما وكيع فقال: والله يا أمير المؤمنين ما أتصرف بها منذ سنة، ووضع إصبعه على عينه، وعنى إصبعه، فأعفاه؛ وأما حفص بن غياث فقال: لولا غلبة الدين والعيال ما وليت. وكان حفص المذكور لما قربوا من بغداد طرى خضابه فالتفت ابن إدريس إلى وكيع فقال: أما هذا فقد قبل. وقال حفص وهو قاض على الشرقية لرجل يسأل عن مسائل القضاء: لعلك تريد أن تكون قاضياً لأن يدخل الرجل إصبعه في عينه فيقلعها فيرمي بها خير له من أن يكون قاضياً. وكان حفص يقول: لو رأيت أني اسر بما أنا فيه هلكت. قال عمرو بن حفص بن غياث: لما حضرت أبي الوفاة أغمي عليه، فبكيت عند رأسه فأفاق فقال: ما يبكيك قلت: أبكي لفراقك ولما دخلت فيه من هذا الأمر، يعني القضاء، فقال لابنه: يا بني ما حللت سراويلي على حرام قط ولا جلس بين يدي خصمان فباليت على من توجه الحكم بينهما. وقال الخطيب: كان حفص بن غياث المذكور جالساً في الشرقية للقضاء، فأرسلإليه الخليفة يدعوه، فقال لرسوله: حتى أفرغ من أمر الخصوم، إذ كنت أجيراً لهم، وأصير إلى أمير المؤمنين؛ ولم يقم حتى تفرق الخصوم. وقال غنام بن حفص: مرض أبي خمسة عشر يوماً، فدفع إلي مائة درهم وقال: امض بها إلى العامل وقل له هذه رزق خمسة عشر يوماً لم أحكم فيها بين المسلمين لاحظ لي فيها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 198 وقال: باع رجل من أهل خراسان جمالاً بثلاثين ألف درهم من مرزبان المجوسي وكيل أم جعفر فمطله ثمنها وحبسه عن سفره، وطال ذلك على الرجل، فأتى بعض أصحاب حفص بن غياث فشاوره فقال له: اذهب إليه فقل له: أعطني ألف درهم وأحيل عليك ببقية المال وأخرج إلى خراسان، فإذا فعلت هذا فأخبرني حتى أشير عليك؛ ففعل الرجل وأتى مرزبان فأعطاه ألف درهم فرجع إلى الرجل فأخبره فقال: عد إليه فقل له: إذا ركبت غداً فطريقك على القاضي تحضر، وأوكل رجلاً بالقبض على المال واخرج فإذا جلس إلى القاضي فادع عليه بما بقي لك من المال، فإذا أقر حبسه القاضي وأخذت مالك. فرجع إلى مرزبان فسأله فقال: انتظرني بباب القاضي؛ فلما ركب من الغد وثب إليه الرجل وقال: إن رأيت أن تترك إلي القاضي حتى أوكل بقبض المال وأخرج، فنزل مرزبان إلى حفص المذكور فقال الرجل: أصلح الله القاضي، لي على هذا الرجل تسعة وعشرون ألف درهم، فقال حفص: ما تقول يا مجوسي قال: صدق، أصلح الله القاضي، فقال القاضي: ما تقول يا رجل فقد أقر لك، فقال: يعطيني مالي، فأقبل حفص على المجوسي فقال: ما تقول فقال: هذا المال على السيدة، فقال: أنت أحمق تقر ثم تقول على السيدة ما تقول يا رجل قال: أصلح الله القاضي إن أعطاني مالي وإلا حبسته، قال حفص: ما تقول يا مجوسي قال: المال على السيدة، فقال حفص: خذوا بيده إلى الحبس؛ فلما حبس بلغ الخبر أم جعفر فغضبت وبعثت إلى السندي: وجه إلى المرزبان، وكانت القضاة تحبس الغرماء في مجلس الشرط، فأخرجه. وبلغ الخبر حفصاً فقال: أحبس أنا ويخرج السندي لا جلست مجلسي هذا أو يرد مرزبان إلى الحبس، فجاء السندي إلى أم جعفر فقال: الله الله في، إنه حفص ابن غياث وأخاف من أمير المؤمنين أ، يقول لي: بأمر من أخرجته رديه إلى الحبس، وأنا أكلم حفصاً في أمره؛ فرجع مرزبان إلى الحبس فقالت أم جعفر لهارون: قاضيك هذا أحمق، حبس وكيلي واستخف به، فمره لا ينظر في الحكم وتولي أمره أبا يوسف، فأمر لها بالكتاب وبلغ حفصاً الخبر فقال: أحضري شهوداً حتى أسجل لك على المجوسي؛ وجلس حفص وسجل على المجوسي بالمال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 199 وورد كتاب هارون مع خادم فقال: هذا كتاب أمير المؤمنين، فقال: مكانك؛ نحن في شيء حتى نفرغ منه، فقال: كتاب أمير المؤمنين، فقال: انظر ما يقال لك، فلما فرغ حفص من السجل أخذ الكتاب من الخادم فقرأه فقال: اقرأ على أمير المؤمنين السلام وقل له إن كتابه ورد وقد أنفذت الحكم، فقال الخادم: قد عرفت ما صنعت، أبيت أن تأخذ كتاب أمير المؤمنين حتى تفرغ مما تريد؛ والله لأخبرن أمير المؤمنين بما فعلت! فقال حفص: قل له ما أحببت، فجاء الخادم فأخبر هارون فضحك وقال للحاجب: مر لحفص بثلاثين ألف درهم، فركب يحيى بن خالد فاستقبل حفصاً منصرفاً من مجلس القضاء فقال: أيها القاضي قد سررت أمير المؤمنين وأمر لك بثلاثين ألف درهم فما السبب فقال: تمم الله سرور أمير المؤمنين وأحسن حفظه وكلاءته ما زدت على ما أفعل كل يوم، سجلت على مرزبان المجوسي بما وجب عليه؛ قال يحيى بن خالد: فمن هذا سر أمير المؤمنين، فقال حفص: الحمد لله كثيراً، فقالت أم جعفر لهارون: لا أنا ولا أنت إلا أن تعزل حفصاً، فأبى عليها، ثم ألحت عليه فعزله عن الشرقية وولاء قضاء الكوفة، فمكث عليها ثلاث عشرة سنة. وكان أبو يوسف لما ولي حفص القضاء قال لأصحابه: تعالوا نكتب نوادر حفص، فلما وردت أحكامه وقضاياه على أبي يوسف قال له أصحابه: أين النوادر التي زعمت بكتبها قال: ويحكم إن حفصاً أراد الله فوفقه. وقال حفص: والله ما وليت القضاء حتى حلت لي الميتة. ومات رحمه الله ولم يخلف درهماً وخلف عليه تسعمائة درهم ديناً. وكان يقال: ختم القضاء بحفص بن غياث. وقال الحسين بن المغيرة: رأى بعض الصالحين كأن زورقاً غرق بين الجسرين وفيه عشرون قاضياً، فما نجا منهم إلا ثلاثة على سوءاتهم: حفص بن غياث والقاسم بن معن وشريك. وقال يحيى بن معين: جميع ما حدث به حفص بن غياث ببغداد والكوفة إنما هو من حفظه، لم يخرج كتاباً؛ كتبوا عنه ثلاثة آلاف وأربعة آلاف حديث من حفظه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 200 قال عبيد الله بن صالح العجلي: حدثني أبي قال: حفص بن غياث ثقة مأمون فقيه وكان على قضاء الكوفة، وكان وكيع ربما يسأل عن الشيء فيقول: اذهبوا إلى قاضينا فاسألوه، وكان شيخاً عفيفاً مسلماً. ولد حفص بن غياث سنة سبع عشرة ومائة ومات سنة أربع وتسعين ومائة في العشر من ذي الحجة، وقيل مات سنة ست وتسعين ومائة، رحمه الله تعالى. 203 - (1) الحكم بن عبدل الحكم بن عبدل بن جبلة بن عمرو بن ثعلبة بن عقال بن بلال بن سعد بن حبال الأسدي؛ شاعر مجيد مقدم في طبقته هجاء خبيث اللسان من شعراء الدولة الأموية، وكان أعرج أحدب، ومنزله ومنشؤه الكوفة. حدث العتبي قال: كان الحكم بن عبدل الشاعر الأسدي أعرج لا تفارقه العصا فترك الوقوف بأبواب الملوك، وكان يكتب على عصاه حاجته ويبعث بها مع رسوله فلا يحبس له رسول ولا تؤخر له حاجة، فقال في ذلك يحيى بن نوفل: عصا حكم في الدار أول داخل ... ونحن على الأبواب نقصى ونحجب وكانت عصا موسى لفرعون آية ... وهذي لعمر الله أدهى وأعجب تطاع فلا تعصى ويحذر سخطها ... ويرغب في المرضاة منها ويرهب   (1) ترجمته في الأغاني 2: 360 وتهذيب ابن عساكر 4: 396 والمختلف والمؤتلف: 242 والفوات 1: 286 وورود ترجمته في الفوات يعد استدراكا على ابن خلكان ومعنى ذلك أيضا أن ابن شاكر لم يجد هذه الترجمة في النسخة التي اطلع عليها من وفيات الأعيان؛ وذكر ابن شاكر أن وفاة ابن عبدل كانت في حدود المائة، وسياق الترجمة متابع لما في الأغاني؛ وقد وردت في نسختي ص ر ومطبوعة وستنفيلد ولم ترد في مسودة المؤلف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 201 قال: فشاعت هذه الأبيات وضحك الناس منها، فكان ابن عبدل بعد ذلك يقول ليحيى: يا ابن الزانية ما أردت من عصاي حتى صيرتها ضحكة، واجتنب أن يكتب عليها كما كان يفعل وكاتب الناس بحوائجه في الرقاع. وكان للحكم بن عبدل صديق أعمى يقال له أبو علية، وكان ابن عبدل قد أقعد، فخرجا ليلة من منزلهما إلى منزل بعض أخوانهما والحكم يحمل وأبو علية يقاد، فلقيهما صاحب العسس بالكوفة فأخذهما فحبسهما، فلما استقرا في الحبس نظر الحكم إلى عصا أبي علية موضوعة إلى جانب عصاه فضحك وأنشأ يقول: حبسي وحبس أبي علي من أعاجيب الزمان ... أعمى يقاد ومقعد ... لا الرجل ولا اليدان هذا بلا بصر هناك وبي يخب الحاملان ... يا من رأى ضب الفلاة ... قرين حوت في مكان طرفي وطرف أبي علي دهرنا متوافقان ... من يقتحم بجواده ... فجوادنا عكازتان طرفان لا علفاهما ... بشرى ولا يتصاولان هبني وإياه الحريق ... أكان يسطع بالدخان وكان اسم أبي علية يحيى، فقال الحكم فيه أيضاً: أقول ليحيى ليلة السجن سادراً ... ونومي به نوم الأسير المقيد أعني على رعي النجوم ولحظها ... أعنك على تحبير شعر مقصد ففي حالتينا عبرة وتفكر ... وأعجب منها حبس أعمى ومقعد كلانا إذا العكاز فارق كفه ... يخر صريعاً بل على الوجه يسجد فعكازه يهدي إلى السبل اكمهاً ... وأخرى مقام الرجل قامت مع اليد قال: وولي الشرطة بالكوفة رجل أعرج ثم ولي الإمارة آخر أعرج وخرج ابن عبدل - وكان أعرج - فلقي سائلاً أعرج قد تعرض للأمير يسأله فقال ابن عبدل للسائل: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 202 ألق العصا ودع التحامل (1) والتمس ... عملاً فهذي دولة العرجان لأميرنا وأمير شرطتنا معاً ... يا قومنا لكليهما رجلان فإذا يكون أميرنا ووزيره ... وأنا فإن الرابع الشيطان فبلغت أبياته ذلك الأمير فبعث له مائتي درهم وسأله أن يكف عنه. وقيل: قدم الحكم بن عبدل واسطاً على ابن هبيرة وكان بخيلاً، فأقبل حتى وقف بين يديه فقال: أتيتك في أمر من آمر عشيرتي ... وأعلى الأمور المفظعات جسيمها فإن قلت لي في حاجتي أنا فاعل ... فقد ثلجت نفسي وولت همومها قال: أنا فاعل إن اقتصدت فما حاجتك قال: غرم لزمنا، قال: كم هو قال: أربعة آلاف درهم، قال: نحن مناصفوها، قال: أصلح الله الأمير، أتخاف علي التخمة إن أممتها قال: أكره أن أعود الناس هذه العادة، قال: فأعطني جميعها سراً وامنعني جميعها ظاهراً حتى تعود الناس المنع وإلا فالضرر واقع عليك إن عودتهم نصف ما يطلبون، فضحك ابن هبيرة وقال: ما عندنا غير ما بذلناه لك، فجثا بين يديه، وقال: امرأتي طالق إن أخذت أقل من أربعة آلاف درهم أو انصرفت وأنا غضبان، فقال: اعطوه إياها قبحه الله فإنه ما علمت حلاف مهين، فأخذها وانصرف. وقيل لما وقع الطاعون بالكوفة ومات منهم بنو زر بن حبيش العامري صاحب علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكانوا ظرفاء وبنو عم لهم، فقال الحكم بن عبدل الغاضري يرثيهم: أبعد بني زر وبعد ابن جندل ... وعمرو أرجي لذة العيش في خفض مضوا وبقينا نأمل العيش بعدهم ... ألا إن من يبقى على إثر من يمضي حدث الأصمعي قال: كانت امرأة موسرة بالكوفة وكانت لها على الناس   (1) الأغاني: التخادع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 203 ديون، فاستعانت بابن عبدل في دينها، وقالت: إني امرأة ليس لي زوج، وجعلت تعرض بأنها تزوجه نفسها، فقام ابن عبد في دينها حتى استوفته فلما طالبها بالوفاء كتبت إليه: سيخطبك الذي حاولت مني ... فقطع حبل وصلك من حبالي كما أخطاك معروف ابن بشر ... وكنت تعد ذلك رأس مال وكان ابن عبدل أتى ابن بشر بالكوفة فسأله فقال: أخمسمائة أحب إليك العام أم ألف في قابل فقال: ألف في قابل، فلما أتاه قال: ألف أحب إليك أم ألفان في قابل قال: فلم يزل ذلك دابه حتى مات ابن بشر وما أعطاه شيئاً. قال: ودخل ابن عبدل على عبد الملك بن مروان بن بشر فقال: ما أحدثت بعدي قال: خطبت امرأة من قومي فردت علي جواب رسالتي بيتي شعر، ما أجود ما ذكرت بنفسك، وأمر له بألفي درهم. ومثل هذا قال عبد الملك بن مروان لرجل: ما مالك قال: ما أكف به وجهي وأعود منه على صديقي، قال لقد لطفت في المسألة، وأمر له بمال. وقريب من هذا قال قيس بن سعد لعجوز: كيف حالك قالت: ما في بيتي جرذ، فقال: ما ألطف ما سألت! لأملأن بيتك جرذاناً، وأمر لها بمال. وشخص الحكم بن عبدل مع عمر بن هبيرة إلى واسط فشكا إليه الضيقة فوهب له جارية من جواريه فواثبها ليلة صارت إليه فنكحها تسعة أو عشرة طلقاً واحداً، فلما أصبحت قالت له: جعلت فداك من أي الناس أنت قال: امرؤ من أهل الشام، قالت: بهذا العمل غلبتم أهل العراق في حربكم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 204 204 - (1) حماد بن أبي حنيفة أبو إسماعيل حماد ابن الإمام أبي حنيفة النعمان بن ثابت؛ كان على مذهب أبيه، رضي الله تعالى عنه، وكان من الصلاح والخير على قدم عظيم، ولما توفي أبوه كانت عنده ودائع كثيرة من ذهب وفضة وغير ذلك وأربابها غائبون وفيهم أيتام، فحملها ابنه حماد المذكور إلى القاضي ليتسلمها منه، فقال له القاضي: ما نقبلها منك ولا نخرجها عن يدك فإنك أهل لها وموضعها، فقال حما للقاضي: زنها واقبضها حتى تبرأ منها ذمة أبي حنيفة، ثم افعل ما بدا لك، ففعل القاضي ذلك وبقي في وزنها أياماً، فلما كمل وزنها استتر حماد فلم يظهر حتى دفعها إلى غيره. (30) وكان ابنه إسماعيل (2) قاضي البصرة وعزل عنها بالقاضي يحيى بن أكثم ورأيت في كتاب " أخبار أبي حنيفة " أن القاضي يحيى بن أكثم لما وصل إلى البصرة وعزم إسماعيل بن حماد على السفر شيعه القاضي يحيى بن أكثر فكان الناس يدعون لإسماعيل ويقولون له: عففت عن أموالنا ودمائنا، فيقول إسماعيل: وعن أبنائكم، وكان يعرض بما يتهم به القاضي يحيى بن أكثم. وقال إسماعيل المذكور: كان لنا جار طحان رافضي، وكان له بغلان سمى أحدهما أبا بكر والآخر عمر، فرمحه ذات ليلة أحد البغلين فقتله، فأخبر جدي أبو حنيفة به، فقال: انظروا فإني إخال أن البغل الذي سماه عمر هو الذي رمحه، فنظروا، فكان كما قال. وكانت وفاة حماد المذكور في ذي القعدة سنة ست وسبعين ومائة، رحمه الله تعالى، وسيأتي ذكر والده إن شاء الله تعالى.   (1) انظر طبقات الشيرازي، الورقة: 40. (2) ترجمة القاضي إسماعيل حفيد أبي حنيفة في الجواهر المضية 1: 148 وتاريخ بغداد 6: 243. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 205 (1) 205 حماد الراوية أبو القاسم حماد بن أبي ليلى سابور - وقيل ميسرة - بن المبارك بن عبيد الديلمي الكوفي مولى بني بكر بن وائل المعروف بالراوية، وقال ابن قتيبة في كتاب " المعارف " وفي كتاب " طبقات الشعراء " (2) : إنه مولى مكنف بن زيد الخيل الطائي الصحابي رضي الله عنه؛ كان من أعلم الناس بأيام العرب وأخبارها وأشعارها وأنسابها ولغاتها، وهو الذي جمع السبع الطوال فيما ذكره أبو جعفر النحاس، وكانت ملوك بني أمية تقدمه وتؤثره وتستزيره، فيفد عليهم وينال منهم ويسألونه عن أيام العرب وعلومها. وقال له الوليد بن يزيد الأموي يوماً (3) وقد حضر مجلسه: بم استحققت هذا الاسم فقيل لك الراوية فقال: بأني أروي لكل شاعر تعرفه يا أمير المؤمنين أو سمعت به، ثم أروي لأكثر منهم ممن تعترف أنك لا تعرفه ولا سمعت به، ثم لا ينشدني أحد شعراً قديماً ومحدثاً إلا ميزت القديم من المحدث، فقال له: فكم مقدار ما تحفظ من الشعر فقال: كثير، ولكني أنشدك على كل حرف من حروف المعجم مائة قصيدة كبيرة سوى المقطعات من شعراء الجاهلية دون شعراء الإسلام، قال: سأمتحنك في هذا، وأمره بالإنشاد، فأنشد حتى ضجر الوليد، ثم وكل به من استحلفه أن يصدقه عنه ويستوفي عليه، فأنشده ألفين وتسعمائة قصيدة للجاهلية، وأخبر الوليد بذلك، فأمر له بمائة ألف درهم.   (1) ترجمة حماد الراوية في الأغاني 6: 67 وتهذيب ابن عساكر 4: 427 ولسان الميزان 2: 352 وخزانة البغدادي 4: 129 ونزهة الألباء: 23. (2) انظر المعارف: 333، 541 والشعر والشعراء: 206. (3) م: قال له عبد الملك: لأي شيء سميت بالرواية فقال: أروي لكل شاعر قديم أو محدث ... الخ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 206 [قال الطرماح: أنشدت حماداً الراوية قصيدة لي ستين بيتاً فسكت ساعة ثم قال: أهذه لك قلت: نعم، قال: ليس الأمر كذلك، ثم ردها علي كلها وزيادة عشرين بيتاً زادها في وقته. دخل مطيع بن إياس ويحيى بن زياد على حماد الراوية فإذا سراجه على ثلاث قصبات قد جمع أعلاهن وأسفلهن بطين، فقال له يحيى: يا حماد، إنك لمترف متبذل بحر المتاع، وقال له مطيع: ألا تبيع هذه المنارة وتشتري بأقل ثمناً منها منارة تزيل بها عذرك وتنفق علينا وعلى نفسك الباقي وتتسع وقال له يحيى: ما أحسن ظنك به! ومن أين له هذه المنارة هذه وديعة أو عارية، وقال مطيع: إنه لعظيم الأمانة عند الناس، قال يحيى: وعلى عظم أمانته فما أجهل من يخرج هذه من داره ويأمن عليها غيره، قال مطيع: ما أظنها عارية ولا وديعة ولكني أظنها مرهونة عنده على مال وإلا فمن يخرج هذه من بيته فقال حماد: يرهنها من يدخلكما على بيته ليلقى عليها من أنواع المداعبة، وهل عند أحد من المال ما يرهن] (1) . وذكر أبو محمد الحريري صاحب كتاب " المقامات " في كتابه " درة الغواص " ما مثاله (2) : قال حماد الراوية: كان انقطاعي (3) إلى يزيد بن عبد الملك بن مروان في خلافته، وكان أخوه هشام يجفوني لذلك، فلما مات يزيد وتولى هشام خفته ومكثت في بيتي سنة لا أخرج إلا إلى من أثق إليه من إخواني سراً، فلما أسمع أحداً ذكرني في السنة أمنت، فخرجت أصلي الجمعة، وصليت في جامع الرصافة الجمعة، فإذا شرطيان قد وقفا علي وقالا: يا حماد، أجب الأمير يوسف بن عمر الثقفي - وكان والياً على العراق - فقلت في نفسي: من هذا كنت أخاف، ثم قلت لهما: هل لكما أن تدعاني حتى آتي أهلي فأودعهم وداع من لا يرجع إليهم أبداً ثم أصير معكما فقالا:   (1) زيادة من د لم ترد في المسودة. (2) انظر درة الغواص: 177 وفي نقل ابن خلكان بعض اختلاف. والقصة أيضا في تهذيب ابن عساكر. (3) الدرة: كنت منقطعا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 207 ما إلى ذلك سبيل، فاستسلمت في أيديهما، ثم صرت إلى يوسف بن عمر وهو في الإيوان الأحمر، فسلمت عليه فرد علي السلام ورمى إلي كتاباً فيه " بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله هشام أمير المؤمنين إلى يوسف بن عمر؛ أما بعد، فإذا قرأت كتابي هذا فابعت إلى حماد الراوية من يأتيك به من غير ترويع (1) ، وادفع له خمسمائة دينار وجملاً مهرياً يسير عليه اثنتي عشرة ليلة إلى دمشق ". فأخذت الدنانير، ونظرت فإذا جمل هرحول، فركبته وسرت حتى وافيت دمشق في اثنتي عشرة ليلة، فنزلت على باب هشام واستأذنت فأذن لي، فدخلت عليه في دار قوراء مفروشة بالرخام وبين كل رخامتين قضيب ذهب وهشام جالس على طنفسة حمراء وعليه ثياب حمر من الخز وقد تضمخ بالمسك والعنبر، فسلمت عليه، فرد علي السلام واستدناني فدنوت حتى قبلت رجله، فإذا جاريتان لم أر مثلهما قط في أذن كل جارية حلقتان فيهما لؤلؤتان تتقدان، فقال: كيف أنت يا حماد وكيف حالك فقلت: بخير يا أمير المؤمنين، فقال: أتدري فيم بعثت إليك قلت: لا، قال: بعثت بسبب بيت خطر ببالي لا أعرف قائله، قلت: وما هو قال: ودعوا بالصبوح يوماً فجاءت ... قينة في يمينها إبريق فقلت: يقوله عدي بن زيد العبادي في قصيدة، قال: أنشدنيها، فأنشدته: بكر العاذلون في وضح الصب ... ح يقولون لي اما تستفيق ويلومون فيك يا ابنة عبد الل ... هـ والقلب عندكم موهوق لست أدري إذا أكثروا العذل فيه ... أعدو يلومني، أم صديق (2) قال حماد: فانتهيت فيها إلى قوله: ودعوا بالصبوح يوماً فجاءت ... قينة في يمينها إبريق   (1) الدرة: بغير تروع. (2) وردت القصيدة في ر دون حذف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 208 قدمته على عقار كعين ال ... ديك صفى سلافها الراووق مزة قبل مزجها فإذا ما ... مزجت لذ طعمها من يذوق وطفا فوقها فقاقيع كاليا ... قوت حمر يزينها التصفيق ثم كان المزاج ماء سحاب ... لا صرى آجن ولا مطروق قال: فطرب هشام، ثم قال: أحسنت يا حماد - وفي هذه الحكاية زيادة فإنه قال: اسقيه يا جارية، فسقتني، وهذا ليس بصحيح، فإن هشاماً لم يكن يشرب، فلا حاجة إلى ذكر تلك الزيادة - ثم قال: يا حماد، سل حاجتك، فقلت: كائنة ما كانت قال: نعم، قلت: إحدى الجاريتين، قال: هما جميعاً لك بما عليهما وما لهما، وأنزله في داره، ثم نقله من غد إلى منزل أعده له، فوجد فيه الجاريتين وما لهما وكل ما يحتاج إليه، وأقام عنده مدة، ووصله بمائة ألف درهم. [قال حماد: فسرت وأنا أيسر خلق الله إلى الكوفة فقلت: أنت الذي تنزل الأيام منزلها ... وتنقل الدهر من حال إلى حال وما مددت مدى طرف إلى أحد ... إلا قضيت بأرزاق وآجال تروم شحاً فتمسي البيض [ ... ] ... وتستهل فتبكي أعين المال] (1) قلت: هكذا ساق الحريري هذه الحكاية، وما يمكن أن تكون هذه الواقعة مع يوسف بن عمر الثقفي لأنه لم يكن والياً بالعراق في التاريخ المذكور بل كان متوليه خالد بن الله القسري - الآتي ذكره إن شاء الله تعالى - حسبما يقتضيه تاريخ ولايته وانفصاله وولاية يوسف بن عمر في ترجمته أيضاً. وأخبار حماد ونوادره كثيرة. وكانت وفاته سنة خمس وخمسين ومائة، ومولده في سنة خمس وتسعين للهجرة. وقيل إنه توفي في خلافة المهدي، وتولى المهدي الخلافة يوم السبت لست خلون من ذي الحجة سنة ثمان وخمسين ومائة، وتوفي ليلة الخميس لسبع بقين من المحرم   (1) زيادة من ر ولم ترد في درة الغواص أو في مسودة المؤلف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 209 سنة تسع وستين ومائة بقربة يقال لها الرذ (1) ، من أعمال ما سبذان، وفي ذلك يقول مروان بن أبي حفصة: وأكرم قبر بعد محمد ... نبي الهدى قبر بما سبذان عجبت لأيد هالك الترب فوقه ... ضحى كيف لم ترجع بغير بنان ولما مات حماد الراوية رثاه أبو يحيى محمد بن كناسة، وهو لقبه، واسمه عبد الأعلى بن عبد الله بن خليفة بن نضلة بن أنيف بن مازن بن ذويبة بن أسامة ابن نصر بن قعين، يقوله: لو كان ينجى من الردى حذر ... نجاك مما أصابك الحذر يرحمك الله من أخي ثقة ... لم يك في صفو وده كدر فهكذا يفسد الزمان ويف ... نى العلم فيه ويدرس الأثر وكان حماد المذكور قليل البضاعة من العربية، قيل إنه حفظ القرآن الكريم من المصحف، فصحف في نيف وثلاثين حرفاً، رحمه الله تعالى. 206 - (2) حماد عجرد أبو عمرو - وقيل أبو يحيى - حماد بن عمر بن يونس بن كليب الكوفي - وقيل الواسطي - مولى بني سوأة بن عامر بن صعصعة المعروف بعجرد   (1) ذكرها ياقوت وقال إنها قرية بماسبذان قرب البندنيجين، بها قبر أمير المؤمنين المهدي؛ وعند وستنفيلد وص: الود، وفي ر م: ألوذ. (2) ترجمة حماد عجرد في طبقات ابن المعتز: 67 والشعر والشعراء: 663 والأغاني 14: 304 وتاريخ بغداد 8: 148 والمؤتلف والمختلف: 157 ومعجم الأدباء 10: 249. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 210 الشاعر المشهور؛ هو من مخضرمي الدولتين الأموية والعباسية، ولم يشتهر إلا في العباسية، ونادم الوليد بن يزيد الأموي، وقدم بغداد في أيام المهدي، وقال علي بن الجعد: قدم علينا في أيام المهدي هؤلاء القوم: حماد عجرد ومطيع بن إياس الكناني ويحيى بن زياد، فنزلوا بالقرب منا فكانوا لا يطاقون خبثاً ومجانة. وهو من الشعراء المجيدين، وبينه وبين بشار بن برد أهاج فاحشة، وله في بشار كل معنى غريب، ولولا فحشها لذكرت شيئاً منها، وكان بشار يضج منه، وقال بشار في حماد (1) : إذا جئته في الحي أغلق بابه ... فلم تلقه إلا وأنت كمين فقل لأبي يحيى متى تبلغ العلا ... وفي كل معروف عليك يمين وفيه يقول بشار أيضاً (2) : نعم الفتى لو كان يعبد ربه ... ويقيم وقت صلاته حماد وابيض من شرب المدامة وجهه ... وبياضه يوم الحساب (3) سواد وكان يبري النبل، وقيل إن أباه كان يبري النبل (4) ، وإنه هو لم يتعاط شيئاً من الصنائع. وكان ماجناً ظريفاً خليعاً متهماً في دينه بالزندقة؛ يحكى أنه كانت بينه وبين أحد الأثمة الكبار - وما يليق التصريح بذكر اسمه (5) - مودة، ثم تقاطعا، بلغه عنه أنه يتنقصه، فكتب إليه: إن كان نسكك لا يتم ... بغير شتمي وانتقاصي فاقعد وقسم بي كيف شئ ... ت مع الأداني والأقاصي   (1) ديوان بشار: 220 - 221، وذكر جامع الديوان أن الأبيات في هجاء عبد الله بن قزعة. (2) ديوان بشار: 70. (3) م: المعاد. (4) أكتفي في م بقوله: وكان وأبوه يبريان النبل. (5) صرحت به المصادر وتحرج في ذكره المؤلف، انظر الأغاني 14: 316. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 211 فلطالما زكيتني ... وأنا المصر (1) على المعاصي أيام نأخذها ونعط ... ي في أباريق الرصاص ومن شعره أيضاً: فأقسمت لو أصبحت في قبضة الهوى ... لأقصرت عن لومي وأطنبت في عذري ولكن بلائي منك أنك ناصح ... وأنك لا تدري بأنك لا تدري [وذكر ابن قتيبة في كتاب " طبقات الشعراء " قال (2) : كان في الكوفة ثلاثة يقال لهم الحمادون: حماد عجرد وحماد الراوية وحماد بن الزبرقان النحوي، وكانوا يتعاشرون وكانوا كلهم يرمون بالزندقة. وقيل إن حماد عجرد أهدى إلى مطيع بن إياس غلاماً وكتب معه: قد أهديت إليك من يتعلم عليه كظم الغيظ. ولما أقعد حماد عجرد لتأديب ولد الأمين قال بشار بن برد: قل للأمين جزاك الله صالحة ... لا تجمع الدهر بين السخل والذيب فالسخل يعلم أن الذئب آكله ... والذئب يعلم ما في السخل من طيب وقال أيضاً: يا أبا الفضل لا تنم ... وقع الذئب في الغنم إن حماد عجرد ... شيخ سوء قد اغتلم بين فخذيه حربة ... في غلاف من الأدم إن رأى ثم غفلة ... مجج الميم في القلم فشاعت الأبيات، فأمر الأمين أن يخرج حماد.   (1) الأغاني: المقيم. (2) انظر الشعر والشعراء: 663. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 212 ومن شعر حماد عجرد: إن الكريم ليخفي عنك عسرته ... حتى تراه غنياً وهو مجهود وللبخيل على أمواله علل ... زرق العيون عليها أوجه سود إذا تكرهت أن تعطي القليل ولم ... تقدر على سعة لم يظهر الجود بث النوال ولا يمنعك قلته ... فكل ما سد فقراً فهو محمود] (1) وأشعاره وأخباره مشهورة. وتوفي في سنة إحدى وستين ومائة، رحمه الله تعالى. وقيل: كان من أهل واسط، وقتله محمد بن سليمان بن علي عامل البصرة بظاهر الكوفة على الزندقة في سنة خمس وخمسين ومائة، وقيل: خرج من الأهواز يريد البصرة، فمات في طريقه، فدفن على تل هناك، وقيل: مات سنة ثمان وستين ومائة. ولما قتل المهدي بشار بن برد المقدم ذكره بالبطيحة، حمل ودفن على حماد عجرد، فمر على قبريهما أبو هشام الباهلي، فكتب عليهما (2) : قد اتبع الأعمى قفا عجرد ... فأصبحا جارين في دار صارا جميعاً في يدي مالك ... في النار، والكافر في النار قالت بقاع الأرض لا مرحباً ... بقرب حماد وبشار وعجرد - بفتح العين المهملة وسكون الجيم وفتح الراء وبعدها دال مهملة - وهو لقب عليه، وإنما قيل له ذلك لأنه مر به أعرابي وهو غلام يلعب مع الصبيان في يوم شديد البرد وهو عريان، فقال له: لقد تعجردت يا غلام، والمتعجرد: المتعري. والمخضرم - بضم الميم وفتح الخاء المعجمة وسكون الضاد المعجمة وفتح الراء وبعدها ميم - أصل هذه اللفظة أن تطلق على الشاعر الذي أدرك الجاهلية   (1) زيادة من ص د ولم ترد في مسودة المؤلف. (2) انظر الأغاني 14: 363. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 213 والإسلام مثل لبيد والنابغة الجعدي وغيرهما، ثم توسع فيها حتى صارت تطلق على من أدرك دولتين، وسمع في ذلك أيضاً محضرم بالحاء المهملة وسمع بكسر الراء أيضاً. 207 - (1) أبو سليمان الخطابي أبو سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم بن الخطاب البستي؛ كان فقيهاً أديباً محدثاً له التصانيف البديعة منها " غريب الحديث " و " معالم السنن في شرح سنن أبي داود " و " أعلام السنن في شرح البخاري " وكتاب " الشحاح " (2) وكتاب " شأن الدعاء " وكتاب " إصلاح غلط المحدثين " وغير ذلك. سمع بالعراق أبا علي الصفار وأبا جعفر الرزاز وغيرهما، وروى عنه الحاكم أبو عبد الله ابن البيع النيسابوري وعبد الغفار بن محمد الفارسي وأبو القاسم عبد الوهاب بن أبي سهل الخطابي وغيرهم، وذكره صاحب " يتيمة الدهر "، وأنشد له (3) : وما غمة (4) الإنسان في شقة النوى ... ولكنها والله في عدم الشكل   (1) ترجمة أبي سليمان الخطابي في إنباه الرواة 1: 125 (تحت أحمد) ويتيمة الدهر 4: 334 ومعجم الأدباء 4: 246 وشذرات الذهب 3: 150 وبغية الوعاة: 239، وانظر أنساب السمعاني واللباب: (الخطابي) وتذكرة الحفاظ: 1018 وخزانة الأدب 1: 282 وطبقات السبكي 2: 218، ومن كتبه المنشورة: رسالة له في اعجاز القرآن (ضمن ثلاث رسائل، نشر دار المعارف) ورسالة في العزلة (إدارة الطباعة المنيرية، القاهرة: 1352هـ) ومعالم السنن (في مجلدين) . وله مؤلفات أخرى ذكرها ياقوت. (2) وكتاب الشحاح: لم يذكر إلا في ص ر والمسودة. (3) اليتيمة: 335، 336. (4) كذا في المسودة؛ وفي سائر النسخ: غربة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 214 وإني غريب بين بست وأهلها ... وإن كان فيها أسرتي وبها أهلي وأنشد له أيضاً: شر السباع العوادي دونه وزر ... والناس شرهم ما دونه وزر كم معشر سلموا لم يؤذهم سبع ... وما ترى بشراً لم يؤذه بشر وأنشد له أيضاً: فسامح ولا تستوف حقك كله ... وأبق فلم يستقص قط كريم ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد ... كلا طرفي قصد الأمور ذميم وذكر له أشياء غير ذلك. وكان يشبه في عصره بأبي عبيد القاسم بن سلام علماً وأدباً وزهداً وورعاً وتدريساً وتأليفاً. وكانت وفاته في شهر ربيع الأول سنة ثمان وثمانين وثلثمائة بمدينة بست، رحمه الله تعالى. والخطابي - بفتح الخاء المعجمة وتشديد الطاء المهملة وبعد الألف باء موحدة - وهذه النسبة إلى جده الخطاب المذكور، وقيل إنه من ذرية زيد بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه، فنسب إليه، والله أعلم. والبستي - بضم الباء الموحدة وسكون السين المهملة وبعدها تاء مثناة من فوقها - هذه النسبة إلى بست، وهي مدينة من بلاد كابل بين هراة وغزنة كثيرة الأشجار والأنهار. وقد سمع في اسم أبي سليمان حمد المذكور أحمد أيضاً - بإثبات الهمزة - والصحيح الأول؛ قال الحاكم أبو عبد الله محمد بن البيع: سألت أبا القاسم المظفر ابن طاهر بن محمد البستي الفقيه عن اسم أبي سليمان الخطابي أحمد أو حمد فإن بعض الناس يقول أحمد، فقال: سمعته يقول: اسمي الذي سميت به حمد، ولكن الناس كتبوا أحمد، فتركته عليه (1) . وقال أبو القاسم المذكور: أنشدنا أبو سليمان لنفسه:   (1) وقد سمع ... عليه: سقطت هذه الفقرة من م. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 215 ما دمت حياً فدار الناس كلهم ... فإنما أنت في دار المداراة من يدر دارى ومن لم يدر سوف يرى ... عما قليل نديماً للندامات 208 (1) حمزة الزيات أبو عمار حمزة بن حبيب بن عمارة بن إسماعيل الكوفي المعروف بالزيات، مولى آل عكرمة بن ربعي التيمي؛ كان أحد القراء السبعة، وعنه أخذ أبو الحسن الكسائي القراءة، وأخذ هو عن الأعمش، وإنما قيل له " الزيات " لأنه كان يجلب الزيت من الكوفة إلى حلوان ويجلب من حلوان الجبن والجوز إلى الكوفة، فعرف به. وتوفي سنة ست وخمسين ومائة بحلوان وله ست وسبعون سنة، رحمه الله تعالى. وحلوان - بضم الحاء المهملة وسكون اللام وفتح الواو وبعد الألف نون - وهي مدينة في أواخر سواد العراق مما يلي بلاد الجبل. وربعي: بكسر الراء وسكون الباء الموحدة وكسر العين المهملة وتشديد الياء.   (1) ترجمته في تهذيب التهذيب 3: 27 وغاية النهاية 1: 261 وميزان الاعتدال 1: 605 وقد ولد حمزة بن حبيب سنة 80 هـ هو وأبو حنيفة في عام واحد، قال الذهبي: قد انعقد الاجماع باخرة على تلقي قراءة حمزة بالقبول والإنكار على من تكلم فيها، فقد كان من بعض السلف في الصدر الأول فيها مقال، وقيل توفي سنة 158. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 216 (1) 209 حنين بن إسحاق أبو زيد حنين بن إسحاق العبادي الطبيب المشهور؛ كان إمام وقته في صناعة الطب، وكان يعرف لغة اليونانيين (2) معرفة تامة وهو الذي عرب كتاب أقليدس ونقله من لغة اليونان إلى اللغة العربية، وجاء ثابت بن قرة المقدم ذكره فنقحه وهذبه، وكذلك كتاب المجسطي، وأكثر كتب الحكماء والأطباء فإنها كانت كلها بلغة اليونان فعربت، وكان حنين المذكور أشد الجماعة اعتناء بتعريبها، وعرب غيره أيضاً بعض الكتب، ولولا ذلك التعريف لما انتفع أحد بتلك الكتب لعدم المعرفة بلسان اليونان، لا جرم كل كتاب لم يعربوه باق على حاله ولا ينتفع به إلا من عرف تلك اللغة. وكان المأمون مغرماً بتعريبها وتحريرها وإصلاحها، ومن قبله جعفر البرمكي وجماعة من أهل بيته أيضاً اعتنوا بها، لكن عناية المأمون كانت أتم وأوفر. ولحنين المذكور في الطب مصنفات مفيدة كثيرة - وقد تقدم ذكر ولده إسحاق في حرف الهمزة -؛ ورأيت في كتاب " أخبار الأطباء " أن حنيناً المذكور كان في كل يوم عند نزوله من الركوب يدخل الحمام فيصب عليه الماء، ويخرج فيلتف في قطيفة، ويشرب قدح شراب ويأكل كعكة، ويتكئ حتى ينشف عرقه، وربما نام، ثم يقوم ويتبخر ويقدم له طعامه وهو فروج كبير مسمن قد طبخ زيرباجاً ورغيف وزنه مائتا درهم فيحسو من المرقة ويأكل الفروج والخبز وينام، فإذا انتبه شرب أربعة أرطال شراباً عتيقاً، فإذا اشتهى الفاكهة الرطبة أكل التفاح الشامي (3) والسفرجل،   (1) ترجمة حنين بن إسحاق في الفهرست: 294 وابن أبي أصيبعة 1: 184 وتاريخ الحكماء: 117 وقال ابن النديم أنه كان فصيحا في اليونانية والسريانية والعربية. وله مؤلفات عدا ما نقله. (2) أج: اللغة اليونانية. (3) هـ: الدمشقي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 217 وكان ذلك دأبه إلى أن مات يوم الثلاثاء (1) لست خلون من صفر سنة ستين ومائتين. وقد سبق في ترجمة ولده نسبة العبادي إلى أي شيء هي. واليونانيون كانوا حكماء متقدمين على الإسلام، وهم من أولاد (2) يونان بن يافث ابن نوح عليه السلام، وهو بضم الياء المثناة من تحتها وسكون الواو وبين النونين ألف. 210 - (3) ابن حيان صاحب المقتبس أبو مروان حيان بن خلف بن حسين بن حيان بن محمد بن حيان بن وهب بن حيان مولى الأمير عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان؛ هو من أهل قرطبة، وله كتاب " المقتبس في تاريخ الأندلس " في عشر مجلدات، وكتاب " المتين " (4) في تاريخها أيضاً في ستين مجلداً. ذكره أبو علي الغساني فقال: كان عالي السن (5) قوي المعرفة متبحراً في الآداب بارعاً فيها، صاحب لواء التاريخ بالأندلس، أفصح الناس فيه وأحسنهم نظماً له، لزم الشيخ أبا عمرو ابن أبي الحباب النحوي صاحب أبي علي القالي وأبا العلاء صاعد بن الحسن الربعي البغدادي، وأخذ عنه كتابه المسمى   (1) هـ: السبت؛ وفي الفهرست كما ثبت في المتن. (2) أج: من ولد. (3) ترجمة ابن حيان مؤرخ الأندلس في جذوة المقتبس: 188 والصلة: 154 وتكملة بروكلمان 1: 578 وقد نشر من كتابه " المقتبس " قطعتان، إحداهما بعناية ملشور انطونية (باريس 1937) والثانية بعناية الدكتور عبد الرحمن الحجي (بيروت 1965) ويعد الثالثة للنشر الدكتور محمود مكي. (4) يرد هذا الكتاب أحيانا في المصادر باسم " المبين ". (5) أ: الهمة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 218 ب " الفصوص " وسمع الحديث. وسمعته يقول: التهنئة بعد ثلاث استخفاف بالمودة (1) ، والتعزية بعد ثلاث إغراء بالمصيبة. وتوفي يوم الأحد لثلاث بقين من شهر ربيع الأول سنة تسع وستين وأربعمائة ودفن من يومه بعد العصر بمقبرة الربض. ومولده سنة سبع وسبعين وثلثمائة. ووصفه الغساني بالصدق فيما حكاه في تاريخه. وأخبر أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عون قال: كان ابن حيان فصيحاً في كلامه، بليغاً فيما يكتبه (2) بيده، وكان لا يتعمد كذباً فيما يحكيه في تاريخه من القصص والأخبار، قال: ورأيته في النوم بعد وفاته مقبلاً إلي، فقمت إليه وسلم علي وتبسم في سلامه، فقلت له: ما فعل الله بك فقال: غفر لي، فقلت له: فالتاريخ الذي صنفت ندمت عليه قال: أما والله لقد ندمت عليه، إلا أن الله عز وجل بلطفه عفا عني وغفر لي. وذكره أبو عبد الله الحميدي في " جذوة المقتبس " وابن بشكوال في " الصلة " رحمهم الله تعالى أجمعين.   (1) هـ: بالمولود. (2) أج: يحكيه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 219 فراغ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 220 حَرف الخَاء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 221 فراغ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 222 211 - (1) خارجة بن زيد أبو زيد خارجة بن زيد بن ثابت الأنصاري أحد الفقهاء السبعة بالمدينة؛ - وقد تقدم ذكر أبي بكر ابن عبد الرحمن في حرف الباء، وذكرت في ترجمته البيتين الجامعين لأسماء الفقهاء السبعة - وكان خارجة المذكور تابعياً جليل القدر، أدرك زمان عثمان بن عفان، رضي الله عنه، وأبوه (2) زيد بن ثابت رضي الله عنه من أكابر الصحابة. وفي حقه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أفرضكم زيد ". توفي خارجة سنة تسع وتسعين للهجرة، وقيل سنة مائة، رضي الله عنه، بالمدينة. وذكر محمد بن سعد كاتب الواقدي في " الطبقات " (3) أن خارجة قال: رأيت في المنام كأني بنيت سبعين درجة، فلما فرغت منها تدهورت (4) ، وهذه السنة لي سبعون سنة قد أكملتها؛ قال: فمات فيها. وروى عنه الزهري، رحمهما الله تعالى.   (1) ترجمة خارجة بن زيد في رجال ابن حبان: 64 والعبر 1: 119 وحلية الأولياء 2: 189 وطبقات الشيرازي، الورقة: 13. (2) ج: وكان أبوه. (3) انظر طبقات ابن سعد 5: 262 - 263. (4) الطبقات: تهورت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 223 212 - (1) خالد بن يزيد بن معاوية أبو هاشم خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان الأموي؛ كان من أعلم قريش (2) بفنون العلم، وله كلام في صناعة (3) الكيمياء والطب، وكان بصيراً بهذين العلمين متقناً لهما، وله رسائل دالة على معرفته وبراعته، وأخذ الصناعة عن رجل من الرهبان يقال له مريانس الراهب (4) الرومي، وله فيها ثلاث رسائل تضمنت إحداهن ما جرى له مع مريانس الراهب المذكور، وصورة تعلمه منه، والرموز التي أشار إليها، وله فيها أشعار كثيرة مطولات ومقاطيع دالة (5) على حسن تصرفه وسعة علمه. وله شعر جيد فمنه: تجول خلاخيل النساء، ولا أرى ... لرملة خلخالاً يجول ولا قلبا [فلا تكثروا فيها الملام فإنني ... تخيرتها منهم زبيرية قلبا] (6)   (1) ترجمة خالد بن يزيد الأموي في الفهرست: 354 وتهذيب ابن عساكر 5: 116، وانظر تاريخ الحكماء: 440 وكتاب: Julius Ruska، Arabische Alchemisten، 1 Chalid ibn Jazid ibn Mu'awija، Heidelberg، 1924. ويقول دي مييلي في كتابه العلم عند العرب (الترجمة العربية ص 99 ط. القاهرة 1962) في الحديث عن صلة خالد بالعلوم القديمة: " وليس ذلك كله إلا أسطورة محضاً على الأخص ما ذكروه من تبحره في علم الصنعة ". (2) أج: الناس. (3) هـ: صنعة، وسقطت الكلمة من م. (4) أثبتنا كلمة " الراهب " عن م ولم ترد في المسودة؛ وفي أ: بريانس؛ هـ: مرياقش؛ ولعل مريانوس أو مورينوس هو الصورة الأصلية للاسم عند من يثبت وجود مثل هذا الراهب. (5) ج: تدل. (6) زيادة من ص وحدها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 224 أحب بني العوام من أجل حبها ... ومن أجلها أحببت أخوالها كلبا (1) وهي طويلة، ولها قصة مع عبد الملك بن مروان أضربنا عن ذكرها لشهرتها. وكان له أخر يسمى عبد الله، فجاءه يوماً وقال: إن الوليد بن عبد الملك يعبث بي ويحتقرني، فدخل خالد على عبد الملك والوليد عنده، فقال: يا أمير المؤمنين، الوليد ابن أمير المؤمنين قد احتقر ابن عمه عبد الله واستصغره، وعبد الملك مطرق فرفع رأسه وقال: " إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون " النمل. فقال خالد:: " وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً " الاسراء: " قال: عبد الملك: أفي عبد الله تكلمني والله لقد دخل علي فما أقام لسانه لحناً، فقال خالد: أفعلى الوليد تعول فقال عبد الملك: إن كان الوليد يلحن فإن أخاه سليمان، فقال خالد: وإن كان عبد الله يلحن فإن أخاه خالد، فقال له الوليد: اسكت يا خالد، فو الله ما تعد في العير ولا في النفير، فقال خالد: اسمع يا أمير المؤمنين، ثم أقبل على الوليد فقال: ويحك! ومن العير والنفير غيري جدي أبو سفيان صاحب العير، وجدي عتبة بن ربيعة صاحب النفير، ولكن لو قلت: غنيمات وحبيلات والطائف ورحم الله عثمان، لقلنا صدقت. وهذا الموضع يحتاج إلى تفسير، فقوله " العير " فهي عير قريش التي أقبل بها أبو سفيان من الشام، فخرج إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة ليغنموها، فبلغ الخبر أهل مكة فخرجوا ليدفعوا عن العير، وكان مقدم القوم   (1) زاد في د بعد هذا البيت: فإن تسلمي نسلم وإن تنتصري ... يخط رجال بين أعينهم صلبا وذكر هذا البيت الأخير لعبد الملك فقال خالد: يا أمير المؤمنين على قائله لعنة الله. اهـ (ثم أورد الحكاية التالية بصورة أخرى وفيها: إن عبد الله قال لأخيه خالد: هممت اليوم أن أفتك بالوليد بن عبد الملك، فقال له خالد: بئس ما هممت به في أمير المؤمنين وولي عهد المسلمين، فقال عبد الله: إن خيلي مرت فتعبث بها وأصغرني، فقال له خالد: أنا أكفيكه، ودخل على عبد الملك ... الخ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 225 عتبة (1) بن ربيعة، فلما وصلوا إلى المسلمين كانت وقعة بدر، وكل واحد من أبي سفيان وعتبة جد خالد المذكور، أما أبو سفيان فمن جهة أبيه، وأما عتبة فلأن ابنته هند أم معاوية جد خالد. وقوله " غنيمات وحبيلات - إلى آخر كلامه " فإنه أشار إلى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نفى الحكم بن أبي العاص وكان جد عبد الملك المذكور إلى الطائف كان يرعى الغنم ويأوي إلى حبيلة وهي الكرمة، ولم يزل كذلك حتى ولي عثمان بن عفان رضي الله عنه الخلافة فرده، وكان الحكم عمه، ويقال: إن عثمان رضي الله عنه كان قد أذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم في رده متى أفضى الأمر إليه. وأخبار خالد كثيرة، وفي هذا القدر منها كفاية. وكانت وفاته سنة خمس وثمانين للهجرة، رحمه الله تعالى. 213 - (2) خالد بن عبد الله القسري أبو يزيد وأبو الهيثم خالد بن عبد الله بن يزيد بن أسد بن كرز البجلي ثم القسري؛ ذكره هشام بن الكلبي في كتاب " جمهرة النسب "، فقال: هو خالد بن عبد الله بن يزيد بن كرز بن عامر بن عبد الله بن عبد شمس ابن غمغمة بن جرير بن شق بن صعب بن يشكر بن رهم بن أفرك بن أفصى بن نذير بن قسر، وهو مالك، بن عبقر بن أنمار بن أراش بن عمرو بن   (1) م: يقدمهم عتبة. (2) ترجمة خالد بن عبد الله القسري في كتب التاريخ التي تتحدث عن خلافة هشام كالطبري والمسعودي واليعقوبي وابن الأثير وابن خلدون ... الخ. وراجع الأغاني 22: 5 وابن عساكر 5: 67. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 226 الغوث بن نبث بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب ابن قحطان (1) ، قال ابن ماكولا: يقال القسري والقصري. كان أمير العراقين من جهة هشام بن عبد الملك الأموي، ولي مكة سنة تسع وثمانين للهجرة، وأمه نصراينه، وكان لجده يزيد صحبة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان خالد معدوداً من جملة (2) خطباء العرب المشهورين بالفصاحة والبلاغة (3) ، وكان جواداً كثير العطاء، دخل عليه شاعر يوم جلوسه للشعراء وقد مدحه ببيتين، فلما رأى اتساع الشعراء في القول استصغر ما قال، فسكت حتى انصرفوا، فقال له خالد: ما حاجتك فقال: مدحت الأمير ببيتين، فلما سمعت قول الشعراء احتقرت بيتي، فقال: ما هما فأنشده (4) : تبرعت لي بالجود حتى نعشتني ... وأعطيتني حتى حسبتك تلعب فأنت الندى وابن الندى وأبو الندى ... حليف الندى ما للندى عنك مذهب فقال: ما حاجتك فقال: علي دين، فأمر بقضائه وأعطاه مثله. [وحكى عبد الملك بن قريب الأصمعي قال: دخل أعرابي على خالد القسري فقال: قد امتدحتك ببيتين ولست أنشدكما إلا بعشرة آلاف درهم وخادم، قال: قل، فأنشأ يقول: لزمت " نعم " حتى كأنك لم تكن ... سمعت من الأشياء شيئاً سوى نعم وأنكرت " لا " حتى كأنك لم تكن ... سمعت بها في سالف الدهر والأمم فقال: أعطه يا غلام عشرة آلاف درهم وخادماً، فتسلمها؛ ودخل عليه   (1) ذكره ... قحطان: سقط من س م. والنسب وارد في الأغاني؛ وسقط من الأغاني " أقصى " وزيد " لحيان " بعد عمرو؛ وزيد " القرز " أو " الفرز " بعد الغوث. (2) جملة: ثبتت في المسودة ونسخة ص. (3) هكذا يقول المؤلف، وصاحب الأغاني يزعم أن خالداً كان لحنة (5: 31) . (4) م: فقال له وقد تقوض المجلس: من أنت قال شاعر مدحتك ببيتين استقللتهما في جنب ما قيل فيك، فاستنشده فأنشده؛ وفي أج: استصغرت بيتي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 227 أعرابي فقال: قد قلت شعراً، وأنشأ يقول: أخالد إني لم أزرك لحاجة ... سوى أنني عاف وأنت جواد أخالد إن الأجر والحمد حاجتي ... فأيهما تأتي وأنت عماد فقال له خالد: سل يا أعرابي؛ قال، وجعلت المسألة إلي أصلح الله الأمير قال: نعم، قال: مائة ألف درهم، قال: أكثرت يا أعرابي، قال: فأحطك قال: نعم، قال: قد حططتك تسعين ألفاً، قال له خالد: يا أعرابي لا أدري من أي أمريك أعجب، فقال: أصلح الله الأمير، أنت جعلت المسألة إلي فسألتك على قدرك وما تستحقه في نفسك، فلما سألتني أن أحط حططت على قدري وما استأهله في نفسي، فقال له خالد: والله يا أعرابي لا تغلبني؛ يا غلام أعطه مائة ألف درهم، فدفعها إليه] (1) . وكتب إليه هشام بن عبد الملك: " بلغني أن رجلاً قام إليك فقال: إن الله جواد وأنت جواد، وإن الله كريم وأنت كريم، حتى عد عشر خصال، ووالله لئن لم تخرج من هذا لأستحلن دمك "؛ فكتب إليه خالد: " نعم يا أمير المؤمنين قام إلي فلان فقال: الله كريم يحب الكريم، فأنا أحبك لحب الله إياك، ولكن أشد من هذا مقام ابن شقي البجلي إلى أمير المؤمنين فقال: خليفتك أحب إليك أم رسولك فقلت: بل خليفتي، فقال: أنت خليفة الله ومحمد رسول الله " والله لقتل رجل من بجيلة أهون على الخاصة والعامة من كفر أمير المؤمنين، هكذا ذكره الطبري في تاريخه. وكان خالد يتهم في دينه (2) ، وبنى لأمه كنيسة تتعبد فيها، وفي ذلك يقول الفرزدق يهجوه: ألا قبح الرحمن ظهر مطية ... أتتنا تهادى من دمشق بخالد   (1) زيادة من ر د، ووردا في ص متأخرة عن هذا الموضع، ولم ترد في المسودة. (2) إن من يقرأ كتاب الأغاني ويجد اتهام خالد بالزندقة وانصباب اللعن عليه واتهامه بالتخنث يستطيع أن يدرك أسباب ذلك، ويقف وقفة المتأمل طويلاً طويلاً!! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 228 وكيف يؤم الناس من كانت أمه (1) ... تدين بأن الله ليس بواحد بنى بيعة فيها الصليب لأمه ... ويهدم من بغض منار المساجد ثم إن هشاماً عزل خالداً عن العراقين في جمادى الأولى سنة عشرين ومائة، وذكر الطبري في تاريخه أن هشام بن عبد الملك عزل عمر بن هبيرة عن العراق وولاه خالداً في شوال سنة خمس ومائة، ثم عزله وولى يوسف بن عمر الثقفي - وهو ابن عم الحجاج - وكان سبب عزل خالد (2) أن امرأة أتته فقالت: أصلح الله الأمير! إني امرأة مسلمة، وإن عاملك فلاناً المجوسي وثب علي فأكرهني على الفجور وغصبني نفسي، فقال لها: كيف وجدت قلفته فكتب بذلك حسان النبطي إلى هشام، وعند هشام يومئذ رسول يوسف بن عمر، وقد كان يوسف وجهه إليه من اليمن في بعض حاجته فاحتبسه (3) هشام عنده يوماً، حتى إذا جنه الليل دعا به فكتب معه إلى يوسف بولاية العراق ومحاسبة خالد وعماله، وأمره أن يستخلف ابنه الصلت على اليمن، فخرج يوسف في نفر يسير، فسار من صنعاء إلى الكوفة على الرحال في سبع عشرة مرحلة حتى قدم الكوفة سحراً، ثم اخذ خالداً وعماله وحبسه وحاسبه وعذبه، ثم قتله في أيام الوليد بن يزيد، قيل: إنه وضع قدميه بين خشبتين وعصرهما حتى انقصفا، ثم رفع الخشبتين إلى ساقيه وعصرهما حتى انقصفا، ثم إلى وركيه، ثم إلى صلبه، فلما انقصف صلبه مات وهو في ذلك كله لا يتأوه ولا ينطق، وكان ذلك في المحرم سنة ست وعشرين، وقيل في ذي القعدة سنة خمس وعشرين ومائة بالحيرة، ودفن في ناحية منها ليلاً، رحمه الله تعالى. والحيرة بينها وبين الكوفة فرسخ، كانت منزل آل النعمان بن المنذر ملوك العرب.   (1) الأغاني: وكيف يؤم المسلمين وأمه. (2) ذكر الطبري (في حوادث سنة 120) أسباباً متعددة لعزل خالد ليس فيها هذا السبب، وكذلك لم يرد هذا النص في المسودة حتى قوله: سحراً. (3) أج د: فحبسه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 229 ولما كان خالد في سجن يوسف مدحه أبو الشغب العبسي بهذه الأبيات، وهي في " كتاب الحماسة " (1) : ألا إن خير الناس حياً وميتاً ... أسير ثقيف عندهم في السلاسل لعمري لئن عمرتهم السجن خالداً ... وأوطأتموه وطأة المتثاقل لقد كان نهاضاً بكل ملمة ... ومعطي اللها غمراً كثير النوافل وقد كان يبني المكرمات لقومه ... ويعطي اللها في كل حق وباطل فإن تسجنوا القسري لا تسجنوا اسمه ... ولا تسجنوا معروفه في القبائل وكان يوسف جعل على خالد في كل يوم حمل مال معلوم، إن لم يقم به في يومه عذبه، فلما مدحه أبو الشغب بهذه الأبيات وأوصلها إليه كان قد حصل في قسط يومه سبعين ألف درهم، فأنفذها له، وقال: اعذرني فقد ترى ما أنا فيه، فردها أبو الشغب وقال: لم أمدحك لمال وأنت على هذه الحال، ولكن لمعروفك وإفضالك، فأنفذها إليه ثانياً وأقسم عليه ليأخذنها فأخذها، وبلغ ذلك يوسف فدعاه وقال: ما حملك على فعلك، ألم تخش العذاب فقال: لأن أموت عذاباً أسهل علي من كفي بذلي، لا سيما على من مدحني (2) . وذكر أبو الفرج الاصبهاني (3) أن خالداً كان من ولد شق الكاهن، وهو خالد بن عبد الله بن أسد بن يزيد بن كرز، وذكر أن كرزاً كان دعياً، وأنه كان من اليهود، فجنى جناية فهرب إلى بجيلة فانتسب فيهم، ويقال: كان عبداً لعبد القيس، وهو ابن عامر ذي الرقعة، وسمي بذي الرقعة لأنه كان أعور يغطي عينه برقعة، وذو الرقعة هو ابن عبد شمس بن جوين بن شق الكاهن بن صعب؛ انتهى كلام أبي الفرج. قلت أنا: كان شق المذكور ابن خالة سطيح الكاهن الذي بشر بالنبي صلى الله عليه وسلم، وقصته في تأويل الرؤيا في ذلك مشهورة، وهي مستوفاة في   (1) شرح المرزوقي: 927، واسم أبي الشغب العبسي عكرشة (وفي المسودة: أبو الشعب بالعين المهملة) . (2) وكان يوسف ... مدحني: سقط من ص م س والمسودة. (3) الأغاني 5: 17. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 230 السيرة، وكان شق وسطيح من أعاجيب الدنيا، أما سطيح فكان جسداً ملقى لا جوارح له، وكان وجهه في صدره ولم يكن له رأس ولا عنق، وكان لا يقدر على الجلوس، إلا أنه إذا غضب انتفخ فجلس، وكان شق نصف إنسان، ولذلك قيل له شق، أي شق إنسان، فكانت له يد واحدة ورجل واحدة (1) وعين واحدة وفتح عليهما في الكهانة ما هو مشهور عنهما، وكانت ولادتهما في يوم واحد، وفي ذلك اليوم توفيت طريفة ابنة الخير الحميرية الكاهنة زوجة عمرو مزيقيا بن عامر ماء السماء، ولما ولدا دعت بكل واحد منهما وتفلت في فيه، وزعمت أنه سيخلفها في علمها وكهانتها، ثم ماتت من ساعتها ودفنت بالجحفة، وعاش كل واحد من شق وسطيح ستمائة سنة. وكرز: بضم الكاف وسكون الراء وبعدها زاي. والقسري - بفتح القاف وسكون السين المهملة وبعدها راء - هذه النسبة إلى قسر بن عبقر، وهي بطن من بجيلة. 214 - (2) خالد المهلبي أبو الهيثم خالد بن خداش بن عجلان المهلبي مولى آل المهلب بن أبي صفرة؛ من أهل البصرة، سكن بغداد وحدث بها عن مالك بن أنس والمغيرة بن عبد الرحمن ومهدي بن ميمون وحماد بن زيد وغيرهم [وروى عنه أحمد بن حنبل   (1) علق بعض الموفقين على هذا الموضع في هامش النسخة د بقوله: " ومن جملة عجائب شق أن يكون له، ولد وهو كما ذكر " قلت: حين تتحول الأسطورة إلى تاريخ يعيش شق أيضاً ستمائة سنة ولا يجد من يعجب من ذلك. (2) ترجمته في ميزان الاعتدال 1: 629 وتاريخ بغداد 8: 304 وتهذيب التهذيب 3: 85؛ وقد قال فيه أبو حاتم: صدوق؛ وقد انفردت ص ر بهذه الترجمة، ولم ترد في مسودة المؤلف وسائر النسخ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 231 وأحمد بن إبراهيم الدورقي وحاتم بن الليث الجوهري وغيرهم] (1) قال محمد بن المثنى: انصرفت مع بشر بن الحارث في يوم أضحى من المصلى، فلقي خالد بن خداش المحدث، فسلم عليه فقصر بشر في السلام، فقال خالد: بيني وبينك مودة أكثر من ستين سنة فما تغيرت عليك فما هذا التغير قال بشر: ما ها هنا تغيير ولا تقصير ولكن هذا يوم تستحب فيه الهدايا وما عندي من عرض الدنيا شيء أهدي لك وقد روي في الحديث أن المسلمين إذا التقيا كان أكثرهما ثواباً أبشهما بصاحبه فتركتك لتكون أفضل ثواباً مني؛ مات خالد بن خداش في سنة ثلاث وعشرين ومائتين في جمادى الآخرة، رحمه الله تعالى. 215 - (2) خالد التميمي أبو الهيثم خالد بن يزيد [بن الهيثم] التميمي الخراساني؛ كان أحد كتاب الجيش ببغداد وله شعر مدون وشعره كله في الغزل؛ حكى أبو الحسن البرمكي قال: كنا جلوساً على باب عبد الصمد بن المعذل بن علي ومعنا رجل ينشدنا أشعار عبد الصمد، إذ أقبل خالد بن يزيد الكاتب فجلس إلينا فقال: فيم كنتم فقلنا بجهلنا: هذا ينشدنا شيئاً من أشعار عبد الصمد، فالتفت إليه خالد فقال: يا فتى من ذا الذي يقول: تناسيت ما أوعيت سمعك يا سمعي ... كأنك بعد الضر خال من النفع   (1) زيادة من ص. (2) ترجمته في تاريخ بغداد 8: 308 والأغاني 20: 234 والمنتظم 5: 35 وطبقات ابن المعتز: 405 ومعجم الأدباء 11: 47 والفوات 1: 296، وتوفي خالد الكاتب سنة 269 ببغداد، وقال ابن شاكر: توفي في حدود السبعين ومائتين؛ وله أشعار في الديارات: 10 - 13؛ وهذه الترجمة من ر ص ولم ترد في مسودة المؤلف وسائر النسخ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 232 ثم قال: يا فتى هل أحسن عبد الصمد أن يجعل للسمع سمعاً فقال: لا، ثم أنشد: لئن كان أضحى فوق خديه روضة ... فإن على خدي غديراً من الدمع ثم نهض، فقال لنا المنشد: من هذا فقلنا: خالد الكاتب، فعدا خلفه وانقطعت نعله وانقلبت محبرته حتى كتب البيتين؛ ومن شعر خالد المذكور: هبك الخليفة حين ير ... كب في مواكبه وجنده أو هبك كنت وزيره ... أو هبك كنت ولي عهده هل كنت تقدر أن تزي ... د المبتلى بك فوق جهده وقال ثعلب: ما أحد من الشعراء تكلم في الليل إلا قارب إلا خالد الكاتب فإنه أبدع في قوله: رقدت فلم ترث للساهر ... وليل المحب بلا آخر ولم تدر بعد ذهاب الرقاد ... ما صنع الدمع بالناظر فإنه لم يجعل لليل آخراً، وقيل لخالد: من أين قلت في قصيدتك " وليل المحب بلا آخر " فقال: وقفت على باب وعليه سائل مكفوف وهو يقول: الليل والنهار علي سواء، فأخذت هذا منه. وذكر ميمون بن حماد (1) قال: دخلت يوماً على أبي عبد الله ابن الأعرابي فقلت له: أسمعت من شعر هذا الغليم شيئاً قال: من هو قلت: خالد بن يزيد، فقال: لا وإني لأحب ذلك، فصاح به فجاء حتى وقف عليه، فقلت: أنشد أبا عبد الله من شعرك، فقال: إنما أقول في شجون نفسي ولا أمدح ولا أهجو، فقلت: أنشده، فأنشده: أقول للسقم عد إلى بدني ... شوقاً لشيء يكون من سببك   (1) الديارات: 10. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 233 فقال ابن الأعرابي: حسبك يا غلام فقد خيل لي أن الرقة قد جمعت لك في هذا البيت. قال جحظة (1) : حدثني خالد بن يزيد الكاتب قال: لم اشعر إلا ورسول إبراهيم ابن المهدي قد وافاني، فدخلت إليه فقال: أنشدني شيئاً من شعرك، فأنشدته: رأت منه عيني منظرين كما رأت ... من البدر والشمس المضيئة بالأرض عشية حياني بورد كأنه ... خدود أضيفت بعضهن إلى بعض وناولني كأساً كأن حبابها ... دموعي لما صد عن مقلتي غمضي وراح وفعل الراح في حركاته ... كفعل نسيم الريح في الغصن الغض فزحف حتى صار في ثلثي المصلى ثم قال: يا بني شبه الناس الخدود بالورد وشبهت أنت الورد بالخدود، ثم قال: زدني، فأنشدته: عاتبت نفسي في هوا ... ك فلم أجدها تقبل وأجبت داعيها إلي ... ك ولم أطع من يعذل لا والذي جعل الوجو ... هـ لحسن وجهك تمثل لا قلت إن الصب ... ر عنك من التصابي أجمل فزحف حتى صار خارج المصلى، ثم قال: زدني، فأنشدته: ظفر الحب بقلب دنف ... بك والسقم بجسيم ناحل وبكى العاذل من رحمته ... فبكائي لبكاء العاذل فصاح وقال: يا بليق (2) كم معك من العين قال: ستمائة وخمسون ديناراً، فقال: اقسمها بيني وبينه واجعل الكسر للغلام كاملاً. وذكر أحمد بن صدقة المغني (3) قال: اجتزت بخالد الكاتب يوماً فقلت له:   (1) انظر هذه القصة في الأغاني 20: 238 والديارات: 11. (2) في الأغاني: يا رشيق. (3) الديارات: 12. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 234 اعمل لي أبياتاً أغني بها أمير المؤمنين - يعني المأمون - فقال: وأي حظ لي في ذلك تأخذ الجائزة وأحصل أنا على الإثم، فحلف له أنه إن وصله بشيء قاسمه إياه فقال لي: أنت أنذل من ذلك ولكن ذكره بي فلعله أن يصلني بشيء، قلت: أفعل، فأنشدني: تقول سلا فمن المدنف ... ومن عينه أبداً تذرف ومن قلبه قلق خائف ... عليك وأحشاؤه ترجف فحفظت الشعر وعملت فيه لحناً وحضرنا عند أمير المؤمنين من الغد وكان بينه وبين بعض حظاياه هجرة فوجهت إليه بتفاحة عليها مكتوب بالغالية: يا سيدي سلوت، وابتدأت أغني بشعر خالد، فلما غنيته إياه انقلبت عيناه ودارتا في رأسه وظهر الغضب في وجهه وقال: لكم على حرمي أصحاب أخبار!! فقمت إعظاماً لما شهدت منه وقلت: أعيذ أمير المؤمنين بالله أن يظن بعبد من عبيده هذا الظن وأنزه داره أن يكون لأحد عليها صاحب خبر، قال: فمن أين عرفت خبري مع جاريتي حتى غنيت في معنى ما بيننا فحدثته حديثي مع خالد، فلما انتهيت إلى قوله: أنت أنذل من ذلك فقال: أشهد أنك كذلك، وأسفر وجهه وقال: ما أعجب هذا الاتفاقّ وأمر لي بخمسة آلاف درهم ولخالد بمثلها. وقال بعض من كان يحضر مجلس أبي العباس المبرد: كنا نختلف إليه فإذا كان في آخر المجلس أملى علينا من طرف الأخبار وملح الأشعار ما نرتاح إلى حفظه، فأنشدنا يوماً مرثية زياد الأعجم في المغيرة بن المهلب وهي: إن السماحة والمروة والندى ... قبر بمرو على الطريق الواضح فإذا مررت بقبره فاعقر به ... كوم الهجان وكل طرف سابح وانضح جوانب قبره بدمائها ... فلقد يكون أخادم وذبائح مات المغيرة بعد طول تعرض ... للموت بين أسنة وصفائح قال: فخرجت من عنده وأنا أدير بها لساني لأحفظها، فإذا بشيخ قد خرج الجزء: 2 ¦ الصفحة: 235 من خربة وفي يده حجر، فهم أن يرميني به، فتترست منه بالمحبرة والدفتر، فقال: ماذا تقول أتشتمني قلت: اللهم لا، ولكني كنت عند أستاذنا أبي العباس المبرد فأنشدنا مرثية زياد الأعجم في المغيرة بن المهلب، فقال: إيه إيه أنشدني ما أنشدكم باردكم لا مبردكم، فأنشدته الأبيات فقال: والله ما جود الراثي ولا أنصف المرثي ولا أحسن الراوي، قلت: فما عساه أن يقول قال: كان يقول: احملاني إن لم يكن لكما عق ... ر إلى جنب قبره فاعقراني وانضحا من دمي عليه فقد ... كان دمي من نداه لو تعلمان قال: فقلت: هل رأيت أحداً واسى أحداً بنفسه قال: نعم، هذا الفتح ابن خاقان طرح نفسه على المتوكل حتى خلط لحمه بلحمه ودمه بدمه، ثم تركني وولى؛ قال: فلما عدت إلى المبرد قصصت عليه القصة فقال: أتعرفه قلت: لا، قال: ذلك خالد الكاتب تأخذه السوداء في ايام الباذنجان. وقيل كبر خالد الكاتب حتى دق عظمه ورق جلده فوسوس؛ قال بعضهم: فرأيته ببغداد والصبيان يتبعونه ويصيحون به: يا بارد يا بارد، فأسند ظهره إلى قصر المعتصم وقال لهم: كيف أكون بارداً وأنا الذي أقول: بكى عاذلي من رحمتي فرحمته ... وكم مثله من مسعد ومعين ورقت دموع العين حتى كأنها ... دموع دموعي لا دموع جفوني وحكى أبو الحسن علي بن محمد بن مقلة قال: حدثني أبي عن عمه قال: اجتاز بن خالد الكاتب وأنا على باب داري بسر من رأى والصبيان حوله يولعون به، فجاء إلي وسألني صرفهم عنه ففعلت وأدخلته داري فقلت له: ما تشتهي تأكل قال: هريسة، فتقدمت بإصلاحها له، فلما أكل قلت له: أي شيء تحب بعد هذا قال: رطب، فأمرت بإحضاره فأكل، فلما فرغ من أكله قلت: أنشدني شيئاً من شعرك، فأنشدني قوله: تناسيت ما أوعيت سمعك يا سمعي ... كأنك بعد الضر خال من النفع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 236 أما عند عينيك اللتين هما هما ... لمكتئب يرجوك شيئاً سوى المنع فإن كنت مطبوعاً على الصد والجفا ... فمن أين لي صبر فأجعله طبعي فإن يك أضحى فوق خديك روضة ... فإن على خدي غديراً من الدمع سل المطر العام الذي عم أرضكم ... أجاء بمقدار الذي فاض من دمعي فقلت: زدني، فقال: لا يصيبك بهريسة ورطب غير هذا، والله أعلم. 216 - (1) الشيخ الخصر بن عقيل الإربلي أبو العباس الخصر بن نصر بن عقيل بن نصر الإربلي الفقيه الشافعي؛ كان فقيهاً فاضلاً عارفاً بالمذهب والفرائض والخلاف، اشتغل ببغداد على الكيا الهراسي وابن الشاشي ولقي عدة من مشايخها، ثم رجع إلى إربل، وبنى له بها الأمير أبو منصور سرفتكين بن عبد الله الزيني، نائب صاحب إربل، مدرسة القلعة، وتاريخها سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة، ودرس فيها زماناً، وهو أول من درس بإربل، وله تصانيف حسان كثيرة في التفسير والفقه وغير ذلك، وله كتاب ذكر فيه ستاً وعشرين خطبة للرسول صلى الله عليه وسلم، وكلها مسندة، واشتغل عليه خلق كثير وانتفعوا به، وكان رجلاً صالحاً زاهداً عابداً ورعاً متقللاً ونفسه مباركاً. وذكره الحافظ ابن عساكر في " تاريخ دمشق " (2) وأثنى عليه، وكان قد قدم دمشق فأقام بها مدة ثم رجع إلى إربل. ومن جملة من تخرج عليه الشيخ الفقيه ضياء الدين أبو عمرو عثمان بن عيسى   (1) ترجمة الخضر بن نصر الاربلي في طبقات السبكي 5: 218 (بإيجاز) . (2) انظر تهذيب ابن عساكر 5: 165. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 237 ابن درباس الهذباني، الذي شرح " المهذب " - وسيأتي ذكره في حرف العين إن شاء الله تعالى - وتخرج عليه أيضاً بان أخيه عز الدين أبو القاسم نصر بن عقيل ابن نصر وغيرهما. وكانت ولادته سنة ثمان وسبعين وأربعمائة (1) وكانت وفاته ليلة الجمعة رابع عشر جمادى الآخرة سنة سبع وستين وخمسمائة بإربل ودفن بها في مدرسته التي بالربض في قبة مفردة، وقبره يزار وزرته كثيراً، رحمه الله تعالى. (31) ولما توفي تولى موضعه ابن أخيه المذكور في المدرستين، وكان فاضلاً، ومولده بإربل سنة أربع وثلاثين وخمسمائة، وسخط عليه الملك المعظم مظفر الدين صاحب إربل وأخرجه منها، فانتقل إلى الموصل، فكتب إليه أبو الدر الرومي - الآتي ذكره في حرف الياء إن شاء الله تعالى - من بغداد، وكان صاحبه (2) : أيا ابن عقيل لا تخف سطوة العدا ... وإن أظهرت ما أضمرت من عنادها وأقصتك يوماً عن بلادك فتية ... رأت فيك فضلاً لم يكن في بلادها كذا عادة الغربان تكره أن ترى ... بياض البزاة الشهب بين سوادها وأشار بذلك إلى الجماعة الذين سعوا به حتى غيروا خاطر الملك عليه، وكان ذلك في سنة اثنتين أو ثلاث وستمائة، كذا أعرفه، وقال ابن باطيش: في سنة ست وستمائة، والله أعلم. (32) وفي تلك السنة خرجت الكرج على مدينة مرند، من أعمال أذربيجان، وهي قريبة من إربل، فقتلوا وسبوا واسروا، فعمل شرف الدين محمد وله عز الدين أبي القاسم المذكور في إخراجهم من إربل: إن يكن أخرجوا النساء من الأو ... طانِ ظلماً وأسرفوا في التعدي   (1) قال ابن عساكر: سئل عن مولده فقال: لا أتحققه لكني سمعت والدتي تقول: كنت في قبل شرف الدولة نفساء بك؛ قال: وأظنه سنة ثمان وسبعين وأربعمائة. (2) ج: صديقه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 238 قلنا أسوة بمن جارت الكر ... ج عليهم وأخرجوا من مرند وهذا الشرف له في عمل الدوبيت اليد الطولى، ولولا خوف التطويل لذكرت شيئاً منها. وسكن عز الدين ظاهر الموصل في رباط ابن الشهرزوري، وقرر له صاحب الموصل راتباً، ولم يزل هناك حتى توفي يوم الجمعة ثالث عشر شهر ربيع الآخر وقيل جمادى الآخرة سنة تسع عشرة وستمائة، رحمه الله تعالى، ودفن بمقبرة تل توبه، وهو ابن خالة الشيخ عماد الدين أبي حامد محمد بن يونس، وتوفي ولده الشرف المذكور ليلة السبت الثامن والعشرين من المحرم سنة ثلاث وثلاثين وستمائة بدمشق، ودفن بمقابر الصوفية، رحمه الله تعالى، ومولده في رجب سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة بإربل، وقرأ الفقه على أبيه وعلى عماد الدين بن يونس، والأدب على أبي الحرم مكي. (33) وسرفتكين - بفتح السين المهملة والراء وسكون الفاء وكسر التاء المثناة من فوقها والكاف وسكون الياء المثناة من تحتها، وبعدها نون - كان مملوك زين الدين علي صاحب إربل، والد مظفر الدين، وكان أرمنياً صالحاً فأعتقه وتقدم عنده واعتمد عليه واستنابه في المملكة، وبنى مساجد كثيرة بإربل وقراها وبنى المدرسة المذكورة، وبنى سور مدينة فيد التي في طريق مكة من جهة بغداد، وأثر آثاراً صالحة، كل ذلك من ماله، وتوفي في شهر رمضان سنة تسع وخمسين وخمسمائة، رحمه الله تعالى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 239 217 - (1) ابن بشكوال أبو القاسم خلف بن عبد الملك بن مسعود بن بشكوال بن يوسف بن داحة ابن داكة بن نصر بن عبد الكريم بن وافد (2) الخزرجي الأنصاري القرطبي؛ كان من علماء الأندلس وله التصانيف المفيدة، منها " كتاب الصلة " الذي جعله ذيلاً على " تاريخ علماء الأندلس " تصنيف القاضي أبي الوليد عبد المعروف بابن الفرضي، وقد جمع فيه خلقاً كثيراً، وله تاريخ صغير في أحوال الأندلس وما أقصر فيه، وكتاب " الغوامض والمبهمات " ذكر فيه من جاء ذكره في الحديث مبهماً فعينه، ونسج فيه على منوال الخطيب البغدادي في كتابه الذي وضعه على هذا الأسلوب، وجزء لطيف ذكر فيه من روى " الموطأ " عن مالك بن أنس، رضي الله عنه، ورتب أسماءهم على حروف المعجم، فبلغت عدتهم ثلاثة وسبعين رجلاً، ومجلد لطيف سماه " كتاب المستغيثين بالله تعالى عند المهمات والحاجات والمتضرعين إليه سبحانه بالرغبات والدعوات وما يسر الله الكريم لهم من الإجابات والكرامات " وله غير ذلك أيضاً من المصنفات. قال أبو الخطاب ابن دحية (3) : نقلت من خط شيخنا - يعني ابن بشكوال - أنه فرغ من تأليف " الصلة " في جمادى الأولى سنة أربع وثلاثين وخمسمائة. وكان مولده يوم الاثنين ثالث - وقيل ثامن - ذي الحجة، سنة أربع وتسعين وأربعمائة. وتوفي ليلة الأربعاء لثمان خلون من شهر رمضان سنة ثمان وسبعين وخمسمائة بقرطبة، ودفن يوم الأربعاء بعد صلاة الظهر بمقبرة ابن   (1) ترجمة ابن بشكوال في معجم شيوخ الصدفي: 82 والتكملة: 304 والديباج المذهب: 114. (2) أج والتكملة: واقد. (3) تتلمذ ابن دحية لابن بشكوال وقرأ عليه كتاب الصلة بقرطبة في العشر الآخر من صفر سنة 574 (انظر المطرب: 7) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 240 عباس، بمقربة من قبر يحيى بن يحيى، رحمهما الله تعالى. وداحة: بفتح الدال المهملة وبعد الألف حاء مهملة أيضاً مفتوحة ثم هاء ساكنة. وداكة: مثلها إلا أن عوض الحاء كاف. وبشكوال: بفتح الباء الموحدة وسكون الشين المعجمة وضم الكاف وبعد الواو ألف ولام. (34) وتوفي والده أبو مروان عبد الملك بن مسعود (1) صبيحة يوم الأحد، ودفن عشي يوم الاثنين لأربع بقين من جمادى الآخرة سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة، وعمره نحو ثمانين سنة، رحمه الله تعالى. 218 - (2) خلف بن هشام أبو محمد خلف بن هشام بن ثعلب، ويقال: هشام بن طالب، بن غراب البزار المقرئ؛ سمع مالك بن أنس وحماد بن زيد وأبا عوانة وغيرهم؛ روى عنه عباس الدوري ومحمد بن الجهم وأحمد بن أبي خيثمة وغيرهم؛ قال ابو العباس أحمد بن إبراهيم وراق خلف: سمعت خلفاً يقول: قدمت الكوفة فصرت إلى سليم بن عيسى فقال: ما أقدمك قلت: أقرأ القرآن على أبي بكر ابن عياش بحرف عاصم، فقال لي: ألا تزيد قلت: بلى، قال: فدعا ابنه وكتب معه رفعة إلى ابن عياش، فاستأذن لي عليه سليم بن عيسى، فدخل عليه فأعطاه   (1) ترجمته في الصلة: 348 ويقول فيه ابنه: " وكان حافظاً للفقه على مذهب مالك وأصحابه عارفاً بالشروط وعللها حسن العقد لها مقدماً في معرفتها وإتقانها، وكان كثير التلاوة للقرآن العظيم ليلاً ونهاراً ويختمه كل جمعة ". (2) ترجمة خلف بن هشام في تاريخ بغداد 8: 322 وغاية النهاية 1: 273، والترجمة موافقة لما في تاريخ بغداد، وما هنا انفردت به النسختان: ص ر ولم يرد في المسودة وسائر النسخ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 241 الرقعة، وكان لخلف سبع عشرة سنة؛ قال: فلما قرأها قال: أدخل الرجل، فدخلت فسلمت فصعد في النظر، ثم قال لي: أنت خلف قلت: نعم، قال لي: أنت لم تخلف ببغداد أحداً أقرأ منك فسكت، فقال لي: اقعد هات اقرأ، قلت: عليك قال: نعم، قلت: لا إله إلا الله، لا أقرأ على رجل يستصغر رجلاً من حملة القرآن، وتركته وخرجت، فوجه إلى سليم فسأله أن يردني إليه فلم أرجع؛ قال: فندمت واحتجت، فكتبت قراءة عاصم عن يحيى ابن آدم عن أبي بكر ابن عياش. وقال خلف: أتيت سليم بن عيسى لأقرأ عليه، وكان بين يديه قوم وأظنهم سبقوني، فلما جلست قال: بلغني أنك تريد الترفع في القراءة فلست آخذ عليك شيئاً، قال: فكنت أحضر المجلس أسمع ولا يأخذ علي شيئاً، فبكرت يوماً في الغلس، وخرج فقال: من ها هنا يتقدم ويقرأ، فتقدمت واستفتحت بسورة يوسف وهي من أشد القرآن إعراباً، فقال لي: من أنت فما سمعت أقرأ منك فقلت: خلف، فقال لي: فعلتها ما يحل لي أن أمنعك، فكنت أقرأ عليه حتى بلغت يوماً حم المؤمن، فلما بلغت إلى قوله تعالى: (ويستغفرون للذين آمنوا) . بكى بكاءً شديداً ثم قال لي: يا خلف ألا ترى ما أعظم حق المؤمن تراه نائماً على فراشه والملائكة يستغفرون له. وروى خلف بسنده إلى أبي هريرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن الله عز وجل خلق مائة رحمة فأنزل منها رحمة على عباده يتراحمون بها وخبأ تسعاً وتسعين عنده فإذا كان يوم القيامة جمع تيك الرحمة إلى التسع والتسعين وفضها على عباده، فمن رحمة واحدة جعلني مسلماً وعلمني القرآن وعرفني نبيه صلى الله عليه وسلم وفعل بي وفعل بي وأنا أرجو من تسع وتسعين الجنة. وذكر لأبي جعفر النفيلي خلف بن هشام البزار فقال: كان من أصحاب السنة لولا بلية كانت فيه، يشرب النبيذ؛ قال عبد الكريم بن الحداد: وكان خلف يشرب من الشراب على التأويل، فكان ابن أخته يوماً يقرأ عليه سورة الأنفال حتى بلغ قوله تعالى: " ليميز الله الخبيث من الطيب " الأنفال فقال:: يا خال إذا ميز الله الخبيث من الطيب أين يكون الشراب قال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 242 فنكس رأسه طويلاً ثم قال: مع الخبيث، قال: فترضى أن تكون مع أصحاب الخبيث قال: يا بني امض إلى المنزل فاصبب كل شيء فيه، فتركه فأعقبه الله تعالى الصوم، فصام الدهر إلى أن مات، وقيل إنه أعاد صلاة الأربعين سنة التي كان يتناول فيها الشراب على مذهب الكوفيين. وكانت وفاته يوم السبت السابع عشر من جمادي الآخرة سنة تسع وعشرين ومائتين، رحمه الله تعالى؛ ورثاه بعض الشعراء بقوله: مضى شيخنا البزار بالفضل يذكر ... هجان إمام في القراءة مبصر سقى الله قبراً حله من غمامه ... بوابل غيث صفوه يتفجر وقد طلب الحساد في الناس كيده ... فما قدروا حتى عموا وتحيروا 219 (1) خليفة بن خياط أبو عمرو خليفة بن خياط بن أبي هبيرة خليفة بن خياط الشيباني العصفري البصري المعروف بشباب صاحب " الطبقات "؛ كان حافظاً عارفاً بالتواريخ وأيام الناس غزير الفضل، روى عنه محمد بن إسماعيل البخاري في صحيحه وتاريخه وعبد الله ابن الإمام أحمد بن حنبل وأبو يعلى الموصلي والحسن بن سفيان النسوي (2) ، في آخرين، وروى هو عن ابن عيينة ويزيد بن زريع وأبي داود الطيالسي ودرست بن حمزة وتلك الطبقة.   (1) ترجمة خليفة بن خياط في تذكرة الحفاظ: 436 وتهذيب التهذيب 3: 160 وأنساب السمعاني واللباب " العصفري " وتاريخ البخاري 1/2: 175 والفهرست: 232 والرسالة المستطرفة: 139 ومواطن من الإعلان بالتوبيخ للسخاوي. وقد طبع كتاباه في التاريخ والطبقات. (2) انظر اللباب في مادة " النسوي ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 243 توفي في شهر رمضان سنة ثلاثين ومائتين، وقال الحافظ ابن عساكر في " معجم مشايخ الأئمة الستة " إنه توفي سنة أربعين، وقيل: ست وأربعين ومائتين، رحمه الله تعالى. والعصفري - بضمن العين وسكون الصاد المهملتين وضم الفاء وبعدها راء - هذه النسبة إلى العصفر الذي تصبغ به الثياب حمراً. وشباب - بفتح الشين المثلثة والباء الموحدة وبعد الألف باء ثانية - وقد اختلفوا في تلقيبه بذلك لأي معنى هو. (35) وتوفي جده أبو هبيرة خليفة بن خياط في رجب سنة ستين ومائة، وكان أبو عمرو المذكور يقول: توفي جدي خليفة بن خياط وشعبة بن الحجاج في شهر واحد، رحمهم الله أجمعين. 220 - (1) الخليل بن أحمد أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد بن عمرو بن تميم الفراهيدي ويقال: الفرهودي الأزدي اليحمدي؛ كان إماماً في علم النحو، وهو الذي استنبط علم العروض وأخرجه إلى الوجود وحصر أقسامه في خمس دوائر يستخرج منها خمسة عشر بحراً، ثم زاد فيه الأخفش بحراً آخر وسماه الخبب. وقيل إن الخليل دعا بمكة أن يرزق (2) علماً لم يسبقه أحد إليه ولا يؤخذ إلا عنه، فرجع من حجة ففتح عليه بعلم العروض، وله معرفة بالإيقاع والنغم، وتلك المعرفة أحدثت له علم العروض، فإنهما متقاربان في المأخذ.   (1) ترجمة الخليل بن أحمد في أنباه الرواة 1: 341 وفي الهامش ثبت بمصادر ترجمته والأخبار عنه. (2) د: أن يرزقه الله تعالى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 244 وقال حمزة بن الحسن الأصبهاني (1) في حق الخليل بن أحمد في كتابه الذي سماه " التنبيه على حدوث التصحيف ": " وبعد، فإن دولة الإسلام لم تخرج أبدع للعلوم التي يكن لها عند علماء العرب أصول من الخليل، وليس على ذلك برهان أوضح من علم العروض الذي لا عن حكيم أخذه، ولا على مثال تقدمه احتذاه، وإنما اخترعه من ممر له بالصفارين (2) من وقع مطرقة على طست ليس فيهما حجة ولا بيان يؤديان إلى غير حليتهما أو يفيدان غير جوهرهما، فلو كانت أيامه قديمة ورسومه بعيدة لشك فيه بعض الأمم لصنعته ما لم يصنعه أحد منذ خلق الدنيا من اختراعه العلم الذي قدمت ذكره، ومن تأسيسه بناء كتاب " العين " الذي يحصر لغة أمة من الأمم قاطبة، ثم من إمداده سيبويه من علم النحو بما صنف منه كتابه الذي هو زينة لدولة الإسلام، انتهى كلامه. وكان الخليل رجلاً صالحاً عاقلاً (3) حليماً وقوراً، ومن كلامه: لا يعلم الإنسان خطأ معلمه حتى يجالس غيره. وقال تلميذه النضر بن شميل: أقام الخليل في خص من أخصاص البصرة لا يقدر على فلسين، واصحابه يكسبون (4) بعلمه الأموال، ولقد سمعته يوماً يقول: إني لأغلق علي بابي فما يجاوزه همي. وكان يقول: أكمل ما يكون الإنسان عقلاً وذهناً إذا بلغ أربعين سنة، وهي السن التي بعث الله تعالى فيها محمداً صلى الله عليه وسلم، ثم يتغير وينقص إذا بلغ ثلاثاً وستين سنة، وهي السن التي قبض فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصفى ما يكون ذهن الإنسان في وقت السحر. وكان له راتب على سليمان بن حبيب بن المهلب بن أبي صفرة الأزدي وكان والي فارس والأهواز، فكتب إليه يستدعيه، فكتب الخليل جوابه:   (1) كل المنقول عن حمزة لم يرد في م ومسودة المؤلف ونسختي س ص؛ وانظر التنبيه: 124. (2) أ: من ممر له عن الصفائري. (3) م ج: عالماً؛ أ: عاملاً. (4) د: يكتسبون. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 245 أبلغ سليمان أني عنه في سعة (1) ... وفي غنى غير أني لست ذا مال شحاً بنفسي أني لا أرى أحداً ... يموت هزلاً ولا يبقى على حال الرزق عن (2) قدر لا الضعف ينقصه ... ولا يزيدك فيه حول محتال والفقر في النفس لا في المال نعرفه ... ومثل ذاك الغنى في النفس لا المال فقطع عنه سليمان الراتب فقال الخليل: إن الذي شق فمي ضامن ... للرزق حتى يتوفاني حرمتني خيراً قليلاً فما ... زادك في مالك حرماني فبلغت سليمان فأقامته وأقعدته، وكتب إلى الخليل يعتذر إليه، وأضعف راتبه، فقال الخليل: وزلة يكثر الشيطان إن ذكرت ... منها التعجب جاءت من سليمانا لا تعجبن لخير زل عن يده ... فالكوكب النحس يسقي الأرض أحيانا واجتمع الخليل وعبد الله بن المقفع ليلة يتحدثان إلى الغداة، فلما تفرقا قيل للخليل: كيف رأيت ابن المقفع فقال: رأيت رجلاً علمه أكثر من عقله، وقيل لابن المقفع: كيف رأيت الخليل قال: رأيت رجلاً عقله أكثر من علمه. وللخليل من التصانيف كتاب " العين " في اللغة وهو مشهور، وكتاب " العروض " وكتاب " الشواهد " وكتاب " النقط والشكل " وكتاب " النغم " وكتاب في العوامل (3) . وأكثر العلماء العارفين باللغة يقولون: إن كتاب العين في اللغة المنسوب إلى الخليل بن أحمد ليس تصنيفه، وإنما كان قد شرع فيه ورتب أوائله وسماه ب " العين "، ثم مات فأكمله تلامذته النضر بن شميل ومن في طبقته وهم مؤرج   (1) ر: دعة. (2) د: رزقي على؛ وانظر الأبيات في الانباه وغيره من المصادر. (3) لم يذكر في م؛ وقال القفطي: كتاب في العوامل منحول عليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 246 السدوسي ونصر بن علي الجهضمي وغيرهما، فما جاء الذي عملوه مناسباً لما وضعه الخليل في الأول، فأخرجوا الذي وضعه الخليل منه، وعملوا أيضاً الأول، فلهذا وقع فيه خلل كثير يبعد وقوع الخليل في مثله، وقد صنف ابن درستويه في ذلك كتاباً استوفى الكلام فيه، وهو كتاب مفيد (1) . ويقال: إن الخليل كان له ولد مختلف، فدخل على أبيه يوماً فوجده يقطع بيت شعر بأوزان العروض، فخرج إلى الناس وقال: إن أبي قد جن، فدخلوا عليه وأخبروه بما قال ابنه، فقال مخاطباً له: لو كنت تعلم ما أقول عذرتني ... أو كنت تعلم ما تقول عذلتكا لكن جهلت مقالتي فعذلتني ... وعلمت أنك جاهل فعذرتكا وقد روي عنه أنه أنشد، ولم يذكر لنفسه أم لغيره: يقولون لي دار الأحبة قد دنت ... وأنت كئيب إن ذا لعجيب فقلت: وما تغني الديار وقربها ... إذا لم يكن بين القلوب قريب ويحكى عنه أنه قال: كان يتردد إلى شخص يتعلم العروض وهو بعيد الفهم، فأقام مدة ولم يعلق على خاطره شيء منه، فقلت له يوماً: قطع هذا البيت: إذا لم تستطيع شيئاً (2) فدعه ... وجاوزه إلى ما تستطيع   (1) قال الأزهري في مقدمة التهذيب (1: 28) عند ذكر الليث بن المظفر (أو الليث بن نصر أو ابن رافع) إنه نحل الخليل بن أحمد كتاب العين جملة لينفقه باسمه ويرغب فيه من حوله، وأثبت لنا عن إسحاق بن إبراهيم الحنظلي الفقيه أنه قال: كان الليث بن المظفر رجلاً صالحاً، ومات الخليل ولم يفرغ من كتاب العين، فأحب الليث أن ينفق الكتاب كله فسمى لسانه الخليل، فإذا رأيت في الكتاب " سألت الخليل بن أحمد " أو " أخبرني الخليل بن أحمد " فإنه يعني الخليل نفسه، وإذا قال " قال الخليل " فإنما يعني لسان نفسه (وانظر بقية الصفحة 29 ففيها تحقيقات هامة عن هذا الكتاب) . (2) م: أمراً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 247 فشرع معي في تقطيعه على قد معرفته، ثم نهض ولم يعد يجيء إلي، فعجبت من فطنته لما قصدته في البيت مع بعد فهمه. وأخبار الخليل كثيرة، وسيبويه عنه أخذ علوم الأدب - وسيأتي ذكره في حرف العين المهملة إن شاء الله تعالى -. ويقال: إن أباه أحمد أول من سمي بأحمد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، كذا ذكره المرزباني في كتاب " المقتبس " (1) نقلاً عن أحمد بن أبي خيثمة. وكانت ولادته في سنة مائة للهجرة. وتوفي سنة سبعين، وقيل خمس وسبعين ومائة، وقيل عاش أربعاً وسبعين سنة، رحمه الله تعالى. وقال ابن قانع في تاريخه المرتب على السنين: إنه توفي سنة ستين ومائة. وقال ابن الجوزي في كتابه الذي سماه " شذور العقود ": إنه مات سنة ثلاثين ومائة، وهذا غلط قطعاً، لكن نقله الواقدي، ومات بالبصرة - أعني الخليل - وكان سبب موته أنه قال: أريد أن أقرب نوعاً (2) من الحساب تمضي به الجارية إلى البياع فلا يمكنه ظلمها، ودخل المسجد وهو يعمل فكره في ذلك، فصدمته سارية وهو غافل عنها بفكره، فانقلب على ظهره، فكانت سبب موته، وقيل: بل كان يقطع بحراً من العروض. والفراهيدي - بفتح الفاء والراء وبعد الألف هاء مكسورة ثم ياء ساكنة مثناة من تحتها وبعدها دال مهملة - هذه النسبة إلى فراهيد، وهي بطن من الأزد، والفرهودي واحدها، والفرهود: ولد الأسد بلغة أزد شنوءة، وقيل: إن الفراهيد صغار الغنم. واليحمدي - بفتح الياء المثناة من تحتها وسكون الحاء المهملة وفتح الميم وبعدها دال مهملة - نسبة إلى يحمد، وهو أيضاً: بطن من الأزد، خرج منه خلق كثير. ويحكى أن الخليل ينشد كثيراً هذا البيت، وهو للأخطل (3) : وإذا افتقرت إلى الذخائر لم تجد ... ذخراً يكون كصالح الأعمال   (1) انظر نور القبس: 56. (2) د: اعمل؛ م: اعمل شيئاً. (3) ديوانه: 158. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 248 221 - (1) خمارويه بن طولون أبو الجيش خمارويه بن أحمد بن طولون - وقد تقدم ذكر أبيه وجده في حرف الهمزة - ولما توفي أبوه اجتمع الجند على توليته مكانه فولي وهو ابن عشرين سنة، وكانت ولايته في أيام المعتمد على الله، وفي سنة ست وسبعين ومائتين تحرك الافشين: محمد بن أبي الساج ديوداذ بن دوست (2) من أرمينية والجبال في جيش عظيم، وقصد مصر، فلقيه خمارويه في بعض أعمال دمشق، وانهزم اللافشين، واستأمن أكثر عسكره، وسار خمارويه حتى بلغ الفرات ودخل أصحابه الرقة، ثم عاد وقد ملك من الفرات إلى بلاد النوبة. ولما مات المعتمد وتولى المعتضد الخلافة، باد إليه خمارويه بالهدايا والتحف، فأقره المعتضد على عمله، وسأل خمارويه أن يزوج ابنته قطر الندى - واسمها أسماء - للمكتفي بالله بن المعتضد بالله، وكان يوم ذاك ولي العهد، فقال المعتضد بالله: بل أتزوجها أنا، فتزوجها في سنة إحدى وثمانين ومائتين، ودخل بها في آخر هذه السنة، وقيل في سنة اثنتين وثمانين، والله أعلم. وكان صداقها ألف ألف درهم، وكانت موصوفة بفرط الجمال والعقل. حكي أن المعتضد خلا بها يوماً للأنس في مجلس أفرده لها ما حضره سواها، فأخذت منه الكأس، فنام على فخذها، فلما استثقل وضعت رأسه على وسادة وخرجت وجلست في ساحة القصر، فاستيقظت فلم يجدها، فاستشاط غضباً ونادى بها، فأجابته عن قرب، فقال: ألم أخلك إكراماً لك ألم أدفع إليك مهجتي دون سائر   (1) ترجمة خمارويه في الكتب التاريخية كابن الأثير وخطط المقريزي وابن خلدون وابن إياس والنجوم الزاهرة، وانظر الولاة والقضاة: 233 وتهذيب ابن عساكر 5: 176 والمغرب (قسم مصر) 1: 134. (2) م: دست وفي بعض النسخ الأخرى: يوسف، وأثبتنا ما في المسودة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 249 حظاياي فتضعين رأسي على وسادة وتذهبين! فقالت: يا أمير المؤمنين، ما جهلت قدر ما أنعمت به علي، ولكن فيما أدبني به أبي أن قال: لا تنامي مع الجلوس، ولا تجلسي مع النيام (1) . ويقال: إن المعتضد أراد بنكاحها افتقار الطولونية، وكذا كان، فإن أباها جهزها بجهاز لم يعمل مثله، حتى قيل: كان لها ألف هاون ذهباً. وشرط عليه المعتضد أن يحمل كل سنة بعد القيام بجميع وظائف مصر وأرزاق أجنادها مائتي ألف دينار، فاقام على ذلك إلى أن قتله غلمانه بدمشق على فراشه ليلة الأحد لثلاث بقين من ذي القعدة سنة اثنتين وثمانين ومائتين، وعمره اثنتان وثلاثون سنة، وقتل قتلته أجمعون، وحمل تابوته إلى مصر، ودفن عند أبيه بسفح المقطم، رحمهما الله تعالى. وكان خمارويه من أحسن الناس خطاً، وكان وزيره أبا بكر محمد بن علي بن أحمد المعروف بالماذرائي - الآتي ذكره إن شاء الله تعالى (2) -. (36) ولما حملت قطر الندى ابنة خمارويه إلى المعتضد، خرجت معها عمتها العباسة بنت أحمد بن طولون مشيعة لها إلى آخر عمارة الديار المصرية (3) من جهة الشام، ونزلت هناك وضربت فساطيطها، وبنت هناك قرية فسميت باسمها، وقيل لها العباسة، وهي عامرة إلى الآن، وبها جامع حسن وسوق قائم؛ ذكر ذلك جماع من أهل العلم. وماتت قطر الندى لتسع خلون من رجب سنة سبع وثمانين ومائتين، ودفنت داخل قصر الرصافة ببغداد. (37) وتوفي الافشين محمد بن أبي الساج في شهر ربيع الأول سنة ثمان وثمانين ومائتين، ببرذعة، وهي كرسي أعمال أذربيجان، وقيل إنها من أران. (38) وتوفي أبوه أبو الساج - وهو الذي تنسب إليه الأجناد الساجية   (1) وكانت موصوفة ... النيام: سقطت من م س ص ومسودة المؤلف. (2) كذا وعد بإيراد ترجمته في المسودة أيضاً، ويبدو أنه لم يفعل؛ وترجمة الماذرائي في المغرب (قسم مصر) : 350 والخطط 2: 155 (ط. بولاق) . (3) هذه رواية ص والمسودة؛ وفي نسخ أخرى: إلى آخر أعمال مصر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 250 ببغداد - في شهر ربيع الآخر سنة ست وستين ومائتين بجند يسابور، من أعمال خوزستان. وخمارويه: بضم الخاء الموحدة وفتح الميم وبعدها ألف ثم راء مفتوحة وواو، ثم ياء ساكنة مثناة من تحتها، وبعدها هاء ساكنة. 222 - (1) خير النساج أبو الحسن خير بن عبد الله النساج الصوفي؛ من أهل سر من رأى، نزل بغداد وكان له حلقة يتكلم فيها؛ وكان قد صحب أبا حمزة محمد بن إبراهيم الصوفي وغيره، وصحب الجنيد بن محمد وأبا العباس ابن عطاء وأبا محمد الحريري وأبا بكر الشبلي، وعمر عمراً طويلاً، وللصوفية عنه حكايات غريبة، وإنما سمي النساج لخبر؛ قال جعفر الخلدي: سألت خيراً النساج (2) : أكان النسج حرفتك قال: لا، قلت: فمن أين سميت به قال: كنت عاهدت الله أن لا آكل الرطب أبداً، فغلبتني نفسي، فأخذت نصف رطل، فلما اكلت واحدة إذا رجل نظر إلي وقال: يا خير، يا آبق هربت مني، وكان له غلام [هرب منه] اسمه خير، فوقع علي شبهه وصورته، فاجتمع الناس وقالوا: هذا والله غلامك خير، فبقيت متحيراً، وعلمت بم أخذت، وعرفت جنايتي، فأخذني وحملني إلى حانوته الذي كان ينسج فيه غلامه وقال لي: يا عبد السوء، تهرب من مولاك! ادخل فاعمل عملك الذي كنت تعمل، وأمرني بنسج   (1) وردت هذه الترجمة في ص ر وحدهما دون سائر النسخ والمسودة. وانظر ترجمة خير النساج في اللباب، مادة " النساج " وحلية الأولياء 10: 307 وصفة الصفوة 2: 255 وطبقات السلمي: 322. (2) انظر حلية الأولياء: 307. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 251 الكرباس، فدليت رجلي على أن أعمل فأخذت بيدي آلته وكأني كنت أعمل من سنين. فبقيت معه أشهراً أنسج له، فقمت ليلة إلى صلاة الغداة فسجدت وقلت في سجودي: إلهي لا أعود إلى ما فعلت، فأصبحت وإذا الشبه ذهب عني، وعدت إلى صورتي التي كنت عليها، فأطلقت، وثبت علي هذا الاسم؛ وفي بعض الروايات: كان يقول: يا خير، فيقول: لبيك، ثم قال له الرجل بعد ذلك: لا أنت عبدي، ولا اسمك خير، فمضى وقال: لا أغير اسماً سماني به رجل مسلم. وكان يقول: لا نسب أشرف من نسب من خلقه الله بيده فلم يعصمه، ولا أعلم أرفع ممن علمه الله الأسماء كلها فلم ينفعه في وقت جريان القضاء عليه. وكان خير قد احد ودب، وكان إذا سمع قام ظهره ورجعت قوته كالشاب المطلق، فإذا غاب عن الوجود عاد إلى حاله. وكان قد عمر مائة وعشرين سنة؛ وكان يذكر أن إبراهيم الخواص صحبه. وحكى علي بن هارون الحربي (1) عن غير واحد ممن حضر موته من أصحابه أنه غشي عليه عند صلاة المغرب، ثم افاق، ونظر إلى ناحية من باب البيت، وقال: قف، عافاك الله، فإنما أنت عبد مأمور، وأنا عبد مأمور ما أمرت به لا يفوتك وما أمرت به يفوتني، فدعني أمضي لما أمرت به، ثم امض أنت لما أمرت به، ودعا بماء فتوضأ للصلاة وصلى وتمدد وأغمض عينيه وتشهد، ثم مات، رحمه الله تعالى. فرآه بعض أصحابه في النوم، فقال: ما فعل الله بك فقال: لا تسلني عن هذا، ولكن استرحت من دنياكم المضرة. وكانت وفاته في سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة، رحمه الله تعالى.   (1) حلية الأولياء: 307. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 252 حَرفُ الدال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 253 فراغ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 254 223 - (1) داود الظاهري أبو سليمان بن علي بن خلف الأصبهاني الإمام المشهور المعروف بالظاهري؛ كان زاهداً متقللاً كثير الورع، أخذ العلم عن إسحاق بن راهويه وأبي ثور وغيرهما، وكان من أكثر الناس تعصباً للإمام الشافعي رضي الله عنه، وصنف في فضائله والثناء عليه كتابين، وكان صاحب مذهب مستقل (2) ، وتبعه جمع كثير يعرفون بالظاهرية، وكان ولده أبو بكر محمد على مذهبه - وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى - وانتهت إليه رياسة العلم ببغداد. [قال أبو عبد الله المحاملي: صليت صلاة العيد يوم فطر في جامع المدينة، فلما انصرفت قلت في نفسي: أدخل إلى داود بن علي فأهنيه، وكان ينزل قطيعة الربيع؛ قال: فجئته، وإذا بين يديه طبق فيه أوراق هندبا وعصارة فيها نخالة وهو يأكل، فهنأته وتعجبت من حاله، ورأيت أن جميع ما نحن فيه من الدنيا ليس بشيء، فخرجت من عنده ودخلت على رجل من محبي الصنيعة يقال له الجرجاني، فلما علم بمجيئي خرج إلي حاسر الرأس حافي القدمين، وقال لي: ما عني القاضي أيده الله قالت: مهم، قال: وما هو قلت: في جوارك داود بن علي، ومكانه من العلم ما تعلمه، وأنت فكثير البر والرغبة في الخير تفغل عنه، وحدثته بما رأيت منه، فقال لي: داود شرس الخلق، أعلم القاضي أنني وجهت إليه البارحة ألف درهم مع غلام ليستعين بها في بعض أموره   (1) ترجمة داود الظاهري في تاريخ بغداد 8: 369 وطبقات الشيرازي، الورقة 26 والفهرست: 216 والجواهر المضية 2: 419 وطبقات السبكي 2: 42 وتذكرة الحفاظ: 572 وميزان الاعتدال 2: 14. (2) هـ: مستقل بنفسه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 255 فردها مع الغلام وقال للغلام: قل له: بأي عين رأيتني وما الذي بلغك من حاجتي وخلتي حتى وجهت إلي بهذا قال: فتعجبت من ذلك وقلت له: هات الدراهم فإني أحملها إليه، فدفعها إلي ثم قال: يا غلام، الكيس الآخر، فجاءه بكيس فوزن ألفاً أخرى، وقال: تلك لنا وهذه لموضع القاضي وعنايته، قال: فخرجت وجئت إليه، فقرعت الباب فخرج وكلمني من وراء الباب وقال: ما رد القاضي قلت: حاجة أكلمك فيها، فدخلت وجلست ساعة، ثم أخرجت الدراهم وجعلتها بين يديه، فقال: هذا جزاء من ائتمنك على سره [أنا بأمانة العلم أدخلتك إلي] ، ارجع فلا حاجة لي فيما معك، قال المحاملي: فرجعت وقد صغرت الدنيا في عيني ودخلت على الجرجاني فأخبرته بما كان، فقال: أما أنا فقد أخرجت هذه الدراهم لله تعالى، لا أرجع في شيء منها، فليتول القاضي إخراجها في أهل الستر والعفاف على ما يراه القاضي] (1) . قيل: عن كان يحضر مجلسه أربعمائة صاحب طيلسان أخضر، قال داود (2) : حضر مجلسي يوماً أبو يعقوب الشريطي، وكان من أهل البصرة، وعليه خرقتان، فتصدر لنفسه من غير أن يرفعه أحد وجلس إلى جانبي وقال لي: سل يا فتى عما بدا لك، فكأني غضبت منه، فقلت له مستهزئاً: أسألك عن الحجامة، فبرك أبو يعقوب ثم روى طريق " أفطر الحاجم والمحجوم " ومن أرسله ومن أسنده ومن وقفه ومن ذهب إليه من الفقهاء، وروى اختلاف طريق احتجام رسول الله صلى الله عليه وسلم وإعطاء الحجام أجره، ولو كان حراماً لم يعطه، ثم روى طرق أن النبي صلى الله عليه وسلم " احتجم بقرن وذكر أحاديث صحيحة في الحجامة، ثم ذكر الأحاديث المتوسطة مثل " ما مررت بملا من الملائكة " ومثل " شفاء أمتي في ثلاث " وما أشبه ذلك، وذكر الأحاديث الضعيفة مثل قوله عليه السلام " لا تحتجموا يوم كذا ولا ساعة كذا "، ثم ذكر ما ذهب إليه أهل الطب من الحجامة في كل زمان وما ذكروه فيها،   (1) انفردت ص بهذا النص، فلم يرد في المسودة وسائر النسخ. (2) ص: قال أبو العباس الزيادي: دخل أبو يعقوب الشروطي وكان من أهل البصرة مجلس داود الظاهري.. الخ. وابتداء من قوله: قال داود حتى قوله: أحداً أبداً، لا وجود له في المسودة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 256 ثم ختم كلامه بأن قال: وأول ما خرجت الحجامة من أصبهان، فقلت له: والله لا حقرت بعدك أحداً أبداً. وكان داود من عقلاء الناس، قال أبو العباس ثعلب في حقه: كان عقل داود أكثر من علمه. وكان مولده بالكوفة سنة اثنتين ومائتين، وقيل سنة مائتين، وقيل سنة إحدى ومائتين، ونشأ ببغداد، وتوفي بها سنة سبعين ومائتين في ذي القعدة، وقيل في شهر رمضان، ودفن بالشونيزية، وقيل في منزله. وقال ولده أبو بكر محمد: رأيت أبي داود في المنام، فقلت له: ما فعل الله بك فقال: غفر لي وسامحني، فقلت: غفر لك ففيم سامحك فقال: يا بني الأمر عظيم، والويل كل الويل لمن لم يسامح، رحمه الله تعالى. وأصله من أصبهان، وقد تقدم الكلام على أصبهان والشونيزية فيما مر من التراجم، فلا حاجة إلى الإعادة. 224 - (1) الملك الزاهر أبو سليمان داود الملقب الزاهر مجير الدين ابن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، رحمهم الله تعالى، كان صاحب قلعة البيرة التي على شاطئ الفرات، وكان يحب العلماء وأهل الأدب (2) ، ويقصدونه من البلاد، ولما ولد   (1) نراه في سنة 592 يذهب رسولاً عن الملك الظاهر إلى أخيه الملك العزيز بمصر ومعه سابق الدين ابن الداية والقاضي بهاء الدين بن شداد، فلما أدوا الرسالة عادوا إلى دمشق؛ وفي سنة 601 كان منجداً للملك الأشرف ضد صاحب الموصل؛ وفي سنة 613 واستولى من أملاك أخيه الظاهر على عدة مناطق وأخرج العمال الذين كانوا فيها (انظر صفحات متفرقة من مفرج الكروب ج: 3) . (2) هذه رواية المسودة والنسختين أج، وفي النسخ الأخرى: أهل الفضل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 257 بمدينة القاهرة كان السلطان صلاح الدين بالشام، وكان الثاني عشر من أولاده، فكتب إليه القاضي الفاضل رسالة يبشره بولادته ومن جملتها (1) : " وهذا الولد المبارك هو الموفي لاثني عشر ولداً، بل لاثني عشر نجماً متقداً، فقد زاد الله تعالى في أنجمه عن أنجم يوسف عليه السلام نجماً، ورآهم المولى يقظة ورأى [يوسف] تلك الأنجم حلماً، ورآهم يوسف (2) ساجدين له ورأينا الخلق لهم سجوداً، وهو تعالى قادر أن يزيد جدود المولى إلى أن يراهم آباء وجدوداً "، وقد ألم القاضي الفاضل في آخر هذا الكلام بقول البحتري في مدح الخليفة المتوكل وقد ولد له المعتز من جملة قصيدة (3) : وبقيت حتى تستضيء برأيه ... وترى الكهول الشيب من أولاده وحكى عنه جماعة أنه كان يقول: من أراد أن يبصر صلاح الدين فليبصرني (4) ، فأنا أشبه أولاده به. وكانت ولادته لسبع بقين من ذي الحجة، وقيل ذي القعدة، سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة، وهو شقيق الملك الظاهر - الآتي ذكره في حرف الغين المعجمة إن شاء الله تعالى -. وتوفي في البيرة في ليلة التاسع من صفر سنة اثنتين وثلاثين وستمائة، وكنت بحلب وقد وصل نعيه إليها، فتوجه الملك العزيز ابن الملك الظاهر أخيه إلى القلعة المذكورة وملكها، رحمه الله تعالى. والبيرة - بكسر الباء الموحدة وسكون الياء المثناة من تحتها وفتح الراء وبعدها هاء ساكنة - وهي قلعة بقرب سميساط من ثغور الروم على الفرات من جانب الجزيرة الفراتية؛ وسميساط في بر الشام بين قلعة الروم وملطية، والفرات يفصل بين الجهتين.   (1) أورد القلقشندي هذه الرسالة في صبح الأعشى 7: 90. (2) في س ص ر والمسودة: المولى؛ وسقطت اللفظة من م. (3) ديوان البحتري 2: 704. (4) هـ: ينظر ... فلينظرني. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 258 225 - (1) داود الطائي أبو سليمان داود بن نصير الطائي الكوفي؛ سمع عبد الملك بن عمير وحبيب بن أبي عمرة وسليمان الأعمش ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى؛ روى عنه إسماعيل بن عيينة ومصعب بن المقدام وأبو نعيم الفضل بن دكين وغيرهم؛ وكان داود ممن شغل نفسه بالعلم ودرس الفقه وغيره من العلوم ثم اختار بعد ذلك العزلة وآثر الانفراد والخلوة فلزم العبادة واجتهد فيها إلى آخر عمره، وقدم بغداد في أيام المهدي ثم عاد إلى الكوفة وفيها كانت وفاته؛ قال علي بن المديني: سمعت ابن عيينة يقول: داود الطائي ممن علم وفقه، قال: وكان يختلف إلى أبي حنيفة رضي الله عنه حتى تقدم في ذلك الكلام؛ قال: فأخذ يوماً حصاة فحذف بها إنساناً فقال له: يا أبا سليمان طال لسانك وطالت يدك، قال: فاختلف بعد ذلك سنة لا يسأل ولا يجيب، فلما علم أنه تصبر عمد إلى كتبه فغرقها في الفرات ثم أقبل على العبادة وتخلى. وقال عبيد بن جناد سمعت عطاء يقول: كان لداود الطائي ثلثمائة درهم فعاش بها عشرين سنة ينفقها على نفسه؛ قال: وكنا ندخل على داود الطائي فلم يكن في بيته إلا بارية ولبنة يضع عليها رأسه واجانة فيها خبز ومطهرة يتوضأ منها ومنها يشرب. وقال أبو سليمان الداراني: ورث داود الطائي من أمه داراً، فكان يتنقل في بيوت الدار كلما تخرب بيت من الدار انتقل منه إلى آخر ولم يعمره حتى أتى على عامة البيوت التي في الدار؛ قال وورث من أبيه دنانير فكان يتنفق بها حتى كفن بآخرها.   (1) ترجمة داود الطائي في تاريخ بغداد 8: 347 وطبقات الشيرازي، الورقة: 40 وتهذيب التهذيب 3: 203 والجواهر المضية 2: 536 وحلية الأولياء 7: 335؛ ووردت هذه الترجمة في ص ر وحدهما. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 259 وقال إسماعيل بن حسان: جئت إلى باب داود الطائي فسمعته يخاطب نفسه فظننت أن عنده أحداً، فأطلت القيام على الباب ثم استأذنت فدخلت، فقال: ما بدا لك في الاستئذان قلت: سمعتك تتكلم فظننت أن عندك أحداً، قال: لا ولكن كنت أخاصم نفسي؛ اشتهت البارحة تمراً فخرجت فاشتريت لها، فلما جئت اشتهت جزراً، فأعطيت الله عهداً ان لا آكل تمراً ولا جزراً حتى ألقاه. وقدم محمد بن قحطبة الكوفة فقال: أحتاج إلى مؤدب يؤدب أولادي حافظ لكتاب الله تعالى عالم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبالآثار والفقه والنحو والشعر وأيام الناس؛ فقيل له: ما يجمع هذه إلا داود الطائي، فسير إليه بدرة عشرة آلاف درهم، وقال: استعن بها على دهرك، فردها فوجه إليه بدرتين مع غلامين مملوكين وقال لهما: إن قبل البدرتين فأنتما حران، فمضيا بهما إليه فأبى أن يقبلهما، فقال: إن في قبلوهما عتق رقبانا من الرق، فقال لهما: إني أخاف أن يكون في قبولهما وهق رقبتي في النار، رداهما إليه وقولا له: إن ردهما على أخذهما منه أولى من أن يعطيني أنا. وكان حائطه قد تصدع فقيل له: لو أمرت به، فقال: كانوا يكرهون فضول النظر. وقيل إنه صام أربعين سنة ما علم به أحد من أهله، فكان يحمل غذاءه معه ويتصدق به في الطريق ويرجع إلى أهله يفظر عشاء، ولا يعلمون أنه صائم. وقال له رجل: ألا تسرح لحيتك قال: إني عنها مشغول. وقيل احتجم داود فدفع إلى الحجام عشرة دراهم فقيل له: هذا سرف، فقال: لا عبادة لمن لا مروءة عنده. وقالت أخته: لو تنحيت عن الشمس، فقال: هذه خطي لا أدري كيف تكتب (1) . قال أبو الربيع الأعرج: دخلت على داود الطائي بيته بعد المغرب فقرب لي   (1) كذا في تاريخ بغداد أيضاً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 260 كسيرات يابسة، فعطشت فقمت إلى دن فيه ماء حار، فقلت: رحمك الله! لو اتخذت دفاً غير هذا يكون فيه الماء بارداً، فقال لي: إذا كنت لا أشرب إلا بارداً ولا آكل إلا طيباً ولا ألبس إلا ليناً، فما أبقيت لآخرتي قال: قلت له: أوصني، قال: صم عن الدنيا، واجعل إفطارك فيها الموت، وفر من الناس فرارك من السبع، وصاحب أهل التقوى إن صحبت فإنهم أخف مؤونة وأحسن معونة، ولا تدع الجماعة، حسبك هذا إن عملت به. وقال داود الطائي: ما حسدت أحداً على شيء إلا أن يكون رجلاً يقوم الليل؛ فإني أحب أن أرزق وقتاً من الليل. قال أبو خالد: وبلغني أنه كان لا ينام الليل، [إذا غلبته عيناه احتبى قاعداً] ؛ ومكث عشرين سنة لا يرفع رأسه إلى السماء. وقدم هارون الرشيد الكوفة فكتب قوماً من القراء فأمر لكل واحد منهم بألفي درهم فكان داود الطائي ممن كتب فيهم ودعي باسمه أين داود الطائي فقالوا: داود يجيبكم أرسلوا إليه، قال ابن السماك وحماد بن أبي حنيفة: نحن نذهب إليه، قال ابن السماك لحماد في الطريق: إذا نحن دخلنا عليه فانثرها بين يديه فإن للعين حظها، فقال حماد: رجل ليس عنده شيء يؤمر له بألفي درهم يردها!! فلما دخلوا عليه فنثروها بين يديه قال: سوءة، إنما يفعل هذا بالصبيان، وأبى أن يقبلها. وقال حماد بن أبي حنيفة إن مولاة كانت لداود تخدمه قالت: لو طبخت لك دسماً تأكله، فقال: وددت، فطبخت له دسماً ثم أتته به، فقال لها: ما فعل أيتام بني فلان قالت: على حالهم، قال: اذهبي بهذا إليهم، فقالت: أنت لم تأكل أدماً منذ كذا وكذا، فقال: إن هذا إذا أكلوه صار إلى العرش، وإذا أكلته صار إلى الحش، فقالت له: يا سيدي أما تشتهي الخبز قال: يا داية، بين مضغ الخبز وشرب الفتيت قراءة خمسين آية. وقال محارب بن دثار: لو كان داود في الأمم الماضية لقص الله تعالى شيئاً من خبره. توفي داود سنة ستين، وقيل سنة خمس وستين ومائة، رحمه الله تعالى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 261 ولما مات جاء ابن السماك ووقف على قبره ثم قال: أيها الناس إن أهل الزهد في الدنيا تعجلوا الراحة على أبدانهم مع يسير الحساب غداً عليهم، وإن أهل الرغبة فيها تعجلوا التعب على أبدانهم مع ثقل الحساب غداً عليهم، والزهادة راحة لصاحبها في الدنيا والآخرة، والرغبة تعب لصاحبها في الدنيا والآخرة؛ رحمك الله أبا سليمان ما كان أعجب شأنك، ألزمت نفسك الصبر حتى قومتها: أجعتها وإنما تريد شبعها، وأظمأتها وإنما تريد ريها، أخشنت المطعم وإنما تريد طيبه، أخشنت الملبس وإنما تريد لينه؛ أبا سليمان: أما كنت تشتهي من الطعام طيبه، ومن الماء بارده، ومن اللباس لينه بلى ولكن أخرت ذلك لما بين يديك، فما أراك إلا قد ظفرت بما طلبت وما إليه رغبت، فما أيسر ما ضيعت، وأحقر ما فعلت في جنب ما أملت، فمن سعى مثلك عزم عزمك وصبر صبرك، آنس ما يكون إذا كنت بالله خالياً وأوحش ما يكون آنس ما يكون الناس. سمعت الحديث وتركت الناس يحدثون وتفهمت في دين الله وتركتهم يفتون. لا تقبل من السلطان عطية، ولا من الإخوان هدية، سجنت نفسك في بيتك فلا محدث لك، ولا ستر على بابك، فلو رأيت جنازتك وكثرة تابعك علمت أنه قد شرفك وأكرمك وألبسك رداء عملك، فلو لم يرغب عبد في الزهد في الدنيا إلا لمحبة هذا الستر الجميل والتابع الكثير لكان حقيقاً بالاجتهاد، فسبحان من لا يضيع مطيعاً ولا ينسى لأحد صنيعاً. [وقيل إن ابن السماك لما قام على قبر داود قال: رحمك الله يا داود! كنت تسهر ليلك والناس نائمون، وكنت تربح إذ الناس يخسرون، فقال الناس جميعاً: صدقت؛ وكنت تسلم إذ الناس يخوضون، فقال الناس جميعاً: صدقت؛ حتى عدد فضائله كلها. ولما فرغ قام أبو بكر النهشلي فحمد الله ثم قال: يا رب إن الناس قد قالوا ما عندهم مبلغ ما علموا، اللهم فاغفر له برحمتك ولا تكله إلى عمله، وفرغ من دفنه وقام الناس. قال جعفر بن نفيل الرهبي: رأيت داود الطائي بعد موته فقلت له: كيف رأيت خير الآخرة قال: رأيت خيرها كثيراً، قلت: فماذا صرت إليه قال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 262 صرت إلى خير الحمد لله، قال فقلت له: هل لك من علم بسفيان بن سعيد فقال: كان يحب الخير وأهله فرقاه الخير إلى درجة أهل الخير] (1) . 226 - (2) دبيس بن صدقة أبو الأغر (3) دبيس بن سيف الدولة أبي الحسن صدقة بن منصور بن دبيس بن علي بن مزيد الأسدي الناشري الملقب نور الدولة ملك العرب صاحب الحلة المزيدية؛ كان جواداً كريماً عنده معرفة بالأدب والشعر، وتمكن في خلافة الإمام المسترشد واستولى على كثير من بلاد العراق، وهو من بيت كبير - وسيأتي ذكر أبيه وأجداده في حرف الصاد إن شاء الله تعالى -. ودبيس المذكور هو الذي عناه ابن الحريري صاحب " المقامات " في المقامة التاسعة والثلاثين (4) بقوله " أو الأسدي دبيس " لأنه كان معاصره - كما نذكره في حرف القاف إن شاء الله تعالى - فرام التقرب إليه بذكره في مقاماته، ولجلالة قدره أيضاً. وله نظم حسن، ورأيت العماد الكاتب في " الخريدة " وابن المستوفي في " تاريخ إربل " وغيرهما قد نسبوا إليه الأبيات اللامية التي من جملتها:   (1) زيادة من ر د. (2) ترجمة دبيس بن صدفة في كتب التاريخ كان الأثير وابن خلدون. وانظر النجوم الزاهرة 5: 256 وشرح المقامات 2: 218. (3) الأغر: كذا هو في ص ر والمسودة بالغين المعجمة والراء المهملة، وورد في بعض النسخ " الأغر ". (4) هي المقامة العمانية، وفيها يصف كيف أحاطت الجماعة بأبي زيد تثني عليه وتقبل يديه " حق خيل إلي أنه القرني أويس، أو الأسدي دبيس " (المقامات: 415) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 263 أسلمه حب سليمانكم ... إلى هوى أيسره القتل ورأيت ابن بسام صاحب كتاب " الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة " قد ذكرها لابن رشيق القيروان - وقد ذكرتها في ترجمته في حرف الحاء - والظاهر أنها لابن رشيق، لأن ابن بسام ذكر في " الذخيرة " أنه ألفها في سنة اثنتين وخمسمائة (1) وفي هذا التاريخ كان دبيس شاباً ويبعد أن يصل شعره في ذلك السن إلى الأندلس وينسب إلى مثل ابن رشيق، مع معرفة ابن بسام بأشعار أهل المغرب. وذكر ابن المستوفي في تاريخه أن بدران أخا دبيس كتب إلى أخيه المذكور وهو نازح عنه: ألا قل لمنصور وقل لمسيب ... وقل لدبيس إنني لغريب هنيئاً لكم ماء الفرات وطيبه ... إذا لم يكن لي في الفرات نصيب فكتب إليه دبيس: ألا قل لبدران الذي حن نازعاً ... إلى أرضه والحر ليس يخيب تمتع بأيام السرور فإنما ... عذار الأماني بالهموم يشيب ولله في تلك الحوادث حكمة ... " وللأرض من كأس الكرام نصيب " (39) وذكر غير ابن المستوفي أن بدران بن صدقة المذكور لقبه تاج الملوك، ولما قتل أبوه تغرب عن بغداد ودخل الشام فأقام بها مدة ثم توجه إلى مصر ومات بها في سنة ثلاثين وخمسمائة؛ وكان يقول الشعر، وذكره العماد الكاتب الأصفهاني في كتاب " الخريدة ". وكان دبيس في خدمة السلطان مسعود بن محمد بن ملكشاه السلجوقي وهم نازلون على باب المراغة من بلاد أذربيجان ومعهم الإمام المسترشد بالله - لسبب   (1) يريد أن تأليف الذخيرة كان في ذلك العام (502) وابن بسام توفي سنة 542؛ ولعل تأليفه استغرق فترة تجاوزت العام المذكور. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 264 سنذكره في ترجمة مسعود المذكور إن شاء الله تعالى -، فيقال إن السلطان دس عليه جماعة من الباطنية فهجموا خيمته - أعني المسترشد بالله - وقتلوه يوم الخميس الثامن والعشرين، وقال ابن المستوفي: الرابع عشر من ذي القعدة سنة تسع وعشرين وخمسمائة، وخاف أن تنسب القضية إليه، وأراد أن تنسب إلى دبيس المذكور، فتركه إلى أن جاء إلى الخدمة وجلس على باب خيمة السلطان، فسير بعض مماليكه، فجاءه من ورائه وضرب رأسه بالسيف فأبانه، وأظهر السلطان بعد ذلك أنه إنما فعل هذا انتقاماً منه بما فعل في حق الإمام، وكان ذلك بعد قتل الإمام بشهر، رحمه الله تعالى. وذكر المأموني في تاريخه أنه قتل في رابع عشر ذي الحجة من السنة المذكورة على باب خوي. وكان قد أحسن بتغير رأي السلطان فيه منذ قتل المسترشد، وعزم على الهرب مراراً، وكانت المنية تثبطه. وذكر ابن الأزرق في تاريخه (1) أنه قتله كان على باب تبريز، وأنه لما قتل حمل إلى ماردين إلى زوجته كهارخاتون، فدفن بالمشهد عند نجم الدين إيلغازي (2) صاحب ماردين، والد كهارخاتون ابنة المذكورة، ثم توزج السلطان المذكور ابنة دبيس المذكور، وأمها شرف خاتون ابنة عميد الدولة بن فخر الدولة محمد بن جهير، وأم شرف خاتون المذكورة زبيدة بنت الوزير نظام الملك - وسيأتي ذكر ذلك في ترجمة فخر الدولة بن جهير إن شاء الله تعالى -. والناشري - بفتح النون وبعد الألف شين معجمة مكسورة وبعدها راء ثم ياء - هذه النسبة إلى ناشرة بن نصر بطن من أسد بن خزيمة.   (1) هو عبد الله بن محمد بن عبد الوارث أبو الفضل ابن الأزرق، له كتاب في تاريخ بلده ميافارقين. (2) في المسودة: الغازي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 265 227 - (1) دعبل أبو علي دعب بن علي بن رزين بن سليمان الخزاعي الشاعر المشهور، وذكر صاحب الأغاني: أنه دعبل بن علي بن رزين بن سليمان بن تميم بن نهشل - وقيل بهنس - بن خراش بن خالد بن دعبل بن أنس بن خزيمة بن سلامان بن اسلم ابن أفصى بن حارثة بن عمرو بن عامر مزيقيا ويكنى: أبا علي. وقال الخطيب البغدادي في تاريخه: هو دعبل بن علي بن رزين بن عثمان بن عبد الله ابن بديل بن ورقاء الخزاعي. أصله من الكوفة، ويقال: من قرقيسيا وأقام ببغداد، وقيل إن دعبلاً لقب واسمه الحسن، وقيل عبد الرحمن، وقيل محمد، وكنيته أبو جعفر والله أعلم. ويقال: إنه كان أطروشاً وفي قفاه سلعة (2) . كان شاعراً مجيداً، إلا أنه كان بذي اللسان مولعاً بالهجو والحط من أقدار الناس، وهجا الخلفاء فمن دونهم، وطال عمره فكان يقول: لي خمسون سنة أحمل خشبتي على كتفي (3) ، أدور على من يصلبني عليها فما أجد من يفعل ذلك، ولما عمل في إبراهيم بن المهدي - المقدم ذكره - الأبيات التي أثبتها في ترجمته وأولها: نعر ابن شكلة بالعراق وأهله ... فهفا إليه كل أطلس مائق   (1) ترجمة دعبل الخواعي في الأغاني 20: 68 والشعر والشعراء: 727 وتاريخ بغداد 8: 382 ولسان الميزان 2: 430 ومعاهد التنصيص 2: 190 والفهرست: 229 والموشح: 299 وطبقات ابن المعتز: 264 ومعجم الأدباء 11: 99 وتهذيب ابن عساكر 5: 227 ورجال الكشي: 313 والشذرات 2: 11، وقد جمع زولنديك ديوانه وقطعاً من كتابه في الشعراء (1961) كما قام الدكتور محمد نجم بجمع ديوانه (بيروت: 1062) . (2) وذكر ... سلعة: سقط من س. (3) ر: ظهري. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 266 دخل إبراهيم على المأمون فشكا إليه حاله، وقال: يا أمير المؤمنين، إن الله سبحانه وتعالى فضلك في نفسك علي وألهمك الرأفة والعفو عني، والنسب واحد، وقد هجاني دعبل فانتقم لي منه، فقال المأمون: ما قال لعل قوله: نعر ابن شكلة بالعراق ... ... وأنشد الأبيات، فقال: هذا من بعض هجائه، وقد هجاني بما هو أقبح من هذا، فقال المأمون: لك أسوة بي فقد هجاني واحتملته، وقال في (1) : أيسومني المأمون خطة جاهل ... أو ما رأى بالأمس رأس محمد إني من القوم الذين سيوفهم ... قَتَلتْ أخاك وشرفتك بمقعد شادوا بذكرك بعد طول خموله ... واستنقذوك من الحضيض الأوهد فقال إبراهيم: زادك الله حلماً يا أمير المؤمنين وعلماً فيما ينطق أحدنا إلا عن فضل علمك ولا يحلم إلا اتباعاً لحلمك. وأشار دعبل في هذه الأبيات إلى قضية طاهر بن الحسين الخزاعي - الآتي ذكره إن شاء الله تعالى - وحصاره بغداد، وقتله الأمين محمد بن الرشيد، وبذلك ولي المأمون الخلافة. والقصة مشهورة، ودعبل خزاعي، فهو منهم، وكان المأمون إذا أنشد هذه الأبيات يقول: قبح الله دعبلاً فما أوقحه (2) ، كيف يقول عني هذا وقد ولدت في حجر الخلافة ورضعت يديها وربيت في مهدها [ومثل هذا الحلم بل أعظم ما حكي عن الواثق أنه كان يحب الباذنجان ويكثر من أكله ومعظم الرمد بالعراق من أكل الباذنجان لحر الإقليم والسوداء المتولدة من أكله، فبعث إليه أبوه المعتصم وقال له: دع أكل الباذنجان واحفظ بصرك فمتى رأيت خليفة أعمى فقال للرسول: قل لأمير المؤمنين إني تصدقت بعيني على الباذنجان، ثم رمد رمدة صعبة ما تخلص منها إلا وعلى إحدى عينيه بياض كاد   (1) ديوانه: 69. (2) أ: أقبحه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 267 يسدها، وكان المسدود الشاعر قد هجا الواثق وهو ولي عهد أبيه، وسمي المسدود لجسم سد منخريه فعمل: من المسدود في الأنف ... إلى المسدود في العين فيا طبلاً له رأس ... ويا طبلاً برأسين فلما كان يوم تفرقة العطاء كتب المسدود مستحقه في ورقة وجعلها في عمامته مع ورقة الهجو ثم دخل على الخليفة فناوله ورقة الهجو فقرأها وضحك وقال: خذ هذه وهات ورقة المستحق ولا تعد في مثل هذا، وقضى حاجته] (1) . وكان بين دعبل ومسلم بن الوليد الأنصاري اتحاد كثير، وعليه تخرج دعبل في الشعر (2) ، فاتفق أن ولي مسلم جهة في بعض بلاد خراسان أو فارس ثم إني ظفرت بالجهة التي تولاها مسلم وهي جرجان من ناحية خراسان ولاه إياها الفضل بن سهل - الآتي ذكره إن شاء الله تعالى - فقصده دعبل لما يعلمه من الصحبة التي بينهما، فلم يلتفت مسلم إليه، ففارقه وعمل (3) : غششت الهوى حتى تداعت أصوله ... بنا وابتذلت الوصل حتى تقطعا وأنزلت من (4) بين الجوانح والحشا ... ذخيرة ود طالما قد تمنعا فلا تعذلني ليس لي فيك مطمع ... تخرقت حتى لم أجد لك مرقعاً وهبك يميني استأكلت فقطعتها ... وصبرت قلبي بعدها فتشجعا ومن شعره في الغزل (5) : لا تعجبي يا سلم من رجل ... ضحك المشيب برأسه فبكى يا ليت شعري كيف نومكما ... يا صاحبي إذا دمي سُفِكا   (1) زيادة من د. (2) س: الفقه. (3) ديوانه: 102. (4) س: ما. (5) ديوانه: 117. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 268 لا تأخذا بظلامتي أحداً ... قلبي وطرفي في دمي اشتركا ومن شعره في مدح المطلب بن عبد الله بن مالك الخزاعي أمير مصر (1) : زمني بمطلب سقيت زمانا ... ما كنت إلا روضة وجنانا كل الندى إلا نداك تكلف ... لم أرض غيرك كائناً من كانا أصلحتني بالبر بل أفسدتني ... وتركتني أتسخط الإحسانا ومن كلامه: من فضل الشعر أنه لم يكذب أحد قط إلا اجتواه (2) الناس، إلا الشاعر فإنه كلما زاد كذبه زاد المدح له، ثم لا يقنع له بذلك حتى يقال له: أحسنت والله، فلا يشهد له شهادة زور إلا ومعها يمين بالله تعالى. وقال دعبل (3) : كنا يوماً عند سهل بن هارون الكاتب البليغ، وكان شديد البخل، فأطلنا الحديث، واضطره الجوع إلى أن دعا (4) بغدائه، فأتي بقصعة فيها ديك عاس هرم لا تخرقه سكين ولا يؤثر فيه ضرس، فأخذ كسرة خبز فخاض بها مرقته، وقلب جميع ما في القصعة، ففقد الرأس، فبقي مطرقاً ساعة، ثم رفع رأسه وقال للطباخ: أين الرأس فقال: رميت به، قال: ولم قال: ظننت أنك لا تأكله، فقال: لبئس ما ظننت، ويحك والله إني لأمقت من يرمي برجليه فكيف من يرمي رأسه، والرأس رئيس، وفيه الحواس الأربع، ومنه يصيح، ولولا صوته لما فضل، وفيه فرقه (5) الذي يتبرك به، وفيه عيناه اللتان يضرب بهما المثل فيقال: شراب كعين (6) الديك، وماغه عجب (7) لوجع الكليتين، ولم ير عظم قط أهش من عظم رأسه، أو ما علمت أنه   (1) ديوانه: 190، وتنسب أيضاً لطريح الثقفي في حماسة الخالديين 1: 14. (2) د: اجتنبه. (3) لم ترد هذه القصة في س. (4) هـ: أتي. (5) فرقه: رواية ص والمسودة؛ وفي بعض النسخ: عرفه. (6) هـ: مثل عين. (7) ر: عجيب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 269 خير من طرف الجناح ومن الساق ومن العنق فإن كان قد بلغ من نبلك (1) أنك لا تأكله فانظر أين هو، قال: والله لا أدري أين هو، رميت به، قال: لكني أدري أين هو، رميت به في بطنك فالله حسبك. ودعبل ابن عم أبي جعفر بن عبد الله بن رزين الملقب أبا الشيص الخزاعي الشاعر المشهور، وكان أبو الشيص من مداح الرشيد، ولما مات رثاه ومدح ولده الأمين. وكانت ولادة دعبل في سنة ثمان وأربعين ومائة، وتوفي سنة ست وأربعين ومائتين بالطيب، وهي بلدة بين واسط العراق وكور الأهواز، رحمه الله تعالى. وجده رزين مولى عبد الله بن خلف الخزاعي، والد طلحة الطلحات، وكان عبد الله المذكور كاتب عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، على ديوان الكوفة، وولي طلحة سجستان فمات بها، رحمه الله تعالى. ولما مات دعبل - وكان صديق البحتري، وكان أبو تمام الطائي قد مات قبله كما تقدم - رثاهما البحتري بأبيات منها (2) : قد زاد في كلفي وأوقد لوعتي ... مثوى حبيب يوم مات ودعبل أخوي لا تزل السماء مخيلة ... تغشاكما بسماء مزن مسبل جدث على الأهواز يبعد دونه ... مسرى النعي ورمة بالموصل ودعبل - بكسر الدال وسكون العين المهملتين وكسر الباء الموحدة وبعدها لام - وهو اسم الناقة الشارف، وكان يقول: مررت يوماً برجل قد أصابه الصرع، فدنوت منه وصحت في أذنه بأعلى صوتي: دعبل، فقام يمشي كأنه لم يصبه شيء.   (1) أج: من مثلك. (2) ديوان البحتري: 1790. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 270 228 - (1) دعلج بن أحمد دعلج بن أحمد بن دعلج بن عبد الرحمن السجستاني المعدل؛ سمع الحديث ببلاد خراسان والري وحلوان وبغداد والبصرة والكوفة ومكة، وكان من ذوي اليسار وله صدقات جارية وأوقاف محبسة على أهل الحديث ببغداد ومكة وسجستان؛ وجاور بمكة زماناً طويلاً ثم سكن بغداد واستوطنها وحدث بها عن محمد بن عمر الحرسي ومحمد بن النضر الجارودي وغيرهما، وروى عنه الدارقطني أبو الحسن وغيره من شيوخ الخطيب. وكان ثقة، وجمع له " المسند " وغير ذلك. قال الخطيب: بلغني أنه بعث بكتابه " المسند " إلى أبي العباس ابن عقدة لينظر فيه وجعل في الأجزاء بين كل ورقتين ديناراً؛ وكان يقول: ليس في الدنيا مثل داري، وذلك أنه ليس في الدنيا مثل بغداد، ولا في بغداد مثل القطيعة، ولا في القطيعة مثل درب أبي خلف، ولا في درب أبي خلف مثل داري. قال الخطيب: حدثني أبو بكر محمد بن علي بن عبد الله الحداد - وكان من أهل الدين والقرآن والصلاح - عن شيخ سماه وذهب عني حفظه اسمه قال: حضرت يوم جمعة المسجد الجامع بمدينة المنصور، فرأيت رجلاً بين يدي في الصف حسن الوقار ظاهر الخشوع دائم الصلاة، لم يزل يتنفل مذ دخل المسجد إلى أن قرب قيام الصلاة، ثم جلس، قال: فغلبتني هيبته ودخل قلبي محبته، ثم اقيمت الصلاة فلم يصل مع الناس الجمعة، فكبر علي ذلك من أمره، وتعجبت من حاله، وغاظني فعله، فلما قضيت الصلاة تقدمت إليه وقلت:   (1) ترجمة دعلج في طبقات السبكي 2: 222 وتاريخ بغداد 8: 387 وعبر الذهبي 2: 291 والرسالة المستطرفة: 73؛ وانفردت بهذه الترجمة النسختان: ص ر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 271 أيها الرجل، ما رأيت أعجب من أمرك، أطلت النافلة وأحسنتها وتركت الفريضة وضيعتها، فقال: يا هذا إن لي عذراً وبي علة منعتني من الصلاة، قلت: وما هي قال: أنا رجل علي دين اختفيت في منزلي مدة بسببه ثم حضرت اليوم الجامع للصلاة فقبل أن تقام التفت فرأيت صاحب الدين، فمن خوفه أحدثت في ثيابي، فهذا خبري، فأسألك بالله إلا سترت علي وكتمت أمري، فقلت: ومن الذي له عليك الدين قال: دعلج بن احمد، وكان إلى جانبه صاحب لدعلج قد صلى وهو لا يعرفه، فسمع هذا القول، ومضى في الوقت إلى دعلج فذكر له القصة، فقال له دعلج: امض إلى الرجل واحمله إلى الحمام واطرح عليه خلعة من ثيابي وأجلسه في منزلي حتى أنصرف من الجامع، ففعل الرجل ذلك، فلما انصرف دعلج إلى منزله أمر بالطعام فأحضر وأكل هو والرجل ثم أخرج حسابه فنظر فيه فإذا له عليه خمسة آلاف درهم فقال له: انظر لا يكون عليك في الحساب غلط أو نسي لك نقد، فقال الرجل: لا، فضرب دعلج على حسابه وكتب تحته علامة الوفاء، ثم أحضر الميزان ووزن خمسة آلاف درهم وقال له: أما الحساب الأول فقد حاللناك مما بيننا وبينك فيه وأسألك أن تقبل هذه الخمسة آلاف درهم وتجعلنا في حل من الروعة التي دخلت قلبك برؤيتك إيانا في مسجد الجامع، أو كما قال. وكانت وفاة دعلج المذكور يوم الجمعة لإحدى عشرة ليلة بقيت من جمادى الآخرة سنة إحدى وخمسين وثلثمائة، وقيل لعشر بقين منها، رحمه الله تعالى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 272 229 - (1) أبو بكر الشبلي أبو بكر دلف بن جحدر - وقيل جعفر، وقيل جعفر بن يونس وهكذا هو مكتوب على قبره - المعروف بالشبلي الصالح المشهور الخراساني الأصل البغدادي المولد والمنشأ؛ كان جليل القدر مالكي المذهب، وصحب الشيخ أبا القاسم الجنيد ومن في عصره من الصلحاء رضي الله عنهم، وكان في مبدإ أمره والياً في دنباوند، فلما تاب في مجلس خير النساج مضى إليها وقال لأهلها: كنت والي بلدكم فاجعلوني في حل. ومجاهداته في أول أمره فوق الحد، ويقال: إنه اكتحل بكذا وكذا من الملح ليعتاد السهر ولا يأخذه نوم؛ وكان يبالغ في تعظيم الشرع المطهر؛ وكان إذا دخل شهر رمضان المبارك جد في الطاعات ويقول: هذا شهر عظمه ربي فأنا أولى بتعظيمه، وكان في آخر عمره ينشد كثيراً: وكم من موضع لو مت فيه ... لكنت به نكالاً في العشيره ودخل يوماً على شيخه الجنيد، فوقف بين يديه وصفق بيديه، وأنشد: عودوني الوصال والوصل عذب ... ورموني بالصد والصد صعب زعموا حين أزمعوا (2) أن ذنبي ... فرط حبي لهم، وما ذاك ذنب لا وحق الخضوع عند التلاقي ... ما جزا من يحب إلا يحب قال: فأجابه الجنيد:   (1) ترجمة الشبلي في تاريخ بغداد 14: 389 والمنتظم 6: 347 وصفة الصفوة 2: 258 وحلية الأولياء 10: 366 والنجوم الزاهرة 3: 289. (2) م هـ: أعرضوا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 273 وتمنيت أن أرا ... ك فلما رأيتكا غلبت دهشة السرو ... ر (1) فلم املك البكا [حدث أحمد بن منصور بن نصر قال: جاء الشبلي يوماً إلى أبي بكر ابن مجاهد فلم يجده في مسجده فسأل عنه فقيل: هو عند علي بن المجوسي، فلما دخل وقعدنا قال له أبو بكر ابن مجاهد: يا أبا بكر، أخبرت أنك تحرق الثياب والخبز والأطعمة وما ينتفع الناس فيه، أين هذا من العلم والشرع فقال له: يقول الله: " فطفق مسحاً بالسوق والأعناق ص. أين هذا من العلم فسكت أبو بكر ابن مجاهد، فقال: كأني ما قرأتها قط. وقيل إنهم عابثوه في مثله فقرأ. " إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم. الأنبياء. هذه الأطعمة والشهوات حقيقة الخلق ومعبودهم أبرأ منه وأحرقه؛ ومن أناشيده: ودادكم هجر وحبكم قلى ... ووصلكم سلم وسلمكم حرب وحكي عن بعض المعترفين (2) أنه أنس إلى طريقة التصوف واستشرف [وشاور أبا بكر فرده عما أراده] (3) وحذره التعرض له، وعطفته الخواطر عليه فمال إلى قرين من هذه الطائفة فعلق بهم واتصل بجملتهم، ثم صحب جماعة منهم متوجهاً إلى الحج، فعجز في بعض الطريق من مسايرتهم وقصر عن اللحاق فمضوا وتخلف عنهم، فاستند إلى بعض الرمال إرادة الاستراحة من الإعياء، فمر به الشيخ المذكور فقال مخاطباً له: إن الذين بخير كنت أذكرهم ... قضوا عليك وعنهم كنت أنهاكا فقال له الفتى: ما أصنع الآن فقال له: لا تطلبن حياة غير حبهم ... فليس يحييك إلا من توفاكا   (1) هـ: اللقاء. (2) د: المسرفين. (3) زيادة من د وموضعها بياض في ر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 274 قال محمد بن إبراهيم: حضرت وفاة الشبلي فأمسك لسانه وعرق جبينه فأشار إلى وضوء الصلاة فوضأته، وبقي تخليل لحيته، فقبض على يدي وأدخل إصبعي في لحيته يخللها، فبكيت وقلت: رجل لم يذهب عليه تخليل لحيته في الوضوء عند نزع روحه وإمساك لسانه. ودخل عليه أبو الفتح عائداً في مرضه، فسمعه يقول: صح عند الناس أني عاشق ... غير أن لم يعلموا عشقي لمن قال أبو بكر الشبلي: جئت يوماً إلى باب الطاق فرأيت والدة تضرب ولدها، فقلت لها: لهذا حرمة، فقال الصبي: معارضتك بيني وبين والدتي أشد علي من ضربها، أرأيت أحداً يضرب ولده إلا من محبته إياه إنما ضرب الوالدين تأديب وشفقة وفرط محبة، قال الشبلي: فكأني كنت المقصود بهذه المخاطبة، فانصرفت عنهما وأنا أقول: لبيك تصديقاً أيا سيدي ... من الذي يألم من عثرتك] (1) وحكى (2) الخطيب في تاريخه، قال أبو الحسن التميمي: دخلت على أبي بكر في داره يوماً وهو يهيج، ويقول: على بعدك ما يصب ... ر من عادته القرب ولا يقوى على هجر ... ك من تيمه الحب فإن لم ترك العين ... فقد يبصرك القلب (3) وذكر الخطيب أيضاً في ترجمة أبي سعد إسماعيل بن علي الواعظ (4) ما مثاله: وأنشدنا أبو سعد قال: أنشدنا طاهر الخثعمي قال: أنشدني الشبلي لنفسه:   (1) ما بين معقفين زيادة من ر وبعضه في د ولا وجود له في المسودة وسائر النسخ. (2) س: ذكر. (3) إلى هنا انتهت الترجمة في م. (4) ترجمته في تاريخ بغداد 6: 315. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 275 مضت الشبيبة والحبيبة فانبرى ... دمعان في الأجفان يزدحمان ما أنصفتني الحادثات، رمينني ... بمودعين وليس لي قلبان وقال الشبلي أيضاً (1) : رأيت يوم الجمعة معتوهاً عند جامع الرصافة قائماً عريان، وهو يقول: أنا مجنون الله، أنا مجنون الله، فقلت له: لم لا تدخل الجامع وتتوارى وتصلي فأنشد: يقولون زرنا واقض واجب حقنا ... وقد أسقطت حالي حقوقهم عني إذا أبصروا حالي ولم يأنفوا لها ... ولم يأنفوا منها أنفت لهم مني وكانت وفاته يوم الجمعة (2) لليلتين بقيتا من ذي الحجة سنة أربع وثلاثين (3) وثلثمائة ببغداد، ودفن في مقبرة الخيزران، وعمره سبع وثمانون سنة، رحمه الله تعالى، ويقال إنه مات سنة خمس وثلاثين، والأول أصح، ويقال إن مولده بسر من رأى. والشبلي: بكسر الشين وسكون الباء الموحدة وبعدها لام - وهذه النسبة إلى شبلة، وهي قرية من قرى أسروشنة، وأسروشنة بضم الهمزة وسكون السين المهملة وضم الراء وسكون الواو وفتح الشين المعجمة وفتح النون وبعدها هاء ساكنة - وهي بلدة عظيمة وراء سمرقند من بلاد ما وراء النهر. ودُنْباوَنْدُ: بضم الدال المهملة وسكون النون وفتح الباء الموحدة وبعد الألف واو مفتوحة ثم نون ساكنة وبعدها دال مهملة - وهي ناحية من رستاق الري في الجبال، وبعضهم يقول: دماوند، والأول أصح.   (1) سقطت هذه القصة من س. (2) أ: الخميس. (3) أج: 384 (وهو خطأ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 276 حَرفُ الذال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 277 فراغ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 278 230 - (1) ذو القرنين ابن حمدان أبو المطاع ذو القرنين ابن أبي المظفر حمدان بن ناصر الدولة أبي محمد الحسن ابن عبد الله بن حمدان التغلبي الملقب وجيه الدولة - وقد تقدم ذكر جده ناصر الدولة في حرف الحاء، ورفعت هناك في نسبه فأغنى عن إعادته -؛ كان أبو المطاع المذكور شاعراً ظريفاً حسن السبك جميل المقاصد، ومن شعره قوله: إني لأحسد " لا " في أسطر الصحف ... إذا رأيت اعتناق اللام للألف وما أظنهما طال اعتناقهما ... إلا لما لقيا من شدة الشغف وله أيضاً: أفدي الذي زرته بالسيف مشتملاً ... ولحظ عينيه أمضى من مضاربه فما خلعت نجادي في العناق له ... حتى لبست نجاداً من ذوائبه فكان أسعدنا في نيل بغيته ... من كان في الحب أشقانا بصاحبه (2) وأورد له الثعالبي في " اليتيمة " (3) الأبيات التي تقدم ذكرها في ترجمة الشريف أبي القاسم أحمد بن طباطبا العلوي التي أولها: قالت لطيف خيال زارني ومضى ... بالله صفه ولا تنقص ولا تزد   (1) ترجمة ذي القرنين ابن حمدان في معجم الأدباء 4: 201 وتهذيب ابن عساكر 5: 259 والشذرات 3: 238 والنجوم الزاهرة 5: 27. (2) سقط البيت من س. (3) انظر اليتيمة 1: 106 - 107. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 279 وذكر في ترجمة أبي المطاع أنها له وفي ترجمة الشريف أنها له، والله أعلم لمن هي منهما. وله أيضاً: لما التقينا معاً والليل يسترنا ... من جنحة أظلم في طيها نعم بتنا أعف مبيت باته بشر ... ولا مراقب إلا الطرف والكرم فلا مشى من وشى عند العدو بنا ... ولا سعت بالذي يسعى بنا قدم (1) [وله أيضاً: لو كنت ساعة بيننا وما بيننا ... فشهدت حين نكرر التوديعا أيقنت أن من الدموع محدثاً ... وعلمت أن من الحديث دموعا وقوله: ترى الثياب من الكتان يلمحها ... نور من البدر أحياناً فيبليها فكيف تنكر أن تبلى معاجرها ... والبدر في كل وقت طالع فيها وللشريف الرضي في المعنى: كيف لا تبلى غلالته ... وهو بدر وهي كتان] (2) ومن المنسوب إليه (3) : تقول لما رأتني ... نضواً كمثل الخلال هذا اللقاء منام ... وأنت طيف خيال فقلت كلا ولكن ... أساء بينك حالي فليس تعرف مني ... حقيقتي من محالي   (1) ب: القدم. (2) ما بين معقفين زيادة من ر وبعضه في د ولم يرد في ص أو المسودة. (3) سقطت الأبيات من س. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 280 وله أشعار كثيرة حسنة، ولعبد العزيز بن نباته الشاعر المشهور في أبيه مدائح جمة. وتوفي أبو المطاع في صفر سنة ثمان وعشرين وأربعمائة، وكان قد وصل إلى مصر في أيام الظاهر بن الحاكم العبيدي صاحبها، فقلده ولاية الإسكندرية (1) وأعمالها في رجب سنة أربع عشرة وأربعمائة، وأقام بها مقدار سنة، ثم رجع إلى دمشق، هكذا قاله المسبحي في تاريخه.   (1) م: وولاه الإسكندرية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 281 فراغ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 282 حَرف الرَّاء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 283 فراغ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 284 231 - (1) رابعة العدوية أم الخير (2) رابعة ابنة إسماعيل العدوية البصرية مولاة آل عتيك (3) الصالحة المشهورة؛ كانت من أعيان عصرها، وأخبارها في الصلاح والعبادة مشهورة وذكر أبو القاسم القشيري في " الرسالة " (4) أنها كانت تقول في مناجاتها: إلهي تحرق بالنار قلباً يحبك فهتف بها مرة هاتف: ما كنا نفعل هذا، فلا تظني بنا ظن السوء. وقال يوماً عندها سفيان الثوري: واحزناه! فقالت: لا تكذب بل قل واقلة حزناه، لو كنت محزوناً لم يتهيأ لك أن تتنفس. وقال بعضهم: كنت أدعو لرابعة العدوية، فرأيتها في المنام تقول: هداياك تأتينا على أطباق من نور مخمرة بمناديل من نور، وكانت تقول: ما ظهر من أعمالي فلا أعده شيئاً. ومن وصاياها: اكتموا حسناتكم كما تكتمون سيئاتكم (5) . [وقالت لأبيها: يا أبه، لست أجعلك في حل من حرام تطعمنيه، فقال لها: أرأيت إن لم أجد إلا حراماً قالت: نصبر في الدنيا على الجوع خير من أن نصبر في الآخرة على النار. وكانت إذا جن عليها الليل قامت إلى سطح لها ثم نادت: إلهي هدأت الأصوات وسكنت الحركات وخلا كل حبيب بحبيبه، وقد خلوت بك   (1) كتب في ترجمتها الدكتور عبد الرحمن بدوي كتاباً بعنوان " رابعة العدوية شهيدة العشق الإلهي " (ط. القاهرة) وفيه ذكر لمصادر ترجمتها؛ راجع أيضاً إلى الشريشي شارح المقامات 2: 231. (2) أ: الخيزران. (3) ج هـ: عقيل. (4) رسالة القشيري: 264. (5) إلى هنا انتهت الترجمة في س، ولم يزد عليها في المسودة سوى ذكر الوفاة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 285 أيها المحبوب، فاجعل خلوتي منك في هذه الليلة عتقي من النار] (1) . [ولقي سفيان الثوري رابعة - وكانت زرية الحال - فقال لها: يا أم عمرو أرى حالاً رثة فلو أتيت جارك فلاناً لغير بعض ما أرى، فقالت له: يا سفيان وما ترى من سوء حالي ألست على الإسلام فهو العز الذي لا ذل معه والغني الذي لا فقر معه والأنس الذي لا وحشة معه؛ والله إني لأستحيي أن أسأل الدنيا من يملكها فكيف أسألها من لا يملكها فقال سفيان وهو يقول: ما سمعت مثل هذا الكلام. وقالت رابعة لسفيان: إنما أنت أيام معدودة فإذا ذهب يوم ذهب بعضك ويوشك إذا ذهب البعض أن يذهب الكل وأنت تعلم فاعمل. كان أبو سليمان الهاشمي له بالبصرة كل يوم غلة ثمانين ألف درهم، فبعث إلى علماء البصرة يستشيرهم في امرأة يتزوجها فأجمعوا على رابعة العدوية فكتب إليها: أما بعد فإن ملكي من غلة الدنيا في كل يوم ثمانون ألف درهم وليس يمضي إلا قليل حتى أتمها مائة ألف إن شاء الله، وأنا أخطبك نفسك، وقد بذلت لك من الصداق مائة ألف وأنا مصير إليك من بعد أمثالها، فأجيبيني، فكتبت إليه: أما بعد فإن الزهد في الدنيا راحة القلب والبدن، والرغبة فيها تورث الهم والحزن، فإذا أتاك كتابي فهيء زادك وقدم لمعادك، وكن وصي نفسك ولا تجعل وصيتك إلى غيرك، وصم دهرك واجعل الموت فطرك، فما يسرني أن الله خولني أضعاف ما خولك فيشغلني بك عنه طرفة عين والسلام. وقالت امرأة لرابعة: إني أحبك في الله، فقالت لها: أطيعي من أحببتني له. وكانت رابعة تقول: اللهم قد وهبت لك من ظلمني فاستوهبني ممن ظلمته. قال رجل لرابعة: إني أحبك في الله، قالت: فلا تعص الذي أحببتني له] (2) . وأورد لها الشيخ شهاب الدين السهروردي في كتاب " عوارف المعارف ": إني جعلتك في الفؤاد محدثي ... وأبحت جسمي من أراد جلوسي   (1) زيادة من ص. (2) زيادة من ص د، وقد انفردت د منها بأشياء يسيرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 286 فالجسم مني للجليس مؤانس ... وحبيب قلبي في الفؤاد أنيسي (1) وكانت وفاتها في سنة خمس وثلاثين ومائة (2) ، ذكره ابن الجوزي في " شذور العقود " وقال غيره: سنة خمس وثمانين ومائة، رحمهما الله تعالى، وقبرها يزار، وهو بظاهر القدس من شرقيه على رأس جبل يسمى الطور (3) . وذكر ابن الجوزي في كتاب " صفة الصفوة " (4) في ترجمة رابعة المذكورة بإسناد له متصل إلى عبدة (5) بنت أبي شوال - قال ابن الجوزي: وكانت من خيار إماء الله تعالى، وكانت تخدم رابعة - قالت: كانت رابعة تصلي اليل كله، فإذا طلع الفجر هجعت في مصلاها هجعة خفيفة حتى يسفر الفجر، فكنت أسمعها تقول إذا وثبت من مرقدها ذلك وهي فزعة: يا نفس، كم تنامين وإلى كم تقومين يوشك أن تنامي نومة لا تقومين منها، إلا لصرخة (6) يوم النشور، وكان هذا دأبها دهرها حتى ماتت، ولما حضرتها الوفاة دعتني وقالت: يا عبدة لا تؤذني بموتي أحداً، وكفنيني في جبتي هذه، وهي جبة من شعر كانت تقوم فيها إذا هدأت العيون، قالت: فكفناها في تلك الجبة، وفي خمار صوف كانت تلبسه، ثم رأيتها بعد ذلك بسنة أو نحوها في منامي عليها حلة إستبرق خضراء وخمار من سندس أخضر لم ار شيئاً قط أحسن منه، فقلت: يا رابعة، ما فعلت بالجبة التي كفناك فيها والخمار الصوف قالت: إنه والله نزع عني وأبدلت به ما ترينه علي، فطويت أكفاني وختم عليها، ورفعت في عليين ليكمل لي بها ثوابها يوم القيامة، فقلت لها: لهذا كنت تعملين أيام الدنيا، فقالت: وما هذا عندما رأيت من كرامة الله عز وجل لأوليائه فقلت لها: فما فعلت عبيدة (7) بنت أبي كلاب فقالت: هيهات هيهات سبقتنا والله إلى   (1) ص: جليسي. (2) إلى هنا انتهت الترجمة في م. (3) إلى هنا انتهت الترجمة في ر. (4) صفة الصفوة 4: 19. (5) هـ: عبيدة. (6) أهـ: بصرخة. (7) هـ: عبدة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 287 الدرجات العلا، فقلت: وبم وقد كنت عند الناس، أي أكبر منها قالت: إنها لم تكن تبالي على أي حال أصبحت من الدنيا وأمست، فقلت لها: فما فعل أبو مالك أعني ضيغماً، قالت: يزور الله عز وجل متى شاء، قلت: فما فعل بشر بن منصور قالت: بخ بخ، أعطي والله فوق ما كان يؤمل، قلت: فمريني بأمر أتقرب به إلى الله عز وجل، قالت: عليك بكثرة ذكره، يوشك أن تغتبطي بذلك في قبرك، رحمهما الله تعالى. 232 - (1) ربيعة الرأي أبو عثمان ربيعة بن أبي عبد الرحمن فروخ، مولى آل المنكدر التيميين - تيم قريش - المعروف بربيعة الرأي، فقيه أهل المدينة؛ أدرك جماعة من الصحابة رضي الله عنهم، وعنه أخذ مالك بن أنس رضي الله عنه. قال بكر بن عبد الله الصنعاني: أتينا مالك بن أنس، فجعل يحدثنا عن ربيعة الرأي، فكنا نستزيده من حديث ربيعة، فقال لنا ذات يوم: ما تصنعون بربيعة وهو نائم في ذاك الطاق فأتينا ربيعة فأنبهناه وقلنا له: أنت ربيعة قال: نعم، قلنا: أنت الذي يحدث عنك مالك بن أنس قال: نعم، فقلنا: كيف حظي بك مالك وانت لم تحظ بنفسك قال: أما علمتم أن مثقالاً من دولة (2) خير من حمل علم وكان ربيعة يكثر الكلام ويقول: الساكت بين النائم والأخرس. وكان   (1) ترجمة ربيعة الرأي في تاريخ بغداد 8: 420 وتهذيب التهذيب 2: 258 وتذكرة الحفاظ: 157 وميزان الاعتدال 2: 44 وصفة الصفوة 2: 83 والمعارف: 496 وعبر الذهبي 1: 183 وطبقات الشيرازي، الورقة: 15. (2) ج: حظ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 288 يوماً في مجلسه وهو يتكلم، فوقف عليه أعرابي دخل من البادية فأطال الوقوف والإنصات إلى كلامه، فظن ربيعة أنه قد أعجبه كلامه، فقال له: يا أعرابي، ما البلاغة عندكم فقال: الإيجاز مع إصابة المعنى، فقال: وما العي فقال: ما أنت فيه منذ اليوم، فخجل ربيعة (1) . [قال عبد الوهاب بن عطاء الخفاف: حدثني مشايخ أهل المدينة أن فروخاً أبا عبد الرحمن بن ربيعة خرج في البعوث إلى خراسان أيام بني أمية غازياً وربيعة حمل في بطن أمه، وخلف عند زوجته أم ربيعة ثلاثين ألف دينار، فقدم المدينة بعد سبع وعشرين سنة وهو راكب فرساً وفي يده رمح، فنزل ودفع الباب برمحه فخرج ربيعة، وقال: يا عدو الله، أتهجم على منزلي فقال فروخ: يا عدو الله، أنت دخلت على حرمي، فتؤاثبا وتلبب كل واحد منهما بصاحبه حتى اجتمع الجيران، فبلغ مالك بن أنس والمشيخة فأتوا يعينون ربيعة، فجعل ربيعة يقول: والله لا فارقتك إلا عند السلطان، وعل فروخ يقول: والله لا فارقتك إلا بالسلطان وأنت مع امرأتي؛ وكثر الضجيج، فلما أبصروا بمالك سكتوا، فقال مالك: أيها الشيخ، لك سعة في غير هذه الدار، فقال الشيخ: هي داري وأنا فروخ، فسمعت امرأته كلامه فخرجت وقالت: هذا زوجي، وهذا ابني الذي خلفه وأنا حامل به، فاعتنقا جميعاً وبكيا. فدخل فروخ المنزل وقال: هذا ابني فقالت: نعم، قال: أخرجي المال الذي لي عندك وهذه معي أربعة آلاف دينار، قالت: قد دفنته وأنا أخرجه بعد أيام، ثم خرج ربيعةإلى المسجد وجلس في حلقته، فأتاه مالك والحسن بن زيد وابن أبي علي اللهبي والمساحقي وأشراف أهل المدينة وأحدق الناس به، فقالت امرأته لزوجها فروخ: اخرج فصل في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلمن فخرج فنظر إلى حلقة وافرة فأتاها فوقف عليها فأخرجوا له قليلاً فنكس ربيعة رأسه يوهمه أنه يره، وعليه دنية طويلة، فشك أبوه فيه، فقال: من هذا الرجل فقالوا: هذا ربيعة بن أبي عبد الرحمن، فقال: فقد رفع الله ابني، ورجع إلى   (1) لم يزد في م على هذا القدر من ترجمته سوى ذكر وفاته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 289 منزله، وقال لوالدته: لقد رأيت ولدك على حالة ما رأيت أحداً من أهل العلم والفقه عليها، فقالت أمه: فأيما أحب إليك ثلاثون ألف دينار أو هذا الذي هو فيه فقال: لا والله بل هذا، فقالت: فإني أنفقت المال كله عليه، قال: فو الله ما ضيعته. وقال معاذ بن معاذ: سمعت سوار ابن عبد الله يقول: ما رأيت أحداً أعلم من ربيعة الرأي، قلت: ولا الحسن وابن سيرين قال: ولا الحسن وابن سيرين، وما كان بالمدينة رجل أسخى بما في يديه لصديق أو غيره من ربيعة الرأي، أنفق على إخوانه أربعين ألف درهم، ثم جعل يسأل إخوانه، فقيل له: أذهبت مالك وأنت تخلق جاهك، فقال: لا يزال هذا دأبي ما وجدت أحداً يغبطني على جاهي] (1) . وكانت وفاته في سنة ست وثلاثين، وقيل سنة ثلاثين ومائة بالهاشمية، وهي مدينة بناها السفاح بأرض الأنبار وكان يسكنها، ثم انتقل إلى الأنبار رحمه الله تعالى. وقال مالك بن أنس: ذهبت حلاوة الفقه منذ مات ربيعة الرأي. قلت: ولا يمكن الجمع بين قول من يقول إنه توفي سنة ثلاثين ومائة وإنه دفن بالهاشمية التي بناها السفاح، لأن السفاح ولي الخلافة يوم الجمعة لثلاث عشرة ليلة خلت من ربيع الآخر سنة اثنتين وثلاثين ومائة، كذا نقله أرباب التواريخ واتفقوا عليه، فتأمله.   (1) ما بين معقفين زيادة من ر متقدمة على موضعها هنا، ومن ص. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 290 233 - (1) الربيع بن سليمان المرادي أبو محمد الربيع بن سليمان بن عبد الجبار بن كامل المرادي بالولاء المؤذن المصري، صاحب الإمام الشافعي؛ وهو الذي روى أكثر كتبه، وقال الشافعي في حقه: الربيع راويتي، وقال: ما خدمني أحد ما خدمني الربيع، وكان يقول له: يا ربيع، لو أمكنني أن أطعمك العلم لأطعمتك. ويحكى عنه أنه قال: دخلت على الشافعي رضي الله عنه عند وفاته، وعنده البويطي والمزني وابن عبد الحكم، فنظر إلينا ثم قال: أما أنت يا أبا يعقوب - يعني البويطي - فتموت في حديدك، وأما أنت يا مزني فستكون لك في مصر هنات وهنات، ولتدركن زماناً تكون فيه أقيس أهل زمانك، وأما أنت يا محمد - يعني ابن عبد الحكم - فترجع إلى مذهب مالك، وأما أنت يا ربيع فأنت أنفعهم لي في نشر الكتب، قم يا أبا يعقوب فتسلم الحلقة. قال الربيع: فلما مات الشافعي رضي الله عنه صار كل واحد منهم إلى ما قاله، حتى كأنه ينظر إلى الغيب من ستر رقيق. وحكى الخطيب في تاريخه في ترجمة البويطي (2) : قال الربيع بن سليمان المرادي: كنا جلوساً بين يدي الشافعي رضي الله عنه أنا والبويطي والمزني، فنظر إلى البويطي فقال: ترون هذا إنه لن يموت إلا في حديده، ثم نظر إلى المزني فقال: ترون هذا أما إنه سيأتي عليه زمان لا يفسر شيئاً فيخطئه، ثم نظر إلي فقال: أما إنه ما في القوم أحد أنفع لي منه، ولوددت أني حشوته العلم حشواً. والربيع هذا آخر من روى عن الشافعي بمصر.   (1) ترجمة الربيع بن سليمان المرادي في تهذيب التهذيب 3: 245 وطبقات الشيرازي، الورقة: 27 وطبقات السبكي 1: 259. (2) لم ترد هذه الفقرة في س م؛ وانظر تاريخ بغداد 14: 299. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 291 ورأيت بخط الحافظ زكي الدين عبد العظيم المنذري المصري شعراً للربيع المذكور: صبراً جميلاً ما أسرع الفرجا ... من صدق الله في الأمور نجا من خشي الله لم ينله أذى ... ومن رجا الله كان حيث رجا وتوفي الربيع يوم الاثنين لعشر بقين من شوال سنة سبعين ومائتين بمصر، ودفن بالقرافة مما يلي الفقاعي في بحريه في حجرة هناك، وعند رأسه بلاطة رخام فيها اسمه وتاريخ وفاته، رحمه الله تعالى. والمرادي - بضم الميم وفتح الراء وبعد الألف دال مهملة - هذه النسبة إلى مراد، وهي قبيلة كبيرة باليمن خرج منها خلق عظيم. 234 - (1) الربيع بن سليمان الجيزي أبو محمد الربيع بن سليمان بن داود بن الأعرج الأزدي بالولاء المصري الجيزي صاحب الشافعي رضي الله عنه؛ لكنه كان قليل الرواية عنه، وإنما روى عن عبد الله بن عبد الحكم كثيراً، وكان ثقة، وروى عنه أبو داود والنسائي. [قيل: إنه اجتاز يوماً بمصر، فطرحت عليه إجانة رماد، فنزل عن دابته وجعل ينفضه عن ثيابه ولم يقل شيئاً، فقيل له: ألا تزجرهم فقال: من استحق النار وصولح بالرماد فقد ربح] (2) . وتوفي في ذي الحجة سنة ست وخمسين ومائتين بالجيزة، وقبره بها، كذا   (1) ترجمة الربيع بن سليمان الأزدي في طبقات الشيرازي، الورقة: 27 وترتيب المدارك 3: 86 وطبقات السبكي 1: 259. (2) ما بين معقفين زيادة من د وحدها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 292 قاله القضاعي في " الخطط "، رحمه الله تعالى. والأزدي: قد تقدم الكلام فيه. والجيزي (1) - بكسير الجيم وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها زاي - هذه النسبة إلى الجيزة، وهي بليدة في قبالة مصر يفصل بينهما عرض الغيل، والأهرام في عملها وبالقرب منها، وهي من عجائب الأبنية قال بعض الحكماء: ما على وجه الأرض بنية إلا وأنا أرثي لها من الليل والنهار، إلا الهرمين فأنا أرثي لليل والنهار منهما. ولأبي الطيب المتنبي فيهما: أين الذي الهرمان من بنيانه ... ما قومه ما يومه ما المصرع تتخلف الآثار عن أصحابها ... حيناً ويدركها الفناء فتتبع وزعم قوم أن الأهرام قبور ملوك عظام آثروا أن يتميزوا بها على سائر الملوك بعد مماتهم كما تميزوا عليهم في حياتهم، وتوخوا أن يبقى ذكرهم بسببها على تطاول الدهور وتراخي العصور. ولما وصل الخليفة المأمون إلى مصر أمر ينقب الهرمين، فنقب أحدهما بعد جهد شديد وعناء طويل، فوجدوا داخله مراقي ومهاوي يهول أمرها ويعسر السلوك فيها، ووجدوا في أعلاها بيتاَ مكعباً طول كل ضلع من أضلاعه نحو من ثمانية أذرع وفي وسطه حوض رخام مطبق فيه رمة بالية، وقد أتت عليها العصور، فكف عن نقب ما سواه، وكانت النفقة على نقبه عظيمة، والمؤونة شديدة. ومن الناس من زعم أن هرمس الأول المدعو بالمثلث بالنبوة والملك والحكمة وهي الذي يسميه العبرانيون خنوخ - وهو إدريس عليه السلام - استدل من أحوال الكواكب على الطوفان، فأمر ببناء الأهرام وإيداعها ما يشفق عليه من الذهاب؛ وقيل بانيها سورند لرؤيا رآها وهي أن آفة تنزل من السماء وهي الطوفان؛ ويقال: إنه بناها في مدة ستة أشهر، وغشاها بالديباج الملون،   (1) من هنا حتى آخر الترجمة لم يرد في م. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 293 وكتب عليها: قد بنيناها في ستة أشهر، قل لمن يأتي بعدنا يهدمها في ستمائة سنة، والهدم أيسر من البنيان، وكسوناها الديباج الملون فليكسها حصراً، والحصر أهون من الديباج. وبالجملة فالأمر فيها عجيب جداً، والله أعلم] (1) . 235 - (2) الربيع بن يونس أبو الفضل الربيع بن يونس بن محمد بن عبد الله بن أبي فروة - واسمه كيسان - مولى الحارث الحفار، مولى عثمان بن عفان رضي الله عنه؛ كان الربيع المذكور حاجب أبي جعفر المنصور، ثم وزر له بعد أبي أيوب المورياني - الآتي ذكره في حرف السين إن شاء الله تعالى - وكان كثير الميل إليه حسن الاعتماد عليه؛ قال له يوماً: يا ربيع، سل حاجتك، قال: حاجتي يا أمير المؤمنين أن تحب الفضل ابني، فقال له: ويحك! إن المحبة تقع بأسباب، فقال له: قد أمكنك الله من إيقاع سببها، قال: وما ذاك قال: تفضل عليه، فإنك إذا فعلت ذلك أحبك وإذا أحبك أحببته، قال: قد والله حببته إلي قبل إيقاع السبب، ولكن كيف اخترت له المحبة دون كل شيء قال: لأنك إذا أحببته كبر عندك صغير إحسانه، وصغر عندك كبير إساءته، وكانت ذنوبه كذنوب الصبيان، وحاجته إليك حاجة الشفيع العريان. أشار بقوله " الشفيع العريان " إلى قول الفرزدق الشاعر: ليس الشفيع الذي يأتيك متزراً ... مثل الشفيع الذي يأتيك عريانا   (1) هذه الزيادة من ر وحدها. (2) ترجمة الربيع حاجب المنصور في تاريخ بغداد 8: 414 والجهشياري: 125 وتهذيب ابن عساكر 5: 308، هذا إلى ما ورد عنه في كتب التاريخ العامة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 294 وهذا البيت من جملة أبيات في عبد الله بن الزبير بن العوام لما طلب الخلافة لنفسه واستولى على الحجاز والعراق في أيام عبد الملك بن مروان الأموي، وكان قد اختصم الفرزدق وزوجته النوار، فمضيا من البصرة إلى مكة، ليفصل الحكم بينهما عبد الله بن الزبير، فنزل الفرزدق عند حمزة بن عبد الله، ونزلت النوار عند زوجة عبد الله، وشفع كل واحد منهما لنزيله، فقضى عبد الله للنوار وترك الفرزدق، فقال الأبيات المذكورة، فصار الشفيع العريان مثلاً يضرب لكل من تقبل شفاعته. [وكان أبو جعفر إذا أراد بإنسان خيراً أمر بتسليمه إلى الربيع، وإذا أراد به شراً سلمه للمسيب، فكتب عامل فلسطين يذكر أن بعض أهلها وثب واستغوى جماعة وعاب في العمل، فكتب إليه أبو جعفر: دمك بواء بدمه إلى أن توجه به إلي، فأخذه ووجه به إليه، فلما دخل عليه قال: أنت المتوثب على عامل أمير المؤمنين لأنثرن من لحمك أكثر ما بقي منه على عظمك، فقال له بصوت ضئيل، وكان شيخاً كبيراً: أتروض عرسك بعد ما هرمت ... ومن العناء رياضة الهرم فقال أبو جعفر: يا ربيع، ما يقول: يقول: العبد عبدكم والمال مالكم ... فهل عذابك عني اليوم مصروف فقال: قد عفوت عنه، فخلى سبيله وأحسن إليه. وهذا الشعر لسحيم عبد بني الحسحاس] (1) . وقال له المنصور يوماً: ويحك يا ربيع، ما أطيب الدنيا لولا الموت! فقال له: ما طابت إلا بالموت، قال: وكيف ذاك قال: لولا الموت لم تقعد هذا المقعد، قال: صدقت. وقال له المنصور لما حضرته الوفاة: يا ربيع، بعنا الآخرة بنومة.   (1) زيادة من د وحدها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 295 وقال الربيع: كنا يوماً وقوفا على رأس المنصور وقد طرحت لولده المهدي - وهو يومئذ ولي عهده - وسادة إذ أقبل صالح بن المنصور، وكان قد رشحه أن يوليه بعض أموره، فقام بين السماطين، والناس على قدر أنسابهم ومراتبهم، فتكلم فأجاد، فمد المنصور يده إليه، وقال: إلي يا بني، واعتنقه، ونظر إلى وجوه الناس، هل فيهم من يذكر مقامه ويصف فضله فكلهم كرهوا ذلك بسبب المهدي خيفةً منه، فقام شبة بن عقال التميمي (1) ، فقال: لله در خطيب قام عندك يا أمير المؤمنين، ما أفصح لسانه، وأحسن بيانه، وأمضى جنانه، وأبل ريقه، وأسهل طريقه، وكيف لا يكون كذلك، وأمير المؤمنين أبوه، والمهدي أخوه وهو كما قال الشاعر (2) : هو الجواد فإن يلحق بشأوهما ... على تكاليفه فمثله لحقا أو يسبقاه على ما كان من مهل ... فمثل ما قدما من صالح سبقا فعجب من حضر بجمعه بين المدحين وإرضائه المنصور وخلاصه من المهدي؛ قال الربيع: فقال لي المنصور: لا يخرج التميمي إلا بثلاثين ألف درهم، فلم يخرج إلا بها. ويقال: إن الربيع لم يكن له أب يعرف، وإن بعض الهاشميين دخل على المنصور وجعل يحدثه، ويقول: كان أبي رحمه الله تعالى، وكان، وأكثر من الترحم عليه، فقال له الربيع: كم تترحم على أبيك بحضرة أمير المؤمنين فقال له الهاشمي: انت معذور يا ربيع، لأنك لا تعرف مقدار الآباء، فخجل منه. ولما دخل أبو جعفر المنصور المدينة، قال للربيع: ابغني رجلاً عاقلاً عالماً ليقفني على دورها، فقد بعد عهدي بديار قومي، فالتمس له الربيع فتى من أعلم الناس وأعقلهم، فكان لا يبتدئ بالإخبار عن شيء حتى يسأله المنصور،   (1) ورد هذا في البيان 1: 352 منسوباً إلى شبيب بن شيبة المنقري الخطيب. (2) الشعر لزهير بن أبي سلمى؛ ديوانه: 51. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 296 فيجيبه بأحسن عبارة وأجود بيان وأوفى معنى، فأعجب المنصور به، فأمر له بمال فتأخر عنه، ودعته الضرورة إلى استنجازه، فاجتاز ببيت عاتكة بنت عبد الله بن أبي سفيان (1) الأموي، فقال: يا أمير المؤمنين، هذا بيت عاتكة، الذي يقول فيه الأحوص بن محمد بن محمد الأنصاري (2) : يا بيت عاتكة الذي أتعزل ... حذر العدا وبه الفؤاد موكل إني لأمنحك الصدود وإنني ... قسماً إليك مع الصدود لأميل ففكر المنصور في قوله، وقال: لم يخالف عادته بابتداء الإخبار دون الاستخبار غلا الأمر، وأقبل يردد القصيدة ويتصفحها شيئاً فشيئاً حتى انتهى إلى قوله فيها: وأراك تفعل ما تقول وبعضهم ... مذق الحديث (3) يقول ما لا يفعل فقال المنصور: يا ربيع، هل أوصلت إلى الرجل ما أمرنا له به قال: تأخر عنه لعلة ذكرها الربيع، فقال: عجله له مضاعفاً، وهذا ألطف تعريض من الرجل، وحسن فهم من المنصور (4) . [وكان يقول: من كلم الملوك في الحاجات في غير أوقاتها لم يظفر ببغيته، وما أشبه الحال في ذلك إلا بأوقات الصلاة، فإن الصلاة لا تقبل إلا فيها، فمن أراد خطاب الملوك فليختر لذلك الوقت المنجح الذي يصلح فيه ذكر ما أراد ليصح النجح، وإلا فلا] (5) . [وحكت فائقة بنت عبد الله أم عبد الواحد بن جعفر بن سليمان، قالت: كنا يوماً عند المهدي أمير المؤمنين، وكان قد خرج متنزهاً إلى الأنبار، إذ   (1) أج: بنت يزيد بن معاوية. (2) انظر الأغاني 21: 106 وما بعدها. (3) ر: اللسان. (4) هنا تنتهي ما في نسخة م، ولا زيادة سوى ذكر تاريخ وفاته وما ورد في آخر الترجمة عن جده وعن قطيعة الربيع. (5) ورد في د وحدها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 297 دخل عليه الربيع، ومعه قطعة من جراب فيه كتابة برماد وخاتم من طين قد عجن بالرماد وهو مطبوع بخاتم الخلافة، فقال: يا أمير المؤمنين، وما رأيت أعجب من هذه الرقعة، جاءني بها رجل أعرابي، وهو ينادي: هذا كتاب أمير المؤمنين، دلوني على هذا الرجل الذي يسمى الربيع، فقد أمرني أن أدفعها إليه، وهذه هي الرقعة؛ فأخذها المهدي وضحك وقال: صدقت، هذا خطي وهذا خاتمي، أفلا أخبركم بالقصة كيف كانت قلنا: أمير المؤمنين أعلى رأياً في ذلك، فقال: خرجت أمس إلى الصيد في غب سماء، فلما أصبحت هاج علينا ضباب شديد وفقدت أصحابي حتى ما رأيت منهم أحداً، وأصابني من البرد والجوع والعطش ما الله به أعلم، وتحيرت عند ذلك فذكرت دعاء سمعته من أبي، يحكيه عن أبيه عن جده عن ابن عباس - رضى الله عنهما - رفعه، قال: من قال إذا أصبح وإذا أمسى " بسم الله وبالله ولا حول ولا قوة إلا بالله، اعتصمت بالله وتوكلت على الله، حسبي الله، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم " وقي وكفي وهدي وشفي من الحرق والغرق والهدم وميتة السوء، فلما قلتها، رفع الله لي ضوء نار، فقصدتها فإذا بهذا الأعرابي في خيمة له، وإذا هو يوقد ناراً بين يديه، فقلت له: أيها الأعرابي، هل من ضيافة فقال: انزل، فنزلت، فقال لزوجته: هاتي ذلك الشعير، فأتت به، فقال: اطحنيه، فابتدأت تطحنه، فقلت له: اسقني ماء، فأتى بسقاء فيه مذقة لبن أكثرها ماء، فشربت منها شربة ما شربت شيئاً قط إلا وهي أطيب منه، وأعطاني حلساً له فوضعت رأسي عليه، فنمت نومة ما نمت أطيب منها وألذ، ثم انتبهت، فإذا هو قد وثب إلى شويهة فذبحها، وإذا امرأته تقول له: ويحكّ قتلت نفسك وصبيتك، إنما كان معاشكم من هذه الشاة، فذبحتها فبأي شيء نعيش قال: فقلت: لا عليك، هات الشاة، فشققت جوفها، واستخرجت كبدها بسكين كانت في خفي، فشرحتها ثم طرحتها على النار وأكلتها، ثم قلت له: هل عندك شيء أكتب لك فيه فجاءني بهذه القطعة من جراب، وأخذت عوداً من الرماد الذي بين يديه، وكتبت له هذا الكتاب، وختمته بهذا الخاتم، وأمرته أن يجيء ويسأل عن الربيع فيدفعها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 298 إليه، فإذا في الرقعة خمسمائة ألف درهم، فقال: والله ما أردت إلا خمسين ألف درهم، ولكن جرت بخمسمائة ألف درهم، لا أنقص والله منها درهماً واحداً، ولو لم يكن في بيت المال غيرها؛ احملوها معه، فما كان إلا قليل حتى كثرت إبله وشاؤه، وصار منزلاً من المنازل ينزله الناس ممن اراد الحج، وسمي منزل مضيف أمير المؤمنين المهدي] (1) . [وقال أبان بن صدقة: كنت أخلف الربيع على كتبه للمنصور، فدخلت يوماً وعلي خز أسود جديد والمنصور في قباء خز خلق، فجعل ينظر إلي فضاقت علي الدنيا، وخرج الربيع فقلت إني أخطأت خطأً عظيماً، وعرفته الخبر فقال: ما ذاك إلا لخير فلا يحزنك، فلما كان من غد دخلت في قباء خز خلق فقال لي المنصور: أما عندك أحسن من هذا تلبسه أمام المنصور قلت: بلى، ولكن رأيت أمير المؤمنين لبس قباء خلقاً وكان علي قباء جديد فضاقت علي الرض إذ لبست أفضل من لباسه، فقال: لا تفعل، ألبس خير ما عندك في خدمتي ليتبين الناس إحساني إليك ولا تلبس مثل هذا فيظن بي إساءة إليك، فإن الناس يعلمون أني أقدر على أشرف اللباس وإن لم ألبس وأنت فلا يظن ذلك بك، قال: فعلمت أن الربيع أعقل الناس وأعلمهم بأخبار أمير المؤمنين] (2) . وكانت وفاة الربيع في أول سنة سبعين ومائة. وقال الطبري: مات الربيع في سنة تسع وستين ومائة. وقيل إن الهادي سمه، وقيل مرض ثمانية أيام ومات، والله أعلم، رحمه الله تعالى. وإنما قيل لجده " أبو فروة لأنه أدخل المدينة وعليه فروة، فاشتراه عثمان رضي الله عنه وأعتقه، وجعل يحفر القبور، وكان من سبي جبل الخليل صلى الله عليه وسلم - وسيأتي ذكر ولده الفضل إن شاء الله تعالى -. وقطيعة الربيع منسوبة إليه، وهي محلة كبيرة مشهورة ببغداد، وإنما قيل لها قطيعة الربيع لأن المنصور أقطعه إياها.   (1) ما بين معقفين زيادة من ر وحدها. (2) زيادة من د وحدها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 299 236 - (1) ربعي بن حراش ربعي بن حراش بن جحش بن عمرو بن عبد الله بن نجار بن عبد مالك بن غالب بن قطيعة بن عبس بن بغيض بن ريث بن غطفان بن قيس بن عيلان بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان العبسي الكوفي؛ روى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه [وعلي بن أي طالب] وحذيفة بن اليمان وابي بكرة وعمران بن الحصين رضي الله عنهم. حدث عنه عامر الشعبي وعبد الملك بن عمير ومنصور بن المعتمر وأبو مالك الأشجعي [وغيرهم] . وكان ثقة، وهو أخو مسعود وربيع ابني حراش، ورد المدائن غير مرة في حياة حذيفة وبعده. قال أبو مسلم صالح بن عبد الله العجلي: حدثني أبي قال: ربعي بن حراش كوفي تابعي ثقة؛ يقال إنه لم يكذب قط، وكان له ابنان عاصيان زمن الحجاج، فقيل للحجاج: إن أباهما لا يكذب قط، ولو أرسلت إليه فسألته عنهما، فأرسل إليه فقال له: أين ابناك قال: هما في البيت، قال: قد عفونا عنهما لصدقك. وكان ربعي بن حراش آلى ألا تفتر أسنانه بالضحك حتى يعلم أين مصيره، فما ضحك إلا بعد موته؛ وكان أخوه ربيع بعده آلى ألا يضحك حتى يعلم أفي الجنة هو أم في النار؛ قال الحارث الغنوي: فأخبرني غاسله أنه لم يزل مبتسماً على سريره ونحن نغسله حتى فرغنا منه. قال سعيد بن جميل العبسي: رأيت ربعي بن حراش رجلاً أعور.   (1) ترجمة ربعي بن حراش في طبقات ابن سعد 6: 127 وتهذيب ابن عساكر 5: 297 وتهذيب التهذيب 3: 236 وتاريخ بغداد 8: 433 وحلية الأولياء 4: 367؛ ووردت ترجمته في ر، ووقعت في ص بعد ترجمة روح بن حاتم، ولم ترد في المسودة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 300 مات سنة أربع ومائة، وصلى عليه عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد، وذلك في ولاية عمر بن عبد العزيز، رحمه الله تعالى. 237 - (1) رجاء بن حيوة أبو المقدام رجاء بن حيوة بن جرول الكندي؛ كان من العلماء، وكان يجالس عمر بن عبد العزيز؛ ذكر أنه بات ليلة عنده فهم السراج أن يخمد، فقال إليه ليصلحه، فأقسم عليه عمر ليقعدن، وقام هو إليه فأصلحه؛ قال: فقلت له: تقوم أنت يا أمير المؤمنين فقال: قمت وأنا عمر بن عبد العزيز ورجعت وأنا عمر بن عبد العزيز. [قال: وأمرني عمر بن عبد العزيز أن أشتري له ثوباً بستة دراهم، فأتيته به فجسه وقال: هو على ما أحب لولا أن فيه ليناً، قال: فبكيت، قال: فما يبكيك قال: أتيتك وأنت أمير بثوب بستمائة درهم، فجسسته وقلت: هو على ما أحب لولا أن فيه خشونة، وأتيتك وأنت أمير المؤمنين بثوب بستة دراهم، فجسسته وقلت: هو على ما أحب لولا أن فيه ليناً، فقال: يا رجاء إن لي نفساً تواقة تاقت إلى فاطمة بنت عبد الملك فتزوجتها، وتاقت إلى الإمارة فوليتها، وتاقت إلى الخلافة فأدركتها، وقد تاقت إلى الجنة فأرجو أن أدركها إن شاء الله عز وجل] (2) .   (1) ترجمة رجاء بن حيوة في تهذيب التهذيب 3: 265 وحلية الأولياء 5: 170 وتذكرة الحفاظ: 118 وصفة الصفوة 4: 186 والمعارف: 274 وطبقات الشيرازي، الورقة: 19 وترد أخباره حيث وردت سيرة عمر بن عبد العزيز في الكتب التاريخية وفي سيرة عمر لابن الجوزي وابن عبد الحكم وطبقات ابن سعد. (2) زيادة من د وحدها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 301 وقال: قومت ثياب عمر بن عبد العزيز وهو يخطب باثني عشر درهماً، وكانت قباء وعمامة وقميصاً وسراويل ورداء وخفين وقلنسوة؛ وله معه أخبار وحكايات. وكان يوماً عند عبد الملك بن مروان، وقد ذكر عنده شخص بسوء، فقال عبد الملك: والله لئن أمكنني الله منه لأفعلن به ولأصنعن، فلما أمكنه الله منه هم بإيقاع الفعل به، فقام إليه رجاء بن حيوة المذكور فقال: يا أميرالمؤمنين قد صنع الله لك ما أحببت فاصنع ما يحب الله من العفو، فعفا عنه وأحسن إليه. [ولما حضر أيوب بن سليمان بن عبد الملك الوفاة - وكان ولي عهد أبيه - دخل عليه أبوه وهو يجود بنفسه، ومعه عمر بن عبد العزيز وسعيد بن عقبة ورجاء بن حيوة، فجعل سليمان ينظر في وجه أيوب، فخنقته العبرة، ثم قال: إنه ما يملك العبد نفسه أن يسبق إلى قلبه الوجد عند المصيبة، والناس في ذلك أصناف: فمنهم المحتسب، ومنهم من يغلب صبره جزعه فذلك الجلد الحازم، ومنهم من يغلب جزعه صبره فذلك المغلوب الضعيف، وإني أجد في قلبي لوعة إن أنا لم أبردها خفت أن تنصدع كبدي كمداً، فقال له عمر: يا أمير المؤمنين، الصبر أولى بك فلا يحبطن أجرك. وقال سعيد بن عقبة: فنظر إلي وإلى رجاء بن حيوة نظر مستغيث يرجو أن نساعده على ما أدركه من البكاء، فأما أنا فكرهت أن آمره أو أنهاه، وأما رجاء فقال: يا أمير المؤمنين، إني لا أرى بذلك بأساً ما لم يأت الأمر المفرط، وإني قد بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم لما مات ابنه إبراهيم دمعت عيناه، فقال: " تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضي الرب، وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون "، فبكى سليمان حتى اشتد بكاؤه، فظننا أن نياط قلبه قد انقطع، فقال عمر بن عبد العزيز لرجاء بن حيوة: بئس ما صنعت بأمير المؤمنين، فقال: دعه يا أبا حفص يقضي من بكائه وطراً، فإنه لو لم يخرج من صدره ما ترى خفت أن يأتي عليه، ثم أمسك عن البكاء، ودعا بماء فغسل وجهه، وقضى الفتى، فأمر بجهازه، وخرج يمشي أمام جنازته، فلما دفن وقف ينظر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 302 إلى قبره، ثم قال: وقفت على قبر مقيم بقفرة ... متاع قليل من حبيب مفارق ثم قال: السلام عليك يا أيوب، وقال: كنت لنا أنساً ففارقتنا ... فالعيش من بعدك مر المذاق ثم قال: يا غلام أدن دابتي مني، فركب وعطف دابته إلى القبر، وقال: فإن صبرت فلم ألفظك من شبع ... وإن جزعت فعلق منفس ذهبا فقال عمر: بل الصبر أقرب إلى الله عز وجل، قال: صدقت، وانصرف] (1) . وكانت وفاته سنة اثنتي عشرة ومائة، وكان رأسه أحمر ولحيته بيضاء، رحمه الله تعالى. وحيوة: بفتح الحاء المهملة وسكون الياء المثناة من تحتها وفتح الواو وبعدها هاء ساكنة. 238 - (2) رؤبة بن العجاج أبو محمد رؤبة بن العجاج - والعجاج لقب واسمه: أبو الشعثاء (3) عبد الله - ابن رؤبة البصري التميمي السعدي؛ وهو وأبوه راجزان مشهوران، كل منهما   (1) زيادة من د وحدها. (2) ترجمة رؤبة بن العجاج في الشعر والشعراء: 495 والخزانة 1: 43 والمؤتلف والمختلف: 175 ولسان الميزان 2: 464 وقد نشر ديوانه وليم بن الورد البروسي (سنة 1903) ؛ والترجمة موجزة جدا في م. (3) أج: البيضاء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 303 له ديوان رجز ليس فيه شعر سوى الأراجيز، وهما مجيدان في رجزهما، وكان بصيراً باللغة بحوشيها وغريبها. حكى (1) يونس بن حبيب النحوي قال: كنت عند أبي عمرو ابن العلاء، فجاءه شبيل بن عزرة الضبعي (2) ، فقام إليه أبو عمرو وألقى إليه لبد بغلته، فجلس عليه ثم أقبل عليه يحدثه، فقال شبيل: يا أبا عمرو، سألت رؤبتكم عن اشتقاق اسمه فما عرفه، يعني رؤبة. قال يونس: فلم أملك نفسي عند ذكره، فقلت له: لعلك تظن أن معد بن عدنان أفصح منه ومن أبيه أفتعرف أنت ما الروبة، والروبة، والروبة، والروبة، والرؤبة وانا غلام رؤبة، فلم يحر جواباً، وقام مغضباً، فأقبل علي أبو عمرو وقال: هذا رجل شريف، يقصد مجالستنا ويقضي حقوقنا، وقد أسأت فيما فعلت مما واجهته به، فقلت: لم أملك نفسي عند ذكره رؤبة. فقال أبو عمرو: أو قد سلطت على تقويم الناس ثم فسر يونس ما قاله فقال: الروبة: خميرة اللبن؛ والروبة: قطعة من الليل؛ والروبة: الحاجة، يقال: فلان لا يقوم بروبة أهله: أي بما أسندوا إليه من حوائجهم؛ والروبة: جمام ماء الفحل، والرؤبة - بالهمزة - القطعة التي يشعب بها الإناء، والجميع بسكون الواو وضم الراء التي قبلها، إلا رؤبة فإنها بالهمز. وكان رؤبة يأكل الفأر، فعوتب في ذلك، فقال: هي أنظف من دواجنكم ودجاجكم اللائي يأكلن العذرة، وهل يأكل الفأر إلا نقي البر أو لباب الطعام ولما مات قال الخليل: دفنا الشعر واللغة والفصاحة (3) . وكان رؤبة مقيماً بالبصرة، فلما ظهر بها إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وخرج على أبي جعفر المنصور وجرت الواقعة المشهورة، خاف رؤبة على نفسه وخرج إلى البادية ليتجنب الفتنة،   (1) سقطت هذه القصة من س. (2) كان شبيل بن عزرة الضبعي نسابة لغويا وانتهى به الأمر أخيرا إلى اعتناق المذهب الخارجي الصفري. (3) ما بين معقفين زيادة من د. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 304 فلما وصل إلى الناحية التي قصدها أدركه أجله بها، فتوفي هناك سنة خمس وأربعين ومائة وكان قد أسن، رحمه الله تعالى. ورؤبة - بضم الراء وسكون الهمزة وفتح الباء الموحدة وبعدها هاء ساكنة - وهي في الأصل اسم لقطعة من الخشب يشعب بها الإناء، وجمعها رئاب، وباسمها سمي الراجز المذكور. 239 - (1) روح بن حاتم أبو حاتم روح بن حاتم بن قبيصة بن المهلب بن أبي صفرة الأزدي - وسيأتي تمام النسب عند ذكر جده المهلب في حرف الميم إن شاء الله تعالى -؛ كان روح المذكور من الكرماء الأجوادن وولي لخمسة من الخلفاء: أبي العباس السفاح والمنصور والمهدي والهادي والرشيد. ويقال إنه لم يتفق مثل هذا إلا لأبي موسى الأشعري رضي الله عنه، فإنه ولي لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأبي بكر وعمر وعثمان وعلي، رضي الله عنهم (1) . وكان روح والياً على السند، ولاه إياها المهدي بن أبي جعفر المنصور في سنة تسع وخمسين ومائة، وكان قد ولاه في أول خلافته الكوفة، وقيل إنه ولي السند سنة ستين ومائة، ثم عزله عن السند سنة إحدى وستين ومائة، ثم ولاه البصرة.   (1) ترجمته وأخباره في تهذيب ابن عساكر 5: 336 والحلة السيراء 2: 358 وابن عذاري 1: 84، هذا إلى ما ورد في الكتب التاريخية العامة عن ولايته لإفريقية، وفي تلك المصادر نفسها ترجمة أخيه يزيد. (1) ترجمته وأخباره في تهذيب ابن عساكر 5: 336 والحلة السيراء 2: 358 وابن عذاري 1: 84، هذا إلى ما ورد في الكتب التاريخية العامة عن ولايته لإفريقية، وفي تلك المصادر نفسها ترجمة أخيه يزيد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 305 وكان يزيد (1) أخو روح والياً على إفريقية، فلما توفي يزيد يوم الثلاثاء لاثنتي عشرة ليلة بقيت من شهر رمضان سنة سبعين ومائة بإفريقية في مدينة القيروان ودفن بباب سلم - وكان أقام والياً عليها خمس عشرة سنة وثلاثة أشهر - قال أهل إفريقية: ما أبعد ما يكون بين قبري هذين الأخوين، فإن أخاه بالسند وهذا ها هنا، فاتفق أن الرشيد عزل روحاً عن السند وسيره إلى موضع أخيه يزيد، فدخل إلى إفريقية أول رجب سنة إحدى وسبعين ومائة، ولم يزل والياً عليها إلى أن توفي بها لإحدى عشرة ليلة بقيت من شهر رمضان سنة أربع وسبعين ومائة، ودفن في قبر أخيه يزيد، فعجب الناس من هذا الاتفاق بعد ذلك التباعد، رحمهما الله تعالى. (40) ويزيد المذكور هو الذي قصده ربيعة بن ثابت الأسدي الرقي فأحسن إليه، وكان ربيعة مدح يزيد بن أسيد السلمي فقصر يزيد في حقه، فمدح يزيد بن حاتم وهجا يزيد السلمي بقصيدته الميمية التي يقول من جملتها (2) : لشتان ما بين اليزيدين في الندى ... يزيد سليم والأغر ابن حاتم فهم الفتى الأزدي إتلاف ما له ... وهم الفتى القيسي جمع الدراهم فلا يحسب التمام أني هجوته ... ولكنني فضلت أهل المكارم ومنها: فيا ابن أسيد لا تسام ابن حاتم ... فتقرع إن ساميته سن نادم هو البحر إن كلفت نفسك خوضه ... تهالكت في آذيه المتلاطم تمنيت مجداً في سليم سفاهة ... أماني خال أو أماني حالم ألا إنما آل المهلب غرة ... وفي الحرب قادات لكم بالخزائم   (1) ولي يزيد إفريقية في خلافة أبي جفعر فأصلحها ورتب أمر القيروان وجدد مسجدها، وكان غاية في الجود، وقبل ولايته المغرب كان قد ولي ولايات كثيرة منها أرمينية والسند ومصر وأذربيجان. (2) انظر الحلة السيراء 1: 74 ومصادر تاريخية أخرى، والأغاني: 16: 196. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 306 وهي طويلة، ويكفي منها هذا القدر، وكان قد قصر في حقه أولاً فعمل ربيعة أبياتاً من جملتها: أراني ولا كفران لله راجعاً ... بخفي حنين من نوال ابن حاتم فعاد فعطف عليه، وبالغ في الإحسان إليه (1) . ويزيد المذكور جد الوزير أبي محمد المهلبي فينظر في ترجمته.   (1) يقال أن يزيد بن حاتم لما بلغه هذا القول دعا به وقال: انزعوا خفيه، فنزعا وهو خائف من عقوبته، فملأها له دراهم ودنانير، وكانا كبيرين كأخفاف الجند. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 307 فراغ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 308 حَرفُ الزّايْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 309 فراغ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 310 (1) 240 الزبير بن بكار أبو عبد الله الزبير بن بكر بن بكار - وكنيته أبو بكر - بن عبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير بن العوام القرشي الأسدي الزبير؛ كان من أعيان العلماء، وتولى القضاء بمكة حرسها الله تعالى، وصنف الكتب النافعة، منها كتاب " أنساب قريش " وقد جمع فيه شيئاً كثيراً، وعليه اعتماد الناس في معرفة نسب القرشيين، وله غيره مصنفات دلت على فضله واطلاعه. روى عن ابن عيينة ومن في طبقته، وروى عنه ابن ماجه القزويني وابن أبي الدنيا وغيرهما. [ولقي الزبير بن بكار اسحاق بن إبراهيم الموصلي فقال: يا أبا عبد الله، عملت كتاباً سميته " كتاب النسب " وهو كتاب الأخبار، قال وأنت يا أبا محمد - أيدك الله - عملت كتاباً سميته " كتاب الأغاني " وهو كتاب المعاني] (2) . [قال جحظة: كنت بحضرة الأمير محمد بن عبد الله بن طاهر، فاستأذن الزبير بن بكار حين جاء من الحجاز، فدخل، فأكرمه وعظمه، وقال له: إن باعدت بيننا الأنساب لقد قربت بيننا الآداب، وإن أمير المؤمنين اختارك لتأديب ولده وأمر لك بعشرة آلاف درهم وعشرة تخوت ثياب وعشرة أبغل تحمل عليها رحلك إلى حضرة سر من رأى، فشكر ذلك وقبله، فلما   (1) ترجمة الزبير بن بكار في تاريخ بغداد 8: 467، وقد جمع الأستاذ محمود شاكر (في مقدمة جمهرة نسب قريش) ترجمته من المصادر المختلفة، ووضع ثبتا باثنين وعشرين مصدرا ترجمت له (انظر المقدمة: 54، 55 - 72) فليراجع ما أورده الأستاذ المحقق ففي ما جاء هنالك مقنع لمن شاء مزيدا من التعرف إلى المترجم به. (2) زيادة من ر وحدها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 311 ودعه قال للشيخ: أرونا حديثاً نذكرك به، قال: أحدثك بما سمعت أو بما شاهدت قال: بل بما شاهدت، قال: بينا أنا في مسيري هذا بين مسجدين إذ بصرت بحبالة منصوبة فيها ظبي ميت، وبإزائها رجل في نعشه ميثت، وامرأة حسرى تسعى وتقول: أمست فتاة بني نهد علانية ... وبعلها في أكف الموت يبتذل وكنت راغبة فيه أضن به ... فحال من دون ظبي الريمة الأجل ثم خرج، فقال محمد بن عبد الله بن طاهر: أي شيء افدنا من هذا الشيخ قلنا: الأمير أعلم، فقال: قوله " أمست فتاة بني نهد علانية " أي ظاهرة، وهذا حرف لم أسمعه في كلام العرب قبل هذا. قال الزبير بن بكار: قالت ابنة أختي لأهلنا: خالي خير رجل لأهله، لا يتخذ ضرة ولا يشتري جارية، فقالت المرأة: لهذه الكتب أشد علي من ثلاث ضرائر وأصعب] (1) . وتوفي بمكة وهو قاض عليها ليلة الأحد لسبع - وقيل لتسع - ليال بقين من ذي القعدة سنة ست وخمسين ومائتين، وعمره أربع وثمانون سنة، رحمه الله تعالى. وتوفي والده سنة خمس وتسعين ومائة، رحمه الله تعالى.   (1) زيادة من د ر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 312 (1) 241 أبو عبد الله الزبيري أبو عبد الله الزبير بن أحمد بن سليمان بن عبد الله بن عاصم بن المنذر بن الزبير بن العوام، الفقيه الشافعي المعروف بالزبيري البصري؛ كان إمام أهل البصرة في عصره ومدرسها، حافظاً للمذهب مع حظ من الأدب، وقدم بغداد وحدث بها عن داود بن سليمان المؤدب ومحمد بن سنان (2) القزاز وإبراهيم بن الوليد ونحوهم. وروى عنه النقاش صاحب التفسير وعمر بن بشران السكري وعلي بن هارون السمسار ونحوهم. وكان ثقة صحيح الرواية، وكان أعمى، وله مصنفات كثيرة منها " الكافي " في الفقه، وكتاب " النية " وكتاب " ستر العورة " وكتاب " الهداية " وكتاب " الاستشارة والاستخارة " وكتاب " رياضة المتعلم " وكتاب " الإمارة " وغير ذلك (3) ، وله في المذهب وجوه غريبة. وتوفي قبل العشرين وثلثمائة، رحمه الله تعالى.   (1) ترجمة الزبيري الفقيه الشافعي في طبقات السبكي 2: 224 ونكت الهميان: 153 والفهرست: 212. (2) ر: عثمان. (3) من مؤلفاته أيضا المسكت وكتاب الفرائض وكتاب الجامع في الفقه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 313 (1) 242 زبيدة أم الأمين أم جعفر زبيدة بنت جعفر بن أبي جعفر المنصور بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب بن هائم، وهي أم الأمين محمد بن هارون الرشيد؛ كان لها معروف كثير وفعل خير، وقصتها في حجها وما اعتمدته في طريقها مشهورة فلا حاجة إلى شرحها. قال الحافظ أبو الفرج ابن الجوزي في كتاب " الألقاب ": إنها سقت أهل مكة الماء بعد أن كانت الرواية عندهم بدينار، وإنها أسالت الماء عشرة أميال بحط الجبال ونحوت الصخر حتى غلغلته من الحل إلى الحرم، وعملت عقبة البستان، فقال لها وكيلها: يلزمك نفقة كثيرة، فقالت: أعملها ولو كانت ضربة فأس بدينار، فبلغت النفقة عليه ألف ألف وسبعمائة ألف دينار؛ قال اسماعيل بن جعفر بن سليمان: حجت أم جعفر زبيدة فبلغت نفقتها في ستين يوماً أربعة وخمسين ألف ألف، ولها آثار كثيرة في طريق مكة والمدينة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام من مصانع وبرك أحدثتها (2) . وإنه كان لها مائة جارية يحفظن القرآن، ولكل واحدة ورد عشر القرآن، وكان يسمع في قصرها (3) كدوي النحل من قراءة القرآن، وإن اسمها أمة العزيز، ولقبها جدها أبو جعفر المنصور " زبيدة " لبضاضتها ونضارتها. [قال الطبري في تاريخه: أعرس بها هارون الرشيد في ذي الحجة في سنة 165 في قصره المعروف بالخلد وحشد الناس من الآفاق وفرق فيهم الأموال ولم   (1) ترجمة زبيدة أم جعفر في تاريخ بغداد 14: 433 وشرح المقامات للشريشي 2: 225 والنجوم الزاهرة 2: 213 إلى أخبار في كتب التاريخ العامة والكتب الأدبية. (2) فبلغت النفقة ... التي أحدثتها: لم يرد هذا في المسودة. (3) ر: لها دوي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 314 ير في الإسلام مثله، وبلغت النفقة في هذا الغرض من بيت مال الخاصة خارجة سوى ما أنفقه هارون من ماله خمسين ألف ألف درهم، وليس في بني هاشم هاشمية ولدت خليفة إلا هي. وحكي أنها أحضرت الأصمعي وقالت له: إن أمير المؤمنين استدعاني وقال: هلمي يا أم نهر، فما معنى ذلك فقال لها: إن جعفراً في اللغة هو النهر الصغير وأنت أم جعفر. وحضر شاعر بابها، وأنشد: أزبيدة ابنة جعفر ... طوبى لزائرك المثاب تعطين من رجليك ما ... تعطي الأكف من الرغاب فتبادر الخدم إليه ليوقعوا به على سوء أدبه وعبارته فقالت: دعوه فإن من أراد خيراً فأخطأ خير ممن أراد شراً فأصاب، سمع الناس يقولون: شمالك أندى من يمين غيرك، فقدر أن هذا مثل ذلك؛ أعطوه ما أمل وعرفوه ما جهل. ووقع بين الرشيد وبين زبيدة الشركة المتعهدة فتهاجرا فعمل داود بن رزين مولى عبد القيس شعراً وهو: زمن طيب ويوم مطير ... هذه روضة وهذا غدير إنما أم جعفر جنة الخل ... د رضاها والسخط منها السعير أنت عبد لها ومولى لهذا ال ... خلق طرا وليس في ذا نكير فاعتذر يا خليفة الله في الأر ... ض إليها وترك ذاك كبير فصار إليها عندما وقف على الأبيات وسألت عن سبب مجيئه فعرفت، وأوصلت إلى داود مائة ألف درهم في وقتها وأضعافها بعد ذلك. ولما ولدت ابنة جعفر محمداً قال مروان بن أبي حفصة: لله درك يا عقيلة جعفر ... ماذا ولدت من الندى والسؤدد إن الخلافة قد تبين نورها ... للناظرين على جبين محمد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 315 إني لأعلم أنه لخليفة ... إن بيعة عقدت وإن لم تعقد فأمر له هارون بثلاثة آلاف دينار، وأمرت زبيدة أن يحشى فوه جوهراً، فكانت قيمته عشرة آلاف دينار. وقالت زبيدة للمأمون عند دخوله بغداد: أهنيك بخلافة قد هنأت نفسي [بها] عنك قبل أن أراك، وان كنت قد فقدت ابناً خليفة لقد عوضت ابناً خليفة لم ألده، وما خسر من اعتاض مثلك وثكلت أم ملأت يدها منك، وأنا أسأل الله أجراً على ما أخذ وامتاعاً بما عوض؛ وقيل إن زبيدة أرسلت إلى أبي العتاهية أن يقول على لسانها أبياتاً يستعطف بها المأمون، فأرسل هذه الأبيات: ألا إن صرف الدهر يدني ويبعد ... ويمتع بالألاف طراً ويفقد أصابت بريب الدهر مني يدي ... فسلمت للأقدار والله أحمد وقلت لريب الدهر إن هلكت يد ... فقد بقيت والحمد لله لي يد إذا بقي المأمون لي فالرشيد لي ... ولي جعفر لم يفقدا ومحمد فسيرتها له، فلما قرأها المأمون استحسنها وسأل عن قائلها فقيل له أبو العتاهية، فأمر له بعشرة آلاف درهم وعطف على زبيدة وزاد في تكرمتها والبر بها. اختلف الرشيد وأم جعفر في اللوزينج والفالوذج أيهما أطيب، فمالت زبيدة إلى تفضيل الفالوذج ومال الرشيد إلى تفضيل اللوزينج، وتخاطرا على مائة دينار، فأحضر أبا يوسف القاضي وقالا له: يا يعقوب قد اختلفنا في كذا على كذا وكذا فاحكم فيه، فقال: يا أمير المؤمنين ما يحكم على غائب وهو مذهب أبي حنيفة، فأحضر له جامين من المذكورين، فطفق يأكل من هذا مرة ومن هذا مرة، وتحقق انه إن حكم للرشيد لم يأمن غضب زبيدة، وإن حكم لها لم يأمن غضب الرشيد، فلم يزل في الأكل إلى أن نصف الجامين فقال له الرشيد: أيه ابا يوسف، فقال: يا أمير المؤمنين، ما رأيت خصمين أجدل منهما، كلما أردت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 316 أن أسجل لأحدهما أدلى الآخر بحجته، وقد حرت بينهما، فضحك الرشيد وأعطاه المائة دينار وانصرف مشكوراً. ومن عجائب التنجيم أن زبيدة فقدت خاتماً بفص له قيمة، وأنها اتهمت به بعض جواريها، فأحضرت رجلاً من أهل الصناعة فأخذ الطالع على تلك المصانع وقال: ما أخذ هذا الخاتم إلا الله تعالى، وردد القول ولم يرجع عنه، فبعد مدة فتحت زبيدة المصحف فوجدت الخاتم فيه، وكانت قد جعلته علامة للوقف وأنسيته] (1) . وكانت وفاتها في سنة ست عشرة ومائتين في جمادى الأولى ببغداد، وتوفي أبوها جعفر بن المنصور في سنة ست وثمانين ومائة. [ورآها عبد الله بن المبارك الزمن في المنام فقال لها: ما فعل الله بك قالت: غفر لي الله بأول معول ضرب في طريق مكة، قال: قلت ما هذه الصفرة في وجههك قالت: دفن بين ظهرانينا رجل يقال له بشر المريسي فزفرت جهنم عليه زفرة فاقشعر لها جسدي، فهذه الصفرة من تلك الزفرة، رحمها الله تعالى] (2) . 243 - (3) زفر بن الهذيل الحنفي أبو الهذيل زفر بن الهذيل بن قيس بن سليم بن قيس بن مكمل بن ذهل بن ذؤيب بن جذيمة بن عمرو بن حنجور بن جندب بن العنبر بن عمرو بن تميم بن مر   (1) ما بين معقفين من ص ر د. (2) ما بين معقفين من النسخ المذكورة. (3) ترجمة زفر صاحب أبي حنيفة في الجواهر المضية 1: 234، 2: 534 وطبقات الشيرازي، الورقة: 40 وشذرات الذهب 1: 243 ورجال ابن حبان: 170. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 317 ابن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، العنبري الفقيه الحنفي؛ كان قد جمع بين العلم والعبادة، وكان من أصحاب الحديث، ثم غلب عليه الرأي، وهو قياس أصحاب أبي حنفية رضي الله عنه، وكان أبوه الهذيل على أصبهان. [حكى المعافى بن زكريا في كتاب " الجليس والأنيس " عن عبد الرحمن ابن مغراء قال: جاء رجل إلى أبي حنفية فقال: إني شربت البارحة نبيذاً ولا أدري أطلقت امرأتي أم لا، قال: المرأة امرأتك حتى تستيقن أنك طلقتها. ثم أتى سفيان الثوري فقال: يا أبا عبد الله إني شربت البارحة نبيذاً ولا أدري طلقت امرأتي أم لا، قال: اذهب فراجعها فإن كنت طلقتها فقد راجعتها، وإن لم تكن طلقتها فلم تضرك المراجعة شيئاً. ثم أتى شريك بن عبد الله فقال: يا أبا عبد الله إني شربت البارحة نبيذاً، ولا أدري طلقت امرأتي أم لا، قال: اذهب فطلقها ثم راجعها. ثم أتى زفر بن الهذيل فقال: يا أبا الهذيل إني شربت البارحة نبيذاً ولا أدري طلقت امرأتي أم لا، قال: هل سألت غيري قال: أبا حنيفة. قال: فما قال لك قال قال: المرأة امرأتك حتى تستيقن أنك قد طلقتها، قال: هو الصواب، قال: فهل سألت غيره قال: سفيان الثوري، قال: فما قال لك قال: اذهب فراجعها فإن كنت طلقتها فقد راجعتها، وإن لم تكن طلقتها فلم تضرك المراجعة شيئاً، قال: ما أحسن ما قال لك، فهل سألت غيره قال: شريك بن عبد الله، قال: فما قال لك قال: اذهب فطلقها ثم راجعها، قال: فضحك زفر وقال: لأضربن لك مثلاً، رجل مر بمثعب سيل فأصاب ثوبه، قال لك أبو حنيفة: ثوبك طاهر وصلاتك مجزئة حتى تستيقن أمر الماء، وقال لك سفيان: اغسله فإن يك نجساً فقد طهر، وإن يك طاهراً زاده نظافة، وقال لك شريك: اذهب فبل عليه ثم اغسله. قال المعافى: وقد أحسن زفر في فصله بين هؤلاء الثلاثة فيما أفتوا به في هذه المسألة، وفيما ضربه لسائله من الأمثلة. فأما قول أبي حنيفة فهو محض النظر وأمر الحق ولا يجوز أن يحكم على امرئ في زوجته بطلاقها بعد صحة زوجيتها بظن عرض له وهو أبعد عند ذوي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 318 الأفهام من أضغاث الأحلام، وأما قول سفيان الثوري فإنه أشار بالاستظهار والتوثقة والأخذ بالحزم والحيطة وهذه طريقة أهل الورع وذوي الاستقصار والمشفقين على نفوسهم من أهل الدين، وفتيا أبي حنيفة في هذا عين الحق وجل الفقه، وأي هاتين المحجتين سلك من نزلت به هذه النازلة وعرضت له هذه الحادثة فهو مصيب محسن على ما بينا فيهما من الفصل بين المنزلتين، وأما ما أفتى به شريط فتعجب زفر منه واقع في موضعه ولا وجه في الصحة لما أشار به. وقد أصاب زفر أيضاً في الوجه الذي ضربه له وارى شريكاً توهم أن الرجعة لا تحقق إلا مع تحقق الطلاق فأمر باستئناف تطليقة لتصح الرجعة بعدها وهذا مختل فاسد ولو كان كما يرى أنه توهمه لما أثرت الرجعة إلا في التطليقة التي أوقعها وتيقنها دون التي أشفق من تقدمها وهو على غير يقين منها، ولو ان رجلاً وكل رجلاً في طلاق زوجته ثم غاب الوكيل فأشفق من تطليقه إياها عليه فأشهد على رجعتها وهو غير عالم بوقوعها ثم تبين أنها وقعت قبل مراجعته لصحت رجعته، وكذلك لو كتب إلى زوجته بطلاقها إذا وصل إليها كتابه ثم أشهد على الرجعة بعد الوصول وقبل انقضاء العدة لكانت المراجعة صحيحة لوقتها بعد الطلاق الذي لم يكن عالماً به] (1) . ومولده سنة عشر ومائة وتوفي في شعبان سنة ثمان وخمسين ومائة، رحمه الله تعالى. وزفر: بضم الزاي وفتح الفاء وبعدها راء. والهذيل: بضم الهاء وفتح الذال المعجمة وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها لام.   (1) زيادة من د ص ر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 319 244 - (1) أبو دلامة أبو دلامة زند بن الجون؛ كان صاحب نوادر وحكايات وأدب ونظم، وذكر الحافظ أبو الفرج ابن الجوزي في كتاب " تنوير الغبش " أنه كان أسود عبداً حبشياً [مولى لبني أسد وكان أوه عبداً لرجل منهم يقال له قصاقص فأعتقه. أدرك أبو دلامة آخر بني أمية ولم يكن له نباهة في أيامهم، ونبغ في أيام بني العباس، فانقطع إلى السفاح والمنصور والمهدي، وكانوا يقدمونه ويفضلونه ويستطيبون نوادره، ومدح المنصور وذكر قتله أبا مسلم من جملة قصيدة فقال فيها: أبا مسلم خوفتني القتل فانتحى ... عليك بما خوفتني الأسد الورد أبا مسلم ما غير الله نعمة ... على عبده حتى يغيرها العبد وأنشدها المصنور في ملإ من الناس فقال له: احتكم، فقال له: عشرة آلاف درهم، فأمر له بها، فلما خلا به قال: أما والله لو تعديتها لقتلتك. وقد قيل إنه بقي إلى خلافة الرشيد ولا يثبت، وكان مطبوعاً كثير النوادر] . وقال محمد بن زياد (2) : سمعت ثعلباً يقول: لما ماتت حمادة بنت عيسى ابنة عم أبي جعفر فحضر جنازتها وجلس لدفنها وهو متألم لفقدها كئيب عليها وهي زوجته، فأقبل أبو دلامة وجلس قريباً منه، فقال له المنصور: ويحك! ما   (1) أخبار أبي دلامة في تاريخ بغداد 8: 488 والشعر والشعراء: 660 والأغاني 10: 247 وطبقات ابن المعتز: 54 والمؤتلف: 231 ومعاهد التنصيص 2: 211 والدميري 1: 163 وشذرات الذهب 1: 249 ومعجم الأدباء 11: 165 (وبروكلمان 2: 18) وله طرائف منثورة في الكتب الأدبية العامة؛ ولم ترد ترجمته في م؛ وهي موجزة في س. (2) في المسودة: ومن نوادره أنه توفي لأبي جعفر المنصور ابنة عم ... وذكر الخطيب في تاريخ بغداد أن هذه الميتة هي حمادة ابنة عيسى زوجة المنصور، وعيسى المذكور هو عم المنصور. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 320 أعددت لهذا المكان (1) وأشار إلى القبر، فقال: ابنة عم أمير المؤمنين، فضحك المنصور حتى استلقى، ثم قال له: ويحك، فضحتنا بين الناس. وامر المهدي أبا دلامة بالخروج نحو عبد الله بن علي، فقال أبو دلامة: أنشدك الله يا أمير المؤمنين أن لا تحضرني شيئاً من عساكرك فإني شهدت تسعة عساكر انهزمت كلها، وأخاف أن يكون عسكرك العاشر، فضحك منه وأعفاه. قال أبو العيناء: بلغنا عن أبي دلامة أنه دخل على المهدي فأنشده قصيدة، فقال له: سلني حاجتك، فقال: يا أمير المؤمنين، هب لي كلباً، فغضب، وقال: أقول لك سلني حاجتك، فتقول: هب لي كلباً فقال: يا أمير المؤمنين، الحاجة لي أم لك قال بل لك، قال: فإني أسألك أن تهب لي كلب صيد، فأمر له بكلب، فقال: يا أمير المؤمنين، هبني خرجت إلى الصيد أفأعدو على رجلي فأمر له بدابة، فقال: يا أمير المؤمنين، من يقوم عليها فأمر به بغلام، فقال: يا أمير المؤمنين، هبني صدت صيداً وأتيت به المنزل فمن يطبخه فأمر له بجارية، فقال: يا أمير المؤمنين، هؤلاء يبيتون في البادية فأمر له بدار، فقال: يا أمير المؤمنين، قد صيرت في عنقي كفاء من عيال، جريب غامراً، قال: أما العامر فقد عرفت، فما الغامر قال: الخراب الذي لا شيء فيه، قال: أنا أقطع أمير المؤمنين مائة ألف جريب بالبدو، ولكني أسأل أمير المؤمنين من ألف جريب جريباً واحداً عامراً، قال: من أين قال: من بيت المال، فقال المهدي: حولوا المال وأعطوه جريباً، قال: يا أمير المؤمنين، إذا حول منه المال صار غامراً، فضحك منه، قال: فهل بقيت لك حاجة قال: نعم، تأذن لي أن أقبل يدك، فقال: ما لك إلى ذلك سبيل، قال: والله ما رددتني عن حاجة أهون علي فقداً منها. واتفق أن أبا دلامة تأخر عن الحضور بباب أبي جعفر أياماً ثم حضر، فأمر   (1) ج: لهذه الحفرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 321 بإلزامه القصر، وألزمه بالصلاة في مسجده، ووكل به من يلاحظه في ذلك، فمر به أبو أيوب المورياني وهو إذ ذاك وزير أبي جعفر، فقام إليه أبو دلامة ودفع رقعة مختومة، وقال: هذه ظلامة لأمير المؤمنين، فأوصلها أعزك الله إليه بخاتمها، فأخذها أبو أيوب، فلما دخل على أبي جعفر أوصلها إليه فقرأها فإذا فيها: ألم تعلموا أن الخليفة لزني ... بمسجده والقصر، ما لي وللقصر أصلي به الأولى مع العصر دائماً ... فويلي من الأولى وويلي من العصر ووالله ما لي نية في صلاتهم ... ولا البر والإحسان والخير من أمري وما ضره والله يصلح أمره ... لو أن ذنوب العالمين على ظهري فضحك المنصور وأمر بإحضاره، فلما حضر قال: هذه قصتك قال: دفعت إلى أبي أيوب رقعة مختومة أسأل فيها إعفائي من لزوم الذي أمرني بلزومه، فقال له أبو جعفر: اقرأها، قال: ما أحسن أن أقرأ، وعلم أنه إن أقر بكتابته لها يحده بذكره الصلاة وتعريضه بها، فلما رآه يحيد من ذلك، قال له: يا خبيث أما لو أقررت لضربتك الحد، ثم قال: لقد أعفيتك من لزوم المسجد، فقال أبو دلامة: أو كنت ضاربي يا أمير المؤمنين لو أقررت قال: نعم، قال: مع قول الله عز وجل " يقولون ما لا يفعلون ". الشعراء. فضحك منه وأعجب من انتزاعه، ووصله. وذكر ابن شبة في كتاب " أخبار البصرة " أن أبا دلامة كتب إلى سعيد بن دعلج - وكان يومئذ يتولى الأحداث بالبصرة - وأرسلها إليه من بغداد مع ابن عم له: إذا جئت الأمير فقل سلام ... عليك ورحمة الله الرحيم وأما بعد ذاك فلي غريم ... من الأعراب قبح من غريم له ألف علي ونصف أخرى ... ونصف النصف في صك قديم دراهم ما انتفعت بها ولكن ... وصلت بها شيوخ بني تميم فسير له [ابن] دعلج ما طلب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 322 وكان روح بن حاتم المهلبي والياً على البصرة، فخرج إلى حرب الجيوش الخراسانية ومعه أبو دلامة، فخرج من صف العدو مبارز، فخرج إليه جماعة فقتلهم، فتقدم روح إلى أبي دلامة بمبارزته فامتنع فألزمه فاستعفاه فلم يعفه، فأنشد أو دلامة: إني أعوذ بروح أن يقدمني ... إلى القتال فيخزى بي بنو أسد إن المهلب حب الموت أورثكم ... ولم أرث أنا حب الموت من أحد إن الدنو إلى الأعداء أعلمه ... مما يفرق بين الروح والجسد فأقسم عليه ليخرجن (1) ، وقال: لماذا تأخذ رزق السلطان قال: لأقاتل عنه، قال: فمالك لا تبرز إلى عدو الله فقال: أيها الأمير، إن خرجت إليه لحقت بمن مضى، وما الشرط أن أقتل عن السلطان، بل أقاتل عنه، فحلف روح: لتخرجن إليه فتقتله أو تأسره أو تقتل دون ذلك، فلما رأى أبو دلامة الجد منه قال: أيها الأمير، تعلم أن هذا أول يوم من أيام الآخرة، ولابد فيه من الزوادة، فأمر له بذلك، فأخذ رغيفاً مطوياً على دجاجة ولحم وسطيحة من شراب وشيئاً من نقل، وشهر سيفاً وحمل، وكان تحته فرس جواد، فأقبل يجول ويلعب بالرمح، وكان مليحاً في الميدان، والفارس يلاحظه ويطلب منه غرة، حتى إذا وجدها حمل عليه، والغبار كالليل، فأغمد أبو دلامة سيفه وقال للرجل: لا تعجل واسمع مني - عافاك الله - كلمات ألقيهن إليك، فإنما أتيتك في مهم، فوقف مقابله وقال: ما المهم قال: أتعرفني قال: لا، قال: أنا أبو دلامة، قال: قد سمعت بك حياك الله، فكيف برزت إلي وطمعت في بعد من قتلت من أصحابك فقال: ما خرجت لأقتلك ولا لأقاتلك، ولكني رأيت لباقتك وشهامتك فاشتهيت أن تكون لي صديقاً، وإني لأدلك على ما هو أحسن من قتالنا، قال: قل على بركة الله تعالى، قال: أراك قد تعبت وأنت بغير شك سغبان ظمآن، قال: كذلك   (1) د: لتخرجن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 323 هو، قال: فما علينا من خراسان والعراق، إن معي خبزاً ولحماً وشراباً ونقلاً كما يتمنى المتمني، وهذا غدير ماء نمير بالقرب منا، فهلم بنا إليه نصطبح وأترنم لك بشيء من حداء الأعراب، فقال: هذا غاية أملي، فقال: ها أنا أستطرد لك فاتبعني حتى نخرج من حلق الطعان، ففعلا، وروح يتطلب أبا دلامة فلا يجده، والخراسانية تطلب فارسها فلا تجده، فلما طابت نفس الخراساني قال له أبو دلامة: إن روحاً كما عملت من أبناء الكرام، وحسبك بابن المهلب جواداً، وإنه يبذل لك خلعة فاخرة وفرساً جواداً ومركباً مفضضاً وسيفاً محلى ورمحاً طويلاً وجارية بربرية وينزلك في أكثر العطاء، وهذا خاتمه معي لك بذلك، قال: ويحك! وما أصنع بأهلي وعيالي فقال: استخر الله وسر معي ودع أهلك، فالكل يخلف عليك، فقال: سر بنا على بركة الله، فسارا حتى قدما من وراء العسكر، فهجما على روح، فقال: يا أبا دلامة أين كنت قال: في حاجتك، أما قتل الرجل فما أطقته، وأما سفك دمي فما طبت به نفساً، وأما الرجوع خائباً فلم أقدم عليه، وقد تلطفت وأتيتك به أسير كرمك، وقد بذلت له عنك كيت وكيت، فقال: ممضى إذا وثق لي، قال: بماذا قال: بنقل أهله، قال الرجل: أهلي على بعد ولا يمكنني نقلهم الآن، ولكن امدد يدك أصافحك وأحلف لك متبرعاً بطلاق الزوجة أني لا أخونك، فإن لم أف إذا حلفت بطلاقها لم ينفعك نقلها، قال: صدقت، فحلف له وعاهده، ووفى له بما ضمنه أبو دلامة وزاد عليه، وانقلب معهم الخراساني يقاتل الخراسانية، وينكي فيهم أشد نكاية، وكان أكبر أسباب ظفر روح (1) . وكان المنصور قد أمر بهدم دور كثيرة وكان من جملتها دار أبي دلامة، فكتب إلى المنصور: يابن عم النبي دعوة شيخ ... قد دنا هدم داره وبواره فهو كالماخض التي اعتادها الطل ... ق فقرت وما يقر قراره   (1) ابتداء من قوله: وأمر المهدي أبا دلامة حتى هذا الموضع، لا وجود له في المسودة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 324 لكم الأرض كلها فأعيروا ... عبدكم ما احتوى عليه جداره فأمر له بدار عوضاً عنها. ولما قدم المهدي بن المنصور من الري إلى بغداد دخل عليه أبو دلامة للتسليم والتهنئة بقدومه، فأقبل عليه المهدي، وقال له: كيف أنت يا أبا دلامة فقال: يا أمير المؤمنين: إني حلفت (1) لئن رأيتك سالماً ... بقرى العراق وأنت ذو وفر لتصلين على النبي محمد ... ولتملأن دراهماً حِجْري فقال المهدي: أما الأولى فنعم، وأما الثانية فلا، فقال: جعلني الله فداك! إنهما كلمتان لا يفرق بينهما، فقال: يملأ حجر أبي دلامة دراهم، فقعد وبسط حجره فملئ دراهم، فقال له: قم الآن يا أبا دلامة، فقال: ينخرق قميصي يا أمير المؤمنين، حتى أشيل الدراهم وأقوم، فردها إلى الأكياس ثم قام فدعا له وخرج بها وله أشعار كثيرة، وذكره ابن المنجم في كتاب " البارع في اختيار شعر المحدثين ". ومن أخباره: أنه مرض ولده، فاستدعى طبيباً ليداويه وشرط له جعلاً معلوماً، فلما برئ قال له: والله ما عندنا شيء نعطيك، ولكن ادع على فلان اليهودي - وكان ذا مال كثير - بمقدار الجعل، وأنا وولدي نشهد لك بذلك، فمضى الطبيب إلى القاضي بالكوفة - وكان يومئذ محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وقيل: عبد الله بن شبرمة - وحمل إليه اليهودي المذكور، وادعى عليه بذلك المبلغ، فأنكر اليهودي، فقال: لي بينة، وخرج لإحضارها، فأحضر أبا دلامة وولده، فدخلا إلى المجلس، وخاف أبو دلامة أن يطالبه القاضي بالتزكية فأنشد في الدهليز قبل دخوله بحيث يسمع القاضي: إن الناس غطوني تغطيت عنهم ... وإن بحثوا عني ففيهم مباحث   (1) هـ: ولقد نذرت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 325 وإن نبثوا نبثت (1) بئارهم ... ليعلم قوم كيف تلك النبائث ثم حضرا بين يدي القاضي، وأديا الشهادة، فقال له: كلامك مسموع وشهادتك مقبولة، ثم غرم المبلغ من عنده وأطلق اليهودي، وما أمكنه أن يرد شهادتهما خوفاً من لسانه، فجمع بين المصلحتين وتحمل الغرم من ماله. قال العتابي: خرج المهدي وعلي بن سليمان إلى الصيد ومعهما أبو دلامة، فرمى المهدي ظبياً فأصابه، ورمى علي بن سليمان ظبياً فأخطأه وأصاب كلباً، فضحك المهدي، وقال: يا أبا دلامة، قل في هذا، فقال: قد رمى المهدي ظبياً ... شك بالسهم فؤاده وعلي بن سليما ... ن رمى كلباً فصاده فهنيئاً لكما كل امرئ يأكل زاده ... فأمر له بثلاثين ألف درهم. ودخل أبو دلامة على المهدي، فقال: يا أمير المؤمنين، ماتت أم دلامة، وبقيت ليس أحد يعاطيني، فقال: إنا لله، أعطوه ألف درهم يشتري بها أمة تعاطيه، وكان قد دس أم دلامة على الخيزران، فقالت: يا سيدتي مات أبو دلامة وبقيت ضائعة، فأمرت لها بألف درهم، فدخل المهدي على الخيزران، وهو حزين، فقالت: ما بال أمير المؤمنين قال: ماتت أم دلامة، فقالت: إنما مات أبو دلامة، فقال: قاتل الله أبا دلامة وأم دلامة، قد خدعانا والله. وكان أبو عطاء السندي مولى بني أسد قد هجاه بقوله: ألا أبلغ هديت أبا دلامة ... فليس من الكرام ولا كرامة إذا لبس العمامة كان قرداً ... وخنزيراً إذا وضع العمامة فلم يتعرض له أبو دلامة (2) . ونوادره كثيرة.   (1) أج هـ: وإن حفروا بئري حفرت، وعلى هامش المسودة: نبثوا أي حفروا. (2) قال العتابي ... دلامة: لم يرد في المسودة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 326 وكانت وفاته (1) سنة إحدى وستين ومائة. رحمه الله تعالى، ويقال: إنه عاش إلى أيام هارون الرشيد، وكانت ولاية الرشيد في سنة سبعين ومائة. ودلامة: بضم الدال المهملة. وزند: بفتح الزاي وسكون النون وبعدها دال مهملة، وقيل اسمه " زبد " بالياء الموحدة، والأول أثبت. والجون: بفتح الجيم وسكون الواو وبعدها نون. 245 - (2) عماد الدين زنكي أبو الجود عماد الدين زنكي بن آق سنقر بن عبد الله الملقب بالملك المنصور المعروف والده بالحاجب؛ صاحب الموصل - وقد تقدم ذكر أبيه في حرف الهمزة - وكان من الأمراء المقدمين، وفوض إليه السلطان محمود بن محمد بن ملكشاه السلجوقي ولاية بغداد في سنة إحدى وعشرين وخمسمائة، ولما قتل آق سنقر البرسقي - المذكور في حرف الهمزة - وتوفي أيضاً ولده مسعود - حسبما ذكرناه في ترجمته - ورد مرسوم السلطان محمود من خراسان بتسليم الموصل إلى دبيس بن صدقة الأسدي صاحب الحلة - وقد تقدم ذكره أيضاً - فتجهز دبيس للمسير، وكان بالموصل أمير كبير المنزلة يعرف بالجاولي، وهو مستحفظ قلعة الموصل ومتولي أمورها من جهة البرسقي، فطمع في البلاد وحدثته نفسه بتملكها، فأرسل إلى بغداد بهاء الدين أبا الحسن علي بن القاسم الشهرزوري وصلاح الدين محمد اليغيساني لتقرير قاعدته، فلما وصلا إليها   (1) وكانت وفاته ... حتى آخر الترجمة: تقدم هذا في المسودة على القصة التي تخبر عن مرض ولده. (2) أخبار عماد الدين زنكي منثورة في صفحات متفرقة من كتاب الباهر والكامل، وكلاهما لابن الأثير؛ وقد جاءت هذه الترجمة مختصرة في س. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 327 وجدا الإمام المسترشد قد أنكر تولية دبيس، وقال: لا سبيل إلى هذا، وترددت الرسائل بينه وبين السلطان محمود في ذلك، وآخر ما وقع اختيار المسترشد عليه تولية زنكي المذكور، فاستدعى الرسولين الواصلين من الموصل وقرر معهما أن يكون الحديث في البلاد لزنكي، ففعلا ذلك، وضمنا للسلطان مالاً وبذل له على ذلك المسترشد من ماله مائة ألف دينار، فبطل أمر دبيس وتوجه زنكي إلى الموصل وتسلمها، ودخلها في عاشر رمضان سنة إحدى وعشرين وخمسمائة، كذا قال ابن العظيمي (1) في تاريخه، وقد قيل: إن انتقاله إلى الموصل كان في سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة، والأول أصح - وسيأتي ذكر السلطان محمود في حرف الميم إن شاء الله تعالى -. ولما تقدم زنكي الموصل سلم إليه السلطان محمود ولديه ألب ارسلان وفروخ شاه المعروف بالخفاجي ليربيهما فلهذا قيل له " أتابك " لأن الأتابك هو الذي يربي أولاد الملوك - وقد تقدم ذكر ذلك في حرف الجيم عند ذكر جقر - ثم استولى زنكي على ما وإلى الموصل من البلاد، وفتح الرها يوم السبت الخامس والعشرين من جمادى الآخرة سنة تسع وثلاثين وخمسمائة، وكانت لجوسلين الأرمني، ثم توجه إلى قلعة جعبر ومالكها يوم ذاك سيف الدولة أبو الحسن علي بن مالك، فحاصرها وأشرف على أخذها، فأصبح يوم الأربعاء خامس شهر ربيع الآخر (2) سنة إحدى وأربعين وخمسمائة مقتولاً، قتله خادمه وهو راقد على فراشه ليلاً، ودفن بصفين، رحمه الله تعالى. وذكر شيخنا عز الدين بن الأثير الجزري في تاريخه الأتابكي (3) أن زنكي المذكور لما قتل والده كان عمره تقديراً عشر سنين، وقد تقدم تاريخ قتل والده في ترجمته، فيكون مولده سنة سبع وسبعين وأربعمائة. [وعن بعض خواصه قال: دخلت إليه في الحال وهو حي، فحين رآني   (1) هو محمد بن علي بن محمد أبو عبد الله التنوخي العظيمي، وكتابه الذي يشير إليه المؤلف تاريخ عام مرتب على السنين بلغ فيه إلى حوادث سنة 538 (النجوم الزاهرة 5: 133) . (2) د: ربيع الأول. (3) انظر الباهر: 15. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 328 ظن أني أريد قتله فأشار إلي بإصبعه السبابة يستعطفني، فوقفت من هيبته وقلت له: يا مولانا، من فعل بك هذا فلم يقدر على الكلام، وفاضت نفسه لوقته. وكان شديد الهيبة على عسكره ورعيته، عظيم السياسة، لا يقدر القوي على ظلم الضعيف، وكانت البلاد قبل أن يملكها خراباً من الظلم ومجاورة الفرنج، فعمرها وامتلأت أهلاً وسكاناً. قال عز الدين بن الأثير في تاريخه: حكى لي والدي قال: رأيت الموصل وأكثرها خراب، وكان الإنسان لا يقدر على المشي إلى الجامع العتيق إلا ومعه من يحميه لبعده عن العمارة، وهو الآن في وسط العمارة. وكان شديد الغيرة لا سيما على نساء الأجناد، وكان يقول: لو لم تحفظ نساء الأجناد بالهيبة وإلا فسدن لكثرة غيبة أزواجهن في الأسفار. وكان من أشجع خلق الله تعالى] (1) . وصفين - بكسر الصاد المهملة وتشديد الفاء وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها نون - وهي أرض على شاطئ الفرات بالقرب من قلعة جعبر، إلا أنها في بر الشام، وقلعة جعبر في بر الجزيرة الفراتية، بينهما مقدار فرسخ أو أقل، وفيها مشهد في موضع الوقعة المشهورة التي كانت بها بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما، وبهذه الأرض قبور جماعة من الصحابة - رضي الله عنهم - حضروا هذه الوقعة وقتلوا بها، منهم عمار بن ياسر رضي الله عنه. (41) وتوفي القاضي بهاء الدين أبو الحسن علي بن القاسم الشهرزوري الرسول المذكور يوم السبت سادس عشر رمضان سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة بحلب، وحمل إلى صفين ودفن بها، رحمه الله تعالى عليه.   (1) زيادة من النسخة ص وحدها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 329 246 - (1) عماد الدين صاحب سنجار أبو الفتح وأبو الجود عماد الدين زنكي بن قطب الدين مودود بن عماد الدين زنكي المذكور قبله المعروف بصاحب سنجار؛ كان قد ملك حلب بعد ابن عمه الملك الصالح إسماعيل بن نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي، وكانت وفاة الصالح المذكور في سنة سبع وسبعين وخمسمائة وعمره تسع عشرة سنة. وكان لما اشتد مرضه (2) وصف له الأطباء شرب الخمر للتداوي، فقال: لا أفعل حتى أستفتي الفقهاء، فأفتاه فقيه من مدرسي الحنفية بجواز ذلك، فقال له: أرأيت إن قدر الله تعالى بقرب الأجل أيؤخره شرب الخمر فقال الفقيه: لا، فقال: والله لا لقيت الله عز وجل وقد استعملت ما حرمه عليه فلما يئس من نفسه أحضر الأمراء وسائر الأجناد ووصاهم بتسليم البلد إلى ابن عمه عز الدين مسعود واستحلفهم على ذلك ثم مات. وكان حليماً كريماً عفيف اليد والفرج ملازماً للدين والخير لا يعرف شيئاً مما يتعاطاه الملوك والشباب من شرب الخمر وغيره، حسن السيرة في رعيته عادلاً فيهم، رحمه الله تعالى. ثم إن السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب رحمه الله سار من عينتاب إلى حلب وحاصرها في سنة ثمانين وخمسمائة، فنزل في الميدان الأخضر عدة أيام ثم انتقل إلى جبل جوشن، فنزل بأعلاه وأظهر أنه يريد يبني مساكن له ولعسكره، والقتال بين العسكرين كل يوم. وكان صاحب حلب عماد الدين زنكي المذكور ومعه العسكر النوري وهم مجدون في القتال، فلما رأى [تطاول القتال] كره الخرج كأنه استكثره، فحضر عنده يوماً بعض أجناده وطلبوا منه شيئاً   (1) ترجمة عماد الدين زنكي بن مودود في ذيل الروضتين: 13 والنجوم الزاهرة 6: 144؛ وهذه الترجمة مثبتة كما وردت في ص، وهي موجزة في ر س م والمسودة. (2) يعني الملك الصالح (انظر الباهر: 182) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 330 فاعتذر بقلة المال عنده، فقال له بعضهم: من يريد يحفظ مثل حلب يخرج المال، ولو باع حلي نسائه، فمال حينئذ إلى تسليم حلب لصلاح الدين ويأخذ عوضها سنجار ونصيبين والخابور والرقة وسروج، وجرت اليمين على ذلك فتسلمها صلاح الدين ثامن عشر صفر ونزل عنها عماد الدين، فعجب الناس من ذلك وقبحوا على عماد الدين فعله حتى إن بعض عامة حلب أحضر إجانة وماء وناداه: أنت لا يصلح لك الملك وإنما يصلح لك أن تغسل الثياب، وإذا أراد الله أمراً فلا مرد له؛ وتقرر عماد الدين أن يكون في خدمة صلاح الدين متى استدعاه. ومن عجيب الاتفاقات أن محيي الدين بن الزكي قاضي دمشق مدح صلاح الدين بقصيدة منها: وفتحك القلعة الشهباء في صفر ... مبشر بفتوح القدس في رجب وكذا كان، فإن القدس فتح في رجب سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة على ما سنذكره إن شاء الله تعالى. ومما كتبه القاضي الفاضل في المعنى: أعطيناه عن حلب كذا وكذا وهو صرف على الحقيقة: أخذنا فيه الدنانير وأعطيناه الدراهم ونزلنا عن القرى وأحرزنا العواصم. وكان في جملة من قتل على حلب تاج الملوك أخو صلاح الدين الأصغر وقد تقدم ذكره. وانتقل عماد الدين المذكور في السنة المذكورة إلى سنجار ولم يزل بها إلى أن توفي في المحرم سنة أربع وتسعين وخمسمائة. (42) وملك ابنه قطب الدين محمد وتولى تدبير دولته مجاهد الدين يرنقش مملوك أبيه، وكان ديناً خيراً عادلاً حسن السيرة كثير البر والإحسان للفقراء، إلا أنه كان شديد التعصب على مذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه، كثير الذم للشافعية، وكان بخيلاً؛ فمن تعصبه على الشافعية أنه بنى مدرسة للحنفية بسنجار وشرط أن يكون النظر للحنفية من أولاده دون الشافعية، وأن يكون البواب والفراش على مذهب أبي حنيفة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 331 247 - (1) بهاء الدين زهير أبو الفضل زهير بن محمد بن علي بن يحيى بن الحسن بن جعفر بن منصور بن عاصم المهلبي العتكي (2) الملقب بهاء الدين الكاتب؛ من فضلاء عصره، واحسنهم نظماً ونثراً وخطاً، ومن أكبرهم مروءة، كان قد اتصل بخدمة السلطان الملك الصالح أبي الفتح أيوب ابن السلطان الملك الكامل بالديار المصرية، وتوجه في خدمته إلى البلاد (3) الشرقية، وأقام بها إلى أن ملك الملك الصالح مدينة دمشق، فانتقل إليها في خدمته، وأقام كذلك إلى أن جرت الكائنة المشهورة على الملك الصالح، وخرجت عنه دمشق وخانه عسكره وهو على نابلس وتفرق عنه، وقبض عليه الملك الناصر صاحب الكرك، واعتقله بقلعة الكرك، فأقام بهاء الدين زهير المذكور بنابلس محافظة لصاحبه، ولم يتصل بخدمة غيره، ولم يزل على ذلك حتى خرج الملك الصالح وملك الديار المصرية، وقدم إليها في خدمته، وذلك في أواخر ذي القعدة سنة سبع وثلاثين وستمائة - وهذا الفصل مذكور في ترجمة أبيه الملك الكامل محمد فينظر هناك -. وكنت يومئذ مقيماً بالقاهرة، وأود لو اجتمعت به لما كنت أسمعه عنه، فلما وصل اجتمعت به ورأيته فوق ما سمعت عنه (4) من مكارم الأخلاق وكثرة الرياضة (5) ودماثة السجايا، وكان متمكناً من صاحبه كبير القدر عنده، لا يطلع   (1) ترجمة بهاء الدين زهير في النجوم الزاهرة 7: 62 وشذرات الذهب 5: 276 وفيه نقل عن ابن خلكان) ؛ وقد اتبعنا في هذه الترجمة الترتيب الذي وردت عليه في مخطوطة ص دون سواها، وهو مختلف عما في ر. (2) النجوم: المكي. (3) أج: الديار. (4) ص: وصف لي. (5) هـ: الرياسة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 332 على سره الخفي غيره، ومع هذا كله فإنه كان لا يتوسط عنده إلا بالخير، ونفع خلقاً كثيراً بحسن وساطته وجميل سفارته (1) . وأنشدني كثيراً من شعره، فمن ذلك ما كتبه إلى بعض أصحابه وكان قد غرقت به سفينة فسلم بنفسه وذهب ما كان معه (2) : لا تعتب الدهر في خطب رماك به ... إن استرد فقدماً طالما وهبا حاسب زمانك في حالي تصرفه ... تجده أعطاك أضعاف الذي سلبا والله قد جعل الأيام دائرة ... فلا ترى راحة تبقى ولا تعبا ورأس مالك وهي الروح قد سلمت ... لا تأسفن لشيء بعدها ذهبا ما كنت أول مفدوح بحادثة ... كذا مضى الدهر لا بدعاً ولا عجبا ورب مال نما من بعد مرزئة ... أما ترى الشمع بعد القط ملتهبا وأنشدني المذكور، وكتب بها لفخر الدين ابن قاضي داريا يشكو إليه سوء أدب غلمانه (3) : سواك الذي ودي لديه مضيع ... وغيرك من سعيي إليه محبب ووالله ما آتيك إلا محبة ... وأني في أهل الفضيلة أرغب أبث لك الذكر الذي طاب نشره ... وأطري بما أثني عليك وأطرت فما لي ألقى دون بابك جفوة ... لغيرك تعزى، لا إليك، وتنسب أرد برد الباب إن جئت زائراً ... فيا ليت شعري أين أهل ومرحب ولست بأوقات الزيارة جاهلاً ... ولا أنا ممن قربه يتجنب وقد جعلوا في خادم المرء أنه ... بما كان من أخلاقه يتهذب   (1) م: فلما وصلت إليه واجتمعت به يعد قدومه ريته كامل الأدوات كبير المنزلة عند مخدومه وكان لا يتوسط إلا في الخير؛ (هذا نموذج للإيجاز الذي تمثله هذه النسخة) . (2) ديوانه: 17. (3) ديوانه: 26. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 333 فهلا سرت منك اللطافة فيهم ... وأعددتهم آدابهم فتأدبوا ويصعب عندي حالة ما ألفتها ... على أن بعدي عن جنابك أصعب فأمسك نفسي عن لقائك كارهاً ... " أغالب فيك الشوق والشوق أغلب " وأغضب للفضل الذي أنت ربه ... لأجلك، لا أني لنفسي أغضب وآنف إما عزة منك نلتها ... وإما لإدلال به أتعتب وإن كنت ما أعتد هاتيك زلة ... فحسبي بها من خجلة حين أذهب وله من قصيدة يمدح بها الملك المسعود صلاح الدين يوسف ابن الملك الكامل رحمه الله: وتهتز أعواد المنابر باسمه ... فهل ذكرت أيامها وهي قضبان فدع كل ماء حين يذكر زمزم ... ودع كل واد حين يذكر نعمان وما كل أرض مثل أرضي هي الحمى ... وما كل بيت مثل بيتي هو البان وله من قصيد يمدح به الأمير علاء الدين وله الأمير شجاع الدين جلدك التقوي بثغر دمياط سنة خمس وستمائة، وهي أول شيء قاله من المدح: فيا ظبي هلا كان فيك التفاتة ... ويا غصن هلا كان فيك تعطف ويا حرم الحسن الذي هو آمن ... وألبابنا من حوله تتخطف عسى عطفة بالوصل يا واو صدغه ... وحقك إني أعرف الواو تعطف وله من قصيدة: وما كل مخضوب البنان بثينة ... ولا كل مسلوب الفؤاد جميل وله من قصيدة يمدح بها الأمير نصير الدين بن اللمطي ويهنيه: وهل كنت إلا السيف خالطه الصدا ... فكنت له يا ذا المواهب صيقلا وما لي لا أسمو إلى كل غاية ... إذا كنت عوني في الزمان وكيف لا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 334 وله من أبيات كتب بها إلى القاضي فخر الدين ابن قاضي داريا يشكره لمعروف ابتدأه به: وخذها على ما خيلت بنت ساعة ... أتتك على استحيائها تتعثر ومما أنشدنيه قوله (1) : يا روضة الحسن صلي ... فما عليك ضير فهل رأيت روضة ... ليس بها زهير وأنشدني أيضاً لنفسه (2) : كيف خلاصي من هوى ... مازج روحي واختلط وتائه أقبض في ... حبي له وما انبسط يا بدر إن رمت به ... تشبهاً رمت شطط (3) ودعه يا غصن النقا ... ما أنت من ذاك النمط قام بعذري وجهه ... عند عذولي وبسط لله أي قلم ... لواو ذاك الصدغ خط ويا له من عجب ... في خده كيف نقط يمر بي ملتفتاً ... فهل رأيت الظبي (4) قط ما فيه من عيب سوى ... فتور عينيه فقط يا قمر السعد الذي ... نجمي لديه قد هبط يا مانعي حلو الرضا ... ومانحي مر السخط حاشاك أن ترضى بأن ... أموت في الحب غلط   (1) ديوانه: 112؛ وكل ما تقدم من إنشادات لم يرد في المسودة. (2) ديوانه: 190. (3) الديوان: الشطط. (4) أ: البدر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 335 وأنشدني لنفسه أيضاً (1) : أنا ذا زهيرك ليس إلا جود كفك لي مزينه ... أهوى جميل الذكر عن ... ك كأنما هو لي بثينه فاسأل ضميرك عن ودا ... دي إنه فيه جهينه وأنشدني لنفسه أيضاً أبياتاً لم يعلق على خاطري منها سوى بيتين من آخرها، وهما (2) : وأنت يا نرجس عينيه كم ... تشرب من قلبي وما أذبلك ما لك في حسنك من مشبه ... ما تم في العالم ما تم لك وأنشدني غير ذلك شيئاً كثيراً، وشعره كله لطيف، وهو كما يقال: السهل الممتنع، وأجازني رواية ديوانه، وهو كثير الوجود بأيدي الناس فلا حاجة إلى الإكثار من ذكر مقاطيعه. وأخبرني جمال الدين أبو الحسين يحيى بن مطروح - الآتي ذكره في حرف الياء إن شاء الله تعالى - قال: كتبت إليه، وكان خصيصاً به: أقول وقد تتابع منك بر ... وأهلاً ما برحت لكل خير ألا لا تذكروا هرما بجود ... فما هرم بأكرم من زهير [قال: وكتب إليه مرة أخرى يطلب درج ورق ومداداً (3) : أفلست يا سيدي من الورق ... فجد بدرج كعرضك اليقق وآتني بالمداد مقترناً ... فمرحباً بالخدود والحدق   (1) ديوانه: 369، وقد وقعت متقدمة في المسودة على الأبيات السابقة لها. (2) ديوانه: 250. (3) ديوانه: 233. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 336 فسير إليه زهير المذكور جوابه مع المطلوب: مولاي سيرت ما أمرت به ... وهو يسير المداد والورق وعز عند يسير ذاك وقد ... شبهته بالخدود والحدق] (1) وأخبرني بهاء الدين زهير المذكور أنه توجه إلى الموصل رسولاً من جهة مخدومه الملك الصالح لما كان ببلاد الشرق، وأنه كان ببلاد الموصل يومئذ صاحبنا الأديب شرف الدين أبو العباس أحمد بن محمد بن أبي الوفاء بن خطاب المعروف بابن الحلاوي الموصلي الأصل الدمشق المولد والدار، فحضر إليه ومدحه بقصيدة طويلة أحسن فيها كل الإحسان، وكان من جملتها قوله: تجيزها وتجيز المادحين بها ... فقل لنا أزهير أنت أم هرم وأنه لما رجع من الموصل اجتمع بجمال الدين بن مطروح المذكور فأوقفه على القصيدة المذكورة فأعجبه منها هذا البيت المذكور، فكتب إليه البيتين المذكورين (2) . قلت: وبيت ابن الحلاوي المذكور ينظر إلى قول ابن القاسم في الداعي سبأ ابن أحمد الصليحي، أحد ملوك اليمن، وكان شاعراً جواداً من قصيدة (3) : ولما مدحت الهبرزي ابن أحمد ... أجاز وكافاني على المدح بالمدح فعوضني شعراً بشعر وزادني ... عطاء فهذا رأس مالي وذا ربحي وأخبرني بهاء الدين أيضاً أن مولده في خامس ذي الحجة سنة إحدى وثمانين وخمسمائة بمكة حرسها الله تعالى، وأخبرني مرة أخرى أنه ولد بوادي نخلة، وهو بالقرب من مكة، والله أعلم، وهو الذي أملى علي نسبه على هذه الصورة، وسطرت هذا الفصل وهو في قيد الحياة منقطعاً في بيته بالقاهرة بعد موت مخدومه، طيب الله قلبه وأجراه على أجمل عاداته، وأخبرني أن نسبته   (1) زيادة من د ر وحدهما. (2) إلى هنا انتهت الترجمة في م ولم يزد عليها سوى ذكر وفاته. (3) انظر تاريخ عمارة: 65 ونسب الشعر لعلي بن الحسين بن القاسم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 337 إلى المهلب بن أبي صفرة - وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى -. ثم حصل بالقاهرة ومصر مرض عظيم لم يكد يسلم منه أحد، وكان حدوثه يوم الخميس الرابع والعشرين من شوال سنة ست وخمسين وستمائة، وكان بهاء الدين المذكورة ممن مسه منه ألم، فأقام أياماً ثم توفي قبيل المغرب يوم الأحد رابع ذي القعدة من السنة المذكورة، ودفن من الغد بعد صلاة الظهر بالقرافة الصغرى بتربته بالقرب من قبة الإمام الشافعي، رضي الله عنه، في جهتها القبلية (1) ، ولم يتفق لي الصلاة عليه لاشتغالي بالمرض، رحمه الله تعالى. ولما أبللت من المرض مضيت إلى تربيته وزرته وقرأت عنده شيئاً من القرآن وترحمت عله لمودة كانت بيننا. وأنشدني الفقيه أبو الحجاج يوسف الضرير لبهاء الدين لغزاً في القفل (2) : وأسود عار أنحل البرد جسمه ... وما زال من أوصافه الحرص والمنع وأعجب شيء كونه الدهر حارساً ... وليس له عين وليس له سمع 248 (3) أبو محمد البكائي أبو محمد زياد بن عبد الله بن طفيل بن عامر القيسي العامري من بني عامر بن صعصعة ثم من بني البكاء؛ روى سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن محمد بن إسحاق، ورواها عنه عبد الملك بن هشام الذي رتبها ونسبت إليه. والبكائي المذكور كوفي، وكان صدوقاً ثقة، خرج عنه البخاري في كتاب   (1) أ: الغربية. (2) ديوانه: 21. (3) ترجمة أبي محمد البكائي في ميزان الاعتدال 2: 91. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 338 الجهاد، ومسلم في مواضع من كتابه، وذكر البخاري في تاريخه عن وكيع قال: زياد أشرف من أن يكذب في الحديث؛ ووهم الترمذي فقال في كتابه عن البخاري قال، قال وكيع: زياد بن عبد الله على شرفه يكذب في الحديث (1) ، وهذا وهم، ولم يقل وكيع فيه إلا ما ذكره البخاري في تاريخه، ولو رماه وكيع بالكذب ما خرج البخاري عنه حديثاً واحداً ولا مسلم، كما لم يخرجا عن الحارث الأعور لما رماه الشعبي بالكذب ولا عن أبان بن أبي عياش لما رماه شعبة بالكذب. وروى عن الأعمش، وروى عنه أحمد بن حنبل وغيره، رضي الله عنه. وكانت وفاة أبي محمد المذكور في سنة ثلاث وثمانين ومائة بالكوفة، رحمه الله تعالى. والبكائي: بفتح الباء الموحدة وتشديد الكاف وبعد الهمزة الممدودة ياء مثناة من تحتها، وهذه النسبة إلى البكاء، واسمه ربيعة بن عامر بن ربيعة بن عامر بن صعصعة، وسمي البكاء لخبر يسمج ذكره. 249 - (2) التاج الكندي أبو اليمن زيد بن الحسن بن زيد بن الحسن بن سعيد الكندي الملقب تاج الدين البغدادي المولد والمنشأ الدمشقي الدار والوفاة المقرئ النحوي الأديب؛ كان   (1) قال فيه ابن معين: لا بأس به في المغازي وأما في غيرها فلا، وقال ابن المديني: ضعف، وكذلك قال النسائي وابن سعد؛ أما اتهامه بالكذب فغير وارد. (2) ترجمة تاج الدين الكندي في انباه الرواة 2: 10 وذيل الروضتين: 95 وغاية النهاية 1: 297 ومعجم الأدباء 11: 171 والنجوم الزاهرة 6: 216 والخريدة (قسم الشام) 1: 100 وبغية الوعاة: 249 والجواهر المضية 1: 246؛ وهذه الترجمة كاملة في المسودة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 339 أوحد عصره في فنون الآداب وعلو السماع، وشهرته تغني عن الاطناب في وصفه، وكان قد لقي جلة المشايخ وأخذ عنهم، منهم الشريف أبو السعادات ابن الشجري وأبو محمد ابن الخشاب وابو منصور الجواليقي، وسافر عن بغداد في شبابه، وآخر عهده بها في سنة ثلاث وستين وخمسمائة (1) ، واستوطنت حلب حدة، وكان يبتاع الخيلع (2) ويسافر به إلى بلاد الروم ويعود إليها. ثم انتقل إلى دمشق، وصحب الأمير عز الدين فروخ شاه بن شاهان شاه، وهو ابن أخي السلطان صلاح الدين، واختص به وتقدم عنده وسافر في صحبته إلى الديار المصرية واقتنى من كتب خزائنها كل نفيس، وعاد إلى دمشق واستوطنها، وقصده الناس وأخذوا عنه، وله كتاب مشيخه على حروف المعجم. أخبرني أحد أصحابه أنه قال: كنت قاعداً على باب أبي محمد عبد الله بن الخشاب النحوي ببغداد، وقد خرج من عند أبو القاسم الزمخشري الإمام المشهور، وهو يمشي في جاون خشب فإن إحدى رجليه كانت قد سقطت من الثلج، ثال: والناس يقولون: هذا الزمخشري. ونقل من خطه: كان الزمخشري أعلم فضلاء العجم بالعربية في زمانه، وأكثرهم أنساً واطلاعاً على كتبها، وبه ختم فضلاؤهم، وكان متحققاً بالاعتزال، قدم علينا بغداد سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة، ورأيته عند شيخنا أبي منصور الجواليقي، رحمه الله تعالى، مرتين قارئاً عليه بعض كتب اللغة من فواتحها ومستجيزاً لها، لأنه لم يكن له على ما عنده من العلم عفا الله عنه وعنا. وأخبرني الشيخ مهذب الدين أبو الطالب محمد المعروف بابن الخيمي بالقاهرة المحروسة قال: كتب إلي الشيخ الدين الكندي من دمشق من جملة أبيات: أيها الصاحب المحافظ قد حم ... لتنا من وفاء عهدك دينا   (1) د: 573. (2) س: الخليق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 340 نحن بالشام رهن شوق إليكم ... هل لديكم بمصر شوق إلينا قد غلبنا بما حرمنا عليكم ... وغلبتم بما رزقتم علينا فعجزنا عن أن ترونا لديكم ... وعجزتم عن أن نراكم لدينا حفظ الله عهد من حفظ العهد وأوفى به كما قد وفينا ... قال: فكتبت جوابها أبياتاً من جملتها: أيها الساكنون بالشام من كندة إنا بعهدكم ما وفينا ... لو قضينا حق المودة كنا ... نحبنا بعد بعدكم قد قضينا وأنشدني له الشيخ مهذب الدين المذكور: دع المنجم يكبو في ضلالته ... إن ادعى علم ما يجري به الفلك تفرد الله بالعلم القديم فلا ال ... إنسان يشركه فيه ولا الملك أعد للرزق من اشراكه شركاً ... وبئست العدتان الشرك والشرك وكتبت إليه أبو شجاع ابن الدهان الفرضي، الآتي ذكره إن شاء الله تعالى في حرف الميم: يا زيد زادك ربي من مواهبه ... نعمى يقصر عن إدراكها الأمل لا غير الله حالاً قد حباك بها ... ما دار بين النحاة الحال والبدل النحو أنت أحق العالمين به ... أليس باسمك فيه يضرب المثل ومن شعر الشيخ تاج الدين، وقد طعن في السن: أرى المرء يهوى أن تطول حياته ... وفي طولها إرهاق ذلك وإزهاق تمنيت في عصر الشبيبة أنني ... أعمر والأعمار لا شك أرزاق فلما أتاني ما تمنيت ساءني ... من العمر ما قد كنت أهوى وأشتاق يخيل لي فكري إذا كنت خالياً ... رُكوبي على الأعناق والسير إعناق ويذكرني مَرُّ النسيم ورَوْحُهُ ... حفائر يعلوها من الترب أطباق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 341 وها أنا في إحدى وتسعين حجة ... لها في إرعاد مخوف وإبراق يقولون ترياق لمثلك نافع ... وما لي إلا رحمة الله ترياق وكانت ولادته بكرة يوم الأربعاء الخامس والعشرين من شعبان سنة عشرين وخمسمائة ببغدادن وتوفي يوم الاثنين ضحوة سادس شوال سنة ثلاثة عشرة وستمائة بدمشق، ودفن من يومه بجبل قاسيون، رحمه الله تعالى. (43) وأما مهذب الدين المذكور فهو أبو طالب محمد بن ابي الحسن علي بن علي بن المفضل بن التامغاز، كذا أملى علي نسبه، وأنشدني كثيراً من شعره وشعر غيره، وكان اجتماعنا بالقاهرة المحروسة في مجالس عديدة، وأخبرني أن مولده في الثامن والعشرين من سوال سنة تسع وأربعين وخمسمائة بالحلة المزيدية، وتوفي يوم الأربعاء والعشرين من ذي القعدة سنة اثنتين وأربعين وستمائة، ودفن من الغد بالقرافة الصغرى، وحضرت الصلاة عليه، وكان إماماً في اللغة راوية للشعر والأدب، رحمه الله تعالى. وقاسيون: بفتح القاف وبعد الألف سين مكسورة مهملة وضم الياء المثناة من تحتها وبعد الواو الساكنة نون، وهو جبل مطل على دمشق، وفيه قبور أهلها وتُربهم وفيه مدارس ورباطات وجامع، وفيه نهران ثورا ويزيد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 342 250 - (1) زيري بن مناد الصنهاجي الأمير زيري بن مناد الحميري الصنهاجي جد المعز بن باديس - الآتي ذكره إن شاء الله تعالى، وقد تقدم ذكر ولده بلكين وحفيده باديس في حرف الباء وذكر حفيد حفيده الأمير تميم في حرف التاء، واستوعبت عنده الرفع في نسبه -؛ وزيري المذكور أول من ملك من بيتهم، وهو الذي بنى مدينة آشير، وحصنها في ايام خروج أبي يزيد مخلج الخارجي - المقدم ذكره - لما خرج على القائم بن المهدي وعلى ولده المنصور إسماعيل وملكها السيرة تام السياسة شجاعاً صارماً، وكانت بينه وبين جعفر بن علي لأندلسي - المقدم ذكره في حرف الجيم - ضغائن وأحقاد أفضت إلى الحرب، فلما تصافا انجلى المصاف عن قتل زيري المذكور، وذلك في شهر رمضان سنة ستين وثلثمائة، وذكر أنه كبابه فرسه؛ فسقط إلى الأرض فقتل، وكانت مدة ملكه ستاً وعشرين سنة، رحمه الله تعالى. وزيري: بكسر الزاي وسكون الياء المثناة من تحتها وكسر الراء وبعدها مثناة من تحتها. ومناد: بفتح الميم والنون وبعد الألف دالة مهملة. والصنهاجي: تقدم الكلام عليه. وآشير: بمد الهمزة وكسر الشين المعجمة وسكون الياء المثناة من تحتها   (1) ترجمة زيري الصنهاجي في أعمال الأعلام: 64 وأخباره في ابن عذاري (الجزء الأول) وفي المقتبس (ط. دار الثقافة) ، وفي المصادر التاريخية العامة كابن الأثير وابن خلدون، وقد استوفت المسودة هذه الترجمة دون نقص. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 343 وبعدها راء، وقد تقدم ذكرها في حرف الهمزة في ترجمة أبي إسحاق إبراهيم ابن قرقول. وتاهرت: بفتح التاء المثناة من فوقها وبعد الألف هاء مفتوحة وراء ساكنة ثم تاء مثناة من فوقها، وهي مدينة بأفريقية، وثم أيضاً تاهرت أخرى، ويقال للواحدة القديمة وللأخرى الجديدة، ولا أعلم أي المدينتين ملكها زيري المذكور. 251 - (1) زينب بنت الشعري أم المؤيد زينب - وتدعى حرة أيضاً - بنت أبي القاسم عبد الرحمن بن الحسن بن أحمد بن سهل بن أحمد بن عبدوس الجرجاني الأصل النيسابوري الدار الصوفي المعروف بالشعري؛ كانت عالمة، وأدركت جماعة من أعيان العلماء، وأخذت عنهم رواية وإجازة. سمعت من أبي محمد إسماعيل بن أبي القاسم ابن أبي بكر النيسابوري القارئ، وأبي القاسم زاهر وأبي بكر وجيه ابني طاهر الشحاميين وأبي المظفر عبد المنعم بن عبد الكريم بن هوازن القشيري وأبي الفتوح عبد الوهاب بن شاه الشاذياخي وغيرهم، وأجاز لها الحافظ أبو الحسن عبد الغافر بن إسماعيل بن عبد الغافر الفارسي والعلامة أبو القاسم محمود ابن عمر الزمخشري صاحب " الكشاف " وغيرهما من السادات الحفاظ. ولنا منها إجازة كتبتها في بعض شهور سنة عشر وستمائة، ومولدي يوم الخميس بعد صلاة العصر حادي عشر شهر ربيع الآخر سنة ثمان وستمائة (2) بمدينة   (1) ترجمة زينب بنت الشعري في النجوم الزاهرة 5: 92، 6: 181 وشذرات الذهب 5: 63؛ وهذه الترجمة مستوفاة في المسودة. (2) يعني أنها أجازت له وهو طفل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 344 إربل بمدرسة سلطانها الملك المعظم مظفر الدين بن زين الدين، رحمهما الله تعالى. ومولد زينب المذكورة سنة أربع وعشرين وخمسمائة بنيسابور، وتوفيت سنة خمس عشرة وستمائة في جمادى الآخرة بمدينة نيسابور، رحمها الله تعالى. والشعري: بفتح الشين المثلثة وسكون العين المهملة وفتحها وبعدها راء، هذه النسبة إلى الشعر وعمله وبيعه، ولا أعلم من كان في أجدادها يتعاطاه فنسبوا إليه، والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 345 فراغ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 346 حَرْفُ السِين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 347 فراغ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 348 (1) 252 سالم بن عبد الله بن عمر أبو عمرو - ويقال أبو عبد الله - سالم بن عبد الله ابن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب العدوي، رضي الله عنهم أجمعين؛ أحد فقهاء المدينة، من سادات التابعين وعلمائهم وثقاتهم، روى عن أبيه وغيره، وروى عنه الزهري ونافع. توفي في آخر ذي الحجة سنة ست ومائة، وقيل سنة ثمان ومائة، وهشام بن عبد الملك يومئذ بالمدينة، وكان قد حج بالناس تلك السنة، ثم قدم المدينة فوافق موت سالم، فصلى عليه بالبقيع لكثرة الناس، فلما رأى هشام كثرتهم قال لإبراهيم بن هشام المخزومي [والي المدينة] (2) : اضرب على الناس بعث أربعة آلاف، فسمي عام أربعة آلاف. [حدث الزهري قال سمعت سالم بن عبد الله يقول: دخلت على الوليد بن عبد الملك، فقال: ما أحسن جسمك! فما طعامك قلت: الكعك والزيت، قال: وتشتهيه قلت: أدعه حتى أشتهيه، فإذا اشتهيته أكلته، وكان يقول: إياكم ومداومة اللحم، فإن له ضراوة كضراوة الشراب. وكتب عمر بن عبد العزيز إلى سالم بن عبد الله أن اكتب لي بشيء من رسائل عمر بن الخطاب، فكتب إليه: " يا عمر، اذكر الملوك الذين تفقأت أعينهم التي كانت لا تنقضي لذتهم بها، وتفقأت بطونهم التي كانوا لا يشبعون بها،   (1) ترجمة سالم بن عبد الله في طبقات ابن سعد 5: 195 وتهذيب ابن عساكر 6: 50 وغاية النهاية 1: 301 وصفة الصفوة 2: 50 وحلية الأولياء 2: 193 وتهذيب التهذيب 3: 436 ورجال ابن حبان: 65 وتذكرة الحفاظ: 88. (2) زيادة من ج. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 349 وصاروا جيفاً في الأرض تحت آكامها، لو كانت إلى جنب مساكن لنا لتأذينا بريحهم "] (1) . وقال محمد بن إسحاق صاحب المغازي والسير: رأيت سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم يلبس الصوف، وكان علج الخلق (2) يعالج بيديه ويعمل. ودخل سليمان بن عبد الملك الكعبة، فرأى سالماً، فقال له: سلني حوائجك، فقال: والله لا سألت في بيت الله غير الله. 253 - (3) سالم الخاسر أبو عمر سالم الشاعر عرف بالخاسر؛ يقال إنه مولى أبي بكر الصديق، وقيل بل مولى المهدي، وهو سالم بن عمرو بن حماد بن عطاء بن ياسر، هكذا نسبه أحمد ابن أبي طاهر، وسمي الخاسر لكونه باع مصحفاً واشترى بثمنه طنبوراً. قدم بغداد ومدح المهدي والهادي والبرامكة، وكان على طريقة غير مرضية من المجون والتظاهر بالخلاعة والفسوق. وكان سالم المذكور قد مدح المهدي بقصيدة منها: حضر الرحيل وشدت الأحداج ... وحدا بهن مشمر مزعاج   (1) زيادة من ر ولم ترد في المسودة وسائر النسخ. (2) هـ: الخلقة. (3) ترجمة سالم الخاسر (الشهير بسلم الخاسر) في معجم الأدباء 11: 236 وتاريخ بغداد 9: 136 وطبقات ابن المعتز: 99 والأغاني 19: 214؛ ولم ترد هذه الترجمة في م س والمسودة وإنما انفردت بها ص ر؛ ومعظم ما ورد هنا منقول عن تاريخ بغداد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 350 شربت بمكة في ذرى بطحائها ... ماء النبوة ليس فيه مزاج وكان المهدي أعطى مروان بن أبي حفصة مائة ألف درهم بقصيدته التي أولها: طرقتك زائرة فحي خيالها ... فأراد أن ينقص سالماً من هذه الجائزة فحلف سالم أن لا يأخذ إلا مائة ألف وقال: تطرح القصيدتان إلى أهل العلم حتى يخبروا بتقدم قصيدتي؛ فأنفذ له المهدي مائة ألف درهم وألف درهم، وكان هذا ماله. وكان ينتمي إلى ولاء تيم بن مرة من قريش، فلما بلغ زمن الرشيد، وكان الرشيد قد بايع لمحمد بن زبيدة، يعني ولده الأمين، قال قصيدته التي أولها: قل للمنازل بالكثيب الاعفر ... أسقيت غادية السحاب الممطر قد بايع الثقلان مهدي الهدى ... لمحمد بن زبيدة ابنة جعفر فحشت زبيدة فاه دراً فباعه بعشرين ألف دينار. وتقدم لمروان بن أبي حفصة مع زبيدة مثل ذلك في حرف الزاي. ومات سالم في أيام الرشيد وقد اجتمع عنده ستة وثلاثون ألف دينار، فاودعها أبا السمراء الغساني فبقيت عنده، وإن إبراهيم الموصلي دخل يوماً على الرشيد وغناه فأطربه فقال: سل ما شئت، قال: نعم يا سيدي، أسأل شيئاً لا يزرأك، قال: ما هو قال: مات سالم وليس له وارث وخلف ستة وثلاثين ألف دينار عند أبي السمراء الغساني، تأمره أن يدفعها إلي، فتسلمها (1) . وكان الجماز قدم هو وأبوه يطالبان بميراث سالم بأنهما من قرابته. وذكروا أنه لما قال أبو العتاهية (2) : تعالى الله يا سلم بن عمرو ... أذل الحرص أعناق الرجال   (1) في الأغاني أن الرشيد هو الذي قبض تركة سلم الخاسر وقال: " هذا خادمي ونديمي والذي خلفه من مالي فأنا أحق به ". (2) انظر الأغاني: 231. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 351 غضب سالم وقال: يزعم أني حريض وقال يرد عليه: ما أقبح التزهيد من واعظ ... يزهد الناس ولا يزهد لو كان في تزهيده صادقاً ... أضحى وأمسى بيته المسجد ويرفض الدنيا ولم يقنها ... ولم يكن يسعى ويسترفد يخاف أن تنفد أرزاقه ... والرزق عند الله لا ينفد والرزق مقسوم على من ترى ... يناله الأبيض والأسود كل يوفى رزقه كاملاً ... من كف عن جهد ومن يجهد وكان سالم من الشعراء المجيدين من تلامذة بشار، وصار يقول أرق من شعر بشار. وكان بشار قد قال: من راقب الناس لم يظفر بحاجته ... وفاز بالطيبات الفاتك اللهج وقال سالم: من راقب الناس مات غماً ... وفاز باللذة الجسور فغضب بشار وقال: ذهب والله بيتي؛ يأخذ المعاني التي تعبت فيها فيكسوها ألفاظاً أخف من ألفاظي، لا أرضى عنه، فما زالوا يسألونه حتى رضي عنه. وقال أبو معاذ النميري: رأيت بشاراً لما قال هذا البيت وهو يلهج به كثيراً: من راقب الناس لم يظفر بحاجته ... البيت ... قلت: يا أبا معاذ، قد قال سالم الخاسر بيتاً في هذا المعنى هو أخف من هذا، وأنشدته: من راقب الناس مات غماً ... فقال: ذهب والله بيتي، والله لا أكلت اليوم شيئاً ولا صمت. وكانت وفاة سالم المذكور سنة ست وثمانين ومائة، رحمه الله تعالى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 352 254 - (1) أبو بكر ابن عياش أبو بكر سالم بن عياش بن سالم الحناط، الأسدي مولاهم، الكوفي؛ كان من أرباب الحديث والعلماء المشاهير، وهو أحد راوي يالقراءات عن عاصم، وهو مولى واصل بن حيان الأحدب. ذكر أبو العباس المبرد في كتاب " الكامل "، قال (2) : قال ابو بكر ابن عياش: أصابتني مصيبة آلمتني، فذكرت قول ذي الرمة (3) : لعل انحدار الدمع يعقب راحة ... من الوجد أو يشفي نجي البلابل فخلوت بنفسي وبكيت فاسترحت. وله أخبار وحكايات كثيرة. وقيل: اسمه كنيته، وقيل: اسمه شعبة، والله أعلم. وروي عنه أنه قال (4) : لما كنت شاباً وأصابتني مصيبة تجلدت لها، ودفعت البكاء بالصبر، فكان ذلك يؤذيني ويؤلمني، حتى رأيت أعرابياً بالكناسة وهو واقف على نجيب له ينشد: خليلي عوجا من صدور الرواحل ... بمهجور حزوى فابكيا في المنازل وبعده: لعل انحدار الدمع يعقب راحة ... من الوجد أو يشفي نجي البلابل   (1) ترجمة أبي بكر ابن عياش في ميزان الاعتدال 4: 499 (في الكنى) وغاية النهاية 1: 325 (تحت اسم: شعبة) والحناط: ضبطت بالنون، وفي المسودة: الخياط؛ وقال الجزري: اختلف في اسمه على ثلاثة عشر قولاً، وانظر ابن حيان: 173. (2) الكامل 1: 88. (3) ديوان ذي الرمة: 491 - 492. (4) تكرار للحكاية لم يرد في م. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 353 فسألت عنه، فقيل لي: ذو الرمة، فأصابني بعد ذلك مصائب، فكنت أبكي فأوجد لذلك راحة، فقلت: قاتل الله الأعرابي ما كان أبصره! [قال أبو بكر: قال لي رجل وأنا شاب: خلص رقبتك ما استطعت في الدنيا من رق الآخرة، فان أسير الآخرة غير مفكوك أبداً، فأنسيتها] (1) . وكانت وفاته بالكوفة في سنة ثلاث وتسعين ومائة، بعد هارون الرشيد بثمانية عشر يوماً، وعمره ثمان وتسعون سنة، وكانت وفاة الرشيد ليلة السبت لثلاث خلون من جمادى الآخرة من السنة المذكورة بمدينة طوس، رحمهما الله تعالى. وعياش: بفتح العين المهملة وتشديد الياء المثناة من تحتها وبعد الألف شين معجمة. والأسدي والكوفي: قد تقدم الكلام عليهما، وقيل: هو مولى بني كاهل ابن أسد بن خزيمة. 255 - (2) سابور بن أردشير أبو نصر سابور بن أردشير، الملقب بهاء الدولة وزير بهاء الدولة أبي نصر ابن عضد الدولة بن بويه الديلمي؛ كان من أكابر الوزراء، وأماثل الرؤساء، جمعت فيه الكفاية والدراية، وكان بابه محط الشعراء. ذكره أبو منصور الثعالبي في كتاب " اليتيمة " (3) ، وعقد لمداحه باباً مستقلاً، لم يذكر فيه غيرهم، فمن جملة من مدحه أبو الفرج الببغاء بقوله (4) :   (1) زيادة من د وحدها. (2) أخباره في صفحات متفرقة من تجارب الأمم والجزء التاسع من تاريخ ابن الأثير. (3) اليتيمة 3: 129. (4) المصدر السابق: 130. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 354 لمت الزمان على تأخير مطلبي ... فقال: ما وجه لومي وهو محظور فقلت: لو شئت ما فات الغنى أملي ... فقال: أخطأت، بل لو شاء سابور لذ بالوزير أبي نصر وسل شططاً ... أسرف فإنك في الإسراف معذور وقد تقبلت هذا النصح من زمني ... والنصح حتى من الأعداء مشكور ولمحمد بن أحمد الحرون (1) فيه قصيدة من جملتها: يا مؤنس الملك والأيام موحشة ... ورابط الجأش والآجال في وجل ما لي ولأرض لم أوطن بها وطناً ... كأنني بكر معنى سار في المثل لو أنصف الدهر أو لانت معاطفه ... اصبحت عندك ذا خيل وذا خول لله لؤلؤ ألفاظ أساقطها ... لو كن للغيد ما استأنسن بالعطل ومن عيون معان لو كحلن لها ... نجل العيون لأغناها عن الكحل وكان قد صرف عن الوزارة ثم أعيد إليها، فكتب إليه أبو إسحاق الصابئ (2) : قد كنت طلقت الوزارة بعدما ... زلت بها قدم وساء صنيعها فغدت بغيرك تستحل ضرورة ... كيما يحل إلى ذراك رجوعها فالآن عادت ثم آلت حلفة ... أن لا يبيت سواك وهو ضجيعها [ولبعض الشعراء في وزير صرف ثم أعيد من يومه فقال على لسانه: عاداني الدهر نصف يوم ... فانكشف الناس لي وبانوا يا أيها المعرضون عنا ... عودوا فقد عاد لي الزمان] (3)   (1) كذا في المسودة وسائر الأصول؛ وورد في اليتيمة (129) : الحمدوني. (2) اليتيمة 2: 285. (3) زيادة من ص وحدها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 355 وله ببغداد دار علم، وإليها أشار أبو العلاء المعري بقوله في القصيدة المشهورة (1) : وغنت لنا في دار سابور قينة ... من الورق مطراب الأصائل ميهال وكانت وفاة سابور المذكور في سنة ست عشرة وأربعمائة ببغداد، رحمه الله تعالى. ومولده بشيراز، ليلة السبت خامس عشر ذي القعدة سنة ست وثلاثين وثلثمائة. وتوفي مخدومه بهاء الدولة في جمادى الأولى سنة ثلاث وأربعمائة بأرجان، وعمره اثنتان وأربعون سنة وتسعة أشهر وعشرون يوماً، رحمه الله تعالى. وسابور: بفتح السين المهملة وضم الباء الموحدة وبعد الواو راء. والأصل فيه " شاه بور " فعرب لأن الشاه بالعجمي: الملك، وبور: ابن، فكأنه قال: ابن الملك، وعادة العجم تقديم المضاف إليه على المضاف. وأول من سمي بهذا الاسم سابور بن أردشير بن بابك بن ساسان أحد ملوك الفرس. وأردشير: بفتح الهمزة وسكون الراء وفتح الدال المهملة وكسر الشين المعجمة وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها راء، قاله الدارقطني الحافظ، وقال غيره: معناه دقيق حليب، وقيل معناه دقيق وحلو - وقال بعضهم: " أزدشير " بالهمزة والزاي - وهو لفظ عجمي، وأرد عندهم: الدقيق، وشير: الحليل، وشيرين: الحلو، والله أعلم.   (1) شروح السقط: 1239. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 356 256 - (1) سري السقطي أبو الحسن سري بن المغلس السقطي أحد رجال الطريقة وأرباب الحقيقة؛ كان أوحد زمانه في الورع وعلوم التوحيد، وهو خال أبي القاسم الجنيد وأستاذه، وكان تلميذ معروف الكرخي، يقال: إنه كان في دكانه، فجاءه معروف يوماً ومعه صبي يتيم، فقال له: اكس هذا اليتيم، قال سري: فكسوته، ففرح به معروف، وقال: بغض الله إليك الدنيا وأراحك مما أنت فيه؛ فقمت من الدكان وليس شيء أبغض إلي من الدنيا. وكل ما أنا فيه من بركات معروف. ويحكى أنه قال: منذ ثلاثين سنة أنا في الاستغفار من قولي مرة " الحمد لله "! قيل له: وكيف ذلك فقال: وقع ببغداد حريق فاستقبلني واحد وقال: نجا حانوتك، فقلت: الحمد لله، فأنا نادم من ذلك الوقت على ما قلت، حيث أردت لنفسي خيراً من الناس. وحكى أبو القاسم الجندي قال: دخلت يوماً على خالي سري السقطي وهو يبكي، فقلت: ما يبكيك قال: جاءتني البارحة الصبية فقالت: يا أبت، هذه ليلة حارة، وهذا الكوز أعلقه هاهنا، ثم إنه حملتني عيناي فنمت فرأيت جارية من أحسن خلق الله قد نزلت من السماء، فقلت: لمن أنت قالت: لمن لا يشرب الماء المبرد (2) في الكيزان، وتناولت الكوز فضربت به الأرض، قال الجنيد: فرأيت الخزف (3) المكسور لم يرفعه، حتى عفى عليه التراب.   (1) ترجمة السري السقطي في تهذيب ابن عساكر 6: 71 وحلية الأولياء 10: 116 وصفة الصفوة 2: 209 وطبقات السلمي: 48 وتاريخ بغداد 6: 187 ولسان الميزان 3: 13. (2) ج د: البارود. (3) هـ: الكوز. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 357 [قال عبد الله بن شاكر، قال سري: صليت وردي ليلة، ومددت رجلي في المحراب فنوديت: يا سري، هكذا تجالس الملوك قال: فضممت رجلي، ثم قلت: وعزتك لا مددت رجلي أبداً. قال الجنيد: أتت عليه ثمان وتسعون سنة ما رئي مضطجعاً إلا في علة الموت. ويحكى عن الجنيد أنه قال: سألني السري يوماً عن المحبة، فقلت: قال قوم: هي الموافقة، وقال قوم: هي الإيثار، وقال قوم: كذا وكذا، فأخذ السري جلدة ذراعه ومدها فلم تمتد، ثم قال: وعزته لو قلت إن هذه الجلدة يبست على هذا العظم من محته لصدقت. قال الجنيد: وسمعته يقول: أريد أن آكل أكلة ليس لله علي فيها تبعة ولا لمخلوق فيها منة فلم أجد، فأتاني حي الجرجاني فدق علي باب الغرفة فخرجت إليه فقال لي: يا سري، ملحك مدقوق فقلت: نعم، قال: لا تفلح، ثم قال: لولا أن الله عز وجل عقم الآذان عن فهم القرآن ما زرع الزارع، ولا تجر التاجر، ولا تلاه الناس في الطرقات، ثم مضى فأتعبني وأبكاني. وحكى الجنيد أيضاً عن سري قال: كنت في طلب صديق ثلاثين سنة، فلم أظفر به، فمررت في بعض الجبال بأقوام مرضى وزمنى وعمي وبكم، فسألتهم عن مقامهم في ذلك الموضع، فقالوا: في هذا الكهف رجل يمسح بيده عليهم فيبرءون بإذن الله تعالى وبركة دعائه، فوقفت أنتظر معهم، فخرج شيخ عليه جبة صوف، فلمسهم ودعا لهم، فكانوا يبرءون من عللهم بمشيئة الله عز وجل، قال: فأخذت بذيله، فقال: خل عني يا سري لا يراك تأنس بغيره فتسقط من عينه] (1) . [قال سري: المتصوف اسم لثلاثة معان، وهو الذي لا يطفئ نور معرفته نور ورعه، ولا يتكلم بباطن في علم ينقضه عليه ظاهر الكتاب، ولا تحمله الكرامات على هتك محارم الله تعالى] (2) .   (1) ما بين معقفين زيادة من ص، وهذه القصة الأخيرة نفسها وردت في زيادات د في ترجمة بشر الحافي منسوبة له؛ انظر الجزء الأول: 275 - 276. (2) لم يرد هذا النص في المخطوطات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 358 وكانت وفاته سنة إحدى وخمسين، وقيل يوم الأربعاء لست خلون من شهر رمضان بعد الفجر سنة ست وخمسين، وقيل سبع وخمسين ومائتين ببغداد، ودفن بالشونيزية. وقال الخطيب في " تاريخ بغداد ": مقبرة الشونيزي وراء المحلة المعروفة بالتوثة بالقرب من نهر عيسى بن علي الهاشمي، وسمعت بعض شيوخنا يقول: مقابر قريش كانت قديماً تعرف بمقبرة الشونيزي الصغير، والمقبرة التي وراء التوثة تعرف بمقبرة الشونيزي الكبير، وكانا أخوين يقال لكل واحد منهما " الشونيزي " ودفن كل واحد منهما في إحدى هاتين المقبرتين ونسبت المقبرة إليه، والله أعلم. وقبره ظاهر معروف، وإلى جنبه قبر الجنيد، رضي الله عنهما. والمغلس: بضم الميم وفتح الغين المعجمة وكسر اللام المشددة وبعدها سين مهملة. وكان سري كثيراً ما ينشد: إذا ما شكوت الحب قالت كذبتني ... فما لي أرى الأعضاء منك كواسيا فلا حب حتى يلصق الجلد بالحشا ... وتذهل حتى لا تجيب المناديا 257 (1) السري الرفاء أبو الحسن السري بن أحمد بن السري الكندي الرفاء الموصلي الشاعر المشهور؛ كان في صباه يرفو ويطرز في دكان بالموصل، وهو مع ذلك يتولع بالأدب وينظم الشعر، ولم يزل حتى جاد شعره ومهر فيه، وقصد سيف الدولة ابن حمدان بحلب ومدحه وأقام عنده مدة، ثم انتقل بعد وفاته إلى بغداد ومدح   (1) ترجمة السري الرفاء في اليتيمة 2: 117 ومعجم الأدباء 11: 182 وتاريخ بغداد 9: 194. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 359 الوزير المهلبي وجماعة من رؤسائها، ونفق شعره وراج. وكانت بينه وبين أبي بكر محمد وأبي عثمان سعيد ابني هاشم الخالديين الموصليين الشاعرين المشهورين معاداة فادعى عليهما سرقة شعره وشعر غيره. وكان السري (1) مغرى بنسخ ديوان أبي الفتح كشاجم الشاعر المشهور، وهو إذ ذاك ريحان الأدب بتلك البلاد، والسري في طريقه يذهب، وعلى قالبه يضرب، فكان يدس فيما يكتبه من شعره أحسن شعر الخالديين، ليزيد في حجم ما ينسخه وينفق سوقه ويغلي سعره ويشنع بذلك عليهما ويغض منهما ويظهر مصداق قوله في سرقتهما، فمن هذه الجهة وقعت في بعض النسخ من ديوان كشاجم زيادات ليست في الأصول المشهورة. وكان شاعراً مطبوعاً عذب الألفاظ مليح المأخذ كثير الافتنان في التشبيهات والأوصاف، ولم يكن له رواء ولا منظر، ولا يحسن من العلوم غير قول الشعر، وقد عمل شعره قبل وفاته نحو ثلثمائة ورقة، ثم زاد بعد ذلك، وقد عمله بعض المحدثين الأدباء على حروف المعجم (2) . ومن شعر السري أبيات يذكر فيها صناعته، فمنها قوله (3) : وكانت الإبرة فيما مضى ... صائنة وجهي وأشعاري فأصبح الرزق بها ضيقاً ... كأنه من ثقبها جاري ومن محاسن شعره في المديح من جملة قصيد (4) : يلقى الندى برقيق وجه مسفر ... فإذا التقى الجمعان عاد صفيقا رحب المنازل ما أقام فإن سرى ... في جحفل ترك الفضاء مضيقا   (1) مأخوذ عن اليتيمة: 118. (2) وكان شاعراً ... حروف المعجم: سقط من س م. (3) قال الثعالبي عند إيراد هذه الأبيات: " وهذه الأبيات ليست في ديوان شعره الذي في أيدي الناس وإنما هي في مجلدة بخط السري استصحبها أبو نصر سهل بن المرزبان من بغداد ". وانظر ديوانه المطبوع: 140. (4) ديوانه 185، وهي فيمدح سيف الدولة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 360 وذكر له الثعالبي في كتاب " المنتخل " (1) : ألبستني نعماً رأيت بها الدجى ... صبحاً وكنت أرى الصباح بهيما فغدوت يحسدني الصديق وقبلها ... قد كان يلقاني العدو رحيما ومن غرر شعره في النسيب قوله (2) : بنفسي من أجود له بنفسي ... ويبخل بالتحية والسلام وحتفي كامن في مقلتيه ... كمون الموت في حد الحسام [وله من قصيدة يمدح بها سيف الدولة بن حمدان (3) : تركتهم بين مصبوغ ترائبه ... من الدماء ومخضوب ذوائبه فحائد وشهاب الرمح لاحقه ... وهارب وذباب السيف طالبه يهوي إليه بمثل طاعنه ... وينتحيه بمثل البرق غالبه يكسوه من دمه ثوباً ويسلبه ... ثيابه فهو كاسيه وسالبه وله من قصيدة أخرى: وكم ليلة شمرت للراح رائحاً ... وبت لغزلان الصريم مغازلا وحليت كأسي والسنا بحليها ... فما عطلت حتى بدا الأفق عاطلا ومن شعره (4) : وفتية زهر الآداب بينهم ... أبهى وأنضر من زهر الرياحين راحوا إلى الراح مشي الرخ وانصرفوا ... والراح تمشي بهم مشي الفرازين   (1) انظر ديوانه: 251. (2) ديوانه: 260 واليتيمة: 137. (3) هي في ذكر وقعة له مع الدمستق (ديوانه: 18 واليتيمة: 126) . (4) ديوانه: 274 ومسالك الأبصار 1: 303. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 361 ومن شعره: ما كان ذاك العيش إلا سكرة ... رحلت لذاذتها وحل خمارها ومن شعره: انظر إلى الليل كيف تصرعه ... راية صبح مبيضة العذب كراهب جن للهوى طرباً ... فشق جلبابه من الطرب] (1) وللسري المذكور ديوان شعر كله جيد، وله كتاب " المحب والمحبوب والمشموم والمشروب " وكتاب " الديرة ". وكانت وفاته في سنة نيف وستين وثلثمائة ببغداد، رحمه الله تعالى، هكذا قال الخطيب البغدادي في تاريخه، وقال غيره: توفي سنة اثنتين وستين وثلثمائة وقيل سنة أربع وأربعين وثلثمائة، والله أعلم. وذكر شيخنا ابن الأثير في تاريخه (2) أنه توفي سنة ستين وثلثمائة، رحمه الله تعالى. 258 - (3) حيص بيص أبو الفوارس سعد بن محمد بن سعد بن الصيفي التميمي الملقب شهاب الدين المعروف بحيص بيص الشاعر المشهور؛ كان فقيهاً شافعي المذهب، تفقه بالري على القاضي محمد بن عبد الكريم الوزان، وتكلم في مسائل الخلاف، إلا أنه   (1) ما بين معقفين زيادة من ر د وبعضها من ص. (2) تاريخ ابن الأثير 8: 617. (3) له ترجمة مسهبة في الخريدة (قسم العراق) 1: 202 ومعجم الأدباء 11: 199 وابن أبي أصيبعة 1: 283 والمنتظم 10: 288 ولسان الميزان 3: 19 وطبقات السبكي 4: 231 والبداية والنهاية 12: 301. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 362 غلب عليه الأدب ونظم الشعر، وأجاد فيه مع جزالة لفظه، وله رسائل فصيحة بليغة. ذكره الحافظ أبو سعد ابن السمعاني في كتاب " الذيل " وأثنى عليه. وحدث بشيء من مسموعاته، وقرئ عليه ديوانه ورسائله، وأخذ الناس عنه أدباً وفضلاً كثيراً؛ وكان من أخبر الناس بأشعار العرب واختلاف لغاتهم. ويقال إنه كان فيه تيه وتعاظم، وكان لا يخاطب أحداً إلا بالكلام العربي، وكانت له حوالة بمدينة الحلة، فتوجه إليها لاستخلاص مبلغها، وكانت على ضامن الحلقة (1) ، فسير غلامه إليه فلم يعرج عليه وشتم أستاذه، فشكاه إلى والي الحلة، وهو يومئذ ضياء الدين مهلهل بن أبي العسكر الجاواني (2) ، فسير معه بعض غلمان الباب ليساعده، فلم يقنع أبو الفوارس منه بذلك، فكتب إليه يعاتبه، وكانت بينهما مودة متقدمة (3) " ما كنت أظن أن صحبة السنين ومودتها يكون مقدارها في النفوس هذا المقدار، بل كنت أظن أن الخميس الجحفل لو زن لي عرضاً (4) لقام بنصري من آل أبي العسكر حماة غلب الرقاب (5) ، فكيف بعامل سويقة، وضامن حليلة وحليقة ويكون جوابي في شكواي أن ينفذ إليه مستخدم يعاتبه، ويأخذ ما قبله من الحق، لا والله: إن الأسود أسود الغاب همتها ... يوم الكريهة في المسلوب لا السلب وبالله أقسم، ونبيه وآل بيته، لئن لم تقم لي حرمة يتحدث بها نساء الحلة في أعراسهن ومناحاتهن، لا أقام وليك بحلتك هذه، ولو أمسى بالجسر أو القناطر، هبني خسرت خمر النعم أفأخسر أبيتي، واذلاه، واذلاه، والسلام ". وكان يلبس زي العرب ويتقلد سيفاً، فعمل فيه أبو القاسم ابن الفضل - الآتي   (1) س ر: الحلة. (2) هـ: أبي العساكر الحلواني؛ م: الحلواني. (3) لم يورد من هذه الرسالة في م إلا بيت أبي تمام الآتي من بعد. (4) أثبتنا ما في المسودة وهـ، وقد اضطربت في النسخ الأخرى. (5) ناظر إلى قول الحماسي: إذن لقام بنصري معشر خشن ... عند الحفيظة إن ذو لوثة لانا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 363 ذكره في حرف الهاء إن شاء الله تعالى - وذكر العماد في " الخريدة " أنها للرئيس علي بن الأعرابي الموصلي، وذكر أنه توفي سنة سبع وأربعين وخمسمائة: كم تبادى وكم تطول طرطو ... رك ما فيك شعرة من تميم فكل الضب واقراط (1) الحنظل اليا ... بس واشرب ما شئت بول الظليم ليس ذا وجه من يضيف ولا يق ... ري ولا يدفع الأذى عن حريم فلما بلغت الأبيات أبا الفوارس المذكور عمل (2) : لا تضع من عظيم قدر وإن كن ... ت مشاراً إليه بالتعظيم فالشريف الكريم ينقص قدراً ... بالتعدي (3) على الشريف الكريم ولع الخمر بالعقول رمى الخم ... ر بتنجيسها وبالتحريم وعمل فيه خطيب الحويزة البحيري: لسنا وحقك حيص بي ... ص من الأعارب في الصميم ولقد كذبت على بحي ... ر كما كذبت على تميم وقال الشيخ نصر الله بن مجلي مشارف الصناعة بالمخزن، وكان من الثقات أهل السنة: رأيت في المنام علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقلت له: يا أمير المؤمنين، تفتحون مكة فتقولون من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ثم يتم على ولدك الحسين يوم الطف ما تم فقال: أما سمعت أبيات ابن الصيفي في هذا فقلت: لا، فقال: اسمعها منه، ثم استيقظت فبادرت إلى دار حيص بيص، فخرج إلي، فذكرت له الرؤيا فشهق وأجهش بالبكاء، وحلف بالله إن كانت خرجت من فمي أو خطي إلى أحد، وإن كنت نظمتها إلا في ليلتي هذه، ثم أنشدني:   (1) د هـ: واقرض. (2) الخريدة: 320. (3) ر: بالتجري. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 364 ملكنا فكان العفوُ منا سجية ... فلما ملكتم سالَ بالدم أبطح وحللتم قتل الأسارى، وطالما ... غدونا على الأسرى نعف ونصفح فحسبكمُ هذا التفاوت بيننا ... وكل إناء بالذي فيه ينضح وإنما قيل له حيص بيص لأنه رأى الناس يوماً في حركة مزعجة وأمر شديد فقال: ما للناس في حيص بيص، فبقي عليه هذا اللقب، ومعنى هاتين الكلمتين الشدة والاختلاط، تقول العرب: وقع الناس في حيص بيص، أي في شدة واختلاط. وكانت وفاته ليلة الأربعاء سادس شعبان سنة أربع وسبعين وخمسمائة ببغداد، ودفن من الغد بالجانب الغربي في مقابر قريش، رحمه الله تعالى. وكان إذا سئل عن عمره يقول: أنا أعيش في الدنيا مجازفة (1) ، لأنه كان لا يحفظ مولده، وكان يزعم أنه من ولد أكثم بن صيفي التميمي حكيم العرب. ولم يترك أبو الفوارس عقباً. وصيفي: بفتح الصاد المهملة وسكون الياء المثناة من تحتها وكسر الفاء وبعدها ياء. والحويزة: بضم الحاء المهملة وفتح الواو وسكون الياء المثناة من تحتها، وبعدها زاي ثم هاء، وهي بليدة من إقليم خوزستان على اثني عشر فرسخاً من الأهواز.   (1) إلى هنا انتهت الترجمة في م، مع سقوط الفقرة التي أولها: " وكان يلبس ... تميم " فيما سبق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 365 259 - (1) أبو المعالي الحظيري أبو المعالي سعد بن علي بن القاسم بن علي بن القاسم بن علي بن القاسم الأنصاري الخزرجي الوراق الحظيري المعروف بدلال الكتب؛ كانت لديه معارف، وله نظم جيد، وألف مجاميع ما قصر فيها، منها كتاب " زينة الدهر وعصره أهل العصر وذكر ألطاف شعراء (2) العصر " الذي ذيله على " دمية القصر " لأبي الحسن الباخرزي جمع فيه جماعة كبيرة من أهل عصره ومن تقدمهم، وأورد لكل واحد طرفاً من أحواله وشيئاً من شعره. وقد ذكره العماد الكاتب في " الخريدة " وأنشد له عدة مقاطيع، وروى عنه لغيره شيئاً كثيراً. وكان مطلعاً على أشعار الناس وأحوالهم، وله كتاب سماه " لمح الملح " يدل على كثرة اطلاعه. ومن شعر أبي المعالي المذكور قوله: ومعذر في خده ... ورد وفي فمه (3) مدام ما لان لي حتى تغشى ... صبح سالفه (4) ظلام كالمهر يجمح تحت را ... كبه ويعطفه اللجام وهذا المعنى يقرب من قول أبي علي الحسن بن رشيق (5) - المقدم ذكره -: وأسمر اللون عسجدي ... يستمطر المقلة الجهاما ضاق بحمل العذار ذرعاً ... كالمهر لا يعرف اللجاما   (1) ترجمة أبي المعالي الحظيري في معجم الأدباء 11: 194 والخزانة 3: 118. (2) ياقوت: في ذكر لطائف شعراء. (3) ب: يده. (4) أ: عارضه؛ ياقوت: طلعته. (5) ديوان ابن رشيق: 168. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 366 فظن أن العذار مما ... يزيح عن جسمي السقاما فنكس الرأس إذ رآني ... كآبة منه واحتشاما وما درى أنه نبات ... أنبت في قلبي الغراما وهل ترى عارضيه إلا ... حمائلاً علقت حساما وقد سبق في ترجمة أبي عمر أحمد بن عبد ربه صاحب كتاب " العقد " معنى هذا البيت الأخير (1) . وله أيضاً: أحدقت ظلمة العذار بخدي ... هـ فزادت في حبه حسراتي قلت ماء الحياة في فمه العذ ... ب دعوني (2) أخوض في الظلمات [ومن شعره الرائق: لئن قيل أبدع في شبهه ... ولم يكس معناه لفظاً سليما فمن عنب الكرم ويجنى السلاف ... وإن لم يكن غصنها مستقيما وله أيضاً: قل لمن عاب شامة لحبيبي ... دون فيه دع الملامة فيه إنما الشامة التي قلت عنها ... فص فيروزج بخاتم فيه] (3) [ومن شعره أيضاً: لما حنى الشيب ظهري صحت واحربا ... دنا أوان فراق الروح والجسد أما ترى القوس أحنى ظهرها فدنا ... ترحل السهم عنها وهي في الكبد وله في كتاب جمعه وسماه " زينة الدهر ":   (1) انظر 1: 110 من الوفيات. (2) د: فدعني. (3) زيادة من ر د وبعضه من ص. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 367 هذا كتاب قد غدا روضة ... ونزهة للقلب والعين جعلت من شعري له عوذة ... خوفاً وإشفاقا من العين] (1) وله أيضاً: مد على ماء الشباب الذي ... في خده جسر من الشعر صار طريقاً لي إلى سلوتي ... وكنت فيه موثق الأسر ومن شعره أيضاً: شكوت هوى من شف قلبي بعده ... توقد نار ليس يطفى سعيرها فقال بعادي عنك أكثر راحة ... ولولا بعاد الشمس أحرق نورها [وله أيضاً: ومهفهف شبهته شمس الضحى ... في حسن بهجتها وبعد مكانها قد زاده نقش العذار محبة ... نقش الفصوص يزيد في أثمانها ومن شعره: ومستحسن أصبحت أهذي بذكره ... وأمسيت في شغل من الوصل شاغل وعارضني من سحر عينيه جنة ... فقيدني من صدغه بسلاسل] (2) وله كل معنى مليح مع جودة السبك. وتوفي يوم الاثنين الخامس والعشرين، وقيل الخامس عشر، من صفر سنة ثمان وستين وخمسمائة ببغداد، ودفن بمقبرة باب حرب، رحمه الله تعالى. والحظيري: بفتح الحاء المهملة وكسر الظاء المعجمة وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها راء، هذه النسبة إلى موضع فوق بغداد يقال له " الحظيرة "، ينسب إليه كثير من العلماء، والثياب الحظيرية منسوبة إليه أيضاً (3) .   (1) زيادة من ر د. (2) زيادة من ص. (3) م: ينسب إليه علماء وثياب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 368 260 - (1) سعيد الحيري أبو عثمان سعيد بن إسماعيل بن سعيد بن منصور الواعظ الحيري (2) ؛ ولد بالري ونشأ بها ثم انتقل إلى نيسابور فسكنها إلى أن توفي بها، وكان قد سمع بالري من محمد بن مقاتل وغيره، وبالعراق من محمد بن إسماعيل الأحمسي وحميد بن الربيع للحمي وغيرهما، ودخل بغداد. ويقال: إنه كان مستجاب الدعوة [وقام في مجلسه رجل فقال: يا أبا عثمان، من يكون الرجل صادقاً في حب مولاه قال: إذا خلا من خلافه كان صادقاً في حبه، قال: فوضع الرجل التراب على وجهه وصاح، وقال: كيف أدعي حبه ولم أخل طرفة عين من خلافه فبكى أبو عثمان وأهل المجلس، وجعل أبو عثمان يقول: صادق في حبه، مقصر في حقه. قال ابو عمرو (3) : وكنت أختلف إلى أبي عثمان مدة في وقت شبابي، وحظيت عنده، ثم اشتغلت مدة بشيء مما يشتغل به الفتيان فانقطعت عنه، وكنت إذا رأيته من بعيد أو في طريق اختفيت حتى لا يراني، فخرج علي يوماً من سكة في عطفة فلم أجد عنه محيصاً فتقدمت إليه وأنا دهش، فلما رأى ذلك قال: يا أبا عمرو، لا تثقن بمودة من لا يحبك إلا معصوماً] (4) . وكان يقول: طول العتاب فرقة، وترك العتاب حشمة، وكان يقول: لا يستوي الرجل حتى يستوي في قلبه أربعة أشياء: المنع والعطاء، والعز والذل.   (1) انظر النجوم الزاهرة 3: 177 وطبقات السلمي: 170 وعبر الذهبي 2: 111 وشذرات الذهب 2: 230 وحلية الأولياء 10: 244 وتاريخ بغداد 9: 99؛ والحيري: نسبة إلى قرية يقال لها الحيرة من قرى نيسابور، ولم ترد هذه الترجمة في م والمسودة. (2) ر: الحميري. (3) ابو عمرو ابن حمدان كما في الحلية. (4) زيادة من ر وحدها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 369 وكان يقال: ثلاثة أشياء لا رابع لها: أبو عثمان بنيسابور، والجنيد ببغداد، وأبو عبد الله ابن الجلاء بالشام. وقال أبو عثمان: منذ أربعين سنة ما أقامني الله تعالى في شيء فكرهته، ولا نقلني إلى حال فسخطته. وقالت مريم امرأة أبي عثمان: كنا نؤخر اللعب والضحك والحديث إلى أن يدخل أبو عثمان في ورده من الصلاة، فإنه إذا دخل ستر الخلوة لم يحس بشيء من الحديث وغيره. وقالت: صادفت من أبي عثمان خلوة فاغتنمتها، وقلت: يا أبا عثمان، أي عملك أرجى عندك فقال: يا مريم، لما ترعرعت وأنا بالري وكانوا يراودونني على التزوج فأمتنع جاءتني امرأة فقالت: يا أبا عثمان، قد أحببتك حباً ذهب بنومي وقراري، وأنا أسألك بمقلب القلوب أن تتزوج بي، فقلت: ألك والد قالت: نعم، فلان الخياط في موضع كذا، فراسلته، فأجاب، فتزوجت بها، فلما دخلت وجدتها عوراء عرجاء سيئة الخلق، فقلت: اللهم لك الحمد على ما قدرته لي، وكان أهل بيتي يلومونني على ذلك، فأزيدها براً وإكراماً، إلى أن صارت لا تدعني أخرج من عندها، فتركت حضور المجلس إيثاراً لرضاها وحفظاً لقلبها، وبقيت معها على هذه الحالة خمس عشرة سنة، وكنت معها في بعض أوقاتي كأني قابض على الجمر ولا أبدي لها شيئاً من ذلك، إلى أن ماتت، فما شيء عندي أرجى من حفظي عليها ما كان في قلبها من جهتي. [ولما تغير على أبي عثمان الحال عند الموت مزق ابنه أبو بكر قميصاً على نفسه. ففتح أبو عثمان عينه وقال: خلاف السنة يا بني في الظاهر، وعلامة رياء في الباطن] (1) . توفي لثلاث عشرة بقين من ربيع الآخر سنة ثمان وتسعين ومائتين، رحمه الله تعالى. وكان كثيراً ما ينشد في حال وعظه: وغير تقي يأمر الناس بالتقى ... طبيب يداوي والطبيب مريض   (1) زيادة من ص. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 370 261 - (1) سعيد بن جبير أبو عبد الله - وقيل أبو محمد - سعيد بن جبير بن هشام الأسدي بالولاء مولى بني والبة بن الحارث بطن من بني أسد بن خزيمة؛ كوفي أحد أعلام التابعين، وكان أسود، أخذ العلم عن عبد الله بن العباس وعبد الله بن عمر، رضي الله عنهم. قال له ابن عباس: حدث، فقال: أحدث وأنت ها هنا (2) فقال: أليس من نعمة الله عليك أن تحدث وأنا شاهد، فإن أصبت فذاك، وإن أخطأت علمتك. وكان لا يستطيع أن يكتب مع ابن عباس في الفتيا، فلما عمي ابن عباس كتب، فبلغه ذلك فغضب. [ (3) وعن ابن عباس رضي الله عنه أخذ القراءة أيضاً عرضاً، وسمع منه التفسير وأكثر روايته عنه. وروى عن سعيد القراءة عرضاً المنهال بن عمرو وأبو عمرو بن العلاء؛ قال وفاء بن إياس (4) : قال لي سعيد في رمضان: أمسك علي القرآن، فما قام من مجلسه حتى ختمه، قال سعيد: قرأت القرآن في ركعة في البيت الحرام؛ وقال إسماعيل بن عبد الملك: كان سعيد بن جبير يؤمنا في شهر رمضان فيقرأ ليلة بقراءة عبد الله بن مسعود وليلة بقراءة زيد بن ثابت وليلة بقراءة غيره، هكذا أبداً، وسأله رجل أن يكتب له تفسير القرآن، فغضب وقال: لأن يسقط   (1) ترجمة سعيد بن جبير في طبقات ابن سعد 6: 256 وطبقات الشيرازي، الورقة: 22 وحلية الأولياء 4: 272 وتهذيب التهذيب 4: 11 وأخبار خروجه على الحجاج ومقتله في كتب التاريخ كالطبري وابن الأثير وابن كثير وغيرها؛ وانظر أيضاً رجال ابن حبان: 82 وتذكرة الحفاظ: 76 والعقد الثمين 4: 549؛ وقد اتبعنا في هذه الترجمة رواية ص وقد اختلفت عما هي عليه في ر في التقديم والتأخير وحسب. (2) م: فقال وأنت موجود (3) ما بين معقفين لم يرد في المسودة. (4) أ: وفاء بن عياش. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 371 شقي أحب إلي من ذلك؛ وقال خصيف: كان من أعلم التابعين بالطلاق سعيد بن المسيب، وبالحج عطاء، وبالحلال والحرام طاوس، وبالتفسير أبو الحجاج مجاهد بن جبر، وأجمعهم لذلك كله سعيد بن جبير. وكان سعيد في أول أمره كاتباً لعبد الله بن عتبة بن مسعود، ثم كتب لأبي بردة بن أبي موسى الأشعري. وذكره أبو نعيم الأصبهاني في " تاريخ أصبهان " فقال (1) : دخل أصبهان وأقام بها مدة، ثم ارتحل منها إلى العراق وسكن قرية سنبلان. وروى محمد بن حبيب أن سعيد بن جبير كان بأصبهان يسألونه عن الحديث فلا يحدث، فلما رجع إلى الكوفة حدث، فقيل له: يا أبا محمد، كنت بأصبهان لا تحدث وأنت بالكوفة تحدث، فقال: انشر بزك حيث يعرف] . وكان مع عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بن قيس لما خرج على عبد الملك بن مروان، فلما قتل عبد الرحمن وانهزم أصحابه من دير الجماجم هرب فلحق بمكة، وكان واليها يومئذ خالد بن عبد الله القسري، فأخذه وبعث به إلى الحجاج بن يوسف الثقفي مع إسماعيل بن أوسط البجلي، فقال له الحجاج (2) :   (1) انظر تاريخ أصبهان 1: 324. (2) ورد في المطبوعة النص التالي عند هذا الموضع ولم يرد في المخطوطات التي اعتمدناها: فقال له الحجاج: ما أسمك قال: سعيد بن جبير، قال: بل أنت شقي بن كسير، قال: بل كانت أمي أعلم باسمي منك، قال: شقيت أمك وشقيت أنت، قال: الغيب يعلمه غيرك، قال: لأبدلنك بالدنيا ناراص تلظى، قال: لو علمت أن ذلك بيدك لاتخذتك إلهاً، قال: فما قولك في محمد قال: نبي الرحمة وإمام الهدى، قال: فما قولك في علي أهو في الجنة أم في هو في النار قال: لو دخلتها وعرفت من فيها عرفت أهلها، قال: فما قولك في الخلفاء قال: لست عليهم بوكيل، قال: فايهم إليك قال: أرضاهم لخالقي، قال: فأيهم أرضى للخالق قال: علم ذلك عند الذي يعلم سرهم ونجواهم، قال: أحب أن تصدقني، قال: إن لم أحبك لن أكذبك، قال: فما بالك لم تضحك قال: وكيف يضحك مخلوق خلق من طين والطين تأكله النار قال: فما بالنا نضحك قال: لم تستو القلوب. ثم أمر الحجاج بالؤلؤ والزبرجد والياقوت فجمعه بين يديه، فقال سعيد: إن كنت جمعت هذا لتتقي به فزع يوم القيامة فصالح، وإلا ففزعة واحدة تذهل كل مرضعة عما أرضعت، ولا خير في شيء جمع لدنيا إلا ما طاب وزكا، ثم دعا الحجاج بالعود والناي، فلما ضرب بالعود ونفخ في الناي بكى سعيد، فقال: ما يبكيك هو اللعب، قال سعيد: هو الحزن، أما النفخ فذكرني يوماً عظيماً يوم النفخ في الصور، وأما العود فشجرة قطعت في غير حق، وأما الأوتار فمن الشاء تبعث معها يوم القيامة، قال الحجاج: ويلك يا سعيد! قال: لا ويل لمن زحزح عن النار وأدخل الجنة، قال الحجاج: اختر يا سعيد أي قتلة أقتلك، قال: اختر لنفسك يا حجاج، فوالله لا تقتلني قتلة إلا قتلك الله مثلها في الآخرة، قال: أفتريد أن أعفو عنك قال: إن كان العفو فمن الله، وأما أنت فلا براءة لك ولا عذر، قال الحجاج: اذهبوا به فاقتلوه، فلما خرج ضحك، فأخبر الحجاج بذلك، فرده وقال: ما أضحكك قال: عجبت من جراءتك على الله وحلم الله عليك، فأمر بالنطع فبسط وقال: اقتلوه، فقال سعيد: وجعت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين، قال: وجهوا به لغير القبلة، قال سعيد: فأينما تولوا فثم وجه الله، قال: كبوه لوجهه، قال سعيد: منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى، قال الحجاج: اذبحوه، قال سعيد: أما إني أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، خذها مني حتى تلقاني بها يوم القيامة، ثم دعا سعيد فقال: اللهم لا تسلطه على أحد يقتله بعدي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 372 يا شقي ين كسير، أما قدمت الكوفة وليس يؤمن بها إلا عربي (1) فجعلتك إماماً فقال: بلى، قال: أما وليتك القضاء فضج أهل الكوفة وقالوا: لا بصلح للقضاء إلا عربي فاستقضيت ابا بردة بن أبي موسى الأشعري وأمرته أن لا يقطع أمراً دونك قال: بلى، قال: أما جعلتك في مساري وكلهم رؤوس العرب قال: بلى، قال: أما أعطيتك مائة ألف درهم تفرقها على أهل الحاجة في أول ما رأيتك ثم لم أسألك عن شيء منها قال: بلى، قال: فما أخرجك علي قال: بيعة كانت في عنقي لابن الأشعث، فغضب الحجاج ثم قال: أفما كانت بيعة أمير المؤمنين عبد الملك في عنقك من قبل والله لأقتلنك، يا حرس اضرب عنقه، فضرب عنقه، وذلك في شعبان سنة خمس وتسعين، وقيل سنة أربع وتسعين للهجرة، بواسط، ودفن في ظاهرها وقبره يزار بها، رضي الله عنه، وله تسع وأربعون سنة. وكان يوم أخذ يقول: وشى بي واش في بلد الله الحرام، أكله إلى الله تعالى، يعني خالد بن عبد الله القسري.   (1) في المسودة: أعرابي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 373 وقال أحمد بن حنبل: قتل الحجاج سعيد بن جبير وما على وجه الأرض أحد إلا وهو مفتقر إلى علمه. ثم مات الحجاج بعده في شهر رمضان من السنة، وقيل بل مات بعده بستة أشهر، ولم يسلطه الله تعالى بعده على قتل أحد حتى مات. ولما قتله سال منه دم كثير، فاستدعى الحجاج الأطباء وسألهم عنه وعمن كان قتله قبله، فإنه كان يسيل منهم دم قليل، فقالوا له: هذا قتلته ونفسه معه والدم تبع للنفس، ومن كنت تقتله قبله كانت نفسه تذهب من الخوف، فلذلك قل دمهم. وقيل للحسن البصري: إنالحجاج قد قتل سعيد بن جبير، فقال: اللهم ايت على فاسق ثقيف، والله لو أن من بين المشرق والمغرب اشتركوا في قتله لكبهم الله عز وجل في النار. ويقال إن الحجاج لما حضرته الوفاة كان يغوص ثم يفيق ويقول: ما لي ولسعيد بن جبير وقيل إنه في مدة مرضه كان إذا نام رأى سعيد بن جبير آخذاً بمجامع ثوبه يقول له: يا عدو الله، فيم قتلتني فيستيقظ مذعوراً ويقول: ما لي ولسعيد بن جبير! ويقال: إنه رئي الحجاج في النوم بعد موته، فقيل له: ما فعل الله بك فقال: قتلني بكل قتيل قتلته قتلة، وقتلني بسعيد ابن جبير سبعين قتلة. وحكى الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في كتاب " المهذب " أن سعيد بن جبير كان يلعب بالشطرنج استدباراً، ذكره في كتاب الشهادات في فصل اللعب بالشطرنج. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 374 262 - (1) سعيد بن المسيب أبو محمد سعيد بن المسيب بن حزن بن أبي وهب بن عمرو بن عائذ بن عمران ابن مخزوم القرشي المدين؛ أحد الفقهاء السبعة بالمدينة، وقد تقدم ذكر اثنتين منهم: أبو بكر في حرف الباء وخارجة في حرف الخاء. كان سعيد المذكور سيد التابعين من الطراز الأول، جمع بين الحديث والفقه والزهد والعبادة والورع، سمع سعد بن أبي وقاص الزهري وأبا هريرة رضي الله عنهما. قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما لرجل سأله عن مسألة: أيت ذاك فسله، يعني سعيداً، ثم ارجع إلي بأخبرني، ففعل ذلك وأخبره، فقال: ألم أخبركم أنه أحد العلماء وقال أيضاً في حقه لأصحابه: لو رأى هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم لسره. وكان قد لقي جماعة من الصحابة رضي الله عنهم وسمع منهم، ودخل على أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذ عنهن، وأكثر روايته المسند عن أبي هريرة رضي الله عنه، وكان زوج ابنته. وسئل الزهري ومكحول: من أفقه من أدركتما فقالا: سعيد بن المسيب؛ وروي عنه أنه قال: حججت أربعين حجة؛ وعنه أنه قال: ما فاتتني التكبيرة الأولى منذ خمسين (2) سنة، وما نظرت إلى قفا رجل في الصلاة منذ خمسين سنة، لمحافظته على الصف الأول، وقيل إنه صلى الصبح بوضوء العشاء خمسين سنة [وكان يقول (3) : ما أعزت العباد نفسها بمثل طاعة الله، ولا أهانت نفسها بمثل معصية   (1) ترجمة سعيد بن المسيب في طبقات ابن سعد 5: 119 وطبقات الشيرازي، الورقة: 12 وحلية الأولياء 2: 161 وصفة الصفوة 2: 44 ورجال ابن حيان: 63 وتذكرة الحفاظ: 54 وتهذيب التهذيب 4: 84. (2) د: أربعين. (3) وكان يقول ... لصلبه: سقط هذا كله من م وسقط من المسودة إلى قوله: حتى على من أفتحها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 375 الله، ودعي إلى نيف وثلاثين ألفاً ليأخذها فقال: لا حاجة لي فيها ولا في بني مروان، حتى ألقى الله فيحكم بيني وبينهم. وقال أبو وداعة: كنت أجالس سعيد بن المسيب ففقدني أياماً، فلما جئته قال: أين كنت قلت: توفيت أهلي فاشتغلت بها، فقال: هلا أخبرتنا فشهدناها قال: ثم أردت أن أقوم فقال: هلا أحدثت امرأة غيرها فقلت: يرحمك الله ومن يزوجني وما أملك إلا درهمين أو ثلاثة فقال: إن أنا فعلت تفعل قلت: نعم، ثم حمد الله تعالى وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم وزوجني على درهمين أو قال على ثلاثة، قال: فقمت وما أدري ما أصنع من الفرح، فصرت إلى منزلي، وجعلت أتفكر ممن آخذ وأستدين، وصليت المغرب، وكنت صائماً، فقدمت عشاي لأفطر، وكان خبزاً وزيتاً، وإذا بالباب يقرع، فقلت: من هذا قال: سعيد، ففكرت في كل إنسان اسمه سعيد إلا سعيد بن المسيب، فإنه لم ير منذ أربعين سنة إلا ما بين بيته والمسجد، فقمت وخرجت، وإذا بسعيد بن المسيب، فظننت أنه قد بدا له، فقلت: يا أبا محمد، هلا أرسلت إلي فآتيك قال: لا، أنت أحق أن تؤتى، قلت: فما تأمرني قال: رأيتك رجلاً عزباً قد تزوجت فكرهت أن تبيت الليلة وحدك، وهذه امرأتك، فإذا هي قائمة خلفه في طوله ثم دفعها في الباب ورد الباب، فسقطت المرأة من الحياء، فاستوثقت من الباب، ثم صعدت إلى السطح، فناديت الجيران، فجاءوني وقالوا: ما شأنك فقلت: زوجني سعيد بن المسيب اليوم ابنته وقد جاء بها على غفلة، وها هي في الدار، فنزلوا إليها، وبلغ أمي فجاءت وقالت: وجهي من وجهك حرام إن مسستها قبل أن أصلحها ثلاثة أيام، فأقمت ثلاثاً ثم دخلت بها، فإذا هي من أجمل الناس وأحفظهم لكتاب الله تعالى وأعلمهم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعرفهم يحق الزوج؛ قال: فمكث شهراً لا يأتيني ولا آتيه، ثم أتيته بعد شهر وهو في حلقته، فسلمت عليه، فرد علي ولم يكلمني حتى انفض من في المسجد، فلما لم يبق غيري، قال: ما حال ذلك الإنسان قلت: هو على ما يحب الصديق ويكره العدو، قال: إن رابك شيء فالعصا، فانصرفت إلى منزلي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 376 وكانت بنت سعيد المذكورة خطبها عبد الملك بن مروان لابنه الوليد حين ولاه العهد، فأبى سعيد أن يزوجه، فلم يزل عبد الملك يحتال على سعيد حتى ضربه في يوم بارد وصب عليه الماء؛ قال يحيى بن سعيد: كتب هشام بن إسماعيل والي المدينة إلى عبد الملك بن مروان: إن أهل المدينة قد أطبقوا على البيعة للوليد وسليمان إلا سعيد بن المسيب، فكتب أن أعرضه على السيف، فإن مضى فاجلده خمسين جلدة وطف به أسواق المدينة، فلما قدم الكتاب على الوالي دخل سليمان بن يسار وعروة بن الزبير وسالم بن عبد الله على سعيد بن المسيب، وقالوا: جئناك في أمر، قد قدم كتاب عبد الملك إن لم تبايع ضربت عنقك، ونحن نعرض عليك خصالاً ثلاثاً، فأعطنا إحداهن، فإن الوالي قد قبل منك أن يقرأ عليك الكتاب، فلا تقل لا ولا نعم، قال: يقول الناس، بايع سعيد بن المسيب، ما أنا بفاعل، وكان إذا قال لا لم يستطيعوا أن يقولوا نعم، قالوا: فتجلس في بيتك ولا تخرج إلى الصلاة أياماً، فإنه يقبل منك إذا طلبك من مجلسك فلم يجدك، قال: فأنا أسمع الأذان فوق أذني حي على الصلاة حي على الصلاة، ما أنا بفاعل، قالوا: فانتقل من مجلسك إلى غيره فإنه يرسل إلى مجلسك، فإن لم يجدك أمسك عنك، قال: أفرقاً من مخلوق ما أنا بمتقدم شبراً ولا متأخر، فخرجوا وخرج إلى صلاة الظهر، فجلس في مجلسه الذي كان يجلس فيه، فما صلى الوالي بعث إليه، فأتي به، فقال: إن أمير المؤمنين كتب يأمرنا إن لم تبايع ضربنا عنقك، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعتين، فلما رآه لم يجب أخرج إلى السدة، فمدت عنقه وسلت السيوف، فلما رآه قد مضى أمر به فجرد، فإذا عليه ثياب شعر، فقال: لو علمت ذلك ما اشتهرت بهذا الشأن، فضربه خمسين سوطاً، ثم طاف به أسواق المدينة، فلما ردوه والناس منصرفون من صلاة العصر قال: إن هذه لوجوه ما نظرت إليها منذ أربعين سنة، ومنعوا الناس أن يجالسوه، فكان من ورعه إذا جاء إليه أحد يقول له: قم من عندي، كراهية أن يضرب بسببه. قال مالك رضي الله عنه: بلغني أن سعيد بن المسيب كان يلزم مكاناً من المسجد لا يصلي من المسجد في غيره، وأنه ليالي صنع به عبد الملك ما صنع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 377 قيل له أن يترك الصلاة فيه فأبى إلا أن يصلي فيه. وكان يقول: لا تملأوا أعينكم من أعوان الظلمة إلا بإنكار من قلوبكم لكي لا تحبط أعمالكم؛ وقيل له وقد نزل الماء في عينه: ألا تقدح عينك قال: حتى على من أفتحها. ورأى عبد الملك بن مروان في منامه كأنه قد بال في المحراب أربع مرات فوجه إلى سعيد بن المسيب من يسأله، فقال: يملك من ولده لصلبه أربعة، فكان كما قال، فإنه ولي الوليد وسليمان ويزيد وهشام، وهم أولاد عبد الملك لصلبه. وكانت ولادته لسنتين مضتا من خلافة عمر رضي الله عنه، وكان في خلافة عثمان رضي الله عنه رجلاً. وتوفي بالمدينة سنة إحدى - وقيل اثنتين، وقيل ثلاث، وقيل أربع، وقيل خمس - وتسعين للهجرة، وقيل إنه توفي سنة خمس ومائة، والله أعلم، رضي الله عنه. والمسيب: بفتح الياء المشددة المثناة من تحتها، وروي عنه أنه كان يقول بكسر الياء، ويقول: سيب الله من يسيب أبي. وحزن: بفتح الحاء المهملة وسكون الزاي وبعدها نون. وعائذ: بذال معجمة. 263 - (1) أبو زيد الأنصاري أبو زيد سعيد بن أوس بن ثابت بن زيد بن قيس بن زيد بن النعمان بن مالك ابن ثعلبة بن كعب بن الخزرج، وقال محمد بن سعد في " الطبقات " (2) : هو   (1) ترجمة أبي زيد الأنصاري في نور القبس: 104 وتاريخ بغداد 9: 77 ومعجم الأدباء: 11: 221 وانابه الرواة 2: 30 وبغية الوعاة: 254 وتهذيب التهذيب 4: 3 وغاية النهاية 1: 305 ومصادر أخرى سردها محقق انباه الرواة في الحاشية فلتراجع. وهذه الترجمة مستوفاة في مسودة المؤلف. (2) ورد نسبه على هذا النحو في الطبقات (1/7: 17 من الطبعة الأوروبية) وانظر القفطي: 31. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 378 أبو زيد سعيد بن أوس بن ثابت بن بشير بن ابي زيد ثابت بن زيد بن قيس. والأول ذكره الخطيب في تاريخه، والله أعلم بالصواب، الأنصاري اللغوي البصري؛ كان من أثمة الأدب، وغلب عليه اللغات والنوادر والغريب، وكان يرى رأي القدر، وكان ثقة في روايته. حدث أبو عثمان المازني قال: رأيت الأصمعي وقد جاء إلى حلقة أبي زيد المذكور، فقبل رأسه وجلس بين يديه وقال: أنت رئيسنا وسيدنا منذ خمسين سنة (1) . وكان التوزي يقول: قال لي ابن مناذر: أصف لك أصحابك أما الأصمعي فأحفظ الناس، وأما أبو عبيدة فأجمعهم، وأما أبو زيد الأنصاري زيد الأنصاري وأبو محمد اليزيدي. وقال أبو زيد: حدثني خلف الأحمر، قال: أتيت الكوفة لأكتب عنهم الشعر، فبخلوا علي به، فكنت أعطيهم المنحول وآخذ الصحيح، ثم مرضت فقلت لهم: ويلكم! أنا تائب إلى الله تعالى، هذا الشعر لي، فلم يقبلوا مني، فبقي منسوباً إلى العرب لهذا السبب. وابو زيد المذكور له في الآداب مصنفات مفيدة: منها كتاب " القوس والترس " وكتاب: " الإبل " وكتاب " خلق الإنسان " وكتاب " المطر " وكتاب " المياه " وكتاب " اللغات " وكتاب " النوادر " وكتاب " الجمع والتثنية " وكتاب " اللبن " وكتاب " بيوتات العرب " وكتاب " تخفيف الهمزة " وكتاب " القضيب " وكتاب " الوحوش " وكتاب " الفرق " وكتاب " فعلت وأفعلت " وكتاب " غريب الأسماء " وكتاب " الهمزة " وكتاب " المصادر " وغير ذلك، ولقد رأيت له في النبات كتاباً حسناً جمع فيه أشياء غريبة (2) . وحكى بعضهم (3) أنه كان في حلقة شعبة بن الحجاج، فضجر من إملاء الحديث فرمى بطفره (4) فرأى أبا زيد الأنصاري في أخريات الناس فقال:   (1) القفطي: منذ عشر سنين؛ نزهة الألباء: منذ عشرين سنة. (2) ذكر له ابن النديم والقفطي مؤلفات أخرى كثيرة لم يذكرها المؤلف. (3) هو روح بن عبادة كما في القفطي: 32. (4) أ: فرمى بطرفه في الحلقة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 379 يا أبا زيد (1) : استعجمت دارُ مَي ما تكلمنا ... والدار لو كلمتنا ذات إخبار إلي يا أبا زيد، فجاءه، فجعلا يتحدثان ويتناشدان الأشعار، فقال له بعض أصحاب الحديث: يا أبا بسطام، نقطع إليك ظهور الإبل لنسمع منك حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فتدعنا وتقبل على الأشعار قال: فغضب شعبة غضباً شديداً، ثم قال: يا هؤلاء، أنا أعلم بالأصلح لي، أنا والله الذي لا إله إلا هو في هذا أسلم مني في ذاك. وكانت وفاته بالبصرة في سنة خمس عشرة - وقيل أربع عشرة، وقيل ستة عشرة - ومائتين، وعرم عمراً طويلاً حتى قارب المائة، وقيل أنه عاش ثلاثاً وتسعين سنة، وقيل خمساً وتسعين، وقيل ستاً وتسعين، رحمه الله تعالى. 264 - (2) الأخفش الأوسط أبو الحسن سعيد بن مسعدة المجاشعي بالولاء النحوي البلخي المعروف بالأخفش الأوسط؛ أحد نحاة البصرة، والأخفش الأكبر أبو الخطاب، وكان نحوياً أيضاً من أهل هجر من مواليهم، واسمه عبد الحميد بن عبد المجيد، وقد أخذ عنه أبو عبيدة وسيبويه وغيرهما. وكان الأخفش والأوسط المذكور من أثمة العربية، وأخذ النحو عن سيبويه،   (1) البيت للنابغة: (شرح ابن السكيت: 233) وقد وردت الحكاية في القفطي ونور القبس. (2) ترجمة الأخفش في نور القبس: 97 وانباه الرواة 2: 36 ومعجم الأدباء 11: 224 وبغية الوعاة: 258 وقد ساق محقق الأنباه ثبتاً بمصادر ترجمته الأخرى في الحاشية. قلت: وهذه الترجمة مستوفاة في مسودة المؤلف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 380 وكان أكبر منه، وكان يقول: ما وضع سيبويه في كتابه شيئاً إلا وعرضه علي، وكان يرى أنه أعلم به مني، وأنا اليوم أعلم به منه (1) . وحكى أبو العباس ثعلب عن آل سعيد بن سلم، قالوا: دخل الفراء على سعيد المذكور، فقال لنا: قد جاءكم سيد أهل اللغة وسيد أهل العربية، فقال الفراء: أما ما دام الأخفش يعيش فلا. وهذا الأخفش هو الذي زاد في العروض بحر الخبب كما سبق في حرف الخاء في ترجمة الخليل، وله من الكتب المصنفة كتاب " الأوسط " في النحو وكتاب " تفسير معاني القرآن " وكتاب " المقاييس " في النحو، وكتاب " الاشتقاق " وكتاب " العروض " وكتاب " القوافي " وكتاب " معاني الشعر " وكتاب " الملوك " وكتاب " الأصوات " وكتاب " المسائل " الكبير، وكتاب " المسائل " الصغير، وغير ذلك. وكان أجلع، والأجلع: الذي لا تنضم شفتاه على أسنانه، والأخفش: الصغير العينين مع سوء بصرهما. وكانت وفاته سنة خمس عشرة ومائتين، وقيل سنة إحدى وعشرين ومائتين، رحمه الله تعالى (2) . وكان يقال له: " الأخفش الأصغر " فلما ظهر علي بن سليمان المعروف بالأخفش أيضاً، صار هذا وسطاً. ومسعدة: بفتح الميم وسكون السين وفتح العين والدال المهملات وبعدهن هاء ساكنة. والمجاشعي: بضم الميم وفتح الجيم وبعد الألف شين مثلثة مكسورة وبعدها عين مهملة، هذه النسبة إلى مجاشع بن دارم، بطن من تميم.   (1) قال القفطي: إن كتاب سيبويه لا يعلم أحد قرأه على سيبويه ولا قرأه عليه سيبويه ولكنه لما مات قرئ على الأخفش فشرحه وبينه. (2) ذكر ابن النديم أنه توفي سنة 211. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 381 265 - (1) ابن الدهان النحوي أبو محمد سعيد بن المبارك بن علي بن عبد الله بن سعيد بن محمد بن نصر بن عاصم بن عبادة بن عصام بن الفضل بن ظفر بن غلاب بن حمد (2) بن شاكر بن عياض ابن حصن بن رجاء بن أبي بن شبل بن أبي اليسر (3) كعب الأنصاري رضي الله عنه المعروف بابن الدهان النحوي البغدادي؛ سمع الحديث من أبي القاسم هبة الله بن الحصين ومن أبي غالب أحمد بن الحسن بن البناء وغيرهما، وكان سيبويه عصره، وله في النحو التصانيف المفيدة منها " شرح كتاب الإيضاح والتكملة " وهو مقدار ثلاث وأربعين مجلدة، ومنها " الفصول الكبرى " و " الفصول الصغرى " وشرح كتاب " اللمع " لابن جني شرحاً كبيراً يدخل في مجلدين وسماه " الغرة " ولم أر مثله مع كثرة شروح هذا الكتاب، ومنها كتاب " العروض " في مجلدة وكتاب " الدروس في النحو " في مجلدة، وكتاب تذكرته سماه " زهر الرياض " في سبع مجلدات، كتاب " الغنية في الضاد والظاء " و " المعقود في المقصور والممدود " و " الراء " (4) و " الغنية في الأضداد " [وغير ذلك من المصنفات] (5) . وكان في زمن أبي محمد المذكور ببغداد من النحاة ابن الجواليقي وابن الخشاب وابن الشجيري، وكان الناس يرجحون أبا محمد المذكور على الجماعة المذكورين مع أن كل واحد منهم إمام. ثم إن أبا محمد ترك بغداد وانتقل إلى الموصل قاصداً   (1) ترجمة ابن الدهان في انباه الرواة 2: 47 ومعجم الأدباء 11: 219 ونكت الهميان: 158 وبغية الوعاة: 256 والنجوم الزاهرة 6: 72. (2) ص: أحمد. (3) ص: الياس. (4) كذا في ر والمسودة وسقط من س ص. وفي ياقوت: إزالة المراء في الغين والراء. (5) زيادة من س. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 382 جناب الوزير جمال الدين الأصبهاني المعروف بالجواد - الآتي ذكره في حرف الميم إن شاء الله تعالى - فتلقاه بالإقبال وأحسن إليه، وأقام في كنفه مدة، وكانت كتبه قد تخلفت ببغداد فاستولى الغرق تلك السنة على البلد، فسير من يحضرها إليه إن كانت سالمة، فوجدها قد غرقت، وكان خلف داره مدبغة فغرقت أيضاً، وفاض الماء منها إلى داره، فتلفت الكتب بهذا السبب زيادة على إتلاف الغرق، وكان قد أفنى في تحصيلها عمره، فلما حملت إليه على تلك الصورة أشاروا عليه أن يطيبها بالبخور ويصلح منها ما أمكن، فبخرها باللاذن ولازم ذلك إلى أن بخرها بأكثر من ثلاثين رطلاً لاذناً فطلع ذلك إلى رأسه وعينيه فأحدث له العمى وكف بصره. وانتفع عليه خلق كثير، ورأيت الخلق يشتغلون في تصانيفه المذكورة بالموصل وتلك الديار اشتغالاً كثيراً. وكانت وفاته يوم الأحد غرة شوال سنة تسع وستين وخمسمائة، وقال ابن المستوفي: سنة ست وستين بالموصل، رحمه الله تعالى، ودفن بمقبرة المعافى بين عمران بباب الميدان. ومولده عشية الخميس سادس وعشرين رجب سنة أربع وتسعين وأربعمائة ببغداد بنهر طابق، وهي محلة بها، وقيل يوم الجمعة. وله نظم حسن، فمنه قوله: لا تجعل الهزل دأباً فهو منقصة ... والجد تغلو به بين الورى القيم ولا يغرنك من ملك تبسمه ... ما تصخب السحب إلا حين تبتسم وله أيضاً: لا تحسبن أن بالشع ... ر (1) مثلنا ستصير فاللدجاجة ريش ... لكنها لا تطير وله أيضاً: لا غرو أن أخشى فرا ... قكم وتخشاني الليوث   (1) ص ر وياقوت: بالكتب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 383 أو ترى الثوب الجدي ... د من التفرق يستغيث [وذكره الحظيري في كتاب " زينة الدهر " وأورد له: بادر إلى العيش والأيام راقدة ... ولا تكن لصروف الدهر تنتظر فالعمر كالكأس يبدو في أوائله ... صفو وآخره في قعره الكدر وأورد له أيضاً: قالوا اغترب عن بلاد كنت تألفها ... إن ضاق رزق تجد في الأرض منتزحا قلت: انظروا الريق في الأفواه مختزناً ... عذباً فإن بان عنها صار مطرحا وأورد له أيضاً: أهوى الخمول لكي أظل مرفهاً ... مما يعانيه بنو الأزمان إن الرياح إذا توالى عصفها ... تولي الأذية شامخ الأغصان وأورد له أيضاً: يا سادتي لا عدمتم استمعوا ... قول فتى عارف بمنطقه كنت ببيتي كالرخ محترماً ... فصرت في غربتي كبيذقه] (1) وقد ذكره العماد الكاتب في " الخريدة " وأثنى عليه، وذكر طرفاً من حاله. وقال الحافظ أبو سعد المسعاني (2) : سمعت الحافظ ابن عساكر الدمشقي يقول: سمعت سعيد بن المبارك بن الدهان يقول: رأيت في النوم شخصاً أعرفه وهو ينشد شخصاً آخر كأنه حبيب له: أيها الماطل ديني ... أملي وتماطل   (1) أثبتنا ما بين معقفين من النسخ د ص ر على تفاوت فيما بينها؛ وانظر القفطي: 49، وهذه الزيادة لم ترد في المسودة. (2) أوردها القفطي: 49. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 384 علل القلب فإني ... قانع منك بباطل قال السمعاني: فرأيت ابن الدهان وعرضت عليه الحكاية فقال: ما أعرفها ولعل ابن الدهان نسي، فإن ابن عساكر من أوثق الرواة، ثم استملى ابن الدهان من السمعاني هذه الحكاية وقال: أخبرني السمعاني عن ابن عساكر عني، فروى عن شخصين عن نفسه، وهذا غريب في الرواية. (44) وكان له (1) ولد - وهو أبو ذكريا يحيى بن سعيد - وكان أديباً شاعراً، ومولده بالموصل في أوائل سنة تسع وستين وخمسمائة تقديراً، وتوفي سنة ست عشرة وستمائة بالموصل، ودفن على أبيه بمقبرة المعافى بن عمران الموصلي. ومن شعره: إن مدحت الخمول نبهت أقوا ... ماً نياماً فسابقوني إليه هو قد دلني على لذة العي ... ش، فمال لي أدل غيري عليه ومن شعره على ما قيل: وعهدي بالصبا زمناً وقدي ... حكى ألف ابن مقلة في الكتاب فصرت الآن منحنياً كأني ... أفتش في التراب على شبابي   (1) وكان له ... شبابي: سقط النص من ص م والمسودة وهو ثابت في س ر ووستنفيلد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 385 266 - (1) سفيان الثوري أبو عبد الله سفيان بن سعيد بن مسروق بن حبيب بن رافع بن عبد الله بن موهبة بن أبي عبد الله بن منقذ بن نصر بن الحكم بن الحارث بن ثعلبة بن ملكان ابن ثور بن عبد مناة بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، الثوري الكوفي؛ كان إماماً في علم الحديث وغيره من العلوم، وأجمع الناس على دينه وورعه وزهده وثقته، وهو أحد الأئمة المجتهدين، ويقال إن الشيخ في ترجمته في حرف الجيم. [وقال يونس بن عبيد: ما رأيت كوفياً أفضل من سفيان، قالوا: إنك رأيت سعيد بن جبير وفلاناً وفلاناً، قال: ما رأيت كوفياً أفضل من سفيان. وقال سفيان بن عيينة : ما رأى سفيان مثله. أكل سفيان ليلة فشبع فقال: الحمار إذا زيد في علفه زيد في عمله، فقام حتى أصبح. وحدث ابن عيينة قال: دعانا سفيان فقدم إلينا غداء ولبناً خائراً، فلما توسطنا قال: قوموا بنا نصلي ركعتين شكراً لله تعالى؛ قال ابن وكيع - وكان حاضراً -: لو قدم إلينا شيئاً من هذا اللوزينج المحدث لقال: قوموا بنا نصلي التراويح. وقال بشر بن الحارث: كان سفيان الثوري كأن العلم بين عينيه، يأخذ منه ما يريد ويدع منه ما يريد.   (1) ترجمة سفيان الثوري في الفهرست: 225 وطبقات الشيرازي، الورقة: 23 وطبقات ابن سعد 6: 371 والمعارف: 497 والجواهر المضية 1: 250 وحلية الأولياء 6: 356 وتهذيب التهذيب 4: 111 وتاريخ بغداد 9: 151 وتذكرة الحفاظ: 203 ورجال ابن حبان: 169. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 386 وقال الأوزاعي: كنت أقول فيمت ضحك في الصلاة قولاً لا أدري كيف هو، فلما لقيت سفيان الثوري سأله فقال: يعيد الصلاة والوضوء، فأخذت به. وكان عصام بن أبي النجود يجيء إلى سفيان يستفتيه ويقول: يا سفيان أتيتنا صغيراً وأتيناك كبيراً. وقال عبد الرحمن بن مهدي: ما رأيت رجلاً أحسن عقلاً من مالك بن أنس، ولا رأيت رجلاً أنصح لأمة محمد صلى الله عليه وسلم من عبد الله بن مبارك، ولا أعلم بالحديث من سفيان، ولا أقشف من شعبة. وقال سفيان الثوري: ما استودعت قلبي شيئاً فخانني. وقيل: لقي سفيان الثوري شريكاً بعدما ولي القضاء بالكوفة فقال: يا أبا عبد الله، بعد الإسلام والتفقه والخير تلي القضاء، أو صرت قاضياً فقال له شريك: يا أبا عبد الله، لابد لنلاس من قاض، فقال سفيان: يا أبا عبد الله، لابد الناس من شرطي. وحدث عبد الرحمن بن أبي عبد الرحمن بن عبد الله البصري، قال: قال رجل لسفيان: اوصني، فقال: اعمل للدنيا بقدر بقائك فيها واعمل للآخرة بقدر دوامك فيها والسلام. وجاء سفيان الثوري إلى صيرفي بمكة يشتري منه دراهم بدينار، فأعطاه الدينار، وكان معه آخر فسقط من سفيان، فطلبه فإذا إلى جانبه دينار آخر، قال له الصيرفي: خذ دينارك، قال: ما أعرفه، قال: خذ الناقص، قال: فلعله الزائد، وتركه ومضى. وقال شعيب بن حرب: سمعت سفيان الثوري يقول: انظر درهمك من أين هو وصل في الصف الآخر. وقال عبد الله بن صالح العجلي: دخل سفيان على المهدي فقال: سلام عليكم، كيف أنتم يا أبا عبد الله ثم جلس فقال: حج عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأنفق في حجته ستة عشر ديناراً، وأنت حججت فأنفقت في حجتك بيوت الأموال، قال: فأي شيء تريد تريد أن أكون مثلك قال: فوق ما أنا فيه ودون ما أنت فيه، فقال وزيره أبو عبيد الله: أبا عبد الله قد كانت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 387 كتبك تأتينا فننفذها، قال: من هذا قال: أبو عبيد الله وزيري، قال: احذره فإنه كذاب، إني ما كتبت إليك، ثم قام فقال له المهدي: إلى أين با أبا عبد الله، قال: أعود؛ وكان قد ترك نعله حين قامن فعاد فأخذها ثم مضى، فانتظره المهدي فلم يعد، فقال: وعدنا أن يعود فلم يعد، فعلم أنه عاد لأخذ نعله، فغضب فقال: قد أمن الناس إلا سفيان الثوري وإنه لفي المسجد الحرام، فذهب فألقى نفسه بين النساء فخبأنه، فقيل له: لم فعلت فقال: إنهن أرحم؛ ثم خرج إلى البصرة فلم يزل بها حتى مات. قال عبد الرحمن بن مهدي: لما قدم سفيان البصرة والسلطان يطلبه، صار في بعض البساتين، واجر نفسه على أن يحفظ ثمارها، فمر به بعض العشارين فقال: من أين أنت يا شيخ قال: من أهل الكوفة، قال: أخبرني رطب البصرة أخلى أم رطب الكوفة قال: أما رطب البصرة فلم أذقه ولكن رطب السابري بالكوفة حلو، فقال: ما أكذبك من شيخن الكلاب والبر والفاجر يأكلون الرطب الساعة وأنت تزعم أنك لم تذقه! فرجع إلى العامل ليخبره بما قال لتعجبه، فقال: ثكلتك أمك، ادركه إن كنت صادقاً فإنه سفيان الثوري لتتقرب به إلى أمير المؤمنين، فرجع في طلبه فما قدر عليه. ودخل سفيان على المهدي فكلمه بكلام فيه غلظة فقال له عيسى بن موسى: تكلم أمير المؤمنين بمثل هذا الكلام وإنما أنت رجل من ثور، فقال له سفيان: إن من أطاع الله من ثور خير ممن عصى الله من قومك. وكان فتى يجالسه ولا يتكلم، فأحب سفيان أن يعرف نطقه فقال له: يا فتى إن من كان قبلنا مروا على خيل سابقة وبقينا بعدهم على حمر دبرة، فقال الفتى: يا أبا عبد الله، إن كنا على الطريق فما أسرع لحوقنا بهم. وحدث أبو بكر ابن عياش قال: كنت أنا وسفيان الثوري نمشي فرأينا شيخاً أبيض الرأس واللحية حسن السمت، فقال له سفيان: يا شيخ أعندك شيء من الحديث قال: لا، ولكن عندي عتيق سنين، فنظرنا فإذا هو خمار. وحكى ضمرة قال: سألت سفيان الثوري: أصافح اليهود والنصارى فقال: برجلك نعم. وقال له رجل: إني أريد الحج، فقال: لا تصحب من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 388 يتكرم عليك فإن ساويته في النفقة أضر بك وإن تفضل عليك استذلك. وكان يقول: من كان في يده شيء من هذه الدراهم فليصلحه فإنه في زمان إن احتاج كان أول من يبذل دينه. وحكي عنه أنه قال: إني لألقى الرجل أبغضه فيقول لي: كيف أصبحت فيلين له قلبي، فكيف بمن أكل ثريدهم ووطئ بساطهم وقيل إن المهدي قال للخيزران: أريد أتزوج، وكانت بكتاب (1) فقالت له: لا يحل لك أن تتزوج علي، قال: بلى، قالت له: بيني وبينك من شئت، قال: أترضين سفيان الثوري قالت: نعم، فوجه إلى سفيان فقال: إن أم الرشيد تزعم أنه لا يحل لي أتزوج عليها وقد قال الله عز وجل " فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع " ثم سكت، فقال له سفيان: أتم الآية، يريد قوله تعالى " فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة ". النساء. وأنت لا تعدل، فأمر له بعشرة آلاف درهم فأبى أن يقبلها. ومثل هذه النادرة ما أخبرني به الفقيه أمين الدين المحلي الذي كان في جملة المتصدرين عند الفقيه برهان الدين ابن الفقيه نصر وهو يومئذ صاحب ديوان الأحباس، وكتب أسماءهم ينتدبهم للمضي إلى الخانقاه إلى المقام السلطاني في مهم فاعتذر رجل منهم فخط على اسمه وكتب غيره، فقام رجل يعتذر فقال: المملوك كما قال الله عز وجل (إن بيوتنا عورة) فقال له الفقيه أمين الدين: صصل، يشير إلى بقية الآية وهي قوله تعالى " وما هي بعورة أن يريدون إلا فراراً " الأحزاب. فضحك البرهان والحاضرون، وقال: لا أجمع عليك بين الفقه وبين تكليفك المجيء، ثم خط على اسمه وابتدأ بغيره] (2) . قال سفيان بن عيينة: ما رأيت رجلاص أعلم بالحلال والحرام من سفيان الثوري. وقال عبد الله بن المبارك: لا نعلم على وجه الأرض أعلم من سفيان الثوري. ويقال: كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه في زمانه رأس الناس، وبعده عبد الله بن عباس، وبعده الشعبي، وبعده سفيان الثوري.   (1) في ر: بنكاح. (2) زيادة من د ر وبعضه غير وارد وبعضه في ص أيضاً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 389 سمع سفيان الثوري الحديث من أبي إسحاق السبيعي والأعمش ومن في طبقتهما، وسمع منه الأوزاعي وابن جريج ومحمد بن إسحاق ومالك تلك الطبقة. وذكر المسعودي في " مروج الذهب " ما مثاله (1) : قال القعقاع بن حكيم: كنت عند المهدي وقد أتي بسفيان الثوري، فلما دخل عليه سلم تسليم العامة ولم يسلم بالخلافة، والربيع قائم على رأسه متكئاً على سيفه يرقب أمره (2) ، فأقبل عليه المهدي بوجه طلق، وقال له: يا سفيان، تفر منا ها هنا وها هنا وتظن أنا لو أردناك بسوء لم نقدر عليك، فقد قدرنا عليك الآن، افما تخشى أن نحكم فيك بهوانا قال سفيان: إن تحكم في يحكم فيك ملك قادر يفرق بين الحق والباطل، فقال له الربيع: يا أمير المؤمنين، ألهذا الجاهل أن يستقبلك بمثل هذا إيذن لي أن أضرب عنقه، فقال له المهدي: اسكت ويلك، وهل يريد هذا وأمثاله إلا أن نقتلهم فنشقى بسعادتهم اكتبوا عهده على قضاء الكوفة على أن لا يعترض عليه في حكم، فكتب عهده ودفع إليه، فأخذه وخرج فرمى به في دجلة وهرب، فطلب في كل بلد فلم يوجد. ولما امتنع من قضاء الكوفة وتولاه شريك بن عبد الله النخعي قال الشاعر: تحرز سفيان وفر بدينه ... وأمسى شريك مرصداً للدراهم [وحكي عن أبي صالح بن حرب المدائني - وكان أحد السادة الأئمة الأكابر في الحفظ والدين - أنه قال: إنني لأحسب يجاء بسفيان الثوري يوم القيامة حجة من الله على الخلق، يقال لهم: لم تدركوا نبيكم عليه أفضل الصلاة والسلام فلقد رأيتم (3) سفيان الثوري، ألا اقتديتم به] (4) . ومولده في سنة خمس، وقيل ست، وقيل سبع وتسعين للهجرة. وتوفي   (1) مروج الذهب 3: 332. (2) ص: حاله. (3) هـ: أدركتم. (4) ما بين معقفين لم يرد في المسودة وص س م. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 390 بالبصرة أول سنة إحدى وستين ومائة متوارياً من السلطان، ودفن عشاء رحمه الله تعالى؛ ولم يعقب. والثوري: بفتح الثاء المثلثة وبعدها واو ساكنة وراء، هذه النسبة إلى ثور ابن عبد مناة، وثم ثوري آخر في بني تميم، وثوري آخر بطن من همدان. وقيل: إنه توفي سنة اثنتين وستين، والأول أصح. 267 - (1) سفيان بن عيينة أبو محمد بن سفيان بن عيينه بن أبي عمران ميمون الهلالي، مولى امرأة من بني هلال بن عامر رهط ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل مولى بني هاشم، وقيل مولى الضحاك بن مزاحم، وقيل مولى مسعر بن كدام؛ وأصله من الكوفة، وقيل ولد بالكوفة ونقله أبوه إلى مكة، ذكره ابن سعد في " كتاب الطبقات " وعده في الطبقة الخامسة من أهل مكة (2) ، كان إماماً عالماً ثبتاً حجة زاهداً ورعاً مجمعاً على صحة حديثه وروايته، وحج سبعين حجة. روى عن الزهري وأي إسحاق السبيعي وعمرو بن دينار ومحمد بن المنكدر وأبي الزناد وعاصم بن أبي النجود المقرئ والأعمش وعبد الملك بن عمير وغير هؤلاء من أعيان العلماء؛ وروى عنه الإمام الشافعي وشعبة بن الحجاج ومحمد ابن إسحاق وابن جريج والزبير بن بكار وعمه مصعب وعبد الرزاق بن همام الصنعاني ويحيى بن أكثم القاضي وخلق كثير، رضي الله عنهم.   (1) ترجمة سفيان بن عيينة في تاريخ بغداد 9: 174 وتذكرة الحفاظ: 262 وحلية الأولياء 7: 270 وصفة الصفوة 2: 130 ورجال ابن حيان: 146 وتهذيب التهذيب 4: 117 وميزان الاعتدال 2: 170 والعقد الثمين 4: 591. (2) انظر طبقات ابن سعد 5: 497. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 391 ورأيت (1) في بعض المجاميع أن سفيان خرج يوماً إلى من جاءه يسمع منه وهو ضجر، فقال: أليس من الشقاء أن أكون جالست ضمرة بن سعيد وجالس هو أبا سعيد الخدري، وجالست عمرو (2) بن دينار وجالس هو ابن عمر رضي الله عنهما، وجالست الزهري وجالس هو أنس بن مالك، حتى عد جماعة، ثم أنا أجالسكم فقال له حدث في المجلس: أتنصف يا أبا محمد قال: إن شاء الله تعالى، فقال: والله لشقاء أصحاب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بك أشد من شقائك بنا؛ فأطرق وأنشد قول أبي نواس (3) : خل جنبيك لرام ... وامض عنه بسلام مت بداء الصمت خير ... لك من داء الكلام إنما السالم من أل ... جم فاه بلجام (4) فتفرق الناس وهم يتحدثون برجاحة الحدث، وكان ذلك الحدث يحيى بن أكثم التميمي، فقال سفيان: هذا الغلام يصلح لصحبة هؤلاء، يعني السلطان - وسيأتي ذكر يحيى في حرف الياء إن شاء الله تعالى، وهو القاضي المشهور -. وقال الشافعي: ما رأيت أحداً فيه من آلة الفتيا ما في سفيان، وما رأيت أكف عن الفتيا منه. [وكان أدرك نيفاً وثمانين نفساً من التابعين. قال سفيان المذكور: كنت أخرج إلى المسجد فأتصفح الخلق فإذا رأيت مشيخة وكهولة جلست إليهم وأنا اليوم قد اكتنفني هؤلاء الصبيان، ثم ينشد: خلت الديار فسدت غير مسود ... ومن الشقاء تفردي بالسؤود قيل إنه في آخر سنة حج قال: قد وافيت هذا الموضع سبعين مرة وأقول كل   (1) هذه الفقرة جميعها لم ترد في م. (2) س ر والمسودة: عبيد، وأثبتنا ما في ص. (3) ديوان أبي نواس: 194 - 195. (4) سقط البيت من س ص والمسودة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 392 مرة: اللهم لا تجعله آخر العهد من هذا المكان، وإني قد استحييت من الله من كثرة ما أسأله ذلك، فرجع فتوفي في العام القابل] (1) . [وقال رجل: كنت أمشي مع سفيان بن عيينة إذ أتاه سائل فلم يكن معه ما يعطيه، فبكى، فقلت: يا أبا محمد ما الذي أبكاك قال: أي مصيبة أعظم من أن يؤمل فيك رجل خيراً فلا يصيبه] (2) . وكان أبو عمران جد سفيان المذكور من عمال خالد بن عبد الله القسري، فلما عزل خالد عن العراق (3) وولي يوسف بن عمر الثقفي طلب عمال خالد فهرب أبو عمران المذكور منه إلى مكة فنزلها، وهو من أهل الكوفة. وقال سفيان: دخلت (4) الكوفة ولم يتم لي عشرون سنة، فقال أبو حنيفة لأصحابه ولأهل الكوفة: جاءكم حافظ علم عمرو بن دينار، قال: فجاء الناس يسألونني عن عمر بن دينار، فأول من صيرني محدثاً أبو حنيفة، فذاكرته فقال لي: يا بني، ما سمعت من عمرو إلا ثلاثة أحاديث، يضطر في حفظ تلك الأحاديث. ومولد سفيان بالكوفة في منتصف شعبان سنة سبع ومائة. وتوفي يوم السبت آخر يوم من جمادى الآخرة، وقيل أول يوم من رجب سنة ثمان وتسعين ومائة بمكة ودفن بالحجون، رحمه الله تعالى. وعيينة: بضم العين المهملة وفتح الياء الأولى وسكون الثانية المثناتين من تحتهما وفتح النون وبعدها هاء ساكنة. والحجون: بفتح الحاء المهملة وضم الجيم وبعد الواو الساكنة نون، جبل بأعلى مكة عنده مدافن أهلها، وله ذكر في الأشعار.   (1) زيادة من ر ص. (2) زيادة من د وحدها. (3) ج: الكوفة. وفي م: فلما ولي الحجاج وطلب عمال خالد؛ وهو خطأ عجيب. (4) م: نزلت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 393 268 - (1) سكينة بنت الحسين السيدة سكينة ابنة الحسين بن علي بن أبي طالب، رضي الله عنهم؛ كانت سيدة نساء عصرها، ومن أجمل النسار وأظرفهن وأحسنهن أخلاقاً، وتزوجها مصعب بن الزبير فهلك عنها، ثم تزوجها عبد الله بن عثمان بن عبد الله بن حكيم ابن حزام فولدت له قريناً، ثم تزوجها الأصبغ بن عبد العزيز بن مروان وفارقها قبل الدخول، ثم تزوجها زيد بن عمرو بن عثمان بن عفان رضي الله عنه، فأمره سليمان بن عبد الملك بطلاقها ففعل، وقيل في ترتيب أزواجها غير هذا، والطرة السكينية منسوبة إليها. ولها نوادر وحكايات ظريفة مع الشعراء وغيرهم، من ذلك ما يروى أنها وقفت على عروة بن أذينة (2) - وكان من أعيان العلماء وكبار الصالحين وله أشعار رائقة - فقالت له: أنت القائل: إذا وجدت أوار الحب في كبدي ... أقبلت نحو سقاء الماء (3) أبترد هبني بردت ببرد (4) الماء ظاهره ... فمن لنار على الأحشاء تتقد فقال لها: نعم، فقالت: وأنت القائل: قالت وأبثثتها سري فبحت به ... قد كنت عندي تحب الستر فاستتر   (1) ترجمة السيدة سكينة وأخبارها في طبقات ابن سعد 8: 475 ونسب قريش: 59 وانظر الأغاني 16: 93، 17: 3 وصفحات متفرقة من (ج 5) من أنساب الأشراف؛ ولها أخبار في الكتب الأدبية العامة؛ وهذه الترجمة مستوفاة بتمامها في المسودة. (2) انظر الأغاني 18: 245. (3) ج د: القوم. (4) هـ: تبردت برد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 394 ألست تبصر من حولي فقلت لها غطى هواك وما ألقى على بصري فقال: نعم، فالتفتت إلى جوار كن حولها وقالت: هن حرائر إن كان خرج هذا من قلب سليم قط. وكان لعروة المذكور أخ اسمه بكر فمات فرثاه عروة بقوله (1) : سرى همي وهم المرء يسري ... وغاب النجم إلا قيد فتر أراقب في المجرة كل نجم ... تعرض أو على المجراة يجري (2) لهم ما أزال له قريناً (3) ... كأن القلب أبطن حر جمر على بكر أخي، فارقت بكراً (4) ... وأي العيش يصلح بعد بكر فلما سمعت سكينة هذا الشعر قالت: ومن هو بكر هذا فوصف لها، فقالت: أهو ذلك الأسيد الذي كان يم بنا قالوا: نعم، قالت: لقد طاب بعده كل شيء حتى الخبز والزيت. وأسيد: تصغير أسود. ويحكى أن بعض المغنين غنى هذه الأبيات عند الوليد بن يزيد الأموي وهو في مجلس أنسه، فقال للمغني: من يقول هذا الشعر فقال: عروة بن أذينة، فقال الوليد: وأي العيش يصلح بعد بكر هذا العيش الذي نحن فيه، والله لقد تحجر واسعاً. (45) وكان عروة المذكور (5) كثير القناعة، وله في ذلك أسعار سائرة وكان قد وفد من الحجاز على هشام بن عبد الملك بالشام في جماعة من الشعراء، فلما دخلوا عليه عرف عروة، فقال له: ألست القائل:   (1) الأغاني 18: 250. (2) الأغاني: تعرض للمجرة كيف يجري. (3) الأغاني: ما أزال له مديما. (4) الأغاني وأ ج: ولي حميدا. (5) أخبار عروة في الأغاني 18: 240 وما بعدها والشعر والشعراء: 483 والمؤتلف: 54 والسمط: 236 وأمالي المرتضى 1: 408 - 416. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 395 لقد علمت وما الإشراف (1) من خلقي ... أن الذي هو رزقي سوف يأتيني أسعى له فيعنيني تطلبهُ ... ولو قعدت أتاني لا يُعنيني وما أراك فعلت كما قلت، فإنك أتيت من الحجاز إلى الشام في طلب الرزق، فقال: لقد وعظت يا أمير المؤمنين فبالغت في الوعظ، وأذكرت (2) ما أنسانيه الدهر، وخرج من فروه إلى راحلته فركبها وتوجه راجعاً إلى الحجاز، فمكث هشام يومه غافلاً عنه، فلما كان في الليل استيقظ من منامه وذكره، وقال: هذا رجل من قريش قال حكمة ووفد إلي فجبهته ورددته عن حاجته، وهو مع هذا شاعر لا آمن لسانه، فلما أصبح سأل عنه، فأخبر بانصرافه، فقال: لا جرم ليعلمن أن الرزق سيأتيه، ثم دعا بمولى له وأعطاه ألفي دينار، وقال: الحق بهذه عروة بن أذينة فأعطه إياها، قال: فلم أدركه إلا وقد دخل بيته، فقرعت عليه الباب، فخرج فأعطيته المال، فقال: أبلغ أمير المؤمنين السلام وقل له: كيف رأيت قولي سعيد فأكديت، ورجعت إلى بيتي فأتاني فيه الرزق. وهذه الحكاية وغن كانت دخيلة ليست مما نحن فيه لكن حديث عروة ساقها. ولبعض المعاصرين وهو محمد بن إدريت المعروف بمرج كحل الأندلسي (3) في معنى هذين البيتين، وأحسن فيه: مثل الرزق الذي تطلبه ... مثل الظل الذي يمشي معك أنت لا تدركه متبعاً ... فإذا وليت عنه تبعك وكان وفاة سكينة بالمدينة يوم الخميس لخمس خلون من شهر ربيع الأول سنة   (1) س ص ر: الإسراف، وفي المسودة " معا " أي بالسين والشين. (2) ص: وأذكرتني. (3) شاعر أندلسي من جزيرة شقر يقال إنه كان أميا وكان يحتفظ بزي أهل البادية وبينه وبين شعراء عصره (كصفوان بن إدريس) مخاطبات (انظر الإحاطة 2: 252 ونفح الطيب 5: 50 وبرنامج الرعيني: 208 والمغرب 2: 273 والوافي 2: 181 والتكملة: 433) وبيتاه في الإحاطة والنفح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 396 سبع عشرة ومائة، رضي الله عنهما؛ وقيل اسمها آمنة، وقيل أمينة، وقيل أميمة، وسكينة لقب لقبتها به أمها الرباب ابنة امرئ القيس بن عدي. وقال محمد بن السائب الكلبي النسابة: سألني عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم عن اسم سكينة ابنة الحسين بن علي رضي الله عنهم، فقلت: أميمة، فقال: أصبت. (46) وتوفي مرج كحل المذكور في سنة أربع وثلاثين وستمائة ببلده - وهو جزيرة شقر بالأندلس - وكانت ولادته بها سنة أربع وخمسين وخمسمائة (1) . 269 - (2) سليم الرازي أبو الفتح سليم بن أيوب بن سليم الرازي الفقيه الشافعي الأديب؛ كان مشاراً إليه في الفضل والعبادة، وصنف الكتب الكثيرة منها كتاب " الإشارة " وكتاب " غريب الحديث " ومنها " التقريب " وليس هو التقريب الذي ينقل عنه إمام الحرمين في " النهاية " والغزالي في " البسيط " و " الوسيط " فإن ذلك للقاسم بن القفال الشاشي، وقد ذكره في الباب الثاني من كتاب الرهن في " الوسيط ". وأخذ سليم الفقه عن الشيخ أي حامد الإسفرايني، وأخذ عنه أبو الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي. وقال سليم (3) : دخلت بغداد في حداثتي لطلب علم اللغة، فكنت آتي   (1) ص: أربع وستين. (2) ترجمة سليم الرازي في إنباه الرواة 2: 69 وطبقات الشيرازي، الورقة: 39 وطبقات السبكي 3: 168. قلت: وقد وردت هذه الترجمة في المسودة كاملة. (3) قارن بما عند القفطي: 69. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 397 شيخاً هناك، وذكره في بعض الأيام إليه فقيل لي: هو في الحمام، فمضيت نحوه، فعبرت في طريقي على الشيخ أبي حامد الإسفرايني وهو يملي، فدخلت المسجد وجلست مع الطلبة، فوجدته في كتاب الصيام في مسألة إذا أولج ثم أحس بالفجر فنزع، فاستحسنت ذلك، فعلقت الدرس على ظهر جزء كان معي، فلما عدت إلى منزلي وجعلت أعيد الدرس حلالي، وقلت: أتم هذا الكتاب - يعني كتاب الصيام - فعلقته، ولزمت الشيخ أبا حامد حتى علقت عنه جميع التعليق. وكان لا يخلو له وقت عن اشتغال، حتى إنه كان إذا برى القلم قرأ القرآن أو سبح، وكذلك إذا كان ماراً في الطريق وغير ذلك من الأوقات التي لا يمكن الاشتغال فيها بعلم. وسكن سليم الشام بمدينة صور متصدياً لنشر العلم وإفادة الناس، وكان يقول: وضعت مني صور، ورفعت من أبي الحسن المحاملي بغداد. ثم أنه غرق في بحر القلزم بعد رجوعه من الحج عند ساحل جدة، في سلخ صفر سنة سبع وأربعين وأربعمائة، وكان قد نيف على ثمانين سنة، رحمه الله تعالى؛ ودفن في جزيرة بقرب الجار عند المخاضة في طريق عيذاب. والرازي: بفتح الراء وبعد الألف زاي، هذه النسبة إلى الري، وهي مدينة عظيمة من بلاد الديلم بين قومس والجبال، وألحقوا الزاي في النسبة إليها كما ألحقوها في المروزي عند النسب إلى مرو، وقد تقدم ذكر ذلك. والجار: بفتح الجيم وبعد الألف راء، وهي بليدة على الساحل، بينها وبين مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم يوم وليلة، وإليها ينسب القمح الجاري، وذكر أبو القاسم الزمخشري في " كتاب الأمكنة والجبال والمياه " (1) في باب الشين أن الجار قرية على ساحل البحر، بها ترسو مطايا القلزم ومطايا عيذاب ومطايا بحر النعام. وقال ابن حوقل في كتابه (2) : " الجارفرضة المدينة على ثلاث مراحل منها   (1) لم أجد هذا في المادة إليها من كتاب الزمخشري. (2) صورة الأرض: 39. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 398 على البحر، وجدة فرضة مكة ". (47) وتوفي ولده او سعيد إبراهيم بن سليم يوم الثلاثاء السادس والعشرين من ذي الحجة سنة إحدى وتسعين وأربعمائة بدمشق، ذكره الحافظ ابن عساكر في " تاريخ دمشق " (1) وقال: أخذ عن جماعة من جلة المشايخ وأخذوا عنه، وكان صدوقاً، رحمه الله تعالى. 270 - (2) سليمان بن يسار أبو أيوب - ويقال أبو عبد الرحمن، ويقال ابو عبد الله - سليمان بن يسار مولى ميمونة زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أحد الفقهاء السبعة بالمدينة، وقد تقدم ذكر ثلاثة منهم. وكان سليمان النذكور أخا عطاء بن يسار، وكان عالماً ثقة عابداً ورعاً حجة؛ قال الحسن بن محمد: سليمان بن يسار عندنا أفهم من سعيد بن المسيب، ولم يقل أعلم ولا أفقه. وروى عن ابن عباس وأبي هريرة وأم سلمة، رضي الله عنهم، وروى عنه الزهري وجماعة من الأكابر. وكان المستفتي إذا أتى سعيد بن المسيب يقول له: اذهب إلى سليمان بن يسار، فإنه أعلم من بقي اليوم. وقال قتادة: قدمت المدينة، فسألت: من أعلم أهلها بالطلاق فقالوا: سليمان بن يسار. وتوفي سنة سبع ومائة، وقيل سنة مائة، وقيل سنة أربع وتسعين للهجرة، والله أعلم، وهو ابن ثلاث وسبعين سنة، رحمه الله تعالى.   (1) تهذيب ابن عساكر 2: 214. (2) ترجمة سليمان بن يسار في رجال ابن حبان: 64 وتذكرة الحفاظ: 91 وتهذيب التهذيب 4: 228 وطبقات الشيرازي، الورقة: 13؛ وهذه الترجمة بتمامها في المسودة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 399 271 - (1) الأعمش أبو محمد سليمان بن مهران مولى بني كاهل من ولد أسد، المعروف بالأعمش الكوفي الإمام المشهور؛ كان ثقة عالماً فاضلاً، وكان ابوه من دنباوند، وقدم الكوفة وامرأته حامل بالأعمش فولدته بها؛ قال السمعاني: وهو لا يعرف بهذه النسبة، بل يعرف بالكوفي، وكان يقارن بالزهري (2) في الحجاز (3) ، ورأى أنس ابن مالك - رضي الله عنه - وكلمه، ولكنه لم يزرق السماع عليه، وما يرويه عن أنس فهو إرسال أخذه عن أصحاب أنس. ورأى أبا بكرة الثقفي وأخذ بركابه فقال له: يا بني إنما أكرمت ربك. سمع داود بن سويد وأبا وائل وإبراهيم التميمي وسعيد بن جبير ومجاهداً والنخعي (4) ، وروى عن عبد الله بن أي أوفى حديثاً واحداً، ولقي كبار التابعين رضي الله عنهم، وروى عنه سفيان الثوري وشعبة بن الحجاج وحفص بن غياث وخلق كثير من جلة العلماء. [وكان الأعمش يقول: إن كان بيننا وبين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ستر؛ قال أبو عبد الله أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى: صدق، هكذا كان، وقد رأى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. وقال عيسى بن يونس: لم نر نحن والقرن الذي قبلنا مثل الأعمش: ما رأيت الأغنياء والسلاطين عند أحد أحقر منهم عند الأعمش مع فقره وحاجته.   (1) ترجمة الأعمش في طبقات ابن سعد 6: 342 وتاريخ بغداد 9: 3 وتذكرة الحفاظ: 154 وغاية النهاية 1: 315 وتهذيب التهذيب 4: 222. (2) ص: يقارب الزهري. (3) ج: الزهري بالحجاز. (4) ورأى أبا بكرة ... النخعي: لم يرد في المسودة وص س. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 400 حدث محمد بن جرير، قال عيسى بن موسى لابن أبي ليلى: اجمع الفقهاء؛ قال: فجمعهم، فجاء الأعمش في جبة وفرو وقد ربط وسطه بشريط فأبطأوا فقام الأعمش فقال: إن أردتم أن تعطونا شيئاً وإلا فخلوا سبيلنا، فقال عيسى المذكور: قلت لك تأتي بالفقهاء فتجيء بهذا فقال: هذا سيدنا، هذا الأعمش. حدثنا أحمد بن علي بن ثابت بإسناد له عن وكيع: كان الأعمش قريباً من سبعين سنة لم تفته التكبيرة الأولى، واختلفت إليه أكثر من ستين سنة فما رأيته يقضي ركعة. وقال الأعمش: كنت آتي مجاهداً فيقول: لو كنت أطيق المشي لأتيتك. وجرى بينه وبين زوجته كلام، وكان يأتيه رجل يقال له أبو ليلى مكفوف فصيح يتكلم بالإعراب يتطلب الحديث منه، فقال: يا أبا ليلى، امرأتي نشزت علي وأنا أحب أن تدخل عليها فتخبرها مكاني من الناس وموضعي عندهم، فدخل عليها وكانت من أجمل أهل الكوفة فقال: يا هنتاه إن الله قد أحسن قسمك، هذا شيخنا وسيدنا وعنه نأخذ أصل ديننا وحلالنا فلا يغرنك عموشة عينيه ولا حموشة ساقيه، فغضب الأعمش وقال: يا أعمى يا خبيث، أعمى الله قلبك كما أعمى عينيك، قد أخبرتها بعيوبي كلها؛ اخرج من بيتي. وأراد إبراهيم النخعي أن يماشيه فقال الأعمش: إن الناس إذا رأونا معاً قالوا: أعور وأعمش، قال النخعي: وما عليك أن نؤجر ويأثموا فقال له الأعمش: وما عليك أن يسلموا ونسلم وجاء رجل يطلبه في منزله ووصل وقد خرج مع امرأته إلى المسجد فجاء فوجدهما في الطريق فقال: أيكما الأعمش فقال الأعمش: هذه، وأشار إلى المرأة. ودخل الحمام يوماً وجاء رجل حاسر، فقال له الرجل: متى ذهب بصرك فقال: مذ بدت عورتك. قال محمد بن حميد، حدثنا جرير قال: جئنا الأعمش يوماً فوجدناه قاعداً في ناحية فجلسنا في ناحية أخرى وفي الموضع خليج من ماء المطر، فجاء الأعمش الجزء: 2 ¦ الصفحة: 401 رجل عليه، فلما بصر بالأعمش وعليه فروة حقيرة قال: قم فعبرني هذا الخليج، وجذب يده وأقامه وركبه وقال: (سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين) . فمضى به الأعمش حتى توسط به الخليج فرمى به وقال: (رب أنزلني منزلاً مباركاً وأنت خير المنزلين) . ثم خرج وترك الأسود يخبط في الماء. وكان الأعمش إذا رأى ثقيلاً قال: كم غرضك تقيم في هذه البلدة] (1) . وكان لطيف الخلق مزاحاً، جاءه أصحاب الحديث يوماً ليسمعوا عليه، فخرج إليهم، وقال: لولا أن في منزلي من هو أبغض إلي منكم ما خرجت إليكم (2) . وقال له داود بن عمر الحائك: ما تقول في الصلاة خلف الحائك فقال: لا بأس بها على غير وضوء، فقال: ما تقول في شهادة الحائك فقال: تقبل مع عدلين. ويقال إن الإمام أبا حنيفة رضي الله عنه عاده يوماً في مرضه، فطول القعود عنده، فلما عزم على القيام قال له: ما كأني إلا ثقلت عليك، فقال: والله إنك لتثقل علي وأنت في بيتك. وعادة أيضاً جماعة فأطالوا الجلوس عنده فضجر منهم، فأخذ وسادته وقام وقال: شفى الله مريضكم بالعافية؛ وقيل عنده يوماً: قال صلى الله عليه وسلم: " من نام عن قيام الليل بال الشيطان في أذنه " فقال: ما عمشت عيني إلا من بول الشيطان في أذني. وكانت له نوادر كثيرة. [وقال (3) أبو معاوية الضرير: بعث هشام بن عبد الملك إلى الأعمش أن اكتب لي مناقب عثمان ومساوئ علين فأخذ الأعمش القرطاس وأدخلها في فم شاة فلاكتها، وقال لرسوله: قل له هذا جوابك، فقال له الرسول: إنه قد آلى أن يقتلني إن لم آته بجوابك، وتحمل عليه بإخوانه (4) ، فقالوا له: يا أبا محمد   (1) زيادة من ر د. (2) بعد هذا الموضع ترد حكاية الأعمش وزوجه موجزة، وقد وردت من قبل في المزيد من ر د. (3) هذه الفقرة بين معقفين لم ترد في م والمسودة. (4) ص: بأصحابه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 402 افتده من القتل، فلما ألحوا عليه كتب له " بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد يا أمير المؤمنين، فلو كانت لعثمان رضي الله عنه مناقب أهل الأرض ما نفعتك، ولو كانت لعلي رضي الله عنه مساوئ أهل الأرض ما ضرتك، فعليك بخويصة نفسك، والسلام "] . [وكتب إلى بعض إخوانه يعزيه: إنا نعزيك لا أنا على ثقة ... من البقاء ولكن سنة الدين فلا المعزى بباق بعد ميته ... ولا المعزي وإن عاشا إلى حين] (1) ومولده سنة ستين للهجرة، وقيل إنه يوم مقتل الحسين رضي الله عنه، وذلك يوم عاشوراء سنة إحدى وستين، وكان أبوه حاضراً مقتل الحسين، وعده ابن قتيبة في كتاب " المعارف " (1) في جملة من حملت به أمه سبعة أشهر. وتوفي في سنة ثمان وأربعين ومائة في شهر ربيع الأول، وقيل سنة سبع وأربعين، وقيل سنة تسع واربعين، رحمه الله تعالى. وقال زائدة بن قدامة: تبعت الأعمش يوماً، فأتى المقابر فدخل في قبر محفور فاضطجع فيه، ثم خرج منه وهو ينفض التراب عن رأسه ويقول: واضيق مسكناه. ودنباوند: بضم الدال المهملة وسكون النون وفتح الباء الموحدة وبعد الألف واو مفتوحة ثم نون ساكنة وبعدها دال مهملة، وهي ناحية من رستاق الري في الجبال، وبعضهم يقول " دماوند " والأول أصح، وقد تقدم ذكرها قبل هذا.   (1) زيادة من ص وحدها. (1) زيادة من ص وحدها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 403 272 - (1) أبو داود السجستاني أبو داود سليمان بن الأشعث بن إسحاق بن بشير بن شداد بن عمرو بن عمران الأزدي السجستاني؛ أحد حفاظ الحديث وعلمه وعلله، وكان في الدرجة العالية من النسك والصلاح، طوف البلاط وكتب عن العراقيين والخراسانيين والشاميين والمصريين والجزريين، وجمع كتاب " السنن " قديماً وعرضه على الإمام أحمد بن حنبل، رضي الله عنه، فاستجاده واستحسنه، وعده الشيخ أبو غسحاق الشيرازي في " طبقات الفقهاء " (2) من جملة أصحاب الإمام أحمد بن حنبل، وقال غبراهيم الحربي لما صنف أبو داود كتاب " السنن ": ألين لأبي داود الحديث كما ألين لداود الحديد. وكان يقول: كتبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسمائة ألف حديث انتخبت منها ما ضمنته هذا الكتاب - يعني " السنن " - جمعت فيه أربعة آلاف وثمانمائة حديث، ذكرت الصحيح وما يشبهه ويقاربه، ويكفي الإنسان لدينه من ذلك أربعة أحاديث: أحدها قوله صلى الله عليه وسلم " إنما الأعمال بالنيات " والثاني قوله " من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه " والثالث قوله " لا يكون المؤمن مؤمناً حتى يرضى لأخيه ما يرضاه لنفسه " والرابع قوله " الحلال بين والحرام بين، وبين ذلك أمور مشتبهات " الحديث بكماله. وجاءه سهل بن عبد الله التستري فقيل (3) له: يا أبا داود، هذا سهل بن عبد الله قد جاءك زائراً، قال: فرحب به وأجلسه، فقال: يا أبا داود لي إليك   (1) ترجمة أبي داود السجستاني في تاريخ بغداد 9: 55 وتهذيب ابن عساكر 6: 244 وطبقات الحنابلة: 118 وتذكرة الحفاظ: 591. (2) طبقات الشيرازي، الورقة: 591. (3) في المسودة: فقال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 404 حاجة، وما هي قال: حتى تقول قضيتها مع الإمكان، قال: قد قضيتها مع الإمكان، قال: أخرج لي لسانك الذي حدثت به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبله، قال: فأخرج له لسانه فقبله. [وكان لأبي داود كم واسع وكم ضيق، فقيل له: يرحمك الله ما هذا فقال: الواسع للكتب والآخر لا نحتاج إليه. وكان يقول: الشهوة الخفية حب الرياسة. وكان في أيام حداثته وطلب الحديث جلس في مجلس بعض الرواة يكتب، فدنا رجل إلى محبرته وقال له: أستمد من هذه المحبرة فالتفت إليه وقال: أما علمت أن من شرع في مال أخيه بالاستئذان فقد استوجب بالحشمة الحرمان فسمي ذلك اليوم حكيماً] (1) . وكانت ولادته في سنة اثنتين ومائتين، وقدم بغداد مراراً ثم نزل إلى البصرة وسكنها، وتوفي بها يوم الجمعة منتصف شوال سنة خمس وسبعين ومائتين، رحمه الله تعالى. (48) وكان ولده أبو بكر عبد الله بن أبي داود سليمان (2) من أكابر الحفاظ ببغداد، عالماً متفقاً عليه، إمام ابن إمام، وله كتاب " المصابيح " وشارك أباه في شيوخه بمصر والشام، وسمع ببغداد وخراسان وأصبهان وسجستان وشيراز. وتوفي في سنة ست عشرة وثلثمائة، واحتج به ممن صنف الصحيح أبو علي الحافظ النيسابوري وابن حمزة الأصبهاني. والسجستاني: بكسر السين المهملة والجيم وسكون السين الثانية وفتح التاء المثناة من فوقها وبعد الألف نون، هذه النسبة إلى سجستان، الإقليم المشهور، وقيل بل نسبته إلى سجستان أو سجستانة، قرية من قرى البصرة، والله أعلم بذلك.   (1) زيادة بعضها عن ص وجميعها عن د. (2) ترجمة عبد الله بن أبي داود في تاريخ بغداد 9: 464 وميزان الاعتدال 2: 433 ويروون أن أباه قال فيه: " بني عبد الله كذاب "؛ قال ابن عدي: " وأما كلام أبيه فيه فما أدري أيش تبين له منه. والأكثرون مجمعون على توثيقه ". قال صالح بن أحمد الحافظ: أبو بكر ابن أبي داود إمام العراق، كان في وقته ببغداد مشايخ أسند منه ولم يبلغوا في الآلة والاتقان ما بلغ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 405 273 - (1) أبو موسى الحامض أبو موسى سليمان بن محمد بن أحمد النحوي البغدادي المعروف بالحامض؛ كان أحد المذكورين من العلماء بنحو الكوفيين، أخذ النحو عن أبي العباس ثعلب، وهو المقدم من أصحابه، وجلس موضعه وخلفه بعد موته، وصنف كتباً حساناً في الأدب، وروى عنه أبو عمر الزاهد وأبو جعفر الأصبهاني المعروف ببرزويه غلام نفطويه. وكان ديناً صالحاً، وكان أوحد الناس في البيان والمعرفة بالعربية واللغة والشعر، وكان قد أخذ عن البصريين أيضاً، وخلط النحوين، وكان حسن الوراقة في الضبط، وكان يتعصب على البصريين فيما أخذ عنهمن في عربيتهم، وله عدة تصانيف: فمنها كتاب " خلق الإنسان " وكتاب " السبق والنضال " وكتاب " النبات " وكتاب " الوحوش " وكتاب في النحو مختصر، وغير ذلك. وتوفي ليلة الخميس لسبع بقين من ذي الحجة سنة خمس وثلثمائة ببغداد، ودفن بمقبرة باب التبن (2) ، رحمه الله تعالى. وإنما قيل له الحامض لأنه كانت له أخلاق شرسة، فلقب الحامض لذلك، ولما احتضر أوصى بكتبه لأبي فاتك المقتدري، بخلاً بها أن تصير إلى أحد من أهل العلم.   (1) ترجمة أبي موسى الحامض في معجم الأدباء 11: 253 وانباه الرواة 2: 21 وبغية الوعاة: 262 وتاريخ بغداد 9: 61 (ومصادر أخرى في حاشية الانباه) . والترجمة مستوفاة في المسودة. (2) س: المتين، وموضعها بياض في ص ر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 406 (1) 274 أبو القاسم الطبراني أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب بن مطير اللخمي الطبراني؛ كان حافظ عصره، رحل في طلب الحديث من الشام إلى العراق والحجاز واليمن ومصر وبلاد الجزيرة الفراتية، وأقام في الرحلة ثلاثاً وثلاثين سنة، وسمع الكثير، وعدد شيوخه ألف شيخ، وله المصنفات الممتعة النافعة الغريبة منها المعاجم الثلاثة: " الكبير " و " الأوسط " و " الصغير " وهي اشهر كتبه، وروى عنه الحافظ أبو نعيم والخلق الكثير. ومولده سنة ستين ومائتين بطبرية الشام، وسكن أصبهان إلى أن توفي بها يوم السبت لليلتين بقيتا من ذي القعدة سنة ستين وثلثمائة، وعمره تقديراً مائة سنة، رحمه الله تعالى، وقيل إنه توفي في شوال، والله أعلم، ودفن إلى جانب جمعه الدوسي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. والطبراني: بفتح الطاء المهملة والباء الموحدة والراء وبعد الألف نون، هذه النسبة إلى طبرية، والطبري نسبة إلى طبرستان، وقد تقدم ذلك. واللخمي: بفتح اللام وسكون الخاء المعجمة وبعدها ميم، هذه النسبة إلى لخم، واسمه مالك بن عدي، وهو أخو جذام، وقد تقدم القول في تسميتهما بهذين الاسمين لم كان. ومطير: تصغير مطر.   (1) ترجمة الطبراني في تهذيب ابن عساكر 6: 240 والنجوم الزاهرة 4: 59 وتذكرة الحفاظ: 912 وعبر الذهبي 2: 315؛ وأول سماعه سنة 273 بطبرية ورحل أولاً إلى القدس سنة 274 ثم إلى قيسارية سنة 275 ثم إلى حمص وجبلة ومدائن الشام وحج ودخل اليمن وورد مصر ثم رحل إلى العراق وأصبهان وفارس. قلت: وهذه الترجمة كاملة في المسودة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 407 275 - (1) أبو الوليد الباجي أبو الوليد سليمان بنخلف بن سعد بن أيوب بن وارث التجيبي المالكي الأندلسي الباجي؛ كان من علماء الأندلس وحفاظها، سكن شرق الأندلس ورحل إلى المشرق سنة ست وعشرين وأربعمائة أو نحوها، فأقام بمكة مع أبي ذر الهروي ثلاثة أعوام وحج فيها أربع حجج، ثم رحل إلى بغداد فأقام بها ثلاثة أعوام يدرس الفقه ويقرأ الحديث، ولقي بها سادة من العلماء كأبي الطيب الطبري الفقيه الشافعي والشيخ أبي إسحاق الشيرازي صاحب " المهذب " وأقام بالموصل مع أبي جعفر السمناني عاماً يدرس عليه الفقهن وكان مقامه بالمشرق نحو ثلاثة عشر عاماً، وروى عن الحافظ أبي بكر الخطيب، وروى الخطيب أيضاً عنه، قال: أنشدني أبو الوليد الباجي لنفسه [يرثي ابنيه، وماتا مقترنين (2) : لئن غيبا عن ناظري وتبوءا ... فؤادي لقد زاد التباعد في القرب يقر بعيني أن أزور ثراهما ... وألصق مكنون الترائب بالترب] (3) وروى الخطيب أيضاً عنه قال: أنشدني أبو الوليد الباجي لنفسه (4) : إذا كنت أعلم علماً يقيناً ... بأن جميع حياتي كساعه   (1) ترجمة أبي الوليد الباجي في الذخيرة (قسم 38/2 من مخطوطة بغداد) والقلائد: 188 والصلة: 197 وبغية الملتمس (رقم: 777) والمغرب 1: 404 والديباج المذهب: 120 والمرقبة العليا: 95 ونفح الطيب 2: 67 (رقم: 45) وتهذيب ابن عساكر 6: 248 ومعجم الأدباء 11: 246 وتذكرة الحفاظ: 1178 وشذرات الذهب 3: 334. (2) انظر النفح: 74. (3) زيادة ليست في المسودة. (4) النفح: 75 والروض المعطار (باجة) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 408 فلم لا أكون ضنيناً بها ... وأجعلها في صلاح وطاعه وصنف كتباً كثيرة منها كتاب " المنتقى " وكتاب " إحكام الفصول في أحكام الأصول " وكتاب " التعديل والتجريح فيمن روى عنه البخاري في الصحيح " وغير ذلك. وهو أحد أئمة المسلمين، وكان يقول: سمعت أبا ذر عبد ابن أحمد الهروي يقول: لو صحت الإجازة لبطلت الرحلة. وكان قد رجع إلى الأندلس وولي القضاء هناك، وقد قيل إنه ولي قضاء حلب أيضاً، والله أعلم. ومولده يوم الثلاثاء النصف من ذي القعدة سنة ثلاث وأربعمائة بمدينة بطليوس، وتوفي بالمرية ليلة الخميس بين العشاءين تاسعة عشرة رجب سنة اربع وسبعين وأربعمائة، ودفن يوم الخميس بعد صلاة العصر بالرباط على ضفة البحر، وصلى عليه ابنه القاسم. وأخذ عنه أبو عمر ابن عبد البر صاحب " الاستيعاب "، وبينه وبين أبي محمد ابن حزم المعروف بالظاهري مجالس ومناظرات وفصول يطول شرحها. والباجي: بفتح الباء الموحدة وبعد الألف جيم، هذه النسبة إلى باجة، وهي مدينة بالأندلس (1) ، وثم باجة أخرى وهي مدينة بإفريقية، وباجة أخرى، قرية من قرى أصبهان. وبطليوس يأتي ذكرها إن شاء الله تعالى. والمرية قد تقدم الكلام عليها.   (1) باجة (Beja) من أقدم المدائن الأندلسية، نزل فيها جند مصر. وتقع اليوم في البرتغال على بعد 140 كم إلى الجنوب الشرقي من لشبونه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 409 276 - (1) أبو أيوب المورياني أبو أيوب سليمان بن أبي سليمان مخلد (2) - وقيل داود - المورياني الخوزي؛ كان وزير أبي جعفر المنصور، تولى وزارته بعد خالد بن برمك جد البرامكة وتمكن منه غاية التمكن، وسبب ذلك أنه كان يكتب لسليمان بن حبيب بن المهلب بن أبي صفرة الأزدي، وكان المنصور قبل الخلافة ينوب عن سليمان المذكور في بعض كور فارس، فاتهمه بأنه احتجن (3) المال لنفسه، فضربه بالسياط ضرباً شديداً وأغرمه المال، فلما ولي الخلافة ضرب عنقه، وكان سليمان قد عزم على هتكه عقيب ضربه، فخلصه منه كاتبه أبو أيوب المذكور، فاعتدها المنصور له واستوزره، ثم غنه فسدت نيته فيه ونسبه إلى أخذ الأموال، وهم أن يوقع به فتطاول ذلك، فكان كلما دخل عليه ظن أنه سيوقع به ثم يخرج سالماً، فقيل إنه كان معه شيء من الدهن قد عمل فيه سحر فكان يدهن به حاجبيه إذا دخل على المنصور، فسار في العامة دهن أبي أيوب. ومن ملح أمثاله أن خالد بن يزيد الأرقط قال: بينا أبو أيوب المذكور جالس في أمره ونهيه أتاه رسول المنصور فتغير لونه، فلما رجع تعجبنا من حالته، فضرب مثلاً لذلك وقال: زعموا أن البازي قال للديك: ما في الأرض حيوان أقل وفاء منك، قال: وكيف ذلك قال: أخذك أهلك بيضة فحضنوك، ثم خرجت على أيديهم وأطعموك في أكفهم ونشأت بينهم، حتى إذا كبرت صرت لا يدنو منك أحد إلا طرت ها هنا وها هنا وصوت، وأخذت أنا مسنا من الجبال، فعلموني وألفوا بي، ثم يخلى عني فآخذ صيداً في الهواء   (1) ترجمة أبي أيوب المورياني في الفخري: 157 والجهشياري: 97 وما بعدها؛ وأخباره في كتب التاريخ كالطبري وابن الأثير والمسعودي ... الخ. (2) في أصل المسودة: مجالد، وفوقها " مخلد ". (3) ر: احتجز؛ س: اختزن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 410 وأجيء به إلى صاحبي، فقال له الديك: إنك لو رأيت من البزاة في سفافيدهم المعدة للشي مثل الذي رأيت من الديوك لكنت أنفر مني، ولكنكم أنتم لو علمتم ما أعلم لم تتعجبوا من خوفي مع ما ترون من تمكن حالي. ثم إنه أوقع به سنة ثلاث وخمسين ومائة، وعذبه وأخذ أمواله. ومات سنة أربع وخمسين ومائة، رحمه الله تعالى. [وكان سبب ذلك ما حكاه المعافى بن زكريا في كتاب " الجليس والأنيس " قال: كان أبو جعفر المنصور في بعض أسفاره في أيام بني أمية تزوج امرأة من الأزد بالموصل عن ضر شديد أصابه، حتى أكرى نفسه مع الملاحين يمد في الحبل، أو فعل ذلك لأمر خافه على نفسه، فتنكر وأكرى نفسه في مدادي السفن، فخطب هذه المرأة ورغبها في نفسه ووعدها ومناها، وأخبرها أنه جليل القدر وأنه من أهل بيت شرف، وأنها إن تزوجته سعدت، ولم يزل يمنيها حتى أجابته، وأقام معها يختلف في أسبابه ويجعل طريقه عليها بما رزقه الله تعالى؛ ثم اشتملت على حمل فقال لها: أيتها المرأة، هذه رقعة مختومة عندك لا تفتحيها حتى تضعي ما في بطنك، فإن ولدت ابناً فسميه جعفراً وكنيه أبا عبد الله، وإن ولدت بنتاً فسميها فلانة، وأنا عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس بن عبط المطلب، فاستري أمري فإنا قوم مطلوبون، والسلطان إلينا سريع، وودعها وخرج؛ فقضي أنها ولدت ذكراً، فأخرجت الرقعة فقرأت ما فيها، وسمته جعفراً، وضرب الدهر على ذلك، ما تسمع له خبراً، ونشأ الصبي مع أخواله وأهل بيت أمه، وكان كيساً ذهناً لقناً، واستخلف أبو العباس، فقيل للمرأة: إن كنت صادقة في رقعتك وكان من كتبها صادقاً فإن زوجك الخليفة أمير المؤمنين. قالت: ما أدري، صفوا لي صفة هذا الخليفة، قالوا: غلام حين بقل وجهه، قالت: ليس هو هو، قالوا: فاستري أمرك، ولم يلبث أبو العباس أن مات واستحكم عندها اليأس، وأقبل ابنها على الأدب فتأدب وكتب ونزعت به همته إلى بغداد فدخل ديوان أبي أيوب كاتب المنصور وانقطع إلى بعض أهله فأتى عليه زمان يتقوت بالكسب ويزيد في أدبه وفهمه وخطه حتى صار يكتب بين يدي أبي أيوب، إلى أن تهيأ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 411 أن خرج خادم يوماً إلى الديوان يطلب كاتباً يكتب بين يدي المنصور، فقال أبو أيوب للغلام: خذ دواتك وقم واكتب بين يدي أمير المؤمنين، فدخل الغلام فكتب، وكان يتهيأ من أبي جعفر إليه النظرة بعد النظرة يتامله، والقيت عليه محبته واستجاد خطه واسترشق فهمه، فكتب زماناً واستراح أبو أيوب إلى مكانه، ورأى أنه قد حمل عنه ثقلاً، وبز الغلام ووصله وكساه كسوة تصلح أن يدخل بها على أمير المؤمنين؛ ثم إن أبا جعفر قال للغلام يوماً: ما اسمك قال: جعفر، قال: ابن من فسكت متحيراً، قال ابن من ويحك قال: ابن عبد الله، قال: وأين أبوك قال: لم أره ولم أعرفه، ولكن أمي أخبرتني أن أبي شريف وان عندها رقعة بخطه فيها نسبه: عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، فساعة ذكر الرقعة تغير وجه المنصور فقال: وأين أمك قال: في موضع كذا، قال: أتعرف فلاناً قال: نعم، هو إمام مسجد محلتنا، قال: أتعرف فلاناً قال: نعم، خياط في مسجدنا، قال: أفتعرف فلاناً قال: نعم في سكننا، فلما رأى الغلام أبا جعفر ينزع بأسماء قوم يعرفهم أدركته هيبة له وجزع وتدمع، فأدركت أبا جعفر الرقة عليه، فلم يتمالك أن قال: فلانة بنت فلانة من هي منك قال: أمي، قال: فلانة قال: خالتي، قال: فلان قال: خالي، فضمه إليه وبكى، وقال: يا غلام لا تعلمن أبا أيوب ولا أحداً ما دار بيني وبينك، انظر انظر، احذر احذر، فنهض الغلام وخرج، فقال له أبو أيوب: لقد احتبست عند أمير المؤمنين، قال: كتبت كتباً كثيرة أملاها علي، فأين هي قال: جعلها نسخاً يردد فيها نظره حتى يحكمها، ثم خرج إلى الديوان. ثم إن أبا جعفر جعل يقول في بعض الأيام لأبي أيوب: هذا الغلام الذي يكتب بين يدي استوص به، فاتهم أبو أيوب الغلام أنه يلقي إلى أبي جعفر الشيء بعد الشيء من خبره، ثم لم يلبث أن سأله مرة بعد مرة، فقذف في بلب أبي أيوب بغض الغلام وأنه يقوم مقامه إن فقده أبو جعفر، وأبو جعفر يزداد ولها إلى الغلام ويجن به جنوناً وليس يمنعه من إدنائه وإظهار أمره إلا أمر يريد الله، فلما رأى أبو أيوب ذلك احتبسه عنده عناداً، ثم قال المنصور الجزء: 2 ¦ الصفحة: 412 للخادم: اخرج إلى الديوان فجئني بفلان، فإن بعث معك بغيره فقل: أمرني أمير المؤمنين لا يدخل عليه غيره، ففعل الخادم ذلك، واستحكم في قلب أبي أيوب ما حذره وحدثته به نفسه، فقال الغلام: يا أمير المؤمنين قد تعرفت من أبي أيوب البغض وله غوائل لا يحيط بها علمي وأنا أخاف على نفسي، فقال له أبو جعفر: يا بني قد حاك [ذلك] في صدري، فإذا كان الغد فتعرض لأن يغلظ لك فإذا أغلظ فقم وانصرف كأنك مغضب ولا تعد إلى الديوان، واجعل وجهك إلى أمك وأوصل إليها هذا العقد وهذا الكيس وكتابي هذا واحمل أمك ومن اتبعها من قرابتك وأقبل فانزل في موضع كذا فغني منفذ إليك خادما يتفقد أمورك ويعرف خبرك، فلا تطلعن أحداً من الخلق على ما معك وامض بهذا المال وهذا العقد وأحرزه أولاً قبل رجوعك إلى الديوان؛ ثم قال للخادم: أخرجه من باب كذا وكذا، فخرج الغلام فأحرز ما كان معه ثم رجع إلى بهج مسرور لا يخفى ذلك عليه وظهر الفرح في وجهه وشمائله، فقال أبو أيوب: أحلف بالله لقد رجع هذا الغلام بغير الوجه الذي مضى به، ولقد دار بينه وبين أمير المؤمنين من ذكري ما سره، فاستشعر الوحئة منه وصرف أكثر عمه عنه، ثم لم ينشب أن أغلظ له فقال الغلام: أنا إنسان غريب أطلب الرزق وأنت تستخف بي فأني قد ثقلت عليك فأتنحى عنك قبل أن تطردني، ثم قام وانصرف فافتقده أبو أيوب أياماً ورأى أن أبا جعفر لا يسأل عنه ولا يذكره، ثم إن نفس أبي أيوب نازعته إلى علم حقيقة خبره فأرسل من يسأل عنه في الموضع الذي كان نازلاً به، فقيل له إنه قد تهيأ وتجهز جهازاً حسناً وشخص إلى أهله بالموصل، فقال أبو أيوب في نفسه: ومن أين له ما يتجهز به، وكم مبلغ ما ارتزق معي وارتفق به لهذا الأمر وجعلت نفسه تزداد وحشة منه ومن خبره إلى أن قيل له: قد كان أبو جعفر وصله بمال ووهب له شيئاً، فقال في نفسه: هذا الذي ظننت، وقد نصبه مكاني، ويجوز أن يكون استأذنه في أن يخرج إلى أهله فيسلم عليهم ثم يرجع إليه فيقلده مكاني، فقال لرجل من أصحابه: اخرج إلى طريق الموصل قرية قرية براً وبحراً فإذا عرفت موضعه فاقتله وجئني الجزء: 2 ¦ الصفحة: 413 بما معه، فشخص. وإن الغلام لما خرج من بغداد رأى أنه قد أمن في مسيره، وكان يقيم في الموضع الذي يستطيبه اليوم واليومين والأكثر والأقل، فلحقه رسول أبي أيوب وعرفه فباتا في قرية فقام الرسول إليه فخنقه وطرحه في بئر وأخذ خرجه وخرائط كانت معه وركب دابة له ورجع إلى أبي أيوب فسلم ذلك إليه وشرح له الخبر، ففتش أبو أيوب متاعه فإذا المال والعقد فعرفه، وإذا كتاب المنصور بخطه إلى أمه، فوجم أبو أيوب وندم، وعلم أنه قد عجل وأخطأ وأن الخبر لم يكن كما ظن، وعزم على الحلف والمكابرة إن عثر على شيء من أمره. وأبطأ خبر الغلام واستبطأه في الوقت الذي ضربه له فدعا خادماً من ثقاته ورجلاً من خاصته وقال لهما: استقريا المنازل إلى الموصل منزلاً منزلاً وقرية قرية وأعطيا صفة الغلام حتى تدخلا ثم اقصدا موضع كذا من الموصل فاسألا عن فلانة - ووصف لهما كل ما أراد - ففعلا، فلما انتهيا إلى الموضع الذي أصيب فيه الغلام أعلما خبره، وذكرا الوقت الذي أصيب فيه فإذا التاريخ بعينه، ثم مضيا إلى الموصل فسألا عن أمه فوجداها أشد الخلق ولهاً على ابنها وحاجتها إلى علم خبره، فأطلعاها على حاله وأمرها أن تستر نفسها، ولم ترد الدنيا بعده فكان المنصور يذكره واستصفى أمواله وأموال أهل بيته ثم قتلهم جميعاً واباد خضراءهم، وكان إذا ذكر أبا أيوب لعنه وسبه وقال: ذاك قاتل حبيبي] (1) . والمورياني: بضم الميم وسكون الواو وكسر الراء وفتح الياء المثناة من تحتها وبعد الألف نون، هذه النسبة إلى موريان، وهي قرية من قرى الأهواز، ذكره ابن نقطة، من أعمال خوزستان. والخوزي نسبة إلى خوزستان - بضم الخاء الموحدة وسكون الواو وكسر الزاي وسكون السين المهملة وفتح التاء المثناة من فوقها وبعد الألف نون - وهي بلاد بين البصرة وفارس، وقيل إنما قيل له الخوزي لشحه، وقيل لأنه كان ينزل شعب الخوز بمكة.   (1) زيادة من ص ر د. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 414 277 - (1) سليمان بن وهب أبو أيوب سليمان بن وهب بن سعيد بن عمرو بن حصين بن قيس بن فنال، وكان فنال كاتباً ليزيد بن أبي سفيان لما ولي الشام ثم لمعاوية بعده، ووصله معاوية بولده يزيد، وفي أيامه، واستكتب يزيد ابنه قيساً، ثم كتب قيس لمروان ابن الحكم ثم لولده عبد الملك ثم لهشام به عبد الملك، وفي أيامه مات، واستكتب هشام ابنه الحصين، ثم استكتبه مروان بن محمد الجعدي آخر ملوك بني أمية، ثم صار إلى يزيد بن عمر بن هبيرة؛ ولما خرج يزيد إلى أبي جعفر المنصور أخذ للحصين أماناً فخدم المنصور ثم المهدي، وتوفي في أيامه في طريق الري، فاستكتب المهدي ابنه عمراً، ثم كتب لخالد بن برمك، ثم توفي وخلف سعيداً، فما زال في خدمة آل برمك، وتحول ولدخ وهب إلى جعفر بن يحيى ثم صار بعده وقلده كرمان وفارس فأصلح حمالهما، ثم وجه به إلى المأمون برسالة من فم الصلح، فغرق في طريقه بين بغداد وفم الصلح. وكتب سليمان المذكور للمأمون وهو ابن أربع عشرة سنة ثم لإيتاخ ثم لأشناس، ثم ولي الوزارة للمهتدي بالله ثم للمعتمد على الله، وله ديوان رسائل. وكان أخوه الحسن بن وهب يكتب لمحمد بن عبد الملك الزيات، وولي ديوان الرسائل، وكان أيضاً شاعراً بليغاً مترسلاً فصيحاً، وله ديوان رسائل أيضاً.   (1) أخبار سليمان بن وهب في النجوم 3: 37 وأخبار أبي تمام: 104 والأغاني 23: 3 وله أخبار في كتب الأدب العامة ودواوين شعراء الفترة التي عاش فيها، (وترجمة الحسن في الأغاني 22: 533) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 415 وكان (1) هو وأخوه الحسن بن أعيان عصرهما - وقد تقدم ذكر الحسن في حرف الحاء في ترجمة أبي تمام الطائي، وأنه هو الذي ولاه بريد الموصل - ولما مات أبو تمام رثاه الحسن بما ذكرته ثم ولم أظفر بتاريخ وفاته حتى أفرد له ترجمة، وقد تقدم في خطبة هذا الكتاب أن مبناه على الوفيات وأن الذي أذكره من بعض أحوال من أذكره لم يكن إلا للإمتاع والتفكه لا غير، لا أنه مقصود في نفسه. وقد مدح هذين الأخوين خلق كثير من أعيان الشعراء مثل أبي تمام الطائي والبحتري ومن في طبقتهما. ومن محاسن قول أبي تمام في سليمان المذكور من جملة قصيدة (2) : كل شعب كنتم به آل وهب ... فهو شعبي وشعب كل أديب إن قلبي لكم لكالكبد الحر ... ى وقلبي لغيركم كالقلوب وسمع هذين البيتين بعض الأفاضل فقال: لو كانا في آل رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أليق، فما يستحق هذا القول إلا هم، رضي الله عنهم. [وكان يقول: اني أغار على أصدقائي كما أغار على حرمي. ونظر يوماً في المرآة فرأى شيباً كثيراً فقال: عيب لا عدمناه. وكان الحسن بن وهب لا يصحو من الشراب فقال له أخوه سليمان - وقد رآه لا يشرب ذات يوم -: أراك عازفاً، قال: نعم ولذلك لا أعده من عمري، وأنشد بديهاً: إذا كان يومي غير يوم مدامة ... ولا يوم قينات فما هو من عمري وإن كان معموراً بعود وقهوة ... فذلك مسروق لعمري من الدهر] (3) وكانت وفاة سليمان المذكور في سنة اثنتين وسبعين ومائتين يوم الأحد   (1) من هنا تبدأ الترجمة في س؛ وأكثر ما تقدم مكتوب في هامش المسودة، وقد سقطت أجزاء منه من ر م ص على التوالي. (2) ديوان أبي تمام 1: 131 - 132. (3) زيادة من د وحدها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 416 منتصف صفر في الحبس، وقيل توفي سنة إحدى وسبعين. وقال الطبري في تاريخه: إنه توفي يوم الثلاثاء لاثنتي عشرة ليلة بقيت من صفر في حبس الموفق طلحة والد المعتضد، رحمه الله تعالى. وللبحتري في سليمان بن وهب: كأن آراءه والحزم يتبعها ... تريه كل خفي وهو إعلان ما غاب عن عينه فالقلب يكلؤه ... وإن تنم عينه فالقلب يقظان وهذا المعنى قد استعمله الشعراء كثيراً، فقال أوس بن حجر التميمي أحد شعراء الجاهلية (1) : الألمعي الذي يظن بك الظ ... ن كأن قد رأى وقد سمعا وقال آخر: بصير بأعقاب الأمور كأنما ... تخاطبه من كل أمر عواقبه وقال آخر (2) : بصير بأعقاب الأمور كأنما ... يرى بصواب الظن ما هو واقع وقال آخر: عليم بأخبار الخطوب بظنه ... كأن له في اليوم عيناً على غد وقال آخر: كأنك مطلع في القلوب ... إذا ما تناجت بأسرارها وهو باب متسع لا حاجة إلى الإطالة فيه.   (1) ديوان أوس: 53. (2) هذا البيت والذي يليه لم يردا في م. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 417 [وتنقل سليمان في الدواوين الكبار والوزارة، ولم يزل كذلك حتى توفي مقبوضاً عليه. وحكي أن سليما بلغه أن الواثق نظر إلى أحمد بن الخصيب الكاتب فأنشد: من الناس إنسانان ديني عليهما ... مليان لو شاءا لقد قضياني خليلي أما أم عمرو فإنهما ... وأما عن الأخرى فلا تسلاني فقال: إنا لله أحمد بن الخصيب أم عمرو، وأما الأخرى فأنا، وكذلك كان، فإنه نكبهما بعد أيام. ولما تولى سليمان بن وهب الوزارة - وقيل لما تولاها ابنه عبيد الله بن سليمان - كتب إليه عبيد الله بن عبد الله بن طاهر الآتي ذكره: أبى دهرنا إسعافنا في نفوسنا ... فأسعفنا فيمن نحب ونعظم فقلت له نعماك فيهم أتمها ... ودع أمرنا إن المهم المقدم] (1) 278 (2) سليمان بن حرب أبو أيوب سليمان بن حرب بن بجيل الأزدي (3) الواشجي البصري؛ سمع شعبة وجرير بن حازم والحمادين ومبارك (4) بن فضالة وسعيد بن زيد بن درهم والبسري بن   (1) ما بين معقفين انفردت به ر. (2) ترجمته في تاريخ بغداد 9: 33 وتهذيب التهذيب 4: 178 والمعارف: 526 وتذكرة الحفاظ: 393؛ وهذه الترجمة تتابع ما ورد في تاريخ بغداد؛ ولم ترد في م س والمسودة وإنما وردت في ص ر. (3) ر: الأسدي. (4) ر: ومالك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 418 يحيى ويزيد بن إبراهيم التستري؛ وروى عنه يحيى بن سعيد القطان وأحمد بن حنبل ومحمد بن سعد كاتب الواقدي وغيرهم. قدم بغداد وحدث بها، وولي قضاء مكة. ذكره أبو حاتم الرازي فقال: إمام من الأئمة، كان لا يدلس؛ وقال: ظهر حديثه نحو عشرة آلاف حديث ما رأيت في يده كتاباً قط، ولقد حضرت مجلس سليمان بن حرب ببغداد فحزروا من حضر مجلسه أربعين ألف رجل. وكان مجلسه عند قصر المأمون فبنى له شبه منبر (1) ، فصعد سليمان، وحضر جماعة من القواد عليهم السواد والمأمون فوق قصره (2) وقد فتح القصر وقد أرسل ستراً وهو خلفه يكتب ما يلي. وقال يحيى بن أكثم: قال لي المأمون: من تركت بالبصرة فوصفت له مشايخ منهم سليمان بن حرب وقلت: هو ثقة حافظ للحديث عاقل في نهاية الستر والصيانة، فأمرني بحمله إليه، فكتبت إليه في ذالك فقدم. فاتفق أني أدخلته إليه وفي المجلس ابن أبي داود وثمامة وأشباه لهما، فكرهت أن يدخل مثله بحضرتهم، فلما دخل سلم، فأجابه المأمون، ودعا له سليمان بالعز والتوفيق، فقال ابن أبي داود، يا أمير المؤمنين، نسأل الشيخ عن مسألة فنظر إليه المأمون نظرة تخيير له، فقال سليمان: يا أمير المؤمنين، حدثنا حماد ابن زيد قال: قال رجل لابن شبرمة: اسألك قال: إن كانت مسألتك لا تضحك الجلوس ولا تزري بالمسؤول فسل؛ وحدثنا وهيب بن خالد قال: قال إياس بن معاوية: من المسائل ما لا ينبغي للسائل (3) أن يسأل عنها ولا للمجيب (4) أن يجيب فيها؛ فإن كانت مسألة من غير هذا فليسأل، وأن كانت من هذا فليمسك؛ قال: فهابوه فما نظر أحد منهم إليه حتى قام، وولاه قضاء مكة فخرج إليها.   (1) ر: فبنى له الطاهر سدة سنية. (2) فوق قصره: سقطت من ر. (3) للسائل: سقطت من ر. (4) ص: المسؤول. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 419 قال الخطيب: وكانت ولايته مكة (1) في سنة أربع عشرة، فلم يزل على ذلك (2) إلى أن عزل سنة تسع عشرة ومائتين. وولد سنة اربعين ومائة في صفر وتوفي بالبصرة لأربع ليال بقين من شهر ربيع الآخر سنة أربع وعشرين ومائتين، رحمه الله تعالى. 279 - (3) سليمان بن عبد الملك أبو أيوب سليمان بن عبد الملك بن مروان بن الحكم، وأمه ولادة أم أخيه الوليد؛ بويع له يوم السبت النصف من جمادى الآخرة سنة ست وتسعين، وتوفي بذات الجنب بدابق لعشر خلون من صفر سنة تسع وتسعين وله خمس وأربعون سنة، وصلى عليه عمر بن عبد العزيز، وكانت خلافته سنتين وثمانية أشهر إلا خمسة أيام. وكان الناس يتبركون به ويسمونه مفتاح الخير، وذلك أنه أذهب عنهم سنة الحجاج وأطلق السرى وأخلى السجون وأحسن إلى الناس واستخلف عمر بن عبد العزيز رضي الله عنهن فكان يقال: فتح بخير وختم بخير. وكان قد أغزى أخاه مسلمة الصائفة حتى بلغ القسطنطينية، فأقام بها حتى هلك سليمان؛ وقيل إن سليمان لما وجه أخاه لفتح القسطنطينية أمره أن يقيم عليها حتى يفتحها أو يأتيه أمره، فسار إليها مسلمة (4) ، فلما دنا منها أمر كل فارس أن يحمل على عجز فرسه مدين من الطعام حتى يأتي به قسطنطينية،   (1) فخرج .... مكة: سقط من ص. (2) ر: فلم يزل قاضياً. (3) أخباره في المصادر التاريخية المشهور فلا داعي لاثباتها؛ ولم ترد الترجمة في م س والمسودة وإنما انفردت بها ص وهي خارجة على القاعدة التي بينها المؤلف في المقدمة. (4) قارن هذا الخبر بما في العيون والحدائق: 27 وما بعدها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 420 ففعلوا ذلك، وألقى ذلك الطعام مثل الجبال، ثم قال للمسلمين: لا تأكلوا منه شيئاً، وأقام بأرضهم وشتا وصيف وزرع، والناس يأكلون ما أصابوا من الغارات، ثم أكلوا من الزرع؛ فأقام مسلمة على قسطنطينية قاهراً لأهلها ومعه وجوه أهل الشام، ومات ملك الروم ومسلمة نازل عليها، فكتب الروم إلى اليون صاحب أرمينية، فسار اليون من أرمينية ومكر في طريقه بمسلمة ووعده أن يسلم إليه قسطنطينية. وكانت الروم قد أرسلوا إلى اليون: إن صرفت عنا مسلمة ملكناك، فلما أتى اليون مسلمة قال له: إنك لا تصدقهم القتال ولا تزال تطاولهم مادام هذا الطعام عندك وقد أحسوا بذلك منك، فلو أحرقت الطعام أعطوا ما بأيديهم، فأحرقه مسلمة، ووجه مع اليون من شيعه حتى دخل القسطنطينية، فلما دخلها ملكه الروم عليهم، فأرسل إلى مسلمة يخبره بما جرى من أمره ويسأله أن يأذن له أن يدخل من الطعام، من النواحي، ما يعيش به القوم حتى يصدقوه بأن أمره وأمر مسلمة واحد، وأنهم في أمان من الشتات والخروج من بلادهم، وأن يأذن لهم ليلة واحدة في حمل الطعام. وهيأ اليون السفن والرجال، فأذن له مسلمة، فحمل جميع ما في تلك النواحي من الغلة في ليلة واحدة، وأفرج اليون وأصبح محارباً لمسلمة، وظهرت هذه الخديعة التي لا تتم على النساء، وأقام المسلمون في قلة الميرة، وحصلت الميرة جميعها عند الروم، ولقي المسلمون من الشدة ما لم يلق أحد قط حتى إن الرجل كان يخاف أن يخرج من العسكر وحده، وأكلوا الدواب والجلود وأصول الشجر والعروق والورق وكل شيء حتى الروث، هذا وسليمان مقيم بدابق، فدهمهم الشتاء ولم يقدر أن يمدهم، حتى هلك سليمان. قيل غنه خرج من الحمام يريد الصلاة ونظر في المرآة فأعجبه جماله، وكان حسن الوجه فقال: أنا الخليفة الشاب، فلقيته إحدى حظاياه، فقال: كيف ترينني فتمثلت: ليس فيما بدا لنا فيك عيب ... عابه الناس غير أنك فان أنت نعم المتاع لو كنت تبقى ... غير أن لا بقاء للإنسان ورجع فحم، فما بات تلك الليلة إلا ميتاً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 421 وكان عاقلاً ديناً متوقفاً عن الدماء، ويقال إنه كان شرهاً نكاحاً، يأكل في كل يوم نحو مائة رطل، وكان به عرج. وحج بالناس (1) سنة سبع وتسعين فمر على المدينة وهو يريد مكة فقال: أهاهنا أحد يذكرنا فقيل له: أبو حازم، فأرسل إليه فدعاه، فلما دخل عليه قال له: يا أبا حازم، ما هذا الجفاء قال: يا أمير المؤمنين، أعيذلك بالله أن تقول ما لم يكن، ما عرفتني قبل ولا أنا رأيتك، فالتفت سليمان إلى محمد ابن شهاب وقال: أصاب الشيخ وأخطأت أنا؛ فقال سليمان: يا أبا حازم، ما لنا نكره الموت قال: لأنكم أخربتم آخرتكم وعمرتم الدنيا فكرهتم أن تنتقلوا من العمران إلى الخراب، قال: صدقت، فكيف القدوم على الله عز وجل غداً قال: أما المحسن فكالغائب يقدم على أهله، وأما المسيء فكالآبق يقدم على مولاه، فبكى سليمان وقال: ليت شعري، ما أنا عند الله قال: يا أمير المؤمنين، اعرض عملك على كتاب الله عز وجل، قال: وأين أجده قال: (إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم) ، قال: يا أبا حازم، فأي عباد الله أفضل قال: أولو المروءة والتقى، قال: فأي الأعمال أفضل قال: أداء الفرائض مع اجتناب المحارم، قال: فأي الدعاء أسمع قال: دعوة المحسن للمحسن، قال: فأي الصدقة أزكى قال: صدقة السائل البائس وجهد من مقل ليس فيها من ولا أذى؛ قال: فأي القول أعدل قال: قول الحق عند من يخافه أو يرجوه؛ قال فأي الناس أحمق قال: رجل انحط في هوى أخيه وهو ظالم فباع آخرته بدنيا غيره؛ قال: صدقت، فما الذي تقول فيما نحن فيه قال: يا أمير المؤمنين أو تعفيني من ذلك قال: لا، ولكن نصيحة تلقيها إلي؛ قال: إن آباءك قهروا الناس بالسيف وأخذوا الملك عنوة من غير مشورة من المسلمين ولا رضى حتى قتلوا عليه مقتلة عظيمة وارتحلوا عنها، فلو سمعت ما قالوا وما قيل لهم؛ فغشي على سليمان، فقال رجل من جلسائه: بئس ما قلت يا أبا حازم! قال أبو حازم:   (1) هذا النص موافق في معظمه لما في الإمامة والسياسة 2: 88 وقارن بما في العقد 3: 163. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 422 كذبت يا عدو الله، إن الله أخذ ميثاق العلماء ليبيننه للناس ولا يكتمونه، فأفاق سليمان فقال: يا أبا حازم كيف لنا أن نصلح للناس قال: تدع الصلف وتستمسك بالمروة وتقسم بالسوية، قال سليمان: كيف المأخذ به قال: أن تأخذ المال من حله وتضعه في أهله، قال سليمان: هل لك أن تصحبنا فتصيب منا ونصيب منك قال: أعوذ بالله يا أمير المؤمنين! قال: ولم قال: أشخى أن أركن إليكم شيئاً قليلاً فيذيقني الله ضعف الحياة وضعف الممات، قال: يا أبا حازم ارفع إلي حوائجك، قال: تنجيني من النار وتدخلني الجنة، قال: ليس ذلك غلي، قال: فلا حاجة لي غيرها، قال: فادع لي الله يا أبا حازم، قال: اللهم إن كان سليمان وليك فيسره بخير الدنيا والآخرة، وإن كان عدوك فخذ بناصيته إلى ما تحب وترضى، قال سليمان: زدني، قال: يا أمير المؤمنين قد أوجزت وأكثرت إن كنت من أهله، وإن لم تكن من أهله فيما ينبغي لي أن أرمي عن قوس ليس لها وتر، قال: أوصني يا أبا حازم، قال: سأوصيك وأوجز: عظم ربك ونزهه أن يراك حيث نهاك أو يفقدك من حيث أمرك، ثم قام، فبعث إليه سليمان بمائة دينار وكتب إليه أن أنفقها ولك مثلها كثير، فردها عليه وكتب إليه: يا أمير المؤمنين أعوذ بالله أن يكون سؤالك إياي هزلاً وردي عليك باطلاً، فو الله ما أرضاها لك فكيف أرضاها لنفسي يا أمير المؤمنين إن كانت هذه المائة عوضاً لما حدثتك فالميتة ولحم الخنزير في حل الاضطرار أحل من هذه، وإن كانت هذه حقاً لي في بيت المال فلي فيها نظر، فإن سويت بيننا وإلا فلا حاجة لي فيها؛ قال له جلساؤه: يا أمير المؤمنين أيسرك أن يكون الناس كلهم مثله قال: لا والله، قال أبو حازم: يا أمير المؤمنين إن بني إسرائيل ما داموا على الهدى والرشد كان أمراؤهم يأتون علماءهم رغبة فيما عندهم، [فلما رئي قوم من أراذل الناس تعلموا العلم وأتوا به الأمراء] يريدون به الدنيا [استغنت الأمراء عن العلماء] فتعسوا ونكسوا وسقطوا من عين الله عز وجل، ولو أن علماءهم زهدوا فيما عند الأمراء لرغب الأمراء في علمهم، ولكنهم رغبوا فيما عند الأمراء فزهدوا فيهم وهانوا في أعينهم، فقال: الزهري: إياي تعني وتعرض بي فقال أبو حازم: لا والله ما تعمدتك ولكن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 423 هو ما تسمع؛ قال سليمان للزهري: هل تعرفه قال: يا أمير المؤمنين إنه لجاري منذ ثلاثين سنة ما كلمته، قال أبو حازم: أجل والله لو أحببت الله لعرفتني ولكن لم تحب الله فنسيتني، فقال الزهري: يا أبا حازم تشتمني! قال: لا، ولكنك شتمت نفسك، أما علمت أن للجار حقاً كالقرابة حقاً كالقرابة جاء سليمان يوماً إلى طاوس فلم ينظر إليه، فقيل له في ذلك، فقال: أردت أن يعلم أن الله رجالاً يزهدون فيما لديه. وشاور سليمان عمر بن عبد العزيز في أمر، فقال سليمان: هل علينا عين فقال عمر نعم عين بصيرة لا تحتاج إلى تحديق، وسمع نافذ لا يحتاج إلى إصغاء. حضر أعرابي إلى مائدة سليمان فجعل يمد يده فقال له الحاجب: كل ما بين يديك، فقال الأعرابي: من أجدب انتجع، فشق ذلك على سليمان وقال له: لا تعد إلينا؛ ودخل آخر فمد يده فقال له الحاجب: كل مما يليك، فقال: من أخصب تخير، فأعجب ذلك سليمان وقضى حوائجه. وحكى عتيق بن عامر بن عبد الله بن الزبير قال: كنت نديماً لسليمان بن عبد الملك، وإني لعنده ذات يوم إذ دخل عليه عمر بن عبد العزيز فقال: يا أمير المؤمنين إن بالباب أعرابياً وله دين، فلو أذنت له فسمعت كلامه، قال: نعم، يا غلام، إيذن للأعرابي، فلما دخل عليه قال: يا أمير المؤمنين إني مكلمك بكلام فاحتمله فإن وراءه ما يحب إن قلته، فقال له: يا أعرابي إنا لنجود بالاحتمال على من لا نأمن غيبه ولا نرجو نصحه وأنت المأمون غيباً والناصح جيباً فهات، فقال الأعرابي: أما إذا أمنت بادرة غضبك فإني مطلق لساني بما خرست به الألسن بإذنه، لحق الله عز وجل وحق أمانتك يا أمير المؤمنين، إنه تكنفك قوم أساءوا الاختيار لأنفسهم وابتاعوا دنياك بآخرتهم ورضاك بسخط الله، خافوك في الله ولم يخافوا الله فيك فلا تأمنهم على ما ائتمنك الله عليه فإنهم لم يألوا الأمانة والأمة خسفاً وعسفاً وأنت مسؤول عما اجترحوا وليسوا مسؤولين عما اجترحت، فلا تفسد آخرتك بدنيا غيرك، فإن المغبون كل المغبون من أفسد آخرته بدنيا غيره، فقال له سليمانك أما أنت فقد سللت علينا لسانك وهو أقطع من سيفك، قال: نعم يا أمير المؤمنين وهو لك لا لغيرك، فقيل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 424 له: سل أمير المؤمنين حاجة، قال: ما آخذ خاصاً دون عام، ثم خرج. ظلم عامل لسليمان رجلاً فقال: يا أمير المؤمنين إني أحذرك يوم الأذان، قال: وما يوم الأذان قال: قوله تعالى: (فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين) ، قال: لا جرم لا أبرح أو تصل إلى حقك. وغضب سليمان بن عبد الملك على خالد القسري، فلما أدخل عليه قال: يا أمير المؤمنين إن القدرة تذهب الحفيظة وإنك تجل عن العقوبة، فإن تعف فأهل لذلك أنت، وإن تعاقب فأهل لذلك أنا، فعفا عنه. احتال يزيد بن راشد في الدخول على سليمان متنكراً بعد أو لي الخلافة فقعد في السماط، وكان سليمان قد نذر أنه إن أفضت إليه الخلافة قطع لسانه لأنه كان ممن دعا إلى خلع سليمان والبيعة لعبد العزيز، فقال: يا أمير المؤمنين كن كنبي الله أيوب عليه السلام، ابتلي فصبر وأعطي فشكر وقدر فغفر، قال: ومن أنت قال: يزيد بن راشد، فعفا عنه. كان سليمان قد طلب يزيد بن أبي مسلم كاتب الحجاج، فلما دخل عليه مكبلاً بالحديد ازدراه وقال: لعن الله رجلاً رفعك ووجهك في أمره، فقال له: رأيتني والأمر عني مدبر وعليك مقبل، ولو رأيتني والأمر مقبل علي لاستعظمت مني ما استصغرت ولاستجللت مني ما استحقرت، قال: صدقت، اجلس لا أم لك، فلما جلس قال له سليمان: عزمت عليك لتخبرني عن الحجاج ما ظنك به، أتراه يهوي بعد في جهنم أو قد استقر فيها فقال: يا أمير المؤمنين لا تقل هذا للحجاج فإنه بذل لكم نصحه وأحقن دونكم دمه وأمن وليكم وأخاف عدوكم، وإنه يأتي يوم القيامة عن يمين أبيك ويسار أخيك حيث شئت؛ فصاح سليمان: اخرج عني إلى لعنة الله. بينما سليمان بن عبد الملك في مجلسه مر به رجل عليه ثياب يختال في مشيه، وكان العلاء بن كدير حاضراً فقال: ما ينبغي أن يكون إلا كوفياً وينبغي أن يكون من همدان، ثم قال: علي بالرجل، فأتي به فقال: ممن الرجل فقال: ويلك دعني حتى ترتد إلي نفسي، فتركه هنيهة ثم قال له: ممن الرجل فقال: من أهل العراق، قال: من أيهم قال: من أهل الكوفة، قال: من أي أهل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 425 الكوفة قال: من همدان، فازداد عجباً، قال: ما تقول في أبي بكر قال: ما أدركت دهره ولا أدركه دهري، ولقد قال الناس فيه وأحسنوا وهو إن شاء الله كذلك، قال: فما تقول في عمر فقال مثل ذلك، فقال: ما تقول في عثمان قال: ما أدركت دهره ولا أدركه دهري، ولقد قال فيه ناس فأحسنوا وقال فيه ناس فأساءوا وعند الله علمه، قال: فما تقول في علي فقال مثل ذلك، قال: سب علياً، قال: لا أسبه، قال: والله لتسبنه أو لأضربن عنقك، فقال: والله لا أسبه، فأمر بضرب عنقه، فقام رجل بيده سيف فهزه حتى أضاء في يده كأنه خوصة وقال: لتسبنه أو لأضربن عنقك، قال: والله لا أسبه، ثم نادى: ويلك يا سليمان أدنني منك، فدعا به فقال: يا سليمان أما ترضى مني بما رضي به من هو خير منك ممن هو خير مني فيمن هو الشركة المتعهدة من علي قال: وما ذلك قال: الله تعالى رضي من عيسى وهو خير مني إذ قال في بني إسرائيل وهم الشركة المتعهدة من علي: (إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم) . قال فنظرت إلى الغضب يتحدر من وجهه حتى صار في طرف أرنبته ثم قال: خليا سبيله، فعاد إلى مشيته فما رأيت رجلاً قط خيراً من ألف رجل غيره وإذا هو طلحة بن مطرف. قال سليمان لعدي بن الرقاع: أنشدني قولك في الخمرة، فأنشده: كميت إذا شجت وفي الكأس وردة ... لها في عظام الشاربين دبيب تريك القذى من دونها وهي دونه ... لوجه أخيها في الإناء قطوب فقال سليمان: شربتها ورب الكعبة! فقال عدي: والله يا أمير المؤمنين لئن رابك وصفي لها لقد رابني معرفتك بها، فتضاحكا وأخذا في الحديث. وكان سليمان هرب من الطاعون، فقيل له: إن الله عز وجل يقول: (قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذا لا تمتعون إلا قليلاً) . قال: ذلك القليل اطلب. وقع بين ابن لعمر بن عبد العزيز وبين ابن لسليمان بن عبد الملك كلام فجعل ابن عمر يذكر فضل أبيه ويصفه فقال له ابن سليمان: إن شئت فأكثر أو فأقلل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 426 ما كان أبوك إلا حسنة من حسنات أبي، لأن سليمان هو الذي ولى عمر بن عبد العزيز. 280 - (1) السلطان سنجر السلجوقي أبو الحارث سنجر بن ملكشاه بن ألب أرسلان بن داود بن ميكائيل بن سلجوق بن دقاق؛ سلطان خراسان وغزنة وما وراء النهر، وخطب له بالعراقين وأذربيجان وأران وأرمينية والشام والموصل وديار بكر وربيعة والحرمين، وضربت السكة باسمه في الخافقين، وتلقب بالسلطان الأعظم معز الدين. كان من أعظم الملوك همة، وأكثرهم عطاء، ذكر عنه أنه اصطبح خمسة أيام متوالية ذهب في الجود بها كل مذهب، فبلغ ما وهبه من العين سبعمائة ألف جينار، غير ما أنعم من الخيل والخلع والأثاث وغير ذلك. وقال خازنه: اجتمع في خزائنه (2) من الأموال ما لم أسمع أنه اجتمع في خزائن أحد من الملوك الأكاسرة، وقلت له يوماً: حصل في خزائنك ألف ثوب ديباج أطلس وأحب أن تبصرها، فسكت، وظننت أنه رضي بذلك، فأبرزت جميعها، وقلت: أما تنظر إلى مالك أما تحمد الله تعالى على ما أعطاك وأنعم عليك فحمد الله تعالى، ثم قال: يقبح بمثلي أن يقال: ما إلى المال، وأمر للأمراء بالإذن في الدخول فدخلوا عليه، ففرق عليهم الثياب الطلس وانصرفوا. واجتمع عنده من الجوهر ألف وثلاثون رطلاً، ولم يسمع عند أحد   (1) أخبار سنجر بن ملكشاه في ج 11، 12 من تاريخ ابن الأثير، وصفحات متفرقة من تاريخ الملوك السلجوقية وراحة الصدور للراوندي، والترجمة هنا مطابقة لما في المسودة. (2) س ر: خزانته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 427 من الملوك بمثل هذا ولا بما يقاربه، ولم يزل أمره في ازدياد وسعادته في الترقي إلى أن ظهرت عليه الأغز (1) - وهم طائفة من الترك - في سنة ثمان وأربعين وخمسمائة، وهي واقعة مشهورة استشهد فيها الفقيه محمد بن يحيى - كما سيأتي في ترجمته إن شاء الله تعالى - وكسروه وانحل نظام ملكه، وملكوا نيسابور وقتلوا فيها خلقاً لا يحصى عدده، وأسروا السلطان سنجر، وأقام في اسرهم مقدار خمس سنين، وتغلب خوارزم شاه على مدينة مرو، وتفرقت مملكة خراسان. ثم إن سنجر أفلت من الأسر وعاد إلى خراسان [وجمع إليه أطرافه بمرو، وكان يعود إلى ملكه، فأدركه أجله] (2) . وكانت ولادته يوم الجمعة لخمس بقين من رجب سنة تسع وسبعين وأربعمائة بظاهر مدينة سنجار، ولذلك سمي سنجر، فان والده السلطان ملكشاه لما اجتاز بديار ربيعة ونزل على سنجار جاءه هذا الولد، فقالوا: ما نسميه فقال: سموه سنجر، وأخذ هذا الاسم من اسم المدينة. وتولى المملكة في سنة تسعين واربعمائة نيابة عن أخيه بر كياروق - كما تقدم ذكره في حرف الباء - ثم استقل بالسلطنة في سنة اثنتي عشرة وخمسمائة. وتوفي يوم الاثنين رابع عشر شهر ربيع الأول سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة بمرو، ودفن بها بعد خلاصه من الأسر، وانقطع بموته استبداد الملوك السلجوقية بخراسان، واستولى على أكثر مملكته خوارزم شاه أتسز بن محمد بن أنوشتكين رحمه الله تعالى، وهو جد السلطان محمد بن تكش خوارزم شاه، فسبحان من لا يزول ملكه. وذكر ابن الأزرق الفارقي في تاريخه أنه مات سنة خمس وخمسين وخمسمائة، والله أعلم بذلك. وقال غيره: توفي في جمادى الآخرة من السنة، وقطعت الخطبة ببغداد للسلجوقية عند وصول خبر وفاته في أيام المقتفي لأمر الله، وكتب إلى بلاد الجزيرة الفراتية والشام بقطع الخطبة في هذه السنة، والله أعلم.   (1) كتبت في المسودة أولاً " الغز " ثم ضرب وكتبت " الأغر " في الحاشية. (2) ما بين معقفين لم يرد في المسودة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 428 281 - (1) أبو محمد التستري أبو محمد سهل بن عبد الله بن يونس بن عيسى بن عبد الله بن رفيع التستري الصالح المشهور؛ لم يكن له في وقته نظير في المعاملات والورع؛ وكان صاحب كرامات، ولقي الشيخ ذا النون المصري رحمه الله تعالى بمكة حرسها الله تعالى، وكان له اجتهاد وافر ورياضة عظيمة، وكان سبب سلوكه هذا الطريق خاله محمد بن سوار، فإنه قال: قال لي خالي يوماً: ألا تذكر الله الذي خلقك فقلت له: كيف أذكره قال: قل بقلبك عند تقلبك في ثيابك ثلاث مرات من غير أن تحرك به لسانك الله معي، الله ناظر إلي، الله شاهدي، فقلت ذلك ليالي، ثم أعلمته، فقال: قلها في كل ليلة سبع مرات، فقلت ذلك، ثم أعلمته، فقال: قلها في كل ليلة إحدى عشرة مرة، فقلت ذلك، فوقع في قلبي حلاوة، فلما كان بعد سنة قال لي خالي: احفظ ما علمتك ودم عليه إلى أن تدخل القبر فإنه ينفعك في الدنيا والآخرة، فلم أزل على ذلك سنين، فوجدت لها حلاوة في سري. ثم قال لي خالي يوماً: يا سهل، من كان الله معه وهو ناظر إليه وشاهده بعصيه إياك والمعصية. فكان ذلك أول أمره، وسكن البصرة زماناً وعبادان مدة. [وكان قد اعتقل بطن يعقوب بن الليث في بلد فارس، فجمع له الأطباء فلم يغنوا عنه، فوصف له سهل بن عبد الله، فأمر بإحضاره فأحضر، فلما دخل عليه قعد عند رأسه وقال: اللهم أريته ذل المعصية فأره عز الطاعة، ففرج الله عنه من ساعته، فأخرج إليه بدراً وثياباً فردها وما قبل منها شيئاً، فلما رجع إلى تستر قال له بعض أصحابه: لو أخذت تلك الدراهم وفرقتها على   (1) ترجمة سهل التستري في طبقات السلمي: 206 وحلية الأولياء 10: 189. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 429 الفقراء، فقال: انظر إلى الأرض، فإذا الأرض كلها ذهب؛ ثم قال: من كان حاله مع الله سبحانه هذا لا يستكثر هذا] (1) . وكانت وفاته سنة ثلاث وثمانين في المحرم، وقيل سنة ثلاث وسبعين ومائتين، رضي الله عنه، بالبصرة. وذكر شيخنا ابن الأثير في تاريخه (2) أن مولده في سنة مائتين، وقيل إحدى ومائتين بتستر. والتستري (3) : بضم التاء المثناة من فوقها وسكون السين المهملة وفتح التاء الثانية وبعدها راء، هذه النسبة إلى تستر، وهي بلدة من كور الأهواز من خوزستان، يقول لها الناس ششتر - بشينين معجمتين - بها قبر البراء بن مالك رضي الله عنه. 282 - (4) أبو حاتم السجستاني أبو حاتم سهل بن محمد بن عثمان بن يزيد الجشمي السجستاني النحوي اللغوي المقرئ، نزيل البصرة وعالمها؛ كان إماماً في علوم الآداب، وعنه أخذ علماء عصره كأبي بكر محمد بن دريد والمبرد وغيرهما، وقال المبرد: سمعته يقول: قرأت كتاب سيبويه على الأخفش مرتين، وكان كثير الرواية عن أبي زيد الأنصاري وأبي عبيدة والأصمعي، عالماً باللغة والشعر، حسن العلم بالعروض   (1) زيادة من ص د وحدهما. (2) تاريخ ابن الأثير 7: 483. (3) في المسودة: وتستر. (4) ترجمة أبي حاتم السجستاني في معجم الأدباء 11: 263 والفهرست: 58 وانباه الرواة 2: 58 وبغية الوعاة: 265 وتهذيب التهذيب 4: 257 والشذرات 2: 121 وغاية النهاية 1: 320 (وراجع حاشية للإطلاع على مزيد من المصادر) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 430 وإخراج المعمى، وله شعر جيد، ولم يكن حاذقاً في النحو (1) ، وكان إذا اجتمع بأبي عثمان المازني في دار عيسى بن جعفر الهاشمي تشاغل أو بادر بالخروج خوفاً من أن يسأله عن مسألة في النحو. وكان صالحاً عفيفاً يتصدق كل يوم بدينار، ويختم القرآن في كل أسبوع، وله نظم حسن. وكان أبو العباس المبرد يحضر حلقته، ويلازم القراءة عليه، وهو غلام وسيم في نهاية الحسن فعمل فيه أبو حام المذكور: فإذا لقيت اليوم من ... متمجن خنث الكلام وقف الجمال بوجهه ... فسمت له حدق الأنام حركاته وسكونه ... تجنى بها ثمر الأثام وإذا خلوت بمثله ... وعزمت فيه على اعتزام لم أعد أفعال العفا ... ف، وذاك أوكد للغرام نفسي فداؤك يا أبا ال ... عباس جل بك اعتصامي فارحم أخاك فإنه ... نزر الكرى بادي السقام وأنله ما دون الحرا ... م فليس يرغب في الحرام ومن شعر أبي حاتم أيضاً: أبرزوا وجهه الجميل ... ولاموا من افتتن لو أرادوا عفافنا ... ستروا وجهه الحسن [وله أيضاً: كبد الحسود تقطعي ... قد بات من أهوى معي وله غير ذلك كثير. قال محمد بن الحسن الأزدي: حدثنا أبو حاتم قال: وفد علينا عامل من   (1) وقال المبرد ... النحو: سقط من س. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 431 أهل الكوفة ولم أر في عمال السلطان أبرع منه، فدخلت عليه مسلماً فقال لي: يا سجستاني، من علماؤكم بالبصرة قلت: الزيادي أعلمنا بعلم الأصمعي، والمازني أعلمنا بالنحو، وهلال الرأي أفقهنا، والشاذكوني من أعلمنا بالحديث، وأنا - رحمك الله - انسب إلى علم القرآن، وابن الكلبي من أكتبنا للشروط. قال: فقال لكاتبه: إذا كان غداً فاجمعهم الي، قال: فجمعنا فقال: أيكم المازني فقال أبو عثمان: ها أنا ذا، قال: هل يجزي في كفارة الطهارة عتق عبد أعور قال المازني: لست صاحب فقه، أنا صاحب عربية، قال: يا زيادي، كيف يكتب بين بعل وامرأة خالعها على الثلث من صداقها قال: ليس هذا من علمي، هذا من علم هلال الرأي، قال: يا هلال، كم اسند ابن عون عن الحسن قال: ليس هذا من علمي، هذا من علم الشاذكوني، قال: يا شاذكوني، من قرأ: (ألا أنهم يثنون صدورهم) . قال: ليس هذا من علمي، هذا من علم أبي حاتم، قال: يا أبا حاتم، كيف تكتب كتاباً إلى أمير المؤمنين تصف خصاصة أهل البصرة وما أصابهم بي وتسأله النظر بالبصرة قلت: لست صاحب براعة وكتابة، أنا صاحب قرآن؛ قال: ما أقبح بالرجل بتعاطى العلم خمسين سنة لا يعرف إلا فناً واحداً حتى إذا سئل عن غيره لم يحل فيه ولم يمر، لكن عالمنا بالكوفة الكسائي لو سئل عن هذا كله لأجاب] (1) . وقال أبو حاتم لتلميذه: إذا أردت أن تضمن كتاباً سراً فخذ لبناً حليباً فاكتب به في قرطاس، فيذر المكتوب إليه عليه رماداً سخناً من رماد القراطيس فيظهر المكتوب، وإن كتبته بماء الزاج الأبيض، فإذا ذر عليه المكتوب إليه شيئاً من العفص ظهر، وكذا بالعكس. وله من المصنفات كتاب " إعراب القرآن " وكتاب " ما يحلن فيه العامة " وكتاب " الطير " وكتاب " المذكر والمؤنث " وكتاب " النبات " وكتاب " المقصور والممدود " وكتاب " الفرق " وكتاب " القراءات " وكتاب " المقاطع والمبادي " وكتاب " الفصاحة " وكتاب " النخلة " وكتاب " الأضداد " وكتاب " القسي والنبال   (1) زيادة من ص وحدها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 432 والسهام " وكتاب " السيوف والرماح " وكتاب " الدرع والفرس " (1) وكتاب " الوحوش " وكتاب " الحشرات " وكتاب " الهجاء " وكتاب " الزرع " وكتاب " خلق الانسان " وكتاب " الإدغام " وكتاب " اللبأ واللبن والحليب " وكتاب " الكرم " وكتاب " الشتاء والصيف " وكتاب " النحل والعسل " وكتاب " الإبل " وكتاب " العشب " وكتاب " الخصب والقحط " وكتاب " اختلاف المصاحف " وغير ذلك [من المصنفات] . وكانت وفاته في الحرم، وقيل رجب، سنة ثمان وأربعين ومائتين، وقيل سنة خمسين، وقيل أربع وخمسين، وقيل خمس وخمسين ومائتين بالبصرة، وصلى عليه سليمان بن جعفر بن سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب الهاشمي، وكان والي البصرة يومئذ، ودفن بسرة المصلى، رحمه الله تعالى. والجشمي: بضم الجيم وفتح الشين المثلثة وبعدها ميم، هذه النسبة إلى عدة قبائل يقال لكل واحدة منها جشم، ولا أدري إلى أيها ينسب أبو حاتم المذكور. والسجستاني: قد تقدم الكلام عليه. 283 - (2) أبو الفتح الأرغياني أبو الفتح سهل بن أحمد علي الأرغياني الفقيه الشافعي؛ كان إماماً كبير المقدار في العلم وتفقه بمرو على الشيخ أبي علي السنجي - المقدم ذكره في حرف الحاء - ثم قرأ على القاضي حسين بن محمد المروروذي   (1) م: الدروع والفرس. (2) ترجمة سهل الأرغياني في طبقات السبكي 3: 169 والسمعاني واللباب: " الأغيارني " والترجمة مطابقة لما في المسودة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 433 وحصل طريقته، حتى قال: ما علق أحد طريقتي مثله. ودخل نيسابور وقرأ أصول الفقه على إمام الحرمين أبي المعالي الجويني، وناظر في مجلسه وارتضى كلامه، ثم عاد إلى ناحية أرغيان، وتقلد قضاءها سنين مع حسن السيرة وسلوك الطرائق المرضية، ثم خرج إلى الحج ولقي المشايخ بالعراق والحجاز والجبال وسمع منهم وسمعوا منه، ولما رجع من مكة، حرسها الله تعالى، دخل على الشيخ العارف الحسن السمناني شيخ وقته زائراً فأشار عليه بترك المناظرة فتركها ولم يناظر بعد ذلك، وعزل نفسه عن القضاء ولزم البيت (1) والانزواء، وبنى للصوفية دويرة من ماله، وأقام بها مشغولاً بالتصنيف والمواظبة (2) على العبادة إلى أن توفي على تيقظ من حاله مستهل المحرم سنة تسع وتسعين وأربعمائة، رحمه الله تعالى. وهو (3) صاحب الفتاوى المنسوبة إليه (4) ، وسمع جماعة من الأئمة مثل أبي بكر البيهقي وناصر المروزي وعبد الغافر بن إسماعيل بن عبد الغافر الفارسي صاحب " مجمع الغرائب " و " ذيل تاريخ نيسابور " وغيرهم، رحمهم الله تعالى. والأرغياني: بفتح الهمزة وسكون الراء وكسر الغين المعجمة وفتح الياء المثناة من تحتها وبعد الألف نون، هذه النسبة إلى أرغيان وهي اسم لناحية من نواحي نيسابور بها عدة من القرى.   (1) أج: العزلة. (2) أ: والمرابطة؛ م: بالتصنيف والعبادة. (3) من هنا حتى آخر الترجمة لم يرد في م. (4) بهامش س: منقولة من خط الشيخ العالم الورع الزاهد عبد الرحيم الأسنوي: " ليست الفتاوى له بل لمحمد الأرغياني الآتي ذكره في حرف الميم، وقد نبه عليه المصنف ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 434 284 - (1) أبو الطيب الصعلوكي أبو الطيب سهل بن محمد بن سليمان بن محمد بن سليمان الصعلوكي النيسابوري الفقيه الشافعي - وسيأتي ذكر أبيه ورفع نسبه في حرف الميم إن شاء الله تعالى -؛ كان أبو الطيب المذكور مفتي نيسابور وابن مفتيها، أخذ الفقه عن أبيه أبي سهل الصعلوكي، وكان في وقته يقال له " الإمام " وهو متفق عليه، عديم النظير (2) في علمه وديانته، وسمع أباه ومحمد بن يعقوب الأصم وابن مطر (3) وأقرانهم. وكان فقيهاً أديباً متكلماً، خرجت له الفوائد من سماعاته، وقيل إنه وضع له في المجلس أكثر من خمسمائة محبرة وجمع رياسة الدنيا والآخرة وأخذ عنه فقهاء نيسابور. وتوفي في المحرم سنة سبع وثمانين وثلثمائة، رحمه الله تعالى. وقال أبو يعلى الخليلي في كتاب " الإرشاد ": إنه توفي أول سنة اثنتين وأربعمائة (4) ، والله أعلم بالصواب. والصعلوكي: بضم الصاد المهملة وسكون العين المهملة وضم اللام وسكون الواو وفي آخرها كاف، هذه النسبة إلى صعلوك، هكذا ذكره السمعاني وما عليه. [قال عبد الواحد اللخمي: أصاب سهلاً الصعلوكي رمد فكان الناس يدخلون عليه وينشدونه من النظم ويروون له من الآثار ما جرت به العادة، فدخل عليه الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي وقال: أيها الإمام، لو أن عينيك رأتا   (1) ترجمة سهل الصعلوكي في طبقات الشيرازي، الورقة: 35 وطبقات السبكي 3: 169. (2) ب: المثل. (3) ر: سطر. (4) قال السبكي: توفي في شهر رجب سنة أربع وأربعمائة بنيسابور. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 435 وجهك ما رمدت، فقال له الشيخ سهل: ما سمعت بأحسن من هذا الكلام، وسر به] (1) . ولما مات أبوه محمد بن سليمان - في التاريخ الآتي ذكره في ترجمته - كتب أبو النضر ابن عبد الجبار إلى أبي الطيب المذكور يعزيه عن والده: من مبلغ شيخ أهل العلم قاطبة ... عني رسالة محزون وأواه أولى البرايا بحسن الصبر ممتحناً ... من كان فتياه توقيعاً عن الله   (1) ما بين معقفين لم يرد في ص والمسودة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 436 حَرْفُ الشِين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 437 فراغ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 438 285 - (1) شاور وزير مصر أبو شجاع شاور بم مجير بن نزار بن عشائر بن شأس بن مغيث بن حبيب ابن الحارث بن ربيعة بن يخنس (2) بن أبي ذؤيب عبد الله - وهو والد حليمة مرضع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال ابن الكلبي في " جمهرة النسبة ": حليمة مرضع النبي صلى الله عليه وسلم ابنة أبي ذؤيب وهو الحارث بن عبد الله بن شجنة بن جابر ابن ناصرة، أرضعته بلبن ابنتها الشيماء بنت الحارث بن عبد العزى بن رفاعة ابن ملان، وهو الذي حضن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان عنده حليمة، والشيماء المذكورة كانت تحمل النبي صلى الله عليه وسلم فعضها وهي تحمله فلما وفدت عليه أرته الأثر، والله أعلم - ابن الحارث بن شجنة بن جابر بن رزام بن ناصرة بن قصية بن نصر بن سعد بن بكر بن هوازن السعدي. كان الصالح بن رزيك وزيراً العاضد صاحب مصر قد ولاه الصعيد الأعلى من ديار مصر، ثم ندم على توليته، ولما جرح الصالح وأشرف على الوفاة - كما سيأتي في ترجمته في حرف الطاء إن شاء الله تعالى - كان يعد لنفسه ثلاث غلطات: إحداها تولية شاور [وثانيتها بناء الجامع المعروف به على باب زويلة، فإنه كان قد بقي عوناً لم يحاصر القاهرة (3) ، وثالثتها خرجه إلى بلبيس (4)   (1) أخبار شاور السعدي في ابن الأثير (ج 11) ومفرج الكروب 1: 158 وابن خلدون 5: 246 وما بعدها (وخاصة: 281) والنكت العصرية، وكتاب الروضتين ومرآة الزمان، واتعاظ الحنفا: 288 وقد وردت الترجمة موجزة في م، وأكثرها في س أيضاً؛ كما أنها وردت في المسودة ونسخة ر. (2) ر: مخنس. (3) ج: القلعة. (4) ب: تنيس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 439 بالعساكر ورجوعه بعد أن أنفق فيهم أكثر من مائتي ألف دينار حيث لم يتم إلى بلاد الشام ويفتح بيت المقدس ويستأصل شأفة الفرنج] (1) . ثم إن شاور تمكن في الصعيد، وكان ذا شهمة وفروسية، وكان الصالح قد أوصى ولده العادل رزيك أن لا يتعرض لشاور بمساءة ولا يغير عليه حاله، فإنه لا يأمن عصيانه والخروج عليه، وكان كما أشار، والشرح يطول. وقدم من الصعيد على واحات، واخترق تلك البراري إلى أن خرج عند تروجة بالقرب من الإسكندرية، وتوجه إلى القاهرة ودخلها يوم الأحد الثاني والعشرين من المحرم سنة ثمان وخمسين وخمسمائة. وهرب العادل رزيك وأهل من القاهرة ليلة العشرين من المحرم المذكور، وقتل العادل بن الصالح، وأخذ موضعه من الوزارة واستولى. ثم توجه في سنة ثمان وخمسين وخمسمائة في شهر رمضان منها إلى الشام مستنجداً بالملك العادل نور الدين محمود بن زنكي في شهر رمضان منها إلى الشام مستنداً بالملك العادل نور الدين محمود بن زنكي صاحب الشام لما خرج عليه أبو الأشبال ضرغام بن عامر بن سوار الملقب فارس المسلمين اللخمي المنذري نائب الباب بجموع كثيرة وغلبه وأخرجه من القاهرة، وقتل ولده طياً، وولي الوزارة مكانه - كعادة المصريين - فأنجده بالأمير أسد الدين شيركوه، والقصة مشهورة فلا حاجة إلى الإطالة فيها، وآخر الأمر أن أسد الدين تردد إلى الديار المصرية ثلاث دفعات - كما سيأتي في ترجمته من هذا الحرف إن شاء الله تعالى -. وقتل شاور يوم الأربعاء سابع عسر، وقيل ثامن عشر شهر ربيع الآخر سنة أربع وستين وخمسمائة، ودفن في تربه ولده طي، وتربته بالقرافة الصغرى بالقرب من تربة القاضي الفاضل، وكان المباشر لتفة الأمير عز الدين جرديك عتيق نور الدين صاحب الشام. وقال الروحي في كتاب " تحفة الخلفاء ": إن السلطان صلاح الدين أوقع به، وكان إذ ذاك في صحبة عمه أسد الدين وإن قتله كان يوم الست منتصف جمادى من السنة المذكورة، رحمه الله تعالى. وذكر ابن شداد في سيرة صلاح الدين " (2) أن شاور المذكور خرج إلى أسد   (1) ما بين معقفين لم يرد في المسودة. (2) سيرة ابن شداد: 32. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 440 الدين في موكبه، فلم يتجاسر أحد عليه إلا صلاح الدين، فإنه تلقاه وسار إلى جانبه وأخذ بتلابيبه وأمرالعسكر بقصد أصحابه، ففروا ونهبهم العسكر، وأنزل شاور في خيمة مفرده، وفي الحال جاء توقيع على يد خادم خاص من جهة المصريين يقول: لابد من رأسه، جرياً على عادتهم مع وزرائهم، فحز رأسه وأنقذه إليهم، وسير إلى أسد الدين خلع الوزارة فلبسها، وسار ودخل القصر وترتب وزيراً، وذلك في سابع عشر شهر ربيع الآخر من السنة المذكورة. وذكر الحافظ ابن عساكر في تاريخه أن شاور وصل إلى نور الدين مستجيراً فأكرمه واحترمه وبعث معه جيشاً فقتلوا خصمه ولم يقع منه الوفاء بما ورد من جهته، ثم إن شاور بعث إلى ملك الفرنج واستنجده وضمن له أمولاً، فرجع عسكر نور الدين إلى الشام، وحدث ملك الفرنج نفسه بملك مصر، فحضر إلى بلبيس وأخذها وخيم عليهان فلما بلغ نور الدين ذلك جهز عسكراً إليها، فلما سمع العدو بتوجه الجيش رجعوا خائبين، واطلع من شاور على المخامرة، وأنفذ يراسل العدو طمعاً منه في المظافرة، فلما خيف من شره تمارض أسد الدين فجاءه شاور عائداً له فوثب جرديك وبرغش موليا نور الدين فقتلا شاور، وكان ذلك برأي الملك الناصر صلاح الدين، فإنه أول من تولى القبض عليه ومد يده بالمكروه إليه، وصفا الأمر لأسد الدين، وظهرت السنة بالديار المصرة، وخطب فيها بعد اليأس للدولة العباسية. وللفقيه عمارة اليمني - الآتي ذكره - فيه مدائح، من جملتها قوله من جملة قصيد: ضجر الحديد من الحديد وشاور ... من نصر دين محمد لم يضْجرِ حلف الزمان ليأتين بمثله ... حنثت يمينك يا زمان فكَفرِ وحكى الفقيه عمارة المذكور (1) أنه لما تم الأمر لشاور وانقرضت دولة بني   (1) راجع النكت العصرية: 69. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 441 رزيك جلس شاور وحوله جماعة من أصحاب بني رزيك وممن لهم عليهم إحسان وإنعام، فوقعوا في بني رزيك تقرباً إلى قلب شاور، وكان الصالح بن رزيك وابنه العادل قد أحسنا إلى عمارة عند دخوله إلى الديار المصرية، قال: فأنشدته: صحت بدولتك الأيام من سقم ... وزال ما يشتكيه الدهر من ألم زالت ليالي بني رزيك وانصرمت ... والحمد والذم فيها غير منصرم كأن صالحهم يوماً وعادلهم ... في صدر ذا الدست لم يقعد ولم يقم هم حركوها عليهم وهي ساكنة ... والسلم قد ينبت الأوراق في السلم كما نظن وبعض الظن مأثمة ... بأن ذلك جمع غير منهزم فمذ وقعت وقوع النسر خانهم ... من كان مجتمعاً من ذلك الرخم (1) ولم يكونوا عدواً ذل جانبه ... وإنما غرقوا في سيلك العرم وما قصدت بتعظيمي عداك سوى ... تعظيم شأنك فاعذرني ولا تلم ولو شكرت لياليهم محافظة ... لعهدها لم يكن بالعهد من قدم ولو فتحت فمي يوماً بذمهم ... لم يرض فضلك إلا أن يسد فمي والله يأمر بالإحسان عارفة ... منه وينهى عن الفحشاء في الكلم قال عمارة: فشكرني شاور وولداه على الوفاء لبني رزيك. (49) وأما الملك (2) المنصور أبو الأشبال ضرغام بن سوار اللخمي المذكور فإنه لما وصل شاور من الشام بالعساكر خرج من القاهرة وقتل يوم الجمعة الثامن والعشرين من شهر جمادى الآخرة، وقيل في رجب سنة تسع وخمسين وخمسمائة، وكان قتله عند مشهد السيد نفيسة رضي الله عنها، فيما بين القاهرة ومصر، وحزوا رأسه وطافوا به على رمح، وبقيت جثته هناك ثلاثة أيام تأكل منها الكلاب، ثم دفن عند بركة الفيل وعمر عليه قبة، هكذا وجدته في بعض   (1) بعد هذا البيت جاء في ج: ومنها، وأشار إلى من كان حاضراً. (2) هذه الفقرة لم ترد في س، حتى قوله: المذكورة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 442 التواريخ، وعلى البركة قبة، وغالب ظني أنها هي المذكورة. وواحات: بفتح الواو وبعد الألف حاء مهملة وبعد الألف الثانية تاء مثناة من فوقها، وهي بلاد بنواحي الديار المصرية مستطيلة في طول صعيدها داخل البرية مما يلي أرض برقة وطريق المغرب. وتروجة: بفتح التاء المثناة من فوقها والراء وبعد الواو الساكنة جيم ثم هذه ساكنة، وهي قرية بالقرب من الإسكندرية أكثر زراعة أهلها الكرويا. ونقلت نسبه على هذه الصورة من شجرة أحضرها إلي أحد حفدته. 285ب - (1) شاور بن مجير الوزير المصري [بعد النسب المتقدم في الترجمة السابقة] وزير العاضد صاحب مصر، ولي الوزارة له سنة ثمان وخمسين وخمسمائة في صفر منها، وكان ابتداء امره أنه كان يخدم الصالح بن رزيك، فأقبل عليه وولاه الصعيد وهو أكبر الأعمال بعد الوزارة، وظهرت منه كفاءة عظيمة وتقدم واستمال الرعية والمقدمين من العرب وغيرهم، فعسر أمره على الصالح ولم يمكنه عزله، فاستدام استعماله لئلا يخرج عن طاعته. ولما جرح الصالح وأشرف على الوفاة كان يعد لنفسه ثلاث غلطات إحداها تولية شاور. ولما حضر الصالح الموت كان من جملة وصيته للعادل رزيك ولده: أنك لا تغير على شاور فإنني أنا أقوى منك وقد ندمت على استعماله ولم يمكني عزله فلا تغيروا عليه فيكون لكم ما تكرهون. فلما توفي الصالح وتولى ابنه العادل الوزارة حسن له أهله عزل شاور واستعمال بعضهم مكانه وخوفوه   (1) هكذا وردت هذه الترجمة في النسخة ص، وقد آثرنا فصلها عن ترجمة شاور السابقة لما بينهما من اختلاف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 443 منه أن اقره على عمله، فأرسل إليه بالعزل فجمع جموعاً كبيرة وقدم من الصعيد على واحات واخترق تلك البراري إلى أن قدم عند تروجة من الاسكندرية وتوجه إلى القاهرة، فهرب منه العادل بن ريك فأخذ وقتل. وكانت مدة وزارته وزارة أبيه تسع سنين وشهراً واحداً وأياماً. وصار شاور وزيرا تلقب بأمير الجيوش، وكان ذا شهامة ونجابة وفروسية. ثم أن الضرغام جمع جموعاً كبيرة ونازع شاور في الوزارة، وفي شهر رمضان ظهر أمره وانهزم شاور منه إلى الشام وصار ضرغام وراءه. فلما تمكن ضرغام من الوزارة، قتل كثيراً من الامراء المصريين لتخلو له البلاد من منازع. ثم ان شاور لما نازعه ضرغام في الوزارة قصد نور الدين محمود بن زنكي ملتجئاً إليه مستجيراً به، فأكرم مثواه وأحسن إليه وانعم عليه، وطلب منه إرسال العساكر معه إلى مصر ليعود إلى منصبه، ويكون لنور الدين ثلث خراج مصر بعد اقطاعات العساكر، ويكون شيركوه مقيماً بعساكره في مصر ويتصر بأمر نور الدين واختياره. وفبقي نور الدين يقدم إلى هذا العرض رجلاً ويؤخر أخرى، فتارة تحمله رعاية قصد شاور به وطلب الزيادة في الملك والتقوي على الفرنج، وتارة يمنعه خطر الطريق من أجل الفرنج وخوفاً من أن شاور أن استقرت قاعدته ربما لا يفي؛ ثم قوي عزمه على ارسال الجيوش، فتقدم بتجهيزها وازاحة عللها. وكان هوى أسد الدين في ذلك وعنده من الشجاعة وقة النفس ما لا يبالي بمخافة، فتجهز وساروا جميعاً وشاور صحبتهم في جمادى الأولى سنة تسع وخمسين، وتقدم نور الدين إلى شيركوه أن يعيد شاور إلى منصبه وينتقم له ممن نازعه، ووصل أسد الدين والعساكر إلى مدينة بلبيس، فخرج إليهم ناصر الدين أخو ضرغام بعسكر المصريين ولقيهم فانهزم وعاد إلى القاهرة مهزوماً، ووصل أسد الدين إلى القاهرة أواخر جمادى الآخرة، فخرج الملك المنصور أبو الأشبال ضرغام بن عامر بن سوار الملقب فارس المسلمين اللخمي المنذري - المذكور أول الترجمة - من القاهرة سلخ الشهر، فقتل عند مشهد السيدة نفيسة وبقي يومين ثم حمل ودفن بالقاهرة. وقتل أخوه ناصر الدين، وخلع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 444 على شاور مستهل رجب واعيد إلى الوزارة وتمكن منها، والقصة مشهورة ... (1) وحدث ملك الفرنج نفسه بملك مصر وأخذ بلبيس وحكم عليها، وكان استقر بينهم وبين المصريين أن يكون لهم بالقاهرة شحنة (2) وتكون أسوارها بيد فرسانهم ليمتنع نور الدين من إيفاد عسكر إليهم ويكون لهم من دخل مصر كل سنة مائة ألف دينار، وهذا كله استقر مع شاور فإن العاضد لم يكن له معه حكم، قد حجر عليه وحجبه عن الأمور كلها. وعاد الفرنج إلى بلاد الساحل الشامي وتركوا بمصر جماعة من مشاهير فرسانهم. وكان الكامل شجاع بن شاور قد أرسل إلى نور الدين مع بعض الأمراء ينهي إليه محبته وولاءه ويسأله الدخول في طاعته، وضمن على نفسه أنه يجمع الكلمة بمصر على طاعته وبذل مالاً يحمله كل سنة، فأجابه إلى ذلك وحملوا إليه مالاً جزيلاً، فبقي الأمر على ذلك إلى أن قصد الفرنج مصر سنة أربع وستين. وفي ربيع الأول من هذه السنة، سار أسد الدين شيركوه إلى ديار مصر ومعه العساكر النورية، وسبب ذلك ما ذكرناه من تمكن الفرنج وأنهم جعلوا لهم في القاهرة شحنة وتسلموا أبوابها وجعلوا فيها جماعة من فرسانهم وحكموا على المسلمين حكماً جائراً، فلما رأوا ذلك وأن البلاد ليس فيها من يردهم، ارسلوا إلى ملك الفرنج بالشام، وهو مري، ولم يكن للفرنج منذ ظهروا بالشام مثله شجاعةً ومكراً ودهاءً، يستدعونه ليمكلها واعلموه خلوها من ممانع وهونوا عليه أمرها، فلم يجبهم إلى ذلك، فاجتمع عنده فرسان الفرنج وذو الرأي وأشاروا عليه بقصدها، فقال لهم: الرأي عندي أنا لا نقصدها لنملكها فإن صاحبها وعساكره وعامة بلاده لا يسلمونها إلينا ويقاتلوننا دونها ويجعلهم الخوف على تسليمها إلى نور الدين، وأن أخذها وصار له فيها مثل أسد   (1) تتفق هذه الترجمة مع السابقة بعد ذلك حتى قوله: " فرجع عسكر نور الدين لى الشام ". وقد تضمنت النقل عن بهاء الدين ابن شداد والفقه عمارة والحافظ ابن عساكر. (2) الشحنة: ذخيرة الحرب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 445 الدين فهو هلاك الفرنج وإجلاؤهم من أرض الشام، فلم يقبلوا قوله وقالوا أنها لا مانع فيها ولا حامي، وإلى أن يجهز نور الدين عسكراً نكون قد ملكناها وفرغنا من أمرها وحينئذ يتمنى نور الجين منا السلامة. فسار معهم على كره وشرعوا يتجهزون ويظهرون أنهم يقصدون مدينة حمص. فلما سمع نور الدين شرع أيضاً في جمع عسكره. وجد الفرنج في السير إلى مصر ونازلوا مدينة بلبيس وملكوها قهراً ونهبوا فيها وأسروا وسبوا. وكان جماعة من أعيان المصريين قد كاتبوا الفرنج ووعدوهم النصرة عداوة منهم لشاور، منهم ابن الخياط وابن مرجلة، فقوي جنان الفرنج بهم، وساروا من بلبيس إلى مصر فنزلوا على القاهرة وحصروها، فخاف الناس منهم واقبلوا على الامتناع فحفظوا البلد وقاتلوا عليه وبذلوا جهدهم في حفظه. فلو أن الفرنج أحسنوا السيرة في بلبيس لملكوا مصر والقاهرة، ولكن الله حسن لهم ما فعلوا ليقضي الله أمراً كان مفعولاً. وأمر شاور باحراقها مدينة مصر، وامر أهلها بالانتقال منها إلى القاهرة وان ينهب البلد، فانتقلوا وبقوا على الطرق ونهبت المدينة وافتقر أهلها وذهبت أموالهم ونعمتهم قبل نزول الفرنج عليهم بيوم أو يومين خوفاً أن يملكها الفرنج، وبقيت النار فيها أربعة وخمسين يوماً. فأرسل الخليفة العاضد إلى نور الدين يستغيث به ويعرفه ضعف المسلمين عن دفع الفرنج، وأرسل في الكتب شعور النساء وقال: هذه شعور نسائي من قصر تستغيث بك لتنقذهم من الفرنج. فشرع في تجهيز الجيوش. وأما الفرنج فانهم اشتدوا في حصار القاهرة وضيقوا على أهلها وشاور هو المتولي للأمر والعساكر والقتال، فضاق به المر وضعف عن ردهم، فأخذ في إعمال الحيلة، فأرسل إلى ملك الفرنج يعرفه مودته له ومحبته القديمة، وأن هواه معه لخوفه من نور الدين ومن العاضد، وأن المسلمين لا يوافقونه على التسليم إليه، وبشر بالصلح على أن يعطيه ألف ألف دينار مصرية، يعجل البعض ويؤخر الباقي، فاستقرت القاعدة على ذلك. ورأى الفرنج أن البلاد قد امتنعت عليهم وربما سلمت إلى نور الدين، فأجابوا إلى ذلك فقالوا: نأخذ المال ونتقوى به ونعاود البلاد بقوة لا نبالي معها بنور الدين، ومكروا ومكر الله والله خير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 446 الماكرين. فجعل لهم شاور مائة ألف دينار وسألهم الرحيل عنهم ليجمع لهم المال، فرحلوا وشرع شاور يجمع المال من أهل القاهرة ومضى فلم يتحصل له إلا قدر يسير لا يبلغ خمسة آلاف دينار وتنبه أن أهل مصر أحرقت دورهم بما فيها وما سلم نهب وهم لا يقدرون على الأقوات فضلاً على الأقساط، وأما أهل القاهرة فالأغلب فيهم الجند وغلمانهم فلهذا تعذر جمع المال، وهم في خلال هذا يراسلون نور الدين بما الناس فيه وبذلوا له ثلث خراج ديار مصر وأن يكون أسد الدين مقيماً عندهم في عسكر يكون مقطعاً في الديار المصرية خارجاً عن الثلث المختص به. فأسر نور الدين لأسد الدين بالتجهيز إلى مصر وأعطاه مائتي ألف دينار سوى الثياب والأسلحة والدواب وغير ذلك وحكمه في العسكر والخزائن، فاختار من العسكر الفي فارس وأخذ المال وجمع ستة آلاف فارس وسار بهم هو وصلاح الدين ابن أخيه. فلما قرب أسد الدين من مصر رحل الفرنج عنها عائدين إلى بلادهم بخفي حنين. فلما وصل أسد الدين إلى القاهرة دخل إلى العاضد فخلع عليه وعاد إلى المخيم بالخلعة وفرح بها أهل مصر وأجريت عليه وعلى عسكره الجرايات الكثيرة والاقامات الوافرة. ولم يمكن شاور المنع من ذلك لأنه رأى العساكر كثيرة مع شيركوه وهوى العاضد معهم، فلم يتجاسر على إظهار ما في نفسه وشرع يماطل أسد الدين في تقدير ما كان بذل لنور الدين من المال وإقطاع الجند وهو يركب كل يوم إلى أسد الدين ويسير معه ويعده ويمنيه. ثم أنه عزم على أن يعمل دعوة يدعو لها أسد الدين وجماعة من الأمراء الذين معه ويقبض عليهم ويستخدم من معهم من الجند فتمنع بهم البلاد من الفرنج، فنهاه ابنه الكامل وقال: والله لئن عزمت على هذا لأعرفن شيركوه، فقال له أبوه: والله لئن لم نفعل هذا لنقتلن جميعاً، فقال: صدقت ولكن نقتل ونحن مسلمون خير من أن نقتل وقد ملكها الفرنج، فإنه ليس بينك وبين عود الفرنج إلا أن يسمعوا بالقبض على شيركوه، وحينئذ لو مشى العاضد إلى نور الدين لم يرسل معه فارساً واحداً ويملكون البلاد؛ فترك ما كان عزم عليه. ولما رأى العسكر النوري مطل شاور خافوا شره، واتفق صلاح الدين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 447 ومن معه من الأمراء منهم عز الدين جرديك على قتل شاور، وأعلموا أسد الدين، فنهاهم عنه فسكتوا وهم على العزم. فاتفق أن شاور قصد عسكر أسد الدين على عادته في الخيام فلم يجده - وكان قد مضى لزيارة قبر الإمام الشافعي رضي الله عنه - فمضى إليه ومعه صلاح الدين وجرديك في جمع من العسكر فساروا جميعاً، فتناوله صلاح الدين وجرديك وألقياه إلى الأرض عن فرسه، فهرب عنه أصحابه وأخذ أسيراً، ولم يمكنهم قتله بغير أمر أسد الدين، فوكلوا به وسيروا أعلموا أسد الدين بالحال، فحضر ولم يمكنه إلا اتمام ما عملوه. وسمع العاضد الخبر فأرسل إلى أسد الدين وطلب إيفاد رأس شاور وبايع الرسل بذلك، فقتل كما تقدم في هذه الترجمة. أما الكامل بن شاور فانه لم اقتل أبوه دخل إلى القصر هو وأخوته معتصمين به فكان آخر العهد بهم. فكان شيركوه يتأسف كيف عدم لأنه بلغه ما كان منه مع أبيه في منعه من قتل شيركوه. وكان يقول: وددت لو بقي لأحسن إليه جزاء الصنيعة. وصفا الأمر لأسد الدين وظهرت السنة بالديار المصرية وخطب فيها بعد اليأس للدولة العباسية. 286 - (1) الأفضل ابن أميرالجيوش أبو القاسم شاهنشاه الملقب الملك الأفضل ابن أمير الجيوش بدر الجمالي. (50) كان بدر (2) المذكور أرمني الجنس، اشتراه جمال الدولة بن عمار، وتربى عنده وتقدم بسببه، وكان من الرجال المعدودين في ذوي الآراء والشهامة وقوة   (1) أخبار الأفضل ابن أمير الجيوش في اتعاظ الحنفا: 281 وما بعدها، وصفحات متفرقة من الدرة المضية (ج 6) ، وابن الأثير، والإشارة إلى من نال الوزارة: 57. (2) انظر أخبار بدر في الإشارة: 55. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 448 العزم، واستنابه المستنصر صاحب مصر بمدينة صور، وقيل عكا، فلما ضعف حال المستنصر واختلت دولته - كما سيأتي في ترجمته في حرف الميم إن شاء الله تعالى - وصف له بدر الجمالي المذكور، فاستدعاه وركب البحر في الشتاء (1) في وقت لم تجر العادة بركوبه في مثله، ووصل إلى القاهرة عشية يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من جمادى الأولى، وقيل الآخرة، سنة ست وستين وأربعمائة، فولاه المستنصر تدبير أموره، وقامت بوصوله الحرمة واصلح الدولة؛ وكان وزير السيف والقلم، وإليه قضاء القضاة والتقدم على الدعاة، وساس الأمور أحسن سياسة، ويقال: إن وصوله كان أول سعادة المستنصر وآخر قطوعه (2) ، وكان يلقب أمير الجيوش؛ ولما دخل على المستنصر قرأ قارئ بين يدي المستنصر: (ولقد نصركم الله ببدر) . ولم يتم الآية (3) ، فقال المستنصر: لو أتمها ضربت عنقه، وجاوز ثمانين سنة، ولم يزل كذلك إلى أن توفي في ذي القعدة، وقيل في ذي الحجة، سنة ثمان وثمانين وأربعمائة، رحمه الله تعالى. [قال علقمة العليمي: قصدت بدراً الجمالي بمصر فرأيت الناس وكبراءهم وشعراءهم على بابه قد طال مقامهم ولم يصلوا إليه؛ فقال: فبينا أنا كذلك إذ خرج بدر يريد الصيد، فخرج علقمة في إثره، فلما رجع وقف على نشز من الأرض وأومأ برقعة في يده وأنشأ يقول: نحن التجار وهذه أعلاقنا ... درر، وجود يمينك المبتاع قلب وفتشها بسمعك إنما ... هي جوهر تختاره الأسماع كسدت علينا بالشآم وكلما ... قل النفاق تعطل الصناع فأتاك يحملها إليك تجارها ... ومطيها الآمال والأطماع فوهبت ما لم يعطه في دهره ... هرم ولا كعب ولا القعقاع وسبقت هذا الناس في طلب العلا ... فالناس بعدك كلهم أتباع   (1) أج: فركب في الشتاء البحر. (2) أج: خموله؛ والقطوع: الإدبار والنحس. (3) تمام الآية: وأنتم أذلة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 449 يا بدر أقسم لو بك اعتصم الورى ... ولجوا إليك بأسرهم ما ضاعوا وكان على يد بدر بازي فألقاه وانفرد عن الجيش وجعل يسترد الأبيات إلى أن استقر في مجلسه ثم قال لجماعة غلمانه وخاصته: من أحبني فليخلع على هذا الشاعر، فخرج من عنده ومعه سبعون بغلاً تحمل الخلع وأمر له بعشرة آلاف درهم وخرج من عنده وفرق كثيراً من ذلك على الشعراء] (1) . وهو الذي بنى الجامع الذي بثغر الإسكندرية المحروس الذي في سوق العطارين، وكان فراغه من عمارته في شهر ربيع الأول سنة تسع وسبعين وأربعمائة، وبنى مشهد الرأس بعسقلان. ولما مرض واشتد مرضه في شهر ربيع الأول من سنة سبع وثمانين، وزر ولده الأفضل المذكور موضعه في حياته، وقضيته مع نزار بن المستنصر وغلامه أفتكين الأفضلي والي الإسكندرية مشهورة في أخذهما وإحضارهما إلى القاهرة المحروسة، ولم يظهر لهما خبر بعد ذلك، وكان ذلك في سنة ثمان وثمانين وأربعمائة - وكان المستنصر قد مات في التاريخ المذكور في ترجمته، وأقام الأفضل ولده المستعلي أحمد المقدم ذكره مقامه واستمر على وزارته - فأما أفتكين فإنه قتل ظاهراً، وأما نزار فيقال: إن أخاه المستعلي أحمد - المقدم ذكره - بنى في وجهه حائطاً فمات، والله أعمل، وقد سبق طرف من خبره في ترجمة المستعلي، وأفتكين كان غلام الأفضل المذكور، ونزار المذكور إليه تنتسب ملوك الإسماعيلية أصحاب الدعوة أرباب قلعة الالموت وما معها من القلاع في بلاد العجم. وكان الأفضل المذكور حسن التدبير فحل الرأي، وهو الذي أقام الآمر ابن المستعلي موضع أبيه في المملكة بعد وفاة أبيه كما فعل مع أبيه، ودبر دولته وحجر عليه ومنعه من ارتكاب الشهوات، فإنه كان كثير اللعب - كما سيأتي في ترجمته إن شاء الله تعالى - فحمله ذلك على أن عمل على قتله، فأوثب عليه جماعة، وكان يسكن بمصر في دار الملك التي على بحر النيل، وهي اليوم دار الوكالة، فلما ركب من داره المذكور وتقدم إلى ساحل البحر وثبوا عليه   (1) زيادة من ص وحدها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 450 فقتلوه، وذلك في سلخ رمضان المعظم عشية يوم الأحد سنة خمس عشرة وخمسمائة، رحمه الله تعالى. وهو والد أبو علي أحمد بن شاهنشاه - الآتي ذكره في ترجمة الحافظ أبي الميمون عبد المجيد العبيدي صاحب مصر، وما اعتده في حقه إن شاء الله تعالى -. وقد تقدم في ترجمة المستعلي أحمد صاحب مصر وفي ترجمة أرتق التركماني طرف من حديث الأفضل المذكور وما فعل في أخذ القدس من سكمان وغيل غازي ابني أرتق التركماني. ثم رأيت بعد ذلك في كتاب " الدول المنقطعة " في ترجمة المستعلي شيئاً آخر فألحقته ها هنا، فإنه قال: إن الأفضل تسلم القدس في يوم الجمعة لخمس بقين من شهر رمضان من سنة إحدى وتسعين وأربعمائة، وولى فيه من قبله، فلم يكن لمن فيه طاقة بالفرنج، فأخذوه بالسيف في شعبان سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة، ولو ترك في يد الأرتقية لكان أصلح للمسلمين، فندم الأفضل حين لم ينفعه الندم. وخلف الفضل من الأموال ما لم يسمع بمثله (1) ؛ قال صاحب " الدول المنقطعة ": خلف ستمائة ألف ألف دينار عيناً، ومائتين وخمسين إردباً دراهم نقد مصر، وخمسة وسبعين ألف ثوب ديباج أطلس، وثلاثين راحلة أحقاق ذهب عراقي، ودواة ذهب فيها جوهر قيمته اثنا عشر الف دينار، ومائة مسمار من ذهب وزن كل مسمار مائة مثقال، في عشرة مجالس في كل مجلس عشرة مسامير على كل مسمار منديل مشدود مذهب بلون من الألوان أيما أحب منها لبسه، وخمسمائة صندوق كسوة لخاصه من دق تنيس ودمياط، وخلف من الرقيق والخيل والبغال والمراكب والطيب والتجمل والحلي ما لم يعلم قدره إلا الله سبحانه وتعالى، وخلف خارجاً عن ذلك من البقر والجواميس والغنم ما يستحيا من ذكر عدده، وبلغ ضمان ألبانها في سنة وفاته ثلاثين ألف دينار، ووجد في تركته صندوقان كبيران فيهما إبر ذهب برسم النساء والجواري.   (1) المسودة: بمثلها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 451 287 - شاهنشاه بن أيوب الأمير نور الدولة شاهنشاه بن نجم الدين أيوب بن شاذي بن مروان، أخو السلطان صلاح الدين رحمه الله تعالى؛ كان أكبر الاخوة، وهو والد عز الدين فروخ شاه والد الملك الأمجد صاحب بعلبك ووالد الملك المظفر تقي الدين عمر صاحب حماة - وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى -. وقتل شاهنشاه المذكور في الواقعة التي اجتمع فيها الفرنج سبعمائة ألف ما بين فارس وراجل على ما يقال، وتقدموا إلى باب دمشق، وعزموا على قصد بلاد المسلمين قاطبة، ونصر الله سبحانه وتعالى عليهم، وكان قتله في شهر ربيع الأول سنة ثلاث واربعين وخمسمائة، رحمه الله تعالى. (51) [وفي من خرج إلى القتال واستشهد الفقيه حجة الدين يوسف بن درباس الفندلاوي الغربي، وكان شيخاً كبيراً فقيهاً عالماً زاهداً صالحاً، فلما رآه معين الدين مقدم العسكر وهو راجل قصده وسلم عليه وقال: يا شيخ، أنت معذور لكبر سنك، ونحن نقوم بالذب عن المسلمين، وسأله أن يعود فلم يفعل وقال له: قد بعت واشترى مني، فو الله لا أقيله ولا أستقليه، يريد قوله تعالى: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة) ، وتقدم فقاتل الفرنج إلى أن قتل عند النيرب. ورئي الفندلاوي في النوم فقيل له: ما فعل الله بك وأين أنت فقال: غفر لي وأنا في جنات عدن على سرر متقابلين، رحمه الله تعالى] (1) . (52) وأما عز الدين أبو سعيد فروخ شاه (2) فكان ينعت بالملك المنصور، وكان   (1) زيادة من ص وحدها، وانظر الباهرك 89. (2) له دور في الحروب الصليبية أيام ولايته على دمشق إذ غلب الهنفري سنة 574 وفي السنة التالية أعطاه صلاح الدين بعلبك وبعد سنتين (577) استنابه بدمشق فخرج إلى طبرية وعكارية ودبورية والتقى بهم في معركة كان النصر فيها حليفه، وعاد إلى دمشق، وتوفي سنة 578 (انظر ترجمته في مرآة الزمان: 372 والخريدة مقدمة قسم الشام: 113) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 452 سرياً نبيلاً جليلاً، وساتخلفه السلطان صلاح الدين بدمشق لما عاد إلى الديار المصرية من الشام، فقام بضبط أمورها وإصلاح أحوالها أحسن قيام، ثم توفي في آخر جمادى الأولى سنة ثمان وسبعين وخمسمائة بدمشق، وهكذا قال العماد الأصبهاني في البرق الشامي، وقال ابن شداد في " سيرة صلاح الدين ": إن السلطان بلغة وفاة ابن أخيه عز الدين فروخ شاه في رجب سنة سبع وسبعين والعماد أخبر بذلك، والله أعلم. (53) وكان لشاهنشاه المذكور بنت تسمى عذرا وهي التي بنت المدرسة العذراوية بمدينة دمشق، وإليها تنسب، وماتت عذرا المذكورة عاشر المحرم سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة. (54) وأما الملك الأمجد مجد الدين أبو المظفر بهرام شاه بن فروخ شاه (1) فإن صح الدين أبقى عليه بعلبك، وكان فيه فضل وله ديوان شعر، وأخذ الأشرف بن العادل منه بعلبك فانتقل إلى دمشق، وقتله مملوكه في داره ليلة الأربعاء ثاني عشر شوال سنة ثمان وعشرين وستمائة (2) .   (1) أبقاه صلاح الدين في بعلبك بعد وفاة والده، وشارك سنة 594 في صد هجوم الفرنج على تبنين، وأقام ببعلبك حتى سنة 637 حيث حصره الأشرف وأخرجه منها بمساعدة شيركوه صاحب حمص. وكان المملوك الذي قتله قد أتهم بسرقة أشياء ثمينة (مرآة الزمان: 666 - 668) وهذه الفقرة عن الأمجد لم ترد في م. (2) في النسخ ما عدا: 608، وهو خطأ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 453 288 - (1) شبيب الخارجي أبو الضحاك شبيب بن يزيد بن نعيم بن قيس بن عمرو بن الصلب بن قيس بن شراحيل بن مرة بن همام بن ذهل بن شيبان بن ثعلبة - وبقية النسبة معروف - الشيباني الخارجي؛ كان خروجه في خلافة عبد الملك بن مروان، والحجاج بن يوسف الثقفي بالعراق يومئذ، وخرج بالموصل، فبعث إليه الحجاج خمسة قواد، فقتلهم واحداً بعد واحد، ثم خرج من الموصل يريد الكوفة، وخرج الحجاج من البصرة يريد الكوفة أيضاً، وطمع شبيب أن يلقاه قبل أن يصل إلى الكوفة، فأقحم الحجاج خيله فدخلها قبله، وذلك في سنة سبع وسبعين للهجرة، وتحصن الحجاج في قصر الإمارة، ودخل إليها شبيب وأمه جهيزة وزوجته غزالة عند الصباح، [فوجد باب القصر مغلقاً والحجاج فيه، فقتل الحرس ثم دنا من الباب فعالجه هو وأصحابه فأعياهم فتحه، فضربه شبيب بعمود كان في يده فنقب الباب، فيقال إن ذلك النقب لم يزل في الباب إلى أن خرب قصر افمارة وفيه ضربة شبيب] (2) . وقد كانت غزالة نذرت أن تدخل مسجد الكوفة فتصلي فيه ركعتين تقرأ فيهما سورة البقرة وآل عمران، فأتوا الجامع في سبعين رجلاً فصلت فيهالغداة وخرجت من نذرها [فقيل فيها: وفت الغزالة نذرها ... يا رب لا تغفر لها] (3) وكانت غزالة من الشجاعة والفروسية بالموضع العظيم، وكانت تقاتل في   (1) وردت أخبار شبيب الخارجي مفصلة في الطبري وابن الأثير واليعقوبي وابن خلدون والبداية والنهاية (9: 20) . (2) زيادة من ص وحدها. (3) زيادة من ص وحدها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 454 الحروب نفسها، وقد كان الحجاج هرب في بعض الوقائع مع شبيب من غزالة فعيره ذلك بعض الناس بقوله (1) : أسد علي وفي الحروف نعامة ... فتخاء تنفر من صفير الصافر هلا برزت إلى غزالة في الوغى ... بل كان قلبك في جناحي طائر وكانت أمه جهيزة أيضاً شجاعة تشهد الحروب (2) ، وكان شبيب قد ادعى الخلافة، ولما عجز الحجاج عن شبيب بعث عبد الملك إليه عساكر كثيرة من الشام عليها سفيان بن الأبرد الكلبي، فوصل إلى الكوفة، وخرج الحجاج أيضاً وتكاثروا على شبيب فانهزم وقتلت غزالة وأمه ونجا شيب في فوارس من أصحابه، واتبعه سفيان في أهل الشام، فلحقه بالأهواز فولى شبيب فلما حصل على جسر دجيل نفر به فرسه وعليه الحديد الثقيل من درع ومغفر وغيرهما فألقاه في الماء فقال له بعض أصحابه: أغرقا يا أمير المؤمنين قال: ذلك تقدير العزيز العليم، فألقاه دجيل ميتاً في ساحله، فحمل على البريد إلى الحجاج، فأمر الحجاج بشق بطنه واستخراج قلبه، فاستخرج فإذا هو كالحجر إذا ضرب به الأرض نبا عنها، فشق فكان في داخله قلب صغير كالكرة فشق فأصيب علقة الدم في داخله. وقال بعضهم: رأيت شبيباً وقد دخل المسجد وعليه جبة طيالسة عليها نقط من أثر المطر، وهو طويل أشمط جعد آدم، فجعل المسجد يرتج له. وكان مولده يوم عيد النحر سنة ست وعشرين للهجرة، وغرق بدجيل كما تقدم سنة سبع وسبعين للهجرة، رحمه الله تعالى.   (1) ج: اسامة بن زيد البجلي؛ والشعر ينسب لعمران بن حطان (شعر الخوارج: 25 وتخريجها ص: 156) . (2) زاد في أهنا: وبلغنا أنه كان ينعى إليها في وقائعه فلا تصدق حتى بلغها أنه غرق في دجيل فسكتت، وقالت: الآن علمت أنه قد هلك، فقيل لها: وكيف ذلك فقالت: لأني رأيت عند حملي به إن شهاباً قد خرج مني فبلغ أقطار الأرض وعنان السماء وليس يطفئ النار غير الماء فلذلك صدقت بذهابه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 455 (55) ولما غرق أحضر إلى عبد الملك رجل يرى رأي الخوارج وهو عتبا الحروري ابن أصيلة، ويقال وصيلة، وهي أمه، وهي من بني محلم وهو من بني شيبان من شراة الجزيرة، وقد عمل قصيدة وهي أبيات عديدة ذكرها المرزباني في " المعجم " فقال له: ألست القائل (1) يا عدو الله: فإن يك منكم كان مروان وابنه ... وعمرو ومنكم هاشم وحبيب فمنا حصين والبطين وقعنب ... ومنا أميرُ المؤمنين شَبيبُ فقال: لم أقل كذا يا أمير المؤمنين، وإنما قلت: ومنا أميرَ المؤمنين شبيبُ ... فاستحسن قوله، وأمر بتخلية سبيله. وهذا الجواب في نهاية الحسن، فإنه إذا كان " أمير " مرفوعاً كان مبتدأ فيكون شبيب أمير المؤمنين، وإذا كان منصوباً فقد حذف منه حرف النداء ومعناه يا أمير المؤمنين منا شبيب، فلا يكون شبيب أمير المؤمنين، بل يكون منهم. وذكر الحافظ أبو القاسم المعروف بابن عساكر الدمشقي في " تاريخ دمشق " في أواخر كتابه المذكور في جملة تراجم أرباب الكنى ما مثاله: أبو المنهال الخارجي، شاعر وفد على عبد الملك بن مروان مستأمناً بعدما كان قال لعبد الملك (2) : أبلغ أمير المؤمنين رسالة ... وذو النصح لو يدعى إليه قريب فلا صلح ما دامت منابر أرضنا ... يقوم عليها من ثقيف خطيب   (1) معجم المرزباني: 266 وشعر الخوارج: 63، وعتبان هو ابن شراحيل بن شريك بن عبد الله بن الحصين الشيباني. (2) مختصر تاريخ دمشق 29: 132 وأوردها المسعودي في المروج 5: 441 (ط. باريس) منسوبة لمصقلة بن عتبان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 456 وإنك إن لا ترض بكر بن وائل ... يكن لك يوم بالعراق عصيب وبعد هذه الأبيات الثلاثة البيتان المذكوران. وابو المنال كنية عتبان بن وصيلة المذكور. وقوله " من ثقيف خطيب " يريد به الحجاج بن يوسف الثقفي المقدم ذكره. وجهيزة: بفتح الجيم وكسر الهاء وسكون الياء المثناة من تحتها وفتح الزاي وبعدها هاء ساكنة، وهي التي يضرب بها المثل في الحمق فيقال " أحمق من جهيزة "، ذكر ذلك يعقوب بن السكيت في كتاب " إصلاح المنطق " في باب ما تضعه العامة في غير موضعه (1) ، وقال: كان أبو شبيب من مهاجرة الكوفة، فغزا سلمان بن ربيعة الباهلي في سنة خمس وعشرين للهجرة، فأتوا الشام، فأغاروا على بلاد وأصابوا سبياً وغنموا، وأبو شبيب في ذلك الجيس، فاشترى جارية من السبي حمراء طويلة جميلة، فقال لها: أسلمي، فأبت، فضربها فلم تسلم، فواقعها فحملت، وتحرك الولد في بطنها فقالت: في بطني شيء ينقز (2) ، فقيل: أحمق من جهيزة، ثم اسلمت فولدت شبيباً سنة ست وعشرين يوم النحر، فقالت لمولاها: إني رأيت قبل أن ألد كأني ولدت غلاماً فخرج مني شهاب من نار فسطع بين السماء والأرض ثم سقط في ماء فخبا، وقد ولدته في يوم أريق فيه الدماء وقد زجرت أن ابني يعلو أمره ويكون صاحب دماء يهريقها؛ هذا آخر كلام ابن السكيت. ودجيل: بضم الدال المهملة وفتح الجيم وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها لام، وهو نهر عظيم بنواحي الأهواز وتلك البلاد، عليه قرى ومدن، ومخرجه من جهة أصبها، وحفره أردشير بن بابك أول ملوك بني ساسان ملوك الفرس بالمدائن، وهو غير دجيل بغداد فإن ذلك مخرجه من دجلة مقابل القادسية في الجانب الغربي بين تكريت وبغداد، عليه كورة عظيمة. وعتبان: بكسر العين المهملة وسكون التاء المثناة من فوقها وفتح الباء   (1) انظر إصلاح المنطق: 324. (2) ينقز: يثب، وفي المسودة " ينقر " بالراء المهملة، وهو كذلك في بعض أصول ابن السكيت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 457 الموحدة وبعد الألف نون. والحروري: بفتح الحاء المهملة وضم الراء وسكون الواو وبعدها راء، هذه النسبة إلى حروراء، بالمد، وهي قرية بناحية الكوفة، كان أول اجتماع الخوارج بها فنسبوا إليها. 289 - (1) شبيب بن شيبة أبو معمر شبيب بن شيبة الخطيب المنقري البصري؛ حدث عن الحسن ومعاوية بن قرة وعطاء بن أبي رباح وغيرهم، وروى عنه عيسى بن يونس وأبو بدر شجاع بن الوليد وغيرهما، وكان له لسن وفصاحة. وقدم بغداد في أيام المنصور فاتصل به وبالمهدي من بعده، وكان كريماً عليهما أثيراً عندهما.   (1) انفردت النسخة ص بهذه الترجمة؛ وشبيب بن شيبة من مشاهير الخطباء، كانت بينه وبين خالد بن صفوان منافسة، لما اتفق لهما من المشاركة في الصناعة والقرابة والمجاورة، وكان يقال لولا أنهما احكم تميم لتباينا تباين الأسد والنمر (البيان 1: 47) وقد قيل: إن أي خطيب بلدي يكون في أول أمره متكلفاً مستثقلاً إلى أن يحرز الإجادة بالدربة؛ إلا شبيب بن شيبة فإنه ابتدأ بحلاوة وسهولة وعذوبة، حتى صار إيجازه يغني عن إسهاب المكثرين (1: 112 - 113) ؛ وقد نسب إليه الجاحظ مقامه بين يدي المنصور لما خطب صالح بن منصور فأحسن (راجع الترجمة رقم 235 في هذا الكتاب) . ومن أقواله: " اطلب الأدب فإنه دليل على المروءة وزيادة في العقل وصاحب في الغربة وصلة في المجلس " (1: 352) وله نصائح في البلاغة تدل على ذوق أدبي وقدرة نقدية منها: " الناس موكلون بتفضيل جودة الابتداء وبمدح صاحبه، وأنا موكل بتفضيل جودة القطع وبمدح صاحبه. وحظ جودة القافية وإن كانت كلمة واحدة الإطالة من حظ سائر البيت ". وقوله في نصحه للخطيب: " فإن ابتليت بمقام لابد لك فيه من الإطالة فقدم إحكام البلوغ في طلب السلامة من الخطل قبل التقدم في إحكام البلوغ في شرف التجويد، وإياك أن تعدل بالسلامة شيئاً، فإن قليلاً كافياً خير من كثير غير شاف " (1: 112) . وانظر ترجمته في تاريخ بغداد 9: 274. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 458 قال شبيب: كنت أسير في موكب أمير المؤمنين أبي جعفر فقلت: يا أمير المؤمنين رويداً فإني أمير عليك، فقال: ويلك، أمير علي قلت: نعم، حدثني معاوية بن قرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أقطف القوم دابة أميرهم، فقال أبو جعفر [أعطوه دابة فهو] أهون من أن يتأمر علينا. وقال أيضاً: قال لي أبو جعفر وكنت في سماره: يا شبيب عظني وأوجز، فقلت: يا أمير المؤمنين إن الله عز وجل قسم الدنيا فلم يرض لك إلا بأرفعها وأشرفها فلا ترض لنفسك من الآخرة إلا مثل الذي رضي لك من الدنيا، وأوصيك بتوقى الله عز وجل فإنها عليكم نزلت وعنكم أقبلت وإليكم صدرت. قال: لقد أوجزت وقصرت. قلت: والله لئن قصرت فما بلغت كنه النعمة فيك. وخرج شبيب من دار المهدي فقيل له: كيف تركت الناس قال: تركت الداخل راجياً والخارج راضياً. وقال حماد بن سلمة: كان شبيب بن شيبة يصلي بنا في المسجد الشارع في مربعة أبي عبيد الله، فصلى يوماً الصبح فقرأ بالسجد و (هل أتى على الإنسان) فلما قضى الصلاة قام رجل فقال: لا جزاك الله عني خيراً فإني كنت غدوت لحاجة فلما أقيمت الصلاة دخلت أصلي فأطلت حتى فاتتني حاجتي. قال: وما حاجتك قال: قدمت من الثغر في شيء من مصلحته وكنت وعدت البكور إلى الخليفة لأتنجز ذلك، قال: فأنا أركب معك، وركب معه ودخل على المهدي فأخبره الخبر وقص عليه القصة، قال: فتريد ماذا قال: قضاء حاجته، فقضى حاجته وأمر له بثلاثين ألف درهم فدفعها إلى الرجل، ودفع له شبيب من ماله أربعة آلاف درهم وقال له: لم تضرك يا أخي السورتان. وقال الأصمعي: كان شبيب بن شيبة رجلاً شريفاً يفزع إليه أهل البصرة في حوائجهم، وكان يغدو في كل يوم ويركب، فإذا أراد أن يغدو أكل من الطعام شيئاً ثم يركب، فقيل له: إنك تباكر الغداء، فقال: أجل أطفئ به فورة الجوع وأقطع به خلوف فمي وأبلغ به في قضاء حاجتي، فاني وجدت خلاء الجوف وشهوة الطعام يقطعان الحكيم عن بلوغ حاجته ويحمله ذلك على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 459 التقصير فيما به الحاجة، وإني رأيت النهم لا مروءة له، ورأيت الجوع داءً، فخذ من الطعام ما يذهب عنك النهم وتداوي به الداء. قيل إن شبيباً أتى سليمان بن علي الأمير في حاجة، فقال له سليمان: قد حلفت أني ل أقضي هذه الحاجة، فقال: أيها الأمير إن كنت لم تحلف بيمين قط فحنثت فيها فما أحب أن أكون أول من أحنثك، وغن كنت ترى غيرها خيراً منها فكفر، فقال: أستخير الله، ثم قضاها. وكان يقول: من سمع كلمة يكرهها فسكت انقطع عنه ما يكره، فإن أجاب سمع أكثر مما يكره (1) . 290 - (2) القاضي شريح أبو أمية شريح بن الحارث بن قيس بن الجهم بن معاوية بن عامر بن الرائش ابن الحارث بن معاوية بن ثور بن مرتع - بتشديد التاء المثناة من فوقها وكسرها - الكندي، وثور بن مرتع هو كندة، وفي نسبه اختلاف كثير، وهذه الطريق أصحها (3) ؛ كان من كبار التابعين، وأدرك الجاهلية، واستقضاه عمر بن الخطاب رضي الله عنه على الكوفة، فأقام قاضياً خمساً وسبعين سنة لم يتعطل فيها إلا ثلاث سنين امتنع فيها من القضاء في فتنة ابن الزبير، واستعفى الحجاج بن يوسف من القضاء فأعفاه، ولم يقض بين اثنتين حتى مات.   (1) قلت: ليست هذه الترجمة على شرط المؤلف لأنه لم يحدد السنة التي توفي فيها شبيب. (2) ترجمة القاضي شريح في طبقات ابن سعد 6: 131 وطبقات الشيرازي، الورقة: 21 وحلية الأولياء 4: 172 والشذرات 1: 85 والمعارف: 433 وتذكرة الحفاظ: 59 والعقد 1: 89 - 91، 5: 10. (3) هذا هو النسب الذي أورده ابن سعد أيضاً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 460 وكان أعلم الناس بالقضاء، ذا فطنة وذكاء ومعرفة وعقل ورصانة، قال ابن عبد البر: وكان شاعراً محسناً، وهو أحد السادات الطلس، وهم أربعة: عبد الله بن الزبير، وقيس بن سعد بن عبادة، والأحنف بن قيس الذي يضرب به المثل في الحلم، والقاضي شريح المذكور. والأطلس: الذي لا شعر في وجهه. وكان مزاحاً، دخل عليه عدي بن أرطاة فقال له (1) : أين أنت أصلحك الله فقال: بينك وبين الحائط، قال: استمع مني، قال: قل أسمع، قال: إني رجل من أهل الشام، قال: مكان سحيق، قال: تزوجت عندكم، قال: بالرفاء والبنين، قال: وأردت أن أرحلها (2) ، قال: الرجل أحمق بأهله، قال: وشرطت لها دارها، قال: الشرط أملك، قال: فاحكم الآن بيننا، قال: قد فعلت، قال: فعلى من حكمت قال: على ابن أمك، قال: بشهادة من قال: بشهادة ابن أخت خالتك (3) .   (1) العقد 1: 90. (2) ص: ادخل بها. (3) زاد هنا في أما نصه: حدث أبو جعفر المدني عن شيخ من قريش قال: عرض شريح ناقة ليبيعها فقال له المشتري: يا أبا أمية كيف لبنها قال: أحلب في أي إناء شئت، قال: كيف الوطا قال: أفرش ونم، قال: كيف نجاؤها قال: إذا رايتها في الإبل عرفت مكانها، علق سوطك ونم، قال: كيف قوتها قال: أحمل على الحائط ما شئت، فاشتراها فلم ير شيئاً مما وصفها به، قال: ما كذبتك، قال: أقلني، قال: نعم. وقيل تقدم رجلان إلى شريح فاعترف أحدهما بما أدعي عليه وهو لا يعلم بذلك فقضى عليه، فقال الرجل: تقضي علي من غير بينة فقال: قد شهد عندي الثقة، قال: ومن هو قال: ابن أخيك عمك؛ وقد ألم بهذا المعنى أبو عبد الله الحسين بن الحجاج المقدم ذكره في قوله: وإن قدموا خيلهم للركوب ... خرجت فقدمت لي ركبتي وفي جمل الناس غلمانهم ... وليس سوى أنا في جملتي ولا لي غلام فأدعى به ... سوى من أبوه أخو عمتي وقال الأشعث بن قيس لشريح: ما أشد ما ارتفعت! قال: فهل ضرك ذلك قال: لا، قال: فأراك تعرف نعمة الله عليك وتجهلها في نفسك. وحدث محمد بن سعد عن عامر الشعبي أن ابناً لشريح قال لأبيه: إن بيني وبين قوم خصومة فانظر فإن كان الحق لي خاصمت وإن يكن لي الحق لم أخاصمهم، فقص قصته عليه فقال: انطلق فخاصمهم، فانطلق إليهم فتخاصموا إليه، فقضى على ابنه، فقال له لما رجع إلى أهله: والله لو لم أتقدم إليك لم ألمك، فقال: والله يا بني لأنت أحب إلي من ملء الأرض مثلهم ولكن الله أعز علي منك، خشيت أن أخبرك أن القضاء عليك فتصالحهم ببعض حقهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 461 وروي أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه دخل مع خصم له ذمي إلى القاضي شريح فقام له، فقال: هذا أول جورك، ثم أسند ظهره إلى الجدار وقال: أما إن خصمي لو كان مسلماً لجلست بجنبه. وروي أن علياً رضي الله عنه قال: اجمعوا لي القراء، فاجتمعوا في رحبة المسجد، فقال: إني أوشك أن أفارقكم، فجعل يسائلهم: ما تقولون في كذا ما تقولون في كذا وشريح ساكت، ثم سأله، فلما فرغ منهم قال: اذهب فأنت من أفضل الناس، أو من أفضل العرب. وتزوج شريح امرأة من بني تميم تسمى زينب، فنقم عليها شيئاً فضربها، ثم ندم وقال: رأيت رجالاً يضربون نساءهم ... فشلت يميني يوم أضرب زينبا أأضربها من غير ذنب أتت به ... فما العدل مني ضرب من ليس مذنبا فزينب شمس والنساء كواكب ... إذا طلعت لم تبق منهن كوكبا وهكذا ذكر هذه الحكاية صاحب " العقد " (1) . ويروى أن زياد بن أبيه كتب إلى معاوية (2) : " يا أمير المؤمنين، قد ضبطت لك العراق بشمالي، وفرغت يميني لطاعتك، فولني الحجاز "، فبلغ ذلك عبد الله ابن عمر رضي الله عنهما، وكان مقيماً بمكة، فقال: اللهم اشغل عنا يمين زياد، فأصابه الطاعون في يمينه، فجمع الأطباء واستشارهم، فأشاروا عليه بقطعها، فاستدعى القاضي شريحاً وعرض عليه ما أشار به الأطباء، فقال لهك لك رزق معلوم وأجل مقسوم وإني أكره إن كانت لك مدة أن تعيش في الدنيا بلا يمين،   (1) العقد 5: 290، 6: 94. (2) انظر طرفاً منها في العقد 5: 12. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 462 وإن كان قد دنا أجلك أن تلقى ربك مقطوع اليد فإذا سألك: لم قطعتها قتل: بغضاً في لقائك وفراراً من قضائك. فمات زياد من يومه، فلام الناس شريحاً على منعه من القطع، لبغضهم له، فقال: إنه استشارني والمستشار مؤتمن، ولولا الأمانة في المشورة لوددت أنه قطع يده يوماً ورجله يوماً وسائر جسده يوماً يوماً. [وكتب شريح إلى أخ له هرب من الطاعون: أما عد فإنك أنت الذي بعين من لا يعجزه من طلب ولا يفوته من هرب، والمكان الذي خلفته لم يعجل أمرءاً حمامه ولم يظلمه أيامه، وأنك وإياهم لعلى بساط واحد؛ إن المنتجع من غير ذي قدرة لقريب والسلام. وعن الشعبي قال: شهدت شريحاً وجاءته امرأة تخاصم رجلاً فأرسلت عينيها فبكت، فقلت أنا: ما أظن هذه البائسة إلا مظلومة، فقال: يا شعبي أن إخوة يوسف عليه السلام جاءوا اباهم عشاء يبكون. وسئل شريح عن الحجاج: اكان مؤمناً قال: نعم، بالطاغوت، كافراً بالله تعالى] (1) . وكانت وفاة القاضي شريح سنة سبع وثمانين للهجرة وهو ابن مائة سنة، وقيل سنة اثنتين وثمانين، وقيل سنة ثمان وسبعين، وقيل سنة ثمانين، وقيل سنة تسع وسبعين، وقيل سنة ست وسبعين، وهو ابن مائة وعشرين سنة، وقيل مائة وثماني سنين، رضي الله عنه. والكندي: بكسر الكاف وسكون النون وبعدها دال مهملة، هذه النسبة إلى كندة، وهو ثور بن مرتع بن مالك بن زيد بن كهلان، وقيل ثور بن عفير بن الحارث بن مرة بن أدد، وسمي كندة أباه نعمته: أي كفرها.   (1) زيادة من ص وحدها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 463 291 - (1) القاضي شريط النخعي أبو عبد الله شريك بن عبد الله بن أبي شريك وهو الحارث بن أوس بن الحارث بن الأذهل بن وهبيل بن سعد بن مالك بن النخع النخعي، وبقية النسبة في ترجمة إبراهيم النخعي في أول هذا الكتاب؛ تولى القضاء بالكوفة أيام المهدي، ثم عزله موسى الهادي. [أدرك عمر بن عبد العزيز وسمع أبا أسحاق السبيعي ومنصور بن المعتمر وعبد الملك بن عمير وسماك بن حرب وغيرهم، وروى عند عبد الله بن المبارك وعباد بن العوام ووكيع بن الجراح وغيرهم؛ وكان شريك ولد ببخارى من أرض خراسان، وكان جده قد شهد القادسية] (2) . وكان عالماً فهماً ذكياً فطناً، حكم يوماً على وكيل عبد الله بن مصعب (3) بحكم لم يوافق هوى عبد الله، فالتقى شريط بن عبد الله وعبد الله بن مصعب بحضرة المهدي فقال عبد الله بن مصعب لشريك: ما حكمت على وكيلي بالحق، قال: ومن أنت قال: من لا ينكر. قال: قد نكرتك أشد النكير، قال: أنا عبد الله بن مصعب، قال: لا كبير ولا طيب، قال: وكيف لا تقول ذلك وأنت تنتقص الشيخين! قال: ومن الشيخان قال: أبو بكر وعمر رضي الله   (1) ترجمة القاضي شريك في تاريخ بغداد 9: 279 وطبقات الشيرازي، الورقة: 23 وتذكرة الحفاظ: 232 وميزان الاعتدال 2: 270 والبداية والنهاية 10: 171 والمعارف: 508 ورجال ابن حبان: 170، وله أخبار في العقد (ج 2، 4) . (2) زيادة من ص وحدها. (3) هو عبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير والد مؤلف " نسب قريش "، صحب المهدي ومن بعده الهادي والرشيد وتوفي سنة 184 بالرقة، وكان المهدي استعمله على اليمامة واستعمله الرشيد على المدينة ثم على اليمن (نسب قريش: 242 وجمهرة الزبير بن بكار: 124 - 156) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 464 عنهما، قال: والله ما أتنقص جدك وهو دونهما فكيف أتنقصهما (1) . وذكر معاوية بن أبي سفيان عنده ووصف بالحلم، فقال شريك: ليس بحليم من سفه الحق وقاتل علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وخرج شريط يوماً إلى أصحاب الحديث ليسمعوا عليه، فشموا منه رائحة النبيذ، فقالوا له: لو كانت هذه الرائحة منا لاستحيينا، فقال: لأنكم أهل ريبة. ودخل يوماً على المهدي فقال له: لابد أن تجيبني إلى خصلة من ثلاث خصال، قال: وما هن يا أمير المؤمنين قال: إما أن تلي القضاء أو تحدث ولدي وتعلمهم أو تأكل عندي أكلة، وذلك قبل أن يلي القضاء، فأفكر ساعة ثم قال: الأكلة أخفها على نفسي، فأجلسه وتقدم إلى الطباخ أن يصلح له ألواناً من المخ المعقود بالسكر الطبرزذ والعسل وغير ذلك، فعمل ذلك وقدمه إليه فأكل، فلما فرغ من الأكل قال له الطباخ: والله يا أمير المؤمنين ليس يفلح الشيخ بعد هذهالأكلة أبداً؛ قال الفضل بن الربيع: فحدثهم والله شريك بعد ذلك، وعلم أولادهم وولي القضاء لهم. ولقد كتب له برزقه على الصيرفي فضايقه في النقد، فقال له الصيرفي: إنك لم تبع به بزاً، فقال له شريك: بل والله بعت أكثر من البز، بعت به ديني. [وقال يحيى بن اليمان (2) : لما ولي شريك القضاء أكره على ذلك وأقعد معه جماعة من الشرط يحفظونه، ثم طاب للشيخ فقعد من نفسه، فبلغ سفيان الثوري أنه قعد من نفسه فجاء فتراءى له، فلما رأى الثوري قام إليه فعظمه وأكرمه ثم قال: يا أبا عبد الله، هل من حاجة قال: نعم، مسألة، قال: أو ليس عندك من العلم ما يجزئك قال: أحببت أن أذكرك بها، قال: قل،   (1) وردت هذه الفقرة موجزة كثيراً في ر والمسودة، وهي موافقة لما في تاريخ بغداد: 287، وفي المسودة: " جرى بينه وبين مصعب بن عبد الله الزبيري كلام بحضرة المهدي فقال له مصعب: أنت تتنقص أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، فقال القاضي شريك ... دونهما ". (2) قارن بما في تاريخ بغداد: 286. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 465 قال: ما تقول في امرأة جاءت فجلست على باب رجل فاحتملها ففجر بها، لمن تحد منهما فقال: الرجل دونها لأنها مغصوبة، قال: فإنه لما كان من الغد جاءت فتزينت وتبخرت وجلست على ذلك الباب ففتح الرجل فرآها فاحتملها ففجر بها، لمم تحد قال: أحدهما جميعاً لأنها جاءت من نفسها وقد علمت الخبر بالأمس، قال: أنت كان عذرك حين كان الشرط يحفظونك؛ اليوم أي عذر لك قال: يا أبا عبد الله، أكلمك، قال: ما كان الله ليراني أكلمك أو تتوب قال: ووثب فلم يكلمه حتى مات؛ وكان إذا ذكره قال: أي رجل كان لو لم يفسدوه. واجتمع شريط ويحيى بن عبد الله بن الحسن البصري في دار الرشيد، فقال يحيى لشريك: ما تقول في النبيذ قال: حلال، قال: شربه خير أم تركه قال: بل شربه، قال: قليله خير أم كثيره قال: بل قليله؛ قال يحيى: ما رأيت خيراً قط إلا والازدياد منه خير إلا خيرك هذا، فإن قليله خير من كثيره. وروى صالح بن علي قال: كنت مع المهدي فدخل عليه شريك بن عبد الله فأراد أن يبخره، فقال لخادم على رأسه: هات عوداً للقاضي، فجاء الخادم بالعود الذي يلهى به فوضعه في حجر شريك، فقال شريك: ما هذا يا أمير المؤمنين قال: هذا أخذه صاحب العسس البارحة فأحببت أن يكون كسره على يد القاضي، فقال: جزاك الله يا أمير المؤمنين [خيراً] ، فكسره. ثم أفاضوا في حديث حتى نسي الأمر ثم قال المهدي لشريك: ما تقول في رجل أمر وكيلاً له أن يأتي بشيء بعينه فأتى بغيره فتلف ذلك الشيء فقال: يضمن يا أمير المؤمنين، فقال للخادم: اضمن ما تلف بقيمته. وكان شريك يشاحن الربيع صاحب شرطة المهدي، فكان يحمل المهدي عليه، فدخل شريك يوماً على المهدي فقال له المهدي: بلغني أنك ولدت في قوصرة، قال: يا أمير المؤمنين، ولدت بخراسان والقواصر هناك عزيزة، قال: إني لأراك فاطمياً خبيثاً، قال: والله إني لأحب فاطمة، وأبا فاطمة صلى الله عليه وسلم، قال: وأنا والله أحبهما، ولكني رأيتك في منامي مصروفاً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 466 وجهك عني، وما ذاك إلا لبغضك لنا، وما أراني إلا قاتلك لأنك زنديق، قال: يا أمير المؤمنين إن الدماء لا تسفك بالأحلام، وليست رؤياك رؤيا يوسف عليه السلام؛ وأما قولك إني زنديق فإن للزنادقة علامة يعرفون بها، قال: وما هي قال: شرب الخمور والضرب بالطنبور، قال: صدقت أبا عبد الله، وأنت خير من الذي حملني عليك. قال مصعب بن عبد الله الزبيري: حدثني أبي قال (1) : دخل شريك على المهدي فقال له: ما ينبغي أن تقلد الحكم بين المسلمين، قال: ولم قال: لخلافك على الجماعة وقولك بالإمامة، فقال: أما قولك: لخلافك على الجماعة، فمن الجماعة أخذت ديني، فكيف أخالفهم وهم أصل ديني، وأما قولك: وقولك بالإمامة، فما أعرف إلا كتاب الله عز وجل وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وأما قولك: مثلك لا يقلد الحكم بين المسلمين، فهذا شيء أنتم فعلتموه، فإن كان خطأ فلتستغفروا الله منه، وإن كان صواباً فامسكوا عليه. قال: ما تقول في علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: ما قال فيه جدك العباس وعبد الله، قال: وما قالا فيه قال: أما العباس فمات وعلي عنده أفضل الصحابة، وقد كان يرى كبراء المهاجرين يسألونه عما ينزل من النوازل وما احتاج إلى أحد حتى لحق بالله. وأما عبد الله فإنه كان يضرب بين يديه بسيفين، وكان في حروبه رأساً متبعاً وقائداً مطاعاً، فلو كانت إمامة علي جوراً لكان أول من يقعد عنها أبوك لعلمه بدين الله وفقهه في أحكام الله. فسكت المهدي وأطرق، ولم يمض بعد هذا المجلس إلا قليل حتى عزل شريك. وقال عبد الله العجلي (2) : قدم هارون الكوفة فعزل شريكاً عن القضاء، وكان موسى بن عيسى والياً على الكوفة، فقال موسى لشريك: ما صنع أمير المؤمنين بأحد ما صنع بك: عزلك عن القضاء، قال له شريك: هم أمراء المؤمنين يعزلون الولاة ويخلعون ولاة العهود فلا يعاب ذلك عليهم، فقال موسى: ما ظننت أنه مجنون هكذا لا يبالي ما تكلم به، وكان أبوه عيسى بن   (1) تاريخ بغداد: 292. (2) المصدر نفسه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 467 موسى ولي العهد بعد أبي جعفر فخلعه أبو جعفر] (1) . وحكى الحريري في كتاب " درة الغواص " (2) أنه كان لشريك المذكور جليس من بني أمية، فذكر شريك في بعض الأيام فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنهن فقال ذلك الأموي: نعم الرجل علي، فأغضبه ذلك وقال: ألعي يقال نعم الرجل (3) فأمسك حتى سكن غضبه ثم قال: يا أبا عبد الله ألم يقل الله تعالى في الإخبار عن نفسه: (فقدرنا فنعم القادرون) ، وقال في أيوب: (إنا وجدناه صابراً نعم العبد إنه أواب) ، وقال في سليمان: (ووهبنا لداود سليمان نعم العبد) ، فلا ترضى لعلي بما رضي الله به لنفسه ولأنبيائه فتنبه شريك عند ذلك لوهمه، وزادت مكانة ذلك الأموي من قلبه. وكان عادلاً في قضائه كثير الصواب حاضر الجواب، قال له رجل يوماً: ما تقول فيمن أراد أن يقنت في الصبح قبل الركوع فقنت بعده فقال: هذا أراد أن يخطئ فأصاب. وكان مولده ببخارى سنة خمس وتسعين للهجرة، وتولى القضاء بالكوفة ثم بالأهواز، وتوفي يوم السبت مستهل ذي القعدة سنة سبع وسبعين ومائة بالكوفة، وقال خليفة بن خياط: مات سنة سبع أو ثمان وسبعين ومائة، رحمه الله تعالى. وكان هارون الرشيد بالحيرة، فقصده ليصلي عليه فوجدهم قد صلوا عليه، فرجع. والنخعي: بفتح النون والخاء المعجمة وبعدها عين مهملة، هذه النسبة إلى النخع، وهي قبيلة كبيرة من مذحج. قلت: هكذا وجدت نسبه في " جمهرة النسب " لابن الكلبي، ثم وجدت في نسخة أخرى " ابن أبي شريك أوس بن الحارث بن ذهل بن وهبيل "، والله أعلم بالصواب.   (1) كل ما بين معقفين زيادة من ص. (2) انظر ص: 145. (3) زاد في أ: ولا يزاد على ذلك، ولم ترد العبارة في درة الغواص. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 468 292 - (1) شعبة بن الحجاج أبو بسطام شعبة بن الحجاج بن الورد مولى الأشاقر؛ واسطي الأصل بصري الدار، رأى الحسن ومحمد بن سيرين وسمع قتادة ويونس بن عبيد وأيوب خالداً الحذاء وعبد الملك بن عمير وأبا اسحاق السبيعي وطلحة بن مصرف وخلقاً غيرهم من طبقتهم؛ روى عنه أيوب السختياني والأعمش ومحمد بن اسحاق وإبراهيم بن سعد وسفيان الثوري وشريك بن عبد الله وسفيان بن عيينة وغيرهم. قدم شعبة بغداد مرتين وكان قدومه إحدى المرتين بسبب أخ له كان قد حبس في دين كان عليه، فجاء إلى المهدي في شأن أخيه. فقال سفيان الثوري: هوذا شعبة قد جاء إليهم، فبلغ شعبة فقال: هو لم يحبس أخوه. وكان أخوه اشترى طعاماً من طعام السلطان، فخسر هو وشركاؤه، فحبس بستة آلاف دينار بحصته، فلما دخل شعبة على المهدي قال لهك يا أمير المؤمنين، أنشدني قتادة لأمية بن أبي الصلت بقول لعبد الله بن جدعان: أأذكر حاجتي أم قد كفاني ... حياؤك ان شيمتك الحياء كريم لا يعطله صباح ... عن الخلق الكريم ولا مساء فأرض أرض مكرمة بنوها ... بنو تيم وأنت لهم سماء فقال المهدي: لا يا أبا بسطام، لا تذكرها، قد عرفناها وقضيناها لك؛ ادفعوا إليه أخاه ولا تلزموه شيئاً، ووهب له ثلاثين ألف درهم فقسمها، وأقطعه ألف جريب بالبصرة، فقدم فلم يجد شيئاً يطيب له فتركها.   (1) انظر ترجمته في تاريخ بغداد 9: 255 وتذكرة الحفاظ: 193 وتهذيب التهذيب 4: 338 وابن سعد 7: 280 وعبر الذهبي 1: 234 ورجال ابن حبان: 177، وانظر ما ورد عنه في ترجمة أبي زيد الأنصاري من هذا الكتاب؛ وقد انفردت بهذه الترجمة النسخة ص. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 469 وقال النضر بن شميل: ما رأيت أرحم بمسكين من شعبة؛ كان إذا رأى المسكين لا يزال ينظر إليه حتى يعطى. وكان يقول: والله لأنا في الشعر اسلم مني في الحديث، ولو أردت الله لما خرجت إليكم، ولو أردتم الله ما حييتموني، ولكنا نحب المدح ونكره الذم. ركب شعبة يوماً حماره فلقيه سليمان بن المغيرة فشكا إليه الفقر والحاجة، فقال: والله ما أملك غير هذا الحمار، ثم نزل عنه ودفعه إليه فابتيع بستة عشر درهماً. توفي بالبصرة سنة ستين ومائة وهو ابن خمس وسبعين سنة (1) ، رحمه الله تعالى. 293 - (2) شعيب بن حرب أبو صالح شعيب بن حرب المدائني، وهو من أبناء خراسان، سمع شعبة وسفيان الثوري وزهير بن معاوية وغيرهم، روى عنه موسى بن داود الضبي ويحيى بن أيوب المقابري وأحمد بن حنبل وغيرهم. وكان أحد المذكورين بالعبادة والصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. قال شعيب بن حرب: بينا أنا في طريق مكة إذ رأيت هارون الرشيد، فقلت لنفسي: قد وجب عليك الأمر والنهي، فقالت لي: لا تفعل فإن هذا رجل جبار ومتى أمرته ضرب عنقك، فقلت لنفسي: لابد من ذلك. فلما دنا مني صحت: يا هارون قد أتعبت الأمة وأتعبت البهائم، فقال: خذوه، ثم أدخلت عليه وهو على كرسي بيده عمود يلعب به فقال: ممن الرجل   (1) تاريخ بغداد: وهو ابن سبع وسبعين. (2) انظر ترجمته في تهذيب التهذيب 4: 350 وتاريخ بغداد 9: 239 وعبر الذهبي 1: 323 والعقد الثمين 5: 11، وقد انفردت بهذه الترجمة النسخة ص، والنص متابه لما عند الخطيب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 470 قلت: من أفناء الناس، فقال: ممن ثكلتك أمك! قلت: من الأبناء. قال: ما حملك على أن تدعوني باسمي قال شعيب: فورد على قلبي كلمة ما خطرت لي قط على بال، فقلت له: أنا أدعو الله باسمه فأقول يا الله يا رحمن، لا أدعوك باسمك وما ينكر من دعائي باسمك وقد رأيت الله تعالى سمى في كتابه أحب الخلق إليه محمداً وكنى أبغض الخلق إليه أبا لهب، فقال: (تبت يدا أبي لهب) . فقال: أخرجوه، فأخرجت. وكان يقول: من أراد الدنيا فليتهيأ للذل. وأراد أن يتزوج امرأة، فقال لها: أنا سيء الخلق، قالت: أسوأ منك خلقاً من أحوجك أن تكون سيء الخلق، فقال لها: أنت إذاً امرأتي. قال سري السقطي رحمه الله تعالى: أربعة كانوا في الدنيا أعملوا أنفسهم في طلب الحلال، فلم يدخلوا أجوافهم إلا الحلال، فقيل له: من هم قال: وهيب بن الورد وشعيب بن حرب ويوسف بن أسباط وسليمان الخواص. قال شعيب: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم ومعه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، فجئت، فقال: أوسعوا له فإنه حافظ لكتاب الله عز وجل. وقال شعيب: أكلت في عشرة أيام أكلة وشربت شربة. وكان ثقة مأموناً، مات بمكة سنة تسع وتسعين ومائة، رحمه الله تعالى. 294 - (1) أشعب الطامع واسمه شعيب واسم أبيه جبير؛ قال الحافظ أبو الفرج ابن الجوزي في " المنتظم ": ولد أشعب سنة تسع من الهجرة، وكان أشعب خال الأصمعي،   (1) ترجمة أشعب في تهذيب ابن عساكر 3: 75 وميزان الاعتدال 1: 258 وتاريخ بغداد 7: 37 والفوات 1: 37 والمحاسن والمساوئ: 597 والأغاني 19: 69 وأخبار الظرفاء: 31 وثمار القلوب: 150، وهذه الترجمة انفردت بها ص، ووردت في طبعة وستنفيلد مع اختلاف في الترتيب وعدد النوادر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 471 وفي اسم أمه ثلاثة أقوال: أحدها جعدة مولاة أسماء بنت أبي بكر الصديق، رضي الله عنهما، والثاني أم حميدة - بضم الحاء - والثالث أم حميدة - بفتح الحاء -. اتفقوا أنه مولى واختلفوا في ولائه على أربعة أقوال: أحدها لعثمان رضي الله عنه والثاني عبد الله بن الزبير والثالث سعيد بن العاص والرابع فاطمة بنت الحسين. عمر دهراً طويلاً، وكان قد أدرك زمن عثمان رضي الله عنه، وقرأ القرآن وتنسك. روى عن عبد الله بن جعفر والقاسم بن محمد وسالم بن عبد الله وعكرمة، وله أخبار طريفة: من ذلك ما حكى العباس بن نسيم الكاتب قال (1) : قيل لأشعب: طلبت العلم وجالست الناس فلو جلست لنا لسمعنا منك، فقال: نعم، فجلس لهم فقالوا: حدثنا، فقال: سمعت عكرمة يقول سمعت بن عباس يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: خلتان لا تجتمعان في مؤمن، ثم سكت فقالوا: ما الخلتان فقال: نسي عكرمة واحدة ونسيت أنا الأخرى. وحدثنا الزبير بن بكار قال: قال الواقدي (2) : لقيت أشعب يوماً فقال لي: يا ابن واقد وجدت ديناراً فكيف اصنع به قلت: تعرفه، قال: سبحان الله، قلت: فما الرأي قال: اشتري به قميصاً وأعرفه، قلت: إذن لا يعرفه أحد، قال: فذاك أريد. وقال الهيثم بن عيد: أسلمته فاطمة بنت الحسين في البزازين فقيل له: أين بلغت من معرفة البز فقال: أحسن النشر ولا أحسن أطوي وأرجو أن أتعلم الطي. ومر برجل يتخذ طبقاً فقال: اجعله واسعاً لعلهم يهدون إلينا فيه فيكون كبيراً خيراً من أن يكون صغيراً.   (1) تاريخ بغداد: 39 وابن عساكر: 76 وميزان الاعتدال: 259. (2) ميزان الاعتدال: 260 وأخبار الظرفاء: 31. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 472 وخرج سالم بن عبد الله (1) إلى ناحية من نواحي المدينة متنزهاً ومعه حرم. فبلغ أشعب خبره فوافى الموضع الذي هم فيه فصادف الباب مغلقاً فتسور الحائط فقال له سالم: ويحك بناتي وحرمي، فقال: (لقد علمت ما لنا في بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد) ، فوجه إليه بطعام أكل منه وحمل إلى منزله. وقال سليمان الشاذكوني: كان لي بني في المكتب فانصرف إلي يوماً فقال: يا أبه الا أحدثك بطريف فقال: هات، فقال: كنت أقرأ على المعلم أن أبي يدعوك وأشعب الطامع عنده جالس، فلبس نعله وقال: امش بين يدي، فقلت: إنما أقرأ عشري، فقال: عجبت أن تفلح أو يفلح أبوك. وحكى الحسن بن علي الخلال عن أبي عاصم النبيل قال: سمعت أشعب يقول: ما زفت بالمدينة امرأة قط إلى زوجها إلا كنست بيتي ورفعت ستري طمعاً في أن تهدي إلي. وقيل لأشعب: هل رأيت أطمع منك قال: نعم، شاة كانت لي على سطح فنظرت إلى قوس قزح فظنته حبل قت فأهوت إليه واثبة من السطح فاندق عنقها. وقدم على يزيد بن حاتم مصر فجلس في مجلسه من الناس، فدعا يزيد بعض غلمانه وأسر له بشيء، فقام أشعب فقبل يده، فقال له: ولم فعلت هذا قال: رأيتك أسررت إلى غلامك بشيء فعلمت أنك قد أمرت لي بصلة، فضحك منه وقال: ما فعلت ولكني أفعل، وأمر له بصلة. وحكى المدائني قال: تغدى أشعب مع زياد بن عبيد الله الحارثي فجاءوه بمضيرة فقال أشعب للخبازك ضعها بين يدي، فوضعها بين يديه، فقال زياد: من يصلي بأهل السجن قالوا: ليس لهم إمام، فقال: أدخلوا أشعب يصلي بهم، قال: أو غير ذلك أصلح الله الأمير أحلف لا آكل مضيرة أبداً. وحكى المدائني قال: أتي أشعب بفالوذجة عند بعض الولاة فأكل منها فلم   (1) ابن عساكر: 77. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 473 توافقه، فقيل له: كيف تراها يا أشعب قال: امرأته طالق إن لم تكن عملت من قبل أن يوحي الله إلى النحل. وحكى المدائني عن حبهم بن خلف قال: حدثني رجل قال: قلت لأشعب: لو تحدثت عندي العشية، قال: أكره أن يجيء ثقيل، قلت: ليس غيرك وغيري، قال: فإذا صليت الظهر فأنا عندك، فصلى وجاء، فلما وضعت الجاية الطعام إذا صديق لي يدق الباب، قال: ألا ترى قد صرت إلى ما أكره، قلت: إن لك عندي فيه عشر خصال، قال: فما هي قلت: أولها أنه لا يأكل مع ضيف، قال: التسع خصال لك، أدخله. ووجدت في بعض الكتب عن المدائني قال: توضأ أشعب فغسل رجله اليسرى وترك اليمنى، فقيل له: تركت غسل اليمنى، فقال: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أمتي غر محجلون من آثار الوضوء، وأنا أحب أن أكون أغر محجلاً من الثلاث مطلق اليمين. وحكى الهيثم بن عدي قال: لقيت أشعب فقلت لهك كيف ترى أهل زمانك هذا قال: يسألون عن أحاديث الملوك ويعطون عطاء العبيد. وحكى المدائني قال: بعث الوليد بن يزيد إلى أشعب بعدما طلق امرأته سعدى، فقال له: يا أشعب أن لك عندي عشرة آلاف درهم على أن تبلغ رسالتي سعدى، فقال له: أحضر المال حتى أنظر إليه، فأحضر الوليد بدرة فوضعها أشعب على عنقه وقال: هات رسالتك يا أمير المؤمنين، قال: قل لها: يقول لك: أسعدى هل إليك لنا سبيل ... وهل حتى القيامة من تلاق بلى ولعل دهراً أن يواتي ... بموت من حليلك أو طلاق فأصبح شامتاً وتقر عيني ... ويجمع شملنا بعد افتراق قال: فأتى أشعب الباب فأخبرت بمكانه فأمرت ففرش لها فرش وجلست فأذنت له فدخل فأنشدها ما أمره، فقالت لخدمها: خذوا الفاسق، فقال: يا سيدتي إنها بعشرة آلاف درهم، قالت: والله لأقتلنك أو تبلغه كما تبلغني، قال: هاتي رسالتك جعلت فداك، قالت: قل له: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 474 أتبكي على لبنى وأنت تركتها ... وقد ذهبت لبنى فما أنت صانع فأقبل أشعب فدخل على الوليد فأنشده البيت فقال: أوه! قتلتني والله، ما تراني صانعاً بك يا ابن الزانية اختر إما أن أدليك في البئر منكساً أو أرمي بك من فوق القصر منكساً أو أضرب رأسك بعمودي هذا ضربة، فقال: ما كنت فاعلاً بي شيئاً من ذلك، قال: ولم قال: لأنك لم تكن لتعذب عينين قد نظرنا إلى سعدى، قال: صدقت يا ابن الزانية، اخرج عني. قال الزبير: حدثني مصعب قال، قال لي ابن كليب: حدثت أشعب مرة فبكى فقلت: ما يبكيك قال: أنا بمنزلة شجرة الموز إذا نشأت ابنتها قطعت هي، وقد نشأت أنت في موالي وأنا الآن أموت وأنا أبكي على نفسي. وكان أشعب يغني وله أصوات قد حكيت عنه وكان ابنه عبيدة يغنيها، فمن اصواته هذه: أروني من يقوم لكم مقامي ... إذا ما الأمر جل عن الخطاب إلى من تفزعون إذا حثوتم ... بأيديكم علي من التراب 295 (1) شقيق البلخي أبو علي شقيق بن إبراهيم البخلي؛ من مشايخ خراسان، له لسان في التوكل حسن الكلام فيه، صاحب إبراهيم بن أدهم وأخذ عنه الطريق، وهو أستاذ   (1) ترجمة شقيق البلخي في حلية الأولياء 8: 58 وتهذيب ابن عساكر 6: 327 وميزان الاعتدال 2: 279 وطبقات السلمي: 61؛ وقد سقطت الترجمة من س ص ر م ووردت في المطبوعة فقط؛ وعلى هامش المسودة إشارة تدل على إن المؤلف كان ينوي إثباتها إذ جاء هنالك: " يذكر بعد شريك: شقيق البلخي وكانت وفاته سنة ثلاث وخمسين ومائة، ذكره ابن الجوزي في الشذور ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 475 حاتم الأصم، وكان قد خرج إلى بلاد الترك للتجارة وهو حدث، فدخل إلى بيت أصنامهم، فقال لعالمهم: إن هذا الذي أنت فيه باطل، ولهذا الخلق خالق ليس كمثله شيء رازق كل شيء، فقال له: ليس يوافق قولك فعلك، فقال له شقيق: كيف قال: زعمت أن لك خالقاً قادراً على كل شيء وقد تعنيت إلى ها هنا لطلب الرزق، قال شقيقك فكان سبب زهدي كلام التركي، فرجع وتصدق بجميع ما يملك، وطلب العلم. وكانت وفاته سنة ثلاث وخمسين ومائة، رحمه الله تعالى. ذكره ابن الجوزي في " الشذور ". 296 - (1) شقيق بن سلمة أبو وائل شقيق بن سلمة الأسدي؛ أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يلقه، وسمع عمر بن الخطاب وعثمان وعلياً وعماراً وعبد الله بن مسعود وخباب ابن الأرت وأبا موسى الأشعري وأسامة بن زيد وحذيفة بن اليمان وابن عمر وابن عباس وجرير بن عبد الله وأبا مسعود الأنصاري والمغيرة بن شعبة رضي الله عنهم اجمعين، وروى عنه منصور بن المعتمر والحكم بن عبة وحبيب بن أبي ثابت وغيرهم. وكان ممن سكن الكوفة وورد المدائن مع علي رضي الله عنه حين قاتل الخوارج بالنهروان؛ قيل له: من أدركت قال: بينا أنا أرعى غنماً لأهلي إذ مر ركب أو فوارس ففرقوا غنمي، فوقف رجل فقال: اجمعوا للغلام غنمه كما فرقتموها عليه، فتبعت رجلاً منهم فقلت: من هذا قال: النبي صلى الله عليه وسلم. وقال الأعمش: قال لي شقيقق بن سلمة: لو رأيتني ونحن هراب من خالد بن   (1) شقيق بن سلمة أبو وائل الأسدي الكوفي شيخ الكوفة وعالمها مخضوم جليل، توفي سنة 82هـ. انظر ابن سعد 6: 180 وتذكرة الحفاظ: 60؛ وقد انفردت النسخة ص بهذه الترجمة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 476 الوليد يو بزاخة فوقعت عن البعير فكادت تندق عنقي، فلو مت يومئذ كانت النار؛ وقال: كنت يومئذ ابن إحدى عشرة سنة. وكان لأبي وائل خص من قصب هو فيه وفرسه. وكان إذا غزا نقضه وإذا قدم بناه. وكان يقول للأعمش: يا سليمان، نعم الرب ربنا لو أطعناه ما عصيناه. وقال أيضاً: أسمع الناس يقولون الدانق والقيراط، الدانق أكبر أو القيراط وقال سعيد بن صالح: كان أبو وائل يؤم جنائزنا وهو ابن خمسين ومائة سنة ... 297 - (1) شهدة بنت الإبري فخر النساء شهدة بنت أبي نصر أحمد بن الفرج بن عمر الإبري الكاتبة الدينورية الأصل البغدادية المولد والوفاة؛ كانت من العلماء، وكتبت الخط الجيد وسمع عليها خلق كثير، وكان لها المساع العالي ألحقت فيه الأصاغر بالأكابر؛ سمعت من أبي الخطاب نصر بن أحمد بن البطر وأبي عبد الله الحسين ابن أحمد بن طلحة النعالي وطراد بن محمد الزينبي وغيرهم مثل أبي الحسن علي ابن الحسين بن أيوب وأبي الحسين أحمد بن عبد القادر بن يوسف وفخر الإسلام أبي بكر محمد بن أحمد الشاشي (2) واشتهر ذكرها وبعد صيتها. وكانت وفاتها يوم الأحد بعد العصر ثالث عشر المحرم سنة أربع وسبعين وخمسمائة، ودفنت بباب أبرز وقد نيفت على تسعين سنة من عمرها، رحمها الله تعالى. والإبري: بكسر الهمزة وفتح الباء الموحدة وبعد ياء مثناة من تحتها،   (1) ترجمة شهدة الكاتبة في مرآة الزمان: 353 وعبر الذهبي 4: 220 والشذرات 4: 248 ونزهة الجلساء: 61؛ قلت: وقد وردت هذه الترجمة مطابقة لما في المسودة. (2) سمعت .... الشاشي: سقط من س، وبعضه سقط من ص. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 477 هذه النسبة إلى الإبر التي هي جمع إبرة التي يخاط بها، وكان المنسوب إليها يعلمها أو يبيعها. والدينورية: بكسر الدال المهملة وسكون الياء المثناة من تحتها وفتح النون والواو وفي آخرها راء، هذه النسبة إلى الدينور، وهي بلدة من بلاد الجبل ينسب إليها جماعة من العلماء، وقال أبو سعد ابن السمعاني: إن الدال من الدينور مفتوحة، والأصح الكسر كما ذكرناه. (56) ومات والدها أبو نصر أحمد في يوم السبت الثالث والعشرين من جمادى الأولى سنة ست وخمسمائة رحمه الله تعالى، وكانت وفاته ببغداد ودفن بباب أبرز. (57) وذكر ابن النجار في " تاريخ بغداد " علي بن محمد بن يحيى أبا الحسن الدريني المعروف بثقة الدولة ابن الأنباري فقال: كان من الأماثل والأعيان، واختص بالإمام المقتفي لأمر الله، وكان فيه أدب ويقول الشعر، وبنى مدرسة لأصحاف الشافعي على شاطئ دجلة بباب الأزج وإلى جانبها رباطاً للصوفية ووقف عليهما وقوفاً حسنة، وسمع الحديث؛ قال السمعاني: كان يخدم أبا نصر أحمد بن الفرج الإبري وزوجه بنته شهدة الكاتبة، ثم علت درجته إلى أن صار خصيصاً بالمقتفي. مولده سنة خمس وسبعين وأربعائة، وتوفي يوم الثلاثاء سادس عشر شعبان سنة تسع وأربعين وخمسمائة، ودفن في داره برحبة الجامع، ثم نقل بعد موت زوجته شهدة فدفنا بباب أبرز قريباً من المدرسة التاجية في محرم سنة اربع وسبعين وخمسمائة (1) .   (1) وذكر ... وخمسمائة: سقط من س. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 478 298 - (1) أسد الدين شيركوه أبو الحارث شيركوه بن شاذي بن مروان الملقب الملك المنصور أسد الدين عم السلطان صلاح الدين رحمه الله تعالى؛ قد تقدم من حديثه نبذة في أخبار شاور، وكان شاور قد وصل إلى الشام يستنجد بنور الدين في سنة تسع وخمسين وخمسمائة. وذكر بهاء الدين بن شداد أن ذلك كان في سنة ثمان وخمسين، وأنهم وصلوا إلى مصر في الثاني من جمادى الآخرة من السنة المذكورة، حكاه في " سيرة صلاح الدين " (2) رحمه الله تعالى، فسير معه جماعة من عسكره، وجعل مقدمهم أسد الدين شيركوه، وقدموا مصر، وغدر بهم شاور ولم يف بما وعدهم به، فعادوا إلى دمشق (3) ، وكان رحيلهم عن مصر في السابع من ذي الحجة من السنة المذكورة. ثم إنه عاد إلى مصر، وكان توجهه إليها في شهر ربيع الول من سنة اثنتين وستين، لأنه طمع في ملكها في الدفعة الأولى، وسلك طريق وادي الغزلان، وخرج عند إطفيح، وكانت في تلك الدفعة وقعة البابين عند الأشمونين، وتوجه السلطان صلاح الدين إلى الإسكندرية واحتمى بها، وحاصره شاور وعسكر مصر. ثم رجع أسد الدين من الصعيد إلى بلبيس، وجرى الصلح بينه وبين المصريين، وسيروا له صلاح الدين، وعاد إلى الشام، ولما وصل الفرنج إلى بلبيس وملكوها وقتلوا أهلها في سنة أربع وستين، سيروا إلى أسد الدين   (1) ترجمة شيركوه وأخباره في ابن عساكر 6: 358 وتاريخ ابن خلدون 5: 283 وصفحات متفرقة من ابن الأثير والنجوم الزاهرة (ج: 5) ومفرج الكروب (ج: 1) وسيرة ابن شداد، وهذه الترجمة متابعة للنسخة ر. (2) انظر ابن شداد: 29. (3) س: طريق دمشق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 479 وطلبوه ومنوه ودخلوا في مرضاته لأن ينجدهم، فمضى إليهم وطرد الفرنج عنهم. وكان وصوله إلى مصر في شهر ربيع الأول من السنة المذكورة، وعزم شاور على قتله وقتل الأمراء الكبار الذين معه، فبادروه وقتلوه كما تقدم في ترجمته. وتولى أسد الدين الوزارة يوم الأربعاء سابع عشر شهر ربيع الآخر سنة أربع وستين وخمسمائة، وأقام بها شهرين وخمسة أيام، ثم توفي فجأة يوم السبت الثاني والعشرين، وقال الروحي: يوم الأحد الثالث والعشرين من جمادى الآخرة سنة أربع وستين وخمسمائة بالقاهرة، ودفن بها، ثم نقل إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم بعد مدة بوصية منه، رحمه الله تعالى، وتولى مكانه صلاح الدين. وقال ابن شداد في " سيرة صلاح الدين " (1) : إن أسد الدين كان كثير الأكل، شديد المواظبة على تناول اللحوم الغليظة، تتواتر عليه التخم والخوانيق وينجو منها بعد مقاساة شدة عظيمة، فأخذه مرض شديد، واعتراه خانوق عظيم فقتله في التاريخ المذكور (2) ، ولم يخلف ولداً سوى ناصر الدين محمد بن شيركوه الملقب الملك القاهر. (58) ولما مات أسد الدين أخذ نور الدين حمص منهم في رجب سنة أربع وستين وخمسمائة. فلما ملك صلاح الدين الشام أعطى حمص لناصر الدين المذكور، ولم يزل ملكها حتى توي يوم عرفة سنة إحدى وثمانين وخمسمائة ونقلته زوجته بنت عمه ست الشام بنت أيوب إلى تربتها بمدرستها بدمشق ظاهر البلدن ودفنته عند أخيها شمس الدولة توران شاه بن أيوب المقدم ذكره. (59) وملك حمص بعده ولده أسد الدين شيركوه، ومولده في سنة تسع وستين وخمسمائة، وتوفي يوم الثلاثاء تاسع عشر شهر رجب سنة سبع وثلاثين وستمائة بحمص، ودفن في تربته داخل البلد (3) . وكانت له أيضاً الرحبة وتدمر   (1) سيرة ابن شداد: 32. (2) إلى هنا تنتهي ترجمة شيركوه في النسخة س. (3) إلى هنا تنتهي ترجمة شيركوه في النسخة ص والمسودة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 480 وماكسين من بلد الخابور. (60) وخلف جماعة من الأولاد، فقام مقامه في الملك ولده الملك المنصور ناصر الدين إبراهيم. ولم يزل حتى توفي يوم الجمعة عاشر صفر سنة أربع وأربعين وستمائة بالنيرب من غوطة دمشق، ونقل إلى حمص، ودفن ظاهر البلد في مسجد الخضر عليه السلام من جههتها القبلية. (61) وترتب مكانه ولده الملك الأشرف مظفر الدولة أبو الفتح موسى. وأخبرني الأشرف المذكور بدمشق في أواخر سنة إحدة وستين وستمائة أن مولده في السنة التي كسر فيها الخوارزمية بالروم، وأن والده بشر به وهم راجعون من هناك. وكانت الوقعة في شهر رمضان سنة سبع وعشرين وستمائة حسبما هو مشروح في ترجمة الأشرف بن العادل وقال لي: إن والده لما بشر به قال للملك الأشرف بن العادل: يا خوند قد زاد في مماليكك واحد، فقال: سمه باسمي، فسماه الأشرف مظفر الدين أبا الفتح موسى. وكانت وفاة الأشرف بن المنصور المذكور بحمص يوم الجمعة عاشر صفر سنة اثنتين وستين وستمائة، ودفن عند قبر أسد الدين شيركوه جده داخل حمص، فيكون تقدير ولادته في شوال أو ذي القعدة سنة سبع وعشرين. وشيركوه: لفظ عجمي تفسيره بالعربي أسد الجبل، فشير: أسد، وكوه: جبل. وحج شيركوه في سنة خمس وخمسين وخمسمائة من دمشق على طريق تيماء وخيبر، وفي تلك السنة حج زين الدين علي بن بكتكين على طريق العراق، واجتمع بالخليفة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 481 فراغ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 482 حَرفُ الصَادِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 483 فراغ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 484 299 - (1) أبو عمر الجرمي أبو عمر (2) صالح بن إسحاق الجرمي النحوي؛ كان فقيهاً عالماً بالنحو واللغة، وهو من البصرة وقدم بغداد، وأخذ النحو عن الأخفش وغيره، ولقي يونس بن حبيب ولم يلق سيبويه، وأخذ اللغة عن أبي عبيدة وأبي زيد الأنصاري والأصمعي وطبقتهم (3) . وكان ديناً ورعاً حسن المذهب صحيح الاعتقاد، روى الحديث، وله في النحو كتاب جيد يعرف ب " الفرخ "، معناه (4) فرخ كتاب سيبويه، وناظر ببغداد الفراء. وحدث أبو العباس المبرد عنه قال: قال لي أبو عمر: قرأت ديوان الهذليين على الأصمعي، وكان أحفظ له من أبي عبيدة، فلما فرغت منه قال لي: يا أبا عمر، إذا فات الهذلي أن يكون شاعراً أو رامياً أو ساعياً فلا خير فيه. وكان يقول في قوله تعالى: (ولا تقف ما ليس لك به علم) ، قال: لا تقل سمعت ولم تسمع، ولا رأيت ولم تر، ولا علمت ولم تعلم، " إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا) . وقال المبرد أيضاً: كان الجرمي أثبت القوم في كتاب سيبويه، وعليه قرأت الجماعة.   (1) ترجمة صالح الجرمي في معجم الأدباء 12: 5 وبغية الوعاة: 268 وانباه الرواة 2: 80 وتاريخ بغداد 9: 313 وشذرات الذهب 2: 57 وغاية النهاية 1: 332 والفهرست: 56 ونزهة الألباء: 98 وقد جاءت هذه الترجمة في المسودة دون نقص. (2) ج هـ: أبو عمرو (حيثما وقع) . (3) وطبقتهم: سقطت من ص. (4) ج د: يعني. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 485 وكان عالماً باللغة حافظاً لها، وله كتب انفرد بها، وكان جليلاً في الحديث والأخبار، وله كتاب في السير عجيب وكتاب " الأبنية "، وكتاب العروض، ومختصر في النحو (1) ، وكتاب " غريب سيبويه ". وذكره الحافظ أبو نعيم الأصبهاني في " تاريخ أصبهان " (2) . وكانت وفاته سنة خمس وعشرين ومائتين، رحمه الله تعالى. والجرمي - بفتح الجيم وسكون الراء وبعدها ميم - هذه النسبة إلى عدة قبائل كل واحدة يقال لها جرم، ولا أعلم إلى أيها ينسب أبو عمر المذكور، ولم يكن منهم وإنما نزل فيهم فنسب غليهم، ثم وجدت في كتاب " الفهرست " (3) ، تأليف أبي الفرج محمد بن إسحاق المعروف بابن أبي يعقوب الوراق النديم البغدادي أن أبا عمر المذكور مولى جرم بن ربان، وفي كتاب السمعاني أن ربان بالراء والباء الموحدة المشددة، وهو ربان بن عمران بن الحاف بن قضاعة القبيلة المشهورة، وقيل إنه مولى بجيلة أيضاً. وفي بجيلة جرم بن علقمة بن أنمار، والله اعلم بالصواب (4) . وما أحسن قول زياد الأعجم في هجو جرم (5) : تكلفني سويق الكرم جرم ... وما جرم وما ذاك السويق وما شربته جرم وهو حل ... ولا غالت به مذ كان سوق فلما أنزل التحريم فيها ... إذا الجرمي منها لا يفيق وكنى بالسويق عن الخمر، وفي ذلك كلام يطول شرحه فأضربت عنه،   (1) ومختصر في النحو: سقط من ص. (2) انظر تاريخ أصبهان 1: 346. (3) الفهرست: 57. (4) ثم وجدت ... بالصواب: سقط من س. (5) زياد الأعجم: من شعراء العصر الأموي كانت به لكنة ولذلك سمي الأعجم، وقيل سمي الأعجم لكثرة لحنه بسبب سكناه بفارس إذ كان ينزل إصطخر. وأبياته في الشعر والشعراء: 345 وانظر الأغاني 14: 98 ومعجم الأدباء 4: 221 والمؤتلف: 131 والخزانة 4: 192 والشعر والشعراء: 343. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 486 وحاصل ما قالوه أن الشاعر كنى عن الخمر بالسويق لانسياقها في الحلق، فسماها سويقاً لذلك. 300 - (1) صالح بن مرداس أسد الدولة أبو علي صالح بن مرداس بن إدريس بن نصر بن حميد بن مدرك ابن شداد بن عبد قيس بن ربيعة بن كعب بن عبد الله بن أبي بكر بن كلاب ابن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، الكلابي؛ كان من عرب البادية، وقصد مدينة حلب وبها مرتضى الدولة ابن لؤلؤ الجراحي غلام أبي الفضائل ابن سعد الدولة نصر بن سيف الدولة بن حمدان نيابة عن الظاهر بن الحاكم العبيدي صاحب مصر، فاستولى عليها وانتزعها منه، وكان ذا بأس وعزيمة وأهل وعشيرة وشوكة، وكان تملكه لها في ثالث عشر ذي الحجة سنة سبع عشرة وأربعمائة، واستقر بها ورتب أمورها، فجهز إليه الظاهر المذكور أمير الجيوش أنوشتكين الدزبري في عسكر كثيف - والدزبري بكسر الدال المهملة والباء الموحدة وبينهما زاي وفي الآخر راء، هذه النسبة إلى دزبر بن أويتم الديلمي وهو بالدال وبالتاء، أيضاً، وكان بدمشق نائباً عن الظاهر، وكان ذا شهامة وتقدمة ومعرفة بأسباب الحرب - فخرج متوجهاً إليه، فلما سمع صالح الخبر خرج إليه، وتقدم حتى تلاقيا على الأقحوانة فتصافا وجرت بينهما مقتلة انجلت عن قتل أسد الدولة صالح المذكور، وذلك في جمادى الأولى سنة عشرين، وقيل تسع عشرة وأربعمائة، رحمه الله تعالى.   (1) أخبار صالح بن مرداس في ابن الأثير (ج: 9) وابن خلدون 4: 271 وزبدة الحلب (1: 277) ؛ وقد استوفت المسودة جميع هذه الترجمة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 487 وهو أول ملوك بني مرداس المتملكين لحلب. وسيأتي ذكر حفيده نصر إن شاء الله تعالى في ترجمة ابن حيوس الشاعر. ومرداس: بكسر الميم وسكون الراء وفتح الدال المهملة وبعد الألف سين مهملة. والأقحوانة: بضم الهمزة وسكون القاف وضم الحاء المهملة وفتح الواو وبعد الألف نون مفتوحة ثم هاء ساكنة، وهي بليدة بالشام من أعمال فلسطين بالقرب من طبرية. وبالحجاز أيضاً بليدة يقال لها الأقحوانة كان يسكنها الحارث بن خالد بن العاصي بن هشام بن المغيرة المخزومي، وفيها يقول من جملة أبيات (1) : من كان يسأل عنا أين منزلنا ... فالأقحوانة منا منزل قمن إذ نلبس العيش صفوا لا يكدره ... طعن الوشاة ولا ينبوبنا الزمن 301 (2) صاعد البغدادي اللغوي أبو العلاء صاعد بن الحسن بن عيسى الربعي البغدادي اللغوي صاحب كتاب " الفصوص "؛ روى بالمشرق عن أبي سعيد السيرافي وأبي علي الفارسي وأبي سليمان الخطابي، ورحل إلى الأندلس في أيام هشام بن الحكم وولاية المنصور ابن أبي عامر في حدود الثمانين والثلثمائة، وأصلة من بلاد الموصل، ودخل بغداد، وكان عالماً باللغة والأدب والأخبار سريع الجواب حسن الشعر طيب المعاشرة ممتعاً، فأكرمه المنصور وزاد في الإحسان إليه والإفضال عليه، وكان مع ذلك   (1) انظر الأغاني 3: 320. (2) ترجمة صاعد البغدادي في الذخيرة 1/4: 2 وانباه الرواة 2: 85 والجذوة: 223 وبغية الوعاة: 267 ونفح الطيب 3: 75 (رقم: 59) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 488 محسناً للسؤال حاذقاً في استخراج الأموال، وجمع له كتاب " الفصوص " نحا فيه منحى القالي في أماليه، وأثابه عليه خمسة آلاف دينار، وكان يتهم بالكذب في نقله، فلهذا رفض الناس كتابه. ولما دخل مدينة دانية وحضر مجلس الموفق مجاهد بن عبد الله العامري أمير البلد كان في المجلس أديب يقال له بشار، فقال للموفق مجاهد: دعني أعبث بصاعد، فقال له مجاهد لا تتعرض إليه فإنه سريع الجواب، فأبى إلا مشاكلته (1) ، فقال له بشار، وكان أعمى: يا أبا العلاء، فقال: لبيك، فقال: ما الجرنفل في كلام العرب فعرف أبو العلاء أنه قد وضع هذه الكلمة وليس لها أصل في اللغة، فقال له بعد أن أطرق ساعة: هو الذي يفعل بنساء العميان ولا يفعل بغيرهن، ولا يكون الجرنفل جرنفلاً حتى لا يتعداهن إلى غيرهن، وهو في ذلك كله يصرح ولا يكني، قال: فخجل بشار وانكسر، وضحك من كان حاضراً، فقال له الموفق: قلت لك لا تفعل فلم تقبل. وتوفي صاعد المذكور سنة سبع عشرة وأربعمائة بصقيلة، رحمه الله. ولما ظهر (2) للمنصور كذبه في النقل (3) وعدم تثبيته، رمى كتاب " الفصوص " في النهر، لأنه قيل له: جميع ما فيه لا صحة له، فعمل فيه بعض شعراء عصره: قد غاص في البحر كتاب الفصوص ... وهكذا كل ثقيل يغوص فلما سمع صاعد هذا البيت أنشد: عاد إلى عنصره إنما ... يخرج من قعر البحور الفصوص وله أخبار كثيرة في الامتحان (4) ، ولولا التطويل لذكرتها. والجرنفل: بفتح الجيم والراء وسكون النون وضم الفاء وبعدها لام.   (1) هـ: مساءلته. (2) ص: حكي. (3) أ: القول. (4) انفردت النسخة ج في هذا الموضع برواية أخبار صاعد كلها منقول عن الذخيرة لابن بسام 1/4: 7 - 16، فأغنانا ذلك في إثباتها هنا، وقول المؤلف " ولولا التطويل لذكرتها " يشير إلى أنه بنى الترجمة على الإيجاز؛ وما ورد هنا هو ما جاء بتمامه في المسودة أيضاً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 489 302 - (1) صدقة بن دبيس أبو الحسن صدقة الملقب سيف الدولة فخر الدين بن بهاء الدولة أبي كامل منصور بن دبيس بن علي بن مزيد الأسدي الناشري صاحب الحلة السيفية؛ كان يقال له ملك العرب وكان ذا بأس وسطوة وهيبة، ونافر السلطان محمد ابن ملكشاه بن ألي أرسلان السلجوقي وأفضت الحال إلى الحرب، فتلاقيا عند النعمانية، وقتل الأمير صدقة المذكور في المعركة يوم الجمعة سلخ جمادى الآخرة، وقيل العشرين من رجب سنة إحدى وخمسمائة، وحمل رأسه إلى بغداد، رحمه الله تعالى. وذكر عز الدين أبو الحسن علي بن الأثير في استدراكاته على السمعاني في كتاب " الأنساب " (2) أنه توفي سنة خمسمائة، والله أعلم. وله نظم الشريف أبو يعلى محمد بن الهبارية كتاب " الصادح والباغم " - وسيأتي ذكر ذلك في ترجمة ابن الهبارية، إن شاء الله تعالى (3) -.   (1) أخبار صدقة بن دبيس في ابن الأثير (ج: 10) وابن خلدون 5: 38 وأخبار الدولة السلجوقية: 80 - 81، قلت: وقد استكملت المسودة هذه الترجمة بتمامها. (2) انظر مادة " الناشري " في كتاب اللباب. (3) انفردت نسخة ج في هذا الموضع بالزيادة التالية: ورأيت في بعض التواريخ أن صدقة المذكور كان قد بنى داراً فوقعت فيها نار يوم الفراغ منها، فعمل الحكيم أبو الفرج ابن التلميذ: يا بانياً دار العلا مليتها ... لنزيدها شرفاص على كيوان علمت بأنك إنما شيدتها ... للمجد والأفضال والإحسان فقفت عوائدك الكرام وأقبلت ... تستقبل الأضياف بالنيران (قلت: انظر طبقات ابن أبي أصيبعة 2: 295 ط. بيروت) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 490 (62) وكانت وفاة والده أبي كامل منصور في أواخر شهر ربيع الأول سنة تسع وسبيعن وأربعمائة، رحمه الله تعالى. وتوفي جده دبيس المذكور ولقبه نور الدولة أبو الأغر في ليلة الأحد عاشر شوال سنة ثلاث، وقيل اربع وسبعين (63) وأربعمائة، وكانت إمارته سبعاً وستين سنة، ولي الإمارة سنة ثمان وأربعمائة وعمره يوم ذاك أربع عشرة سنة، وكان أبو الحسن علي بن أفلح الشاعر المشهور كاتباً بين يديه في شبيبته (1) . (64) وتوفي جد أبيه علي بن مزيد سنة ثمان وأربعمائة، وقد تقدم ذكر ولده دبيس بن صدقة في حرف الدال. ودبيس: بضم الدال المهملة وفتح الباء الموحدة وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها سين مهملة. ومزيد: بفتح الميم وسكون الزاي وفتح الياء المثناة من تحتها وبعدها دال مهملة. والأسدي والناشري: تقدم الكلام عليهما في حرف الدال في ترجمة دبيس. والحلة: بكسر الحاء المهملة وتشديد اللام وبعدها هاء ساكنة، وهي بلدة بالعراق بين بغداد والكوفة على الفرات في بر الكوفة، اختطها سيف الدولة صدقة المذكور في سنة خمس وتسعين وأربعمائة، فنسبت غليه. والنعمانية، بضم النون، بلدة بين الحلة وواسط.   (1) وكان أبو الحسن ... شبيبته: سقط من ص ر، وثبت في س وفي هامش المسودة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 491 303 - (1) صالح بن عبد القدوس أبو الفضل صالح بن عبد القدوس البصري مولى الأزد، أحد الشعراء، اتهمه المهدي بالزندقة فأمر بحمله، فأحضر، فلما خاطبه أعجب بغزارة أدبه وعلمه وبراعته وحسن بيانه وكثرة حكمته فأمر بتخلية سبيله، فلما ولى رده وقال: ألست القائل: والشيخ لا يترك أخلاقه ... حتى يوارى في ثرى رمسه إذا ارعوى عاد إلى جهله ... كذي الضنى عاد إلى نكسه قال: بلى يا أمير المؤمنين. قال: فأنت لا تترك أخلاقك، ونحن نحكم فيك بحكمك في نفسك، ثم أمر به فقتل وصلب على الجسر؛ ويقال إن المهدي أبلغ عنه أبياتاً عرض فيها بذكر النبي صلى الله عليه وسلم، فأحضره المهدي وقال له: أنت القائل هذه الأبيات قال: لا والله يا أمير المؤمنين، ما أشركت بالله طرفة عين، فاتق الله ولا تسفك جمي على الشبهة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ادرأوا الحدود بالشبهات، وجعل يتلو عليه القرآن حتى رق له وأمر بتخليته. فلما ولى قال: أنشدني قصيدتك السينية، فأنشده حتى بلغ إلى قوله فيها: والشيخ لا يترك أخلاقه ... فأمر به حينئذ فقتل. ومن مستحسنات قصائد صالح المذكور القصيدة التي أولها: المرء يجمع والزمان يفرق ... ويظل يرقع والخطوب تمزق   (1) كان شاعراً حكيماً يجلس في مسجد البصرة ويقص على الناس، وله مع أبي الهذيل العلاف مناظرات، وهو يكثر في شعره من الأمثال والحكم (انظر تاريخ بغداد 9: 303 ومعجم الأدباء 12: 6 ونكت الهميان: 171 وتهذيب ابن عساكر 6: 371 والفوات 1: 391 وميزان الاعتدال 2: 297) وهذه الترجمة انفردت بها النسخة ص. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 492 وزن الكلام إذا نطقت فإنما ... يبدي عيوب ذوي العقول المنطق ومن الرجال إذا استوت أحلامهم ... من يستشار إذا استشير فيطرق حتى يجيل بكل واد قلبه ... فيرى ويعرف ما يقول فينطق ما الناس إلا عاملان فعامل ... قد مات من عطش وآخر يغرق والناس في طلب المعاش فإنما ... بالجد يرزق منهم من يرزق لو يرزقون الناس حسب عقولهم ... ألفيت أكثر من ترى يتصدق لكنه فضل المليك عليهم ... هذا عليه موسع ومضيق وإذا الجنازة والعروس تلاقيا ... ورأيت دمع نوائح يترقرق سكت الذي تبع العروس مبهتاً ... ورأيت من تبع الجنازة ينطق ومن مختار شعره: ان الغني الذي يرضى بعيشته ... لا من يظل على ما فات مكتئبا لا تحقرن من الأيام محتقراً ... كل امرئ سوف يجزى بالذي اكتسبا قد يحفز المرء ما يهوى فيركبه ... حتى يكون إلى توريطه سببا قال أحمد بن عبد الرحمن المعبر: رأيت صالح بن عبد القدوس في المنام ضاحكاً مستبشراً فقلت له: ما فعل بك ربك، وكيف نجوت مما كنت ترمى به قال: إني وردت على رب لا تخفى عليه خافية، فاستقبلني برحمته وقال: لقد علمت براءتك مما كنت تقذف به. وكان قتله سنة سبع وستين ومائة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 493 304 - (1) صالح المري أبو بشير صالح بن بشير القارئ المعروف بالمري؛ من أهل البصرة، حدث عن الحسن ومحمد بن سيرين وبكر بن عبد الله وغيرهم؛ روى عنه شجاع بن أبي نصر البلخي وسريج بن النعمان الجوهري وعفان بن مسلم وغيرهم. كان عبداً صالحاً، وكان المهدي قد بعث إليه فأقدمه عليه؛ قال صالح المري: دخلت على المهدي بالرصافة، فلما مثلت بين يديه قلت: يا أمير المؤمنين، احمل لله ما أكلمك به اليوم، فإن أولى الناس بالله أحملهم لغلظة النصيحة فيه، وجدير بمن له قرابة برسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرث أخلاقه، ويأتم بهديه، وقد ورثك الله من فهم العلم وإنارة الحجة ميراثاً قطع به عذرك، فمهما ادعيت من حجة أو ركبت من شبهة لم يصح لك فيهما برهان من الله، حل بك من سخط الله بقدر ما تجاهلته من العلم أو أقدمت عليه من شبهة الباطل؛ واعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خصم من خالف في أمته [يبتزها] أحكامها. ومن كان محمد صلى الله عليه وسلم خصمه، كان الله خصمه، فأعد لمخاصمة الله ومخاصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم حججاً تضمن لك النجاة أو استسلم للهلكة. واعلم [أن أبطأ الصرعى نهضة] صريع هوى، وأن أثبت الناس قدماً يوم القيامة آخذهم بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فمثلك لا يكابر بتجديد المعصية، ولكن تمثل له الإساءة إحساناً، ويشهد له   (1) صالح بن بشير زاهد واعظ بصري؛ وضعه ابن معين والدارقطني، وقال البخاري: منكر الحديث؛ انظر تاريخ بغداد 9: 305 وميزان الاعتدال 2: 289 وذكر أن وفاته سنة 173، وقال في العبر (ج 1 ص 262) فيها أو في 176؛ وهذه الترجمة انفردت بها النسخة ص وهي متابعة لما في تاريخ بغداد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 494 عليها خونة العلماء، وبهذه الحبالة تصيدت الدنيا نظراؤك، فأحسن الحمل فقد أحسنت إليك الأداء؛ قال: فبكى المهدي ثم أمر له بشيء فلم يقبله؛ وحكي بعض الكتاب أنه رأى هذا الكلام مكتوباً في دواوين المهدي. وقال عفان بن مسلم: كنا نأتي مجلس صالح المري نحضره وهو يقص، وكان إذا أخذ في قصصه كأنه رجل مذعور يفزعك أمره من حزنه وكثرة بكائه كأنه ثكلى. وكان مملوكاً لامرأة من بني مرة بن الحارث بن عبد القيس. ومات سنة ست وسبعين (1) ومائة، رحمه الله تعالى.   (1) في ص: ست وسبعين، وهو تصحيف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 495 فراغ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 496 حَرفُ الضَادِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 497 فراغ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 498 305 - (1) الأحنف بن قيس أبو بحر الضحاك بن قيس بن معاوية بن حصين بن عبادة بن النزال بن مرة ابن عبيد بن الحارث بن عمرو بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم التميمي المعروف بالأحنف، وقيل اسمه صخر، وهو الذي يضرب به المثل في الحلم - والحارث المذكور لقبه مقاعس -. كان من سادات التابعين رضي الله عنهم؛ أدرك عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يصحبه وشهد بعض الفتوحات منها قاسان والتيمرة، وذكره الحافظ أبو نعيم في " تاريخ أصبهان " (2) وقال ابن قتيبة في كتاب " المعارف " ما صورته (3) : ولما أتى النبي صلى الله عليه وسلم بني تميم يدعوهم إلى الإسلام كان الأحنف فيهم، ولم يجيبوا إلى اتباعه، فقال لهم الأحنف: إنه ليدعوكم إلى مكارم الأخلاق وينهاكم عن ملائمها، فأسلموا وأسلم الأحنف ولم يفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما كان زمن عمر رضي الله عنه وفد عليه. وكان من جلة التابعين وأكابرهم، وكان سيد قومه، موصوفاً بالعقل والدهاء والعلم والحلم، روى عن عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، وروى عنه الحسن البصري وأهل البصرة، وشهد مع علي رضي الله عنه وقعة صفين، ولم يشهد وقعة الجمل مع أحد الفريقين، وشهد بعض فتوحات خراسان في زمن عمر وعثمان، رضي الله عنهما.   (1) ترجمة الأحنف بن قيس في طبقات ابن سعد 7: 93 وتهذيب ابن سعارك 7: 10 وتهذيب التهذيب 1: 191 وسرح العيون: 54؛ وأخبار حلمه والحكايات عنه منثورة في كتب الأدب. (2) تاريخ أصبهان 1: 224. (3) المعارف: 423. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 499 ولما استقر الأمر لمعاوية دخل عليه يوماً فقال له معاوية: والله يا أحنف ما أذكر يوم صفين إلا كانت حزازة في قلبي إلى يوم القيامة، فقال له الأحنف: والله يا معاوية إن القلوب التي أبغضناك بها لفي صدورنا، وإن السيوف التي قاتلناك بها لفي أغمادها، وإن تدن من الحرب فتراً ندن منها شبراً، وإن تمش إليها نهرول إليها، ثم قام وخرج. وكانت أخت معاوية من وراء حجاب تسمع كلامه فقالت: يا أمير المؤمنين، من هذا الذي يتهدد ويتوعد قال: هذا الذي إذا غضب غضب لغضبه مائة ألف من بني تميم لا يدرون فيم غضب. وروي أن معاوية أيضاً لما نصب ولده يزيد لولاية العهد أقعده في قبة حمراء، فجعل الناس يسلمون على معاوية ثم يميلون إلى يزيد، حتى جاء رجل ففعل ذلك ثم رجع إلى معاوية فقال: يا أمير المؤمنين، اعلم أنك لو لم تول هذا أمور المسلمين لأضعتها، والأحنف بن قيس جالس (1) ، فقال له معاوية: ما بالك لا تقول يا أبا بحر فقال: أخاف الله إن كذبت وأخافكم إن صدقت، فقال له معاوية: جزاك الله عن الطاعة خيراً، وأمر له بألوف؛ فلما خرج لقيه ذلك الرجل بالباب فقال له: يا أبا بحر، غني لأعلم أن الشركة المتعهدة من خلق الله سبحانه وتعالى نطمع في استخراجها إلا بما سمعت، فقال له الأحنف: أمسك عليك فإن ذا الوجهين خليق أن لا يكون عند الله تعالى وجيهاً (2) . ومن كلام الأحنف: في ثلاث خصال ما أقولهن إلا ليعتبر: ما دخلت بين اثنين قط حتى يدخلاني بينهما، ولا أتيت باب أحد من هؤلاء ما لم   (1) ج: ساكت. (2) انفردت نسخة ج في هذا الموضع بهذه الزيادة: وقال معاوية بن هشام لخالد بن صفوان: بمَ بلغ فيكم الأحنف بن قيس ما بلغ قال: إن شئت حدثتك ألفاً، وإن شئت حذفت الحديث لك حذفاً، قال: احذفه لي حذفاً، قال: وإن شئت فثلاثاً وإن شئت فاثنتين وإن شئت فواحدة، قال: ما الثلاث قال: كان لا يشره ولا يحسد ولا يمنع حقاً، قال: فما الثنتان قال: كان موفقاً للخير معصوماً عن الشر، قال: فما الواحدة قال: كان أشد الناس على نفسه سلطاناً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 500 أدع إليه، يعني الملوك، ولا حللت حبوتي (1) إلى ما يقوم الناس إليه. ومن كلامه: ألا أدلكم على المحمد بلا مرزئة الخلق السجيح والكف على التسبيح، ألا أخبركم بأدوإ الداء الخلق الدنيء واللسان البذيء. ومن كلامه: ما خان شريف ولا كذب عاقل ولا اغتاب مؤمن. وقال ما ادخرت الآباء للأبناء ولا أبقت الموتى للأحياء أفضل من اصطناع معروف عند ذوي الأحساب والآداب. وقال: كثرة الضحك تذهب الهيبة، وكثرة المزاح تذهب المروءة، ومن لزم شيئاً عرف به. وسمع الأحنف رجلاً يقول: ما أبالي أمدحت أم ذممت، فقال له: لقد استرحت من حيث تعب الكرام. ومن كلامه: جنبوا مجلسنا ذكر النساء والطعام، فإني أبغض الرجل يكون وصافاً لفرجه وبطنه، وإن من المروءة أن يترك الرجل الطعام وهو يشتهيه. وقال هشام بن عقبة أخو ذي الرمة الشاعر المشهور: شهدت الأحنف بن قيس وقد جاء إلى قوم يتكلمون في دم، احكموا، فقالوا: نحكم بديتين. قال: ذلك لكم، فلما سكتوا قال: أنا أعطيكم ما سألتم غير أني قائل لكم شيئاً، إن لله عز وجل قضى بدية واحدة، وإن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بدية واحدة، وأنتم اليوم طالبون، وأخشى أن تكونوا غداً مطلوبين، فلا يرضى الناس منكم إلا بمثل ما سننتم لأنفسكم، فقالوا: فردها إلى دية واحدة؛ فحمد الله وأثنى عليه وركب. وسئل عن الحلم ما هو فقال: هو الذل مع الصبر. وكان يقول إذا عجب الناس من حلمه: إني لأجد ما تجدون، ولكني صبور. وكان يقلو: وجدت الحلم أنصر لي من الرجال. وكان يقول: ما تعلمت الحلم إلا من قيس بن عاصم المنقري، لأنه قتل ابن أخر له بعض بنيه فأتي بالقاتل مكتوفياً يقاد إليه، فقال: ذعرتم الفتى، ثم أقبل على الفتى فقال: يا بني، بئس ما صنعت: نقصت   (1) كتب فوقها في المسودة " معاً " أي بضم الحاء وفتحها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 501 عددك وأوهنت عضدك وأشمت عودك وأسأت بقومك؛ خلو سبيله، واحملوا إلى أم المقتول دينه فإنها غريبة. ثم انصرف القاتل وما حل قيس حبوته ولا تغير وجهه (1) . وكان (2) زياد بن أبيه في مدة ولايته العراقين كثير الرعاية بن بدر الغداني وللأحنف، وكان حارثة مكباً على الشرب، فوقع أهل البصرة فيه عند زياد ولاموا زياداً في تقريبه ومعاشرته، فقال لهم زياد: يا قوم، كيف لي باطراح رجل هو يسايرني منذ دخلت العراق، ولم يصكك ركابي ركاباه قط، ولا تقدمني فنظرت إلى قفاه، ولا تأخر عني فلويت إليه عنقي، ولا أخذ علي الروح في صيف قط، ولا الشمس في شتاء قط، ولا سألته عن شيء من العلوم إلا وظننته لا يحسن سواه، ثم وجدت هذا الكلام في كتاب " ربيع الأبرار " تأليف الزمخشري في باب معاشرة الناس على هذه الصورة، والله أعلم. وأما الأحنف فلم يكن فيه ما يقال. فلما مات زياد وتولى ولده عبيد الله قال لحارثة: إما أن تترك الشراب أو تبعد عني، فقال له حارثة: قد علمت حالي عند والدك، فقال عبيد الله: إن والدي كان قد برع بروعاً لا يلحقه معه عيب، وأنا حدث، وإنما أنسب إلى من يغلب علي، وأنت رجل تديم الشراب فمتى قربتك فظهرت رائحة الشراب منك لم آمن أن يظن بي، فدع النبيذ وكن أول داخل علي وآخر خارج عني، فقال له حارثة: أنا لا أدعه لمن يملك ضري ونفعي، أفأدعه للحال عندك قال: فاختر من عملي ما شئت، قال: توليني سرق فقد وصف لي شرابها، وتضم إليها رام هرمز، فولاه إياهما، فلما خرج شيعه الناس، فقال له أنس بن أبي أنس، وقيل أبو الأسود الدؤلي (3) : أحار بن بدر قد وليت إمارة ... فكن جرذاً فيها تخون وتسرق ولا تحتقر يا حار شيئاً وجدته ... فحظك من مال العراقيين سرق   (1) وسمع الأحنف ... ولا تغير وجهه: سقط من س وبعضه من ص والمسودة؛ وانظر الجمان لابن ناقيا: 253. (2) قارن بما في الأغاني 23: 446. (3) رواها أبو الفرج (23: 471) لأبي الأسود الدؤلي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 502 وباه تميماً بالغنى إن للغنى ... لساناً به المرء الهيوبة ينطق فإن جميع الناس إما مكذب ... يقول بما تهوى وإما مصدق يقولون أقوالاً ولا يعلمونها ... ولو قيل هاتوا حققوا لم يحققوا وأما الأحنف فإنه تغيرت منزلته عند عبيد الله أيضاً، وصار يقدم عليه من لا يساويه ولا يقاربه. ثم إن عبيد الله جمع أعيان العراق وفيهم الأحنف وتوجه بهم إلى الشام للسلام على معاوية، فلما وصلوا دخل عبيد الله على معاوية وأعلمه بوصول رؤساء العراق، فقال: أدخلهم إلي أولاً فأول (1) على قدر مراتبهم عندك. فخرج إليهم وأدخلهم على الترتيب كما قال معاوية، وآخر من دخل الأحنف. فلما رآه معاوية - وكان يعرف منزلته ويبالغ في إكرامه لتقدمه وسيادته - قال له: إلي يا أبا بحر، فتقدم إليه فأجلسه معه على مرتبته وأقبل عليه يسأله عن حاله ويحادثه وأعرض عن بقية الجماعة؛ ثم إن أهل العراق أخذوا في الشكر من عبيد الله والثناء عليه، والأحنف ساكت، فقال له معاوية: لم لا تتكلم يا أبا بحر فقالك إن تكلمت خالفتهم، فقال لهم معاوية: اشهدوا علي أنني قد عزلت عبيد الله عنكم، قوموا انظروا في أمير أوليه عليكم وترجعون إلي بعد ثلاثة أيام. فلما خرجوا من عنده كان فيهم جماعة يطلبون الإمارة لأنفسهم وفيهم من عين غيره وسعوا في السر مع خواص معاوية أن يفعل لهم ذلك، ثم اجتمعوا بعد انقضاء الثلاثة كما قال معاوية، والأحنف معهم، ودخلوا عليه فأجلسهم على ترتيبهم في المجلس الأول، وأخذ الأحنف إليه كما فعل أولاً وحادثه ساعة، ثم قال: ما فعلتم فيما انفصلتم عليه فجعل كل واحد يذكر شخصاً، وطال حديثهم في ذلك وأفضى إلى منازعة وجدال، والأحنف ساكت، ولم يكن في الأيام الثلاثة تحدث مع أحد في شيء، فقال له معاوية: لم لا تتكلم يا أبا بحر فقال الأحنف: إن وليت أحداً من أهل بيتك لم تجد من يعدل عبيد الله ولا يسد مسده، وإن وليت من غيرهم فذلك إلى رأيك. ولم يكن في   (1) كذا في المسودة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 503 الحاضرين الذين بالغوا في المجلس الأول في الثناء على عبيد الله من ذكره في هذا المجلس ولا سأل عوده إليهم، فلما سمع معاوية مقالة الأحنف قال للجماعة: اشهدوا علي أني أعدت عبيد الله إلى ولايته، فكل منهم ندم على عدم تعيينه، وعلم معاوية أن شكرهم لعبيد الله لم يكن لرغبتهم فيه، بل كما جرت العادة في حق المتولي. فلما فصل الجماعة من مجلس معاوية خلا بعبيد الله وقال له: كيف ضيعت مثل هذا الرجل - يعني الأحنف - فإنه عزلك وأعادك إلى الولاية وهو ساكت، وهؤلاء الذين قدمتهم عليه واعتمدت عليهم لم ينفعوك ولا عرجوا عليك لما فوضت الأمر إليهم، فمثل الأحنف من يتخذه الإنسان عوناً وذخراً. فلما عادوا إلى العراق أقبل عليه عبيد الله وجعله بطانته وصاحب سره. ولما جرت لعبيد الله تلك الكائنة المشهورة لم ينفعه فيها سوى الأحنف، وتخلى عنه الذين كان يعتقدهم أعواناً (1) . وبقي الأحنف إلى زمن مصعب بن الزبير، فخرج معه إلى الكوفة، فمات بها سنة سبع وستين للهجرة، وقيل إحدى وسبعين، وقيل سبع وسبعين، وقيل ثمان وستين عن سبعين سنة، والأول أشهر، رضي الله عنه، وكان قد كبر جداً، ودفن بالثوية عند قبر زياد. وحكى عبد الرحمن بن عمارة بن عقبة بن أبي معيط قال: حضرت جنازة الأحنف بن قيس بالكوفة، فكنت فيمن نزل قبره، فلما سويته رأيته قد فسح له مد بصري، فأخبرت بذلك أصحابي، فلم (2) يروا ما رأيت؛ ذكر ذلك ابن يونس في " تاريخ مصر " المختص بالغرباء في ترجمة عبد الرحمن المذكور. وهو أحد [السادات] (3) الطلس، كما تقدم في أخبار (4) القاضي شريح. [وحدث الكندي عن أبيه قال: ان معاوية بن أبي سفيان بينا هو جالس وعنده وجوه الناس فيهم الأحنف بن قيس إذ دخل رجل من أهل الشام فقام خطيباً، فكان آخر كلامه أن سب علياً رضي الله عنه، فأطرق الناس،   (1) هـ: أخوانها. (2) في المسودة: فلما. (3) زيادة من ص. (4) ص: ترجمة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 504 وتكلم الأحنف فقال: يا أمير المؤمنين، إن هذا القائل آنفاً لو يعلم أن رضاك في لعلن المرسلين لفعل؛ فاتق الله ودع عنك علياً فقد لقي ربه وأفرد في قبره وخلا بعمله، وكان والله المبرز سيفه، الطاهر ثوبه، الميمون نقيبته، العظيم مصيبته. فقال معاوية: يا أحنف لقد أغضيت العين عن القذى وقلت فيما ترى، وايم الله لتصعدن المنبر ولتلعننه طوعاً أو كرهاً. فقال له الأحنف: يا أمير المؤمنين، إن تعفني فهو خير لك وإن تجبرني فو الله لا تجري به شفتاي أبداً. قال: قم فاصعد، قال الأحنف: أما والله مع ذلك لأنصفنك في القول والفعل، قال: وما أنت قائل يا أحنف إن أنصفتني قال: أصعد المنبر فأحمد الله تعالى بما هو أهله وأصلي على نبيه صلى الله عليه وسلم ثم أقول: أيها الناس، أن أمير المؤمنين معاوية أمرني أن ألعن علياً، ألا وإن علياً ومعاوية اقتتلا واختلفا فادعى كل منهما انه مبغي عليه وعلى فئته، فإذا دعوت فأمنوا رحمكم [الله] ، ثم أقول: اللهم العن أنت وملائكتك وأنبياؤك وجميع خلقك الباغي منهما على صاحبه، والعن الفئة الباغية لعناً كثيراً، أمنوا رحمكم الله؛ يا معاوية لا أزيد على هذا حرفاً، ولا انقص منه حرفاً، ولو كان فيه ذهاب نفسي. فقال معاوية: إذن نعفيك أبا بحر. ومثل هذا ما قال معاوية أيضاً لعقيل بن أبي طالب رضي الله عنه: ان علياً قد قطعك ووصلتك، ولا يرضيني منك إلا أن تلعنه على المنبر، قال: أفعل، قال: فاصعد المنبر، فصعد، ثم قال بعد أن حمد الله وأثنى عليه: أيها الناس أمرني أن ألعن علي بن ابي طالب أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان فالعنوه، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، ثم نزل، فقال له معاوية: انك لم تبين، قال: والله لازدت حرفاً ولا نقصت آخر، والكلام على نية المتكلم. وكان الأحنف بن قيس يقول: عجبت لمن جرى في مجرى البول كيف يتكبر؛ وكان يقول: اكرموا سفهاءكم فإنهم يكفونكم العار والنار. وقال الأحنف: شكوت إلى عمي مصيبة نزلت بي فأسكتني ثلاثاً ثم قال لي: يا أبا بحر، لا تشك الذي نزل بك إلى مخلوق فإنما هو صديق تسوءه أو عدو تسره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 505 وقال رجل للأحنف: أخبرني الثقة عنك بسوء، قال: الثقة لا ينم] (1) . وولد ملتزق الأليتين حتى شق، أحنف الرجل يطأ على وحشيها ولذلك قيل له الأحنف، وذهبت عينه عند فتح سمرقند، ويقال بل ذهبت بالجدري؛ وكان متراكب الأسنان صغير الرأس مائل الذقن، وقتل عنترة بن شداد العبسي الفارس المشهور جده معاوية بن حصين في يوم الفروق، وهو أحد أيام وقائع العرب المشهورة. وها هنا ألفاظ تحتاج إلى تفسير، فالأحنف: المائل، ووحشي الرجل: ظهرها. والغداني: بضم الغين المعجمة وفتح الدال المهملة وبعد الألف نون، هذه النسبة إلى غدانة بن يربوع، بطن من تميم. ورام هرمز: مشهورة لا حاجة إلى ضبطها، وهي من بلاد الأهواز من إقليم خوزستان الذي بين البصرة وفارس. وسرق: بضم السين المهملة وفتح الراء المشددة وبعدها قاف، من كور الأهواز أيضاً ومدينتها دورق: بفتح الدال المهملة وسكون الواو وفتح الراء وبعدها قاف، ويقال لها: دورق الفرس. والثوية: بفتح الثاء المثلثة وكسر الواو وتشديد الياء المثناة من تحتها، وتصغر أيضاً فيقال لها الثوية، اسم موضع بظاهر الكوفة فيه قبور جماعة من الصحابة وغيرهم رضي الله عنهم، وفيه ماء. (65) وكان للأحنف ولد يقال له بحر، وبه كني، وكان مضعوفاً، قيل له: لم لا تتأدب بأخلاق أبيك فقال: الكسل. ومات وانقطع عقبه.   (1) زيادة من ص. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 506 حَرفُ الطَاء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 507 فراغ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 508 306 - (1) طاوس أبو عبد الرحمن طاوس بن كيسان الخولاني الهمداني اليماني، من أبناء الفرس؛ أحد الأعلام التابعين، سمع ابن عباس وأبا هريرة رضي الله عنهما، وروى عنه مجاهد وعمرو بن دينار، وكان فقيهاً جليل القدر نبيه الذكر. قال ابن عيينة: قلت لعبيد الله بن يزيد: مع من تدخل على ابن عباس قال: مع عطاء وأصحابه. قلت: وطاوس قال: أيهات، كان ذلك يدخل مع الخواص. وقال عمرو بن دينار: ما رأيت أحداً قط مثل طاوس. ولما ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة كتب إليه طاوس المذكور: إن أردت أن يكون عملك خيراً كله فاستعمل أهل الخير، فقال عمر: كفى بها موعظة. وتوفي حاجاص بمكة قبل يوم التروية بيوم، وصلى عليه هشام بن عبد الملك وذلك في سنة ست ومائة رضي الله عنه، وقيل سنة أربع ومائة، والله أعلم. قال بعض العلماء: مات طاوس بمكة فلم يتهيأ إخراج جنازته لكثرة الناس، حتى وجه إبراهيم بن هشام المخزومي أمير مكة بالحرس، فلقد رأيت عبد الله ابن الحسن بن علي بن أبي طالب، رضي الله عنهم، واضع السرير على كاهله، وقد سقطت قلنسوة كانت على رأسه ومزق رداؤه من خلفه. ورأيت بمدينة بعلبك داخل البلد قبراً يزار، وأهل البلد يزعمون أنه طاوس المذكور، وهو غلط.   (1) ترجمة طاوس بن كيسان في طبقات ابن سعد 7: 537 وتذكرة الحفاظ: 90 وصفة الصفوة 2: 160 وحلية الأولياء 4: 3 وتهذيب التهذيب 5: 8 وعبر الذهبي 1: 130 والعقد الثمين 5: 59 وطبقات الشيرازي، الورقة: 19. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 509 قال أبو الفرج ابن الجوزي في كتاب " الألقاب " إن اسمه ذكوان، وطاوس لقبه وإنما لقب به لأنه كان طاوس القراء، والمشهور أنه اسمه. [وحكي أن هشام بن عبد الملك قدم حاجاً إلى بيت الله الحرام، فلما دخل الحرم قال: إيتوني برجل من الصحابة، فقيل: يا أمير المؤمنين قد تفانوا، قال: فمن التابعين، فأتي بطاوس اليماني، فلما دخل عليه خلع نعليه بحاشية بساطه ولم يسلم بإمرة المؤمنين ولم يكنه وجلس إلى جانبه بغير إذنه وقال: كيف أنت يا هشام فغضب من ذلك غضباً شديداً حتى هم بقتله، فقيل: يا أمير المؤمنين أنت في حرم الله وحرم رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لا يمكن ذلك، فقال له: يا طاوس، ما حملك على ما صنعت قال: وما صنعت فاشتد غضبه له وغيظه وقال: خلعت نعليك بحاشية بساطي ولم تسلم علي بإمرة المؤمنين ولم تكنني وجلست بإزائي بغير إذني وقلت: يا هشام كيف أنت قال: أما خلع نعلي بحاشية بساطك فإني أخلعها بين يدي رب العزة كل يوم خمس مرات فلا يعاتبني ولا يغضب علي؛ وأما ما قلت: لم تسلم علي بإمرة المؤمنين فليس كل المؤمنين راضين بإمرتك فخفت أن أكون كاذباً؛ وأما ما قلت: لم تكنني فإن الله عز وجل سمى أنبياءه، قال: يا داود يا يحيى يا عيسى، وكنى أعداءه فقال: " تبت يدا أبي لهب وتب "؛ وأما قولك: جلست بإزائي، فإني سمعت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: إذا أردت أن تنظر إلى رجل من أهل النار فانظر إلى رجل جالس وحوله قوم قيام؛ فقال له: عظني، قال: إني سمعت أمير المؤمنين رضي الله عنه يقول: إن في جهنم حيات كالقلال وعقارب كالبغال تلدغ كل أمير لا يعدل في رعيته. ثم قام وخرج. قالت امرأة ماجنة ما بقي أحد إلا فتنته ما خلا طاوس فإني تعرضت له فقال: إذا كان وقت كذا فتعالي، فجئت ذلك الوقت فذهب بي إلى المسجد الحرام فقال: اضطجعي، فقلت: ها هنا فقال: الذي يرانا هنا يرانا ثم. وقال رجل لطاوس: ادع لي، قال: ادع أنت لنفسك فإنه يجيب المضطر إذا دعاه. ابن جريج قال، قال لي عطاء: جاءني طاوس فقال لي: يا عطاء، إياك أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 510 ترفع حوائجك إلى من أغلق دونك بابه، وعليك بطلب حوائجك إلى من بابه مفتوح لك إلى يوم القيامة، طلبك أن تدعوه ووعدك الإجابة. وقال عبد الله بن طاوس: قال لي أبي: يا بني صاحب العقلاء تنسب إليهم وإن لم تكن منهم، ولا تصاحب الجهال فتنسب إليهم وإن لم تكن منهم، واعلم أن لكل شيء غاية، وغاية المرء حسن عقله] (1) . وروي أن أير المؤمنين أبا جعفر المنصور استدعى عبد الله بن طاوس المذكور ومالك بن أنس رحمهما الله تعالى، فلما دخلا عليه أطرق ساعة، ثم التفت إلى ابن طاوس، وقال له: حدثني عن أبيك فقال: حدثني أبي أن أشد الناس عذاباً يوم القيامة رجل أشركه الله تعالى في سلطانه فأدخل عليه الجور في حكمه، فأمسك أبو جعفر ساعة؛ قال مالك: فضممت ثيابي خوفاً أن يصيبني دمه. ثم قال له المنصور: ناولني تلك الدواة، ثلاث مرات، فلم يفعل، فقال له: لم لا تناولني فقال: أخاف أن تكتب بها معصية فأكون قد شاركتك فيها، فلما سمع ذلك قال: قوما عني، قال: ذلك ما كنا نبغي. قال مالك: فما زلت أعرف لابن طاوس فضله من ذلك اليوم. والخولاني: بفتح الخاء المعجمة وسكون الواو وبعدها لام ألف ثم نون، هذه النسبة إلى خولان، واسمه أفكل بن عمرو بن مالك، وهي قبيلة كبيرة نزلت بالشام. والهمداني: بسكون الميم وفتح الدال المهملة، قد تقدم الكلام عليه ونسبته إليهم بالولاء.   (1) زيادة من ص. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 511 307 - (1) أبو الطيب الطبري أبو الطيب طاهر بن عبد الله بن طاهر بن عمر الطبري القاضي الفقيه الشافعي؛ كان ثقة صادقاً ديناً ورعاً عارفاً بأصول الفقه وفروعه، محققاً في علمه، سليم الصدر حسن الخلق صحيح المذهب، يقول الشعر على طريقة الفقهاء. [ومن شعره ما أورده له الحافظ أبو طاهر أحمد بن محمد السلفي - المقدم ذكره - في الجزء الذي وضعه في أخبار أبي العلاء المعري، فقال مسنداً عنه: كتبت إلى أبي العلاء المعري الأديب حين وافى ببغداد، وكان قد نزل في سويقة غالب: وما ذات در لا يحل لحالب ... تناوله واللحم منها محلل لمن شاء في الحالين حياً وميتاً ... ومن شاء شرب الدر فهو مضلل إذا طعنت في السن فاللحم طيب ... وآكله عند الجميع مغفل وخرفانها للأكل فيها كزازة ... فما لحصيف الرأي فيهن مأكل وما يجتني معناه إلا مبرز ... عليم بأسرار القلوب محصل فأجابني وأملى على الرسول في الحال ارتجالاً: جوابان عن هذا السؤال كلاهما ... صواب، وبعض القائلين مضلل فمن ظنه كرماً فليس بكاذب ... ومن ظنه نخلاً فليس يجهل لحومهما الأعناب والرطب الذي ... هو الحل، والدر الرحيق المسلسل ولكن ثمار النخل وهي غضيضة ... تمر وغض الكرم يجنى ويؤكل   (1) ترجمة أبي الطيب الطبري في طبقات الشيرازي، الورقة: 37 وطبقات السبكي 3: 176. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 512 يكلفني القاضي الجليل مسائلاً ... هي النجم قدراً بل أعز وأطول ولو لم أجب عنها لكنت بجهلها ... جديراً ولكن من يودك مقبل فأجبته عنه، وقلت: أنار ضمير من يعز نظيره ... من الناس طراً سابغ الفضل مكمل ومن قلبه كتب العلوم بأسرها ... وخاطره في حدة النار مشعل تساوى له سر المعاني وجهرها ... ومعضلها باد لديه مفصل ولما أنار الحب قاد منيعه ... أسيراً بأنواع البيان يكبل وقربه من كل فهم بشكفه ... وإيضاحه حتى رآه المغفل وأعجب منه نظمه الدر مسرعاً ... ومرتجلاً من غير ما يتمهل فيخرج من بحر ويسمو مكانه ... جلالاً إلى حيث الكواكب تنزل فهنأه الله الكريم بفضله ... محاسنه والعمر فيها مطول فأجاب مرتجلاً وأملى على الرسول: ألا أيها القاضي الذي بدهائه ... سيوف على أهل الخلاف تسلل فؤادك ممهور من العلم آهل ... وجدك في كل المسائل مقبل فإن كنت بين الناس غير ممول ... فأنت من الفهم المصون ممول إذا أنت خاطبت الخصوم مجادلاً ... فأنت، وهم مثل الحمائم، أجدل كأنك من في الشافعي مخاطب ... ومن قلبه تملي فما تتمهل وكيف يرى علم ابن إدريس دارساً ... وأنت بإيضاح الهدى متكفل تفضلت حتى ضاق ذرعي بشكر ما ... فعلت وكفي عن جوابك أجمل لأنك في كنه الثريا فصاحة ... وأعلى ومن يبغي مكانك أسفل فعذرك في أني أجبتك واثقاً ... بفضلك فالإنسان يسهو ويذهل وأخطأت في إنفاذ رقعتك التي ... هي المجد لي منها أخير وأول ولكن عداني أن أروم احتفاظها ... رسولك وهو الفاضل المتفضل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 513 ومن حقها أن يصبح المسك عامراً ... لها وهي في أعلى المواضع تجعل فمن كان في أشعاره متمثلاً ... فأنت امرؤ في العلم والشعر أمثل تجملت الدنيا بأنك فوقها ... ومثلك حقاً من به تتجمل وذكر السمعاني في " الذيل " في ترجمة أبي الحسن علي بن أحمد بن الحسين بن أحمد بن الحسين بن محمويه اليزدي أنه كان له عمامة وقميص بينه وبين أخيه: إذا خرج ذاك قعد هذا في البيت، وإذا خرج هذا احتاج ذاك أن يقعد. قال السمعاني: وسمعته يقول يوماص، وقد دخلت عليه مع علي بن الحسين الغزنوي الواعظ مسلماً داره، فوجدناه عرياناً، متأزراً بمئزر، فاعتذر من العري وقال: نحن إذا غسلنا ثيابنا نكون كما قال القاضي أبو الطيب الطبري: قوم إذا غسلوا ثياب جمالهم ... لبسوا البيوت إلى فراغ الغاسل] (1) عاش مائة سنة وسنتين، لم يختل عقله ولا تغير فهمه، يفتي ويستدرك على الفقهاء الخطأ ويقضي ببغداد ويحضر المواكب في دار الخلافة إلى أن مات. تفقه بآمل على أبي علي الزجاجي صاحب ابن القاص، وقرأ على أبي سعد الإسماعيلي وأبي القاسم بن كج بجرجان، ثم ارتحل إلى نيسابور، وأدرك أبا الحسن الماسرجسي فصحبه أربع سنين وتفقه عليه، ثم ارتحل إلى بغداد وحضر مجلس الشيخ ابي حامد الاسفرايني. وعليه اشتغل الشيخ أبو إسحاق الشيرازي، وقال في حقه: " لم أر فيمن رأيت أكمل اجتهاداً واشد تحقيقاً وأجود نظراً منه ". وشرح مختصر المزني وفروع أبي بكر ابن الحداد المصري، وصنف في الأوصل والمذهب والخلاف والجدل كتباً كثيرة. وقال الشيخ أبو إسحاق: " لازمت مجلسه بضع عشرة سنة، ودرست أصحابه في مسجده سنين بإذنه، ورتبني في حلقته " (2) .   (1) ومن شعره.. إلى فراغ الغاسل: سقط من ص س م والمسودة. (2) طبقات الشيرازي: وسألني أن أجلس في مسجد للتدريس ففعلت ذلك في سنة ثلاثين وأربعمائة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 514 واستوطن بغداد وولي القضاء بربع الكرخ بعد موت أبي عبد الله الصيمري، ولم يزل على القضاء إلى حين وفاته. وكان مولده بآمل سنة ثمان وأربعين وثلثمائة، وتوفي في شهر ربيع الأول يوم السبت لعشر بقين منه سنة خمسين واربعمائة، رحمه الله تعالى، ببغداد، ودفن من الغد في مقبرة باب حرب وصلي عليه في جامع المنصور. والطبري: قد تقدم الكلام عليه أنه منسوب إلى طبرستان. وآمل: بمد الهمزة وضم الميم وبعدها لام، مدينة عظيمة هي قصبة طبرستان. 308 - (1) ابن بابشاذ النحوي أبو الحسن طاهر بن أحمد بن بابشاذ النحوي؛ يقال إن أصله من الديلم (2) ، وكان هو بمصر إمام عصره في علم النحو، وله المصنفات المفيدة، منها: " المقدمة " المشهورة، وشرحها، و " شرح الجمل " للزجاجي، و " شرح كتاب الأصول " لابن السراج، وجمع في حال انقطاعه شكة (3) كبيرة في النحو، يقال إنها لو بيضت قاربت خمس عشرة مجلدة، وسماها النحاة بعده الذين وصلت إليهم " تعليق الغرفة " [وانتقلت هذه التعليقة إلى تلميذه أبي عبد الله محمد بن بركات السعدي (4) النحوي اللغوي المتصدر موضعه، ثم انتقلت منه إلى صاحبه: أبي محمد عبد الله بن بري النحوي المتصدر في مكانه، ثم انتقلت بعده إلى صاحبه   (1) ترجمة ابن باشباذ النحوي في معجم الأدباء 12: 17 وبغية الوعاة 5: 272 وانباه الرواة 2: 95 والشذرات 3: 333 والنجوم الزاهرة 5: 105. (2) القفطي: أصله من العراق، وكان جده أو أبوه قدم مصر تاجراً. (3) الشكة: ولم أجد لها معنى مناسباً في المعاجم، وهي تفيد هنا مجموعة جذاذات. (4) القفطي: السعيدي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 515 أبي الحسين النحوي المنبوز بثلط الفيل، المتصدر في موضعه، وقيل: إن كل واحد من هؤلاء كان يهبها لتلميذه ويعهد إليه بحفظها (1) . ولقد اجتهد جماعة من الطلبة في نسخها، فلم يتمكنوا من ذلك] (2) . وانتفع الناس بعلمه وتصانيفه. وكان وظيفته بمصر أن ديوان الإنشاء لا يخرج منه كتاب حتى يعرض عليه ويتأمله، فإن كان فيه خطأ من جهة النحو أو اللغة أصلحه كاتبه، وإلا استرضاه فسيروه إلى الجهة التي كتب إليها، وكان له على هذه الوظيفة راتب من الخزانة يتناوله في كل شهر، وأقام على ذلك زماناً. ويحكى أنه كان يوماً في شطح جامع مصر وهو يأكل شيئاً وعنده ناس، فحضرهم قط فرموا له لقمة، فأخذها في فيه وغاب عنهم ثم عاد إليهم، فرموا له شيئاً آخر ففعل كذلك، وتردد مراراً كثيرة وهم يرمون له وهو يأخذه ويغيب به ثم يعود من فوره، حتى عجبوا منه، وعلموا أن مثل هذا الطعام لا يأكله وحده لكثرته، فلما استرابوا حاله تبعوه فوجدوه يرقى إلى حائط في سطح الجامع، ثم ينزل إلى موضع خال صورة بيت خراب، وفيه قط آخر أعمى، وكل ما يأخذه من الطعام يحمله إلى ذلك القط ويضعه بين يديه وهو يأكله. فعجبوا من تلك الحال، فقال ابن بابشاذ: إذا كان هذا حيواناً أخرس قد سخر الله سبحانه وتعالى له هذا القط، وهو يقوم بكفايته ولم يحرمه الرزق، فكيف يضيع مثلي ثم قطع الشيخ علائقه واستعفى من الخدمة ونزل عن راتبه ولازم بيته واشتغاله متوكلاً على الله سبحانه وتعالى. وما زال محروساً محمول الكلفة إلى أن مات عشية اليوم الثالث من رجب سنة تسع وستين وأربعمائة بمصر، ودفن في القرافة الكبرى، رحمه الله تعالى، وزرت بها قبره، وقرأت تاريخ وفاته على حجر عند رأسه، كما هو ها هنا. وكان سبب موته أنه لما انقطع وجمع أطرافه وباع ما حوله وأبقى ما لا   (1) ذكر القفطي أنه أرسل من حلب من يشتري له تلك التعليقة بأي ثمن بلغت، فذكر له الشخص المرسل أنها صارت إلى الملك الكامل محمد بن العاذل. (2) ما بين معقفين لم يرد في المسودة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 516 بد له منه، كان انقطاعه في غرفة بجامع عمرو بن العاص، وهو الجامع العتيق بمصر، فخرج ليلة من الغرفة إلى سطح الجامع، فزلت رجله من بعض الطاقات المؤدية للضوء (1) إلى الجامع، فسقط وأصبح ميتاً. وبابشاذ: بباءين موحدتين بينهما ألف ثم شين معجمة وبعد الألف الثانية ذال معجمة، وهي كلمة عجمية تتضمن الفرح والسرور. 309 - (2) طاهر بن الحسين أبو الطيب طاهر بن الحسين بن مصعب بن رزيق (3) بن ماهان، ورأيت في مكان آخر: رزيق بن أسعد بن رادويه، وفي مكان آخر: أسعد بن زاذان - والله أعلم - وقيل مصعب بن طلحة بن رزيق الخزاعي بالولاء الملقب ذا اليمينين؛ كان جده رزيق بن ماهان مولى طلحة الطلحات الخزاعي المشهور بالكرم والجود المفرط، وكان طاهر من أكبر أعوان المأمون، وسيره من مرو كرسي خراسان لما كان المأمون بها إلى محاربة أخيه الأمين ببغداد لما خلع المأمون بيعته، والواقعة مشهورة، وسير الأمين أبا يحيى علي بن عيسى بن ماهان لدفع طاهر عنه، فتواقعا وقتل علي في المعركة. ذكر ابن العظيمي الحلبي (4) في تاريخه أن الأمين وجه علي بن عيسى بن   (1) ص: غلى النور. (2) أخبار ذي اليمينين في كتب التاريخ كالطبري وابن الأثير (ج: 6) والعيون والحدائق: 332 - 463 والبداية والنهاية 10: 265 والديارات: 91 والنجوم الزاهرة 2: 149 والشذرات 2: 161 وتاريخ بغداد 9: 353 وكتاب بغداد لابن طاهر: في صفحات مختلفة. وانظر التمثيل والمحاضرة: 291 والجهشياري: 290. (3) س ص: زريق. (4) مر التعريف به في ترجمة عماد الدين زنكي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 517 ماهان لملاقاة طاهر بن الحسين، فلقيه بالري فقتل علي بن عيسى لسبع (1) خلون من شعبان سنة خمس وتسعين ومائة. قلت: وذكر الطبري في تاريخه (2) هذه الواقعة في سنة خمس وتسعين، ولم يعين الشهر، لكنه قال: إنه قتل في الحروب، وسير طاهر بالخير إلى مرو، وبينهما نحو مائتين وخمسين فرسخاً، فسار الكتاب ليلة الجمعة وليلة السبت وليلة الأحد، ولم يذكر في أي شهر، فوصلهم يوم الأحد، ثم قال بعد هذا (3) : وخرج علي بن عيسى من بغداد لسبع ليال خلون من شعبان من سنة خمس وتسعين. والظاهر أن ابن العظيمي اشتبه عليه يوم قتل علي بن عيسى بيوم خروجه من بغداد. ثم قال بعد هذا (4) : إن الخبر وصل إلى بغداد بقتله يوم الخميس النصف من شوال من السنة، فيحتمل أنه قتل لسبع أو لتسع من شوال، وتصحف على الناسخ شوال بشعبان، فيكون كما قال الطبري خرج من بغداد في شعبان، وقتل في شوال أو في رمضان، والله أعلم. وتقدم طاهر إلى بغداد وأخذ ما في طريقه من البلاد، وحاصر بغداد والأمين بها، وقتله يوم الأحد لست أو أربع خلون من صفر سنة ثمان وتسعين ومائة، ذكره الطبري في تاريخه؛ وقال غيره: إن طاهراً سير إلى المأمون يستأذنه في أمر الأمين إذا ظفر به، فبعث إليه بقميص غير مقور، فعلم أنه يريد قتله، فعمل على ذلك، والله أعلم؛ وحمل رأسه إلى خراسان ووضع بين يدي المأمون، وعقد للمأمون على الخلافة، فكان المأمون يرعاه لمناصحته وخدمته. وقيل لطاهر ببغداد لما بلغ: ليهنك ما أدركته من هذه المنزلة التي لم يدركها أحد من نظرائك بخراسان، فقال: ليس يهنيني ذلك، لأني لا ارى عجائز بوشنج يتطلعن إلي من أعالي سطوحهن إذا مررت بهن، وإنما قال ذلك لأنه ولد ونشأ بها، وكان جده مصعب والياً عليها وعلى هراة.   (1) ص: لتسع. (2) تاريخ الطبري (حوادث: 195) ج 10: 141 (من الطبعة المصرية: 1326) . (3) ص: 149 من المصدر السابق. (4) نص ما قاله الطبري (ص: 153) : ومشى القواد بعضهم إلى بعض وذلك يوم الخميس للنصف من شوال سنة 195 فقالوا إن علياً (يعني علي بن عيسى بن ماهان) قد قتل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 518 وكان شجاعاً أديباً، وركب يوماً ببغداد في حراقته، فاعترضه مقدس ابن صيفي الخلوقي الشاعر، وقد أدنيت من الشط ليخرج، فقال: أيها الأمير، إن رأيت أن تسمع مني أبياتاً، فقال: قل، فأنشأ يقول (1) : عجبت لحراقة ابن الحسين لا ... غرقت كيف لا تغرق وبحران: من فوقها واحد ... وآخر من تحتها مطبق وأعجب من ذاك أعوادها ... وقد مسها كيف لا تورق فقال طاهر: أعطوه ثلاثة آلاف دينار (2) ، وقال له: زدنا حتى نزيدك، فقال: حسبي. ولبعض الشعراء في بعض الرؤساء، وقد ركب البحر، وما أقصر فيه: ولما امتطى البحر ابتهلت تضرعاً ... إلى الله يا مجري الرياح بلطفه جعلت الندى من كفه مثل موجه ... فسلمه واجعل موجه مثل كفه وكان طاهر قد احتاج إلى الأموال عند محاصرة بغداد، فكتب إلى المأمون يطلبها منه، فكتب له إلى خالد بن جيلويه الكاتب ليقرضه ما يحتاج إليه، فامتنع خالد من ذلك، فلما أخذ طاهر بغداد أحضر خالداً وقال له: لأقتلنك الشركة المتعهدة قتلة، فبذل من الماء شيئاً كثيراً فلم يقبله منه، فقال خالد: قد قلت شيئاً فاسمعه، ثم شأنك وما أردت، فقال طاهر: هات، وكان يعجبه الشعر، فأنشده: زعموا بأن الصقر (3) صادف مرة ... عصفور بر ساقه المقدور (4) فتكلم العصفور تحت جناحه ... والصقر منقض عليه يطير   (1) س: فأنشده، والأبيات منسوبة لعوف بن محلم في طبقات الشعراء: 189. (2) ر: درهم. (3) م: نبئت أن الباز. (4) أ: التقدير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 519 ما كنت يا هذا لمثلك لقمةً (1) ... ولئن شويت (2) فإنني لحقير فتهاون الصقر المدل بصيده (3) ... كرماً فأفلت ذلك العصفور فقال طاهر: أحسنت، وعفا عنه. وكان طاهر بفرد عين، وفيه يقول عمرو بن بانة - الآتي ذكره إن شاء الله تعالى -: يا ذا اليمينين وعين واحدة ... نقصان عين ويمين زائدة ويحكى أن إسماعيل بن جرير البجلي كان مداحاً لطاهر المذكور، فقيل له: إنه يسرق الشعر ويمدحك به، فأحب طاهر أنه يمتحنه، فقال له: تهجوني، فامتنع، فألزمه بذلك، فكتب إليه: رأيتك لا ترى إلا بعين ... وعينك لا ترى إلا قليلاً فأما إذ أصبت بفرد عين ... فخذ من عينك الأخرى كفيلا فقد أيقنت أنك عن قريب ... بظهر الكف تلتمس السبيلا فلما وقف عليها قال له: احذر أن تنشدها أحداً، ومزق الورقة. ولما استقل المأمون بالأمر بعد قتل أخيه الأمين كتب إلى طاهر بن الحسين المذكور وهو مقيم ببغداد والمأمون مقيم بخراسان بأن يسلم إلى الحسن بن سهل - المقدم ذكره - جميع ما افتتحه من البلاد، وهي العراق وبلاد الجبل وفارس والأهواز والحجاز واليمن، وأن يتوجه هو إلى الرقة، وولاه الموصل وبلاد الجزيرة الفراتية والشام والمغرب، وذلك في بقية سنة ثمان وتسعين ومائة. وأخبار طاهر كثيرة - وسيأتي ذكر ولده عبد الله وحفيده عبيد الله في حرف العين إن شاء الله تعالى -.   (1) هـ: مثلي لمثلك لا يفيد بأكله. (2) هـ: أكلت. (3) ج: بنفسه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 520 وكان مولده سنة تسع وخمسين ومائة. وتوفي يوم السبت لخمس بقين من جمادى الآخرة سنة سبع ومائتين بمدينة مرو رحمه الله تعالى. وكان المأمون قد ولاه خراسان، فوردها في شهر ربيع الآخر سنة ست ومائتين، واستخلف ابنه طلحة، هكذا قال السلامي في كتاب " أخبار ولاة خراسان "، وقال غيره (1) : إنه خلع طاعة المأمون، وجاءت كتب البريد من خراسان تتضمن ذلك، فقلق المأمون لذلك قلقاً شديداً، ثم جاءته كتب البريد ثاني يوم أنه أصابته عقيب ما خلع حمى فوجد في فراشه ميتاً، وقيل إنه حدث به في جفن عينه حادث، فسقط ميتاً. [وحكى هارون بن العباس بن المأمون في تاريخه، قال (2) : دخل طاهر يوماً على المأمون في حاجة فقضاها وبكى حتى اغرورقت عيناه بالدموع، فقال طاهر: يا أمير المؤمنين لم تبكي لا أبكى الله عينك، وقد دانت لك الدنيا وبلغت الأماني، فقال: أبكي لا عن ذل ولا عن حزن، ولكن لا تخلو نفس من شجن، فاغتنم طاهر وقال لحسين الخادم وكان يحجب المأمون في خلواته: أريد أن تسأل أمير المؤمنين عن موجب بكائه عندما رآني، ثم أنفذ طاهر للخادم مائة ألف درهم، فلما كان في بعض خلوات المأمون وهو طيب الخاطر قال له حسين الخادم: يا أمير المؤمنين، لم بكيت لما دخل عليك طاهر فقال: مالك ولهذا ويلك قال: غمني بكاؤك، فقال: هو أمر إن خرج من رأسك أخذته، فقال: يا سيدي ومتى أبحت لك سراً قال: إني ذكرت محمداً أخي وما ناله من الذلة، فخنقتني العبرة، ولن يفوت طاهراً مني ما يكره، فأخبر حسين طاهراً بذلك، فركب طاهر إلى أحمد بن أبي خالد فقال له: إن الثناء مني ليس برخيص وإن المعروف عندي ليس بضائع، فغيبني عن المأمون، فقال: سأفعل، فبكر إلي غداً، وركب أحمد إلى المأمون فقال له: لم أنم البارحة، فقال له: ولم قال: لأنك وليت خراسان غسان وهو ومن معه أكلة رأس، وأخاف أن يصطلمه مصطلم، فقال: فمن ترى قال: طاهر، قال: هو   (1) انظر تفصيل هذا الخبر في كتاب ابن طاهر: 73 وما بعدها. (2) ورد الخبر في المصدر السابق: 23 وقد جاء في النسخة ج باختلاف يسير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 521 جائع، فقال: أنا ضامن له، فدعا به المأمون وعقد له على خراسان من ساعته، وأهدى له خادماً كان رباه، وأمره إن رأى ما يريبه أن يسمه، فلما تمكن طاهر من الولاية قطع الخطبة. حكى كلثوم بن ثابت متولي بريد خراسان قال: صعد طاهر المنبر يوم الجمعة وخطب، فلما بلغ ذكر الخليفة أمسك، فكتب بذلك إلى المأمون على خيل البريد، واصبح طاهر يوم السبت ميتاً فكتب أيضاً بذلك، فلما وصلت الخريطة الأولى إلى المأمون دعا أحمد بن أبي خالد وقال: اشخص الآن فأت به كما ضمنت، واكرهه على المسير في يومه، ثم بعد شدائد أذن له في المبيت، ثم وافت الخريطة الثانية من يومه بموته، وقيل: إن الخادم سمه في كامخ] (1) . (66) ثم إن المأمون استخلف ولده طلحة على خراسان، وقيل إنه جعله خليفة بها لأخيه عبد الله بن طاهر الآتي ذكره، وتوفي طلحة سنة ثلاث عشرة ومائتين ببلخ. واختلفوا في تلقيبه بذي اليمينين (2) لأي معنى كان، فقيل لأنه ضرب شخصاً في وقعته مع علي بن ماهان كما تقدم فقده نصفين، وكانت الضربة بيساره، فقال فيه بعض الشعراء: كلتا يديك يمين حين تضربه ... فلقبه المأمون " ذا اليمينين "، وقيل غير ذلك. (67) وكان جده مصعب بن رزيق (3) كاتباً لسليمان بن كثير الخزاعي صاحب دعوة بني العباس، وكان بليغاً، فمن كلامه: ما احوج الكاتب إلى نفس تسمو به إلى أعلى المراتب، وطبع يقوده إلى أكرم الأخلاق، وهمة تكفه عن دنس الطمع ودناءة الطبع.   (1) ما بين معقفين سقط من ص س والمسودة. (2) ذكر الثعالبي (ثمار القلوب: 291) أنه لقب بذلك لأن المأمون كتب إليه: " يمينك يمين أمير المؤمنين وشمالك يمين ". (3) انظر الحهشياري: 74. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 522 وبوشنج: بضم الباء الموحدة وسكون الواو وفتح الشين المعجمة وسكون النون وبعدها جيم، وهي بلدة بخراسان على سبعة فراسخ من هراة. ومقدس: بضم الميم وفتح القاف وتشديد الدال المهملة المكسورة وبعدها سين مهملة، وهو اسم علم على الشاعر المذكور. والخلوقي: بفتح الخاء المعجمة وضم اللام وسكون الواو وبعدها قاف، هذه النسبة إلى خلوق او خلوقة، وهي قبيلة من العرب مشهورة. (68) ومات والده الحسين بن مصعب بخراسان في سنة تسع وتسعين ومائة، وحضر المأمون جنازته وبعث إلى ابنه طاهر وهو بالعراق يعزيه. 310 - (1) سيف الإسلام طغتكين سيف الإسلام أبو الفوارس طغتكين بن أيوب بن شاذي بن مروان المنعوت بالملك العزيز ظهير الدين، صاحب اليمن؛ كان أخوه السلطان الملك الناصر صلاح الدين، رحمه الله تعالى، لما ملك الديار المصرية قد سير أخاه شمس الدولة توران شاه - المقدم ذكره في حرف التاء - إلى بلاد اليمن، فملكها واستولى على كثير من بلادها، ورجع عنها - حسبما هو مذكور في ترجمته - ثم سير السلطان إليها بعد ذلك أخاه سيف الإسلام المذكور، وذلك في سنة سبع وسبعين وخمسمائة. وكان رجلاً شجاعاً كريماً مشكور السيرة حسن السياسة مقصوداً من البلاد الشاسعة لإحسانه وبره، ودخل إليه شرف الدين أبو المحاسن ابن عنين الدمشقي - الآتي ذكره في حرف الميم إن شاء الله تعالى - ومدحه بغر القصائد، فأحسن إليه وأجزل صلته، واكتسب من جهته مالاً وافراً وخرج به من اليمن،   (1) ترجمة طغتكين في ابن الأثير 11: 480 ومفرج الكروب 2: 105 وصفحات كثيرة في مرآة الزمان، والعقود اللؤلؤية 1: 29. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 523 فلما وصل إلى الديار المصرية وسلطانها يومئذ الملك العزيز عماد الدين عثمان ابن السلطان صلاح الدين، رحمه الله تعالى، ألزمه أرباب ديوان الزكاة بدفع الزكاة من المتاجر التي وصلت صحبته، فعمل (1) : ما كل من يتمسى بالعزيز لها ... أهل ولا كل برق سحبه غدقه بين العزيزين بون في فعالهما ... هذا يعطي، وهذا يأخذ الصدقة وكانت وفاة سيف الإسلام في شوال تاسع عشر سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة بالمنصورة، وهي مدينة اختطها بالمين، رحمه الله تعالى. (69) وتولى بعده ولده الملك المعز فتح الدين إسماعيل (2) ، وللمعز المذكور صنف أبو الغنائم مسلم بن محمود بن نعمة بن أرسلان الشيزري كتابه الذي سماه " عجائب الأسفار وغرائب الأخبار " وأودع فيه من أشعاره وأخبار الناس كثيراً، وذكر العز بن عساكر أنه مات بالحمراء من بلاد اليمن، وذكر أبو الغنائم المذكور في كتابه الذي سماه " جمهرة الإسلام ذات النثر والنظام " (3) أنه مات بتعز، ودفن بها بالمدرسة. ثم قال: وقتل ولده فتح الدين أبو الفداء إسماعيل في رجب سنة ثمان وتسعين، بمكان يقال له عجي شامي زبيد، وتولى مكانه أخوه الملك الناصر أيوب (4) . [وكان الملك المعز اسماعيل اهوج كثير التخليط بحيث أنه ادعى أنه قرشي من بني أمية وخطب لنفسه بالخلافة وتلقب بالهادي، فلما سمع عمه الملك العادل   (1) ديوان ابن عنين: 223. (2) راجع نبذة عنه في بلوغ المرام: 41. (3) من هذا الكتاب نسخة خطية بليدن رقم 480 وقد جاء في مقدمتها: " أما بعد فهذا كتاب ألفته وبعضه أنشأته لخزانة مولانا الملك المسعود السيد الأجل الكبير العالم العامل المجاهد المظفر المنصور صلاح الدين مالك المسلمين، ذخر الإسلام، عدة الأنام، أسد الدولة، بهاء الملة، شمس الملوك والسلاطين، قاتل الكفرة والملحدين، قاهر الخوارج والمتمردين، صلاح الدين سلطان اليمن ... الخ " وقد قسمه في ستة عشر كتاباً وختم كل كتاب بيراد شيء من قوله وقول ولده أحمد في مدح الملك المسعود صلاح الدين يوسف بن محمد بن سيف الدين أبي بكر. (4) ترتيب أخبار الملك المعز مختلف في نسخة ص عما هو عليه في سائر النسخ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 524 ذلك ساءه وأهمه وكتب إليه يلومه ويوبخه ويأمره بالعودة إلى نسبه الصحيح، ويترك ما ارتكبه مما يضحك الناس منه، فلم يلتفت ولم يرجع؛ وانضاف إلى ذلك أنه أساء السيرة مع اجناده وامرائه، فوثبوا عليه فقتلوه وملكوا عليهم أخاه الملك الناصر محمداً] (1) . (70) وكان أبو الغنائم المذكور أديباً شاعراً، وكان موجوداص في سنة سبع عشرة وستمائة. فقد توفي في هذه السنة أو بعدها. (71) وكان أبوه أبو الثناء محمود (2) نحوياً متصدراً بجامع دمشق لإقراء النحور، وذكره الحافظ ابن عساكر في تاريخه الكبير، وذكره العماد الكاتب في كتاب " الخريدة " (3) وقال: توفي بعد سنة خمس وستين وخمسمائة. وقال شرف الدين ابن عنين: أنشدني محمود المذكور لنفسه (4) : يقولون كافات الشتاء كثيرة ... وما هي إلا واحد غير مفترى إذا صح كان الكيس فالكل حاصل ... لديك، وكل الصيد يوجد في الفرا وكان جده أرسلان مملوك ابن منقذ صاحب شيزر، والله أعلم. وطغتكين: بضم الطاء المهملة وسكون الغين المعجمة وكسر التاء المثناة من فوقها والكاف وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها نون، وهو اسم تركي [لا أعرف معناه] .   (1) زيادة من ص. (2) قال القفطي (انباه 3: 273) : كان محمود بن نعمة شاعر ابن منقذ، وله شعر حسن كان يحفظ أشعاراً كثيرة، وتوفي بدمشق؛ وانظر أيضاً بغية اوعاة: 390 والنجوم الزاهرة 5: 358. (3) الخريدة (قسم الشام) 1: 575. (4) الخريدة: 576. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 525 (1) 311 الصالح بن رزيك أبو الغارات طلائع بن رزيك الملقب الملك الصالح وزير مصر؛ كان والياً بمنية بني خصيب من أعمال صعيد مصر، فلما قتل الظافر إسماعيل صاحب مصر - كما تقدم في حرف الهمزة - سير أهل القصر إلى الصالح، واستنجدوا به على عباس وولده نصر المتفقين على قتله، فتوجه الصالح إلى القاهرة ومعه جمع عظيم من العربان، فلما قربوا من البلد هرب عباس وولده وأتباعهما ومعهما أسامة بن منقذ - المذكور في حرف الهمزة أيضاً - لأنه كان مشاركاً لهما في ذلك على ما يقال، ودخل الصالح إلى القاهرة وتولى الوزارة في أيام الفائز، واستقل بالأمور وتدبير أحوال الدولة، وكانت ولايته في التاسع عشر من شهر ربيع الأول سنة تسع وأربعين وخمسمائة. وكان فاضلاً سمحاً في العطاء سهلاً في اللقاء محباً لأهل الفضائل جيد الشعر، وقفت على ديوان شعره وهو في جزاين، ومن شعره قوله (2) : كم ذا يرينا الدهر من أحداثه ... عبراً وفينا الصد والإعراض ننسى الممات وليس يجري ذكره ... فينا فتذكرنا به الأمراض ومن شعره أيضاً (3) : ومهفهف ثمل القوام سرت إلى ... أعطافه النشوات من عينيه ماضي اللحاظ كأنما سلت يدي ... سيفي غداة الروع من جفنيه   (1) ترجمة طلائع بن رزيك في الخريدة (قسم مصر) 1: 173 وفيالحاشية ثبت بمصادر ترجمته؛ وانظر النكت العصرية 1: 32 وما بعدها، وقد جمع محمد هادي الأميني ديوانه (ط. النجف: 1964 وألحق بمقدمته ثبتاً مفصلاً في مصادر ترجمته) قلت: وهذه الترجمة مستوفاة في المسودة. (2) ديوانه: 84. (3) الخريدة 1: 177 والديوان: 174. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 526 قد قلت إذ خط العذار بمسكة ... في خده ألفيه لا لاميه ما الشعر دب بعارضيه وإنما ... أصداغه نفضت على خديه الناس طوع يدي وامري نافذ ... فيهم وقلبي الآن طوع يديه فاعجب لسلطان يعم بعدله ... ويجور سلطان الغرام عليه والله لولا اسم الفرار وأنه ... مستقبح لفررت منه إليه وروى عنه أبو الحسن علي بن إبراهيم بن نجا بن غنائم الأنصاري الملقب زين الدين الحنبلي المعروف بابن نجية الواعظ المشهور الدمشق قال: أنشدني طلائع بن رزيك لنفسه بمصر (1) : مشيبك قد نضا صبغ الشباب ... وحل الباز في وكر الغراب تنام ومقلة الحدثان يقظى ... وما ناب النوائب (2) عنك نابي وكيف بقاء عمرك وهو كنز ... وقد أنفقت منه بلا حساب وكان المهذب عبد الله بن أسعد الموصلي نزيل حمص قد قصده من الموصل، ومدحه بقصيدته الكافية التي أولها (3) : أما كفاك تلافي في تلافيكا ... ولست تنقم إلا فرط حبيكا وهي من نخب القصائد، ومخلصها (4) : وفيم تغضب أن قال الوشاة سلا ... وأنت تعلم أني لست أسلوكا لا نلت وصلك إن كان الذي زعموا ... ولا شفى ظمئي وجود ابن رزيكا وهي طويلة ولولا خوف الإطالة لكتبتها.   (1) الديوان: 57. (2) س: الحوادث. (3) انظر ابن الصابوني: 360. (4) سقطت هذه العبارة من ر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 527 ولما مات الفائز وتولى العاضد مكانه استمر الصالح على وزارته وزادت حرمته وتزوج العاضد ابنته، فاغتر بطول السلامة، وكان العاضد تحت قبضته وفي أسره، فلما طال عليه ذلك أعمل الحيلة في قتله، فاتفق مع قوم من أجناد الدولة يقال لهم أولاد الراعي وتقرر ذلك بينهم، وعين لهم موضعاً في القصر يجلسون فيه مستخفين، فإذا مر بهم الصالح ليلاً أو نهاراً قتلوه، فقعدوا له ليلة وخرج من القصر، فقاموا ليخرجوا غليه، فاراد أحدهم أن يفتح غلق الباب فأغلقه وما علم، فلم يحصل مقصودهم تلك الليلة لأمر أراده الله تعالى في تأخير الأجل، ثم جلسوا له يوماً آخر، فدخل القصر نهاراً فوثبوا عليه وجرحوه جراحات عديدة بعضها في رأسه، ووقع الصوت، فعاد أصحابه إليه فققتلوا الذين جرحوه وحمل إلى داره مجروحاً ودمه يسيل، وأقام بعض يوم. ومات يوم الاثنين تاسع عشر رمضان سنة ست وخمسين وخمسمائة، رحمه الله تعالىن وكانت ولادته في سنة خمس وتسعين وأربعمائة. وخرجت الخلع لولده العادل يحيى الدين رزيك - المقدم ذكره في ترجمة شاور - يوم الثلاثاء ثاني يوم وفاة أبيه، وكنيته أبو شجاع، ولما تولى الوزارة لقبوه العادل الناصر. ولما مات رثاه الفقيه عمارة اليمنى بقصيدة، أولها (1) : أفي أهل ذا النادي عليم أسائله ... فإني لما بي ذاهب اللب ذاهله سمعت حديثاً أحسد الصم عنده ... ويذهل واعيه ويخرس قائله فهل من جواب يستغيث به المنى ... ويعلو على حق المصيبة باطله وقد رابني من شاهد الحال أنني ... أرى الدست منصوباً وما فيه كافله فهل غاب عنه واستناب سليله ... أم اختار هجراً لا يرجى تواصله فإني ارى فوق الوجوه كآبة ... تدل على أن الوجوه ثواكله ومنها: دعوني فما هذا أوان بكائه ... سيأتيكم طل البكاء ووابله   (1) النكت العصرية: 50، وهي في ديوانه في 76 بيتاً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 528 ولا تنكروا حزني عليه فإنني ... تقشع عني وابل كنت آمله ولما لا نبكيه ونندب فقده ... وأولادنا أيتامه وأرامله فيما ليت شعري بعد حسن فعاله ... وقد غاب عنا ما بنا الله فاعله أيكرم مثوى ضيفكم وغريبكم ... فيمكث أم تطوى ببين مراحله وهي طويلة؛ وكان قد دفن بالقاهرة، ثم نقله ولده العادل من دار الوزارة التي دفن بها، وهي المعروفة بانشاء الأفضل شاهان شاه - المقدم ذكره -؛ وكان نقله في تاسع عشر صفر سنة سبع وخمسين في تابوت وركب خلفه العاضد إلى تربته التي بالقرافة الكبرى، فعمل في ذلك الفقيه عمارة أيضاً قصيدة طويلة أجاد فيها، ومن جملتها في صفة التابوت: وكأنه تابوت موسى أودعت ... في جانبيه سكينة ووقار وله فيه مرات كثيرة. وهذا الصالح هو الذي بنى الجامع الذي على باب زويلة بظاهر القاهرة. (72) وأما ولده العادل رزيك (1) فقد ذكرت في ترجمة شاور تاريخ هربه من القاهرة، وكان قد حمل معه من الذخائر ما لا يحصى، ومعه أهله وحاشيته، واستجار بسليمان، وقيل بيعقوب بن النيص (2) اللخمي، وكان من خواص أصحابهم، وحصل من جهتهم نعمة وافرة، فأنزلهم عنده وهو بإطفيح، وسار من ساعته إلى شاور وأعلمه بهم، فندب معه جماعة ومضوا إلى العادل وأخذوه أسراً وأحضروه إلى باب شاور، فوقف زماناً طويلاً ثم حبسه. ثم قال شاور لابن النيص: لقد خبأك الصالح ذخيرة صالحة لولده وأنا أخبؤك أيضاً لولدي، ثم شنقه، وبقي العادل في الاعتقال مدة مديدة، ثم قتله   (1) يلقب بالملك الناصر، قال عمارة (النكت: 53) " إن الله لم يمهله إلا مديدة يسيرة، وكانت أفعال الخير فيها كثيرة وذلك أنه سامح الناس بالبواقي والحسابات القديمة وأسقط من رسوم الظلم مبالغ عظيمة ... الخ ". (2) ص: الفيض، وأثبتنا ما في ر والمسودة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 529 وأخرج رأسه لأمراء الدولة (1) . ومن العجائب أن الصالح ولي الوزارة في التاسع عشرن وقتل في التاسع عشر، ونقل تابوته في التاسع عشر، وزالت دولتهم في التاسع عشر. ورزيك: بضم الراء وتشديد الزاي المكسورة وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها كاف. (73) وكانت (2) ولادة زين الدين الواعظ (3) المذكور سنة ثمان وخمسمائة بدمشق، ونشأ لها وقدم بغداد مراراً، وصاهر أبا الحسن سعد الخير بن محمد بن سهل بن سعد البلنسي الأنصاري الأندلسي (4) على ابنته أم عبد الكريم فاطمة، وانتقل قبل وفاته إلى مصر، وحدث بها، وتوفي يوم الأربعاء ثامن رمضان سنة تسع وتسعين وخمسمائة بمصر، وهو المعروف بابن نجية، رحمه الله تعالى.   (1) وأما ولده العادل ... الدولة: لم ترد هذه الفقرة في م. (2) من هنا إلى آخر الترجمة لم يرد فيم. (3) ترجمة زين الدين علي بن إبراهيم الواعظ في ذيل الروضتين: 34 وذيل ابن رجب 1: 436، وفي إحدى رحلاته إلى بغداد (سنة 564) كان رسولاً عن نور الدين زنكي، وهناك تعرف إلى سعد الخير البلنسي وصاهره على ابنته فاطمة ونقلها معه إلى مصر، وانتقلت كتب سعد الخير إليه، وكان انتقاله إلى مصر من قبل دولة صلاح الدين، وهناك كان يعظ بجامع القرافة، وكان صلاح الدين يسميه عمرو بن العاص لصواب رأيه، وهو الذي أنهى إلى صلاح الدين خبر مؤامرة عمارة اليمني ورفاقهإعادة الدولة الفاطمية، ولما فتح صلاح الدين القدس كان معه. (4) أندلسي رحالة وصل الصين وقاسى المشقات، وتتلمذ ببغداد للغزالي، وسكنها بعد أن استقر فترة بأصبهان وتوفي سنة 541 (ترجمته في التكملة: رقم 2011 والذي والتكملة 4: 16 ونفح الطيب 2: 632، رقم: 255) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 530 312 - (1) أبو يزيد البسطامي أيو يزيد طيفور بن عيسى بن آدم بن عيسى بن علي البسطامي الزاهد المشهور؛ كان جده مجوسياً ثم أسلم، وكان له أخوان زاهدان عابدان أيضاً: آدم وعلي، وكان أبو يزيد أجلهم. وسئل أبو يزيد: بأي شيء وجدت هذه المعرفة فقال: ببطن جائع وبدن عار؛ وقيل لأبي يزيد: ما أشد ما لقيته في سبيل الله تعالى فقال: لا يمكن وصفه، فقيل له: ما أهون ما لقيت نفسك منك فقال: أما هذا فنعم، دعوتها إلى شيء من الطاعات فلم تجبني طوعاً، فمنعتها الماء سنة. وكان يقول: لو نظرتم إلى رجل أعطي من الكرامات حتى يرتفع في الهواء فلا تغتروا به حتى تنظروا كيف تجدونه عند الأمر والنهي وحفظ الحدود وأداء الشريعة. وله مقالات كثيرة ومجاهدات مشهورة وكرامات ظاهرة. وكانت وفاته سنة إحدى وستين، وقيل أربع وستين ومائتين، رحمه الله تعالى. وطيفور: بفتح الطاء المهملة وسكون الياء المثناة من تحتها وضم الفاء وبعد الواو الساكنة راء. والبسطامي: بفتح الباء الموحدة وسكون السين المهملة وفتح الطاء المهملة وبعد الألف ميم، هذه النسبة إلى بسطام، وهي بلدة مشهورة من أعمال قومس ويقال: إنها أول بلاد خراسان من جهة العراق، والله أعلم.   (1) ترجمة أبي يزيد البسطامي في طبقات السلمي: 67 وحلية الأولياء 10: 33 وطبقات المناوي 1: 244 وميزان الاعتدال 2: 346 وقد وردت في المسودة دون نقص. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 531 فراغ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 532 حَرفُ الظاء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 533 فراغ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 534 313 - (1) أبو الأسود الدؤلي أبو الأسود ظالم بن عمرو بن سفيان بن جندل بن يعمر بن حلس بن نفاثة ابن عدي بن الديل بن بكر الديلي، ويقال: الدؤلي، وفي اسمه ونسبه ونسبته اختلاف كثير؛ كان من سادات التابعين وأعيانهم، صحب علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، وشهد معه وقعة صفين، وهو بصري، وكان من أكمل الرجال رأياً وأسدهم عقلاً. وهو أول من وضع النحو، قيل إن علياً، رضي الله عنه، وضع له: الكلام كله ثلاثة أضرب: اسم وفعل وحرف، ثم رفعه إليه وقال له: تمم على هذا. [وكان ينزل البصرة في بني قشير، وكانوا يرجمونه بالليل لمحبته علياً كرم الله وجهه، فإذا ذكر رجمهم قالوا: إن الله يرجمك، فيقول لهم: تكذبون، لو رجمني الله لأصابني ولكنكم ترجمون ولا تصيبون ... وهذا بالعكس مما جرى لأبي الجهم العدوي فإنه باع داره بمائة ألف درهم ثم قال: فبكم تشترون جوار سعيد بن العاص قالوا: وهل يشتري جوار قط قال: ردوا علي داري ثم خذوا مالكم، لا أدع جوار رجل أن قعدت سأل عني وإن رآني رحب بي وإن غبت حفظني وإن شهدت قرني وإن سألته قضى حاجتي وإن لم أسأله بدأني وإن نابتني فرج عني، فبلغ ذلك سعيداً فبعت إليه بمائة ألف درهم.   (1) ترجمة أبي الأسود الدؤلي في تهذيب ابن عساكر 7: 104 والخزانة 1: 136 والفهرست: 39 وانباه الرواة 1: 13 ومعجم الأدباء 12: 34 وسرح العيون: 153 وغاية النهاية 1: 345 (وفي حاشية الانباه ثبت واف بمصادر ترجمته) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 535 وحكى أبو غفر الدؤلي - وكان شاعراً - قال: كنت عند عبد الملك بن مروان إذ دخل عليه أبو الأسود الدؤلي - وكان أحول دميماً قبيح المنظر - فقال له عبد الملك: يا أبا الأسود، لو علقت عليك عودة من العين، فقال: إن لك جواباً يا أمير المؤمنين، وأنشد: افنى الشباب الذي افنيت جدته ... كر الجديدين من آت ومنطلق لم يتركا لي في طول اختلافهما ... شيئاً أخاف عليه لذعة الحدق أما والله لئن كانت أبلتني السنون وأسرعت إلي المنون لما اثبت ذاك إلا في موضعه، ولرب يوم كنت فيه إلى الآنسات البيض اشهى منك إليهن، وإني اليوم لكما قال امرؤ القيس: أراهن لا يحببن من قل ماله ... ولا من رأين الشيب فيه وقوما ولقد كنت كما قال أيضاً: ورعن إلى صوتي إذا ما سمعنه ... كما يرعوي عيط إلى صوت اعيسا فقال عبد الملك: قاتلك الله من شيخ ما أعظم همتكّ! وكان لأبي الأسود من معاوية ناحية حسنة فوعده وعداً أبطأ عليه فقال: لا يكن برقك برقاً خلباً ... إن خير البرق ما الغيث معه لا تهني بعد إذ أكرمتني ... فقبيح عادة منتزعه] (1) وقيل إنه كان يعلم أولاد زياد بن أبيه وهو والي العراقين يومئذ، فجاءه يوماً وقال له: أصلح الله الأمير، إني أرى العرب قد خالطت هذه الأعاجم وتغيرت ألسنتهم، أفتأذن لي أن أضع للعرب ما يعرفون أو يقيمون به كلامهم قال: لا، قال: فجاء رجل إلى زياد وقال: أصلح الله الأمير، توفي أبانا وترك   (1) ما بين معقفين زيادة من د. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 536 بنون، فقال زياد: توفي أبانا وترك بنون!! ادعوا لي أبا الأسود، فلما حضر قال: ضع للناس الذي نهيتك أن تضع لهم. وقيل: إنه دخل بيته يوماً فقال له بعض بناته: يا أبت، ما أحسن السماء، فقال: يا بنية نجومها، فقالت له: إني لم أرد أي شيء منها أحسن، إنما تعجبت من حسنها، فقال: إذن فقولي ما أحسن السماء، وحينئذ وضع النحو. وحكى ولده أبو حرب قال: أول باب رسم أبي باب التعجب. وقيل لأبي الأسود: من أين لك هذا العلم يعنون النحو، فقال: لقنت حدوده من علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وقيل إن أبا الأسود المذكور كان لا يخرج شيئاً أخذه عن علي بن أبي طالب إلى أحد، حتى بعث إليه زياد المذكور: أن اعمل شيئاً يكون للناس إماماً ويعرف به كتاب الله عز وجل، فاستعفاه من ذلك، حتى سمع أبو الأسود قارئاً يقرأ: (إن الله بريء من المشركين ورسوله) ، بالكسر، فقال: ما ظننت أن أمر الناس آل إلى هذا، فرجع إلى زياد فقال: أفعل ما أمر به الأمير، فليبغني كاتباً لقناً يفعل ما أقول له، فأتي بكاتب من عبد القيس فلم يرضه، فأتي بآخر فقال له أبو الأسود: إذا رأيتني قد فتحت فمي بالحرف فانقط نقطة فوقه، وإن ضممت فمي فانقط بين يدي الحرف، وإن كسرت فاجعل النقطة من تحت، ففعل ذلك. وإنما سمي النحو نحواً لأن أبا الأسود المذكور قال: استأذنت علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن أضع نحو ما وضع، فسمي لذلك نحواً، والله أعلم. وكان لأبي الأسود بالبصرة دار، وله جار يتأذى منه في كل وقت، فباع الدار فقيل له: بعت دارك، فقال: بل بعت جاري، فأسلها مثلاً. ودخل أبو الأسود يوماً على عبيد الله بن أبي بكرة نفيع بن الحارث بن كلدة الثقفي رضي الله عنه، فرأى عليه جبة رثة كان يكثر لبسها، فقال: يا أبا الأسود أما تمل هذه الجبة فقال: رب مملوك لا يستطاع فراقه، فلما خرج من عنده بعث (1) إليه مائة ثوب، فكان ينشد بعد ذلك - وقيل إن هذه   (1) هـ: سيّر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 537 القضية جرت له مع المنذر بن الجارود (1) -: كساني ولم أستكسه فحمدته ... أخ لك يعطيك الجزيل وناصر وإن أحق الناس إن كنت شاكراً ... بشكرك من أعطاك والعرض وافر يروى " مملوك " بالكفا و " مملول " باللام، ويروى " ناصر " بالنون و " ياصر " بالياء، ولكل واحد منهما معنى، فمعناه بالنون ظاهر لأنه من النصرة وبالياء من التعطف والحنو، يقال: فلان يأصر على فلان، إذا كان يعطف عليه ويحنو. وله أشعار كثيرة، فمن ذلك قوله (2) : وما طلب المعيشة بالتمني ... ولكن ألق دلوك في الدلاء تجيء بملئها طوراً وطوراً ... تجيء بحمأة وقليل ماء ومن شعره أيضاً - وله ديوان شعر -: صبغت أمية بالدماء أكفنا ... وطوت أمية دوننا دنياها ويحكى أنه أصابه الفالج فكان يخرج إلى السوق يجر رجله، وكان موسراً ذا عبيد وإماء، فقيل له: قد أغناك الله عز وجل عن السعي في حاجتك، فلو جلست في بيتك، فقال: لا، ولكني أخرج وأدخل فيقول الخادم: قد جاء، ويقول الصبي: قد جاء، ولو جلست في البيت (3) فبالت علي الشاة ما منعها أحد عني. وحكى خليفة بن خياط أن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما كان عاملاً لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه على البصرة، فلما شخص الىالحجاز استخلف أبا الأسود عليها، فلم يزل حتى قتل علي رضي الله عنه. وكان أبو الأسود معروفاً بالبخل، وكان يقول: لو أطعنا المساكين في أموالنا   (1) ديوان أبي الأسود: 38. (2) ديوانه: 36. (3) أ: بيتي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 538 لكنا أسوأ حالاً منهم. وقال لبنيه: لا تجاودوا الله عز وجل فإنه أجود وأمجد، ولو شاء أو يوسع على الناس كلهم لفعل، فلا تجهدوا أنفسكم في التوسع فتهلكوا هزالاً. وسمع رجلاً يقول: من يعشي الجائع فقال: علي به، فعشاه، ثم ذهب ليخرج، فقال: أين تريد قال: أهلي، قال: هيهات، ما عشيتك إلا على أن لا تؤذي المسلمين الليلة، ثم وضع في رجله القيد حتى أصبح. وتوفي أبو الأسود بالبصرة سنة تسع وستين في طاعون الجارف، وعمره خمس وثمانون سنة رضي الله عنه، وقيل إنه مات قبل الطاعون بعلة الفالج، وقيل إنه توفي في خلافة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، وتولى عمر الخلافة في صفر سنة تسع وتسعين للهجرة وتوفي في رجب سنة إحدى ومائة بدير سمعان، رضي الله عنه. وقيل لأبي الأسود عند الموت: أبشر بالمغفرة، فقال: وأين الحياء مما كانت له المغفرة والديلي: بكسر الدال المهملة وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها لام، والدؤلي: بضم الدال المهمة وفتح الهمزة وبعدها لام، هذه النسبة إلى الدئل بكسر الهمزة، وهي قبيلة من كنانة، وإنما فتحت الهمزة في النسبة لئلا تتوالى الكسرات، كما قالوا في النسبة إلى نمرة نمري - بالفتح - وهي قاعدة مطردة، والدئل: اسم دابة بين ابن عرس والثعلب. وحلس: بكسر الحاء المهملة وسكون اللام وبعدها سين مهملة، هكذا ذكره الوزير أبو القاسم المغربي في كتاب " الإيناس " وهو مما يحرف كثيراً فقد وجدت فيه اختلافاً، وهذا الأصح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 539 314 - (1) ظافر الحداد أبو المنصور ظافر بن القاسم بن منصور بن عبد الله بن خلف بن عبد الغني الجذامي الإسكندراني المعروف بالحداد الشاعر المشهور؛ كان من الشعراء المجيدين وله ديوان شعر أكثره جيد، ومدح جماعة من المصريين، وروى عنه الحافظ أبو طاهر السلفي وغيره من الأعيان. ومن مشهور شعره قوله (2) : لو كان بالصبر الجميل ملاذه ... ما سح وابل دمعه ورذاذه ما زال جيش الحب (3) يغزو قلبه ... حتى وهى وتقطعت أفلاذه لم يبق فيه مع (4) الغرام بقية ... إلا رسيس يحتويه جذاذه من كان يرغب في السلامة فليكن ... أبداً من الحدق المراض عياذه لا تخدعنك بالفتور فإنه ... نظر يضر بقلبك استلذاذه يا أيها الرشأ الذي من طرفه ... سهم إلى حب القلوب نفاذه در يلوح بفيك من نظامه ... خمر يجول عليه من نباذه وقناة ذاك القد كيف تقومت ... وسنان ذاك اللحظ ما فولاذه رفقاً بجسمك لا يذوب فإنني ... أخشى بأن يجفو عليه لاذه (5) هاروت يعجز عن مواقع سحره ... وهو الإمام فمن ترى أستاذه   (1) ترجمة ظافر الحداد في معجم الأدباء 12: 27 والخريدة (قسم مصر) 2: 1 - 17 والنجوم الزاهرة 5: 376 ورسالة أبي الصلت (نوادر المخطوطات 1: 53) . (2) ياقوت: 31 وديوان ظافر: 127. (3) أج: الهم. (4) م: من. (5) سقط هذا البيت من م وياقوت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 540 تالله ما علقت محاسنك امرءاً ... إلا وعز على الورى استنقاذه أغريت حبك بالقلوب فأذعنت ... طوعاً وقد أودى بها استحواذه ما لي أتيت الحظ من أبوابه ... جهدي فدام نفوره ولواذه إياك من طمع المنى فعزيزه ... كذليله وغنيه شحاذه منها: ذالية ابن دريد استهوى بها ... قوماً غداة نبت به بغداذه دانوا لزخرف قوله فتفرقت ... طمعاً بهم صرعاه أو جذاذه من قدر الرزق السني لك أنما ... قد كان ليس يضره إنفاذه (1) وهذه القصيدة من غرز القصائد. والعجب أني رأيت صاحبنا عماد الدين أبا المجد إسماعيل المعروف بابن باطيش الموصلي قد ذكر هذه الأبيات في كتابه " المغني " الذي وضعه على كتاب " المهذب " في الفقه، وفسر فيه غريبه، وتكلم على أسماء رجاله، فلما انتهى إلى ذكر أبي بكر محمد بنا لحداد المصري الفقيه الشافعي وشرح طرفاً من حاله قال بعد ذلك: وكان مليح الشعر، أنشدني بعض الفقهاء أبياتاً من قصيدة عزاها إليه، وذكر بعض هذه الأبيات المكتتبة (2) ها هنا، وما أوقعه في هذا إلا كون ظافر يعرف بالحداد، والفقيه ابن الحداد، بجمعتهما لفظة الحداد، فمن ها هنا حصل الالتباس (3) . ومن شعره أيضاً (4) : رحلوا فلولا أنني ... أرجو الإياب قضيب نحبي والله ما فارقتهم ... لكنني فارقت قلبي   (1) ومنها ... يضره إنقاذه: سقط من ص. (2) ج: المكتوبة. (3) من قوله: وهذه القصيدة ... الالتباس: لم ترد هذه الفقرة كلها في م. (4) رسالة أبي الصلت: 54 والديوان: 53. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 541 (74) وذكر العماد الكاتب في " الخريدة " هذين البيتين للعيني (1) ، ثم قال: كان العيني من الأجناد الأكياس، مذكوراً بالباس. وتوفي سنة ست وأربعين وخمسمائة. والصحيح أنهما لظافر الحداد، وذكرهما في " الخريدة " في ترجمة ظافر الحداد أيضاً (2) . وله من جملة قصيد: يذم المحبون الرقيب وليت لي ... من الوصل ما يشخى عليه رقيب وكانت وفاته بمصر في المحرم سنة تسع وعشرين وخمسمائة. وقد تقدم الكلام على الجذامي (3) . [وله أيضاً من الشعر في كرسي النسخ (4) : انظر بعينك في بديع صنائعي ... وعجيب تركيبي وحكمة صانعي فكأنني كفا محب شبكت ... يوم الفراق أصابعاً بأصابع وذكره علي بن ظافر بن منصور في كتاب " بدائع البدائه " (5) وأثنى عليه، وأورد فيه عن القاضي أبي عبد الله محمد بن الحسين الآمدي النائب كان في الحكم بثغر الاسكندرية المحروس، قال: دخلت على الأمير السعيد بن ظفر أيام ولايته للثغر، فوجدته يقطر دهناً على خنصره، فسألته عن سببه، فذكر ضيق خاتمه عليه وأنه ورم بسببه، فقلت له: الرأي قطع حلقته قبل أن يتفاقم الأمر فيه، فقال: اختر من يصلح لذلك، فاستدعيت أبا المنصور ظافر بن القاسم الحداد المذكور، فقطع الحلقة، وأنشد بديهاً (6) :   (1) الخريدة 2: 120. (2) الخريدة 2: 4. (3) هنا تنتهي ترجمة ظافر في المسودة وص م مع اختلاف بينها في الترتيب، وراعينا ما جاء في المسودة. (4) وردا في هامش س؛ وانظر الخريدة 2: 14 وياقوت 12: 33 والديوان: 195. (5) انظر بدائع البدائه 2: 160 - 161. (6) البيتان في الخريدة: 15 وكذلك الأبيات التالية؛ والديوان: 295، 126، 344. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 542 قصر عن أوصافك العامل ... وكثر الناثر والناظم من يكن البحر له راحة ... يضيق عن خنصره الخاتم فاستحسنه الأمير ووهب له الحلقة، وكانت من ذهب. وكان بين يدي الأمير غزال مستأنس، وقد ربض وجعل رأسه في حجره، فقال ظافر بديهاً: عجبت لجرأة هذا الغزال ... وأمر تخطى له واعتمد وأعجب به إذا بدا جاثِماً ... وكيف اطمأن وأنت الأسد فزاد الأمير والحاضرون في الاستحسان. وتأمل ظافر شيئاً كان على باب المجلس يمنع الطير من دخولها فقال: رأيت ببابك هذا المنيف ... شباكاً فأدركني بعض شك وفكر فيما رأى خاطري ... فقلت البحار مكان الشبك ثم انصرف وتركنا متعجبين من حسن بديهته، رحمه الله تعالى وغفر له] (1) .   (1) انفردت ر بأكثر ما ورد بين معقفين، وبعد هذا الموضع زاد في النسخة ج ما يلي: وقال علي بن ظافر في كتاب " البدائه ": وذكر لي أن جماعة من الشعراء في أيام الأفضل خرجوا متنزهين إلى الأهرام ليروا عجاب بنائها ويتأملوا ما سطر الدهر من العبر، فاقترح بعض من كان معهم فيها، فصنع أبو الصلت أمية بن عبد العزيز: بعيشك هل أبصرت أعجب منظراً ... على ما رأيت عيناك من هرمي مصر أنافا بأعنان السماء وأشرفا ... على الجو إشراف السماك أو النسر وأنشد أبو المنصور ظافر الحداد (الديوان: 4) : تأمل هيئة الهرمين وانظر ... وبينهما أبو الهول العجيب كعمارتين على رحيل ... لمحبوبين بينهما رقيب وفيض البحر عندهما دموع ... وصوت الريح بينهما نحيب وظافر سجن يوسف مثل صب ... تخلف فهو محزون كئيب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 543 مقدمة يستمر اعتمادنا في تحقيق هذا الجزء على النسخ الخطية التي اعتمدنا عليها في الجزء السابق وهي: 1 - مسودة المؤلف (المتحف البريطاني رقم: 25735 Add.) التي تنتهي عند آخر حرف الغين. 2 - نسخة المكتبة الظاهرية، ورمزها " ر ". 3 - نسخة آيا صوفيا (رقم: 2532) ، ورمزها " ص "، وآخر ترجمة في القسم الموجود منها هي ترجمة أبي السهيلي. 4 - نسخة أحمد الثالث، ورمزها " س ". 5 - نسخة المتحف البريطاني، ورمزها " م ". ويحسن أن نشير إلى أن الفروق بين النسخ التي اعتمدها وستنفيلد قد توقفت الإشارة إليها عند آخر حرف الظاء (أي عند نهاية الجزء الثاني حسب تجزئتنا) . وقد اعتمدنا بالإضافة إلى النسخ المذكورة على ما يلي: 1 - نسخة كوبريلي (رقم: 1192) ، ورمزها " ل "، وتقع في 230 ورقة، في الصفحة الواحدة 21 سطراً، ومتوسط عدد الكلمات في السطر 13 كلمة؛ وهي تبدأ بترجمة عبد الرحمن بن مسلم وتنتهي برتجمة ابن التعاويذي. وقد كتبت بخط أحمد بن محمد بن حمدان الحراني، وكان الفراغ منها يوم الأربعاء 13 شعبان سنة 731، وهي غير دقيقة الضبط وتشترك كثيراً مع النسخة " س " في عدد إيراد الإضافات التي قيدها المؤلف على هوامش المسودة، إلا أنها ابتداء من تراجم المحمدين يرد في هوامشها إضافات تنفرد بها دون النسخة " س ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1 2 - نسخة لاله لي (رقم: 2112) ، ورمزها " لي "، وتقع في 227 ورقة، في الصفحة الواحدة 19 سطراً، ومتوسط عدد الكلمات في السطر 14 كلمة؛ وهي تبدأ بترجمة عبد الحميد بن يحيى وتنتهي بترجمة ابن التعاويذي. وقد كتبت في بخط نسخي جميل مضبوط بالشكل، وجاء في الورقة الأخيرة أنها نجزت في أواخر سنة أربع وعشرين وسبعمائة، وهي تشترك مع " س " و " ل " فيما تمثله من مسودة المؤلف. 3 - نسخة ولي الدين (رقم: 2460) ، ورمزها " ن "، وتقع في 387 ورقة، في الصفحة الواحدة 23 سطراً، وهي تبدأ بترجمة علي بن بويه وتنتهي بترجمة يحيى بن خالد البرمكي، ويبدو من الخاتمة فيها أنها تمثل ما قيده المؤلف حتى سنة 659، ولذلك خلت مما زاده بعدئذ من تراجم، كما خلت من الإضافات التي جدت على هوامش المسودة، فهي تقارب النسخ س ل لي. وقد تم نسخها على يد علي بن مبارك النوري الشافعي في يوم السبت بكرة النهار قبل الغد 21 محرم سنة 830، ونجزت مقابلة وتحريراً وضبطاً في شوال من العام نفسه. إحسان عباس بيروت في شباط (فبراير) 1970. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 2 حرف العين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 7 فراغ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 8 315 - (1) عاصم المقرئ أبو بكر عاصم بن أبي النجود بهدلة مولى بني جذيمة بن مالك بن نصر ابن قعين بن أسد؛ كان أحد القراء السبعة والمشار إليه في القراءات، أخذ القراءة عن أبي عبد الرحمن السلمي وزر بن حبيش، وأخذ عنه أبو بكر ابن عياش وأبو عمر البزار (2) واختلفوا اختلافاً شديداً في حروف كثيرة. وتوفي عاصم في سنة سبع وعشرين ومائة، رحمه الله تعالى، بالكوفة (3) . والنجود: بفتح النون وضم الجيم وسكون الواو وبعدها دال مهملة، وهي الحمارة الوحشية التي لا تحمل، وقيل هي المشرفة (4) . وبهدلة: بفتح الباء الموحدة وسكون الهاء وفتح الدال المهملة واللام وبعدها هاء ساكنة، ويقال إنه اسم أمه.   (1) ترجمته في تهذيب ابن عساكر 7: 119 وميزان الاعتدال 2: 357 وتهذيب التهذيب 5: 38 وغاية النهاية 1: 346، وتاج العروس (نجد) . (2) براء مهملة في آخره نسبة إلى بزر الكتاب، وهو دينار بن عمر الأسدي (تهذيب التهذيب 3: 216) . (3) بالكوفة: سقطت من س. (4) قوله: الحمارة الوحشية التي لا تحمل، قال شمر: هذا منكر، والصواب ما روي في الأجناس، النجود: الطويلة من الحمر، وقيل هي الناقة التي لا تبرك إلا على مكان مرتفع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 9 316 - (1) أبو بردة ابن أبي موسى الأشعري أبو بردة عامر بن أبي موسى عبد الله بن قيس الأشعري؛ كان أبوه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قدم عليه من اليمن في الأشعريين، فأسلموا. وأبو بردة كان قاضياً على الكوفة، وليها بعد القاضي شريح، هكذا ذكره محمد ابن سعد في " كتاب الطبقات "، وله مكارم ومآثر مشهورة. [وكان أبو موسى تزوج في عمله على البصرة طنية بنت دمون (2) ، وكان أبوها رجلاً من أهل الطائف، فولدت له أبا بردة، فاسترضع له في بني فقيم في آل الغرق وسماه أبو موسى عامراً، فلما شب كساه أبو شيخ ابن الغرق بردتين وغدا به إلى أبيه فكناه أبا بردة، فذهب اسمه] (3) . (75) وكان ولده بلال (4) قاضياً على البصرة، وهم الذين يقال في حقهم: ثلاثة قضاة في نسقٍ (5) ؛ فإن أبا موسى رضي الله عنه قضى لعمر رضي الله عنه بالبصرة ثم قضى بالكوفة في زمن عثمان رضي الله عنه. وبلال المذكور هو ممدوح ذي الرمة وله فيه غر المدائح، وفيه يقول مخاطباً لناقته (6) : إذا ابن أبي موسى بلال بلغته ... فقام بفأس بين وصليك جازر   (1) ترجمته في طبقات ابن سعد 6: 268 وتهذيب ابن عساكر 7: 173 وعبر الذهبي 1: 128 وتهذيب التهذيب 12: 18 (في الكنى) . (2) ر: طيغة بنت ذمون؛ وفي ابن عساكر (7: 174) : طيفة. (3) انفردت ربما بما ورد بين معقفين، وفي المسودة عند هذا الموضع " محل التخريجة " مما قديشير إلى أن المؤلف كان ينوي إضافة ما. (4) ترجمة بلال في تهذيب ابن عساكر 3: 318 وتهذيب التهذيب 1: 500 وخزانة الأدب 1: 452. (5) ص: نسق واحد. (6) ديوان ذي الرمة: 253، 442. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 10 وفيه يقول أيضاً: سمعت الناس ينتجعون غيثاً ... فقلت لصيدح انتجعي بلالا وصيدح: اسم ناقته، وهو بفتح الصاد المهملة وسكون الياء المثناة من تحتها وفتح الدال المهملة وبعدها حاء مهملة. وكان بلال أحد نواب خالد بن عبد الله القسري - المقدم ذكره في حرف الخاء - فلما عزل وولي موضعه يوسف بن عمر الثقفي على العراقين حاسب خالداً ونوابه وعذبهم، فمات خالد من عذابه ومات بلال من عذابه أيضاً (1) . ورأيت في بعض المجاميع أن أبا بردة جلس يوماً يفتخر بأبيه ويذكر فضائله وصحبته (2) لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان في مجلس عام وفيه الفرزدق الشاعر، فلما أطال القول في ذلك أراد الفرزدق أن يغض منه فقال: لو لم تكن لأبي موسى منقبة إلا أنه حجم رسول الله صلى الله عليه وسلم لكفاه، فامتعض أبو بردة من ذلك ثم قال: صدقت، لكنه ما حجم أحداً قبله ولا بعده، فقال الفرزدق: كان أبو موسى والله أفضل من أن يجرب الحجامة في رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسكت أبو بردة على غيظ. وحكى غرس النعمة بن الصابئ في بعض تصانيفه أن أبا صفوان خالد ابن صفوان التميمي المشهور بالبلاغة كان يدخل على بلال بن أبي بردة المذكور (3) فيحدثه فيلحن في كلامه، فلما كثر ذلك على بلال قال له: يا خالد، تحدثني أحاديث الخلفاء وتلحن لحن السقاءات، يعني النساء اللواتي يسقين الماء للناس، فصار خالد بعد ذلك يأتي المسجد ويتعلم الإعراب، وكف بصره، فكان إذا مر به موكب بلال يقول: من هذا فيقال: الأمير، فيقول خالد: سحابة صيف عن قليل تقشع، فقيل ذلك لبلال فقال: لا تقشع والله حتى يصيبك منها   (1) ك: فمات خالد وبلال من عذابه، وانظر ترجمة خالد 2: 226. (2) ر: فضله في صحبته. (3) وحكى .... المذكور: سقط من س، وهو ثابت في هامش المسودة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 11 شؤبوب (1) ، وأمر به فضرب مائتي سوط. (76) وكان خالد كثير الهفوات لا يتأمل ما يقول ولا يفكر فيه، وهو من ذرية عمرو بن الأهتم التميمي الصحابي رضي الله عنه، فإن خالد بن صفوان ابن عبد الله بن عمرو بن الأهتم بن سمي بن سنان بن خالد بن منقر التميمي المنقري، واسم الأهتم بسنان، وإنما قيل له الأهتم لأن قيس بن عاصم المنقري ضربه بقوس فهتم ثناياه، وقيل بل هتمت يوم الكلاب، والله أعلم. وشبيب بن شيبة ابن عم خالد المذكور (2) . وكانت وفاة أبي بردة المذكور في سنة ثلاث ومائة بالكوفة، وقيل سنة أربع، وقيل سنة ست أو سبع ومائة، وقال ابن سعد: مات أبو بردة و الشعبي في سنة ثلاث ومائة في جمعة واحدة، رحمهما الله تعالى. وسيأتي الكلام على الأشعري في ترجمة أبي الحسن إن شاء الله تعالى (3) . 317 - (4) الشعبي أبو عمرو عامر بن شراحيل بن عبد بن ذي كبار، وذو كبار قيلٌ من أقيال اليمن، الشعبي، وهو من حمير وعداده في همدان؛ وهو كوفي تابعي جليل القدر وافر العلم، روي أن ابن عمر رضي الله عنه مر به يوماً وهو يحدث   (1) ص: شؤبوب برد. (2) وشبيب ... المذكور: سقط من ص والمسودة وثبت في ر. (3) وسيأتي ... تعالى: سقط من ر م. (4) ترجمة الشعبي في طبقات ابن سعد 6: 246 وطبقات الشيرازي، الورقة: 22 وتهذيب ابن عساكر 7: 138 وتاريخ بغداد 12: 227 وتهذيب التهذيب 5: 65 وحلية الأولياء 4: 310 وعبر الذهبي 1: 127 وسمط الآلي: 751. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 12 بالمغازي فقال: شهدت القوم وإنه أعلم بها مني. وقال الزهري: العلماء أربعة: ابن المسيب بالمدينة، والشعبي بالكوفة، والحسن البصري بالبصرة، ومكحول بالشام. ويقال إنه أدرك خمسمائة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وحكى الشعبي قال: أنفذني عبد الملك بن مروان إلى ملك الروم، فلما وصلت إليه جعل لا يسألني عن شيء إلا أجبته، وكانت الرسل لا تطيل الإقامة عنده، فحبسني أياماً كثيرة حتى استحثثت خروجي، فلما أردت الانصراف قال لي: من أهل بيت المملكة أنت فقلت: لا، ولكني رجل من العرب في الجملة، فهمس بشيء، فدفعت إلي رقعة وقال لي: إذا أديت الرسائل إلى صاحبك فأوصل إليه هذه الرقعة، قال: فأديت الرسائل عند وصولي إلى عبد الملك وأنسيت الرقعة،، فلما صرت في بعض الدار أريد الخروج تذكرتها، فرجعت فأوصلتها إليه، فلما قرأها قال لي: أقال لك شيئاً قبل أن يدفعها إليك قلت: نعم، قال لي: من أهل بيت المملكة أنت قلت: لا، ولكني من العرب في الجملة. ثم خرجت من عنده، فلما بلغت الباب رُددت (1) ، فلما مثلت بين يديه قال لي: أتدري ما في الرقعة قلت: لا، قال: اقرأها، فقرأتها فإذا فيها " عجبت من قوم فيهم مثل هذا كيف ملكوا غيره "، فقلت له: والله لو علمت (2) ما حملتها، وإنما قال هذا لأنه لم يرك، قال: أفتدري لم كتبها قلت: لا، قال: حسدني عليك، وأراد أن يغريني بقتلك، قال: فتأدى ذلك إلى ملك الروم فقال: ما أردت إلا ما قال. [ولما حمل الشعبي إلى عبد الملك ونادمه قال له: يا شعبي، لا تساعدني على قبح ولا ترد علي الخطأ في مجلسي ولا تكلفني جواب التشميت ولا جواب السؤال والتعزية، ودع عنك كيف أصبح الأمير وكيف أمسى، واجعل بدل التعريض لي صواب الاستماع مني، واعلم أن صواب الاستماع أولى من صواب القول، وإذا سمعتني أتحدث فلا يفتك منه شيء، وارعني فهمك وسمعك، ولا تجهد نفسك في تطرية سواي، ولا تستدع بذلك الزيادة من كلامي، فإن   (1) ر: ردني. (2) ص: علمت ما فيها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 13 اسوأ الناس حالاً من شكر الملوك بالباطل وأسوأ حالاً منه من استخف بحقهم؛ واعلم يا شعبي أن أقل من هذا يذهب بسالف الاحسان ويسقط حق الحرمة، وان الصمت في موضعه وعند إصابته فرصة. وكان أعرابي يجالس الشعبي ويطيل الصمت، فقال له الشعبي يوماً: ألا تتكلم فقال: أسكت فأسلم وأسمع فأعلم؛ إن حظ المرء في أذنه له، وفي لسانه لغيره. وقال رجل للشعبي كلاماً أقذع فيه فقال له: ان كنت صادقاً غفر الله لي وإن كنت كاذباً غفر الله لك (1) . وسئل الشعبي عن الرجل يعسر عن الأضحية ولا يجد ما يشتري فقال: لأن اتركها وأنا موسر أحب إلي من أن اتكلفها وأنا معسر. وقال الشعبي: كانت درة عمر رضي الله عنه أهيب من سيف الحجاج؛ وقال أيضاً: من زوج كريمته من فاسق فقد قطع رحمها. وأحضر الشعبي بين يدي الحجاج - وكان قد خرج مع ابن الأشعث - فسلم على الحجاج بالإمرة ثم قال: أيها الأمير إن الناس قد أمروني أن أعتذر إليك لغير ما يعلم الله انه الحق؛ وايم الله لا أقول في هذا المقام إلا حقاً: قد والله خرجنا عليك وجهدنا كل الجهد فما كنا بالفجرة الأقوياء ولا البررة الأتقياء، وقد نصرك الله علينا وأظفرك بنا، فإن سطوت فبذنوبنا وما جرت إلينا أيدينا، وإن عفوت عنا فبحلمك؛ وبعد، فالحجة لك علينا. فقال الحجاج: أنت والله أحب إلي ممن يدخل علي يقطر سيفه من دمائنا ثم يقول: ما فعلت وما شهدت؛ قد أمنت عندنا يا شعبي، فانصرف. وقال له الحجاج: يا شعبي، ما كان عبد الرحمن يزجر حين رآني نزلت دير قرة ونزل هو دير الجماجم محارباً؛ وكان أبداً يقول هذا الكلام على سبيل الفأل والزجر] (2) .   (1) زاد في النص بعده: ثم تمثل بقول مسكين الدارمي: ليست الأحلام في حال الرضى ... إنما الأحلام في حال الغضب وسيرد هذا في موضعه حسبما جاء في المسودة. (2) زيادة من ص وحدها، وانظر ج 2: 39 فإن القصة مع الحجاج مكررة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 14 وكلم الشعبي عمر بن هبيرة الفزاري أمير العراقين في قوم حبسهم ليطلقهم فأبى، فقال له: أيها الأمير، إن حبستهم بالباطل فالحق يخرجهم، وإن حبستهم بالحق فالعفو يسعهم، فأطلقهم. وكان ضئيلاً نحيفاً، فقيل له يوماً: ما لنا نراك ضئيلاً فقال: زوحمت في الرحم، وكان قد ولد هو وأخ آخر في بطن وأقام في البطن سنتين، ذكره في كتاب " المعارف " (1) . ويقال إن الحجاج بن يوسف الثقفي قال له يوماً: كم عطاءك في السنة فقال: ألفين، فقال: ويحك كم عطاؤك فقال: ألفان، قال: كيف لحنت أولاً قال: لحن الأمير فلحنت، فلما أعرب أعربت، وما أمكن أن يلحن الأمير وأعرب أنا. فاستحسن ذلك منه وأجازه. وكان مزاحاً، يحكى أن رجلاً دخل عليه ومعه امرأة في البيت فقال: أيكما الشعبي فقال: هذه. وكانت ولادته لست سنين خلت من خلافة عثمان رضي الله عنه، وقيل سنة عشرين للهجرة، وقيل إحدى وثلاثين، وروي عنه أنه قال: ولدت سنة جلولاء وهي سنة تسع عشرة. وقال قتادة: ولد الشعبي لأربع سنين بقين من خلافة عمر رضي الله عنه، وقال خليفة بن خياط: ولد الشعبي والحسن البصري في سنة إحدى وعشرين، وقال الأصمعي: في سنة سبع عشرة بالكوفة. وتوفي بالكوفة سنةأربع، وقيل ثلاث، وقيل ست، وقيل سبع، وقيل خمس ومائة، وكانت وفاته فجأة. وكانت أمه من سبي جلولاء، رضي الله عنه. وشراحيل: بفتح الشين المعجمة والراء وبعد الألف حاء مهملة مكسورة ثم ياء ساكنة مثناة من تحتها وبعدها لام. والشعبي: بفتح الشين المعجمة وسكون العين المهملة وبعدها باء موحدة، هذه النسبة إلى شعب، وهو بطن من همدان، وقال الجوهري (2) : هذه النسبة إلى جبل باليمن نزله حسان بن عمرو الحميري هو وولده ودفن به، وهو ذو شعبين، فمن كان بالكوفة منهم قيل لهم: شعبيون، ومن كان منهم بمصر   (1) المعارف: 450. (2) ر س: ابن قتيبة؛ والنص في المعارف أيضاً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 15 والمغرب قيل لهم: الأشعوب، ومن كان منهم بالشام قيل لهم: شعبانيون، ومن كان باليمن قيل لهم: آل ذي شعبين. وجلولاء: بفتح الجيم وضم اللام ومد آخره، قرية بناحية فارس كانت بها الوقعة المشهورة زمن الصحابة رضي الله عنهم. وكان كثيراً يتمثل بقول مسكين الدارمي: ليست الأحلام في حال الرضى ... إنما الأحلام في وقت الغضب 318 (1) أم المؤمنين عائشة أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنها وعن والدها؛ تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، شرفها الله تعالى، قبل الهجرة بثلاث سنين، وقيل انه تزوجها قبل سودة، زوجه إياها أبوها فأصدقها مثلما أصدق سودة. وكان لها يوم تزوجها ست سنين، وما تزوج بكراً سواها، وقبض صلى الله عليه وسلم وهي بنت ثماني عشرة سنة، وماتت في خلافة معاوية سنة ثمان وخمسين ولها سبع وستون سنة، ودفنت بالبقيع؛ ولما ماتت بكى عليها ابن عمر رضي الله عنه، فبلغ ذلك معاوية فقال له: أتبكي على امرأة فقال: إنما يبكي على أم المؤمنين بنوها وأما من ليس لها بابن فلا. وقال المبرد: قالت عائشة رضي الله عنها: لما أمر الله نبيه صلى الله عليه   (1) ترجمة عائشة أم المؤمنين في طبقات ابن سعد 8: 58 والاستيعاب: 1881 وأسد الغابة 5: 501 والإصابة 8: 139 وحلية الأولياء 2: 43 وتهذيب التهذيب 12: 433 وصفة الصفوة 2: 6، ولها أخبار في معركة الجمل في كتب التاريخ كالطبري والمسعودي وابن الأثير وابن خلدون وغير ذلك وفي كتب الحديث المختلفة. وهذه الترجمة انفردت بها ص، وهي خارجة على خطة المؤلف في مقدمة الكتاب لأنه ذكر أنه لن يترجم لأحد من الصحابة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 16 وسلم أن يخير نساءه قال لي: أتختارين الله ورسوله والدار الآخرة أو الحياة الدنيا وزينتها قلت: الله ورسوله أحب إلي والدار الآخرة، ثم قلت له: أخبرت أحداً قبلي قال: لا، قلت: لا تخبرهن، فقال صلى الله عليه وسلم: إن الله بعثني نذيراً ولم يبعثني معنتاً [ولا متعنتاً] (1) . وبلغ عائشة رضي الله عنها أن أناساً يسبون أبا بكر وعمر رضي الله عنهما فقالت: إن الله قطع عنهما العمل فأحب أن لا يقطع عنهما الأجر. وقيل لعائشة رضي الله عنها: متى يكون الرجل مسيئاً فقالت: إذا ظن أنه محسن. قال مسلم بن دارة: مازلت أستجفي عائشة رضي الله عنها في قولها لرسول الله صلى الله عليه وسلم: " بمنة الله لا بمنتك " حتى سألت أبا زرعة الرازي فقال: وآت الحمد أهله. وقالت عائشة رضي الله عنها للخنساء: كم تبكين على صخر وإنما هو جمرة في النار قالت: ذاك أشد لجزعي عليه. وسئلت عائشة رضي الله عنها: هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمزح قالت: نعم، كان عندي عجوز فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: ادع الله أن يجعلني من أهل الجنة، قال: إن الجنة لا يدخلها العجائز؛ وسمع النداء فخرج وهي تبكي فقال: ما لها قالوا: إنك حدثتها أن الجنة لا يدخلها العجائز، قال: إن الله سبحانه وتعالى يحولهن أبكاراً عرباً أتراباً. وكان عند عائشة رضي الله عنها طبق عنب فجاء سائل فدفعت إليه واحدة منه، فضحك نساءٌ كن، فقالت: إن فيما ترون مثاقيل ألذ كثيرة. وقيل: وقعت بين حيين من قريش منازعة فخرجت عائشة [على بغلة] تصلح بينها، فلقيها ابن أبي عتيق فقال: إلى أين جعلت فداك فقالت: أصلح بين هذين الحيين، فقال: والله ما غسلنا رؤوسنا من يوم الجمل بعد فكيف إذا قيل يوم البغل فضحكت وانصرفت. ومثل هذه النادرة: أرسل القاضي شرف الدين بن عين الدولة الشرف ابن   (1) زيادة من تفسير القرطبي 14: 162. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 17 منهال موقعه إلى الحسام بن منقذ بسبب شهادةٍ شهدها على ابن الجمل أن يتثبت منها ويتحققها قبل أدائها، ثم قال في أثناء ذلك: قال له نوبة الجمل ما كانت قليل. وكانت عائشة رضي الله عنها خرجت من المدينة حاجة وعثمان محصور ثم صدرت عن الحج، فلما كانت بسرف - وهو موضع قبر ميمونة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم - لقيها الخبر بقتل عثمان وبيعة علي، فانصرفت راجعة إلى مكة ولحق بها طلحة والزبير ومروان بن الحكم، فلما تتاموا بمكة تشاوروا فيما يريدون من الطلب بدم عثمان وهموا بالشام لمكان معاوية، فصرفهم عبد الله بن عامر عن ذلك بالبصرة، فتوجهوا إليها فأخذوا عثمان بن حنيف عامل علي بها فهموا بقتله فناشدهم الله وذكرهم صحبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأشير بضربه أسواطاً فضربوه ونتفوا لحيته ورأسه حتى حاجبيه وأشفار عينيه، ثم حبسوه، وقتلوا خمسين رجلاً كانوا معه على بيت المال وغير ذلك من أعماله، فلما بلغ علياً مسيرهم خرج مبادراً إليهم واستنفر أهل الكوفة ثم سار بهم إلى البصرة، وهم بضعة عشر ألفاً، فخرج إليه طلحة والزبير وعائشة وأهل البصرة فاقتتلوا قتالاً شديداً؛ قال عبد الله بن الزبير: أمسيت يوم الجمل وفي سبع وثلاثون جراحة من طعنة وضربة، وما رأيت مثل يوم الجمل قط لا يهزم منا أحد ولا منهم، وما أخذ خطام الجمل أحدٌ إلا قتل، فأخذت بالخطام فقالت عائشة: من قلت: ابن الزبير، قالت: واثكل أسماء! ومر بي الأشتر فعرفته فعانقته وناديت: اقتلوني ومالكاً، فجاء ناس منا ومنهم فقاتلوا حتى تحاجزنا وضاع مني الخطام، فسمعت علياً ينادي: اعقروا الجمل فإنه ان عقر تفرقوا، فضربه رجل فسقط، فما سمعت قط أشد عجيجاً منه، ثم أمر علي رضي الله عنه بحمل الهودج من بين القتلى، وقد كان القعقاع وزفر بن الحارث انزلاه عن ظهر البعير فوضعاه إلى جنب البعير، فأقبل محمد بن أبي بكر ومعه عمار حتى احتملاه، وأدخل محمد بن أبي بكر يده فقال: يا أخية قولي بنار الدنيا، فقالت: بنار الدنيا (1) .   (1) يبدو في النص اضطراب هنا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 18 وقيل إن طلحة أصابه سهم فشك ركبته بصفحة الفرس وسال دمه فضعف، فقال: يا غلام، ابغني مكاناً، فمات قبل أن يصل إلى الموضع الذي أمر أن يحمل إليه، ورجع الزبير فقتل بوادي السباع، قتله عمرو بن جرموز وعاد بسيفه إلى علي، فلما رآه قال: إنه لسيف طالما جلا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الكرب؛ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: بشر قاتل ابن صفية بالنار. واحيط بعائشة رضي الله عنها، ودخل علي البصرة بمن معه، فبايعه أهلها وأطلق عثمان بن حنيف وجهز عائشة رضي الله عنها، وأمر أخاها محمداً بالخروج معها وخرج في تشييعها اميالاً وسرح بنيه معها يوماً. وقيل إن أهل المدينة علموا بيوم الجمل يوم الخميس قبل أن تغرب الشمس - وفيه كان القتال - وذلك أن نسراً مر بماء حول المدينة معه شيء معلق، فتأمله الناس فوقع فإذا كف فيها خاتم نقشه عبد الرحمن بن عتاب، ثم كان [من] بين مكة والمدينة ممن قرب من البصرة أو بعد قد علموا بالواقعه مما تنقل إليهم النسور من الأيدي والأقدام. ويقال إن عدة المقتولين من أصحاب الجمل ثمانية آلاف، وقيل سبعة عشر ألفاً، وذكر أنه قطع على خطام الجمل سبعون يداً كلهم من بني ضبة، كلما قطعت يد رجل تقدم آخر، وقتل من أصحاب علي رضي الله عنه نحو ألف (1) .   (1) ذكر وستنفيل بعد هذه الترجمة " عافية بن يزيد " (ورقمه عنده 318) وأورد في ترجمته سطراً واحداً، ولم ترد لعافية ترجمة فيما لدينا من مخطوطات، ولذلك لم نفرده برقم؛ وهو عافية بن يزيد بن قيس القاضي الكوفي، كان قاضياً في عهد المهدي سنة 161، وكان عالماً زاهداً، وثقه ابن معين وغيره في الحديث ونسبه آخرون إلى الضعف، وتوفي سنة 180هـ. انظر ترجمته في تاريخ بغداد 12: 307 وتهذيب التهذيب 5: 60 وميزان الاعتدال 2: 358 والدميري 1: 163. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 19 319 - (1) العباس بن الأحنف أبو الفضل العباس بن الأحنف بن الأسود بن طلحة بن جردان بن كلدة ابن خريم بن شهاب بن سالم بن حية بن كليب بن عبد الله بن عدي بن حنيفة بن لجيم الحنفي اليمامي الشاعر المشهور؛ كان رقيق الحاشية لطيف الطباع، جميع شعره في الغزل، لا يوجد في ديوانه مديح، ومن رقيق شعره قوله من جملة قصيدة (2) : يا أيها الرجل المعذب نفسه ... أقصر فإن شفاءك الإقصار نزف البكاء دموع عينك فاستعر ... عيناً يعينك دمعها المدرار من ذا يعيرك عينه تبكي بها ... أرأيت عيناً للبكاء تعار ذكر أبو علي القالي في كتاب " الأمالي " (3) قال: قال بشار بن برد: ما زال غلام من بني حنيفة يدخل نفسه فينا ويخرجها منا حتى قال هذه الأبيات. ومن شعره أيضاً من جملة أبيات، وينسبان إلى بشار بن برد أيضاً والله أعلم (4) : أبكي الذين أذاقوني مودتهم ... حتى إذا أيقظوني للهوى رقدوا واستنهضوني فلما قمت منتصباً ... بثقل ما حملوني منهم قعدوا   (1) ترجمته في الأغاني 8: 354 والشعر والشعراء: 707 وتاريخ بغداد 12: 127 ومعجم الأدباء 12: 40 والسمط: 313، 497 والموشح: 290 وعبر الذهبي 1: 312، وقد طبع ديوانه مرات آخرها بتحقيق الدكتورة عاتكة الخزرجي (القاهرة: 1954) . (2) ديوانه: 116. (3) الأمالي 1: 206. (4) ديوانه: 84. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 20 [ويحكى أن الرشيد كان يهوى جاريته ماردة هوى شديداً، فتغاضبا مرة ودام بينهما الغضب، فأمر جعفر البرمكي العباس بن الأحنف أن يعمل في ذلك شيئاً فعمل (1) : راجع أحبتك الذين هجرتهم ... إذ المتيم قلما يتجنب إن التجانب إن تطاول منكما ... دب السلو له ففر المطلب وأمر إبراهيم الموصلي فغنى بهما، فلما سمعه الرشيد بادر إلى ماردة فترضاها، فسألت عن السبب في ذلك فقيل لها، فأمرت لكل واحد من العباس وإبراهيم بعشرة آلاف درهم وأمرت الرشيد أن يكافئهما فأمر لهما بأربعين ألف درهم] (2) . وله أيضاً (3) : تعب يطول مع الرجاء لذي الهوى ... خير له من راحةٍ في اليأس لولا محبتكم لما عاتبتكم ... ولكنتم عندي كبعض الناس وله أيضاً: وحدثتني يا سعد عنها فزدتني ... جنوناً فزدني من حديثك يا سعد هواها هوًى لم يعرف القلب غيره ... فليس له قبلٌ وليس له بعد وله أيضاً: إذا أنت لم تعطفك إلا شفاعةٌ ... فلا خير في ودٍ يكون بشافع فأقسم ما تركي عتابك عن قلًى ... ولكن لعلمي أنه غير نافع وإني إذا لم ألزم الصبر طائعاً ... فلا بد منه مكرهاً غير طائع   (1) ديوانه: 28. (2) زيادة من ر وحدها، وحذفنا منها بيتين قافيين - من قافية القاف المطلقة - سيردان في الزيادات المنقولة عن نسخة ص (انظر صفحة: 24 في ما يلي) . (3) وردت هذه المقطعات في ديوانه: 161، 98، 174 وقد سقطت جميعها من س، وجميعها في المسودة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 21 [قيل أنه أنشد الرشيد يوماً قوله (1) : طاف الهوى في عباد الله كلهم ... حتى إذا مر بي من بينهم وقفا قال له الرشيد: ما الذي رأى فيك حتى وقف عليك قال: سألني عن وجود أمير المؤمنين فأخبرته، فاستحسن الرشيد جوابه ووصله. قيل إن الرشيد (2) عمل في الليل بيتاً ورام أن يشفعه بآخر فامتنع القول عليه، فقال: علي بالعباس، فلما طرق عليه ذعر وفزع أهله، فلما وقف بين يدي الرشيد قال له: وجهت إليك بسبب بيت قلته ورمت أن أشفعه بمثله فامتنع القول علي، فقال: يا أمير المؤمنين، دعني حتى ترجع إلي نفسي فإني تركت عيالي على حال من القلق عظيمة، ونالني من الخوف ما يتجاوز الحد والوصف؛ فانتظر هنيهة ثم أنشده: جنانٌ قد رأيناها ... شطر ثانيولم نر مثلها بشرا فقال العباس بن الأحنف: يزيدك وجهها حسناً ... إذا ما زدته نظرا فقال: زدني، فقال: إذا ما الليل سال علي ... ك بالإظلام واعتكرا ودج فلم تر قمراً ... فأبرزها تر قمرا فقال له الرشيد: قد ذعرناك وأفزعنا عيالك وأقل الواجب أن نعطيك ديتك، وأمر له بعشرة آلاف درهم. وله - أعني الرشيد -: إن تشق عيني بها فقد سعدت ... عينا رسولي وفزت بالخبر   (1) ديوانه: 182. (2) متابع لما في تاريخ بغداد: 131، وانظر الديوان: 128. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 22 وكلما جاءني الرسول لها ... رددت عمداً في عينه نظري خذ مقلتي يارسول عاريةً ... فانظر بها واحتكم على بصري وأخذ المأمون هذا المعنى بعينه فقال: بعثتك مرتاداً ففزت بنظرةٍ ... وأغفلتني حتى أسأت بك الظنا فناجيت من أهوى وكنت مباعداً ... فيا ليت شعري عن دنوك ما أغنى أرى أثراً منها بعينك بيناً ... لقد أخذت عيناك من عينها حسناً وللعباس أيضاً (1) : أغيب عنك بودٍ لا يغيره ... نأي المحل ولا صرفٌ من الزمن فإن أعش فلعل الدهر يجمعنا ... وإن أمت فبطول الهم والحزن قد حسن الحب في عيني ما صنعت ... حتى أرى حسناً ما ليس بالحسن تعتل بالشغل عنا لا تكلمنا ... الشغل للقلب ليس الشغل للبدن قال الزبير بن بكار: لا أعلم شيئاً من أمور الدنيا خيرها وشرها إلا وهو يصلح أن يتمثل فيه بنصف هذا البيت الأخير. وله أيضاً (2) : قد كنت أبكي وأنت راضيةٌ ... حذار هذا الصدود والغضب إن تم ذا الهجر يا ظلوم ولا ... تم فما لي في العيش من أرب وله أيضاً: أحرم منكم بما أقول وقد ... نال به العاشقون من عشقوا صرت كأني ذبالةٌ نصبت ... تضيء للناس وهي تحترق   (1) ديوانه: 276 وتاريخ بغداد: 129. (2) هذه المقطوعة والتالية لها في ديوانه: 33، 197. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 23 قال الرياشي: لو لم يقل من الشعر إلا هذين البيتين لكفياه. وقال أبو بكر الصولي (1) : كنت عند القاسم بن إسماعيل فقال: انشدني عمك إبراهيم بن العباس لخاله العباس بن الأحنف: قد سحب الناس أذيال الظنون بنا ... وفرق الناس فينا قولهم فرقا فكاذبٌ قد رمى بالظن غيركم ... وصادقٌ ليس يدري أنه صدقا قال عبد الله بن المعتز: لو قيل لي: ما أحسن شيء تعرفه لقلت: بيتا العباس بن الأحنف، وأنشد هذين البيتين. وله أيضاً (2) : اليوم آخر أيام السرور به ... واليوم أول يومٍ فيه أكتئب ما كنت أحسب أن الحزن ينزل بي ... بعد السرور فقد جاءت به العقب وله ايضاً: خيالك حين أرقد نصب عيني ... إلى وقت انتباهي لا يزول وليس يزورني صلةً ولكن ... حديث النفس عنك به الوصول وله أيضاً: يا ذا الذي أنكرني طرفه ... إن ذاب جسمي وعلاني الشحوب ما مسني ضرٌ ولكنني ... جفوت نفسي إذ جفاني الحبيب وله أيضاً: أرى الطريق قريباً حين أسلكه ... إلى الحبيب بعيداً حين أنصرف] (3)   (1) تاريخ بغداد: 128 - 129 والديوان: 199. (2) راجع ديوانه: 231، 57، 189. (3) ما بين معقفين زيادة من ص. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 24 وشعره كله جيد، وهو خال إبراهيم بن العباس الصولي - وقد تقدم ذكر ذلك في ترجمته في حرف الهمزة. وتوفي سنة اثنتين وتسعين ومائة ببغداد. وحكى عمر بن شبة قال: مات إبراهيم الموصلي المعروف بالنديم سنة ثمان وثمانين ومائة، ومات في ذلك اليوم الكسائي النحوي والعباس بن الأحنف وهشيمة الخمارة، فرفع ذلك إلى الرشيد فأمر المأمون أن يصلي عليهم فخرج فصفوا بين يديه فقال: من هذا الأول فقالوا: إبراهيم الموصلي، فقال: أخروه وقدموا العباس بن الأحنف، فقدم فصلى عليه، فلما فرغ وانصرف دنا منه هاشم بن عبد الله بن مالك الخزاعي فقال: يا سيدي، كيف آثرت العباس بن الأحنف بالتقدمة على من حضر فأنشد (1) : وسعى بها ناس فقالوا: إنها ... لهي التي تشقى بها وتكابد فجحدتهم ليكون غيرك ظنهم ... إني ليعجبني المحب الجاحد ثم قال: أتحفظهما فقلت: نعم، وأنشدته، فقال لي المأمون: أليس من قال هذا الشعر أولى بالتقدمة فقلت: بلى والله يا سيدي. قلت: وهذه الحكاية تخالف ما يأتي في ترجمة الكسائي، لأنه مات بالري على الخلاف في تاريخ وفاته (2) . وقيل إن العباس توفي سنة اثنتين وتسعين ومائة (3) ، وقال أبو بكر الصولي: حدثني عون بن محمد قال: حدثني أبي قال: رأيت العباس بن الأحنف ببغداد بعد موت الرشيد، وكان منزله بباب الشام، وكان لي صديقاً، ومات وسنه أقل من ستين سنة. قال الصولي: وهذا يدل على أنه مات بعد سنة اثنتين وتسعين، لأن الرشيد ملت ليلة السبت لثلاث خلون من جمادى الآخرة سنة ثلاث وتسعين ومائة بمدينة طوس. وكانت وفاة الأحنف والد العباس المذكور سنة خمسين ومائة، ودفن بالبصرة، رحمه الله تعالى.   (1) ديوانه: 81. (2) قلت ... وفاته: سقط من ر س م، وهو بهامش المسودة. (3) كذا هو مكرر بخط المؤلف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 25 وحكى المسعودي في كتاب " مروج الذهب " (1) عن جماعة من أهل البصرة قالوا: خرجنا نريد الحج، فلما كنا ببعض الطريق إذا غلام واقف على المحجة وهو ينادي: أيها الناس هل فيكم أحد من أهل البصرة قال: فعدلنا إليه وقلنا له: ما تريد قال: إن مولاي لما به يريد أن يوصيكم، فملنا معه، فإذا بشخصٍ ملقى على بعد من الطريق تحت شجرة لا يحير جواباً، فجلسنا حوله، فأحس بنا فرفع طرفه وهو لايكاد يرفعه ضعفاً، وأنشأ يقول (2) : يا غريب الدار عن وطنه ... مفرداُ يبكي على شجنه كلما جد البكاء به ... دبت الأسقام في بدنه ثم أغمي عليه طويلاً ونحن جلوس (3) حوله، إذ أقبل طائر فوقع على أعلى الشجرة وجعل يغرد ففتح عينيه وجعل يسمع تغريد الطائر، ثم أنشأ الفتى يقول: ولقد زاد الفؤاد شجًى ... طائر يبكي على فننه شفه ما شفني فبكى ... كلنا يبكي على سكنه قال: ثم تنفس تنفساً فاضت نفسه (4) منه، فلم نبرح من عنده حتى غسلناه وكفناه وتولينا الصلاة عليه، فلما فرغنا من دفنه سألنا الغلام عنه، فقال: هذا العباس بن الأحنف، رحمه الله تعالى؛ والله أعلم أي ذالك كان. والحنفي: بفتح الحاء المهملة والنون وبعدها فاء، هذه النسبة إلى بني حنيفة ابن لجيم بن صعب بن علي بن بكر بن وائل، وهي قبيلة كبيرة مشهورة، واسم حنيفة أثال - بضم الهمزة وبعدها ثاء مثلثة وبعد الألف لام - وإنما قيل له حنيفة لأنه جرى بينه وبين الأحزن بن عوف العبدي مفاوضة في قصة يطول شرحها فضرب حنيفة الأحزن المذكور بالسيف، فجذمه فسمي جذيمة، وضرب   (1) مروج الذهب 4: 109. (2) الديوان: 278. (3) ر: ساعة طويلة ونحن حوله. (4) ص: روحه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 26 الأحزن حنيفة على رجله فحنفها، فسمي حنيفة وحنيفة، أخو عجل. واليمامي: بفتح الياء المثناة من تحتها والميم وبعد الألف ميم ثانية، هذه النسبة إلى اليمامة، وهي بلدة بالحجاز في البادية أكثر أهلها بنو حنيفة وبها تنبأ مسيلمة الكذاب (1) وقتل، وقصته مشهورة. 320 - (2) الرياشي أبو الفضل العباس بن الفرج الرياشي النحوي اللغوي البصري؛ كان عالماً راوية ثقة عارفاً بأيام العرب كثير الاطلاع، روى عن الأصمعي وأبو عبيدة معمر بن المثنى وغيرهما، وروى عنه إبراهيم الحربي وابن أبي الدنيا وغيرهما. ومما رواه عن الأصمعي (3) قال: مر بنا أعرابي ينشد ابناً له، فقلنا له: صفه لنا، فقال: كأنه دنينير، فقلنا له لم نره، قال: فلم يلبث أن جاء بصغير أسيد كأنه جعلٌ قد حمله على عنقه، فقلنا: لو سألتنا عن هذا لأرشدناك (4) ، فإنه ما زال اليوم بين أيدينا. ثم أنشد الأصمعي: نعم ضجيع الفتى إذا برد الليل ... سحيراً وقرقف الصرد زينها الله في الفؤاد كما ... زين في عين والد ولد قتل الرياشي المذكور بالبصرة أيام العلوي البصري صاحب الزنج في شوال   (1) زاد في ص: عليه لعنة الله. (2) ترجمة الرياشي في انباه الرواة 2: 367 وفي الحاشية ثبت بمصادر أخرى، وهذه الترجمة مستوفاة في المسودة دون نقص. (3) القصة في الكامل 1: 239. (4) ص: لأجبناك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 27 سنة سبع وخمسين ومائتين، رحمه الله تعالى. وسئل في عقب ذي الحجة سنة أربع وخمسين ومائتين: كم يعد سنه فقال: أظن سبعاً وسبعين، وذكر شيخنا ابن الأثير في تاريخه الكبير (1) أنه قتل في سنة خمس وستين ومائتين، قتله الزنج بالبصرة، وهو غلط، إذ لا خلاف بين أهل العلم بالتاريخ أن الزنج دخلوا البصرة وقت صلاة الجمعة لثلاث عشرة ليلة بقيت من شوال سنة سبع وخمسين، فأقاموا على القتل والإحراق ليلة السبت ويوم السبت ثم عادوا إليها يوم الإثنين، فدخلوها وقد تفرق الجند وهربوا فنادوا بالأمان، فلما ظهر الناس قتلوهم، فلم يسلم منهم إلا النادر، واحترق الجامع ومن فيه، وقتل العباس المذكور في أحد هذه الأيام فإنه كان في الجامع لما قتل (2) . والرياشي: بكسر الراء وفتح الياء المثناة من تحتها وبعد الألف شين معجمة، هذه النسبة إلى رياش، وهو اسم لجلد رجل من جذام كان والد المنسوب إليه عبداً له فنسب إليه وبقي عليه. 321 - (3) ابن عمر أبو عبد الرحمن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، القرشي العدوي؛ أسلم مع أبيه وهو صغير لم يبلغ الحلم، وهاجر مع أبيه إلى المدينة، وعرض على   (1) ابن الأثير 7: 328. (2) وذكر شيخنا ... قتل: سقط من النسخ ما عدا النسخة ر وهو ثابت في هامش المسودة أيضاً. (3) ترجمة عبد الله بن عمر في طبقات ابن سعد 4: 142 وطبقات الشيرازي، الورقة: 10 والاستيعاب: 950 وحلية الأولياء 1: 292 وصفة الصفوة 1: 228 وتهذيب التهذيب 5: 328 والإصابة 4: 107 وأسد الغابة 3: 227 ونكت الهميان: 183 ولم ترد هذه الترجمة في جميع المخطوطات التي اعتمدناها، ولا في مطبوعة وستنفيلد، وإنما ثبتت في الطبعات المصرية من الكتاب؛ وإيرادها يعد خروجاً على منهج المؤلف إذ ذكر أنه لن يترجم للصحابة، في مقدمة الكتاب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 28 رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد فرده لصغر سنه، فعرض عليه يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة سنة فأجازه، وكان من أهل الورع والعلم، وكان كثير الاتباع لآثار رسول الله صلى الله عليه وسلم، شديد التحري والاحتياط والتوقي في فتواه وكل ما تأخذ به نفسه، وكان لا يتخلف عن السرايا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم كان بعد موته مولعاً بالحج قبل الفتنة وفي الفتنة إلى أن مات. ويقولون: إنه كان أعلم الصحابة بمناسك الحج، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأم المؤمنين حفصة بنت عمر: " إن أخاك عبد الله رجل صالح، لو كان يقوم من الليل "؛ فما ترك ابن عمر بعدها قيام الليل. وقال جابر بن عبد الله: ما منا أحد إلا مالت به الدنيا ومال بها، ما خلا عمر وابنه عبد الله. وقال ميمون بن مهران: ما رأيت أورع من ابن عمر، ولا أعلم من ابن عباس. وقال سعيد بن المسيب: لو شهدت لأحد أنه من أهل الجنة، لشهدت لعبد الله بن عمر. وحكى الأصمعي قال: حدثنا أبو عبد الرحمن - وهو أبو الزناد - عن أبيه، قال: اجتمع في الحجر: مصعب وعروة وعبد الله بنو الزبير، وعبد الله بن عمر، فقالوا: نتمنى، فقال مصعب بن الزبير: أما أنا فأتمنى إمرة العراق والجمع بين عائشة بنت طلحة وسكينة بنت الحسين. وقال عبد الله بن عمر: أما أنا فأتمنى المغفرة، قال: فنالوا ما تمنوا؛ ولعل ابن عمر قد غفر له (1) . وحكى سفيان الثوري عن طارق بن عبد العزيز عن الشعبي، قال: لقد رأيت عجباً، كنا بفناء الكعبة أنا وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير ومصعب بن الزبير وعبد الملك بن مروان، فقال القوم بعدما فرغوا من صلاتهم:   (1) أوجز في الخبر إذ حذف ما قاله عروة وعبد الله، وسترد رواية شبيهة بهذه الرواية في المعنى دون اللفظ في ترجمة عروة بن الزبير، وليس فيها ذكر لابن عمر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 29 ليقم رجل منكم فليأخذ الركن اليماني وليسأل الله حاجته، فإنه يعطى من ساعته، قم يا عبد الله بن الزبير، فإنك أول مولود ولد في الهجرة، فقام وأخذ بالركن اليماني، ثم قال: اللهم إنك عظيم ترجى لكل عظيم، أسألك بحرمة عرشك وحرمة وجهك وحرمة نبيك، عليه الصلاة والسلام، أن لا تميتني حتى توليني الحجاز، ويسلم عليّ بالخلافة، وجاء حتى جلس، فقال: قم يا مصعب، فقام حتى أخذ بالركن اليماني، فقال: اللهم إنك رب كل شيء، وإليك يصير كل شيء، أسألك بقدرتك على كل شيء، أن لا تميتني من الدنيا حتى توليني العراق، وتزوجني سكينة بنت الحسين، وجاء حتى جلس، فقال: قم يا عبد الملك، فقام وأخذ بالركن اليمان، وقال: اللهم رب السموات السبع، ورب الأرض ذات القفر، أسألك بما سألك عبادُك المطيعون لأمرك، وأسألك بحرمة وجهك، وأسألك بحقك على جميع خلقك، وبحق الطائفي حول بيتك، أن لا تميتني من الدنيا حتى توليني شرق الأرض وغربها ولا ينازعني أحد إلا أتيت برأسه، ثم جاء حتى جلس، فقال: قم يا عبد الله بن عمر، فقام حتى أخذ بالركن اليماني، ثم قال: اللهم إنك رحمن رحيم، أسألك برحمتك التي سبقت غضبك، وأسألك بقدرتك على جميع خلقك، أن لا تميتني من الدنيا حتى توجب لي الجنة، قال الشعبي: فما ذهبت عيناي من الدنيا حتى رأيت لكل رجل ما سأل وبشر عبد الله بن عمر بالجنة ورؤيت له. وحكى حمزة بن عبد الله بن عمر عن عبد الله بن عمر قال: خطرت لي هذه الآية: (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) ، فذكرت ما أعطاني الله عز وجل فما وجدت شيئاً أحب إلي من جاريتي رمينة، فقلت: هي حرة لوجه الله، فلولا أني أعود في شيء جعلته لله لنكحتها، فأنكحها نافعاً، فهي أم ولده. وكان ابن عمر إذا اشتد عجبه بشيء من ماله قربه إلى ربه عز وجل. قال نافع: كان رقيقه قد عرفوا ذلك منه، فربما شمر أحدهم فيلزم المسجد، فإذا رآه ابن عمر على تلك الحالة الحسنة أعتقه، فيقول له أصحابه: يا أبا عبد الرحمن، والله ما بهم إلا أن يخدعوك، فيقول: ما خدعنا أحد بالله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 30 إلا انخدعنا له. قال نافع: ما مات ابن عمر حتى أعتق ألف إنسان، أو ما زاد، وكان يحيي الليل صلاةً، فإذا جاء السحر استغفر إلى الصباح. وتوفي بمكة سنة ثلاث وسبعين وهو ابن أربع وثمانين سنة، وكان قد أوصى أن يدفن في الليل (1) ، فلم يقدر على ذلك من أجل الحجاج، ودفن بذي طوى في مقبرة المهاجرين. وكان الحجاج (2) قد أمر رجلاً سمّ زجّه وزحمه في الطريق، ووضع الزج على ظهر قدمه، وذلك أن الحجاج خطب يوما وأخر الصلاة، فقال ابن عمر: إن الشمس لا تنتظرك، فقال له الحجاج: لقد هممت أن أضرب الذي فيه عيناك، قال: إن تفعل فإنك سفيه [مسلّط] . وقيل: إنه أخفى قوله ذلك على الحجاج ولم يسمعه، وإنما كان يتقدمه في المواقف بعرفة وغيرها إلى المواضع التي كان النبي صلى الله عليه وسلم وقف فيها، وكان ذلك يعز على الحجاج، فأمر الحجاج رجلاً معه حربة يقال إنها كانت مسمومة، فلما دفع الناس من عرفة لصق به ذلك الرجل، فأمرّ الحربة على قدمه، وهي في غرز راحلته، فمرض منها أياماً، فدخل عليه الحجاج يعوده، فقال: من سمّك يا أبا عبد الرحمن فقال: وما تصنع به قال: قتلني الله إن لم أقتله، قال: ما أراك فاعلاً، أنت أمرت من نخسني بالحربة، فقال: لا تفعل يا أبا عبد الرحمن، وخرج عنه. وروي أنه قال للحجاج - إذ قال له: من سمّك - قال: أنت أمرت بإدخال السلاح في الحرم. فلبث أياماً ثم مات، رضي الله عنه ونفع به، وصلى عليه الحجاج.   (1) كذا، وفي الاستيعاب: في الحل. (2) متابع لما في الاستيعاب: 952 وجانب كبير من هذه الترجمة عنه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 31 322 - (1) عبد الله بن المبارك أبو عبد الرحمن عبد الله بن المبارك بن واضح (2) المروزي، مولى بني حنظلة، كان قد جمع بين العلم والزهد، تفقه على سفيان الثوري ومالك بن أنس رضى الله عنهما، وروى عنه الموطأ، وكان كثير الانقطاع محباً للخلوة شديدة التورع، وكذلك كان أبوه (3) . ويحكى عن أبيه أنه كان يعمل في بستان لمولاه وأقام فيه زماناً، ثم أن مولاه جاءه يوما وقال له: أريد رماناً حلواً، فمضى إلى بعض الشجر وأحضر منها رماناً فكسره فوجده حامضاً، فحرد عليه وقال: أطلب الحلو فتحضر لي الحامض (4) هات حلواً، فمضى وقطع من شجرة أخرى، فلما كسره وجده أيضاً حامضاً فاشتد حرده عليه، وفعل كذلك دفعة ثالثة، فقال له بعد ذلك: أنت ما تعرف الحلوا من الحامض فقال: لا، فقال: كيف ذلك فقال: لأنني ما أكلت منه شيئاً حتى أعرفه، فقال: ولم لم تأكل قال: لأنك ما أذنت لي، فكشف عن ذلك فوجد قوله حقاً، فعظم في عينه وزوّجه ابنته، ويقال: إن عبد الله رزقه من تلك الابنة، فنمت عليه بركة أبيه. ورأيت في بعض التواريخ هذه القضية منسوبة إلى إبراهيم بن أدهم العبد الصالح،   (1) ترجمته في تاريخ بغداد 10: 152 وترتيب المدارك 1: 300 وطبقات الشيرازي، بالورقة: 26 وتذكرة الحفاظ: 274 والديباج المذهب: 130 والمعارف: 511 وغاية النهاية 1: 446 وتهذيب التهذيب 5: 382 وحلية الأولياء 8: 162 وعبر الذهبي 1: 280 والشذرات 1: 295 والانتقاء: 132. (2) ابن واضح: سقطت من س م ر، وهي في المسودة وص. (3) وكان كثير ... أبوه: سقط من ر. (4) أطلب حلواً فتأتنيني بحامض. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 32 رضي الله عنه (1) ، وكذا ذكرها الطرطوشي في أول " سراج الملوك " لابن أدهم (2) . ونقل أبو علي الغساني الجياني أن عبد الله بن المبارك المذكور سئل: أيهما أفضل: معاوية بن أبي سفيان أم عمر بن عبد العزيز فقال: والله إن الغبار الذي دخل في أنف معاوية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من عمر بألف مرة، صلى معاوية خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: سمع الله لمن حمده، فقال معاوية: ربنا ولك الحمد، فما بعد هذا [ووقفت في كتاب " النصوص على مراتب أهل الخصوص " عن أشعث بن شعبة المصيصي قال: قدم هارون الرشيد الرقة فانجفل الناس خلف عبد الله بن المبارك، وتقطعت النعال وارتفعت الغبرة، فأشرفت أم ولد أمير المؤمنين من برج الخشب، فلما رأت الناس قالت: ما هذا قالوا: عالم أهل خراسان قدم الرقة يقال له عبد الله بن المبارك، فقالت: هذا والله الملك، لا ملك هارون الذي لا يجمع الناس إلا بشرط وأعوان] (3) . وكان لعبد الله شعر (4) ، فمن ذلك قوله: قد يفتح المرء حانوتاً لمتجره ... وقد فتحت لك الحانوت بالدين بين الأساطين حانوت بلا غلق ... تبتاع بالدين أموال المساكين صيّرت دينك شاهيناً تصيد به ... وليس يفلح أصحاب الشواهين [وكان إذا خرج إلى مكة حرسها الله تعالى يقول: بعض الحياة وخوف الله أخرجني ... وبيع نفسي لما ليست له ثمنا   (1) في س ر في هذا الموضع: " المقدم ذكره " مع أن ترجمة إبراهيم بن دهم لم ترد في س. (2) وكذا ذكرها ... أدهم: هذه العبارة لم ترد إلا في ص والمسودة؛ وانظر سراج الملوك: 21. (3) ما بين معقفين لم يرد في المخطوطات، وإنما هو في المطبوعة. (4) انظر نماذج من شعر ابن المبارك في الورقة: 14 - 16 وطبقات السبكي 1: 150 وما بعدها وترتيب المدارك 1: 305. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 33 اني وزنت الذي يبقى ليعدله ... ماليس يبقى فلا والله ما اتزنا] (1) ومن كلامه: تعلمنا العلم للدنيا فدلنا على ترك الدنيا. وكان عبد الله قد غزا، فلما انصرف من الغزو وصل إلى هيت فتوفي بها في رمضان سنة إحدى، وقيل اثنتين وثمانين ومائة، ومولده بمرو سنة ثماني عشرة ومائة، رضى الله عنه. وهيت: بكسر الهاء وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها تاء مثناة من فوقها، مدينة على الفرات فوق الأنبار من أعمال العراق لكنها في بر الشام والأنبار في بر بغداد، والفرات يفصل بينهما، ودجلة تفصل بين الأنبار وبغداد، وقبره ظاهر يزار بها، وقد جمعت (2) أخباره في جزأين. 323 - (3) عبد الله بن عبد الحكم أبو محمد عبد الله بن عبد الحكم بن أعين بن ليث بن رافع (4) ، الفقيه المالكي المصري؛ كان أعلم أصحاب مالك بمختلف قوله، وأفضت إليه رياسة الطائفة المالكية بعد أشهب، وروى عن مالك الموطأ سماعاً، وكان من ذوي الأموال والرباع، له جاه عظيم وقدر كبير، وكان يزكي الشهود ويجرحهم، ومع هذا لم   (1) زيادة من ص. (2) شكله في المسودة بضم الجيم، على البناء للمجهول، فليس المؤلف هو الذي جمع أخباره. (3) ترجمة عبد الله بن عبد الحكم في طبقات الشيرازين الورقة: 44 وترتيب المدارك 2: 523 والديباج المذهب: 174 وتهذيب التهذيب 5: 289 وعبر الذهبي 1: 366 والشذرات 2: 34 والانتقاء: 52، 113. (4) ابن ليث بن رافع: سقط من س ر، وهو بهامش المسودة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 34 يشهد ولا أحد من ولده لدعوة سبقت فيه (1) ، ذكر ذلك القضاعي في كتاب " خطط مصر "، ويقال: إنه دفع للإمام الشافعي، رضي الله عنه، عند قدومه إلى مصر ألف دينار من ماله، وأخذ له من ابن عسامة التاجر ألف دينار، ومن رجلين آخرين ألف دينار، وهو والد أبي عبد الله محمد، صاحب الإمام الشافعي - وسيأتي ذكره في حرف الميم، ان شاء الله تعالى. وروى بشر بن بكر، قال: رأيت مالك بن أنس في النوم بعدما مات بأيام، فقال: إن ببلدكم رجلاً يقال له ابن عبد الحكم، فخذوا عنه فإنه ثقة. وكان لأبي محمد المذكور ولد آخر يسمى عبد الرحمن من أهل الحديث والتواريخ (2) ، صنف كتاب فتوح وغيره (3) . وكانت ولادة أبي محمد المذكور في سنة خمسين ومائة، وقيل سنة خمس وخمسين ومائة. وتوفي في شهر رمضان سنة أربع عشرة ومائتين بمصر، وقبره إلى جانب قبر الإمام الشافعي، رضي الله عنهما، مما يلي القبلة، وهو الأوسط من القبور الثلاثة. (77) وتوفي ولده عبد الرحمن المذكور في سنة سبع وخمسين ومائتين، وقبره إلى جانب قبر أبيه من جهة القبلة. وأعين: بفتح الهمزة وسكون العين المهملة وفتح الياء المثناة من تحتها وبعدها نون. وعسامة: بضم العين المهملة وفتح السين المهملة وبعد الألف ميم ثم هاء.   (1) عند هذا الموضع ورد في هامش س: " وكان يكرم للشافعي ويلزم لمجلسه وأمر ابنه محمداً بلزوم الشافعي والأخذ عنه، وكان ذلك سبب تمييزه على نظرائه، وله مصنفات في الفقه معروفة، وكان محدثاً، غير قبره وقبر ولديه عبد الرحمن ومحمد وكانا من أهل العلم والتصانيف وفضلهما مشهور وجعل قبورهم لاطئة بالأرض محقورة في العين تعصباً على مذهب مالك وأصحابه، وهم ينهون عنه وينأون عنه وأن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون، ولو رأى الشافعي ذلك لساءه، إذ الأرض أرضهم والتربة ملك لهم، وإنما دفنوا الشافعي عندهم إيثاراً له ومعرفة بفضله، رضي الله عنهم أجمعين ". (2) ص: والتاريخ. (3) وروى بشر ... وغيره: سقط من س، وهو بهامش المسودة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 35 324 - (1) ابن وهب الفقيه المالكي أبو محمد عبد الله بن وهب بن مسلم، القرشي بالولاء (2) الفقيه المالكي المصري مولى ريحانة مولاة أبي عبد الرحمن يزيد بن أنيس الفهري (3) ، كان أحد أئمة عصره وصحب الإمام مالك بن أنس، رضي الله عنه، عشرين سنة، وصنف " الموطأ الكبير " و " الموطأ الصغير " وقال مالك في حقه: عبد الله بن وهب إمام. وقال أبو جعفر ابن الجزار: رحل ابن وهب إلى مالك في سنة ثمان وأربعين ومائة ولم يزل في صحبته إلى أن توفي مالك، وسمع من مالك قبل عبد الرحمن بن القاسم ببضع عشرة سنة. وكان مالك يكتب إليه إذا كتب في المسائل: إلى عبد الله بن وهب المفتي، ولم يكن يفعل هذا مع غيره. وأدرك من أصحاب ابن شهاب الزهري أكثر من عشرين رجلاً. وذكر ابن وهب وابن القاسم عند مالك، فقال: ابن وهب عالم وابن القاسم فقيه. قال القضاعي في كتاب " خطط مصر ": قبر عبد الله بن وهب مختلف فيه، وفي مجرّ بني مسكين قبر صغير مخلق يعرف بقبر عبد الله، وهو قبر قديم يشبه أن يكون قبره (4) . وكان مولده في ذي القعدة سنة خمس، وقيل أربع وعشرين ومائة بمصر. وتوفي بها يوم الأحد لخمس بقين من شعبان سنة سبع وتسعين ومائة، رضي الله عنه.   (1) ترجمة ابن وهب في طبقات الشيرازي، الورقة: 44 وترتيب المدارك 2: 421 والديباج المذهب: 132 وتذكرة الحفاظ: 304 وعبر الذهبي 1: 322 وغاية النهاية 1: 463 وتهذيب التهذيب 6: 71 والشذرات 1: 347 والانتقاء: 48. (2) بالولاء: سقطت من ر س م. (3) مولى ريحانة ... الفهري: سقط من س وبعضه من ر وهو محشى بين السطور في المسودة. (4) قال القضاعي ... قبره: سقط من م س. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 36 وله مصنفات في الفقه معروفة، وكان محدثاً. وقال يونس بن عبد الأعلى صاحب الإمام الشافعي، رحمه الله تعالى: كتب الخليفة إلى عبد الله بن وهب في قضاء مصر، فجنّن نفسه، ولزم بيته، فاطلع عليه رشدين بن سعد (1) ، وهو يتوضأ في صحن داره، فقال له: ألا تخرج إلى الناس فتقضي بينهم بكتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلّم فرفع إليه رأسه وقال: إلى ها هنا انتهى عقلك أما علمت أن العلماء يحشرون مع الأنبياء وأن القضاة يحشرون مع السلاطين (2) وكان عالماً صالحاً خائفاً لله تعالى. وسبب موته أنه قرئ عليه كتاب " الأهوال " من جامعه، فأخذه شيء كالغشي، فحمل إلى داره فلم يزل كذلك إلى أن قضى نحبه. قال ابن يونس المصري في تاريخه: هو مولى يزيد بن رمانة مولى أبي عبد الرحمن يزيد بن أنيس الفهري، والذي ذكرته أولاً قاله ابن عبد البر (3) ، والله أعلم. [وقال عبد الله بن وهب المصري: كان حيوة بن شريح يأخذ عطاءه في كل سنة ستين ديناراً. قال: وكان إذا أخذه لم يطلع إلى منزله حتى يتصدق به. قال: ثم يجيئ إلى منزله فيجدها تحت فراشه. قال: وكان له ابن عم، فلما بلغه ذلك أخذ عطاءه فتصدق به، ثم جاء يطلبه تحت فراشه فلم يجد شيئاً. قال: فشكا إلى حيوة، فقال له حيوة: أنا أعطيت ربي بيقين، وأنت أعطيت ربك تجربة] (4) .   (1) ترتيب المدارك: حجاج رشدين؛ وانظر رشدين بن سعد في المصدر نفسه 3: 82. (2) وقال يونس .... السلاطين: سقط من س وهو بهامش المسودة، وكل ما جاء في هوامش المسودة أو بين سطورها فإنه لا يرد في النسخة س، ولهذا لن نشير اليه من بعد، فقد مرت منه نماذج كثيرة. (3) الانتقاء: 48. (4) ما بين معقفين في س م ص والمسودة؛ وحيوة بن شريح أبو زرعة التجيبي فقيه زاهد محدث ثقة، توفي سنة 158 أو في التي بعدها (تهذيب التهذيب 3: 70) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 37 325 - (1) عبد الله بن لهيعة أبو عبد الرحمن عبد الله بن لهيعة بن عقبة بن لهيعة الحضرمي الغافقي المصري، كان مكثراً من الحديث والأخبار والرواية. قال محمد بن سعد في حقه (2) : إنه كان ضعيفاً، ومن سمع منه في أول أمره أقرب حالاً ممن سمع منه في آخره. وكان يقرأ عليه ما ليس من حديثه فيسكت، فقيل له في ذلك فقال: ما ذنبي إنما يجيئونني بكتاب يقرأونه عليّ ويقومون، ولو سألوني لأخبرتهم أنه ليس من حديثي. وكان أبو جعفر المنصور قد ولاه القضاء بمصر في مستهلّ سنة خمس وخمسين ومائة، وهو أول قاض ولي بمصر من قبل الخليفة، وصرف عن القضاء في شهر ربيع الأول (3) سنة أربع وستين ومائة، وهو أول قاض حضر لنظر الهلال في شهر رمضان واستمر القضاة عليه إلى الآن (4) . ذكر ابن الفراء في تاريخه في سنة اثنتين وخمسين ومائة فقال: وفيها توفي أبو خزيمة إبراهيم بن يزيد القاضي الحميري (5) وولي مكانه عبد الله بن لهيعة الحضرمي، وكان سبب ولايته أن ابن حديج كان بالعراق، قال: فدخلت على أبي جعفر المنصور فقال لي: يا ابن حديج، لقد توفي ببلدك رجل أصيب به العامة، قلت: يا أمير المؤمنين ذاك إذاً أبو خزيمة، قال: نعم، فمن ترى أن نولي القضاء بعده   (1) ترجمته في الكندي: 368 وتهذيب التهذيب 5: 373 وتذكرة الحفاظ: 237 وعبر الذهبي 1: 264 والمعارف: 505 وميزان الاعتدال 2: 475 ورفع الإصر: 287 والنجوم الزاهرة 2: 77 والشذرات 1: 283. (2) انظر الطبقات 7: 516. (3) الكندي: ربيع الآخر. (4) وصرف ... الآن: سقط من ر. (5) انظر ترجمته في الكندي: 363. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 38 قلت: أبا معدان [عامر بن مرة] اليحصبي يا أمير المؤمنين، قال: ذاك رجل أصم، لا يصلح للقاضي أن يكون أصم. قال فقلت: فابن لهيعة يا أمير المؤمنين، قال: فابن لهيعة على ضعف فيه، فأمر بتوليته، وأجرى عليه في كل شهر ثلاثين ديناراً، وهو أول قضاة مصر أجري عليه ذلك، وأول قاض بها استقضاه خليفة، وإنما كان ولاة البلد هم الذين يولون القضاة (1) . وتوفي بمصر يوم الأحد منتصف شهر ربيع الأول سنة أربع وسبعين، وقيل سنة سبعين ومائة، وعمره إحدى وثمانون سنة، رحمه الله تعالى. قال أبو موسى العنزي في تاريخه: وكان الليث بن سعد أكبر من ابن لهيعة بسنة أو بسنتين. [وذكره ابن يونس في تاريخه فقال: عبد الله بن لهيعة بن عقبة بن فرعان بن ربيعة الحضرمي ثم الأعدولي، من أنفسهم، قاضي مصر، يكنى أبا عبد الرحمن وروى عنه عمرو بن الحارث والليث بن سعد وعثمان بن الحكم الجذامي وابن المبارك، وذكر تاريخ وفاته، ثم قال: وكان مولده سنة سبع وتسعين، ثم روى بإسناد متصل إليه أنه قال: كنت إذا أتيت يزيد بن أبي حبيب يقول لي: كأني بك وقد قعدت على الوسادة، يعني وسادة القضاة، فما مات ابن لهيعة حتى ولي القضاء] (2) . ولهيعة: بفتح اللام وكسر الهاء وسكون الياء المثناة من تحتها وفتح العين المهملة وبعدها هاء ساكنة. والحضرمي: بفتح الحاء المهملة وسكون الضاد الموحدة وفتح الراء وبعدها ميم، هذه النسبة إلى حضرموت، وهي من بلاد اليمن في أقصاها.   (1) هذا النص المنقول عن ابن الفراء انفردت بإيراده كاملاً النسخة ر، وبلغ في المسودة إلى قوله: " فدخلت على أبي جعفر المنصور فقال لي " ثم كتب " تتمة ذلك في الورقة " ويبدو أنه أتمه في ورقة منفصلة ضاعت؛ ولهذا سقط سائره من ص، كما أن الخبر كله سقط من س م، وقارن بما عند الكندي: 368 - 369. (2) ما بين معقفين افنردت به ر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 39 326 - (1) القعنبي أبو عبد الرحمن عبد الله بن مسلمة بن قعنبٍ الحارثي المعروف بالقعنبي، كان من أهل المدينة، وأخذ العلم والحديث عن الإمام مالك رضي الله عنه، وهو من جلة أصحابه وفضلائهم وثقاتهم وخيارهم، وهو أحد رواة " الموطأ " عنه، فإن " الموطأ " رواه عن مالك رضي الله عنه جماعة، وبين الروايات اختلاف، وأكملها رواية يحيى بن يحيى - كما سيأتي في ترجمته إن شاء الله تعالى. وكان يسمى " الراهب " لعبادته وفضله. وقال عبد الله بن أحمد بن الهيثم: سمعت جدي يقول: كنا إذا أتينا عبد الله بن مسلمة القعنبي خرج إلينا كأنه مشرف على جهنم، ونعوذ بالله منها. وكان القعنبي يسكن البصرة، وهو من الثقات في روايته. وتوفي يوم الجمعة لست خلون من المحرم سنة إحدى وعشرين ومائتين بالبصرة، رحمه الله تعالى، وذكر أبو القاسم ابن بشكوال في تسمية من روى " الموطأ " عن مالك أنه توفي بمكة، والله أعلم. والقعنبي: بفتح القاف وسكون العين المهملة وفتح النون وبعدها باء موحدة، هذه النسبة إلى جده المذكور أعلاه، رحمه الله تعالى.   (1) ترجمته في ترتيب المدارك 1: 397 والديباج المذهب: 131 والانتقاء: 61 وتذكرة الحفاظ: 383 وتهذيب التهذيب 6: 30 والشذرات 2: 49. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 40 327 - (1) ابن كثير المقرئ أبو سعيد (2) عبد الله بن كثير؛ أحد القراء السبعة. توفي سنة عشرين ومائة بمكة، رحمه الله تعالى، ولم أقف على شيء من حاله لأذكره. ثم وجدت صاحب كتاب " الإقناع " في القراءات (3) ذكره فقال: ابن كثير، المكي الداري - والدار بطن من لخم منهم تميم الداري رضي الله عنه، وقيل إنما نسب إلى دارين لأنه كان عطاراً، وهو موضع الطيب، وهذا هو الصحيح - قالوا: وهو مولى عمرو بن علقمة الكناني، وهو من أبناء فارس الذين بعثهم كسرى بالسفن إلى اليمن حين طرد الحبشة عنها، وكان يخضب بالحناء، وكان قاضي الجماعة بمكة، وهو من الطبقة الثانية من التابعين، وكان شيخاً كبيراً، أبيض الرأس واللحية طويلاً جسيماً أسمر أشهل العينين، يغير شيبته بالحناء أو بالصفرة، وكان حسن السكينة، ولد بمكة سنة خمس وأربعين، ومات بها سنة عشرين ومائة (4) . ثم قال هذا المصنف: ما ذكر من وفاته هو كالإجماع بين القراء، ولا يصح عندي، لأن عبد الله بن إدريس الأودي قرأ عليه، ومولد ابن إدريس سنة خمس عشرة ومائة، فكيف تصح قراءته عليه لولا ابن كثير تجاوز سنة عشرين وإنما الذي مات فيها عبد الله بن كثير القرشي وهو غير القارىء، وأصل الغلط في هذا من أبي بكر ابن مجاهد، والله أعلم (5) .   (1) ترجمة ابن كثير المقرئ في طبقات ابن سعد 5: 484 وغاية النهاية: 443 وتهذيب التهذيب 5: 367 والعقد الثمين 5: 236 والشذرات 1: 157. (2) هكذا هو في المسودة وسائر النسخ وفي المصادر " أبو معبد ". (3) هذا الكتاب من تأليف ابي جعفر أحمد بن علي ابن الباذش المتوفى سنة 546. (4) إلى هنا انتهت الترجمة في م. (5) أورد الجزري رأي ابن الباذش هذا ثم قال: وهو معذور فيما قال، غير أن الصواب في ذلك أن ابن إدريس (الأودي) لم يقرأ على ابن كثير. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 41 (78) وراوياه: قنبل وهو محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن خالد بن سعيد بن جرجة المكي المخزومي (1) ، توفي سنة إحدى وتسعين ومائتين وله ست وتسعون سنة. (79) وراويه الآخر البزي، وهو أحمد بن محمد بن عبد الله بن القاسم بن نافع بن أبي بزة بشار الفارسي، كنيته أبو الحسن (2) ، توفي سنة سبعين ومائتين وله ثمانون سنة، رحمهم الله أجمعين. 328 - (3) ابن قتيبة أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري، وقيل المروزي، النحوي اللغوي صاحب كتاب " المعارف " و " أدب الكاتب "؛ كان فاضلاً ثقة، سكن بغداد وحدث بها عن إسحاق بن راهويه وأبي إسحاق إبراهيم بن سفيان بن سليمان بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن زياد بن أبيه الزيادي (4) وأبي حاتم السجستاني وتلك الطبقة، وروى عنه ابنه أحمد و ابن دُر ستُويه الفارسي، وتصانيفه كلها مفيدة، منها ما تقدم ذكره، ومنها " غريب القرآن الكريم " و " غريب الحديث " و " عيون الأخبار " و " مشكل القرآن " و " مشكل الحديث " و " طبقات الشعراء " و " الأشربة " و " إصلاح الغلط " و " كتاب التقفية " و " كتاب الخيل " و " كتاب إعراب القراءات " (5)   (1) انظر غاية النهاية 2: 165 وعبر الذهبي 2: 89 والشذرات 2: 208. (2) انظر غاية النهاية 1: 119 وعبر الذهبي 1: 455 والشذرات 2: 120 وميزان الاعتدال 1: 144. (3) ترجمته في انباه الرواة 2: 143 وهناك ثبت بمصادر أخرى في الحاشية. (4) سقط نسب الزيادي من ص س. (5) س: القرآن. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 42 و " كتاب الأنواء " و " كتاب المسائل والجوابات " (1) و " كتاب الميسر والقداح " وغير ذلك. وأقرأ كتبه ببغداد إلى حين وفاته، وقيل أن أباه مروزي، وأما هو فمولده ببغداد، وقيل بالكوفة، وأقام بالدِّينورِ مدةً قاضياً فنسب إليها. وكانت ولادته سنة ثلاث عشرة ومائتين، وتوفي في ذي القعدة سنة سبعين، وقيل سنة إحدى وسبعين، وقيل أول ليلة في رجب، وقيل منتصف رجب سنة ست وسبعين ومائتين، والأخير أصح الأقوال، وكانت وفاته فجأة، صاح صيحة سمعت من بُعد ثم أغمي عليه ومات، وقيل أكل هريسة فأصابه حرارة ثم صاح صيحة شديدة ثم أغمي عليه إلى وقت الظهر ثم اضطرب ساعة ثم هدأ فما زال يتشهد إلى وقت السحر، ثم مات رحمه الله تعالى. (80) وكان ولده أبو جعفر أحمد بن عبد الله المذكور فقيهاً (2) ، وروى عن أبيه كتبه المصنفة كلها وتولى القضاء بمصر، وقدمها في ثامن عشر جمادى الآخرة سنة إحدى وعشرين وثلثمائة، توفي بها في شهر ربيع الأول سنة اثنتين وعشرين وثلثمائة، وهو على القضاء ومولده ببغداد. والناس يقولون: إن أكثر أهل العلم يقولون: إن أدب الكاتب خطبة بلا كتاب، وإصلاح المنطق كتاب بلا خطبة، وهذا فيه نوع تعصب عليه، فإن " أدب الكاتب " قد حوى من كل شيء وهو مفنَّن، وما أظن حملهم على هذا القول إلا أن الخطبة طويلة، و " الإصلاح " بغير خطبة، وقيل أنه صنف هذا الكتاب لأبي الحسن عبيد الله بن يحيى بن خاقان وزير المعتمد على الله بن المتوكل على الله الخليفة العباسي، وقد شرح هذا الكتاب أبو محمد بن السيد البطليوسي - الآتي ذكره أن شاء الله تعالى - شرحاً مستوفى، ونبه على مواضع الغلط منه، وفيه دلالة على كثرة اطلاع الرجل، وسماه الاقتضاب في " شرح أدب الكتَّاب ". وقتيبة: بضم القاف وفتح التاء المثناة من فوقها وسكون الياء المثناة من   (1) ص: والأجوبة. (2) انظر ترجمة أبي جعفر ابن قتيبة في الكندي: 485 ورفع الإصر: 72. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 43 تحتها وبعدها باء موحدة ثم هاء ساكنة، وهي تصغير قتبة بكسر القاف، وهي واحدة الأقتاب، والأقتاب: الأمعاء، وبها سمي الرجل، والنسبة إليه قتبيّ. والدينوري: بكسر الدال المهملة، وقال السمعاني بفتحها وليس بصحيح وبسكون الياء المثناة من تحتها وفتح النون والواو وبعدها راء، هذه النسبة إلى دينور، وهي بلدة من بلاد الجبل عند قرميسين خرج منها خلق كثير. 329 - (1) ابن درستويه أبو محمد عبد الله بن جعفر بن درستويه بن المرزبان الفارسي الفسوي النحوي؛ كان عالماً فاضلاً أخذ فن الأدب عن ابن قتيبة - المقدم ذكره - وعن المبرد وغيرهما ببغداد، وأخذ عنه جماعة من الأفاضل كالدارقطني وغيره. وكانت ولادته في سنة ثمان وخمسين ومائتين، وتوفي يوم الاثنين لتسع (2) بقين من صفر، وقيل لست بقين منه، سنة سبع وأربعين وثلثمائة ببغداد، رحمه الله تعالى. وكان أبوه من كبار المحدثين وأعيانهم. ودرستويه: بضم الدال المهملة والراء وسكون السين المهملة، وضم التاء المثناة من فوقها وسكون الواو وفتح الياء المثناة من تحتها وبعدها هاء ساكنة، هكذا قاله السمعاني، وقال غيره: هو بفتح الدال والراء والواو، وهذا القائل هو ابن ماكولا في كتاب الاكمال. والفارسي والفسوي قد تقدم الكلام عليهما في ترجمة البساسيري في حرف الهمزة. وتصانيف في غاية الجودة والإتقان، منها: " تفسير كتاب الجرمي "   (1) ترجمة ابن درستويه في انباه الرواة 2: 113 وفي الحاشية ذكر لمصادر أخرى. (2) س ص: لسبع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 44 و " الارشاد " في النحو، و " كتاب الهجاء " و " شرح الفصيح والرد على المفضل الضبي في الرد على الخليل " و " كتاب الهداية " و " كتاب المقصور والممدود " و " كتاب غريب الحديث " و " كتاب معاني الشعر " و " كتاب الحي والميت " و " كتاب التوسط بين الأخفش وثعلب في تفسير القرآن " و " كتاب خبر قس بن ساعدة " و " كتاب الأعداد " و " كتاب أخبار النحويين " و " كتاب الرد على الفراء في المعاني "، وله عدة كتب شرع فيها ولم يكملها. 330 - (1) الكعبي أبو القاسم عبد الله بن أحمد بن محمود الكعبي البلخي العالم المشهور، كان رأس طائفة من المعتزلة يقال لهم الكعبية، وهو صاحب مقالات، ومن مقالته: أن الله سبحانه وتعالى ليست له إرادة، وأن جميع أفعاله واقعة منه من غير إرادة ولا مشيئة منه لها. وكان من كبار المتكلمين، وله اختيارات في علم الكلام، وتوفي مستهل شعبان سنة سبع عشرة وثلثمائة، رحمه الله تعالى. والكعبي: بفتح الكاف وسكون العين المهملة وبعدها باء موحدة هذه النسبة إلى بني كعب. والبلخي: بفتح الباء الموحدة وسكون اللام وبعدها خاء معجمة، هذه النسبة إلى بلخ إحدى مدن خراسان.   (1) ترجمة الكعبي في تاريخ بغداد 9: 384 وطبقات المعتزلة: 88 ومقالات الإسلاميين: (انظر فهرست الكتاب) ، والفصل 4: 203 وعبر الذهبي 2: 176 والشذرات 2: 281 والفرق: 12، 180 - 181 ومختصره: 119 والتبصير: 51 والمللك والنحل: 1: 76 والجواهر المضية 1: 271. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 45 331 - (1) القفال المروزي أبو بكر عبد الله بن أحمد بن عبد الله الفقيه الشافعي المعروف بالقفال المروزي؛ كان وحيد زمانه فقهاً وحفظاً وورعاً وزهداً، وله في مذهب الإمام الشافعي من الآثار ما ليس لغيره من أبناء عصره، وتخاريجه كلها جيدة وإلزاماته لازمة؛ واشتغل عليه خلق كثير وانتفعوا به، منهم الشيخ أبو علي السنجي والقاضي حسين بن محمد - وقد تقدم ذكرهما - و الشيخ أبو محمد الجويني والد إمام الحرمين - وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى - وغيرهم، وكل واحد من هؤلاء صار إماماً يشار إليه، ولهم التصانيف النافعة ونشروا علمه في البلاد وأخذه عنهم أئمة كبار أيضاً. وكان ابتداء اشتغاله بالعلم على كبر السن بعدما أفنى شبيبته في عمل الأقفال ولذلك قيل له القفال وكان ماهراً في عملها. ويقال إنه لما شرع في التفقه كان عمره ثلاثين سنة، وشرح فروع أبي بكر محمد بن الحداد المصري فأجاد في شرحها، وشرحها أيضاً أبو علي السنجي المذكور والقاضي أبو الطيب الطبري، وهو كتاب مشكل مع صغر حجمه، وفيه مسائل عويصة وغريبة، والمبرز من الفقهاء الذي يقدر على حلها وفهم معانيها وسيأتي ذكر مصنفها في حرف الميم إن شاء الله تعالى. وكانت وفاة القفال المذكور في بعض شهور سنة سبع عشرة وأربعمائة، وهو ابن تسعين سنة، ودفن بسجستان، وقبره بها معروف يزار، رحمه الله تعالى.   (1) ترجمة القفال في طبقات السبكي 3: 198 وعبر الذهبي 3: 124 والشذرات 3: 207 وقد وردت الترجمة موجزة في م، مستوفاة في المسودة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 46 332 - (1) الشيخ أبو محمد الجويني أبو محمد عبد الله بن يوسف بن عبد الله بن يوسف بن محمد حيويه الجويني الفقيه الشافعي والد إمام الحرمين - وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى -؛ كان إماماً في التفسير والفقه والأصول والعربية والأدب، قرأ الأدب أولاً على أبيه أبي يعقوب يوسف بجوين، ثم قدم نيسابور واشتغل بالفقه على أبي الطيب سهل بن محمد الصعلوكي - المقدم ذكره في حرف السين - ثم انتقل إلى أبي بكر القفال المروزي المذكور قبله، واشتغل عليه بمرو ولازمه واستفاد منه وانتفع به وأتقن عليه المذهب والخلاف وقرأ عليه طريقته وأحكمها، فلما تخرج عليه عاد إلى نيسابور سنة سبع وأربعمائة وتصدّر للتدريس والفتوى فتخرّج عليه خلق كثير منهم ولده إمام الحرمين. وكان مهيباً لا يجري بين يديه إلا الجد، وصنف التفسير الكبير المشتمل على أنواع العلوم، وصنف في الفقه التبصرة والتذكرة ومختصر المختصر والفرق والجمع والسلسلة وموقف الإمام والمأموم وغير ذلك من التعاليق، وسمع الحديث الكثير. وتوفي في ذي القعدة سنة ثمان وثلاثين، كذا قال السمعاني في كتاب الذيل، وقال في الأنساب في سنة أربع وثلاثين وأربعمائة بنيسابور، والله أعلم. وقال غيره: وهو في سن الكهولة، رحمه الله تعالى. وقال الشيخ أبو صالح المؤذن: مرض الشيخ أبو محمد الجويني سبعة عشر يوماً، وأوصاني أن أتولّى غسله وتجهيزه، فلما توفي غسلته، فلما لففته في الكفن رأيت يده اليمنى إلى الإبط زهراء منيرةً من غير سوء، وهي تتلألأ تلألؤ القمر، فتحيرت وقلت في   (1) ترجمته في الأنساب 3: 429 وطبقات السبكي 3: 208 وطبقات المفسرين: 15 وعبر الذهبي 3: 188 والشذرات 3: 261؛ قلت: وهذه الترجمة مطابقة لما في المسودة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 47 نفسي: هذه بركات فتاويه. وحيويه: بفتح الحاء المهملة وتشديد الياء المثناة من تحتها وضمها وسكون الواو وفتح الياء الثانية وبعدها هاء. والجويني: بضم الجيم وفتح الواو وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها نون، هذه النسبة إلى جوين، وهي ناحية كبيرة من نواحي نيسابور تشتمل على قرىً كثيرة مجتمعة. 333 - (1) أبو زيد الدبوسي أبو زيد عبد الله بن عمر بن عيسى الدّبوسيّ الفقيه الحنفي؛ كان من كبار أصحاب الإمام أبي حنيفة، رضي الله عنه، ممن يضرب به المثل، وهو أول من وضع علم الخلاف وأبرزه إلى الوجود، وله كتاب الأسرار والتقويم للأدلة وغيره من التصانيف والتعاليق. وروي أنه ناظر بعض الفقهاء فكان كلما ألزمه أبو زيد إلزاماً تبسم أو ضحك، فأنشد أبو زيد: ما لي إذا ألزمته حجّةً ... قابلني بالضّحك والقهقهة إن كان ضحك المرء من فقهه ... فالدبّ (2) في الصحراء ما أفقهه وكانت وفاته بمدينة بخارى سنة ثلاثين وأربعمائة، رحمه الله تعالى. والدّبوسيّ: بفتح الدال المهملة وضم الباء الموحدة وبعدها واو ساكنة وسين مهملة، هذه النسبة إلى دبوسة (3) ، وهي بليدة بين بخارى وسمرقند نسب إليه جماعة من العلماء.   (1) ترجمته في الجواهر المضية 1: 339 (باسم: عبيد الله) وانظر أيضاً 2: 306 والأنساب 5: 306. (2) الجواهر: فالذئب. (3) كذا في س ص والمسودة والجواهر المضية؛ وفي الأنساب " دبوسية ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 48 334 - (1) المرتضى بن الشهرزوري أبو محمد عبد الله بن القاسم بن المظفر بن عليّ بن القاسم الشّهرزوريّ المنعوت بالمرتضى، والد القاضي كمال الدين - وسيأتي ذكر ولده ووالده إن شاء الله تعالى -؛ كان أبو محمد المذكور مشهوراً بالفضل والدين، وكان مليح الوعظ مع الرشاقة والتجنيس، وأقام ببغداد مدة يشتغل بالحديث والفقه، ثم رجع إلى الموصل وتولى بها القضاء وروى الحديث، وله شعر رائق، فمن ذلك قصيدته التي على طريقة الصوفية ولقد أحسن فيها وهي: لمعت نارهم وقد عسعس اللي ... ل وملَّ الحادي وحار الدليل فتأملتها وفكري من البي ... ن عليلٌ ولحظ عيني كليل وفؤادي ذاك الفؤاد المعنى ... وغرامي ذاك الغرام الدخيل ثم قابلتها وقلت لصحبي ... هذه النار نار ليلى فميلوا فرموا نحوها لحاظاً صحيحا ... تٍ فعادت خواسئاً وهى حول ثم مالوا إلى الملام وقالوا ... خلبٌ ما رأيت أم تخييل فتجنبتهم وملت إليها ... والهوى مركبي وشوقي الزميل ومعي صاحب أتى يقتفي الآ ... ثار والحب شرطه التطفيل وهي تعلو ونحن ندنو إلى أن ... حجزت دونها طلولٌ محول فدنونا من الطلول فحالت ... زفراتٌ من دونها وغليل قلت: من بالديار قالوا: جريحٌ ... وأسيرٌ مكبلٌ وقتيل   (1) ترجمته في الخريدة (قسم الشام) 2: 308 وطبقات السبكي 4: 124 والنجوم الزاهرة 5: 231 والشذرات 4: 124. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 49 ما الذي جئت تبتغي قلت: ضيف ... جاء يبغي القرى فأين النزول فأشارت بالرحب دونك فاعقر ... ها فما عندنا لضيفٍ رحيل من أتانا ألقى عصا السير عنه ... قلت: من لي بها وأين السبيل فحططنا إلى منازل قومٍ ... صرعتهم قبل المذاق الشمول درس الوجد منهم كل رسمٍ ... فهو رسمٌ والقوم فيه حلول منهم من عفا ولم يبق للشك ... وى ولا للدموع فيه مقيل ليس إلا الأنفاس تخبر عنه ... وهو عنها مبرَّأ معزول ومن القوم من يشير إلى وج ... دٍ تبقَّى عليه منه القليل ولكلٍ رأيت منه مقاماً ... شرحه في الكتاب مما يطول قلت أهل الهوى سلامٌ عليكم ... لي فؤادٌ عنكم بكم مشغول وجفونٌ قد أقرحتها من الدم ... ع حثيثاً إلى لقاكم سيول لم يزل حافز من الشوق يحدو ... ني إليكم والحادثات تحول واعتذاري ذنبٌ فهل عند من ... يعلم عذري في ترك عذري قبول جئت كي أصطلي فهل لي إلى نا ... ركم هذه الغداة سبيل فأجابت شواهد الحال عنهم ... كل حدٍّ من دونها مفلول لا تروقنّك الرياض الأنيقا ... ت فمن دونها ربًى ودحول كم أتاها قومٌ على غرّةٍ من ... ها وراموا أمراً فعزًّ الوصول وقفوا شاخصين حتى إذا ما ... لاح للوصل غرّةٌ وحجول وبدت راية الوفا بيد الوج ... د ونادى أهل الحقائق جولوا أين من كان يدَّعينا فهذا ال ... يوم فيه صبغ الدعاوى يحول حملوا حملة الفحول ولايص ... رع يوم اللقاء إلا الفحول بذلوا أنفساً سخت حين شحَّت ... بوصالٍ واستصغر المبذول ثم غابوا من بعد ما اقتحموها ... بين أمواجها وجاءت سيول قذفتهم إلى الرسوم فكلٌّ ... دمه في طلولها مطلول الجزء: 3 ¦ الصفحة: 50 نارنا هذه تضيء لمن يس ... ري بليلٍ لكنها لا تنيل منتهى الحظ ما تزوّد منها اللح ... ظ والمدركون ذاك قليل جاءها من عرفت يبغي اقتباساً ... وله البسط والمنى والسُّول فتعالت عن المنال وعزَّت ... عن دنوٍّ إليه وهو رسول فوقفنا كما عهدت حيارى ... كلُّ عزمٍ من دونها مخذول ندفع الوقت بالرجاء وناهي ... ك بقلبٍ غذاؤه التعليل كلما ذاق كأس يأسٍ مريرٍ ... جاء كأسٌ من الرجا معسول فإذا سوَّلت له النفس أمراً ... حيد عنه وقيل: صبرٌ جميل هذه حالنا وما وصل العل ... م إليه، وكلُّ حال تحول وإنما أثبت هذه القصيدة بكاملها لأنها قليلة الوجود وهي مطلوبة. وحكي عن بعض المشايخ أنه رأى في النوم قائلاً يقول: ما قيل في الطريق مثل القصيدة الموصلية، يعني هذه. وأنشد له مجد العرب العامري دوبيت: يا قلب إلام لا يفيد النصح ... دع مزحك كم جنى عليك المزح ما جارحة فيك عداها جرح ... ما تشعر بالخمار حتى تصحو وأورد له العماد الكاتب في الخريدة قوله (1) : فعاودت قلبي أسأل الصبر وقفةً ... عليها فلا قلبي وجدت ولا صبري وغابت شموس الوصل عني وأظلمت ... مسالكه حتى تحيرت في أمري فما كان إلا الخطف حتى رأيتها ... محكّمة والقلب في ربقة الأسر وله من أبيات:   (1) الخريدة 2: 310، وعند هذا الحد في المسودة ذكر أنه سيكمل النقل عن العماد في ورقة أخرى ولعلها ضاعت؛ وقد اختلف ترتيب الترجمة في س ص عما هو عليه هنا بعد انتهاء القصيدة اللامية؛ ولكنه استمر كما هو مثبت هنا في ر م والمسودة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 51 وبانوا فكم دمعٍ من الأسر أطلقوا ... نجيعاً وكم قلبٍ أعادوا إلى الأسر فلا تنكروا خلعي عذاري تأسُّفاً ... عليهم فكم أوضحت عندكم عذري ومن شعره أيضاً (1) : بقلبي منهم علق ... ودمعي فيهم علق وعندي منهم حرق ... لها الأحشاء تحترق ونحن ببابهم فرق ... أذاب قلوبنا الفرق وما تركوا سوى رمقٍ ... فليتهم له رمقوا فلا وصلٌ ولا هجرٌ ... ولا نومٌ ولا أرق ولا يأسٌ ولا طمعٌ ... ولا صبرٌ ولا قلق فليتهم وقد قطعوا ... ولم يُبقوا عليَّ بَقوا أأفنى في محبتهم (2) ... وطيب محبتي عبق كمثل الشمع يمتع من ... ينادمه ويمَّحق وله أيضاَ: يا ليل (3) ما جئتكم زائراً ... إلا وجدت الأرض تطوى لي ولا ثنيت العزم عن بابكم ... إلا تعثرت بأذيالي وغالب شعره على هذا الأسلوب. وكانت ولادته في شعبان سنة خمس وستين وأربعمائة، وتوفي في شهر ربيع الأول سنة إحدى عشرة وخمسمائة بالموصل، ودفن في التربة المعروفة بهم، رحمه الله تعالى.   (1) الخريدة: 315. (2) الخريدة: ففنى في بقائهم. (3) ر س م: تالله؛ ص: بالليل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 52 وذكر عماد الدين الكاتب الأصبهاني في كتاب " الخريدة " (1) في ترجمة المرتضى المذكور قال السمعاني: إنه سمع أن القاضي أبا محمد، يعني المرتضى المذكور، توفي بعد سنة عشرين وخمسمائة، والله أعلم. 335 - (2) شرف الدين ابن أبي عصرون أبو سعد عبد الله بن أبي السَّريِّ محمد بن هبة الله بن مطهّر بن علي بن أبي عُصرون ابن أبي السَّريِّ التميمي الحديثي ثم الموصلي، الفقيه الشافعي الملقب شرف الدين؛ كان من أعيان الفقهاء وفضلاء عصره (3) ، وممن سار ذكره وانتشر أمره. قرأ في صباه القرآن الكريم بالعشر على أبي الغنائم السُّلمي السّروجي والبارع أبي عبد الله ابن الدباس وأبي بكر المزرفي وغيرهم. وتفقه أولاً على القاضي المرتضى أبي محمد عبد الله بن القاسم الشهرزوري - المذكور قبله - وعلى أبي عبد الله الحسين بن خميس الموصلي، ثم على أسعد الميهني ببغداد، وأخذ الأصول عن أبي الفتح ابن برهان الأصولي، وقرأ الخلاف، وتوجه إلى مدينة واسط وقرأ على قاضيها الشيخ أبي علي الفارقي - المذكور في حرف الحاء - وأخذ عنه فوائد المهذب، ودرس بالموصل في سنة ثلاث وعشرين وخمسمائة، وأقام بسنجار مدة ثم انتقل إلى حلب في سنة خمس وأربعين، ثم قدم دمشق لما ملكها الملك العادل نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي في صفر سنة تسع وأربعين وخمسمائة، ودرس بالزاوية الغربية من جامع دمشق وتولى أوقاف   (1) الخريدة: 321؛ وقد سقط هذا النقل عن العماد من النسخة س. (2) ترجمته في غاية النهاية 1: 455 والخريدة (قسم الشام) 2: 351 وطبقات السبكي؛: 237 والنجوم الزاهرة 6: 109 وعبر الذهبي 4: 256 ونكت الهميان: 186 وصفحات متفرقة من مرآة الزمان؛ والشذرات 4: 283 وابن الصابوني (الحاشية) : 101 - 103. (3) ص: والفضلاء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 53 المساجد، ثم رجع إلى حلب، وأقام بها وصنف كتباً كثيرة في المذهب، منها صفوة المذهب من نهاية المطلب في سبع مجلدات، وكتاب الانتصار في أربع مجلدات، وكتاب المرشد في مجلدين، وكتاب الذريعة في معرفة الشريعة وصنف التيسير في الخلاف أربعة أجزاء، وكتاباً سماه " ما أخذ (1) النظر " و " مختصراً في الفرائض "، وكتاباً سماه " الإرشاد المغرب في نصرة المذهب " ولم يكمله، وذهب فيما نهب (2) له بحلب. واشتغل عليه خلق كثير وانتفعوا به، وتعين بالشام وتقدم عند نور الدين صاحب الشام وبنى له المدارس بحلب وحماة وحمص وبعلبك وغيرها، وتولى القضاء بسنجار ونصيبين وحران وغيرها من ديار بكر، ثم عاد إلى دمشق في سنة سبعين وخمسمائة، وتولى القضاء بها في سنة ثلاث وسبعين عقيب انفصال القاضي ضياء الدين أبي الفضائل القاسم بن تاج الدين يحيى بن عبد الله بن القاسم الشهرزوري - حسبما شرحته في ترجمة القاضي كمال الدين أبي الفضل محمد الشهرزوري. ثم عمي في آخر عمره قبل موته في عشر سنين، وابنه محيي الدين محمد ينوب عنه وهو باق على القضاء، وصنف جزءاً لطيفاً في جواز قضاء الأعمى، وهو على خلاف مذهب الشافعي. ورأيت في كتاب الزوائد تأليف أبي الحسين العمراني صاحب كتاب البيان وجهاً أنه يجوز، وهو غريب لم أره في غير هذا الكتاب. ووقع لي كتاب جميعه بخط السلطان صلاح الدين، رحمه الله تعالى، قد كتبه من دمشق إلى القاضي الفاضل وهو بمصر وفيه فصول من جملتها حديث الشيخ شرف الدين المذكور، وما حصل له من العمى، وأنه يقول: إن قضاء الأعمى جائز، وإن الفقهاء قالوا: إنه غير جائز، فتجتمع بالشيخ أبي الطاهر بن عوف الاسكندراني وتسأله عما ورد من الأحاديث في قضاء الأعمى: هل يجوز أم لا وبالجملة فلا شك في فضله. وقد ذكره الحافظ أبو القاسم ابن عساكر في تاريخ دمشق، وذكره العماد الكاتب في كتاب الخريدة وأثنى عليه،   (1) كذا في المسودة؛ س ص: مآخذ. (2) ص: ذهب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 54 وقال: ختمت به الفتاوى، وذكر له شيئاً من الشعر، وأنشدني بعض المشايخ قال: سمعته كثيراً ما ينشد، ولا أعلم هل هو له أم لا، وذكرهما العماد الكاتب في الخريدة: أؤمِّل أن أحيا وفي كلِّ ساعةٍ ... تمرُّ بي الموتى تهزُّ نعوشها وهل أنا إلا مثلهم غير أنَّ لي ... بقايا ليالٍ في الزمان أعيشها وأورد له أيضاً في الخريدة: أؤمل وصلاً من حبيبٍ وإنني ... على ثقةٍ عما قليل أفارقه تجارى بنا خيل الحمام كأنما ... يسابقني نحو الردى وأسابقه فيا ليتنا متنا معاً ثم لم يذق ... مرارة فقدي لا ولا أنا ذائقه وأورد له أيضاً: يا سائلي كيف حالي بعد فرقته ... حاشاك مما بقلبي من تنأيكا قد أقسم الدمع لا يجفوا الجفون أسىً ... والنوم لازهارها حتى الأقيكا وأورد له أيضاً: وما الدهر إلا ما مضى وهو فائتٌ ... وما سوف يأتي وهو غير محصل وعيشك فيما أنت فيه فإنه ... زمان الفتى من مجمل ومفصل وكانت ولادته يوم الاثنين الثاني والعشرين من شهر ربيع الأول سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة بالموصل. وتوفي ليلة الثلاثاء الحادية عشرة من شهر رمضان سنة خمس وثمانين وخمسمائة بمدينة دمشق ودفن في مدرسته التي أنشأها داخل البلد، وهي معروفة به، وزرت قبره مراراً، رحمه الله تعالى. [ولما توفي القاضي ورد من القاضي الفاضل تعزية فيه جواباً عن كتاب ورد عليه بذلك والتعزية، وصل كتاب الذات الكريمة - جمع الله شملها وسر بها أهلها ويسر إلى الخيرات سبلها وجعل في ابتغاء رضوانه قولها وفعلها - وفيه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 55 زيادة هي نقص الإسلام، وثلم في البرية يتجاوز رتبة الانثلام إلى الانهدام، وذلك ما قضاه الله [وقدره] (1) من وفاة الإمام شرف الدين بن أبي عصرون رحمه لله تعالى، وما حصل بموته من نقص الأرض من أطرافها، ومن مساءة أهل الملة ومسرة أهل خلافها، فلقد كان علماً للعلم منصوباً، وبقية من بقايا السلف الصالح محسوباً] (2) . [والعلم بالشام زرعه وكل من انتفع فعليه كان وإليه ينسب نفعه، رضي الله عنه وأرضاه، ونضح بماء الرحمة مثواه وما مات من أبقى تلك التصانيف التي هي المعنى المغني، بل ما مات من ولده المحيي، فإنه والله لآثاره ولعلمه المحيي، والحضرة تنوب عني في تعزيته، والقيام بحق تسليته، وقد ساءتني الغيبة عن مشهده، وتغبير القدم وراء سريره والتوسل إلى الله في ساعة مقدمه، ولقد علم الله اغتمامي لفقد حضرته، واستيحاشي لخلو الدنيا من بركته، واهتمامي بما عدمت من النصيب الموفور [كان] من أدعيته، وما مات بحمد الله حتى أحرز غيبته بأولاد كرام بررة، وأنشأ طلبةً للعلم نقلة وللمدارس عمرة، وحتى بنى لله المدارس والمساجد، وأحيا نهاره وليله بين راكع وساجد، فهو حيٌ لمجده، وإنما نحن الموت بفقده، وتعذر عليه أن ينتقل بقايا الخير وأعقاب السلف وأن يفارق من ليس لنا منه لولا خلفه خلف "] (3) . والحديثي: بفتح الحاء المهملة وكسر الدال المهملة وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها ثاء مثلثة، هذه النسبة إلى حديثة الموصل، وهي بليدة على دجلة بالجانب الشرق قرب الزاب الأعلى، وهي غير الحديثة التي يقال لها حديثة النورة، وهي قلعة حصينة على فراسخ من الأنبار في وسط الفرات (4) ، والماء   (1) زيادة من ص. (2) هذا النص لم يرد في المسودة وس؛ وصدره في ص بقوله: " ورأيت للقاضي الفاضل كتاب تعزية في القاضي شرف الدين المذكور عن كتاب ورد إليه في ذلك، وقد اشتركت ر في هذا القدر منه وبهامش المسودة " محل التخريجة ". (3) ما بين معقفين زيادة من ص وحدها. (4) إلى هنا انتهى النص في س. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 56 محيط بها وحديثة الموصل هي آخر حدّ أرض السواد في الطول، وقول الفقهاء في كتبهم أرض السواد ما بين حديثة الموصل إلى عبَّادان طولاً، ومن القادسية إلى حلوان عرضاً، يريدون به هذه الحديثة لا حديثة الفرات. 336 - (1) ابن أسعد الموصلي أبو الفرج عبد الله بن أسعد بن علي بن عيسى بن علي المعروف بابن الدهان الموصلي، ويعرف بالحمصي أيضاً، الفقيه الشافعي المنعوت بالمهذّب؛ كان فقيهاً فاضلاً أديباً شاعراً لطيف الشعر مليح السبك حسن المقاصد، غلب عليه الشعر واشتهر به (2) وله ديوان صغير (3) وكله جيد، وهو من أهل الموصل ولما ضاقت به الحال عزم على قصد الصالح بن رُزّيك وزير مصر المذكور في حرف الطاء (4) ، وعجزت قدرته عن استصحاب زوجته فكتب إلى الشريف ضياء الدين (5) أبي عبد الله (6) زيد بن محمد بن محمد بن عبيد الله الحسيني نقيب العلويين بالموصل هذه الأبيات (7) : وذات شجوٍ أسال البين عبرتها ... باتت تؤمِل بالتفنيد إمساكي   (1) ترجمته في الخريدة (قسم الشام) 2: 279 وطبقات السبكي 4: 233 وتهذيب ابن عساكر 7: 292 وعبر الذهبي 4: 243 والشذرات 4: 270، وقد نشر ديوانه الأستاذ عبد الله الجبوري (بغداد: 1968) . (2) س: واستغل به؛ ر: واشتهر بقوله. (3) صغير: سقطت من ص. (4) ص: المقدم ذكره. (5) ضياء الدين: سقطت من ص. (6) فوقها في المسودة: طاهر. (7) الديوان: 182 وفيه أنه خاطب بها والدته. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 57 لجت فلما رأتني لا أصيخ لها ... بكت فأقرح قلبي جفنها الباكي قالت وقد رأت الأجمال محدجةً ... والبين قد جمع المشكو والشاكي من لي إذا غبت في ذا المحل قلت لها ... الله وابن عبيد الله مولاك لا تجزعي بانحباس الغيث عنك فقد ... سألت نوء الثريا جود مغناك فتكفل الشريف المذكور لزوجته بجميع ما تحتاج إليه مدة غيبته عنها. ثم توجه إلى مصر ومدح الصالح بن رزيك بالقصيدة الكافية، وقد ذكرت بعضها هناك، ثم تقلبت به الأحوال وتولى التدريس بمدينة حمص، وأقام بها فلهذا ينسب إليها. قال العماد الكاتب فيه " الخريدة " (1) : مازلت وأنا بالعراق، إلى لقائه بالأشواق، فإني كنت أقف على قصائده المستحسنة، ومقاصده الحسنة، وقد سارت كافيته بين فضلاء الزمان كافةً فشهدت بكفايته، وسجلت بأن أهل العصر لم يبلغوا إلى غايته. ثم قال بعض الثناء عليه: فيه تمتمة تسفر عن فصاحة تامة، وعقدة لسانٍ تبين فقه في القول. ثم قال بعد ذلك: ولما وصل السلطان صلاح الدين رحمه الله إلى حمص وخيم بظاهرها خرج إلينا أبو الفرج المذكور، فقدمته إلى السلطان، وقلت له: هذا الذي يقول في قصيدته الكافية التي في ابن رزيك: أأمدح الترك أبغي الفضل عندهم ... والشعر ما زال عند الترك متروكا قال: فأعطاه السلطان وقال: حتى لا يقول (2) إنه متروك، ثم امتدح السلطان بقصيدته العينية التي يقول فيها (3) : قل للبخيلة بالسلام تورعاً ... كيف استبحت دمي ولم تتورعي   (1) الخريدة: 279. (2) النص عند العماد مختلف عما أورده ابن خلكان. (3) الديوان: 27. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 58 وزعمت أن تصلي بعامٍ قابلٍ ... هيهات أن أبقى إلى أن ترجعي أبديعة الحسن التي في وجهها ... دون الوجه علامة للمبدع ما كان ضرك لو غمزت بحاجبٍ ... يوم التفرق أو أشرت بإصبع وتيقني إني بحبك مغرم ... ثم اصنعي ما شئت بي أن تصنعي وقال العماد أيضاً: أنشدني هذين البيتين وزعم أنه أبتكر معناهما ولم يسبق إليه، وهما (1) : تردي الكتائب كتبه فإذا انبرت ... لم تدر أنفذ أسطراً أم عسكرا لم يحسن الإتراب فوق سطورها ... إلا لأن الجيش يعقد عثيرا وهذان البيتان من جملة قصيدة ولقد أبدع فيهما. وفي معنى تشبيه القلم بالجيش قول بعضهم: قوم إذا أخذوا الأقلام عن غضب ... ثم استمدوا بها ماء المنيات نالوا بها من أعاديهم وإن بعدوا ... ما لم ينالوا بحد المشرفيات قلت: ومعنى البيت الأول ينظر إلى قول أبي تمام الطائي في مدح محمد بن عبد الملك الزيات وزير المعتصم (2) : هززت أمير المؤمنين محمداً ... فكان ردينياً وأبيض منصلا فما إن تبالي إذ تجهز رأيه ... إلى ناكث أن لا تجهز جحفلا ثم إني وجدت معنى البيت الثاني للأستاذ أبي إسماعيل الحسين بن علي المنشئ الطغرائي المقدم ذكره وهو من جملة قصيدة يمدح بها نظام الملك: إذا ما دجا ليل العجاجة لم يزل ... بأيديهم جمرٌ إلى الهند منسوب   (1) الديوان: 51 - 52. (2) ديوان أبي تمام 3: 101. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 59 عليها سطور الضرب يعجمها القنا ... صحائف يغشاها من النقع تتريب ومن شعره السائر (1) : يضحي يجانبي مجانبة العدا ... ويبيت وهو إلى الصباح نديم ويمر بي يخشى الرقيب فلفظه ... شتمٌ وغنج لحاظه تسليم وله في غلام لسبته نحلة في شفته (2) : بأبي من لسبته نحلةٌ ... ألمت أكرم شيء وأجل أثرت لسبتها في شفةٍ ... ما براها الله إلا للقبل حسبت أن بفيه (3) بيتها ... إذا رأت ريقته مثل العسل ولولا خوف الإطالة لذكرت له أشياء بديعة. وتوفي بمدينة حمص في شعبان سنة إحدى، وقيل اثنتين وثمانين وخمسمائة، والثاني ذكره في السيل والذيل والأول أصح، رحمه الله تعالى، وقد قارب ستين سنة. (81) وتوفي الشريف ابن عبيد الله المذكور بالموصل سنة ثلاث وستين وخمسمائة، رحمه الله تعالى، وكان رئيساً جواداً كثير الإحسان جم الإفضال، وله شعر فمنه قوله: قالوا سلا، صدقوا عن ... السلوان ليس عن الحبيب قالوا فلم ترك الزيا ... رة قلت من خوف الرقيب قالوا وكيف تعيش مع ... هذا فقلت من العجيب (4)   (1) الديوان: 230 وهو من الملحقات. (2) الديوان: 231 من الملحقات عن ابن خلكان نفسه. (3) في المسودة: بقيه، وهو سهو. (4) هنا تنتهي الترجمة في س. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 60 وذكره عماد الدين في كتاب " الخريدة " (1) وبالغ في الثناء عليه، ثم قال: وسمعت ببغداد أبياتاً يغنى بها فنسبها بعض الشاميين إلى الشريف ضياء الدين المذكور، منها: يا بانة الوادي التي سفكت دمي ... بلحاظها بل يا فتاة (2) الأجرع لي أن أبثَّ إليك ما ألقاه من ... ألم الهوى وعليك أن لا تسمعي كيف السبيل إلى تناول حاجة ... قصرت يدي عنها كزند الأقطع 337 (3) ابن شاس أبو محمد عبد الله بن نجم بن شاس بن نزار بن عشاير بن عبد الله بن محمد بن شاس الجذامي السعدي الفقيه المالكي المنعوت بالجلال؛ كان فقيهاً فاضلاً في مذهبه عارفاً بقواعده، رأيت بمصر جمعاً كبيراً من أصحابه يذكرون فضائله، وصنف في الإمام مالك رضي الله عنه كتاباً نفيساً أبدع فيه، وسماه الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة وضعه على ترتيب الوجيز تصنيف حجة الإسلام أبي حامد الغزالي، رحمه الله تعالى، وفيه دلالة على غزارة فضله، والطائفة المالكية بمصر عاكفة عليه لحسنه وكثرة فوائده. وكان مدرساً بمصر بالمدرسة المجاورة للجامع، وتوجه إلى ثغر دمياط لما أخذه العدو المخذول بنية الجهاد، فتوفي هناك في جمادى الآخرة أو في رجب سنة ست عشرة وستمائة، رحمه الله تعالى.   (1) الخريدة (قسم الشام) 2: 249 واسمه عنده زيد بن محمد بن محمد بن عبد الله العلوي. (2) هكذا هو في المسودة والخريدة. (3) ترجمته في الديباج المذهب: 141 والشذرات 5: 69؛ قلت: وهذه الترجمة هنا مطابقة لما في المسودة تماماً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 61 وشاس: بالشين المعجمة والسين المهملة بينهما ألف. والجذامي والسعدي: قد تقدم الكلام عليهما. 338 - (1) عبد الله بن العباس بن عبد المطلب أبو العباس عبد الله بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، توفي رسول الله عليه وسلم وله ثلاث عشرة سنة، وكان صلى الله عليه وسلم دعا له فقال: اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل. وحرق عليّ رضي الله عنه قوماً من الزنادقة فأنكر عليه ابن عباس فقال: ويح ابن أم الفضل إنه لغواص على الهنات. وكان عطاء إذا حدث عنه قال: حدثني البحر، وكان ميمون بن مهران إذا ذكر عنده عبد الله بن عمر وعبد الله ابن العباس قال: كان ابن عباس أفقه. وأخذ الفقه عن ابن عباس جماعة منهم عطاء بن أبي رباح وطاوس ومجاهد وسعيد بن جبير وعبيد الله بن عبد الله بن مسعود وأبو الشعثاء جابر بن زيد وابن أبي مليكة وعكرمة وميمون بن مهران وعمرو بن دينار وغيره. ذكر أنه اجتمع من بني هاشم جماعة عند معاوية يوماً فأقبل عليهم فقال: يا بني هاشم والله إن خيري لممنوح وإن بابي لكم لمفتوح فلا يقطع خيري عنكم علة ولا يوصد بأبي دونكم مسألة، وإني نظرت في أمري وأمركم فرأيت أمراً مختلفاً: إنكم ترون أنكم أحق بما في يدي مني، وإذا أعطيتكم عطية فيها قضاء حقوقكم   (1) انفردت ص بهذه الترجمة، وهي غير ملتزمة بخطة المؤلف. وترجمة ابن عباس في كتب الصحابة وطبقات الشيرازي، الورقة: 10 وتذكرة الحفاظ: 40 وغاية النهاية 1: 425 والعقد الثمين 5: 190 ونكت الهميان: 180. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 62 قلتم: أعطانا دون حقنا وقصر بنا عن قدرنا، فصرت كالمسلوب، والمسلوب لا حمد له، هذا مع إنصاف قائلكم وإسعاف سائلكم، قال: فأقبل ابن عباس فقال: أما والله ما منحتنا شيئاً حتى سألناه ولا فتحت لنا باباً حتى قرعناه، ولئن قطعت عنا خيرك فالله أوسع خيراً منك، ولئن أغلقت دوننا بابك لنكفنَّ أنفسنا عنك، وأما هذا المال فليس لك منه إلا ما لرجل واحد من المسلمين، ولنا في كتاب الله حقان: حق في الغنيمة وحق في الفيء. فالغنيمة ما غلبنا عليه والفيء ما احتسبناه ولولا حقنا في هذا المال لم يأتك منا زائر يحمله خفٌ ولا حافر. كفاك أم أزيدك قال: كفاني فإنك لا تهرّ ولا تنبح. وحكى المدائني قال: قام عمرو بن العاص في موسم من مواسم العرب فأطرى معاوية بن أبي سفيان وبني أمية وذكر مشاهده بصفين، واجتمعت قريش فأقبل عبد الله بن عباس على عمرو فقال: يا عمرو إنك بعت دينك من معاوية وأعطيته ما بيدك، ومنّاك ما بيد غيره، فكان الذي أخذ منك أكثر مما أعطاك، والذي أخذت منه دون الذي أعطيته، وكل راضٍ بما أخذ وأعطي، فلما صارت مصر في يدك كدرها عليك بالعزل والتنغيص حتى لو كانت نفسك بيدك ألقيتها، وذكرت مشاهدك بصفين فوالله ما ثقلت علينا وطأتك ولقد كشفت فيها عورتك، وإن كنت لطويل اللسان، قصير السنان، آخر الخيل إذا أقبلت، وأولها إذا أدبرت، لك يدان: يد لا تبسطها إلى خير وأخرى لا تقبضها عن شر، ووجهان: وجه موحش ووجه مؤيس، ولعمري ان من باع دينه بدنيا غيره لحريّ أن يطول ندمه. لك لسان وفيك خطل، ولك رأي وفيك نكد، ولك قدر وفيك حسد، فأصغر عيب فيك أكبر عيب فيّ. وقال ابن عباس رضي الله عنه: ما رأيت رجلاً لي عنده معروف إلا أضاء ما بيني وبينه. وقال رضي الله عنه: أربعة لا أقدر على مكافأتهم: رجل بدأني بالسلام، ورجل وسع لي في المجلس، ورجل اغبرت قدماه في المشي في حاجتي، فأما الرابع فما يكافئه عني إلا الله عز وجل، قيل: ومن هو قال: رجل نزل به أمر فبات ليلته يفكر فيمن يقصده ثم رآني أهلاً لحاجته فأنزلها بي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 63 وقال له رجل: زوّجني من فلانة - وكانت يتيمة في حجره - فقال: لا أرضاها لك لأنها تسرف، فقال الرجل: قد رضيت، فقال ابن عباس: الآن لا أرضاك لها. ومات ابن عباس بالطائف في فتنة ابن الزبير وبلغ سبعين سنة. قال أبو صالح صاحب التفسير ما رأينا بني أم قط أبعد قبوراً من بني العباس لأم الفضل: مات الفضل بالشام، ومات عبد الله بالطائف، ومات عبيد الله بالمدينة، ومات قثم بسمرقند، وقتل معبد بأفريقيا. قال الواقدي: مات ابن عباس سنة ثمان وسبعين بالطائف وهو ابن اثنتين وسبعين سنة وقد كف بصره، فصلى عليه ابن الحنفية وكبّر أربعاً وضرب على قبره فسطاطاً، رحمه الله تعالى. 339 - أبو بكر الصديق أبو بكر عبد الله بن أبي قحافة - واسمه عثمان - بن عامر، من ولد تيم بن مرة - تيم قريش - يلتقي هو ورسول الله صلى الله عليه وسلم عند مرة بن كعب وهما في القعدد إليه سواء، بين كل واحد منهما وبينه ستة آباء، كان اسمه في الجاهلية عبد الكعبة فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله، ولقبه عتيق، لقب به لجمال وجهه رضي الله عنه، وقيل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: أنت عتيق من النار، وسمي صدّيقاً لتصديقه خبر المسرى. وأمه سلمى وتكنى أم الخير بنت صخر وهي بنت عم أبيه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 64 كان طويلاً آدم خفيف العارضين يخضب بالحنّاء والكتم. بويع له يوم الاثنين الذي توفي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتوفي بالسل ليلة الثلاثاء، وقيل يوم الجمعة، لتسع ليال بقين من جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة، وسنه ثلاث وستون سنة، وكانت خلافته سنتين وثلاثة أشهر وتسعة أيام، وغسلته زوجته أسماء ابنة عميس، وصلى عليه عمر رضي الله عنهما، وحمل على سرير رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو سرير عائشة رضي الله عنها، وكان من خشبتي ساجٍ منسوج بالليف، وبيع في ميراث عائشة، رضي الله عنها، بأربعة آلاف درهم، فاشتراه مولى لمعاوية وجعله للمسلمين، ويقال إنه بالمدينة، ودفن في حجرة عائشة ورأسه بين كتفي رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان يأخذ من بيت المال في كل يوم ثلاثة دراهم، وكان قال لعائشة: انظري يا بنية ما زاد في مال أبي بكر منذ وليت هذا الأمر فرديه على المسلمين، فنظرت فإذا بكر وقطيفة لا تساوي خمسة دراهم ومجشة، فلما جاء بذلك الرسول إلى عمر قال: رحم الله أبا بكر لقد كلف من بعده تعباً. وروي أن أبا بكر خرج بعد البيعة ومعه ميزان ورزمة ثياب تحت يده وخرج إلى السوق فقيل له: ما هذا فقال: أكتسب لنفسي وعيالي، فأجمعوا رأيهم وفرضوا له في كل يوم درهماً وثلثي درهم من بيت مال المسلمين. وأبو بكر رضي الله عنه أول من طلب من النبي صلى الله عليه وسلم الدلالة على نبوته، وسبب ذلك أن أبا بكر رضي الله عنه كان باليمن في تجارة، ونبِّئ النبي صلى الله عليه وسلم وهو غائب، فنزل أبو بكر رضي الله عنه في طريقه على دير فيه راهب باليمن هو ورفقته، فسألهم الراهب: هل فيكم خطيب قالوا: نعم، وأشاروا إلى أبي بكر رضي الله عنه، فدعاه إليه وحده فقال له الراهب: من أين أنت فقال: من مكة، فقال: هل ظهر بها أحد يدعي النبوة فقال: لا، فقال الراهب: عندي صورة أريكها فإن عرفت أحداً يشبهها فعرفني، فعرض عليه الصورة فقال: هذه صورة رجل يعرف بمحمد بن عبد الله بن عبد المطلب، فقال الراهب: هذا هو النبي المدعو به وهو خاتم الأنبياء، يظفر بأعدائه ويعلو دينه الأديان. فقال أبو بكر رضي الله عنه: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 65 ما عرفنا هذا منه ولا ادعاه ولا عرف بالعلم ولا يحسن الكتابة ولا خالط اليهود والنصارى، فقال الراهب: هذا هو النبي نفسه. وقيل أن الراهب قال لأبي بكر: وأنت الخليفة من بعده على أهل دينه. فرجع أبو بكر من عند الراهب ولم يشعر أحداً من رفقته بما قال له الراهب، فلما قدم مكة قالت له أمه سلمى أم الخير: ما بلغك ما حدث من صديقك محمد زعم أنه نبي نبأه الله وأرسله إلى قومه وكافة الخلق، فقال لها: وأين هو قالت: بجبل حراء، فأسرع أبو بكر رضي الله عنه نحو الجبل فرأه في غار فسلمّ عليه وقال: بلغني أنك ادعيت النبوة والرسالة، فقال له: لست بمدعٍ، وقد فعل الله ذلك بي، قال له: فما الدليل على صدقك قال: هل خرجت علي كذباً فقال: لا والله، غير أن هذا أمر لا يقبل بغير دليل. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دليله ما قاله لك الراهب، قال أبو بكر: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله، أنا أول متابع لك على هذا الأمر. وهو أول من أمّ في محراب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته، وأول من دعي بخليفة وأول من رقي منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الشعبي: لما ولي أبو بكر الخلافة صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها أيها الناس أني وليتكم ولست بخيركم ولكن نزل القرآن فأدّبنا فتأدبنا، وسنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلمنا فتعلمنا، وإن أكيس الكيس التقى وأحمق الحمق الفجور، وأن أقواكم عندي الضعيف حتى آخذ له بحقه، وإن أضعفكم عندي القوي حتى آخذ منه الحق. إنما أنا متبع ولست بمبتدع، فإن أحسنت فأعينوني وإن زغت فسددوني. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين. ولما تم الأمر لأبي بكر رضي الله عنه ارتدت العرب إلا قليلاً منه، وكان قد تنبأ في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة: الأسود بن كعب العنسي ومسيلمة الكذاب - واسمه ثمامة بن حبيب - وطليحة الأسدي. فأما الأسود فإنه غلب على صنعاء ونجران إلى عمل الطائف واستطار استطارة الحريق فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بقتله فقتله فيروز الديلمي في منزله، وجاء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 66 رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر بقتله من السماء فأخبر به أصحابه، ثم وصل المخبر بقتله إلى المدينة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أول فتح على أبي بكر رضي الله عنه. كذا ذكره الطبري في تاريخه، وقال أبو بشر الدولأبي إنه قتل في خلافة أبي بكر. وأما مسيلمة وطليحة فإن أمرهما استغلظ، واجتمع على طليحة عوام طيء وأسد وغطفان، وارتدت قبائل العرب إلا قيساً وثقيفاً ومنعوا الزكاة، فأشار الناس على أبي بكر رضي الله عنه بأخذ العرب بالصلاة ومسامحتهم في الزكاة فقال: والله لو منعوني عقالاً أو عناقاً مما كانوا يؤدون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على ذلك. ثم خرج إلى عبس وذبيان فقاتلهم فانهزموا وعادوا إلى المدينة، ثم سيّر الجيوش لقتال أهل الردة، وعقد أحد عشر لواء على أحد عشر جنداً وسير خالد بن الوليد رضي الله عنه إلى طليحة ومن تابعه من غطفان، فهزمهم وانهزم طليحة حتى لحق بالشام، وقتل من أصحابه جمع كبير، ثم أسلم طليحة بعد ذلك لمَّا بلغه عن أسد وغطفان، ولم يزل مقيماً في كلب حتى مات أبو بكر رضي الله عنه ثم أتى عمر رضي الله عنه فبايعه ورجع إلى ديار قومه. وسار خالد لقتال بني حنيفة ومسيلمة. وكانت امرأة تعرف بسجاح ابنة الحارث قد تنبأت في بني تغلب وسارت إلى مسيلمة الكذاب فتزوجت به وأقامت عنده ثلاثاً ثم انصرفت إلى قومها، ثم هزم الله بني حنيفة وقتل مسيلمة الكذاب، قتله وحشي قاتل حمزة. ولما فرغ خالد رضي الله عنه، من أمر اليمامة كتب إليه أبو بكر الصديق رضي الله عنه، يأمره بالمسير إلى العراق، فسار وصالح أهل الحيرة على جزية حملها إلى المدينة، وكانت أول جزية حملت إليها. وقال أبو بكر رضي الله عنه لخالد حين بعثه إلى أهل الردة: احرص على الموت توهب لك الحياة، ففتح الأنبار وعين التمر وأنفذ السبي إلى المدينة، وسار إلى دومة الجندل فقتل وسبى، ثم وجه أبو بكر رضي الله عنه الجيوش إلى الشام، وأمر خالداً بالمسير إليها، وفتحت بصرى في خلافته، وهي أول مدينة فتحت بالشام. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 67 وحج بالناس سنة اثنتي عشرة، وهي السنة الثانية من خلافته وولي الأولى عمر رضي الله عنه. ومات أبو قحافة والد أبي بكر بعد موت أبي بكر رضي الله عنه بسنة، وقيل تسعة أشهر، وذلك في سنة أربع عشرة، وسنه سبع وتسعون سنة. وكان إسلامه يوم فتح مكة، وكان يوم مات أبو بكر رضي الله عنه بمكة، ولم يلِ الخلافة من أبوه حي غير أبي بكر رضي الله عنه. وهو أول من جمع القرآن الكريم بين اللوحين، وذلك أن المسلمين لما اصيبوا باليمامة خاف أبو بكر، رضي الله عنه، أن يفنى قراء القرآن - وإنما كان في صدور الرجال - فجمعه وجعله بين اللوحين وسمّاه مصحفاً، ولم يزل عنده إلى أن مات، وبقي عند عمر، رضي الله عنه، إلى أن مات، وبقي عند حفصة ابنته. ولما احتضر أبو بكر رضي الله عنه استخلف على المسلمين عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، ووصّاه، فكان من وصيته أن قال: هذا ما وصى به أبو بكر بن أبي قحافة عند آخر عهده من الدنيا وأول عهده بالآخرة؛ إني قد استخلفت عليكم عمر بن الخطاب، فإن بّر وعدل فذاك ظني به ورجائي فيه، وان غيّر وبدّل فلا علم لي بالغيب، والخير أردت، ولكل امرىء ما اكتسب، وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون. ووصل الخبر بموت أبي بكر رضي الله عنه إلى الشام وخالد بن الوليد على دمشق يحاصرها، وفي اليوم الثاني من ورود الخبر فتحت دمشق. وكان خالد رضي الله عنه أخفى خبر موته إلى أن فتح دمشق. واختلفوا في سبب مرضه الذي مات فيه، فقيل: سّمته يهودية، وقيل اغتسل في يوم بارد فحمّ ومرض خمسة عشر يوماً، وكان عمر رضي الله عنه يصلي بالناس حين ثقل. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة يركب وأبو بكر رضي الله عنه رديفه، وهو أسنّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أبو بكر، رضي الله عنه، يعرف الطريق لاختلافه إلى الشام، فكان يمر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 68 بالقوم فيقولون: من هذا بين يديك يا أبا بكر فيقول: هادٍ يهديني. وهذا الحديث يدل على أنه أسنّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم. ورأى أبو بكر رضي الله عنه رجلاً بيده ثوب فقال: أهو للبيع قال: لا أصلحك الله، فقال: هلا قلت: لا، وأصلحك الله لئلا يشتبه الدعاء لي بالدعاء علي وقال لرجل قال له: لأشتمّنك شتماً يدخل معك قبرك، قال: معك يدخل والله لا معي. ومدح قوم أبا بكر رضي الله عنه فقال: الله أعلم بي مني بنفسي، وأنا أعلم بنفسي منكم، فاستغفروا الله مما لا تعلمون، وأسأله أن لا يؤاخذكم بما تقولون، وأن يجعلني خيراً مما تظنون. وحكي أن أبا بكر رضي الله عنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم بصدقته فأخفاها فقال: يا رسول الله، هذه صدقتي ولله عندي معاد، وجاء عمر رضي الله عنه بصدقته فأظهرها وقال: يا رسول الله، هذه صدقتي ولي عند الله المعاد، فقال رسول الله صلى عليه وسلم: يا عمر، وترت قوسك بغير وتر، ما بين صدقتيكما كما بين كلمتيكما. أولاده لصلبه وأعقابهم: عبد الله بن أبي بكر وأسماء بنت أبي بكر وأمهما قتيلة من بني عامر بن لؤي، وعبد الرحمن وعائشة وأمهما أم رومان بنت الحارث بن الحويرث من بني فراس بن غنم بن كنانة، ومحمد بن أبي بكر أمه أسماء بنت عميس، وأم كلثوم أمها بنت زيد بن خارجة - رجل من الأنصار. (82) فأما عبد الله بن أبي بكر فإنه شهد الطائف مع النبي صلى الله عليه وسلم فجرح وبقي إلى خلافة أبيه ومات وترك سبعة دنانير فاستكثرها أبوه رضي الله عنه. وولد عبد الله إسماعيل، وهلك ولا عقب له. (83) وأما أسماء فهي ذات النطاقين وتزوجها الزبير بمكة فولدت له عدة أولاد، ثم طلقها فكانت مع عبد الله ابنها حتى قتل، وبقيت مائة سنة حتى عميت وماتت بمكة رضي الله عنها. وأما عائشة رضي الله عنها فتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم - وقد تقدم ذكرها في هذا الحرف -. (84) وأما عبد الرحمن بن أبي بكر فشهد يوم بدر مع المشركين ثم أسلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 69 وحسن إسلامه ومات فجأة سنة ثلاث وخمسين بجبل بقرب مكة، فأدخلته عائشة الحرم ودفنته وأعتقت عنه. وكان شهد الجمل معها، ويكنى أبا عبد الله. (85) وأما أم كلثوم فتزوجها طلحة بن عبيد الله فولدت له محمداً وكان عاملاً على مكة. وولدت له زكريا وعائشة، ثم قتل عنها فتزوجها عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي - الآتي ذكره - ولطلحة عقب كثير وهم ينزلون بالقرب من المدينة، وكانت بنت محمد بن طلحة عند سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس. (86) وأما محمد بن عبد الرحمن فولد عبد الله بن محمد وله عقب يقال لهم آل أبي عتيق من بين ولد أبي بكر وذلك أن عدةً من ولد أبي بكر تفاضلوا فقال أحدهم: أنا ابن الصّديق، وقال الآخر: أنا ابن ثاني اثنين، وقال آخر: أنا ابن صاحب الغار، وقال محمد بن عبد الرحمن: أنا ابن عتيق، فنسب إلى ذلك هو وولده إلى اليوم. وأما محمد بن أبي بكر فسيأتي ذكره في حرف الميم إن شاء الله تعالى (1) . (87) مواليه: بلال بن أبي رباح وأمه حمامة، وكان من مولدي السراة فيما بين اليمن والطائف، وكان لرجل من بني جمح فاشتراه أبو بكر رضي الله عنه بخمس أواقي وأعتقه، وكان من المعذبين في الله عز وجل، وشهد بلال بدر والمشاهد كلها، وهو أول من أذّن لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء إلى أبي بكر رضي الله عنه فاستأذنه إلى الشام فأذن له، فلم يزل مقيماً بها ولم يؤذن بعد النبي صلى الله عليه وسلم لأحد منهم، فلما قدم عمر رضي الله عنه إلى الشام لقيه فأمره بالأذان فأذّن، فبكى عمر والمسلمون معه. وكان بلال يكنى أبا عبد الله، وكان شديد الأدمة نحيفاً طوالاً خفيف العارضين به شمط كبير وكان لا يغير شيبه. مات بدمشق سنة عشرين وهو ابن بضع وستين سنة، رحمه الله تعالى. كتّابه: عثمان بن عفان رضي الله عنه وزيد بن ثابت.   (1) هذا ما تقوله النسخة ص، وتراجم حرف الميم منها مفقودة، أما سائر النسخ فلم تورد لمحمد بن أبي بكر ترجمة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 70 قاضيه: عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقيل أنه أقام سنة لم يختصم إليه أحد. حاجبه: شديد مولاه. وكان خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم في يده. 340 - (1) عبد الله بن الزبير أبو خبيب عبد الله بن الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي، وأمه أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهم ذات النطاقين - وقد تقدم ذكرها مع أبيها؛ وهو أول مولود ولد بالمدينة من المسلمين بعد الهجرة. بويع له بمكة سنة أربع وستين بعد أن أقام الناس بغير خليفة جماديين وأياماً من رجب، وبايعه أهل العراق، وولّى أخاه مصعباً البصرة، وولّى عبد الله بن مطيع الكوفة فوثب المختار بن أبي عبيد على الكوفة فأخذها، ووجه شميطاً إلى البصرة فقتله مصعب، وسار مصعب إلى المختار فقتله في سنة سبع وستين. وبنى ابن الزبير الكعبة وادخل فيها الحجر وجعل لها بابين مع الأرض يدخل من أحدهما ويخرج من الآخر، وخلّق داخل الكعبة وخارجها فكان أول من خلّقها وكساها القباطيّ. وولى أخاه عبيدة بن الزبير المدينة، وأخرج مروان بن الحكم وبنيه منها فصار إلى الشام ولم يزل يقيم للناس الحج من سنة أربع وستين إلى سنة اثنتين   (1) انفردت ص بهذه الترجمة، ويقال فيها ما قيل في التي تقدمتها؛ وأخبار عبد الله بن الزبير في كتب الصحابة وكتب التاريخ، وانظر أنساب الأشراف (الجزءين الرابع والخامس) والفوات 1: 445 والعقد الثمين 5: 141 وغاية النهاية 1: 419 وورود ترجمته في الفوات وهو استدراك على ابن خلكان ربما يؤكد أن الكتبي لم ير نسخاً من الوفيات تحتوي ترجمته. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 71 وسبعين، فلما ولي عبد الملك منع أهل الشام من الحج من أجل ابن الزبير: كان يأخذ الناس بالبيعة له إذا حجوا، فضج الناس لما منعوا الحج، فبنى عبد الملك في بيت المقدس الصخرة، فكان الناس يحضرونها يوم عرفة ويقفون عندها، ويقال إن ذلك سبب التعريف من مسجد بيت المقدس ومساجد الأمصار. وذكر الجاحظ في كتاب نظم القرآن، أن أول من سنّ التعريف في مساجد الأمصار عبد الله بن عباس؛ وذكر أبو عمر الكندي (1) إن عبد العزيز بن مروان أول من سنّ التعريف بمصر في الجامع بعد العصر. ثم بعد ذلك بعث عبد الملك الحجاج إلى عبد الله بن الزبير، وسبب ذلك أن عبد الملك لما قتل مصعباً وابنه عيسى وأراد الرجوع إلى الشام قام إليه الحجاج فقال: يا أمير المؤمنين أني رأيت في منامي أني أخذت عبد الله بن الزبير فسلخته فابعثني إليه وولّني عليه، فبعثه في جيش من أهل الشام كثيف، فنزل الطائف، وكان يبعث البعوث فيقاتلون ابن الزبير، ففي ذلك كله ترجع خيل الحجاز بالظفر، ثم كتب الحجاج إلى عبد الملك يستأذنه في دخول الحرم عليه وحصاره، وأخبره أن شوكته قد كلّت، فأذن له في ذلك، فلما دخل ذو القعدة رحل الحجاج من الطائف حتى نزل بئر ميمون وحصر ابن الزبير. وأمدّ عبد الملك الحجاج لهلال ذي الحجة، ولم يطف بالبيت ولم يصل إليه، وكان يلبس السلاح ولا يمسّ النساء ولا الطيب إلى أن قتل ابن الزبير. ولم يحج ابن الزبير ولا أصحابه في هذه السنة لأنهم لم يقفوا بعرفة، وحجّ الحجاج في هذه السنة ثم حصر ابن الزبير ثمانية أشهر، فتفرق عامة من كان معه وخرجوا إلى الحجاج في الأمان حتى بلغ عدة المستأمنة عشرة آلاف، وكان في جملتهم ابنا عبد الله بن الزبير، أخذا أماناً لنفسيهما. فلما رأى عبد الله بن الزبير ما رأى من ولده وأصحابه دخل على أمه أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما فقال: يا أمه، قد خذلني الناس حتى ولدي وأهلي ولم يبقَ إلا اليسير ممن ليس عنده من الدفع إلا صبر ساعة،   (1) انظر ص: 50 من كتاب الكندي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 72 والقوم يعطونني ما أردت من الدنيا، فما رأيك فقالت: والله يا بنيّ أنت أعلم بنفسك؛ إن كنت تعلم أنك على حق فامضِ له فقد قتل عليه أصحابك، وإن كنت إنما أردت الدنيا فبئس العبد أنت أهلكت نفسك ومن قتل معك، وإن قلت إني على حق فلما وهن أصحابي ضعفت فهذا ليس فعل الأحرار ولا أهل الدين. فدنا ابن الزبير فقبّل رأسها وقال: هذا رأيي ولكن أحببت أن أعلم رأيك فزدتني بصيرة، فانظري يا أماه إني مقتول من يومي هذا فلا يشتدّ حزنك وسلمي لأمر الله فإن ابنك لم يتعمد اتيان منكر ولا عمل بفاحشة، ولم يجر في حكم ولم يتعمد ظلم مسلم ولا معاهد، اللهم إني لا أقول هذا تزكية لنفسي ولكن تعزية لأمي لتسلو عني. فقالت أمه: اني لأرجو أن يكون عزائي فيك حسناً؛ اخرج حتى انظر إلى ما يصير إليه أمرك، ثم قالت: اللهم ارحم طول ذلك القيام في الليل الطويل وذلك التحنث والظمأ في الهواجر بالمدينة ومكة وبره بأبيه وبي؛ اللهم قد أسلمته لأمرك فيه ورضيت بما قضيت فأثبني في عبد الله ثواب الشاكرين الصابرين. ثم دنا فتناول يدها فقبّلها فقالت: هذا وداع فلا تبعد. وكان عليه درع فلما عانقها وجدت مس الدرع فقالت: ما هذا صنيع من يريد ما تريد، قال: ما لبستها إلا لأشدّ منك، قالت: فإنها لا تشدّ مني، فنزعها ثم أدرج كميه وأدخل أسفل قميصه وجبّة خز كانت عليه من أسفل المنطقة وخرج، وقد كبّر الناس، فحمل عليهم فلم يبقَ بين يديه أحد، وانهزم الناس ووقف بالأبطح لا يدنو منه أحد وكان الحجاج وطارق بن عمرو جميعاً في ناحية الأبطح إلى المروة والناس لكل طائفة منهم باب، فمرة يحمل عبد الله في هذه ومرة في هذه وكأنه أسد في اجمة، فلما كان يوم الثلاثاء أذّن المؤذّن فتقدم فصلّى بالناس، فلما فرغ من الصلاة أمر أهله وحضهم على القتال ثم قال لهم في جملة كلامه: ألا من كان سائلاً عني فاني في الرعيل الأول، احملوا على بركة الله وعونه، ثم حمل حتى بلغ بهم الحجون فرمي بآجرّة فأرعش لها ودمي وجهه، فلما وجد سخونة الدم على وجهه ولحيته قال: فلسنا على الأعقاب تدمى كلومنا ... ولكن على أقدامنا تقطر الدِّما وصاحت مولاة لآل الزبير مجنونة: وا أمير المؤمنيناه! وكانت رأته حيث الجزء: 3 ¦ الصفحة: 73 هوى وكان قتله يوم الثلاثاء لثلاث عشرة ليلة بقيت من جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين، وقيل جمادى الآخرة، وكان سنه اثنتين وسبعين سنة، رضي الله عنه؛ وجاء الخبر إلى الحجاج فسجد وجاء هو وطارق حتى وقفا عليه فقال طارق: ما ولدت النساء اذكر من هذا، فقال الحجاج: أتمدح من يخالف طاعة أمير المؤمنين قال: نعم، هو أعذر لنا ولولا هذا ما كان لنا عذر بالمحاصرة وهو في غير خندق ولا حصن ولا منعة منذ سبعة أشهر ينتصف منا بل يفضل علينا في كل ما التقينا، فبلغ كلامهما عبد الملك فصوّب رأي طارق. وحكى الشعبي قال: حضرت عبد الله بن الزبير وهو يخطب بمكة فقال في آخر خطبته: أما والله لو كانت الرجال تصرف لصرفتكم تصريف الذهب بالفضة، أما والله لوددت أن لي بكل رجلين منكم رجلاً من أهل الشام بل بكل خمسة بل بكل عشرة، فما بكم يدرك الثأر ولا بكم يمنع الجار. فقام إليه رجل من أهل البصرة فقال: ما نجد لنا ولك مثلاً إلا قول الأعشى: علقتها عرضاً وعلقت رجلاً ... غيري وعلق أخرى غيرها الرجل علقناك وعلقت أهل الشام، وعلق أهل الشام بني مروان فما عسانا أن نصنع قال الشعبي: فما سمعت بجواب أحضر منه ولا أحسن. ثم دخل الحجاج مكة فبايع من بها من قريش، وبعث برأس ابن الزبير وجماعة إلى المدينة فنصبوا بها ثم ذهب بها إلى عبد الملك بن مروان فبعث عبد الملك برأس ابن الزبير إلى عبد الله بن خازم الأسلمي وهو بخراسان والٍ من جهة ابن الزبير، وكتب إليه عبد الملك يدعوه إلى طاعته ويقول له: بايعني حتى أجعل لك خراسان طعمة سبع سنين، فقال ابن خازم لرسوله: لولا أن الرسل لا تقتل لأمرت بضرب عنقك، ولكنَ كل كتاب صاحبك، فأكله، ثم أخذ الرأس فغسله وطيّبه وكفنه ودفنه، وقيل: إنه بعث به إلى آل الزبير إلى المدينة فدفنوه مع جثته، ثم قال: أعيش زبيريَّ الحياة فإن أمت ... فإني موصٍ هامتي بالتزبّر ثم إن عبد الملك بن مروان ولّى الحجاج مكة واليمن واليمامة فنقض الحجاج الجزء: 3 ¦ الصفحة: 74 بنيان الكعبة الذي بناه ابن الزبير لأنه كان تخلخل من حجارة المنجنيق، فأعاده إلى بناء قريش الأول. ولما توفي بشر بن مروان كتب عبد الملك إلى الحجاج بن يوسف وهو بالمدينة بوفاته فأقبل في اثني عشر راكباً على النجائب حتى دخل الكوفة فجأة فبدأ بالمسجد فدخله ثم صعد المنبر، وستأتي تتمة الكلام (1) . وقيل إن عبد الله بن الزبير قال لأمه أسماء: إني لا آمن إن قتلت أن يمثل بي وأصلب، قالت: يا بني إن الشاة إذا ذبحت لم تألم السلخ. وماتت أمه بعده بخمسة أيام ولها مائة سنة رضي الله عنها، وكان سلطانه بالحجاز والعراق تسع سنين واثنين وعشرين يوماً رضي الله عنه (2) .   (1) قلت: قد جاء طرف من ذلك في ترجمة الحجاج. (2) بعد هذه الترجمة (وهي رقم 339 عند وستنفيلد ولم يثبت منها إلا العنوان) أثبت وستنفيلد عناوين التراجم الآتية: 340 - ابو جعفر عبد الله بن محمد بن علي بن عباس توفي سنة 158، قال الدولاني: وله ثلاث وستون سنة. 341 - أبو العباس عبد الله بن هارون الرشيد توفي سنة 218 وعمره ثمان وقيل تسع وأربعون سنة. 343 - أبو عمرو وعبد الله بن قيس الملائي توفي سنة 146. 344 - أبو هفان عبد الله بن أحمد بن حرب المهزمي الشاعر. 345 - أبو العباس عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب توفي سنة 136 عن اثنتين وثلاثين سنة. 346 - أبو عبد الرحمن عبد الله بن عبد العزيز العمري توفي سنة 184 وهو ابن ست وستين سنة. 347 - أبو عبد الرحمن عبد الله بن عمر بن الخطاب توفي بمكة سنة 73 وقيل سنة 74 وعمره أربع وثمانون سنة. والترجمة الأخيرة قد وردت رقم 321 من هذا الجزء وقلنا إنها لم ترد في المخطوطات التي اعتمدناها؛ أما التراج الأخرى فليس لها وجود في النسخ الخطية المعتمدة ورقم 340 ترجمة أبي جعفر المنصور وهذه الترجمة واردة دون ريب في الجزء الثاني من مخطوطة آيا صوفيا (ص) ولكن هذا الجزء مفقود فيما يبدو وقد جاء في آخر الجزء الأول " يتلوه في الجزء الثاني (ارجمة) ابي جعفر المنصور " وهي من مستدركات الكتبي في الفوات (1: 487) وكذلك الترجمة رقم 342 (الفوات 1: 501) وكذلك الترجمة رقم 345 (الفوات 1: 486) ؛ وربما كانت هذه الترجمة جميعاً في الجزء الثاني من مخطوطة (ص) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 75 341 - (1) عبد الله بن المعتز أبو العباس عبد الله بن المعتز بن المتوكل بن المعتصم بن هارون الرشيد بن المهدي بن المنصور بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب الهاشمي؛ أخذ الأدب عن أبي العباس المبرد وأبي العباس ثعلب وغيرهما، كان أديباً بليغاً شاعراً مطبوعاً مقتدراً على الشعر قريب المأخذ سهل اللفظ جيد القريحة حسن الإبداع للمعاني مخالطاً للعلماء والأدباء معدوداً من جملتهم، إلى أن جرت له الكائنة في خلافة المقتدر، واتفق معه جماعة من رؤساء الأجناد ووجوه الكتّاب فخلعوا المقتدر يوم السبت لعشر بقين، وقيل لسبعٍ بقين من شهر ربيع الأول سنة ست وتسعين ومائتين، وبايعوا عبد الله المذكور ولقبوه المرتضي بالله، وقيل المنصف (2) بالله، وقيل الغالب بالله، وقيل الراضي بالله، وأقام يوماً وليلة، ثم إن أصحاب المقتدر تحزبوا وتراجعوا وحاربوا أعوان ابن المعتز وشتتوهم (3) ، وأعادوا المقتدر إلى دسته، واستخفى ابن المعتز في دار أبي عبد   (1) وقعت هذه الترجمة في ص بعد ترجمة ابن الفرضي متأخرة عن هذا الموضع، وهي في المسودة وسائر النسخ بعد ترجمة ابن شاس المتقدم الذكر (رقم: 337) . قلت: وانظر ترجمة ابن المعتز في تاريخ بغداد 10: 95 والأغاني 10: 286 والمنتظم 6: 84 وأشعار أولاد الخلفاء: 107 - 296 وعبر الذهبي 2: 104 والشذرات 2: 221 ومعاهد التنصيص 2: 38 وكتب التاريخ في حوادث سنة 296 وفوات الوفيات 1: 505، وورودها في الفوات مما يستوقف النظر، مع أنها مستوفاة بتمامها في المسودة. (2) ص: المنتصف. (3) بعد هذا في س: وقتلوا ابن المعتز خنقاً وأعادوا المقتدر إلى دسته، وهو مشطوب في المسودة، وقد كتب بدله النص المثبت هنا بتفصيل في الحادثة، ونسخة س لا يثبت فيها ما زيد في حواشي المسودة، كما تقدم القول. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 76 الله الحسين بن عبد الله بن الحسين المعروف بابن الجصاص التاجر الجوهري، فأخذه المقتدر وسلمه إلى مؤنس الخادم الخازن فقتله وسلمه إلى أهله ملفوفاً في كساء، وقيل إنه مات حتف أنفه وليس بصحيح بل خنقه مؤنس، وذلك يوم الخميس ثاني شهر ربيع الآخر سنة ست وتسعين ومائتين، ودفن في خرابة بإزاء داره، رحمه الله تعالى. ومولده لسبعٍ بقين من شعبان سنة سبع وأربعين، وقال سنان بن ثابت: في سنة ست وأربعين ومائتين، والقضية مشهورة وفيها طول، وهذا خلاصتها. (88) ثم قبض المقتدر على ابن الجصاص المذكور وأخذ منه مقدار ألفي ألف دينار، وسلم له بعد ذلك مقدار سبعمائة ألف دينار، وكان فيه غفلة وَبَله، وتوفي يوم الأحد لثلاث عشرة ليلة خلت من شوال سنة خمس عشرة وثلثمائة. ولابن المعتز من التصانيف كتاب الزهر والرياض، وكتاب البديع، وكتاب مكاتبات الإخوان بالشعر، وكتاب الجوارح والصيد، وكتاب السرقات، وكتاب أشعار الملوك، وكتاب الآداب، وكتاب " حلى الأخبار " (1) ، وكتاب طبقات الشعراء، وكتاب الجامع في الغناء، وكتاب فيه أرجوزة في ذم الصبوح. ومن كلامه: البلاغة البلوغ إلى المعنى، ولم يطل سفر الكلام، وكان يقول: لو قيل لي: ما أحسن شعر تعرفه لقلت: قول العباس بن الأحنف (2) : قد سحب الناس أذيال الظنون بنا ... وفرّق الناس فينا قولهم فِرقا فكاذبٌ قد رمى بالظنّ غيركم ... وصادقٌ ليس يدري أنه صدقا ورثاه علي بن محمد بن بسام الشاعر - الآتي ذكره - بقوله: لله درُّك من ميت بمضيعة ... ناهيك في العلم والآداب والحسب ما فيه لوٌّ ولا لولا فتنقصه ... وإنما أدركته حرفة الأدب   (1) سقط اسم هذا الكتاب من ص. (2) مر هذا في ترجمة العباس ص: 24. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 77 ولعبد الله المذكور أشعار رائقة وتشبيهات بديعة، فمن ذلك قوله: سقى المطيرة ذات الظل والشجر ... ودير عبدون هطّالٌ من المطر فطالما نبّهتني للصّبوح بها ... في غرّة الفجر والعصفور لم يطر أصوات رهبان ديرٍ في صلاتهم ... سود المدارع نعارين في السحر مزنّرين على الأوساط قد جعلوا ... على الرؤوس أكاليلاً من الشّعر كم فيهم من مليح الوجه مكتحل ... بالسحر يطبق جفنيه على حَور لاحظته بالهوى حتى استقاد له ... طوعاً وأسلفني الميعاد بالنظر وجاءني في قميص الليل مستتراً ... يستعجل الخطو من خوف ومن حذر فقمت أفرش خدّي في الطريق له ... ذلاًّ وأسحب أذيالي على الأثر ولاح ضوء هلال كاد يفضحنا ... مثل القلامة قد قدّت من الظُّفر وكان ما كان مما لست أذكره ... فظن خيراً ولا تسأل عن الخبر ومن ظريف شعره قوله، ولم أجدها في ديوانه، ولكن الرواة أطبقوا على أنها له، والله أعلم: ومقَرطَقٍ يسعى إلى النّدماء ... بعقيقةٍ في درّةٍ بيضاء والبدر في أفق السماء كدرهم ... ملقىً على ياقوتةٍ زرقاء كم ليلةٍ قد سرّني بمبيته ... عندي بلا خوفٍ من الرّقباء ومهفهفٍ عقد الشّراب لسانه ... فحديثه بالرّمز والإيماء حرّكته بيدي وقلت له انتبه ... يا فرحة الخلطاء والنّدماء فأجابني والسّكر يخفض صوته ... بتلجلجٍ كتلجلج الفأفاء إني لأفهم ما تقول وإنما ... غلبت عليَّ سلافة الصّهباء دعني أفيق من الخمار إلى غدٍ ... واحكم بما تختار يا مولائي (1)   (1) سقط البيت من جميع النسخ ما عدا م. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 78 وله في الخمرة المطبوخة، وهو معنى بديع وفيه دلالة على أنه كان حنفي المذهب: خليليَّ قد طاب الشّراب المورَّد ... وقد عدت بعد النّسك والعود أحمد فهاتا عقاراً في قميص زجاجةٍ ... كياقوتةٍ في درَّةٍ تتوقّد يصوغ عليها الماء شبّاك فضّةٍ ... له حلقٌ بيضٌ تحلُّ وتعقد وقتني من نار الجحيم بنفسها ... وذلك من إحسانها ليس يجحد وكان ابن المعتز شديد السمرة مسنون الوجه يخضب بالسواد. ورأيت في بعض المجاميع أن عبد الله بن المعتز المذكور كان يقول (1) : أربعة من الشعراء سارت أسماؤهم بخلاف أفعالهم، فأبو العتاهية سار شعره بالزهد وكان على الإلحاد، وأبو نوّاس سار شعره باللواط وكان أزنى من قرد، وأبو حكيمة الكاتب سار شعره بالعنّة وكان أهب من تيس، ومحمد بن حازم سار شعره بالقناعة وكان أحرص من كلب. وقد رويت لابن حازم خبراً يخالف حكاية ابن المعتز ويوافق شعره (2) ، وذلك أنه كان جار سعيد بن حميد الكاتب الطوسي، فهجاه لأمر كان بينهما، فبلغ سعيداً هجوه، فأغضى عنه مع القدرة. ثم إن محمداً ساءت حاله فتحول عن جواره، فبلغ ابن حميد ذلك، فبعث إليه عشرة آلاف درهم وتخوت ثياب وفرساً بآلته ومملوكاً وجارية، وكتب إليه " ذو الأدب يحمله ظرفه على نعت الشيء بغير هيئته، وتبعثه قدرته على وصفه بخلاف (3) حليته، ولم يكن ما شاع من هجائك فيَّ جارياً إلا هذا المجرى، وقد بلغني من سوء حالك وشدّة خلّتك ما لا غضاضة به عليك مع كبر همتك وعظم نفسك، ونحن شركاء فيما ملكنا ومتساوون فيما تحت أيدينا، وقد بعثت إليك بما جعلته وإن قلَّ: استفتاحاً لما   (1) انظر طبقات الشعراء: 308 - 309. (2) وردت هذه الحكاية أيضاً في طبقات الشعراء: 309 وصدرها المؤلف بقوله: وذكر على خلاف ما وصفنا من حرصه وكلبه فعل العجيب ... الخ. (3) ر: بغير. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 79 بعده وإن جلَّ ". فردَّ ابن حازم جميعه ولم يقبل منه شيئاً وكتب إليه: وفعلت بي فعل المهلَّب إذ ... غمر الفرزدق بالندى الدَّثر فبعثت بالأموال ترغبني ... كلاّ وربِّ الشفع والوتر لا ألبس النعماء من رجلٍ ... ألبسته عاراً على الدَّهر وهذا دليل على قناعته وحسن صبره واحتماله الإضاقة. (89) وهذا سعيد بن حميد يكنّى أبا عثمان، وكان كاتباً شاعراً مترسلاً عذب الألفاظ مقدماً في صناعته جيد السرقة، حتى قال بعض الفضلاء: لوقيل لكلام سعيد وشعره: ارجع إلى أهلك، لما بقي معه منه شيء. وكان يدعي أنه من أولاد ملوك الفرس، وله من الكتب: كتاب " انتصاف العجم من العرب "، ويعرف بالتسوية (1) وله ديوان رسائل، وديوان شعر صغير (2) . والمطيرة: بفتح الميم وكسر الطاء المهملة وسكون الياء المثناة من تحتها وبعد الراء المفتوحة هاء، وهي قرية من نواحي سرَّ من رأى. وعبدون الذي يضاف الدير إليه، فيقال " دير عبدون "، هو ابن مخلد وهو أخو الوزير صاعد بن مخلد، وإنما أضيف إليه لأنه كان كثير التردد إليه، والمقام فيه، والعناية بعمارته، وهو إلى جنب المطيرة، ودير عبدون أيضاً: قرب جزيرة ابن عمر، بينهما دجلة، وقد خرب الآن، وكان متنزّهاً لأهلها. وقوله " ولاح ضوء هلال كاد يفضحنا "، مأخوذ من قول عمرو بن قميئة في صفة الهلال (3) : كأن ابن مزنتهاً جانحاً ... فسيط لدى الأفق من خنصر والفسيط: قلامة الظفر   (1) ويعرف بالتسوية: سقط من ر. (2) هنا تنتهي الترجمة في المسودة وص س؛ وانظر سعيد بن حميد في الأغاني 18: 90 - 102. (3) التاج واللسان (فسط) ، وروى ابن دريد كأن ابن ليلتها وقال: يعني بذلك هلالاً بدا في الجدب والسماء مغبرة، ومن رواه ابن مزنتها قال: أراد هلالاً أهل بين السحاب في الأفق الغربي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 80 (1) 342 ابن طباطبا أبو محمد عبد الله بن أحمد بن علي بن الحسن بن إبراهيم طباطبا بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، الحجازي الأصل المصري الدار والوفاة؛ كان طاهراً كريماً فاضلاً صاحب رباع وضياع ونعمة ظاهرة وعبيد وحاشية، كثير التنعم، كان بدهليزه رجل يكسر اللوز كل يوم من أول النهار إلى آخره برسم الحلوى التي ينفذها لأهل مصر من الأستاذ كافور الإخشيدي إلى من دونه، ويطلق للرجل المذكور دينارين في كل شهر أجرة عمله، فمن الناس من كان يرسل له الحلوى كل يوم، ومنهم كل جمعة، ومنهم كل شهر. وكان يرسل إلى كافور في كل يوم جامين حلوى ورغيفاً في منديل مختوم، فحسده بعض الأعيان وقال لكافور: الحلوى حسن، فما لهذا الرغيف فإنه لا يحسن أن يقابلك به؛ فأرسل إليه كافور وقال: يجريني الشريف في الحلوى على العادة ويعفيني من الرغيف. فركب الشريف إليه، وعلم أنهم قد حسدوه على ذلك وقصدوا إبطاله، فلما اجتمع به قال له: أيدك الله، إنا ما ننفذ الرغيف تطاولاً ولا تعاظماً إنما هي صبيّة حسنيّةٌ (2) تعجنه بيدها وتخبزه، فنرسله على سبيل التبرك، فإذا كرهته قطعناه. فقال كافور: لا والله لا تقطعه ولا يكون قوتي سواه. فعاد إلى ما كان عليه من إرسال الحلوى والرغيف. ولما مات كافور وملك المعز أبو تميم معدُّ بن المنصور العبيدي الديار المصرية على يد القائد جوهر - المقدم ذكره في حرف الجيم - وجاء المعز بعد ذلك من   (1) لم أجد له ترجمة في المصادر، وقد نقل ابن ابيك الدواداري هذه الترجمة عن ابن خلكان في أخبار المعز (الدوة المضية: 145 - 147) ، واستوفت المسودة هذه الترجمة كاملة. (2) ر: حسنة، وهو خطأ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 81 أفريقيا وكان يطعن في نسبه، فلما قرب من البلد وخرج الناس للقائه، اجتمع به جماعة من الأشراف فقال له من بينهم ابن طباطبا المذكور: إلى من ينتسب مولانا فقال له المعز: سنعقد مجلساً ونجمعكم ونسرد عليكم نسبنا. فلما استقر المعز بالقصر جمع الناس في مجلس عام وجلس لهم وقال: هل بقي من رؤساكم أحد فقالوا: لم يبقى معتبر، فسلَّ عند ذلك نصف سيفه وقال: هذا نسبي، ونثر عليهم ذهباً كثيراً وقال: هذا حسبي، فقالوا جميعاً: سمعنا وأطعنا. وكان الشريف المذكور حسن المعاملة في معامليه حسن الإفضال عليهم ملاطفاً لهم، يركب إليهم وإلى سائر أصدقائه، ويقضي حقوقهم ويطيل الجلوس عندهم، وأغنى جماعة، وكان حسن المذهب. وكانت ولادته سنة ست وثمانين ومائتين. وتوفي في الرابع من رجب سنة ثمان وأربعين وثلثمائة بمصر وصلّي عليه في مصلّى العيد، وحضر جنازته من الخلق ما لا يحصي عددهم ألا الله تعالى، ودفن بقرافة مصر، وقبره معروف ومشهور بإجابة الدعاء. روي أن رجلاً حجّ وفاتته زيارة النبي صلى الله عليه وسلم، فضاق صدره لذلك، فرآه في نومه صلى الله عليه وسلم، فقال له: إذا فاتتك الزيارة فزر قبر عبد الله بن أحمد بن طباطبا. وكان صاحب الرؤيا من أهل مصر. وحكى بعض من له عليه إحسان أنه وقف على قبره وأنشد: وخلفت الهموم على أناسٍ ... وقد كانوا بعيشك في كفاف فرآه في نومه فقال: قد سمعت ما قلت، وحيل بيني وبين الجواب والمكافأة، ولكن صر إلى مسجد (1) وصلّ ركعتين، وادع يستجب لك، رحمه الله تعالى. وقد تقدم في حرف الهمزة الكلام على طباطبا. وهذه الحكاية التي جرت له مع المعز عند قدومه مصر ذكرها في كتاب " الدول المنقطعة " لكنها تناقض تاريخ الوفاة، فإن المعز دخل مصر في شهر رمضان سنة اثنتين وستين وثلثمائة - كما سيأتي في ترجمته أن شاء الله تعالى - وابن   (1) ص: مسجد كذا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 82 طباطبا المذكور توفي في سنة ثمان وأربعين وثلثمائة كما هو مذكور ها هنا (1) ، فكيف يتصور الجمع بينهما وأفادني تاريخ وفاته شيخنا الحافظ زكي الدين أبو محمد عبد العظيم المنذري، وراجعته في هذا التناقض فقال: أما الوفاة في هذا التاريخ فهي محققة ولعل صاحب الواقعة مع المعز كان ولده، والله أعلم أي ذلك كان. ثم رأيت تاريخ وفاته كما هو هاهنا في تاريخ الأمير المختار المعروف بالمسبّحي وقال: وكان علته قد طالت من توثة (2) عرضت له في حنكه، فتعالج بضروب العلاجات فلم ينجع فيه شيء، وكانت علة غريبة لم يعهد مثلها. ثم رأيت في تاريخ ابن زولاق أن الشريف الذي التقى بالمعز هو أبو جعفر مسلم بن عبيد الله الحسيني والشريف أبو إسماعيل إبراهيم بن أحمد الحسيني الرسي (3) ، ولعل أحدهما صاحب هذه الواقعة، والله أعلم. 343 - (4) عبد الله بن طاهر أبو العباس عبد الله بن طاهر بن الحسين بن مصعب بن رزيق بن ماهان الخزاعي - وقد تقدم ذكر أبيه في حرف الطاء؛ وقد كان عبد الله المذكور سيداً نبيلاً عالي الهمة شهماً، وكان المأمون كثير الاعتماد عليه حسن الالتفات إليه لذاته، ورعايةً لحق والده وما أسلفه من الطاعة في خدمته، وكان والياً على الدينور، فلما خرج بابك الخرمي على خراسان وأوقع الخوارج بأهل قرية   (1) ص: وأن ابن طباطبا كانت وفاته كما ذكرته. (2) التوث - بالثاء - كالتوت؛ وهو يريد تورما يشبه التوتة. (3) يكثر ذكر هذين الشريفين في أخبار المعز وجوهر في اتعاظ الحنفا. (4) أخباره في تاريخ الطبري وابن الأثير ومروج الذهب والأغاني 12: 92، 20: 143، والديارات: 86 - 91 وتاريخ بغداد (صفحات متفرقة) والكندي: 180 - 185، 429 - 435 والنجوم الزاهرة (ج: 2) والفرج بعد الشدة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 83 الحمراء من أعمال نيسابور وأكثروا الفساد واتصل الخبر بالمأمون بعث إلى عبد الله هو بالدينور يأمره بالخروج إلى خراسان، فخرج إليها في النصف من شهر ربيع الآخر سنة ثلاث عشر ة ومائتين وحارب الخوارج، وقدم نيسابور في رجب سنة خمس عشرة ومائتين وكان المطر قد انقطع عنها تلك السنة، فلما دخلها مطرت مطراً كثيراً، فقام أليه رجل بزاز من حانوته وأنشده: قد قحط الناس في زمانهم ... حتى إذا جئت جئت بالدّرر غيثان في ساعةٍ لنا قدما ... فمرحباً بالأمير والمطر هكذا قال السلامي في أخبار خراسان؛ وذكر الطبري في تاريخه أن طلحة بن طاهر - المذكور في ترجمة أبيه - لما مات في سنة ثلاث عشرة وعبد الله يوم ذاك بالدينور أرسل المأمون إليه القاضي يحيى بن أكثم يعزيه عن أخيه طلحة ويهنئه بولاية خراسان، وذكر بعد هذا في ولاية طلحة شيئاً آخر فقال: إن المأمون لما مات طاهر وكان ولده عبد الله بالرقة على محاربة نصر بن شبث ولاه عمل أبيه كله، وجمع له مع ذلك الشام، فوجه عبد الله أخاه طلحة إلى خراسان والله أعلم. وذكر الطبري أيضاً في سنة ثلاث عشرة أن المأمون ولى أخاه المعتصم الشام ومصر، وابنه العباس بن المأمون الجزيرة والثغور والعواصم، وأعطى كل واحد منهما ومن عبد الله بن طاهر خمسمائة ألف دينار، وقيل إنه لم يفرق في يوم من المال مثل ذلك. وكان أبو تمام الطائي قد قصد عبد الله من العراق، فلما انتهى إلى قومس وطالت به الشقة وعظمت عليه المشقة قال (1) : يقول في قومس صحبي وقد أخذت ... مّنا السّرى وخطى المهريَّة القود أمطلع الشمس تنوي أن تؤم بنا ... فقلت كلاّ ولكن مطلع الجود قلت: وقد أخذ أبو تمام هذين البيتين من أبي وليد مسلم بن الوليد   (1) ديوانه 2: 132. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 84 الأنصاري المعروف بصريع الغواني الشاعر المشهور حيث يقول (1) : يقول صحبي وقد جدُّوا على عجل ... والخيل تستنّ (2) َ بالركبان في اللّجم أمغرب الشمس تنوي أن تؤم بنا ... فقلت كلاّ ولكن مطلع الكرم فإنه أغار على اللفظ والمعنى. رجعنا إلى ما كنافيه: ولما وصل أبو تمام إليه أنشده قصيدته البديعة البائية التي يقول فيها (3) : وركب كأطراف الأسنّة عرسّوا ... على مثلها والليل تسطو غياهبه لأمرٍ عليهم أن تتم صدوره ... وليس عليهم أن تتم عواقبه وهي من القصائد الطنانة، وفيها يقول: فقد بثَّ عبد الله خوف انتقامه ... على الليل حتى ما تدبُّ عقاربه وفي هذه السفرة ألف أبو تمام كتاب " الحماسة " فإنه لما وصل إلى همذان وكان في زمن الشتاء والبرد بتلك النواحي شديد خارج عن حد الوصف، قطع عليه كثرة الثلوج طريق مقصده، فأقام بهمذان ينتظر زوال الثلج، وكان نزوله عند بعض رؤسائها، وفي دار ذلك الرئيس خزانة كتب فيها دواوين العرب وغيرها، فتفرغ لها أبو تمام وطالعها وأختار منها كتاب " الحماسة ". وكان عبد الله المذكور أديباً ظريفاً جيد الغناء، نسب أليه صاحب " الأغاني " أصواتاً كثيرة أحسن فيها ونقلها أهل الصنعة عنه، وله شعر مليح ورسائل ظريفة، فمن شعره قوله، وجدتها منسوبة إليه: نحن قوم تليننا الحدق النّج ... ل على أننا نلين الحديدا   (1) ديوان مسلم: 340. (2) م: تشتد. (3) ديوان أبي تمام 1: 229، 236. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 85 طوع أيدي الظباء تقتادنا العي ... ن ونقتاد بالطعان الأسودا نملك الصيد ثم تملكنا البي ... ض المصونات أعيناً وخدودا تتقي سخطنا الأسود ونخشى ... سخط الخشف حين يبدي الصدودا فترانا يوم الكريهة أحرا ... راً وفي السلم للغواني عبيداً وقيل: إنها لأصرم بن حميد ممدوح أبي تمام (1) ، والله أعلم. ومن مشهور شعر عبد الله قوله: اغتفر زلتي لتحرز فضل الشكر منّي ولا يفوتك أجري ... لا تكلني إلى التوسل بالعذ ... ر لعلّي أن لا أقوم بعذري [وكان عبد الله أحد الأجواد الأسخياء؛ حكى محمد بن داود بن الجراح عن محلم بن أبي محلم الشيباني عن أبيه قال (2) : عادلت عبد الله بن طاهر إلى خراسان فدخلنا الري وقت السحر فإذا قمرية تغرد على فنن شجرة، فقال عبد الله بن طاهر: أحسن والله أبو كبير الهذلي حيث يقول: ألا يا حمام الأيك إلفك حاضر ... وغصنك ميّاد ففيم تنوح ثم قال: ما أحسن هذا، فقلت وقد عملت على البديهة في معارضته ثم قلت: أفي كل يوم غربةٌ ونزوح ... أما للنوى من أوبةٍ فتروح لقد طلَّح البين المشتّ ركائبي ... فهل أرينّ البين وهو طليح وأرّقني بالري نوح حمامةٍ ... فنحت وذو الشجو القديم ينوح على انها ناحت فلم تذر دمعة ... ونحت وأسراب الدموع سفوح وناحت وفرخاها بحيث تراهما ... ومن دون أفراخي مهامه فيح عسى جود عبد الله ان يعكس النوى ... فتضحي عصا الأسفار وهي طريح   (1) انظر ديوان أبي تمام 3: 270. (2) قارن بما في طبقات الشعراء: 187. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 86 قال: فأذن من ساعتي بالرجوع ووصلني بعشرة آلاف درهم وردني إلى منزلي. ولما رجع عبد الله إلى الشام ارتفع فوق سطح قصره فنظر إلى دخان يرتفع من جواره فقال: ما هذا الدخان فقيل: إن الجيران يخبزون، فقال: ان من اللؤم ان نقيم بمكان فنكلف جيرانه بالخبز، فاقصدوا الدور واكسروا التنانير واحضروا ما بها من رجل وامرأة، فأجرى على كل إنسان خبزه ولحمه وما يحتاج إليه، فسميت أيامه أيام الكفاية. وكتب إليه وكيله أن دابة بعض الأضياف به نقبٌ، فوقّع: يجلب عليه وعلى مثله من بعد، بلا استشارة ولا استئذان] (1) . ومن كلامه: سمن الكيس ونبل الذّكر لا يجتمعان في موضع واحد. ورفعت إليه قصة مضمونها أن جماعة خرجوا إلى ظاهر البلد للتفرج، ومعهم صبي، فكتب على رأسها: ما السبيل على فتية خرجوا لمتنزّههم يقضون أوطارهم، على قدر أخطارهم، ولعل الغلام (2) ابن أحدهم أو قرابة بعضهم. وكان عبد الله قد تولى الشام مدة، والديار المصرية مدة، وفيه يقول بعض الشعراء وهو بمصر: يقول أناسٌ إن مصراً بعيدة ... وما بعدت مصر وفيها ابن طاهر وأبعد من مصر رجال تراهم ... بحضرتنا معروفهم غير حاضر عن الخير موتى ما تبالي أزرتهم ... على طمع أم زرت أهل المقابر وتنسب هذه الأبيات إلى عوف بن محلّم الشيباني، والله أعلم. وكان دخوله إليها سنة إحدى عشرة ومائتين، وخرج منها في أواخر هذه السنة فدخل بغداد في ذي القعدة منها، واستمر نوابه بمصر، وعزل عنها في سنة ثلاث عشرة ومائتين، ووليها أبو إسحاق ابن الرشيد وهو الملقب بالمعتصم. وذكر الفرغاني في تاريخه أن عبد الله بن طاهر وليها بعد عبيد الله بن السّريّ   (1) زيادة من ر. (2) ص: الصبي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 87 ابن الحكم، وخرج عبيد الله عنها في صفر سنة إحدى عشرة ومائتين، وخرج عبد الله بن طاهر عنها إلى العراق لخمس بقين من رجب سنة اثنتي عشرة ومائتين، وقد استخلف بها إلى أن وليها المعتصم. وذكر الوزير أبو القاسم بن المغربي في كتاب " أدب الخواص " أن البطيخ العبدلاّوي الموجود بالديار المصرية منسوب إلى عبد الله المذكور، وهذا النوع من البطيخ لم أره في شيء من البلاد سوى مصر، ولعله نسب إليه لأنه كان يستطيبه، أو أنه أول من زرعه هناك. (90) وعبد الله وقومه خزاعيون بالولاء، فإن جدّهم رزيقاً (1) كان مولى أبي محمد طلحة بن عبيد الله بن خلف المعروف بطلحة الطّلحات الخزاعي، وكان طلحة المذكور والياً على سجستان من قبل مسلم بن زياد بن أبيه والي خراسان، وكنيته أبو حرب، فمات بها في فتنة عبد الله بن الزبير رضي الله عنه، وفيه يقول الشاعر وهو عبيد الله بن قيس الرقيات (2) : رحم الله أعظماً دفنوها ... بسجستان طلحة الطلحات وإنما قيل له " طلحة الطلحاتِ " لأن أمه طلحة بنت أبي طلحة، هكذا قاله أبو الحسين علي بن أحمد السلامي في " تاريخ ولاة خراسان ". وقومس المذكور في شعر أبي تمام: بضم القاف وسكون الواو وفتح الميم، وقيل بكسرها، وبعدها سين مهملة، وهو إقليم من عراق العجم حدّه من جهة خراسان بسطام، ومن جهة العراق سمنان، هاتان المدينتان داخلتان في أعمال قومس وكرسي قومس الدامغان (3) . وكانت وفاة عبد الله المذكور في شهر ربيع الأول سنة ثمان وعشرين ومائتين بمرو، وقيل: سنة ثلاثين، وهو الأصح. وقال الطبري: مات بنيسابور يوم الاثنين لإحدى عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول من سنة ثلاثين   (1) المسودة: رزيق. (2) ديوانه: 20. (3) في شرح ديوان أبي تمام 2: 132: قومس بلد وهو بالفارسية " كومش ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 88 ومائتين، بعد موت أشناس التركي بسبعة أيام. وعاش مثل أبيه طاهر ثمانياً وأربعين سنة، رحمه الله تعالى - وسيأتي ذكر ولده عبيد الله إن شاء الله تعالى. 344 - (1) أبو العميثل أبو العميثل عبد الله بن خليد، مولى جعفر بن سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب، رضي الله عنهم؛ ويقال: أصله من الري، وكان يفخٍّم الكلام ويغرٍّبه، وكان كاتب عبد الله بن طاهر المذكور قبله، وشاعره ومنقطعاً إليه، وكاتب أبيه طاهر من قبله، وكان مكثراً من نقل اللغة، عارفاً بها شاعراً مجيداً، فمن شعره في عبد الله المذكور قوله: يا من يحاول أن تكون صفاته ... كصفات عبد الله أنصت واسمع فلأنصحنًّك في المشورة والذي ... حجَّ الحجيج إليه فاسمع أو دع أصدق وعفّ وبرّ واحتمل (2) ... واصفح وكاف ودار واحلم واشجع والطف ولن وتأنّ وارفق واتئد ... واحزم وجد وحام واحمل وادفع فلقد محضتك (3) إن قبلت نصيحتي ... وهديت للنهج الأسدّ المهيع ولقد أحسن في هذا المقطوع كل الإحسان، وله غيره أشعار حسان؛ ويقال إنه وصل يوماً إلى باب عبد الله بن طاهر، فرام الدخول إليه فحجب فقال (4) :   (1) ترجمته في طبقات ابن المعتز: 287 والموشح: 14 وسمط الآلي: 308 والبيان والتبيين 1: 280 وأخبار أبي تمام: 223، 225؛ والترجمة هنا مطابقة تماماً لنص المسودة. (2) م: وبر واحتمل الأذى. (3) المسودة: مخضتك. (4) طبقات ابن المعتز: 287 - 288. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 89 سأترك هذا الباب ما دام إذنه ... على ما أرى حتى يخفّ قليلا إذا لم أجد يوماً إلى الأذن سلّما ... وجدت إلى ترك اللقاء سبيلا فبلغ ذلك عبد الله فأنكره، وأمر بدخوله. وكان يقول: النعمان اسم من أسماء الدم، ولذلك قيل: " شقائق النعمان " نسبت إلى الدم لحمرتها. قال: وقولهم " إنها منسوبة إلى النعمان بن المنذر " ليس بشيء، وحدثت الأصمعي بهذا فنقله عني؛ هذا كله كلام أبي العميثل؛ وللذي ذكره أرباب اللغة بخلافه، فإن ابن قتيبة ذكر في كتاب " المعارف " (1) ان النعمان بن المنذر، وهو آخر ملوك الحيرة من اللخميين، خرج إلى ظهر الكوفة، وقد اعتمّ نبته من بين أصفر وأحمر وأخضر، وإذا فيه من هذه الشقائق شيء كثير، فقال: ما أحسنها، احموها، فحموها، فسمي شقائق النعمان بذلك، وقال الجوهري في " الصحاح " (2) انها منسوبة إلى النعمان المذكور، وكذا غيره، والله أعلم. ويحكى أن أبا تمام الطائي لما أنشد عبد الله بن طاهر قصيدته البائية المذكورة في ترجمته، كان أبو العميثل حاضراً، فقال له يا أبا تمام، لم لا تقول ما يفهم فقال: يا أبا العميثل، لم لا تفهم ما يقال (3) . وقبَّل يوماً كفّ عبد الله بن طاهر، فاستخشن مسَّ شاربيه، فقال أبو العميثل في الحال: شوك القنفذ لا يؤلم كفَّ الأسد، فأعجبه كلامه وأمر له بجائزة سنية. وصنف كتباً منها: " كتاب ما اتفق لفظه واختلف معناه " و " كتاب التشابه " (4) و " كتاب الأبيات السائرة " وكتاب " معاني الشعر " وغير ذلك. وكانت وفاة أبو العميثل سنة أربعين ومائتين، رحمه الله تعالى.   (1) المعارف: 610، وفيه: خرج إلى " الظهر ". (2) الصحاح (شقق) 4: 1503. (3) انظر أخبار أبي تمام: 72 ولم ينسبها لأبي العميثل وانما ذكر أن القائل هو أبو سعيد الضرير وكان متصلاً بالطاهريين. (4) كذا قيده المؤلف، وفي ر: النسابة، وسقط الاسم من ص. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 90 والعميثل: بفتح العين المهملة والميم وسكون الياء المثناة من تحتها وفتح الثاء المثلثة وبعدها لام، وهو اسم لعدة أشياء من جملتها الأسد، والظاهر أنه هو المقصود ها هنا. 345 - (1) الناشي الأكبر أبو العباس عبد الله بن محمد الناشي الأنباري المعروف بابن ِشرشير الشاعر؛ كان من الشعراء المجيدين، وهو في طبقة ابن الرومي والبحتري وأنظارهما، وهو الناشي الأكبر - وسيأتي ذكر الناشي الأصغر إن شاء الله تعالى - وكان نحوياً عروضياً متكلماً، أصله من الأنبار، وأقام ببغداد مدة طويلة ثم خرج إلى مصر، وأقام بها إلى آخر عمره. وكان متبحراً في عدة علوم من جملتها علم المنطق. وكان بقوة علم الكلام قد نقض علل النحاة، وأدخل على قواعد العروض شبهاً، ومثَّلها بغير أمثلة الخليل، وكلُّ ذلك بحذقه وقوة فطنته. وله قصيدة في فنون من العلم على رويّ واحد تبلغ أربعة آلاف بيت، وله عدة تصانيف جميلة، وله أشعار كثيرة في جوارح الصيد وآلاته، والصُّيود وما يتعلق بها، كأنه كان صاحب صيد، وقد استشهد كشاجم بشعره في كتاب " المصايد والمطارد " في مواضع، منها قصائد ومنها طرديات على أسلوب أبي نواس ومنها مقاطيع، وقد أجاد في الكل، فمن ذلك قوله طردية في وصف بازٍ (2) :   (1) ترجمته في تاريخ بغداد 10: 92 وطبقات المعتزلة: 92 وانباه الرواة 2: 128 والمنتظم 6: 53 والنجوم الزاهرة 3: 158 وحسن المحاضرة 1: 240 وتاريخ ابن الأثير 7: 547 والشذرات 2: 214؛ 2: 214؛ وقد أوردت المسودة هذه الترجمة كاملة. (2) المصايد: 67. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 91 لما تفرى الليل عن أثباجه ... وارتاح ضوء الصبح لانبلاجه غدوت أبغي الصيد في منهاجه ... بأقمرٍ أبدع في نتاجه ألبسه الخالق من ديباجه ... وشياً يحار الطرف في اندراجه في نسقٍ منه وفي انعراجه ... وزان فوديه إلى حجاجه بزينةٍ كفته نظم تاجه ... منسرهُ ينبئ عن خلاجه وظفره يخبر عن علاجه ... لو استضاء المرء في إدلاجه بعينه كفته من سراجه ... ومن شعره في جارية مغنية بديعة الجمال: فديتك لو أنهم أنصفوك ... لردُّوا النواظر عن ناظريك تردِّين أعيننا عن سواك ... وهل تنظر العين إلا إليك وهم جعلوك رقيباً علينا ... فمن ذا يكون رقيباً عليك ألم يقرأوا ويحهم ما يرون ... من وحي حسنك في وجنتيك وشعره كثير، ونقتصر منه على هذا القدر. وكانت وفاته في مصر سنة ثلاث وتسعين ومائتين، رحمه الله تعالى. والناشي: بفتح النون وبعد الألف شين معجمة وبعدها ياء، وهو لقب عليه. وشرشير: بكسر الشين الأولى والثانية المعجمتين وبينهما راء ساكنة ثم ياء مثناة من تحتها وبعدها راء، وهو في الأصل: اسم طائر (1) يصل إلى الديار المصرية في البحر في زمن الشتاء وهو أكبر من الحمام بقليل وأظنه من طير الماء، وهو كثير الوجود بساحل دمياط وأظنه يأتي من صحراء الترك، وباسمه سمي الرجل، والله أعلم. والأنباري: بفتح الهمزة وسكون النون وفتح الباء الموحدة وبعد الألف راء، هذه النسبة إلى الأنبار وهي مدينة قديمة على الفرات في جهة بغداد يفصل   (1) لم يذكره الدميري، وذكر الشرشور وقال: طائر أغبر على لطافة الحمرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 92 بينهما دجلة وهي في الجانب الغربي وبغداد في الجانب الشرقي وبينهما وبين بغداد عشرة فراسخ، خرج منها جماعة من العلماء، وهو جمع واحده نِبر، بكسر النون وسكون الباء. والأنبار: أهراءُ الطعام، وإنما قيل لهذه البليدة الأنبار لأن الملوك الأكاسرة كانوا يخزنون بها الطعام فسميت بذلك. 346 - (1) ابن صارة الشنتريني أبو محمد عبد الله بن محمد بن صارة البكري الأندلسي الشنتريني الشاعر المشهور؛ كان شاعراً ماهراً ناظماً ناثراً، إلا أنه كان قليل الحظ إلا من الحرمان، لم يسعه مكان، ولا اشتمل عليه سلطان، ذكره صاحب " قلائد العقيان "، وأثنى عليه ابن بسام في " الذخيرة " وقال: إنه تتبع (2) المحقرات، وبعد جهد ارتقى إلى كتابة بعض الولاة، فلما كان من خلع الملوك ما كان أوى إلى إشبيلية أوحش حالاً من الليل، وأكثر انفراداً من سُهيل، وتبلّغ بالوراقة وله منها جانب، وبها بصر ثاقب، فانتحلها على كساد سوقها، وخاوّ طريقها، وفيها يقول: أما الوراقةُ فهي أيكةُ حرفةٍ ... أوراقها وثمارها الحرمانُ شبَّهت صاحبها بصاحب إبرةٍ ... تكسو العراة وجسمها عريانُ   (1) ترجمته في بغية الملتمس (رقم: 896) وزاد السافر: 66 والقلائد: 260 والتكملة: 816 والسلفي: 15 والمطرب: 78، 138 والمغرب 1: 419 والذخيرة (القسم الثالث) : 323 ونفح الطيب 1: 449 والمسالك 11: 383 والشذرات 4: 55؛ والترجمة المثبتة هنا تطابق ما في المسودة. (2) م: يبيع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 93 وله (1) : ومعذّرٍ رقت حواشي حسنه ... فقلوبنا وجداً عليه رقاقُ لم يكسو عارضه السوادُ وإنما ... نفضت عليه سوادها (2) الأحداقُ وله في غلام أزرق العين: ومهفهفٍ أبصرت في أطواقه ... قمراً بآفاق المحاسن يشرقُ تقضي على المهجات منه صعدةٌ ... متألقٌ فيها سنانٌ أزرقُ وهذا كقول السلامي: أعانق من قده صعدةً ... ترى اللخط منها مكان السنانِ ومن ها هنا أخذ النبيه المصري قوله: أسمر كالرمح له مقلةٌ ... لو لم تكن كحلاء كانت سنان وأورد له صاحب كتاب " الحديقة ": أسنى ليالي الدهر عني ليلةٌ ... لم أخل فيها الكأس من إعمال فرّقت فيها بين جفني والكرى ... وجمعت بين القرط والخلخال وقال غيره: هذان البيتين لصالح الهزيل الإشبيلي، والله أعلم. وله في الزهد: يا من يصيخ إلى داعي السفاه وقد ... نادى به الناعيان: الشَّيب والكبر إن كنت لا تسمع الذكرى ففيم ثوى ... في رأسك الواعيان: السمع والبصر ليس الأصم ولا الأعلى سوى رجلٍ ... لم يهده الهاديان: العين والأثر   (1) وقع البيتان في ص متأخرين عن هذا الموضع. (2) س: صباغها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 94 لا الدهر يبقى ولا الدنيا ولا الفلك ال ... أعلى ولا النيران: الشمس والقمر ليرحلن عن الدنيا وإن كرها ... فراقها الثاويان: البدو والحضر وله: وصاحب لي كداء البطن صحبته ... يودني كوداد الذئب للراعي يثني عليَّ جزاه الله صالحةً ... ثناء هندٍ على روح بن زنباع قوله " ثناء هند على روح بن زنباع ": هذه هند بنت النعمان ابن بشير الأنصاري رضي الله عنه. وكان روح بن زنباع الجذامي صاحب عبد الملك بن مروان (1) قد تزوَّجها وكانت تكرهه، وفيه تقول (2) : وهل هند إلا مهرةٌ عربيةٌ ... سليلة أفراسٍ تحلَّلها بغلُ فإن نتجت مهراً كريماً فبالحرى ... وإن يك إقرافٌ فما أنجب الفحلُ ويروى " فمن قبل الفحل " وهو إقواء؛ ويروى هذان البيتان لأختها حميدة بنت النعمان، وإلإقراف: أن تكون الأم عربية والأب ليس كذلك، والهجنة خلاف ذلك بأن يكون الأب عربياً والأم خلاف ذلك. وله ديوان شعر أكثره جيد، وكانت وفاته سنة سبع عشرة وخمسمائة بمدينة المرية من جزيرة الأندلس وقد تقدم ذكرها. ويقال في اسم جده: صارة وسارة، بالصاد والسين المهملتين. والشَّنتريني: بفتح الشين المعجمة وسكون النون وفتح التاء المثناة من فوقها وكسر الراء وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها نون، وهذه النسبة إلى شنترين (3) ، وهي بلدة في غرب جزيرة الأندلس أيضاً، رحمه الله تعالى.   (1) ص: صاحب ... وزيره. (2) انظر الشعر ونسبته في الأغاني 9: 221، 16: 22. (3) شنترين (Santarem) تقع اليوم في البرتغال على بعد 67 كيلومتراً إلى الشمال من لشبونة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 95 (1) 347 البطليوسي أبو محمد عبد الله بن محمد بن السيد البطليوسي النحوي؛ كان عالماً بالآداب واللغات متبحراً فيهما مقدماً في معرفتهما وإتقانهما، سكن مدينة بلنسية، وكان الناس يجتمعون إليه ويقرأون عليه ويقتبسون منه، وكان حسن التعليم جيد التفهيم ثقة ضابطأ، ألف كتباً نافعة ممتعة منها: كتاب " المثلث " في مجلدين، اتى فيه بالعجائب ودل على اطلاع عظيم، فإن " مثلث " قطرب في كراسة واحدة، واستعمل فيها الضرورة وما لا يجوز وغلط في بعضه. وله كتاب " الاقتضاب في شرح أدب الكتَّاب " - وقد ذكرته في ترجمة عبد الله بن قتيبة - وشرح " سقط الزند " لأبي العلاء المعري شرحاً استوفى فيه المقاصد، وهو أجود من شرح أبي العلاء صاحب الديوان الذي سماه " ضوء السقط "، وله كتاب في الحروف الخمسة، وهي: السين والصاد والضاد والطاء والذال، جمع فيه كل غريب، وله كتاب " الحلل في شرح أبيات الجمل " و " الخلل في أغاليط الجمل " (2) أيضاً، وكتاب " التنبيه على الأسباب الموجبة لإختلاف الأمة " وكتاب " شرح الموطأ "، وسمعت أن له شرح ديوان المتنبي، ولم أقف عليه، وقيل أنه لم يخرج من المغرب، وبالجملة فكل شيء يتكلم فيه فهو في غاية الجودة، وله نظم حسن، فمن ذلك قوله: أخو العلم حيٌّ خالدٌ بعد موته ... وأوصاله تحت التراب رميم   (1) ترجمة ابن السيد في الديباج المذهب: 140 والصلة 1: 282 والقلائد: 193 والمغرب 1: 385 والنفح 1: 185 (وصفحات أخرى) وأزهار الرياض 3: 101 وبغية الوعاة: 288 وغاية النهاية 1: 449 ومعجم البلدان (بطليموس) والشذرات 4: 64؛ وما أثبت في هذه الترجمة مستوفي في المسودة. (2) ورد في المصادر باسم اصلاح الخلل الواقع في الجمل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 96 وذو الجهل ميت وهو ماشٍ على الثرى ... يظن من الأحياء وهو عديم وله في طول الليل (1) : ترى ليلنا شابت نواصيه كبرة ... كما شبت أم في الجو روض بهار كأن الليالي (2) السبع في الجو جمعت ... ولا فصل فيما بينها لنهار وله من أول قصيد يمدح بها المستعين بن هود (3) : هم سلبوني حسن صبري إذ بانوا ... بأقمار أطواق مطالعها بانُ لئن غادروني باللوى إن مهجتي ... مسايرةٌ أظعانهم حيثما كانوا (4) سقى عهدهم بالخيف عهد غمائم ... ينازعها مزنٌ من الدمع هتان أأحبابنا هل ذلك العهد راجعٌ ... وهل لي عنكم أخر الدهر سلوان ولي مقلةٌ عبرى وبين جوانحي ... فؤاد إلى لقياكم الدهر حنان تنكرت الدنيا لنا بعد بعدكم ... وحلت بنا من معضل الخطب ألوان ومن مديحها (5) : رحلنا سوام الحمد عنها لغيرها ... فلا ماؤها صدا ولا النبت سعدان (6) إلى ملك حاباه بالحسن يوسف ... وشاد له البيت الرفيع سليمان من النفر الشم الذين أكفهم ... غيوث ولكن الخواطر نيران   (1) أزهار الرياض 3: 127. (2) س: النجوم. (3) كان ابن السيد عند بني رزين أصحاب السهلة ثم فارقهم ولحق بسرقسطة وفيها بنو هود ورأس دولتهم المستعين أحمد بن محمد بن سليمان بن هود (478 - 501) ومدحه بهذه القصيدة، انظر أزهار الرياض 3: 121. (4) ر: أينما بانوا. (5) ر: ومنها. (6) يشير غلى قولهم في المثل: ماء ولا كصداء ومرعى ولا كالسعدون، وفي المسودة: صدي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 97 وهي طويلة ونقتصر منها على هذا القدر. ومولده في سنة أربع وأربعين وأربعمائة بمدينة بطليوس وتوفي في منتصف رجب سنة إحدى وعشرين وخمسمائة بمدينة بلنسية، رحمه الله تعالى. والسيد: بكسر السين المهملة وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها دال مهملة، وهو من جملة أسماء الذئب سمي الرجل به. والبطليوسي (1) : بفتح الباء الموحدة والطاء المهملة وسكون اللام وفتح الياء المثناة من تحتها وسكون الواو وبعدها سين مهملة. وبلنسية (2) : بفتح الباء الموحدة واللام وسكون النون وكسر السين المهملة وفتح الياء المثناة من تحتها وبعدها هاء ساكنة، هاتان المدينتان بجزيرة الأندلس خرج منهما جماعة من العلماء. 348 - (3) ابن ناقيا أبو القاسم عبد الله، وقيل عبد الباقي، بن محمد بن الحسين بن داود بن ناقيا الأديب الشاعر اللغوي المترسل؛ هو من أهل الحريم الطاهري، وهي محلة ببغداد، وكان فاضلاً بارعاً، وله مصنفات حسنه مفيدة، منها مجموع سماه " ملح الممالحة " ومنها كتاب " الجُمان في تشبيهات القرآن " وله مقامات أدبيه مشهورة، واختصر " الأغاني " في مجلد واحد وشرح كتاب " الفصيح " وله ديوان   (1) بطليموس (Badajos) : تقع على الحدود الشرقية للبرتغال، وكانت عاصمة بني الأفطس التجيبيين في عهد ملوك الطوائف، وقال البكري: بناها عبد الرحمن بن مروان المعروف بالجليقي. (2) بلنسية (Valencia) : من مدن شرق الأندلس (الروض المعطار: 47) . (3) ترجمة ابن ناقيا في انباه الرواة 2: 133 وميزان الاعتدال 2: 533 ولسان الميزان 3: 384 والجواهر المضية 1: 283، وانظر مقدمة " عقد الجمان " بتحقيق زرزور والداية (الكويت 1968) ؛ وهذه الترجمة طبق لما في المسودة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 98 شعر كبير وديوان رسائل، وذكره العماد الأصبهاني في كتاب " الخريدة " وأثنى عليه وذكر طرفاً من أحواله، وأورد هذين البيتين في بعض الرؤساء وقد افتصد فكتبهما إليه: جعل الله ذو المواهب عقبا ... ك من الفصد صحة وسلامه قل ليمناك كيف شئت استهلي ... لا عدمت الندى فأنت غمامه ولقد أجاد فيهما ومن شعره أيضاً: أخلاَّي ما صحبت في العيش لذة ... ولا زال عن قلبي حنين التذكر ولا طاب لي طعم الرقاد ولا اجتنت ... لحاظي مذ فارقتكم حسن منظر ولا عبثت كفي بكأس مدامة ... يطوف بها ساقٍ ولا جسِّ مزهر وكان ينسب إلى التعطيل ومذهب (1) الأوائل، وصنف في ذلك مقالة. وكان كثير المجون، وحكى الذي تولى غسله بعد موته أنه وجد يده اليسرى مضمومة، فأجتهد حتى فتحها، فوجد فيها كتابة بعضها على بعض، فتمهل حتى قرأها، فإذا فيها مكتوب: نزلت بجار لا يخيب ضيفه ... أرجي نجاتي من عذاب جهنم وأني على خوفٍ من الله واثقٌ ... بإنعامه فالله أكرم منعم ومولده في منتصف ذي القعدة سنة عشر وأربعمائة. وتوفي ليلة الأحد رابع المحرم سنة خمس وثمانين وأربعمائة، ودفن بباب الشام (2) ببغداد، رحمه الله تعالى. وناقيا: بفتح النون وبعد الألف قاف مكسورة ثم ياء مثناة من تحتها مفتوحة وبعدها ألف. وقد تقدمت له أبيات مرثيه في ترجمة الشيخ أبي إسحاق الشيرازي (3) .   (1) ص: وإلى مذهب. (2) ر: السلام. (3) انظر ج 1 ص: 30. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 99 349 - (1) الشيخ أبو البقاء أبو البقاء عبد الله بن أبي عبد الله الحسين بن أبي البقاء عبد الله بن الحسين العكبري الأصل البغدادي المولد والدار، الفقيه الحنبلي الحاسب الفرضي النحوي الضرير، الملقب محب الدين؛ أخذ النحو عن أبي محمد ابن الخشاب المذكور بعده وعن غيره من مشايخ عصره ببغداد، وسمع الحديث من أبي الفتح محمد بن عبد الباقي بن أحمد المعروف بابن البطي، ومن أبي زرعة طاهر بن محمد بن طاهر المقدسي، وغيرهما. ولم يكن في آخر عمره في عصره مثله في فنونه، وكان الغالب عليه علم النحو وصنف فيه مصنفات مفيدة، وشرح كتاب " الإيضاح " لأبي علي الفارسي، وديوان المتنبي، وله كتاب " إعراب القرآن الكريم " في مجلدين، وكتاب " إعراب الحديث " لطيف، وكتاب " شرح اللمع " لابن جني، وكتاب " اللباب في علل النحو " وكتاب " إعراب شعر الحماسة " وشرح " المفصل " للزمخشري شرحاً مستوفىً وشرح " الخطب النباتية " و " المقامات الحريرية " وصنف في النحو والحساب (2) ، واشتغل عليه   (1) ترجمته في ذيل الحنابلة 2: 109 ونكت الهميان: 178 وانباه الرواة 2: 116 وبغية الوعاة: 281 والنجوم الزاهرة 6: 246 والشذرات 5: 67 ومعجم البلدان: (عكبرا) ؛ وما أثبتناه في هذه الترجمة هو نص المسودة. (2) سقط من س أسماء بعض مؤلفاته وورد في حاشية النسخة ما يلي: " قلت: ذكره ابن النجار في تاريخه وذكر أسماء مصنفاته كلها فمنها تفسير القرآن، وإعراب القرآن، وإعراب الشواذ من القراءات، وتشابيه القرآن، وعدة آي القرآن، وإعراب الحديث، الناهض في علم الفرائض، الاستيعاب في أنواع الحساب، شرح الفصيح، شرح الحماسة، شرح المقامات الحريرية، شرح الخطب النباتية، إعراب الحماسة، شرح أبيات كتاب سيبويه، اللباب في علل البناء والإعراب، مقدمة في النحو، شرح شعر المتنبي، وغير ذلك من المصنفات التي يطول ذكرها. قال ابن النجار: وكان ضريراً أضر في صباه بجدري لحقه، وكان يحب الاشتغال ليلاً ونهاراً ما يمضي عليه ساعة إلا واحد يقرأ عليه أو يطالع حتى أنه بالليل تقرأ له زوجته في كتب الأدب وغيرها، وله شعر مدح به ابن مهدي الوزير وهو: بك أضحى جيد الزمان محلى ... بعد أن كان من حلاه مخلى لا يجاريك في تجاريك خلق ... أنت أعلى قدراً وأعلى محلا دمت تحيي ما قد أميت من الفض ... ل وتنفي فقراً وتطرد محلا " الجزء: 3 ¦ الصفحة: 100 خلق كثير، وانتفعوا به، واشتهر اسمه في البلاد وهو حي وبعد صيته. وكانت ولادته سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة. وتوفي ليلة الأحد ثامن شهر ربيع الآخر سنة ست عشرة وستمائة ببغداد، ودفن بباب حرب، رحمه الله تعالى. والعكبري: بضم العين المهملة وسكون الكاف وفتح الباء الموحدة وبعدها راء، هذه النسبة إلى عكبرا، وهي بليدة على دجلة فوق بغداد بعشرة فراسخ خرج منها جماعة من العلماء وغيرهم. وحكى الشيخ أبو البقاء المذكور في كتاب " شرح المقامات " عند ذكر العنقاء أن أهل الرسِّ كان بأرضهم جبل يقال له " رمخ " (1) صاعد في السماء قدر ميل، وكان به طيور كثيرة، وكانت العنقاء طائرة عظيمة الخلق، طويلة العنق، لها وجه إنسان وفيها من كل حيوان شبه، من أحسن الطير، وكانت تأتي في السنة مرة هذا الجبل فتلتقط طيره، فجاعت في بعض السنين وأعوزها الطير فانقضت على صبي فذهبت به، فسميت " عنقاء مغرباً " لإبعادها بما تذهب به، ثم ذهبت بجارية (2) أخرى، فشكا أهل الرس إلى نبيهم حنظلة بن صفوان فدعا عليها فأصابتها صاعقة فاحترقت، والله أعلم. قلت: هذا حنظلة بن صفوان نبي أهل الرسّ، كان في زمن الفترة بين عيسى والنبي عليهما الصلاة والسلام. ثم رأيت في تاريخ أحمد بن عبد الله بن أحمد الفرغاني نزيل مصر أن العزيز نزار بن المعز صاحب مصر اجتمع عنده من غرائب الحيوان ما لم يوجد عنده غيره، فمن ذلك العنقاء، وهو طائر جاءه من صعيد مصر في طول البلشوم (3) ، وأعظم جسماً منه، له غبب ولحية وعلى   (1) في بعض الأصول: دمخ. (2) ص: اختطفت جارية. (3) هكذا في ص ر والمسودة، وفي المطبوعة " البلاشون "، وقال الدميري: البلشون هو مالك الحزين، فلعله بالميم لغة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 101 رأسه وقاية، وفيه عدة ألوان ومشابه من طيور كثيرة، والله أعلم. ثم وجدت في أواخر كتاب " ربيع الأبرار " تأليف العلاَّمة (1) أبي القاسم الزمخشري في باب الطير عن ابن عباس، رضي الله عنهما، أن الله تعالى خلق في زمن موسى عليه السلام طائرة اسمها العنقاء لها أربعة أجنحة من كل جانب، ووجهها كوجه الإنسان، وأعطاها من كل شيء حسنٍ قسطاً وخلق لها ذكراً مثلها، وأوحى إليه أني خلقت طائرين عجيبين وجعلت رزقهما في الوحوش التي حول بيت المقدس وآنستك بهما وجعلتهما زيادة فيما فضلت به بني إسرائيل، فتناسالا وكثر نسلهما، فلما توفي موسى عليه السلام انتقلت فوقعت بنجد والحجاز، فلم تزل تأكل الوحش وتخطف الصبيان إلى أن نُبِّئ خالد بن سنان العبسي بين عيسى ومحمد عليهما السلام، فشكوها إليه، فدعا الله فقطع نسلها وانقرضت، والله أعلم. 350 - (2) ابن الخشاب أبو محمد عبد الله بن أحمد بن أحمد بن أحمد المعروف بابن الخشاب البغدادي؛ العالم المشهور في الأدب والنحو والتفسير والحديث والنسب والفرائض والحساب وحظ الكتاب العزيز بالقراءات الكثيرة، وكان متضلعاً من العلوم وله فيها اليد الطولى، وكان خطه في نهاية الحسن، ذكره العماد الأصبهاني في " الخريدة " وعدد فضائله ومحاسنه، ثم قال: وكان قليل الشعر، ومن شعره في الشمعة (3) :   (1) العلامة: سقطت من ص. (2) ترجمته في معجم الأدباء 12: 47 وانباه الرواة 2: 99 وذيل طبقات الحنابلة 1: 316 وبغية الوعاة: 276 والمنتظم 10: 238 والنجوم الزاهرة 6: 65. (3) هذه المقطوعة والتي تليها في ياقوت: 52 - 53 وذيل ابن رجب: 321 والانباه: 101. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 102 صفراء من غير سقام بها ... كيف وكانت أمها الشافيه عاريةٌ باطنها مكتسٍ ... فاعجب بها عاريةً كاسيه وذكر له لغزاً في كتاب وهو: وذي أوجهٍ لكنه غير بائح ... بسرٍ وذو الوجهين للسر مظهر تناجيك بالأسرار أسرار وجهه ... فتسمعها ما دمت تنظر وهذا المعنى مأخوذ من قول المتنبي في ابن العميد: فدعاك حدسك الرئيس وأمسكوا ... ودعاك خالقك الرئيس الأكبرا خلفت صفاتك في العيون كلامه ... كالخط يملأ مسمعي من أبصر وشرح كتاب " الجمل " لعبد القاهر الجرجاني وسماه " المرتجل في شرح الجمل " وترك أبواباً من وسط الكتاب ما تكلم عليها، وشرح " اللمع " لابن جني ولم يكملها، وكانت فيه بذاذة وقلة اكتراث بالمأكل والملبس. وذكر العماد أنه كانت بينهما صحبة ومكاتبات، وقال: لما مات كنت بالشام فرأيته ليلة في المنام فقلت له: ما فعل الله بك قال: خيراً، فقلت: فهل يرحم الله الأدباء فقال: نعم، قلت: وإن كانوا مقصرين فقال: يجري عتاب كثير، ثم يكون النعيم. ومولده سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة. [قلت: هكذا وجدت تاريخ ولادته، وعندي في ذلك شيء، لأني وقع لي جزء فيه تعاليق وفوائد علقها بخطه، وكتب على ظهره ما صورته مختصراً: سألت أبا الفضل محمد بن ناصر عن مولد شيخنا أبي الكرم المبارك بن فاخر المعروف بابن الدباس النحوي (1) ، فقال: سنة ثلاثين وأربعمائة، وأظنه خمن، لأنه توفي سنة خمس وخمسمائة وسنه فيما أرى أعلى من ذلك فسألت أبا المحاسن ابن أبي نصر بن الدباس   (1) انظر انباه الرواة 3: 256 ومصادره، قال: سئل عن مولده فقال في سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة، وذكر أن وفاته كانت سنة خمسمائة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 103 الناسخ عن مولد عمه أبي الكرم المذكور؛ فقال: لي قبل وفاته بسنة: أنا في سنتي هذه بين فمي سبعين، وأنني لأخشى من ذلك، يعني لي سبع وسبعون، وهذا يقتضي أن يكون مولده سنة ست وعشرين. فمضمون هذه الحكاية أن وفاة ابن الدباس محققة في سنة خمس وخمسمائة وهو أحد مشايخ ابن الخشاب المذكور، وممن أكثر الرواية عنه، ويبعد أن يكون قد حصل له هذا التحصيل واستفاد منه، وسنه حينئذ لم يبلغ الحلم فإنه على ما ذكرناه من تاريخ وفاة المذكور ومولد ابن الخشاب المذكور يكون تقدير عمره عند وفاة شيخه أبي الكرم ثلاث عشرة سنة، وفي مثل هذا السن يبعد اشتغاله وجمعه، ولاشك أن خط ابن الخشاب يعتمد عليه، فعلى هذا التقدير يكون مولده قبل هذا التاريخ الذي ذكرناه، ويحتمل أن يكون التاريخ صحيحاً، وتكون روايته عن شيخه المذكور بمجرد الروايه دون الاشتغال والاستفاده ومثل ذلك يكون كثيراً، والله أعلم] (1) . وكانت وفاته عشية (2) الجمعة ثالث شهر رمضان سنة سبع وستين وخمسمائة ببغداد، رحمه الله تعالى، بباب الأزج بدار أبي القاسم ابن الفراء. ودفن بمقبرة أحمد بباب حربٍ، وصلي عليه بجامع السلطان يوم السبت.   (1) انفردت ربما بين معقفين. (2) ر: ليلة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 104 351 - (1) ابن الفرضي أبو الوليد عبد الله بن محمد بن يوسف بن نصر الأزدي الأندلسي القرطبي الحافظ المعروف بابن الفرضيّ؛ كان فقيها عالماً في فنون من العلم: الحديث وعلم الرجال والأدب البارع وغير ذلك. وله من التصانيف " تاريخ علماء الأندلس " وهو الذي ذيّل عليه ابن بشكوال بكتابه الذي سماه " الصلة "، وله كتاب حسن في " المؤتلف والمختلف " وفي " مشتبه النسبة " وكتاب في أخبار شعراء الأندلس وغير ذلك. ورحل من الأندلس إلى المشرق في سنة اثنتين وثمانين وثلثمائة، فحج وأخذ عن العلماء وسمع منهم وكتب من أماليهم. ومن شعره: أسير الخطايا عند بابك واقف ... على وجلٍ مما به أنت عارف يخاف ذنوبا لم يغب عنك غيبها ... ويرجوك فيها فهو راجٍ وخائف ومن ذا الذي يرجو سواك ويتقي ... ومالك في فصل القضاء مخالف فيا سيدي لا تخزني في صحيفتي ... إذا نشرت يوم الحساب الصحائف وكن مؤنسي في ظلمة القبر عندما ... يصدُّ ذوو القربى ويجفو الموالف لئن ضاق عني عفوك الواسع الذي ... أرجي لإسرافي فإني لتالف ومن شعره أيضا:   (1) ترجمة ابن الفرضي في الصلة: 246 وجذوة المقتبس: 237 وبغية الملتمس (رقم: 888) والمطمح: 57 والذخيرة 1/2: 130 والمغرب 1: 103 والمطرب: 132 وتذكرة الحفاظ: 1076 والديباج المذهب: 143 والنفح 2: 129 والشذرات 3: 168؛ والترجمة هنا مطابقة لما في المسودة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 105 إن الذي أصبحت طوع يمينه ... إن لم يكن قمرا فليس بدونه ذلّي له في الحب من سلطانه ... وسقام جسمي من سقام جُفونه وله شعر كثير. ومولده في ذي القعدة سنة إحدى وخمسين وثلثمائة. وتولى القضاء بمدينة بلنسية. وقتلته البربر يوم فتح قرطبة، وهو يوم الاثنين لست خلون من شوال سنة ثلاث وأربعمائة، رحمه الله تعالى، وبقي في داره ثلاثة أيام ودفن متغيراً من غير غسل ولا كفن ولا صلاة؛ روي عنه أنه قال: تعلقت بأستار (1) الكعبة وسألت الله تعالى الشهادة، ثم انحرفت وفكرت في هول القتل، فندمت وهممت أن أرجع فأستقيل الله سبحانه ذلك، فاستحييت. وأخبر من رآه بين القتلى ودنا منه فسمعه يقول بصوت ضعيف: لا يكلم أحد في سبيل الله، والله أعلم بمن يكلم في سبيله، إلا جاء يوم القيامة وجرحه يثعب دماً اللون لون دم والريح ريح مسك، كأنه يعيد على نفسه الحديث الوارد في ذلك، قال: ثم قضى على أثر ذلك، وهذا الحديث أخرجه مسلم في حديثه (2) . 352 - (3) الرشاطي أبو محمد عبد الله بن علي بن عبد الله بن علي بن خلف بن أحمد بن عمر اللخمي المعروف بالرشاطي الأندلسي المريي؛ كانت له عناية كثيرة بالحديث والرجال   (1) ر: بأذيال. (2) كذا في المسودة والنسخة س؛ والأوجه أن يقال: في صحيحه، وانظر صحيح مسلم 2: 95. (3) ترجمة الرشاطي في الصلة: 285 ومعجم الصدفي (رقم: 200) والمطرب: 61، 120 والنفح 4: 462 وتذكرة الحفاظ: 1307؛ والترجمة هنا مستوفاة في المسودة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 106 والرواة والتواريخ، وله كتاب حسن سماه كتاب " اقتباس الأنوار والتماس الأزهار في أنساب الصحابة ورواة الآثار " أخذه الناس عنه وأحسن فيه وجمع وما أقصر، وهو على أسلوب كتاب أبي سعد ابن السمعاني الحافظ الذي سماه " بالأنساب " - وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى -. ومولد الرشاطي صبيحة يوم السبت لثمان خلون من جمادى الآخرة سنة ست وستين وأربعمائة بقرية من أعمال مرسية، يقال لها أوريوالة (1) : بفتح الهمزة وسكون الواو وكسر الراء وضم الياء المثناة من تحتها وفتح الواو وبعد الألف لام مفتوحة بعدها هاء. وتوفي شهيداً بالمرية عند تغلب العدو عليها صبيحة يوم الجمعة العشرين من جمادى الأولى سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة (2) ، رحمه الله تعالى. والرشاطي: بضم الراء وفتح الشين المعجمة وبعد الألف طاء مهملة مكسورة ثم ياء مثناة من تحتها، هذه النسبة ليست إلى قبيلة ولا إلى بلد بل ذكر في كتابه المذكور أن أحد أجداده كانت في جسمه شامة كبيرة وكانت له خادمةٌ جمية تحضنه في صغره، فإذا لاعبته قالت له: رشطاله، وكثر ذلك منها، فقيل له: الرشاطي.   (1) أوريوالة (Orihuela) وتكتب في المصادر الأندلسية " أوريولة " مع تساهل في الضبط الذي أورده ابن خلكان، وهي على نهر الأبيض، نهر مرسية، وتبعد عنها بنحو 120 ميلاً وبينها وبين البحر عشرون ميلاً. (2) بعد إنهيار حكم المرابطين في الأندلس (539) قامت حملة برية بحرية بتجهيز ممالك قشتالة ونبره وأراجون وقطلونية ومعها مدد من جنوة وبيزة وغيرهما وهاجمت المرية واستولت عليها سنة 542 وظلت في أيديهم حتى قام الموحدون باسترجاعها بعد حوالي عشر سنوات. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 107 353 - (1) ابن بري أبو محمد عبد الله بن أبي الوحش بري بن عبد الجبار بن بري المقدسي الأصل المصري (2) الإمام المشهور في علم النحو واللغة والرواية والدراية؛ كان علاّمة عصره وحافظ وقته ونادرة دهره. أخذ علم العربية عن أبي بكر محمد ابن عبد الملك الشنتريني النحوي (3) وأبي طالب عبد الجبار بن محمد بن علي المعافري القرطبي (4) وغيرهما، وسمع الحديث على أبي صادق المديني وأبي عبد الله الرازي وغيرهما، واطلع على أكثر كلام العرب، وله على كتاب " الصحاح " للجوهري حواشٍ فائقة أتى فيها بالغرائب، واستدرك عليه فيها مواضع كثيرة، وهي دالة على سعة علمه وغزارة مادته وعظم اطلاعه، وصحبه خلق كثير اشتغلوا عليه وانتفعوا به، ومن جملة من أخذ عنه أبو موسى الجزولي صاحب المقدمة في النحو - وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى - وذكره في مقدمته ونقل عنه في آخرها. وكان عارفاً بكتاب سيبويه وعلله، وكان إليه التصفح في ديوان الإنشاء، لا يصدر كتاب عن الدولة إلى ملك من ملوك النواحي إلا بعد أن يتصفحه ويصلح ما لعله فيه (5) من خلل خفي، وهذه كانت وظيفة ابن بابشاذ - وقد ذكرت ذلك في ترجمته في حرف الطاء -.   (1) ترجمة ابن بري في معجم الأدباء 12: 56 وانباه الرواة 2: 110 وبغية الوعاة: 278 وحسن المحاضرة 1: 228 والنجوم الزاهرة 6: 103 والشذرات 4: 273 ومصادر أخرى في حاشية الانباه؛ وما ثبت هنا مطابق لما في المسودة. (2) المصري: سقطت من س ص م وهي ثابتة في المسودة. (3) كان أحد أئمة العربية صنف " تلقيح الألباب في حوامل الإعراب " وتوفي سنة 550 (بغية الوعاة: 68) . (4) مات ابو طالب سنة 566 (بغية الوعاة: 295) . (5) ر: ويصلح ما فيه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 108 ولقيت بمصر جماعة من أصحابه وأخذت عنهم رواية وإجازة؛ ويحكى أنه كانت فيه غفلة، ولا يتكلف في كلامه، ولا يتقيد بالإعراب بل يسترسل في حديثه كيفما اتفق، حتى قال يوماً لبعض تلامذته ممن يشتغل عليه بالنحو: اشتر لي قليل هندبا بعروقو، فقال له التلميذ: هندبا بعروقه، فعز عليه كلامه وقال له: لا تأخذه إلا بعروقو، وإن لم يكن بعروقو فما أريده. وكانت له ألفاظ من هذا الجنس لا يكترث بما يقوله ولا يتوقف على إعرابها. ورأيت له حواشي على " درة الغواص في أوهام الخواص " للحريري، وله جزء لطيف في أغاليط الفقهاء، وله الرد على أبي محمد ابن الخشاب - المذكور في هذا الحرف - في الكتاب الذي بيَّن فيه غلط ابن الحريري في المقامات، وانتصر لابن الحريري وما أقصر فيما عمله. وكانت ولادته بمصر في الخامس من رجب سنة تسع وتسعين وأربعمائة. وتوفي بمصر ليلة السبت السابعة والعشرين من شوال سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة، رحمه الله تعالى. وبرِّي: بفتح الباء الموحدة وتشديد الراء المكسورة وبعدها ياء، وهو اسمٌ علمٌ يشبه النسبة. 354 - (1) العاضد أبو محمد عبد الله الملقب العاضد بن يوسف بن الحافظ بن محمد المستنصر بن الظاهر بن الحاكم بن العزيز بن المعز بن المنصور بن القائم بن المهدي، آخر   (1) أخباره في إتعاظ الحنفا: 278 والدرة المضية: 352، 512 والنجوم الزاهرة 5: 334 - 357 وابن الأثير 11: 368 وخطط المقريزي 2: 294 وحسن المحاضرة 2: 17 (وفيه نقل عن ابن خلكان) ، وما في المتن هنا مستوفى من المسودة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 109 ملوك مصر من العبيديين - وقد تقدم ذكر جماعة من أهل بيته وسيأتي ذكر الباقين -؛ ولي المملكة بعد وفاة ابن عمه الفائز في التاريخ المذكور في ترجمته، وكان أبوه يوسف أحد الأخوين اللذين قتلهما عباس بعد الظافر - وقد سبق ذلك في ترجمة الظافر في حرف الهمزة - واستقر الأمر للعاضد المذكور اسماً وللصالح بن رزّيك - المذكور في حرف الطاء - جسماً. وكان العاضد شديد التشيع (1) متغالياً في سب الصحابة، رضوان الله عليهم وإذا رآى سنياً استحل دمه، وسار وزيره الصالح بن رزّيك في أيامه سيرة مذمومة فإنه احتكر الغلات فارتفع سعرها، وقتل أمراء الدولة خشية منهم، وأضعف أحوال الدولة المصرية فقتل مقاتلتها وأفنى ذوي الآراء والحزم منها، وكان كثير التطلع إلى ما في أيدي الناس من الأموال، وصادر أقواماً ليس بينه وبينهم تعلق. وفي أيام العاضد ورد أبو عبد الله الحسين بن نزار بن المستنصر من المغرب ومعه عساكر وحشود، فلما قارب بلاد مصر غدر به أصحابه وقبضوه وحملوه إلى العاضد فقتله صبراً، وذلك في سنة سبع وخمسين وخمسمائة في شهر رمضان، وقيل إن ذلك كان في أيام الحافظ عبد المجيد - هكذا قاله صاحب كتاب " الدول المنقطعة " والله أعلم، ثم أعاد ذلك في أيام العاضد كما ذكرته أولاً، والله أعلم بالصواب - وكان قد تلقب بالمنتصر بالله. وقد تقدم في ترجمة شاور وأسد الدين شيركوه في حرف الشين ما يغني عن الإطالة في سبب انقراض دولته، واستيلاء الغز عليها وسيأتي في أخبار السلطان صلاح الدين، رحمه الله تعالى في حرف الياء طرف من ذلك أيضاً. وسمعت من جماعة من المصريين يقولون: إن هؤلاء القوم في أوائل دولتهم قالوا لبعض العلماء: تكتب لنا ورقة تذكر فيها ألقاباً تصلح للخلفاء، حتى إذا تولى واحد لقبوه ببعض تلك الألقاب، فكتب لهم ألقاباً كثيرة، وآخر ما كتب في الورقة " العاضد " فاتفق أن آخر من ولي منهم تلقب بالعاضد، وهذا   (1) ص: الرفض. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 110 من عجيب الاتفاق. وأيضاً فإن العاضد في اللغة القاطع، يقال: عضدتُ الشيء فأنا عاضدٌ له، إذا قطعته، فكأنه عاضدٌ لدولتهم، وكذا كان لأنه قطعها. وأخبرني أحد علماء المصريين (1) أيضاً أن العاضد المذكور في أواخر دولته رأى في منامه وهو بمدينة مصر وقد خرجت إليه عقرب من مسجد هو معروف بها، فلدغته فلما استيقظ ارتاع لذلك، فطلب بعض معبري الرؤية وقص عليهم المنام فقال له: ينالك مكروه من شخص مقيم في هذا المسجد، فطلب والي مصر وقال له: تكشف عمن هو مقيم في المسجد الفلاني، وكان العاضد يعرف ذلك المسجد، فإذا رأيت به أحداً تحضره عندي. فمضى الوالي إلى المسجد فرأى فيه رجلاً صوفياً فأخذه ودخل به على العاضد، فلما رآه سأله: من أين هو ومتى قدم البلاد وفي أي شيء قدم وهو يجاوبه عن كل سؤال، فلما ظهر له منه ضعف الحال والصدق والعجز عن إيصال المكروه إليه أعطاه شيئاً وقال له: يا شيخ ادع لنا، وأطلق سبيله، فنهض من عنده وعاد إلى مسجده (2) . فلما استولى السلطان صلاح الدين وعزم على القبض على العاضد واستفتى الفقهاء في قتله، أفتوه بجواز ذلك لما كان عليه العاضد وأشياعه من انحلال العقيدة وفساد الاعتقاد وكثرة الوقوع في الصحابة والإستهتار بذلك. وكان أكثرهم مبالغة في الفتيا الصوفي المقيم في المسجد، وهو الشيخ نجم الدين الخبوشاني - الآتي ذكره في حرف الميم إن شاء الله تعالى - فإنه عدَّد مساوئ هؤلاء القوم وسلب عنهم الإيمان وأطال الكلام في ذلك، فصحَّت بذلك رؤيا العاضد. وكانت ولادة العاضد يوم الثلاثاء لعشر بقين من المحرم سنة ست وأربعين (3) وخمسمائة. وتوفي ليلة الاثنين لإحدى عشرة ليلة خلت من المحرم سنة سبع   (1) ص: علماء مصر. (2) ص: المسجد. (3) س: ست وخمسين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 111 وستين وخمسمائة، وقيل إن العاضد حصل له غيظ من شمس الدولة توران شاه بن أيوب أخي صلاح الدين فسمّ نفسه فمات، والله أعلم، رحمه الله تعالى. وقيل إنه مات يوم عاشوراء. 355 - (1) ابن الرداد المؤذن أبو الرداد عبد الله بن عبد السلام بن عبد الله بن الرداد المؤذن البصري (2) ، صاحب المقياس بمصر؛ كان رجلاً صالحاً (3) وتولى مقياس النيل الجديد بجزيرة مصر، وجمع إليه جميع النظر في أمره وما يتعلق به في سنة ست وأربعين ومائتين (4) ، واستمرت الولاية في ولده إلى الآن. وتوفي في سنة تسع وسبعين ومائتين، وقيل سنة ست وستين ومائتين، والله أعلم. والردّاد: بفتح الراء وبالدالين المهملتين وتشديد الأولى منهما وبينهما ألف. ذكره القضاعي في " خطط مصر " وذكر قضية الجارية التي كانت تلقى في النيل، وذلك في فصل المقياس (5) . [وهذا المقياس: وضعه أحمد بن محمد الحاسب القرصاني بأمر المتوكل على الله. - وكان أسامة بن زيد التّنوخي في سنة ست وسبعين للهجرة قد أمر ببناء المقياس في الجزيرة قديماً - وحكي عنه أنه قال: لما أردت أن أكتب على   (1) انظر حسن المحاضرة 2: 198 وخطط المقريزي 2: 185 والنجوم الزاهرة 2: 311 والكندي: 507 - 508 ورفع الإصر 1: 144. (2) ص: المصري، وهو خطأ، إذ أصل أبي الرداد من البصرة. (3) جاء في المطبوعة بعده: وكان يؤذن في الجامع العتيق ويعلم الصبيان القرآن؛ ولم يرد في النسخ التي اعتمدناها. (4) في رفع الإصر: ست وصمانين ومائتين. (5) هنا ينتهي ما ورد في النسخ الخطية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 112 مواضع من المقياس ناظرت يزيد بن عبد الله وسليمان بن وهب والحسن الخادم فيما ينبغي أن يكتب عليه، وأعلمتهم أن أحسن ما يكتب عليه آيات من القرآن، واسم أمير المؤمنين المتوكل على الله واسم الأمير المنتصر، إذ كان العمل له، فاختلفوا في ذلك، وبادر سليمان بن وهب فكتب من غير أن يعلم ويستطلع الرأي في ذلك، فورد كتاب أمير المؤمنين أن يكتب عليه آيات من القرآن وما يشبه أمر المقياس، واسم أمير المؤمنين، فاستخرجت من القرآن آيات لا يمكن أن يكتب على المقياس أحسن ولا أشبه بأمر المقياس منها، وجعلت جميع ما كتبت في الرخام الذي تقدم في البناية في المواضع التي قدرت الكتابة فيها بخط مقوم غليظ على قدر الإصبع ثابت في بدن الرخام مصبغ الحفر باللازورد المشمع يقرأ من بعد، فجعلت أول ما كتبت أربع آيات متساوية المقادير في سطور أربعة في تربيع بناء المقياس على وزن سبع عشرة ذراعاً من العمود. فكتبت في الجانب الشرقي، وهو المقابل لمدخل المقياس: " بسم الله الرحمن الرحيم، ونزلنا من السماء ماءً مباركاً فأنبتنا به جنّاتِ وحبّ الحصيد " ق: 9 وفي الجانب الشمالي: " وترى الأرض هامدةً، فإذا أنزلنا عليها الماء اهتّزت وربت وأنبتت من كل زوجِ بهيج " الحج: 5 وعلى الجانب الغربي: " آلم تر أنّ الله أنزل من السماء ماءً فتصبح الأرض مخضرّةَ إن الله لطيفٌ خبير " الحج: 63 وعلى الجانب الجنوبي: " وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته، وهو الولي الحميد " الشورى: 28 فصارت هذه الآيات سطوراً على وجه الماء إذا بلغ سبع عشرة ذراعاً، لأن هذا وسط الزيادة، ثم جعلت في الذراع الثامن عشر في جميع التربيع نطاقاً مثل النطاق الذي جعلته علامة للذراع السادس عشر، وكتبت بإزاء الذراع الثامن عشر سطراً واحداً يحيط بجميع التربيع " بسم الله الرحمن الرحيم، الله الذي خلق السموات والأرض وأنزل من السماء ماءً فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم، وسخّر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره، وسخر لكم الأنهار، وسخر لكم الشمس والقمر دائبين، وسخر لكم الليل والنهار، وآتاكم من كل ما سألتموه، وإن تعدّوا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 113 نعمة الله لا تحصوها، إن الإنسان لظلومٌ كفّار " إبراهيم: 32 - 34 " بسم الله الرحمن الرحيم، مقياس يمنٍ وسعادةٍ ونعمة وسلامة. أمر ببنائه عبد الله جعفر الإمام المتوكل على الله أمير المؤمنين، أطال الله بقاءه وأدام عزه وتأييده، على يدي أحمد بن محمد الحاسب، سنة سبع وأربعين ومائتين. وجعلت ما فوق ذلك من الحيطان التي بأعلى البناء منقوشاً كله، محفوراً مصبوغاً باللازورد المشمع، وعمدت إلى ما جاوز من العمود تسع عشرة ذراعاً، والرأس المنصوب عليه، والعارضة اللبخ الممسكة له، فنقشت ذلك كله بالذهب واللازورد، وكتبت على العارضة آية الكرسي إلى آخرها وكتبت على حائط الزقاق المقابل للنيل، فوق باب مدخل المقياس حيث يقرؤه السابلة سطراً إلى الرخام من أوله إلى آخره، وهو: " بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد سيد المرسلين، أمر عبد الله جعفر الإمام المتوكل على الله أمير المؤمنين ببناء هذا المقياس الهاشمي، لتعرف به زيادة النيل ونقصانه، وأطال الله بقاء أمير المؤمنين، وأدام له العز والتمكين والظفر على الأعداء، وتتابع الإحسان والنعماء، وزاده في الخير رغبة، وبالرعية رأفة، وكتبه أحمد بن محمد الحاسب في رجب سنة سبع وأربعين ومائتين ". وكتبت سطرين في رخام عن جنبتي الباب: أحدهما " بسم الله ما شاء الله، لا حول ولا قوة إلا بالله، وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً "، والآخر " بسم الله، بلغ الماء في السنة التي بني فيها هذا المقياس المتوكلي المبارك سبع عشرة ذراعاً وثمانية عشر إصبعاً ". واتخذت مثال سبع من رخام ركبته في وجه حائط فويقة القناة المطل على النيل، على المقدار الذي إذا بلغ الماء ست عشرة ذراعاً دخل الماء في فيه، وكتبت فوق ذلك في أعلى الحائط: " أولم يروا أنّا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به ذرعاً تأكل منه أنعامهم وأنفسهم، أفلا يبصرون " السجدة: 27 " كتبه أحمد بن محمد الحاسب في جمادى الآخرة سنة سبع وأربعين ومائتين، وصلى الله على سيدنا محمد النبي وآله وسلم تسليما. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 114 والذراع في المقياس ثمانية وعشرون إصبعاً إلى أن ينتهي إلى اثنتي عشرة ذراعاً، وبعد ذلك يصير اعتباره أربعة وعشرين إصبعاً] (1) . 356 - (2) عبيد الله بن عبد الله أبو عبد الله عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود بن عاقل بن حبيب بن شمخ بن مخزوم بن صبح بن كاهل بن الحارث بن تميم بن سعد بن هزيل بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان الهذلي، أحد الفقهاء السبعة بالمدينة - وقد تقدم ذكر أربعة منهم - وهذا عبيد الله ابن أخي عبد الله بن مسعود الصحابي، رضي الله عنه، وهو من أعلام التابعين، لقي خلقاً كثيراً من الصحابة، رضوان الله عليهم، وسمع من ابن عباس وأبي هريرة وأم المؤمنين عائشة، رضي الله عنهم أجمعين، وروى عنه أبو الزناد والزهري وغيرهما، وقال الزهري: أدركت أربعة بحور، فذكر فيهم عبيد الله المذكور، وقال: سمعت من العلم شيئاً كثيراً فظننت أني قد اكتفيت حتى لقيت عبيد الله فإذا كأني ليس في يدي شيء. وقال عمر (3) بن عبد العزيز: لأن يكون لي مجلس من عبيد الله أحب إلي من الدنيا؛ " وقال: والله إني لأشتري ليلة من ليالي عبيد الله بألف دينار من بيت المال، فقالوا: يا أمير المؤمنين، تقول هذا مع تحريك وشدة تحفظك فقال: أين يذهب بكم والله إني لأعود برأيه   (1) ما بين معقفين ورد في المطبوعة وحدها. وانظر عن المقياس، حسن المحاضرة 2: 197 والنجوم الزاهرة 2: 309 وخطط المقريزي 1: 58 (ط. بولاق) وابن عبد الحكم: 16. (2) ترجمته في طبقات الشيرازي، الورقة: 13 وتذكرة الحفاظ: 78 وتهذيب التهذيب 7: 23 والأغاني 9: 135 ونكت الهميان: 197 وحلية الأولياء 2: 188 وصفة الصفوة 2: 57 وسمط الآلي: 781 والشذرات 1: 114. (3) في المسودة: محمد، والتصويب عن طبقات الشيرازي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 115 وبنصيحته وبهدايته على بيت مال المسلمين بألوف وألوف، إن في المحادثة تلقيحاً للعقل، وترويحاً للقلب، وتسريحاً للهمّ، وتنقيحاً للأدب] (1) . وكان عالماً ناسكاً. وكانت وفاته سنة اثنتين ومائة، وقيل سنة تسع وتسعين، وقيل ثمان وتسعين للهجرة بالمدينة، رضي الله عنه. وله شعر، فمن ذلك ما أورده له في كتاب " الحماسة " وهو قوله (2) : شققت القلب ثم ذررت فيه ... هواك فليم فالتأم الفطور تغلغل حب عثمة في فؤادي ... فباديه مع الخافي يسير تغلغل حيث لم يبلغ شرابٌ ... ولا حزن ولم يبلغ سرور ولما قال هذا الشعر قيل له: أتقول مثل هذا فقال: في اللّدود، راحة المفؤود. وهو القائل: لابد للمصدور من أن ينفث. والهذلي: بضم الهاء وفتح الذال المعجمة وبعدها لام، هذه النسبة إلى هذيل بن مدركة كما تقدم في نسبه، وهي قبيلة كبيرة، وأكثر أهل وادي نخلة المجاور لمكة، حرسها الله تعالى، من هذه القبيلة. وتوفي والده عبد الله سنة ست وثمانين للهجرة، رضي الله عنه، وكانت الرياسة في الجاهلية إلى جده صبح بن كاهل (3) .   (1) ما بين معقفين لم يرد في النسخ الخطية. (2) هي الحماسية رقم: 550 في شرح المرزوقي. (3) بعد هذه الترجمة أورد وستنفيلد ترجمة (برقم 364 حسب ترقيمه) لعبد الله بن عياش الهمداني جاء فيها: عبد الله بن عياش الهمداني يعرف بالمنتوف صاحب رواية الأخبار والآداب، توفي في سنة 158 للهجرة اه. قلت: وليس في النسخ الخطية وجود لهذه الترجمة، ولهذا لم نفردها برقم. (وانظر ترجمة المنتوف في البيان 1: 260 ولسان الميزان 3: 322 ونور القبس: 264 - 267 قال: وهو من الرواة النسابين وكان عالماً بالمثالب) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 116 357 - (1) المهدي عبيد الله أبو محمد عبيد الله، الملقب بالمهدي؛ وجدت في نسبه اختلافاً كثيراً (2) ، قال صاحب " تاريخ القيروان " (3) هو عبيد الله بن الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقال غيره: هو عبيد الله بن محمد بن إسماعيل بن جعفر المذكور، وقيل هو علي بن الحسين بن أحمد بن عبد الله بن الحسن بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقيل هو عبيد الله بن التقي بن الوفي بن الرضي، وهؤلاء الثلاثة يقال لهم المستورون في ذات الله، والرضي المذكور بن محمد بن إسماعيل بن جعفر المذكور، واسم التقي الحسين، واسم الوفي أحمد، واسم الرضي عبد الله، وإنما استتروا خوفاً على أنفسهم لأنهم كانوا مطلوبين من جهة الخلفاء من بني العباس، لأنهم علموا أن فيهم من يروم الخلافة أسوة غيرهم من العلويين وقضاياهم ووقائعهم في ذلك مشهورة. وإنما تسمى المهدي عبيد الله استتاراً، هذا عند من يصحح نسبه، ففيه اختلاف كثير (4) . وأهل العلم   (1) أخباره في إتعاظ الحنفا: 60 - 73 والدرة المضية: 108 وابن عذاري 1: 158 والخطط المقريزية 1: 349 ورسالة افتتاح الدعوة؛ وابن خلكان 4: 34 وابن الأثير 8: 284 وعبر الذهبي 2: 193 والمؤنس: 56 والشذرات 2: 294؛ وقد سقطت هذه الترجمة من م، وما أثبتناه مطابق تماماً لما أوردته المسودة. (2) قد حفلت كتب التاريخ بصور هذا الخلاف في نسب عبيد الله فلا داعي لإثباتها، وإنما ننقل جملة أوردها البيروني في الآثار الباقية: 39 حيث قال: فلا يحتاج في تصحيحه (أي النسب) إلى بذل الأموال، والجعل كما بذلها عبيد الله بن الحسن بن أحمد بن عبد الله بن ميمون القداح لنقباء العلوية لما كذبوا اعتزاءه إليهم أيام خروجه بالمغرب حتى أرضاهم وأسكنهم. (3) لا أدري من هو المؤلف المقصود هنا، فهناك غير كتاب في تاريخ القيروان، منها واحد اسمه الجامع والبيان للصنهاجي وثان للرقيق القيرواني وثالث لابن رشيق. (4) وإنما تسمى ... كثير: سقط من ر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 117 بالأنساب من المحققين ينكرون دعواه في النسب، وقد تقدم في ترجمة الشريف عبد الله بن طباطبا (1) ما جرى بينه وبين المعز عند وصوله إلى مصر وما كان من جواب المعز له، وفيه أيضاً دلالة على ذلك، فإنه لو عرف نسبه لذكره وما احتاج إلى ذلك المجلس الذي ذكرناه هناك. ويقولون أيضاً: إن اسمه سعيد ولقبه عبيد الله، وزوج أمه الحسين بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن ميمون القداح، وسمي قداحاً لأنه كان كحّالاً يقدح العين إذا نزل فيها الماء. وقيل إن المهدي لما وصل إلى سجلماسة ونما خبره إلى اليسع مالكها، وهو آخر ملوك بني مدرار، وقيل له: إن هذا هو الذي يدعو إلى بيعته أبو عبد الله الشيعي بأفريقية - وقد تقدم الكلام على ذلك في ترجمة أبي عبد الله في حرف الحاء (2) - أخذه اليسع واعتقله، فلما سمع أبو عبد الله الشيعي باعتقاله حشد جمعاً كثيراً من كتامة وغيرها، وقصد سجلماسة لاستنقاذه، فلما بلغ اليسع خبر وصولهم قتل المهدي في السجن، فلما دنت العساكر من البلد هرب اليسع، فدخل أبو عبد الله إلى السجن فوجد المهدي مقتولاً وعنده رجل من أصحابه كان يخدمه، فخاف أبو عبد الله أن ينتقض عليه ما دبره من الأمر إن عرفت العساكر بقتل المهدي، فأخرج الرجل وقال: هذا هو المهدي؛ وبالجملة فأخباره مشهورة فلا حاجة إلى الإطالة فيها. وهو أول من قام بهذا الأمر من بيتهم وادعى الخلافة بالمغرب، وكان داعيه أبا عبد الله الشيعي - المذكور في حرف الحاء - ولما استتب له الأمر قتله وقتل أخاه - كما ذكرناه في ترجمته - وبنى المهدي بأفريقية وفرغ من بنائها في شوال سنة ثمان وثلثمائة، وكان شروعه فيها في ذي القعدة سنة ثلاث وثلثمائة، وبنى سور تونس وأحكم عمارتها وجدّد فيها مواضع، فنسبت [المهدية] (3) إليه. وملك بعده ولده القائم، ثم المنصور ولد القائم - وقد تقدم ذكره - ثم   (1) انظر ص 81: من هذا الكتاب. (2) انظر ج 2: 192 من هذا الكتاب. (3) زيادة لا بد منها للتوضيح، إذ كان النص قبل التحشية " وبنى المهدية بإفريقية فنسيت إليه ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 118 المعز بن المنصور، وهو الذي سيّر القائد جوهراً وملك الديار المصرية وبنى القاهرة، واستمرت دولتهم حتى انقرضت دولتهم على يد السلطان صلاح الدين رحمه الله تعالى. وقد تقدم ذكر جماعة من حفدته وسيأتي ذكر باقيهم، إن شاء الله تعالى. ولأجل نسبتهم إليه يقال لهم " العبيديون "، وهكذا ينسب إلى عبيد الله. وكانت ولادته في سنة تسع وخمسين، وقيل سنة ستين ومائتين، وقيل ست وستين ومائتين بمدينة سلميّة، وقيل بالكوفة، ودعي له بالخلافة على منابر رقّادة والقيروان يوم الجمعة لتسع بقين من شهر ربيع الآخر سنة سبع وتسعين ومائتين، بعد رجوعه من سجلماسة، وقد جرى له بها ما جرى. وكان ظهوره بسجلماسة يوم الأحد لسبع خلون من ذي الحجة سنة ست وتسعين ومائتين، وخرجت بلاد المغرب عن ولاية بني العباس. وتوفي ليلة الثلاثاء منتصف شهر ربيع الأول سنة اثنتين وعشرين وثلثمائة بالمهدية، رحمه الله تعالى. وسلميّة: بفتح السين المهملة واللام وكسر الميم وتشديد الياء المثناة من تحتها وتخفيفها أيضاً مع سكون الميم، وهي بليدة بالشام من أعمال حمص. ورقّادة: بفتح الراء وتشديد القاف وبعد الألف دال مهملة ثم هاء ساكنة، بلدة بأفريقية، وقد تقدم ذكرها في ترجمة أبي عبد الله الحسين بن أحمد المعروف بالشيعي، وكان قد بناها إبراهيم بن أحمد بن محمد بن الأغلب جد زيادة الله بن الأغلب المذكور في ترجمة الشيعي أيضاً، وكان شروعه أيضاً في بنائها في سنة ثلاث وستين ومائتين وفرغ منها في سنة أربع وستين ومائتين وانتقل إليها لما فرغت. والقيروان وسجلماسة: قد تقدم الكلام عليهما في مواضعهما. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 119 358 - (1) عبيد الله بن عبد الله بن طاهر أبو أحمد عبيد الله بن عبد الله بن طاهر بن الحسين بن مصعب بن رزيق بن ماهان الخزاعي؛ - تقدم ذكر أبيه وجده وما كانا عليه من التقدم وعلو المنزلة عند المأمون، وتوليتهما خراسان وغيرها - وكان عبيد الله المذكور أميراً، ولي الشرطة ببغداد خلافةً عن أخيه محمد بن عبد الله، ثم استقل بها بعد موت أخيه، وكان سيداً، وإليه انتهت رياسة أهله، وهو آخر من مات منهم رئيساً ولهم من الكتب المصنفة كتاب " الإشارة في أخبار الشعراء " وكتاب " رسالة في السياسة الملوكية " وكتاب مراسلاته لعبد الله بن المعتز، وكتاب " البراعة والفصاحة " (2) وغير ذلك. وحدّث عن الزبير بن بكار وغيره، وكان مترسلاً شاعراً لطيفاً حسن المقاصد جيد السبك رقيق الحاشية. ومن شعره، ثم وجدتها لأبي الطريف شاعر المعتمد الخليفة العباسي وزعم الصولي أن البحتري أنشده هذه الأبيات لنفسه، والله أعلم (3) ، وهي: أتهجرون فتى أغري (4) بكم تيها ... لحقُّ دعوة صبٍّ أن تجيبوها أهدى إليكم على نأيٍ تحيته ... حيُّوا بأحسن منها أو فردُّوها زمُّوا المطايا غداة البين واحتملوا ... وخلَّفوني على الأطلال أبكيها شيَّعتهم فاسترابوا بي فقلت لهم ... إني بعثت مع الأجمال أحدوها   (1) ترجمته في تاريخ بغداد 20: 340 والديارات: 71 - 79 والأغاني 9: 39 وصلة عريب: 22 والجزء السابع من ابن الأثير. (2) ر: البراعة في الفصاحة. (3) ثم وجدتها ... أعلم: هذا هو موضع النص في المسودة، وقد تأخر عن الأبيات التالية في النسخ الأخرى. (4) س: لكي أغرى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 120 قالوا فما نفسٌ يعلو كذا صعدا ... وما لعينك لا ترقا مآقيها قلت التنفّس من إدمان سيركم (1) ... ودمع عيني جارٍ من قذىً فيها حتى إذا انجذبوا والليل معتكر ... رفعت في جنحه صوتي أناديها يا من به (2) أنا هيمانٌ ومختبلٌ ... هل لي إلى الوصل (3) من عقبى أُرجيها [ومن شعره ما ذكره ابن رشيق في كتاب " " العمدة " " في باب الاستطراد، فقال: ومن الإستطراد نوع يسمى الإدماج، ونحو ذلك قول عبيد الله بن عبد الله بن طاهر لعبيد الله بن سليمان بن وهب حين وزر للمعتضد: أبى دهرنا إسعافنا في نفوسنا ... وأسعفنا في من نحبُّ ونكرم فقلت له نعماك فينا أتمها ... ودع أمرنا إن المهمَّ المقدَّم] (4) ومن شعره: واحربا من فراق قوم ... هم المصابيح والحصون والأسد والمزن والرواسي ... والأمن والخفض والسكون لم تتنكر لنا الليالي ... حتى توفَّتهم المنون فكلُّ نارٍ لنا قلوب ... وكلُّ ماء لنا عيون وله: إن الأمير هو الذي ... يضحي أميراً يوم (5) عزله إن زال سلطان الولا ... ية لم يزل سلطان فضله (6)   (1) كذا في المسودة؛ ص ر س: سركم. (2) س: بها. (3) ر: هيمان وهل لي في، يوم التواصل. (4) زيادة من ر، وانظر العمدة 2: 33. (5) ص: بعد. (6) ص: عاش في سلطان فضله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 121 وله: اقضي الحوائج ما استطع ... ت وكن لهمِّ أخيك فارج فلخير أيام الفتى ... يومٌ قضى فيه الحوائج وله ديوان شعر ونقتصر من نظمه على هذا القدر. وكان عبيد الله قد مرض فعاده الوزير، فلما انصرف عنه كتب إليه: " ما اعرف أحداً جزى العلة خيراً غيري، فإني جزيتها الخير، وشكرت نعمتها علي، إذ كانت إلى رؤيتك مؤدية، فأنا كالأعرأبي الذي جزَّى يوم البين خيراً فقال: جزى الله يوم البين خيراً فإنه ... أرانا على علاَّته أمَّ ثابت أرانا ربيبات الخدور، ولم نكن ... نراهنَّ إلا بانتعات النواعت " قلت: ومثل هذا ما كتبه البحتري إلى أبي غانم وقد مرض فعاده الوزير، وهو قوله (1) : يا أبا غانمٍ غنمت ولا زا ... لت عهاد الوسمي (2) تسقي بلادك ليت أنا مثل اعتلالك نعت ... ل على أن يعودنا من عادك أبهجت زورة الوزير أودا ... ك جميعاً وأرغمت حسادك وكانت ولادته سنة ثلاث وعشرين ومائتين. وكانت وفاته ليلة السبت لاثنتي عشرة ليلة خلت من شوال سنة ثلثمائة ببغداد، ودفن بمقابر قريش، رحمه الله تعالى. (91) [وتوفي الأمير أبو القاسم عبيد الله بن سليمان سنة ثمان وثمانين ومائتين،   (1) ديوانه: 688 وأبو غانم هو الشاه بن ميكال (- 302) والوزير الذي عاده هو إسماعيل ابن بلبل. (2) الديوان: الأنواء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 122 وعمره اثنتان وستون سنة، وكانت وزارته عشر سنين وخمسين يوما] (1) . (92) ولما مات أخوه سليمان بن عبد الله بن طاهر (2) في سنة خمس وستين ومائتين وقف أخوه عبيد الله المذكور على قبره متكئاً على قوسه ونظر إلى قبور أهله، وأنشد: النفس ترقى بحزن في تراقيها ... ودمعة العين تجري من مآقيها لبقعة ما رأت عيني كقلتها ... ولا ككثرة أحباب ثووا فيها 359 (3) أبو الحكم المغربي أبو الحكم عبيد الله بن المظفر بن عبد الله بن محمد الباهلي، الحكيم (4) الأديب المعروف بالمغربي؛ أصله من أهل المرية بالأندلس - وتقدم ذكرها - ومولده ببلاد اليمن. ذكر أبو شجاع محمد بن علي بن الدهان الفرضي - الآتي ذكره إن شاء الله تعالى - في تاريخ جمعه أن أبا الحكم المذكور قدم بغداد وأقام بها مدة يعلم الصبيان، وأنه كان ذا معرفة بالأدب والطب والهندسة؛ انتهى كلام أبي شجاع وذكر مولده ووفاته. وقال غيره: كان كامل الفضيلة، جمع بين الأدب والحكمة، وله ديوان شعر جيد، والخلاعة والمجون غالبة عليه. وذكر العماد الأصبهاني في " الخريدة " أن أبا الحكم المذكور كان طبيب   (1) ما بين معقفين لم يرد في النسخ الخطية. (2) انظر أخباره في الديارات: 83 وقال الشبشتي: توفي سنة ست وستين ومائتين في المحرم. (3) ترجمة الحكيم المغربي في ابن أبي أصيبعة 2: 144 - 155 والنفح 2: 133 والشذرات 4: 153 والترجمة الواردة هنا مستوفاة في المسودة. (4) الحكيم: سقطت من ر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 123 البيمارستان الذي كان يحمله أربعون جملاً المستصحب في معسكر (1) السلطان محمود السلجوقي حيث خيم، وكان السديد أبو الوفاء يحيى بن سعيد بن يحيى المظفر المعروف بابن المرخم (2) الذي صار أقضى القضاة ببغداد في أيام الأمام المقتفي فاصداً وطبيباً في هذا البيمارستان، ثم إن العماد أثنى على أبي الحكم المذكور، وذكر فضله وما كان عليه، وذكر أن له كتاباً سماه " نهج الوضاعة لأولي الخلاعة ". ثم إن أبا الحكم المذكور انتقل إلى الشام وسكن دمشق، وله فيها أخبار وماجرايات ظريفه تدل على خفة روحه. رأيت في ديوانه أن أبا الحسين أحمد بن منير الطرابلسي - المقدم ذكره في حرف الهمزة (3) - كان عند الأمراء بني منقذ بقلعة شيزر، وكانوا مقبلين عليه، وكان بدمشق شاعر يقال له أبو الوحش سبع بن خلف بن محمد بن هبة الله الفقعسي، وكانوا يصغرون كنيته فيقولون " وحيش " (4) وكانت فيه دعابة، وبينه وبين أبي الحكم مودة وألفة متحدة، فعزم أبو الوحش أن يتوجه إلى شيزر يمدح بني منقذ ويسترفدهم، فالتمس من أبي الحكم المذكور كتاباً إلى ابن منير بالوصية عليه، فكتب أبو الحكم: أبا الحسين استمع مقال فتىً ... عوجل فيما يقول فارتجلا هذا أبو الوحش جاء ممتدح ال ... قوم فنوه به إذا وصلا واتل عليهم بحسن شرحك ما ... أتلوه من حديثه (5) جملا وخبر القوم أنه رجل ... ما أبصر الناس مثله رجلا تنوب عن وصفه شمائله ... لا يبتغي عاقل به بدلا   (1) ر: عسكر. (2) ولاه المقتفي القضاء سنة 541 ثم عزله المستنجد عن القضاء لما ولي الخلافة (555هـ) وكان ظالماً يأخذ الرشا (انظر مرآة الزمان: 187 وابن الأثير 11: 258، 362) . (3) انظر ج 1 ص: 156. (4) ترجمة أبي الوحش في الخريدة (قسم الشام) 1: 242. (5) كذا في جميع النسخ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 124 وهو على خفة به أبداً ... معترف أنه من الثقلا يمت بالثلب والرقاعة والس ... خف، وأما بما سواه فلا إن أنت فاتحته لتخبر ما ... يصدر عنه فتحت منه خلا فسمه إن حل خطة الخسف وال ... هونِ ورحب به إذا رحلا وسقه السم إن ظفرت به ... وأمزج له من لسانك العسلا وله أشياء مستملحة، منها مقصورة هزلية ضاهى بها مقصورة ابن دريد، من جملتها: وكل ملموم فلابد له ... من فرقة لو لزقوه بالغرا وله مرثية في عماد الدين زنكي بن آق سنقر الأتابك - المقدم ذكره (1) - شاب فيها الجد بالهزل والغالب على شعره الانطباع. وكانت ولادته في سنة ست وثمانين وأربعمائة باليمن، على ما حكاه ابن الدبيثي في ذيله. وتوفي ليلة الأربعاء رابع (2) ذي القعدة سنة تسع وأربعين وخمسمائة، وقال ابن الدبيثي: توفي لساعتين خلتا من ليلة الأربعاء سادس ذي القعدة بدمشق، وهو الأصح، ودفن بباب الفراديس، رحمه الله تعالى. (93) والقاضي ابن المرخم المذكور هو الذي يقول فيه أبو القاسم هبة الله ابن الفضل الشاعر المعروف بابن القطان - الآتي ذكره (3) إن شاء الله تعالى -: يا ابن المرخم صرت فينا قاضياً ... خرف الزمان تراه أم جن الفلك إن كنت تحكم بالنجوم فربما ... أما بشرع محمدٍ من أين لك   (1) انظر ج 2: 327 من هذا الكتاب. (2) ر ص: سادس، وأثبتنا ما في المسودة. (3) ص: الآتي ذكره في حرف الهاء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 125 360 - (1) عبد الرحمن بن أبي ليلى أبو عيسى عبد الرحمن بن أبي ليلى يسار، وقيل داود، بن بلال بن أحيحة ابن الجلاح الأنصاري (1) ، وفي اسم أبيه خلاف غير هذا، كان من أكابر تابعي الكوفة، سمع علي بن أبي طالب وعثمان بن عفان وأبا أيوب الأنصاري وغيرهم، رضي الله عنهم، ويروى أنه سمع من عمر، رضي الله عنه، والحفاظ لا يثبتون سماعه من عمر، وأبوه أبو ليلى له رواية عن النبي، صلى الله عليه وسلم، وشهد وقعة الجمل وكانت راية علي بن أبي طالب رضي الله عنه، معه. وسمع من عبد الرحمن: الشعبيّ (3) ومجاهد وعبد الملك بن عمير وخلق سواهم، رضي الله عنهم. ولد لست سنين بقين من خلافة عمر، وقتل بدجيل، وقيل غرق في نهر البصرة، وقيل فقد بدير الجماجم سنة ثلاث وثمانين في وقعة ابن الأشعث، وقيل سنة إحدى، وقيل سنة اثنتين وثمانين للهجرة، رضي الله عنه. وأحيحة: بضم الهمزة وفتح الحاء المهملة وسكون الياء المثناة من تحتها وفتح الحاء الثانية وبعدها هاء ساكنة. والجلاح: بضم الجيم وبعد اللام ألف حاء مهملة. وسيأتي ذكر ولده محمد إن شاء الله تعالى.   (1) ترجمة ابن أبي ليلى في طبقات ابن سعد 6: 109 وتاريخ بغداد 10: 199 وتذكرة الحفاظ: 58 وعبر الذهبي 1: 96 وغاية النهاية 1: 376 وتهذيب التهذيب 6: 260 والشذرات 1: 92؛ وما في المسودة هو ما أثبتناه هنا. (1) ترجمة ابن أبي ليلى في طبقات ابن سعد 6: 109 وتاريخ بغداد 10: 199 وتذكرة الحفاظ: 58 وعبر الذهبي 1: 96 وغاية النهاية 1: 376 وتهذيب التهذيب 6: 260 والشذرات 1: 92؛ وما في المسودة هو ما أثبتناه هنا. (3) كذا في المسودة ونسخة ر؛ ص: من عامر الشعبي؛ س: من الشعبي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 126 361 - (1) الأوزاعي أبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو بن يحمد الأوزاعي إمام أهل الشام؛ لم يكن بالشام أعلم منه، قيل إنه أجاب في سبعين ألف مسألة، وكان يسكن بيروت. روي أن سفيان الثوري بلغه مقدم الأوزاعي فخرج حتى لقيه بذي طوى، فحل سفيان رأس بعيرة عن القطار ووضعه على رقبته، فكان إذا مر بجماعة قال: الطريق للشيخ. سمع من الزهري وعطاء وروى عنه الثوري وأخذ عنه عبد الله بن المبارك وجماعة كبيرة. وكانت ولادته ببعلبك سنة ثمان وثمانين للهجرة، وقيل سنة ثلاث وتسعين. ومنشؤه بالبقاع، ثم نقلته أمه إلى بيروت. وكان فوق الربعة خفيف اللحية به سمرة، وكان يخضب بالحناء. وتوفي سنة سبع وخمسين ومائة يوم الأحد لليلتين بقيتا من صفر، وقيل في شهر ربيع الأول بمدينة بيروت، رحمه الله تعالى، ورثاه بعضهم بقوله: جاد الحيا بالشام كل عشيةٍ ... قبراً تضمن لحده الأوزاعي قبرٌ تضمن فيه طود شريعةٍ ... سقيا له من عالمٍ نفاع عرضت له الدنيا فأعرض مقلعاً ... عنها بزهدٍ أيما إقلاع وقبره في قرية على باب بيروت يقال لها حنتوس، وأهلها مسلمون، وهو مدفون في قبلة المسجد، وأهل القرية لا يعرفونه، بل يقولون: ها هنا رجل صالح ينزل عليه النور؛ ولا يعرفه إلا الخواص من الناس.   (1) ترجمة الأوزاعي في طبقات الشيرازي، الورقة: 20 والفهرست: 227 والمعارف: 496 وحلية الأولياء 6: 135 وصفة الصفرة 4: 228 وتذكرة الحفاظ: 178 وعبر الذهبي 1: 227 وتهذيب التهذيب 6: 238 والشذرات 1: 241. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 127 [ذكر الحافظ ابن عساكر في " تاريخ دمشق " أن الأوزاعي دخل الحمام ببيروت وكان لصاحب الحمام شغل، فأغلق الحمام عليه وذهب، ثم جاء ففتح الباب فوجده ميتاً، قد وضع يده اليمنى تحت خده وهو مستقبل القبلة؛ وقيل أن امرأته فعلت ذلك، ولم تكن عامدة لذلك، فأمرها سعيد بن عبد العزيز بعتق رقبة] (1) . ويحمد: بضم الياء المثناة من تحتها وسكون الحاء المهملة وكسر الميم وبعدها دال مهملة. والأوزاعي: بفتح الهمزة وسكون الواو وفتح الزاي وبعد الألف عين مهملة هذه النسبة إلى الأوزاع، وهي بطن من ذي الكلاع من اليمن، وقيل بطن من همدان، واسمه مرثد بن زيد، وقيل الأوزاع قرية بدمشق على طريق باب الفراديس، ولم يكن أبو عمرو منهم، وإنما نزل فيهم فنسب إليهم وهو من سبي اليمن. وبيروت: بفتح الباء الموحدة وسكون الياء المثناة من تحتها وضم الراء وسكون الواو وفي آخرها تاء مثناة، وهي بليدة بساحل الشام أخذها الفرنج من المسلمين يوم الجمعة عاشر ذي الحجة سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة. [وحنتوس: بفتح الحاء المهملة وسكون النون وضم التاء المثناة من فوقها وسكون الواو ثم سين مهملة] (2) .   (1) ما بين معقفين لم يرد في النسخ الخطية. (2) لم يرد هذا الضبط في النسخ الخطية؛ والكلمة مضبوطة بالحركات بخط المؤلف في المسودة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 128 362 - (1) ابن القاسم المالكي أبو عبد الله عبد الرحمن بن القاسم بن خالد بن جنادة العتقي بالولاء، الفقيه المالكي؛ جمع بين الزهد والعلم وتفقه بالإمام مالك رضي الله عنه ونظرائه، وصحب مالكاً عشرين سنة، وانتفع به أصحاب مالك بعد موت مالك، وهو صاحب " المدونة " في مذهبهم، وهي من أجل كتبهم، وعنه أخذها سحنون. وكانت ولادته في سنة اثنتين، وقيل ثلاث وثلاثين ومائة، وقيل ثمان وعشرين وتوفي سنة إحدى وتسعين ومائة، ليلى الجمعة لسبع ليال مضين من صفر بمصر (2) ، ودفن خارج باب القرافة الصغرى قبالة قبر أشهب الفقيه المالكي، وزرت قبريهما، وهما بالقرب من السور، رحمهما الله تعالى. وجنادة: بضم الجيم وفتح النون وبعد الألف دال مهملة مفتوحة ثم هاء ساكنة. والعتقي: بضم العين وفتح التاء المثناة من فوقها وبعدها قاف، هذه النسبة إلى العتقاء، وليسوا من قبيلة واحدة بل هم من قبائل شتى، منهم حجر حمير، ومن سعد العشيرة، ومن كنانة مضر وغيرهم، وعامتهم بمصر. وعبد الرحمن المذكور مولى زبيد بن الحارث العتقي، وكان زبيد من حجر حمير، وقال عبد الله القضاعي: وكانت القبائل التي نزلت الظاهر العُتقاء،   (1) ترجمته في طبقات الشيرازي، الورقة: 44 والانتقاء: 50 وترتيب المدارك 2: 433 والديباج المذهب: 146 وتذكرة الحفاظ: 356 وعبر الذهبي 1: 307 وتهذيب التهذيب 6: 252 والشذرات 1: 329 وحسن المحاضرة 1: 121؛ قلت: والترجمة هنا لا تتعدى ما في المسودة. (2) بمصر: سقطت من ر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 129 وهم جماع من القبائل كانوا يقطعون على من أراد النبي صلى الله عليه وسلم، فبعث إليهم فأتى بهم أسرى فأعتقهم، فقيل لهم العتقاء. ولما فتح عمرو بن العاص مصر، وكان ذلك يوم الجمعة مستهل المحرم سنة عشرين للهجرة، كان العتقاء معه معدودين في أهل الراية، وإنما قيل له أهل الراية لأن العرب كانوا يجعلون لكل بطن منهم راية يعرفون بها، ولم يكن لكل بطن من بطون أهل الراية من العدد ما يجعلون لكل بطن راية، فقال عمرو بن العاص: أنا أجعل راية لا أنسبها إلى أحد، فتكون دعوتكم عليها، ففعلوا، فكان هذا الاسم كالنسب الجامع، وعليها كان ديوانهم (1) . ولما فتحوا (2) الإسكندرية ورجع عمرو إلى الفسطاط اختط الناس بها خططهم، ثم جاء العتقاء بعدهم فلم يجدوا موضعاً يختطون فيه عند أهل الراية، فشكوا ذلك إلى عمرو، فقال معاوية ين حديج، وكان يتولى أمر الخطط (3) : أرى لكم أن تظهروا على هذه القبائل فتتخذونه منزلاً وتسمونه الظاهر، ففعلوا ذلك، فقيل له " أهل الظاهر " لذلك، ذكر هذا كله أبو عمرو محمد بن يوسف بن يعقوب التجيبي في كتاب " خطط مصر " وهي فائدة غريبة يحتاج إليها، فأحببت ذكرها.   (1) انظر ابن عبد الحكم: 116 - 117. (2) ص: فتحت. (3) انظر خطط المقريزي 1: 297. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 130 363 - (1) أبو سليمان الداراني أبو سليمان عبد الرحمن بن أحمد بن عطية العنسي (2) ، الداراني الزاهد المشهور أحد رجال الطريقة؛ كان من جلة السادات، وأرباب الجد في المجاهدات. ومن كلامه: من أحسن في نهاره كفي في ليله، ومن أحسن في ليله كفي في نهاره، ومن صدق في ترك شهوة ذهب الله سبحانه وتعالى بها من قلبه، والله تعالى أكرم من أن يعذب قلباً بشهوة تركت له. ومن كلامه: أفضل الأعمال خلاف هوى النفس. وقال: نمت ليلة عن وردي فإذا بحوراء تقول لي: تنام وأنا أربى لك في الخدور منذ خمسمائة عام وله كل معنى مليح. وكانت وفاته سنة خمس ومائتين، وقيل سنة خمس عشرة ومائتين، رضي الله عنه. والعنسي: بفتح العين المهملة وسكون النون وبعدها سين مهملة، هذه النسبة إلى بني عنس بن مالك بن أدد حيٍ من مذحج ينسب أبو سليمان إليها. والداراني: بفتح الدال المهملة وبعد الألف راء مفتوحة وبعد الألف الثانية نون، هذه النسبة إلى داريا وهي قرية بغوطة دمشق، والنسبة إليها على هذه الصورة من شواذ النسب، والياء في داريا مشددة.   (1) ترجمته في طبقات السلمي: 75 وتاريخ بغداد 10: 248 وحلية الأولياء 9: 254 والأنساب 5: 271 واللباب: (الداراني) وصفة الصفوة 4: 197 والفوات 1: 524؛ والمسودة استوفت الترجمة. (2) س: العبسي، وقد ضبط في هذه النسخة أيضاً بالباء في آخر الترجمة، وهو خطأ، سببه أن المؤلف كان قد كتبه في الأصل القديم " بالباء الموحدة " بدل النون، ثم غيره. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 131 364 - (1) الفوراني أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن فوران الفوراني المروزي الفقيه الشافعي؛ كان مقدم الفقهاء الشافعية بمرو، وهو أصولي فروعي، أخذ الفقه عن أبي بكر القفال الشاشي (2) ، وصنف في الأصول والمذهب والخلاف والجدل والملل والنحل، وانتهت إليه رياسة الطائفة الشافعية، وطبق الأرض بالتلامذة، وله في المذهب الوجوه الجيدة، وصنف في المذهب كتاب " الإبانة " وهو كتاب مفيد. وسمعت بعض فضلاء المذهب يقول: إن إمام الحرمين كان يحضر حلقته وهو شاب يومئذ، وكان أبو القاسم (3) لا ينصفه ولا يصغي إلى قوله لكونه شاباً، فبقي في نفسه منه شيء، فمتى قال في " نهاية المطلب " وقال بعد المصنفين (4) كذا وغلط في ذلك، وشرع في الوقوع فيه، فمراده أبو القاسم الفوراني. وكانت وفاته في شهر رمضان سنة إحدى وستين وأربعمائة بمدينة مرو، وهو ابن ثلاث وسبعين سنة، رحمه الله تعالى. وذكره الحافظ عبد الغافر بن إسماعيل بن عبد الغافر الفارسي في " سياق تاريخ نيسابور " (5) وأثنى عليه. والفوراني: بضم الفاء وسكون الواو وفتح الراء وبعد الألف نون، هذه النسبة إلى جده فوران المذكور، هكذا ذكره السمعاني (6) .   (1) ترجمة الفوراني في طبقات السبكي 3: 225 وعبر الذهبي 3: 247 ولسان الميزان 3: 433 والشذرات 3: 309؛ قلت: والترجمة كما في المسودة تماماً. (2) س: المروزي. (3) ص: وكان الفوراني. (4) ص: المتفقهين. (5) انظر Histories (القطعة الثانية من ملخص السياق: الورقة 90) . (6) اللباب: (الفوراني) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 132 365 - (1) أبو سعد المتولي أبو سعد عبد الرحمن بن محمد واسمه مأمون بن علي، وقيل إبراهيم، المعروف بالمتولي الفقيه الشافعي النيسابوري؛ كان جامعاً بين العلم والدين وحسن السيرة وتحقيق المناظرة، له يد قوية في الأصول والفقه والخلاف، تولى التدريس بالمدرسة النظامية بمدينة بغداد بعد وفاة الشيخ أبي إسحاق الشيرازي، رحمه الله تعالى، ثم عزل عنها قي بقية سنة ست وسبعين وأربعمائة وأعيد أبو النصر ابن الصباغ صاحب " الشامل "، ثم عزل ابن الصباغ في سنة سبع وسبعين وأعيد أبو سعد المذكور واستمر عليها إلى حين وفاته. [وذكر أبو عبد الله محمد بن عبد الملك بن إبراهيم الهمذاني في كتابه الذي ذيله على طبقات الشيخ أبي إسحاق الشيرازي في ذكر الفقهاء ما مثاله: حدثني أحمد بن سلامة المحتسب قال: لما جلس للتدريس أبو سعد عبد الرحمن واسمه مأمون بن علي المتولي بعد شيخنا، يعني أبا إسحاق الشيرازي، أنكر عليه الفقهاء استناده موضعه، وأرادوا منه أن يستعمل الأدب في الجلوس دونه، ففطن وقال له: اعلموا أنني لم أفرح في عمري إلا بشيئين: أحدهما إني جئت من وراء النهر ودخلت سرخس وعلي أثوابٌ أخلاقٌ لا تشبه ثياب أهل العلم، فحضرت مجلس أبي الحارث ابن أبي الفضل السرخسي، وجلست في أخريات أصحابه، فتكلموا في مسألة فقلت واعترضت، فلما انتهيت في نوبتي أمرني أبو الحارث بالتقدم، فتقدمت، ولما عادت نوبتي استدناني وقربني حتى جلست إلى جنبه، وقام بي وألحقني بأصحابه، فاستولى علي الفرح، والشيء الثاني حين   (1) ترجمة المتولي في المنتظم 9: 18 وطبقات السبكي 3: 223 وعبر الذهبي 3: 290 والشذرات 3: 358، وقد ورد كما أثبتناه في ر والمسودة؛ وفي ص: ابن محمد بن مأمون، وذكر في المصادر باسم عبد الرحمن بن مأمون وفي قوله: " واسمه مأمون " إشكال. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 133 أهلت للاستناد في موضع شيخنا أبي إسحاق، رحمه الله تعالى، فذلك أعظم النعم، وأوفى القسم] (1) . وتخرج على أبي سعد جماعة من الأئمة، وأخذ الفقه بمرو عن أبي القاسم عبد الرحمن الفوراني - المذكور قبله - وبمرو الروذ عن القاضي حسين بن محمد، وببخارى عن أبي سهل أحمد بن علي الأبيوردي، وسمع الحديث وصنف في الفقه كتاب " تتمة الإبانة " تمم به " الإبانة " تصنيف شيخه الفوراني لكنه لم يكلمه وعاجلته المنية قبل إكماله، وكان قد انتهى فيه إلى كتاب الحدود، وأتمه من بعده جماعة منهم أبو الفتوح أسعد العجلي - المذكور في حرف الهمزة (2) - وغيره، ولم يأتوا فيه بالمقصود ولا سلكوا طريقه، فإنه جمع في كتابه الغرائب من المسائل والوجوه الغريبة التي لا تكاد توجد في كتاب غيره، وله في الفرائض مختصر صغير وهو مفيد جداً، وله في الخلاف طريقة جامعة لأنواع المآخذ، وله في أصول الدين أيضاً تصنيف صغير، وكل تصانيفه نافعة. وكانت ولادته سنة ست وعشرين وأربعمائة، وقيل سنة سبع وعشرين، بنيسابور، وتوفي ليلة الجمعة ثامن عشر شوال (3) سنة ثمان وسبعين وأربعمائة ببغداد، ودفن بمقبرة باب أبرز، رحمه الله تعالى. والمتولي: بضم الميم وفتح التاء المثناة من فوقها والواو وتشديد اللام المكسورة، ولم أعلم لأي معنى عرف بذلك، ولم يذكر السمعاني هذه النسبة.   (1) ما بين معقفين انفردت به ر، وموضعه في المسودة: " التخريجة بعد هذا ". (2) انظر ج 1: 208. (3) س: ثامن شوال؛ ر: ثامن شهر شوال، وأثبتنا ما في المسودة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 134 366 - (1) فخر الدين ابن عساكر أبو منصور عبد الرحمن بن محمد بن الحسن بن هبة الله بن عبد الله بن الحسين الدمشقي الملقب فخر الدين المعروف بابن عساكر الفقيه الشافعي؛ كان إمام وقته في علمه ودينه، تفقه على الشيخ قطب الدين أبي المعالي مسعود النيسابوري - الآتي ذكره في حرف الميم إن شاء الله تعالى - وصحبه زماناً وانتفع بصحبته وتزوج ابنته ثم استقل بنفسه ودرّس بالقدس زماناً وبدمشق (2) واشتغل عليه خلق كثير وتخرجوا عليه وصاروا أئمة وفضلاء. وكان مسدداً في الفتاوى، وهو ابن أخي الحافظ أبي القاسم علي ابن عساكر صاحب " تاريخ دمشق " - الآتي ذكره إن شاء الله تعالى - وخرج من بيتهم جماعة من العلماء والرؤساء. وكانت ولادته سنة خمسين وخمسمائة، ظناً، وكتب بخطه أن مولده سنة خمسين وخمسمائة. وتوفي في العاشر من رجب يوم الأربعاء سنة عشرين وستمائة بدمشق، رحمه الله تعالى، وزرت قبره مراراً بمقابر الصوفية ظاهر دمشق.   (1) ترجمته في طبقات السبكي 5: 66 والفوات 1: 544 وذيل الروضتين: 136 وعبر الذهبي 5: 81 والشذرات 5: 92 ومرآة الزمان: 630؛ قلت: واستوفت المسودة هذه الترجمة. (2) درّس في دمشق بالمدرسة الجاروخية، وفي القدس بالمدرسة الناصرية، وكان يقيم بدمشق أشهراً وبالقدس أشهراً، ثم ولاه العادل ابن أيوب التدريس بالمدرسة التقوية التي كانت تسمى " نظامية الشام ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 135 367 - (1) أبو القاسم الزجاجي أبو القاسم عبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي النحوي البغدادي داراً ونشأة، النهاوندي أصلاً ومولداً؛ كان إماماً في علم النحو، وصنف فيه كتاب " الجمل الكبرى " وهو كتاب نافع لولا طوله بكثرة الأمثلة. أخذ النحو عن محمد بن العباس اليزيدي وأبي بكر ابن دريد وأبي بكر ابن الأنباري، وصحب أبا إسحاق إبراهيم بن السري الزجاج - وقد تقدم ذكره (2) - فنسب إليه وعرف به، وسكن دمشق وانتفع الناس به وتخرجوا عليه. وتوفي في رجب سنة سبع وثلاثين، وقيل تسع وثلاثين وثلثمائة، وقيل في شهر رمضان سنة أربعين، والأول أصح، بدمشق وقيل بطبرية، رحمه الله تعالى. وكان قد خرج من دمشق مع ابن الحارث عامل الضياع الإخشيديه فمات بطبرية. وكتابه " الجمل " من الكتب المباركة لم يشتغل به أحد إلا وانتفع به، ويقال إنه صنفه بمكة، حرسها الله تعالى، وكان إذا فرغ من باب طاف اسبوعاً ودعا الله تعالى أن يغفر له وأن ينفع به قارئه. والزجاجي: بفتح الزاي وتشديد الجيم وبعد الألف جيم ثانية، وقد تقدم القول في سبب هذه النسبة.   (1) ترجمة الزجاجي في الفهرست: 80 وطبقات الزبيدي: 129 وبغية الوعاة: 297 واللباب: (الزجاجي) وعبر الذهبي 2: 254 والشذرات 2: 357 وابناه الرواة 2: 160 (وفي الحاشية مزيد من مصادر ترجمته) ، وهذه الترجمة مستوفاة في المسودة. (2) انظر ج 1، ص: 49. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 136 368 - (1) ابن يونس صاحب تاريخ مصر أبو سعيد عبد الرحمن بن أبي الحسن أحمد بن أبي موسى يونس بن عبد الأعلى بن موسى بن ميسرة بن حفص بن حيان الصدفي المحدث المؤرخ المصري؛ كان خبيراً بأحوال الناس، ومطلعاً على تواريخهم عارفاً بما يقوله، جمع لمصر تاريخين: أحدهما وهو الأكبر يختص بالمصريين، والآخر وهو صغير يشتمل على ذكر الغرباء الواردين على مصر، وما أقصر فيهما، وقد ذيلهما أبو القاسم يحيى بن علي الحضرمي وبنى عليهما. وهذا أبو سعيد المذكور هو حفيد يونس بن عبد الأعلى صاحب الإمام الشافعي رضي الله عنه، والناقل لأقواله الجديدة - وسيأتي ذكره في حرف الياء إن شاء الله تعالى - وقال أبو الحسن علي بن عبد الرحمن المذكور: كانت ولادة أبي في سنة إحدى وثمانين ومائتين. وكانت وفاته يوم الأحد ودفن يوم الاثنين لست وعشرين ليلة خلت من جمادى الآخرة سنة سبع وأربعين وثلثمائة، رحمه الله تعالى، وصلى عليه أبو القاسم ابن الحجاج، ورثاه أبو عيسى عبد الرحمن بن إسماعيل بن عبد الله بن سليمان الخولاني الخشّاب المصري (2) النحوي العروضي بقوله: بثثت علمك تشريقاً وتغريباً (3) ... وعدت بعد لذيذ العيش مندوبا أبا سعيد وما نألوك أن نشرت ... عنك الدواوين تصديقاً وتصويبا   (1) ترجمة ابن يونس في الفوات 1: 526 وتذكرة الحفاظ: 898 وعبر الذهبي 2: 276 والشذرات 2: 375 وحسن المحاضرة 1: 147 والرسالة المستطرفة: 133؛ وقد استوفت المسودة جميع هذه الترجمة. (2) ترجمته في بغية الوعاة: 297 نقلاً عن الصفدي. (3) على هامش المسودة: بينت علمك تصنيفاً وتقريباً، ولعله تصويب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 137 ما زلت تلهج بالتاريخ تكتبه ... حتى رأيناك في التاريخ مكتوبا أرّخت موتك في ذكري وفي صحفي ... لمن يؤرخني (1) إذ كنت محسوبا نشرت عن مصر من سكانها علماً ... مبجّلاً بجمال القوم منصوبا كشفت عن فخرهم للناس وما سجعت ... ورق الحمام على الأغصان تطريبا أعربت عن عرب نقّبت عن نجبٍ ... سارت مناقبهم في الناس تنقيبا أنشرت ميتهم حيّاً بنسبته ... حتى كأن لم يمت إذ كان منسوبا إن المكارم للإحسان موجبة ... وفيك قد ركّبت يا عبد تركيبا حجبت عنا وما الدنيا بمظهرة ... شخصاً وإن جلّ إلا عاد محجوبا كذلك الموت لا يبقي على أحدٍ ... مدى الليالي من الأحباب محبوبا - وسيأتي ذكر ولده أبي الحسن علي بن المنجم صاحب الزيج إن شاء الله تعالى -. والصدفي: بفتح الصاد والدال المهملتين وبعدهما فاء، هذه النسبة إلى الصدف بن سهل، وهي قبيلة كبيرة من حمير نزلت مصر. والصدف بكسر الدال، وإنما تفتح في النسب كما قالوا في النسب إلى نمرة نمري، وهي قاعدة مطردة، وفيه لغة أخرى أنه الصدف - بفتح الدال. (94) وتوفي أبو عيسى عبد الرحمن بن إسماعيل صاحب الأبيات المذكورة في صفر سنة ست وستين وثلثمائة، رحمه الله تعالى.   (1) وضع في المسودة فوقها: يؤرخه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 138 369 - (1) ابن الأنباري النحوي أبو البركات عبد الرحمن بن أبي الوفاء محمد بن عبيد الله بن محمد بن عبيد الله بن أبي سعيد محمد بن الحسن بن سليمان الأنباري، الملقب كمال الدين، النحوي؛ كان من الأئمة المشار إليهم في علم النحو، وسكن بغداد من صباه إلى أن مات، وتفقه على مذهب الشافعي، رضي الله عنه، بالمدرسة النظامية وتصدر لإقراء النحو بها، وقرأ اللغة على أبي منصور ابن الجواليقي، وصحب الشريف أبا السعادات هبة الله بن الشجري - الآتي ذكره في حرف الهاء إن شاء الله تعالى - وأخذ عنه وانتفع بصحبته، وتبحر في علم الأدب، واشتغل عليه خلق كثير وصاروا علماء، ولقيت جماعة منهم، وصنف في النحو كتاب " أسرار العربية " وهو سهل المأخذ كثير الفائدة، وله كتاب " الميزان " في النحو أيضاً، وله كتاب في " طبقات الأدباء " جمع فيه المتقدمين والمتأخرين مع صغر حجمه، وكتبه كلها نافعة، وكان نفسه مباركاً ما قرأ عليه أحد إلا وتميز. وانقطع في آخر عمره في بيته مشتغلاً بالعلم والعبادة وترك الدنيا ومجالسة أهلها، ولم يزل على سيرة حميدة. وكانت ولادته في شهر ربيع الآخر سنة ثلاث عشرة وخمسمائة، وتوفي ليلة الجمعة تاسع شعبان سنة سبع وسبعين وخمسمائة ببغداد، ودفن بباب أبرز بتربة الشيخ أبي إسحاق الشيرازي (2) ، رحمه الله تعالى.   (1) ترجمته في انباه الرواة 2: 169 (وفي الحاشية ثبت بمصادر أخرى) ؛ وهذه الترجمة مطابقة للمسودة. (2) إلى هنا انتهت الترجمة في س، وضبط " الأنباري " بعده مكرر وقد تقدم في ترجمة الناشي الأكبر، وأثبتناه لوروده في المسودة والنسخة ر؛ وجاء في نسخة ص: والأنباري تقدم الكلام فيه في ترجمة أبي العباس الناشي الأنباري. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 139 والأنباري: بفتح الهمزة وسكون النون وبعدها باء موحدة وبعد الألف راء، هذه النسبة إلى الأنبار، بلدة قديمة على الفرات، بينها وبين بغداد عشرة فراسخ، وسميت الأنبار لأن كسرى كان يتخذ فيها أنابير الطعام، والأنابير: جمع الأنبار جمع نبر بكسر النون وبعدها راء، مثل نقس وأنقاس، والنبر: الهري الذي تجعل فيه الغلة، والنقس: بكسر النون وسكون القاف وبعده سين مهملة وهو المداد. 370 - (1) أبو الفرج ابن الجوزي أبو الفرج عبد الرحمن بن أبي الحسن علي بن محمد بن علي بن عبيد الله بن عبد الله بن حمادى بن أحمد بن محمد بن جعفر الجوزي بن عبد الله بن القاسم بن النضر بن القاسم بن محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق (2) ، رضي الله عنه، وبقية النسب معروف (3) ، القرشي التيمي البكري البغدادي الفقيه الحنبلي الواعظ الملقب جمال الدين الحافظ؛ كان علاّمة عصره وإمام وقته في الحديث وصناعة الوعظ. صنف في فنون عديدة، منها " زاد المسير في علم التفسير " أربعة أجزاء أتى فيه بأشياء غريبة، وله في الحديث تصانيف كثيرة، وله " المنتظم " في التاريخ (4) ، وهو كبير، وله " الموضوعات "   (1) له ترجمة مطولة في كل من ذيل طبقات الحنابلة 1: 399 ومرآة الزمان: 481 وذيل الروضتين: 21 وانظر الكامل لابن الأثير 12: 171 وتذكرة الحفاظ: 1342 وعبر الذهبي 4: 297 والشذرات 4: 329؛ والترجمة هنا مطابقة للمسودة وفيها زيادات على المطبوعة المصرية. (2) أوجز النسب في ر. (3) كذا في المسودة، حيثما ورد، وقد مر في مواطن. (4) في التاريخ: سقطت من ص. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 140 في أربعة أجزاء، ذكر فيها كل حديث موضوع، وله " تلقيح فهوم الأثر " على وضع كتاب " المعارف " لابن قتيبة (1) ، وبالجملة فكتبه أكثر من أن تعد. وكتب بخطه شيئاً كثيراً، والناس يغالون (2) في ذلك حتى يقولوا (3) : إنه جمعت الكراريس التي كتبها وحسبت مدة عمره وقسمت الكراريس على المدة فكان ما خص كل يوم تسع كراريس، وهذا شيء عظيم لا يكاد يقبله العقل. ويقال إنه جمعت براية أقلامه التي كتب (4) بها حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فحصل منها شيء كثير، وأوصى أن يسخن بها الماء الذي يغسل به بعد موته، ففعل ذلك، فكفت وفضل منها. وله أشعار لطيفة، أنشدني له بعض الفضلاء يخاطب أهل بغداد: عذيري من فتية بالعراق ... قلوبهم بالجفا قلب يرون العجيب كلام الغريب ... وقول القريب فلا يعجب ميازيبهم إن تندت بخيرٍ ... إلى غير جيرانهم تقلب وعذرهم عند توبيخهم ... مغنية الحي ما تطرب وله أشعار كثيرة. وكانت له في مجالس الوعظ أجوبة نادرة، فمن أحسن ما يحكى عنه أنه وقع النزاع ببغداد بين أهل السنة والشيعة في المفاضلة بين أبي بكر وعلي، رضي الله عنهما، فرضي الكل بما يجيب به الشيخ أبو الفرج، فأقاما (5) شخصاً سأله عن ذلك وهو على الكرسي في مجلس وعظه، فقال: أفضلهما من كانت ابنته تحته، ونزل في الحال حتى لا يراجع في ذلك، فقالت السنة: هو أبو بكر لأن ابنته عائشة رضي الله عنها تحت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالت الشيعة: هو علي لأن فاطمة ابنة رسول الله صلى الله عليه   (1) زاد في المطبوعة: وله لقط المنافع في الطب، ولم يرد ذلك في المخطوطات. (2) ص: يتغالون. (3) يقولوا: كذا في ص والمسودة، وله وجه. (4) ر: كان يكتب. (5) كذا في المسودة وس ر ص، والضمير عائد غلى الفرقتين: السنة والشيعة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 141 وسلم، وهذا من لطائف الأجوبة، ولو حصل بعد الفكر التام وإمعان النظر كان في غاية الحسن فضلاً عن البديهة. وله محاسن كثيرة يطول شرحها. وكانت ولادته بطريق التقريب سنة ثمان، وقيل عشر وخمسمائة. وتوفي ليلة الجمعة ثاني عشر شهر رمضان سنة سبع وتسعين وخمسمائة ببغداد ودفن بباب حرب، وتوفي والده في سنة أربع عشرة وخمسمائة رحمهما الله تعالى. وحمادى: بضم الحاء المهملة وتشديد الميم وبعد الألف دال مهملة مفتوحة وياء مفتوحة. والجوزي: بفتح الجيم وسكون الواو وبعدها زاي، هذه النسبة إلى فرضة الجوز، وهو موضع مشهور (1) . ورأيت بخطي في مسوداتي أن جده كان من مشرعة الجوز، إحدى محال بغداد بالجانب الغربي، والله أعلم. وقال ابن النجار في تاريخ بغداد: كان أبو الفرج ابن الجوزي يقول: لا أتحقق مولدي غير أن والدي مات سنة أربع عشرة وقالت الوالدة: كان لك من العمر نحو ثلاث سنين. وكان والده يعمل الصفر بنهر القلايين، والله أعلم. (95) وكان ولده محيي الدين أبو محمد يوسف بن عبد الرحمن محتسب بغداد وتولى تدريس المدرسة المستنصرية لطائفة الحنابلة، وكان يتردد في الرسائل إلى الملوك، وصار أستاذ دار الخلافة، ومولده ليلة السبت ثالث عشر ذي القعدة سنة ثمانين وخمسمائة ببغداد، وتوفي في وقعة التتر قتيلاً سنة ثلاث وخمسين وستمائة. (96) وكان سبطه شمس الدين أبو المظفر يوسف بن قزغلي الواعظ المشهور حنفي المذهب، وله صيت وسمعة في مجالس وعظه وقبول عند الملوك وغيرهم، وصنف تاريخاً كبيراً رأيته بخطه في أربعين مجلداً سماه " مرآة الزمان "، وتوفي ليلة الثلاثاء حادي عشرين ذي الحجة سنة أربع وخمسين وستمائة بدمشق بمنزله بجبل قاسيون ودفن هناك، ومولده سنة إحدى وثمانين وخمسمائة ببغداد، رحمه الله تعالى، وكان هو يقول: أخبرتني أمي أن مولدي سنة اثنتين وثمانين (2) .   (1) إلى هنا انتهت الترجمة في س م. (2) " ورأيت يخطي " إلى آخر الترجمة: لم يرد في المطبوعة المصرية وهو ثابت في المسودة وص ر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 142 371 - (1) السهيلي أبو القاسم وأبو زيد عبد الرحمن بن الخطيب أبي محمد عبد الله ابن الخطيب أبي عمر أحمد بن أبي الحسن أصبغ بن حسين بن سعدون بن رضوان بن فتوح، وهو الداخل إلى الأندلس. - قال الحافظ أبو الخطاب ابن دحية (2) : هكذا أملى علي نسبه - الخثعمي السهيلي الإمام المشهور صاحب كتاب " الروض الأنف " في شرح سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وله كتاب " التعريف والإعلام فيما أبهم في القرآن من الأسماء الأعلام "، وله كتاب " نتائج الفكر " ومسألة رؤية الله تعالى في المنام، ورؤية النبي صلى الله عليه وسلم، ومسألة السر في عور الدجال، ومسائل كثيرة مفيدة. وقال ابن دحية: أنشدني وقال: إنه ما سأل الله تعالى بها حاجةً إلا أعطاه إياها وكذلك من استعمل إنشادها وهي: يا من يرى ما في الضمير ويسمع ... أنت المعد لكل ما يتوقع يا من يرجى للشدائد كلها ... يا من إليه المشتكى والمفزع يا من خزائن رزقه في قول كن ... امنن فإن الخير عندك أجمع ما لي سوى فقري إليك وسيلةٌ ... فبالإفتقار إليك فقري أدفع ما لي سوى قرعي لبابك حيلةٌ ... فلئن رددت فأي باب أقرع ومن الذي أدعو وأهتف باسمه ... إن كان فضلك عن فقيرك يمنع حاشا لمجدك أن يقنط عاصياً ... الفضل أجزل والمواهب أوسع   (1) ترجمة السهيلي في زاد المسافر: 96 وبغية الملتمس (رقم: 1025) والتكملة (رقم: 1613 والديباج المذهب: 150 والمغرب 1: 448 والنفح 2: 102 ونكت الهميان: 187 وانباه الرواة 2: 162 وتذكرة الحفاظ: 1348 وعبر الذهبي 4: 244 والشذرات 4: 271 وغاية النهاية 1: 371؛ والترجمة هنا مطابقة لما في المسودة. (2) انظر المطرب: 230 وفيه ترجمة مطولة له. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 143 وأشعاره كثيرة وتصانيفه ممتعة، وكان ببلده يتسوغ بالعفاف ويتبلغ بالكفاف، حتى نمي خبره إلى صاحب مراكش فطلبه إليها وأحسن إليه، وأقبل بوجه الإقبال عليه، وأقام بها نحو ثلاثة أعوام. ومولده سنة ثمان وخمسمائة بمدينة مالقة. وتوفي بحضرة مراكش يوم الخميس ودفن وقت الظهر، وهو السادس والعشرون من شعبان سنة إحدى وثمانين وخمسمائة، رحمه الله تعالى؛ وكان مكفوفاً. والخثعمي: بفتح الخاء الموحدة وسكون الثاء المثلثة وفتح العين المهملة وبعدها ميم، هذه النسبة إلى خثعم بن أنمار، وهي قبيلة كبيرة، وفيه اختلاف. والسهيلي: بضم السين المهملة وفتح الهاء وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها لام، هذه النسبة إلى سهيل، وهي قرية بالقرب من مالقة، سميت باسم الكوكب لأنه لا يرى في جميع بلاد الأندلس إلا من جبل مطلٍ عليها (1) . ومالقة: بفتح الميم وبعد الألف لام مفتوحة ثم قاف مفتوحة وبعدها هاء، وهي مدينة كبيرة بالأندلس، وقال السمعاني: بكسر اللام وهو غلط (2) .   (1) انظر الروض المعطار: 180. (2) إلى هنا تنتهي النسخة وقد جاء في ختامها: (نجز الجزء الأول من وفيات الأعيان بحمد الله ومنه وإعانته وحسن توفيقه سنة خمس وثلاثين وسبعمائة، علقه لنفسه الفقير إلى الله عز وجل محمد بن الحسين بن محمود البالسي عفا الله عنه وسامحه ولطفه وكرمه، يتلوه في الجزء الثاني (ترجمة) أبي جعفر المنصور ... الخ. " قلت: وقد وضع وستنفيلد عنواناً لترجمة أبي جعفر (رقم 381 مع أنها تقدمت عنده رقم 340، ووضع بعدها عنواناً لترجمة القائم بأمر الله العباسي رقم 382 وهي من مستدركات الفوات 1: 431) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 144 372 - (1) أبو مسلم الخراساني أبو مسلم عبد الرحمن بن مسلم، وقيل عثمان، الخراساني القائم بالدعوة العباسية، وقيل هو إبراهيم بن عثمان بن يسار بن شذوس بن جودرن (2) من ولد بزرجمهر بن البختكان (3) الفارسي، قال له إبراهيم الإمام ابن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب: غير اسمك فما يتم لنا الأمر حتى تغير اسمك، فسمى نفسه عبد الرحمن، والله أعلم. كان أبوه من رستاق فريذين من قرية تسمى سنجرد (4) وكانت هذه القرية له مع عدة قرى، وقيل: إنه من قرية يقال لها ماخوان، على ثلاث (5) فراسخ من مرو، وكان بعض الأحيان يجلب إلى الكوفة مواشي، ثم إنه قاطع (6) على رستاق فريذين، فلحقه فيه عجز، وأنفذ عامل البلد إليه من يشخصه إلى الديوان، وكان له عند أذين بنداذ ابن وستجان جارية اسمها وشيكة جلبها من الكوفة، فأخذ الجارية معه وهي حامل، وتنحى عن مؤدى خراجه آخذاً إلى أذربيجان، فاجتاز على رستاق فاتق بعيسى بن معقل بن عمير أخي إدريس بن معقل جد أبي دلف العجلي فأقام عنده أياماً، فرأى في منامه   (1) أخباره في كتب التاريخ التي تناولت الدعوة العباسية كالطبري والمسعودي واليعقوبي وابن الأثير وابن خلدون وغيرها؛ وانظر أيضاً تاريخ بغداد 10: 207 والمعارف: 270 وميزان الاعتدال 2: 589 وعبر الذهبي 2: 589 وعبر الذهبي 1: 386 والشذرات 1: 179، وابتداء من هذه الترجمة تشترك نسخة كوبريللي (ورمزها ل) مع سائر المخطوطات. (2) ر: جودون. (3) الكاف هنا فارسية النطق. (4) ل: سنجر. (5) كذا في المسودة. (6) س: قطع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 145 كأنه جلس للبول فخرج من إحليله نار وارتفعت في السماء وسدت الأفاق وأضاءت الأرض ووقعت بناحية المشرق، فقص رؤياه على عيسى بن معقل فقال له: ما أشك أن في بطنها غلاماً، ثم فارقه ومضى إلى أذربيجان ومات بها. ووضعت الجارية أبا مسلم، ونشأ عند عيسى، فلما ترعرع اختلف مع ولده إلى المكتب، فخرج أديباً لبيباً يشار إليه في صغره. ثم إنه اجتمع على عيسى بن معقل وأخيه إدريس جد أبي دلف العجلي بقايا من الخراج تقاعدا من أجلها عن حضور مؤدى الخراج بأصبهان، فأنهى عامل أصبهان خبرهما إلى خالد بن عبد الله القسري والي العراقين، فأنفذ خالد من الكوفة (1) من حملهما إليه بعد قبضه عليهما، فتركهما خالد في السجن، فصادفا فيه عاصم بن يونس العجلي محبوساً بسبب من أسباب الفساد، وقد كان عيسى بن معقل قبل أن يقبض عليه أنفذ أبا مسلم إلى قرية من رستاق فاتق لاحتمال غلتها، فلما اتصل به خبر عيسى بن معقل باع ما كان احتمله من الغلة وأخذ ما كان اجتمع عنده من ثمنها ولحق بعيسى بن معقل، فأنزله عيسى بداره في بني عجل، وكان يختلف إلى السجن ويتعهد عيسى وإدريس ابني معقل. وكان قد قدم الكوفة جماعة من نقباء الإمام محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب - الآتي ذكره إن شاء الله تعالى - مع عدة من الشيعة الخرسانية، فدخلوا على العجليين السجن مسلمين، فصادفوا أبا مسلم عندهم، فأعجبهم عقله ومعرفته وكلامه وأدبه، ومال هو إليهم ثم عرف أمرهم وأنهم دعاة، واتفق مع ذلك هرب عيسى وإدريس من السجن، فعدل أبو مسلم من دور بني عجل إلى هؤلاء النقباء، ثم خرج معهم إلى مكة، حرسها الله تعالى، فأورد النقباء على إبراهيم بن محمد الإمام - المذكور في ترجمة أبيه محمد بن علي وقد تولى الإمامة بعد وفاة أبيه - عشرين ألف دينار ومائتي ألف درهم، وأهدوا إليه أبا مسلم، فأعجب به وبمنطقه وعقله وأدبه، وقال لهم: هذا عضلة من العضل. وأقام أبو مسلم عند الإمام إبراهيم يخدمه حضراً وسفراً.   (1) من الكوفة: سقط من ل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 146 ثم إن النقباء عادوا إلى إبراهيم الإمام وسألوه رجلاً يقوم بأمر خراسان، فقال: إني قد جربت هذا الأصبهاني وعرفت ظاهره وباطنه فوجدته حجر الأرض، ثم دعا أبا مسلم وقلده الأمر وأرسله إلى خراسان وكان من أمره ما كان. وكان إبراهيم الإمام قد أرسل إلى أهل خراسان سليمان بن كثير الحراني يدعوهم إلى أهل البيت، فلما بعث أبا مسلم أمر من هناك بالسمع والطاعة له، وأمره أن لا يخالف سليمان بن كثير، فكان أبو مسلم يختلف ما بين إبراهيم وسليمان. وقال المأمون، وقد ذكر أبو مسلم عنده: أجل ملوك الأرض ثلاثة، وهم اللذين قاموا بثقل الدول: الاسكندر وأردشير وأبو مسلم الخراساني. وكان أبو مسلم يدعو الناس إلى رجل من بني هاشم وأقام على ذلك سنين وفعل في خراسان وتلك البلاد ما هو مشهور ولا حاجة إلى الإطالة بذكره. وكان مروان بن محمد، آخر ملوك بني أمية، يحتال على الوقوف على حقيقة الأمر وأن أبا مسلم إلى من يدعو منهم، فلم يزل على ذلك حتى ظهر له أن الدعاء لإبراهيم الإمام (1) ، وكان مقيماً عند اخوته وأهله بالحميمة - الآتي ذكرها في ترجمة جده علي بن عبد الله بن العباس رضي الله عنهما - فأرسل إليه وقبض عليه وأحضره إلى حران فأوصى إبراهيم بالأمر من بعده لأخيه عبد الله السفاح. ولما وصل إبراهيم إلى حران حبسه مروان بها ثم غمه بجراب طرح فيه نورة وجعل فيه رأسه وسد عليه إلى أن مات، وذلك في صفر سنة اثنتين وثلاثين ومائة، وقيل إنه قتله غير هذه القتلة لكن هذا هو الأكثر، وكان عمره إحدى وخمسين سنة، وكان دفنه هناك داخل حران. ثم صار أبو مسلم يدعو الناس إلى أبي العباس عبد الله بن محمد الملقب السفاح. وكان بنو أمية يمنعون بني هاشم من نكاح الحارثية للخبر المروي في ذلك أن هذا الأمر يتم لابن الحارثيه، فلما قام عمر بن عبد العزيز بالأمر أتاه محمد بن علي   (1) قدم القول إنه سيذكر إبراهيم الإمام في ترجمة أبيه، وها هو يذكره هنا، والنص من المزيدات في حاشية المسودة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 147 وقال: إني أردت أن اتزوج ابنة خالي من بني الحارث بن كعب، أفتأذن لي قال: تزوج من شئت، فتزوج ريطة بنت عبيد الله بن عبد الله بن عبد المدان بن الركال بن قطن بن زياد بن الحارث بن كعب، فأولدها السفاح المذكور، فتولى الخلافة (1) . ووصف المدائني أبا مسلم فقال: كان قصيراً أسمر جميلاً حلواً نقي البشرة أحور العين عريض الجبهة حسن اللحية وافرها طويل الشعرة طويل الظهر قصير الساق والفخذ خافض الصوت، فصيحاً بالعربية والفارسية حلو المنطق راوية للشعر عالماً بالأمور، لم ير ضاحكاً ولا مازحاً إلا في وقته ولا يكاد يقطب في شيء من أحواله، تأتيه الفتوحات العظام فلا يظهر عليه أثر السرور، وتنزل به الحوادث الفادحة (2) فلا يرى مكتئباً، وإذا غضب لم يستفزه الغضب، ولا يأتي النساء في السنة إلا مرة واحدة، ويقول: الجماع جنون ويكفي الإنسان أن يجن في السنة مرة، وكان من أِشد الناس غيرةً [ايدخل قصره غيره، وكان في القصر كوى يطرح لنسائه منها ما يحتجن إليه، قالوا: وليلة زفت أليه امرأته أمر بالبرذون الذي ركبته فذبح وأحرق سرجه، لئلا يركبه ذكر بعدها، وقال له ابن شبرمة: أصلح الله الأمير، من أشجع الناس قال: كل قوم في إقبال دولتهم؛ وكان أقل الناس طمعاً، واكثرهم طعاماً، ولما حج نادى في الناس: برئت الذمة ممن أوقد ناراً، فكفى العسكر ومن معه أمر طعامهم وشرابهم في ذهابهم وإيابهم ومنصرفهم، وهربت الأعراب، فلم يبق في المناهل منهم أحد لما كانوا يسمعونه من سفكه الدماء: قتل في دولته ستمائة ألف صبراً، فقيل لعبد الله بن المبارك: أبو مسلم خير أو الحجاج قال: لا أقول إن أبا مسلم خيراً من أحد، ولكن الحجاج كان شراً منه] (3) .   (1) وكان أبو مسلم يدعو ... الخلافة: ورد في المسودة ور وبعضه في م ولم يرد في سائر النسخ والمطبوعة المصرية. (2) ل: القادحة، وسقطت من م. (3) ما بين معقفين لم يرد في النسخ الخطية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 148 وقيل له: بم بلغت ما بلغت فقال: ما أخرت أمر يومي إلى غد قط. وذكر الزمخشري في كتاب " ربيع الأبرار " في باب " الأسنان وذكر الصبا والشباب " أن أبا مسلم نهض للدعوة وهو ابن ثماني عشرة سنة، وقتل وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة. وقال الزمخشري أيضاً في كتابه المذكور انه كان عظيم القدر - يعني أبا مسلم - وأنه قدم مرة فتلقاه ابن أبي ليلى القاضي المشهور فقبل يده، فقيل له في ذلك فقال: قد لقي أبو عبيدة ابن الجراح عمر ابن الخطاب رضي الله عنهما فقبل يده، فقيل له: أتشبه أبا مسلم بعمر فقال: أتشبهونني بأبي عبيدة (1) وكان له إخوة من جملتهم يسار جد علي بن حمزة بن عمارة بن حمزة بن يسار الأصبهاني. وكانت ولادته في سنة مائة للهجرة، والخليفة يومئذ عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، في رستاق فاتق، بقرية يقال لها ناوانه (2) ، ويدعي أهل مدينة جي الأصبهانية أن مولده بها. ولما ظهر بخراسان كان أول ظهوره بمرو يوم الجمعة لتسع بقين، وقال الخطيب لخمس بقين من شهر رمضان سنة تسع وعشرين ومائة، والوالي بخراسان يومئذ نصر بن سيار الليثي من جهة مروان بن محمد آخر ملوك بني أمية، فكتب نصر إلى مروان: أرى جذعاً إن يئن لم يقو ريضٌ ... عليه، فبادر قبل أن يُثني الجذع وكان مروان مشغولاً عنه بغيره من الخوارج بالجزيرة الفراتية وغيرها منهم الضحاك بن قيس الحروري وغيره فلم يجبه عن كتابه، وأبو مسلم يوم ذاك في خمسين رجلاً، فكتب إليه ثانية قول أبي مريم عبد الله بن إسماعيل البجلي الكوفي وهو من جملة أبيات كثيرة، وكان أبو مريم منقطعاً إلى نصر بن سيار وكان له مكتب بخراسان:   (1) انظر هذا الخبر في البصائر والذخائر 2/2: 812. (2) كذا في المسودة وس؛ ر: ماوان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 149 أرى خلل الرماد وميض نارٍ ... ويوشك أن يكون لها ضرام فإن النار بالزندين تورى ... وإن الحرب أولها كلام لئن لم يطفها عقلاء قوم ... يكون وقودها جثثٌ وهام أقول من التعجب ليت شعري ... أأيقاظٌ أمية أم نيام فإن كانوا لحينهم نياماً ... فقل قوموا فقد حان القيام وهذا مثل ما يحكى عن بعض علوية الكوفة أنه قال، لما خرج محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه على أبي جعفر المنصور وأخوه إبراهيم بن عبد الله: أرى ناراً تشب على يفاعٍ ... لها في كل ناحية شعاع وقد رقدت بنو العباس عنها ... وباتت وهي آمنةٌ رتاع كما رقدت أمية ثم هبت ... تدافع حين لا يغني الدفاع رجعنا إلى الأول: فانتظر ابن سيار ما يكون من مروان، فجاءه جوابه وهو يقول: إنا حين وليناك خراسان، والشاهد يرى ما يرى الغائب، فحسم الثؤلول قبلك، فقال نصر حين أتاه الجواب: قد أعلمكم أن لا نصر عنده، ثم كتب ثانياً (1) فأبطأ عنه الجواب. واشتدت شوكة أبي مسلم فهرب نصر من خراسان وقصد العراق، فمات في الطريق بناحية ساوة، وقيل أنه مرض بالري وحمل إلى ساوة وهي بالقرب من همذان، فمات بها في شهر ربيع الأول سنة إحدى وثلاثين ومائة، وكانت ولايته بخراسان عشر سنين. وفي يوم الثلاثاء لليلتين بقيتا من المحرم سنة اثنتين وثلاثين ومائة وثب أبو مسلم على علي بن جديع بن علي الكرماني بنيسابور فقتله بعد أن قيده وحبسه،   (1) وهذا مثل ما يحكى ... كتب ثانياً: ورد في المسودة وم ر ووستنفيلد وسقط من سائر النسخ والمطبوعة المصرية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 150 وقعد في الدست وسلم عليه بالإمرة وصلى وخطب ودعا للسفاح أبي العباس عبد الله بن محمد أول خلفاء بني العباس، وصفت له خراسان وانقطعت عنها ولاية بني أمية. ثم سير العساكر لقتال مروان بن محمد، وظهر السفاح بالكوفة وبويع بالخلافة ليلة الجمعة لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الآخر وقيل الأول سنة اثنتين وثلاثين ومائة، وقيل غير هذا التاريخ. وتجهزت العساكر الخراسانية وغيرها من جهة السفاح لقصد مروان بن محمد ومقدمها عبد الله بن علي عم السفاح، فتقدم مروان إلى الزاب، النهر الذي بين الموصل وإربل، وكانت الوقعة على كشاف - بضم الكاف وهي قرية هناك -، وانكسر عسكر مروان وهرب إلى الشام، فتبعه عبد الله بجيوشه، فهرب إلى مصر، فأقام عبد الله بدمشق وأرسل جيشاً وراء مروان مع الأصفر - وقيل: مصفر - وعامر بن إسماعيل الجرجاني (1) . فلما وصل إلى بوصير القرية التي عند الفيوم قتل بها ليلة الأحد لثلاث بقين من ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين ومائة، رحمه الله تعالى، وقيل في ذي القعدة من السنة، قتله عامر المذكور، واحتزوا رأسه وبعثوه إلى السفاح، فبعثه السفاح إلى أبي مسلم وأمره يطيف به في بلاد خراسان. وقيل لمروان: ما الذي أصارك إلى هذا قال: قلة مبالاتي بكتب نصر بن سيار لما استنصرني وهو بخراسان (2) . فاستقل السفاح بالخلافة، وخلا له الوقت من منازع. [وقال أبو عثمان التيمي قاضي مروان بن محمد: رأيت في منامي كأن عاتكة بنت عبد الله بن يزيد بن معاوية ناشرة شعرها وهي واقفة على مرقى بين مراقي منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تنشد بيتين من قصيدة الأحوص التي أولها: يا بيت عاتكة الذي أتعزّل ...   (1) فأقام عبد الله ... الجرجاني: زيادة من ر والمسودة ووستنفيلد، ولم يرد في المطبوعة المصرية. (2) وقيل في ذي القعدة ... بخراسان: من ر والمسودة ووستنفيلد، ولم يرد في المطبوعة المصري. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 151 أين الشباب وعيشنا اللذّ الذي ... كنا به زمنا نسر ونجذل ذهبت بشاشته وأصبح ذكره ... حزناً يعل به الفؤاد وينهل قال أبو عثمان التيمي: فلم يكن بين ذلك وبين الحادثة على بني أمية إلا أقل من شهر. ووجد بخط محمد بن أسعد قال: كان الخراز يقول: من أعجب أحاديث مروان بن محمد ما رواه المدائني قال: لما حاصر مروان تدمر فظفر بها وهدم دورها افضى إلى جرن طويل، فلم يشك مروان والحاضرون أن تحته كنزاً، فنبشوه فإذا امرأة مسجاة عظيمة الخلق على قفاها فوق سرير من حجارة عليها سبعون حلة منسوجة بالذهب جرباناتها، لها غدائر من رأسها إلى رجليها، فذرع قدمها فكانت عظيمة الساق، وكان طولها سبعة أذرع، وإذا عند رأسها صفيحة من نحاس مكتوب عليها بالحميرية، فطلب من قرأه فإذا فيه: أنا تدمر بنت حسان بن أذينة بن السميدع بن هرم العماليقي، من دخل علي بيتي هذا فأزعجني منه حتى يراني أدخل الله عليه المهانة والذل والصغار؛ فلما قرىء المكتوب على مروان عظم عليه وندم على ما كان منه وتطير بذلك وجعل يسترجع، ثم أمر بطبق الجرن وأن يرد إلى موضعه، وما كان بين ذلك وبين الظفر به وزوال الملك واستباحة حريمه إلا قليل] (1) . وكان السفاح كثير التعظيم لأبي مسلم لما صنعه ودبره، وكان أبو مسلم عند ذلك ينشد في كل وقت: أدركت بالحزم والكتمان ما عجزت ... عنه ملوك بني مروان إذ حشدوا ما زلت أسعى بجهدي في دمارهم ... والقوم في غفلة بالشام قد رقدوا حتى ضربتهم بالسيف فانتبهوا ... من نومةٍ لم ينمها قبلهم أحد ومن رعى غنماً في أرض مسبعةٍ ... ونام عنها تولى رعيها الأسد   (1) ما بين معقفين زيادة من ر ثابتة عند وستنفيلد، وقد أشار المؤلف في المسودة إلى وجود " تخريجة " في هذا الموضع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 152 ولما مات السفاح في ذي الحجة سنة ست وثلاثين ومائة بعلة الجدري - وكانت وفاته بالأنبار - وتولى الخلافة أخوه أبو جعفر المنصور يوم الأحد لثلاث عشرة ليلة خلت من ذي الحجة من السنة وهو بمكة، صدرت من أبي مسلم أسباب وقضايا غيرت قلب المنصور عليه فعزم على قتله، وبقي حائراً بين الاستبداد برأيه في أمره أو الاستشارة، فقال يوماً لسلم بن قتيبة بن مسلم الباهلي: ما ترى في أمر أبي مسلم قال: " لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا " الأنبياء:22 " فقال: حسبك يا ابن قتيبة، لقد أودعتها أذناً واعية. وكان أبو مسلم قد حج، فلما عاد نزل الحيرة التي عند الكوفة وكان بها نصراني عمره مائتا سنة يخبر عن الكوائن، فأحضره وسمع كلامه، وكان في جملته أنه يقتل، وقال له: إن صرت إلى خراسان سلمت، فعزم على الرجوع إليها (1) . فلم يزل المنصور يخدعه بالرسائل حتى أحضره إليه، وكان أبو مسلم ينظر في كتب الملاحم ويجد خبره فيها وأنه مميت دولة ومحيي دولة وأنه يقتل ببلاد الروم، وكان المنصور يومئذٍ برومية المدائن التي بناها كسرى، ولم يخطر بقلب أبي مسلم أنها موضع قتله، بل راح وهمه إلى بلاد الروم، فلما دخل على المنصور رحب به ثم أمره بالانصراف إلى مخيمه، وانتظر المنصور فيه الفرص والغوائل، ثم إن أبا مسلم ركب إليه مراراً فأظهر له التجني، ثم جاءه يوماً فقيل له: إنه يتوضأ للصلاة، فقعد تحت الرواق، ورتب المنصور له جماعة يقفون وراء السرير الذي خلف أبي مسلم، فإذا عاتبه لا يظهرون فإذا ضرب يداً على يد ظهروا وضربوا عنقه؛ ثم جلس المنصور ودخل عليه أبو مسلم فسلم فرد عليه وأذن له في الجلوس وحادثه ثم عاتبه وقال: فعلت وفعلت، فقال أبو مسلم: ما يقال هذا لي بعد سعيي واجتهادي وما كان مني، فقال له: يا ابن الخبيثة إنما فعلت ذلك بجدنا وحظنا، ولو كان مكانك أمة سوداء لعملت عملك (2) ،   (1) وكان أبو مسلم ... الرجوع إليها: من ر والمسودة، واردة عند وستنفيلد، ساقطة من المطبوعة المصرية. (2) ر: ما عملت. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 153 ألست الكاتب إلي تبدأ بنفسك قبلي ألست الكاتب تخطب عمتي آسيا وتزعم أنك ابن سليط (1) بن عبد الله بن العباس لقد ارتقيت لا أم لك مرتقىً صعباً. فأخذ أبو مسلم بيده يعركها ويقبلها ويعتذر إليه، فقال له المنصور وهو آخر كلامه: قتلني الله إن لم أقتلك، ثم صفق بإحدى يديه على الأخرى، فخرج إليه القوم وخبطوه بسيوفهم، والمنصور يصيح (2) : اضربوا قطع الله أيديكم، وكان أبو مسلم قد قال عند أول ضربة: استبقني يا أمير المؤمنين لعدوك، قال: لا أبقاني الله أبداً إذاً (3) ، وأي عدو أعدى منك وكان قتله يوم الخميس لخمس بقين من شعبان، وقيل لليلتين، وقيل يوم الأربعاء لسبع ليال خلون منه، سنة سبع وثلاثين ومائة، وقيل سنة ست وثلاثين، وقيل سنة أربعين وهذا القول ضعيف، وكان قتله برومية المدائن، وهي بلدة بالقرب من بغداد على دجلة بالجانب الغربي معدودة من مدائن كسرى. ولما قتله أدرجه في بساط فدخل عليه جعفر بن حنظلة فقال له المنصور: ما تقول في أمر (4) أبي مسلم فقال: يا أمير المؤمنين، إن كنت أخذت من رأسه شعرة فاقتل ثم اقتل ثم اقتل، فقال المنصور: وفقك الله، هاهو في البساط، فلما نظر إليه قتيلاً قال: يا أمير المؤمنين عد هذا اليوم أول خلافتك، فأنشد المنصور: فألقت عصاها واستقرت بها النوى ... كما قر عيناً بالإياب المسافر ثم أقبل المنصور على من حضره، وأبو مسلم طريح بين يديه وأنشد: زعمت أن الدين لا يقتضى ... فاستوف بالكيل أبا مجرم اشرب بكأسٍ كنت تسقي بها ... أمر في الحلق من العلقم   (1) هامش المسودة: خ: من ولد سليط. (2) ر: يقول. (3) ر: لا أبقاني الله أبداً إن أنا أبقيتك. (4) س: قتل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 154 وكان المنصور بعد قتله أبا مسلم كثيراً ما ينشد جلساءه قول بعضهم: طوى كشحه عن أهل كل مشورةٍ ... وبات يناجي عزمه ثم صمما وأقدم لما لم يجد ثم مذهباً ... ومن لم يجد بداً من الأمر أقدما قلت: ومن ها هنا أخذ البحتري قوله في قصيدته التي مدح بها الفتح بن خاقان صاحب المتوكل على الله وقد لقي أسداً في طريقه فلم يقدم عليه الأسد فقتله الفتح، وهي من غرر قصائده والمقصود منها قوله: فأحجم لما لم يجد فيك مطمعاً ... وأقدم لما لم يجد منك مهربا (1) والله أعلم (2) . وقد اختلف الناس في نسب أبي مسلم، فقيل إنه من العرب، وقيل من العجم، وقيل من الأكراد، وفي ذلك يقول أبو دلامة المقدم ذكره (3) : أبا مجرم ما غير الله نعمةً ... على عبده حتى يغيرها العبد أفي دولة المنصور حاولت غدرةً ... ألا إن أهل الغدر آباؤك الكرد أبا مجرم خوفتني القتل فانتحى ... عليك بما خوفتني الأسد الورد ورومية: بضم الراء وسكون الواو وكسر الميم وفتح الياء المثناة من تحتها وبعدها هاء ساكنة، بناها الإسكندر ذو القرنين لما أقام بالمدائن، وكان قد طاف الأرض شرقاً وغرباً، كما أخبر عنه الباري تعالى في القرآن الكريم ولم يختر منها منزلاً سوى المدائن فنزلها، وبنى رومية المذكورة إذ ذاك، والله أعلم.   (1) ديوان البحتري 1: 200. (2) وكان المنصور ... أعلم: سقطت من المطبوعة المصرية وثبتت في المسودة ووستنفيلد. (3) ر: وفي ذلك يقول بعضهم: وقد مر هذا في ترجمة أبي دلامة رقم: 244 من زيادات النسخ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 155 373 - (1) الخطيب ابن نباتة الخطيب أبو يحيى عبد الرحيم بن محمد بن إسماعيل بن نباتة، الحذاقي الفارقي صاحب الخطب المشهورة؛ كان إماماً في علوم الأدب، ورزق السعادة في خطبه التي وقع الإجماع على أنه ما عمل مثلها، وفيها دلالة على غزارة علمه وجودة قريحته. وهو من أهل ميافارقين، وكان خطيب حلب وبها اجتمع بأبي الطيب المتنبي في خدمة سيف الدولة بن حمدان، وقالوا: إنه سمع عليه بعض ديوانه (2) . وكان سيف الدولة كثير الغزوات فلهذا أكثر الخطيب من خطب الجهاد ليحض الناس عليه، ويحثهم على نصرة سيف الدولة، وكان رجلاً صالحاً. وذكر الشيخ (3) تاج الدين الكندي بإسناده المتصل إلى الخطيب ابن نباتة أنه قال: لما عملت خطبة المنام وخطبت بها يوم الجمعة رأيت ليلة السبت في منامي كأني بظاهر ميافارقين عند الجبانة فقلت: ما هذا الجمع فقال لي قائل: هذا النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أصحابه، فقصدت إليه لأسلم عليه، فلما دنوت منه التفت فرآني فقال: مرحباً يا خطيب الخطباء، كيف تقول وأومأ إلى القبور؛ قلت: لا يخبرون بما إليه آلوا، ولو قدروا على المقال لقالوا، قد شربوا من الموت كأساً مرة، ولم يفقدوا من أعمالهم ذرة، وآلى عليهم الدهر   (1) له ترجمة في عبر الذهبي 2: 367 والشذرات 3: 83، وانظر بروكلمان 2: 108 (الترجمة العربية) . (2) وقالوا ... ديوانه: سقط من ل. (3) س ل: ورأى النبي صلى الله عليه وسلم في منامه وهو في المقابر، قال: فاشار بيده إلى القبور وقال: يا خطيب كيف قلت ... الخ؛ وهذه هي الرواية المثبتة في متن المسودة وقد كتب فوقها: " هاهنا تكتب التخريجة " وقد شطب على الأسطر المذكورة بخط ضعيف؛ وهذا ربما يدل على أن المؤلف كان ينوي إدراج السند وإحداث تغيير النقل، وقد أوردت النسخة ر النص كما أثبتناه هنا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 156 ألية برة، ألا يجعل لهم إلى دار الدنيا كرة، كأنهم لم يكونوا للعيون قرة، ولم يعدوا في الأحياء مرة، أسكتهم والله الذي أنطقهم، وأبادهم الذي خلقهم، وسيجدهم كما أخلقهم، ويجمعهم كما فرقهم [يوم يعيد الله العالمين خلقاً جديداً، ويجعل الظالمين لنار جهنم وقوداً، يوم تكونون شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً - وأومأت عند قولي " تكونون شهداء على الناس " إلى الصحابة وبقولي " شهيداً " إلى الرسول صلى الله عليه وسلم - " يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً "، فقال لي: أحسنت، ادن، فدنوت منه صلى الله عليه وسلم فأخذ وجهي وقبله] (1) ثم تفل في فيَّ وقال: وفقك الله، قال: فانتبهت من النوم وبي من السرور ما يجل عن الوصف فأخبرت أهلي بما رأيت. قال الكندي بروايته (2) : وبقي الخطيب بعد هذا المنام ثلاثة أيام لا يطعم طعاماً ولا يشتهيه، ويوجد في فيه رائحة المسك، ولم يعش إلا مدة يسيرة. ولما استيقظ الخطيب من منامه كان على وجهه أثر نور وبهجة لم تكن قبل ذلك، وقص رؤياه على الناس، وقال: سماني رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيباً، وعاش بعد ذلك ثمانية عشر يوماً لا يستطعم فيها طعاماً ولا شراباً من أجل تلك التفلة وبركتها. وهذه الخطبة التي فيها هذه الكلمات تعرف بالمنامية لهذه الواقعة. وهذا الخطيب لم أر أحداً من المؤرخين ذكر تاريخه في المولد والوفاة سوى ابن الأزرق الفارقي في تاريخه، فإنه قال: ولد في سنة خمس وثلاثين وثلثمائة. وتوفي في سنة أربع وسبعين وثلثمائة بميافارقين ودفن بها، رحمه الله تعالى. ورأيت في بعض المجاميع قال الوزير أبو القاسم ابن المغربي: رأيت الخطيب ابن نباتة في المنام بعد موته فقلت له: ما فعل الله بك فقال: دفع لي ورقة فيها سطران بالأحمر وهما: قد كان أمنٌ لك من قبل ذا ... واليوم أضحى لك أمنانِ   (1) زيادة انفردت بها ر، وقد جاءت عند وستنفيلد. (2) بعض النص الثاني سقط من س وبعضه الآخر سقط من ل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 157 والصفح لا يحسن عن محسن ... وإنما يحسن عن جاني قال: فانتبهت من النوم وأنا أكررهما. ونباتة: بضم النون وفتح الباء الموحدة وبعد الألف تاء مثناة من فوقها مفتوحة ثم هاء ساكنة. والحذاقي (1) : بضم الحاء المهملة وفتح الذال المعجمة وبعد الألف قاف، هذه النسبة إلى حذاقة بطن من قضاعة، وقال ابن قتيبة في كتاب " أخبار الشعراء " (2) : وحذاق قبيلة من إياد، والله أعلم. 374 - (3) القاضي الفاضل أبو علي عبد الرحيم ابن القاضي الأشرف بهاء الدين أبي المجد علي ابن القاضي السعيد أبي محمد الحسن بن الحسن بن أحمد بن الفرج بن أحمد اللخمي العسقلاني المولد المصري الدار، المعروف بالقاضي الفاضل الملقب مجير الدين؛ وزر للسلطان الملك الناصر صلاح الدين، رحمه الله تعالى، وتمكن منه غاية التمكن، وبرز في صناعة الإنشاء، وفاق المتقدمين، وله فيه الغرائب مع الإكثار. أخبرني أحد (4) الفضلاء الثقات المطلعين على حقيقة أمره أن مسودات رسائله في المجلدات   (1) لم يرد هذا الضبط في س ل، وورد في ر والمسودة. (2) انظر الشعر والشعراء: 162. (3) اخباره في الكتب التاريخية التي تتحدث عن الفترة الصلاحية كابن الأثير وسيرة السلطان يوسف والروضتين ومفرج الكروب، وانظر ترجمته في طبقات السبكي: 253 والنجوم الزاهرة 6: 156 وعبر الذهبي 4: 293 والشذرات 4: 324 وفي نهاية الأرب 8: 1 - 51 مجموعة من رسائله وكذلك في صبح الأعشى ورسائله الخطية في مجموعات كثيرة، وله ديوان مطبوع في جزئين بتحقيق الدكتور أحمد أحمد بدوي (القاهرة 1961) . (4) ر س: بعض. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 158 والتعليقات في الأوراق إذا جمعت ما تقصر عن مائة مجلد، وهو مجيد في أكثرها. قال العماد الأصبهاني في كتاب " الخريدة " في حقه (1) : رب القلم والبيان، واللسن واللسان، والقريحة الوقادة، والبصيرة النقادة، والبديهة المعجزة، والبديعة المطرزة، والفضل الذي ما سمع في الأوائل بمن لو عاش في زمانه لتعلق بغباره، أو جرى في مضماره، فهو كالشريعة المحمدية التي نسخت الشرائع، ورسخت بها الصنائع، يخترع الأفكار، ويفترع الأبكار، ويطلع الأنوار، ويبدع الأزهار، وهو ضابط الملك بآرائه، رابط السلك بآلائه، إن شاء أنشأ في يوم واحد بل في ساعة واحدة ما لو دون لكان لأهل الصناعة خير بضاعة، أين قس عند فصاحته وابن قيس في مقام حصافته ومن حاتم وعمرو في سماحته وحماسته وأطال القول في تقريظه. ونذكر له رسالة لطيفة كتبها على يد خطيب عيذاب إلى صلاح الدين يتشفع له في توليته خطابة الكرك وهي: " أدام الله السلطان الملك الناصر وتبته، وتقبل عمله بقبولٍ صالح وأنبته، وأخذ عدوه قائلاً أو بيته، وأرغم أنفه بسيفه وكبته، خدمة المملوك هذه واردة على يد خطيب عيذاب، ولما نبا به المنزل عنها، وقل عليه المرفق فيها، وسمع بهذه الفتوحات التي طبق الأرض ذكرها ووجب على أهلها شكرها، هاجر من هجير عيذاب وملحها، سارياً في ليلة أمل كلها نهار فلا يسأل عن صبحها. وقد رغب في خطابة الكرك وهو خطيب، وتوسل بالمملوك في هذا الملتمس وهو قريب، ونزع من مصر إلى الشام ومن عيذاب إلى الكرك وهذا عجيب، والفقر سائق عنيف، والمذكور عائل ضعيف، ولطف الله بالخلق بوجود مولانا لطيف، والسلام ". وله من جملة رسالة في صفة قلعة شاهقة ولقد أبدع فيها، ويقال إنها قلعة كوكب " وهذه القلعة عقاب في عقاب، ونجم في سحاب، وهامة لها الغمامة عمامة، وأنملة إذا خضبها الأصيل كان الهلال لها قلامة ". وملحه ونوادره كثيرة. وقوله " كان الهلال لها قلامة " أخذه من قول   (1) الخريدة (قسم مصر) 1: 35. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 159 عبد الله بن المعتز من جملة أبياته المتقدم ذكرها في ترجمته وهو قوله: ولاح ضوء هلال كاد يفضحنا ... مثل القلامة قد قدت من الظفر وابن المعتز أخذه من قول عمرو بن قميئة وهو: كأن ابن مزنتها جانحاً ... فسيط لدى الأفق من خنصر والفسيط، بفتح الفاء وكسر السين المهملة، قلامة الظفر (1) . ومن كلامه في أثناء رسالة وقد كبر: " والمملوك قد وهت ركبتاه، وضعف أطيباه، وكتبت لام ألف عند قيامه رجلاه، ولم يبق من نظره إلا شفافة، ومن حديثه إلا خرافة ". وله في النظم أيضاً أشياء حسنة، منها ما أنشده عند وصوله إلى الفرات في خدمة السلطان صلاح الدين، رحمه الله تعالى، ويتشوق نيل مصر (2) : بالله قل للنيل عني إنني ... لم أشف من ماء الفرات غليلا وسل الفؤاد فإنه لي شاهد ... إن كان جفني بالدموع بخيلا يا قلب كم خلفت ثم بثينةً ... وأعيذ صبرك أن يكون جميلا ومن المنسوب إلى القاضي الفاضل قوله: عتبٌ أقلب فيه طرف ترقبي ... فعسى يكون وراءه الإعتاب ومن شعره أيضاً (3) : بتنا على حال يسر الهوى ... وربما لا يمكن الشرح بوابنا الليل، وقلنا له: ... إن غبت عنا دخل الصبح   (1) انظر ما تقدم ص: 80 من هذا الكتاب. (2) ديوانه: 91. (3) ديوانه: 26. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 160 ولقد نظمت هذا المعنى في دوبيت وهو: ما أطيب ليلة مضت بالسفح ... والوصف لها يقصر عنه شرحي إذ قلت لها بوابنا أنت متى ... ما غبت نخاف من دخول الصبح وكان كثيراً ما ينشد لابن مكنسة، وهو أبو طاهر إسماعيل بن محمد بن الحسين القرشي الإسكندري (1) : وإذا السعادة أحرستك عيونها ... نم فالمخاوف كلهن أمان واصطد بها العنقاء فهي حبائل (2) ... واقتد بها الجوزاء فهي عنان [وكان الملك العزيز بن صلاح الدين يميل إلى القاضي الفاضل في حياة أبيه، فاتفق أن العزيز هوي قينة شغلته عن مصالحه، وبلغ ذلك والده، فأمره بتركها ومنعها من صحبته، فشق ذلك عليه، وضاق صدره، ولم يجسر أن يجتمع بها، فلما طال ذلك بينهما سيرت له مع بعض الخدم كرة عنبر، فكسرها فوجد في وسطها زر ذهب، فأفكر فيه ولم يعرف معناه، واتفق حضور القاضي، فعرفه الصورة، فعمل القاضي الفاضل في ذلك بيتين وأرسلهما إليه وهما: أهدت لك العنبر في وسطه ... زرٌ من التبر دقيق اللحام فالزر في العنبر معناهما ... زر هكذا مستتراً في الظلام فعلم الملك العزيز أنها أرادت زيارته في الليل] (3) . وشعره أيضاً كثير. وكانت ولادته يوم الاثنين في خامس عشر جمادى الآخرة سنة تسع وعشرين وخمسمائة بمدينة عسقلان، وتولى أبوه القضاء بمدينة بيسان فلهذا نسبوا إليها،   (1) ترجمة ابن منسكة في الخريدة (قسم مصر) 2: 203 والفوات 1: 36. (2) ر: حبالة. (3) زيادة انفردت بها ر، وانظر ديوانه: 105 ومطالع البدور 1: 271. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 161 وفي ترجمة الموفق يوسف بن الخلال - في حرف الياء - صورة مبدإ أمره وقدومه الديار المصرية واشتغاله عليه بصناعة (1) الإنشاء، فلا حاجة إلى ذكره ها هنا. ثم إنه تعلق بالخدم في ثغر الاسكندرية وأقام به مدة، وقال الفقيه عمارة اليمني في كتاب " النكت العصرية في أخبار الوزراء المصرية " (2) في ترجمة العادل ابن الصالح بن رزيك: ومن محاسن أيامه وما يؤرخ عنها، بل هي الحسنة التي لا توازى، بل هي اليد البيضاء التي لا تجازى، خروج أمره إلى والي الاسكندرية بتسيير القاضي الفاضل إلى الباب، واستخدامه بحضرته وبين يديه في ديوان الجيش، فإنه غرس منه للدولة بل للملة، شجرة مباركة متزايدة النماء، أصلها ثابت وفرعها في السماء، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها. وقد تقدم ذكر ما آل إليه أمره من وزارة السلطان صلاح الدين، وترقي منزلته عنده، وبعد وفاة صلاح الدين استمر (3) على ما كان عليه عند ولده الملك العزيز في المكانة والرفعة ونفاذ الأمر، ولما توفي العزيز وقام ولده الملك المنصور بالملك بتدبير عمه الملك الأفضل نور الدين كان أيضاً على حاله. ولم يزل كذلك إلى أن وصل الملك العادل وأخذ الديار المصرية، وعند دخوله القاهرة توفي القاضي الفاضل، وذلك في ليلة الأربعاء سابع شهر (4) ربيع الآخر سنة ست وتسعين وخمسمائة بالقاهرة، فجأة (5) ، ودفن في تربته من الغد بسفح المقطم في القرافة الصغرى، وزرت قبره مراراً، وقرأت تاريخ وفاته على الرخام المحوط حول القبر كما هو ها هنا، رحمه الله تعالى؛ وكان من محاسن الدهر وهيهات أن يخلف الزمان مثله (6) . وبنى بالقاهرة مدرسة بدرب ملوخية، ورأيت بخطه أنه استفتح التدريس بها يوم السبت مستهل المحرم من سنة ثمانين وخمسمائة. وأما لقبه فإن أهله يقولون:   (1) ر: بصنعة. (2) س: في أخبار الدولة المصرية؛ وانظر النكت: 53 - 54. (3) ر: وبعد وفاته أيضاً فإنه استمر. (4) س: سابع عشر. (5) فجأة: سقطت من ل. (6) هنا تنتهتي الترجمة في س ل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 162 إنه كان يلقب محيي الدين، ورأيت مكاتبة الشيخ شرف الدين عبد الله بن أبي عصرون - المقدم ذكره - إليه وهو يخاطبه بمجير الدين، والله أعلم بالصواب. (97) وكان ولده القاضي الأشرف بهاء الدين أبو العباس أحمد ابن القاضي الفاضل (1) كبير المنزلة عند الملوك، وكان مثابراً على سماع الحديث وتحصيل الكتب، ومولده في المحرم سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة بالقاهرة، وتوفي بها في ليلة الاثنين سابع جمادى الآخرة سنة ثلاث وأربعين وستمائة، ودفن بسفح المقطم إلى جانب قبر أبيه، وكان الملك الكامل ابن الملك العادل ابن أيوب قد سيره من مصر في رسالة إلى بغداد، فأنشد الوزير من نظمه: يا أيها المولى الوزير ومن له ... مننٌ حللن من الزمان وثاقي من شاكر عني نداك فإنني ... من عظم ما أوليت ضاق نطاقي مننٌ تخف على يديك، وإنما (2) ... ثقلت مؤونتها على الأعناقِ 375 (3) ابن جريج أبو خالد وأبو الوليد عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، القرشي بالولاء المكي، مولى أمية بن خالد بن أسيد، ويقال إن جريجاً كان عبداً لأم حبيب بنت جبير زوجة عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد بن أبي العيص بن أمية فنسب ولاؤه إليه.   (1) انظر أخباره في الشذرات 5: 218 والوافي 7: 57 (رقم 2989) وابن الشعار 1: 177. (2) ابن الشعار: وربما. (3) ترجمته في طبقات الشيرازي، الورقة: 18 وتاريخ بغداد 10: 400 وتذكرة الحفاظ: 169 وعبر الذهبي 1: 213 وميزان الاعتدال 2: 659 وغاية النهاية 1: 469 وتهذيب التهذيب 6: 402؛ والترجمة المثبتة هنا مطابقة للمسودة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 163 وكان عبد الملك أحد العلماء المشهورين، ويقال إنه أول من صنف الكتب في الإسلام، وكان يقول: كنت مع معن بن زائدة باليمن، فحضر وقت الحج فلم تحضرني نية، فخطر ببالي قول عمر بن أبي ربيعة (1) : بالله قولي له من غير معتبةٍ ... ماذا أردت بطول المكث في اليمن إن كنت حاولت دنيا أو نعمت بها ... فما أخذت بترك الحج من ثمن قال: فدخلت على معن فأخبرته أني قد عزمت على الحج، فقال لي: ما يدعوك إليه ولم تكن تذكره فقلت له: ذكرت بيتين لعمر بن أبي ربيعة، وأنشدته إياهما، فجهزني وانطلقت. وكانت ولادته سنة ثمانين للهجرة، وقدم بغداد على أبي جعفر المنصور. وتوفي سنة تسع وأربعين ومائة، وقيل سنة خمسين، وقيل إحدى وخمسين ومائة، رحمه الله تعالى. وجريج: بضم الجيم وفتح الراء وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها جيم ثانية. 376 - (2) عبد الملك بن عمير أبو عمر، ويقال أبو عمرو، عبد الملك بن عمير بن سويد بن حارثة بن املاص بن شنيف بن عبد شمس بن سعد بن الوسيع بن الحارث بن يثيع بن أزدة بن حجر بن جزيلة بن لخم اللخمي الكوفي القبطي الفرسي؛ كان قاضياً على   (1) ديوانه: 413. (2) ترجمته في تذكرة الحفاظ: 135 وعبر الذهبي 1: 184 وميزان الاعتدال 2: 660 واللباب: (الفرسي) وتهذيب التهذيب 5: 411، وقد استوفت المسودة هذه الترجمة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 164 الكوفة بعد الشعبي، وهو من مشاهير التابعين وثقاتهم ومن كبار أهل الكوفة، رأى علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، وروى عن جابر بن عبد الله. ومن أخباره أنه قال: كنت عند عبد الملك بن مروان بقصر الكوفة حين جيء برأس مصعب بن الزبير فوضع بين يديه، فرآني قد ارتعت، فقال لي: ما لك فقلت: أعيذك بالله يا أمير المؤمنين، كنت بهذا القصر بهذا الموضع مع عبيد الله بن زياد فرأيت رأس الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه بين يديه في هذا المكان، ثم كنت فيه مع المختار بن أبي عبيد الثقفي فرأيت رأس عبيد الله بن زياد بين يديه ثم كنت فيه مع مصعب بن الزبير هذا فرأيت رأس المختار فيه بين يديه، ثم هذا رأس مصعب بن الزبير بين يديك. قال: فقام عبد الملك من موضعه، وأمر بهدم ذلك الطاق الذي كنا فيه (1) . ومرض عبد الملك بن عمير مرة، فاعتذر إليه رجل من تخلفه عن عيادته، فقال له: ما كنت لألوم على ترك عيادتي رجلاً لو مرض لما عدته. وكانت وفاته سنة ست وثلاثين ومائة في ذي الحجة (2) ، وهو ابن مائة سنة وثلاث سنين. والقبطي: بكسر القاف وسكون الباء الموحدة وكسر الطاء المهملة، هذه النسبة إلى القبطي، وهو فرسٌ سابق كان له فنسب إليه. والفرسي: بالفاء والراء المفتوحتين والسين المهملة، نسبة إلى هذا الفرس أيضاً وأكثر الناس يصحفونه (3) بالقرشي، رحمه الله تعالى.   (1) انظر هذه القصة في الغيث المنسجم 2: 132. (2) في ذي الحجة: سقطت من ر، وورد موضعها في النسخ الأخرى: أو نحوها؛ وأثبتنا ما في المسودة. (3) ر: يصحفونها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 165 377 - (1) ابن الماجشون أبو مروان عبد الملك بن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون، واسمه ميمون، وقيل دينار، القرشي التيمي المنكدري مولاهم، المدني الأعمى الفقيه المالكي؛ تفقه على الإمام مالك، رضي الله عنه، وعلى والده عبد العزيز وغيرهما. وقيل إنه عمي في آخر عمره، وكان مولعاً بسماع الغناء، قال أحمد بن حنبل: قدم علينا ومعه من يغنيه. وحدث وكان من الفصحاء، روي أنه كان إذا ذاكره الإمام الشافعي رضي الله عنه لم يعرف الناس كثيراً مما يقولان، لأن الشافعي تأدب بهذيل في البادية وعبد الملك تأدب في خؤولته من كلب بالبادية. وقال يحيى بن أحمد بن المعذل: كلما تذكرت أن التراب يأكل لسان عبد الملك صغرت الدنيا في عيني. وسئل أحمد بن المعذل فقيل له: أين لسانك من لسان أستاذك عبد الملك فقال: كان لسان عبد الملك إذا تعايا أحيى من لساني إذا تحايا. ومات عبد الملك المذكور سنة ثلاث عشرة ومائتين، وقال أبو عمر ابن عبد البر: توفي سنة اثنتي عشرة، وقيل سنة أربع عشرة ومائتين، رحمه الله تعالى. والماجشون: بفتح الميم وبعد الألف جيم مكسورة ثم شين معجمة مضمومة وبعد الواو نون، وهو المورد (2) ، ويقال: الأبيض الأحمر (3) ، وهو لقب أبي   (1) ترجمته في طبقات الشيرازي، الورقة: 43 والديباج المذهب: 153 ونكت الهميان: 197 والانتقاء: 57 وميزان الاعتدال 2: 658 وعبر الذهبي 1: 363 وتهذيب التهذيب 6: 407 والشذرات 2: 28؛ والترجمة مستوفاة في المسودة. (2) ر: وقيل. (3) قيل في الماجشون إنه معرب ماء كون، ومعناه يشبه القمر، وقال في شرح الشفاء، معناه الأبيض المشرب بحمرة (التاج: ماجشون) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 166 يوسف يعقوب بن أبي سلمة المذكور، وهو عم والد عبد الملك المذكور، لقبته بذلك سكينة بنت الحسين بن علي، رضي الله عنهم، وجرى هذا اللقب على أهل بيته من بنيه وبني أخيه، وقيل إن أصلهم من أصبهان، فكان إذا سلم بعضهم على بعض قال: شوني، شوني، فسمي الماجشون، حكاه الحافظ أبو بكر أحمد بن إبراهيم الجرجاني، وقال أبو داود: كان عبد الملك الماجشون لا يعقل الحديث، قال ابن البرقي: دعاني رجل أن أمضي إليه، فجئناه فإذا هو لا يدري الحديث أيش هو، وذكره محمد بن سعد في " الطبقات الكبرى " (1) وقال: كان له فقه ورواية (2) . والمنكدري: منسوب إلى المنكدر بن عبد الله بن هدير القرشي التيمي والد محمد وأبي بكر وعمر بني المنكدر، وقد استوفى ابن قتيبة حديثهم في كتاب " المعارف " (3) في ترجمة محمد بن المنكدر. 378 - (4) إمام الحرمين أبو المعالي عبد الملك ابن الشيخ أبي محمد عبد الله بن أبي يعقوب يوسف بن عبد الله بن يوسف بن محمد بن حيويه، الجويني، الفقيه الشافعي الملقب ضياء الدين، المعروف بإمام الحرمين؛ أعلم المتأخرين من أصحاب الإمام الشافعي على الإطلاق، المجمع على إمامته المتفق على غزارة مادته وتفننه في العلوم من الأصول   (1) الطبقات 5: 442. (2) هنا تنتهي الترجمة في س ل. (3) المعارف: 461. (4) ترجمته في المنتظم 9: 18 وتبيين كذب المفتري: 278 وطبقات السبكي 3: 249 وعبر الذهبي 3: 291 والشذرات 3: 358؛ والترجمة هنا مطابقة لما في المسودة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 167 والفروع والأدب وغير ذلك، وقد تقدم ذكر والده في العبادلة (1) ، ورزق من التوسع في العبارة ما لم يعهد من غيره، وكان يذكر دروساً يقع كل واحد منها في عدة أوراق ولا يتلعثم في كلمة منها، وتفقه في صباه على والده أبي محمد، وكان يعجب بطبعه وتحصيله وجودة قريحته وما يظهر عليه من مخايل الإقبال، فأتى على جميع مصنفات والده وتصرف فيها، حتى زاد عليه في التحقيق والتدقيق. ولما توفي والده قعد مكانه للتدريس، وإذا فرغ منه مضى إلى الأستاذ أبي القاسم الإسكافي الإسفرايني بمدرسة البيهقي حتى حصل عليه علم الأصول، ثم سافر إلى بغداد ولقي بها جماعة من العلماء، ثم خرج إلى الحجاز وجاور بمكة أربع سنين (2) ، وبالمدينة، يدرس ويفتي ويجمع طرق المذهب، فلهذا قيل له إمام الحرمين، ثم عاد إلى نيسابور في أوائل (3) ولاية السلطان ألب أرسلان السلجوقي، والوزير يومئذ نظام الملك، فبنى له المدرسة النظامية بمدينة نيسابور، وتولى الخطابة بها، وكان يجلس للوعظ والمناظرة، وظهرت تصانيفه، وحضر دروسه الأكابر من الأئمة وانتهت إليه رياسة الأصحاب، وفوض إليه أمور الأوقاف، وبقي على ذلك قريباً من ثلاثين سنة غير مزاحم ولا مدافع، مسلم له المحراب والمنبر والخطابة والتدريس ومجلس التذكير يوم الجمعة. وصنف في كل فن: منها كتاب " نهاية المطلب في دراية المذهب " (4) الذي ما صنف في الإسلام مثله، قال أبو جعفر الحافظ: سمعت الشيخ أبا إسحاق الشيرازي يقول لإمام الحرمين: يا مفيد أهل المشرق والمغرب، أنت اليوم إمام الأئمة. وسمع الحديث من جماعة كبيرة من علمائه، وله إجازة من الحافظ أبي نعيم الأصبهاني صاحب " حلية الأولياء ". ومن تصانيفه " الشامل " في أصول الدين، و " البرهان " (5) في أصول الفقه، و " تلخيص التقريب " و " الإرشاد " (6)   (1) انظر ما تقدم ص: 47. (2) ر: أربعين سنة. (3) ل: أول. (4) ر: دراية ورواية المذهب. (5) ر: والبيان والبرهان. (6) ر: والإشارة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 168 و " العقيدة النظامية " و " مدارك العقول " لم يتمه، وكتاب " تلخيص نهاية المطلب " لم يتمه، و " غياث الأمم في الإمامة " و " مغيث الخلق في اختيار الأحق " و " غنية المسترشدين " في الخلاف وغير ذلك من الكتب. وكان إذا شرع في علوم الصوفية وشرح الأحوال أبكى الحاضرين، ولم يزل على طريقة حميدة مرضية من أول عمره إلى آخره. أخبرني بعض المشايخ أنه وقف على جلية أمره (1) في بعض الكتب، وأن والده الشيخ أبا محمد، رحمه الله تعالى، كان في أول أمره ينسخ بالأجرة، فاجتمع له من كسب يده شيء اشترى به جارية موصوفة بالخير والصلاح، ولم يزل يطمعها من كسب (2) يده أيضاً إلى أن حملت بإمام الحرمين، وهو مستمر على تربيتها بكسب الحل، فلما وضعته أوصاها أن لا تمكن أحداً من إرضاعه، فاتفق أنه دخل عليها يوماً وهي متألمة والصغير يبكي، وقد أخذته امرأة من جيرانهم وشاغلته بثديها فرضع منه قليلاً، فلما رآه شق عليه وأخذه إليه ونكس رأسه ومسح على بطنه وأدخل إصبعه في فيه ولم يزل يفعل به ذلك حتى قاء جميع ما شربه، وهو يقول: يسهل علي أن يموت ولا يفسد طبعه بشرب لبن غير أمه. ويحكى عن إمام الحرمين أنه كان تلحقه بعض الأحيان (3) فترةٌ في مجلس المناظرة فيقول: هذا من بقايا تلك الرضعة. ومولده في ثامن عشر المحرم سنة تسع عشرة وأربعمائة، ولما مرض حمل إلى قرية من أعمال نيسابور، يقال لها بشتنقان (4) موصوفة باعتدال الهواء وخفة الماء، فمات بها ليلة الأربعاء وقت العشاء الآخرة الخامس والعشرين من شهر (5) ربيع الآخر سنة ثمان وسبعين وأربعمائة، ونقل إلى نيسابور تلك الليلة ودفن من الغد في داره، ثم نقل بعد سنين (6) إلى مقبرة الحسين فدفن بجنب   (1) ل: عمره. (2) ل: كتب. (3) س: الأيام. (4) وضع على الباء فتحة في المسودة، وقال ياقوت بأن الباء مضمومة. (5) ر: الخامس من شهر. (6) ر: سنتين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 169 أبيه (1) ، رحمهما الله تعالى، وصلى عليه ولده أبو القاسم، فأغلقت الأسواق يوم موته وكسر منبره في الجامع وقعد الناس لعزائه وأكثروا فيه المراثي. ومما رثي به: قلوب العالمين على المقالي ... وأيام الورى شبه الليالي أيثمر غصن أهل العلم يوماً ... وقد مات الإمام أبو المعالي وكانت تلامذته يومئذٍ قريباً من أربعمائة واحد، فكسروا محابرهم وأقلامهم وأقاموا على ذلك عاماً كاملاً. 379 - (2) الأصمعي أبو سعيد عبد الملك بن قريب بن عبد الملك بن علي بن أصمع بن مظهر بن رياح بن عمرو بن عبد شمس بن أعيا بن سعد بن عبد بن غنم بن قتيبة بن معن بن مالك بن أعصر بن سعد بن قيس عيلان بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، المعروف بالأصمعي الباهلي، وإنما قيل له الباهلي وليس في نسبه اسم باهلة لأن باهلة اسم امرأة مالك بن أعصر، وقيل إن باهلة ابن أعصر. كان الأصمعي المذكور صاحب لغة ونحو، وإماماً في الأخبار والنوادر والملح والغرائب، سمع شعبة بن الحجاج والحمادين ومسعر بن كدام وغيرهم، وروى عنه عبد الرحمن ابن أخيه عبد الله وأبو عبيد القاسم بن سلام وأبو حاتم   (1) ر: بجنب قبر أبيه. (2) ترجمته في انباه الرواة 2: 197 (وفي الحاشية ثبت بمصادر أخرى) ونور القبس: 125 وأخباره متناثرة في مختلف الكتب الأدبية، كالكامل والبيان والحيوان والبخلاء والعقد والموشح وفي كتب اللغة والأماني والمعاجم وشروح الدواوين، وانظر بروكلمان 2: 147 - 151 (من الترجمة العربية) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 170 السجستاني وأبو الفضل الرياشي وغيرهم، وهو من أهل البصرة، وقدم بغداد في أيام هارون الرشيد. قيل لأبي نواس (1) : قد أحضر أبو عبيدة والأصمعي إلى الرشيد، فقال: أما أبو عبيدة فإنهم إن أمكنوه قرأ عليهم أخبار الأولين والآخرين، وأما الأصمعي فبلبل يطربهم بنغماته. وقال عمر بن شبة: سمعت الأصمعي يقول: أحفظ ستة عشر ألف أرجوزة. وقال إسحاق الموصلي: لم أر الأصمعي يدعي شيئاً من العلم فيكون أحد أعلم به منه. [وحكى محمد بن هبيرة قال (2) : قال الأصمعي للكسائي وهما عند الرشيد: ما معنى قول الراعي (3) : قتلوا ابن عفان الخليفة محرماً ... ودعا فلم أر مثله مخذولا قال الكسائي: كان محرماً بالحج، قال الأصمعي: ما أراد عدي بن زيد بقوله (4) : قتلوا كسرى بليلٍ محرماً ... فتولى لم يمتع بكفن هل كان محرماً بالحج وأي إحرامٍ لكسرى فقال الرشيد للكسائي: إذا جاء الشعر فإياك والأصمعي. قال الأصمعي: قوله " محرماً " في حرمة الإسلام ومن ثم قتل مسلماً محرماً، أي لم يحل في نفسه شيئاً يوجب القتل؛ وقوله " محرماً " في كسرى يعني حرمة العهد الذي كان في عنق أصحابه] (5) . وقال   (1) قد مر قريب من هذا في ترجمة أبي نواس ج 2: ص 100. (2) انظر مجالس العلماء: 336 (وأورد النص هنا بإيجاز واختلاف) ؛ وفي هذا الكتاب مجالس أخرى للأصمعي مع الكسائي وغيره. (3) جمهرة أشعار العرب: 337 ط. صادر. (4) ديوانه: 178. (5) ما بين معقفين زيادة من ر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 171 الربيع بن سليمان: سمعت الشافعي، رضي الله عنه، يقول: ما عبر أحد من العرب بأحسن من عبارة الأصمعي. وقال أبو أحمد العسكري: لقد حرص المأمون على الأصمعي وهو بالبصرة أن يصير إليه فلم يفعل واحتج بضعفه وكبره، فكان المأمون يجمع المشكل من المسائل ويسيرها إليه ليجيب (1) عنها. وقال الأصمعي: حضرت أنا وأبوعبيدة معمر بن المثنى عند الفضل بن الربيع فقال لي: كم كتابك في الخيل فقلت: جلد واحد، فسأل أبا عبيدة عن كتابه فقال: خمسون مجلدة (2) ، فقال له: قم إلى هذا الفرس وأمسك عضواً عضواً منه وسمه، فقال: لست بيطاراً، وإنما هذا شيء أخذته عن العرب (3) ، فقال لي: قم يا أصمعي وافعل ذلك، فقمت وأمسكت ناصيته وشرعت أذكر عضواً عضواً وأضع يدي عليه وأنشد ما قالت العرب فيه، إلى أن فرغت منه، فقال: خذه، فأخذته، وكنت إذا أردت أن أغيظ أبا عبيدة ركبته إليه. وقد روي من طريق أخرى أن ذلك كان عند هارون الرشيد، وأن الأصمعي لما فرغ من كلامه في أعضاء الفرس قال الرشيد لأبي عبيدة: ما تقول فيما قال قال: أصاب في بعض وأخطأ في بعض، فالذي أصاب فيه مني تعلمه، والذي أخطأ فيه ما أدري من أين أتى به. وكن شديد الإحتراز في تفسير الكتاب والسنة، فإذا سئل عن شيء منهما يقول: العرب تقول معنى هذا كذا، ولا أعلم المراد منه في الكتاب والسنة أي شيء هو. وأخباره ونوادره كثيرة، [حدث محمد بن الحسن بن دريد قال: حدثنا أبو حاتم عن الأصمعي قال: دخلت على الرشيد هارون ومجلسه حافل، فقال: يا أصمعي، ما أغفلك عنا وأجفاك لحضرتنا! قلت: والله يا أمير المؤمنين   (1) ر: فيجيب. (2) ر: قال فأمر بإحضار الكتابين وأحضر فرساً وقال لأبي عبيدة اقرأ كتابك حرفاً حرفاً وضع يدك في موضع موضع من الفرس، فقال لست ... الخ، قلت: وسيورد المؤلف مثل هذا النص في ترجمة أبي عبيدة أيضاً. (3) ر: أخذته وسمعته ... وألفته. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 172 ما لاقتني بلاد بعدك حتى أتيتك، قال: فأمرني بالجلوس، فجلست وسكت عني، فلما تفرق الناس إلا أقلهم نهضت للقيام، فأشار إلي أن اجلس فجلست حتى خلا المجلس ولم يبق غيري ومن بين يديه من الغلمان، فقال: يا أبا سعيد، ما معنى قولك ما لاقتني بلاد بعدك (1) قلت: ما أمسكتني يا أمير المؤمنين، وأنشدت قول الشاعر: كفاك كف ما تليق درهما ... جوداً، وأخرى تعط بالسيف دما أي: ما تمسك درهماً، فقال: أحسنت، وهكذا فكن، وقرنا في الملا، وعلمنا في الخلا، فإنه يقبح بالسلطان أن لا يكون عالماً، إما أن أسكت فيعلم الناس أني لا أفهم إذ لم أجب، وإما أن أجيب بغير الجواب فيعلم من حولي أني لم أفهم ما قلت، قال الأصمعي: فعلمني أكثر مما علمته. وحكى المبرد أيضاً قال: مازح الرشيد أم جعفر فقال لها: كيف أصبحت يا أم نهر فاغتمت لذلك ولم تفهم معناه، فأنفذت إلى الأصمعي تسأله عن ذلك، فقال: الجعفر النهر الصغير، وإنما ذهب إلى هذا، فطابت نفسها (2) . وقال أبو بكر النحوي: لما قدم الحسن بن سهل العراق قال: أحب أن أجمع قوماً من أهل الأدب، فأحضر أبا عبيده والأصمعي ونصر بن علي الجهضمي، وحضرت معهم فابتدأ الحسن فنظر في رقاعٍ بين يديه للناس في حاجاتهم، فوقع عليها، فكانت خمسين رقعة ثم أمر فدفعت إلى الخازن، ثم أقبل علينا فقال: قد فعلنا خيراً، ونظرنا في بعض ما نرجو نفعه من أمور الناس والرعية، فنأخذ الآن في ما نحتاج إليه، فأفضنا في ذكر الحفاظ، فذكرنا الزهري وقتادة ومررنا، فالتفت أبو عبيدة فقال: ما الغرض أيها الأمير في ذكر من مضى وبالحضرة ها هنا من يقول ما قرأ كتاباً قط فاحتاج إلى أن يعود فيه ولا دخل قلبه شيء فخرج عنه فالتفت الأصمعي وقال: إنما يريدني بهذا القول أيها الأمير، والأمر في ذلك على ما حكى، وأنا أقرب   (1) بلاد بعدك: سقط من ر. (2) قد مر هذا في ترجمة زبيدة ج 2 ص: 315 من هذا الكتاب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 173 إليك، قد نظر الأمير فيما نظر فيه من الرقاع، وأنا أعيد ما فيها وما وقع به على الأمير على رقعة رقعة، قال: فأمر وأحضرت الرقاع، فقال الأصمعي: سأل صاحب الرقعة الأولى كذا، واسمه كذا، فوقع له بكذا، والرقعة الثانية والثالثة حتى مر في نيف وأربعين رقعة، فالتفت إليه نصر بن علي فقال: أيها الرجل، أبق على نفسك من العين، فكف الأصمعي. وحكي عن عباس بن الفرج قال: ركب الأصمعي حماراً دميماً، فقيل له: بعد براذين الخلفاء تركب هذا فقال متمثلاً: ولما أبت إلا انصراماً لودها ... وتكديرها الشرب الذي كان صافياً شربنا برنقٍ من هواها مكدرٍ ... وليس يعاف الرنق من كان صادياً هذا وأملك ديني أحب إلي من ذاك مع فقده. وقال الأصمعي: ذكرت يوماً للرشيد نهم سليمان بن عبد الملك، وقلت: إنه كان يجلس ويحضر بين يديه الخراف المشوية وهي كما أخرجت من تنانيرها، فيريد أخذ كلاها فتمنعه الحرارة، فيجعل يده على طرف جبهته ويدخلها في جوف الخروف فيأخذ كلاه، فقال لي: قاتلك الله ما أعلمك بأخبارهم! اعلم أنه عرضت علي ذخائر بني أمية، فنظرت إلى ثياب مذهبة ثمينة (1) وأكمامها ودكة (2) بالدهن، فلم أدر ما ذلك حتى حدثتني بالحديث، ثم قال: علي بثياب سليمان، فأتي بها، فنظر إلى تلك الآثار فيها ظاهرة فكساني منها حلة، وكان الأصمعي ربما خرج فيها أحياناً فيقول: هذه جبة سليمان التي كسانيها الرشيد. وحكي عنه قال: رأيت بعض الأعراب يفلي ثيابه، فيقتل البراغيث ويدع القمل فقلت: يا إعرأبي، ولم تصنع هذا فقال: أقتل الفرسان ثم أعطف على الرجالة] (3) . وكان جده علي بن أصمع سرق بسفوان فأتوا به علي بن أبي طالب   (1) المطبوعة: يمنية. (2) ر: زهكة. (3) ما بين معقفين زيادة من ر، وقد سقط بعضه من وستنفيلد، وكتب في المسودة في موضع هذا النص: " ها هنا تكتب التخريجة ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 174 رضي الله عنه، فقال: جيئوني بمن يشهد أنه أخرجها من الرحل، قال ك فشهد عليه بذلك عنده، فأمر به فقطع من أشاجعه، فقيل له: يا أمير المؤمنين ألا قطعته من زنده، فقال: يا سبحان الله، كيف يتوكأ كيف يصلي كيف يأكل فلما قدم الحجاج بن يوسف البصرة أتاه علي بن أصمع فقال: أيها الأمير، إن أبوي عقاني فسمياني علياً، فسمني أنت، فقال: ما أحسن ما توسلت به، قد وليتك سمك البارجاه، وأجريت لك في كل يوم دانقين فلوساً، ووالله لئن تعديتهما لأقطعن ما أبقاه علي من يدك. وكانت ولادة الأصمعي سنة اثنتين، وقيل ثلاث وعشرين ومائة. وتوفي في صفر سنة ست عشرة، وقيل أربع عشرة وقيل خمس عشرة وقيل سبع عشرة ومائتين بالبصرة، وقيل بمرو، رحمه الله تعالى. وقال الخطيب أبو بكر: بلغني أن الأصمعي عاش ثمانياً وثمانين سنة. ومولد أبيه قريب سنة ثلاث وثمانين للهجرة، ولم أقف على تاريخ وفاته، رحمه الله تعالى. وقريب: بضم القاف وفتح الراء وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها باء موحدة، وهو لقب له قال المرزباني وأبو سعيد السيرافي: اسمه عاصم وكنيته أبو بكر وغلب عليه لقبه. والأصمعي: نسبة إلى جده أصمع. ومظهر: بضم الميم وفتح الظاء المعجمة وتشديد الهاء وكسرها وبعدها راء. وأعيا: بفتح الهمزة وسكون العين المهملة وفتح الياء المثناة من تحتها. وباهلة: قد تقدم الكلام عليها في أول الترجمة (1) ، وهي بالباء الموحدة وكسر الهاء وفتح اللام. وسفوان: بفتح السين المهملة والفاء والواو وبعد الألف نون وهو اسم موضع عند البصرة ومن قصد البحرين من البصرة يخرج إلى سفوان ثم إلى كاظمة ومنها يتوجه إلى هجر، وهي مدينة البحرين. والبارجاه: موضع بالبصرة.   (1) في أول الترجمة: سقط من س ل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 175 قال أبو العيناء: كنا في جنازة الأصمعي، فجذبني أبو قلابة حبيش بن عبد الرحمن الجرمي وقيل حبيش بن منقذ، قاله المرزباني فيه " المعجم "، الشاعر فأنشدني لنفسه: لعن الله أعظماً حملوها ... نحو دار البلى على خشباتِ أعظماً تبغض النبي وأهل ال ... بيت والطيبين والطيبات قال: وجذبني أبو العالية الشامي وأنشدني واسم أبي العاليه الحسن بن مالك: لا در در بنات الأرض إذ فجعت ... بالأصمعي لقد أبقت لنا أسفا عش ما بدا لك في الدنيا فلست ترى ... في الناس منه ولا من علمه خلفاً قال: فعجبت من اختلافهما فيه. وللأصمعي من التصانيف كتاب " خلق الإنسان " وكتاب " الأجناس " وكتاب " الأنواء " وكتاب " الهمز " وكتاب " المقصور والمدود " وكتاب " الفرق " وكتاب " الصفات " وكتاب " الأبواب " (1) وكتاب " الميسر والقداح " وكتاب " خلق الفرس " وكتاب " الخيل " وكتاب " الإبل " وكتاب " الشاء " وكتاب " الأخبية " (2) وكتاب " الوحوش " وكتاب " فعل وأفعل " وكتاب " الأمثال " وكتاب " الأضداد " وكتاب " الألفاظ " وكتاب " السلاح " وكتاب " اللغات " وكتاب " مياه العرب " وكتاب " النوادر " وكتاب " أصول الكلام " وكتاب " القلب والإبدال " وكتاب " جزيرة العرب " وكتاب " الاشتقاق " وكتاب " معاني الشعر " وكتاب " المصادر " وكتاب " الأراجيز " وكتاب " النخلة " وكتاب " النبات " وكتاب " ما اتفق لفظه واختلف معناه " وكتاب " غريب الحديث " وكتاب " نوادر الاعراب " وغير ذلك.   (1) كذا في المسودة؛ الفهرست: كتاب الأثواب. (2) الفهرست: الأخبية والبيوت. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 176 380 - (1) ابن هشام صاحب السيرة أبو محمد عبد الملك بن هشام بن أيوب الحميري المعافري؛ قال أبو القاسم السهيلي عنه في كتاب " الروض الأنف " - شرح سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم -: إنه مشهور بحمل العلم، متقدم في علم النسب والنحو، وهو من مصر وأصله من البصرة، وله كتاب في أنساب حمير وملوكها، وكتاب في شرح ما وقع في أشعار السير من الغريب فيما ذكر لي. وتوفي بمصر في سنة ثلاث عشرة ومائتين، رحمه الله تعالى. قلت وهذا ابن هشام هو الذي جمع سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم من " المغازي والسير " لابن إسحاق وهذبها لخصها وشرحها السهيلي المذكور، وهي الموجودة بأيدي الناس المعروفة بسيرة ابن هشام. وقال أبو سعيد عبد الحمن بن أحمد ين يونس صاحب " تاريخ مصر " المقدم ذكره في تاريخه الذي جعله للغرباء القادمين على مصر: إن عبد الملك المذكور توفي لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الآخر سنة ثماني عشرة ومائتين بمصر، والله أعلم بالصواب، وقال: إنه ذهلي. والحميري قد تقدم الكلام عليه. والمعافري: بفتح الميم والعين المهملة وبعد الألف فاء مكسورة ثم راء، هذه النسبة إلى المعافر بن يعفر (2) قبيل كبير (3) ينسب إليه بشر كثير عامتهم بمصر.   (1) ترجمته في الروض الأنف 1: 5 وانباه الرواة 2: 211 وبغية الوعاة: 315 والبداية والنهاية 10: 267 وعبر الذهبي 1: 374 وحسن المحاضرة 1: 228. (2) كذا ضبطه المؤلف بالحركات، بفتح الياء وضم الفاء. (3) ر: قبيلة كبيرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 177 381 - (1) الثعالبي أبو منصور عبد الملك بن محمد بن إسماعيل الثعالبي النيسابوري؛ قال ابن بسام صاحب " الذخيرة " في حقه: " كان في وقته راعي تلعات العلم، وجامع أشتات النثر والنظم، رأس المؤلفين في زمانه، وإما م المصنفين بحكم قرانه، سار ذكره سير المثل، وضربت إليه آباط الإبل، وطلعت دواوينه في المشارق والمغارب طلوع النجم في الغياهب، وتواليفه أشهر مواضع وأبهر مطالع وأكثر راوٍ لها وجامع، من أن يستوفيها حد أو وصف، أو يوفيها حقوقها نظم أو رصف "، وذكر له طرفاً من النثر وأورد شيئاً من نظمه فمن ذلك ما كتبه إلى الأمير أبي الفضل الميكالي: لك في المفاخر معجزاتٌ جمةٌ ... أيداً لغيرك في الورى لم تجمع بحران: بحر في البلاغة شانه ... شعر الوليد (2) وحسن لفظ الأصمعي [وترسل الصابي يزين علوه ... خط ابن مقلة ذو المحل الأرفع] (3) كالنور أو كالسحر أو كالبدر أو ... كالوشي في بردٍ عليه موشع شكراً فكم من فقرة لك كالغنى ... وافى الكريم بعيد فقر مدقع وإذا تفتق نور شعرك ناضراً ... فالحسن بين مرصع ومصرع أرجلت فرسان الكلام ورضت أف ... راس البديع وأنت أمجد مبدع   (1) ترجمته في معاهد التنصيص 3: 266 وعبر الذهبي 3: 172 وشذرات الذهب 3: 246 والذخيرة (القسم الأخير في تراجم المشارقة) . ونزهة الألباء: 249 ودمية القصر: 183. (2) الوليد هو أبو عبادة البحتري؛ وقوله " شانه " كذا ضبطت في المسودة وهي مخفف " شأنه "؛ وفي هامش ل: لعله زانه. (3) سقط البيت من النسخ المخطوطة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 178 ونقشت في فص الزمان بدائعاً ... تزري بآثار الربيع الممرع [ومنها في وصف فرس أهداه إليه ممدوحه: يا واهب الطرف الجواد كأنما ... قد أنعلوه بالرياح الأربع لا شيء أسرع منه إلا خاطري ... في وصف نائلك اللطيف الموقع ولو انني أنصفت في إكرامه ... لجلال مهديه الكريم الألمعي أقضمته حب الفؤاد محبة ... وجعلت مربطه سواد المدمع وخلعت ثم قطعت غير مضيع ... برد الشباب لجله والبرقع] (1) ومن شعره (2) : لما بعثت فلم توجب مطالعتي ... وأمعنت نار شوقي في تلهبها ولم أجد حيلةً تبقي على رمقي ... قبلت عيني رسولي إذ رآك بها [وكتب إلى أبي نصر بن سهل ابن المرزبان يحاجيه: حاجيت شمس العلم في ذا العصر ... نديم مولانا الأمير نصر ما حاجةٌ لأهل كل مصر ... في كل ما دار وكل قطر ليست ترى إلا بعيد العصر ... فكتب إليه جوابه: يا بحر آدابٍ بغير جزر ... وحظه في العلم غير نزر حزرت ما قلت وكان حزري ... أن الذي عنيت دهن البزر يعصره ذو قوةٍ وأزر] (3) ...   (1) زيادة من ر. (2) ر: وله. (3) زيادة لم ترد في المخطوطات، واعتمدنا فيها على المطبوعات المصرية، ولم ترد عند وستنفيلد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 179 وله من التواليف " يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر " وهو أكبر كتبه وأحسنها وأجمعها، وفيها يقول أبو الفتوح نصر الله قلاقس الإسكندري الشاعر المشهور - وسيأتي ذكره أن شاء الله تعالى -: أبيات أشعار اليتيمه ... أبكار أفكار قديمه ماتوا وعاشت بعدهم ... فلذاك سميت اليتيمه وله أيضاً كتاب " فقه اللغة " و " سحر البلاغة وسر البراعة " و " من غاب عنهم المطرب " و " مؤنس الوحيد " وشيء كثير جمع فيها أشعار الناس ورسائلهم وأخبارهم وأحوالهم وفيها دلالة على كثرة اطلاعه. وله أشعار كثيرة. وكانت ولادته سنة خمسين وثلثمائة وتوفي سنة تسع وعشرين وأربعمائة رحمه الله تعالى. والثعالبي: بفتح الثاء المثلثه والعين المهملة وبعد الألف باء مكسورة وبعدها لام موحدة هذه النسبة إلى خياطة جلود الثعالب وعملها، قيل له ذلك لأنه كان فراء. 382 - (1) سحنون أبو سعيد عبد السلام بن سعيد بن حبيب بن حسان بن هلال بن بكار بن ربيعة التنوخي الملقب سحنون (2) الفقيه المالكي، قرأ على ابن القاسم وابن   (1) ترجمة سحنون في طبقات الشيرازي، الورقة: 46 وترتيب المدارك 2: 585 والديباج المذهب: 160 وقضاة الخشبي: 160 ورياض النفوس 1: 249 ومعالم الإيمان 2: 49 وكتاب أبي العرب: 101 وعبر الذهبي 1: 432 والشذرات 2: 94، وقد وردت في م بعد ترجمة ديك الجن، موجزة كثيراً. (2) كتب فوق السين في المسودة " معاً " يعني بفتحها وضمها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 180 وهب وأشهب ثم انتهت الرياسة في العلم بالمغرب إليه، وكان يقول قبح الله الفقر، أدركنا مالكاً وقرأنا على ابن القاسم. كان أصله من الشام من مدينة حمص قدم به أبوه مع جند أهل حمص وولي القضاء بالقيروان وعلى قوله المعول بالمغرب. وصنف كتاب " المدونة " في مذهب الإمام مالك رضي الله عنه، وأخذها عن ابن القاسم وكان أول من شرع في تصنيف " المدونة " أسد بن الفرات الفقيه المالكي بعد رجوعه من العراق وأصلها أسئلة سأل عنها ابن القاسم فأجابه عنها، وجاء بها أسد إلى القيروان وكتبها عنه سحنون، وكانت تسمى " الأسدية " ثم رحل بها سحنون إلى ابن القاسم في سنة ثمان وثمانين ومائة فعرضها عليه وأصلح فيها مسائل ورجع بها إلى القيروان في سنة إحدى وتسعين ومائة، وهي في التأليف على ما جمعه أسد ابن الفرات أولاً غير مرتبة المسائل ولا مرسمة التراجم، فرتب سحنون أكثرها وبوبه على ترتيب التصانيف واحتج لبعض مسائلها بالآثار من روايته من موطإ ابن وهب وغيره، وبقيت منها بقية لم يتمم فيها سحنون هذا العمل المذكور، ذكر هذا كله القاضي عياض وغيره. وذكر لي بعض الفقهاء المالكية أن الشيخ جمال الدين أبا عمرو المعروف بابن الحاجب الفقيه المالكي النحوي - الآتي ذكره بعد هذا إن شاء الله تعالى واسمه عثمان - قال: إن أسد بن الفرات الفقيه المالكي جاء من الغرب إلى مصر وقرأ على ابن القاسم وأخذ عنه " المدونه " وكانت مسودة وعاد بها إلى بلاده فحضر إليه سحنون وطلبها منه لينقلها فبخل عليه بها فرحل سحنون إلى ابن القاسم وأخذ عنه " المدونة " وقد حررها ابن القاسم فدخل بها إلى الغرب وعلى يده كتاب ابن القاسم إلى أسد بن الفرات يقول فيه: تقابل نسختك بنسخة سحنون فالذي تتفق عليه النسختان يثبت والذي يقع فيه الاختلاف فالرجوع إلى نسخة سحنون، وتمحى نسخة ابن الفرات فهذه هي الصحيحة فلما وقف ابن الفرات على كتاب ابن القاسم عزم على العمل به، فقال له أصحابه: إن عملت هذا صار كتاب سحنون هو الأصل وبطل كتابك، وتكون أنت قد أخذته عن سحنون، فلم يعمل بكتاب ابن القاسم، فلما بلغ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 181 ابن القاسم الخبر قال: اللهم لا تنفع أحداً بابن الفرات ولا بكتابه، فهجره الناس لذلك، وهو الآن مهجور، وعلى كتاب سحنون يعتمد أهل القيروان (1) . وحصل له من الأصحاب والتلامذة ما لم يحصل لأحد من أصحاب مالك مثله وعنه انتشر علم مالك بالمغرب. وكانت ولادته أول ليلة من شهر رمضان سنة ستين ومائة، وتوفي في يوم الثلاثاء لتسع خلون من رجب سنة أربعين ومائتين، رحمه الله تعالى. وسحنون: بفتح السين المهملة وضمها وسكون الحاء المهملة وضم النون وبعد الواو نون ثانية، وفي فتح السين وضمها كلام من جهة العربية يطول شرحه وليس هذا موضعه، وقد صنف فيه أبو محمد ابن السيد البطليوسي جزءاً وقفت عليه، وقد استوفى الكلام فيه كما ينبغي وهو مجيد في كل ما يصنعه، وقد تقدم ترجمته (2) . ولقب سحنون باسم طائر حديد بالمغرب يسمونه سحنوناً لحدة ذهنه وذكائه، ذكر ذلك أبو العرب محمد بن أحمد بن تميم القيرواني في كتاب " طبقات من كان بإفربقيه من العلماء " (3) ، والله أعلم. (98) وأما أسد بن الفرات فإنه أرسله زيادة الله بن الأغلب في جيش إلى جزيرة صقلية، ونزلوا على مدينة سرقوسة، ولم يزالوا محاصرين لها إلى أن مات ابن الفرات في رجب سنة ثلاث عشرة ومائتين، ودفن بمدينة بلرم من الجزيرة أيضاً، والله أعلم.   (1) وكان أول من شرع ... القيروان: ثبت في ر والمسودة وسقط من سائر النسخ. (2) هذا آخر الترجمة في س ل. (3) لم يرد هذا في ترجمة سحنون في الكتاب المذكور. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 182 383 - (1) أبو هاشم الجبائي أبو هاشم عبد السلام بن أبي علي محمد الجبائي (2) بن عبد الوهاب بن سلام بن خالد بن حمران بن أبان مولى عثمان بن عفان رضي الله عنه، المتكلم المشهور العالم ابن العالم؛ كان هو وأبوه من كبار المعتزلة، ولهما مقالات على مذهب الاعتزال، وكتب الكلام مشحونة بمذاهبهما واعتقادهما، وكان له ولد يسمى أبا علي، وكان عامياً لا يعرف شيئاً، فدخل يوماً على الصاحب بن عباد، فظنه عالماً فأكرمه ورفع مرتبته، ثم سأله عن مسألة فقال: لا أعرف نصف العلم، فقال له الصاحب: صدقت يا ولدي، إلا أن أباك تقدم بالنصف الآخر (3) . وكانت ولادة أبي هاشم المذكور سنة سبع وأربعين ومائتين. وتوفي يوم الأربعاء لاثنتي عشرة ليلة بقيت من شعبان سنة إحدى وعشرين وثلثمائة ببغداد، ودفن في مقابر البستان من الجانب الشرقي، وفي ذلك اليوم توفي أبو بكر محمد بن دريد اللغوي المشهور - وسيأتي ذكر والده إن شاء الله تعالى - رضي الله عنهم أجمعين. وحمران: بضم الحاء المهملة وسكون الميم وفتح الراء وبعد الألف نون. وأبان: بفتح الهمزة والباء الموحدة وبعد الألف نون. والجبائي: بضم الجيم وتشديد الباء الموحدة، هذه النسبة إلى قرية من قرى البصرة خرج منها جماعة من العلماء، هكذا قاله السمعاني في كتاب " الأنساب " (4) ،   (1) ترجمة الجبائي في طبقات المعتزلة: 94 والفرق: 184 ومختصر الفرق: 27، 121 وتاريخ بغداد 11: 55 وميزان الاعتدال 2: 618 وللبداية والنهاية 11: 176 وعبر الذهبي 2: 187 والشذرات 2: 289. (2) الجبائي: سقطت من س ل م والمسودة. (3) وكان له ولد ... الآخر: سقط من س. (4) الأنساب 3: 186. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 183 وقال ياقوت الحموي في كتابه " المشترك " (1) : إنها كورة وبلدة ذات قرى وعمارات (2) من نواحي خوزستان (3) ، والله أعلم. 384 - (4) ديك الجن أبو محمد عبد السلام بن رغبان بن عبد السلام بن حبيب بن عبد الله بن رغبان بن زيد بن تميم الكلبي الملقب ديك الجن، الشاعر المشهور؛ وذكر ابن الجراح في كتاب " الورقة " (5) أنه مولى لطيء، والله أعلم؛ أصله من أهل سلمية، ومولده بمدينة حمص، وتميم أول من أسلم من أجداده على يد حبيب بن مسلمة الفهري، أخذ محارباً، وكان يفخر على العرب ويقول: ما لهم فضل علينا، أسلمنا كما أسلموا. وهو من شعراء الدولة العباسية، ولم يفارق الشام ولا رحل إلى العراق ولا إلى غيره منتجعاً بشعر، ولا متصدياً لأحد، وكان يتشيع تشيعاً حسناً، وله مراثٍ في الحسين، رضي الله عنه. وكان ماجناً خليعاً عاكفاً على القصف واللهو متلافاً لما ورثه، وشعره في غاية الجودة. حدث عبد الله بن محمد بن عبد الملك الزبيدي قال: كنت جالساً عند ديك الجن، فدخل عليه حدث فأنشده شعراً عمله، فأخرج ديك الجن من تحت مصلاه درجاً كبيراً فيه كثير من شعره فسلمه إليه وقال: يا فتى تكسب بهذا واستعن به على قولك. فلما خرج سألته عنه فقال: هذا فتى من أهل جاسم،   (1) المشترك: 92 (جبى) . (2) المشترك: ومزارع. (3) ر: بغداد. (4) ترجمة ديك الجن في الأغاني 12: 49 والدميري 1: 488 وثمار القلوب: 27، 470 وله أخبار في مصارع العشاق وتزيين الأسواق، وانظر مقدمة ديوانه (ط. دار الثقافة 1964) . (5) لم يرد في كتاب " الورقة " المطبوع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 184 يذكر أنه من طيء، يكنى أبا تمام، واسمه حبيب بن أوس، وفيه أدب وذكاء وله قريحة وطبع، قال: وعُمِّر الملقب ديك الجن إلى أن مات أبو تمام ورثاه. ومولد ديك الجن سنة إحدى وستين (1) ومائة وعاش بضعاً وسبعين سنة، وتوفي في أيام المتوكل سنة خمس أو ست وثلاثين ومائتين. ولما اجتاز أبو نواس بحمص قاصداً مصر لامتداح الخصيب بن عبد الحميد سمع ديك الجن بوصوله، فاستخفى منه خوفاً أن يظهر لأبي نواس أنه قاصر بالنسبة إليه، فقصده أبو نواس في داره وهو بها، فطرق الباب واستأذن عليه، فقالت الجارية: ليس هو ها هنا؛ فعرف مقصده فقال لها: قولي له اخرج فقد فتنت أهل العراق بقولك: موردة من كف ظبي كأنما ... تناولها من خده فأدارها فلما سمع ديك الجن ذلك خرج إليه واجتمع به وأضافه. وهذا البيت من جملة أبيات وهي (2) : بها غير معذولٍ (3) فداو خمارها ... وصل بحبالات (4) الغبوق ابتكارها ونل من عظيم الوزر كل عظيمةً ... إذا ذكرت خاف الحفيظان نارها وقم أنت فاحثث كأسها غير صاغرٍ ... ولا تسق إلا خمرها وعقارها فقام يكاد الكأس يحرق كفه ... من الشمس أو من وجنتيه استعارها ظللنا بأيدينا نتعتع روحها ... فتأخذ من أقدامنا الراح ثارها موردةً من كف ظبي كأنما ... تناولها من خده فأدارها   (1) ر: إحدى وسبعين. (2) الديوان: 107. (3) م والديوان: معذور. (4) ر والديوان: بعشيات. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 185 وذكر الجهشياري في كتاب " أخبار الوزراء " (1) أن حبيب بن عبد الله بن رغبان المذكور في هذا النسب كان كاتباُ في أيام الخليفة المنصور، وكان يتقلد الاعطاء، وكان موجوداً في سنة ثلاث وأربعين ومائة، وأن ديك الجن الشاعر من ولده، وإليه ينسب مسجد ابن رغبان بمدينة السلام، وأنه مولى حبيب ابن مسلمة الفهري. (99) قلت: وحبيب بن مسلمة كان من خواص معاوية، وله معه في وقعة صفين آثار شكرها له، ولما استقر الأمر لمعاوية سير حبيباً في بعض مهامه، فلقيه الحسن بن علي، رضي الله عنهما، وهو خارج فقال له: يا حبيب، رب مسيرٍ لك في غير طاعة الله، فقال له حبيب: أما إلى أبيك فلا، فقال له الحسن: بلى والله، ولقد طاوعت معاوية على دنياه، وسارعت في هواه، فلئن قام بك في دنياك فقد قعد بك في دينك، فليتك إذ أسأت الفعل أحسنت القول، فتكون كما قال الله تعالى " وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً " " التوبة: 102 " ولكنك كما قال الله تعالى " كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون " " المطففين: 14 ". وكنية حبيب هذا أبو عبد الرحمن، ولاه معاوية أرمينية فمات بها سنة اثنتين وأربعين للهجرة ولم يبلغ خمسين سنة. وكانت لديك الجن جارية يهواها اسمها دنيا، فاتهمها بغلامه الوصيف فقتلها ثم ندم على ذلك فأكثر من التغزل فيها، فمن ذلك قوله (2) : يا طلعة طلع الحمام عليها ... وجنى لها ثمر الردى بيديها رويت من دمها الثرى ولطالما ... روى الهوى شفتي من شفتيها مكنت سيفي من مجال خناقها ... ومدامعي تجري على خديها فوحق نعليها وما وطئ الحصى ... شيء أعز علي من نعليها ما كان قتليها لأني لم أكن ... أبكي إذا سقط الغبار عليها   (1) أخبار الوزراء: 102. (2) ديوانه: 90. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 186 لكن بخلت على سواي بحبها ... وأنفت من نظر الغلام إليها (1) وله فيها (2) : جاءت تزور فراشي بعد ما قبرت ... فظلت ألثم نحراً زانه الجيد وقلت قرة عيني قد بعثت لنا ... فكيف ذا وطريق القبر مسدود قالت هناك عظامي فيه مودعةً ... تعيث فيها بنات الأرض والدود وهذه الروح قد جاءتك زائرةً ... هذي زيارة من في القبر ملحود وله فيها، وقيل أن هذه الأبيات لها في ولدها منه، واسمه رغبان (3) : بأبي نبذتك بالعراء المقفر ... وسترت وجهك بالتراب الأعفر (4) بأبي بذلتك بعد صونٍ للبلى ... ورجعت عنك صبرت أو لم أصبر لو كنت أقدر أن أرى أثر البلى ... لتركت وجهك ضاحياً لم يقبر [ويروى أن المتهم بالجارية غلام كان يهواه فقتله أيضاً، وصنع فيه أبياتاً وهي (5) : أشفقت أن يرد الزمان بغدره ... أو أبتلى بعد الوصال بهجره فقتلته وله علي كرامةٌ ... ملء الحشا وله الفؤاد بأسره قمرٌ أنا استخرجته من دجنه ... لبليتي ورفعته من خدره عهدي به ميتاً كأحسن نائمٍ ... والحزن ينحر في مقلتي في نحره   (1) كتب في المسودة: لكن ضنن على العيون بحسنها ... وأنفت من نظر العيون إليها ثم ضبب فوقه وكتب البيت كما أثبتناه. (2) ديوانه: 142. (3) ديوانه: 144. (4) ر: الأغبر. (5) ديوانه: 92. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 187 لو كان يدري الميت ماذا بعده ... بالحي منه بكى له في قبره غصصٌ تكاد تفيظ منها نفسه ... ويكاد يخرج قلبه من صدره فصنعت أخت الغلام: يا ويح ديك الجن يا تباً له ... مما تضمن صدره من غدره قتل الذي يهوى وعمر بعده ... يا رب لا تمدد له في عمره] (1) وقد ذكر أبو بكر الخرائطي في كتاب " اعتلال القلوب " (2) حديثه وشعره وله كل معنى حسن، رحمه الله تعالى. ورغبان: بفتح الراء وسكون الغين المعجمة وفتح الباء الموحدة وبعد الألف نون. وقد تقدم الكلام على سلمية في ترجمة المهدي عبيد الله. وحمص: مدينة مشهورة. 385 - (3) أبو القاسم الداركي أبو القاسم عبد العزيز بن عبد الله بن محمد بن عبد العزيز الداركي، الفقيه الشافعي؛ كان أبوه محدث أصبهان في وقته، وكان أبو القاسم من كبار فقهاء   (1) زيادة انفردت بها ر. (2) ر: اعتدال القلوب؛ وقد ذكره حاجي خليفة ومؤلفه أبو بكر محمد بن جعفر الخرائطي السامري، توفي سنة 327 (كشف الظنون: 119) . (3) ترجمته في طبقات الشيرازي، الورقة: 34 وتاريخ بغداد 10: 463 وطبقات السبكي 2: 240 وعبر الذهبي 2: 170 والشذرات 3: 85 وهي موجزة كثيراً في م، ومستوفاة في المسودة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 188 الشافعيين، نزل نيسابور سنة ثلاث وخمسين وثلثمائة ودرس الفقه بها سنين، ثم انتقل إلى بغداد وسكنها إلى حين وفاته، وأخذ الفقه عن أبي إسحاق المروزي، وعليه تفقه الشيخ أبو حامد الإسفرايني بعد موت أبي الحسن ابن المرزبان، وأخذ عنه عامة شيوخ بغداد وغيرهم من أهل الآفاق. وكان يدرس ببغداد في مسجد دعلج بن أحمد بدرب أبي خلف من قطيعة الربيع، وله حلقة في الجامع للفتوى والنظر، وانتهى التدريس إليه ببغداد وانتفع به خلق كثير. وله في المذهب وجوه جيده دالة على متانة علمه، وكان يتهم بالاعتزال، وكان الشيخ أبو حامد الإسفرايني يقول: ما رأيت أحداً أفقه من الداركي، وأخذ الحديث عن جده لأمه الحسن بن محمد الداركي. وكان إذا جاءته مسألة تفكر طويلاً ثم يفتي فيها، وربما أفتى على خلاف مذهب الإمامين الشافعي وأبي حنيفة، رضي الله عنهما، فيقال له في ذلك، فيقول: ويحكم، حدث فلان عن فلان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا وكذا، والأخذ بالحديث أولى من الأخذ بقول الإمامين. وتوفي ببغداد يوم الجمعة لثلاث عشرة ليلة خلت من شوال سنة خمس وسبعين وثلثمائة، عن نيف وسبعين سنة، رحمه الله تعالى، وقيل: إنه توفي في ذي القعدة، والأول أصح. وكان ثقة أميناً. والداركي: بفتح الدال المهملة وبعد الألف راء مفتوحة وبعدها كاف، قال السمعاني (1) : هذه النسبة إلى دارك، وظني أنها من قرى أصبهان، وقال: هو عبد العزيز بن الحسن بن أحمد الداركي، والله أعلم بالصواب.   (1) الأنساب 5: 276 - 277 وفيه ترجمة ااداركي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 189 386 - (1) ابن نباتة الشاعر أبو نصر عبد العزيز بن عمر بن محمد بن أحمد بن نباتة بن حميد بن نباتة بن الحجاج بن مطر بن خالد بن عمرو بن رزاح بن رياح بن سعد بن ثجير بن ربيعة بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم بن مر، التميمي السعدي، وبقية النسب معروف؛ كان شاعراً مجيداً، جمع بين حسن السبك وجودة المعنى، طاف البلاد ومدح الملوك والوزراء والرؤساء، وله في سيف الدولة بن حمدان غر القصائد ونخب المدائح، وكان قد أعطاه فرساً أدهم أغر محجلاً فكتب إليه: يا أيها الملك الذي أخلاقه ... من خلقه ورواؤه من رائه قد جاءنا الطرف الذي أهديته ... هاديه يعقد أرضه بسمائه أولايةً وليتنا فبعثته ... رمحاً سبيب العرف عقد لوائه نحتل منه على أغر محجل ... ماء الدياجي قطرةٌ من مائه فكأنما لطم الصباح جبينه ... فاقتص منه فخاض في أحشائه متمهلاً والبرق من أسمائه ... متبرقعاً والحسن من أكفائه ما كانت النيران يكمن حرها ... ولو كان للنيران بعض ذكائه لا تعلق الألحاظ في أعطافه ... إلا إذا كفكفت من غلوائه لا يكمل الطرف المحاسن كلها ... حتى يكون الطرف من أسرائه وهذا المعنى الذي وقع له في صفة الغرة والتحجيل في غاية الإبداع، وما أظنه سبق إليه.   (1) ترجمة ابن نباتة السعدي في تاريخ بغداد 10: 466 واليتيمة 2: 380 وعبر الذهبي 3: 91 والشذرات 3: 175، وانظر الإمتاع والمؤانسة 1: 136؛ وهذه الترجمة مطابقة تماماً لما في المسودة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 190 وله في سيف الدولة أيضاً قصيدة لامية طويلة ومن جملة أبياتها قوله: قد جدت لي باللها حتى ضجرت بها ... وكدت من ضجري أثني على البخل إن كنت ترغب في أخذ النوال لنا ... فاخلق لنا رغبة أو لا فلا تنل لم يبقٍ جودك لي شيئاً أؤمله ... تركتني أصحب الدنيا بلا أمل وهذا المعنى فيه إلمام بقول البحتري (1) ، أعني البيت الأول: إني هجرتك إذ هجرتك وحشةً ... لا العود يذهبها ولا الإبداء أخجلتني (2) بندى يديك فسودت ... ما بيننا تلك اليد البيضاء وقطعتني بالجود حتى إنني ... متخوفٌ أن لا يكون لقاء صلةٌ غدت في الناس وهي قطيعة ... عجب وبر راح وهو جفاء وفي معناه أيضا قول دعبل بن علي الخزاعي المقدم ذكره يمدح المطلب بن عبد الله بن مالك الخزاعي أمير مصر (3) : زمني بمطلب سقيت زمانا ... ما كنت إلا روضةً وجنانا كل الندى إلا ندا ك تكلفٌ ... لم أرض بعدك كائناً من كانا أصلحتني بالبر بل أفسدتني ... وتركتني أتسخط الإحسانا وهو معنى مطروق تداولته الشعراء، وأكثرت استعماله، فمنهم من يستوفيه ومنهم من يقصر فيه، وكتب به علي بن جبلة المعروف بالعكوك - الآتي ذكره إن شاء الله تعالى - إلى أبي دلف العجلي في أبيات رائية، ولولا خوف الإطالة لذكرتها، وما ألطف قول أبي العلاء المعري فيه: لو اختصرتم من الإحسان زرتكم ... والعذب يهجر للإفراط في الخصر   (1) ديوان البحتري: 21 - 22 والقصيدة في مدح أبي بكر جعفر محمد بن علي القمي. (2) الديوان: أحشمتني. (3) انظر ترجمة دعبل ج 2 ص: 269 من هذا الكتاب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 191 رجعنا إلى ذكر أبي نصر المذكور: ومعظم شعره جيد، وله ديوان كبير، وكان قد وصل إلى مدينة الري، وامتدح أبا الفضل محمد بن العميد وجرى بينهما مفاوضة يأتي شرحها (1) في ترجمته إن شاء الله تعالى. وكانت ولادته في سنة سبع وعشرين وثلثمائة، وتوفي يوم الأحد بعد طلوع الشمس ثالث شوال سنة خمس وأربعمائة ببغداد، ودفن قبل الظهر في مقبرة الخيزران من الجانب الشرقي، رحمه الله تعالى. ونباتة: بضم النون كما تقدم في جد الخطيب ابن نباتة. وثجير: بضم الثاء المثلثة وفتح الجيم وسكون الياء المثناة من تحتها، وبعدها راء. وبقيت الأسماء معروفة (2) . قال أبو غالب محمد بن أحمد بن سهل: دخلت على أبي الحسن محمد بن علي بن نصر البغدادي صاحب الرسائل وصاحب كتاب " المفاوضة " - قلت: وهو أخو القاضي عبد الوهاب المالكي، وسيأتي ذكرهما في ترجمة عبد الوهاب إن شاء الله تعالى - قال: وكان في مرض موته بواسط، فقعدت عنده قليلاً ثم قمت لأنه كان به قيام، فأنشدني بيت أبي نصر عبد العزيز وهو: متع لحاظك من خلٍ تودعه ... فما إخالك بعد اليوم بالوادي ثم قال لي أبو الحسن المذكور: عدت أبا نصر ابن نباتة في اليوم الذي توفي فيه فأنشدني هذا البيت، وودعته وانصرفت، فأخبرت في طريقي أنه توفي، قال الشيخ أبو غالب: وفي تلك الليلة توفي أبو الحسن المذكور، وقد ذكرت تاريخ ذلك في ترجمة عبد الوهاب [المالكي] (3) .   (1) ر: ذكرها. (2) هنا تنتهي الترجمة في ل س م. (3) زيادة من ر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 192 وقال أبو علي محمد بن وشاح بن عبد الله: سمعت أبا نصر ابن نباتة يقول: كنت يوما قائلاً في دهليزي، فدق عليه الباب، فقلت: من فقال: رجلٌ من أهل المشرق، فقلت: ما حاجتك فقال: أنت القائل: ومن لم يمت بالسيف مات بغيره ... تنوعت الأسباب والداء واحد فقلت: نعم، فقال: أرويه عنك فقلت: نعم، فمضى، فلما كان أخر النهار دق عليه الباب، فقلت: من قال رجل من أهل تاهرت من الغرب، ما حاجتك فقال: أنت القائل: ومن لم يمت بالسيف ما بغيره ... وتنوعت الأسباب والداء واحد فقلت: نعم، فقال: أرويه عنك فقلت: نعم، وعجبت (1) كيف وصل إلى الشرق والغرب. 387 - (2) ابن مغلس الأندلسي أبو محمد عبد العزيز بن أحمد بن السيد بن مغلس القيسي الأندلسي؛ كان من أهل العلم باللغة والعربية مشاراً إليه فيهما، رحل من الأندلس وسكن مصر واستوطنها، وقرأ الأدب على أبي العلاء صاعد بن الحسن الربعي صاحب كتاب " الفصوص " - وقد سبق ذكره في حرف الصاد (3) - وعلى أبي يعقوب   (1) ر: وعجبت من شعري. (2) ترجمة ابن مغلس في الصلة: 351 والجذوة: 269 وبغية الملتمس (رقم: 1088) وبغية الوعاة: 307 والنفح 2: 132؛ وهذه الترجمة مطابقة لما في المسودة. (3) انظر ترجمة صاعد رقم: 301. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 193 يوسف بن يعقوب النجيرمي بمصر، ودخل بغداد واستفاد وأفاد، وله شعر حسن، فمن ذلك قوله: مريض الجفون بلا علةٍ ... ولكن قلبي به ممرض أعان السهاد على مقلتي ... بفيض الدموع فما تغمض وما زار شوقاً ولكن أتى ... يعرض لي أنه معرض وله أشعار كثيرة، وكانت بينه وبين أبي الطاهر إسماعيل بن خلف صاحب كتاب " العنوان " (1) معارضات في قصائد (2) هي موجودة في ديوانيهما، ولولا خوف الإطالة لأتيت بشيء منها. وتوفي يوم الأربعاء لست بقين من جمادى الأولى سنة سبع وعشرين وأربعمائة، بمصر، وصلى عليه الشيخ أبو الحسن علي بن إبراهيم الحوفي (3) صاحب التفسير في مصلى الصدفي، ودفن عند بني إسحاق، رحمهم الله أجمعين. ومغلس: بضم الميم وفح الغين المعجمة وتشديد اللام وكسرها وبعدها سين مهملة.   (1) إسماعيل بن خلف مقرئ أندلسي استوطن مصر وتوفي سنة 455، ومن مؤلفاته - سوى العنوان - كتاب الاكتفاء. (انظر الصلة: 105 وغاية النهاية 1: 164) . (2) في قصائد: سقط من ر. (3) سيترجم له ابن خلكان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 194 388 - (1) عبد الصمد بن علي الهاشمي أبو محمد عبد الصمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب الهاشمي؛ ذكر الحافظ أبو الفرج ابن الجوزي في كتاب " شذور العقود " أنه كانت فيه عجائب، مها أنه ولد في سنة أربع ومائة، وولد أخوه محمد بن علي والد السفاح والمنصور في سنة ستين للهجرة، فبينهما في المولد أربع وأربعون سنة، وتوفي في سنة ست وعشرين ومائة، وتوفي عبد الصمد المذكور في سنة خمس وثمانين ومائة، فكان بينهما في الوفاة تسع وخمسون سنة، ومنها أنه حج يزيد بن معاوية في سنة خمسين للهجرة وحج عبد الصمد بالناس سنة وخمسين ومائة، وهما في النسب إلى عبد مناف سواء، لأن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، فبين يزيد وعبد مناف خمسة أجداد، وبين عبد الصمد وعبد مناف خمسة، لأن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، ومنها أنه أدرك السفاح والمنصور وهما ابنا أخيه، ثم أدرك المهدي بن المنصور وهو عم أبيه، ثم أدرك الهادي وهو عم جده، ثم أدرك الرشيد وفي أيامه مات. وقال يوما للرشيد: يا أمير المؤمنين، هذا مجلس فيه أمير المؤمنين وعم أمير المؤمنين وعم عم أمير المؤمنين وعم عم عمه، وذلك أن سليمان بن أبي جعفر عم الرشيد، والعباس عم سليمان، وعبد الصمد عم العباس (2) . ومنها أنه مات بأسنانه التي ولد بها، ولم يثغر، وكانت قطعة واحدة من أسفل.   (1) ترجمته في تاريخ بغداد 11: 37 وميزان الاعتدال 2: 620 ونكت الهميان: 193 وعبر الذهبي 1: 290 (وفيات سنة 185) وصفحات متفرقة من الجزءين الخامس والسادي من ابن الأثير؛ وهذه الترجمة مستوفاة في المسودة بتمامها. (2) هنا تنتهي الترجمة في م. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 195 وذكر ابن جرير الطبري في تاريخه أن عبد الصمد المذكور ولد في رجب سنة ست ومائة، ومات في جمادى الآخرة سنة خمس وسبعين ومائة. وقال غيره: كانت وفاته ببغداد، وقال غيره: ولد في سنة تسع، وقيل في سنة خمس بالحميمة من أرض البلقاء، والله أعلم. وأمه كبيرة التي يقول فيها عبيد الله بن قيس الرقيات الشاعر المشهور قصيدته التي أولها (1) : عاد له من كبيرة الطرب ... وعمي في أخر عمره. يقال: ثغر الصبي يثغر فهو مثغور، إذا سقطت أسنانه، وإذا نبتت قيل قد اثغر، واتغر، بالثاء والتاء مع التشديد فيهما - وسيأتي ذكر والده وأخيه إن شاء الله تعالى -. 389 - (2) ابن بابك أبو القاسم عبد الصمد بن منصور بن الحسن بابك الشاعر المشهور؛ أحد الشعراء المجيدين المكثرين، رأيت ديوانه في ثلاث مجلدات، وله أسلوب رائق في نظم الشعر، وجاب البلاد، ولقي الرؤساء، ومدحهم، وأجزلوا جائزته [ولما قدم على الصاحب بن عباد قال له: أنت بابك الشاعر فقال: أنا ابن   (1) ديوان ابن قيس الرقيات: 1، وعجز البيت " فعينه بالدموع تنسكب ". وكبيرة - بالباء - في المسودة والنسخة ر، وسقط الكلام من س ل م؛ وفي الديوان " كثيرة ". (2) ترجمته في اليتيمة 3: 377 ومعاهد التنصيص 1: 64 والنجوم الزاهرة 4: 245 وعبر الذهبي 3: 102 والشذرات 3: 191. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 196 بابك، فاستحسن قوله وأجازه وأجزل صلته] (1) . ومن شعره قوله: وأغيد معسول الشمائل زارني ... على فرقٍ والنجم حيران طالع فلما جلا صبغ الدجى قلت حاجبٌ ... من الصبح أو قرنٌ من الشمس لامع إلى أن دنا والسحر رائد طرفه ... كما ريع ظبيٌ بالصريمة راتع فنازعته الصهباء والليل دامسٌ (2) ... رقيق حواشي البرد والنسر واقع عقار عليها من دم الصب نفضةٌ ... ومن عبرات المستهان فواقع تدير إذا شجت عيوناً كأنها ... عيون العذارى شق عنها البراقع معودة غضب العقول كأنما ... لها عند ألباب الرجال ودائع فبتنا وظل الوصل دانٍ (3) وسرنا ... مصون ومكتوم الصبابة ذائع إلى أن سلا عن ورده فارط القطا ... ولاذت بأطراف الغصون السواجع فولى أسير السكر يكبو لسانه ... فتنطق عنه بالوداع الأصابع وله (4) : يا صاحبي امزجا كأس المدام لنا ... كيما يضيء لنا من نورها الغسق خمراً إذا ما نديمي هم يشربها ... أخشى عليه من اللألاء يحترق لو رام يحلف أن الشمس ما غربت ... في فيه كذبه في وجهه الشفق وله من قصيد بيتٌ من في غاية الرقة وهو: ومر بي النسيم فرق حتى ... كأني قد شكوت إليه ما بي   (1) لم يرد ما بين معقفين في النسخ الخطية. (2) س: طامس. (3) س ل: باد. (4) سقط الشعر من س ل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 197 وكانت وفاته في سنة عشر وأربعمائة ببغداد، رحمه الله تعالى. وبابك: بفتح الباءين الموحدتين بينهما ألف وفي الأخير كاف. 390 - (1) أبو المحاسن الروياني أبو المحاسن عبد الواحد بن إسماعيل بن أحمد بن محمد الروياني الفقيه الشافعي؛ من رؤوس الأفاضل في أيامه مذهباً وأصولاً وخلافاً، سمع أبا الحسين عبد الغافر بن محمد الفارسي بميافارقين ومن أبي عبد الله محمد بن بيان بن محمد الكازروني (2) وتفقه عليه على مذهب الشافعي، وروى عنه زاهر بن طاهر الشحامي وغيره. وكان له الجاه العظيم والحرمة الوافرة في تلك الديار، وكان الوزير نظام الملك كثير التعظيم له لكمال فضله. رحل إلى بخارى وأقام بها مدة ودخل غزنة ونيسابور، ولقي الفضلاء، وحضر مجلس ناصر المروزي وعلق عنه وسمع الحديث، وبنى بآمل طبرستان مدرسةً، ثم انتقل إلى الري ودرّس بها، وقدم أصبهان وأملى بجامعها، وصنف الكتب المفيدة: منها " بحر المذهب " (3) وهو من أطول كتب الشافعيين وكتاب " مناصيص الإمام الشافعي " وكتاب " الكافي " وكتاب " حلية المؤمن " وصنف في الأصول والخلاف، ونقل عنه أنه كان يقول: لو احترقت كتب الشافعي لأمليتها من خاطري. وذكره القاضي أبو محمد عبد الله بن يوسف الحافظ في " طبقات أئمة الشافعية " (4)   (1) ترجمة الروياني في طبقات السبكي 4: 264 والأنساب 6: 198 وعبر الذهبي 4: 4 والشذرات 4: 4 وسياق تاريخ نيسابور (المختصر الأول، الورقة 52 ب) . وهذه الترجمة مطابقة لمسودة المؤلف. (2) ر: الحلواني. (3) س: بحر الذهب؛ ر: تحرير المذهب. (4) عبد الله بن يوسف القاضي أبو محمد الجرجاني (- 489) محدث فقيه صنف أيضاً " فضائل الشافعي " و " فضائل أحمد " (طبقات السبكي 3: 219) ، وقد بين السبكي في مقدمته أنه لم يطلع على كتاب " طبقات أئمة الشافعية " المذكور. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 198 فقال: أبو المحاسن الروياني باقرة (1) العصر إمام في الفقه، وذكره الحافظ أبو زكرياء يحيى بن منده، وروى الحديث عن خلق كثير في بلاد متفرقة. وكانت ولادته في ذي الحجة سنة خمس عشرة وأربعمائة، وقال الحافظ أبو طاهر السلفي: بلغنا أن أبا المحاسن الروياني أملى بمدينة آمل، وقتل بعد فراغه من الإملاء بسبب التعصب في الدين، في المحرم سنة اثنتين وخمس مائة. وذكر معمر (2) بن عبد الواحد بن فاخر في الوفيات التي خرجها للحافظ أبي سعد ابن السمعاني أن أبا المحاسن المذكور قتل بآمل في جامعها يوم الجمعة الحادي عشر من المحرم من السنة المذكورة، قتله الملاحدة، والله أعلم، رحمه الله تعالى. والروياني: بضم الراء وسكون الواو وفتح الياء المثناة من تحتها وبعد الألف نون، هذه النسبة إلى رويان، وهي مدينة بنواحي طبرستان خرج منها جماعة من العلماء؛ وآمل مدينة هنالك وقد سبق ذكرها. 391 - (3) الببغاء أبو الفرج عبد الواحد بن نصر بن محمد المخزومي الشاعر المعروف بالببغاء؛ ذكّره الثعالبي في " يتيمة الدهر " (4) وقال: هو من أهل نصيبين، وبالغ في   (1) باقرة: كذا في أصول الوفيات، ويقال أن البافر لقب جرى على صاحبه لتضلعه في العلم؛ والمشهور في مثل هذا " باقعة "؛ وفي السبكي: نادرة العصر، ونسب القول إلى الحافظ الجرجاني ولعله ينقل قوله من مصدر آخر. (2) هذه الفقرة سقطت من س ل. (3) ترجمته في تاريخ بغداد 11: 11 والمنتظم 7: 241 وعبر الذهبي 3: 68 والشذرات 3: 152. (4) اليتيمة 1: 252. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 199 الثناء عليه وذكر جملة من رسائله ونظمه وما دار بينه وبين أبي إسحاق الصابي، وأشياء يطول شرحها. [واتفق أن أبا الفرج (1) قدم مرة بغداد وأبو إسحاق معتقل مدة طويلة ولم يصبر عنه وزاره في مجلسه ثم انصرف ولم يعاوده فكتب إليه أبو إسحاق: أبا الفرج اسلم وابق وانعم ولا تزل ... يزيدك صرف الدهر حظاً إذا نقص مضى زمن تستام وصلي غالياً ... فأرخصته والبيع غالٍ ومرتخص وأنستني في مجلسي بزيارة ... شفت كبداً من صاحبٍ لك قد خلص ولكنها كانت كحسوة طائرٍ ... فواقاً كما يستفرص السارق الفرص وأحسبك استوحشت من ضيق محبسي ... وأوجست خوفاً من تذكرك القفص كذا الكرز اللماح ينجو بنفسه ... إذا عاين الأشراك تنصب للقنص فحوشيت يا قسَّ الطيور بلاغةً ... إذا أنشد المنظوم أو درس القصص من المنسر الأشغى ومن حدة المدى ... ومن بندق الرامي ومن قصة المقص فهذي دواهي الطير وقيت شرها ... إذا الدهر من أحداثه جرع الغصص فأجابه أبو الفرج في الحال مع رسوله: أيا ماجداً [مذ يمم] المجد مانكص ... وبدر تمامٍ مذ تكامل ما نقص ستخلص من هذا السرار وأيما ... هلالٍ توارى بالسرار فما خلص برأفة تاج الملة الملك الذي ... [لسؤدده] في خطة المشتري حصص تقنصت بالألطاف شكري ولم أكن ... علمت بأن الحر بالبر يقتنص وصادفت أدنى فرصة فانتهزتها ... بلقياك إذ بالحزم تنتهز الفرص أتتني القوافي الزاهرات تجمل ال ... بدائع من مستحسن الجد والرخص فقابلت زهر الروض منها ولم أرد ... وأحرزت [در] البحر منها ولم أغص   (1) قارن بما في اليتيمة: 267. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 200 فإن كنت بالببغاء قدماً ملقباً ... فكم لقبٍ بالجور لا العدل مخترص وبعد فما أخشى تقنص جارحٍ ... وقلبك لي وكرٌ ورأيك لي قفص فانتهى الابتداء والجواب إلى عضد الدولة فأعجب بهما واستظرفهما، وكان ذلك أحد أسباب إطلاق أبي إسحاق من اعتقاله. ثم اتصلت بينهما المودة والكتابة. وحكى القاضي أبو علي التنوخي قال: دخل أبو الفرج عبد الواحد الببغاء على الوزير أبي نصر سأبور بن أردشير وقد نثرت عليه دنانير وجواهر، فأنشد بديهاً: نثروا الجواهر واللجين وليس لي ... شيءٌ عليه سوى المدائح أنثر بقصائدٍ كالدر إن هي أنشدت ... وثنا إذا ما فاح فهو العنبر] (1) ومن شعره: يا سادتي هذه روحي تودعكم ... إذ كان لا الصبر يسليها ولا الجزع قد كنت أطمع في روح الحياة لها ... فالآن إذ بنتم لم يبق لي طمع لا عذب الله روحي بالبقاء فما ... أظنها بعدكم بالعيش تنتفع وله (2) : خيالك منك أعرف بالغرام ... وأرأف بالمحب المستهام ولو يسطيع حين حظرت نومي ... علي لزار في غير المنام وله أيضاً: ومهفهفٍ لما اكتست وجناته ... خلع الملاحة طرزت بعذاره لما انتصرت على أليم جفائه ... بالقلب كان القلب من أنصاره   (1) انفردت ر بهذه الزيادة. (2) سقط البيتان من ل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 201 كملت محاسن وجهه فكأنما اق ... تبس الهلال النور من أنواره وإذا ألح القلب في هجرانه ... قال الهوى لا بد منه فداره وله في التشبيه وقد أبدع فيه: وكأنما نقشت حوافر خيله ... للناظرين أهلةً في الجلمد وكأن طرف الشمس مطروفٌ وقد ... جعل الغبار له مكان الإثمد وله في سعيد الدولة بن سيف الدولة بن حمدان: لا غيث نعماه في الورى خلب ال ... برق ولا ورد جوده وشل جاد إلى أن لم يبق نائله ... مالاً ولم يبق للورى أمل وقد سبق نظير هذا المعنى في شعر أبي نصر ابن نباتة السعدي. وأكثر شعر أبي الفرج المذكور جيد ومقاصده فيه جميلة. وكان قد خدم سيف الدولة بن حمدان مدة، وبعد وفاته تنقل في البلاد. وتوفي يوم السبت سلخ شعبان سنة ثمان وتسعين وثلثمائة، وقال الخطيب في تاريخه: توفي في ليلة السبت لثلاث بقين من شعبان سنة ثمان وتسعين وثلثمائة، والله أعلم، رحمه الله تعالى. وقال الثعالبي: وسمعت الأمير أبا الفضل الميكالي يقول عند صدوره من الحج ودخوله بغداد في سنة تسعين وثلثمائة: ورأيت بها أبا الفرج الببغاء شيخاً عالي السن متطاول الأمد، قد أخذت الأيام من جسمه وقوته ولم تأخذ من ظرفه وأدبه. والببغاء: بفتح الباء الأولى وتشديد الباء الثانية وفتح الغين المعجمة وبعدها ألف، وهو لقب وإنما لقب به لحسن فصاحته، وقيل: للثغة كانت في لسانه. ووجد بخط أبي الفتح ابن جني النحوي الففغاء، بفاءين، والله أعلم بالصواب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 202 392 - (1) أبو منصور البغدادي الأستاذ أبو منصور عبد القاهر بن محمد البغدادي الفقيه الشافعي الأصولي الأديب؛ كان ماهراً في فنون عديدة خصوصاً علم الحساب، فإنه كان متقناً له وله فيه تواليف نافعة، منها كتاب " التكملة "، وكان عارفاً بالفرائض والنحو، وله أشعار (2) ، وذكره الحافظ عبد الغافر بن إسماعيل الفارسي في " سياق تاريخ نيسابور " (3) ، وقال: " ورد مع أبيه نيسابور، وكان ذا مال وثروة وأنفقه على أهل العلم والحديث ولم يكتسب بعلمه مالاً، وصنف في العلوم وأربى على أقرانه في الفنون ودرس في سبعة عشر فناً، وكان قد تفقه على أبي إسحاق الإسفرايني وجلس بعده للإملاء في مكانه بمسجد عقيل فأملى سنين، واختلف إليه الأئمة فقرأوا عليه، مثل ناصر المروزي وزين الإسلام القشيري وغيرهما ". وتوفي سنة تسع وعشرين وأربعمائة بمدينة إسفراين، ودفن إلى جانب شيخه الأستاذ أبي إسحاق، رحمهما الله تعالى.   (1) ترجمته في انباه الرواة 2: 185 وطبقات السبكي 3: 238 وتبيين كذب المفتري: 253 وبغية الوعاة: 310 والفوات 1: 613؛ وما هنا مطابق لما في المسودة. (2) ر: أشعار كثيرة. (3) انظر Histories: (المختصر الأول، الورقة: 55) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 203 393 - (1) أبو النجيب السهروردي أبو النجيب عبد القاهر بن عبد الله بن محمد بن عمويه، واسمه عبد الله، بن سعد بن الحسين بن القاسم بن علقمة بن النضر بن معاذ بن عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، الملقب ضياء الدين السهروردي. وقال محب الدين بن النجار في " تاريخ بغداد ": نقلت نسب الشيخ أبي النجيب من خطه وهو: عبد القاهر بن عبد الله بن محمد بن عمويه، واسمه عبد الله، بن سعد بن الحسين بن القاسم بن النضر بن سعد بن النضر عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، وإذا كان بخطه هكذا فهو أصح. كان شيخ وقته بالعراق، وولد بسهرورد سنة تسعين وأربعمائة تقريباً، وقدم بغداد وتفقه بالمدرسة النظامية على أسعد الميهني - المقدم ذكره - وغيره، ثم سلك طريق الصوفية وحبب إليه الانقطاع والعزلة فانقطع عن الناس مدة مديدة، وأقبل على الاشتغال بالعمل لله تعالى وبذل الجهد في ذلك، ثم رجع ودعا جماعة إلى الله تعالى وكان يعظ ويذكر، فرجع بسببه خلق كثير إلى الله تعالى. وبنى رباطاً على الشط من الجانب الغربي ببغداد وسكنه جماعة من أصحابه الصالحين، ثم ندب إلى التدريس بالمدرسة النظامية فأجاب ودرس بها مدة، وظهرت بركته على تلامذته وكانت ولايته في السابع والعشرين من المحرم سنة خمس وأربعين وخمسمائة، وصرف عنها في رجب سنة سبع وأربعين. وروى عنه الحافظ أبو سعد السمعاني وذكره في كتابه. وقدم الموصل مجتازاً إلى الشام لزيارة البيت المقدس في سنة سبع وخمسين وخمسمائة، وعقد بها مجلس الوعظ بالجامع العتيق، ثم توجه إلى الشام فوصل إلى   (1) ترجمته في طبقات السبكي 4: 256 ومعجم البلدان واللباب (سهرورد) وعبر الذهبي 4: 181 والشذرات 4: 208؛ وما هنا مطابق لنص المسودة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 204 دمشق، ولم تتفق له الزيارة لانفساخ الهدنة بين المسلمين والفرنج، خذلهم الله تعالى، فأكرم الملك العادل نور الدين محمود صاحب الشام مورده، وأقام بدمشق مدة يسيرة وعقد بها مجلس الوعظ وعاد إلى بغداد، وتوفي بها يوم الجمعة وقت العصر سابع عشر جمادى الآخرة سنة ثلاث وستين وخمسمائة، ودفن بكرة الغد في رباطه. وكان مولده تقديراً سنة تسعين وأربعمائة، كذا ذكره ابن أخيه شهاب الدين في مشيخته. وهو عم شهاب الدين أبي حفص عمر السهروردي، وسيأتي اسمه، رحمهما الله تعالى. وعمويه: بفتح العين المهملة وتشديد الميم المضمومة وسكون الواو وفتح الياء المثناة من تحتها. وسهرورد: بضم السين المهملة وسكون الهاء وفتح الراء والواو وسكون الراء الثانية وفي آخرها دال مهملة، وهي بليدة عند زنجان من عراق العجم. 394 - (1) أبو القاسم القشيري أبو القاسم عبد الكريم بن هوزان بن عبد الملك بن طلحة بن محمد القشيري الفقيه الشافعي؛ كان علامة في الفقه والتفسير والحديث والأصول والأدب والشعر والكتابة وعلم التصوف، جمع بين الشريعة والحقيقة، أصله من ناحية أستوا من العرب الذين قدموا خراسان، توفي أبوه وهو صغير، وقرأ الأدب   (1) ترجمة القشيري في تاريخ بغداد 11: 83 ودمية القصر: 194 وتبيين كذب المفتري: 271 والمنتظم 8: 280 واللباب (قشيري) وتاريخ ابن الأثير 10: 88 وانباه الرواة 2: 193 وطبقات السبكي 3: 243 والنجوم الزاهرة 5: 91 وطبقات المفسرين: 31 والشذرات 3: 319 وعبر الذهبي 3: 259. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 205 في صباه، وكانت له قرية مثقلة الخراج بنواحي أستوا فرى من الرأي أن يحضر إلى نيسابور يتعلم طرفاً من الحساب ليتولى الاستيفاء ويحمي قريته من الخراج، فحضر نيسابور على هذا العزم، فاتفق حضوره مجلس الشيخ أبي علي الحسن بن علي النيسابوري المعروف بالدقاق، وكان إمام وقته، فلما سمع كلامه أعجبه ووقع في قلبه فرجع عن ذلك العزم، وسلك طريق الإرادة، فقبله الدقاق وأقبل عليه، وتفرس فيه النجابة فجذبه بهمته وأشار عليه بالاشتغال بالعلم، فخرج إلى درس أبي بكر محمد بن أبي بكر الطوسي، وشرع في الفقه حتى فرغ من تعليقه، ثم اختلف إلى الأستاذ أبي بكر ابن الإسفرايني، وقعد يسمع درسه أياماً فقال الأستاذ: هذا العلم لا يحصل بالسماع ولابد من الضبط بالكتابة، فأعاد عليه جميع ما سمعه تلك الأيام، فعجب منه وعرف محله فأكرمه وقال له: ما تحتاج إلى درس بل يكفيك أن تطالع مصنفاتي فقعد وجمع بين طريقته وطريقة ابن فورك، ثم نظر في كتب القاضي أبي بكر بن الطيب الباقلاني وهو مع ذلك يحضر مجلس أبي علي الدقاق، وزوجه ابنته مع كثرة أقاربها. وبعد وفاة أبي علي سلك مسلك المجاهدة والتجريد وأخذ في التصنيف، فصنف التفسير الكبير قبل سنة عشر وأربعمائة، وسماه " التيسير في علم التفسير " وهو من أجود التفاسير، وصنف الرسالة " في رجال الطريقة "، وخرج إلى الحج في رفقة فيها الشيخ أبو محمد الجويني والد إمام الحرمين وأحمد بن الحسين البيهقي وجماعة من المشاهير، فسمع معهم الحديث ببغداد والحجاز. وكان له في الفروسية واستعمال السلاح يد بيضاء، وأما مجالس الوعظ والتذكير فهو إمامها، وعقد لنفسه مجلس الإملاء في الحديث سنة سبع وثلاثين وأربعمائة. وذكره أبي الحسن علي الباخرزي في كتاب " دمية القصر " وبالغ في الثناء عليه، وقال في حقه: لو قرع الصخر بصوت تحذيره لذاب ولو ربط إبليس في مجلسه لتاب. وذكره الخطيب في تاريخه وقال: قدم علينا - يعني إلى بغداد - في سنة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 206 ثمان وأربعين وأربعمائة وحدث ببغداد وكتبنا عنه، وكان ثقة وكان يقص وكان حسن الوعظ مليح الإشارة، وكان يعرف الأصول على مذهب الأشعري والفروع على مذهب الشافعي. وذكره عبد الغافر الفارسي في تاريخه (1) . وقال أبو عبد الله محمد بن الفضل الفراوي: أنشدنا عبد الكريم بن هوازن القشيري لنفسه: سقى الله وقتاً كنت أخلو بوجهكم ... وثغر الهوى في روضة الأنس ضاحك أقمنا زماناً والعيون قريرة ... وأصبحت يوماً والجفون سوافك وقال أبو الفتح محمد بن محمد بن علي الواعظ الفراوي: وكان أبو القاسم القشيري كثيراً ما ينشد لبعضهم وهو ذو القرنين ابن حمدان المقدم ذكره في حرف الذال: لو كنت ساعة بيننا ما بيننا ... وشهدت كيف تكرر التوديعا أيقنت أن من الدموع محدثاً ... وعلمت أن من الحديث دموعا ولد في شهر ربيع الأول سنة ست وسبعين وثلثمائة؛ وتوفي صبيحة يوم الأحد قبل طلوع الشمس سادس عشر ربيع الآخر سنة خمس وستين وأربعمائة بمدينة نيسابور، ودفن بالمدرسة تحت شيخه أبي علي الدقاق، رحمه الله تعالى، ورأيت في كتابه المسمى بالرسالة بيتين أعجباني، فأحببت ذكرهما (2) : ومن كان في طول الهوى ذاق سلوةً ... فإني من ليلى لها غير ذائق وأكثر شيء نلته من وصالها ... أماني لم تصدق كخطفة بارق (100) وكان ولده أبو نصر (3) عبد الرحيم إماماً كبيراً أشبه أباه في علومه   (1) انظر Histories: (المختصر الأول، الورقة 49) وأورده له عدداً آخر من المقطعات الشعرية. (2) الرسالة القشيرية: 617. (3) أخبار: نصر القشيري في تبيين كذب المفتري: 308 والبداية والنهاية 12: 187 وطبقات الوعات 4: 249 وتاريخ عبد الغفار (الملخص الثاني، الورقة: 93) وأخبار ما جرى له مع حنابلة في المنتظم وتاريخ ابن الأثير. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 207 ومجالسه، ثم واظب دروس إمام الحرمين أبي المعالي حتى حصل طريقته في المذهب والخلاف ثم خرج للحج فوصل إلى بغداد وعقد بها مجلس وعظ، وحصل له قبول عظيم وحضر الشيخ أبو إسحاق الشيرازي مجلسه وأطبق علماء بغداد على أنهم لم يروا مثله، وكان يعظ في المدرسة النظامية ورباط شيخ الشيوخ، وجرى له مع الحنابلة خصام بسبب الاعتقاد لأنه تعصب للأشاعرة وانتهى الأمر إلى فتنة قتل فيها جماعة من الفريقين، وركب أحد أولاد نظام الملك حتى سكنها، وبلغ الخبر نظام الملك وهو بأصبهان، فسير إليه وإستدعاه فلما حضر عنده زاد في إكرامه ثم جهزه إلى نيسابور فلما وصلها لازم الدرس والوعظ إلى أن قارب انتهاء أمره فأصابه ضعف في أعضائه وأقام كذلك مقدار شهر، ثم توفي ضحوة نهار الجمعة الثامن والعشرين من جمادى الآخرة سنة أربع عشرة وخمسمائة بنيسابور، ودفن في المشهد المعروف بهم، رحمه الله تعالى. وكان يحفظ من الشعر والحكايات شيئاً كثيراً، ورأيت له في بعض المجاميع هذه الأبيات، وذكرها السمعاني في " الذيل " أيضاً: القلب نحوك نازع ... والدهر فيك منازع جرت القضية بالنوى ... ما للقضية وازع الله يعلم أنني ... لفراق وجهك جازع وتوفي شيخه أبو علي الدقاق المذكور في سنة اثنتي عشرة وأربعمائة. والقشيري: بضم القاف وفتح الشين المعجمة وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها راء، هذه النسبة إلى قشير بن كعب، وهي قبيلة كبيرة. وأستوا: بضم الهمزة وسكون السين المهملة وضم التاء المثناة من فوقها أو فتحها وبعدها واو ثم ألف، وهي ناحية بنيسابور كثيرة القرى خرج منها جماعة من العلماء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 208 (1) 395 ابن السمعاني تاج الإسلام أبو سعد (2) عبد الكريم بن أبي بكر محمد بن أبي المظفر المنصور بن محمد بن عبد الجبار بن أحمد بن محمد بن جعفر بن أحمد بن عبد الجبار بن الفضل ابن الربيع بن مسلم بن عبد الله بن عبد المجيد التميمي السمعاني المروزي الفقيه الشافعي الحافظ الملقب قوام الدين؛ ذكره الشيخ عز الدين أبو الحسن علي بن الأثير الجزري في أول مختصره فقال (3) : كان أبو سعد واسطة عقد البيت السمعاني وعينهم الباصرة ويدهم الناصرة، وإليه انتهت رياستهم، وبه كملت سيادتهم، رحل في طلب العلم والحديث إلى شرق الأرض وغربها وشمالها وجنوبها، وسافر إلى ما وراء النهر وسائر بلاد خراسان عدة دفعات، وإلى قومس والري وأصبهان وهمذان، وبلاد الجبال والعراق والحجاز والموصل والجزيرة والشام وغيرها من البلاد التي يطول ذكرها ويتعذر حصرها، ولقي العلماء وأخذ عنهم وجالسهم وروى عنهم واقتدى بأفعالهم الجميلة وآثارهم الحميدة، وكان عدة شيوخه تزيد على أربعة آلاف شيخ، وذكر في بعض أماليه فقال: ودعني عبد الله بن محمد بن غالب أبو محمد الجيلي الفقيه نزيل الأنبار، وبكى وأنشدني: ولما برزنا لتوديعهم ... بكوا لؤلؤاً وبكينا عقيقا أداروا علينا كؤوس الفراق ... وهيهات من سكرها أن نفيقا تولوا فأتبعتهم أدمعي ... فصاحوا الغريق فصحت الحريقا   (1) ترجمته في طبقات السبكي 4: 259 وتذكرة الحفاظ: 1316 وعبر الذهبي 4: 178 والشذرات 4: 205 والنجوم الزاهرة 5: 563، وانظر مقدمة الأنساب (تحقيق الشيخ عبد الرحمن اليماني) ؛ قلت: وهذه الترجمة مستوفاة في المسودة. (2) بعد هذا في المطبوعات المصرية: ويقال أبو سعيد، ولا وجود لهذا في النسخ الخطية. (3) اللباب 1: 9. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 209 [ومما قيل في المعنى: تنفست الغداة غداة ولوا ... وعيرهم معارضة الطريق فصاحوا بالحريق، فظلت أبكي ... فصاحوا بالحريق والغريق] (1) وصنف التصانيف الحسنة الغزيرة الفائدة (2) ، فمن ذلك " تذييل تاريخ بغداد " الذي صنعه الحافظ أبو بكر الخطيب وهو نحو خمسة عشر مجلداً، ومن ذلك " تاريخ مرو " يزيد على عشرين مجلداً، وكذلك " الأنساب " نحو ثماني مجلدات وهو الذي اختصره عز الدين المذكور واستدرك عليه، وهو في ثلاث مجلدات، والمختصر هو الموجود بأيدي الناس والأصل قليل الوجود. ذكر أبو سعد السمعاني المذكور في ترجمة والده أن أباه حج سنة سبع وتسعين وأربعمائة، ثم عاد إلى بغداد وسمع بها الحديث من جماعة من المشايخ، وكان يعظ الناس في المدرسة النظامية، ويقرأ عليه الحديث، ويحصل الكتب، وأقام كذلك مدة، ثم رحل إلى أصبهان فسمع بها من جماعة كبيرة، ثم رجع إلى خراسان وأقام بمرو إلى سنة تسع وخمسمائة، وخرج إلى نيسابور. قال أبو سعد: وحملني وأخي إليها، وسمعنا الحديث من أبي بكر عبد الغفار بن محمد الشيروي وغيره من المشايخ، وعاد إلى مرو، وأدركته المنية وهو شاب ابن ثلاث وأربعين سنة (3) . وكانت ولادة أبي سعد المذكور بمرو يوم الاثنين الحادي والعشرين من شعبان سنة ست وخمسمائة. وتوفي بمرو في ليلة غرة شهر ربيع الأول سنة اثنتين وستين وخمسمائة، رحمه الله تعالى. (101) وكان أبوه محمد (4) إماماً فاضلاً مناظراً محدثاً فقيهاً شافعياً حافظاً، وله الإملاء الذي لم يسبق إلى مثله، تكلم على المتون والأسانيد، وأبان   (1) ما بين معقفين سقط من النسخ الخطية ووستنفيلد، وثبت في المطبوعات المصرية. (2) ر: الغزيرة الحسنة الفائقة. (3) ذكر أبو سعد ... وأربعين سنة: هو في هامش المسودة وقد سقط من س وثبت في ل. (4) ترجمته في طبقات السبكي 4: 186. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 210 مشكلاتها (1) ، وله عدة تصانيف، وكان له شعر غسله قبل موته، وكانت ولادته في جمادى الأولى سنة ست وستين وأربعمائة، وتوفي وقت فراغ الناس من صلاة الجمعة ثاني صفر سنة عشر وخمسمائة، ودفن يوم السبت عند والده أبي المظفر بسفحوان إحدى مقابر مرو، رحمه الله تعالى. (102) وكان جده المنصور (2) إمام عصره بلا مدافعة، أقر له بذلك الموافق والمخالف، وكان حنفي المذهب متعيناً عند أئمتهم، فحج في سنة اثنتين وستين وأربعمائة وظهر له بالحجاز ما اقتضى (3) انتقاله إلى مذهب الإمام الشافعي، رضي الله عنه، فلما عاد إلى مرو لقي بسبب انتقاله محناً وتعصباً شديداً، فصبر على ذلك، وصار إمام الشافعية بعد ذلك يدرس ويفتي، وصنف في مذهب الشافعي رضي الله عنه وفي غيره من العلوم تصانيف كثيرة، منها " منهاج أهل السنة " و " الانتصار " و " الرد على القدرية " وغيرها. وصنف في الأصول " القواطع " وفي الخلاف " البرهان " يشتمل على قريب من ألف مسألة خلافية، و " الأوسط " و " الاصطلام " رد فيه على أبي زيد الدبوسي، وأجاب عن الأسرار التي جمعها، وله تفسير القرآن العزيز، وهو كتاب نفيس، وجمع في الحديث ألف حديث عن مائة شيخ، وتكلم عليها فأحسن، وله وعظ مشهور بالجودة، وكانت ولادته في سنة ست وعشرين وأربعمائة في ذي الحجة، وتوفي في شهر ربيع الأول سنة تسع وثمانين وأربعمائة بمرو، رحمه الله تعالى. وفي بيتهم جماعة كثيرة علماء رؤساء. والسمعاني: بفتح السين المهملة وسكون الميم وفتح العين المهملة وبعد الألف نون، هذه النسبة إلى سمعان، وهو بطن من تميم، وسمعت بعض العلماء يقول: يجوز بكسر السين أيضاً.   (1) في المسودة: مشكلاته. (2) ترجمته في طبقات السبكي 4: 21 و Histories (المختصر الأول، الورقة 88 ب) والأنساب: " السمعاني ". (3) ل: مقتضى؛ وقد قص السبكي أنه رأى الله في المنام بعد أن اختلج في ذهنه اتباع الشافعي، يقول له: " عد إلينا أبا المظفر " فرأى ذلك يعني التحول غلى مذهب الشافعي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 211 (103) وكان لأبي سعد عبد الكريم ولد يقال له أبو المظفر عبد الرحيم (1) بكر به والده في سماع الحديث وطاف به في بلاد خراسان وما وراء النهر وأسمعه الحديث وحصل له النسخ وجمع له معجماً لمشايخه في ثمانية عشر جزءاً، وعوالي في مجلدين ضخمين، وشغله بالفقه والأدب والحديث حتى حصل من كل واحد طرفاً صالحاً، وحدث بالكثير ورحل إليه الطلاب، وكان محترماً ببلاده، ومولده في ليلة الجمعة لسبع عشرة ليلة خلت من ذي القعدة سنة سبع وثلاثين وخمسمائة بنيسابور، وتوفي بمرو ما بين (2) سنة أربع عشرة وستمائة، رحمه الله تعالى. 396 - (3) ابن حمديس الشاعر الصقلي أبو محمد عبد الجبار بن أبي بكر ابن محمد بن حمديس الأزدي الصقلي الشاعر المشهور؛ قال ابن بسام في حقه: هو شاعر ماهر يقرطس أغراض المعاني البديعة، وبعبر عنها بالألفاظ النفيسة الرفيعة، ويتصرف في التشبيه المصيب، ويغوص في بحر الكلم (4) على در المعنى الغريب، فمن معانيه البديعة قوله في صفة نهر (5) :   (1) ترجمته في الشذرات 5: 75 والعبر 5: 68. (2) كذا في ر وقد طمس في هامش المسودة، وفيه نقص على ما يبدو؛ وقد جعل صاحب الشذرات وفاته سنة 617، وفي مقدمة كتاب " الأنساب " ترجمة له منقولة عن تقييد ابن نقطة (انظر الأنساب 1: 23) وفيها: انقطعت عنا أخباره من سنة سبع عشرة وستمائة وظهور الترك (التتر) بخراسان. (3) انظر مقدمة ديوانه (بيروت 1961) والمصادر المذكورة هنالك؛ وقد أحاطت المسودة بما جاء في هذه الترجمة. (4) ر ل: الكلام. (5) ديوانه: 186. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 212 ومطرد الأجزاء تصقل متنه ... صباً أعلنت للعين ما في ضميره جريحٌ بأطراف الحصى كلما جرى ... عليها شكا أوجاعه بخريره كأن حباباً ريع تحت حبابه ... فأقبل يلقي نفسه في غديره كأن الدجى خط المجرة بيننا ... وقد كللت حافاته ببدوره (1) شربنا على حافاته دور سكره ... وأقتل سكراً منه عينا مديره وله من قصيد (2) : بت منها مستعيداً قبلاً ... كن لي منها على الدهر اقتراح وأروي غلل الشوق بما ... لم يكن في قدرة الماء القراح قوله " وأروي غلل الشوق " مأخوذ من قول البحتري (3) : وبي ظمأ لا يملك الماء دفعه ... إلى نهلة من ريقها البارد العذب وقوله " جريح بأطراف الحصى " مأخوذ من قول المتنبي (4) : وذكي رائحة الرياض كأنها ... تلقي الثناء على الحيا فيفوح جهد المقل فكيف بابن كريمة ... توليه خيراً واللسان فصيح وله من قصيدة أولها (5) : قم هاتها من كف ذات الوشاح ... فقد نعى الليل بشير الصباح باكر إلى اللذات واركب لها ... سوابق اللهو ذوات المراح من قبل أن ترشف شمس الضحى ... ريق الغوادي من ثغور الأقاح   (1) سقط هذا البيت والذي يليه من س ل. (2) ديوانه: 82. (3) ديوان البحتري: 1: 104. (4) ديوان المتنبي: 62. (5) ديوان ابن حمديس: 89. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 213 ومن معانيه النادرة قوله (1) : زادت على كحل الجفون تكحلاً ... ويسم نصل السهم وهو قتول وله من جملة قصيد يتشوق صقلية (2) : ذكرت صقلية والأسى ... يجدد (3) للنفس تذكارها فإن كنت أخرجت من جنةٍ ... فإني أحدث أخبارها ولولا ملوحة ماء البكاء ... حسبت دموعي أنهارها وكان قد دخل إلى الأندلس سنة إحدى وسبعين وأربعمائة، ومدح المعتمد بن عباد فأحسن إليه وأجزل عطاياه، ولما قبض المعتمد وحبس بأغمات - كما سيأتي في ترجمته إن شاء الله - سمع ابن حمديس المذكور له أبياتاً عملها [المعتمد] (4) في الاعتقال، فأجابه عنها بقوله (5) : أتيأس من يوم يناقض أمسه ... وشهب الدراري في البروج تدور ولما رحلتم بالندى في أكفكم ... وقلقل رضوى منكم وثبير رفعت لساني بالقيامة قد دنت ... فهذي الجبال الراسيات تسير وقد ألم في البيت الأخير بقول عبد الله بن المعتز في مرثيته للوزير أبي القاسم عبيد الله بن سليمان بن وهب: قد استوى الناس ومات الكمال ... وقال صرف الدهر أين الرجال هذا أبو القاسم في نعشه ... قوموا انظروا كيف تزول الجبال   (1) ديوانه: 558. (2) ديوانه: 183. (3) هامش المسودة: خ: يهيج. (4) زيادة من ر. (5) ديوانه: 268. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 214 وله ديوان شعر أكثره جيد. وتوفي في شهر رمضان سنة سبع وعشرين وخمسمائة بجزيرة ميورقة ودفن إلى جنب قبر ابن اللبانة الشاعر المشهور، وكان قد عمي، وقيل ببجاية، وأبياته الميمية التي في الشيب والعصا (1) تدل على أنه بلغ الثمانين، رحمه الله تعالى. وحمديس: بفتح الحاء المهملة وسكون الميم وكسر الدال المهملة وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها سين مهملة. والصقلي: بفتح الصاد المهملة والقاف وبعدها لام مشددة - هذه النسبة إلى جزيرة صقلية وهي في بحر المغرب بالقرب من إفريقية انتزعها الفرنج من المسلمين في سنة أربع وستين وأربعمائة. (2) 397 أبو طالب المعافري أبو طالب عبد الجبار بن محمد بن علي بن محمد المعافري المغربي؛ كان إماماً في اللغة وفنون الأدب، جاب البلاد وانتهى إلى بغداد وقرأ بها، واشتغل عليه خلق كثير وانتفعوا به، ودخل الديار المصرية في سنة إحدى وخمسين وخمسمائة، وقرأ عليه بها الشيخ العلامة أبو محمد عبد الله بن بري - المقدم ذكره - وكتب بخطه كثيراً، وهو حسن الخط على طريق المغاربة، وأكثر ما كتب في الأدب، ورأيت منه شيئاً كثيراً، وقد أتقن ضبطه غاية الإتقان، ورأيت (3)   (1) هي التي يقول فيها (الديوان: 482) : كأنني وهي في كفي أهش بها ... على ثمانين عاماً لا على غنمي (2) ترجمته في بغية الوعاة: 294 والتكملة رقم: 1779. (3) ورأيت ... المحمدين: سقط من س ل م وثبت في ر؛ وكتب عند موضعه في المسودة: " ها هنا تكتب التخريجة ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 215 بخطه على ظهر كتاب " المذيل " (1) في اللغة بيتين وهما: أقسم بالله على كل من ... أبصر خطي حيثما أبصره أن يدعو الرحمن لي مخلصاً ... بالعفو والتوبة والمغفرة وكتاب " المسلسل " للشيخ أبي الطاهر محمد بن يوسف بن عبد الله التميمي وهو يروي الكتاب عن مؤلفه - وقد ذكرت ذلك في ترجمة أبي الطاهر المذكور في حرف الميم في ترجمة المحمدين. وتوفي في سنة ست وستين وخمسمائة وهو عائد إلى المغرب من الديار المصرية، رحمه الله تعالى. والمعافري (2) : بفتح الميم والعين المهملة وبعد الألف فاء مكسورة ثم راء، هذه النسبة إلى المعافر بن يعفر، وهي قبيل كبير، عامتهم بمصر. 398 - (3) عبد الرزاق الصنعاني أبو بكر عبد الرزاق بن همام بن نافع الصنعاني، مولى حمير؛ قال أبو سعد ابن السمعاني: قيل ما رحل الناس إلى أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل (4) ما رحلوا إليه. يروي عن معمر بن راشد الأزدي مولاهم البصري والأوزاعي وابن جريج وغيرهم، وروى عنه أئمة الإسلام في ذلك العصر منهم   (1) كذا في ر، ولعل الصواب " المسلسل ". (2) قد تقدم هذا الضبط، انظر الترجمة رقم: 380. (3) ترجمته في طبقات الحنابلة 1: 209 ونكت الهميان: 191 وطبقات سابن سمرة: 67 وميزان الاعتدال 2: 609 وعبر الذهبي 1: 360 وتهذيب التهذيب 6: 310 والشذرات 2: 27. (4) ل: بمثل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 216 سفيان بن عيينة وهو من شيوخه وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين وغيرهم. وكانت ولادته في سنة ست وعشرين ومائة. وتوفي في شوال سنة إحدى عشرة ومائتين باليمن، رحمه الله تعالى. والصنعاني: بفتح الصاد المهملة وسكون النون وفتح العين المهملة وبعد الألف نون، هذه النسبة إلى مدينة صنعاء، وهي من أشهر مدن اليمن، وزادوا النون في النسبة إليها، وهي نسبة شاذة، كما قالوا في بهراء: بهراني. وقال أبو محمد عبد الله بن الحارث الصنعاني: سمعت عبد الرزاق يقول: من يصحب الزمان ير الهوان، قال: وسمعته ينشد: فذاك زمان لعبنا به ... وهذا زمان بنا يلعب (1) (2) 399 ابن الصباغ صاحب الشامل أبو نصر عبد السيد بن محمد بن عبد الواحد بن أحمد بن جعفر، المعروف بابن الصباغ، الفقيه الشافعي؛ كان فقيه العراقين في وقته، وكان يضاهي الشيخ أبا إسحاق الشيرازي، وتقدم عليه في معرفة المذهب. وكانت الرحلة إليه من البلاد، وكان تقياً حجة صالحاً، ومن مصنفاته كتاب " الشامل " في الفقه، وهو من أجود كتب أصحابنا، وأصحها نقلاً وأثبتها أدلةً، وله كتاب " تذكرة العالم والطريق السالم " (3) و " العدة " في أصول الفقه، وتولى التدريس بالمدرسة النظامية ببغداد أول ما فتحت، ثم عزل بالشيخ أبي إسحاق، وكانت   (1) وقال أبو محمد ... يلعب: ثبت في ر، وفي موضعه من المسودة: " بعد ذلك التخريجة ". (2) ترجمته في المنتظم 9: 12 ونكت الهميان: 193 وطبقات السبكي 3: 230 وعبر الذهبي 3: 287 والشذرات 3: 355، وهذه الترجمة مطابقة لما في المسودة. (3) ل س: وطريق السالم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 217 ولايته لها عشرين يوماً، ولما توفي أبو إسحاق أعيد لها أبو نصر المذكور. وذكر أبو الحسن محمد بن هلال بن الصابئ في تاريخه أن المدرسة النظامية بدئ بعمارتها في ذي الحجة من سنة سبع وخمسين وأربعمائة، وفتحت يوم السبت عاشر ذي القعدة من سنة تسع وخمسين، وكان نظام الملك أمر أن يكون المدرس بها أبا إسحاق الشيرازي، وقرروا معه الحضور في هذا اليوم للتدريس، فاجتمع الناس ولم يحضر، وطلب فلم يوجد، فنفذ إلى أبي نصر ابن الصباغ فأحضر ورتب بها مدرساً، وظهر الشيخ أبو إسحاق في مسجده ولحق أصحابه من ذلك ما بان عليهم وفتروا عن حضور درسه وراسلوه إن لم يدرس بها مضوا إلى ابن الصباغ وتركوه، فأجاب إلى ذلك، وعزل ابن الصباغ، وجلس أبو إسحاق يوم السبت مستهل ذي الحجة فكان مدة تدريس ابن الصباغ عشرين يوماً. وقال ابن النجار في " تاريخ بغداد ": ولما مات أبو إسحاق تولى أبو سعد المتولي ثم صرف في سنة ست وسبعين، وأعيد ابن الصباغ ثم صرف في سنة سبع وسبعين، وأعيد أبو سعد إلى أن مات، وقد ذكرت ذلك في ترجمته. وقد سبق في ترجمة الشيخ أبي إسحاق في حرف الهمزة طرف من هذه القضية. وكانت ولادته سنة أربعمائة ببغداد، وكف بصره في آخر عمره. وتوفي في جمادى الأولى سنة سبع وسبعين وأربعمائة ببغداد، وقيل بل توفي يوم الخميس منتصف شعبان من السنة المذكورة، رحمه الله تعالى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 218 (1) 400 القاضي عبد الوهاب المالكي القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن علي بن نصر بن أحمد بن الحسين بن هارون بن مالك بن طوق التغلبي البغدادي الفقيه المالكي، وهو من ذرية مالك بن طوق التغلبي صاحب الرحبة؛ كان فقيهاً أديباً شاعراً، صنف في مذهبه كتاب " التلقين " وهو مع صغر حجمه من خيار الكتب وأكثرها فائدة، وله كتاب " المعونة " و " شرح الرسالة " وغير ذلك عدة تصانيف. ذكره الخطيب في " تاريخ بغداد " فقال (2) : سمع أبا عبد الله بن العسكري وعمر بن محمد بن سبنك (3) وأبا حفص ابن شاهين، وحدث بشيء يسير. كتبت عنه، وكان ثقة، ولم يلق من المالكيين أحداً أفقه منه، وكان حسن النظر جيد العبارة، وتولى القضاء ببادرايا وباكسايا، وخرج في آخر عمره إلى مصر فمات بها. وذكره ابن بسام في كتاب " الذخيرة " فقال (4) : كان بقية الناس، ولسان أصحاب القياس، وقد وجدت له شعراً معانيه أجلى من الصبح وألفاظه أحلى من الظفر بالنجح، ونبت به بغداد كعادة البلاد بذوي فضلها، وعلى حكم الأيام في محسني أهلها، فخلع أهلها، وودع ماءها وظلها، وحدثت أنه شيعه يوم فصل عنها من أكابرها وأصحاب محابرها جملة موفورة وطوائف   (1) ترجمته في طبقات الشيرازي، الورقة: 49 وتبيين كذب المفتري: 249 وترتيب المدارك 4: 691 والديباج المذهب: 159 والمرقبة العليا: 40 والبداية والنهاية 12: 32 والشذرات 3: 223 وقد ترجم له الكتبي في الفوات (2: 44) والزركشي في عقود الجمان (ج 2، الورقة: 202) رغم أنهما يستدركان على المؤلف. (2) تاريخ بغداد 11: 31. (3) ل س: سنبك. (4) ترجمته في القسم الأخير من الذخيرة الخاص بالمشارقة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 219 كثير، وأنه قال لهم: لو وجدت بين ظهرانيكم رغيفين كل غداة وعشية، ما عدلت ببلدكم بلوغ أمنية، وفي ذلك يقول: سلام على بغداد في كل موطنٍ ... وحق لها مني سلامٌ مضاعف فوالله ما فارقتها عن قلىً لها ... وإني بشطي جانبيها لعارف ولكنها ضاقت علي بأسرها ... ولم تكن الأرزاق فيها تساعف وكانت كخلٍ كنت أهوى دنوه ... وأخلاقه تنأى به وتخالف واجتاز في طريقه بمعرة النعمان، وكان قاصداً مصر، وبالمعرة يومئذ أبو العلاء المعري فأضافه، وفي ذلك يقول من جملة أبيات (1) : والمالكي ابن نصرٍ زار في سفرٍ ... بلادنا (2) فحمدنا النأي والسفرا إذا تفقه أحيا (3) مالكاً جدلاً ... وينشر الملك الضليل إن شعرا ثم توجه إلى مصر فحمل لواءها، وملأ أرضها وسماءها، واستتبع سادتها وكبراءها، وتناهت إليه الغرائب، وانثالت في يديه الرغائب، فمات لأول ما وصلها من أكلة اشتهاها فأكلها، وزعموا أنه قال وهو يتقلب، ونفسه يتصعد ويتصوب: لا إله إلا الله، إذا عشنا متنا. وله أشعار رائقة طريفة، فمن ذلك قوله: ونائمة قبلتها فتنبهت ... فقالت تعالوا واطلبوا اللص بالحد فقلت لها إني فديتك غاصبٌ ... وما حكموا في غاصبٍ بسوى الرد خذيها وكفي عن أثيمٍ ظلامةً ... وإن أنت لم ترضي فألفاً على العد فقالت: قصاص يشهد العقل أنه ... على كبد الجاني ألذ من الشهد فباتت يميني وهي هميان خصرها ... وباتت يساري وهي واسطة العقد   (1) شروح السقط: 1740. (2) ر: زار بلدتنا في سفرة. (3) الديوان: أعيا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 220 فقالت: ألم أخبر بأنك زاهدٌ ... فقلت بلى ما زلت أزهد في الزهد ومن شعره أيضاً: بغداد دارٌ لأهل المال طيبة ... وللمفاليس دار الضنك والضيق ظللت حيران أمشي في أزقتها ... كأنني مصحفٌ في بيت زنديق [وله: أهيم بذكر الشرق والغرب دائماً ... وما لي لا شرق البلاد ولا غرب ولكن أوطاناً نأت وأحبةً ... فعدت متى أذكر عهودهم أصب ولم أنس من ودعت بالشط سحرةً ... وقد غرد الحادون واشتغل الركب أليفان هذا سائرٌ نحو غربةٍ ... وهذا مقيمٌ سار من صدره القرب وله أيضاً: قطعت الأرض في شهري ربيعٍ ... إلى مصر وعدت إلى العراق وقال لي الحبيب وقد رآني ... مشوقاً للمضمرة العتاق ركبت على البراق فقلت كلا ... ولكني ركبت على اشتياقي] (1) وكان على خاطري أبيات لا أعرف لمن هي، ثم وجدتها في عدة مواضع للقاضي عبد الوهاب المذكور وهي: متى يصل العطاش إلى ارتواءٍ ... إذا استقت البحار من الركايا ومن يثني الأصاغر عن مرادٍ ... وقد جلس الأكابر في الزوايا وأن ترفع الوضعاء يوماً ... على الرفعاء من إحدى الرزايا إذا استوت الأسافل والأعالي ... فقد طابت منادمة المنايا (2)   (1) انفردت ر بما بين المعقفين. (2) بعد هذا جاء في المطبوعة المصرية: وله أيضاً: حمدت إلهي إذ بليت بحبها ... وبي حول يغني عن النظر الشزر نظرت إليها والرقيب يخالني ... نظرت إليه فاسترحت من العذر وهذا البيتان لأبي حفص الشطرنجي في جارية حولاء، وسيذكرهما المؤلف في ترجمة محمد بن الحسن بن حمدون الكاتب، ولا ريب في أن المؤلف مدقق شديد التحري، فلعل هذه الزيادة هنا ليست من الأصل أو من الإضافات التي ألحقها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 221 وذكر صاحب " الذخيرة " أنه ولي القضاء بمدينة اسعرد وقال غيره: كان قاضياً في بادرايا وباكسايا وهما بليدتان من أعمال العراق. وسئل عن مولده فقال: يوم الخميس السابع من شوال سنة اثنتين وستين وثلثمائة ببغداد. وتوفي ليلة الاثنين الرابعة عشرة من صفر سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة بمصر، وقيل: إنه توفي في شعبان من السنة المذكورة رحمه الله تعالى. ودفن في القرافة الصغرى وزرت قبره فيما بين قبة الإمام الشافعي، رضي الله عنه، وباب القرافة، بالقرب من ابن القاسم وأشهب، رحمهما الله تعالى. وكان أبوه من أعيان الشهود المعدلين ببغداد. (104) وكان أخوه أبو الحسن محمد بن علي بن نصر أديباً فاضلاً صنف كتاب " المفاوضة " للملك العزيز جلال الدولة أبي منصور ابن أبي طاهر (1) بهاء الدولة بن عضد الدولة بن بويه، جمع فيه ما شاهده، وهو من الكتب الممتعة في ثلاثين كراسة، وله رسائل، ومولده ببغداد في إحدى الجماديين في سنة اثنتين وسبعين وثلثمائة، وتوفي يوم الأحد لثلاث بقين من شهر ربيع الآخر سنة سبع وثلاثين وأربعمائة بواسط وكان قد صعد إليها من البصرة فمات بها. (105) وتوفي أبوهما أبو الحسن علي يوم السبت ثاني شهر رمضان المعظم إحدى وتسعين وثلثمائة رحمهم الله تعالى.   (1) زاد في المسودة كلمة " بن " بعد " طاهر " وفي النص اضطراب، فإن جلال الدولة يكنى أبا طاهر، ويكنى أبوه بهاء الدولة: أبا نصر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 222 401 - (1) الحافظ عبد الغني أبو محمد عبد الغني بن سعيد بن علي سعيد بن بشر بن مروان بن عبد العزيز الأزدي الحافظ المصري؛ كان حافظ مصر في عصره، وله تواليف نافعة منها " مشتبه النسبة " وكتاب " المؤتلف والمختلف " وغير ذلك وانتفع به خلق كثير وكانت بينه وبين أبي أسامة جنادة اللغوي وأبي علي (2) المقرئ الأنطاكي مودة أكيدة واجتماع في دار الكتب ومذاكرات فلما قتلهما الحاكم صاحب مصر استتر بسبب ذلك الحافظ عبد الغني خوفاً أن يلحق بهما لاتهامه بمعاشرتهما وأقام مستخفياً مدة حتى حصل له الأمن فظهر - وقد تقدم في ترجمة أبي أسامة خبر ذلك (3) . وكانت ولادة الحافظ عبد الغني لليلتين بقيتا من ذي القعدة (4) سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة. وتوفي ليلة الثلاثاء ودفن يوم الثلاثاء سابع صفر سنة تسع وأربعمائة بمصر ودفن بحضرة مصلى العيد، رحمه الله تعالى. وذكر أبو القاسم يحيى بن علي الحضرمي المعروف بابن الطحان (5) في تاريخه الذي جعله ذيلاً لتاريخ ابن يونس المصري أن عبد الغني بن سعيد المذكور مولده في سنة ثلاث وثلاثين وثلثمائة، والله أعلم.   (1) ترجمته في المنتظم 7: 290 وتذكرة الحفاظ: 1047 وعبر الذهبي 3: 100 والشذرات 3: 188. (2) في ترجمة جنادة في الجزء الأول (1: 372) أنه أبو الحسن علي بن سليمان، وقد اضطرب في المسودة، فهوذ حيناً يكتبه أبو علي وحيناً أبو الحسن، وقد ترجم له ابن الجزري (1: 215) باسم الحسن بن سليمان. (3) انظر ج 1 ص 372. (4) هكذا في المسودة ول، ولم يثبت في م؛ ر: من ذي الحجة. (5) توفي ابن الطحان سنة 461 (انظر الأعلام للزركشي 9: 196 وبروكلمان، التكملة 1: 571) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 223 (106) وتوفي والده سعيد المذكور سنة ثمان وثلاثين وثلثمائة، وعمره ثلاث وأربعون سنة، رحمه الله تعالى، وقال ولده الحافظ عبد الغني: لم أسمع من والدي شيئاً (1) . وقال أبو الحسن علي بن بقا كاتب الحافظ عبد الغني بن سعيد: سمعت الحافظ عبد الغني بن سعيد يقول: رجلان جليلان لزمهما لقبان قبيحان: معاوية بن عبد الكريم الضال، وإنما ضل في طريق مكة، وعبد الله بن محمد الضعيف، وإنما كان ضعيفاً في جسمه، لا في حديثه. وقال أبو عبد الله محمد بن علي الحافظ الصوري: قيل للدارقطني: هل رأيت في الحديث أحداً يرجى علمه فقال: نعم، شاباً بمصر كأنه شعلة نار يقال له: عبد الغني، فلما خرج الدارقطني من مصر جاءه المودعون وتحزنوا على مفارقته وبكوا، فقال: لقد تركت عندكم خلفاً، يعني عبد الغني. وقال أيضاً - أعني الصوري - لما صنف عبد الغني " المؤتلف والمختلف " عرضه على الدارقطني فقال له: اقرأه، فقال: كيف أقرأه لك ومعظمه أخذته عنك فقال: نعم أخذته عني متفرقاً، والآن قد جمعته.   (1) نهاية الترجمة في س ل م، وعند هذا الموضع كتب في المسودة " تكتب التخريجة هاهنا " فالإضافة الثانية حق نهاية الترجمة - وهي مما انفردت به - مما كان المؤلف ينوي إثباته، ولم ترد عند وستنفيلد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 224 402 - (1) الحافظ عبد الغافر الفارسي أبو الحسن عبد الغافر بن إسماعيل بن عبد الغافر بن محمد بن عبد الغافر بن أحمد بن محمد بن سعيد الفارسي الحافظ؛ كان إماماً في الحديث والعربية وقرأ القرآن الكريم، ولقن الاعتقاد بالفارسية وهو ابن خمس سنين، وتفقه على إمام الحرمين أبي المعالي الجويني صاحب " نهاية المطلب " في المذهب والخلاف ولازمه مدة أربع سنين وهو سبط الإمام أبي القاسم عبد الكريم القشيري - المقدم ذكره - وسمع عليه الحديث الكثير، وعلى جدته فاطمة بنت أبي علي الدقاق وخاليه أبي سعد وأبي سعيد ولدي أبي القاسم القشيري ووالده أبي عبد الله إسماعيل بن عبد الغافر ووالدته أمة الرحيم ابنة أبي القاسم القشيري وجماعة كبيرة سواهم. ثم خرج من نيسابور إلى خوارزم ولقي بها الأفاضل، وعقد له المجلس، ثم خرج إلى غزنة ومنها إلى الهند، وروى الأحاديث، وقرئ عليه لطائف الإشارات بتلك النواحي، ثم رجع إلى نيسابور وولي الخطابة بها، وأملى بها في مسجد عقيل أعصار يوم الاثنين سنين، ثم صنف كتباً عديدة منها " المفهم لشرح غريب صحيح مسلم " و " السياق لتاريخ نيسابور " وفرغ منه في أواخر ذي القعدة سنة ثماني عشرة وخمسمائة، وكتاب " مجمع الغرائب " في غريب الحديث، وغير ذلك من الكتب المفيدة. وكانت ولادته في شهر ربيع الآخر سنة إحدى وخمسين وأربعمائة؛ وتوفي في سنة تسع وعشرين وخمسمائة بنيسابور، رحمه الله تعالى.   (1) ترجمته في طبقات السبكي 4: 255 وتذكرة الحفاظ: 1275 وعبر الذهبي 4: 79 والشذرات 4: 93؛ وهذه الترجمة مطابقة للمسودة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 225 403 - (1) أبو الوقت أبو الوقت عبد الأول بن أبي عبد الله عيسى بن شعيب بن إبراهيم بن إسحاق السجزي؛ كان مكثراً من الحديث عالي الاسناد (2) ، طالت مدته وألحق الأصاغر بالأكابر. سمعت صحيح البخاري بمدينة إربل في بعض شهور سنة إحدى وعشرين وستمائة على الشيخ الصالح أبي جعفر محمد بن هبة الله بن المكرم بن عبد الله الصوفي البغدادي، بحق سماعه في المدرسة النظامية ببغداد من الشيخ أبي الوقت (3) المذكور، في شهر ربيع الأول سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة، بحق سماعه من أبي الحسن عبد الرحمن بن محمد بن مظفر الداودي في ذي القعدة سنة خمس وستين وأربعمائة، بحق سماعه من أبي محمد عبد الله بن أحمد بن حمويه السرخسي في صفر سنة إحدى وثمانين وثلثمائة، بحق سماعه من أبي عبد الله محمد بن يوسف بن مطر الفربري سنة ست عشرة وثلثمائة، بحق سماعه من مؤلفه الحافظ أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري مرتين، إحداهما سنة ثمان وأربعين ومائتين والثانية سنة اثنتين وخمسين ومائتين، رحمهم الله أجمعين (4) . وكان الشيخ أبو الوقت صالحاً يغلب عليه الخير، وانتقل أبوه إلى مدينة هراة وسكنها فولد له بها أبو الوقت في ذي القعدة سنة ثمان وخمسين   (1) ترجمته في اللباب (السجزي) وتذكرة الحفاظ: 1315 وعبر الذهبي 4: 151 والشذرات 4: 166؛ قلت: وما ثبت هنا مطابق لما في المسودة. (2) ر: عالي الهمة والإسناد. (3) هنا تنتهي الترجمة في م. (4) سمعت صحيح البخاري ... أجمعين: هذا النص محشى في عدة مواضع في المسودة، وقد ثبت جميعه في ر، وسقط أكثره من س ل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 226 وأربعمائة. وتوفي في ليلة الأحد سادس ذي القعدة سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة، رحمه الله تعالى. وكان قد وصل إلى بغداد يوم الثلاثاء الحادي والعشرين من شوال سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة، ونزل في رباط فيروز وبه مات، وصلي عليه فيه ثم صلوا عليه الصلاة العامة بالجامع، وكان الإمام في الصلاة الشيخ عبد القادر الجيلي، وكان الجمع متوفراً، ودفن بالشونيزية في الدكة المدفون بها رويم الزاهد؛ وكان سماعه الحديث بعد الستين والأربعمائة، وهو آخر من روى في الدنيا عن الداودي، رحمه الله تعالى. وتوفي والده سنة بضع عشرة وخمسمائة، رحمه الله تعالى. وقد تقدم الكلام على السجزي، وهي من شواذ النسب (1) . (107) وكانت ولادة شيخنا أبي جعفر محمد بن هبة الله بن المكرم الصوفي المذكور في ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة، وقيل سنة ست، وقيل سنة سبع وثلاثين. وتوفي ليلة الخميس من المحرم سنة إحدى وعشرين وستمائة ببغداد، ودفن من الغد بالشونيزية، رحمهم الله أجمعين. 404 - (2) ابن كليب الحراني أبو الفرج عبد المنعم بن أبي الفتح عبد الوهاب بن سعد بن صدقة بن الخضر بن كليب، الملقب شمس الدين، الحراني الأصل البغدادي المولد والدار الحنبلي المذهب؛ كان تاجراً وله في الحديث السماعات العالية، وانتهت الرحلة إليه من أقطار الأرض وألحق الصغار بالكبار لا يشاركه في شيوخه ومسموعاته أحد.   (1) نهاية الترجمة في س ل. (2) ترجمته في ذيل الروضتين: 18 وعبر الذهبي 4: 293 والشذرات 4: 327؛ وقد جاءت هذه الترجمة طبقاً لما في المسودة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 227 وكانت ولادته في صفر سنة خمس خمسمائة. وتوفي ليلة الاثنين السابع والعشرين من شهر ربيع الأول سنة ست وتسعين وخمسمائة ببغداد، ودفن من الغد بمقبرة الإمام أحمد بن حنبل، رضي الله عنه، بباب حرب، عند أبيه وأهله، وكان صحيح الذهن والحواس إلى أن مات، وتسرى مائة وثمانياً وأربعين جارية، رحمه الله تعالى. 405 - (1) عبد الحميد الكاتب عبد الحميد بن يحيى بن سعد مولى بني عامر بن لؤي بن غالب، الكاتب البليغ المشهور؛ وبه يضرب المثل في البلاغة، حتى قيل فتحت الرسائل بعبد الحميد، وختمت بابن العميد. وكان في الكتابة وفي كل فن من العلم والأدب إماماً، وهو من أهل الشام، وكان أولاً معلم صبيةٍ يتنقل في البلدان، وعنه أخذ المترسلون، ولطريقته لزموا ولآثاره اقتفوا، وهو الذي سهل سبيل البلاغة في الترسل، ومجموع رسائله مقدار ألف ورقة. وهو أول من أطال الرسائل واستعمل التحميدات في فصول الكتب، فاستعمل الناس ذلك بعده، وكان كاتب مروان بن محمد بن مروان بن الحكم الأموي آخر ملوك بني أمية المعروف بالجعدي، فقال له يوماً وقد أهدى له بعض العمال عبداً أسود فاستقله: اكتب إلى هذا العامل كتاباً مختصراً، وذمه على ما فعل، فكتب إليه " لو وجدت لوناً شراً من السواد وعدداً أقل من الواحد لأهديته، والسلام ". ومن كلامه أيضاً: القلم شجرة ثمرتها الألفاظ، والفكر بحر لؤلؤه الحكمة.   (1) ترجمته في الجهشياري: 72 - 73، 79 - 83 والفهرست: 117 وثمار القلوب: 196 ومروج الذهب 3: 263 وسرح العيون: 130؛ وانظر عيون الأخبار 1: 26 والبيان والتبيين 3: 9 والصناعتين: 69 وصبح الأعشى 10: 195. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 228 وقال إبراهيم بن العباس الصولي (1) ، وقد ذكر عبد الحميد المذكور عنده: كان والله الكلام معاناً له، ما تمنيت كلام أحد من الكتاب قط أن يكون لي مثل كلامه. وفي رسالة له " والناس أخياف مختلفون، وأطوار متباينون، منهم علق مضنة لا يباع، وغل مظنة لا يبتاع " وكتب على يد شخص كتاباً بالوصاة عليه إلى بعض الرؤساء فقال: " حق موصل كتابي إليك عليك كحقه علي إذ رآك موضعا لأمله، ورآني أهلاً لحاجته، وقد أنجزت حاجته، فصدق أمله ". ومن كلامه " خير الكلام ما كان لفظه فحلاً ومعناه بكراً ". وكان كثيراً ما ينشد: إذا جرح الكتاب كانت دويهم ... قسياً وأقلام الدوي لها نبلا وله رسائل بليغة. وكان حاضراً مع مروان في جميع وقائعه عند آخر أمره، وقد سبق في أخبار أبي مسلم الخراساني طرف من ذلك. ويحكى أن مروان قال له حين أيقن بزوال ملكه: قد احتجت أن تصير مع عدوي وتظهر الغدر بي، فإن إعجابهم بأدبك وحاجتهم إلى كتابتك يحوجهم إلى حسن الظن بك، فإن استطعت أن تنفعني في حياتي، وإلا لم تعجز عن حفظ حرمي بعد وفاتي. فقال له عبد الحميد: إن الذي أشرت به علي أنفع الأمرين لك وأقبحهما بي، وما عندي إلا الصبر حتى يفتح الله تعالى أو أقتل معك؛ وأنشد: أسر وفاء ثم أظهر غدرةً ... فمن لي بعذر يوسع الناس ظاهر ذكر ذلك أبو الحسن المسعودي في كتاب " مروج الذهب " (2) . ثم إن عبد الحميد قتل مع مروان، وكان قتل مروان يوم الاثنين ثالث عشر ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين ومائة، بقرية يقال لها بوصير من أعمال الفيوم بالديار المصرية، رحمهما الله تعالى.   (1) ثمار القلوب: 197. (2) مروج الذهب 3: 263. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 229 ورأيت بخطي في مسوداتي أنه لما قتل مروان بن محمد الأموي استخفى عبد الحميد بالجزيرة، فغمز عليه، فأخذ ودفعه أبو العباس، وأظنه السفاح، إلى عبد الجبار بن عبد الرحمن صاحب شرطته، فكان يحمي له طستاً بالنار ويضعه على رأسه حتى مات. وكان من أهل الأنبار وسكن الرقة، وشيخه في الكتابة سالم مولى هشام بن عبد الملك. [وروى محمد بن العباس اليزيدي بإسناد ذكره قال: أتي أبو جعفر المنصور أخو السفاح - وهو ثاني خلفاء بني العباس بعد قتل مروان بن محمد الجعدي - بعبد الحميد الكاتب والبعلبكي المؤذن وسلام الحادي، فهم المنصور بقتلهم جميعاً لكونهم من أصحاب مروان، فقال سلام: استبقني يا أمير المؤمنين فإني أحسن الناس حداءً، فقال: وما بلغ من حدائك فقال: تعمد إلى إبل فتظمئها ثلاثاً ثم توردها الماء، فإذا وردت رفعت صوتي بالحداء فترفع رؤوسها وتدع الشرب ثم لا تشرب حتى أسكت، قال (1) : فأمر المنصور بإبل فأظمئت ثلاثة أيام، ثم أوردت الماء، فلما بدأت بالشرب رفع سلام صوته بالحداء فامتنعت من الشرب ثم لم تشرب حتى سكت، فاستبقى سلاماً وأجازه وأجرى عليه رزقه. وقال له البعلبكي [المؤذن] : استبقني يا أمير المؤمنين، قال: وما عندك قال: أنا مؤذن، قال: وما بلغ من أذانك قال: تأمر جارية تقدم إليك طستاً وتأخذ بيدها أبريقاً وتصب عليك، وأبتدئ الآذان فتدهش ويذهب عقلها إذا سمعت أذاني حتى تلقي الأبريق من يدها وهي لا تعلم؛ فأمر جارية فأعدت أبريقاً فيه ماء وقدمت إليه طستاً وجعلت تصب عليه ورفع البعلبكي صوته بالآذان فبقيت الجارية شاخصة وألقت الأبريق من يدها فاستبقاه وأجازه وأجرى عليه الرزق وصير أمر الجامع إليه. قال له: عبد الحميد الكاتب: استبقني يا أمير المؤمنين قال: وما عندك قال: أنا أبلغ أهل زماني في الكتابة، فقال له المنصور: أنت الذي فعلت بنا الأفاعيل وعملت بنا الدواهي. فأمر به فقطعت يداه ورجلاه ثم ضربت عنقه، والله   (1) هنا نبدأ نسخة لاله لي وقد جعلنا رمزها: لي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 230 أعلم أي ذلك كان] (1) . وكان ولده إسماعيل كاتباً ماهراً نبيلاً معدوداً في جملة الكتاب المشاهير. وكان يعقوب بن داود وزير المهدي - الآتي ذكره إن شاء الله تعالى - كاتباً بين يدي عبد الحميد المذكور، وممن تخرج عليه وتعلم منه. [وساير عبد الحميد (2) يوماً مروان بن محمد على دابة قد طالت مدتها في ملكه، فقال له مروان: قد طالت صحبة هذه الدابة لك، فقال: يا أمير المؤمنين إن من بركة الدابة طول صحبتها وقلة علفها، فقال له: فكيف سيرها فقال: همها أمامها وسوطها عنانها وما ضربت قط إلا ظلماً. وقال أبو عبد الله محمد بن عبدوس الجهشياري في كتاب " أخبار الوزراء " (3) : وجدت بخط أبي علي أحمد بن إسماعيل: حدثني العباس بن جعفر الأصبهاني، قال: طلب عبد الحميد بن يحيى الكاتب وكان صديقاً لابن المقفع، ففاجأهما الطلب وهما في بيت، فقال الذين دخلوا عليهما: أيكما عبد الحميد فقال كل واحد منهما: أنا، خوفاً من أن ينال صاحبه مكروه وخاف عبد الحميد أن يسرعوا إلى ابن المقفع فقال: ترفقوا بنا فإن كلاً منا له علامات، فوكلوا بنا بعضكم ويمضي البعض الآخر ويذكر تلك العلامات لمن وجهكم ففعلوا، وأخذ عبد الحميد] (4) . وبوصير: بضم الباء الموحدة وسكون الواو وكسر الصاد المهملة وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها راء. ويقال: إن مروان لما وصل إليها منهزماً والعساكر في طلبه قال: ما اسم هذه القرية فقيل له: بوصير، فقال: إلى الله المصير، فقتل بها، وهي واقعة مشهورة. وقال إبراهيم بن جبلة (5) : رآني عبد الحميد الكاتب أخط خطاً رديئاً فقال لي:   (1) ما بين معقفين ورد في ر وببقية منه بدئ الجزء الثاني من لي، وهو ثابت عند وستنفيلد. وقارن هذا النص بما في ثمار القلوب: 199؛ قلت: ولا وجود له في مسودة المؤلف. (2) قارن بما في ثمار القلوب: 198. (3) أخبار الوزراء: 79 - 80. (4) ما بين معقفين لم يرد في المخطوطات وستنفيلد وإنما هو في المطبوعة المصرية. (5) ثمار القلوب: 198. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 231 أتحب أن تجود خطك فقلت: نعم، فقال: أطل جلفة قلمك وأسمنها، وحرف قطتك وأيمنها، ففعلت فجاد خطي. 406 - (1) عبد المحسن الصوري أبو محمد عبد المحسن بن محمد بن أحمد بن غالب بن غلبون الصوري الشاعر المشهور؛ أحد المحسنين الفضلاء، المجيدين الأدباء، شعره بديع الألفاظ حسن المعاني، رائق الكلام مليح النظام، من محاسن الشام، له ديوان شعر أحسن فيه كل الإحسان، فمن محاسنه قوله: أترى بثأرٍ أم بدين ... علقت محاسنها بعيني في لحظها وقوامها ... ما في المهند والرديني وبوجهها ماء الشبا ... ب خليط نار الوجنتين بكرت (2) علي وقالت اخ ... تر خصلة من خصلتين إما الصدود أو الفرا ... ق فليس عندي غير ذين فأجبتها ومدامعي ... تنهل مثل المأزمين (3) لا تفعلي، إن حان ص ... دك أو فراقك حان حيني فكأنما قلت انهضي ... فمضت مسارعةً لبيني   (1) ترجمته في اليتيمة 1: 312 وتتمة اليتيمة: 35 والنجوم الزاهرة 4: 269 وعبر الذهبي 3: 131 والشذرات 3: 211. (2) ر ل: نكرت. (3) كتب في المسودة وم: تنهل فوق الوجنتين، والمأزمان: اسم لموضع، والمأزم: المضيق بين جبلين، ولعله يعني مسيلاً في مضيق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 232 ثم استقلت أين حل ... ت عيسها رميت بأين ونوائبٍ أظهرن أيا ... مي إلي بصورتين سودنها وأطلنها ... فرأيت يوماً ليلتين ومنها: هل بعد ذلك من يع ... رفني النضار من اللجين فلقد جهلتهما لبع ... د العهد بينهما وبيني متكسباً بالشعر يا ... بئس الصناعة في اليدين كانت كذلك قبل أن ... يأتي علي بن الحسين فاليوم حال الشعر ثا ... لثة لحال الشعريين أغنى وأعفى مدحه ال ... عافين عن كذب ومين وهذه القصيدة عملها عبد المحسن في علي بن الحسين والد الوزير أبي القاسم بن المغربي، وهي قصيدة طويلة جيدة ولها حكاية ظريفة، وهي أنه كان بمدينة عسقلان رئيس يقال له ذو المنقبتين، فجاءه بعض الشعراء وامتدحه بهذه القصيدة وجاء في مديحها: ولك المناقب كلها ... فلم اقتصرت على اثنتين فأصغى الرئيس إلى إنشاده واستحسنها وأجزل جائزته، فلما خرج من عنده قال له بعض الحاضرين: هذه القصيدة لعبد المحسن، فقال: أعلم هذا وأحفظ القصيدة، ثم أنشدها، فقال له ذلك الرجل: فكيف حتى عملت معه هذا العمل من الإقبال عليه والجائزة السنية فقال: لم أفعل ذلك إلا لأجل البيت الذي ضمنها، وهو قوله: ولك المناقبُ كلها ... فإن هذا البيت ليس لعبد المحسن، وأنا ذو المنقبتين، فأعلم قطعاً أن هذا البيت ما عمل إلا في، وهو في نهاية الحسن. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 233 ومن شعره أيضاً، وذكر الثعالبي في كتابه الذي جعله ذيلاً على " يتيمة الدهر "، هذه الأبيات لأبي الفرج ابن أبي حصين علي بن عبد الملك الرقي أصلاً، وكان أبوه قاضي حلب، والله أعلم، ولكنها في ديوان عبد المحسن - والثعالبي قد نسب أشياء إلى غير أربابها وغلط فيها، ولعل هذا من جملة الغلط أيضاً - وذكر في ديوانه أنه عملها في أخيه عبد الصمد، وهي: وأخٍ مسه نزولي بقرحٍ ... مثلما مسني من الجوع قرح بت ضيفاً له كما حكم الده ... ر وفي حكمه على الحر قبح فابتداني يقول وهو من السك ... رة بالهم طافح ليس يصحو لم تغربت قلت قال رسول الله ... والقول منه نصحٌ ونجح سافروا تغنموا، فقال: وقد قا ... ل تمام الحديث صوموا تصحوا وذكر له صاحب " اليتيمة " هذين البيتين: عندي حدائق شكرٍ غرس جودكم ... قد مسها عطش فليسق من غرسا تداركوها وفي أغصانها رمقٌ ... فلن يعود اخضرار العود إن يبسا واجتاز يوماً بقبر صديق له فأنشده: عجباً لي وقد مررت على قب ... رك كيف اهتديت قصد الطريق أتراني نسيت عهدك يوماً ... صدقوا ما لميت من صديق ولما ماتت أمه ودفنها وجد عليها وجداً كثيراً فأنشد: رهينة أحجار ببيداء دكدك ... تولت فحلت عروة المتمسك وقد كنت أبكي إن تشكت وإنما ... أنا اليوم أبكي أنها ليس تشتكي وهذا المعنى مأخوذ من قول المتنبي: وشكيتي فقد السقام لأنه ... قد كان لما كان لي أعضاء وقد استعمل أبو محمد عبد الله بن محمد المعروف بابن سنان الخفاجي الحلبي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 234 هذا المعنى في بيت من جملة قصيدة طويلة فقال: بكى الناس أطلال الديار وليتني ... وجدت دياراً للدموع السواكب ومحاسنه كثيرة، والاقتصار أولى. وتوفي يوم الأحد تاسع شوال سنة تسع عشرة وأربعمائة، وعمره ثمانون سنة أو أكثر، رحمه الله تعالى. وغلبون: بفتح الغين المعجمة وسكون اللام وضم الباء الموحدة وبعد الواو نون. والصوري قد تقدم الكلام عليه. 407 - (1) الحافظ عبد المجيد العبيدي أبو الميمون عبد المجيد، الملقب الحافظ، ابن أبي القاسم محمد بن المستنصر بن الظاهر بن الحاكم بن العزيز بن المعز بن المنصور بن القائم بن المهدي عبيد الله - وقد تقدم ذكر المهدي وجماعة من حفدته -؛ بويع الحافظ بالقاهرة يوم مقتل ابن عمه الآمر بولاية العهد وتدبير المملكة حتى يظهر الحمل المخلف عن الآمر - حسبما يأتي شرحه في آخر هذه الترجمة إن شاء الله تعالى - فغلب عليه أبو علي أحمد بن الأفضل شاهان شاه ابن أمير الجيوش بدرٍ الجمالي - وقد تقدم ذكر أبيه في حرف الشين - في صبيحة يوم مبايعته وكان الآمر لما قتل الأفضل اعتقل جميع أولاده وفيهم أبو علي المذكور، فأخرجه الجند من الاعتقال لما قتل الآمر   (1) أخباره في إتعاظ الحنفا: 284 والخطط 1: 357 وابن الأثير 11: 141 والدرة المضية: 506 والنجوم الزاهرة 5: 273 وما بعدها؛ وانظر عبر الذهبي 4: 122 والشذرات 4: 138، وسقطت الترجمة من م. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 235 وبايعوه (1) فسار إلى القصر وقبض على الحافظ المذكور واستقل بالأمر وقام به أحسن قيام، ورد على المصادرين أموالهم، وأظهر مذهب الإمامية وتمسك بالأئمة الاثني عشر، ورفض الحافظ وأهل بيته، ودعا على المنابر للقائم في أخر الزمان المعروف بالإمام المنتظر على زعمهم وكتب اسمه على السكة، ونهى أن يؤذن " حي على خير العمل "، وأقام كذلك إلى أن وثب عليه رجل من الخاصة بالبستان الكبير بظاهر القاهرة في النصف من المحرم سنة ست وعشرين وخمسمائة فقتله، وكان ذلك بتدبير الحافظ، فبادر الأجناد بإخراج الحافظ وبايعوه ولقبوه الحافظ، ودعي له على المنابر. وكان مولده بعسقلان (2) في المحرم من سنة سبع وستين وأربعمائة، وقيل سنة ست وستين، وكان قد بويع بالعهد يوم قتل الآمر - وسيأتي تاريخه في ترجمته في حرف الميم إن شاء الله تعالى - ثم بويع بالاستقلال يوم قتل أحمد بن الأفضل في التاريخ المذكور. وتوفي أخر ليلة الأحد لخمس خلون من جمادى الآخرة سنة أربع، وقيل ثلاث وأربعين وخمسمائة، رحمه الله تعالى. وقيل أنه ولد في الثالث عشر وقيل الخامس عشر من شهر رمضان سنة ثمان وستين وأربعمائة. وكان سبب ولادته بعسقلان أن أباه خرج إليها من مصر في أيام الشدة والغلاء المفرط الذي حصل بمصر في زمان جده المستنصر - حسبما هو مشروح في ترجمته في حرف الميم - فأقام بها ينتظر أيام الرخاء وزوال الشدة، فولد له الحافظ المذكور هناك، هكذا قاله شيخنا عز الدين بن الأثير في تاريخه الكبير، والله أعلم (3) . ولم يتول الأمر من ليس أبوه صاحب الأمر من بيتهم سواه وسوى العاضد عبد الله - وقد تقدم ذكره في العبادلة - وكان سبب توليته أن الآمر لم يخلف ولداً وخلف امرأة حاملاً، فماج أهل مصر وقالوا: هذا البيت لا يموت إمام   (1) لي ل س: يوم مبايعته فبايعه الأجناد فسار إلى القصر ... الخ؛ وهذا هو الأصل في المسودة ثم صحح كما أثبتناه منها ومن ر. (2) بعسقلان: سقط من س؛ ل لي: بالقاهرة. (3) وكان سبب ولادته ... والله أعلم: سقط من س لي ل، وفي المسودة عند هذا الموضع: " هاهنا تكتب التخريجة ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 236 منهم حتى يخلف ولداً ذكراً وينص عليه بالإمامة، وكان الآمر قد نص على الحمل، فوضعت له المرأة بنتاً، فكان ما شرحناه من حديث الحافظ المذكور وأحمد بن الأفضل أمير الجيوش، ولهذا السبب بويع الحافظ بولاية العهد ولم يبايع بالإمامة مستقلاً، لأنهم كانوا ينتظرون ما يكون من الحمل. وهذا الحافظ كان كثير المرض بعلة القولنج فعمل له شيرماه الديلمي - وقيل موسى النصراني - طبل القولنج الذي كان في خزائنهم لما ملك السلطان صلاح الدين، رحمه الله تعالى، الديار المصرية، وكسره السلطان المذكور، وقصته مشهورة، وأخبرني حفيد شيرماه المذكور أن جده ركب هذا الطبل من المعادن السبعة والكواكب السبعة في إشرافها (1) كل واحد منها في وقته، وكان من خاصته أن الإنسان إذا ضربه خرج الريح من مخرجه، ولهذه الخاصية كان ينفع من القولنج. 408 - (2) عبد المؤمن صاحب المغرب أبو محمد عبد المؤمن بن علي القيسي الكومي الذي قام بأمره محمد بن تومرت المعروف بالمهدي؛ كان والده وسطاً في قومه، وكان صانعاً في عمل الطين يعمل منه الآنية فيبيعها، وكان عاقلاً من الرجال وقوراً. ويحكى أن عبد المؤمن في صباه كان نائماً تجاه أبيه وأبوه مشتغل بعمله في الطين (3) ، فسمع أبوه دوياً   (1) ل لي: إشراقها. (2) أخباره في المعجب للمراكشي والمن بالإمامة لابن صاحب الصلاة وتاريخ البيذق وروض القرطاس والحلل الموشية وتاريخ ابن القطان والاستقصا والتواريخ العامة كالعبر لابن خلدون والكامل لابن الأثير، وانظر العبر للذهبي 4: 165 والشذرات 4: 183، وقد جاءت هذه الترجمة مستوفاة في المسودة. (3) لي: مشتغلاً بعمل الطين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 237 من السماء، فرفع رأسه فرأى سحابة سوداء من النحل قد هوت مطبقة على الدار، فنزلت كلها مجتمعة على عبد المؤمن وهو نائم، فغطته ولم يظهر من تحتها ولا استيقظ لها، فرأته أمه على تلك الحال فصاحت خوفاً على ولدها، فسكتها أبوه فقالت: أخاف عليه، فقال: لا بأس عليه، بل إني متعجب مما يدل عليه ذلك، ثم إنه غسل يديه من الطين ولبس ثيابه ووقف ينتظر ما يكون من أمر النحل، فطار عنه بأجمعه، فاستيقظ الصبي وما به من ألم، فتفقدت أمه جسده فلم تر به أثراً، ولم يشك إليها ألماً، وكان بالقرب منهم رجل معروف بالزجر، فمض أبوه إليه فأخبره ما رآه من النحل مع ولده، فقال الزاجر: يوشك أن يكون له شأن، يجتمع على طاعته أهل المغرب، فكان من أمره ما اشتهر. ورأيت في بعض تواريخ المغرب (1) أن ابن تومرت كان قد ظفر بكتاب يقال له " الجفر " وفيه ما يكون على يده وقصة عبد المؤمن وحليته واسمه، وأن ابن تومرت أقام مدة يتطلبه حتى وجده وصحبه وهو إذ ذاك غلام، وكان يكرمه ويقدمه على أصحابه، وأفضى إليه بسره (2) وانتهى به إلى مراكش وصاحبها يومئذ أبو الحسن علي بن يوسف بن تاشفين ملك الملثمين، وجرى له معه فصول يطول شرحها، وأخرجه منها فتوجه إلى الجبال وحشد واستمال المصامدة، وبالجملة فإنه لم يملك شيئاً من البلاد، بل عبد المؤمن ملك بعد وفاته بالجيوش التي جهزها ابن تومرت والترتيب الذي رتبه، وكان أبداً يتفرس فيه النجابة وينشد إذا أبصره: تكاملت فيك أوصافٌ خصصت بها ... فكلنا بك مسرورٌ ومغتبط السن ضاحكةٌ والكف مانحة ... والنفس واسعةٌ والوجه منبسط وهذان البيتان وجدتهما منسوبين إلى أبي الشيص الخزاعي الشاعر المشهور (3) ،   (1) لي: تواريخ أهل المغرب. (2) ر: أمره. (3) وهذان ... المشهور: سقط من س ل لي م، وهو في المسودة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 238 وكان يقول لأصحابه: صاحبكم هذا غلاب الدول، ولم يصح عنه أنه استخلفه، بل راعى أصحابه في تقديمه إشارته فتم له الأمر وكمل. وأول ما أخذ من البلاد وهران ثم تلمسان ثم فاس ثم سلا ثم سبتة، وانتقل بعد ذلك إلى مراكش وحاصرها أحد عشر شهراُ ثم ملكها، وكان أخذه لها في أوائل سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة، واستوثق له الأمر، وامتد ملكه إلى المغرب الأقصى والأدنى وبلاد إفريقية وكثير من بلاد الأندلس، وتسمى أمير المؤمنين، وقصدته الشعراء وامتدحته (1) بأحسن المدائح، وذكر العماد الأصبهاني في كتاب " الخريدة " أن الفقيه أبا عبد الله محمد بن أبي العباس التيفاشي لما أنشده: ما هز عطفيه بين البيض والأسل ... مثل الخليفة عبد المؤمن بن علي أشار عليه بأن يقتصر على هذا البيت وأمر له بألف دينار. ولما تمهدت له القواعد وانتهت أيامه خرج من مراكش إلى مدينة سلا، فأصابه بها مرض شديد، وتوفي منه في العشر الأخير من جمادى الآخرة السابع والعشرين منه سنة ثمان وخمسين وخمسمائة، وقيل أنه حمل إلى تين مل (2) المذكورة في ترجمة المهدي محمد بن تومرت، ودفن هناك، والله أعلم، وكانت مدة ولايته ثلاثاً وثلاثين سنة وأشهراً، وكان عند موته شيخاً نقي البياض. ونقلت من تاريخ فيه سيرته وحليته، فقال مؤلفه: رأيته شيخاً معتدل القامة عظيم الهامة أشهل العينين كث اللحية شثن الكفين طويل القعدة واضح بياض الأسنان، بخده الأيمن خال، رحمه الله تعالى. وقيل إن ولادته كانت سنة خمسمائة، وقيل سنة تسعين وأربعمائة، والله أعلم. وعهد إلى ولده أبي عبد الله محمد فاضطرب أمره وأجمعوا على خلعه في شعبان من سنة ولايته، وبويع أخوه يوسف - على ما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى.   (1) ر: وامتدحوه. (2) هذه العبارة بهامش المسودة، وقد سقطت من س ل ر م. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 239 والكومي: بضم الكاف وسكون الواو وبعدها ميم، هذه النسبة إلى كومية، وهي قبيلة صغيرة نازلة بساحل البحر من أعمال تلمسان، ومولده في قرية هناك يقال لها تاجرة (1) . وأما كتاب " الجفر " فقد ذكره ابن قتيبة في أوائل كتاب " اختلاف الحديث " (2) فقال بعد كلام طويل واعجب من هذا التفسير تفسير الروافد للقرآن الكريم وما يدعونه من علم باطنه بما وقع إليهم من الجفر الذي ذكره سعد بن هارون العجلي وكان رأس الزيدية فقال: ألم تر أن الرافضين تفرقوا ... فكلهم في جعفر قال منكرا فطائفة قالوا إمامٌ ومنهم ... طوائف سمته النبي المطهرا ومن عجب لم أقضه جلد جفرهم ... برئت إلى الرحمن ممن تجفرا والأبيات أكثر من هذا (3) فاقتصرت منها على هذا لأنه المقصود بذكر الجفر، ثم قال ابن قتيبة بعد الفراغ من الأبيات: " وهو جلد جفر ادعوا أنه كتب لهم فيه الإمام كل ما يحتاجون إليه وكل ما يكون إلى يوم القيامة ". قلت: وقولهم " الإمام " يريدون به جعفراً الصادق، رضي الله عنه، وقد تقدم ذكره. وإلى هذا الجفر أشار أبو العلاء المعري بقوله من جملة أبيات (4) : لقد عجبوا لأهل البيت لما ... أتاهم علمه في مسك جفر ومرآة المنجم وهي صغرى ... أرته كل عامرةٍ وقفر وقوله " في مسك جفر " المسك، بفتح الميم وسكون السين المهملة، الجلد. والجفر، بفتح الجيم وسكون الفاء وبعدها راء، من أولاد المعز ما بلغ أربعة   (1) لي: ناحرة؛ ر: باحرة، وهنا تنتهي الترجمة في س ل. (2) انظر تأويل مختلف الحديث: 84 - 85. (3) أورد ابن قتيبة بعدها خمسة أبيات. (4) اللزوميات 1: 553. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 240 أشهر، وجفر جنباه، وفصل عن أمه، والأنثى جفرة، وكانت عاداتهم ذلك الزمان أنهم (1) يكتبون في الجلود والعظام والخزف (2) وما شاكل ذلك. 409 - (3) أبو القاسم الأنماطي أبو القاسم عثمان بن سعيد بن بشار الأحول الأنماطي الفقيه الشافعي؛ كان من كبار الفقهاء الشافعية أخذ الفقه عن المزني والربيع بن سليمان المرادي، وأخذ عنه أبو العباس ابن سريج وغيره، وكان هو السبب في نشاط الناس ببغداد في كتب الشافعي وتحفظها. وقال عن المزني: أنا أنظر في كتاب " الرسالة " عن الشافعي، رضي الله عنه، منذ خمسين سنة ما أعلم أني نظرت فيه مرةً إلا وأنا أستفيد منه شيئاً كثيرا، لم أكن عرفته. وتوفي في شوال سنة ثمان وثمانين ومائتين ببغداد، رحمه الله تعالى. وقال أبو حفص عمر بن علي المطوعي في كتاب " المذهب في ذكر أئمة المذهب " اسم أبي القاسم عبيد الله بن أحمد بن بشار الأنماطي، رحمه الله تعالى. والأنماطي: بفتح الهمزة وسكون النون وفتح الميم وبعد الألف طاء مهملة، هذه النسبة إلى الأنماط وبيعها (4) ، وهي البسط التي تفرش وغير ذلك من آلة الفرش من الأنطاع والوسائد، وأهل مصر يسمون هذه الآلات الأنماط وبائعها الأنماطي، والله أعلم.   (1) لي: أفهم في ذلك الزمان. (2) ر لي: والخرق. (3) ترجمته في تاريخ بغداد 11: 292 وطبقات الشيرازي، الورقة: 29 وطبقات السبكي 2: 52 وعبر الذهبي 2: 81 والشذرات 2: 196؛ وهذه الترجمة قد جاءت كاملة في المسودة. (4) هنا تنتهي الترجمة في لي، وبعد لفظة " تفرش " تنتهي في س ل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 241 410 - (1) ضياء الدين شارح المهذب أبو عمرو عثمان بن عيسى بن درباس بن فير بن جهم بن عبدويس الهذباني الماراني الملقب ضياء الدين؛ كان من أعلم الفقهاء في وقته بمذهب الإمام الشافعي، وهو أخو القاضي صدر الدين أبي القاسم عبد الملك الحاكم بالديار المصرية - كان - وناب عنه في الحكم في القاهرة، واشتغل في صباه بإربل على الشيخ أبي العباس الخضر بن عقيل - المقدم ذكره في حرف الخاء - ثم انتقل إلى دمشق وقرأ على الشيخ أبي سعد عبد الله بن أبي عصرون - المقدم ذكره - وتمهر في المذهب وأصول الفقه وأتقنهما، وشرح " المذهب " شرحاً شافياً لم يسبق إلى مثله في قريب من عشرين مجلداً ولم يكمله، بل بقي من كتاب الشهادات إلى آخره، وسماه " الاستقصاء لمذاهب الفقهاء " وشرح " اللمع " في أصول الفقه للشيخ أبي إسحاق الشيرازي شرحاً مستوفى في مجلدين وصنف غير ذلك. وقبل أن مات القاضي صدر الدين، رحمه الله تعالى - وكان موته في الليلة الخامسة من رجب ليلة الأربعاء سنة خمس وستمائة - عزل ضياء الدين المذكور عن النيابه، فوقف عليه الأمير جمال الدين خشترين الهكاري (2) مدرسة أنشأها بالقصر بالقاهرة وفوض تدريسها إليه. ولم يزل بها إلى أن توفي في ثاني عشر ذي القعدة سنة اثنتين وستمائة بالقاهرة ودفن بالقرافة الصغرى وقد قارب تسعين سنة، رحمه الله تعالى. ثم توفي صدر الدين في التاريخ المذكور، ودفن في تربته بالقرافة الصغرى، وكان يتردد في مولده: هل هو في أواخر سنة ست عشرة أو أوائل سنة سبع عشرة وخمسمائة؛ وفوض إليه السلطان صلاح الدين القضاء بالديار المصرية بعد   (1) انظر شذرات الذهب 5: 7. (2) هكذا في المسودة، في ر: حسين الهكاري؛ س: ابن خشتر ابن الهكاري. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 242 أن كان قاضي الغربية من أعمال الديار المصرية في الثاني والعشرين من جمادى الآخرة سنة ست وقيل سنة خمس وستين وخمسمائة، رحمه الله تعالى. وفير: بكسر الفاء وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها راء. وجهم: بفتح الجيم وسكون الهاء وبعدها ميم. وعبدوس: بفتح العين المهملة وسكون الباء الموحدة وضم الدال المهملة وسكون الواو وبعدها سين مهملة. والماراني: بفتح الميم وبعد الألف راء مفتوحة وبعد الألف الثانية نون، هذه النسبة إلى بني ماران بالمروج تحت الموصل. 411 - (1) تقي الدين ابن الصلاح أبو عمرو عثمان بن عبد الرحمن بن عثمان بن موسى بن أبي نصر النصري الكردي الشهرزوري المعروف بابن الصلاح، الشرخاني الملقب تقي الدين، الفقيه الشافعي؛ كان أحد فضلاء عصره في التفسير والحديث والفقه وأسماء الرجال وما يتعلق بعلم الحديث ونقل اللغة، وكانت له مشاركة في فنون عديدة، وكانت فتاويه مسددة وهو أحد أشياخي الذين انتفعت بهم. قرأ الفقه أولاً على والده الصلاح وكان من جلة مشايخ الأكراد المشار إليهم، ثم نقله والده إلى الموصل واشتغل بها مدة، وبلغني أنه كرر على جميع كتاب " المهذب " ولم يطر شاربه، ثم إنه تولى الإعادة عند الشيخ العلامة عماد الدين أبي حامد   (1) ترجمته في ذيل الروضتين: 175 - 176 وطبقات السبكي 5: 127 وتذكرة الحفاظ: 1430 وعبر الذهبي 5: 77 ومرآة الزمان: 757 والشذرات 5: 221 وفي رحلة ابن رشيد أخبار كثيرة عنه (انظر السنة الثالثة من مجلة العرب) والأنس الجليل 2: 449؛ وسقطت الترجمة من م وفي المسودة تحشيات كثيرة سقطت من س ل، وسقط بعضها من لي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 243 ابن يونس بالموصل أيضاً، وأقام قليلاً ثم سافر إلى خراسان فأقام بها زماناً وحصل علم الحديث هناك، ثم رجع إلى الشام وتولى التدريس بالمدرسة الناصرية بالقدس المنسوبة إلى الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب، رحمه الله تعالى، وأقام بها مدة، واشتغل الناس عليه وانتفعوا به، ثم انتقل إلى دمشق وتولى تدريس المدرسة الرواحية التي أنشأها الزكي أبو القاسم هبة الله بن عبد الواحد ابن رواحة الحموي، وهو الذي أنشأ المدرسة الرواحية بحلب أيضاً. ولما بنى الملك الأشرف ابن الملك العادل بن أيوب، رحمه الله تعالى، دار الحديث بدمشق فوض تدريسها إليه. واشتغل الناس عليه بالحديث، ثم تولى تدريس ست الشام زمرد خاتون بنت أيوب - وهي شقيقة شمس الدولة توران شاه بن أيوب المقدم ذكره التي هي داخل البلد قبلي البيمارستان النوري، وهي التي بنت المدرسة الأخرى ظاهر دمشق، وبها قبرها وقبر أخيها المذكور وزوجها ناصر الدين بن أسد الدين شيركوه صاحب حمص - فكان يقوم بوظائف الجهات الثلاث من غير إخلال بشيء منها إلا لعذر ضروري لابد منه، وكان من العلم والدين على قدم حسن، وقدمت عليه في أوائل شوال سنة اثنتين وثلاثين وستمائة، وأقمت عنده بدمشق ملازم الاشتغال مدة سنة. وصنف في علوم الحديث كتاباً نافعاً، وكذلك في مناسك الحج جمع فيه أشياء حسنة يحتاج الناس إليها، وهو مبسوط، وله إشكالات على كتاب " الوسيط " في الفقه، وجمع بعض أصحابه فتاويه في مجلد. ولم يزل أمره جارياً على سداد وصلاح حال واجتهاد في الاشتغال والنفع إلى أن توفي يوم الأربعاء وقت الصبح، وصلي عليه بعد الظهر، وهو الخامس والعشرون من شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وأربعين وستمائة بدمشق، ودفن بمقابر الصوفية خارج باب النصر، رحمه الله تعالى. ومولده سنة سبع وسبعين وخمسمائة بشرخان. (108) وتوفي والده الصلاح ليلة الخميس السابع والعشرين من ذي القعدة سنة ثمان عشرة وستمائة بحلب، ودفن خارج باب الأربعين في الموضع المعروف بالجبل بتربة الشيخ علي بن محمد الفارسي، وكان مولده في سنة تسع وثلاثين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 244 وخمسمائة تقديراً لأنه كان لا يتحققه، وتولى بحلب تدريس المدرسة الأسدية المنسوبة إلى أسد الدين شيركوه بن شاذي - المقدم ذكره - وكان قد دخل بغداد واشتغل بها، واشتغل أيضاً على شرف الدين بن أبي عصرون - المقدم ذكره. والنصري: بفتح النون وسكون الصاد المهملة وبعدها راء، هذه النسبة إلى جده أبي نصر المذكور. وشر خان: بفتح الشين المثلثة والراء والخاء المعجمة وبعد الألف نون، قرية من أعمال إربل قريبة من شهرزور. (109) وتوفي الزكي ابن رواحة المذكور يوم الثلاثاء سابع رجب سنة اثنتين وعشرين وستمائة بدمشق ودفن في مقابر الصوفية، وذكر الشهاب عبد الرحمن المعروف بأبي شامة في تاريخه المرتب على السنين (1) أنه مات سنة ثلاث وعشرين. (110) وتوفيت ست الشام بنت أيوب المذكورة في سنة ست عشرة وستمائة يوم الجمعة سادس عشر ذي القعدة، رحمها الله تعالى (2) . وروي عن تقي الدين المعروف بابن الصلاح، رحمه الله تعالى، أنه قال: أخبرني الشيخ الصالح علي بن الرواس، قدس الله روحه، قال: ألهمت في النوم هذه الكلمات: ادفع المسألة ما وجدت التجمل يمكنك، فإن لكل يوم رزقاً جديداً، والإلحاح في الطلب يذهب البهاء، وما أحسن الصنيع إلى الملهوف، وربما كانت الغير نوعاً من أدب الله تعالى، والحظوظ مراتب فلا تعجل على ثمرةٍ قبل أن تدرك، فإنك ستنالها في أوانها، ولا تعجل في حوائجك فتضيق بها ذرعاً ويغشاك القنوط، والله أعلم] (3) .   (1) ذيل الروضتين: 149. (2) ذيل الروضتين: 119. (3) انفردت ربما بين معقفين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 245 412 - (1) ابن جني أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي النحوي المشهور؛ كان إماماً في علم العربية، قرأ الأدب على الشيخ أبي علي الفارسي - المقدم ذكره في حرف الحاء - وفارقه وقعد للإقراء بالموصل، فاجتاز بها شيخه أبو علي فرآه في حلقته والناس حوله يشتغلون عليه، فقال له " زببت وأنت حصرم "، فترك حلقته وتبعه ولازمه حتى تمهر. وكان أبوه جني مملوكاً رومياً لسليمان بن فهد بن أحمد الأزدي الموصلي، وإلى هذا أشار بقوله في جملة أبيات: فإن أصبح بلا نسب ... فعلمي في الورى نسبي على أني أؤول إلى ... قرومٍ سادة نجب قياصرة إذا نطقوا ... أرم الدهر ذو الخطب أولاك دعا النبي لهم ... كفى شرفاً دعاء نبي " أرم " بمعنى سكت. وله أشعار حسنة، ويقال أنه كان أعور، وفي ذلك يقول - وقيل إن هذه الأبيات لأبي منصور الديلمي: صدودك عني ولا ذنب لي ... يدل على نية فاسده فقد وحياتك مما بكيت ... خشيت على عيني الواحده ولولا مخافة أن لا أراك ... لما كان في تركها فائده   (1) ترجمته في انباه الرواة 2: 335 وفي الحاشية ذكر لمصادر أخرى، وهذه الترجمة مطابقة لما في المسودة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 246 ورأيت له قصيدة بائية يرثي بها المتنبي ولولا طولها لأتيت بها (1) . (111) وأما أبو منصور الديلمي فالمشهور عنه غير هذه التسمية، وأنه أبو الحسن علي بن منصور، وكان أبوه من جند سيف الدولة بن حمدان، وكان شاعراً مجيداً خليعاً، وكان بفرد عين، وله في ذلك أشياء مليحة فمن ذلك قوله: يا ذا الذي ليس له شاهدٌ ... في الحب معروفٌ ولا شاهده شواهدي عيناي إني بها ... بكيت حتى ذهبت واحدة وأعجب الأشياء أن التي ... قد بقيت في صحبتي زاهده وله في غلام جميل الصورة بفرد عين، وقد أبدع فيه: له عين أصابت كل عين ... وعين قد أصابتها العيون ولابن جني من التصانيف المفيدة في النحو كتاب " الخصائص " و " سر الصناعة " و " المنصف في شرح تصريف أبي عثمان المازني " و " التلقين في النحو " و " التعاقب " و " الكافي في شرح القوافي " للأخفش، و " المذكر والمؤنث " و " المقصور والممدود " و " التمام في شرح شعر الهذليين " و " المنهج في اشتقاق أسماء شعراء الحماسة " ومختصر في العروض ومختصر في القوافي و " المسائل الخاطريات " و " التذكرة الأصبهانية " و " مختار تذكرة أبي علي الفارسي " وتهذيبها و " المقتضب " في المعتل العين و " اللمع " و " التنبيه " و " المهذب " و " التبصرة " وغير ذلك، ويقال: إن الشيخ أبا إسحاق الشيرازي أخذ منه أسماء كتبه، فإن له " المهذب " و " التنبيه " في الفقه، و " اللمع " و " التبصرة " في أصول الفقه. وشرح ابن جني ديوان المتنبي وسماه الفسر (2)   (1) مطلعها: غاض القريض وأودت نضرة الأدب ... وصوحت بعد ري دوحة الكتب وقد وردت في بعض المصارد المذكورة آنفاً. (2) كذا في المسودة ول لي؛ ر: القشر؛ القفطي والمطبوعة المصرية: الصبر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 247 وكان قد قرأ الديوان على صاحبه، ورأيت في شرحه قال: سأل شخص أبا الطيب المتنبي عن قوله: بادٍ هواك صبرت أم لم تصبرا ... فقال: كيف أثبت الألف في " تصبرا " مع وجود لم الجازمة، وكان من حقه أن يقول " لم تصبر "، فقال المتنبي: لو كان أبو الفتح هاهنا لأجابك، يعنيني، وهذه الألف هي بدل من نون التأكيد الخفيفة، كان في الأصل " لم تصبرن " ونون التأكيد الخفيفة إذا وقف الإنسان عليها أبدل منها ألفاً، قال الأعشى: ولا تعبد الشيطان والله فاعبدا ... وكان الأصل فاعبدن فلما وقف أتى بالألف بدلاً. وكانت ولادة ابن جني قبل الثلاثين والثلثمائة بالموصل. وتوفي يوم الجمعة لليلتين بقيتا من صفر سنة اثنتين وتسعين وثلثمائة، رحمه الله تعالى، ببغداد. وجني: بكسر الجيم وتشديد النون وبعدها ياء. 413 - (1) أبو عمرو ابن الحاجب أبو عمرو عثمان بن عمر بن أبي بكر ابن يونس الدوني ثم المصري الفقيه المالكي المعروف بابن الحاجب، الملقب جمال الدين؛ كان والده حاجباً للأمير عز الدين موسك الصلاحي وكان كردياً، واشتغل ولده أبو عمرو المذكور بالقاهرة في صغره بالقرآن الكريم، ثم بالفقه على مذهب الإمام مالك، رضي الله عنه، ثم   (1) ترجمته في الطالع السعيد؛ 188 وغاية النهاية 1: 508 وذيل الروضتين: 182 وبغية الوعاة: 323 وعبر الذهبي 5: 189 والشذرات 5: 234. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 248 بالعربية والقراءات، وبرع في علومه وأتقنها غاية الإتقان، ثم انتقل إلى دمشق ودرس بجامعها في زاوية المالكية، واكب الخلق على الاشتغال عليه، والتزم لهم الدروس وتبحر في الفنون، وكان الأغلب عليه علم العربية، وصنف مختصراً في مذهبه، ومقدمة وجيزة في النحو، وأخرى مثلها في التصريف وشرح المقدمتين [وله (1) : أي غدٌ مع يدٍ ددٍ ذي حروفٌ ... طاوعت في الروي وهي عيون ودواة والحوت والنون نونا ... ت عصتهم وأمرها مستبين وهو جواب عن البيتين المشهورين وهما: ربما عالج القوافي رجالٌ ... في القوافي فتلتوي وتلين طاوعتهم عينٌ وعين وعين ... وعصتهم نون ونون ونون (2) فيعني بقوله " عين وعين وعين " نحو غد ويدٍ وددٍ، فإن وزن كل منها " فع " إذ أصل غد: غدوٌ ويد: يديٌ ودد: ددن، وبقوله " نون ونون ونون " الدواة والحوت والنون الذي هو الحرف، وله أيضاً في أسماء قداح الميسر ثلاثة أبيات، وهي: هي فذ وتوأم ورقيب ... ثم حلس ونافس ثم مسبل والمعلى والوغد ثم سفيح ... ومنيح وذي الثلاثة تهمل ولكلٍ مما عداها نصيب ... مثله أن تعد أول أول] (3)   (1) الغيث الذي انسجم 1: 35 والفوات 2: 122. (2) قال السلفي (47) : كتب أديب من أدباء الأندلس غلى الفقيه أبي عبد الله المازري بالمهدية " ربما عارض القوافي ... الخ " وابن لي ما طاوعهم وما عصاهم، فأجابه نثراً: طاوعهم العجمة والعي والعجز وعصتهم اللسان والبيان والجنان؛ وانظر الغيث الذي اسنجم 1: 34 ونسبا في الفوات 2: 122 للحسين بن عبد السلام. (3) ما بين معقفين زيادة لم ترد إلا في ر؛ وفي المسودة " هاهنا التخريجة ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 249 وصنف في أصول الفقه، وكل تصانيفه في نهاية الحسن والإفادة، وخالف النحاة في مواضع، وأورد عليهم إشكالات وإلزامات تبعد الإجابة عنها، وكان من أحسن خلق الله ذهناً. ثم عاد إلى القاهرة وأقام بها والناس ملازمون للاشتغال عليه، وجاءني مراراً بسبب أداء شهادات، وسألته عن مواضع في العربية مشكلة، فأجاب أبلغ إجابة بسكون كثير وتثبت تام، ومن جملة ما سألته عن مسألة اعتراض الشرط على الشرط في قولهم " إن أكلت إن شربت فأنت طالق " لم تعين تقديم الشرب على الأكل بسبب وقوع الطلاق حتى لو أكلت ثم شربت لا تطلق وسألته عن بيت أبي الطيب المتنبي وهو قوله: لقد تصبرت حتى لات مصطبر ... فالآن أقحم حتى لات مقتحم ما السبب الموجب لخفض مصطبر ومقتحم، ولات ليست من أدوات الجر فأطال الكلام فيهما وأحسن الجواب عنهما، ولولا التطويل لذكرت ما قاله. ثم انتقل إلى الإسكندرية للإقامة بها، فلم تطل مدته هناك، وتوفي بها ضاحي نهار الخميس السادس والعشرين من شوال سنة ست وأربعين وستمائة، ودفن خارج باب البحر بتربة الشيخ الصالح ابن أبي شامة؛ وكان مولده في آخر سنة سبعين وخمسمائة بأسنا، رحمه الله تعالى. وأسنا: بفتح الهمزة وسكون السين المهملة وفتح النون وبعدها ألف، وهي بليدة صغيرة من الأعمال القوصية بالصعيد الأعلى من مصر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 250 414 - (1) الملك العزيز ابن صلاح الدين الملك العزيز عماد الدين أبو الفتح عثمان ابن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب؛ كان نائباً عن أبيه في الديار المصرية لما كان أبوه بالشام، وتوفي أبوه بدمشق، فاستقل بملكتها باتفاق من الأمراء، كما هو مشهور فلا حاجة إلى شرحه. وكان ملكاً مباركاً كثير الخير واسع الكرم محسناً إلى الناس معتقداً في أرباب الخير والصلاح؛ وسمع بالإسكندرية الحديث من الحافظ السلفي والفقيه أبي الطاهر ابن عوف الزهري، وسمع بمصر من العلامة أبي محمد ابن بري النحوي وغيرهم. ويقال إن والده كان يؤثره على بقية أولاده، ولما ولد له الملك المنصور ناصر الدين محمد كان والده بالشام والقاضي الفاضل بالقاهرة فكتب إليه يهنئه " المملوك يقبل الأرض بين يدي مولانا الملك الناصر، دام رشده وإرشاده، وزاد سعده وإسعاده، وكثرت أولياؤه وعبيده وأعداده، واشتد بأعضاده فيهم اعتضاده، وأنمى الله عدده حتى يقال هذا آدم الملوك وهذه أولاده، وينهي أن الله تعالى وله الحمد رزق الملك العزيز عز نصره ولداً مباركاً علياً، ذكراً سرياً، براً زكياً تقياً نقياً، من ذرية كريمة بعضها من بعض، وبيت شريف كادت ملوكه تكون ملائكة في السماء ومماليكه ملوكاً في الأرض ". وكانت ولادة الملك العزيز بالقاهرة في ثامن جمادى الأولى سنة سبع وستين وخمسمائة، وكان قد توجه إلى الفيوم، فطرد فرسه وراء صيد فتقطر به فأصابته الحمى من ذلك وحمل إلى القاهرة، فتوفي بها في الساعة السابعة من ليلة الأربعاء الحادي والعشرين من المحرم سنة خمس وتسعين وخمسمائة، رحمه الله تعالى.   (1) أخباره في مرآة الزمان: 460 وابن الأثير 12: 140 وذيل الروضتين: 16 والسلوك 1: 114 والخطط 1: 235 والنجوم الزاهرة 6: 120 وعبر الذهبي 4: 287 والشذرات 4: 319، وسقطت هذه الترجمة من م. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 251 [نقلت من خط القاضي الفاضل فصلاً يتعلق بالملك العزيز بن صلاح الدين، رحمه الله تعالى، ما مثاله: لما كان يوم السبت تاسع عشر المحرم سنة خمس وتسعين وخمسمائة اشتد المرض بالملك العزيز وخيف عليه، وأدركه في ليلته فواقٌ وأخذ نبضه في الضعف وأصبح الطبيب على إياسٍ منه، ثم لما كان وقت الظهر وقعت البشرى أنه أفاق وحضر ذهنه، وكلم من حوله وحضر إليه الأمراء والخواص، ثم قال بعد ذلك: إلى أن كان وقت العتمة من ليلة الأحد، فبدت قوته تخور، والفواق يشتد وبغته الأمر وعظمت الحمى وصغر النبض وكثر عليه الغشي، وكانت وفاته في الساعة السابعة من ليلة الأحد، ولما كان في آخر الليل خرج فخر الدين جهاركس وأسد الدين سراسنقر وجماعة من المماليك واستدعوا الأمراء فأحضرت وأعلمت بوفاته، وقال المذكورون: إنا قد اجتمعت كلمتنا على أن يكون ولد العزيز الأكبر وتقدير عمره عشر سنين واسمه محمد ولقبه ناصر الدين المنتصب في السلطنة والقائم بالأمر، وأن يكون أتابكه بهاء الدين قراقوش، وقالوا: قد كان السلطان استناب هذا الولد واستخلف على تربيته قراقوش، ونريد أن يجتمع الأمراء، ويخرج الخدام يبلغونهم رسالة عن السلطان وأنه حي، ومعنى الرسالة أن هذا ولدي سلطانكم من بعدي، فاحلفوا له واحفظوني فيه، فقلت لهم: فإن طالبكم الأمراء بسماع هذه المشافهة من السلطان ما الذي تقولون لهم فرجعوا إلى أن يخاطبوا الأمراء إذا حضروا بأن السلطان وصى بهذه الوصية، وأنه قد قضى، ويدخلون عليهم من جانب الموافاة لجد هذا الصبي وأبيه، فقلت لهم: لا تنتظروا اجتماع الأمراء، فإنهم إن حضروا جملة فلا تأمنوا أن يمتنعوا جملة، بل كل من حضر من الأمراء تقولون له: قد اتفقنا فكن معنا، وقد حلفنا فاحلف كما حلفنا، وقدموا المصحف وأسرعوا في تلقينه، فجرى الأمر على هذا، فلما تكامل الحلف أو أكثره أحضروا الولد، فبكى الناس لما رأوه وصاحوا وقاموا إليه، ووقفوا بين يديه، جميع ذلك قبل أن يسفر صباح الأحد، ثم صليت فريضة الفجر، وشرعوا في تجهيز الملك العزيز إلى قبره، وغسل في مكان موته، واجتمع الناس فيما بين الظهر والعصر للصلاة عليه، وكثر الزحام، وقامت الواعية، فلم يخلص الجزء: 3 ¦ الصفحة: 252 من دفنه إلى قريب المغرب، وخوطب ولده بالملك الناصر بلقب جده في هذا اليوم] (1) . ولما مات كتب القاضي الفاضل إلى عمه الملك العادل رسالة يعزيه، من جملتها: " فنقول في توديع النعمة بالملك العزيز: لا حول ولا قوة إلاّ بالله، قول الصابرين، ونقول في استقبالها (2) بالملك العادل: الحمد لله رب العالمين، قول الشاكرين، وقد كان من أمر هذه الحادثة ما قطع كل قلب، وجلب كل كرب، ومثل وقوع هذه الواقعة لكل أحد ولا سيما لأمثال المملوك، ومواعظ الموت بليغة، وأبلغها ما كان في شباب الملوك، فرحم الله ذلك الوجه ونضره، ثم السبيل إلى الجنة (3) يسره. وإذا محاسن أوجهٍ بليت ... فعفا الثرى عن وجهه الحسن والمملوك في حال تسطير هذه الخدمة جامع بين مرضي قلب وجسد، ووجع أطراف وغليل كبد، فقد فجع المملوك بهذا المولى والعهد بوالده غير بعيد، والأسى في كل يوم جديد، وما كان ليندمل ذلك القرح، حتى أعقبه هذا الجرح، فالله تعالى لا يعدم المسلمين بسلطانهم الملك العادل السلوة، كما لم يعدمهم بنبيهم صلى الله عليه وسلم الأسوة ". ودفن بالقرافة الصغرى في قبة الإمام الشافعي، رضي الله عنه، وقبره معروف هناك.   (1) انفردت ر بما حصر بين معقفين. (2) ر: استبقائها. (3) إلى الجنة: سقط من ر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 253 415 - (1) عدي الهكاري الشيخ عدي بن مسافر [بن إسماعيل بن موسى بن الحسن بن مروان، كذا أملى نسبه بعض ذوي قرابته] (2) الهكاري مسكناً، العبد الصالح المشهور الذي تنسب إليه الطائفة العدوية؛ سار ذكره في الآفاق، وتبعه خلق كثير، وجاوز حين اعتقادهم فيه الحد، حتى جعلوه قبلتهم التي يصلون إليها، وذخيرتهم في الآخرة التي يعولون عليها، وكان قد صحب جماعة كثيرة من أعيان المشايخ والصلحاء المشاهير [مثل عقيل المنبجي وحماد الدباس وأبي النجيب عبد القاهر السهروردي وعبد القادر الجيلي وأبي الوفاء الحلواني] ثم انقطع إلى جبل الهكارية من أعمال الموصل، وبنى له هناك زاوية، ومال إليه أهل تلك النواحي كلها ميلاً لم يسمع لأرباب الزوايا مثله. وكان (3) مولده في قرية يقال لها بيت فار من أعمال بعلبك، والبيت الذي ولد فيه يزار إلى الآن. وتوفي الشيخ سنة سبع، وقيل خمس وخمسين وخمسمائة، في بلده بالهكارية ودفن بزاويته، رحمه الله تعالى؛ وقبره عندهم من المزارات المعدودة، والمشاهد المقصودة، وحفدته إلى الآن بموضعه يقيمون شعاره ويقتفون آثاره، والناس معهم على ما كانوا عليه زمن الشيخ من جميل الاعتقاد وتعظيم الحرمة. وذكره أبو البركات ابن المستوفي في " تاريخ إربل " وعده من جملة الواردين على إربل. وكان مظفر الدين صاحب إربل، رحمه الله تعالى، يقول: رأيت   (1) انظر تاريخ ابن الوردي 2: 64 وعبر الذهبي 4: 163 والشذرات 4: 179 والأعلام للزركلي. (2) ما بين معقفين زيادة من ر. (3) ل س: وقيل أن. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 254 الشيخ عدي بن مسافر وأنا صغير بالموصل، وهو شيخ ربعهٌ أسمر اللون، وكان يحكي عنه صلاحاً كثيراً، وعاش الشيخ عدي تسعين سنة، رحمه الله تعالى. 416 - (1) عروة بن الزبير أبو عبد الله عروة بن الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب القرشي الأسدي، وبقية النسب معروف (2) ؛ هو أحد الفقهاء السبعة بالمدينة - وقد تقدم ذكر خمسة منهم كل واحد في بابه - وأبوه الزبير بن العوام أحد الصحابة العشرة المشهود لهم بالجنة وهو ابن صفية عمة النبي، صلى الله عليه وسلم. وأم عروة المذكور أسماء بنت أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، هي ذات النطاقين وإحدى عجائز الجنة، وعروة شقيق أخيه عبد الله ابن الزبير، بخلاف أخيهما مصعب فإنه لم يكن من أمهما، وقد وردت عنه الرواية في حروف القرآن، وسمع خالته عائشة أم المؤمنين، رضي الله عنها، وروي عنه ابن شهاب الزهري وغيره. وكان عالماً صالحاً، وأصابته الأكلة في رجلة وهو بالشام عند مجلس الوليد بن عبد الملك، فقطعت رجله في مجلس الوليد، والوليد مشغول عنه بمن يحدثه، فلم يتحرك ولم يشعر الوليد أنها قطعت حتى كويت فوجد رائحة الكي، هكذا قال ابن قتيبة في كتاب " المعارف " (3) ، ولم يترك ورده تلك الليلة، ويقال: إنه مات ولده محمد في تلك السفرة فلما عاد إلى   (1) ترجمته في طبقات ابن سعد 5: 178 ونسب قريش: 245 - 246 وطبقات الشيرازي، الورقة: 13 وحلية الأولياء 2: 176 وصفة الصفوة 2: 47 وتذكرة الحفاظ: 62 وعبر الذهبي 1: 110 والشذرات 1: 103. (2) كذا في الأصول. (3) المعارف: 222. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 255 المدينة قال: {لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً} ، وعاش بعد قطع رجله ثماني سنين. وذكر أبو العباس المبرد في كتاب " التعازي " ما مثاله (1) : وقال إسحاق ابن أيوب وعامر بن جعفر بن حفص وسلمة بن محارب: قدم عروة بن الزبير على الوليد بن عبد الملك ومعه ولده محمد بن عروة فدخل محمد دار الدواب فضربته دابة فخر ميتاً، ووقعت في رجل عروة الأكلة ولم يدع ورده تلك الليلة فقال له الوليد: اقطعها فقال: لا، فسرت إلى ساقه فقال له الوليد: اقطعها وإلا أفسدت عليك جسدك فقطها بالمنشار وهو شيخ كبير ولم يمسكه أحد وقال لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً. وقدم تلك السنة قوم من بني عبس فيهم رجل ضرير فسأله الوليد عن عينيه فقال: يا أمير المؤمنين بت ليلة في بطن واد ولا أعلم عبسياً يزيد ماله على مالي، فطرقنا سيلٌ فذهب بما كان لي من أهل وولد ومال غير بعير وصبي مولود وكان البعير صعباً فند، فوضعت الصبي واتبعت البعير، فلم أجاوز قليلاً حتى سمعت صيحة ابن ورأسه في فم الذئب وهو يأكله، فلحقت البعير لأحبسه فنفحني برجله على وجهي فحطمه وذهب بعيني، فأصبحت لا مال لي ولا أهل ولا ولد ولا بصر؛ فقال الوليد: انطلقوا به إلى عروة ليعلم أن في الناس من هو أعظم منه بلاء. وكان أحسن من عزاه إبراهيم بن محمد بن طلحة وقال له: والله ما بك حاجة إلى المشي، ولا أربٌ في السعي، وقد تقدمك عضو من أعضائك وابن من أبنائك إلى الجنة، والكل تبع للبعض، إن شاء الله تعالى، وقد أبقى الله لنا منك ما كنا إليه فقراء، وعنه غير أغنياء، ومن علمك ورأيك، نفعك الله وإيانا به، والله ولي ثوابك، والضمين بحسابك. [وحكى سعيد بن أسد قال: حدثنا ضمرة عن ابن شوذب قال: كان عروة بن الزبير إذا كان أيام الرطب ثلم حائطه فيدخل الناس فيأكلون ويحتملون، وكان إذا دخله ردد هذه الأية فيه: {ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله} (الكهف: 39) حتى يخرج منه. وكان يقرأ   (1) هذا النص المنقول عن المبرد حت قوله ... بحسابك: سقط من س ل لي م، وانفردت به ر واشار في المسودة إلى أن " التخريجة " تكتب هنا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 256 ربع القرآن كل يوم نظراً في المصحف ويقوم به الليل، فما تركه إلا ليلة قطعت رجله، ثم عاد من الليلة المقبلة. وقال ابن قتيبة وغيره: لما دعي الجزار ليقطعها قال له: نسقيك الخمر حتى لا تجد لها ألماً، فقال: لا أستعين بحرام الله على ما أرجو من عافية، قالوا: فنسقيك المرقد، قال: ما أحب أن أسلب عضواً من أعضائي وأنا لا أجد ألم ذلك فأحتسبه، قال: ودخل عليه قوم أنكرهم، فقال: ما هؤلاء قالوا: يمسكونك فإن الألم ربما عزب معه الصبر، قال: أرجو أن أكفيكم ذلك من نفسي، فقطعت كعبه بالسكين حتى إذا بلغ العظم وضع عليها المنشار فقطعت وهو يهلهل ويكبر، ثم أنه أغلي له الزيت في مغارف الحديد فحسم به، فغشي عليه، فأفاق وهو يمسح العرق عن وجهه، ولما رأى القدم بأيديهم دعا بها فقلبها في يده ثم قال: أما والذي حملني عليك إنه ليعلم إني ما مشيت بك إلى حرام، أو قال معصية، ولما دخل ابنه إصطبل الوليد بن عبد الملك وقتلته الدابة كما تقدم لم يسمع في ذلك منه شيء، حتى قدم المدينة فقال: اللهم، إنه كان لي أطراف أربعة فأخذت واحدة وأبقيت لي ثلاثة، فلك الحمد، وايم الله لئن أخذت لقد أبقيت، ولئن ابتليت لطالما عافيت] (1) . ولما قتل أخوه عبد الله قدم عروة على عبد الملك بن مروان فقال له يوماً: أريد أن تعطيني سيف أخي عبد الله، فقال له: هو بين السيوف ولا أميزه من بينها، فقال عروة: إذا حضرت السيوف ميزته أنا، فأمر عبد الملك بإحضارها، فلما حضرت أخذ منها سيفاً مفلل الحد فقال: هذا سيف أخي، وقال عبد الملك: كنت تعرفه قبل الأن فقال: لا، فقال: كيف عرفته قال: بقول النابغة الذبياني: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلولا من قراع الكتائب وعروة هذا هو الذي احتفر بئر عروة التي بالمدينة وهي منسوبة إليه وليس بالمدينة بئر أعزب من مائها.   (1) ما بين معقفين لم يرد في المخطوطات. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 257 وكانت ولادته سنة اثنتين وعشرين، وقيل ست وعشرين للهجرة. وتوفي في قرية له بقرب المدينة يقال لها فرع - بضم الفاء وسكون الراء - وهي من ناحية الربذة، بينها وبين المدينة أربع ليال، وهي ذات نخيل ومياه، سنة ثلاث وتسعين، وقيل أربع وتسعين، ودفن هناك، قاله ابن سعد، وهي سنة الفقهاء، رضي الله عنهم، وسيأتي ذكر ولده هشام إن شاء الله تعالى. وذكر العتبي (1) أن المسجد الحرام جمع بين عبد الملك بن مروان وعبد الله بن الزبير وأخويه مصعب وعروة المذكور أيام تألفهم بعهد معاوية بن أبي سفيان، فقال بعضهم: هلم فلنتمنه، فقال عبد الله بن الزبير: منيتي أن أملك الحرمين وأنال الخلافة، وقال مصعب: منيتي أن أملك العراقين وأجمع بين عقيلتي قريش سكينة بنت الحسين وعائشة بنت طلحة، وقال عبد الملك بن مروان: منيتي أن أملك الأرض كلها وأخلف معاوية، وقال عروة: لست في شيء مما أنتم فيه، منيتي الزهد في الدنيا والفوز بالجنة في الآخرة وأن أكون ممن يروى عنه هذا العلم، قال: فصرف الدهر من صرف إلا أن بلغ كل واحد منهم إلى أمله. وكان عبد الملك لذلك يقول: من شره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى عروة بن الزبير. 417 - (2) ركن الدين الطاوسي أبو الفضل العراقي بن محمد العراقي القزويني، الملقب ركن الدين، المعروف بالطاوسي؛ كان إماماً فاضلاً مناظراً محجاجاً، قيماً بعلم الخلاف ماهراً فيه،   (1) انظر رواية مشابهة في ترجمة عبد الله بن عمر ص: 29. (2) انظر عبر الذهبي 4: 313 والجواهر المضية 2: 263 والشذرات 4: 346 (وهو نقل عن ابن خلكان) ؛ وسماه في العبر والشذرات عزيز بن محمد؛ وقد جاءت هذه الترجمة مستوفاة في المسودة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 258 اشتغل به على الشيخ رضي الدين النيسابوري الحنفي صاحب الطريقة في الخلاف وبرز فيه، وصنف ثلاث تعاليق في الخلاف: مختصرة وثانية وثالثة مبسوطة، واجتمع عليه الطلبة بمدينة همذان، وقصدوه من البلاد البعيدة والقريبة للاستفادة عليه، وعلقوا تعاليقه. وبنى له الحاجب جمال الدين بهمذان مدرسة تعرف بالحاجبية، وطريقته الوسطى أحسن من طريقتيه الأخريين لأن فقهها كثير وفوائدها جمة، وأكثر اشتغال الناس في هذا الزمان بها، واشتهر صيته في البلاد وحملت طريقته إليها. وتوفي بهمذان في رابع عشر جمادى الآخرة سنة ستمائة، رحمه الله تعالى. ولم أعلم نسبة الطاوسي إلى أي شيء ولا ذكرها السمعاني، والله أعلم. وسمعت جماعة من الفقهاء من أهل بلاده يقولون: إن في قزوين خلقاً كثيراً ينتسبون هذه النسبة، ويزعمون أنهم من نسل طاووس بن كيسان (1) التابعي المذكور قبل هذا، فلعله منهم، والله أعلم. 418 - (2) شيذلة أبو المعالي عزيزي بن عبد الملك بن منصور الجيلي، المعروف بشيذلة، الفقيه الشافعي الواعظ؛ كان فقيهاً فاضلاً واعظاً ماهراً فصيح اللسان حلو العبارة   (1) انظر ترجمة طاوس رقم: 306. (2) ترجمته في المنتظم 9: 126 وطبقات السبكي 3: 287 وعبر الذهبي 3: 339 والشذرات 3: 401؛ وذكر السبكي أن لقبه شيلد، وقال: بفتح الشين المعجمة وسكون (الياء) آخر الحروف وفتح اللام والدال، فتأمل الفرق بين الضبطين، وذكر في التاج لفظ " شيذله " وقال إن السبكي ضبطه بالدال المهملة مما قد يرجح أن المطبوعة من الطبقات وقع فيه خطأ. قلت: وهذه الترجمة مطابقة لما في المسودة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 259 كثير المحفوظات، صنف في الفقه وأصول الدين والوعظ، وجمع كثيراً من أشعار العرب، وتولى القضاء بمدينة بغداد بباب الأزج، وكانت في أخلاقه حدة، وسمع الحديث الكثير من جماعة كثيرة، وكان يتظاهر بمذهب الأشعري. ومن كلامه: إنما قيل لموسى، عليه السلام، لن تراني لأنه لما قيل له انظر إلى الجبل نظر إليه، فقيل له: يا طالب النظر إلينا لم تنظر إلى سوانا يا مدعي بمقاله ... صدق المحبة والإخاء لو كنت تصدق في المقا ... ل لما نظرت إلى سوائي فسلكت سبل محبتي ... واخترت غيري في الصفاء هيهات أن يحوي الفؤا ... د محبتين على استواء وقال: أنشدني والدي عند خروجه من بغداد للحج: مددت إلى التوديع كفاً ضعيفةً ... وأخرى على الرمضاء فوق فؤادي فلا كان هذا العهد آخر عهدنا ... ولا كان ذا التوديع آخر زادي وتوفي يوم الجمعة سابع عشر صفر سنة أربع وتسعين وأربعمائة ببغداد، ودفن بباب أبرز محاذياً للشيخ أبي إسحاق الشيرازي، رحمهما الله تعالى. وعزيزي: بفتح العين المهملة وزايين بينهما ياء مثناة من تحتها وهي ساكنة، وبعد الزاي الثانية ياء ثانية. وشيذلة: بفتح الشين المعجمة وسكون الياء المثناة من تحتها وفتح الذال المعجمة والام وبعدها هاء ساكنة، وهو لقب عليه، ولا أعرف معناه من كثرة كشفي عنه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 260 419 - (1) عطاء بن أبي رباح أبو محمد عطاء بن أبي رباح أسلم - وقيل سالم - بن صفوان مولى بني فهر أو جمح المكي، وقيل إنه مولى أبي ميسرة الفهري، من مولدي الجند؛ كان من أجلاء الفقهاء وتابعي مكة وزهادها، سمع جابر بن عبد الله الأنصاري وعبد الله بن عباس وعبد الله بن الزبير وخلقاً كثيراً من الصحابة، رضوان الله عليهم، وروى عنه عمرو بن دينار والزهري وقتادة وملك بن دينار والأعمش والأوزاعي وخلق كثير، رحمهم الله تعالى وإليه وإلى، وإلى مجاهد انتهت فتوى مكة في زمانهما. قال قتادة: أعلم الناس بالمناسك عطاء. وقال إبراهيم بن عمر ابن كيسان: أذكرهم في زمان بني أمية يأمرون في الحج صائحاً يصيح: لا يفتي الناس إلا عطاء بن أبي رباح، وإياه عنى الشاعر بقوله: سل المفتي المكي هل في تزاورٍ ... وضمة مشتاق الفؤاد جناح فقال معاذ الله أن يذهب التقى ... تلاصق أكبادٍ بهن جراح فلما بلغه البيتان قال: والله ما قلت شيئاً من هذا (2) . [وحكي عن وكيع قال: قال لي أبو حنيفة النعمان بن ثابت: أخطأت في خمسة أبواب في المناسك بمكة فعلمنيها حجام، وذلك إني أردت أن أحلق   (1) ترجمته في طبقات ابن سعد 2: 386 وطبقات الشيرازي، الورقة: 17 والمعارف: 444 وحلية الأولياء 3: 310 وصفة الصفوة 2: 119 ونكت الهميان: 199 وميزان الاعتدال 3: 70 وتذكرة الحفاظ: 98 وعبر الذهبي 1: 141 وتهذيب التهذيب 7: 199 والشذرات 1: 147. (2) وقع بعد هذا في ر زيادة نقطع أنها من عمل أحد النسخ لأنها نقل عن التاج السبكي صاحب طبقات الشافعية، وهو متأخر عن المؤلف، ولهذا لم ندرجها هنا، وهي تتعلق بفتوى الشافعي في هذين البيتين (انظر طبقات السبكي 1: 161) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 261 رأسي، فقال لي: أعربي أنت قلت: نعم، وكنت قد قلت له: بكم تحلق رأسي فقال: النسك لا يشارط فيه، اجلس، فجلست منحرفاً عن القبلة، فأومأ لي باستقبال القبلة، وأردت أن أحلق رأسي من الجانب الأيسر، فقال: أدر شقك الأيمن من رأسك، فأدرته، وجعل يحلق رأسي وأنا ساكت فقال لي: كبر، فجعلت أكبر حتى قمت لأذهب فقال: أين تريد قلت: رحلي فقال: صلي ركعتين وامض، فقلت: ما ينبغي أن يكون هذا من مثل هذا الحجام إلا ومعه علم، فقلت: من أين لك ما رأيتك أمرتني به فقال: رأيت عطاء بن أبي رباح يفعل هذا. وحكي عن خليفة بن سلام عن يونس قال: سمعت الحسن البصري ذات يوم في مجلسه يقول: اعتبروا من المنافق بثلاث، إن حدث كذب، وإن اؤتمن خان وإن وعد أخلف، فبلغ ذلك عطاء فقال: قد كانت هذا الخلال الثلاث في ولد يعقوب، حدثوه فكذبوه، وائتمنهم فخانوه، ووعده فأخلفوه، فأعقبهم الله النبوة فبلغ الحسن فقال: {وفوق كل ذي علم عليم} (يوسف: 76) ] (1) . ونقل أصحابنا عن مذهبه أنه كان يرى إباحة وطء الجواري بإذن أربابهن؛ وحكى أبو الفتوح العجلي - المقدم ذكره في حرف الهمزة (2) - في كتاب " شرح مشكلات الوسيط والوجيز " في الباب الثالث من كتاب الرهن ما مثاله: وحكي عن عطاء أنه كان يبعث بجواريه إلى ضيفانه، والذي أعتقد أنا أن هذا بعيد، فإنه ولو رأى الحل لكن المروءة والغيرة تأبى ذلك فكيف يظن هذا بمثل ذلك السيد الإمام ولم أذكره إلا لغرابته. وكلن أسود أعور أفطس أشل أعرج، ثم عمي، مفلفل الشعر. قال سليمان بن رفيع: دخلت المسجد الحرام والناس مجتمعون على رجل فاطلعت فإذا عطاء بن أبي رباح جالس كأنه غراب أسود. توفي سنة خمس عشرة ومائة، وقيل أربع عشرة ومائة، وعمره ثمان وثمانون   (1) ما بين معقفين انفردت به ر. (2) انظر المجلد الأول ص: 208. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 262 سنة، رضي الله عنه، وقال ابن أبي ليلى: حج عطاء سبعين حجة وعاش مائة سنة، والله أعلم. ورباح: بفتح الراء والباء الموحدة. وأسلم: بفتح الهمزة وسكون السين المهملة وفتح اللام. وفهر: بكسر الفاء وسكون الهاء وبعدها راء. وجمح: بضم الجيم وفتح الميم وبعدها حاء مهملة. والباقي معلوم. والجند: بفتح الجيم والنون وبعدها دال مهملة، وهي بلدة مشهورة باليمن خرج منها جماعة من العلماء، رحمهم الله تعالى. 420 - (1) المقنع الخراساني اسمه عطاء، ولا أعرف اسم أبيه وقيل اسمه حكيم، والأول أشهر؛ وكان في مبدأ أمره قصاراً من أهل مرو، وكان يعرف شيئاً من السحر والنيرجات (2) فادعى الربوبية من طريق المناسخة، وقال لأشياعه والذين اتبعوه: إن الله سبحانه وتعالى تحول إلى صورة آدم، ولذلك قال للملائكة: اسجدوا له فسجد إلا إبليس فاستحق بذلك السخط، ثم تحول من آدم إلى صورة نوح عليه السلام، ثم إلى صورة واحد فواحد من الأنبياء عليهم السلام والحكماء حتى حصل في صورة أبي مسلم الخراساني - المقدم   (1) أخباره في الطبري 9: 338 وابن الأثير 6: 38، 51 والملل والنحل 1: 248 وعبر الذهبي 1: 235، 240 والشذرات 1: 248 والآثار الباقية: 211 وقال أن اسمه هاشم ابن حكيم، وشروح السقط: 1545؛ وقد جاءت الترجمة هنا مطابقة لما في المسودة. (2) لي: والنيرنجيات؛ ر: والنيرنجات، وأثبتنا ما في المسودة ول س. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 263 ذكره - ثم زعم أنه انتقل إليه منه، فقبل قوم (1) دعواه وعبدوه وقاتلوا دونه، مع ما عاينوا من عظيم ادعائه وقبح صورته، لأنه كان مشوه الخلق أعور ألكن قصيراً، وكان لا يسفر عن وجهه بل اتخذ وجهاً من ذهب فتقنع به، فلذلك قيل له " المقنع "، وإنما غلب على عقوله بالتمويهات التي أظهرها لهم بالسحر والنيرجات. وكان في جملة ما أظهر لهم صورة قمر يطلع ويراه الناس من مسافة شهرين من موضعه، ثم يغيب، فعظم اعتقادهم به، وقد ذكر أبو العلاء المعري هذا القمر في قوله (2) : أفق إنما البدر المقنع رأسه ... ضلالٌ وغيٌ مثل البدر المقنع وهذا البيت من جملة قصيدة طويلة، وإليه أشار أبو القاسم هبة الله بن سناء الملك الشاعر - الآتي ذكره - في جملة قصيدة طويلة بقوله (3) : إليك فما بدر المقنع طالعاً ... بأسحر من ألحاظ بدر المعمم ولما اشتهر أمر المقنع وانتشر ذكره ثار عليه الناس، وقصدوه في قلعته التي كان اعتصم بها وحصروه، فلما أيقن بالهلاك جمع نساءه وسقاهن سماً فمتن منه ثم تناول شربة من ذلك السم فمات، ودخل المسلمون قلعته فقتلوا من فيها من أشياعه وأتباعه، وذلك في سنة ثلاث وستين ومائة، لعنه الله تعالى، ونعوذ بالله من الخذلان. قلت: ولم أر أحداً ذكر هذه القلعة وأين هي حتى أذكرها، ثم رأيت في كتاب الشهاب ياقوت الحموي - الآتي ذكره إن شاء الله تعالى - الذي وضعه في معرفة المواضع المشتركة، فقال في باب سنام بفتح السين (4) : إنها أربعة مواضع والموضع الرابع منها سنام قلعة عمرها المقنع الخارجي بما وراء النهر،   (1) ر: قومه. (2) شروح السقط: 1544. (3) ديوانه: 698. (4) انظر المشترك: 254. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 264 والله أعلم، والظاهر أنها هذه القلعة، ثم وجدت في أخبار خراسان أنها هي، وأنها من رستاق كش، والله أعلم. 421 - (1) عكرمة أبو عبد الله عكرمة بن عبد الله مولى عبد الله بن عباس، رضي الله عنهما؛ أصله من البربر من أهل المغرب، كان لحصين بن الحر العنبري، فوهبه لابن عباس رضي الله عنهما، حين ولي البصرة لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه واجتهد ابن عباس في تعليمه القرآن والسنن وسماه بأسماء العرب. حدث عن عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو بن العاص وأبي هريرة وأبي سعيد الخدري والحسن بن علي بن وعائشة، رضي الله عنهم؛ وهو أحد فقهاء مكة وتابعيها، وكان ينتقل من بلد إلى بلد؛ روي أن ابن عباس قال له: انطلق فأفت الناس. وقيل لسعيد بن جبير: هل تعلم أحداً أعلم منك قال: عكرمة. وقد تكلم الناس في لأنه كان يرى رأي الخوارج. وروى عن جماعة من الصحابة، رضي الله عنهم، وروى عنه الزهري وعمرو بن دينار والشعبي وأبو إسحاق السبيعي وغيرهم. ومات مولاه ابن عباس وعكرمة على الرق ولم يعتقه، فباعه ولده علي بن عبد الله بن عباس من خالد بن يزيد بن معاوية بأربعة آلاف دينار، فأتى عكرمة مولاه علياً، فقال له: ما خير لك، بعت علم أبيك بأربعة آلاف دينار، فاستقاله وأقاله وأعتقه. وقال عبد الله بن الحارث: دخلت على علي بن عبد الله بن عباس وعكرمة موثق على باب   (1) ترجمته في طبقات ابن سعد 2: 385 والمعارف: 455 وحلية الأولياء 3: 326 وتذكرة الحفاظ: 95 وميزان الاعتدال 3: 93 وتهذيب التهذيب 7: 263 والشذرات 1: 130، وقد استوفت المسودة هذه الترجمة بتمامها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 265 كنيف، فقلت: أتفعلون هذا بمولاكم قال: إن هذا يكذب على أبي. وتوفي عكرمة في سنة سبع ومائة، وقيل سنة ست، وقيل سنة أربع، وقيل سنة خمس، وقيل سنة خمس عشرة، والله أعلم، وعمره ثمانون، وقيل أربع وثمانون سنة. وروى محمد بن سعد عن الواقدي عن خالد بن القاسم البياضي قال: مات عكرمة وكثير عزة الشاعر في يوم واحد، سنة خمس ومائة، فرأيتهما جميعاً صلي عليهما في موضع الجنائز بعد الظهر، فقال الناس: مات أفقه الناس وأشعر الناس، رحمهما الله تعالى، وكان موتهما بالمدينة، وقيل إن عكرمة مات بالقيروان، والأول أصح. وكان عكرمة كثير التطواف والجولان في البلاد: دخل خراسان وأصبهان ومصر وغيرها من البلاد. وعكرمة: بكسر العين المهملة وسكون الكاف وكسر الراء وفتح الميم وبعدها هاء ساكنة، وهو في الأصل اسم الحمامة الأنثى، فسمي به الإنسان. وعمارة بن حمزة مولى المنصور الموصوف بالتيه من أولاده، وقال الخطيب البغدادي: هو ابن ابنة عكرمة المذكور، والله أعلم. 422 - (1) زين العابدين أبو الحسن (2) علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، رضي الله عنهم أجمعين، المعروف بزين العابدين، ويقال له علي الأصغر، وليس للحسين، رضي الله عنه،   (1) ترجمته في " الأئمة الأثنا عشر ": 75، ومقابل الصفحة ثبت بمصادر أخرى، يضاف إليها صفة الصفوة 2: 52 وحلية الأولياء 3: 133 وعبر الذهبي 1: 111 وهذه الترجمة مطابقة لما في المسودة. (2) ر: الإمام أبو الحسن. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 266 عقب إلا من ولد زين العابدين هذا؛ وهو أحد الأئمة الاثني عشر ومن سادات التابعين، قال الزهري: ما رأيت قرشياً أفضل منه. وأمه سلافة بنت يزدجرد آخر ملوك فارس، وهي عمة أم يزيد بن الوليد الأموي المعروف بالناقص. وكان قتيبة بن مسلم الباهلي أمير خراسان لما تتبع دولة الفرس وقتل فيروز بن يزدجرد المذكور بعث بابنتيه إلى الحجاج بن يوسف الثقفي - المقدم ذكره - وكان يومئذ أمير العراق وخراسان وقتيبة نائبه بخراسان، فأمسك الحجاج إحدى البنتين لنفسه وأرسل الأخرى إلى الوليد بن عبد الملك، فأولدها يزيد الناقص، واسمها شاه فريذ، وسمي بالناقص لأنه نقص أعطية الجند. وكان يقال لزين العابدين ابن الخيرتين، لقوله صلى الله عليه وسلم " لله تعالى من عباده خيرتان، فخيرته من العرب قريش ومن العجم فارس ". وذكر أبو القاسم الزمخشري في كتاب " ربيع الأبرار " أن الصحابة، رضي الله عنهم، لما أتوا المدينة بسبي فارس في خلافة عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، كان فيهم ثلاث بنات ليزدجرد، فباعوا السبايا، وأمر عمر ببيع بنات يزدجرد أيضاً، فقال له علي بن أبي طالب، رضي الله عنه: إن بنات الملوك لا يعاملن معاملة غيرهن من بنات السوقة، فقال: كيف الطريق إلى العمل معهن قال: يقومن مهما بلغ ثمنهن قام به من يختارهن فقومن وأخذهن علي، رضي الله عنه، فدفع واحدة لعبد الله بن عمر وأخرى لولده الحسين وأخرى لمحمد بن أبي بكر الصديق، وكان ربيبه، رضي الله عنهم أجمعين، فأولد عبد الله أمته ولده سالماً، وأولد الحسين زين العابدين، وأولد محمد ولده القاسم، فهؤلاء الثلاثة بنو خالة (1) ، وأمهاتهم بنات يزدجرد. وحكى المبرد في كتاب " الكامل " (2) ما مثاله: يروى عن رجل من قريش لم يسم لنا قال: كنت أجالس سعيد بن المسيب، فقال لي يوماً: من أخوالك   (1) لي: خالات. (2) الكامل 2: 120. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 267 فقلت له: أمي فتاة، فكأني نقصت من عينه، فأمهلت حتى دخل سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، رضي الله عنهم، فلما خرج من عنده قلت: يا عم من هذا فقال: سبحان الله، أتجهل مثل هذا من قومك هذا سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، قلت: فمن أمه قال: فتاة، قال: ثم أتاه القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، فجلس عنده ثم نهض، قلت: يا عم، من هذا فقال: أتجهل من أهلك مثله ما أعجب هذا، هذا القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، قلت: فمن أمه قال: فتاة، قال: فأمهلت شيئاً حتى جاءه علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه فسلم عليه ثم نهض، فقلت: يا عم، من هذا قال: هذا الذي لا يسعُ مسلماً أن يجهله، هذا علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، فقلت: من أمه قال: فتاة، فقلت: يا عم، رأيتني نقصت في عينك لما علمت أن أمي فتاة (1) ، أفما لي في هؤلاء أسوة قال: فجللت في عينه جداً. وكان أهل المدينة يكرهون اتخاذ أمهات الأولاد حتى نشأ فيهم علي بن الحسن والقاسم بن محمد وسالم بن عبد الله، ففاقوا أهل المدينة فقهاً وورعاً، فرغب الناس في السراري (2) . وكان زين العابدين كثير البر بأمه، حتى قيل له: إنك أبر الناس بأمك، ولسنا نراك تأكل معها في صحفة، فقال: أخاف أن تسبق يدي إلى ما سبقت إليه عينها فأكون قد عققتها، وهذا ضد قصة أبي المخش مع ابنه، فإنه قال (3) : كانت لي ابنة تجلس معي على المائدة فتبرز كفاً كأنها طلعة في ذراع كأنه جمارة فما تقع عينها على لقمة نفيسة إلا خصتني بها، فزوجتها، فصار يجلس معي على المائدة ابن لي فيبرز كفاً كأنها كرنافة (4) في ذراع كأنه كربة،   (1) لي: ما علمت أني لأم ولد. (2) زاد هنا في هامش المسودة: ذكر ابن قتيبة في كتاب المعارف أن زين العابدين يقال أن أمه سندية يقال لها سلافة ويقال غزالة والله أعلم بالصواب، وهذا مكرر، وسيأتي بعد سطور. (3) انظر هذه القصة في عيون الأخبار 3: 219. (4) الكرانيف: أصول الكرب تبقى في جذع النخلة بعد قطع السعف، والكرب أصول السعف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 268 فوالله ما تسبق عيني إلى لقمة طيبة إلا سبقت يده إليها. وحكى ابن قتيبة في كتاب " المعارف " (1) أن أم زين العابدين سندية يقال لها سلافة ويقال غزالة والله أعلم بالصواب، وأنه زوجها بعد أبيه بن بزبيد مولى أبيه، وأعتق جارية له وتزوجها، فكتب إليه عبد الملك بن مروان يعيره ذلك، فكتب إليه زين العابدين: " لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة، وقد أعتق رسول الله، صلى الله عليه وسلم، صفية بنت حيي بن أخطب وتزوجها وأعتق زيد بن حارثة وزوجه بنت عمته زينب بنت جحش ". وفضائل زين العابدين ومناقبه أكثر من أن تحصر. وكانت ولادته يوم الجمعة في بعض شهور سنة ثمان وثلاثين للهجرة، وتوفي سنة أربع وتسعين وقيل تسع وتسعين وقيل اثنتين وتسعين للهجرة بالمدينة، ودفن في البقيع في قبر عمه الحسن بن علي، رضي الله تعالى عنه، في القبة التي فيها قبر العباس، رضي الله عنه. 423 - (2) علي الرضا أبو الحسن علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين المذكور قبله؛ وهو أحد الأئمة الاثني عشر على اعتقاد الإمامية، وكان المأمون قد زوجه ابنته أم حبيب في سنة اثنتين ومائتين وجعله ولي عهده، وضرب اسمه على الدينار والدرهم، وكان السبب في ذلك أنه استحضر أولاد العباس الرجال منهم والنساء، وهو بمدينة مرو من بلاد خراسان، وكان عددهم ثلاثة وثلاثين ألفاً ما بين الكبار والصغار، واستدعى علياً المذكور فأنزله   (1) المعارف: 213 - 215. (2) ترجمته في " الائمة الاثنا عشر ": 97 وعلى الصفحة المقابلة مصادر أخرى يضاف إليها تاريخ الطبري (حوادث 202) وعبر الذهبي 1: 340 (وفيات: 203) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 269 أحسن منزلة، وجمع خواص الأولياء وأخبرهم أنه نظر في أولاد العباس وأولاد علي بن أبي طالب، رضي الله عنهما، فلم يجد في وقته أحداً أفضل ولا أحق بالأمر من علي الرضا فبايعه، وأمر بإزالة السواد من اللباس والأعلام؛ ونمي الخبر إلى من بالعراق من أولاد العباس، فعلموا أن في ذلك خروج الأمر عنهم، فخلعوا المأمون وبايعوا إبراهيم بن المهدي - المقدم ذكره (1) - وهو عم المأمون، وذلك يوم الخميس لخمس خلون من المحرم سنة اثنتين، وقيل سنة ثلاث ومائتين، والشرح في ذلك يطول والقصة مشهورة، وقد اختصرته في ترجمة إبراهيم بن المهدي. وكانت ولادة علي الرضا يوم الجمعة في بعض شهور سنة ثلاث وخمسين ومائة بالمدينة، وقيل بل ولد سابع شوال، وقيل ثامنه، وقيل سادسه، سنة إحدى وخمسين ومائة. وتوفي في آخر يوم من صفر سنة اثنتين ومائتين، بل توفي خامس ذي الحجة، وقيل ثالث عشر ذي القعدة سنة ثلاث ومائتين، بمدينة طوس وصلى عليه المأمون ودفنه ملاصق قبر أبيه الرشيد، وكان سبب موته أنه أكل عنباً فأكثر منه، وقيل بل كان مسموماً فاعتل منه ومات، رحمه الله تعالى. وفيه يقول أبو نواس: قيل لي أنت أحسن الناس طراً ... في فنونٍ من الكلام النبيه لك من جيد القريض مديحٌ ... يثمر الدر في يدي مجتنيه فعلام تركت مدح ابن موسى ... والخصال التي تجمعن فيه قلت لا أستطيع مدح إمامٍ ... كان جبريل خادماً لأبيه وكان سبب قوله هذه الأبيات أن بعض أصحابه قال له: ما رأيت أوقح منك، ما تركت خمراً ولا طرداً ولا معنى إلا قلت فيه شيئاً، وهذا علي بن موسى الرضا في عصرك لم تقل فيه شيئاً، فقال: والله ما تركت ذلك إلا   (1) تقدمت ترجمة إبراهيم بن المهدي في الجزء الأول: 39. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 270 إعظاماً له، وليس قدر مثلي أن يقول في مثله، ثم أنشده بعد ساعة هذه الأبيات. وفيه يقول أيضاً [وله ذكر في " شذور العقول " في سنة إحدى أو اثنتين ومائتين] (1) : مطهرون نقياتٌ جيوبهم ... تجري الصلاة عليهم أينما ذكروا من لم يكن علوياً حين تنسبه ... فما له في قديم الدهر مفتخر الله لما برا خلقاً فأتقنه ... صفاكم واصطفاكم أيها البشر وأنتم الملأ الأعلى وعندكم ... علم الكتاب وما جاءت به السور (2) وقال المأمون يوماً لعلي بن موسى الرضا المذكور: ما يقول بنو أبيك في جدنا العباس بن عبد المطلب فقال: ما يقولون في رجل فرض الله طاعة بنيه على خلقه وفرض طاعته على بنيه، فأمر له بألف ألف درهم. وكان قد خرج أخوه زيد بن موسى بالبصرة على المأمون، وفتك بأهلها، فأرسل إليه المأمون أخاه علياً المذكور يرده عن ذلك، فجاءه وقال له: ويلك يا زيد، فعلت بالمسلمين بالبصرة ما فعلت، وتزعم أنك ابن فاطمة بنت رسول الله، صلى الله عليه وسلم! والله لأشد الناس عليك رسول الله، صلى اله عليه وسلم، يا زيد ينبغي لمن أخذ برسول الله، صلى اله عليه وسلم، أن يعطي به، فبلغ كلامه المأمون، فبكى وقال: هكذا ينبغي أن يكون أهل بيت رسول الله، صلى اله عليه وسلم. قلت: وآخر هذا الكلام مأخوذ من كلام علي زين العابدين - المقدم ذكره - فقد قيل: إنه كان إذا سافر كتم نفسه، فقيل له في ذلك فقال: أنا أكره أن آخذ برسول الله، صلى اله عليه وسلم، ما لا أعطي به.   (1) سقط من س ر لي، وكان مثبتاً في المسودة ثم رمج، وفي رأس الصفحة كتب أيضاً " له ذكر في زهر الآداب في التعليم الحادي عشر من السفر الأول " ثم وضع خطاً فوق هذه الجملة. (2) نهاية الترجمة في س ل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 271 424 - (1) أبو الحسن العسكري أبو الحسن (2) علي الهادي بن محمد الجواد بن علي الرضا - المقدم ذكره - وهو حفيد الذي قبله، فلا حاجة إلى رفع نسبه، ويعرف بالعسكري؛ وهو أحد الأئمة الاثني عشر عند الإمامية، كان قد سعي به إلي المتوكل وقيل إن في منزله سلاحاً وكتاباً وغيرها من شيعته، وأوهموه أنه يطلب الأمر لنفسه، فوجه إليه بعدة من الأتراك ليلاً فهجموا عليه في منزله على غفلة، فوجدوه وحده في بيت مغلق وعليه مدرعة من شعر، وعلى رأسه ملحفة من صوف وهو مستقبل القبلة يترنم بآيات من القرآن في الوعد والوعيد، ليس بينه وبين الأرض بساط ألا الرمل والحصى، فأخد على الصورة التي وجد عليها وحمل إلى المتوكل في جوف الليل، فمثل بين يديه والمتوكل يستعمل الشراب وفي يده كأس، فلما رآه أعظمه وأجلسه إلى جنبه، ولم يكن في منزله شيء مما قيل عنه ولا حالة يتعلق عليه بها، فناوله المتوكل الكأس الذي كان بيده، فقال: يا أمير المؤمنين، ما خامر لحمي ودمي قط فأعفني منه، فأعفاه وقال: أنشدني شعراً أستحسنه، فقال: إني لقليل الرواية للشعر، قال: لابد أن تنشدني فأنشده (3) : باتوا على قلل الأجبال تحرسهم ... غلب الرجال فما أغنتهم القلل واستنزلوا بعد عزٍ من معاقلهم ... فأودعوا حفراً يا بئس ما نزلوا ناداهم صارخٌ من بعد قبروا ... أين الأسرة والتيجان والحلل   (1) ترجمته في " الأئمة الأثنا عشر ": 107 وعلى الصفحة المقابلة ثبت بمصادر أخرى، وانظر اللباب: (العسكري) ؛ والترجمة هنا طبق لما في المسودة. (2) ر: الإمام أبو الحسن. (3) انظر البصائر والذهائر 4: 223. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 272 أين الوجوه التي كانت منعمةً ... من دونها تضرب الأستار والكلل فأفصح القبر عنهم حين ساءلهم ... تلك الوجوه عليها الدود يقتتل قد طال ما أكلوا دهراً وما شربوا ... فأصبح بعد طول الأكل قد أكلوا قال: فأشفق من حضر على علي وظن (1) أن بادرة تبدر إليه، فبكى المتوكل بكاء كثيراً حتى بلت دموعه لحيته وبكى من حضره، ثم أمر برفع الشراب ثم قال: يا أبا الحسن، أعليك دين قال: نعم أربعة آلاف دينار، فأمر بدفعها إليه ورده إلى منزله مكرماً. وكانت ولادته يوم الأحد ثالث عشر رجب، وقيل يوم عرفة سنة أربع عشرة وقيل ثلاث عشرة ومائتين. ولما كثرت السعاية في حقه عند المتوكل أحضره من المدينة وكان مولده بها، وأقره بسر من رأى وهي تدعى بالعسكر، لأن المعتصم لما بناها انتقل إليها بعسكره، فقيل لها العسكر، ولهذا قيل لأبي الحسن المذكور العسكري لأنه منسوب إليها، فأقام بها عشرين سنة وتسعة أشهر. وتوفي بها يوم الاثنين لخمس بقين من جمادى الآخرة، وقيل لأربع بقين منها وقيل في رابعها، وقيل في ثالث رجب سنة أربع وخمسين ومائتين، ودفن في داره، رحمه الله تعالى.   (1) لي: وظنوا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 273 425 - (1) علي بن عبد الله بن العباس أبو محمد علي بن عبد الله بن العباس به عبد المطلب بن هاشم الهاشمي، وهو جد السفاح والمنصور الخليفتين؛ كان سيداً شريفاً بليغاً، وهو أصغر ولد أبيه، وكان أجمل قرشي على وجه الأرض وأوسمه وأكثره صلاة، وكان يدعى السجاد لذلك. وكان له خمسمائة أصل زيتون يصلي في كل يوم إلى كل أصل ركعتين، وكان يدعى " ذا الثفنات " هكذا قاله المبرد في " الكامل (2) "، وقال أبو الفرج ابن الجوزي الحافظ: ذو الثفنات هو علي بن الحسين، يعني زين العابدين، وإنما قيل له ذلك لأنه كان يصلي في كل يوم ألف ركعة فصار في ركبتيه مثل ثفن البعير، ذكر ذلك في كتاب " الألقاب ". وروي أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، افتقد عبد الله بن العباس، رضي الله عنه في وقت صلاة الظهر، فقال لأصحابه: ما بال أبي العباس لم يحضر الظهر فقالوا: ولد له مولود، فلما صلى علي، رضي الله عنه قال أمضوا بنا إليه فأتاه فهناه فقال: شكرت الواهب، وبورك لك في الموهوب ما سميته فقال: أو يجوز لي أن أسميه حتى تسميه فأمر به فأخرج إليه فأخذه فحنكه ودعا له ثم رده إليه وقال: خذ إليك أبا الأملاك، وقد سميته علياً وكنيته أبا الحسن، فلما قام معاوية خليفة قال لابن عباس: ليس لكم اسمه وكنيته وقد كنيته أبا محمد، فجرت عليه هكذا قاله المبرد في " الكامل " (3) .   (1) ترجمته في طبقات ابن سعد 5: 312 وحلية الأولياء 3: 207 وصفة الصفوة 2: 59 ومعجم المرزباني: 133 وعبر الذهبي 1: 148 والشذرات 1: 148 وقد استوفت المسودة جميع هذه الترجمة. (2) الكامل 2: 217. (3) المصدر السابق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 274 وقال الحافظ أبو نعيم في كتاب " حلية الأولياء " (1) : إنه لما قدم على عبد الملك بن مروان قال له: غير اسمك وكنيتك، فلا صبر لي على اسمك وكنيتك قال: أما الاسم فلا، وأما الكنية فأكتني بأبي محمد، فغير كنيته؛ انتهى كلام أبي نعيم. قلت أنا: وإنما قال له عبد الملك هذه المقالة لبغضه في علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فكره أن يسمع اسمه وكنيته. وذكر الطبري في تاريخه (2) إنه دخل على عبد الملك بن مروان فأكرمه وأجلسه على سريره وسأله عن كنيته فأخبره، فقال: لا يجتمع في عسكري هذا الاسم وهذه الكنية لأحد، وسأله: هل له من ولد وكان قد ولد له يومئذ محمد بن علي، فأخبره بذلك فكناه أبا محمد. وقال الواقدي: ولد أبو محمد المذكور في الليلة التي ولد فيها علي بن أبي طالب رضي الله عنه والله أعلم بالصواب. وقال المبرد أيضاً (3) : وضرب علي بالسياط مرتين كلتاهما ضربه الوليد بن عبد الملك: إحداهما في تزوجه لبابة ابنة عبد الله بن جعفر بن أبي طالب. وكانت عند عبد الملك فعض تفاحة ثم رمى بها إليها، وكان أبخر فدعت بسكين فقال: ما تصنعين بها فقالت: أميط عنها الأذى فطلقها فتزوجها علي بن عبد الله المذكور فضربه الوليد وقال: إنما تتزوج بأمهات الخلفاء لتضع منهم، لأن مروان بن الحكم إنما تزوج بأم خالد بن يزيد بن معاوية ليضع منه، فقال علي بن عبد الله إنما أرادت الخروج من هذا البلد وأنا ابن عمها فتزوجتها لأكون لها محرماً (4) .   (1) حلية الأولياء 3: 207. (2) تاريخ الطبري: (حوادث 118) . (3) الكامل 2: 217. (4) ورد في المطبوعة المصرية بعد هذا: " وقد قيل إن عبد الملك كان تزوج لبابة بنت عبد الله بن جعفر فقالت له يوماً وكان أنجز؛ لو استكت، فأستاك وطلقها، ثم تزوجها علي بن عبد الله ابن العباس وكان أقرع وكانت لا تفارقه قلنسوته فبعث عبد الملك جارية وهو جالس مع لبابة فكشفت رأسه على ناظرها لترى ما به، فقالت لبابة للجارية: هاشمي أقرع أحب إلي من أموي أمجز " - وهذا النص لم يرد في المخطوطات، وليس هو من المنقول عن المبرد كما أنه في موضعه يفصل سياق نص " الكامل " في قسمين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 275 وأما ضربه إياه في المرة الثانية فقد حدث أبو عبد الله محمد بن شجاع في إسناد متصل يقول في أخره رأيت: علي بن عبد الله يوماً مضروباً بالسوط (1) يدار به على بعير ووجهه مما يلي ذنب البعير، وصائح يصيح عليه: هذا علي بن عبد الله الكذاب فأتيته وقلت ما هذا الذي نسبوك فيه إلى الكذب قال: بلغهم عني أني أقول: إن هذا الأمر سيكون في ولدي، ووالله ليكونن فيهم حتى تملكهم عبيدهم الصغار العيون، العراض الوجوه الذي كأن وجوههم المجان المطرقة (2) . قلت: ذكر ابن الكلبي في كتاب " النسب " أن الذي تولى ضرب علي بن عبد الله بن العباس، رضي الله عنهم، هو كلثوم بن عياض بن وحوح بن قشير بن الأعور بن قشير، كان والي الشرطة للوليد بن مروان، ثم أنه تولى إفريقية لهشام بن عبد الملك وقتل بها وقال غير بن الكلبي: كان قتله في ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين ومائة. وروى (3) أن علي بن عبد الله دخل على سليمان بن عبد الملك، وهو غلط، بل الصحيح أنه هشام بن عبد الملك معه ابنا الخليفتان وهما السفاح والمنصور ابنا محمد بن علي المذكور، فأوسع له على سريره وبره وسأله عن حاجته فقال: ثلاثون ألف درهم علي دين فأمر بقضائها ثم قال له: وتستوصي بابني هذين خيراً ففعل، فشكره وقال: وصلتك رحم. فلما ولى علي قال هشام لأصحابه: إن هذا الشيخ قد اختل وأسن وخلط فصار يقول: إن هذا الأمر سينتقل إلى ولده، فسمعه علي فقال: والله ليكونن ذلك وليملكن هذان. وكان علي المذكور عظيم المحل عند أهل الحجاز، حتى قال هشام بن سليمان   (1) ر: بالسياط. (2) في المسودة: المطارقة؛ وفي الحديث " المجان المطرقة " وهي التي طرق بعضها على بعض أي خصف، أراد أنهم عراض الوجوه غلاضها؛ والمطارقة أيضاً: المخصوفة. (3) انظر الكامل: 218 - 219. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 276 المخزومي: إن علي بن عبد الله كان إذا قدم مكة حاجاً أو معتمراً عطلت قريش مجالسها في المسجد الحرام وهجرت مواضع حلقها ولزمت مجلسه إعظاماً وإجلالاً وتبجيلاً له، فإن قعد قعدوا وإن نهض نهضوا وإن مشى مشوا جميعاً حوله، ولا يزالون كذلك حتى يخرج من الحرم. وكان آدم جسيماً له لحية طويلة، وكان عظيم القدم جداً لا يوجد له نعل ولا خف حتى يستعمله وكان مفرطاً في الطول، إذا طاف كأنما الناس حوله مشاة وهو راكب من طوله، وكان مع هذا الطول يكون إلى منكب أبيه عبد الله وكان عبد الله إلى منكب أبيه العباس وكان العباس إلى منكب أبيه عبد المطلب. ونظرت عجوز إلى علي وهو يطوف وقد فرع الناس - فرع بالعين المهملة: أي علا عليهم - فقالت: من هذا الذي فرع الناس فقيل: علي بن عبد الله بن العباس، فقالت: لا إله إلا الله، إن الناس ليرذلون، عهدي بالعباس يطوف بهذا البيت كأنه فسطاط أبيض. ذكر هذا كله المبرد في " الكامل " (1) ، وذكر أيضاً أن العباس كان عظيم الصوت وجاءتهم مرة غارة وقت الصباح فصاح بأعلى صوته: واصباحاه، فلم تسمعه حامل في الحي إلا وضعت. وذكر أبو بكر الحازمي في كتاب " ما اتفق لفظه وافترق مسماه " في أول حرف الغين في باب عانة وغابة، وقال: كان العباس بن عبد المطلب يقف على سلع، وهو جبل عند المدينة، فينادي غلمانه وهم في الغابة فيسمعهم، وذلك من آخر الليل، وبين الغابة وسلع ثمانية أميال. وكانت وفاة علي بن عبد الله سنة سبع عشرة ومائة بالشراة بالحميمة وهو ابن ثمانين سنة. وقال الواقدي: ولد في الليلة التي قتل فيها علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، وكان قتل علي، رضي الله عنه، في ليلة الجمعة سابع عشر شهر رمضان من سنة أربعين للهجرة، وقيل غير ذلك، وتوفي علي بن عبد الله سنة ثماني عشرة ومائة، وقال غير الواقدي: إن وفاته كانت في ذي القعدة، وقال خليفة   (1) انظر الكامل 1: 92. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 277 بن خياط: مات في سنة أربع عشرة، وقال في موضع آخر: سنة ثماني عشرة، وقال غيره: سنة تسع عشرة، والله أعلم. وكان يخضب بالسواد، وابنه محمد والد السفاح والمنصور يخضب بالحمرة، فيظن من لا يعرفهما أن محمداً علي وأن علياً محمد، رضي الله عنهما. والشراة: بفتح الشين المعجمة والراء وبعد الألف هاء مثناة، صقع بالشام في طريق المدينة من دمشق بالقرب من الشوبك وهو من إقليم البلقاء وفي بعض نواحيه القرية المعروفة بالحميمة - بضم الحاء المهملة وفتح الميم وسكون الياء المثناة من تحتها وفتح الميم الثانية وبعدها هاء ساكنة - وهذه القرية كانت لعلي المذكور وأولاده في أيام بني أمية، وفيها ولد السفاح والمنصور وبها تربيا ومنها انتقلا إلى الكوفة، وبويع السفاح بالخلافة فيها كما هو مشهور - وسيأتي ذكر ولده محمد إن شاء الله تعالى. وذكر الطبري في تاريخه أن الوليد بن عبد الملك بن مروان أخرج علي بن عبد الله بن العباس من دمشق وأنزله الحميمة في سنة خمس وتسعين للهجرة، ولم يزل ولده بها إلى أن زالت دولة بني أمية وولد له بها نيفٌ وعشرون ولداً ذكراً. 426 - (1) القاضي أبو الحسن الجرجاني القاضي أبو الحسن علي بن عبد العزيز الجرجاني الفقيه الشافعي؛ كان فقيهاً أديباً شاعراً، ذكره الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في كتاب " طبقات الفقهاء " (2) وقال: له ديوان شعر وهو القائل: يقولون لي فيك انقباض وإنما ... رأوا رجلاً عن موقف الذل أحجما   (1) ترجمته في معجم الأدباء 14: 14 وطبقات السبكي 2: 308 والبداية والنهاية 11: 331 والشذرات 3: 56؛ والترجمة مستوفاة في المسودة. (2) طبقات الشيرازي، الورقة: 35. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 278 وهي أبيات طويلة ومشهورة، فلا حاجة إلى ذكرها. وذكره الثعالبي في كتاب " يتيمة الدهر " فقال (1) : " هو فرد الزمان، ونادرة الفلك، وإنسان حدقة العلم، وقبة (2) تاج الأدب، وفارس عسكر الشعر، يجمع خط ابن مقلة إلى نثر الجاحظ ونظم البحتري، وقد كان في صباه خلف الخضر في قطع الأرض وتدويخ بلاد العراق والشام وغيرها، واقتبس من أنواع العلوم والآداب ما صار به في العلوم علماً، وفي الكمال عالماً " وأورد له مقاطيع كثيرة من الشعر، فمن ذلك قوله: قد برح الحب بمشتاقك ... فأوله أحسن أخلاقك ولا تجفه وارع له حقه ... فإنه آخر عشاقك وأنشدني صاحبنا الحسام عيسى بن سنجر بن بهرام المعروف بالحاجري - الآتي ذكره - لنفسه دوبيت في هذا المعنى وهو: يا عارضه فديت بالأحداق ... لم يبق على العهود غيري باقي ناشدتك إلا ما عسى ترفق بي ... في الحب فإني آخر العشاق وله من أبيات: وقالوا توصل بالخضوع إلى الغنى ... وما علموا أن الخضوع هو الفقر وبيني وبين المال شيئان حرما ... علي الغنى: نفسي الأبية والدهر إذا قيل هذا اليسر أبصرت دونه ... مواقف خيرٌ من وقوفي بها العسر وله أيضاً: وقالوا اضطرب في الأرض فالرزق واسع ... فقلت ولكن موضع الرزق ضيق إذا لم يكن في الأرض حر يعينني ... ولم يك لي كسبٌ فمن أين أرزق   (1) اليتيمة 4: 3. (2) س: ودرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 279 وله أيضاً في الصاحب بن عباد: ولا ذنب للأفكار أنت تركتها ... إذا احتشدت لم تنتفع باحتشادها سبقت لأفراد المعاني وألفت ... خواطرك الألفاظ بعد شرادها فأن نحن حاولنا اختراع بديعة ... حصلنا على مسروقها ومعادها وله فيه يهنيه بالعافية من جملة أبيات: أفي كل يوم للمكارم روعةٌ ... لها في قلوب المكرمات وجيب تقسمت العلياء جسمك كله ... فمن أين للأسقام فيه نصيب إذا ألمت نفس الوزير تألمت ... لها أنفسٌ تحيا بها وقلوب ووالله لاحظت وجهاً أحبه (1) ... حياتي (2) ، وفي وجه الوزير شحوب وليس شحوباً ما أراه بوجهه ... ولكنه في المكرمات ندوب فلا تجزعن تلك السماء تغيمت ... وعما قليل تبتدي فتصوب وله: ما تطعمت لذة العيش حتى ... صرت للبيت والكتاب جليسا ليس شيء أعز عندي من (3) العل ... م فما أبتغي سواه أنيسا إنما الذل في مخالطة النا ... س فدعهم وعش عزيزاً رئيسا وله: ما لي وما لك يا فراق ... أبداً رحيلٌ وانطلاق يا نفس موتي بعدهم ... فكذا يكون الاشتياق وشعره كثير وطريقه فيه سهل، وله كتاب " الوساطة بين المتنبي وخصومه "   (1) ر: وجه أحبة. (2) م: حياء. (3) ر: عندي ألذ من. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 280 أبان فيه عن فضل غزير واطلاع كثير ومادة متوفرة. وذكر الحاكم أبو عبد الله ابن البيع في " تاريخ النيسابوريين " (1) أنه توفي في سلخ صفر سنة ست وستين وثلثمائة بنيسابور وعمره ست وسبعون سنة، رحمه الله تعالى، وقال غيره: إنه كان حسن السيرة في قضائه صدوقاً، ورد به أخوه محمد نيسابور في سنة سبع وثلاثين وثلثمائة وهو صغير غير بالغ، وسمعا من سائر الشيوخ، ومات بالري وهو قاضي القضاة في سنة اثنتين وتسعين وثلثمائة، وحمل تابوته إلى جرجان ودفن بها، ونقل الحاكم أثبت وأصح. وجرجان: بضم الجيم وسكون الراء وفتح الجيم الثانية وبعد الألف نون، وهي مدينة عظيمة من ناحية خراسان. 427 - (2) ابن المرزبان أبو الحسن علي بن أحمد بن المرزبان البغدادي الفقيه الشافعي؛ كان فقيها ورعاً من جلة العلماء، أخذ الفقه عن أبي الحسين ابن القطان، وعنه أخذ الشيخ أبو حامد الإسفرايني أول قدومه بغداد. وحكي عنه أنه قال: ما أعلم أن لأحد عليّ مظلمة، وقد كان فقيهاً يعلم أن الغيبة من المظالم، وكان مدرّساً ببغداد وله وجه في مذهب الشافعي. وتوفي في رجب سنة ست وستين وثلثمائة، رحمه الله تعالى. والمرزبان: بفتح الميم وسكون الراء وضم الزاي وفتح الباء الموحدة وبعد الألف نون، وهو لفظ فارسي معناه صاحب الحد، ومرز هو الحد، وبان صاحب، وهو في الأصل اسم لمن كان دون الملك.   (1) لي: في تاريخ نيسابور؛ ر: في تاريخ. (2) ترجمته في طبقات الشيرازي، الورقة: 34 وطبقات السبكي 2: 245 وتاريخ بغداد 11: 325 والشذرات 3: 56؛ وما هنا مطابق لما في المسودة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 281 428 - (1) الماوردي أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب البصري، المعروف بالماوردي، الفقيه الشافعي؛ كان من وجوه الفقهاء الشافعية ومن كبارهم، أخذ الفقه عن أبي القاسم الصيمري (2) بالبصرة، ثم عن الشيخ أبي حامد الإسفرايني ببغداد، وكان حافظاً للمذهب وله فيه كتاب " الحاوي " الذي لم يطالعه أحد إلا وشهد له بالتبحّر والمعرفة التامة بالمذهب. وفوّض إليه القضاء ببلدان كثيرة، واستوطن بغداد في درب الزّعفراني وروى عنه الخطيب أبو بكر صاحب " تاريخ بغداد " (3) وقال: كان ثقة. وله من التصانيف غير " الحاوي " " تفسير القرآن الكريم " (4) و " النكت والعيون " و " أدب الدين والدنيا " و " الأحكام السلطانية " و " قانون الوزارة " و " سياسة الملك " و " الإقناع " في المذهب، وهو مختصر، وغير ذلك، وصنف في أصول الفقه والأدب وانتفع الناس به. وقيل: إنه لم يظهر شيئاً من تصانيفه في حياته، وإنما جمع كلها في موضع، فلما دنت وفاته قال لشخص يثق إليه: الكتب التي في المكان الفلاني كلها تصنيفي، وإنما لم أظهرها لأني لم أجد نية خالصة لله تعالى لم يشبها كدر، فإن عاينت الموت ووقعت في النزع فاجعل يدك في يدي، فإن قبضت عليها وعصرتها فاعلم أنه لم يقبل مني شيء منها، فاعمد إلى الكتب وألقها في دجلة   (1) ترجمته في طبقات السبكي 3: 303 واللباب: (الماوردي) وطبقات الشيرازي، الورقة: 39 والمنتظم 8: 199 وميزان الاعتدال 3: 155 وطبقات المفسرين: 25 والشذرات 3: 285؛ وأوردت المسودة هذه الترجمة كاملة. (2) وضع فوق الميم في المسودة فتحة وضمة وكتب فوقهما " معاً ". (3) تاريخ بغداد 12: 102. (4) ر: سماه النكت والعيون. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 282 ليلاً، وإن بسطت يدي ولم أقبض على يدك فاعلم أنها قبلت وأني قد ظفرت بما كنت أرجوه من النية الخالصة. قال ذلك الشخص: فلما قارب الموت وضعت يدي في يده فبسطها ولم يقبض على يدي، فعلمت أنها علامة القبول، فأظهرت كتبه بعده. وذكر الخطيب في أول " تاريخ بغداد " (1) عن الماوردي المذكور، قال: كتب أخي إليّ من البصرة وأنا ببغداد: طيب الهواء ببغداد يشوّقني ... قدماً إليها وإن عاقت مقادير فكيف صبري عنها الآن إذ جمعت ... طيب الهواءين ممدود ومقصور وقال أبو العز أحمد بن عبيد الله بن كادش: أنشدني أبو الحسن الماوردي، قال: أنشدنا أبو الخير الكاتب الواسطي بالبصرة لنفسه: جرى قلم القضاء بما يكون ... فسيّان التحرك والسكون جنونٌ منك أن تسعى لرزقٍ ... ويرزق في غشاوته الجنين ويقال إن أبا الحسن الماوردي لما خرج من بغداد راجعاً إلى البصرة كان ينشد أبيات العباس بن الأحنف - المقدم ذكره - وهي (2) : أقمنا كارهين لها فلما ... ألفناها خرجنا مكرهينا وما حب البلاد بنا ولكن ... أمرّ العيش فرقة من هوينا خرجت أقرّ ما كانت لعيني ... وخلّفت الفؤاد بها رهينا وإنما قال ذلك لأنه من أهل البصرة وما كان يؤثر مفارقتها، فدخل بغداد كارهاً لها ثم طابت له بعد ذلك ونسي البصرة فشق عليه فراقها، وقد قيل إن هذه الأبيات لأبي محمد المزني الساكن بما وراء النهر، كذا قال السمعاني، والله أعلم.   (1) تاريخ بغداد 1: 54. (2) انظر تاريخ بغداد 1: 53 وديوان العباس: 280. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 283 وتوفي يوم الثلاثاء سلخ شهر ربيع الأول سنة خمسين وأربعمائة، ودفن من الغد في مقبرة باب حرب ببغداد، وعمره ست وثمانون سنة، رحمه الله تعالى. والماوردي: نسبة إلى بيع الماورد، هكذا قاله الحافظ ابن السمعاني. 429 - (1) أبو الحسن الأشعري أبو الحسن علي بن إسماعيل بن أبي بشر إسحاق بن سالم بن إسماعيل بن عبد الله بن موسى بن بلال بن أبي بردة عامر بن أبي موسى الأشعري صاحب رسول الله، صلى الله عليه وسلم؛ هو صاحب الأصول والقائم بنصرة مذهب السنة، وإليه تنسب الطائفة الأشعرية، وشهرته تغني عن الإطالة في تعريفه، والقاضي أبو بكر الباقلاني ناصر مذهبه ومؤيد اعتقاده، وكان أبو الحسن يجلس أيام الجمع في حلقة أبي إسحاق المروزي الفقيه الشافعي في جامع المنصور ببغداد. ومولده سنة سبعين، وقيل ستين ومائتين بالبصرة. وتوفي سنة نيف وثلاثين وثلثمائة، وقيل: سنة أربع وعشرين وثلثمائة، وقيل: سنة ثلاثين [فجأة] (2) - حكاه ابن الهمذاني في " ذيل تاريخ الطبري " (3) ببغداد ودفن بين الكرخ وباب البصرة، رحمه الله تعالى. [قال الحافظ أبو القاسم ابن عساكر في كتاب " تبيين كذب المفتري فيما   (1) ترجمته في الأنساب 1: 266 وتاريخ بغداد 11: 346 والمنتظم 6: 332 وطبقات السبكي 2: 245 والجواهر المضية 1: 353 والخطط المقريزية 2: 359 والديباج المذهب: 193 والبداية والنهاية 11: 187 وعبر الذهبي 2: 202؛ وتبيين كذب المفرتي لابن عساكر في الدفاع عنه. (2) فجأة: لم ترد في المسودة. (3) تكملة تاريخ الطبري: 130. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 284 نسب للشيخ أبي الحسن الأشعري " (1) - بعد أن حكى في تاريخ وفاته أقوالاً -:وقال بعض البصريين: مات سنة ثلاث وثلاثين، وهذا القول أراه صحيحاً، والأصح أنه مات سنة أربع وعشرين، وكذلك ذكره أبو بكر ابن فورك؛ انتهى] (2) . وقد تقدم ذكر جده أبي بردة في أول حرف العين. والأشعري: بفتح الهمزة وسكون الشين المعجمة وفتح العين المهملة وبعدها راء، هذه النسبة إلى أشعر، واسمه نبت بن أدد بن زيد بن يشجب، وإنما قيل له أشعر لأن أمه ولدته والشعر على بدنه، هكذا قال السمعاني، والله أعلم. وقد صنف الحافظ أبو القاسم ابن عساكر في مناقبه مجلداً (3) . وكان (4) أبو الحسن الأشعري أولاً معتزلياً، ثم تاب من القول بالعدل وخلق القرآن في المسجد الجامع بالبصرة يوم الجمعة، ورقي كرسياً ونادى بأعلى صوته: من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا أعرفه بنفسي، أنا فلان بن فلان، كنت أقول بخلق القرآن وأن الله لا تراه الأبصار وأن أفعال الشر أنا أفعلها، وأنا تائب مقلع، معتقد للرد على المعتزلة مخرج لفضائحهم ومعايبهم. وكان فيه دعابة ومزاح كثير، وله من الكتب كتاب " اللمع " وكتاب " الموجز " وكتاب " إيضاح البرهان " وكتاب " التبيين عن أصول الدين " وكتاب " الشرح والتفصيل في الرد على أهل الإفك والتضليل " وهو صاحب الكتب في الرد على الملاحدة وغيرهم من المعتزلة والرافضة والجهمية والخوارج، وسائر أصناف المبتدعة.   (1) التبيين: 146 - 147 والنقل غير دقيق. (2) ما بين معقفين زيادة من ر. (3) هو تبيين كذب المفتري، المذكور آنفاً. وعند هذا الموضع انتهت الترجمة في س وبها ينتهي الجزء الأول من هذه المخطوطة، وفي آخره: بلغ مقابلة وتصحيحاً بالنسخة الكبرى ولله الحمد؛ وعند هذا الموضع أيضاً تنتهي الترجمة في ل لي م. (4) من هنا إلى آخر الترجمة ورد في ر، وكتب في المسودة في موضعه " هاهنا التخريجة ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 285 ودفن في مشرعة الروايا في تربة إلى جانبها مسجد وبالقرب منها حمام وهو عن يسار المار من السوق إلى دجلة. وكان يأكل من غلة ضيعة وقفها جده بلال بن أبي بردة ابن أبي موسى على عقبه، وكانت نفقته في كل يوم سبعة عشر درهماً، هكذا قاله الخطيب. وقال أبو بكر الصيرفي: كانت المعتزلة قد رفعوا رؤوسهم حتى أظهر الله الأشعري فجحرهم في أقماع السمسم. وقال أبو محمد علي بن حزم الأندلسي: إن أبا الحسن له من التصانيف خمسة وخمسون تصنيفاً (1) . 430 - (2) الكيا الهراسي أبو الحسن علي بن محمد بن علي الطبري، الملقب عماد الدين، المعروف بالكيا الهراسي الفقيه الشافعي؛ كان من أهل طبرستان، وخرج إلى نيسابور وتفقه على إمام الحرمين أبي المعالي الجويني مدة إلى أن برع، وكان حسن الوجه جهوري الصوت فصيح العبارة حلو الكلام، ثم خرج من نيسابور إلى بيهق ودرس بها مدة، ثم خرج (3) إلى العراق وتولى تدريس المدرسة النظامية ببغداد إلى أن توفي. وذكره الحافظ عبد الغافر بن إسماعيل الفارسي - المقدم ذكره (4) - في " سياق تاريخ نيسابور " (5) فقال: كان من رؤوس معيدي إمام الحرمين في   (1) ر: خمسة عشر تصنيفاً. (2) ترجمته في تبيين كذب المفتري: 288 والمنتظم 9: 167 ومرآة الزمان: 37 وابن الأثير 10: 484 وطبقات السبكي 4: 281 وعبر الذهبي 4: 8 والشذرات 4: 8. (3) ر: إلى أن خرج. (4) انظر الترجمة رقم: 402. (5) انظر Histories (المختصر الأول، الورقة: 72) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 286 الدرس. وكان ثاني أبي حامد الغزالي، بل آصل وأصلح وأطيب في الصوت والنظر، ثم اتصل بخدمة مجد الملك بركياروق بن ملك شاه السلجوقي - المذكور في حرف الباء (1) - وحظي عنده بالمال والجاه وارتفع شأنه، وتولى القضاء بتلك الدولة، وكان محدثاً يستعمل الأحاديث في مناظراته ومجالسه. ومن كلامه: إذا جالت فرسان الأحاديث في ميادين الكفاح، طارت رؤوس المقاييس في مهاب (2) الرياح. وحدث الحافظ أبو طاهر السلفي قال: استفتيت شيخنا أبا الحسن المعروف بالكيا الهراسي ببغداد في سنة خمس وتسعين وأربعمائة لكلام جرى بيني وبين الفقهاء بالمدرسة النظامية، وصورة الاستفتاء: " ما يقول الإمام وفقه الله تعالى في رجل أوصى بثلث ماله للعلماء والفقهاء، هل تدخل كتبة الحديث تحت هذه الوصية أم لا " فكتب الشيخ تحت السؤال " نعم، كيف لا وقد قال النبي، صلى الله عليه وسلم: من حفظ على أمتي أربعين حديثاً من أمر دينها بعثه الله يوم القيامة فقيهاً عالماً " وسئل الكيا أيضاً عن يزيد بن معاوية فقال: إنه لم يكن من الصحابة لأنه ولد في أيام (3) عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، وأما قول السلف ففيه لأحمد قولان تلويح وتصريح، ولمالك قولان تلويح وتصريح، ولأبي حنيفة قولان تلويح وتصريح، ولنا قول واحد التصريح دون التلويح وكيف لا يكون كذلك وهو اللاعب بالنرد والمتصيد بالفهود ومدمن الخمر، وشعره في الخمر معلوم، ومنه قوله: أقول لصحبٍ ضمت الكأس شملهم ... وداعي صبابات الهوى يترنم خذوا بنصيبٍ من نعيمٍ ولذةٍ ... فكلٌ وإن طال المدى يتصرم [ولا تتركوا يوم السرور إلى غدٍ ... فرب غدٍ يأتي بما ليس يعلم] (4)   (1) انظر الجزء الأول: 268. (2) لي: مهب. (3) لي: زمان. (4) لم يرد البيت في المخطوطات؛ والأبيات الثلاثة في تمام المتون: 82. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 287 وكتب فصلاً طويلاً، ثم قلب الورقة وكتب: لو مددت ببياضٍ لمددت العنان في مخازي (1) هذا الرجل؛ وكتب فلان بن فلان. وقد أفتى الإمام أبو حامد الغزالي، رحمه الله تعالى، في مثل هذه المسألة بخلاف ذلك، فإنه سئل عمن صرح بلعن يزيد (2) : هل يحكم بفسقه أم هل يكون ذلك مرخصاً فيه وهل كان مريداً قتل الحسين، رضي الله عنه، أم كان قصده الدفع وهل يسوغ الترحم عليه أم السكوت عنه أفضل ينعم بإزالة الاشتباه مثاباً، فأجاب: لا يجوز لعن المسلم أصلاً، ومن لعن مسلماً فهو الملعون، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المسلم ليس بلعانٍ) ، وكيف يجوز لعن المسلم ولا يجوز لعن البهائم وقد ورد النهي عن ذلك، وحرمة المسلم أعظم من حرمة الكعبة بنص النبي، صلى الله عليه وسلم. ويزيد صح إسلامه، وما صح قتله الحسين، رضي الله عنه، ولا أمره لا رضاه بذلك، ومهما لم يصح ذلك منه لا يجوز أن يظن ذلك به فإن إساءة الظن بالمسلم أيضاً حرام، وقد قال تعالى: (اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعد الظن، وقال النبي، صلى الله عليه وسلم: (إن الله حرم من المسلم دمه وماله وعرضه وأن يظن به ظن السوء) ، ومن زعم أن يزيد أمر بقتل الحسين، رضي الله عنه، أو رضي به فينبغي أن يعلم به غاية حماقة، فإن من قتل من الأكابر والوزراء والسلاطين في عصره لو أراد أن يعلم حقيقة من أمر بقتله ومن الذي رضي به ومن الذي كرهه لم يقدر على ذلك، وإن كان قد قتل في جواره وزمانه وهو يشاهده، فكيف لو كان في بلد بعيد وزمن قديم قد انقضى، فكيف يعلم ذلك فيما انقضى عليه قريب من أربعمائة سنة في كان بعيد وقد تطرق التعصب في الواقعة فكثرت فيها الأحاديث من الجوانب فهذا أمرٌ لا تعرف حقيقته أصلاً، وإذا لم يعرف وجب إحسان الظن بكل مسلم يمكن إحسان الظن به، ومع هذا فلو ثبت على مسلم أنه قتل مسلماً فمذهب الحق أنه ليس بكافر، والقتل ليس بكفر بل هو معصية، وإذا مات القاتل فربما مات بعد التوبة، والكافر   (1) لي: خزي. (2) م: وسئل الغزالي هل يجوز لعن يزيد وقد فعل كذا وكذا فأجاب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 288 لو تاب من كفره لم تجز لعنته، فكيف من تاب عن قتل وبم يعرف أن قاتل الحسين رضي الله عنه، مات قبل التوبة وهو الذي يقبل التوبة عن عباده، فإذاً لا يجوز لعن أحد ممن مات من المسلمين، ومن لعنه كان فاسقاً عاصياً لله تعالى، ولو جاز لعنه فسكت لم يكن عاصياً بالإجماع، بل لو لم يلعن إبليس طول عمره لا يقال له يوم القيامة: لم لم تلعن إبليس، ويقال للاعن: لم لعنت ومن أين عرفت أنه مطرود ملعون والملعون وهو المبعد من الله عز وجل، وذلك غيب لا يعرف إلى فيمن مات كافراً فإن ذلك علم بالشرع، وأما الترحم عليه جائز، بل هو مستحب، بل هو داخل في قولنا في كل صلاة (اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات) ، فإنه كان مؤمناً والله أعلم؛ كتبه الغزالي. وكانت ولادة الكيا في ذي القعدة سنة خمسين وأربعمائة. وتوفي يوم الخميس وقت العصر مستهل المحرم سنة أربع وخمسمائة ببغداد، ودفن في تربة الشيخ أبي إسحاق الشيرازي، رحمه الله تعالى، وحضر دفنه الشيخ أبو طالب الزينبي وقاضي القضاة أبو الحسن ابن الدامغاني، وكان مقدمي الطائفة الحنفية، وكان بينه وبينهما في حال الحياة منافسة، فوقف أحدهما عند رأسه والأخر عند رجليه، فقال ابن الدامغاني متمثلاً: وما تغني النوادب والبواكي ... وقد أصبحت مثل حديث أمس وأنشد الزينبي متمثلاً أيضاً: عقم النساء فما يلدن شبيهه ... إن النساء بمثله عقيم ولم أعلم لأي معنى قيل له الكيا، وفي اللغة العجمية الكيا هو الكبير القدر المقدم بين الناس، وهو بكسر الكاف وفتح الياء المثناة من تحتها وبعدها ألف. وكان في خدمته بالمدرسة النظامية أبو إسحاق إبراهيم بن عثمان الغزي الشاعر المشهور - المقدم ذكره في حرف الهمزة (1) - فرثاه إرتجالاً بهذه الأبيات على ما حكاه الحافظ ابن عساكر في تاريخه الكبير، وهي:   (1) انظر المجلد الأول: 57. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 289 هي الحوادث لا تبقي ولا تذر ... ما للبرية من محتوفها وزر لو كان ينجي علو من بوائقها ... لم تكسف الشمس بل لم يخسف القمر قل للجبان الذي أمسى على حذرٍ ... من الحمام متى رد الردى الحذر بكى على شمسه الإسلام إذ أفلت ... بأدمعٍ قل في تشبيهها المطر حبرٌ عهدناه طلق الوجه مبتسماً ... والبشر أحسن ما يلقى به البشر لئن طوته المنايا تحت أخمصها ... فعلمه الجم في الأفق منتشر سقى ثراك عماد الدين كل ضحىً ... صوب الغمام ملث الودق منهمر (1) عند الورى من أسىً أيقنته خبرٌ ... فهل أتك من استيحاشهم خبر أحيا ابن إدريس درسٌ كنت تورده ... تحار في نظمه الأذهان والفكر من فاز منه بتعليقٍ فقد علقت ... يمينه بشهابٍ ليس ينكدر كأنما مشكلات الفقه يوضحها ... جباه دهمٍ لها من لفظه غرر ولو عرفت له مثلاً دعوت له ... وقلت دهري إلى شرواه (2) مفتقر 431 (3) الحافظ المقدسي أبو الحسن علي بن الأنجب أبي المكارم المفضل بن أبي الحسن علي بن أبي الغيث مفرج بن حاتم بن الحسن بن جعفر بن إبراهيم بن الحسن اللخمي المقدسي الأصل، الاسكندراني المولد والدار، المالكي المذهب؛ كان فقيهاً فاضلاً في مذهب الإمام   (1) هنا تنتهي الترجمة في لي. (2) شرواه: نظيره؛ وقد سقط البيتان الأخيران من س. (3) ترجمته في تذكرة الحفاظ: 1390 والبدر السافر، الورقة: 33 وعبر الذهبي 5: 38 والشذرات 5: 47 ونيل الابتهاج (بهامش الديباج) : 200. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 290 مالك، رضي الله عنه، ومن أكابر الحفاظ المشاهير في الحديث وعلومه (1) ، صحب الحافظ أبا الطاهر السلفي الأصبهاني نزيل الاسكندرية، رحمه الله تعالى، وانتفع به، وصحبه شيخنا الحافظ العلامة زكي الدين أبو محمد عبد العظيم بن عبد القوي بن عبد الله المنذري، ولازم صحبته وبه انتفع وعليه تخرج، وذكر عنه فضلاً غزيراً وصلاحاً كثيراً، وأنشدني له مقاطيع عديدة؛ فمما أنشدني قال، أنشدني الحافظ أبو الحسن المقدسي المذكور لنفسه: تجاوزت ستين من مولدي ... فأسعد أيامي المشترك يسائلني زائري حالتي ... وما حال من حل في المعترك وأنشدني أيضاً قال أنشدني الحافظ لنفسه (2) : أيا نفس بالمأثور عن خير مرسلٍ ... وأصحابه والتابعين تمسكي عساك إذا بالغت في نشر دينه ... بما طاب من نشرٍ له أن تمسكي وخافي غداً يوم الحساب جهنماً ... إذا لفحت نيرانها أن تمسك وأنشدني أيضاً قال، أنشدني لنفسه: ثلاث باءات بلين بها: ... البق والبرغوث والبرغش ثلاثة أوحش ما في الورى ... ولست أدري أيها أوحش وأنشدني أيضاً قال، أنشدني لنفسه: ولمياء تحيي من تُحيّي بريقها ... كأن مزاج الراح بالمسك في فيها وما ذقت فاها غير أني رويته ... عن الثقة المسواك وهو موافيها وهذا معنى مستعمل قد سار في كثير من أشعار المتقدمين والمتأخرين، فمن   (1) لي: وفي العلوم؛ ر: والعلوم. (2) سقطت الأبيات التالية من ل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 291 ذلك قول بشار بن برد من جملة أبيات (1) : يا أطيب الناس ريقاً غير مختبر ... إلا شهادة أطراف المساويك وقول الأبيوردي من جملة أبيات: وأخبرني أترابها أن ريقها ... على ما حكى عود الأراك لذيذ ونقتصر على هذا القدر. وكان الحافظ المذكور ينوب في الحكم بثغر الاسكندرية المحروس، ودرس به بالمدرسة المعروفة به هناك، ثم انتقل إلى مدينة القاهرة المحروسة ودرس بها بالمدرسة الصاحبية، وهي مدرسة الوزير صفي الدين أبي محمد عبد الله بن علي المعروف بابن شكر، واستمر بها إلى حين وفاته. وكانت ولادته ليلة السبت الرابع والعشرين من ذي القعدة سنة أربع وأربعين وخمسمائة بالثغر المحروس. وتوفي يوم الجمعة مستهل شعبان سنة إحدى عشرة وستمائة بالقاهرة، رحمه الله تعالى. (112) وتوفي (2) والده القاضي الأنجب أبو المكارم المفضل في رجب سنة أربع وثمانين وخمسمائة، وكان مولده في سنة ثلاث وخمسمائة، رحمهما الله تعالى. والمقدسي: بفتح الميم وسكون القاف وكسر الدال المهملة وفي آخرها سين مهملة، هذه النسبة إلى بيت المقدس. واللخمي: تقدم الكلام عليه.   (1) ديوانه (ط. بيروت) : 173. (2) عند هذا الموضع في المسودة " هاهنا التخريجة " حتى قوله: " رحمها الله تعالى "، وقد ثبت في ر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 292 432 - (1) السيف الآمدي أبو الحسن علي بن أبي علي بن (2) محمد بن سالم التغلبي (3) الفقيه الأصولي، الملقب سيف الدين الآمدي؛ كان في أول اشتغاله حنبلي المذهب، وانحدر إلى بغداد وقرأ بها على ابن المني أبي الفتح نصر بن فتيان الحنبلي (4) ، وبقي على ذلك مدة ثم انتقل إلى مذهب الإمام الشافعي، رضي الله عنه، وصحب الشيخ أبا القاسم بن فضلان واشتغل عليه في الخلاف وتميز فيه، وحفظ طريقة الشريف وزوائد طريقة أسعد الميهني - المقدم ذكره (5) - ثم انتقل إلى الشام واشتغل بفنون المعقول وحفظ منه الكثير وتمهر فيه وحصل منه شيئاً كثيراً، ولم يكن في زمانه أحفظ منه لهذه العلوم. ثم انتقل إلى الديار المصرية وتولى الإعادة بالمدرسة المجاورة لضريح الإمام الشافعي، رضي الله عنه، التي بالقرافة الصغرى، وتصدر بالجامع الظافري بالقاهرة مدة، واشتهر بها فضله واشتغل عليه الناس وانتفعوا به، ثم حسده جماعة من فقهاء البلاد وتعصبوا عليه ونسبوه إلى فساد العقيدة وانحلال الطوية والتعطيل ومذهب الفلاسفة والحكماء، وكتبوا محضراً يتضمن ذلك، ووضعوا فيه خطوطهم بما يستباح به الدم؛ وبلغني عن رجل منهم فيه عقل ومعرفة أنه لما رأى تحاملهم عليه وإفراط التعصب كتب في المحضر وقد حمل إليه ليكتب فيه مثل ما كتبوا فكتب:   (1) ترجمته في طبقات السبكي 5: 129 ولسان الميزان 3: 134 وعبر الذهبي 5: 124 والشذرات 5: 144؛ وهذه الترجمة مستوفاة في المسودة. (2) كذا في ر لي والمسودة والسبكي، بثبوت لفظة " ابن " هنا. وسقط أكثر النسب من س ل. (3) هكذا في المسودة، وفي ر لي م والمصادر: الثعلبي. (4) كتب بعده في س ل: الآتي ذكره إن شاء الله تعالى، والعبارة في المسودة مشطوبة، مما يدل على أن المؤلف عدل عن إيراد ترجمته وعرف به في هذه الترجمة. (5) انظر المجلد الأول: 207. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 293 حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه ... فالقوم أعداءٌ له وخصوم والله أعلم، وكتب فلان بن فلان. ولما رأى سيف الدولة تألبهم عليه وما اعتمدوه في حقه، ترك البلاد وخرج منها مستخفياً وتوصل إلى الشام، واستوطن مدينة حماة. وصنف في أصول الفقه والدين والمنطق والحكمة والخلاف، وكل تصانيفه مفيدة. فمن ذلك كتاب " أبكار الأفكار " في علم الكلام (1) واختصره في كتاب سماه " منائح القرائح " و " رموز الكنوز " وله " دقائق الحقائق " و " لباب الألباب " و " منتهى السول في علم الأصول "، وله طريقة في الخلاف، ومختصر في الخلاف أيضاً وشرح جدل الشريف، وله مقدار عشرين تصنيفاً. وانتقل إلى دمشق ودرس بالمدرسة العزيزية وأقام بها زماناً، ثم عزل عنها لسبب تهم فيه وأقام بطالاً في بيته. وتوفي على تلك الحال في رابع صفر يوم الثلاثاء سنة إحدى وثلاثين وستمائة ودفن بسفح جبل قاسيون. وكانت ولادته في سنة إحدى وخمسين وخمسمائة، رحمه الله تعالى. والآمدي: بالهمزة الممدودة والميم المكسورة وبعدها دال مهملة، هذه النسبة إلى آمد، وهي مدينة كبيرة في ديار بكر مجاورة لبلاد الروم (2) . (113) وكان أبو الفتح نصر بن فتيان بن المني المذكور (3) فقيهاً محدثاً، انتفع به جماعة كبيرة. ومولده سنة إحدى وخمسمائة، وتوفي خامس شهر رمضان سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة، رحمه الله تعالى.   (1) لي س: في الحكمة. (2) هنا تنتهي الترجمة في س ل م. (3) كان فقيه العراق وشيخ الحنابلة في عصره، وكان زاهداً ورعاً متعبداً على منهاج السلف (عبر الذهبي 4: 251 وذيل ابن رجب: 358) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 294 433 - (1) الكسائي أبو الحسن علي بن حمزة بن عبد الله بن بهمن (2) بن فيروز، الأسدي بالولاء الكوفي المعروف بالكسائي؛ أحد القراء السبعة (3) ، كان إماماً في النحو واللغة والقراءات، ولم تكن له في الشعر يد، حتى قيل: ليس في علماء العربية أجهل من الكسائي بالشعر؛ وكان يؤدب الأمين بن هارون الرشيد ويعلمه الأدب ولم يكن له زوجة ولا جارية، فكتب إلى الرشيد يشكو العزبة في هذه الأبيات: قل للخليفة لا تقول لمن ... أمسى إليك بحرمة يدلي ما زلت مذ صار الأمين معي ... عبدي يدي ومطيتي رجلي وعلى فراشي من ينبهني ... من نومتي وقيامه (4) قبلي أسعى برجل منه ثالثة ... موفورة مني بلا رجل (5) وإذا ركبت أكون مرتدفاً ... قدام سرجي راكب (6) مثلي فامنن علي بما يسكنه ... عني وأهد الغمد للنصل فأمر له الرشيد بعشرة آلاف درهم وجارية حسناء بجميع آلاتها وخادم وبرذون بجميع آلته.   (1) ترجمته في انباه الرواة 2: 256 وفي الحاشية ذكر لعدد كبير من المصادر الأخرى؛ وانظر نور القبس: 283 وصفحات كثيرة من " مجالس العلماء "؛ وقد وردت الترجمة بكاملها في المسودة. (2) بهمن: سقط من ل ر؛ س: عثمن الأسدي. (3) زاد في س: وهو من ولد بهمن بن فيروز، وهو أصل المسودة لكنه شطب. (4) نور القبس: بقيامه. (5) نور القبس: نقصت زيادتها من الرجل. (6) ر: راكباً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 295 واجتمع يوماً بمحمد بن الحسن الفقيه الحنفي في مجلس الرشيد فقال الكسائي: من تبحر في علم تهدى إلى جميع العلوم، فقال له محمد: ما تقول فيمن سها في سجود السهو، هل يسجد مرة أخرى قال الكسائي: لا، قال: لماذا قال: لأن النحاة تقول: التصغير لا يصغر، هكذا وجدت هذه الحكاية في عدة مواضع؛ وذكر الخطيب في " تاريخ بغداد " (1) أن هذه القضية جرت بين محمد بن الحسن المذكور والفراء - الآتي ذكره إن شاء الله تعالى - وهما ابنا خالة، والله أعلم بالصواب. رجعنا إلى بقية الحكاية: فقال محمد: فما تقول في تعليق الطلاق بالملك قال: لا يصح، قال: لم قال: لأن السيل لا يسبق المطر. وله مع سيبويه وأبي محمد اليزيدي مجالس ومناظرات - سيأتي ذكر بعضها في تراجم أربابها إن شاء الله تعالى. روى الكسائي عن أبي بكر ابن عياش وحمزة الزيات وابن عيينة وغيرهم وروى عنه الفراء وأبو عبيد القاسم بن سلام وغيرهما. وتوفي سنة تسع وثمانين ومائة بالري وكان قد خرج إليها صحبة هارون الرشيد. قال السمعاني: وفي ذلك اليوم توفي محمد بن الحسن المذكور بالري أيضاً - كما سيأتي في ترجمته إن شاء الله تعالى - وكذا قال ابن الجوزي في " شذور العقود "، توفي برنبويه (2) قرية من قرى الري - ورنبويه مذكورة في ترجمة محمد بن الحسن - وقال السمعاني أيضاً: وقيل إن الكسائي مات بطوس سنة اثنتين أو ثلاث وثمانين ومائة، والله أعلم، ويقال إن الرشيد كان يقول: دفنت الفقه والعربية بالري. والكسائي: بكسر الكاف وفتح السين المهملة وبعدها ألف ممدودة، وإنما قيل له الكسائي لأنه دخل الكوفة وجاء إلى حمزة بن حبيب الزيات وهو ملتف   (1) تاريخ بغداد 14: 151. (2) تصحفت في النسخ كثيراً، وأثبتنا ما في المسودة وضبط المؤلف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 296 بكساء، فقال حمزة: من يقرأ فقيل له: صاحب الكساء، فبقي عليه (1) ، وقيل بل أحرم في كساء فنسب إليه، رحمه الله تعالى. 434 - (2) الدارقطني أبو الحسن علي بن عمر بن أحمد بن مهدي البغدادي الدارقطني الحافظ المشهور؛ كان عالماً حافظاً فقيهاً على مذهب الإمام الشافعي، رضي الله عنه، أخذ الفقه عن أبي سعيد الإصطخري الفقيه الشافعي، وقيل بل أخذه عن صاحب لأبي سعيد، وأخذ القراءة عرضاً وسماعاً عن محمد بن الحسن النقاش وعلي بن سعيد القزاز ومحمد بن الحصين الطبري ومن في طبقتهم، وسمع من أبي بكر بن مجاهد وهو صغير، وانفرد بالإمامة في علم الحديث في دهره، ولم ينازعه في ذلك أحد من نظرائه، وتصدر في آخر أيامه للإقراء ببغداد. وكان عارفاً باختلاف الفقهاء ويحفظ كثيراً من دواوين العرب، منها ديوان السيد الحميري، فنسب إلى التشيع لذلك. وروى عنه الحافظ أبو نعيم الأصبهاني صاحب " حلية الأولياء " وجماعة كثيرة، وقبل القاضي ابن معروف شهادته في سنة ست وسبعين وثلثمائة، فندم على ذلك وقال: كان يقبل قولي على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بانفرادي، فصار لا يقبل قولي على نقلي إلا مع آخر. وصنف كتاب " السنن " و " المختلف والمؤتلف " وغيرهما، وخرج من بغداد   (1) لي: فبقي عليه لقب. (2) ترجمته في الأنساب 5: 273 واللباب: (الدارقطني) والمنتظم 7: 183 وتاريخ بغداد 12: 34 وطبقات السبكي 2: 310 وتذكرة الحفاظ: 991 وعبر الذهبي 3: 28 وغاية النهاية 1: 558 والشذرات 3: 116 وصفحات متفرقة من الرسالة المستطرقة؛ وهذه الترجمة بكاملها في المسودة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 297 إلى مصر قاصداً أبا الفضل جعفر بن الفضل المعروف بابن حنزابة وزير كافور الإخشيدي - المذكور في حرف الجيم (1) - فإنه بلغه أن أبا الفضل عازم على تأليف مسند فمضى إليه ليساعده عليه، وأقام عنده مدة، وبالغ أبو الفضل في إكرامه وأنفق عليه نفقة واسعة وأعطاه شيئاً كثيراً وحصل له بسببه مال جزيل (2) . ولم يزل عنده حتى فرغ المسند، وكان يجتمع هو والحافظ عبد الغني بن سعيد - المقدم ذكره (3) - على تخريج المسند وكتابته إلى أن نجز. وقال الحافظ عبد الغني المذكور (4) : أحسن الناس كلاماً على حديث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ثلاثة: علي بن المديني (5) في وقته، وموسى بن هارون (6) في وقته، والدارقطني في وقته. وسأل الدارقطني يوماً أحد أصحابه: هل رأى الشيخ مثل نفسه فامتنع من جوابه، وقال: قال الله تعالى: (فلا تزكوا أنفسكم) ، فألح عليه، فقال: إن كان في فن واحد فقد رأيت من هو أفضل مني، وإن كان من اجتمع فيه ما اجتمع في فلا، وكان مفنناً في علوم كثيرة وإماماً في علوم القرآن. وكانت ولادة الحافظ المذكور في ذي القعدة سنة ست وثلثمائة. وتوفي يوم الأربعاء لثمان خلون من ذي القعدة، وقيل ذي الحجة، سنة خمس وثمانين وثلثمائة ببغداد، وصلى عليه الشيخ أبو حامد الإسفرايني الفقيه المشهور المقدم ذكره. ودفن قريباً من معروفٍ الكرخي، في مقبرة باب الدير، رحمه الله تعالى. والدارقطني: بفتح الدال المهملة وبعد الألف راء مفتوحة ثم قاف مضمومة   (1) انظر المجلد الأول: 346. (2) ل: كثير. (3) ترجمة الحافظ عبد الغني رقم: 401. (4) قارن بما في تذكرة الحفاظ: 994. (5) علي بن عبد الله بن جعفر المديني ولد سنة 161 وتوفي بسامرا سنة 234 (تذكرة الحفاظ: 428) . (6) موسى بن هارون الحمال الحافظ الحجة البغدادي محدث العراق، توفي سنة 294 (تذكرة الحفاظ " 669) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 298 وبعدها طاء مهملة ساكنة ثم نون، هذه النسبة إلى دار القطن وكانت محلة كبيرة ببغداد. 435 - (1) الرماني أبو الحسن علي بن عيسى بن علي بن عبد الله الرماني النحوي المتكلم؛ أحد الأئمة المشاهير، جمع بين علم الكلام والعربية، وله تفسير القرآن الكريم، أخذ الأدب عن أبي بكر ابن دريد وأبي بكر ابن السراج، وروى عنه أبو القاسم التنوخي وأبو محمد الجوهري وغيرهما. وكانت ولادته ببغداد سنة ست وتسعين ومائتين، وتوفي ليلة الأحد حادي عشر جمادى الأولى سنة أربع وثمانين، وقيل اثنتين وثمانين وثلثمائة، رحمه الله تعالى؛ وأصله من سر من رأى. والرماني: بضم الراء وتشديد الميم وبعد الألف نون، هذه النسبة يجوز أن تكون إلى الرمان وبيعه، ويمكن أن تكون إلى قصر الرمان، وهو قصر بواسط معروف، وقد نسب إلى هذا وهذا خلق كثير، ولم يذكر (2) السمعاني أن نسبة أبي الحسن المذكور إلى أيهما، والله أعلم.   (1) ترجمته في انباه الرواة 2: 294 ومعها ثبت بمصادر أخرى في الحاشية، وانظر أيضاً الامتاع والمؤانسة 1: 133؛ والترجمة كاملة في المسودة. (2) لي: ولم يدر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 299 436 - (1) الحوفي صاحب التفسير أبو الحسن علي بن إبراهيم بن سعيد بن يوسف الحوفي النحوي؛ كان عالما بالعربية وتفسير القرآن الكريم، وله تفسير جيد، واشتغل عليه خلق كثير وانتفعوا به ورأيت خطه على كثير من كتب الأدب قد قرئت عليه وكتب لأربابها بالقراءة كما جرت عادة المشايخ. وتوفي بكرة يوم السبت مستهل ذي الحجة سنة ثلاثين وأربعمائة، رحمه الله تعالى. والحوفي: بفتح الحاء المهملة وسكون الواو وفي آخرها فاء هذه النسبة إلى حوف، قال السمعاني: ظني أنها قرية بمصر، حتى قرأت في تاريخ البخاري أنها من عمان منها أبو الحسن المذكور، ثم قال: وكان عنده من تصانيف النحاس أبي جعفر المصري قطعة كثيرة. قلت: قوله قرية بمصر، ليس كذلك، بل الناحية المعروفة بالشرقية التي قصبتها مدينة بلبيس جميع ريفها يسمونه الحوف، ولا أعلم ثم قرية يقال لها حوف، والله أعلم، وأبو الحسن من حوف مصر (2) . وبعد أن فرغت من ترجمة أبي الحسن الحوفي على هذه الصورة ظفرت بترجمته مفصلة، وذلك أنه (3) من قرية يقال لها شبرا اللنجة (4) من أعمال الشرقية   (1) كتب المؤلف في المسودة عند هذه الترجمة: " له ترجمة في كتاب المنتظم فتنظر فيه في موضعين " وفوق هذا الكلام شطب خفيف جداً، ولم أجد له ترجمة في الكتاب المذكور، وقد ترجم له القفطي في الانباه 2: 219 وكتب المحقق أسماء مصادر أخرى في الحاشية؛ ولم تخل المسودة بشيء من هذه الترجمة. (2) انتهت الترجمة في م. (3) هذا النقل متابع لما أورده القفطي. (4) كذا بخط المؤلف وضبطه، وكذلك ورد الأسم في س ر ل لي والقفطي؛ وقد ذكرها ابن دقماق (الانتصار 5: 62) كما أثبتها المؤلف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 300 المذكورة، وأنه دخل مصر وقرأ على أبي بكر الأدفوي، ولقي جماعة من علماء المغرب وأخذ عنهم، وتصدر لإفادة العربية (1) ، وصنف في النحو مصنفاً كبيراً وصنف في إعراب القرآن كتاباً في عشر مجلدات، وله تصانيف (2) كثيرة يشتغل بها الناس. 437 - (3) الأخفش الأصغر أبو الحسن علي بن سليمان بن الفضل المعروف بالأخفش الأصغر النحوي؛ كان عالماً، روى عن المبرد وثعلب وغيرهما، وروى عنه المرزباني وأبو الفرج المعافى الجريري وغيرهما، وكان ثقة، وهو غير الأخفش الأكبر والأخفش الأوسط. (114) فإن الأخفش الأكبر هو أبو الخطاب عبد الحميد بن عبد المجيد من أهل هجر من مواليهم، وكان نحوياً لغوياً وله ألفاظ لغوية انفرد بنقلها عن العرب وأخذ عنه سيبويه وأبو عبيدة ومن في طبقتهما، ولم أظفر له بوفاة حتى أفرد له ترجمة. والأخفش الأوسط أبو الحسن سعيد بن مسعدة - وقد تقدم ذكره في حرف السين (4) - وهو صاحب سيبويه. وكان بين الأخفش المذكور وبين ابن الرومي الشاعر منافسة، فكان الأخفش يباكر داره ويقول عند بابه كلاماً يتطير به (5) ، وكان ابن الرومي كثير التطير،   (1) لي: للإفادة في العربية. (2) لي: مضنفات. (3) راجع انباه الرواة 2: 276 وما في الحاشية من مصادر. (4) انظر الترجمة رقم: 264. (5) ل لي: يتطاير؛ ر: يتأذى به. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 301 فإذا سمع كلامه لم يخرج ذلك اليوم من بيته، فكثر ذلك منه، فهجاه ابن الرومي بأهاج كثيرة، وهي مثبتة في ديوانه، وكان الأخفش يحفظها ويوردها في جملة ما يوردها استحساناً لها وافتخاراً بأنه نوه بذكره إذ هجاه، فلما علم ابن الرومي بذلك أقصر عنه. وقال المرزباني (1) : لم يكن الأخفش بالمتسع في الرواية للأشعار والعلم بالنحو؛ وما علمته صنف شيئاً البتة ولا قال شعراً، وكان إذا سئل عن مسألة في النحو ضجر وانتهر من يسأله. وكان وفاة أبي الحسن المذكور في ذي القعدة، وقيل شعبان، سنة خمس عشرة، وقيل ست عشرة وثلثمائة، فجاءة ببغداد، ودفن بمقبرة قنطرة بردان. ودخل مصر سنة سبع وثمانين ومائتين، وخرج منها إلى حلب سنة ست وثلثمائة، رحمه الله تعالى. والأخفش: بفتح الهمزة وسكون الخاء المعجمة وفتح الفاء وبعدها شين معجمة، وهو الصغير العين مع سوء بصرها. وبردان: بفتح الباء الموحدة والراء والدال المهملة وبعد الألف نون، وهي قرية من قرى بغداد خرج منها جماعة من العلماء وغيرهم. وقال أبو الحسن ثابت بن سنان: كان الأخفش المذكور يواصل المقام عند أبي علي ابن مقلة، وأبو علي يراعيه ويبره، فشكا إليه في بعض الأيام ما هو فيه من وشدة الفاقة وزيادة الإضاقة، وسأله أن يكلم (2) الوزير أبا الحسن علي بن عيسى في أمره، ويسأله إقرار رزق له في جملة من يرتزق من أمثاله، فخاطبه أبو علي في ذلك، وعرّفه اختلال حاله وتعذر القوت عليه في أكثر أيامه، وسأله أن يجري عليه رزقاً أسوة بأمثاله، فانتهره الوزير انتهاراً شديداً (3) ، وكان ذلك في مجلس حافل، فشق ذلك على أبى علي وقام من مجلسه، وصار إلى منزله لائماً نفسه على سؤاله، ووقف الأخفش على الصورة، فاغتم لها وانتهت   (1) نور القبس: 341، وفيه: في الرواية للأخبار والعلم. (2) س لي ل: يعم. (3) شديداً: سقطت من س. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 302 به الحال إلى أكل السلجم النيئ، فقيل إنه قبض على فؤاده، فمات فجأة في التاريخ المذكور. [كان أبو الحسن الأخفش كثيراً ما ينشد وعلي على الناس، وكأنه كان يعرض بأبي علي ابن مقلة الوزير (1) : هون عليك فإني غير جائيكا ... وإنني غير ماضٍ في نواحيكا والله لو كانت الدنيا بزينتها ... وادٍ بكفك لم أحلل بواديكا ولو ملكت رقاب الناس كلهم ... شرقاً وغرباً لما جئنا نهنيكا] (2) /poetry> 438 (3) الواحدي أبو الحسن علي بن أحمد بن محمد بن علي بن متويه الواحدي المتوي صاحب التفاسير المشهورة؛ كان أستاذ عصره في النحو والتفسير، ورزق السعادة في تصانيفه، وأجمع الناس على حسنها وذكرها المدرسون في دروسهم، منها " البسيط " في تفسير القرآن الكريم، وكذلك " الوسيط " وكذلك " الوجيز " ومنه أخذ أبو حامد الغزالي أسماء كتبه الثلاثة، وله كتاب " أسباب النزول " و " التحبير في شرح أسماء الله تعالى الحسنى " وشرح ديوان أبي الطيب المتنبي شرحاً مستوفى، وليس في شروحه مع كثرتها مثله، وذكر فيه أشياء غريبة منها أنه في شرح هذا البيت وهو (4) :   (1) لعل الصواب أن يقول: يعرض بعلي بن عيسى حين كان وزيراً. (2) ما بين معقفين زيادة من ر. (3) ترجمته في انباه الرواة 2: 223 زفي الحاشية اسماء مصادر أخرى؛ وقد جاءت المسودة بهذه الترجمة كاملة. (4) شرح الواحدي: 712 - 713، وفي النقل شيء من التصرف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 303 وإذا المكارم والصوارم والقنا ... وبنات أعوج كل شيءٍ يجمع تكلم على البيت ثم قال في أعوج: إنه فحل كريم كان لبني هلال بن عامر، وإنه قيل لصاحبه: ما رأيت من شدة عدوه فقال: ضللت في بادية وأنا راكبه، فرأيت سرب قطا يقصد الماء فتبعته، وأنا أغض من لجامه، حتى توافينا الماء دفعة واحدة، وهذا أغرب شيء يكون، فإن القطا شديد الطيران، وإذا قصد الماء اشتد طيرانه أكثر من غير قصد الماء، ثم ما كفى حتى قال: كنت أغض من لجامه، ولو ذلك لكان يسبق القطا، وهذه مبالغة (1) عظيمة، وإنما قيل له أعوج لأنه كان صغيراً وقد جاءتهم غارة فهربوا منها وطرحوه في خرج وحملوه لعدم قدرته على متابعتهم لصغره، فاعوج ظهره من ذلك فقيل له أعوج. وهذا البيت من جملة القصيدة التي رثى بها فاتكاً المجنون. وكان الواحدي المذكور تلميذ الثعلبي صاحب التفسير - المقدم ذكره في حرف الهمزة (2) - وعنه أخذ علم التفسير وأربى عليه، وتوفي عن مرض طويل في جمادى الآخرة سنة ثمان وستين وأربعمائة بمدينة نيسابور، رحمه الله تعالى. ومتويه: بفتح الميم وتشديد التاء المثناة من فوقها وضمها وسكون الواو وبعدها ياء مفتوحة مثناة من تحتها ثم هاء ساكنة، ونسبة المتوي إلى هذا الجد. والواحدي: بفتح الواو وبعد الألف حاء مهملة مكسورة وبعدها دال مهملة، لم أعرف هذه النسبة إلى أي شيء هي، ولا ذكرها السمعاني، ثم وجدت هذه النسبة إلى الواحد بن الدين (3) بن مهرة، ذكره أبو أحمد العسكري.   (1) ر: المبالغة. (2) انظر المجلد الأول: 79. (3) كذا في المسود؛ وفي التصحيف (506) : الدئن. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 304 439 - (1) ابن ماكولا الأمير سعد الملك أبو نصر علي بن هبة الله بن علي بن جعفر بن علكان بن محمد بن دلف بن أبي دلف القاسم بن عيسى بن إدريس بن معقل بن عمير (2) العجلي، المعروف بابن ماكولا - وبقية نسبه مستوفاة في ترجمة جده أبي دلف القاسم بن عيسى في حرف القاف - وأصله من جرباذقان من نواحي أصبهان، ووزر أبوه أبو القاسم هبة الله للإمام القائم بأمر الله، وتولى عمه أبو عبد الله الحسين بن علي قضاء بغداد. سمع الحديث الكثير وصنف المصنفات النافعة، وأخذ عن مشايخ العراق وخراسان والشام وغير ذلك. وكان أحد الفضلاء المشهورين، تتبع الألفاظ المشتبهة في الأسماء الأعلام وجمع منها شيئاً كثيراً، وكان الخطيب أبو بكر صاحب " تاريخ بغداد " قد أخذ كتاب الحافظ أبي الحسن الدارقطني المسمى المختلف والمؤتلف " وكتاب الحافظ عبد الغني بن سعيد الذي سماه " مشتبه النسبة " وجمع بينهما، وزاد عليهما، وجعله كتاباً مستقلاً سماه " المؤتنف تكملة المختلف "؛ وجاء الأمير أبو نصر المذكور وزاد على هذا " المؤتنف " وضم إليه الأسماء التي وقعت له، وجعله أيضاً كتاباً مستقلاً سماه " الإكمال " وهو في غاية الإفادة في رفع الالتباس والضبط والتقييد، وعليه اعتماد المحدثين وأرباب هذا الشأن، فإنه لم يوضع مثله ولقد أحسن فيه غاية الإحسان. ثم جاء ابن نقطة - الآتي ذكره إن شاء الله تعالى - وذيله وما أقصر فيه أيضاً، وما يحتاج الأمير   (1) انظر ترجمته في المنتظم 9: 5 ومعجم الأدباء 15: 102 وتذكرة الحفاظ: 1201 وابن الأثير 10: 128 وعبر الذهبي 3: 317 والشذرات 2: 318، وقد ترجم له الكتبي (الفوات 2: 185) مع أنه يستدرك على ابن خلكان؛ وانظر الرسالة المستطرفة: 116 وكشف الظنون: 1637؛ وقد جاءت الترجمة كاملة في المسودة. (2) فوقها في المسودة: خ: عمرو؛ لي: وقيل عمرو. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 305 المذكور مع هذا الكتاب إلى فضيلة أخرى، وفيه دلالة على كثرة اطلاعه وضبطه وإتقانه. ومن الشعر المنسوب إليه: قوض خيامك عن أرضٍ تهان بها ... وجانب الذل إن الذل يجتنب وارحل إذا كان في الأوطان منقصةٌ ... فالمندل الرطب في أوطانه حطب وكانت ولادته في عكبرا في خامس شعبان سنة إحدى وعشرين وأربعمائة، وقتله غلمانه بجرجان في سنة نيف وسبعين وأربعمائة. وذكر أبو الفرج ابن الجوزي في كتاب " المنتظم " أنه قتل في سنة خمس وسبعين وأربعمائة، وقيل في سنة سبع وثمانين، وقال غيره: في سنة تسع وسبعين بخوزستان، وقيل بالأهواز. وقال الحميدي: خرج إلى خراسان ومعه غلمان له أتراك فقتلوه بجرجان وأخذوا ماله وهربوا، وطاح دمه هدراً، رحمه الله تعالى. ومدحه الشاعر المعروف (1) بصر در - الآتي ذكره إن شاء الله تعالى - ومدحه في ديوانه موجود. وماكولا: بفتح الميم وبعد الألف كاف مضمومة وبعدها واو ساكنة ثم لام ألف، ولا أعرف معناه، ولا أدري سبب تسميته بالأمير، هل كان أميراً بنفسه أم لأنه من أولاد أبي دلف العجلي - وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى. وعكبرا قد تقدم القول (2) عليها في ترجمة الشيخ أبي البقاء.   (1) ر: المشهور. (2) ر لي: الكلام. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 306 440 - (1) أبو الفرج الأصبهاني أبو الفرج علي بن الحسين بن محمد بن أحمد بن الهيثم بن عبد الرحمن بن مروان بن عبد الله بن مروان بن محمد بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، القرشي الأموي الكاتب الأصبهاني صاحب كتاب " الأغاني " وجده مروان بن محمد المذكور آخر خلفاء بني أمية؛ وهو أصبهاني الأصل بغدادي المنشأ، كان من أعيان أدبائها، وأفراد مصنفيها، وروى عن عالم كثير من العلماء يطول تعدادهم، وكان عالماً بأيام الناس والأنساب والسير. قال التنوخي: ومن المتشيعين الذين شاهدناهم أبو الفرج الأصبهاني، كان يحفظ من الشعر والأغاني والأخبار والآثار والأحاديث المسندة والنسب ما لم أر قط من يحفظ مثله، ويحفظ دون ذلك من علوم أخر منها اللغة والنحو والخرافات والسير والمغازي، ومن آلة المنادمة شيئاً كثيراً، مثل علم الجوارح والبيطرة ونتف من الطب والنجوم والأشربة وغير ذلك، وله شعر يجمع إتقان العلماء وإحسان الظرفاء الشعراء. وله المصنفات المستملحة منها: كتاب " الأغاني " الذي وقع الاتفاق على أنه لم يعمل في بابه مثله، يقال إنه جمعه في خمسين سنة، وحمله إلى سيف الدولة بن حمدان فأعطاه ألف دينار واعتذر إليه. وحكي عن الصاحب بن عباد أنه كان في أسفاره وتنقلاته يستصحب حمل ثلاثين جملاً من كتب الأدب ليطالعها، فلما وصل إليه كتاب " الأغاني " لم يكن بعد ذلك يستصحب سواه، استغناءً   (1) ترجمته في الفهرست: 115 وتاريخ بغداد 11: 398 واليتيمة 3: 114 وتاريخ أصبهان 2: 11 والمنتظم 7: 40 ومعجم الأدباء 13: 94 وانابه الرواة 2: 251 وميزان الاعتدال 3: 123 ولسان الميزان 4: 221 وابن الأثير 8: 581 والنجوم الزاهرة 4: 15 وعبر الذهبي 2: 305 والشذرات 3: 19؛ والترجمة هنا مستوفاة في المسودة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 307 به عنها. ومنها: كتاب " القيان " وكتاب " الإماء الشواعر " وكتاب " الديارات " وكتاب " دعوة التجار " وكتاب " مجرد الأغاني " وكتاب " أخبار جحظة البرمكي " و " مقاتل الطالبيين " وكتاب " الحانات " و " آداب الغرباء ". وحصل له ببلاد الأندلس كتب صنفها لبني أمية ملوك الأندلس (1) يوم ذاك وسيرها إليهم سراً وجاءه الإنعام منهم سراً، فمن ذلك كتاب " نسب بني عبد شمس " وكتاب " أيام العرب " ألف وسبعمائة يوم، وكتاب " التعديل والانتصاف " في مآثر العرب ومثالبها، وكتاب " جمهرة النسب " وكتاب " نسب بني شيبان " وكتاب " نسب المهالبة " وكتاب " نسب بني تغلب " و " نسب بني كلاب " وكتاب " الغلمان المغنين " ذلك. وكان منقطعاً إلى الوزير المهلبي وله فيه مدائح، فمن ذلك قوله فيه: ولما انتجعنا لائذين بظله ... أعان وعنى ومن وما منا وردنا عليه مقترين فراشنا ... وردنا نداه مجدبين فأخصبنا وله فيه من قصيدة تهنئة بمولود جاءه من سرية رومية: اسعد بمولودٍ أتاك مباركاً ... كالبدر أشرق جنح ليلٍ مقمر سعد لوقت سعادةٍ جاءت به ... أمٌ حصانٌ من بنات الأصفر متبجحٌ في ذروتي شرف الورى ... بين المهلب منتماه وقيصر شمس الضحى قرنت إلى بدر الدجى ... حتى إذا اجتمعا أتت بالمشتري وكتب إلى بعض الرؤساء وكان مريضاً: أبا محمد المحمود يا حسن ال ... إحسان والجود يا بحر الندى الطامي حاشاك من عود عواد إليك ومن ... دواء داء ومن إلمام آلام وشعره كثير، ومحاسنه شهيرة. وكانت ولادته سنة أربع وثمانين ومائتين،   (1) يقال إن أبا الفرج أرسل نسخة من الأغاني إلى الحكم المستنصر، فأجازه عليها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 308 وفي هذه السنة مات البحتري الشاعر. وتوفي يوم الأربعاء رابع عشر ذي الحجة سنة ست وخمسين وثلثمائة ببغداد، وقيل سنة سبع وخمسين، والأول أصح، وكان قد خلط قبل أن يموت، رحمه الله تعالى؛ وهذه سنة ست وخمسين مات فيها عالمان كبيران وثلاثة ملوك كبار، فالعالمان أبو الفرج المذكور وأبو علي القالي - وقد ذكرناه في حرف الهمزة (1) - والملوك الثلاثة سيف الدولة بن حمدان، ومعز الدولة بن بويه وكافور الإخشيدي، وهو مذكور في ترجمة كل واحد. 441 - (2) الحافظ ابن عساكر الحافظ أبو القاسم علي بن أبي محمد الحسن بن هبة الله أبي الحسن بن عبد الله بن الحسين المعروف بابن عساكر، الدمشقي الملقب ثقة الدين كان محدث الشام في وقته، ومن أعيان الفقهاء الشافعية، غلب عليه الحديث فاشتهر به وبالغ في طلبه إلى أن جمع منه ما لم يتفق لغيره، ورحل وطوف وجاب البلاد ولقي المشايخ، وكان رفيق الحافظ أبي سعد عبد الكريم بن السمعاني في الرحلة، وكان حافظا دّيناً جمع بين معرفة المتون والأسانيد. سمع ببغداد سنة عشرين وخمسمائة من أصحاب البرمكي والتنوخي والجوهري، ثم رجع إلى دمشق ثم رحل إلى خراسان ودخل نيسابور وهراة وأصبهان والجبال، وصنف التصانيف المفيدة وخرّج التخاريج. وكان حسن   (1) راجع المجلد الأول: 226. (2) ترجمته في معجم الأدباء 13: 73 والمنتظم 10: 261 وابن الأثير 12: 357 ومرآة الزمان: 336 وتذكرة الحفاظ: 1328 وعبر الذهبي 4: 212 وطبقات السبكي 4: 273 والبداية والنهاية 12: 294؛ والترجمة مطابقة لما في المسودة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 309 الكلام على الأحاديث، محظوظاً في الجمع والتأليف، صنف التاريخ الكبير لدمشق في ثمانين مجلدة، أتى فيه بالعجائب، وهو على نسق " تاريخ بغداد ". قال لي شيخنا الحافظ العلامة زكي الدين أبو محمد عبد العظيم المنذري حافظ مصر أدام الله به النفع، وقد جرى ذكر هذا التاريخ، وأخرج لي منه مجلداً وطال الحديث في أمره واستعظامه: ما أظن هذا الرجل إلى عزم على وضع هذا التاريخ من عقل على نفسه، وشرع في الجمع من ذلك الوقت، وإلا فالعمر يقصر عن أن يجمع فيه الإنسان مثل هذا الكتاب بعد الاشتغال والتنبه. ولقد قال الحق، ومن وقف عليه عرف حقيقة هذا القول (1) ، ومتى يتسع للإنسان الوقت حتى يضع مثله وهذا الذي ظهر هو الذي اختاره، وما صح له هذا إلا بعد مسودات ما يكاد ينضبط حصرها. وله غيره تواليف حسنة وأجزاء ممتعة، وله شعر لا بأس به، فمن ذلك قوله على ما قيل (2) : ألا إن الحديث أجل علمٍ ... وأشرفه (3) الأحاديث العوالي وأنفع كل نوعٍ منه عندي ... وأحسنه الفرائد في الأمالي وإنك لن ترى للعلم شيئاً ... يحققه كأفواه الرجال فكن يا صاح ذا حرصٍ عليه ... وخذه عن الرجال بلا ملال ولا تأخذه من صحفٍ فترمى ... من التصحيف بالداء العضال ومن المنسوب إليه أيضاً: أيا نفس ويحك جاء المشيب ... فماذا التصابي وماذا الغزل تولى شبابي كأن لم يكن ... وجاء مشيبي كأن لم يزل كأني بنفسي على غرةٍ ... وخطب المنون بها قد نزل فيا ليت شعري ممن أكون ... وما قدر الله لي بالأزل   (1) لي: عليه حقق هذا القول. (2) سقطت الأبيات من ل س لي. (3) م: ولا سيما. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 310 وقد التزم فيها مالا يلزم، وهو الزاي قبل اللام، والبيت الثاني هو بيت علي بن جبلة المعروف بالعكوك، وهو قوله: شبابٌ كأن لم يكن ... وشيب كأن لم يزل وليس بينهما إلا تغيير يسير كما تراه، وهذا البيت من جملة أبيات - وسيأتي ذكر قائله بعد هذا إن شاء الله تعالى. وكانت ولادة الحافظ المذكور في أول المحرم سنة تسع وتسعين وأربعمائة. وتوفي ليلة الاثنين الحادي عشر من رجب سنة إحدى وسبعين وخمسمائة بدمشق، ودفن عند والده وأهله بمقابر باب الصغير، رحمهم الله تعالى. وصلى عليه الشيخ قطب الدين النيسابوري - الآتي ذكره إن شاء الله تعالى - وحضر الصلاة عليه السلطان صلاح الدين، رحمه الله تعالى. (115) وتوفي ولده أبو محمد القاسم الملقب بهاء الدين ابن الحافظ (1) في التاسع من صفر سنة ستمائة بدمشق، ودفن من يومه خارج باب النصر، ومولده بها ليلة النصف من جمادى الأولى سنة سبع وعشرين وخمسمائة، رحمه الله تعالى، وكان أيضاً حافظاً (2) . (116) وتوفي أخوه الفقيه المحدث الفاضل صائن الدين هبة الدين بن الحسن بن هبة الله يوم الأحد الثالث والعشرين من شعبان سنة ثلاث وستين وخمسمائة بدمشق، ودفن من الغد بمقبرة باب الصغير، ومولده على ما ذكر أخوه الحافظ المذكور في العشر الأول من رجب سنة ثمان وثمانين وأربعمائة، وقدم بغداد سنة عشرين وخمسمائة، وقرأ على أسعد الميهني - المقدم ذكره (3) - وابن برهان، وعاد إلى دمشق، ودرس بالمقصورة الغربية في جامع دمشق وأفتى وحّدث، رحمه الله تعالى.   (1) ذيل الروضتين: 47. (2) هنا تنتهي الترجمة في ل س. (3) المجلد الأول: 207. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 311 442 - (1) السمسماني أبو الحسن علي بن عبيد الله بن عبد الغفار السمسماني اللغوي؛ كان قيماً بعلم اللغة (2) مشهوراً؛ وكتب الأدب التي عليها خطه مرغوبٌ فيها، ولا أعرف شيئاً من أحواله سوى أنه سمع أبا بكر ابن شاذان وأبا الفضل ابن المأمون؛ وذكره الخطيب في تاريخه وقال (3) : كتبت عنه. وكان صدوقاً، وكتب الكثير، وخطه في غاية الإتقان والصحة، وتصدر ببغداد للرواية وإقراء الأدب، وأكثر كتبه بخطه، وحصلت بعده عند ابن دينار الواسطي الأديب وأدركها الغرق ففسد أكثرها. وتوفي يوم الأربعاء رابع المحرم سنة خمس عشرة وأربعمائة، رحمه الله تعالى. ولا أعرف نسبته إلى ماذا هي، وهي بكسر السينين المهملتين وسكون الميم الأولى وفتح الثانية وبالنون، ثم وجدت في " درة الغواص " للحريري ما مثاله (4) : ويقولون في النسبة إلى الفاكهة والباقلاء والسمسم: فاكهاني، وباقلاني، وسمسماني، فيخطئون فيه، وبين وجه الخطأ، ثم قال بعد ذلك: ووجه الكلام أن يقال في المنسوب إلى السمسم سمسمي، وتمم الكلام إلى آخره. فلما وقفت على هذا علمت أن نسبة أبي الحسن المذكور إلى السمسم، وأنه استعمل على اصطلاح الناس، والله أعلم.   (1) ترجمته في انباه الرواة 2: 288 ومعجم الأدباء 14: 58 وبغية الوعاة: 343، وهذه الترجمة متابعة تماماً لما في المسودة. (2) ر: الفقه. (3) انظر تاريخ بغداد 12: 10. (4) درة الغواص: 84. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 312 (1) 443 الشريف المرتضى الشريف المرتضى أبو القاسم علي بن الطاهر ذي المناقب أبي أحمد الحسين بن موسى بن محمد بن موسى بن إبراهيم بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه؛ كان نقيب الطالبيين وكان إماماً في علم الكلام والأدب (2) والشعر، وهو أخو الشريف الرضي - وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى - وله تصانيف على مذهب الشيعة ومقالة في أصول الدين، وله ديوان شعر كبير (3) ، وإذا وصف الطيف أجاد فيه، وقد استعمله في كثير من المواضع. وقد اختلف الناس في كتاب " نهج البلاغة " المجموع من كلام الإمام علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، هل هو (4) جمعه أم جمع أخيه الرضي وقد قيل: إنه ليس من كلام علي، وإنما الذي جمعه ونسبه إليه هو الذي وضعه، والله أعلم. وله الكتاب الذي سماه " الغرر والدرر " (5) وهي مجالس أملاها تشتمل على فنون من معاني الأدب تكلم فيها على النحو واللغة وغير ذلك، وهو كتاب ممتع يدل على فضل كثير، وتوسع في الاطلاع على العلوم. وذكره ابن بسام الأندلسي في أواخر كتاب " الذخيرة " فقال: كان هذا الشريف إمام أئمة العراق، بين الاختلاف والاتفاق، إليه فزع علماؤها، وعنه   (1) ترجم له في انباه الرواة 2: 249 وفي الحاشية ثبت بمصادر كثيرة؛ يضاف إليها بعض المصادر الشيعية مثل روضات الجنات والذريعة وغيرهما، وانظر أدب المرتضى للدكتور عبد الرزاق محيي الدين (بغداد 1957) ؛ وقد استوفت المسودة هذه الترجمة. (2) لي: والآداب. (3) زاد في س: في ثلاثة أجزاء، وسقطت لفظة " كبير " من ر. (4) لي: هو الذي. (5) ر: الدرر والغرر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 313 أخذ عظماؤها، صاحب مدارسها، وجماع شاردها وآنسها، ممن سارت أخباره، وعرفت له أشعاره، وحمدت في ذات الله مآثره وآثاره، إلى تواليفه في الدين، وتصانيفه في أحكام المسلمين، مما يشهد أنه فرع تلك الأصول، ومن أهل ذلك البيت الجليل، وأورد له عدة مقاطيع، فمن ذلك قوله (1) : ضن عني بالنزر إذ أنا يقظا ... ن وأعطى كثيره في المنام والتقينا كما اشتهينا ولا عي ... ب سوى أن ذاك في الأحلام وإذا كانت الملاقاة ليلاً ... فالليالي خيرٌ من الأيام قلت: وهذا من قول أبي تمام الطائي (2) : استزارته فكرتي في المنام ... فأتاني في خفية واكتتام يا لها زورةً تلذذت الأر ... واح فيها سراً من الأجسام مجلسٌ لم يكن لنا فيه عيب ... غير أنا في دعوة الأحلام ومن شعره أيضاً (3) : يا خليلي من ذؤابة قيسٍ ... في التصابي رياضة الأخلاق عللاني بذكرهم تطرباني ... واسقياني دمعي بكأسٍ دهاق وخذا النوم من جفوني فإني ... قد خلعت الكرى على العشاق فلما وصلت هذه الأبيات إلى البصروي الشاعر قال: المرتضى قد خلع ما لا يملك على من لا يقبل. ومن شعره أيضاً: ولما تفرقنا كما شاءت النوى ... تبين ودٌ خالصٌ وتودد   (1) ديوانه 3: 270. (2) ديوان أبي تمام 4: 262. (3) ديوان المرتضى 2: 342؛ وهذا الشعر والذي قبله سقط من س ل لي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 314 كأني وقد سار الخليط عشيةً ... أخو جنةً مما أقوم وأقعد ومعنى (1) البيت الأول مأخوذ من قول المتنبي في مديح عضد الدولة بن بويه من جملة قصيدته الكافية التي ودعه بها لما عاد من خدمته من شيراز إلى العراق وقتل في الطريق، كما هو مشروح في ترجمة المتنبي وهو (2) : وفي الأحباب مختصٌ بوجدٍ ... وآخر يدعي معه اشتراكا إذا اشتبهت دموعٌ في خدودٍ ... تبين من بكى ممن تباكى ونقلت من كتاب " جنان الجنان ورياض الأذهان " الذي صنفه القاضي الرشيد أبو الحسين أحمد المعروف بابن الزبير الغساني - المقدم ذكره (3) - ما نسبه إلى الشريف المرتضى المذكور، وهو (4) : بيني وبين عواذلي ... في الحب أطراف الرماح أنا خارجيٌّ في الهوى ... لا حكم إلا للملاح ونسب إليه أيضاً: مولاي يا بدر كل داجية ... خذ بيدي قد وقعت في اللجج حسنك ما تنقضي عجائبه ... كالبحر حدث عنه بلا حرج بحق من خط عارضيك ومن ... سلط سلطانها على المهج مد يديك الكريمتين معي ... ثم ادع لي من هواك بالفرج وذكر له أيضاً: قل لمن خده من اللحظ دامٍ ... رق لي من جوانح فيك تدمى   (1) هنا كتب في المسودة " هاهنا التخريجة " ووجدته قد ألحق التخريجة بعد ورقة؛ وكله حتى قوله ... إما وإما: سقط من س ل لي. (2) ديوان المتنبي: 586. (3) المجلد الأول: 160. (4) هذه المقطوعة والمقطوعتان التاليتان في ديوان المرتضى 1: 211، 174، 3: 222. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 315 يا سقيم الجفون من غير سقم ... لا تلمني إن مت منهن سقما أنا خاطرت في هواك بقلبٍ ... ركب البحر فيك إما وإما وحكى الخطيب أبو زكرياء يحيى بن علي التبريزي اللغوي أن أبا الحسن علي ابن أحمد بن علي بن سلك الفالي الأديب كانت له نسخة بكتاب " الجمهرة " لابن دريد في غاية الجودة، فدعته الحاجة إلى بيعها فباعها واشتراها الشريف المرتضى أبو القاسم المذكور بستين ديناراً، وتصفحها فوجد بها أبياتاً بخط بائعها أبي الحسن الفالي وهي: أنست بها عشرين حولاً وبعتها ... لقد طال وجدي بعدها وحنيني وما كان ظني أنني سأبيعها ... ولو خلدتني في السجون ديوني ولكن لضعفٍ وافتقارٍ وصبيةٍ ... صغارٍ عليهم تستهل شؤوني فقلت ولم أملك سوابق عبرةٍ ... مقالة مكوي الفؤاد حزين: " وقد تخرج الحاجات يا أم مالك ... كرائم من ربٍ بهن ضنين " (1) وهذا الفالي منسوب إلى فالة - بالفاء - وهي بلدة بخوزستان قريبة من إيذج، أقام بالبصرة لمدة طويلة، وسمع بها من أبي عمرو ابن عبد الواحد الهاشمي وأبي الحسن ابن النجاد وشيوخ ذلك الوقت، وقدم بغداد واستوطنها وحدث بها. وأما جده سلك فهو بفتح السين المهملة وتشديد اللام وفتحها وبعدها كاف، هكذا وجدته مقيداً، ورأيت في موضع آخر بكسر السين وسكون اللام، والله أعلم بالصواب. وملح الشريف المرتضى وفضائله كثيرة. وكانت ولادته في سنة خمس وخمسين وثلثمائة. وتوفي يوم الأحد الخامس والعشرين من شهر ربيع الأول سنة ست وثلاثين وأربعمائة ببغداد، ودفن في داره عشية ذلك النهار، رحمه الله تعالى. (117) وكانت وفاة أبي الحسن الفالي المذكور في ذي القعدة سنة ثمان وأربعين   (1) زاد بعده في المطبوعة: " فأرجع النسخة إليه وترك له الدنانير، رحمه الله تعالى " ولم يرد هذا في أصل المؤلف أو في سائر المخطوطات. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 316 وأربعمائة ليلة الجمعة ثامن الشهر المذكور، ودفن في مقبرة جامع المنصور، وكان أديباً شاعراً. روى عنه الخطيب أبو بكر صاحب " تاريخ بغداد " (1) ، وأبو الحسين ابن الطيوري وغيرهما، رحمهم الله أجمعين. 444 - (2) الخلعي أبو الحسين علي بن الحسن بن الحسين بن محمد القاضي، المعروف بالخلعي، الموصلي الأصل المصري الشافعي، صاحب " الخلعيات " المنسوبة إليه؛ سمع أبا الحسن الحوفي وأبا محمد ابن النحاس وأبا الفتح العداس وأبا سعد الماليني وأبا القاسم الأهوازي وغيرهم. قال القاضي عياض اليحصبي: سألت أبا علي الصدفي عنه، وكان قد لقيه لما رحل إلى البلاد الشرقية، فقال: فقيه له تواليف، ولي القضاء وقضى يوماً واحداً واستعفى وانزوى بالقرافة الصغرى، وكان مسند مصر بعد الحبال. وذكره القاضي أبو بكر ابن العربي فقال: شيخ معتزل في القرافة له علو في الرواية وعنده فوائد، وقد حدث عنه الحميدي وكنى عنه بالقرافي. وقال غيره: ولي الخلعي قضاء فامية، وخرج له أبو نصر أحمد بن الحسن الشيرازي أجزاء من مسموعاته، آخر من رواها عنه أبو رفاعة، ونقلت منها عن   (1) تاريخ بغداد 12: 334. (2) ترجمته في طبقات السبكي 3: 296 وعبر الذهبي 3: 334 والشذرات 3: 398 والرسالة المستطرفة: 91، وقد تفاوتت هذه الترجمة في النسخ لأن المؤلف لحق تخريجة مستقلة بها، ولهذا كانت في س ل على النحو الآتي - بعد ذكر النسب - " كان محدثاً مكثراً وجمع له ابو نصر أحمد بن الحسن الشيرازي عشرين جزءاً أخرجها عنها وسماها الخليعات وهي المنسوبة إليه وغيرها ونقلت منها ... الخ " ثم ذكر ميلاده ووفاته؛ والمثبت هنا ثبت في ر لي وسقط بعضه من لي، وهو مطابق لما في المسودة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 317 الأصمعي، قال: كان نقش خاتم أبي عمرو ابن العلاء: وإن امرءاً دنياه أكبر همه ... لمستمسكٌ منها بحبل غرور فسألته عن ذلك فقال: كنت في ضيعتي نصف النهار أدور فيها، فسمعت قائلاً يقول هذا البيت ونظرت فلم أر أحداً فكتبته على خاتمي. قال أبو العباس ثعلب: هذا البيت لهانئ بن توبة بن سحيم بن مرة المعروف بالشويعر الحنفي. وقال الحافظ أبو طاهر السلفي: كان أبو الحسن الخلعي إذا سمع عليه الحديث يختم مجالسه بهذا الدعاء: اللهم ما مننت به فتممه، وما أنعمت به فلا تسلبه، وما سترته فلا تهتكه، وما علمته فاغفره. وكانت ولادة الخلعي في المحرم (1) سنة خمس وأربعمائة بمصر. وتوفي بها في ثامن عشر ذي الحجة يوم السبت سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة، وقيل في السادس والعشرين من الشهر المذكور. وتوفي أبوه في شوال سنة ثمان وأربعين وأربعمائة، رحمهما الله تعالى. والخلعي: بكسر الخاء المعجمة وفتح اللام وبعدها عين مهملة، هذه النسبة إلى الخلع ونسب إليها أبو الحسن المذكور لأنه كان يبيع بمصر الخلع لأملاك مصر، فاشتهر بذلك وعرف به. وأما القرافة: بفتح القاف والراء المخففة وبعد الألف فاء، فهما قرافتان الكبرى منهما ظاهر مصر، والصغرى ظاهر القاهرة، وبها قبر الإمام الشافعي، رضي الله عنه. وبنو قرافة: فخذ من المعافر بني يعفر، نزلوا هذين المكانين فنسبا إليه. وفامية: بالفاء وبعد الألف ميم مكسورة وبعدها ياء مثناة من تحتها ثم هاء قد يزاد فيها الألف فيقال: أفامية، وهي قلعة ورستاق من أعمال حلب الآن.   (1) كتب في تخريجة المسودة عند هذا الحد: " وهو مذكور في الأصل فينقل منه ولا حاجة إلى ذكره هنا " - يعني الكلام في ميلاده ووفاته؛ ووهم ناسخ ر فكتب: " وكانت ولادة الخلعي في المحرم وهو مذكور في الأصل " ظاناً أن ذلك كله من صلب الترجمة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 318 445 - (1) الشابشتي أبو الحسين علي بن محمد الشابشتي (2) الكاتب؛ كان أديباً فاضلاً، تعلق بخدمة العزيز بن المعز العبيدي صاحب مصر، فولاه أمر خزانة كتبه، وجعله دفترخوان يقرأ له الكتب ويجالسه وينادمه، وكان حلو المحاورة، لطيف المعاشرة، وله مصنفات حسنة، منها: كتاب " الديارات " ذكر فيه كل دير بالعراق والموصل والشام والجزيرة والديار المصرية وجميع الأشعار المقولة في كل دير وما جرى فيه، وهو على أسلوب " الديارات " للخالديين وأبي الفرج الأصبهاني، مع أن هذه الديارات قد جمع فيها تواليف كثيرة، وله كتاب " اليسر بعد العسر " وكتاب " مراتب الفقهاء " وكتاب " التوقيف والتخويف " وله مكاتبات ومراسلات مضمنة شعراً وحكماً، وغير ذلك من المصنفات في الأدب وغيره. وتوفي سنة تسعين وثلثمائة، وقال الأمير المختار المعروف بالمسبحي: توفي سنة ثمان وثمانين وثلثمائة، وزاد غيره فقال: ليلة الثلاثاء منتصف صفر، رحمه الله تعالى، وكانت وفاته بمصر. والشابشتي: بفتح الشين المعجمة وبعد الألف باء موحدة مضمومة ثم شين معجمة ساكنة وبعدها تاء مثناة من فوقها - كشفت عن هذه النسبة كثيراً فلم أعرفها، ثم بعد هذا بسنين كثيرة وجدت في كتاب " التاجي " تصنيف أبي إسحاق الصابي أن الشابشتي حاجب وشمكير بن زيار الديلمي، قتل في سنة   (1) انظر معجم الأدباء 18: 16 ومراصد الاطلاع 1: 427 والفوات 2: 194 باسم " محمد بن إسحاق " وهذه الترجمة موجزة كثيراص في م، وقد سقطت تحشيات المسودة من س ل لي كما هو الحال في معظم ما جاء في هوامش المسودة أو بين سطور ما بالنسبة لهذه النسخ. (2) لي: ابن الشابشتي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 319 ست وعشرين وثلثمائة بالقرب من أصبهان. قلت: وهذا اسم (1) ديلمي يشبه النسبة وليس بنسبة، ويحتمل أن يكون صاحب هذه الترجمة منسوباً إليه، بأن يكون أحد أجداده من أصحابه فنسب إليه، وبقي النسب على أولاده كذلك. وهكذا وشمكير هو والد الأمير قابوس - الآتي ذكره إن شاء الله تعالى. 446 - (2) القابسي أبو الحسن علي بن محمد بن خلف المعافري القروي، المعروف بابن القابسي (3) ؛ كان إماماً في علم الحديث ومتونه وأسانيده وجميع ما يتعلق به، وكان للناس فيه اعتقاد كثير، وصنف في الحديث كتاب " الملخص " جمع فيه ما اتصل إسناده من حديث مالك بن أنس، رضي الله عنه، في كتاب " الموطإ " رواية أبي عبد الله عبد الرحمن بن القاسم المصري، وهو على صغر حجمه جيد في بابه. وكانت ولادة أبي الحسن المذكور في يوم الاثنين لست مضين من رجب سنة أربع وعشرين وثلثمائة، ورحل إلى الشرق يوم السبت لعشر مضين من شهر رمضان سنة اثنتين وخمسين وثلثمائة، وحج سنة ثلاث وخمسين، وسمع كتاب البخاري بمكة من أبي زيد، ورجع إلى القيروان فوصلها غداة الأربعاء أول شعبان أو ثانيه سنة سبع وخمسين كذا قاله أبو عبد الله مالك بن وهيب. وذكر الحافظ السلفي في " معجم السفر " أن شخصاً قال في مجلس القابسي وهو   (1) ر: الاسم. (2) ترجمته في ترتيب المدارك 4: 616 زالديباج المذهب: 199 ونكت الهميان: 217 ومعالم الايمان 2: 168 وعبر الذهبي 3: 85 والشذرات 3: 168. (3) زاد في ر: الفقيه المالكي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 320 بالقيروان: ما قصر المتنبي في معنى قوله (1) : يراد من القلب نسيانكم ... وتأبى الطباع على الناقل فقال له: يا مسكين أين أنت عن قوله تعالى: (لا تبديل لخلق الله، ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون) (الروم: 30) (2) . وتوفي ليلة الأربعاء ثالث شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وأربعمائة، ودفن يوم الأربعاء وقت العصر بالقيروان، وبات عند قبره من الناس خلق عظيم، وضربت الأخبية، وأقبل الشعراء بالمراثي، رحمه الله تعالى. ولما طعن في السن كان كثيراً ما ينشد قول زهير بن أبي سلمى المزني (3) : سئمت تكاليف الحياة، ومن يعش ... ثمانين حولاً لا أبا لك يسأم وقال أبو بكر الصقلي: قال لي أبو الحسن القابسي: كذب علي وعليك وسموني بالقابسي وما أنا بالقابسي، وإنما السبب في ذلك أن عمي كان يشد عمامته شدة قابسية فقيل لعمي " قابسي " واشتهرنا بذلك، وإلا فأنا قروي؛ وأنت، فلما دخل أبوك مسافراً إلى صقلية نسب إليها فقيل " الصقلي ". ومما سمع القاضي يقول أول جلوسه للمناظرة بأثر صوت أبي محمد: لعمر أبيك ما نسب المعلى ... إلى كرم وفي الدنيا كريم ولكن البلاد إذا اقشعرت ... وصوح نبتها رعي الهشيم ثم بكى حتى أبكى القوم وقال: أنا الهشيم أنا الهشيم، والله لو ان في الأرض خضراء ما رعيت أنا. وأبو محمد هذا أبو محمد عبد الله بن أبي هاشم التجيبي شيخه الذي روى عنه، وهو قروي. وقال أبو عمرو الداني: كان شيخنا أبو الحسن - يعني القابسي - يقرأ " الملخص " - بكسر الخاء - يجعله فاعلاً، يريد   (1) ديوان المتنبي: 259. (2) ورحل ... يعلمون: سقط من س ل. (3) ديوان زهير: 29. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 321 انه يلخص المتصل من حديث مالك، رحمه الله تعالى، وتقدير الترجمة: ما اتصل من حديث مالك للمستحفظين (1) . والقابسي: بفتح القاف وبعد الألف باء موحدة مكسورة ثم سين مهملة، هذه النسبة إلى قابس، وهي مدينة بإفريقية بالقرب من المهدية، ولما فتحها الأمير تميم بن المعز بن باديس - المقدم ذكره (2) - قال ابن محمد خطيب سوسة قصيدة طائلة أولها: ضحك الزمان وكان يدعى عابساً ... لما فتحت بحد عزمك قابسا أنكحتها عذراء ما أصدقتها ... إلا قناً وبواتراً وفوارسا الله يعلم ما جنيت ثمارها ... إلا وكان أبوك قبلك غارسا من كان بالسمر العوالي خاطباً ... أضحت له بيض الحصون عرائسا 447 (3) ابن القطاع أبو القاسم علي بن جعفر بن علي بن محمد بن عبد الله بن الحسين بن أحمد بن محمد ابن زيادة الله بن محمد بن الأغلب السعدي بن إبراهيم بن الأغلب بن سالم بن عقال ابن خفاجة بن عبد الله بن عباد بن محرث (4) بن سعد بن حرام (5) بن سعد بن مالك بن سعد بن زيد مناة بن تميم بن مر بن أد بن طابخة بن إلياس بم مضر ابن نزار بن معد بن عدنان، المعروف بابن القطاع السعدي، الصقلي المولد   (1) وقال أبو بكر ... للمسحفظين ثبت في ر، وموضعه في المسودة: " ها هنا التخريجة ". (2) المجلد الأول: 304. (3) ترجمته في انباه الرواة 2: 236 وفي الحاشية ذكر لمصادر أخرى. (4) ر: محرز؛ ل س: محارب. (5) س لي: حزام. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 322 المصري الدار والوفاة، اللغوي؛ هكذا وجدت هذا النسب بخطي في مسوداتي، وما أعلم من أين نقلته. والمنقول من خطه أنه علي بن جعفر بن علي بن محمد بن عبد الله بن الحسين الشنتريني (1) السعدي، أحد بني سعد بن زيد مناة بن تميم، والله أعلم. كان أحد أئمة الأدب خصوصاً اللغة، وله تصانيف نافعة، منها كتاب " الأفعال " أحسن فيه كل الإحسان، وهو أجود من " الأفعال " لابن القوطية وإن كان ذلك قد سبقه إليه، وله كتاب " أبنية الأسماء " جمع فيه فأوعب، وفيه دلالة على كثرة اطلاعه، وله عروض حسن جيد، وكتاب " الدرة الخطيرة في المختار من شعراء الجزيرة " (2) وكتاب " لمح الملح " (3) جمع فيه خلقاً من شعراء الأندلس. وكانت ولادته في العاشر من صفر سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة بصقلية، وقرأ الأدب على فضلائها كابن البر اللغوي (4) وأمثاله، وأجاد في النحو غاية الإجادة، ورحل عن صقلية لما أشرف على تملكها الفرنج (5) ، ووصل إلى مصر في حدود سنة خمسمائة، وبالغ أهل مصر في إكرامه، وكان ينسب إلى التساهل في الرواية، ونظم الشعر في سنة ست وأربعين، ومن شعره في ألثغ: وشادنٍ في لسانه عقدٌ ... حلت عقودي وأوهنت جلدي عابوه جهلاً بها فقلت لهم ... أما سمعتم بالنفث في العقد وله من جملة قصيدة: فلا تنفدن العمر في طلب الصبا ... ولا تشقين يوماً بسعدى ولا نعم   (1) ر: الشيري؛ والكلمة قد ذهب شطر منها في المسودة. (2) هو في تراجم شعراء جزيرة صقلية، وقد بقيت منه ملخصات ومختصرات ونقول متفرقة في المصادر. (3) اقتبس صاحب مسالك الأبصار قطعة من تراجم هذا الكتاب. (4) ابن البر الصقلي: أبو بكر محمد بن علي بن الحسن التميمي، من أكبر علماء اللغة بصقلية (انظر الانباه 3: 190 والحاشية) . (5) لي: الفرنج على تملكها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 323 ولا تندبن أطلال مية باللوى ولا تسفحن ماء الشؤون على رسم (1) فإن قصارى المرء إدراك حاجةٍ وتبقى مذمات الأحاديث والإثم ومن شعره في غلام اسمه حمزة: يا من رمى النار في فؤادي ... وأنبط العين بالبكاء اسمك تصحيفه بقلبي (2) ... وفي ثناياك برء دائي اردد سلامي فإن نفسي ... لم يبق منها سوى الذماء وارفق بصبٍ أتى ذليلاً ... قد مزج اليأس بالرجاء أنهكه في الهوى التجني ... فصار في رقة الهواء وله شعر كثير. [وكانت ولادته في سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة، هكذا ذكره في كتابه " الدرة الخطيرة في شعراء الجزيرة " عند ذكر ترجمة نفسه، رحمه الله تعالى، في أواخر الكتاب المذكور، ورأيته بخطه] (3) . وتوفي بمصر في صفر سنة خمس عشرة وخمسمائة، رحمه الله تعالى. وقد تقدم الكلام على السعدي والصقلي.   (1) سقط هذا البيت من المسودة والنسخة لي. (2) يريد: " جمرة " وهو تصحيف حمزة. (3) زيادة من ر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 324 (1) 448 ابن حزم الظاهري أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم بن غالب بن صالح بن معدان بن سفيان بن يزيد، مولى يزيد بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس الأموي، وجده يزيد أول من أسلم من أجداده، وأصله من فارس، وجده خلف أول من دخل الأندلس من آبائه. ومولده بقرطبة من بلاد الأندلس يوم الأربعاء قبل طلوع الشمس سلخ شهر رمضان سنة أربع وثمانين وثلثمائة في الجانب الشرقي منها. وكان حافظاً عالماً بعلوم الحديث وفقهه، مستنبطاً للأحكام من الكتاب والسنة بعد أن كان شافعي المذهب، فانتقل إلى مذهب أهل الظاهر، وكان متفنناً في علوم جمة، عاملاً بعلمه، زاهداً في الدنيا بعد الرياسة التي كانت له ولأبيه من قبله في الوزارة وتدبير الممالك، متواضعاً ذا فضائل جمة وتواليف كثيرة، وجمع من الكتب في علوم الحديث والمصنفات والمسندات شيئاً كثيراً، وسمع سماعاً جماً، وألف في فقه الحديث كتاباً سماه " الإيصال إلى فهم كتاب الخصال الجامعة (2) لحمل شرائع الإسلام في الواجب والحلال والحرام والسنة والإجماع " أورد فيه أقوال الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أئمة المسلمين، رضي الله عنهم أجمعين، في مسائل الفقه، والحجة لكل طائفة وعليها، وهو كتاب كبير، وله كتاب " الإحكام لأصول الأحكام " في غاية التقصي وإيراد   (1) ترجمته في جذوة المقتبس: 290 وبغية الملتمس (رقم 1204) والذخيرة 1/1: 140 وطبقات صاعد: 86 والمطمح: 45 والمغرب 1: 354 والمعجب: 30 ومعجم الأدباء 12: 235 وتاريخ الحكماء: 156 والنفح 2: 77 وتذكرة الحفاظ: 1146 وعبر الذهبي 3: 239 والشذرات 3: 299، وفي طوق الحمامة مادة صالحة في شئون حياته وأخباره، وقد كتبت عنه في العصر الحديث دراسات متعددة، ونشر من آثاره عدد غير قليل؛ وقد تابع ابن خلكان في هذه الترجمة ما كتبه الحميدي وابن بشكوال، وهي مستوفاة في المسودة بكاملها. (2) ر: كتاب الأفضال إلى الفهم وكتاب الخصال البديعة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 325 الحجج، وكتاب " الفصل في الملل في الأهواء والنِّحل " وكتاب في الإجماع ومسائله على أبواب الفقه، وكتاب في مراتب العلوم وكيفية طلبها وتعلق بعضها ببعض، وكتاب " إظهار تبديل اليهود والنصارى للتوراة والإنجيل وبيان تناقض ما بأيديهم من ذلك مما لا يحتمل التأويل " وهذا معنى لم يسبق إليه، كتاب " التقريب بحد المنطق والمدخل إليه بالألفاظ العامية والأمثلة الفقهية " فإنه سلك في بيانه وإزالة سوء الظن عنه وتكذيب الممخرقين به طريقة لم يسلكها أحد قبله، وكان شيخه في المنطق محمد بن الحسن المذحجي القرطبي المعروف بابن الكتاني (1) ، وكان أديباً شاعراً طبيباً له في الطب رسائل، وكتب في الأدب، ومات بعد الأربعمائة، ذكر ذلك ابن ماكولا في كتاب " الإكمال " في باب الكتامي والكتاني، نقلاً عن الحافظ أبي عبد الله الحميدي. وله كتاب صغير سماه " نقط العروس " جمع كل غريبة نادرة، وهو مفيد جداً. وقال ابن بشكوال في حقه (2) : كان أبو محمد أجمع أهل الأندلس قاطبة لعلوم الإسلام، وأوسعهم معرفةً مع توسعه في علم اللسان ووفور حظه من البلاغة والشعر والمعرفة بالسير والأخبار. أخبر ولده أبو رافع الفضل أنه اجتمع عنده بخط أبيه من تأليفه نحو أربعمائة مجلد، تشتمل على قريب من ثمانين ألف ورقة. وقال الحافظ أبو عبد الله محمد بن فتوح الحميدي (3) : ما رأينا مثله فيما اجتمع له من الذكاء وسرعة الحفظ وكرم النفس والتدين، وما رأيت من يقول الشعر على البديهة أسرع منه. ثم قال: أنشدني لنفسه: لئن أصبحت مرتحلاً بجسمي ... فروحي عندكم أبداً مقيم ولكن للعيان لطيف معنى ... له سأل المعاينة الكليم وله في المعنى:   (1) ترجمة ابن الكتاني في طبقات صاعد: 82 وابن أبي أصيبعة 2: 45 والجذوة: 45 والوافي 3: 16، 2: 348 والذيل والتكملة 6: 60 (مخطوطة باريس) وراجع مقدمة كتاب التشبيهات من شعار أهل الأندلس (بيروت 1966) . (2) الصلة: 395. (3) الجذوة: 291. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 326 يقول أخي شجاك رحيل جسمٍ ... وروحك ما له عنا رحيل فقلت له: المعاين مطمئن ... لذا طلب المعاينة الخليل وروى له الحافظ الحميدي أيضاً (1) : أقمنا ساعة ثم ارتحلنا ... وما يغني المشوق وقوف ساعه كأن الشمل لم يك ذا اجتماع ... إذا ما شتت البين اجتماعه وقال الحميدي أيضاً (2) : أنشدني أبو محمد علي بن أحمد بن حزم - يعني المذكور - لعبد الملك بن جهور: إن كانت الأبدان بائنةً ... فنفوس أهل الظرف تأتلف يا رب مفترقين قد جمعت ... قلبيهما الأقلام والصحف ومن شعره أيضاً (3) : وذي عذلٍ فيمن سباني حسنه ... يطيل ملامي في الهوى ويقول أفي حسن وجهٍ لاح لم تر غيره ... ولم تدر كيف الجسم أنت قتيل فقلت له أسرفت في اللوم ظالماً ... وعندي ردٌ لو أردت طويل ألم تر أني ظاهري وأنني ... على ما بدا حتى يقوم دليل وكانت بينه وبين أبي الوليد سليمان الباجي - المذكور في حرف السين (4) - مناظرات وما جرايات يطول شرحها، وكان كثير الوقوع في العلماء المتقدمين، لا يكاد يسلم أحد من لسانه، فنفرت عنه القلوب واستهدف لفقهاء وقته، فتمالأوا على بغضه وردوا قوله واجمعوا على تضليله وشنعوا عليه وحذروا سلاطينهم من   (1) لم ترد هذه القطعة في ترجمته في الجذوة. (2) الجذوة: 263. (3) حاشية س: ليست هذه الأبيات لأبي محمد رحمه الله بل لرجل آخر من ذريته؛ اه. (4) راجع الترجمة رقم: 275. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 327 فتنته ونهوا عوامهم عن الدنو إليه والأخذ منه، فأقصته الملوك وشردته عن بلاده حتى انتهى إلى بادية لبلة فتوفي بها آخر نهار الأحد لليلتين بقيتا من شعبان سنة ست وخمسين وأربعمائة، وقيل إنه توفي في منت ليشم، وهي قرية ابن حزم المذكور، رحمه الله تعالى. وفيه قال أبو العباس ابن العريف - المقدم ذكره (1) -: كان لسان ابن حزم وسيف الحجاج بن يوسف شقيقين، وإنما قال ذلك لكثرة وقوعه في الأئمة. (118) وكانت وفاة والده أبي عمر أحمد (2) في ذي القعدة سنة اثنتين وأربعمائة، وكان وزير الدولة العامرية، وهو من أهل العلم والأدب والخير والبلاغة، وقال ولده أبو محمد المذكور: أنشدني والدي الوزير في بعض وصاياه لي رحمه الله تعالى: إذا شئت أن تحيا غنياً فلا تكن ... على حالةٍ إلا رضيت بدونها وذكر الحميدي في كتاب " جذوة المقتبس " (3) أن الوزير المذكور كان جالساً بين يدي مخدومه المنصور أبي عامر محمد بن أبي عامر في بعض مجالسه العامة (4) ، فرفعت إليه رقعة استعطاف لأم رجل مسجون كان المنصور اعتقله حنقاً عليه لجرم استعظمه منه، فلما قرأها اشتد غضبه، وقال: ذكرتني والله به، وأخذ القلم وأراد أن يكتب: يصلب، فكتب: يطلق، ورمى الورقة إلى وزيره المذكور، وأخذ الوزير القلم وتناول الورقة وجعل يكتب بمقتضى التوقيع إلى صاحب الشرطة، فقال له المنصور: ما هذا الذي تكتب قال: بإطلاق فلان، فحرد، وقال: من أمر بهذا فناوله التوقيع، فلما رآه قال: وهمت، والله ليصلبن، ثم خط على التوقيع، وأراد أن يكتب " يصلب " فكتب " يطلق "، فأخذ الوزير الورقة، وأراد أن يكتب إلى الوالي بالإطلاق، فنظر إليه المنصور وغضب   (1) راجع الترجمة رقم: 68. (2) ترجمة أبي عمر والد ابن حزم في الجذوة: 117 وبغية الملتمس (رقم: 411) واعتاب الكتاب: 191. (3) الجذوة: 118. (4) الجذوة: للعامة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 328 أشد من الأول، وقال: من أمر بهذا فناوله التوقيع، فرأى الخط، فخط عليه، وأراد أن يكتب " يصلب " فكتب " يطلق "، وأخذ الوزير التوقيع وشرع في الكتابة إلى الوالي، فرآه المنصور فأنكر أكثر من المرتين الأوليين، فأراه خطه بالإطلاق، فلما رآه عجب من ذلك، وقال: نعم يطلق على رغمي، فمن أراد الله سبحانه إطلاقه لا أقدر أنا على منعه. (119) وكان لأبي محمد (1) ولد نبيه سريٌّ فاضل يقال له أبو رافع الفضل ابن أبي محمد علي، وكان في خدمة المعتمد بن عباد صاحب إشبيلية وغيرها من بلاد الأندلس، وكان المعتمد قد غضب على عمه أبي طالب عبد الجبار بن محمد بن إسماعيل بن عباد وهمَّ بقتله لأمرٍ رابه منه، فاستحضر وزراءه وقال لهم: من يعرف منكم في الخلفاء أو ملوك الطوائف من قتل عمه عندما هم بالقيام عليه فتقدم أبو رافع المذكور، وقال: ما نعرف أيدك الله إلا من عفا عن عمه بعد قيامه عليه، وهو إبراهيم بن المهدي عم المأمون من بني العباس، فقبله المعتمد بين عينيه وشكره، ثم أحضر عمه وبسطه وأحسن إليه. وقتل أبو رافع المذكور في وقعة الزلاقة مع مخدومه المعتمد في يوم الجمعة منتصف رجب سنة تسع وسبعين وأربعمائة - وقد استوفيت خبر هذه الواقعة في ترجمة يوسف بن تاشفين فلينظر هناك، وقد سبق ذكر إبراهيم بن المهدي في هذا الكتاب (2) - والله أعلم. ولبلة: بفتح اللامين، وبينهما باء موحدة ساكنة، وفي الأخير هاء ساكنة، بلدة بالأندلس (3) . ومنت ليشم: بفتح الميم وسكون النون وفتح التاء المثناة من فوقها وكسر   (1) من هنا إلى آخر الترجمة سقط من س ل، ما عدا التعريف بلبلة. (2) انظر المجلد الأول: 39. (3) لبلة (Niebla) : اسم لمدينة وكورة؛ وتقع المدينة على مسافة خمسين كيلومتراً إلى الغرب من إشبيلية، سقطت نهائياً في يد الفرنج سنة 655؛ وهي على نهر لهشر ويسمى اليوم Tinto؛ أما كورة لبلة فتمتد حتى حدود كورة اكشونبة الواقعة إلى شمالها (انظر العذري: 110 - 111) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 329 اللام وسكون الياء المثناة من تحتها وفتح الشين المعجمة وفي آخرها ميم، وهي قرية من أعمال لبلة كانت ملك ابن حزم المذكور، وكان يتردد إليها. 449 - (1) ابن سيده الحافظ أبو الحسن علي بن إسماعيل المعروف بابن سيده المرسي؛ كان إماماً في اللغة والعربية حافظاً لهما وقد جمع في ذلك جموعاً، من ذلك كتاب " المحكم " في اللغة، وهو كتاب كبير جامع مشتمل على أنواع اللغة، وله كتاب " المخصص " في اللغة أيضاً وهو كبير، وكتاب " الأنيق " في شرح الحماسة في ست مجلدات، وغير ذلك من المصنفات النافعة. وكان ضريراً، وأبوه ضريراً، وكان أبوه أيضاً قيماً بعلم اللغة، وعليه اشتغل ولده في أول أمره، ثم على أبي العلاء صاعد البغدادي - المقدم ذكره - وقرأ أيضاً على أبي عمر الطلمنكي، قال الطلمنكي: دخلت مرسية فتشبث بي أهلها يسمعون علي " غريب المصنف " فقلت لهم: انظروا لي من يقرأ لكم وأمسك أنا كتابي، فأتوني برجل أعمى يعرف بابن سيده، فقرأه علي من أوله إلى آخره، فتعجبت من حفظه. وكان له في الشعر حظ وتصرف. وتوفي بحضرة دانية عشية يوم الأحد لأربع بقين من شهر ربيع الآخر سنة ثمان وخمسين وأربعمائة، وعمره ستون سنة أو نحوها. رأيت على ظهر مجلد من " المحكم " بخط بعض فضلاء الأندلس أن ابن سيده المذكور كان يوم الجمعة قبل يوم الأحد المذكور صحيحاً سوياً إلى وقت صلاة المغرب، فدخل المتوضأ فأخرج منه وقد سقط لسانه وانقطع كلامه، فبقي على تلك الحال إلى العصر من   (1) ترجمته في انباه الرواة 2: 225، ومصادر أخرى في الحاشية، وانظر النفح 4: 27 وعبر الذهبي 3: 243؛ وترجمته مستوفاة في المسودة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 330 يوم الأحد ثم توفي، رحمه الله تعالى؛ وقيل سنة ثمان وأربعين وأربعمائة، والأول أصح وأشهر. وسيده: بكسر السين المهملة وسكون الياء المثناة من تحتها وفتح الدال المهملة وبعدها هاء ساكنة. والمرسي: بضم الميم وسكون الراء وبعدها سين مهملة، هذه النسبة إلى مرسية، وهي مدينة في شرق الأندلس. والطلمنكي: بفتح الطاء المهملة واللام والميم وسكون النون وبعدها كاف، هذه النسبة إلى طلمنكة وهي مدينة في غرب الأندلس (1) . ودانية: بفتح الدال المهملة وبعد الألف نون مكسورة ثم ياء مثناة من تحتها مفتوحة وبعدها هاء ساكنة، وهي مدينة في شرق الأندلس أيضاً. 450 - (2) أبو الحسن الحصري أبو الحسن علي بن عبد الغني الفهري المقرئ الضرير الحصري القيرواني الشاعر المشهور. قال ابن بسام صاحب " الذخيرة " (3) في حقه: كان بحر براعة، ورأس صناعة، وزعيم جماعة، طرأ على جزيرة الأندلس منتصف المائة الخامسة من الهجرة بعد خراب وطنه من القيروان، والأدب يومئذ بأفقنا نافق السوق،   (1) طلمكنة (Salamanca) : إلى الغرب من وادي الحجارة، قال الحميري: بينها وبين وادي الحجارة عشرون ميلاً وربما كان الأصح أن يقال إنها من موسطة الأندلس. (2) ترجمته في الجذوة: 296 وبغية الملتمس (رقم: 1229) ومعجم الأدباء 14: 39 ونكت الهميان: 113 وعبر الذهبي 3: 321 والشذرات 3: 385؛ وقد أوردت المسودة هذه الترجمة كاملة. (3) الذخير 1/4: 192. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 331 معمور الطريق، فتهادته ملوك طوائفها تهادي الرياض بالنسيم، وتنافسوا فيه تنافس الديار في الأنس المقيم، على أنه كان فيما بلغني ضيق العطن، مشهور اللسن، يتلفت إلى الهجاء تلفت الظمأن إلى الماء، ولكنه طوي على غره (1) ، واحتمل بين زمانته وبعد قطره، ولما خلع ملوك الطوائف بأفقنا اشتملت عليه مدينة طنجة، وقد ضاق ذرعه، وتراجع طبعه. قلت: وهذا أبو الحسن ابن خالة أبي إسحاق الحصري صاحب " زهر الآداب "؛ وذكره ابن بشكوال في كتاب " الصلة " (2) والحميدي أيضاً، وقال (3) : كان عالماً بالقراءات وطرقها، وأقرأ الناس القرآن الكريم بسبتة وغيرها، وله قصيدة نظمها في قراءة نافع عدد أبياتها مائتان وتسعة (4) ، وله ديوان شعر، فمن قصائده السائرة القصيدة التي أولها: يا ليل الصب (5) متى غده ... أقيام الساعة موعده رقد السمار فأرقه ... أسفٌ للبين يردده وهي مشهورة (6) فلا حاجة إلى إيرادها. وقد وازنها صاحبنا الفقيه نجم الدين موسى بن محمد بن موسى بن أحمد بن عيسى الكناني أبو الفضائل المعروف بالقمراوي، رحمه الله تعالى (7) - والقمراوي بفتح القاف وسكون الميم وبعد الراء ألف ثم واو، هذه النسبة إلى قمراء وهي ضيعة بالشام من أعمال صرخد - والأبيات: قد مل مريضك عوده ... ورثى لأسيرك حسده   (1) يقال طويت فلاناً على غره: أي لبسته على ذحل. (2) الصلة: 410. (3) انظر الجذوة: 296، قلت: وابن خلكان ينقل عن ابن بشككوال لا عن الحميدي؛ فإن ابن بشكوال زاد على ما ذكره الحميدي في ترجمة المصري، وهذه الزيادة هي المنقولة هنا. (4) لي: وتسعة أبيات. (5) كذا ضبطها بالشكل في المسودة. (6) ر: شهيرة (7) بعدها في المسودة: بأبيات من جملتها، وفوقها خط خفيف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 332 لم يبق جفاك سوى نفسٍ ... زفرات الشوق تصعده هاروت يعنعن في السح ... ر إلى عينيك ويسنده وإذا أغمدت اللحظ فتك ... ت فكيف وأنت تجرده ومنها: كم سهل خدك وجه الرضا ... والحاجب منك يعقده ما أشرك فيك القلب فلم ... في نار الهجر تخلده ومن شعر الحصري أيضاً: أقول له وقد حيا بكأسٍ ... لها من مسك ريقته ختام أمن خديك تعصر قال كلا ... متى عصرت من الورد المدام ولما كان مقيماً بمدينة طنجة أرسل غلامه إلى المعتمد بن عباد صاحب إشبيلية، واسمها في بلادهم حمص، فأبطأ عنه، وبلغه أن المعتمد ما احتفل به، فعمل: نبه الركب الهجوعا ... ولم الدهر الفجوعا حمصٌ الجنة قالت ... لغلامي لا رجوعا رحم الله غلامي ... مات في الجنة جوعا وقد التزم في هذه الأبيات لزوم ما لا يلزم. وحكى تاج الدين العلا أبو زيد المعروف بالنسابة، قال: حدثني أبو أصبغ نباتة ابن الأصبغ بن زيد بن محمد الحارثي الأندلسي عن جده زيد بن محمد، قال: بعث المعتمد بن عباد صاحب إشبيلية إلى أبي العرب الزبيري خمسمائة دينار، وأمره أن يتجهز بها ويتوجه إليه، وكان بجزيرة صقلية وهو من أهلها - وهو أبو العرب مصعب بن محمد بن أبي الفرات القرشي الزبيري الصقلي الشاعر - وبعث مثلها إلى أبي الحسن الحصري وهو بالقيروان، فكتب إليه أبو العرب: لا تعجبن لرأسي كيف شاب أسىً ... واعجب لأسود عيني كيف لم يشب البحر للروم لا تجري السفين به ... إلا على غررٍ والبر للعرب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 333 وكتب إليه الحصري: أمرتني بركوب البحر أقطعه ... غيري لك الخير فاخصصه بذا الراء ما أنت نوحٌ فتنجيني سفينته ... ولا المسيح أنا أمشي على الماء ثم دخل الأندلس بعد ذلك، وامتدح المعتمد وغيره (1) . وتوفي سنة ثمان وثمانين وأربعمائة بطنجة، رحمه الله تعالى. (120) ومولد القمراوي سنة إحدى وتسعين وخمسمائة تقديراً، وتوفي راجعاً من اليمن في أواخر صفر سنة إحدى وخمسين وست مائة، على ساحل بحر عيذاب بموضعٍ يقال له رأس دواير بين عيذاب وسواكن، ودفن في بر عيذاب مقابل موضع موته. والحصري: قد تقدم الكلام عليه في حرف الهمزة. وطنجة: بفتح الطاء وسكون النون وفتح الجيم، وهي بلدة بالمغرب، بينها وبين سبتة مرحلتان من تلك الناحية. (121) وأما أبو العرب الزبيري فإنه ولد بصقلية سنة ثلاث وعشرين وأربعمائة، وخرج منها لما تغلب الروم عليها سنة أربع وستين وأربعمائة قاصداً للمعتمد بن عباد، قال ابن الصيرفي: وبلغني أنه (2) في سنة سبع وخمسمائة حيٌّ بالأندلس.   (1) زاد هنا في س ل لي: وكان عالماً بالقراءات ... بسبتة وغيرها، وهو نص قد تقدم من قبل، وكان المؤلف قد كتبه في هذا الموضع إلا أنه مشطوب في المسودة. (2) ر لي: وبلغني أنه توفي في ... الخ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 334 451 - (1) ابن خروف أبو الحسن علي بن محمد بن علي الحضرمي، المعروف بابن خروف النحوي الأندلسي الإشبيلي؛ كان فاضلاً في علم العربية، وله فيها مصنفات (2) شهدت بفضله وسعة علمه، شرح كتاب سيبويه شرحاً جيداً، وشرح أيضاً كتاب " الجمل " لأبي القاسم الزجاجي وما أقصر فيه، وكان قد تخرج على ابن طاهر النحوي الأندلسي المعروف بالخدب (3) . وتوفي سنة عشر وستمائة، وقيل إنه توفي سنة تسع وستمائة بإشبيلية، رحمه الله تعالى. وخروف: بفتح الخاء المعجمة - وهو غير ابن خروف الشاعر، وسيأتي ذكر ذلك أيضاً إن شاء الله تعالى في رسالته التي كتبها إلى بهاء الدين بن شداد، رحمه الله تعالى -. والحضرمي: بفتح الحاء المهملة وسكون الضاد المعجمة وفتح الراء وبعدها ميم، هذه النسبة إلى حضرموت، وقد تقدم الكلام عليها.   (1) ترجمة ابن خروف النحوي في صلة الصلة: 122 والتكملة (رقم 1884) والذيل والتكملة 5: 319 وبرنامج الرعيني: 81 والنفح 2: 640 وجذوة الاقتباس: 307 وبغية الوعاة: 354 ومعجم الأدباء 15: 75، والبدر السافر، الورقة: 28 والزركشي، الورقة: 225 وترجم له الكتبي في الفوات 2: 160 مع أنه في أصل المؤلف؛ وانظر الجامع المختصر: 306 ويخلط بعض المصادر في ترجمته بينه وبين الشاعر ابن خروف وهو علي بن محمد بن يوسف؛ وما ورد في هذه الترجمة مطابق للمسودة. (2) ر: تصانيف. (3) هو محمد بن أحمد بن طاهر ابو بكر الأنصاري (- 580) ، انظر ترجمته في الوافي 2: 113 وبغية الوعاة 12 والتكلمة: 532. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 335 452 - (1) الربعي النحوي أبو الحسن علي بن عيسى بن الفرج بن صالح الربعي النحوي، البغدادي المنزل الشيرازي الأصل؛ كان إماماً في النحو متقناً له، شرح كتاب " الإيضاح " لأبي علي الفارسي فأجاد فيه؛ اشتغل ببغداد على السيرافي ثم خرج إلى شيراز فقرأ على أبي علي الفارسي عشرين سنة ثم رجع إلى بغداد. وقال أبو علي: قولوا لعلي البغدادي لو سرت من الشرق إلى الغرب لم تجد أنحى منك. وقال أبو علي أيضاً لما انفصل عنه: ما بقي له شيء يحتاج يسأل عنه. وله عدة تواليف في النحو منها " شرح مختصر الجرمي ". وانتفع بالاشتغال عليه خلق كثير. وذكره ابن الأنباري في كتاب " طبقات الأدباء " (2) . وكانت ولادته سنة ثمان وعشرين وثلثمائة. وتوفي ليلة السبت لعشر بقين من المحرم سنة عشرين وأربعمائة ببغداد، رحمه الله تعالى. والربعي: بفتح الراء والباء الموحدة وبعدها عين مهملة، هذه النسبة إلى ربيعة، ولا أعلم أهو ربيعة بن نزار أم غيره، فقد جاءت هذه النسبة إلى جماعة اسم كل واحد منهم ربيعة، والله أعلم.   (1) ترجمته في انباه الرواة 2: 297 وقد أثبت المحقق في الحاشية مصادر أخرى؛ وما أثبت هنا مطابق للمسودة. (2) نزهة الألباء: 233. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 336 453 - (1) الفصيحي أبو الحسن علي بن أبي زيد محمد بن علي النحوي، المعروف بالفصيحي الإستراباذي؛ أخذ النحو عن عبد القاهر الجرجاني صاحب " الجمل الصغرى " وتبحر فيه حتى صار أعرف أهل زمانه به، وقدم بغداد واستوطنها ودرّس النحو بالمدرسة النظامية مدة، وكان يكتب خطاً في غاية الصحة، وكتب كثيراً من كتب الأدب، وانتفع به خلقٌ كثير، ومن جملة من أخذ عنه ملك النحاة الحسن بن صافي - وقد تقدم ذكره (2) - وروى عنه الحافظ أبو الطاهر السلفي الأصبهاني، وقال: جالسته ببغداد وسألته عن أحرف من العربية، وقال: أنشدني لبعض النحاة: النحو شؤمٌ كله فاعلموا ... يذهب بالخبز من البيت خيرٌ من النحو وأصحابه ... ثريدةٌ تعمل بالزيت وتوفي يوم الأربعاء ثالث عشر ذي الحجة سنة ست عشرة وخمسمائة ببغداد، رحمه الله تعالى. ولم أعرف نسبته بالفصيحي: إلى كتاب " الفصيح " لثعلب، أم إلى شيء آخر. والإستراباذي: بكسر الهمزة وسكون السين المهملة وكسر التاء المثناة من فوقها وفتح الراء وبعد الألف باء موحدة مفتوحة وبعد الألف الثانية ذال معجمة، هذه النسبة إلى إستيراباذ، وهي بلدة من أعمال مازندران بين سارية وجرجان.   (1) ترجمته في انباه الرواة 2: 306 ومعجم الأدباء 15: 66 وبغية الوعاة: 351، والترجمة مستوفاة في المسودة. (2) انظر الترجمة رقم: 168. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 337 454 - (1) ابن العصار أبو الحسن علي بن أبي الحسين عبد الرحيم بن الحسن بن عبد الملك بن إبراهيم السلمي الرقي الأصل، البغدادي المولد والدار، الملقب مهذب الدين، المعروف بابن العصار (2) اللغوي؛ كان من الأدباء المشاهير، وحصل له منه (3) أشياء غريبة، وقرأ الأدب على الشريف أبي السعادات ابن الشجري وأبي منصور ابن الجواليقي، وبرع في فنه، وأقرأ الناس زماناً، ورحل إلى مصر واجتمع بأبي محمد ابن بري والموفق بن الخلال كاتب الإنشاء. وكان عارفاً بديوان أبي الطيب المتنبي علماً ورواية، وقرأه عليه جمع كثير في العراق والشام ومصر، وكتب بخطه الكثير من كتب الأدب وشعر العرب، ويقع في خطه الغلط مع كثرة ضبطه واحترازه. وقيل إنه لم ذكياً، ولم يكن في النحو كما هو في اللغة، وكانت طريقته في الخط حسنة، والناس يتنافسون في خطه ويغالون به (4) ، وكان حريصاً على الفوائد وطلبها وسطرها (5) على كتبه. ورأيت جماعة ممن لقيه وأخذ عنه. وكانت ولادته في سنة ثمان وخمسمائة. وتوفي يوم السبت بعد صلاة الظهر ثالث المحرم سنة ست وسبعين وخمسمائة ببغداد. ودفن بمقبرة الشونيزي ببغداد، رحمه الله تعالى، بجنب قبر أبيه يوم الأحد.   (1) ترجمته في انباه الرواة 2: 291 ومعجم الأدباء 14: 10 وبغية الوعاة: 341 وعبر الذهبي 4: 229 والشذرات 4: 257؛ وهذه الترجمة مستوفاة في المسودة. (2) ر: بابن عضاد القصار. (3) منه: ثابتة في أصل المؤلف، ساقطة من ر لي، ولا أدري إلى أين يعود الضمير في هذه اللفظة. (4) ر لي: ويتغالون به. (5) ر: وتسطيرها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 338 455 - (1) شميم الحلي أبو الحسن علي بن الحسن بن عنتر بن ثابت، الملقب مهذب الدين، المعروف بشميم الحلي؛ كان أديباً فاضلاً خبيراً بالنحو واللغة وأشعار العرب حسن الشعر، وكان اشتغاله ببغداد على أبي محمد ابن الخشاب ومن في طبقته من أدباء ذلك الوقت، ثم سافر إلى ديار بكر والشام ومدح الأكابر وأخذ جوائزهم، واستوطن الموصل، وله عدة تصانيف، وجمع من نظمه كتاباً سماه " الحماسة " رتبه على عشرة أبواب، وضاهى به كتاب " الحماسة " لأبي الطيب الطائي، وكان جم الفضيلة إلا أنه كان بذيء اللسان كثير الوقوع في الناس مسلطاً على ثلب أعراضهم، لا يثبت لأحد في الفضل شيئاً. ذكره أبو البركات ابن المستوفي في " تاريخ إربل " وقبح (2) ذكره بأشياء نسبها إليه: من قلة الدين وتركه للصلوات المكتوبة ومعارضته للقرآن (3) الكريم واستهزائه بالناس؛ وذكر مقاطيع من شعره. وفي شعره تعسف؛ وقال: سئل لم سمي شميماً، فقال أقمت مدة آكل كل يوم شيئاً من الطين (4) فإذا وضعته   (1) ترجمته في ذيل الروضتين: 52 والبدر السافر، الورقة: 13 والجامع المختصر: 157 وانباه الرواة 2: 243 ومعجم الأدباء 13: 50 وعبر الذهبي 5: 2 والشذرات 5: 4 وبغية الوعاة: 333؛ والترجمة هنا مطابقة للمسودة. (2) ر: فتح. (3) ر س: ومعارضة القرآن. (4) يقول آدم متز (2: 229) وكان من الاطعمة المحبوبة الطين الذي يؤكل في آخر الطعام، وأحسنه ما كان يجلب من ناحية كران، وهو أخضر كالسلق وأشرق منه ولا نظير له. وكذلك ورد ذكر الطين الأبيض العادي في كلام الشعراء، وكان الأخضر يجلب بكثرة من بلاد فوهستان، وكان يجلب من نيسابور طين يسمى بالنقل يحمل إلى أداني البلاد وأقاصيها ويتحف به الملوك والسادة، وكان الرطل منه ربما يباع في مصر وبلاد المغرب بدينار ... على أن كثيراً من الفقهاء حرموا أكل الطين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 339 عند قضاء الحاجة شممته فلا أجد له رائحة، فسميت لذلك شميماً. وتوفي ليلة الأربعاء الثامن والعشرين من شهر ربيع الآخر سنة إحدى وستمائة بالموصل، ودفن بمقبرة المعافى، رحمه الله تعالى. وشميم: بضم الشين المعجمة وفتح الميم وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها ميم، وهو من الشم. 456 - (1) العلم السخاوي أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الصمد بن عبد الأحد بن عبد الغالب الهمداني المصري السخاوي المقرىء النحوي، الملقب علم الدين؛ كان قد اشتغل بالقاهرة على الشيخ أبي محمد القاسم الشاطبي المقرىء - المذكور في حرف القاف - وأتقن عليه علم القراءات والنحو واللغة، وعلى أبي الجود غياث بن فارس بن مكي المقرىء، وسمع بالإسكندرية من السلفي وابن عوف، وبمصر من البوصيري وابن ياسين (2) ، ثم انتقل إلى مدينة دمشق وتقدم بها على علماء فنونه واشتهر، وكان للناس اعتقاد عظيم، وشرح " المفصل " للزمخشري في أربع مجلدات، وشرح القصيدة الشاطبية في القراءات، وكان قد قرأها على ناظمها، وله خطب وأشعار، وكان متعيناً في وقته. ورأيته بدمشق والناس يزدحمون عليه في الجامع لأجل القراءة، ولا تصح   (1) ترجمته في انباه الرواة 2: 311 والبدر السافر، الورقة: 24 وطبقات السبكي 5: 126 وذيل الروضتين: 177 ومرآة الزمان: 758 وغاية النهاية 1: 568 وخزانة الأدب 2: 529 وعبر الذهبي 5: 178 والشذرات 5: 222 ومعجم الأدباء 15: 65 وطبقات المفسرين: 25 وحسن المحاضرة 1: 173 والنجوم الزاهرة 6: 354. (2) وعلي أبي الجود ... ياسين: سقط من م س ل لي والمسودة، وعند هذا الموضع في المسودة إشارة إلى " تخريجة ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 340 لواحد منهم نوبة إلا بعد زمان، ورأيته مراراً يركب بهيمة وهو يصعد إلى جبل الصالحين (1) وحوله اثنان وثلاثة وكل واحد يقرأ ميعاده في موضع غير الآخر، والكل في دفعة واحدة، وهو يرد على الجميع. ولم يزل مواظباً على وظيفته إلى أن توفي بدمشق ليلة الأحد ثاني عشر جمادى الآخرة سنة ثلاث وأربعين وستمائة، وقد نيف على تسعين سنة، رحمه الله تعالى. ولما حضرته الوفاة أنشد لنفسه (2) : قالوا غداً نأتي ديار الحمى ... وينزل الركب بمغناهم وكل من كان مطيعاً لهم ... أصبح مسروراً بلقياهم قلت: فلي ذنبٌ فما حيلتي ... بأي وجه أتلقاهم قالوا: أليس العفو من شانهم ... لا سيما عمن ترجاهم ثم ظفرت بتاريخ مولده في سنة ثمان وخمسين وخمسمائة بسخا، والله أعلم. والسخاوي: بفتح السين المهملة والخاء المعجمة وبعدها ألف، هذه النسبة إلى سخا، وهي بليدة بالغربية من أعمال مصر، وقياسه سخوي، لكن الناس أطبقوا على النسبة الأولى.   (1) كذا في المسودة وهو معدل، إذ كان مكتوباً من قبل " الصالحية ". (2) زاد في لي: هذه الأبيات. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 341 457 - (1) ابن البواب الكاتب أبو الحسن علي بن هلال المعروف بابن البواب الكاتب المشهور؛ لم يوجد في المتقدمين ولا المتأخرين من كتب مثله ولا قاربه، وإن كان أبو علي ابن مقلة أول من نقل هذه الطريقة من خط الكوفيين، وأبرزها في هذه الصورة وله بذلك فضيلة السبق وخطه أيضاً في نهاية الحسن، لكن ابن البواب هذب طريقته ونقحها وكساها طلاوة وبهجة. وقيل إن صاحب الخط المنسوب المشهور ليس أبا علي المذكور، وإنما هو أخوه أبو عبد الله الحسن - وهو مذكور في ترجمة أخيه أبي علي المذكور في المحمدين فلينظر هناك - ولما شاهد أبو عبيد البكري الأندلسي صاحب التصانيف خط ابن مقلة أنشد: خط ابن مقلة من أرعاه مقلته ... ودت جوارحه لو أصبحت مقلا والكل معترفون لأبي الحسن بالتفرد، وعلى منواله ينسجون، وليس فيهم من يلحق شأوه ولا يدعي ذلك، مع أن في الخلق من يدعي ما ليس فيه، ومع هذا فما رأينا ولا سمعنا أن أحداً ادعى ذلك، بل الجميع أقروا له بالسابقة وعدم المشاركة. ويقال له " ابن الستري " أيضاً لأن أباه كان بواباً والبواب ملازم ستر الباب، فلهذا نسب إليه. (122) وكان شيخه في الكتابة ابن أسدٍ الكاتب المشهور (2) ، وهو أبو عبد الله محمد بن أسد بن علي بن سعيد القارىء الكاتب البزاز البغدادي [سمع أبا بكر أحمد بن   (1) ترجمته في المنتظم 8: 10 ومعجم الأدباء 15: 18 وشروح السقط: 1198 وعبر الذهبي 3: 113 والشذرات 3: 199 والبداية والنهاية 12: 14 وتحفة أولي الألباب: 49 والنجوم الزاهرة 4: 357 وصبح الأعشى 3: 13. (2) انظر ترجمة ابن أسد في تاريخ بغداد 2: 83 والمنتظم 7: 296 وبغية الوعاة: 343. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 342 سليمان النجاد وعلي بن محمد بن الزبير الكوفي وجعفر الخلدي وعبد الملك بن الحسن السقطي، وجماعة من هذه الطبقة، وكان صدوقاً؛ مات محمد بن أسد في يوم الأحد لليلتين خلتا من المحرم سنة عشر وأربعمائة، ودفن بالشونيزي] (1) . وتوفي ابن البواب يوم الخميس ثاني جمادى الأولى سنة ثلاث عشرة وأربعمائة ببغداد، ودفن جوار الإمام أحمد بن حنبل، رضي الله عنه. وأنشدني بعض العلماء بيتين ذكر أنه رثي بهما ابن البواب وهما: استشعر الكتاب فقدك سالفاً ... وقضت بصحة ذلك الأيام فلذاك سودت الدوي كآبةً ... أسفاً عليك وشقت الأقلام وهذا معنى حسن جداً. وسألني بعض الفقهاء بمدينة حلب عن قول بعض المتأخرين من جملة أبيات في صفة كتاب: كتابٌ كوشي الروض خطت سطوره ... يد ابن هلالٍ عن فم ابن هلال فقلت له: هذا يقول إن خطه في الحسن مثل خط ابن البواب وفي بلاغة ألفاظه مثل رسائل الصابىء، لأنه ابن هلال أيضاً - كما تقدم في ترجمته (2) - ثم سألت الفقيه المذكور عن بقية الأبيات التي منها هذا البيت، فأنشدنيها، وهي: ولما أتى منك الكتاب الذي حوى ... قلائد سخرٍ للبيان حلال وقفت على ربعٍ من الفضل آهل ... وقوفي بربع للأحبة خال أرقرق من دمعي وأدمن (3) لثمه ... وأسأل أطلالاً تجيب سؤالي وهمت به حتى توهمت لفظه ... نجوم ليالٍ أم سموط لآلي   (1) ما بين معقفين انفردت به ر. (2) المجلد الأول: 52. (3) لي: أرقرق دمعي ثم أدمن. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 343 كتاب كوشي الروض خطت سطوره ... يد ابن هلال عن فم ابن هلال ومما يتعلق بالكتابة (1) أن أول من خط بالعربي إسماعيلٌ عليه السلام، والصحيح عند أهل العلم أنه مرامر بن مروة من أهل الأنبار، وقيل إنه من بني مرة، ومن الأنباء انتشرت الكتابة في الناس. قال الأصمعي: ذكروا أن قريشاً سألوا: من أين لكم الكتابة فقالوا: من الحيرة، وقيل لأهل الحيرة: من أين لكم الكتابة فقالوا: من الأنبار (2) . وروى ابن الكلبي والهيثم بن عدي أن الناقل لهذه الكتابة من الحيرة إلى الحجاز هو حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي الأموي، وكان قدم الحيرة فعاد إلى مكة بهذه الكتابة، وقالا: قيل لأبي سفيان ابن حرب: ممن أخذ أبوك هذه الكتابة فقال: من أسلم بن سدرة، وقال: سألت أسلم: ممن أخذت هذه الكتابة فقال: من واضعها مرامر بن مرة، فحدوث هذه الكتابة قبل الإسلام بقليل. وكان لحمير كتابة تسمى المسند، وحروفها منفصلة غير متصلة، وكانوا يمنعون العامة من تعلمها، فلا يتعاطاها أحد إلا بإذنهم، فجاءت ملة الإسلام وليس بجميع اليمن من يقرأ ويكتب. وجميع كتابات الأمم من سكان الشرق والغرب اثنتا عشرة كتابة، وهي: العربية والحميرية واليونانية والفارسية والسريانية والعبرانية والرومية والقبطية والبربرية والأندلسية والهندية والصينية (3) ، فخمس منها اضمحلت وبطل استعمالها وذهب من يعرفها، وهي: الحميرية واليونانية والقبطية والبربرية والأندلسية، وثلاث قد بقي استعمالها وعدم من يعرفها في بلاد الإسلام، وهي: الرومية والهندية والصينية، وحصلت أربع هي مستعملات في بلاد الإسلام وهي: العربية والفارسية والسريانية والعبرانية.   (1) قارن بما في الفهرست: 4 - 5 وأكثر النص متابع لما جاء في التنبيه لحمزة: 19 - 20. (2) هنا تنتهي الترجمة في س ل. (3) هنا تنتهي الترجمة في لي والمسودة؛ وأحال المؤلف في المسودة على " تخريجة " لم ترد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 344 458 - (1) شيخ الإسلام أبو الحسن علي بن أحمد بن يوسف بن جعفر بن عرفة الهكاري الملقب شيخ الإسلام؛ هو من ولد عتبة بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية، وكان كثير الخير والعبادة، وطاف البلاد واجتمع بالعلماء والمشايخ وأخذ عنهم الحديث، ورجع إلى وطنه وانقطع به وأقبل الناس عليه وكان لهم فيه اعتقاد حسن، ولقي الشيخ أبا العلاء المعري وسمع منه، فلما انفصل عنه سأله بعض أصحابه عما رآه منه وعن عقيدته، فقال: هو رجل من المسلمين. وسمعت أن بعض الأكابر قال له: أنت شيخ الإسلام، فقال: بل أنا شيخ في الإسلام، وخرج من أولاده وحفدته جماعة تقدموا عند الملوك وعلت مراتبهم، منهم فقهاء ومنهم أمراء. وكانت ولادته سنة تسع وأربعمائة. وتوفي في أول المحرم سنة ست وثمانين وأربعمائة، رحمه الله تعالى. والهكاري: بفتح الهاء وتشديد الكاف وبعد الألف راء، هذه النسبة إلى قبيلة من الأكراد لهم معاقل وحصون وقرى من بلاد الموصل من جهتها الشرقية.   (1) ترجمته في المنتظم 9: 79 وابن الأثير 10: 226 واللباب: (الهكاري) عبر الذهبي 3: 312 والشذرات 3: 378؛ وما ورد هنا مطابق للمسودة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 345 459 - (1) الشيخ علي الهروي السائح أبو الحسن علي بن أبي بكر بن علي الهروي الأصل الموصلي المولد، السائح المشهور نزيل حلب؛ طاف البلاد وأكثر من الزيارات، وكاد يطبق الأرض بالدوران، فإنه لم يترك براً ولا بحراً ولا سهلاً ولا جبلاً من الأماكن التي يمكن قصدها ورؤيتها إلا رآه، ولم يصل إلى موضع إلا كتب خطه في حائطه، ولقد شاهدت ذلك في البلاد التي رأيتها مع كثرتها، ولما سار ذكره بذلك واشتهر به ضرب به المثل فيه، ورأيت لبعض المعاصرين، وهو ابن شمس الخلافة (2) جعفر - المقدم ذكره (3) - بيتين في شخص يستجدي من الناس بأوراقه وقد ذكر فيهما هذه الحالة وهما: أوراق كديته في بيت كل فتىً ... على اتفاق معانٍ واختلاف روي   (1) ترجم له المنذري شيخ ابن خلكان في التكملة لوفيات النقلة (انظر الأعلام 5: 73) ولخص ابن العماد في الشذرات (5: 49) ما أورده ابن خلكان، وتعد هذه الترجمة معتمد كل من كتب عن الهروي (انظر بروكلمان 1: 478 والتكملة 1: 879 والأدب الجغرافي عند العرب: 320 - 322) ؛ وقد سجل الهروي في كتابه " الإشارات " بعضاً من الشؤون المتصلة به، فنراه في فلسطين سنة 569 يزور القدس والخليل وغيرهما (ص: 31) ويصل إلى ثغر عسقلان في العام التالي (32) وفي العام نفسه كان في الإسكندرية يسمع الحديث عن السلفي (30) ويتجول في الديار المصرية حتى أسوان، ويحل عام 572 وهو لا يزال في مصر (51) ؛ وقد حمله التطواف إلى شمال أفريقية وصقلية، وفي هذه الجزيرة شاهد بركان اتنا، واجتمع إلى أحد زعماء المسلمين هنالك وهو أبو القاسم ابن حمود المعروف بابن حجر الذي أرسل معه رسائل إلى السلطان صلاح الدين يحثه فيها على أخذ صقلية من يد النورمان، لكن المركب غرق وركب الهروي في مركب آخر إلى قبرس (55) ؛ وفي عام 588 أخذ الفرنج كتبه في نوبة الوقعة بخويلقة، ثم إن ملك الانكتار أرسل الهروي رسولاً يطلب الاجتماع به ووعده برد كتبه ولكنه لم يمض إليه (30) ؛ والترجمة المثبتة هنا هي عين ما اوردته المسودة. (2) لي: ورأيت لابن شمس الخلافة ... (3) المجلد الأول: 362. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 346 قد طبق الأرض من سهلٍ إلى جبلٍ ... كأنه خط ذاك السائح الهروي وإنما ذكرت البيتين استشهاداً بهما على ما ذكرته من كثرة زياراته وكتب خطه. وكان مع هذا فيه فضيلة، وله معرفة بعلم السيمياء، وبه تقدم عند الملك الظاهر ابن السلطان صلاح الدين صاحب حلب، وأقام عنده، وكان كثير الرعاية له، وبنى له مدرسة بظاهر حلب وفي ناحية منها قبة هو مدفون بها، وبتلك المدرسة بيوت كتب على باب كل بيت ما يليق به، ورأيته كتب على باب الميضأة " بيت المال في بيت الماء "، ورأيت في قبته معلقاً عند رأسه غصناً وهو حلقة خلقية (1) ليس فيه صنعة، وهو أعجوبة، وقيل إنه رآه في بعض سياحاته فاستصحبه وأوصى أن يكون عند رأسه ليعجب (2) منه من يراه. وله مصنفات: منها كتاب " الإشارات في معرفة الزيارات " وكتاب " الخطب الهروية " وغير ذلك (3) . ورأيت في حائط الموضع الذي تلقى فيه الدروس من المدرسة المذكورة بيتين مكتوبين بخط حسن، وكأنهما كتابة رجل فاضل نزل هناك قاصداً الديار المصرية، فأحببت ذكرهما لحسنهما وهما: رحم الله من دعا لأناسٍ ... نزلوا هاهنا يريدون مصرا نزلوا والخدود بيضٌ فلما ... أزف البين عدن بالدمع حمرا وتوفي في شهر رمضان في العشر الوسط سنة إحدى عشرة وستمائة في مدرسته المذكورة ودفن في القبة، رحمه الله تعالى. والهروي: بفتح الهاء والراء وبعدها واو، هذه النسبة إلى مدينة هراة، وهي أحد كراسي مملكة خراسان، فإنها مملكة عظيمة، وكراسيها أربعة:   (1) ر: علقت خليقة. (2) لي: ليتعجب. (3) يقول الهروي في ختام الإشارات (ص 100) إنه ألف كتاباً سماه " منازل الأرض ذات الطول والعرض ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 347 نيسابور ومرو وبلخ وهراة، والباقي مدن كبار، لكنها ما تنتهي إلى هذه الأربعة؛ وهراة بناها الإسكندر ذو القرنين عند مسيره إلى المشرق. 460 - (1) عز الدين ابن الأثير الجزري أبو الحسن علي بن أبي الكرم محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني، المعروف بابن الأثير الجزري، الملقب عز الدين، ولد بالجزيرة ونشأ بها، ثم سار إلى الموصل مع والده وأخويه - الآتي كرهما إن شاء الله تعالى - وسكن الموصل وسمع بها من أبي الفضل عبد الله أحمد الخطيب الطوسي ومن فيه طبقته، وقدم بغداد مراراً حاجاً ورسولاً من صاحب الموصل وسمع بها من الشيخين أبي القاسم يعيش بن صدقة الفقيه الشافعي وأبي أحمد عبد الوهاب بن علي الصوفي وغيرهما، ثم رحل إلى الشام والقدس وسمع هناك من جماعة، ثم عاد إلى الموصل ولزم بيته منقطعاً إلى التوفر على النظر في العلم والتصنيف، وكان بيته مجمع الفضل لأهل الموصل والواردين عليها. وكان إماماً في حفظ الحديث ومعرفته وما يتعلق به، وحافظاً للتواريخ المتقدمة والمتأخرة، وخبيراً بأنساب العرب وأخبارهم وأيامهم ووقائعهم، صنف في التاريخ كتاباً كبيراً سماه " الكامل " ابتدأ فيه من أول الزمان إلى آخر سنة ثمان وعشرين وستمائة وهو من خيار التواريخ، واختصر كتاب " الأنساب " لأبي سعد عبد الكريم بن السمعاني، واستدرك عليه فيه مواضع ونبه على أغلاط   (1) ترجمته في ذيل الروضتين: 162 والبدر السافر، الورقة: 25 وطبقات السبكي 5: 127 وعبر الذهبي 5: 120 والشذرات 5: 137، وانظر كشف الظنون: 82، 1380 وصفحات متفرقة من الإعلان بالتوبيخ السخاوي، وذكر مؤلف الأعلام (5: 153) أن له ترجمة في التكملة للمنذري؛ وهذه الترجمة هي ما أوردته المسودة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 348 وزاد أشياء أهملها، وهو كتاب مفيد جداً، وأكثر ما يوجد اليوم بأيدي الناس هذا المختصر، وهو في ثلاث مجلدات، والأصل في ثمان وهو عزيز الوجود ولم أره سوى مرة واحدة بمدينة حلب، ولم يصل إلى الديار المصرية سوى المختصر المذكور. وله كتاب " أخبار الصحابة " (1) ، رضوان الله عليهم، في ست مجلدات كبار. ولما وصلت إلى حلب في أواخر سنة ست وعشرين وستمائة كان عز الدين المذكور مقيماً بها في صورة الضيف عند الطواشي شهاب الدين طغريل الخادم أتابك الملك العزيز ابن الملك الظاهر صاحب حلب، وكان الطواشي كثير الإقبال عليه حسن الاعتقاد فيه مكرماً له، فاجتمعت به فوجدته رجلاً مكملاً في الفضائل وكرم الأخلاق وكثرة التواضع، فلازمت الترداد إليه، وكان بينه وبين الوالد، رحمه الله تعالى، مؤانسة أكيدة، فكان بسببها يبالغ في الرعاية والإكرام. ثم إنه سافر إلى دمشق في أثناء سنة سبع وعشرين، ثم عاد إلى حلب في أثناء سنة ثمان وعشرين، فجريت معه على عادة الترداد والملازمة. وأقام قليلاً ثم توجه إلى الموصل. وكانت ولادته في رابع جمادى الأولى سنة خمس وخمسين وخمسمائة بجزيرة ابني عمر، وهم من أهلها. وتوفي في شعبان سنة ثلاثين وستمائة، رحمه الله تعالى، بالموصل. وسيأتي ذكر أخويه مجد الدين أبي السعادات المبارك، وضياء الدين أبي الفتح نصر الله، إن شاء الله تعالى. والجزيرة المذكورة أكثر الناس يقولون: إنها جزيرة ابن عمر، ولا أدري من ابن عمر [وقيل إنها منسوبة إلى يوسف بن عمر الثقفي أمير العراقين] (2) ، ثم إني ظفرت بالصواب في ذلك، وهو أن رجلاً من أهل برقعيد من أعمال الموصل بناها وهو عبد العزيز بن عمر فأضيفت إليه. ورأيت في بعض التواريخ أنها جزيرة ابني عمر أوسٍ وكاملٍ، ولا أدري أيضاً من هما، ثم رأيت في   (1) هو الكتاب المسمى " أسد الغابة ". (2) ما بين معقفين قيد في حاشية المسودة ثم شطب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 349 تاريخ ابن المستوفي في ترجمة أبي السعادات المبارك بن محمد أخي أبي الحسن المذكور أنه من جزيرة أوس وكامل ابني عمر بن أوس التغلبي. 461 - (1) العكوك أبو الحسن علي بن جبلة بن مسلم بن عبد الرحمن، المعروف بالعكوك الشاعر المشهور (2) ؛ أحد فحول الشعراء المبرزين [قال الجاحظ في حقه: كان أحسن خلق الله إنشاداً، ما رأيت مثله بدوياً ولا حضرياً] (3) وكان من الموالي وولد أعمى، وكان أسود أبرص، ومن مشهور شعره قوله: بأبي من زارني مكتتماً ... خائفاً من كل شيء جزعا زائرٌ نم عليه حسنه ... كيف يخفي الليل بدراً طلعا رصد الغفلة حتى أمكنت ... ورعى السامر حتى هجعا ركب الأهوال في زروته ... ثم ما سلم حتى ودعا [ومن قوله في الحسن بن سهل: أعطيتني يا ولي الحق مبتدئاً ... عطيةً كافأت شعري ولم ترني ما شمت برقك إلا نلت ريقه ... كأنما كنت بالجدوى تبادرني] (4)   (1) ترجمته في الورقة: 106 والشعر والشعراء: 742 وطبقات ابن المعتز: 171 والأغاني 19: 287 ونكت الهميان: 209 وتاريخ بغداد 11: 359 والشذرات 2: 30 وبروكلمان 2: 37 (الترجمة العربية) . (2) ر: خراساني أموي مشهور، وأحد فحول ... الخ. (3) ما بين معقفين سقط من لي والمسودة. (4) انفردت ر بما بين معقفين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 350 وله في أبي دلف العجلي وأبي غانم حميد بن عبد الحميد الطوسي غر المدائح، فمن قصائده الفائقة في أبي دلف القصيدة التي أولها: ذاد ورد الغي عن صدره ... فارعوى واللهو من وطره يقول في مدحها: إنما الدنيا أبو دلفٍ ... بين مغزاه (1) ومحتضره فإذا ولى أبو دلف ... ولت الدنيا على أثره ومنها: كل من في الأرض من عربٍ ... بين باديه إلى حضره مستعيرٌ منك مكرمةً ... يكتسيها يوم مفتخره وهي طويلة عددها ثمانية وخمسون بيتاً، ولولا خوف الإطالة لأثبتها كلها لأجل حسنها. ولقد سئل شرف الدين بن عنين - الآتي ذكره إن شاء الله تعالى - وكان من أخبر الناس بنقد الشعر، عن هذه القصيدة وقصيدة أبي نواس الموازنة لها التي أولها: أيها المنتاب من عفره ... لست من ليلي ولا سمره وهي من نوادر الشعر أيضاً، فلم يفضل إحداهما عن الأخرى، وقال: ما يصلح أن يفاضل بين هاتين إلا شخصٌ يكون في درجة هذين الشاعرين. ورأيت لأبي العباس المبرد كلاماً في وصف قصيدة أبي نواس المذكورة، فإنه قال بعد ذكر القصيدة: ما أحسب شاعراً جاهلياً ولا إسلامياً يبلغ هذا المبلغ فضلاً أن يزيد عليه جزالة وفخامة. [وقال محمد بن خلف بن محمد الطائي: قلت لعلي بن جبلة: عارضت أبا نواس   (1) ر: مبداه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 351 بقصيدتك هذه " ذاد ورد الغي عن صدره " في قصيدته] (1) . ويحكى أن العكوك مدح حميد بن عبد الحميد الطوسي بعد مدحه لأبي دلف بهذه القصيدة فقال له حميد: ما عسى أن تقول فينا وما أبقيت لنا بعد قولك في أبي دلف: إنما الدنيا أبو دلف ... وأنشد البيتين، فقال: أصلح الله الأمير، قد قلت فيك ما هو أحسن من هذا، قال: وما هو فأنشد: إنما الدنيا حميد ... وأياديه الجسام فإذا ولى حميد ... فعلى الدنيا السلام قال: فتبسم ولم يحر جواباً، فأجمع من حضر المجلس من أهل المعرفة والعلم بالشعر أن هذا احسن مما قاله في أبي دلف، فاعطاه وأحسن جائزته. [وحكي أنه مدح المأمون بقصيدة أجاد فيها وتوسل بحميد الطوسي في إيصالها إليه، فقال له المأمون: خيره بين أن نجمع بين قوله هذا وبين قوله فيك وفي أبى دلف، فإن وجدنا قوله فينا خيراً منه أجزناه عشرة آلاف، وإلا ضربناه مائة سوط، فخيره حميد فاختار الإعفاء] (2) . وقال ابن المعتز في " طبقات الشعراء " (3) : ولما بلغ المأمون خبر هذه القصيدة غضب غضباً شديداً وقال: اطلبوه حيثما كان وائتوني به، فطلبوه فلم يقدروا عليه لأنه كان مقيماً بالجبل، فلما اتصل به الخبر هرب إلى الجزيرة الفراتية، وقد كانوا كتبوا إلى الآفاق أن يؤخذ حيث كان، فهرب من الجزيرة حتى توسط الشامات، فظفروا به فأخذوه وحملوه مقيداً إلى المأمون، فلما صار بين يديه قال له: يا بن اللخناء، أنت القائل في قصيدتك للقاسم بن عيسى، وهو أبو دلف: كل من في الأرض من عرب ... وأنشد البيتين، جعلتنا ممن يستعير المكارم منه والافتخار به، قال: يا أمير   (1) زيادة من ر. (2) ما بين معقفين لا وجود له في أصل المؤلف وسائر النسخ الخطية. (3) طبقات ابن المعتز: 172 وفي النقل بعض اختلاف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 352 المؤمنين: أنتم أهل بيت لا يقاس بكم لأن الله اختصكم لنفسه من عباده وآتاكم الكتاب والحكم وآتاكم ملكاً عظيماً، وإنما ذهب في قولي إلى أقران وأشكال القاسم بن عيسى من هذا الناس، فقال: والله ما أبقيت أحداً، ولقد أدخلتنا في الكل، وما استحل دمك بكلمتك هذه، ولكني استحله بكفرك في شعرك حيث قلت في عبد ذليل مهين فأشركت بالله العظيم وجعلت معه مالكاً قادراً وهو: أنت الذي تنزل الأيام منزلها ... وتنقل الدهر من حال إلى حال وما مددت مدى طرفٍ إلى أحد ... إلا قضيت بأرزاق وآجال ذاك الله عز وجل يفعله، أخرجوا لسانه من قفاه، فأخرجوا لسانه من قفاه فمات، وكان ذلك في سنة ثلاث عشرة ومائتين ببغداد. ومولده سنة ستين ومائة، وقيل إنه أصابه الجدري وهو ابن سبع سنين فذهب بصره منه، وهذا خلاف ما قيل في الأول. قلت: هكذا ذكر ابن المعتز هذه القصة، وكذلك قال أيضاً أبو الفرج الأصبهاني في كتاب " الأغاني " (1) ، ورأيت في كتاب " البارع في أخبار الشعراء المولدين " تأليف أبي عبد الله ابن المنجم هذين البيتين مع بيت ثالث، وهو: تزور سخطاً فتمسي البيض راضيةً ... وتستهل فتبكي أعين المال لخلف بن مرزوق مولى علي بن ريطة، والله أعلم بالصواب. ومن مديحه حميداً (2) قوله: تكفل ساكني الدنيا حميدٌ ... فقد أضحوا له فيها عيالاً كأن أباه آدم كان أوصى ... إليه أن يعولهم فعالا وقوله أيضاً فيه:   (1) الأغاني 19: 317. (2) المسودة: حميد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 353 دجلة تسقي وأبو غانمٍ ... يطعم من تسقي من الناس فالناس جسمٌ وإمام الهدى ... رأس، وأنت العين في الراس ولما مات حميد في يوم عيد الفطر سنة عشر ومائتين رثاه بقصيده من جملتها: فأدبنا ما أدب الناس قبلنا ... ولكنه لم يبق للصبر موضع ورثاه أبو العتاهية بقوله: أبا غانم أما ذراك فواسعٌ ... وقبرك معمور الجوانب محكم وما ينفع المقبور عمران قبره ... إذا كان فيه جسمه يتهدم وأخبار العكوك كثيرة، ونقتصر منها على هذا القدر. والعكوك: بفتح العين المهملة والكاف وتشديد الواو وبعدها كاف ثانية، وهو السمين القصير مع صلابة، رحمه الله تعالى. وجبلة: بفتح الجيم والباء الموحدة واللام وبعدها هاء ساكنة (1) . وأما حميد الطوسي فإن الطبري ذكر في تاريخه تاريخ وفاته كما ذكرته ها هنا، وغالب ظني أنه توفي بفم الصلح، لأنه كان مع المأمون لما توجه إليها للدخول على بوران، حسب ما شرحته في ترجمتها في هذا التاريخ (2) .   (1) هنا تنتهي الترجمة في س ل لي م. (2) انظر المجلد الأول: 287. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 354 462 - (1) علي بن الجهم أبو الحسن علي بن الجهم بن بدر بن الجهم بن مسعود بن أسيد بن أذينة بن كرار بن كعب بن [جابر] (2) بن مالك بن عتبة بن جابر بن الحارث بن قطن بن مدلج بن قطن بن أحزم (3) بن ذهل بن عمرو بن مالك بن عبيدة بن الحارث بن سامة ابن لؤي بن غالب القرشي السامي الشاعر المشهور (4) ؛ أحد الشعراء المجيدين، هكذا ساق الخطيب في " تاريخ بغداد " (5) نسبه في ترجمة والده الجهم، وذكره أيضاً في ترجمة مفردة، فقال (6) : له ديوان شعر مشهور، وكان جيد الشعر عالماً بفنونه، وله اختصاصٌ بجعفر المتوكل، وكان متديناً فاضلاً؛ انتهى كلامه. وكان - مع انحرافه عن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، وإظهاره التسنن - مطبوعاً مقتدراً على الشعر عذب الألفاظ. وكان من ناقلة خراسان إلى العراق ثم نفاه المتوكل إلى خراسان في سنة اثنتين وثلاثين، وقيل تسع وثلاثين ومائتين، لأنه هجا المتوكل، وكتب إلى طاهر بن عبد الله بن طاهر بن الحسين أنه إذا ورد عليه صلبه يوماً، فوصل إلى شاذياخ نيسابور، فحبسه طاهر ثم أخرجه فصلبه مجرداً نهاراً كاملاً، فقال في ذلك (7) : لم ينصبوا بالشاذياخ صبيحة ال ... إثنين مسبوقاً ولا مجهولا   (1) ترجمته في معجم المرزباني: 140 وطبقات ابن المعتز: 319 والأغاني 10: 215 وانظر مقدمة محقق الديوان. (2) سقطت من تاريخ بغداد، وضبب عليها المؤلف في المسودة؛ وفي ر: عامر. (3) غير منقوطة في المسودة. (4) جاءت سلسلة النسب ناقصة في ر س. (5) تاريخ بغداد 7: 240. (6) تاريخ بغداد 11: 367. (7) ديوانه: 171، 215. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 355 نصبوا بحمد الله ملء قلوبهم ... شرفاً وملء صدورهم تبجيلا وهي أبيات كثيرة مشهورة (1) ، ثم رجع إلى العراق ثم خرج إلى الشام، وبعد ذلك ورد على المستعين كتاب من صاحب البريد بحلب أن علي بن الجهم خرج من حلب متوجهاً إلى العراق، فخرجت عليه وعلى جماعة معه خيل من بين كلب، فقاتلهم قتالاً شديداً، ولحقه الناس وهو جريح بأخر رمق، فكان مما قال (2) : أزيد في الليل ليل ... أم سال بالصبح سيل ذكرت أهل دجيلٍ ... وأين مني دجيل وكان منزله ببغداد في شارع الدجيل، وكان ورود الكتاب في شعبان سنة تسع وأربعين ومائتين، وتوفي في وقته، ولما نزعت ثيابه بعد موته وجدت فيها رقعة وقد كتب فيها (3) : يا رحمتا للغريب في البلد الن ... ازح ماذا بنفسه صنعا فارق أحبابه فما انتفعوا ... بالعيش من بعده ولا انتفعا وكانت بينه وبين أبي تمام مودة أكيدة، وإليه كتب أبو تمام الأبيات التي يودعه فيها التي أولها (4) : هي فرقة من صاحب لك ماجد ... فغداً إراقة كل دمع جامد وديوان شعره صغير، فمنه قوله وهو معنى مليح (5) :   (1) لأنه هجا.. مشهورة: سقط من س ل لي؛ والنص موجز في م. (2) ديوانه: 170. (3) ر: رقعة فيها مكتوب؛ وانظر البيتين في ديوانه: 154. (4) ديوان أبي تمام 1: 406، وفيه: فغداً إذابة. (5) ديوان ابن الجهم: 187. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 356 بلاء ليس يعدله بلاء ... عداوة غير ذي حسب ودين يبيحك منه عرضاً لم يصنه ... ويرتع منك في عرض مصون وهذان البيتان قالهما في مروان بن أبي حفصة لما عمل فيه: لعمرك ما الجهم بن بدر بشاعر ... وهذا عليٌ بعده يدعي الشعرا ولكن أبي قد كان جاراً لأمه ... فلما ادعى الأشعار أوهمني أمرا وهذا المعنى مأخوذ من قول كثير عزة، وقد أنشد الفرزدق شعراً له فاستحسنه فقال له: يا أبا صخر، هل كانت أمك ترد البصرة فقال: لا، ولكن أبي كثيراً ما يردها. وله وقد حبس أبياته المشهورة التي أولها (1) : قالت حبست فقلت ليس بضائري ... حبسي، وأي مهند لا يغمد وهي أبيات جيدة في هذا المعنى لم يعمل مثلها، ولولا طولها لذكرتها. وله أيضاً (2) : يا ذا الذي بعذابي ظل مفتخرا ... هل أنت إلا مليك جار إذ قدرا لولا الهوى لتجارينا على قدر ... فإن أفق منه يوماً ما فسوف ترى وله أشياء حسنة. والسامي: بفتح السين المهملة وبعد الألف ميم، هذه النسبة إلى سامة بن لؤي المذكور في نسبه، ويتصحف على كثير من الناس بالشامي، بالشين المعجمة، وهو غلط. ودجيل: بضم الدال المهملة وفتح الجيم وسكون الياء المثناة من تحتها (3)   (1) ديوانه: 41. (2) ديوانه: 141؛ وقد سقط البيتان من ر، وروى صاحب الأغاني نسبتهما لغيره. (3) إلى هنا تنتهي الترجمة في لي م. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 357 [وبعدها لام] (1) - تصغير دجلة، تصغير ترخيم - وهو نهر بأعلى بغداد، مخرجه من دجلة، مقابل القادسية في الجانب الغربي بين تكريت وبغداد، عليه مدن وقرى، وهو غير دجيل الأهواز، وهو أيضاً نهر عليه قرى ومدن ومخرجه من جهة أصبهان، حفره أردشير بن بابك بن ساسان أول ملوك الفرس. 463 - (2) ابن الرومي أبو الحسن علي بن العباس بن جريج، وقيل جورجيس، المعروف بابن الرومي، مولى عبيد الله بن عيسى بن جعفر بن المنصور بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب، رضي الله عنه؛ الشاعر المشهور صاحب النظم العجيب، والتوليد الغريب، يغوص على المعاني النادرة فيستخرجها من مكامنها ويبرزها في أحسن صورة، ولا يترك المعنى حتى يستوفيه إلى آخره ولا يبقي فيه بقية، وكان شعره غير مرتب، ورواه عنه المسيبي (3) ، ثم عمله أبو بكر الصولي ورتبه على الحروف، وجمعه أبو الطيب وراق ابن عبدوس من جميع النسخ، فزاد على كل نسخة مما هو على الحروف وغيرها نحو ألف بيت. وله   (1) سقط من س والمسودة. (2) ترجمته في تاريخ بغداد 12: 23 ومعجم المرزباني: 145 ومروج الذهب 4: 283 ورسالة الغفران: 468 ومعاهد التنصيص 1: 108 وزهر الآداب: 295 وصفحات أخرى، وفي العمدة لابن رشيق (في صفحات متفرقة) ؛ وقد كتبت عنه العصر الحديث دراسات متعددة. (3) انظر الفهرست: 165؛ وقد تصحفت لفظة " المسيبي " في المطبوعة المصرية إلى " المتنبي ". وذلك تصحيف طريف؛ وهناك من اسمه محمد بن إسحاق المسيبي المدني وهو مقرئ مشهور توفي سنة 236 (غاية النهاية 2: 98) ، فلا أدري إن كان هو الذي روى ديوان ابن الرومي أو هو مسيبي آخر، فإن المقرئ معاصر أيضاً لابن الرومي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 358 القصائد المطولة والمقاطيع البديعة، ولو في الهجاء كل شيء ظريف، وكذلك في المديح، فمن ذلك قوله: المنعمون وما منوا على أحدٍ ... يوم العطاء ولو منوا لما مانوا كم ضن بالمال أقوامٌ وعندهم ... وفر، وأعطى العطايا يدان وله أيضاً، وقال: ما سبقني إلى هذا المعنى أحد: آراؤكم ووجوهكم وسيوفكم ... في الحادثات إذا دجون نجوم منها معالم للهدى ومصابح ... تجلو الدجى والأخريات رجوم ومن معانيه البديعة قوله (1) : وإذا امرؤ مدح امرءاً لنواله ... وأطال فيه فقد أراد هجاءه لو لم يقدر فيه بعد المستقى ... عند الورود لما أطال رشاءه وكذلك قوله في ذم الخضاب، قال أبو الحسين جعفر بن علي الحمداني: ما سبقه أحد إلى هذا المعنى (2) : إذا دام للمرء السواد وأخلقت ... شبيبته ظن السواد خضابا فكيف يظن الشيخ أن خضابه ... يظن سواداً أو يخال شبابا [وقوله: كم يعد القرن باللقاء وكم ... يكذب في وعده ويخلفه لا يعرف القرن وجهه ويرى ... قفاه من فرسخٍ فيعرفه أخذ هذا المعنى الأخير من قول الخارجي وقد قال المنصور: أي أصحابنا أشد   (1) ديوانه: 97. (2) ديوانه: 339؛ وكذا ترتيب القول في المسودة، وفي ر: ينصرف قول الحمداني إلى البيتين السابقين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 359 إقداماً في مبارزتكم فقال: ما أعرف وجوههم ولكن أعرف أقفاءهم، فقل لهم يقبلوا فأعرفهم. وقال رجل لابن الرومي وهو يمازحه: ما أنت والشعر وقد نلت منه حظاً جسيماً وأنت من العجم أراك عربياً أو مدعياً في الشعر، قال: بل أنت دعي إذ كنت تنسب عربياً ولا تحسن من ذلك شيئاً، وأنشده (1) : إياك يا ابن بويب ... أن يستثار بويب قد تحسن الروم شعراً ... ما أحسنته العُريب وكان كثير الطيرة، وربما أقام المدة الطويلة لا يتصرف تطيراً لسوء ما يراه أو يسمعه حتى إن بعض إخوانه من الأمراء افتقده وعرف بحاله في الطيرة فبعث إليه خادماً اسمه إقبال ليتفاءل به، فلما أخذ أهبة ركوبه قال للخادم: انصرف إلى مولاك] (2) . وله في بعض الرؤساء وقد سأله حاجة فقضاها له وكان لا يتوقع منه خيراً: سألتك في أمر فجدت ببذله ... على أني ما خلت أنك تفعل وألزمتني بالبذل شكراً وإنه ... علي من الحرمان أدهى وأعضل وما خلت أن الدهر يثني بصرفه ... إلى أن أرى في الناس مثلك يسأل لئن سرني ما نلت منك فإنه ... لقد ساءني إذ أنت ممن يؤمل وهذه الأبيات تنسب إلى ابن وكيع التنيسي أيضاً - وقد سبق ذكره واسمه الحسن - والله أعلم (3) . وبالجملة فإن محاسنه كثيرة فلا حاجة إلى الإطالة. وكانت ولادته يوم الأربعاء بعد طلوع الفجر لليلتين خلتا من رجب سنة إحدى وعشرين ومائتين ببغداد،   (1) ديوانه: 234. (2) زيادة من ر، ولم يبين وجه الطيرة، وقد قلب ابن الرومي اسم " اقبال " فإذا هو " لا بقا " فتطير منه. (3) وهذه الأبيات ... أعلم: سقط من س ل لي م؛ وانظر ترجمة ابن وكيع رقم: 171. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 360 في الموضع المعروف بالعقيقية ودرب الختلية في دار بإزاء قصر عيسى بن جعفر بن المنصور، وفي بغداد يقول وقد غاب عنها في بعض أسفاره: بلد صحبت به الشبيبة والصبا ... ولبست ثوب العيش وهو جديد فإذا تمثل في الضمير رأيته ... وعليه أغصان الشباب تميد وتوفي يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من جمادى الأولى سنة ثلاث وثمانين، وقيل أربع وثمانين، وقيل ست وسبعين ومائتين ببغداد ودفن في مقبرة باب البستان، وكان سبب موته، رحمه الله تعالى، أن الوزير أبا الحسين القاسم بن عبيد الله بن سليمان بن وهب وزير الإمام المعتضد كان يخاف من هجوه وفلتات لسانه بالفحش، فدس عليه ابن فراس (1) ، فأطعمه خشكنانجة مسمومة وهو في مجلسه، فلما أكلها أحس بالسم فقام، فقال له الوزير: إلى أين تذهب، فقال: إلى الموضع الذي بعثتني إليه، فقال له: سلم على والدي، فقال: ما طريقي على النار؛ وخرج من مجلسه وأتى منزله وأقام أياماً ومات. وكان الطبيب يتردد إليه ويعالجه بالأدوية النافعة للسم، فزعم أنه غلط في بعض العقاقير؛ قال إبراهيم بن محمد بن عرفة الأزدي المعروف بنفطويه: رأيت ابن الرومي يجود بنفسه فقلت: ما حالك فأنشد: غلط الطبيب علي غلطة موردٍ ... عجزت موارده عن الإصدار والناس يلحون الطبيب وإنما ... غلط (2) الطبيب إصابة المقدار وقال أبو عثمان الناجم الشاعر: دخلت على ابن الرومي أعوده فوجدته يجود بنفسه، فلما قمت من عنده قال لي: أبا عثمان أنت حميد قومك ... وجودك للعشيرة دون لومك تزود من أخيك فما أراه ... يراك ولا تراه بعد يومك (123) وكان الوزير المذكور عظيم الهيبة شديد الإقدام سفاكاً للدماء، وكان   (1) ر: ابن قراس؛ ل لي: فداس، وأثبتنا ما في س والمسودة. (2) فوقها في المسودة: " خطأ ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 361 الكبير والصغير منه على وجلٍ لا يعرف أحدٌ من أرباب الأموال معه نعمة. وتوفي الوزير المذكور عشية الأربعاء لعشر خلون من شهر ربيع الآخر سنة إحدى وتسعين ومائتين في خلافة المكتفي، وعمره نيف وثلاثون سنة، وفي ذلك يقول عبد الله بن الحسن بن سعد: شربنا عشية مات الوزير ... سروراً، ونشرب في ثالثه فلا رحم الله تلك العظام ... ولا بارك الله في وارثه وكان لهذا الوزير أخ يقال له أبو محمد الحسن، فمات في حياة أبيه والوزير، فعمل أبو الحارث النوفلي، وقيل البسامي وهو الأصح - وسيأتي ذكره بعد هذا إن شاء الله تعالى (1) - ثم رأيت في " الذيل " للسمعاني في ترجمة علي بن مقلد بن عبد الله بن كرامة البواب أن أبا الحارث النوفلي قال: كنت أبغض القاسم بن عبيد الله لمكروه نالني منه، فلما مات أخوه الحسن قلت على لسان ابن بسام، وأنشد هذه الأبيات، وقال السمعاني قبل هذا الكلام: قال أبو بكر الصولي النديم: وقد رأيت أبا الحارث هذا، وكان رجلاً صدوقاً، وهي هذه: قل لأبي القاسم المرزا ... قابلك الدهر بالعجائب مات لك ابنٌ وكان زيناً ... وعاش ذو الشين والمعايب حياة هذا كموت هذا ... فلست تخلو من المصايب وعمل آخر في المعنى أيضاً ولا أعرفه، ثم وجدت هذه الأبيات له أيضاً (2) : قل لأبي القاسم المرزا (3) ... ونادِ يا ذا المصيبتين مات لك ابنٌ وكان زيناً ... وعاش شين وأي شين حياة هذا كموت هذا ... فالطم على الرأس باليدين   (1) انظر الترجمة التالية رقم: 464. (2) س: وله في المعنى أيضاً. (3) س: المرجى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 362 464 - (1) البسامي الشاعر أبو الحسن علي بن محمد (2) بن منصور بن نصر (3) بن بسام، الشاعر المعروف بالبسامي الشاعر المشهور؛ كانت أمه أمامة ابنة حمدون النديم، وروى عنه أبو بكر الصولي وأبو سهل بن زياد وغيرهما، وكان من أعيان الشعراء ومحاسن الظرفاء لسناً مطبوعاً في الهجاء، لم يسلم منه أمير ولا وزير ولا صغير ولا كبير، وهجا أباه وإخوته وسائر أهل بيته، فمن قوله في أبيه: هبك عمرت عمر عشرين نسراً ... أترى أنني أموت وتبقى فلئن عشت بعد موتك يوماً ... لأشقن جيب مالك شقا وله: أقصرت عن طلب البطالة والصبا ... لما علاني للمشيب قناع لله أيام الشباب ولهوه ... لو أن أيام الشباب تباع فدع الصبا يا قلب واسل عن الهوى ... ما فيك بعد مشيبك استمتاع وانظر إلى الدنيا بعين مودع ... فلقد دنا سفرٌ وحان وداع والحادثات موكلاتٌ بالفتى ... والناس بعد الحادثات سماع   (1) ترجمته في الفهرست: 150 ومعجم المرزباني: 154 وتاريخ بغداد 12: 63 والهدايا والتحف: 139 ومعجم الأدباء 5: 318 واللباب: (البسامي) ومروج الذهب 4: 297 - 304 وانظر أعتاب الكتاب: 188 والزركشي، الورقة: 225، وله أيضاً ترجمة في الفوات 2: 167 وهو مما يحسن التنبه له، لأن الترجمة ثابتة في أصل ابن خلكان، وهي هنا مطابقة للمسودة تماماً. (2) ر: أحمد. (3) ابن نصر: سقطت من ر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 363 وله في الوزير ابن المرزبان، وكان قد سأله برذوناً فمنعه إياه: بخلت عني بمقرفٍ عطبٍ ... فلن تراني ما عشت أطلبه وإن تقل صنته فما خلق ... الله مصوناً وأنت تركبه وله في أسد بن جهور الكاتب: تعس الزمان لقد أتى بعجاب (1) ... ومحا رسوم الظرف والآداب وأتى بكتابٍ لو انبسطت يدي ... فيهم رددتهم إلى الكتاب أو ما ترى أسد بن جهور قد غدا ... متشبهاً بأجلة الكتاب وله أيضاً (2) : وكانت بالصراة لنا ليالٍ ... سرقناهن من ريب الزمان جعلناهن تاريخ الليالي ... وعنوان المسرة والأماني وكان أبوه محمد بن نصر رجلاً مترفاً في نهاية السرو وحسن الزي، ظاهر المروءة، متخصصاً في هيئته ومطعمه وملبسه وتجمل داره. ويحكى أن الوزير القاسم بن عبيد الله المذكور قبله دخل على المعتضد يوماً وهو يلعب بالشطرنج وينشد قول ابن بسام هذا: حياة هذا كموت هذا ... فلست تخلو من المصائب وقد تقدم ذكر الأبيات الثلاثة، ثم رفع المعتضد رأسه، فنظر إلى الوزير (3) فاستحيا منه، فقال له يا قاسم، اقطع لسان ابن بسام عنك، فخرج مبادراً لقطع لسانه فبلغ ذلك المعتضد فاستدعاه وقال له: لا تعرض إليه بسوء، بل اقطعه بالبر والشغل، فولاه البريد والجسر بجند قنسرين والعواصم من أرض الشام.   (1) ر: بعجائب. (2) تأخر موضع البيتين في ل لي س فوقعا بعد الأبيات الميمة الآتية. (3) لي: فإذا الوزير قائماً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 364 وتوفي ابن بسام المذكور في صفر سنة اثنتين، وقيل ثلاث وثلثمائة، رحمه الله تعالى، عن نيف وسبعين سنة. وجده نصر بن منصور ممدوح أبي تمام (1) . والعواصم: كورة متسعة بالشام قصبتها أنطاكية، وذكرها المعري بقوله (2) : متى سألت بغداد عني وأهلها ... فإني عن أهل العواصم سآل وإنما قال هذا لأن بلاده معرة النعمان من جملة العواصم. وذكر الطبري في تاريخه أن هارون الرشيد عزل الثغور كلها عن بلاد الجزيرة وقنسرين وجعلها حيزاً واحداً، وسميت العواصم، وذلك في سنة سبعين ومائة. ولما هدم المتوكل على الله قبر الحسين بن علي بن أبي طالب، رضي الله عنهما، في سنة ست وثلاثين ومائتين عمل البسامي: تالله إن كانت أمية قد أتت ... قتل ابن بنت نبيها مظلوما فلقد أتاه بنو أبيه بمثله ... هذا لعمرك قبره مهدوما أسفوا على أن لا يكونوا شاركوا ... في قتله فتتبعوه رميما وكان المتوكل كثير التحامل على علي وولديه الحسن والحسين، رضي الله عنهم أجمعين، فهدم هذا المكان بأصوله ودوره وجميع ما يتعلق به وأمر أن يبذر ويسقى موضع قبره ومنع الناس من إتيانه، هكذا قال أرباب التواريخ، والله أعلم. ولابن بسام المذكور في التصانيف " أخبار عمر بن أبى ربيعة " ولم يستقص   (1) انظر مديحه فيه (ديوانه 2: 59) بقصيدة مطلعها: أأطلال هند ساء ما اعتضت من هند، وفي يقول: بنصر بن منصور بن سام انفرى ... لنا شظف الأيام عن عيشة رغد (2) شروح السقط: 1253. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 365 أحد في بابه أبلغ منه، وكتاب " أخبار الأحوص " وكتاب " مناقضات الشعراء " وكتاب " ديوان رسائله " وغير ذلك. 465 - (1) القاضي التنوخي أبو القاسم علي بن محمد بن أبي الفهم داود بن إبراهيم بن تميم بن جابر بن هانئ بن زيد بن عبيد بن مالك بن مريط بن سرح بن نزار بن عمرو بن الحارث بن صبح بن عمرو بن الحارث، وهو أحد ملوك تنوخ الأقدمين، ابن فهم بن تيم الله بن أسد بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن إلحاف بن قضاعة، التنوخي، الأنطاكي؛ كان عالماً بأصول المعتزلة والنجوم، قال الثعالبي في حقه (2) : " هو من أعيان أهل العلم والأدب، وأفراد الكرم وحسن الشيم، وكان كما قرأته في فصل للصاحب بن عباد: إن أردت فإني سبحة ناسك، وإن أحببت فإني تفاحة فاتك، أو اقترحت فإني مدرعة راهب، أو آثرت فإني تحية شارب ". وكان تقلد قضاء البصرة والأهواز بضع سنين، وحين صرف عنه ورد حضرة سيف الدولة بن حمدان زائراً ومادحاً، فأكرم مثواه واحسن قراه، وكتب في معناه إلى الحضرة ببغداد حتى أعيد إلى عمله، وزيد في رزقه ورتبته. وكان الوزير المهلبي وغيره من رؤساء (3) العراق يميلون إليه ويتعصبون له ويعدونه ريحانة الندماء، وتاريخ (4) الظرفاء، وكان في جملة الفقهاء والقضاة الذين ينادمون الوزير المهلبي، ويجتمعون عنده في الأسبوع ليلتين على اطراح الحشمة والتبسط في   (1) ترجمته في معجم الأدباء 14: 162 والجواهر المضية 1: 372 ومعاهد التنصيص 2: 11، وذكر في طبقات المعتزلة: 132؛ والترجمة كاملة في المسودة. (2) اليتيمة 2: 336. (3) ر: وزراء. (4) كذا وردت هذه اللفظة في جميع النسخ، وربما كانت " ونارنج ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 366 القصف والخلاعة، وهم: القاضي أبو بكر ابن قريعة وابن معروف والتنوخي المذكور وغيرهم، وما منهم إلا أبيض اللحية طويلها، وكذلك كان المهلبي، فإذا تكامل الأنس وطاب المجلس ولذ السماع وأخذ الطرب منهم مأخذه، وهبوا ثوب الوقار للعقار، وتقلبوا في أعطاف العيش بين الخفة والطيش، ووضع في يد كل واحد منهم طاس ذهب فيه ألف مثقال، مملوءٌ شراباً قطربلياً أو عكبرياً، فيغمس لحيته فيه بل ينقعها حتى تتشرب أكثره ويرش بها بعضهم بعضاً ويرقصون بأجمعهم وعليهم المصبغات ومخانق المنثور والبرم، فإذا أصبحوا عادوا كعادتهم في التوقر والتحفظ بأبهة القضاء وحشمة المشايخ الكبراء. وأورد من شعره قوله (1) : وراحٍ من الشمس مخلوقةٌ ... بدت لك في قدحٍ من نهار هواءٌ ولكنه جامدٌ ... وماءٌ ولكنه غير جار كأن المدير لها باليمين ... إذا مال للسقي أو باليسار تدرع ثوباً من الياسمين ... له فرد كمٍ من الجلنار وأورد له أيضاً (2) : بأبي حسنك لو أش ... بهه منك صنيع أنت بدرٌ ما له في ... فلك الوصل طلوع وأورد له (3) : رضاك شبابٌ لا يليه مشيب ... وسخطك داء ليس منه طبيب كأنك في كل النفوس مركبٌ ... فأنت إلى كل النفوس حبيب وذكر له شيئاً كثيراً (4) غير هذا.   (1) اليتيمة: 339. (2) اليتيمة: 345. (3) اليتيمة: 345. (4) ر: اشياء كثيرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 367 وقال المسعودي في كتاب " مروج الذهب " (1) : وقد عارض أبو القاسم التنوخي المذكور أبا بكر ابن دريد في مقصورته، وذكر منها أبياتاً، ومدح فيها تنوخ وقومه من قضاعة. وقال غيره: حكى أبو محمد الحسن بن عسكر الصوفي الواسطي قال: كنت ببغداد في سنة إحدى وعشرين وخمسمائة جالساً على دكة بباب أبرز للفرجة إذ جاء ثلاث نسوة فجلسن إلى جانبي، فأنشدت متمثلاً: هواءٌ ولكنه جامد ... وماء ولكنه غير جار وسكت، فقالت إحداهن: هل تحفظ لهذا البيت تماماً فقلت: ما أحفظ سواه، فقالت: أن أنشدك أحدٌ تمامه وما قبله ماذا تعطيه فقلت: ليس لي شيء أعطيه، ولكني أقبل فاه، فأنشدتني الأبيات المذكورة، وزادت بعد البيت الأول: إذا ما تأملتها وهي فيه ... تأملت نوراً محيطاً بنار فهذا النهاية في الابيضاض ... وهذا النهاية في الاحمرار فحفظت الأبيات منها، فقالت لي: أين الوعد تعني التقبيل، أرادت مداعبتي بذلك (2) . وقال الخطيب (3) : إنه ولد بأنطاكية يوم الأحد لأربع بقين من ذي الحجة سنة ثمان وسبعين ومائتين، وقدم بغداد وتفقه بها على مذهب الإمام أبي حنيفة، رضي الله عنه، وسمع الحديث [وكان معتزلياً] (4) . وتوفي بالبصرة يوم الثلاثاء لسبع خلون من شهر ربيع الأول سنة اثنتين وأربعين وثلثمائة، رحمه الله   (1) مروج الذهب 4: 320 - 321، ومطلع مقصورة التنوخي: لولا انتهائي لم أطع نهي النهى ... أي مدى يطلب من جاز المدى (2) وقال غيره ... بذلك: سقط من س ل لي، وبعضه سهواً من ر؛ وما هنا مطابق لما في أصل المؤلف. (3) تاريخ بغداد 12: 77. (4) شطب هذا من المسودة، وسقط من ر، إذ إنه تكرار. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 368 تعالى. ودفن من الغد في تربة اشتريت له، بشارع المربد - وسيأتي ذكر ولده المحسّن في حرف الميم إن شاء الله تعالى - وكل واحد منهما له ديوان شعر. 466 - (1) الناشئ الأصغر أبو الحسن علي بن عبد الله بن وصيف، المعروف بالناشئ الأصغر، الحلاّء الشاعر المشهور؛ وهو من الشعراء المحسنين، وله في أهل البيت قصائد كثيرة. وكان متكلماً بارعاً، أخذ علم الكلام عن أبي سهل إسماعيل بن علي بن نوبخت المتكلم، وكان من كبار الشيعة، وله تصانيف كثيرة، وكان جده وصيف مملوكاً وأبوه عبد الله عطاراً. والحلاء: بفتح الحاء المهملة وتشديد اللام ألف، وإنما قيل له ذلك لأنه كان يعمل حلية من النحاس (2) . قال أبو بكر الخوارزمي: أنشدني أبو الحسن الناشئ بحلب لنفسه، وهو مليح جداً: إذا أنا عاتبت الملوك فإنما ... أخط بأقلامي على الماء أحرفا وهبه ارعوى بعد العتاب، ألم تكن ... مودته طبعاً فصارت تكلفا ومضى إلى الكوفة في سنة خمس وعشرين وثلثمائة، وأملى شعره بجامعها، وكان المتنبي وهو صبي يحضر مجلسه بها. وكتب من إملائه لنفسه من قصيدة (3) : كأن سنان ذابله ضميرٌ ... فليس عن القلوب له ذهاب   (1) ترجمة الناشئ الأصغر في اليتيمة 1: 248 ومعجم الأدباء 13: 280 ولسان الميزان 4: 238؛ وهذه الترجمة مطابقة لما في المسودة. (2) وكان جده ... النحاس: سقط من س ل لي م، وهو بهامش المسودة. (3) نسبهما العكبري (1: 361) لدعبل في مدح علي بن أبي طالب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 369 وصارمه كبيعته بخمٍ ... مقاصدها من الخلق الرقاب فنظم المتنبي هذا وقال (1) : كأن الهام في الهيجا عيونٌ ... وقد طبعت سيوفك من رقاد وقد صغت الأسنة من هموم ... فما يخطرن إلا في فؤاد (2) وكان قد قصد حضرة سيف الدولة بن حمدان بحلب، ولما عزم على مفارقته، وقد غمره بإحسانه، كتب إليه يودعه: أودع لا أني أودع طائعا ... وأعطي بكرهي الدهر ما كنت مانعا وأرجع لا ألفي سوى الوجد صاحباً ... لنفسي إن ألفيت بنفسي راجعا تحملت عنا بالصنائع والعلا ... فنستودع الله العلا والصنائعا راعاك الذي يرعى بسيفك دينه ... ولقاك روض العيش أخضر يانعا ومن شعره أيضاً، عزاها إليه الثعالبي، ثم عزاها إلى أبي محمد ابن المنجم (3) : إذا لم تنل همم الأكرمين ... وسعيهم وادعاً فاغترب فكم دعةٍ أتعبت أهلها ... وكم راحة نتجت من تعب وله أيضاً: إني ليهجرني الصديق تجنياً ... فأريه أن لهجره أسبابا وأخاف إن عاتبته أغريته ... فأرى له ترك العتاب عتابا وإذا بليت بجاهلٍ متغافلٍ ... يدعو المحال من الأمور صوابا أوليته مني السكوت وربما ... كان السكوت عن الجواب جوابا (4)   (1) ديوان المتنبي: 79. (2) ومضى ... فؤاد: سقط من س ل لي. (3) اليتيمة 1: 248، 3: 394. (4) هنا تنتهي الترجمة في ل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 370 وفي أشعاره مقاصد جميلة. وتوفي سنة ست وستين وثلثمائة، رحمه الله تعالى، وقيل أنه توفي يوم الاثنين لخمسة خلون من صفر من سنة خمس وستين ببغداد. ومولده في سنة إحدى وسبعين ومائتين. 467 - (1) الزاهي الشاعر أبو القاسم بن علي بن إسحاق بن خلف البغدادي المعروف بالزاهي الشاعر المشهور؛ وكان وصافاً محسناً كثير الملح، ذكره الخطيب في " تاريخ بغداد " (2) فقال: إنه حسن الشعر في الشبيهات وغيرها، وأحسب شعره قليلاً، وأشار إلى أنه كان قطاناً، وكان دكانه في قطيعة الربيع. وذكره عميد الدولة أبو سعد ابن عبد الرحيم (3) في " طبقات الشعراء " فقال: ولد يوم الاثنين لعشر ليال بقين من صفر سنة ثماني عشرة وثلثمائة، وتوفي يوم الأربعاء لعشر بقين من جمادى الآخرة سنة اثنتين وخمسين وثلثمائة (4) ببغداد، ودفن في مقابر قريش؛ وشعره في أربعة أجزاء، وأكثر شعره في أهل البيت، ومدح سيف الدولة والوزير المهلبي وغيرهما من رؤساء وقته، وقال في جميع الفنون؛ وذكر له: صدودك في الهوى هتك استتاري ... وعاونه البكاء على اشتهاري   (1) ترجمته في اليتيمة 1: 249 والمنتظم 7: 59؛ وما أثبتناه هنا مطابق لما في المسودة. (2) تاريخ بغداد 11: 350. (3) هو محمد بن الحسين بن عبد الرحيم الوزير (- 388) وزر عدة مرات لجلال الدولة (راجع صفحات متفرقة من تاريخ ابن الأثير ج: 9) . (4) في تاريخ بغداد أنه توفي سنة ستين وثلثمائة وذكره مؤلف المنتظم في وفيات إحدى وستين وثلثمائة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 371 ولم أخلع عذاري فيك إلا ... لما عاينت من حسن العذار وكم أبصرت من حسنٍ ولكن ... عليك لشقوتي وقع اختياري وللزاهي المذكور في تشبيه البنفسج: ولازورديةٍ أوفت بزرقتها ... بين الرياض على زرق اليواقيت كأنها فوق قامات ضعفن بها (1) ... أوائل النار في أطراف كبريت وله: ومدامةٍ لضيائها في كأسها ... نورٌ على فلك الأنامل بازغ رقت وغاب عن الزجاجة لطفها ... فكأنما الإبريق منها فارغ ومن محاسن شعره قوله: وبيضٍ بألحاظ العيون كأنما ... هززن سيوفاً واستللن خناجرا تصدين لي يوماً بمنعرج اللوى ... فغادرن قلبي بالتصبر غادرا سفرن بدوراً وانتقبن أهلة ... ومسن غصوناً والتفتن جآذرا وأطلعن في الأجياد بالدر أنجماً ... جعلن لحبات القلوب ضرائرا وهذا تقسيم عجيب، وقد استعمله جماعة من الشعراء، ولكنهم ما أتوا به على هذه الصورة، فإنه أبدع فيه، وهو مثل قول المتنبي (2) : بدت قمراً ومالت خوط بان ... وفاحت عنبراً ورنت غزالا وذكر الثعالبي لبعض شعراء عصره على هذا الأسلوب في وصف مغنٍ: فديتك يا أتم الناس ظرفاً ... وأصلحهم لمتخذ حبيبا   (1) ر: كأنها فوق طاقات شغفن بها؛ م: كأنها وضعاف القضب تحملها. (2) ديوان المتنبي: 129. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 372 فوجهك نزهة الأبصار (1) حسناً ... وصوتك متعة الأسماع طيبا وسائلة تسائل عنك قلنا ... لها في وصفك العجب العجيبا رنا ظبياً وغنى عندليبًا ... ولاح شقائقاً ومشى قضيبا ولولا خوف التطويل لذكرت له نظائر (2) . وللزاهي أيضاً: من عذيري من عذاري قمر ... عرض القلب لأسباب التلف علم الشعر الذي عاجله ... أنه جار عليه فوقف والزاهي: بفتح الزاي وكسر الهاء بعد الألف قال السمعاني (3) : هذه النسبة إلى قرية من قرى نيسابور (4) ونسب إليها جماعة، ثم قال: وأما أبو الحسن علي بن إسحاق بن خلف الشاعر البغدادي المعروف بالزاهي فلا أدري نسب إلى هذه القرية أم لا، غير أنه بغدادي، وكان حسن الشعر. 468 - (5) علي بن المنجم أبو الحسن علي بن يحيى بن أبي منصور المنجم؛ كان نديم المتوكل على الله ومن خواصه وجلسائه المتقدمين عنده، ثم انتقل إلى من بعده من الخلفاء، ولم   (1) ر: روضة الأزهار. (2) زاد في س ل لي: وتوفي الزاهي بعد سنة ستين وثلثمائة ببغداد، وهو مشطوب في المسودة. (3) الأنساب 6: 243 - 244. (4) اسم القرية أزاه ويقال لها الزاه أيضاً. (5) ترجمته في الفهرست: 143 ومعجم المرزباني: 141 والأغاني 8: 369، 22: 157 ومعجم الأدباء 15: 144 وسمط الآلي: 525؛ وهذه الترجمة متابعة للمسودة، والنص كله واقع في حاشيتها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 373 يزل مكيناً عندهم حظياً لديهم يجلس بين يدي أسرتهم ويفضون إليه بأسرارهم ويأمنونه على أخبارهم، ولم يزل عندهم في المنزلة العلية. وكان قبل اتصاله بالخلفاء يلوذ بمحمد بن إسحاق بن إبراهيم المصعبي، ثم اتصل بالفتح بن خاقان وعمل له خزانة كتب أكثرها حكمة، واستكتب له شيئاً عظيماً يزيد على ما كان في خزانته أضعافاً مضاعفة مما لم تشتمل عليه خزانته، وكان راوية للأشعار والأخبار حاذقاً في صنعة الغناء، أخذ عن إسحاق بن إبراهيم الموصلي، وشاهده، وصنف عدة كتب منها كتاب " الشعراء القدماء والإسلاميين " وكتاب " أخبار إسحاق بن إبراهيم الموصلي " وكتاب في الطبيخ، وغير ذلك. وكان شاعراً محسناً، فمن شعره قوله في الطيف: بأبي والله من طرقا ... كابتسام البرق إذ خفقا زادني شوقاً برؤيته ... وحشا قلبي به حرقا من لقلب هائم كلفٍ ... كلما سكنته خفقا زارني طيف الحبيب فما ... زاد أن أغرى بي الأرقا وله أشعار حسان، وعاش إلى أن خدم المعتمد على الله وتوفي في أواخر أيامه، وذلك في سنة خمس وسبعين ومائتين بسر من رأى، رحمه الله تعالى، وخلف جماعة من الأولاد، وكلهم نجباء علماء ندماء - وسيأتي ذكر بعضهم في مواضعهم من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 374 469 - (1) علي بن هارون المنجم أبو الحسن علي بن أبي عبد الله هارون بن علي بن يحيى بن أبي منصور المنجم الشاعر المشهور؛ ذو نسب عريق في ظرفاء الأدباء وندماء الخلفاء والوزراء، وله مع الصاحب ابن عباد مجالس، وفي تشريفه يقول الصاحب: لبني المنجم فطنةٌ لهبيه (2) ... ومحاسن عجميةٌ عربيه وما زلت أمدحهم وأنشر فضلهم ... حتى عرفت بشدة العصبيه ولأبي الحسن المذكور أشعار نادرة، ومما يتغنى به من شعره قوله: [بيني وبينك في الهوى أسباب ... وإلى المحبة ترجع الأنساب] (3) بيني وبين الدهر فيك عتاب ... سيطول إن لم يمحه الإعتاب يا غائباً بوصاله وكتابه ... هل يرتجى من غيبتيك إياب لولا التعلل بالرجا لتقطعت ... نفسٌ عليك شعارها الأوصاب لا يأس (4) من روح الإله فربما ... يصل القطوع وتحضر الغياب وكتب إلى ابن الخوارزمي وقد وثئت رجله من عثرة لحقته: كيف نال العثار من لم يزل من ... هـ مقيلاً في كل خطب جسيم   (1) ترجمته في الفهرست: 144 واليتيمة 3: 119 ومعجم المرزباني: 156 ومعجم الأدباء 15: 112؛ وقد اختلطت هذه الترجمة في ر بالتي قبلها. (2) كذا ضبطها المؤلف - بفتح اللام والهاء - أي فطنة متوقدة كاللهب، ولعل الصواب بكسر اللام وإسكان الهاء نسبة إلى بني لهب وهم قوم عرفوا بالزجر، وإليهم يشير الشاعر بقوله: خبير بنو لهب فلا تك ملغياً ... مقالة لهبي إذا الطير مرت (3) لم يرد البيت في المسودة وس ل لي م. (4) في المسودة: لا تأس. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 375 أو ترقى الردى إلى قدم لم ... تخط إلا إلى مقام كريم وأشعاره ونوادره كثيرة. وله من التصانيف كتاب " شهر رمضان " عمله للإمام الراضي، وكتاب " النيروز والمهرجان " وكتاب " الرد على الخليل " في العروض، وكتاب ابتدأ فيه بنسب أهله، عمله للوزير المهلبي ولم يتمه، وكتاب رسالة في الفرق بين إبراهيم بن المهدي وإسحاق الموصلي في الغناء وكتاب " اللفظ المحيط بنقض ما لفظ به اللقيط " وهو يعارض كتاب أبي الفرج الأصبهاني الذي سماه " الفرق والعيار بين الأوغاد والأحرار ". وهو ولد صاحب كتاب " البارع في اختيار شعر المحدثين " - وسيأتي ذكره في حرف الهاء إن شاء الله تعالى - وحفيد أبي الحسن المذكور قبله. وكانت ولادته لتسع خلون من صفر سنة ست، وقيل سنة سبع وسبعين ومائتين. وتوفي يوم الأربعاء لثلاث عشرة ليلة بقيت من جمادى الآخرة سنة اثنتين وخمسين وثلثمائة، رحمه الله تعالى، وكان يخضب إلى أن توفي. 470 - (1) أبو الفتح البستي أبو الفتح علي بن محمد الكاتب البستي الشاعر المشهور؛ صاحب الطريقة الأنيقة في التجنيس الأنيس البديع التأسيس، فمن ألفاظه البديعة قوله: من أصلح فاسده، أرغم حاسده. من أطاع غضبه، أضاع أدبه. عادات السادات،   (1) ترجمته في الأنساب 2: 226 واليتيمة 4: 303 والمنتظم 7: 72 (وفيات سنة 363) وتاريخ الحكماء للبيهقي: 49 وطبقات السبكي 4: 4 ومعاهد التنصيص 3: 212 والبداية والنهاية 11: 278 والشذرات 3: 159 وعبر الذهبي 3: 75. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 376 سادات العادات. من سعادة جدك، وقوفك عند حدك. الرشوة رشاء الحاجات. أجهل الناس من كان للإخوان مذلا، وعلى السلطان مدلا. الفهم شعاع العقل. المنية تضحك من الأمنية. حد العفاف، الرضا بالكفاف. ما لخرق الرقيع ترقيع. ومن نادر شعره قوله: إن هز أقلامه يوماً ليعملها ... أنساك كل كميٍ هز عامله وإن أقر على رق أنامله ... أقر بالرق كتاب الأنام له وله (1) : وقد يلبس المرء حر الثياب ... ومن دونها حالة مضنيه كمن يكتسي خده حمرةً ... وعلتها ورم في الريه وله: إذا تحدثت في قوم لتؤنسهم ... بما تحدث من ماض ومن آت فلا تعد لحديث إن طبعهم ... موكل بمعاداة المعادات وله (2) : تحمل أخاك على ما به ... فما في استقامته مطمع وأنى له خلق واحد ... وفيه طبائعه الأربع (3) وللبستي حين تغير عليه السلطان، وهو معنى بديع: قل للأمير أدام ربي عزه ... وأناله من فضله مكنونه   (1) سقط البيتان التاليان من ر. (2) سقط البيتان التاليان من لي. (3) جاء في حاشية س زيادة من غير الأصل، وهي قول البستي: عزلت ولم أذنب ولم أك جانباً ... وهذا لإنصاف الوزير خلاف حذفت وغيري مثبت في مكانه ... كأني نون الجمع حين تضاف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 377 إني جنيت ولم يزل أهل النهى ... يهبون للخدام ما يجنونه ولقد جمعت من العيون فنونها ... فاجمع من العفو الكريم فنونه من كان يرجو عفو من هو فوقه ... عن ذنبه فليعف عمن دونه وله أيضاً: إذا أحسست في لفظي فتوراً ... وحفظي والبلاغة والبيان فلا ترتب بفهمي إن رقصي ... على مقدار إيقاع الزمان هكذا قاله في " زهر الآداب " (1) ، والله أعلم (2) . وشعره كثير في التجنيس وغيره. وتوفي سنة أربعمائة، وقيل سنة إحدى وأربعمائة ببخارى، والله أعلم، رحمه الله تعالى. وقد تقدم الكلام على البستي في ترجمة الخطابي، ورأيت في أول ديوانه أنه أبو الفتح علي بن محمد بن الحسن بن محمد بن عبد العزيز الكاتب الشاعر، والله أعلم. 471 - (3) التهامي الشاعر أبو الحسن علي بن محمد التهامي الشاعر المشهور؛ قال ابن بسام الأندلسي في كتاب " الذخيرة " في حقه: كان مشتهر الإحسان، ذرب اللسان، مخلى بينه   (1) زهر الآداب: 154 وانظر المختار من شعر بشار: 215. (2) وللبستي حين تغر ... أعلم: انفردت به ر، وفي موضعه في المسودة إحالة على " تخريجة ". (3) ترجمته في تتمة اليتيمة 1: 37 والنجوم الزاهرة 4: 263 وعبر الذهبي 3: 122 والشذرات 3: 204 وانظر بروكلمان، التكملة 1: 147؛ وقد أورد المؤلف إضافات كثيرة في هوامش المسودة سقطت جميعها من س ل لي؛ وكانت الترجمة هنا مطابقة للمسودة تماماً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 378 وبين ضروب البيان، يدل شعره على فوز القدح، دلالة برد النسيم على الصبح، ويعرب عن مكانه من العلوم، إعراب الدمع على سر الهوى المكتوم. قلت: وله ديوان شعر صغير أكثره نخب. ومن لطيف نظمه قوله من جملة قصيدة طويلة مدح بها الوزير أبا القاسم ابن المغربي - المقدم ذكره في حرف الحاء (1) : قلت لخلي وثغور الربا ... مبتسمات وثغور الملاح (2) أيهما أحلى ترى منظراً ... فقال: لا أعلم، كلٌ أقاح ومثل هذا ما ينسب إلى ابن سناء الملك - الآتي ذكره - وهو (3) : فتحيرت أحسب الثغر عقداً ... لسليمى وأحسب العقد ثغرا فلثمت الجميع قطعاً لشكي ... وكذا فعل كل من يتحرى وله في المديح وقد بالغ فيه: أعطى وأكثر فاستقل هباته ... فاستحيت الأنواء وهي هوامل فاسم السحاب لديه وهو كنهور ... آلٌ، وأسماء البحور جداول وله مرثية في ولده، وكان قد مات صغيراً، وهي في غاية الحسن ولم يمنعني من الإتيان بها إلا أن الناس يقولون: إنها محدودة، فتركتها، لكن من جملتها بيتان في الحساد ومعناهما غريب فأثبتهما (4) : إني لأرحم حاسدي لحر ما ... ضمت صدورهم من الأوغار نظروا صنيع الله بي فعيونهم ... في جنة، وقلوبهم في نار   (1) انظر الترجمة رقم: 193. (2) ديوان التهامي: 13. (3) ديوان ابن سناء الملك: 419. (4) القصيدة في ديوانه: 27 - 32. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 379 ومنها في ذم الدنيا: طبعت على كدر وأنت تريدها ... صفواً من الأقذاء والأكدار ومكلف الأيام ضد طباعها ... متطلب في الماء جذوة نار وإذا رجوت المستحيل فإنما ... تبني الرجاء على شفيرٍ هار ومنها: جاورت أعدائي وجاور ربه ... شتان بين جواره وجواري وتلهب الأحشاء شيب مفرقي ... هذا الشعاع شواظ تلك النار ومعنى هذا البيت مأخوذ من قول أبي نصر سعيد بن الشاه، وهو: قالت اسود عارضاك بشعرٍ ... وبه تقبح الوجوه الحسان قلت أشعلت في فؤادي ناراً ... فعلى وجنتي منه دخان وله من جملة قصيدة طويلة (1) : كم قلت إياك الحجاز فإنه ... ضريت جآذره بصيد أسوده وأردت صيد مها الحجاز فلم يسا ... عدك القضاء فصرت بعض صيوده ومن شعره المشهور قوله: بين كريمين مجلسٌ واسع ... والود حال يقرب الشاسع والبيت إن ضاق عن ثمانية ... متسعٌ بالوداد للتاسع وله بيت بديع من جملة قصيدة وهو (2) : وإذا جافاك الدهر وهو أبو الورى ... طراً فلا تعتب على أولاده   (1) ديوانه: 65. (2) ديوانه: 63. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 380 وكان التهامي المذكور قد وصل إلى الديار المصرية مستخفياً، ومعه كتب كثيرة من حسان بن مفرج بن دغفل البدوي وهو متوجه إلى بني قرة، فظفروا به، فقال: أنا من بني تميم، فلما انكشفت حاله عرف أنه التهامي الشاعر، فاعتقل في خزانة البنود، وهو سجن بالقاهرة المحروسة، وذلك لأربع بقين من شهر ربيع الآخر سنة ست عشرة وأربعمائة، ثم قتل سراً في سجنه في تاسع جمادى الأولى من السنة المذكورة، رحمه الله تعالى. وكان أصفر اللون، هكذا نقلته من بعض تواريخ المصريين، وهو مرتب على الأيام، قد كتب مؤلفه كل يوم وما جرى فيه من الحوادث، رأيت منه مجلداً واحداً، ولا أعلم كم عدد مجلداته. وبعد موته رآه بعض أصحابه في النوم، فقال له: ما فعل الله بك فقال: غفر لي، فقال: بأي الأعمال فقال: بقولي في مرثية ولدي الصغير: جاورت أعدائي وجاور ربه ... شتان بين جواره وجواري والتهامي: بكسر التاء المثناة من فوقها وفتح الهاء وبعد الألف ميم، هذه النسبة إلى تهامة، وهي تنطلق على مكة، حرسها الله تعالى، ولذلك قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: تهامي لأنه منها، وتنطلق أيضاً على جبال تهامة وبلادها، وهي خطة متسعة بين الحجاز وأطراف اليمن، ولا أعلم هل نسبة هذا الشاعر إلى مكة أم إليها، والله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 381 472 - (1) ابن نوبخت أبو الحسن علي بن أحمد بن نوبخت الشاعر؛ كان شاعراً مجيداً، إلا أنه كان قليل الحظ من الدنيا، لم يزل رقيق الحال ضعيف المقدرة، وتوفي بمصر في شعبان سنة ست عشرة وأربعمائة، وهو على حاله من الضرورة وشدة الفاقة، رحمه الله تعالى؛ وكفنه ولي الدولة أبو محمد أحمد بن علي المعروف بابن خيران الكاتب الشاعر. (124) وهذا ابن خيران (2) كان متولي كتب السجلات عن الظاهر بن الحاكم صاحب مصر، وله ديوان شعر أيضاً صغير الحجم ومن شعره البيتان المشهوران وهما: سعى إليك بي الواشي فلم ترني ... أهلاً لتكذيب ما ألقى من الخبر ولو سعى بك عندي في ألذ كرىً ... طيف الخيال لبعت النوم بالسهر قلت: ويقرب من هذا المعنى قول أبي عبد الله الحسين بن القم اليمني الشاعر المشهور صاحب الرسالة المشهورة (3) من جملة أبيات، وهو قوله (4) : أنبئت أنك قد أتتك قوارضٌ ... عني ثنتك على الضمير الواجد عملت رقى الواشين فيك وإنها ... عندي لتضرب في حديد بارد والأصل في هذا كله قول عبد الله بن الدمينة الخثعمي الشاعر المشهور   (1) هذه الترجمة مطابقة لنص المسودة. (2) ترجمته في معجم الأدباء 2: 5 والوافي 7: 234. (3) لابن القم ترجمة في الخريدة (3: 74، قسم الشام) ومعجم الأدباء 10: 130 والفوات 1: 278 ورسالته المشار إليها كتبها إلى أبي حمير سبأ بن أبي السعود أحمد بن المظفر الصليحي بعد انفصاله عنه. (4) انظر الخريدة: 82 وهما من قصيدة في مدح عبد الواحد بن بشارة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 382 المعروف بنائحة العرب من جملة قصيدته البائية المشهورة، وهو قوله (1) : وكوني على الواشين لداء شغبةً ... كما أنا للواشي ألد شغوب ونوبخت: بضم النون وسكون الواو وفتح الباء الموحدة وسكون الخاء المعجمة وبعدها تاء مثناة من فوقها (2) . وإنما ذكرت ابن خيران في هذه الترجمة، ولم أفرده بترجمة، لأني لم أقف على تاريخ وفاته، وقد التزمت في هذا الكتاب ذكر أرباب الوفيات، ثم إني وجدت في كتاب " طبقات الشعراء " تأليف الوزير أبي سعد محمد بن الحسين بن عبد الرحيم الملقب عميد الدولة ترجمة ولي الدولة ابن خيران المذكور، وذكر له شعراً وقال: كان شاباً حسن الوجه، ورد الخبر بوفاته في شهر رمضان من سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة، وكان وقوفي على هذا الفصل في أواخر سنة خمس وسبعين وستمائة بالقاهرة (3) ، والله أعلم. 473 - (4) صريع الدلاء أبو الحسن علي بن عبد الواحد الفقيه البغدادي، المعروف بصريع الدلاء قتيل الغواشي ذي الرقاعتين الشاعر المشهور؛ ذكره الرشيد أبو الحسين أحمد بن الزبير المذكور في حرف الهمزة في كتاب " الجنان "، فقال: " كان يسلك في   (1) ديوان ابن الدمينة: 112. (2) هنا تنتهي الترجمة في س ل لي م. (3) ورد هذا في المسودة، وهو يدل على أنها الصورة النهائية التي أرادها المؤلف لكتابه. (4) ترجمته في عبر الذهبي 3: 110 (باسم محمد) والشذرات 3: 197 (ملخصة عن ابن خلكان) ، وسماه في تتمة اليتيمة (1: 14) محمد بن عبد الواحد أيضاً وقال: إنه بصري المولد والمنشأ إلا أنه استوطن بغداد؛ وهذه الترجمة مستوفاة في المسودة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 383 شعره مسلك أبي الرقعمق (1) ، وله قصيدة في المجون ختمها ببيت لو لم يكن له في الجد سواه لبلغ به درجة الفضل وأحرز معه قصب السبق وهو قوله: من فاته العلم وأخطاه الغنى ... فذاك والكلب على حال سوا وقدم مصر سنة اثنتي عشرة وأربعمائة ومدح الظاهر لإعزاز دين الله "؛ انتهى كلام ابن الزبير. ورأيت في نسخة من ديوان شعره أنه أبو الحسن محمد بن عبد الواحد القصار البصري، والله أعلم بالصواب (2) . وكانت وفاته في سابع رجب سنة اثنتي عشرة وأربعمائة، فجأة، من شرقة لحقته عند الشريف البطحائي، وغالب ظني أنه توفي بمصر، رحمه الله تعالى، لأني نقلت تاريخ وفاته من التاريخ الذي ذكرته في ترجمة التهامي، ومبناه على الحوادث الكائنة بمصر يوماً فيوماً ويؤيد ذلك أن ابن الزبير قد ذكر أنه قدم مصر في سنة اثنتي عشرة، وهي السنة التي توفي فيها، والله أعلم. وفيه قال أبو العلاء المعري (3) : دعيت بصارعٍ فتداركته ... مبالغةٌ فرد إلى فعيل كان طلب منه شراباً وما يليق به، فسير له قليل نفقة، واعتذر بهذه الأبيات.   (1) ترجم له المؤلف في المجلد الأول: 131 (رقم: 54) . (2) ديوانه بمكتبة أحمد الثالث رقم: 2450. (3) شروح السقط: 1141 وأول القصيدة: تفهم يا صريع البين بشرى ... أتت من مستقل مستقيل ولم يعرف شراح الديوان من هو الشاعر المعني وقالوا هو رجل يلقب بصريع البين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 384 474 - (1) صردر الشاعر الرئيس أبو منصور علي بن الحسن (2) بن علي بن الفضل الكاتب المعروف بصردر (3) الشاعر المشهور؛ أحد نجباء شعراء عصره، جمع بين جودة السبك وحسن المعنى، وعلى شعره طلاوة رائقة وبهجة فائقة، وله ديوان شعر وهو صغير، وما ألطف قوله من جملة قصيدة (4) : نسائل عن ثمامات بحزوى ... وبان الرمل يعلم ما عنينا فقد كشف الغطاء فما نبالي ... أصرحنا بذكرك أم كنينا ولو أني أنادي يا سليمى ... لقالوا ما أردت سوى لبينى ألا لله طيفٌ منك يسقي ... بكاسات الكرى (5) زوراً ومينا مطيته طوال الليل (6) جفني ... فكيف شكا إليك وجىً وأينا فأمسينا كأنا ما افترقنا ... وأصبحنا كأنا ما التقينا وقوله في الشيب: لم أبك أن رحل الشباب، وإنما ... أبكي لأن يتقارب الميعاد   (1) ترجمته في عبر الذهبي 3: 259 والشذرات 3: 322 (تلخيصاً عن ابن خلكان) والمنتظم 8: 281 وتاريخ ابن الأثير 10: 88 والنجوم الزاهرة 5: 94؛ وقد استوفت المسودة جميع هذه الترجمة. (2) ر: الحسين، وكذلك ورد في بعض المصادر المذكورة آنفاً. (3) شكله المؤلف في الأصل بضم الصاد. (4) وردت هذه المقطوعة وما يليها في ديوانه: 91، 216 - 217. (5) الديوان: الردى. (6) الديوان: الدهر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 385 شعر الفتى أوراقه، فإذا ذوى ... جفت على آثاره الأعواد وله في جارية سوداء، وهو معنى حسن: علقتها سوداء (1) مصقولةً ... سواد قلبي صفةٌ فيها ما انكسف البدر على تمه ... ونوره إلا ليحكيها لأجلها الأزمان أوقاتها ... مؤرخات بلياليها وإنما قيل له " صردر " لأن أباه كان يلقب " صربعر " لشحه، فلما نبغ ولده المذكور وأجاد في الشعر قيل له: صردر، وقد هجاه بعض الشعراء وقته وهو الشريف أبو جعفر مسعود المعروف بالبياضي الشاعر - وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى: لئن لقب الناس قدماً أباك ... وسموه من شحه صر (2) بعرا فإنك تنثر ما صره ... عقوقاً له وتسميه شعرا ولعمري ما أنصفه هذا الهاجي، فإن شعره نادر، وإنما العدو لا يبالي بما يقوله. وكانت وفاة صردر في سنة خمس وستين وأربعمائة، وكان سبب موته أنه تردى في حفرة حفرت للأسد في قرية بطريق خراسان. وكانت ولادته قبل الأربعمائة - وسيأتي ذكره في ترجمة الوزير فخر الدولة بن جهير (3) ، واسمه محمد، وله هناك شعر بديع.   (1) الديوان: حماه. (2) شكلها المؤلف هنا بفتح الصاد، ووردت في لي بضمها. (3) كرر في المسودة لفظة " الوزير " في هذا الموضع أيضاً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 386 (1) 475 الباخرزي أبو الحسن علي بن الحسن بن علي بن أبي الطيب الباخرزي الشاعر المشهور؛ كان أوحد عصره في فضله وذهنه، والسابق إلى حيازة القصب في نظمه ونثره. كان في شبابه مشتغلاً بالفقه على مذهب الإمام الشافعي، رضي الله عنه، واختص بملازمة درس الشيخ أبي محمد الجويني والد إمام الحرمين، ثم شرع في فن الكتابة، واختلف إلى ديوان الرسائل، وارتفعت به الأحوال وانخفضت، ورأى من الدهر العجائب سفراً وحضراً، وغلب أدبه على فقهه، فاشتهر بالأدب وعمل الشعر، وسمع الحديث، وصنف كتاب " دمية القصر وعصرة أهل العصر " وهو ذيل " يتيمة الدهر " التي للثعالبي، وجمع فيها خلقاً كثيراً. (125) وقد وضع على هذا الكتاب أبو الحسن علي بن زيد البيهقي كتاباً سماه " وشاح الدمية " وهو كالذيل له، هكذا سماه السمعاني في " المذيل "، وقال العماد في " الخريدة ": هو شرف الدين أبو الحسن علي بن الحسن البيهقي، والله أعلم، وذكر أشياء من شعره، فمن ذلك: يا خالق الخلق حملت الورى ... لما طغى الماء على جاريه وعبدك الآن طغى ماؤه ... في الصلب فاحمله على جاريه   (1) ترجمته في الأنساب 2: 17 واللباب: (الباخرزي) وعبر الذهبي 3: 265 والشذرات 3: 327 (تلخيصاً عن ابن خلكان) وطبقات السبكي 3: 298. وكتابه المنشور باسم " دمية القصر " مختصر للكتاب الأصلي ولعل مخطوطة رئيس الكتاب (رقم: 795) تمثل النسخة الكاملة؛ وفي آخر المطبوعة ملتقط من ديوانه، ولكن له ديواناً كاملاً، انظر: أحمد الثالث رقم: 2643، وهناك مختارات من ديوانه (آيا صوفيا: 3767) ؛ قلت: وترجمته المثبتة هنا مستوفاة في المسودة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 387 رجعنا إلى الباخرزي: وديوان شعره مجلد كبير والغالب عليه الجودة، فمن معانيه الغريبة قوله: وإني لأشكو لسع أصداغك التي ... عقاربها التي في وجنتيك تحوم وأبكي لدر الثغر منك ولي أبٌ ... فكيف يديم الضحك وهو يتيم ومن قوله في شدة البرد: كم مؤمن قرصته أظفار الشتا ... فغدا لسكان الجحيم حسودا وترى طيور الماء في وكناتها ... تختار حر النار والسفودا وإذا رميت بفضل (1) كسأك في الهوى ... عادت عليك من العقيق عقودا يا صاحب العوديين لا تهملهما ... حرق لنا عوداً وحرك عودا وقوله من جملة أبيات: يا فالق الصبح من لألاء غرته ... وجاعل الليل من أصداغه سكنا بصورة الوثن استعبدني، وبها ... فتنتني، وقديماً هجت لي شجنا لا غرو أن أحرقت نار الهوى كبدي ... فالنار حق على من يعبد الوثنا ومن المنسوب إليه، والله أعلم: وإذا بكيت دماً تقول شمت بي ... يوم النوى فصبغت دمعك أحمرا من شاء أمنحه الغرام فدونه ... هذي خلائقها بتحيير الشرى هكذا أنشدنيهما بعض المتأدبين والعهدة عليه في ذلك (2) . وقتل الباخرزي في مجلس الأنس بباخرز (3) في ذي القعدة سنة سبع وستين   (1) فوقها في المسودة: بسور، وكذلك وردت في ل س. (2) ومن المنسوب ... ذلك: لم يرد إلا في حاشية المسودة. (3) ر: وقتل الباخرزي في الأندلس، وما كنا لنشير إليه وهو خطأ بين لولا أنه ورد كذلك في شذرات الذهب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 388 وأربعمائة، وذهب دمه هدراً، رحمه الله تعالى. وباخرز: بفتح الباء الموحدة وبعد الألف خاء موحدة مفتوحة ثم راء ساكنة وبعدها زاي، وهي ناحية من نواحي نيسابور تشتمل على قرى ومزارع، خرج منها جماعة من الفضلاء وغيرهم. 476 - (1) ابن أفلح الشاعر جمال الملك أبو القاسم علي بن أفلح العبسي الشاعر المشهور؛ شاعر ظريف حسن المديح كثير الهجاء، مدح الخلفاء فمن دونهم من أرباب المراتب، وجاب البلاد ولقي رؤساها وأكابرها، رأيت ديوانه في مجلد وسط وقد جمعه بنفسه وعمل له خطبة وقفاه، وذكر عدد ما في كل قافية في بيت، واعتنى بأمره وهذبه، نقلت منه قوله يخاطب محبوبه: يا جاهلاً قدر المحبة ساءني ... ما ضاع من كلفي ومن تبريحي سيان عندك مغرم بك هائم ... وخلي قلبٍ فيك غير قريح لو كنت أعلم أن طبعك هكذا ... لم أعص يوم نصحت فيك نصيحي ما كان في عزمي السلو وإنما ... ألزمتنيه بكثرة التقبيح وله في غلام ناقص الجمال: وما عشقي له وحشاً لأني ... كرهت الحسن واخترت القبيحا ولكن غرت أن أهوى مليحاً ... وكل الناس يهوون المليحا   (1) ترجمته في الخريدة (قسم العراق) 2: 52 والمنتظم 10: 80 (وفيات 533) ومرآة الزمان: 169 وتاريخ ابن الأثير 11: 80 (وفيات 535) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 389 ولابن المعتز في هذا المعنى أيضاً، أي في ناقص الجمال: قلبي ميال إلى ذا وذا ... ليس يرى شيئاً فيأباه يهيم بالحسن كما ينبغي ... ويرحم القبح فيهواه ومن أبياته السائرة المشهورة من جملة أبيات قوله: بيننا يوم أثيلات منى ... كان عن غير تراضٍ بيننا (1) [ولبعض المتأخرين في المعنى الأول: أنا لا أعشق من يع ... شقه كل الأنام وأعاف المنهل العذ ... ب لبغضي في الزحام] (2) وله في غلام أعرج، أي لابن أفلح المذكور: بأبي من رأيته يتثنى ... فهو من لينه يحل ويعقد حسدوه على الجمال فقالوا ... أعرج والمليح مازال يحسد هو غصنٌ والحسن في الغصن النا ... عم ما كان مائلاً يتأود وله في بعض الرؤساء، وقد وصل إلى بابه، فمنعه البواب من الدخول إليه (3) : حمدت بوابك إذ ردني ... وذمه غيري على رده لأنه قلدني نعمة ... تستوجب الإغراق في حمده أراحني من قبح ملقاك لي ... وكبرك الزائد في حده [وأورد له الحظيري في " زينة الدهر ":   (1) ومن أبياته ... بيننا: ورد في المسودة والنسخة ر فقط. (2) انفردت ر بما حصر بين معقفين. (3) الخريدة: 67. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 390 لا غرو من جزعي لبينهم ... يوم النوى وأنا أخو الفهم فالقوس من خشب تئن إذا ... ما كلفوها فرقة السهم وقال وقد وعده رجل بدرياق وتأخر عنه: لا غرو أن أخلف ميعاده ... من لم يجد قط ولم يكرم وإنما الأعجب منه أنا ... أن أطلب الدرياق من أرقم] (1) وله نوادر كثيرة. وتوفي يوم الخميس ثاني شعبان سنة خمس، وقيل ست، وقيل سبع وثلاثين وخمسمائة، وعمره أربع وستون سنة وثلاثة أشهر وأربعة عشر يوماً، وكانت وفاته ببغداد، ودفن بالجانب الغربي بمقابر قريش، رحمه الله تعالى. وأفلح: بفتح الهمزة وسكون الفاء وفتح اللام وبعدها حاء مهملة. والعبسي: بفتح العين المهملة وسكون الباء الموحدة وبعدها سين مهملة، هذه النسبة إلى عبس، وهو اسم لعدة قبائل، ولا أعلم إلى أيها ينسب المذكور، وهو يتصحف بالعنسي، مثل الأول لكن بدل الباء نون، وهي قبيلة أيضاً. 477 - (2) ابن مسهر الموصلي أبو الحسن علي بن أبي الوفاء سعد بن أبي الحسن علي بن عبد الواحد بن عبد القاهر بن أحمد بن مسهر الموصلي، الملقب مهذب الدين؛ كان شاعراً بارعاً رئيساً مقدماً، تنقل في أكثر ولايات الموصل ومدح الخلفاء والأمراء؛ رأيت   (1) ما بين معقفين زيادة من ر. (2) ترجمته في الخريدة (قسم الشام) 2: 271. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 391 ديوان شعره في مجلدين (1) ، وذكر في ديوانه أنه ولد بمدينة آمد، ومن محاسن شعره قوله في صفة فهد: [وكل أهرت بادي السخط مطرح ال ... حياء جهم المحيا سيء الخلق] (2) والشمس مذ لقبوها بالغزالة أع ... طته الرشا حسداً من لونها اليقق (3) ونقطته حباءً كي يسالمها ... على المنايا نعاج الرمل بالحدق هذا ولم يبرزا مع سلم جانبه ... يوماً لناظره إلا على فرق ومن هذه القصيدة في صفة الخيل: سودٌ حوافرها بيضٌ جحافلها (4) ... صبغ تولد بين الصبح والغسق من طول ما وطئت ظهر الدجا خبباً ... وطول ما كرعت من منهل الفلق [وهي قصيدة بديعة، وأولها: هي الموارد بين السحر والحدق ... فرد دنان المنايا مورد الأنق وأطيب العيش ما تجنيه من تعب ... وأعذب الشرب ما يصفو من الرنق يا دار درك إخلاف الغمام على ... مر النسيم بجاري الغيث منبثق وإن عدتك عوادي المزن فانتجعي ... بأروض الأرض من أجفان ذي حرق] (5) وهذه الأبيات (6) مع أنها جيدة مأخوذة من أبيات الأمير أبي عبد الله محمد بن أحمد السراج الصوري، وكان معاصره، وهي من جملة قصيدة:   (1) ر: مجلدات. (2) لم يرد هذا البيت إلا في ر. (3) فوقها في المسودة " معاً " أي بفتح القاف الأولى وكسرها. (4) الجحفلة للفرس والبغل والحمار بمنزلة الشفة للإنسان. (5) انفردت ر بما بين معقفين. (6) زاد في ر: التي في وصف الفهد؛ وهي زيادة ضرورية بعد ورود أبيات أخرى فصلت بين الأبيات الأولى والتعليق؛ إذ أن المؤلف يعلق هنا على الأبيات التي ذكرها في صفة الفهد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 392 شثن البراثن في فيه وفي يده ... ما في الصوارم والعسالة الذبل تنافس الليل فيه والنهار معاً ... فقمصاه بجلباب من المقل والشمس منذ دعوها بالغزالة لم ... تبرز لناظره إلا على وجل ومن شعر ابن مسهر أيضاً بيتان كتبهما إلى بعض الرؤساء: ولما اشتكيت اشتكى كل ما ... على الأرض واعتل شرقٌ وغرب لأنك قلبٌ لجسم الزمان ... وما صح جسمٌ إذا اعتل قلب [وذكره العماد الكاتب في " الخريدة "، وبالغ في الثناء عليه، ثم قال: أنشدني العلم الشاتاني (1) له هذه القصيدة: حسرت عن يومنا النوب ... واكتسى نواره العشب واستقامت في مجرتها ... بالأماني السبعة الشهب يا خليلي أين مصطبحٌ ... فيه للذات مصطحب وثغور الزهر ضاحكة ... ودموع القطر تنسكب ولنا في كل جارحة ... من غِنا أطياره طرب اسقنيها بنت دسكرة ... وهي أم حين تنتسب خندريسونٌ دون مدتها ... جاءت الأزمان والحقب طاف يجلوها لنا رشأ ... قصرت عن لحظه القضب أوقدتها نار وجنته ... فهي في كفيه تلتهب ولها من ذاتها طربٌ ... فلهذا يرقص الحبب ثم قال بعد ذلك: وكان قد حكى لي كمال الدين بن السهروردي قال: كان ابن مسهر إذا أعجبه معنى لشاعر أو بيت عمل عليه قصيدة وادعاه لنفسه، واجتمع هو والأبيوردي مرة، وهو لا يعرف ابن مسهر، فجرى حديث ابن   (1) هو أبو علي الحسن بن سعيد علم الدين الشاتاني، انظر ترجمته في المجلد الثاني من الوفيات: 113. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 393 مسهر وأنه سرق بيت الأبيوردي، فقال ابن مسهر: بل الأبيوردي سرق شعري. وقال في " الخريدة " أيضاً في حقه في أول ترجمته (1) : عاش إلى زماننا هذا، ورأيته شيخاً أناف على التسعين لما كنت بالموصل سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة، ثم وصفه على جاري عادته، ثم قال: وابن مسهر مسهر المعاصرين حسداً، ومميت القاصرين عن شأوه كمداً، ثم قال في أثناء الترجمة] (2) : ومن غريب الاتفاق ما حكاه السمعاني عن أبي الفتح عبد الرحمن بن أبي الغنائم محمد بن أحمد بن علي بن عبد الغفار المعروف بابن الأخوة البيع الأديب الكاتب، أنه رأى في منامه منشداً ينشد: وأعجب من صبري القلوص التي سرت ... بهودجك المزموم أنى استقلت وأطبق أحناء الضلوع على جوىً ... جميعٍ وصبرٍ مستحيلٍ مشتت قال أبو الفتح المذكور: فلما انتبهت جعلت دأبي السؤال عن قائل هذين البيتين مدة، فلم أجد مخبراً عنهما، ومضى على ذلك عدة سنين، ثم اتفق نزول أبي الحسن علي بن مسهر المذكور في ضيافتي، فتجاذبنا في بعض الليالي ذكر المنامات، فذكرت له حال المنام الذي رأيته، وأنشدته البيتين المذكورين، فقال: أقسم بالله أنهما من شعري من جملة قصيدة، وأنشدني منها: إذا ما لسان الدمع نم على الهوى ... فليس بسرٍ ما الضلوع أجنت فوالله ما أدري عشية ودعت ... أناحت حمامات اللوى أم تغنت وأعجب من صبري القلوص التي سرت ... بهودجك المزموم أنى استقلت أعاتب فيك اليعملات على النوى ... وأسأل عنك الريح من حيث هبت وأطبق أحناء الضلوع على جوىً ... جميعٍ وصبرٍ مستحيلٍ مشتت قال: فعجبنا من هذا الاتفاق، ثم تذاكرنا بقية ليلتنا بأنواع الأدب.   (1) الخريدة: 271. (2) ما بين معقفين لم يرد إلا في ر؛ وأول النص التالي في النسخ الأخرى: " قرأت في تاريخ السمعاني قال سمعت أبا الفتح ... الخ " وهو موافق لما جاء في الخريدة: 273. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 394 [ومن شعره أيضاً، وهو ما أورده له في " الخريدة " من قصيدة (1) : الوجد ما قد هيج الطللان ... مني، وأذكرني حمام البان أنا والحمائم حيث تندب شجوها ... فوق الأراكة سحرةً سيان فأنا المعنى بالقدود أمالها ... شرخ الشباب وهن بالأغصان ومنها: فافخر فإنك من سلالة معشر ... عقدوا عمائمهم على التيجان كل الأنام بنو أبٍ لكنما ... بالفضل تعرف قيمة الإنسان] (2) وتوفي في أواخر صفر سنة ثلاث وأربعين وخمسائة رحمه الله تعالى. وقال العماد الكاتب في " الخريدة " سنة ست وأربعين. ومسهر: بضم الميم وسكون السين المهملة وكسر الهاء بعدها وبعدها راء، وهو اسم علم. 478 - (3) ابن الساعاتي أبو الحسن علي بن رستم بن هردوز المعروف بابن الساعاتي، الملقب بهاء الدين، الشاعر المشهور؛ شاعر مبرز في حلبة المتأخرين، له ديوان شعر يدخل   (1) الخريدة: 277. (2) ما بين معقفين انفردت به ر؛ وواضح أن الزيادات التي انفردت بها هذه النسخة كلها منقولة عن الخريدة. (3) ترجمته في البدر السافر، الورقة: 19 وعبر الذهبي 5: 11 والشذرات 5: 13 وذكره في مرآة الزمان: 375 وابن أبي أصيبعة 2: 184 وروضات الجنات: 89 وانظر مقدمة محقق الديوان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 395 في مجلدين، أجاد فيه كل الإجادة، وديوان أخر لطيف سماه " مقطعات النيل " نقلت منه قوله (1) : لله يومٌ في سيوط وليلةٌ ... صرف الزمان بأختها لا يغلط بتنا وعمر الليل في غلوائه ... وله بنور البدر فرعٌ أشمط والطل في سلك الغصون كلؤلؤ ... رطب يصافحه النسيم فبسقط والطير يقرأ والغدير صحيفة ... والريح تكتب والغمامة تنقط وهذا تقسيم بديع؛ ونقلت منه أيضاً (2) : وقد نزلت بروضة حزنيةٍ ... رتعت نواظرها بها والأنفس فظللت أعجب حيث يحلف صاحبي ... والمسك من نفحاتها يتنفس ما الجو إلا عنبرٌ والدوح ... إلا جوهرٌ والروض إلا سندس سفرت شقائقها فهم الأقحوا ... ن بلثمها فرنا إليه النرجس فكأن ذا خد وذا ثغر يحا ... وله وذا أبداً عيون تحرس وله كل معنى مليح. أخبرني ولده بالقاهرة المحروسة أن أباه توفي يوم الخميس الثالث والعشرين من شهر رمضان سنة أربع وستمائة بالقاهرة، ودفن بسفح المقطم وعمره إحدى وخمسون سنة وستة أشهر وأثنا عشر يوماً. ورأيت بخط بعض المشايخ وقد وافق في تاريخ الوفاة ولكنه قال: عاش ثمانياً وأربعين سنة وسبعة أشهر واثني عشر يوما وأنه ولد بدمشق، رحمه الله تعالى. والله أعلم بالصواب. ورستم: بضم الراء وسكون السين المهملة وضم التاء المثناة من فوقها. وهردوز: بفتح الهاء وسكون الراء وضم الدال وسكون الواو وبعدها زاي.   (1) ديوانه 2: 4. (2) ديوانه 2: 164. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 396 وسيوط: بضم السين المهملة والياء المثناة من تحتها وسكون الواو وبعدها طاء مهملة، وهي بلدة بصعيد مصر، ومنهم من يقول أسيوط بزيادة همزة مضمومة [وسكون السين] (1) . 479 - (2) ابن الآمدي قاضي واسط أبو الفضائل علي بن أبي المظفر يوسف بن أحمد بن محمد بن عبيد الله بن الحسين بن أحمد بن جعفر، الآمدي الأصل الواسطي المولد والدار؛ هو من بيت معروف بواسط بالصلاح والروايه والعدالة، قدم بغداد وأقام بها مدة متفقهاً على مذهب الإمام الشافعي، رضي الله عنه، على الشيخ أبي طالب المبارك بن المبارك صاحب ابن الخل، ثم من بعده على أبي القاسم يعيش بن صدقة الفراتي، وأعاد له درسه بالمدرسة الثقتية بباب الأزج، وكان حسن الكلام في المناظرة، وسمع الحديث من جماعة كبيرة ببلده وببغداد، وتولى القضاء بواسط في أواخر صفر سنة أربع وستمائة، وصار إليها في شهر ربيع الأول من السنة المذكورة، وأضيف إليه أيضاً (3) الاشراف بالأعمال الواسطية، وكان له معرفة بالحساب، وله أشعار رائقة، فمن ذلك الأبيات السائرة وهي: واهاً له ذكر الحمى فتأوها ... ودعا به داعي الصبا فتولها هاجت بلابله البلابل فانثنت ... أشجانه تثني عن الحلمي النهى فشكا جوى وبكى أسى وتنبه ال ... وجد القديم ولم يزل متنبها   (1) ما بين معقفين سقط من المسودة. (2) هذه الترجمة مستوفاة في المسودة. (3) س: نقابة الأشراف بها، وكان فاضلاً رائق الشعر لطيف المقاصد فيه عارفاً بالفقه والأدب فمن شعره ... الخ. وقد كان هذا مثبتاً في المسودة ثم شطب واستعيض عنه بما ورد في الترجمة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 397 قالوا وهى جلداً ولو علق الهوى ... بيلملم يوما تأوه أو وهى لا تكرهوه على السلو فطائعاً ... حمل الغرام فكيف يسلو مكرها ياعتب لا عتب عليك فسامحي ... وصلي فقد بلغ السقام المنتهى علمت بان الجزع ميل غصونه ... لما خطرت عليه في حلل البها ومنحت غنج اللحظ غزلان النقا ... فلذاك أحسن ما يرى عين المها لولا دلالك لم أبت متقسم ال ... عزمات مسلوب الرقاد متيها (1) لي أربع شهداء في صدق الولا ... دمع وحزن مفرطٌ وتدلها (2) وبلابل تعتادني لو أنها ... في يذبل يوماً لأصبح كالسها لام العواذل في هواك وما أرعوى ... ونهاه عنك اللائمون ومن انتهى قالوا اشتهاك وقد رآك مليحة ... عجباً وأي مليحة لا تشتهى أنا أعشق العشاق فيك ولا أرى ... مثلي ولا لك في الملاحة مشبها وله غيرها أشعار رقيقة. (126) قلت: هكذا وجدت هذه الأبيات منسوبة إليه ولا أتحقق صحتها، والله أعلم، ثم وجدت بخطي في مسودتي أن توفي ابن الآمدي الشاعر سنة إحدى وخمسين وخمسمائة (3) ، وكان في طبقة الغزي والأرجاني، ولم أقف على اسمه ونسبه حتى أعلم من هو، لكنه قال: وكان من أهل النيل، يعني البليدة التي في العراق، وكان قد زاد على تسعين سنة، فيحتمل أن تكون له هذه الأبيات المذكورة في هذه الترجمة، ويحتمل أن تكون لهذا الثاني المجهول الاسم والنسب، والله أعلم، لكن يترجح الأول لأنه كان قاضي واسط فهو الفقيه، وهذا الشاعر. وكانت ولادته بواسط في الخامس والعشرين من ذي الحجة سنة تسع وخمسين   (1) لي: مولها. (2) كذا في ل لي؛ وفي ر: وتولها؛ وفي كلتا الحالتين يجيء النصب اضطراراً. (3) لعل الآمدي الشاعر الذي يتحدث عنه هنا هو أبو المكارم محمد بن الحسين الآمدي، شاعر بغدادي مكثر مدح جمال الدين الأصبهاني وزير الموصل، وقال ياقوت (آمد) : مات أبو المكارم هذا سنة 552 وقد جاوز ثمانين سنة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 398 وخمسمائة. وتوفي ليلة الاثنين ثالث شهر ربيع الأول سنة ثمان وستمائة بواسط، وصلي عليه يوم الاثنين، ودفن عند أبيه وأهله بظاهر البلد، رحمه الله تعالى، وقد تقدم الكلام على الآمدي، وأن نسبته إلى آمد. 480 - (1) عماد الدوله ابن بويه عماد الدولة أبو الحسن علي بن بويه بن فناخسرو الديلمي صاحب بلاد فارس - وقد تقدم تمام نسبه في ترجمة أخيه معز الدولة أحمد بن بويه في حرف الهمزة (2) فأغنى عن الإعادة (3) ؛ وعماد الدولة المذكور أول من ملك من بني بويه، وكان أبوه صياداً وليست له معيشة إلا من صيد السمك، وكانوا ثلاثة إخوة: عماد الدولة أكبرهم، ثم ركن الدولة الحسن وهو والد عضد الدولة - وقد تقدم ذكره في حرف الحاء (4) - ثم معز الدولة، والجميع ملكوا. وكان عماد الدولة سبب سعادتهم وانتشار صيتهم، واستولوا على البلاد وملكوا العراقين والأهواز وفارس وساسوا أمور الرعية أحسن سياسة، ثم لما ملك عضد الدولة بن ركن الدولة اتسعت مملكته، وزادت على ما كان لأسلافه، ولولا خوف الإطالة لذكرت طرفاً من سبب تملك عماد الدولة المذكور وكيفية أمره من أول الحال. وذكر أبو محمد هارون بن العباس المأموني في تاريخه أن عماد الدولة المذكور اتفقت له أسباب عجيبة كانت سبباً لثبات ملكه: منها أنه لما ملك شيراز في   (1) أخباره في الكتب التاريخية مثل تكملة الهمداني والجزء الثاني من تجارب الأمم والثامن من الكامل لابن الأثير وانظر المنتظم 6: 365 وعبر الذهبي 2: 247 والشذرات 2: 346، وابتداء من هذه الترجمة تشترك مع سائر النسخ مخطوطة ولي الدين وقد رمزنا لها بالرمز: (ن) . (2) انظر المجلد الأول: 174. (3) س: الإطالة. (4) انظر المجلد الثاني: 118. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 399 أول ملكه اجتمع أصحابه وطالبوه بالأموال، ولم يكن معه ما يرضيهم به وأشرف أمره على الانحلال، فاغتم لذلك، فبينما هو مفكر قد استلقى على ظهره في مجلس قد خلا فيه للفكرة والتدبير إذ رأى حية قد خرجت من موضع من سقف ذلك المجلس ودخلت موضعاً آخر منه، فخاف أن تسقط عليه، فدعا الفراشين (1) وأمرهم بإحضار سلم، وأن تخرج (2) الحية، فلما صعدوا وبحثوا عن الحية وجدوا ذلك السقف يفضي إلى غرفة بين سقفين، فعرفوه ذلك، فأمرهم بفتحه ففتحت فوجد فيها عدة صناديق من المال والمصاغات قدر خمسمائة ألف دينار، فحمل المال إلى بين يديه، فسر به وأنفقه في رجاله، وثبت أمره بعد أن كان قد أشفى على الانخرام. ثم أنه قطع ثياباً وسأل عن خياط حاذق، فوصف له خياط كان لصاحب البلد قبله، - فأمر بإحضاره، وكان أطروشاً، فوقع له أنه قد سعي به إليه في وديعة كانت عنده لصاحبه (3) ، وأنه طلبه لهذا السبب، فلما خاطبه حلف أنه ليس عنده إلا اثنا عشر صندوقاً لا يدري (4) ما فيها، فعجب عماد الدولة من جوابه، ووجه معه من حملها، فوجد فيها أموالاً وثياباً بجملة عظيمة (5) ، فكانت هذه الأسباب من أقوى دلائل سعادته، ثم تمكنت حاله واستقرت قواعده (6) . وكانت وفاته يوم الأحد لأربع عشرة ليلة بقيت من جمادى الأولى سنة ثمان وثلاثين، وقيل تسع وثلاثين وثلثمائة بشيراز، ودفن في دار المملكة، وأقام في المملكة ست عشر سنة، وعاش سبعاً وخمسين سنة ولم يعقب، رحمه الله تعالى. وأتاه في مرضه أخوه ركن الدولة واتفقا على تسليم بلاد فارس إلى عضد الدولة بن ركن الدولة فتسلمها.   (1) لي: فأمر باستدعاء الفراشين فحضروا. (2) لي: وأن يخرجوا. (3) لي: لصاحب البلد. (4) لي: ليس يدري. (5) ر: وثياباً عظاماً. (6) وذكر أبو محمد. واستقرت قواعده: سقط هذا النص من ن. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 400 481 - (1) سيف الدولة بن حمدان سيف الدولة أبو الحسن علي بن عبد الله بن حمدان - وقد تقدم تتمة (2) نسبه في ترجمة أخيه ناصر الدولة الحسن (3) في حرف الحاء فلا حاجة إلى إعادته؛ قال أبو منصور الثعالبي في كتاب " يتيمة الدهر " (4) : كان بنو حمدان ملوكاً أوجههم للصباحة، وألسنتهم للفصاحة، وأيديهم للسماحة، وعقولهم للرجاحة، وسيف الدولة مشهور بسيادتهم، ووساطة قلادتهم، وحضرته مقصد الوفود، ومطلع الجود، وقبلة الآمال، ومحط الرحال، وموسم الأدباء، وحلبة الشعراء، ويقال: إنه لم يجتمع بباب أحد من الملوك بعد الخلفاء ما اجتمع ببابه من شيوخ الشعر ونجوم الدهر، وإنما السلطان سوق يجلب إليها ما ينفق لديها؛ وكان أديباً شاعراً محباً لجيد الشعر شديد الاهتزاز له، وكان كل من أبي محمد عبد الله بن محمد الفياض الكاتب وأبي الحسن علي بن محمد الشمشاطي (5) قد اختار من مدائح الشعراء لسيف الدولة عشرة آلاف بيت. ومن محاسن شعر سيف الدولة في وصف قوس قزح وقد أبدع فيه كل   (1) ترجمته في اليتيمة 1: 27 وزبدة الحلب 1: 111 - 152 والمنتظم 7: 41 وعبر الذهبي 2: 305 والشذرات 3: 20 وأخباره في الكتب التاريخية مثل تكملة الهمداني وتجارب الأمم والكامل لابن الأثير، وقد جمع كانار مجموعة في أخباره بعنوان " الأمير سيف الدولة الحمداني " (ط الجزائر: 1934) ؛ والترجمة هنا موجودة بكاملها في المسودة. (2) ر: بقية. (3) انظر المجلد الثاني: 114. (4) في كتاب يتيمة الدهر: سقط من س ل ن لي م، وهو بهامش المسودة؛ وانظر اليتيمة 1: 8. (5) كان شاعراً مصنفاً له من الكتب أخبار أبي تمام والمختار من شعره وكتاب تفضيل بي نواس على أبي تمام وغيرهما (انظر الفهرست: 154 ومعجم الأدباء 14: 240) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 401 الإبداع، وقيل: إن هذه الأبيات لأبي الصقر القبيصي (1) ، والأول ذكره الثعالبي في كتاب " اليتيمة " (2) : وساقٍ صبيح للصبوح دعوته ... فقام وفي أجفانه سنة الغمض يطوف بكاسات العقار كأنجم ... فمن بين منقض علينا ومنفض وقد نشرت أيدي الجنوب مطارفاً ... على الجو دكناً والحواشي على الأرض يطرزها قوس السحاب بأصفرٍ ... على أحمرٍ في أخضر تحت مبيض كأذيال خودٍ أقبلت في غلائل ... مصبغة، والبعض أقصر من بعض وهذا من التشبيهات الملوكية التي لا يكاد يحضر مثلها للسوقة، والبيت الأخير أخذ معناه أبو علي الفرج بن محمد بن الأخوة المؤدب البغدادي، فقال في فرس أدهم محجل: لبس الصبح والدجنة بردي ... ن فأرخى برداً وقلص بردا وقيل إنها لعبد الصمد بن المعذل (3) . وكانت له جارية من بنات ملوك الروم في غاية الجمال، فحسدها بقية الحظايا لقربها منه ومحلها من قلبه، وعزمنا على إيقاع مكروه بها من سم أو غيره، فبلغه الخبر وخاف عليها، فنقلها إلى بعض الحصون احتياطاً، وقال: راقبتني العيون فيك فأشفق ... ت ولم أخل قط من إشفاق ورأيت العدو يحسدني في ... ك مجداً يا أنفس الأعلاق فتمنيت أن تكوني بعيداً ... والذي بيننا من الود باق رب هجر يكون من خوف (4) هجر ... وفراقٍ يكون خوف فراق   (1) ل: القيصي؛ لأبي الصقر القبيصي ذكر في الفهرست، ويفهم مما فيه أنه كان من غلمان أبي عثمان الدمشقي وكان يقرأ عليه المجسطي. (2) وقيل أن هذه ... اليتيمة: سقط من ن. (3) والبيت الأخير ... المعذل: سقط من ن، وهو بهامش المسودة. (4) ر: فرط. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 402 ورأيت هذه الأبيات بعينها في ديوان عبد المحسن الصوري، والله أعلم لمن هي منهما. ومن شعره أيضاً: أقبله على جزعٍ ... كشرب الطائر الفزع رأى ماءً فأطعمه ... وخاف عواقب الطمع وصادف خلسة فدنا ... ولم يلتذ بالجرع ويحكى أن ابن عمه أبا فراس - المقدم ذكره في حرف الحاء (1) - كان يوماً بين يديه في نفر من ندمائه، فقال لهم سيف الدولة: أيكم يجيز قولي، وليس له إلا سيدي، يعني أبا فراس: لك جسمي تعله ... فدمي لم تحله فارتجل أبو فراس وقال: قال إن كنت مالكاً ... فلي الأمر كله فاستحسنه وأعطاه ضيعة بأعمال منبج المدينة المعروف تغل ألفي دينار في كل سنة. ومن شعر سيف الدولة أيضاً قوله: تجنى علي الذنب والذنب ذنبه ... وعاتبني ظلماً وفي شقه العتب إذا برم المولى بخدمة عبده ... تجنى له ذنباً وإن لم يكن ذنب وأعرض لما صار قلبي بكفه ... فهلا جفاني حين كان لي القلب وأنشدني الفقير أيدمر الصوفي المسمى إبراهيم لنفسه دوبيت في معنى البيت الثالث:   (1) انظر المجلد الثاني: 58. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 403 قوم نقضوا عهودنا بالشعب ... من غير جناية ولا من ذنب صدوا وتعتبوا وقد همت بهم ... هلا هجروا وكان قلبي قلبي ويحكى أن سيف الدولة كان يوماً بمجلسه والشعراء ينشدونه، فتقدم أعرأبي رث الهيئة وأنشد وهو بمدينة حلب: أنت علي وهذه حلب ... قد نفذ الزاد وانتهى الطلب بهذه تفخر البلاد وبال ... أمير تزهى على الورى العرب وعبدك الدهر قد أضر بنا ... إليك من جور عبدك الهرب فقال سيف الدولة: أحسنت والله، وأمر له بمائتي دينار. وقال أبو القاسم عثمان بن محمد العراقي قاضي عين زربة (1) : حضرت مجلس الأمير سيف الدولة بحلب، وقد وافاه القاضي أبو نصر محمد بن محمد النيسابوري، فطرح من كمه كيساً فارغاً ودرجاً فيه شعر استأذن في إنشاده، فأذن له، فأنشد قصيدة أولها: حباؤك معتادٌ وأمرك نافذ ... وعبدك محتاج إلى ألف درهم فلما فرغ من إنشاده ضحك سيف الدولة ضحكاً شديداً، وأمر له بألف درهم، فجعلت في الكيس الفارغ الذي كان معه (2) . وكان أبو بكر محمد وأبو عثمان سعيد ابنا هاشم المعروفان بالخالديين الشاعرين المشهورين (3) ، وأبو بكر أكبرهما، قد وصلا إلى حضرة سيف الدولة ومدحاه، فانزلهما وقام بواجب حقهما، وبعث لهما مرة وصيفاً ووصيفة ومع كل واحد منهما   (1) في معجم ياقوت: عين زربي. (2) وقال أبو القاسم ... كان معه: سقط من س ل ن لي وثبت في م ر وهامش المسودة؛ وقد وردت في هذه الترجمة تحشيات كثيرة في هامش المسودة سقطت من النسخ المذكورة. (3) انظر مقدمة الدكتور السيد محمد يوسف محقق كتاب الأشباه والنظائر للخالدين وفيها إشارة إلى المصادر التي ترجمت لهما، وكذلك مقدمة الدكتور سامي الدهان على كتاب الهدايا والتحف لهذين المؤلفين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 404 بدرة وتخت ثياب من عمل مصر، فقال أحدهما من قصيدة طويلة: لم يغد شكرك في الخلائق مطلقاً ... إلا ومالك في النوال حبيس خولتنا شمساً وبدراً أشرقت ... بهما لدينا الظلمة الحنديس رشأ أتانا وهو حسناً يوسفٌ ... وغزالةٌ هي بهجةً بلقيس هذا ولم تقنع بذاك وهذه ... حتى بعثت المال وهو نفيس أتت الوصيفة وهي تحمل بدرة ... وأتى على ظهر الوصيف الكيس وحبوتنا مما أجادت حوكه ... مصرٌ وزادت حسنه تنيس فغدا لنا من جودك المأكول وال ... مشروب والمنكوح والملبوس فقال له سيف الدولة: أحسنه إلا في لفظة " المنكوح " فليست مما يخاطب الملوك بها. وأخبار سيف الدولة كثيرة مع الشعراء، خصوصاً مع المتنبي والسري الرفاء والنامي والببغاء والوأواء وتلك الطبقة، وفي تعدادهم طول. وكانت ولادته يوم الأحد سابع عشر ذي الحجة سنة ثلاث وثلثمائة، وقيل سنة إحدى وثلثمائة. وتوفي يوم الجمعة ثالث ساعة، وقيل رابع ساعة، لخمس بقين من صفر سنة ست وخمسين وثلثمائة بحلب، ونقل إلى ميافارقين، ودفن في تربة أمه، وهي داخل البلد، وكان مرضه عسر البول. وكان قد جمع من نفض الغبار الذي يجتمع عليه في غزواته شيئاً وعمله لبنة بقدر الكف، وأوصى أن يوضع خده عليها في لحده، فنفذت وصيته في ذلك. وملك حلب في سنة ثلاث وثلاثين وثلثمائة، انتزعها من يد أحمد بن سعيد الكلابي صاحب الإخشيد. (127) ورأيت في " تاريخ حلب " أن أول من ولي حلب من بني حمدان الحسين بن سعيد (1) ، وهو أخو أبي فراس ابن حمدان، وأنه تسلمها في رجب سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة، وكان شجاعاً موصوفاً، وفيه يقول ابن المنجم:   (1) انظر زبدة الحلب 1: 104. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 405 وإذا رأوه مقبلاً قالوا ألا ... إن المنايا تحت راية ذاكا وتوفي يوم الاثنين لأربع عشرة ليلة بقيت من جمادى الآخرة سنة ثمان وثلاثين وثلثمائة بالموصل، ودفن بالمسجد الذي بناه في الدير الأعلى، وكنت أظن أن دير سعيد الذي بظاهر الموصل منسوب إلى أبيه حتى رأيته في كتاب الديرة منسوباً إلى سعيد بن عبد الملك بن مروان الأموي. وكان سيف الدولة قبل ذلك مالك واسط وتلك النواحي، وتقلبت به الأحوال وانتقل إلى الشام وملك دمشق أيضاً وكثيراً من بلاد الشام وبلاد الجزيرة، وغزواته مع الروم مشهورة، وللمتنبي في أكثر الوقائع قصائد، رحمه الله تعالى (1) . (128) وملك بعده ولده سعد الدولة أبو المعالي شريف بن سيف الدولة (2) ، وطالت مدته أيضاً في المملكة، ثم عرض له قولنج وأشفى منه على التلف، وفي اليوم الثالث من عافيته واقع جاريته، فلما فرغ منها سقط عنها وقد جف شقه الأيمن، فدخل عليه طبيبه، فأمر ان يسجر عنده الند والعنبر، فأفاق قليلاً، فقال له الطبيب: أرني مجسك، فناوله يده اليسرى، فقال: أريد اليمين، فقال: ما تركت لي اليمين يميناً، وكان قد حلف وغدر. وتوفي ليلة الأحد لخمس بقين من شهر رمضان من سنة إحدى وثمانين وثلثمائة وعمره أربعون سنة وستة أشهر وعشرة أيام. (129) وتولى بعده ولده أبو الفضائل سعد، ولم أقف على تاريخ وفاته، وبموته انقرض ملك بني سيف الدولة. (130) وتوفي أبو علي ابن الأخوة (3) المذكور يوم الجمعة رابع عشر جمادى الآخرة سنة ست وأربعين وخمسمائة، وكان شاعراً مجيداً.   (1) إلى هنا انتهت الترجمة في ن. (2) زبدة الحلب 1: 155 وعبر الذهبي 3: 16 والشذرات 3: 100. (3) أبو علي الفرج بن محمد بن الأخوة مؤدب بغدادي من الشعراء المشهورين (انظر ترجمته واشعارع في الخريدة - قسم العراق - 2: 186) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 406 482 - (1) الظاهر العبيدي أبو هاشم علي، الملقب الظاهر لإعزاز دين الله، ابن الحاكم بن العزيز بن المعز ابن المنصور بن القائم بن المهدي عبيد الله صاحب مصر، وقد تقدم ذكر جماعة من أهل بيته؛ كانت ولايته بعد فقد أبيه بمدة، لأن أباه فقد في السابع والعشرين من شوال سنة إحدى عشرة وأربعمائة - كما سيأتي في ترجمته إن شاء الله تعالى - وكان الناس يرجون ظهوره ويتتبعون آثاره إلى أن تحققوا عدمه، فأقاموا ولده المذكور في يوم النحر من السنة المذكورة، وكانت مملكته الديار المصرية وإفريقية وبلاد الشام، فقصد صالح بن مرداس الكلابي - المذكور في حرف الصاد (2) - مدينة حلب وحاصرها، وفيها مرتضى الدولة بن لؤلؤ الجراحي غلام أبي الفضائل ابن شريف بن سيف الدولة الحمداني نيابة عن الظاهر المذكور، فانتزعها منه واستولى على ما يليها، وتغلب حسان بن مفرج بن دغفل البدوي صاحب الرملة على أكثر بلاد الشام، وتضعضعت دولة الظاهر وجرت أمور وأسباب يطول شرحها. واستوزر نجيب الدولة أبا القاسم علي بن أحمد الجرجرائي (3) ، وكان أقطع اليدين من المرفقين، قطعهما الحاكم والد الظاهر في شهر ربيع الآخر سنة أربع وأربعمائة على باب القصر البحري بالقاهرة المحروسة، وحمل إلى داره، وكان يتولى بعض الدواوين فظهرت عليه خيانة قطع بسببها، ثم بعد ذلك ولي ديوان   (1) ترجمته في اتعاظ الحنفا: 271 - 277 والدرة المضية: 316 - 340 والخطط 1: 254 والمنتظم 8: 90 وعبر الذهبي 3: 163 والشذرات 3: 231؛ وهذه الترجمة مستوفاة في المسودة. (2) انظر الترجمة رقم: 300. (3) انظر الإشارة إلى من نال الوزارة: 35. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 407 النفقات سنة تسع وأربعمائة، ثم وزر للظاهر سنة ثماني عشرة وأربعمائة، وهذا كله بعد أن تنقل في الخدم بالأرياف والصعيد. ولما استوزر كان يكتب عنه العلامة القاضي أبو عبد الله القضاعي صاحب كتاب " الشهاب " - وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى - وكانت علامته " الحمد لله شكراً لنعمته " واستعمل العفاف والأمانة الزائدة والاحتراز والتحفظ، وفي ذلك يقول جاسوس الفلك: يا أحمقاً اسمع وقل ... ودع الرقاعة والتحامق أأقمت نفسك في الثقا ... ت وهبك فيما قلت صادق فمن الأمانة والتقى ... قطعت يداك من المرافق وهو منسوب إلى جرجرايا - بفتح الجيمين بينهما راء ساكنة ثم راء مفتوحة وبين الألفين ياء مثناة من تحتها - وهي قرية من أرض العراق. وكانت ولادة الظاهر يوم الأربعاء عاشر شهر رمضان سنة خمس وتسعين وثلثمائة بالقاهرة. وتوفي أخر ليلة الأحد منتصف شعبان سنة سبع وعشرين وأربعمائة، رحمه الله تعالى. وسمعت أنه توفي ببستان الدكة، وكان بالمقس في الموضع المعروف بالدكة، والله أعلم. (131) وتوفي وزيره الجرجرائي سنة ست وثلاثين وأربعمائة، رحمه الله تعالى، في سابع شهر رمضان، وكانت مدة وزارته للظاهر وولده المستنصر سبع عشرة سنة وثمانية أشهر وثمانية عشر يوماً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 408 483 - (1) علي بن منقذ أبو الحسن علي بن مقلد (2) ، بن نصر بن منقذ الكناني، الملقب سديد الملك، صاحب قلعة شيزر؛ كان شجاعاً مقدماً قوي النفس كريماً، وهو أول من ملك قلعة شيزر من بني منقذ، لأنه كان نازلاً مجاور (3) القلعة بقرب الجسر (4) المعروف اليوم بجسر بني المنقذ، وكانت القلعة بيد الروم فحدثته نفسه بأخذها، فنازلها وتسلمها بالأمان في رجب سنة أربع وسبعين وأربعمائة، ولم تزل في يده ويد أولاده إلى أن جاءت الزلزلة في سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة فهدمتها وقتلت كل من فيها من بني منقذ وغيرهم تحت الهدم، وشغرت (5) ، فجاءها نور الدين محمود بن زنكي صاحب الشام في بقية السنة وأخذها. وذكر بهاء الدين بن شداد في كتاب " سيرة صلاح الدين " (6) أنه جاءت زلزلة بحلب، وأخربت كثيراً من البلاد، وذلك في الثاني عشر من شوال سنة خمس وستين وخمسمائة، وهذه غير تلك، فلا يظن الواقف عليه أن هذا غلط، بل هما زلزلتان، والأول ذكره ابن الجوزي في " شذور العقود " وغيره أيضاً. وكان سديد الملك المذكور مقصوداً، وخرج من بيته جماعة نجباء أمراء فضلاء كرماء، ومدحه جماعة من الشعراء كابن الخياط والخفاجي وغيرهما (7) ، وكان له شعر جيد أيضاً، فمنه قوله وقد غضب على مملوك له وضربه: أسطو عليه وقلبي لو تمكن من ... كفي غلهما غيظاً إلى عنقي   (1) ترجمته في الخريدة (قسم الشام) 1: 552 والنجوم الزاهرة 5: 124. (2) لي س: منقذ. (3) ر: بجوار. (4) فوقها في المسودة " معاً " أي بفتح الجيم وكسرها. (5) ر: ودثرت. (6) سيرة صلاح الدين: 43. (7) ن س: كابن الخياط وغيره. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 409 وأستعير إذا عاقبته حنقاً ... وأين ذل الهوى من عزة الحنق وكان موصوفاً بقوة الفطنة، وتنقل عنه حكاية عجيبة، وهي أنه كان يتردد إلى حلب قبل تملكه شيرز، وصاحب حلب يومئذ تاج الملوك محمود بن صالح بن مرداس، فجرى أمر خاف سديد الملك المذكور على نفسه منه، فخرج من حلب إلى طرابلس الشام وصاحبها يومئذ جلال الملك بن عمار، فأقام عنده، فتقدم محمود بت صالح إلى كاتبه أي نصر محمد بن الحسين علي بن النماس الحلبي أن يكتب إلى سديد الملك كتاباً يتشوقه ويستعطفه ويستدعيه إليه، ففهم الكاتب أنه يقصد له شراً، وكان صديقاً لسديد الملك، فكتب الكتاب كما أمر إلى أن بلغ إلى " إن شاء الله تعالى " فشدد النون وفتحها، فلما وصل الكتاب إلى سديد الملك عرضه على ابن عمار صاحب طرابلس ومن بمجلسه من خواصه، فاستحسنوا عبارة الكتاب واستعظموا ما فيه من رغبة محمود فيه وإيثاره لقربه، فقال سديد الملك إني أرى في الكتاب ما لا ترون، ثم أجابه عن الكتاب بما اقتضاه الحال، وكتب في جملة الكتاب " أنا الخادم المقر بالانعام " وكسر الهمزة من أنا وشدد النون، فلما وصل الكتاب إلى محمود ووقف عليه الكاتب سر بما فيه وقال لأصدقائه: قد علمت أن الذي كتبته لا يخفى على سديد الملك، وقد أجاب بما طيب نفسي؛ وكان الكاتب قد قصد قول الله تعالى: (إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك) (القصص:20) . فأجاب سديد الملك بقوله تعالى: (إنا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها) (المائدة:24) فكانت هذه معدودة من تيقظه وفهمه؛ وهكذا ساق هذه الحكاية أسامة في مجموعه إلى الرشيد بن الزبير في ترجمة ابن النحاس (1) . وكانت وفاته في سنة خمس وسبعين وأربعمائة، رحمه الله تعالى. وقد تقدم ذكر حفيده أسامة بن مرشد بن علي المذكور في حرف الهمزة وسيأتي ذكر والده في حرف الميم إن شاء الله تعالى. وذكرهم العماد الأصبهاني في الخريدة، وبالغ في الثناء عليهم [وذكر أيضاً   (1) وكان موصوقاً ... ابن النحاس: سقط النص من س ن، ومع أنه بهامش المسودة فقد ورد في ل لي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 410 في كتاب " السيل والذيل " أنه توفي تحت الهدم لما هدمت الزلزلة حصن شيزر يوم الاثنين ثالث رجب سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة، والله أعلم] (1) . 484 - (2) الصليحي أبو الحسن علي بن محمد بن علي الصليحي القائم باليمن؛ كان أبوه محمد قاضياً باليمن سني المذهب، وكان أهله وجماعته يطيعونه، وكان الداعي عامر بن عبد الله الزواحي يلاطفه ويركب إليه، لرياسته وسؤدده وصلاحه وعلمه، فلم يزل عامر المذكور حتى استمال قلب ولده علي المذكور وهو يومئذ دون البلوغ ولاحت له فيه مخايل النجابة، وقيل كانت عنده حلية علي الصليحي في كتاب " الصور " وهو من الذخائر القديمة، فأوقفه منه على تنقل حاله وشرف مآله، وأطلعه على ذلك سراً من أبيه وأهله. ثم مات عامر عن قرب وأوصى له بكتبه وعلومه، ورسخ في ذهن علي من كلامه ما رسخ، فعكف على الدرس، وكان ذكياً، فلم يبلغ الحلم حتى تضلع من معارفه التي بلغ بها وبالجد السعيد غاية الأمل البعيد، فكان فقيهاً في مذهب الدولة (3) الإمامية مستبصراً في علم التأويل، ثم إنه صار يحج بالناس دليلاً على طريق السراة والطائف خمس عشرة سنة وكان الناس يقولون له: بلغنا أنك ستملك اليمن بأسره ويكون لك شأن، فيكره ذلك وينكره على قائله، مع كونه أمراً قد شاع وكثر في أفواه الناس، الخاصة والعامة؛ ولما كان في   (1) انفردت ر بما بين معقفين. (2) ترجمته وأخباره في تاريخ اليمن لعمارة: 47 وبهجة الزمن: 46 ودمية القصر: 14 وبلوغ المرام: 15 وكشف أسرار الباطنية للحمادي: 42 والذهب المسبوك: 35 وانظر كتاب " الصليحيون والحركة الفاطمية في اليمن " للهمداني ومحمود: 62 - 112. (3) لي: فقيهاً في الدولة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 411 سنة تسع وعشرين وأربعمائة ثار في رأس مسار (1) ، وهو أعلى ذروة في جبال [اليمن] (2) ، وكان معه ستون رجلاً قد حالفهم بمكة في موسم سنة ثمان وعشرين وأربعمائة على الموت والقيام بالدعوة وما منهم إلا من هو من قومه وعشائره في منعة وعدد كثير، ولم يكن برأس الجبل المذكور بناء، بل كان قلة منيعة عالية، فلما ملكها لم ينتصف نهار ذلك اليوم الذي ملكها في ليلته إلا وقد أحاط به عشرون ألف ضارب سيف وحصروه وشتموه وسفهوا رأيه وقالوا له: إن نزلت وإلا قتلناك أنت ومن معك بالجوع، فقال لهم: لم أفعل هذا إلا خوفاً علينا وعليكم أن يملكه غيرنا، فإن تركتموني أحرسه وإلا نزلت إليكم، فانصرفوا عنه؛ ولم تمض عليه أشهر حتى بناه وحصنه وأتقنه. واستفحل أمر الصليحي شيئاً فشيئاً، وكان يدعو للمستنصر صاحب مصر في الخفية، ويخاف من نجاح صاحب تهامة ويلاطفه ويستكين لأمره، وفي الباطن يعمل الحيلة في قتله، ولم يزل حتى قتله بالسم مع جارية جميلة أهداها إليه، وذلك في سنة اثنتين وخمسين وأربعمائة بالكدراء. وفي سنة ثلاث وخمسين كتب الصليحي إلى المستنصر يستأذنه في إظهار الدعوة (3) ، فأذن له، فطوى البلاد طياً وفتح الحصون والتهائم، ولم تخرج سنة خمس وخمسين إلا وقد ملك اليمن كله سهله ووعره وبره وبحره، وهذا أمر لم يعهد مثله في جاهلية ولا إسلام، حتى قال يوماً وهو يخطب الناس في جامع الجند: وفي مثل هذا اليوم نخطب على منبر عدن، ولم يكن ملكها بعد، فقال بعض من حضر مستهزئاً: سبوح قدوس، فأمر بالحوطة عليه، وخطب الصليحي في مثل ذلك اليوم على منبر عدن، فقام ذلك الإنسان وتغالى في القول وأخذ البيعة ودخل في المذهب. ومن سنة خمس وخمسين استقر حاله في صنعاء، وأخذ معه ملوك اليمن الذين أزال ملكهم، وأسكنهم معه وولى في الحصون غيرهم، واختط بمدينة صنعاء   (1) س: مسمار؛ ر: ساد؛ وفي ياقوت: " مشار " وقال: قلة في أعلى موضع من جبال حراز منه كان مخرج الصليحي؛ وكتب في متن " صفة جزيرة العرب " بالشين حيثما ورد ثم جاء في فهرس الكتاب بالسين مصوباً. (2) المسودة: في جبال؛ لي ن: الجبال. (3) ر: الدولة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 412 عدة قصور (1) ، وحلف أن لا يولي تهامة إلا لمن وزن مائة ألف دينار، فوزنت له زوجته (2) أسماء عن أخيها أسعد بن شهاب، فولاه، وقال لها: يا مولاتنا أنا لك هذا فقالت: (هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب) (آل عمران:37) فتبسم وعلم أنه من خزانته، فقبضه وقال: (هذه بضاعتنا ردت إلينا، ونمير أهلنا ونحفظ أخانا) (3) (يوسف:65) . ولما كان في سنة ثلاث وسبعين وأربعمائة عزم الصليحي على الحج، فأخذ معه الملوك الذين كان يخاف منهم أن يثوروا عليه، واستصحب زوجته أسماء ابنة شهاب، واستخلف مكانه ولده الملك المكرم أحمد، وهو ولدها أيضاً، وتوجه في ألفي فارس فيهم من آل الصليحي مائة وستون شخصاً، حتى إذا كان بالمهجم، ونزل في ظاهرها بضيعة يقال لها أم الدهيم وبئر أم معبد، وخيمت عساكره والملوك التي معه من حوله، لم يشعر الناس حتى قيل: قد قتل الصليحي، فانذعر الناس وكشفوا عن الخبر، فكان سعيد الأحول ابن نجاح المذكور التي قتلته الجارية بالسم قد استتر في زبيد، وكان أخوه جياش في دهلك، فسير إليه وأعلمه أن الصليحي متوجه إلى مكة، فتحضر حتى نقطع عليه الطريق (4) ونقتله، فحضر جياش إلى زبيد، وخرج هو وأخوه سعيد ومعهما سبعون رجلآً بلا مركوب ولا سلاح، بل مع كل واحد جريدة في رأسها مسمار حديد، وتركوا جادة الطريق وسلكوا طريق الساحل، وكان بينهم وبين المهجم مسيرة ثلاثة أيام للمجد. وكان الصليحي قد سمع بخروجهم، فسير خمسة آلاف حربة من الحشة الذين في ركابه لقتالهم، فاختلفوا في الطريق، فوصل سعيد ومن معه إلى طرف المخيم، وقد أخذ منهم التعب والحفاء وقلة المادة، فظن الناس أنهم من جملة عبيد العسكر، ولم يشعر بهم إلا عبد الله أخو علي الصليحي، فقال لأخيه: يا مولانا   (1) ن: حصون. (2) ل س: أخته. (3) وحلف ... أخانا: سقط من ن. (4) ل: حتى نقع عليه في الطريق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 413 اركب، فهذا والله الأحول سعيد بن نجاح، وركب عبد الله، فقال الصليحي لأخيه: إني لا أموت إلا بالدهيم وبئر أم معبد، معتقداً أنها أم معبد التي نزل بها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لما هاجر إلى المدينة (1) ، فقال له رجل من أصحابه: قاتل عن نفسك، فهذه والله الدهيم وهذه بئر أم معبد، فلما سمع الصليحي ذلك لحقه زمع اليأس من الحياة، وبال، ولم يبرح من مكانه حتى قطع رأسه بسيفه وقتل أخوه معه وسائر الصليحين، وذلك في الثاني عشر من ذي القعدة سنة ثلاث وسبعين وأربعمائة. ثم إن سعيداً أرسل إلى خمسة الآلاف التي أرسلها الصليحي لقتالهم، وقال لهم: إن الصليحي قد قتل، وأنا رجل منكم، وقد أخذت ثأر (2) أبي، فقدموا عليه وأطاعوه، واستعان بهم على قتال عسكر الصليحي، فاستظهر عليهم قتلاً وأسرا ونهباً، ثم رفع رأس الصليحي على عود المظلة، وقرأ القارئ: (قل اللهم مالك الملك) (3) ... الآية (آل عمران:26) . ورجع إلى زبيد، وقد حاز الغنائم ملكاً عقيماً، ودخلها في السادس عشر من ذي القعدة من السنة وملكها، وملك بلاد تهامة. ولم يزل على ذلك حتى قتل في سنة إحدى وثمانين وأربعمائة بتدبير الحرة، وهي امرأة من الصليحيين، وخبر ذلك يطول. ولما قتل الصليحي ورفع رأسه على عود المظلة - كما تقدم ذكره - عمل في ذلك القاضي العثماني (4) : بكرت مظلته عليه فلم ترح ... إلا على الملك الأجل سعيدها ما كان أقبح وجهه في ظلها ... ما كان أحسن رأسه في عودها سود الأراقم قابلت أسد الشرى ... وارحمتا لأسودها من سودها   (1) قال ابن هشام: أم كعبد بنت كعب امرأة من بني كعب من خزاعة (السيرة 1: 487) واسمها عاتكة بنت خالد. (2) لي: بثأر. (3) وردت الآية بكاملها في س لي. (4) انظر الخريدة 3: 231، 233 (قسم الشام) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 414 ولعلي الصليحي شعر جيد، فمن ذلك قوله: أنكحت بيض الهند سمر رماحهم ... فرؤوسهم عوض النثار نثار وكذا (1) العلا لا يستباح نكاحها ... إلا بحيث تطلق الأعمار وذكره العماد في " الخريدة " (2) فقال: ومن شعره، وقيل لغيره على لسانه: ألذ من قرع المثاني عنده ... في الحرب ألجم يا غلام وأسرج خيلٌ بأقصى حضرموت أشدها ... وصهيلها بين العراق ومنبج (3) والصليحي: بضم الصاد المهملة وفتح اللام وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها حاء مهملة، لا أعرف هذه النسبة إلى أي شيء هي، والظاهر أنها إلى رجل، فقد جاء في الأسماء الأعلام صليح، ونسبوا إليه أيضاً. وأما الأماكن المذكورة فكلها من بلاد اليمن، ولم أتحقق ضبطها فكتبتها على الصورة التي وجدتها. وأكثر هذه الترجمة نقلته من " أخبار اليمن " للفقيه عمارة اليمني الشاعر - وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى.   (1) لي: إنّ. (2) الخريدة 3: 225 (قسم الشام) . (3) أشدها: ضبب فوقها في المسودة، ولعل الصواب " شدها " اي ركضها، وفي الخريدة: اسدها؛ لي: زئيرها بين العرق وبين بلدة منبج؛ ر: أسرجت وزئيرها ... الخ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 415 485 - (1) العادل ابن السلار أبو الحسن علي بن السلار، المنعوت بالملك العادل سيف الدين، ورأيت في مكان أخر أنه أبو منصور علي بن إسحاق، عرف بابن السلار، وزير الظافر العبيدي صاحب مصر؛ رأيت في بعض تواريخ (2) المصريين: أنه كان كردياً زرزارياً، وكان تربية القصر بالقاهرة وتقلبت فيه الأحوال في الولايات بالصعيد وغيره إلا أن تولى الوزارة للظافر المذكور في رجب سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة. ثم وجدت في مكان أخر أن الظافر المذكور استوزر نجم الدين أبا الفتح سليم بن محمد مصال في أول ولايته. وكان ابن مصال من أكابر أمراء الدولة ثم تغلب عليه العادل بن سلام وعدى ابن مصال إلى الجيزة ليلة الثلاثاء رابع عشر شعبان سنة أربع وأربعين وخمسمائة، عندما سمع بوصول ابن السلار من ولاية الإسكندرية طالباً للوزارة ودخل ابن السلار القاهرة في الخامس عشر (3) من الشهر المذكور وتولى تدبير الأمور ونعت بالعادل أمير الجيوش، وحشد ابن مصال جماعة من المغاربة وغيرهم، وجرد العادل العساكر للقائه، فكسره بدلاص من الوجه القبلي، وأخذ رأسه ودخل به إلى القاهرة على رمح يوم الخميس الثالث والعشرين من ذي القعدة من السنة المذكورة واستمر العادل إلى أن قتل، وهذا القول أصح من الأول، والله أعلم. (132) وكان ابن مصال من أهل لك - بضم اللام وتشديد الكاف - وهي   (1) أخباره في اتعاظ الحنفا: 324 والدرة المضية: 552 ومرآة الزمان: 214 والاعتبار لأسامة: 7، 18 والنجوم الزاهرة 5: 299 وعبر الذهبي 4: 131 والشذرات 4: 149؛ وقد سقطت هذه الترجمة من النسخة م، وجاءت كاملة في المسودة. (2) ر: بعض النسخ من تاريخ. (3) ر: الحادي عشر، وعند الدواداري: ودخل ابن السلار (أي القاهرة) خامس الشهر المذكور (وعلى هذا يكون خروج ابن مصال في الرابع من شعبان) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 416 بليدة عند برقة من أعمالها، وكان هو وأبوه يتعاطيان البيزرة والبيطرة، وبذلك تقدما، وكانت وزارة ابن مصال نحواً من خمسين يوماً. وكان [ابن السلار] شهماً مقداماً مائلاً إلى أرباب الفضل والصلاح، عمر بالقاهرة مساجد، ورأيت بظاهر مدينة بلبيس مسجداً منسوباً إليه، وكان ظاهر التسنن شافعي المذهب، ولما وصل الحافظ أبو طاهر السلفي، رحمه لله تعالى، إلى ثغر الإسكندرية المحروس وأقام به - كما ذكرته في ترجمته (1) - ثم صار العادل المذكور والياً به احتفل به وزاد في إكرامه وعمر له هناك مدرسة فوض تدريسها إليه، وهي معروفة به إلى الآن، ولم أر بالإسكندرية مدرسة للشافعية سواها. وكان مع هذه الأوصاف ذا سيرة جائرة وسطوة قاطعة يؤاخذ الناس بالصغائر والمحقرات. ومما يحكى عنه أنه قبل وزراته بزمان، وهو يومئذ من آحاد الأجناد، دخل يوما على الموفق أبي الكرم ابن معصوم التنيسي، وكان يتولى (2) الديوان، فشكا إليه حاله من غرامة لزمته بسبب تفريطه في شيء من لوازم الولاية بالغربية، فلما أطال عليه الكلام قال له أبو الكرم: والله إن كلامك ما يدخل في إذني، فحقد عليه ذلك. فلما ترقى إلى درجة الوزارة طلبه، فخاف منه واستتر مدة، فنادى عليه في البلد، وأهدر دم من يخفيه، فأخرجه الذي خبأه عنده، فخرج في زي امرأة بإزار وخف، فعرف فأخذ وحمل إلى العادل، فأمر بإحضار لوح خشب ومسمار طويل وأمر به فألقي على جنبه وطرح اللوح تحت أذنه، ثم ضرب المسمار في الأذن الأخرى وصار كلما صرخ يقول له: دخل كلامي في أذنك بعد أم لا ولم يزل كذلك حتى نفذ المسمار من الأذن التي على اللوح، ثم عطف المسمار على اللوح ويقال: إنه شنقه بعد ذلك. وكان قد وصل من إفريقية إلى الديار المصرية أبو الفضل عباس بن أبي الفتوح ابن يحيى بن تميم بن المعز بن باديس الصنهاجي (3) وهو صبي ومعه أمه واسمها بلارة فتزوجها العادل المذكور وأقامت عنده زماناً، ورزق عباس ولداً سماه نصراً   (1) انظر المجلد الأول: 105. (2) كذا في ر والمسودة؛ ظاهر من كتابها في المسودة أنها مغيرة؛ وفي سائر النسخ: مستوفي. (3) الصنهاجي: فوقها " معاً " في المسودة، أي بكسر الصاد وضمها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 417 فكان عند جدته في دار العادل والعادل يحنو عليه ويعزه (1) ، ثم إن العادل جهز عباساً إلى جهة الشام بسبب الجهاد، وكان معه أسامة بن منقذ - المذكور في حرف الهمزة (2) - فلما وصل إلى بلبيس وهو مقدم الجيش الذي صار في صحبته تذاكرا طيب طيب الديار المصرية وحسنها وما هي عليها، وكونه يفارقها ويتوجه للقاء العدو ويقاسي البيكار، فأشار عليه أسامة على ما قيل بقتل العادل، ويستقل هو بالوزارة ويستريح من البيكار (3) ، وتقرر بينهما أن ولده نصراً يباشر ذلك إذا رقد العادل، فإنه ومعه في الدار ولا ينكر عليه ذلك. وحاصل الأمر أن نصراً قتله على فراشه يوم الخميس سادس المحرم سنة ثمان وأربعين وخمسمائة، بدار الوزارة بالقاهرة المحروسة، رحمه الله تعالى، وتفصيل الواقعة يطول (4) . وقيل إنه قتل يوم السبت حادي عشر المحرم من السنة المذكورة. وكان والده في صحبة سقمان بن أرتق صاحب القدس، فلما أخذ الأفضل أمير الجيوش القدس من سقمان - كما هو مذكور في ترجمة أبيه أرتق (5) - وجد فيه طائفة من عسكر سقمان، فضمهم الأفضل إليه؛ وكان في جملتهم السلار والد العادل المذكور، فأخذه الأفضل إليه، وتقدم عنده، وسماه " ضيف الدولة " وأكرم ولده هذا، وجعل في صبيان الحجر، ومعنى صبيان الحجر عندهم: أن يكون لكل واحد منهم فرس وعدة، فإذا قيل له عن شغلٍ، ما يحتاج أن يتوقف فيه، وذلك على مثال الداوية والاسبتار (6) ، فإذا تميز صبي من هؤلاء بعقل وشجاعة قدم للإمرة، فترجح العادل بهذه الصفات وزاد عليها بالحزم والهيبة وترك المخالطة، فأمره الحافظ، وولاه الإسكندرية، وكان   (1) ر: ويبره. (2) المجلد الأول: 195. (3) أشكلت هذه اللفظة على بعض النساخ فكتبت في ر: النكال؛ وهي كما أثبتناها في لي ن والمسودة، والبيكار هو ميدان الحرب. (4) هنا تنتهي الترجمة في س ل لي ن. (5) المجلد الأول: 191. (6) الداوية أو الديوية (Templars) والاسبتار (Hospitalers) منظمتان للافرنج في الحروب الصليبية، كان لهما دور هام في تلك الحروب وفيما بعدها كذلك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 418 يعرف برأس البغل، ثم تقدم. وهذا نصر بن عباس هو الذي قتل الظافر إسماعيل بن الحافظ، صاحب مصر، وقد ذكرته في ترجمته في أوائل هذا الكتاب (1) . 486 - (2) الملك الأفضل ابن صلاح الدين أبو الحسن علي، الملقب الملك الأفضل نور الدين، ابن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب؛ سمع بالإسكندرية من الإمام أبي الطاهر إسماعيل بن مكي بن عوف الزهري، وبمصر من العلامة أبي محمد عبد الله بن بري النحوي، وأجاز له أبو الحسين أحمد بن حمزة بن علي السلمي، وأبو عبد الله محمد بن علي بن صدقة الحراني، وغيرهما من الشاميين، وأجاز له أبو القاسم هبة الله بن علي بن مسعود وأبو عبد الله بن أحمد بن حامد وغيرهما من المصريين. وكان يكتب خطاً حسناً، واجتمعت فيه فضائل (3) . وكان أكبر أولاد أبيه وإليه كانت ولاية عهده، فلما توفي بدمشق رحمه الله تعالى - كما سيأتي في ترجمته - وكان الملك الأفضل في صحبته، استقل بمملكة دمشق واستقل أخوه الملك العزيز عماد الدين عثمان بالديار المصرية - كما سبق في ترجمته (4) - وبقي الملك الظاهر أخوهما بحلب، ثم إن الملك الأفضل جرت له مع أخيه وقائع في أسباب يطول شرحها. وآخر الأمر أن العزيز والملك العادل عمه   (1) المجلد الأول: 237. (2) أخباره في ذيل الروضتين؛ 145 ومرآة الزمان: 637 وتاريخ ابن الأثير 12: 28؛ والسلوك 1/1: 216 وعبر الذهبي 5: 91 والشذرات 5: 101 والزركشي، الورقة: 234. (3) سمع ... فضائل: انفردت به ر، وكتب المؤلف في موضعه في المسودة إحالة على تخريجة؛ وقد سقط من سائر النسخ وكذلك سقط منها كل ما هو في هوامش المسودة أو بين سطورها. (4) انظر الترجمة رقم: 414. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 419 حاصرا دمشق وأخذاها من الأفضل وأعطياه (1) صرخد، فمضى إليها وأقام بها قليلاً، فمات العزيز بمصر وتولى ولده الملك المنصور محمد وكان صغيراً، فطلب الملك الأفضل من صرخد ليكون أتابكه، وكان طلبه يوم الأربعاء التاسع والعشرين من صفر سنة خمس وتسعين وخمسمائة، عقيب موت أخيه العزيز عثمان، ومشى في ركاب المنصور محمد ابن العزيز. ثم أن الملك العادل قصد الديار المصرية وأخذها، ودفع للأفضل عدة بلاد بالشرق (2) ، فمضى إليها، فلم يحصل له سوى سميساط فأقام بها، ولم يزل بها إلى أن مات. وما أحسن كلام القاضي الفاضل، من جملة كتاب كتبه في أثناء هذه الوقائع: " أما هذا البيت فإن الآباء منه اتفقوا فملكوا، والأبناء اختلفوا فهلكوا، وإذا غرب نجم فما في الحيلة تشريقه، وإذا بدا خرق ثوبٍ فما يليه إلا تمزيقه، وهيهات أن يسد على قدر طريقه، وقد قدر طروقه، وإذا كان الله مع خصم على خصم، فمن كان الله معه فمن يطيقه ". وكان الأفضل فيه فضيلة (3) ومعرفة وكتابة ونباهة، وكان يحب العلماء ويعظم حرمتهم، وله شعر. فمن المنسوب إليه أنه كتبه إلى الإمام الناصر يشكو من عمه العادل وأخيه العزيز لما أخذ منه دمشق (4) : مولاي إن أبا بكر وصاحبه ... عثمان قد غصبا بالسيف حق علي وهو الذي كان قد ولاه والده ... عليهما فاستقام الأمر حين ولي فخالفاه وحلا عقد بيعته ... والأمر بينهما والنص فيه جلي فانظر إلى حظ هذا الاسم كيف لقي ... من الأواخر ما لقي من الأول فجاء جواب الإمام الناصر وفي أوله:   (1) في المسودة: وأعطاه. (2) ر: بالمشرق. (3) ن: وكان ذا فضيلة. (4) ورد هذا الشعر في عدة مصادر، انظر مثلاً تمام المتون: 249 وفيه جواب الناصر أيضاً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 420 وافى كتابك يا ابن يوسف معلناً ... بالود يخبر أن أصلك طاهر غصبوا علياً حقه إذ لم يكن ... بعد النبي له بيثرب ناصر فأبشر فإن غداً عليه حسابه ... واصبر فناصرك الإمام الناصر وكانت ولادته يوم عيد الفطر وقت العصر سنة ست، وقيل خمس وستين وخمسمائة بالقاهرة، ووالده يومئذ وزير المصريين. وتوفي في صفر سنة اثنتين وعشرين وستمائة فجأة بسميساط، رحمه الله تعالى، ونقل إلى حلب، ودفن في تربته بظاهر حلب بالقرب من مشهد الهروي. وسميساط: بضم السين المهملة وفتح الميم وسكون الياء المثناة من تحتها وفتح السين الثانية وبعد الألف طاء مهملة، وهي قلعة في بر الشام على الفرات في ناحية بلاد الروم بين قلعة الروم وملطية. 487 - (1) ابن الفرات أبو الحسن علي بن محمد بن موسى بن الحسن بن الفرات وزير المقتدر بالله بن المعتضد بالله، وزر له ثلاث دفعات، فالأولى منهن بثمان خلون من شهر ربيع الأول، وقيل لسبع بقين منه، سنة ست وتسعين ومائتين، ولم يزل وزيره إلى أن قبض عليه الأربع خلون من ذي الحجة سنة تسع وتسعين ومائتين ونكبه ونهب داره وأمواله، واستغل من أملاكه إلى أن عاد إلى الوزارة في المرة (2) الثانية سبعة آلاف ألف دينار (3) ، وذكروا عنه أنه كتب إلى الأعراب أن يكبسوا بغداد،   (1) أخباره في صلة عريب وتكملة الهمذاني وتجارب الأمم وتاريخ ابن الأثير (ج: 8) والوزراء للصابي: 11 وما بعدها واعتاب الكتاب: 180 وقد سقطت هذه الترجمة من س ل ن م والمسودة، ووقعت في لي بعد ترجمة الكيا الهراسي، وأثباتها هنا متابع لما جاء في لي في مجمله. (2) في المرة: سقط من ر. (3) ر: سبعة آلاف دينار. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 421 والله أعلم. ثم عاد إلى الوزارة يوم الاثنين لثمان خلون من ذي الحجة سنة أربع وثلثمائة، وخلع عليه سبع خلع، وحمل إليه ثلثمائة ألف درهم لغلمانه وخمسون بغلاً لثقله وعشرون خادماً وغير ذلك من العدد والآلات، وزاد في ذلك اليوم في ثمن الشمع في كل من قيراط ذهب لكثرة استعماله إياه، وكان ذلك النهار (1) شديد الحر، فسقي في ذلك النهار (2) وتلك الليلة في داره أربعون ألف رطل ثلج (3) ، ولم يزل على وزارته إلى أن قبض عليه يوم الخميس لثلاث بقين من جمادى الأول سنة ست وثلثمائة، ثم عاد إلى الوزارة يوم الخميس لسبع ليال بقين من ربيع الآخر سنة إحدى عشرة وثلثمائة، وكان يوم خرج من الحبس مغتاظاً، فصادر الناس، وأطلق يد ولده المحسن فقتل حامد بن العباس الوزير الذي كان قبل أبيه، وسفك الدماء، ولم يزل وزيراً (4) إلى أن قبض عليه لتسع ليلي خلون من شهر ربيع الآخر سنة اثنتي عشر وثلثمائة، [وقيل قبض عليه يوم الثلاثاء لتسع خلون من شهر ربيع الأول] (5) . وكان يملك أموالاً كثيرة تزيد على عشرة آلاف ألف دينار، وكان يستغل من ضياعه في كل سنة ألفي ألف دينار ينفقها، قال أبو بكر محمد بن يحيى الصولي: مدحته بقصيدة، فحصل لي في ذلك اليوم ستمائة دينار. وكان كاتباً كافياً خبيراً، قال الإمام المعتضد بالله لعبيد الله بن سليمان: قد دفعت إلى ملك مختل وبلاد خراب ومال قليل، وأريد أعرف ارتفاع الدنيا لتجري النفقات عليه، فطلب عبيد الله ذلك من جماعة من الكتاب، فاستمهلوه شهراً، وكان أبو الحسن ابن الفرات وأخوه أبو العباس محبوسين منكوبين، فأعلما بذلك، فعملاه في يومين وأنفذاه، فعلم عبيد الله أن ذلك لا يخفى على المعتضد، فكلمه فيهما ووصفهما، فاصطنعهما. وكانت في دار أبي الحسن ابن الفرات حجرة شراب يوجه الناس على اختلاف طبقاته إليها غلمانهم (6) يأخذون منها الأشربة والفقاع والجلاب إلى دورهم.   (1) ر: الزمان. (2) ر: اليوم. (3) ر: من الثلج. (4) ر: وزيره. (5) سقط من لي. (6) ر: ثم إنهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 422 وكان يجري الرزق على خمسة آلاف من أهل العلم والدين والبيوت والفقراء أكثرهم مائة درهم (1) في الشهر، وأقله خمسة دراهم، وما بين ذلك. قال الصولي: ومن فضائله التي لم يسبق إليها أنه كان إذا رفع إليه قصة فيها سعاية خرج من عنده غلام فنادى: أين فلان بن فلان الساعي فلما عرف الناس ذلك من عادته امتنعوا من السعاية بأحد، واغتاظ يوماً من رجل فقال: اضربوه مائة صوت، ثم أرسل رسولاً (2) فقال: اضربوه خمسين، ثم أرسل أخر وقال: لا تضربوه، وأعطوه عشرين ديناراً، فكفاه ما مر به المسكين من الخوف. قال الصولي: قام من مرضه - وقد اجتمعت الكتب والرقاع عنده - فنظر في ألف كتاب، ووقع في ألف رقعة، فقلنا له: بالله لا يسمع بهذا أحد، خوفاً من العين عليه. قال الصولي: ورأيت من أدبه أنه دعا خاتم الخلافة (3) ليختم به كتاباً، فلما رآه قام على رجليه تعظيماً للخلافة، قال: ورأيته جالساً للمظالم، فتقدم إليه خصمان في دكاكين في الكرخ، فقال لأحدهما: رفعت إلي قصة في سنة اثنتين وثمانين ومائتين في هذه الدكاكين، ثم قال: سنك يقصر عن هذا، فقال له: ذاك كان أبي، قال: نعم وقعت له على قصة رفعها. وكان إذا مشى الناس بين يديه غضب وقال: أنا لا أكلف هذا غلماني فكيف أكلف أحراراً لا إحسان لي عليهم. وقتل نازوك صاحب الشرطة أبا الحسن ابن الفرات المذكور وابنه المحسن يوم الاثنين ثلاثة عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الآخر سنة اثني عشر وثلثمائة. وقال بعض المؤرخين (4) : كان مولده لتسع خلون (5) من ربيع الآخر سنة إحدى وأربعين ومائتين، وكان عمر ابنه المحسن يوم قتل ثلاثاً وثلاثين سنة. قال الصاحب أبو القاسم ابن عباد المقدم ذكره: أنشدني أبو الحسن ابن أبي بكر العلاف - وهو المشهور بكثرة الأكل - قصيدة (6) أبيه أبي بكر في الهر وقال:   (1) ر: دينار. (2) لي: آخر. (3) ر: الخليفة. (4) وقال ... المؤرخين: سقط من ر. (5) ر: بقين. (6) ر: قصائد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 423 إنما كنى بالهر عن المحسن بن أبي الحسن ابن الفرات أيام محنتهم، لأنه لم يجسر أن يذكره يرثيه. قلت: وقد سبق ذكر المرثية في ترجمة أبي بكر العلاف (1) . ومن غرائب (2) الأخبار أن زوجة المحسن ابن الفرات أرادت أن تختن أبنها بعد قتل أبيه فرأت المحسن في منامها، فذكرت له تعذر النفقه، فقال لها: إن لي عند فلان عشرة آلاف دينار أودعته إياها، فانتبهت، وأخبرت أهلها فسألوا الرجل فأعترف وحمل المال عن آخره. (133) وكان أبو العباس أحمد بن محمد بن الفرات أخو أبي الحسن المذكور أكتب أهل زمانه وأضبطهم للعلوم والآداب، وللبحتري فيه القصيدة التي أولها (3) : بت أبدي وجداً وأكتم وجدا ... لخيال قد بات لي منك يهدى وتوفي أبو العباس المذكور يوم الثلاثاء (4) منتصف شهر رمضان سنة إحدى وتسعين ومائتين. وأما أخوه أبو الخطاب جعفر بن محمد بن الفرات فإنه عرضت عليه الوزارة فأباها. (134) وتولاها ابنه أبو الفتح الفضل بن جعفر، وكان كاتباً مجوداً، وهو المعروف بابن حنزابة، وهي أمه، وكانت جارية رومية، قلده المقتدر الوزارة يوم الاثنين لليلتين بقيتا من ربيع الآخر سنة عشرين وثلثمائة [وقيل خلع عليه في أول شهر ربيع الآخر سنة عشرين وثلثمائة، والله أعلم] (5) ولم يزل وزيره إلى أن قتل المقتدر لأربع بقين من شوال سنة عشرين وثلثمائة، وتولى الخلافة أخوه القاهر بالله، فاستتر أبو الفتح ابن حنزابة، فولى القاهر أبا علي محمد بن علي بن مقلة الكاتب - الآتي ذكره إن شاء الله تعالى - الوزارة، ثم تولى أبو الفتح الدواوين في أيام القاهر أيضاً، وخلع القاهر وسملت عيناه في يوم الأربعاء لست خلون من جمادى الأولى سنة اثنتين وعشرين وثلثمائة.   (1) انظر ج 2: 109. (2) ر: غريب. (3) ر: وللبحتري المعروف فيه القصيدة المشهورة التي أولها؛ وانظر ديوان البحتري: 1: 569. (4) ر: ليلة السبت. (5) سقط من لي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 424 وولي الخلافة الراضي بالله ابن المقتدر بالله المقدم ذكره، فقلد أبا الفتح ابن حنزابة الشام، فتوجه إليها، ثم إن الراضي بالله ولاه الوزارة، وهو يومئذ مقيم بحلب، وعقد له الأمر فيها يوم الأحد لثلاث عشرة ليلة خلت من شعبان سنة خمس وعشرين وثلثمائة، وكوتب بالمسير إلى الحضرة، فوصل إلى بغداد يوم الخميس لست خلون من شوال من السنة، فأقام ببغداد قليلاً (1) ، فرأى الأمور مضطربة، وقد استولى الأمير أبو بكر محمد بن رائق على الحضرة، فتحدث أبو الفتح مع ابن رائق في أنه يعود إلى الشام، وأطمعه في حمل الأموال إليه من مصر والشام، فعاد إليها في الثالث عشر من شهر ربيع الأول سنة ست وعشرين، فأدركه أجله بغزة، وقيل بالرملة، وجاءت الكتب إلى الحضرة بموته في يوم الأحد لثمان خلون من جمادى الأولى سنة سبع وعشرين وقيل ست وعشرين والأول أصح ودفن في داره بالرملة. وكان مولده في ليلة السبت لسبع (2) ليال بقين من شعبان سنة تسع وسبعين ومائتين، وكانت الكتب تصدر باسمه في الشام. وأما ابنه أبو الفضل جعفر بن الفضل فقد سبق ذكره في حرف الجيم من هذا الكتاب (3) ، وتاريخ وفاته ومولده، رحمهم الله تعالى أجمعين. وهذا الذي ذكرته في هذه الترجمة نقلته من عدة مواضع: منها كتاب " أخبار الوزراء " تأليف الصاحب ابن عباد، وكتاب " عيون السير " تأليف محمد بن عبد الملك الهمداني، وكتاب " الوزراء " تأليف أبي عبد الله محمد بن أحمد الفارسي (4) ، وما منهم أحد تعرض إلى قضية عبد الله بن المعتز. وترجمة ابن الفرات المذكور تترتب على قضية ابن المعتز فلا بد من ذكر شيء من أحوالها، وأصح التواريخ نقلاً تاريخ أبي جعفر محمد بن جرير الطبري، فنذكر ما قاله في حوادث سنة ست وتسعين ومائتين: إن القواد والكتّاب اجتمعوا على خلع الخليفة المقتدر، وتناظروا فيمن يجعلونه موضعه، فأجمعوا (5) رأيهم على عبد الله بن المعتز، وناظروه في ذلك، فأجابهم إليه على أنه لا يكون   (1) ر: فوصل إلى بغداد ليتولى الوزارة. (2) ر: لتسع. (3) المجلد الأول: 346. (4) لي: القادسي. (5) ر: فاجتمع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 425 في ذلك سفك دم ولا حرب، فأخبروه أن الأمر يسلم إليه عفواً، وأن جميع من وراءهم من الجند والقواد والكتاب قد رضوا، فبايعهم على ذلك، وكان الرأس في ذلك محمد بن داود بن الجراح وأبا المثنى أحمد بن يعقوب القاضي، وواطأ محمد بن داود جماعة من القواد على الفتك بالمقتدر والعباس بن الحسن؛ قلت: وكان وزير المقتدر يومئذ. قال الطبري: وكان العباس بن الحسن على ذلك قد واطأ جماعة من القواد على خلع المقتدر والبيعة لعبد الله بن المعتز، فلما رأى أمره مستوسقاً له مع المقتدر على ما يحب بدا له فيما كان قد عزم عليه من ذاك، فحينئذ وثب به الآخرون فقتلوه، يعني الوزير المذكور، وقال الطبري: وكان الذي تولى قتله [بدر الأعجمي] والحسين بن حمدان ووصيف بن صوارتكين، وذلك يوم السبت لإحدى عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الأول، ولما كان من غد هذا اليوم، وهو يوم الأحد، خلع المقتدر الكتاب والقواد وقضاة بغداد (1) ، وبايعوا عبد الله بن المعتز ولقبوه الراضي بالله، وكان الذي يأخذ البيعة على القواد ويلي استحلافهم والدعاء بأسمائهم محمد بن سعيد الأزرق كاتب الجيش. وفي هذا اليوم كانت بين الحسين بن حمدان وبين غلمان الدار حرب شديدة من غدوة إلى انتصاف النهار، وفي هذا اليوم انفضت الجموع التي كان ابن داود جمعها لبيعة ابن المعتز عنه، وذلك أن الخادم الذي يدعى مؤنساً حمل غلاماً من غلمان الدار في الشذوات - قلت: وهي عندهم المراكب - قال: فصاعد بها وهم فيها وهي في دجلة، فلما جاوزوا الدار (2) التي فيها ابن المعتز ومحمد بن داود صاحوا بهم ورشقوهم بالنشاب، فتفرقوا وهرب من كان في الدار من الجند والقواد والكتاب وهرب ابن المعتز، ولحق بعض الذين بايعوا ابن المعتز بالمقتدر، فاعتذروا إليه بأنهم منعوا (3) من المصير إليه، واستخفى بعضهم، فطلبوا وأخذوا وقتلوا وانتبهت العامة دور ابن داود، وأخذ ابن المعتز فيمن أخذ؛ انتهى كلام (4) الطبري في ذلك.   (1) لي: والقضاة. (2) ر: الدكة. (3) ر: بأنه منع. (4) ر: ما ذكره. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 426 (135) فنذكر ما قال (1) غيره، جمعته من مواضع متفرقة، حاصله أن عبد الله بن المعتز رتب للوزارة في ذلك اليوم محمد بن داود المذكور، وللقضاء أبا المثنى المذكور، فلما انتقض أمره وأخذ ابن المعتز استتر ابن داود، وكان من فضلاء أهل عصره وله عدة تصانيف منها كتاب " الورقة في أخبار الشعراء " وكتاب " الوزراء " وغير ذلك، ثم ظهر لمؤنس الخادم المذكور، وخافه أبو الحسن علي ابن الفرات المذكور، فأشار على مؤنس بقتله، فقتل وأخرج وطرح في سقاية عند المأمونية، فحمل إلى منزله، وكان قتله في شهر ربيع الآخر (2) من السنة، ومولده في سنة ثلاث وأربعين ومائتين في الليلة التي توفي فيها إبراهيم ابن العباس الصولي المقدم ذكره. ولما عاد أمر المقتدر إلى ما كان عليه وقد قتل وزيره العباس بن الحسن في التاريخ الذي ذكره الطبري استوزر أبا الحسن علي بن الفرات المذكور، فأول ما ظهر (3) من محاسنه أنه حمل إليه من دار ابن المعتز صندوقان عظيمان، فقال: أعلمتم ما فيهما قيل: نعم، جرائد بأسماء (4) من بايعه، فقال: لا تفتحوهما، ودعا بنار فطرح الصندوقين (5) فيها، فلما احترقا قال: لو فتحتهما وقرأت ما فيهما (6) فسدت نيات الناس بأجمعهم علينا، واستشعروا منا، ومع ما فعلناه قد هدأت القلوب وسكنت النفوس. ومما يتعلق بهذه الترجمة أن القاهر بالله لما خلع وسملت عيناه كما ذكرناه آل به الأمر (7) إلى أن خرج إلى جامع المنصور ببغداد، فعرف الناس بنفسه، وسألهم التصدق عليه، فقام إليه ابن أبي موسى الهاشمي فأعطاه ألف درهم، وفي ذلك عبرة لأولي الألباب. وقد سبق ذكر عبد الله بن المعتز في ترجمته، لكن هذه الحاجة دعت إلى إعادتها ها هنا. ونقلت من كتاب " الأعيان والأماثل " تأليف الرئيس أبي الحسن هلال بن المحسن بن أبي إسحاق إبراهيم الصابي: وحدث القاضي أبو الحسين عبيد الله بن   (1) ر: ذكره. (2) ر: الأول. (3) ظهر للناس. (4) لي: باسم. (5) ر: الصندوقان. (6) لي: وقرأتهما. (7) ر: الحال. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 427 عباس أن رجلاً اتصلت عطلته، وانقطعت مادته، فزور كتاباً من أبي الحسن ابن الفرات إلى أبي زنبور المادرائي (1) عامل مصر في معناه يتضمن الوصاة به والتأكيد في الإقبال عليه والإحسان إليه، وخرج إلى مصر فلقيه به، فارتاب أبو زنبور في أمره لتغير الخطاب على ما جرت به العادة وكون الدعاء ألين (2) مما يقتضيه محله، فرعاه مراعاة قريبة ووصله بصلة قليلة، واحتبسه عنده على وعد وعده به، وكتب إلى أبي الحسن ابن الفرات يذكر الكتاب الوارد عليه، وأنفذه بعينه إليه واستثبته فيه، فوقف ابن الفرات على الكتاب المزور، فوجد فيه ذكر الرجل وأنه من ذوي الحرمات والحقوق الواجبة عليه، وما يقال في ذلك مما قد استوفي الخطاب (3) فيهن وعرضه على كتابه وعرفهم الصورة فيه، وعجب إليهم منها ومما أقدم عليه الرجل، وقال لهم: ما الرأي في أمر هذا الرجل عندكم فقال بعضهم: تأديبه أو حبسه، وقال آخر: قطع إبهامه لئلا يعاود مثل هذا أو يقتدي به غيره فيما هو أكثر من هذا، وقال أجملهم محضراً: يكشف لأبي زنبور قصته ويرسم له طرده وحرمانه، فقال ابن الفرات: ما أبعدكم عن الخيرية والحرية وأنفر طباعكم منها! رجلٌ توسل بنا وتحمل المشقة إلى مصر في تأميل الصلاح بجاهنا، واستمداد صنع الله عز وجل بالانتساب إلينا، يكون أحسن أحواله عند أحسنكم محضراً تكذيب ظنه وتخييب سعيه، والله لا كان هذا أبداً! ثم إنه أخذ القلم من دواته وكتب (4) على الكتاب المزور " هذا كتأبي، ولست أعلم لم أنكرت أمره، واعترضتك شبهة فيه، وليس كل من خدمنا وأوجب حقاً علينا تعرفه، وهذا رجل خدمني في أيام نكبتي، وما أعتقده في قضاء حقه أكثر مما كلفتك في أمره من القيام به، فأحسن تفقده ووفر رفده وصرفه فيما يعود عليه نفعه ويصل إلينا فيما يحقق ظنه ويبين (5) موقعه " ورده إلى أبي زنبور من يومه، فلما مضت على ذلك مدة طويلة دخل على أبي الحسن ابن الفرات رجل ذو هيئة مقبولة وبزة   (1) هامش لي: حاشية بالأصل هو أبو علي الحسين بن أحمد الماذرائب المعروف بأبي زنبور. (2) ر: أمثر. (3) لي: المقال. (4) ر: ووقع. (5) ر: ويؤمن. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 428 جميلة، وأقبل يدعو له ويثني عليه ويبكي يده وويقبل الأرض (1) ، فقال له ابن الفرات: من أنت بارك الله فيك وكانت هذه كلمته، فقال: صاحب الكتاب المزور إلى أبي زنبور الذي صححه كرم الوزير وتفضله، فعل الله به وصنع، فضحك ابن الفرات وقال: كم وصل إليك منه قال: وصل إلي من ماله وتقسط قسطه على عماله ومعامليه وعمل صرفني فيه عشرون ألف دينار، فقال ابن الفرات: الحمد لله، الزمنا، فإنا نعرضك إلى عمل يزداد (2) به صلاح هالك، ثم اختبره فوجده كاتباً سديداً، فاستخدمه وأكسبه مالاً جزيلاً، رحمه الله تعالى ورضي عنه. والفرات: بضم الفاء وبعد الراء ألف وبعدها تاء مثناة من فوقها. ونازوك: بالنون وبعد الألف زاء مضمومة وبعد الواو كاف. 488 - (3) ابن يونس المنجم صاحب الزيج الحاكمي أبو الحسن علي بن أبي سعيد عبد الرحمن بن أحمد بن يونس بن عبد الأعلى الصدفي المنجم المصري المشهور، صاحب الزيج الحاكمي المعروف بزيج ابن يونس، وهو زيج كبير رأيته في أربع مجلدات، بسط القول والعمل فيه وما أقصر في تحريره، ولم أر في الأزياج على كثرتها أطول منه، وذكر أن الذي أمره بعمله وابتدأه له العزيز أبو الحاكم صاحب مصر - وسيأتي ذكره في حرف النون إن شاء الله تعالى.   (1) ر: ويقبل الأرض ويديه. (2) ر: لما يزداد. (3) ترجمته في طبقات صاعد: 59 وأخبار الحكاء: 230 والشذرات 3: 156، وانظر تاريخ الفلك عند العرب لنلينو: 186، 281 وتراث العرب العلمي لقدري طوقان: 243 - 248. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 429 كان مختصاً بعلم النجوم متصرفاً في سائر العلوم بارعاً في الشعر، وعلى إصلاحه لزيج يحيى بن منصور تعويل أهل مصر في تقويم الكواكب، وعدله القاضي أبو عبد الله محمد بن النعمان في جمادى الأولى سنة ثمانين وثلثمائة، وخلف ولداً متخلفاً باع كتبه وجميع تصنيفاته بالأرطال في الصابونيين، وكان قد أفنى عمره في الرصد والتسيير للمواليد وعمل فيها ما لا نظير له، وكان يقف للكواكب، قال الأمير المختار المعروف بالمسبحي: أخبرني أبو الحسن المنجم الطبراني أنه طلع معه إلى جبل المقطم وقد وقف للزهرة، فنزع ثوبه وعمامته ولبس ثوباً نساوياً أحمر ومقنعة حمراء تقنع بها، وأخرج عوداً فضرب به، والبخور بين يديه، فكان عجباً من العجب (1) . قال الأمير المختار في تاريخ مصر (2) : كان ابن يونس المذكور أبله مغفلاً، يعتم على طرطور طويل ويجعل رداءه فوق العمامة، وكان طويلاً، وإذا ركب ضحك منه الناس لشهرته وسوء حاله ورثاثة لباسه، وكان له مع هذه الهيئة إصابة بديعة غريبة في النجامة لا يشاركه فيها غيره، وكان أحد الشهود، وكان متفنناً في علوم كثيرة (3) ، وكان يضرب بالعود على جهة التأدب، وله شعر حسن فمنه قوله: أحمل نشر الريح عند هبوبه ... رسالة مشتاق لوجه حبيبه بنفسي من تحيا النفوس بقربه ... ومن طابت الدنيا به وبطيبه لعمري لقد عطلت كأسي بعده ... وغيبتها عني لطول مغيبه وجدد وجدي طائف منه في الكرى ... سرى موهناً في خفية من رقيبه وله شعر كثير. وقد تقدم ذكر والده في حرف العين وهو صاحب التاريخ - وسيأتي ذكر   (1) كان مختصاً ... العجب: انفردت به ر، وفي موضعه في المسودة إحالة على تخريجة. (2) في النسخ: قال الأمير المختار المعروف بالمسبحي؛ وقد ورد قبل قليل، والسبب في عدم إيجازه أن النص السابق غير موجود إلا في ر. (3) زاد هنا في لي ل س والمسودة: وكان قد أفنى ... لا نظير له؛ وقد مر هذا النص قبل سطور. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 430 جده في حرف الياء إن شاء الله تعالى. ويحكى أن الحاكم العبيدي صاحب مصر قال وقد جرى في مجلسه ذكر ابن يونس وتغفله: دخل إلى عندي يوماً ومداسه بيده، فقبل الأرض وجلس وترك المداس إلى جانبه، وأنا أراه وأراها، وهو بالقرب مني، فلما أراد أن ينصرف (1) قبل الأرض وقدم المداس ولبسه وانصرف. وإنما ذكر هذا في معرض غفلته وقلة اكتراثه. وقال المسبحي: كانت وفاته بكرة يوم الاثنين لثلاث خلون من شوال سنة تسع وتسعين وثلثمائة (2) فجأة، رحمه الله تعالى، وصلى عليه في الجامع بمصر القاضي مالك بن سعيد [بن أحمد بن محمد بن سليمان بن ثواب] (3) ، ودفن بداره بالفرائين. 489 - (4) الفقيه عمارة اليمني الفقيه أبو محمد عمارة بن أبي الحسن علي بن ريدان (5) بن أحمد (6) الحكمي اليمني،   (1) لي: الانصراف. (2) ن: وغالب ظني أنه توفي بمصر، ثم سقطت العبارة حتى لفظة " ثواب ". (3) انظر التعليق على نسب عمارة، الحاشية رقم: 4 فيما يلي. (4) ترجمته في الخريدة (قسم الشام) 3: 101 والروضتين 2/1: 572 وتاريخ ابن الأثير 11: 398 ومفرج الكروب 1: 212، 238 ومرآة الزمان 277، 302 والسلوك 1/1: 53 والنجوم الزاهرة 6: 7 وعبر الذهبي 4: 208 والشذرات 4: 234 وصبح الأعشى 3: 526 وكشف الظنون: 1777 وقد كتب أخباره على نحو سيرة ذاتية في كتابه " النكت العصرية "؛ وهذه الترجمة أوردتها المسودة بكاملها. (5) ريدان: بالراء المهملة في المسودة، وبالزاي في ل ن وكذلك في النكت العصرية واليتيمة؛ وفي ر: بدران. (6) أحمد: ثبتت في س ل لي ر؛ وسقطت من ن؛ وفي م: زيد بن ثواب الحكمي، وفي المسودة تحشية مضللة، فإذا ما كان أحمد في نسب عمارة - وهو موجود حقاً - فتتمة النسب يجب أن تكون " ابن أحمد بن محمد بن سليمان بن ثواب " فهذا هو المكتوب بأثر لفظة ريدان في المسودة ولكن بعض النسخ ألحقت " محمد بن سليمان بن ثواب " بنسب القاضي مالك بن سعيد (انظر آخر الترجمة السابقة) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 431 الملقب نجم الدين، الشاعر المشهور؛ نقلت من بعض تواليفه (1) أنه من قحطان، ثم الحكم بن سعد العشيرة المذحجي، وأن وطنه من تهامة باليمن مدينة يقال لها مرطان من وادي وساع (2) وبعدها من مكة في مهب الجنوب أحد عشر يوماً، وبها مولده ومرباه، وأنه بلغ الحلم سنة تسع وعشرين وخمسمائة، ورحل إلى زبيد سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة، فأقام بها يشتغل بالفقه في بعض مدارسها مدة أربع سنين، وأنه حج سنة تسع وأربعين وخمسمائة، وسيره قاسم بن هاشم ابن فليتة صاحب مكة شرفها الله تعالى رسولاً إلى الديار المصرية، فدخلها في شهر ربيع الأول سنة خمسين وخمسمائة، وصاحبها يومئذ الفائز بن الظافر، والوزير الصالح ابن رزيك - المذكور في حرف الطاء - وأنشدهما في تلك الدفعة قصيدته الميمية، وهي (3) : الحمد للعيس بعد العزم والهمم ... حمداً يقوم بما أولت من النعم (4) لا أجحد الحق عندي للركاب يدٌ ... تمنت اللجم فيها رتبة الخطم قربن بعد مزار العز من نظري ... حتى رأيت إمام العصر من أمم ورحن من كعبة البطحاء والحرم ... وفداً إلى كعبة المعروف والكرم فهل درى البيت أني بعد فرقته ... ما سرت من حرمٍ إلا حرم حيث الخلافة مضروبٌ سرادقها ... بين النقيضين من عفو ومن نقم وللإمامة أنوارٌ مقدسة ... تجلو البغيضين من ظلم ومن ظلم وللنبوة آيات تنص لنا ... على الخفيين (5) من حكم ومن حكم   (1) انظر النكت العصرية: 7 وما بعدها. (2) ذكر ياقوت أن " وساع " من قرى عثر باليمن؛ ن: زنباع؛ ر: يبتاع. (3) النكت العصرية: 32. (4) س ل: أوليت من نعم. (5) ر: الحقيقين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 432 وللمكارم أعلامٌ تعلمنا ... مدح الجزيلين من بأس ومن كرم وللعلا ألسنٌ تثني محامدها ... على الحميدين من فعل ومن شيم وراية الشرف البذاخ ترفعها ... يد الرفيعين من مجدٍ ومن همم أقسمت بالفائز المعصوم معتقداً ... فوز النجاة وأجر البر في القسم لقد حمى الدين والدنيا وأهلهما ... وزيره الصالح الفراج للغمم اللابس الفخر لم تنسج غلائله ... إلا يد الصنعين السيف والقلم وجوده أوجد الأيام ما اقترحت ... وجوده أعدم الشاكين للعدم قد ملكته العوالي رق مملكة ... تعير أنف الثريا عزة الشمم أرى مقاماً عظيم الشأن أوهمني ... في يقظتي أنها من جملة الحلم يوم من العمر لم يخطر على أملي ... ولا ترقت إليه رغبة الهمم ليت الكواكب تدنو لي فأنظمها ... عقود مدح فما أرضى لكم كلمي ترى الوزارة فيه وهي باذلة ... عند الخلافة نصحاً غير متهم عواطف علمتنا أن بينهما ... قرابة من جميل الرأي لا الرحم خليفة ووزير مد عدلهما ... ظلاً على مفرق الإسلام والأمم زيادة النيل نقص عند قبضهما ... فما عسى نتعاطى منة الديم فاستحسنا قصيدته وأجزلا صلته، وأقام إلى شوال من سنة خمسين في أرغد عيش وأعز جانب، ثم فارق مصر في هذا التاريخ وتوجه إلى مكة ومنها إلى زبيد في صفر سنة إحدى وخمسين، ثم حج من عامه فأعاده قاسم صاحب مكة المذكور في رسالة إلى مصر مرة ثانية، فاستوطنها ولم يفارقها بعد ذلك. ورأيت في كتابه الذي جعله تاريخ اليمن أنه فارق بلاده في شعبان سنة اثنتين وخمسين، وكان فقيهاً شافعي المذهب شديد التعصب للسنة، أديباً ماهراً شاعراً مجيداً محادثاً ممتعاً، فأحسن الصالح وبنوه وأهله إليه كل الإحسان، وصحبوه مع اختلاف العقيدة لحسن صحبته، وله في الصالح وولده مدائح كثيرة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 433 - وقد تقدم طرفٌ من خبره في ترجمة شاور السعدي والصالح (1) ، وما رثاه به - وكانت بينه وبين الكامل بن شاور صحبة متأكدة قبل وزارة أبيه، فلما وزر استحال عليه، فكتب إليه (2) : إذا لم يسالمك الزمان فحارب ... وباعد إذا لم تنتفع بالأقارب ولا تحتقر كيداً ضعيفاً فربما ... تموت الأفاعي من سمام العقارب فقد هد قدماً عرش بلقيس هدهدٌ ... وخرب فأر قبل ذا سد مأرب (3) إذا كان رأس المال عمرك فاحترز ... عليه من الإنفاق في غير واجب فبين اختلاف الليل والصبح معرك ... يكر علينا جيشه بالعجائب وما راعني غدر الشباب لأنني ... أنست بهذا الخلق من كل صاحب وغدر الفتى في عهده ووفائه ... وغدر المواضي في نبو المضارب ومنها: إذا كان هذا الدر معدنه فمي ... فصونوه عن تقبيل راحة واهب رأيت رجالاً أصبحت في مآدب ... لديكم وحالي وحدها في نوادب تأخرت لما قدمتهم علاكم ... علي وتأبى الأسد سبق الثعالب ترى أين كانوا في مواطني التي ... غدوت لكم فيهن أكرم نائب ليالي أتلو ذكركم في مجالس ... حديث الورى فيها بغمز الحواجب وزالت دولة المصريين وهو في البلاد. ولما ملك السلطان صلاح الدين، رحمه الله تعالى، مدحه ومدح جماعة من أهل بيته، يتضمن ديوانه جميع ذلك، وكتب إلى صلاح الدين قصيدة متضمنة شرح حاله وضرورته، وسماها " شكاية المتظلم ونكاية المتألم " وهي بديعة، ورثى   (1) انظر الترجمتين رقم: 285، 311. (2) النكت العصرية: 130. (3) بهامش المسودة: مارب مدينة السد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 434 أصحاب القصر عند زوال ملكهم بقصيدة لامية طويلة أجاد فيها، وغالب شعره جيد. ثم إنه شرع في أمور وأسباب من الاتفاق مع جماعة من رؤساء البلد على التعصب للمصريين وإعادة لدولتهم، فأحس بهم السلطان صلاح الدين، وكانوا ثمانية من الأعيان ومن جملتهم الفقيه عمارة المذكور، وشنقهم في يوم السبت ثاني شهر رمضان سنة تسع وستين وخمسمائة بالقاهرة، رحمهم الله تعالى، وكان قبضهم يوم الأحد السادس والعشرين من شعبان من السنة. وله تواليف منها كتاب " أخبار اليمن " وفيه فوائد، ومنها " النكت العصرية في أخبار الوزراء المصرية " وغير ذلك. وقال العماد الأصبهاني في كتاب " الخريدة " (1) : إنه صلب في جملة الجماعة الذين نسب إليهم التدبير عليه، يعني السلطان صلاح الدين، ومكاتبة الفرنج واستدعاؤهم إليه، حتى يجلسوا ولداً للعاضد، وكانوا أدخلوا معهم رجلاً من الأجناد ليس من أهل مصر، فحضر عند صلاح الدين وأخبره بما جرى، فأحضرهم فلم ينكروا الأمر ولم يروه منكراً، فقطع الطريق على عمر عمارة، وأعيض بخرابه عن العمارة، ووقعت اتفاقات عجيبة، فمن جملتها أنه نسب إليه بيت من قصيدة ذكروا أنه يقول فيها: قد كان أول هذا الدين من رجل ... سعى إلى أن دعوه سيد الأمم ويجوز أن يكون البيت معمولاً عليه، فأفتى فقهاء مصر بقتله، وحرضوا السلطان على المثلة بمثله، ومنها أنه كان في النوبة التي لا تقال عثرتها، ولا يحترم الأديب فيها ولو أنه في سماء النظم والنثر نثرتها، ومنها أنه كان قد هجا أميراً فعد ذلك من كبائره، وجرى عليه الردى في جرائره؛ ثم قال في آخر ترجمته (2) : والعجب من عمارة أنه تأبى في ذلك المقام عن الانتماء إلى القوم [وترك] ، وغطى القدر على بصره حتى أراد أن يتعصب لهم ويعيد دولتهم   (1) الخريدة 3: 103 وما بعدها. (2) الخريدة 3: 140 - 141. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 435 فهلك؛ وإنما قال العماد هذا لأجل الأبيات التي كتبها الصالح بن رزيك يرغبه في التشيع، وهي في الورقة التي هي قربها (1) . والمذحجي: بفتح الميم وسكون الذال المعجمة وكسر الحاء المهملة وبعدها جيم، هذه النسبة إلى مذحج، واسمه مالك بن أدد بن زيد بن يشجب، وإنما قيل له مذحج لأنه ولد على أكمة حمراء باليمن يقال لها مذحج فسمي بها، وقيل غير ذلك، والله أعلم. 490 - (2) عمر بن أبي ربيعة المخزومي أبو الخطاب عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة ابن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم بن يقظة بن مرة القرشي المخزومي الشاعر المشهور؛ لم يكن في قريش أشعر منه، وهو كثير الغزل والنوادر والوقائع والمجون والخلاعة، وله في ذلك حكايات مشهورة. وكان يتغزل في شعره بالثريا ابنة علي بن عبد الله بن الحارث ابن أمية الأصغر بن عبد شمس بن عبد مناف الأموية، وقال السهيلي في " الروض الأنف ": هي الثريا ابنة عبد الله، ولم يذكر علياً، ثم قال: وقتيلة ابنة   (1) يعني أن القصيدة التي كتبها الصالح يرغب فيها عمارة بالتشيع موجودة في الورقة السابقة التي ورد فيها تعليق العماد، ومن تلك القصيدة: أقبل نصيحة من دعاك إلى الهدى ... قل حطة وادخل إلينا البابا تلق الأئمة شافعين ولا ترى ... إلا لديهم سنة وكتابا وانظر النكت: 45. (2) ترجمته وأخباره مبثوثة في كثير من كتب الأدب، انظر مثلاً الأغاني 1: 71 - 230 والشعر والشعراء: 457 والخزانة 1: 240 والموشح: 201 وسرح العيون: 198 وشرح شواهد المغني: 11 وزهر الآداب: 246 - 257 والشذرات 1: 101. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 436 النضر جدتها، لأنها كانت تحت الحارث بن أمية، وعبد الله ولدها وهو والد الثريا، وهذه قتيلة (1) هي التي أنشدت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عقيب وقعة بدر الأبيات القافية، وكان قد قتل أباها النضر بن الحارث بن علقمة بن كلدة بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي القرشي العبدري، وقيل كان أخاها، ومن جملة الأبيات: أمحمد ولأنت ضنء (2) نجيبةٍ ... من قومها والفحل فحلٌ معرق ما كان ضرك لو مننت وربما ... من الفتى وهو المغيظ المحنق فالنضر أقرب من تركت وسيلةً ... وأحقهم إن كان عتق يعتق فقال عليه السلام: لو سمعت شعرها قبل أن أقتله لما قتلته؛ وكان شديد العداوة لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، فأسره في يوم بدر، فلما رجع إلى المدينة أمر علي بن أبي طالب، وقيل المقداد بن أسود بقتله، فقتله صبراً بين يديه بالصفراء، وهي مكان بين المدينة وبدر؛ وهذه الأبيات من جملة أبيات مذكورة في كتاب " الحماسة " (3) في باب المراثي. وكانت الثريا موصوفة بالجمال، فتزوجها سهيل بن عبد الرحمن بن عوف الزهري، رضي الله عنه، ونقلها إلى مصر، فقال عمر المذكور في زواجها يضرب المثل في الثريا وسهيل النجمين المعروفين (4) : أيها المنكح الثريا سهيلاً ... عمرك الله كيف يلتقيان هي شامية إذا ما استقلت ... وسهيلٌ إذا استقل يماني وهذه الثريا وأختها عائشة أعتقتا الغريض المغني المشهور (5) صاحب معبد،   (1) انظر ترجمتها وقصيدتها القافية في أسد الغابة 5: 533 واصابة 8: 169. (2) الضنء - بالفتح ويكسر - الولد؛ وكتب فوقها في المسودة " نجل " ولفظة " معاً "؛ وفي ن: ابن؛ ر: أنت ابن خير. (3) شرح المرزوقي (الحماسية رقم: 332) . (4) ديوان عمر: 438. (5) أخبار الغريض في الأغاني 2: 318. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 437 واسمه عبد الملك وكنيته أبو زيد، وسمي الغريض باسم الطلع، ويقال فيه الغريض والاغريض، وإنما سميلنقاء لونه، وقيل إنما سمي به لطراوته. [يروى أن يزيد بن معاوية لما أراد توجيه مسلم بن عقبة إلى المدينة اعترض الناس، فمر به رجل من أهل الشام [بترس] قبيح، فقال له: يا أخا الشام، مجن ابن أبي ربيعة أحسن من مجنك، يريد قول ابن أبي ربيعة: وكان مجني دون من كنت أتقي ... ثلاث شخوص: كاعبان ومعصر وهذا البيت من جملة قصيدة، وهي من ظريف شعره، فمن جملتها: فحييت إذ فاجأتها فتلهفت ... وكادت بمكتوم التحية تجهر وقالت وعضت بالبنان: فضحتني ... وأنت امرؤ ميسور أمرك أعسر أريتك إن هنا عليك ولم تخف ... رقيباً وحولي من عدوك حضر فوالله ما أدري أتعجيل حاجة ... سرت بك أم قد نام من كنت تحذر فقلت لها: بل قادني الشوق والهوى ... إليك وما عين من الناس تنظر فلما تقضى الليل إلا قليله ... وكادت توالي نجمه تتغور أشارت بأن الحي قد حان منهم ... هبوب ولكن موعد لك عزور فما راعني إلا مناد برحلة ... وقد لاح مفتر من الصبح أشقر فلما رأت من قد تنور منهم ... وأيقاظهم قالت: أشر كيف تأمر فقلت: أباديهم فإما أفوتهم ... وإما أسل السيف ثأراً فيثأر فقالت: أتحقيقاً لما قال كاشح ... علينا وتصديقاً لما كان يؤثر وإن كان ما لابد منه فغيره ... من الأمر أدنى للخفاء وأستر أقص على أختي بدء حديثنا ... وما لي من أن يعلما متأخر لعلهما أن يبغيا لك مخرجاً ... وأن يرحبا سرباً بما كنت أحصر فقالت لأختيها: أعينا على فتى ... أتى زائراً والأمر للأمر يقدر فأقبلتا فارتاعتا ثم قالتا: ... اقلي عليك اللوم فالخطب أيسر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 438 يقوم فيمشي بيننا متنكراً ... فلا سرنا يفشو ولا هو يظهر وكان مجني دون من كنت أتقي ... ثلاث شخوص كاعبان ومعصر] (1) ومن شعر عمر المذكور أيضاً (2) : حي طيفاً من الأحبة زارا ... بعدما صرع الكرى السمارا طارقا في المنام تحت دجى اللي ... ل ضنيناً بأن يزور نهارا قلت ما بالنا جفينا وكنا ... قبل ذاك الأسماع والأبصارا قال إنا كما عهدت ولكن ... شغل الحلي أهله أن يعارا وكانت ولادته في الليلة التي قتل فيها عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، وهي ليلة الأربعاء لأربع بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وتسعين للهجرة. وغزا في البحر فأحرقوا السفينة فاحترق في حدود سنة ثلاث وعشرين للهجرة وعمره مقدار سبعين سنة، رحمه الله تعالى، وقال الهيثم بن عدي: مات سنة ثلاث وتسعين للهجرة، وعمره ثمانون سنة، والله أعلم. وقتل والده عبد الله في سنة ثمان وسبعين للهجرة بسجستان. وكان الحسن البصري، رضي الله عنه، إذا جرى ذكر ولادة عمر بن أبي ربيعة في الليلة التي قتل فيها عمر، رضي الله عنه، يقول: أي حق رفع وأي باطل وضع وكان جده أبو ربيعة يلقب ذا الرمحين، واسمه عمرو، وقيل حذيفة، وقيل اسمه كنيته. وكان أبوه عبد الله أخا أبي جهل ابن هشام المخزومي لأمه، وأمهما أسماء بنت مخربة، من بني مخزوم، وقيل من بني نهشل، وهما ابنا عم، يجمعهما المغيرة بن عبد الله. ويقظة: بفتح الياء المثناة من تحتها والقاف والظاء المعجمة.   (1) القصيدة في الديوان: 120 - 127، وهذه زيادة من ر وحدها، وليس في المسودة أدنى إشارة توحي بهذه الزيادة، وفي بعض رواية القصيدة اختلاف عما في الديوان لم نشر إليه. (2) ديوانه: 209. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 439 491 - (1) عمر بن شبة أبو زيد عمر بن شبة، واسمه زيد وشبة لقب (2) ، ابن عبيدة بن زيد، ويقال ابن رايطة (3) ، النميري البصري؛ كان صاحب أخبار ونوادر ورواية واطلاع كثير، وصنف " تاريخ البصرة ". روى القراءة عن جبلة بن مالك عن المفضل عن عاصم بن أبي النجود، وسمع الحروف من محبوب بن الحسن، وروى عن عبد الوهاب الثقفي وعمرو بن علي، وروى القراءة عنه عبد الله بن سليمان وعبد الله بن عمرو الوراق وأحمد بن فرج، وسمع منه أبو محمد ابن الجارود وسئل عنه أبو حاتم الرازي فقال: صدوق، وروى عنه الحافظ محمد بن ماجة صاحب السنن وغيره. وقد تقدم ذكره في ترجمة العباس بن الأحنف (4) . وكانت ولادته يوم الأحد مستهل رجب سنة ثلاثة وسبعين ومائة. وتوفي يوم الاثنين لست بقين، وقيل يوم الخميس لأربع بقين من جمادى الآخرة سنة اثنتين، وقيل ثلاث وستين ومائتين بسر من رأى، رحمه الله تعالى. وشبة: بفتح الشين وتشديد الباء الموحدة. والنميري: بضم النون وفتح الميم وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها راء، هذه نسبة إلى نمير بن عامر بن صعصعة، وهي قبيلة كبيرة ينسب إليها جماعة من العلماء وغيرهم.   (1) ترجمته في نور القبس: 231 والفهرست: 112 - 113 وتاريخ بغداد 11: 208 ومعجم الأدباء 16: 60 وبغية الوعاة: 361 وتهذيب التهذيب 7: 460 وعبر الذهبي 1: 362 والشذرات 2: 146، وقد استوفت المسودة هذه الترجمة. (2) قيل أنه لقب به لأن أمه كانت ترقصه وتقول: بأبي وشبا.. الخ. (3) نور القبس: ريطة. (4) انظر الترجمة رقم: 319. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 440 492 - (1) الخرقي أبو القاسم عمر بن أبي علي الحسين بن عبد الله بن أحمد الخرقي الفقيه الحنبلي؛ كان من أعيان الفقهاء الحنابلة، وصنف في مذهبهم كتباً كثيرة من جملتها المختصر الذي يشتغل به أكثر المبتدئين من أصحابهم (2) ، وكان قد أودعها في بغداد لما عزم على السفر إلى دمشق لما ظهر بها - أعني بغداد - من سب السلف، فاحترقت في غيبته. وتوفي بدمشق، وقيل ببغداد في سنة أربع وثلاثين وثلثمائة، رحمه الله تعالى. وكان والده أيضاَ من الأعيان، روى عن جماعة، وروت عنه جماعة، رحمهم الله أجمعين. والخرقي: بكسر الخاء المعجمة وفتح الراء وبعدها قاف، هذه النسبة إلى بيع الخرق والثياب.   (1) ترجمته في طبقات الشيرازي، الورقة: 50 وتاريخ بغداد 11: 234 والمنتظم 6: 346 وطبقات الحنابلة 2: 75 - 118 والأنساب 5: 99 واللباب: (الخرقي) والنجوم الزاهرة 3: 178 والشذرات 2: 336 وعبر الذهبي 2: 238؛ وسقطت هذه الترجمة من م وجاءت مستوفاة في المسودة. (2) يقال إن عدد مسائل المختصر 2300 مسألة، وانظر بعض هذه المسائل في طبقات الحنابلة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 441 493 - (1) عمر بن ذر أبو ذر عمر بن ذر بن عبد الله بن زرارة بن معاوية بن منبه بن غالب بن وقش بن قسيم بن موهبة بن دعام بن مالك بن معاوية بن صعب بن دومان ابن بكيل بن جشم بن مالك، وهو الخارق بن عبد الله بن كبير بن مالك ابن جشم بن حاشد بن جشم بن خيوان بن نوف بن همدان، هكذا ساق نسبه هشام بن الكلبي في كتاب " جمهرة النسب " الهمداني الكوفي الفقيه القاص؛ كان صالحاً عابداً كبير القدر، روى عن عطاء ومجاهد، وروى عنه وكيع وأهل العراق، وكان ولده ذر كثير البر له (2) شديد التوفر على طاعته (3) ، ولما حضرته الوفاة دخل عليه أبوه عمر المذكور وهو يجود بنفسه، فقال له: يا بني، إنه ما علينا من موتك غضاضة، ولا بنا إلى أحد سوى الله من حاجة، فلما قضى صلى عليه ودفنه ووقف على قبره وقال: أما والله يا ذر لقد شغلنا البكاء لك عن البكاء عليك، لأنا ما ندري ما قلت ولا ما قيل لك، اللهم إني قد وهبت له ما قصر فيه مما افترضت عليه من حقي، فهب لي ما قصر فيه مما افترضت عليه من حقك واجعل ثوابي عليه له، وزدني من فضلك إني إليك من الراغبين. وقيل له: كيف كان بر ابنك بك فقال: ما مشيت قط بنهار وهو   (1) ترجمته في طبقات ابن سعد 6: 362 وحلية الأولياء 5: 108 وصفة الصفوة 3: 58 وعبر الذهبي 1: 226 وتهذيب التهذيب 7: 444 والشذرات 1: 240؛ وقد سقطت هذه الترجمة من م وقد ورد النسب موجزاً في س ل ن لي، لأنه من تحشيات المسودة، والترجمة مستوفاة فيها. (2) ن: البركة. (3) ن: فاتفق أنه مات في حياته فلما دفنه والده وقف على قبره وقال ... الخ؛ وقد عكس الترتيب بين هذا الموقف والذي يليه، وكان ذلك ثابتاً في المسودة ثم غيره المؤلف وعدل عنه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 442 معي إلا مشى خلفي، ولا بليل إلا مشى أمامي، ولا رقي سطحاً وأنا تحته. ويحكى عنه في ذلك أشياء كثيرة. وكان عمر المذكور يعد من المرجئة. وتوفي سنة ست، وقيل خمس وخمسين ومائة، رحمه الله تعالى. وذر: بفتح الذال المعجمة وتشديد الراء. والهمداني: بفتح الهاء وسكون الميم وفتح الدال المهملة، وقد تقدم الكلام عليها، وإنما قيدتها كيلا تتصحف بالهمذاني. وزرارة: بضم الزاي وفتح الراءين بينهما ألف. وكان أبوه ذر فقيهاً أيضاً. 494 - (1) الثمانيني أبو القاسم عمر بن ثابت الثمانيني الضرير النحوي؛ كان قيماً بعلم النحو عارفاً بقوانينه (2) ، شرح كتاب " اللمع " لابن جني شرحاً تاماً حسناً أجاد فيه، وانتفع بالاشتغال عليه جمعٌ كبير (3) ؛ وكان نحوياً فاضلاً، أخذ النحو عن أبي الفتح ابن جني، وأخذ عنه الشريف أبو المعمر يحيى بن محمد بن طباطبا العلوي الحسيني، وشرح كتاب " اللمع " في التصريف لابن جني أيضاً (4) ، وكان هو وأبو القاسم ابن برهان متعارضين يقرئان الناس بالكرخ ببغداد، فكان   (1) ترجمته في معجم الأدباء 16: 57 ونكت الهميان: 220 والمنتظم 8: 146 ومعجم البلدان: (ثمانين) وبغية الوعاة: 360 وعبر الذهبي 3: 200 والشذرات 3: 269 وقد سقطت الترجمة من م. (2) ر: بالعربية. (3) ن: خلق كثير. (4) هذا مكرر فقد سبق قبل أسطر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 443 خواص الناس يقرأون على ابن برهان، والعوام يقرأون على الثمانيني (1) . وتوفي في ذي القعدة سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة، رحمه الله تعالى. والثمانيني: بفتح الثاء المثلثة والميم وبعد الألف نون مكسورة ثم ياء مثناة من تحتها ثم نون أخرى، هذه النسبة إلى ثمانين، وهي قرية من نواحي جزيرة ابني عمر عند الجبل الجودي. وهي أول قرية بنيت بعد الطوفان، وسميت بعدد الجماعة الذين خرجوا من السفينة مع نوح عليه السلام، فإنهم كانوا ثمانين وبنى كل واحد منهم بيتاً، فسميت القرية ثمانين، وقد خرج من هذه القرية جماعة. [وتوفي الشريف ابن طباطبا المذكور في شهر رمضان سنة ثمان وسبعين وأربعمائة، رحمه الله تعالى] (2) . 495 - (3) ابن البزري أبو القاسم عمر بن محمد بن أحمد بن عكرمة، المعروف بابن البزري الجزري الفقيه الشافعي إمام جزيرة ابني عمر وفقيهها ومفتيها؛ تفقه أولاً بالجزيرة على الشيخ أبي الغنائم محمد بن الفرج بن منصور بن إبراهيم بن الحسن السلمي الفارقي نزيل جزيرة ابني عمر، ثم رحل إلى بغداد، واشتغل على الكيا الهراسي وحجة الإسلام أبي حامد الغزالي، وسمع عليه وعلى أخيه أحمد، وصحب الشاشي صاحب كتاب " المستظهري " وأدرك جماعة من العلماء، واستفاد منهم، ورجع   (1) وكان نحوياً.. الثمانيني: انفردت به ر، واشار في موضعه في المسودة لى أنه ينوي إضافة " التخريجة ". (2) انفردت ر بما بين معقفين، وليس له وجود في المسودة. (3) ترجمته في طبقات السبكي 4: 288 ومعجم البلدان (جزيرة ابن عمر) والنجوم الزاهرة 5: 370 وعبر الذهبي 4: 171 والشذرات 3: 189 وقد سقطت الترجمة من م؛ وهي مستوفاة في المسودة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 444 إلى الجزيرة ودرس بها، وقصد من البلاد للاشتغال عليه وبطريقته، وصنف كتاباً شرح فيه إشكالات كتاب " المهذب " للشيخ أبي إسحاق الشيرازي وغريب ألفاظه وأسماء رجاله، سماه " الأسامي والعلل من كتاب المهذب " وهو مختصر. وكان من العلم والدين في محل رفيع، وكان أحفظ من بقي في الدنيا على ما يقال لمذهب الإمام الشافعي، رضي الله عنه، وكان الغالب عليه المذهب، وانتفع به خلق كثير، وكان ينعت زين الدين جمال الإسلام. ومولده في سنة إحدى وسبعين وأربعمائة. وتوفي في ثاني شهر ربيع الأول، وقيل الآخر، سنة ستين وخمسمائة بالجزيرة، رحمه الله تعالى. وما خلف مثله، وله تلاميذ كثيرون (1) . (136) وتوفي شيخه أبو الغنائم الفارقي المذكور سنة ثلاث وثمانين وأربعمائة، رحمه الله تعالى، وعليه اشتغل الفقيه عيسى بن محمد الهكاري - الآتي ذكره إن شاء الله تعالى - بالجزيرة. والبزري: بفتح الباء الموحدة وسكون الزاي وبعدها راء، هذه النسبة إلى عمل البزر أو بيعه، والبزر في تلك البلاد اسم للدهن المستخرج من حب الكتان، وبه يستصبحون.   (1) وقعت هذه الجملة في س ل لي في وصف شيخه أبي الغنائم بعد لفظة " بالجزيرة "؛ وموضعها في المسودة يجيز هذا الاضطراب، وقد سقطت من ن. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 445 496 - (1) شهاب الدين السهروردي أبو حفص عمر بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عمويه، واسمه عبد الله، البكري الملقب شهاب الدين السهروردي - وقد تقدم تتمة نسبه إلى أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، في ترجمة عمه الشيخ أبي النجيب عبد القاهر، فأغنى عن إعادته؛ كان فقيهاً شافعي المذهب شيخاً صالحاً ورعاً كثير الاجتهاد في العبادة والرياضة وتخرج عليه خلق كثير من الصوفية في المجاهدة والخلوة، ولم يكن في آخر عمره في عصره مثله، وصحب عمه أبا النجيب وعنه أخذ التصوف والوعظ، والشيخ أبا محمد عبد القادر بن أبي صالح الجيلي وغيرهما، وانحدر إلى البصرة إلى الشيخ أبي محمد ابن عبد، ورأى غيرهم من الشيوخ، وحصل طرفاً صالحاً من الفقه والخلاف، وقرأ الأدب (2) ، وعقد مجلس الوعظ سنين. وكان شيخ الشيوخ ببغداد، وكان له مجلس وعظ، وعلى وعظه قبول كثير وله نفس مبارك؛ حكى لي من حضر مجلسه أنه أنشد يوماً على الكرسي: لا تسقني وحدي فما عودتني ... أني أشح بها على جلاسي أنت الكريم ولا يليق تكرماً ... أن يعبر الندماء دور (3) الكاس فتواجد الناس لذلك، وقطعت شعور كثيرة وتاب جمع كبير. وله تواليف حسنة منها كتاب " عوارف المعارف " وهو أشهرها، وله شعر فمنه (4) :   (1) ترجمته في ذيل الروضتين: 163 وطبقات الشافعية 5: 143 والحوادث الجامعة: 74 ومرآة الزمان: 679 والنجوم الزاهرة 6: 292 وعبر الذهبي 5: 129 والشذرات 5: 153 والبداية والنهاية 13: 138، 143 والبدر السافر، الورقة: 48. (2) ل س: وفن الأدب. (3) ر: أن يصبر الندمان دون. (4) ر لي: من ذلك قوله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 446 تصرمت وحشة الليالي ... وأقبلت دولة الوصال وصار بالوصل لي حسوداً ... من كان في هجركم رثى لي وحقكم بعد إن حصلتم ... بكل ما فات لا أبالي أحييتموني وكنت ميتاً ... وبعتموني بغير غالي تقاصرت عنكم قلوبٌ ... فيا له مورداً حلا لي (1) علي ما للورى حرام ... وحبكم في الحشا حلا لي تشربت أعظمي هواكم ... فما لغير الهوى وما لي فما على عادمٍ أجاجاً ... وعنده أعين الزلال ورأيت جماعة ممن حضروا مجلسه وقعدوا في خلوته وتسليكه، كجاري عادة الصوفية، فكانوا يحكون غرائب مما يطرأ عليهم فيها وما يجدونه من الأحوال الخارقة، وكان قد وصل رسولاً إلى إربل من جهة الديوان العزيز، وعقد بها مجلس وعظ، ولم تتفق لي رؤيته لصغر (2) السن. وكان كثير الحج، وربما جاور في بعض حججه، وكان أرباب الطريق من مشايخ عصره يكتبون إليه من البلاد صورة فتاوى يسألونه عن شيء من أحوالهم؛ سمعت أن بعضهم كتب إليه " يا سيدي إن تركت العمل أخلدت إلى البطالة، وإن عملت داخلني العجب، فأيهما أولى " فكتب جوابه: " اعمل واستغفر الله تعالى من العجب ". وله من هذا شيء كثير، وذكر في كتابه " عوارف المعارف " أبياتاً لطيفة منها: أشم منك نسيماً لست أعرفه ... أظن لمياء جرت فيك أذيالا وذكر فيه أيضاً: إن تأملتكم فكلي عيونٌ ... أو تذكرتكم فكلي قلوب   (1) هذا البيت وقع رابعاً في لي. (2) لي: بصغر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 447 وذكر أشياء غير هذا لا حاجة إلى التطويل بذكرها. وكان قد صحب عمه الشيخ أبا النجيب المذكور زماناً، وعليه تخرج. ومولده بسهرورد في أواخر رجب، أو أوائل شعبان، والشك منه، في سنة تسع وثلاثين وخمسمائة. وتوفي في مستهل المحرم سنة اثنتين وثلاثين وستمائة ببغداد، رحمه الله تعالى، ودفن من الغد بالوردية. 497 - (1) الحافظ ابن دحية أبو الخطاب عمر بن الحسن بن علي بن محمد الجميل بن فرح بن خلف بن قومس (2) بن مزلال بن ملال بن بدر بن أحمد بن دحية بن خليفة بن فروة الكلبي، المعروف بذي النسبين، الأندلسي البلنسي الحافظ؛ نقلت نسبه على هذه الصورة من خطه، وكان قد قيده وضبطه كما هو هاهنا. الجميل: بضم الجيم وفتح الميم وتشديد الياء المثناة من تحتها وبعدها لام وهو تصغير جميل. وفرح: بفتح الفاء وسكون الراء وبعدها حاء مهملة. وقومس: بضم القاف وفتحها وسكون الواو وكسر الميم وبعدها سين مهملة. ومزلال: بفتح الميم وسكون الزاي وبعد اللام ألف لام. وملال: بفتح الميم وتشديد اللام ألف وبعدها لام.   (1) ترجمته في ذيل الروضتين: 163 والبدر السافر، الورقة: 40 وعنوان الدراية: 159 والتكملة، رقم: 1832 وصلة الصلة: 73 ومرآة الزمان: 698 وتذكرة الحفاظ: 1420 وعبر الذهبي 5: 134 وميزان الاعتدال 3: 186 ولسان الميزان 4: 292 والنجوم الزاهرة 6: 295 والشذرات 5: 160 والنفح 2: 99. (2) فوقها في المسودة " معاً " أي بضم القاف وفتحها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 448 ودحية: بكسر الدال المهملة وفتحها وسكون الحاء المهملة وبعدها ياء مثناة من تحتها، وهو دحية الكلبي صاحب رسول الله، صلى الله عليه وسلم. والباقي معروف لا حاجة إلى ضبطه. كان يذكر أن أمه أمة الرحمن بنت أبي عبد الله ابن أبي البسام موسى بن عبد الله بن الحسين بن جعفر بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، فلهذا كان يكتب بخطه " ذو النسبين دحية والحسين، رضي الله عنهما " وكان يكتب أيضاً " سبط أبي البسام " إشارة إلى ذلك. كان أبو الخطاب المذكور من أعيان العلماء ومشاهير الفضلاء، متقناً لعلم الحديث النبوي وما يتعلق به، عارفاً بالنحو واللغة وأيام العرب وأشعارها، واشتغل بطلب الحديث في أكثر بلاد الأندلس الإسلامية، ولقي بها علماءها ومشايخها، ثم رحل منها إلى بر العدوة ودخل مراكش واجتمع بفضلائها، ثم ارتحل إلى إفريقية ومنها إلى الديار المصرية ثم إلى الشام والشرق والعراق؛ [وسمع ببغداد من بعض أصحاب ابن الحصين، وسمع بواسط من أبي الفتح محمد ابن أحمد بن الميداني] (1) ودخل إلى عراق العجم وخراسان وما والاها ومازندران، كل ذلك في طلب الحديث والاجتماع بأئمته والأخذ عنهم، وهو في تلك الحال يؤخذ عنه، ويستفاد منه [وسمع بأصبهان من أبي جعفر الصيدلاني، وبنيسابور من منصور بن عبد المنعم الفراوي] (2) وقدم مدينة إربل في سنة أربع وستمائة، وهو متوجه إلى خراسان، فرأى صاحبها الملك المعظم مظفر الدين بن زيد الدين، رحمه الله تعالى، مولعاً بعمل مولد النبي، صلى الله عليه وسلم، عظيم الاحتفال به - كما هو مذكور في ترجمته في حرف الكاف من هذا الكتاب - فعمل له كتاباً سماه " كتاب التنوير في مولد السراج المنير " وقرأه عليه بنفسه، وسمعناه على الملك المعظم في ست مجالس في جمادى الآخرة سنة خمس وعشرين   (1) ما بين معقفين لم يرد في المسودة، وقد سقط أيضاً من س ل لي م ن وثبت في ر. (2) كذا في المسودة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 449 وستمائة، وكان الحافظ أبو الخطاب المذكور قد ختم هذا الكتاب بقصيدة طويلة أولها: لولا الوشاة وهم ... أعداؤنا ما وهموا وقد ذكرت فيما تقدم في ترجمة الأسعد بن مماتي في حرف الهمزة حديث هذه القصيدة فليتأمل هناك (1) ؛ ولما عمل هذا الكتاب دفع له الملك المعظم المذكور ألف دينار، وله عدة تصانيف. وكانت ولادته في مستهل ذي القعدة سنة أربع وأربعين وخمسمائة. وتوفي في يوم الثلاثاء الرابع عشر من ربيع الأول سنة ثلاث وثلاثين وستمائة بالقاهرة، ودفن بسفح المقطم، رحمه الله تعالى، أخبرني بذلك ولده؛ وأخبرني بعض أصحابنا الموثوق بقولهم أنه سأل ولده المذكور عن مولد أبيه، فقال في ذي القعدة من سنة ثمان وأربعين، وأخبرني ابن أخيه قال: سمعت عمي أبا الخطاب غير مرة يقول: ولدت في مستهل ذي القعدة سنة ست وأربعين وخمسمائة، والله أعلم. والبلنسي: بفتح الباء الموحدة اللام وسكون النون وبعها سين مهملة، هذه النسبة إلى بلنسية، وهي مدينة في شرق الأندلس. (137) وكان أخوه أبو عمرو عثمان بن الحسن أسن من أخيه أبي الخطاب، وكان حافظاً للغة العرب قيماً بها. وعزل الملك الكامل أبا الخطاب المذكور عن دار الحديث التي كان أنشأها بالقاهرة، ورتب مكانه أخاه أبا عمرو المذكور، ولم يزل بها إلى أن توفي يوم الثلاثاء ثالث عشر جمادى الأولى سنة أربع وثلاثين وستمائة بالقاهرة، ودفن بسفح المقطم، وله رسائل استعمل فيها حوشي اللغة.   (1) المجلد الأول: 210، والإشارة لى المراد منها ص: 211 - 212. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 450 498 - (1) أبو علي الشلوبيني أبو علي عمر بن محمد بن عمر بن عبد الله الأزدي، المعروف بالشلوبيني، الأندلسي الإشبيلي النحوي [تلميذ أبي بكر محمد بن خلف بن محمد بن عبد الله ابن صافي اللخمي الإشبيلي، ومن قوله: قالوا: حبيبك معلول فقلت لهم ... نفسي الفداء له من كل محذور يا ليت علته بي غير أن له ... أجر العليل واني غير مأجور] (2) كان إماماً في علم النحو مستحضراً له غاية الاستحضار، ولقد رأيت جماعة من أصحابه وكلهم فضلاء، وكل منهم يقول: ما يتقاصر الشيخ أبو علي الشلوبيني عن الشيخ أبي علي الفارسي، ويغالون فيه مغالاة زائدة، وقالوا: فيه مع هذه الفضيلة غفلة وصورة بله في الصورة الظاهرة، حتى قالوا: إنه كان يوماً على جانب نهر وبيده كراريس فوقع منه كراسة في الماء وبعدت عنه فلم تصل يده إليها ليأخذها فأخذ كراسة أخرى وجذبها بها فتلفت الأخرى بالماء؛ وكان   (1) ترجمته في انباه الرواة 2: 332 والديباج المذهب: 185 ومعجم البلدان (شلوبين) والروض المعطار (شلوبينة) والذيل والتكملة 5: 460 (رقم 807) والمغرب 2: 129 وبغية الوعاة: 364 والتكملة، رقم: 1892 واختصار القدح: 152 وعبر الذهبي 5: 186 والشذرات 5: 232 والنجوم الزاهرة 6: 358 والبدار السافر، الورقة: 44 والمقتطف من أزاهر الطرف، الورقة: 80. (2) ما بين معقفين لم يرد إلا في ر، ونسبة البيتين إلى الشربين تصطف من أن تكون هذه الزيادة من عمل المؤلف، لأنه سيورد هذين البيتين في ترجمة عمرو بن مسعدة منسوبين إلى محمد بن البيدق النصيبي نقلاً عن ابن الجراح؛ ووردوهما في كتاب ابن الجراح يمنع أن يكونا لشاعر أندلسي، ثم يمنع أن يكونا لرجل متأخر في الزمن مثل الشلوبين، ولعل الشلوبين استشهد بهما في بعض المناسبات؛ ولكن مما يلفت النظر أن المؤلف قد اشار إلى تخريجة هنا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 451 له مثل هذه الأسباب (1) الدالة على البله (2) . وشرح المقدمة الجزولية شرحين كبيراً وصغيراً، وله كتاب في النحو سماه " التوطئة ". وكانت إقامته بإشبيلية، وأخباره متواصلة إلينا وتلامذته واردة في كل وقت، وبالجملة فإنه على ما يقال كان خاتمة أئمة النحو. وكانت ولادته بإشبيلية في سنة اثنتين وستين وخمسمائة. وتوفي في أحد الربيعين، وقيل في صفر، سنة خمس وأربعين وستمائة بإشبيلية، رحمه الله تعالى. والشلوبيني: بفتح الشين المثلثة اللام وسكون الواو وكسر الباء الموحدة وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها نون، هذه النسبة إلى الشلوبين، وهو بلغة الأندلس الأبيض الأشقر (3) ، هكذا ذكروا، والله أعلم. 499 - (4) ابن طبرزذ أبو حفص عمر بن أبي بكر محمد بن معمر بن أحمد بن يحيى بن حسان المؤدب، المعروف بابن طبرزذ، المحدث المشهور البغدادي، الملقب موفق الدين من أهل الجانب الغربي ببغداد، من ساكني محلة دار القز ولهذا عرف بالدارقزي؛ كان أخوه الأكبر أبو البقاء محمد قد أسمعه الكثير من الحديث، ثم استقل بإفادة نفسه، وعمر حتى حدث سنين، وحفظ الأصول إلى وقت الحاجة إليها، وكانت بخط أخيه أبي البقاء المذكور إلا القليل، وكان سماعه من أبي القاسم   (1) ر ل لي: الأشياء. (2) انظر ما يتصل بنوادره في اختصار القدح. (3) قال ابن عبد الملك: وسأله أبو محمد الحرار عن هذه النسبة: أهي إلى شلوبين الذي بلسان روم الأندلس الأشقر الأزرق أم إلى شلوبانية بلد بساحل غرناطة فقال: كان أبي أشقر أزرق ... الخ. (4) ترجمته في ميزان الاعتدال 3: 223 وعبر الذهبي 5: 24 والنجوم الزاهرة 6: 201 والشذرات 5: 26 وذيل الروضتين: 70 ومرآة الزمان: 537. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 452 هبة الله بن عبد الواحد بن الحصين وأبي المواهب أحمد بن محمد بن ملوك الوراق وأبي الحسن ابن الزاغوني وأبي غالب ابن البناء وأبي القاسم هبة الله بن عبد الشروطي وأبي القاسم هبة الله بن أحمد الحريري والقاضي أبي بكر محمد بن عبد الباقي الأنصاري وأبي منصور ابن زريق وإسماعيل بن أحمد السمرقندي وعبد الوهاب الأنماطي وخلق كثير يطول ذكرهم؛ وكان سماعه صحيحاً على تخليط فيه، وسافر في آخر عمره إلى الشام، وحدث في طريقه بإربل والموصل وحران وحلب ودمشق وغيرها وعاد إلى بغداد وحدث بها، وتفرد بالرواية عن جماعة منهم الفقيه أبو الحسن علي بن عبد الله بن الزاغوني وابن ملوك المذكور وأبو القاسم الشروطي المذكور وأبو غالب محمد بن أحمد بن قريش وأبو البركات بن كامل بن حبيش وأبو غالب أحمد بن الحسن بن البناء وأبو القاسم هبة الله بن الحصين وغيرهم، وجمع له ابن المديني مشيخةً في جزأين وبعض ثالث فيها ثلاثة وثمانون شيخاً (1) . وكان عالي الإسناد في سماع الحديث، طاف البلاد وأفاد أهلها وألحق الأصاغر بالأكابر وطبق الأرض بالسماعات والإجازات، وامتدت له الحياة فخلا له العصر، وكان فيه صلاح وخير. ومولده في ذي الحجة سنة ست عشرة وخمسمائة (2) . وتوفي في عصر يوم الثلاثاء تاسع رجب سنة سبع وستمائة ببغداد، ودفن من الغد بباب حرب، رحمه الله تعالى. وطبرزذ: بفتح الطاء المهملة والباء الموحدة وسكون الراء وفتح الزاي وبعدها ذال معجمة، وهو اسم لنوع من السكر.   (1) كان أخوه ... شيخاً: انفردت ر به، وفي المسودة إشارة إلى " تخريجة " في هذا الموضع. (2) عند أبي شامة: سنة عشر وخمسمائة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 453 500 - (1) الشرف ابن الفارض أبو حفص وأبو القاسم عمر بن أبي الحسن علي بن المرشد بن علي، الحموي الأصل، المصري المولد والدار والوفاة، المعروف بابن الفارض، المنعوت بالشرف؛ له ديوان شعر لطيف، وأسلوبه فيه رائق ظريف ينحو منحى طريقة الفقراء؛ وله قصيدة مقدار ستمائة بيت (2) على اصطلاحهم ومنهجهم، وما ألطف قوله في جملة قصيدة طويلة (3) : أهلاً بما لم أكن أهلاً لموقعه ... قول المبشر بعد اليأس بالفرج لك البشارة فاخلع ما عليك فقد ... ذكرت ثم على ما فيك من عوج وقوله من قصيدة أخرى (4) : لم أخل من حسدٍ عليك فلا تضع ... سهري بتشنيع الخيال المرجف واسأل نجوم الليل هل زار الكرى ... جفني وكيف يزور من لم يعرف ومنها: وعلى تفنن واصفيه بحسنه ... يفنى الزمان وفيه ما لم يوصف   (1) ترجمته في ميزان الاعتدال 3: 214 ولسان الميزان 4: 317 وعبر الذهبي 5: 129 والشذرات 5: 149 والنجوم الزاهرة 6: 288 وحسن المحاضرة 1: 221، وانظر مقدمة شرح الديوان للبوريني والبدر السافر، الورقة: 43؛ وهذه الترجمة وردت بكاملها في المسودة. (2) لعله يعني تائيته المشهورة، ومطلعها: نعم بالصبا قلبي صبا لأحبتي ... فيا حبذا ذاك الشذا حين هبت (3) ديوانه 2: 80. (4) ديوانه 1: 208. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 454 وله دوبيت ومواليا وألغاز. وسمعت أنه كان رجلاً صالحاً كثير الخير، على قدم التجرد، جاور بمكة، زادها الله تعالى شرفاً، زماناً. وكان حسن الصحبة محمود العشرة، أخبرني عنه بعض أصحابه أنه ترنم يوماً وهو في خلوة ببيت الحريري، صاحب " المقامات " وهو: من ذا الذي ما ساء قط ... ومن له الحسنى فقط قال: فسمع قائلاً ولم ير شخصه وقد أنشد: محمد الهادي الذي ... عليه جبريل هبط وأنشدني له جماعة من أصحابه مواليا في غلام صنعته الجزارة، وهو كيس، ولم أره في ديوانه: قلتو لجزر عشقتو كم تشرخني ... قتلتني قال ذا شغلي توبخني ومل إلي وبس رجلي يربخني (1) ... يريد ذبحي فينفخني ليسلخني (2) وقد كتبته على اصطلاحهم فإنهم لا يراعون فيه الإعراب والضبط بل يجوزون فيه اللحن، بل غالبه ملحون، فلا يؤاخذ من يقف عليه. وكان يقول: عملت في النوم بيتين، وهما (3) : وحياة أشواقي إلي ... ك وحرمة الصبر الجميل لا أبصرت عيني (4) سوا ... ك ولا صبوت إلى خليل وكانت ولادته في الرابع من ذي القعدة سنة ست وسبعين وخمسمائة بالقاهرة. وتوفي بها يوم الثلاثاء الثاني من جمادى الأولى سنة اثنتين وثلاثين وستمائة ودفن من الغد بسفح المقطم، رحمه الله تعالى.   (1) يربخ: يجعل مسترخياً ضعيفاً؛ ل س لي: وقام إلي يبوس رجلي يربخني. (2) لي س: اوذايش أقول قصدو ينفخني لسلخني؛ وانظر الديوان 2: 233. (3) الديوان 2: 232. (4) ر: ما استحسنت عيني. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 455 والفارض: بفتح الفاء وبعد الألف راء مفتوحة (1) وبعدها ضاد معجمة، وهو الذي يكتب الفروض للنساء على الرجال. 501 - (2) تقي الدين صاحب حماة الملك الظفر تقي الدين أبو سعيد عمر بن نور الدولة شاهنشاه بن أيوب صاحب حماة، وهو ابن أخي السلطان صلاح الدين، رحمه الله تعالى - وقد تقدم ذكر أبيه في حرف الشين (3) ؛ كان شجاعاً مقداماً منصوراً في الحروب مؤيداً في الوقائع ومواقفه مشهورة مع الفرنج. وكانت له آثار في المصافات دلت عليها التواريخ، وله في أبواب البر كل حسنة، منها: مدرسة منازل العز التي بمصر، يقال إنها كانت دار سكنه، فوقف عليها وقفاً كثيراً وجعلها مدرسة. وكانت الفيوم وبلادها إقطاعه، وله بها مدرستان: شافعية ومالكية، وعليهما وقفٌ جيد أيضاً (4) ، وبنى بمدينة الرها مدرسة لما كان صاحب البلاد الشرقية، وكان كثير الإحسان إلى العلماء والفقراء وأرباب الخير. وناب عن عمه صلاح الدين بالديار المصرية في بعض غيباته عنها، فإن الملك العادل كان نائباً عن أخيه السلطان صلاح الدين بالديار المصرية، فلما حاصر الكرك في سنة تسع وسبعين وخمسمائة في رجب طلب أخاه من مصر بالعساكر، وسير إليها تقي الدين في العشر الوسط من شعبان من السنة نائباً عنها، ثم استدعاه   (1) أخباره في مرآة الزمان: 684 وصفحات متفرقة من مفرج الكروب (الجزء الأول) ومن السلوك (الجزء الأول) والنجوم الزاهرة 6: 113 وعبر الذهبي 4: 262 والشذرات 4: 289 والبدر السافر، الورقة: 41. (2) كذا في المسودة. (3) انظر الترجمة رقم: 287 (2: 452) . (4) ر: ووقف عليهما وقفاً جيداً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 456 إليه بالشام، ورتب بالديار المصرية ولده الملك العزيز عثمان - المقدم ذكره (1) - ومعه الملك العادل، فشق ذلك على تقي الدين وعزم على دخوله بلاد المغرب ليفتحها، فقبح أصحابه عليه ذلك، فامتثل قول عمه صلاح الدين وحضر إلى خدمته. وخرج السلطان التقاه بمرج الصفر، واجتمعا هناك في الثالث والعشرين من شعبان سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة، وفرح به وأعطاه حماة، فتوجه إليها (2) وتوجه إلى قلعة منازكرد من نواحي خلاط ليأخذها، فحاصرها مدة، وتوفي عليها يوم الجمعة تاسع عشر شهر رمضان، سنة سبع وثمانين وخمسمائة وقيل بل توفي ما بين خلاط وميافارقين، ونقل إلى حماة، ودفن بها. (138) وترتب مكانه ولده الملك المنصور ناصر الدين أبو المعالي محمد بن عمر، ومات يوم الاثنين الثاني والعشرين من ذي القعدة سنة سبع عشرة وستمائة بحماة، رحمهما الله تعالى. ورأيت بخطي في مسوداتي أن تقي الدين مولده سنة أربع وثلاثين وخمسمائة. قال ابن شداد في " السيرة " (3) : لما كان يوم الجمعة حادي عشر شوال سنة سبع وثمانين وخمسمائة ركب السلطان إلى جهة العدو وأشرف عليهم، ثم عاد وأمرني بالإشارة إلى الملك العادل بأن يحضر معه علم الدين سليمان بن جندر وسابق الدين بن الداية وعز الدين بن المقدم؛ فلما مثلت بين يديه الجماعة بخدمته، أمر بإخلاء المكان من غير المذكورين وإبعاد الناس عن الخيمة، وكنت من جملة الحاضرين؛ فأخرج كتاباً من قبائه وفضه ووقف عليه، ففاضت دموعه وغلبه النحيب والبكاء حتى وافقناه من غير أن نعلم السبب في ذلك، ثم ذكر انه يتضمن وفاة الملك المظفر تقي الدين، رحمه الله تعالى، فاستأنف الحاضرون البكاء عليه والأسف، ثم ذكرته الله تعالى وعرفته ما يجب من الانقياد لقضائه وقدره فقال: أستغفر الله، إنا لله وإنا إليه راجعون؛ ثم قال: من المصلحة كتمان ذلك وإخفاؤه لئلا يتصل بالعدو ونحن منازلوه. ثم أمر بإحضار الطعام وأطعم   (1) انظر الترجمة رقم: 414. (2) فإن الملك العادل ... فتوجه إليها: سقط من ر ن س ل لي، وهو في هامش المسودة. (3) سيرة صلاح الدين: 197. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 457 الجماعة وانفصلوا من بين يديه. وكانت وفاته في طريق خلاط عائداً إلى ميافارقين، فحمل ميتاً إلى ميافارقين، وعملت له تربة ومدرسة مشهورة بأرض حماة، وحمل إليها ودفن بها وزرته بها. وكانت وفاته يوم الجمعة تاسع شهر رمضان سنة سبع وثمانين وخمسمائة. وذكر قبل هذا (1) : لما كان يوم الأحد الحادي والعشرين من شهر رمضان - يعني من السنة - وصل كتاب من الديوان العزيز ينكر قصد الملك المظفر تقي الدين إلى جهة خلاط وفيه معاتبة نائبه بسبب بكتمر ويشفع فيه وفي حسن بن قفجاق وأن يتقدم بإطلاقه - وكان مظفر الدين قد قبض عليه بإربل - وأن يسير القاضي الفاضل إلى الديوان لبت حال، فسير الكتاب إلى القاضي الفاضل ليقف عليه ويكتب إلى الملك المظفر بما رسم فيه. ثم عاد ابن شداد إلى هذا الكلام في كتاب آخر بعد هذا التاريخ وقال (2) : كان الجواب عن تقي الدين: إنا لم نأمره إلى التعريض ببكتمر صاحب اخلاط وإنما عبر ليجمع العساكر للجهاد ويعود، فاتفقت أسباب اقتضت ذلك وقد أمرنا بالعود عنه؛ وعن ابن قفجاق بأن قد عرفتم حال ابن قفجاق وما يتصدى له من الفساد في الأرض وانه قد تقدم إلى مظفر الدين بإحضاره معه إلى الشام ليقطعه فيه ويكون ملازماً للجهاد؛ وعن الثالث بالاعتذار عن القاضي الفاضل بأن قوته تضعف عن الحركة إلى العراق؛ هذا حاصل الجواب (3) .   (1) المصدر السابق: 192. (2) انظر السيرة: 198 وهذا الكتاب رد على كتاب وصل من بغداد. (3) قال ابن شداد ... الجواب: انفردت به ر، وأشار المؤلف في المسودة إلى إدراج " تخريجة " في هذا الموضع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 458 502 - (1) أبو إسحاق السبيعي أبو إسحاق عمرو بن عبد الله بن علي بن أحمد بن ذي يحمد بن السبيع السبيعي الهمداني الكوفي من أعيان التابعين؛ رأى علياً وابن عباس وابن عمر وغيرهم من الصحابة، رضي الله عنهم أجمعين، وروى عنه الأعمش وشعبة والثوري وغيرهم، رضي الله عنهم، وكان كثير الرواية. ولد لثلاث سنين بقين من خلافة عثمان، رضي الله عنه، وتوفي سنة تسع وعشرين، وقيل سبع وعشرين، وقيل ثمان وعشرين ومائة (2) . وقال يحيى بن معين والمدائني: مات سنة اثنتين وثلاثين ومائة، والله أعلم، رضي الله عنه. والسبيعي: بفتح السين المهملة وكسر الباء الموحدة وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها عين مهملة، هذه النسبة إلى سبيع، وهو بطن من همدان. وكان أبو إسحاق المذكور يقول: رفعني أبي حتى رأيت علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، يخطب وهو أبيض الرأس واللحية.   (1) انظر ترجمته في طبقات ابن سعد 6: 313 وتاريخ أصبهان 2: 26 وحلية الأولياء 4: 338 واللباب: (السبيعي) وميزان الاعتدال 3: 270 وغاية النهاية 1: 602 وتهذيب التهذيب 8: 63؛ والترجمة بكاملها في المسودة. (2) هنا تنتهي الترجمة في م. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 459 503 - (1) عمرو بن عبيد أبو عثمان عمرو بن عبيد بن باب، المتكلم الزاهد المشهور، مولى بني عقيل، ثم آل عرادة بن يربوع بن مالك. كان جده باب من سبي كابل من جبال السند، وكان أبوه يخلف أصحاب الشرط بالبصرة، فكان الناس إذا رأوا عمراً مع أبيه، قالوا: هذا خير الناس ابن شر الناس، فيقول أبوه: صدقتم، هذا إبراهيم وأنا آزر، وقيل لأبيه عبيد: إن ابنك يختلف إلى الحسن البصري، ولعله أن يكون، فقال: وأي خير يكون من ابني وقد أصبت أمه من غلول وأنا أبوه وكان عمرو شيخ المعتزلة في وقته - وسيأتي في ترجمة واصل بن عطاء سبب اعتزاله، ولم سموا المعتزلة إن شاء الله تعالى - وكان آدم مربوعاً بين عينيه أثر السجود. وسئل الحسن البصري عنه، فقال للسائل: لقد سألت عن رجل كأن الملائكة أدبته، وكأن الأنبياء ربته، إن قام بأمر قعد به، وإن قعد بأمر قام به، وإن أمر بشيء كان ألزم الناس له، وإن نهي عن شيء كان أترك الناس له، ما رأيت ظاهراً أشبه بباطن ولا باطناً أشبه بظاهر منه. [ولما كان عبد الله بن عمر بن عبد العزيز أميراً على العراق أرسل إلى عامله على البصرة - وهو شبيب بن شيبة - أن يوفد إليه وفداً، فأرسل إلى جماعة يأمرهم بذلك، وأرسل إلى عمرو بن عبيد فامتنع، فأعاد سؤاله فقال: إن أول ما يسألني عنه سيرتك، فما تراني قائلاً قال: فكف عنه.   (1) له ترجمة في تاريخ بغداد 12: 166 ومروج الذهب 3: 313 وشرح الشريشي 1: 332 وأمالي المرتضى 1: 164 - 171، 173 - 178 وطبقات المعتزلة: 35 والحور العين: 111 وميزان الاعتدال 3: 273 وعبر الذهبي 1: 193 والبداية والنهاية 10: 78 وتهذيب التهذيب 8: 7 والشذرات 1: 210 وغاية النهاية 1: 602 وقد نشر الدكتور فإن ما كتبه الدارقطني عنه في كتيب مستقل (بيروت: 1967) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 460 قلت: هذا عبد الله بن عمر هو الذي حفر نهر البصرة المعروف بنهر ابن عمر المشهور في مكانه، وهو عبد الله بن عمر بن عبد العزيز بن مروان الأموي الحكمي، حبسه مروان بن محمد المنبوذ بالحمار، آخر ملوك بني أمية، مع إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس، المعروف بالإمام، بحران، وقتلهما في سنة نيف وثلاثين ومائة] (1) . ودخل عمرو يوماً على أبي جعفر المنصور في خلافته، وكان صاحبه وصديقه قبل الخلافة وله معه مجالس وأخبار، فقربه وأجلسه، ثم قال له: عظني، فوعظه بمواعظ (2) ، منها: إن هذا الأمر الذي أصبح في يدك لو بقي في يد غيرك ممن كان قبلك لم يصل إليك، فأحذرك ليلة تمخض بيوم لا ليلة بعده. فلما أراد النهوض قال: قد أمرنا لك بعشرة آلاف درهم، قال: لا حاجة لي فيها، قال: والله تأخذها، قال: والله لا آخذها. وكان المهدي ولد المنصور حاضراً، فقال: يحلف أمير المؤمنين وتحلف أنت فالتفت عمرو إلى المنصور وقال: من هذا الفتى قال: هذا المهدي ولدي وولي عهدي، فقال: أما لقد ألبسته لباساً ما هو من لباس الأبرار، وسميته باسم ما استحقه، ومهدت له أمراً أمتع ما يكون به أشغل ما يكون عنه. ثم التفت عمرو إلى المهدي وقال: نعم يا ابن أخي، إذا حلف أبوك أحنثه عمك، لأن أباك أقوى على الكفارات من عمك، فقال له المنصور: هل من حاجة قال: لا تبعث إلي حتى آتيك، قال: إذاً لا تلقني، قال: هي حاجتي، ومضى، فأتبعه المنصور طرفه (3) ، وقال: كلكم يمشي رويد ... كلكم يطلب صيد غير عمرو بن عبيد ... [ولما خرج محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسين بن علي بن أبي طالب، رضي الله تعالى عنهم، على أبي جعفر المنصور وقدم البصرة ثم خرج منها، وبلغ   (1) ما بين معقفين لم يرد إلا في ر. (2) ن: بموعظة؛ وحذف نص الموعظة. (3) ن: بصره. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 461 المنصور خبره، أقبل مسرعاً في سنة اثنتين وأربعين ومائة، وبها عمرو بن عبيد، فقال له أصحابه: نخرج للقائه، فأبى، فعاودوه وغلبوه على رأيه حتى خرج إليه، فقال له يا أبا عثمان، هل بالبصرة أحد نخافه على أمرنا قال: لا، قال: أفأقتصر على قولك وأنصرف قال: نعم، فانصرف ولم يدخلها] (1) . ولعمرو المذكور رسائل وخطب، وكتاب التفسير عن الحسن البصري، وكتاب " الرد على القدرية "، وكلام كثير في العدل والتوحيد، وغير ذلك. ولما حضرته الوفاة قال لصاحبه: نزل بي الموت ولم أتأهب له، ثم قال: اللهم إنك تعلم أنه لم يسنح لي أمران في أحدهما رضا لك وفي الآخر هوى لي إلا اخترت رضاك على هواي، فاغفر لي. وكانت ولادته في سنة ثمانين للهجرة. وتوفي سنة أربع وأربعين ومائة، وقيل اثنتين، وقيل ثلاث، وقيل ثمان، وهو راجع من مكة بموضع يقال له مران؛ ورثاه المنصور بقوله: صلى الإله عليك من متوسدٍ ... قبراً مررت به على مران قبراً تضمن مؤمناً متحنفاً ... صدق الإله ودان بالعرفان لو أن هذا الدهر أبقى صالحاً ... أبقى لنا عمراً أبا عثمان ولم يسمع بخليفة رثى من دونه سواه، رضي الله عنه. ومران: بفتح الميم وتشديد الراء وبعد الألف نون، موضع بين مكة والبصرة على ليلتين من مكة، وبه دفن أيضاً تميم بن مر الذي تنسب إليه بنو تميم القبيلة الكبيرة المشهورة. واسم جده باب: بباءين موحدتين بينهما ألف، وإنما قيدته لأنه يتصحف بناب.   (1) بين معقفين انفردت به ر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 462 504 - (1) سيبويه أبو بشر عمرو بن عثمان بن قنبر، الملقب سيبويه، مولى بني الحارث بن كعب، وقيل آل الربيع بن زياد الحارثي؛ كان أعلم المتقدمين والمتأخرين بالنحو، ولم يوضع فيه مثل كتابه، وذكره الجاحظ يوماً فقال: لم يكتب الناس في النحو كتاباً مثله، وجميع كتب الناس عليه عيال. وقال الجاحظ: أردت الخروج إلى محمد بن عبد الملك الزيات وزير المعتصم ففكرت في شيء أهديه له، فلم أجد شيئاً أشرف من كتاب سيبويه، فلما وصلت إليه قلت له: لم أجد شيئاً أهديه لك مثل هذا الكتاب، وقد اشتريته من ميراث الفراء، فقال: والله ما أهديت لي شيئاً أحب إلي منه. ورأيت في بعض التواريخ أن الجاحظ لما وصل إلى ابن الزيات بكتاب سيبويه أعلمه به قبل إحضاره، فقال له ابن الزيات: أو ظننت أن خزانتنا خالية من هذا الكتاب فقال الجاحظ: ما ظننت ذلك، ولكنها بخط الفراء ومقابلة الكسائي وتهذيب عمرو بن بحر الجاحظ، يعني نفسه، فقال ابن الزيات: هذه أجل نسخة توجد وأعزها، فأحضرها إليه، فسر بها ووقعت منه أجمل موقع (2) . وأخذ سيبويه النحو عن الخليل بن أحمد - المقدم ذكره (3) - وعن عيسى ابن عمر ويونس بن حبيب وغيرهم، وأخذ اللغة عن أبي الخطاب المعروف بالأخفش الأكبر وغيره. وقال ابن النطاح: كنت عند الخليل بن أحمد فأقبل سيبويه، فقال الخليل:   (1) انظر ترجمته في نور القبس: 95 وانباه الرواة 2: 346 وفي الحاشية ثبت بمصدر أخرى: وعبر الذهبي 1: 278. (2) ل لي س: وقوع؛ ر: أجل موقع. (3) المجلد الثاني: 244. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 463 مرحباً بزائر لا يمل، قال أبو عمر المخزومي (1) وكان كثير المجالسة للخليل: ما سمعت الخليل يقولها لأحد إلا لسيبويه. وكان قد ورد إلى بغداد من بصرة والكسائي يومئذ يعلم الأمين بن هارون الرشيد، فجمع بينهما وتناظرا وجرى مجلس يطول شرحه، وزعم الكسائي أن العرب تقول: كنت أظن أن الزنبور أشد لسعاً من النحلة فإذا هو إياها، فقال سيبويه: ليس المثل كذا، بل فإذا هو هي، وتشاجرا طويلاً، واتفقا على مراجعة عربي خالص لا يشوب كلامه شيء من كلام أهل الحضر، وكان الأمين شديد العناية بالكسائي لكونه معلمه، فاستدعى عربياً وسأله فقال كما قال سيبويه. فقال له: نريد أن تقول كما قال الكسائي، فقال: إن لساني لا يطاوعني على ذلك فإنه ما يسبق إلا إلى الصواب، فقرروا معه أن شخصاً يقول: قال سيبويه كذا وقال الكسائي كذا، فالصواب مع من منهما فيقول العربي: مع الكسائي، فقال: هذا يمكن، ثم عقد لهما المجلس واجتمعا أئمة هذا الشأن وحضر العربي، وقيل له ذلك فقال: الصواب مع الكسائي، وهو كلام العرب، فعلم سيبويه أنهم تحاملوا عليه وتعصبوا للكسائي، فخرج من بغداد وقد حمل في نفسه لما جرى عليه، وقصد بلاد فارس فتوفي في قرية من قرى شيراز يقال لها البيضاء في سنة ثمانين ومائة، وقيل سنة سبع وسبعين، وعمره نيف وأربعون سنة، وقال ابن قانع: بل توفي بالبصرة في سنة إحدى وستين ومائة، وقيل سنة ثمان وثمانين، وقال الحافظ أبو الفرج ابن الجوزي: توفي سنة أربع وتسعين ومائة، وعمره اثنتان وثلاثون سنة، وأنه توفي بمدينة ساوة، وذكر الخطيب في " تاريخ بغداد " (2) عن ابن دريد أنه قال: مات سيبويه بشيراز، وقبره بها، والله أعلم. وقيل أن ولادته كانت بالبيضاء المذكورة، لا وفاته. قال أبو سعيد الطوال: رأيت على قبر سيبويه هذه الأبيات مكتوبة، وهي لسليمان بن يزيد العدوي: ذهب الأحبة بعد طول تزاور ... ونأى المزار فأسلموك وأقشعوا   (1) المخزومي في أصل ن، وضبب عليها وكتب " الجرمي ". (2) تاريخ بغداد 12: 195. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 464 تركوك أوحش ما تكون بقفرة ... لم يؤنسوك، وكربة لم يدفعوا قضيا لقضاء وصرت صاحب حفرة ... عنك الأحبة أعرض وتصدعوا وقال معاوية بن بكر العليمي، وقد ذكر عنده سيبويه: رأيته وكان حديث السن، وكنت أسمع في ذلك العصر أنه أثبت من حمل عن الخليل بن أحمد، وقد سمعته يتكلم ويناظر في النحو، وكانت في لسانه حبسة، ونظرت في كتابه فقلمه أبلغ من لسانه. وقال أبو زيد الأنصاري: كان سيبويه غلاماً يأتي مجلسي وله ذؤابتان، فإذا سمعته يقول: حدثني من أثق بعربيته، فإنما يعنيني. وكان سيبويه كثيراً ما ينشد: إذا بل من داءٍ به ظن أنه ... نجا، وبه الداء الذي هو قاتله وسيبويه: بكسر السين المهملة وسكون الياء المثناة من تحتها وفتح الباء الموحدة والواو وسكون الياء الثانية وبعدها هاء ساكنة، ولا يقال بالتاء البتة، وهو (1) لقب فارسي معناه بالعربية رائحة التفاح؛ هكذا يضبط أهل العربية (2) هذا الاسم ونظائره مثل نفطويه وعمرويه وغيرهما، والعجم يقولون " سيبويه " بضم الباء الموحدة وسكون الواو وفتح الياء المثناة بعدها، لأنهم يكرهون أن يقع في آخر الكلمة " ويه " لأنها للندبة. وقال إبراهيم الحربي: سمي سيبويه لأن وجنتيه كانتا كأنهما تفاحتان (3) ، وكان في غاية الجمال، رحمه الله تعالى.   (1) المسودة: وهي. (2) أهل العربية: غير ظاهرة في مصورة المسودة. (3) لي ن ل س: تفاحة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 465 505 - (1) أبو عمرو بن العلاء أبو عمرو بن العلاء بن عمار بن العريان بن عبد الله بن الحصين التميمي المازني البصري. ورأيت بخطي في مسوداتي: هو أبو عمرو بن العلاء بن عمار ابن عبد الله بن الحصين بن الحارث بن جلهم بن خزاعي بن مازن بن مالك بن عمرو بن تميم، ويقال: جلهم بن حجر بن خزاعي، واسمه العريان؛ أحد القراء السبعة، كان أعلم الناس بالقرآن الكريم والعربية والشعر، وهو في النحو في الطبقة الرابعة من علي بن أبي طالب، رضي الله عنه. قال الأصمعي: قال أبو عمرو بن العلاء: لقد علمت من النحو ما لم يعلمه الأعمش وما لو كتب لما استطاع أن يحمله. وقال أيضاً: سألت أبا عمرو عن ألف مسألة، فأجابني فيها بألف حجة. وكان أبو عمرو رأساً في حياة الحسن البصري مقدما في عصره. وقال أبو عبيدة: كان أبو عمرو أعلم الناس بالأدب والعربية والقرآن والشعر. وكانت كتبه التي كتب عن العرب الفصحاء قد ملأت بيتا له إلى قريب من السقف، ثم إنه تقرأ - أي تنسك - فأخرجها كلها، فلما رجع إلى علمه الأول لم يكن عنده إلا ما حفظه بقلبه، وكانت عامة أخباره عن أعراب قد أدركوا الجاهلية. قال الأصمعي: جلست إلى أبي عمرو بن العلاء عشر حجج، فلم أسمعه يحتج ببيت إسلامي، قال: وفي أبي عمرو بن العلاء يقول الفرزدق:   (1) ترجمته في طبقات الزبيدي: 28، 176 والمعارف: 531، 540 وأخبار النحويين البصريين: 22 ومراتب النحويين: 13 ونور القبس: 25 ونزهة الألباء: 15 وغاية النهاية 1: 288 وعبر الذهبي 1: 223 والشذرات 1: 237 وبغية الوعاة: 367 وقد ترجم له الكتبي أيضاً في الفوات 1: 331 مع أنه يستدرك على مؤلف الوفيات، وهذه الترجمة بكاملها في المسودة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 466 مازلت أغلق أبواباً وأفتحها ... حتى أتيت أبا عمرو بن عمار والصحيح أن كنيته اسمه، وقيل اسمه زبان (1) ، وقيل غير ذلك، وليس بصحيح، وهو من خزاعي بن مازن، وحكي في نسبه في بعض الروايات أنه أبو عمرو بن العلاء بن عمار بن عبد الله بن الحصين بن الحارث بن جلهم بن خزاعي بن مازن بن مالك بن عمرو بن تميم، ويقال: جلهم بن حجر بن خزاعي (2) ، والله أعلم. وحكى أبو عمرو قال: طلب الحجاج بن يوسف الثقفي أبي، فخرج منه هارباً إلى اليمن، فإنا لنسير بصحراء باليمن إذ لحقنا لاحق ينشد: ربما تكره النفوس من الام ... ر له فرجة كحل العقال قال: فقال أبي: مالخبر قال: مات الحجاج، قال أبو عمرو: فأنا بقوله " له فرجة " أشد سروراً مني بموت الحجاج، قال، فقال أبي: اصرف ركابنا إلى البصرة. قال أبو عبيدة، قلت لأبي عمرو: كم سنك يوم يومئذ قال: كنت قد خنقت بضعاً وعشرين سنة. يقال فرجة بالفتح بين الأمرين وبالضم بين الجبلين. وذكر في كتاب " طبقات النحاة " (3) قال: حدث الأصمعي عن أبي عمرو ابن العلاء في قول رسول الله، صلى الله عليه وسلم " في الجنين غرة عبد أو أمة " لولا أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أراد بالغرة معنى لقال: " في الجنين عبد أو أمة " ولكنه عنى البياض، ولا يقبل في الدية إلا غلام أبيض أو جارية بيضاء، لا يقبل فيها أسود ولا سوداء، وهذا غريب، ولا أعلم أهل يوافق مذهب أحد من الأئمة المجتهدين أم لا، ولغرابته نقلته. وذكر في هذا الكتاب أيضاً (4) قال الأصمعي: سألت أبا عمرو بن العلاء عن قولهم " أرهبته   (1) بالباء الموحدة في المسودة؛ ر: ريان، وكذلك عند المرزباني. (2) قد كرر المؤلف هنا ما سبق دون اي تغيير، وكلا النصين ثابت عنده في المسودة. (3) ورد النص في كتاب الزبيدي: 30. (4) لم يرد هذا النص في ترجمة أبي عمرو من كتاب الزبيدي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 467 ورهبته " فقال: ليستا بسواء (1) ، فقلت: رهبته فرقته، وأرهبته أدخلت الفرق في قلبه، قال أبو عمرو: ذهب من يعرف هذا منذ ثلاثين سنة. وقال ابن مناذر: سألت أبا عمرو بن العلاء: حتى متى يحسن بالمرء أن يتعلم قال: ما دامت الحياة تحسن به. وقال أبو عمرو: حدثنا قتادة السدوسي قال: لما كتب المصحف عرض على عثمان بن عفان، رضي الله عنه، فقال: إن فيه لحناً ولتقيمنه العرب بألسنتها. وكان أبو عمرو إذا دخل شهر رمضان لم ينشد بيت شعر (2) حتى ينقضي. وكان له في كل يوم فلسان يشتري بأحدهما كوزاً جديداً يشرب فيه يومه ثم يتركه لأهله، ويشتري بالأخر ريحاناً فيشمه يومه فإذا أمسى قال لجاريته: جففيه ودقيه في الأشنان. وروى بن يونس بن حبيب النحوي قال: سمعت أبا عمرو بن العلاء يقول: ما زدت في شعر العرب قط إلا بيتاً واحداً، وهو: وأنكرتني وما كان الذي نكرت ... من الحوادث إلا الشيب والصلعا وهذا البيت يوجد في جملة أبيات للأعشى، وهي أبيات مشهورة. وقال أبو عبيدة: دخل أبو عمرو بن العلاء على سليمان بن علي، وهو عم السفاح، فسأله عن شيء فصدقه، فلم يعجبه ما قاله، فوجد أبو عمرو في نفسه وخرج، وهو يقول: أنفت من الذل عند الملوك ... وأن أكرموني وإن قربوا إذا ما صدقتهم خفتهم ... ويرضون مني بأن يكذبوا وحكى علي بن محمد بن سليمان النوفلي قال: سمعت أبي يقول لأبي عمرو بن العلاء: خبرني عما وضعت مما سميته عربيةً، يدخل فيه كلام العرب كله فقال: لا، فقلت: فكيف تصنع فيما خالفتك فيه العرب وهو حجة قال:   (1) ل: بالسواء. (2) ر: بيتاً من الشعر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 468 أعمل على الأكثر، واسمي ما خالفني لغات. وأخبار أبي عمرو كثيرة. وكانت ولادته سنة سبعين، وقيل ثمان وستين، وقيل خمس وستين للهجرة بمكة. وتوفي سنة أربع وخمسين، وقيل تسع (1) وخمسين، وقيل ست وخمسين ومائة بالكوفة، وكان قد خرج إلى الشام يجتدي عبد الوهاب بن إبراهيم الإمام والي دمشق، فلما عاد إلى الكوفة توفي بها، وقال ابن قتيبة: مات في طريق الشام، ونسبوه في ذلك إلى الغلط، فقد ذكر (2) بعض الرواة أنه رأى قبر أبي عمرو بالكوفة مكتوباً عليه " هذا قبر أبي عمرو بن العلاء ". ولما حضرته الوفاة كان يغشى عليه ويفيق، فأفاق من غشية له، فإذا ابنه بشر يبكي، فقال: ما يبكيك وقد أتت علي أربع وثمانون سنة رحمه الله تعالى. ورثاه عبد الله بن المقفع بقوله: رزئنا أبا عمرو ولا حي مثله ... فلله ريب الحادثات بمن فجع فإن تك قد فارقتنا وتركتنا ... ذوي خلة ما في انسداد لها طمع فقد جر نفعاً فقدنا لك أننا ... أمنا على كل الرزايا من الجزع وقد قيل: إنما رثي بها يحيى بن زياد بن عبيد الله بن عبد الله بن عبد المدان الحارثي الكوفي الشاعر المشهور، وهو ابن خال السفاح أول خلفاء بني العباس، رضي الله عنه؛ وقيل بل رثي بها عبد الكريم بن أبي العوجاء، والأول أشهر، والله أعلم؛ وقيل أن هذه الأبيات لمحمد بن عبد الله بن المقفع، والله أعلم. وأقول: إن هذه المرثية إن كانت في أبي عمرو المذكور فما يمكن أن تكون لعبد الله لأنه مات قبل موت أبي عمرو، وإن كانت لمحمد فيمكن ذلك، ولكنها مشهورة في أبي عمر المذكور. وإنما أتيت بأبي عمرو في هذا الحرف، وهذه كنية لا اسم، للعذر الذي تقدم في حرف الباء في ترجمة أبي بكر بن عبد الرحمن، فلينظر هناك (3) . (139) وأما عبد الوهاب المذكور فهو ابن إبراهيم المعروف بالإمام المذكور   (1) كتب فوقها في المسودة: سبع. (2) ر: وقد نقل. (3) انظر المجلد الأول: 282. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 469 في ترجمة أبيه محمد بن علي بن عبد الله بن العباس، رضي الله عنه، وكان عبد الوهاب يتولى الشام من جهة عمه المنصور، وكان المنصور يخافه فلما حضرت المنصور الوفاة وهو بباب مكة عند بئر ميمون كما هو مشهور قال لحاجبه الربيع ابن يونس المقدم ذكره: ما أخاف إلى صاحب الشام عبد الوهاب بن إبراهيم الإمام، ثم رفع يديه إلى السماء وقال: اللهم اكفني عبد الوهاب، قال الربيع: فلما مات المنصور ودليته في القبر وعرضت عليه الحجارة سمعت هاتفاً يهتف من القبر: مات عبد الوهاب، وأجيبت الدعوة، قال الربيع فهالني ذلك الصوت، وجيء بالخبر بعد سادسة أو سابعة بوفاة عبد الوهاب، هكذا ذكره ابن بدرون في شرح قصيدة ابن عبدون (1) التي أولها: الدهر يفجع بعد العين بالأثر ... بعد قوله فيها: وروعت كل مأمون ومؤتمن ... وأسلمت كل منصور ومنتصر والله أعلم. 506 - (2) الجاحظ أبو عثمان عمرو بن بحر بن محبوب الكناني الليثي المعروف بالجاحظ،   (1) انظر شرح البسامة ص: 282 - 283 (ط. مصر) . (2) ترجمته في تاريخ بغداد 12: 212 وطبقات المعتزلة: 67 وأمالي المرتضى 1: 194 ونزهة الألباء: 132 وتأويل مختلف الحديث: 71 ومعجم الأدباء 16: 74 وإعتاب الكتاب: 154 وسرح العيون: 136 وميزان الاعتدال 3: 247 ولسان الميزان 4: 355 وعبر الذهبي 1: 456 والشذرات 2: 121 وبغية الوعاة: 265 ولأبي حيان التوحيدي كتاب في تقريظ الجاحظ لم يصلنا، وعنه ينقل ياقوت. وقد كتبت عن الجاحظ دراسات كثيرة في العصر الحديث منها كتب مستقلة لشارل بلا وطه الحاجري وبديعة طه النجم والأب سلحت وسلوم وجبري هذا عدا ما كتب عنه من فصول ومقالات؛ قلت: وقد جاءت هذه الترجمة هنا مطابقة لما في المسودة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 470 البصري العالم المشهور؛ صاحب التصانيف في كل فن، له مقالة في أصول الدين (1) ، وإليه تنتسب الفرقة المعروفة بالجاحظية من المعتزلة، وكان تلميذ أبي إسحاق إبراهيم بن سيار البلخي المعروف بالنظام المتكلم المشهور، وهو خال يموت بن المزرع - الآتي ذكره في حرف الياء إن شاء الله تعالى - ومن أحسن تصانيفه وأمتعها كتاب " الحيوان " فلقد جمع كل غريبة، وكذلك كتاب " البيان والتبين " وهي كثيرة جداً (2) . وكان من فضائله مشوه الخلق، وإنما قيل له " الجاحظ " لأن عينيه كانتا جاحظتين، والجحوظ: النتو، وكان يقال له أيضاً " الحدقي " لذلك. ومن جملة أخباره أنه قال: ذكرت للمتوكل لتأديب بعض ولده، فلما رآني استبشع منظري فأمر لي بعشرة آلاف درهم وصرفني، فخرجت من عنده فلقيت محمد بن إبراهيم وهو يريد الانصراف إلى مدينة السلام، فعرض علي الخروج معه والانحدار في حراقته وكنا بسر من رأى، فركبنا في الحراقة، فلما انتهينا إلى فم نهر القاطول نصب ستارةً وأمر بالغناء، فاندفعت عوادة فغنت: كل يوم قطيعةٌ وعتاب ... ينقضي دهرنا ونحن غضاب ليت شعري أنا خصصت بهذا ... دون ذا الخلق أم كذا (3) الأحباب وسكتت، فأمر الطنبورية (4) فغنت: ورحمتاه للعاشقينا ... ما إن أرى لهم معينا كم يهجرون ويصرمو ... ن ويقطعون فيصبرونا   (1) ر: في الأصول. (2) ن: وهو كبير جداً. (3) ر: دون صحبي أم هكذا. (4) ل لي: طنبورية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 471 قال: فقالت لها العوادة: فيصنعون ماذا قالت: هكذا يصنعون، وضربت بيدها إلى الستارة فهتكتها وبرزت كأنها فلقة قمر، فألقت نفسها في الماء، وعلى رأس محمد غلام يضاهيها في الجمال، وبيده مذبة، فأتى الموضع ونظر إليها وهي تمر بين الماء، وأنشد: أنت التي غرقتني ... بعد القضا لو تعلمينا وألقى نفسه في أثرها، فأدار الملاح الحراقة، فإذا بهما معتنقان ثم غاصا فلم يريا، فاستعظم محمد ذلك وهاله أمره، ثم قال: يا عمرو، لتحدثني حديثا يسليني عن فعل هذين، وإلا الحقتك بهما، قال: فحضرني حديث يزيد بن عبد الملك، وقد قعد للمظالم يوماً وعرضت عليه القصص، فمرت به قصة فيها: " إن رأى أمير المؤمنين أن يخرج إلي جاريته فلانة حتى تغنيني ثلاثة أصوات فعل "، فاغتاظ يزيد من ذلك، وأمر من يخرج إليه ويأتيه برأسه، ثم أتبع الرسول برسول آخر يأمره أن يدخل إليه الرجل، فأدخله، فلما وقف بين يديه قال له: ما لذي حملك على ما صنعت قال: الثقة بحلمك والاتكال على عفوك، فأمره بالجلوس حتى لم يبق أحد من بني أمية إلا خرج، ثم أمر فأخرجت الجارية ومعها عودها، فقال لها الفتى غني: أفاطم مهلاً بعض هذا التدلل ... وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي فغنته، فقال له يزيد: قل، فقال: غني: تألق البرق نجدياً فقلت له ... يا أيها البرق إني عنك مشغول فغنته، فقال له يزيد: قل، قال: تأمر لي برطل شراب، فأمر له، فما استتم شربه حتى وثب وصعد على أعلى قبة ليزيد، فرمى نفسه على دماغه فمات، فقال يزيد: إنا لله وإنا إليه راجعون، أتراه الأحمق الجاهل ظن أني أخرج إليه جاريتي وأردها إلى ملكي، يا غلمان خذوا بيدها واحملوها إلى أهله إن كان له أهل، وإلا فبيعوها وتصدقوا بثمنها عليه. فانطلقوا بها إلى أهله، فلما توسطت الدار نظرت إلى حفيرة في وسط دار يزيد قد أعدت للمطر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 472 فجذبت نفسها من أيديهم، وأنشدت: من مات عشقاً فليمت هكذا ... لا خير في عشق بلا موت وألقت نفسها في الحفيرة على دماغها فماتت (1) . فسري عن محمد وأجزل صلتي. وقال أبو القاسم السيرافي: حضرنا مجلس الأستاذ أبي الفضل ابن العميد الوزير - الآتي ذكره إن شاء الله تعالى - فجرى ذكر الجاحظ، فغض منه بعض الحاضرين وأزرى به، وسكت الوزير عنه، فلما خرج الرجل قلت له: سكت أيها الأستاذ عن هذا الرجل في قوله مع عادتك في الرد على أمثاله، فقال: لم أجد في مقابلته أبلغ من تركه على جهله، ولو وافقته وبينت له لنظر في كتبه وصار بذلك إنساناً يا أبا القاسم، فكتب الجاحظ تعلم العقل أولاً والأدب ثانياً، ولم أستصلحه لذلك. وكان الجاحظ في أواخر عمره قد أصابه الفالج، فكان يطلي نصفه الأيمن بالصندل والكافور لشدة حرارته، والنصف الأيسر لو قرض بالمقاريض لما أحس به من خدره وشدة برده. وكان يقول في مرضه: اصطلحت على جسدي الأضداد. إن أكلت بارداً أخذ برجلي، وأن أكلت حاراً أخذ برأسي. وكان يقول: أما من جانبي الأيسر مفلوج فلو قرض بالمقاريض ما علمت به، ومن جانبي الأيمن منقرسٌ فلو مر به الذباب (2) لألمت، وبي حصاة لا ينسرح لي البول معها وأشد ما علي ست وتسعون سنة، وكان ينشد: أترجو أن تكون وأنت شيخٌ ... كما قد كنت أيام الشباب لقد كذبتك نفسك ليس ثوب ... دريسٌ كالجديد من الثياب وحكى بعض البرامكة قال: كنت تقلدت السند، فأقمت بها ما شاء الله، ثم اتصل بي إني صرفت عنها، وكنت كسبت بها ثلاثين ألف دينار، فخشيت أن يفجأني الصارف فيسمع بمكان المال فيطمع فيه، فصغته عشرة آلاف إهليلجة في كل إهليلجة ثلاثة مثاقيل؛ ولم يمكث الصارف أن أتى، فركبت   (1) انظر كتاب ذم الهوى: 356. (2) ر: مرت به الذبابة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 473 البحر وانحدرت إلى البصرة، فخبرت أن الجاحظ بها وأنه عليل بالفالج، فأحببت أن أراه قبل وفاته، فسرت إليه، فأفضيت إلى باب دار لطيف فقرعته (1) فخرجت إلي خادمة صفراء فقالت: من أنت قلت: رجل غريب وأحب أن أسر بالنظر إلى الشيخ فبلغته الخادم ما قلته، فسمعته يقول: قولي له وما تصنع بشق مائل ولعاب سائل ولون حائل، فقلت للجارية: لابد من الوصول إليه، فلما بلغته قال: هذا رجل قد اجتاز بالبصرة وسمع بعلتي فقال: أراه قبل موته لأقول: قد رأيت الجاحظ، ثم أذن لي فدخلت فسلمت عليه ورد رداً جميلاً، وقال: من تكون أعزك الله فانتسبت له، فقال: رحم الله أسلافك وآباءك السمحاء الأجواد، فلقد كانت أيامهم رياض الأزمنه، ولقد انجبر بهم خلق كثير فسقياً لهم ورعياً، فدعوت له وقلت: أنا أسألك أن تنشدني شيئاً من الشعر، فأنشدني: لئن قدمت قبلي رجال فطالما ... مشيت على رسلي فكنت المقدما ولكن هذا الدهر تأتي صروفه ... فتبرم منقوضاً وتنقض مبرماً ثم نهضت، فلما قاربت الدهليز قال: يا فتى أرأيت مفلوجاً ينفعه الإهليلج قلت: لا، قال: فإن الإهليلج الذي معك ينفعني فابعث لي منه، فقلت: نعم، وخرجت متعجباً من وقوعه على خبري مع كتماني له، وبعثت له مائة إهليلجة. وقال أبو الحسن البرمكي: أنشدني الجاحظ: وكان لنا أصدقاء مضوا ... تفانوا جميعاً فما خلدوا تساقوا جميعاً كؤوس المنون ... فمات الصديق ومات العدو وكانت وفاة الجاحظ في المحرم سنة خمس وخمسين ومائتين بالبصرة، وقد نيف على تسعين سنة، رحمه الله تعالى. وبحر: بفتح الباء الموحدة وسكون الحاء المهملة وبعدها راء.   (1) ر: لطيفة فقرعت. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 474 ومحبوب: بفتح الميم وسكون الحاء المهملة وضم الباء الموحدة وسكون الواو وبعدها باء موحدة. والجاحظ: بفتح الجيم وبعد الألف حاء مهملة مكسورة وبعدها ظاء معجمة. والكناني: بكسر الكاف وفتح النون وبعد الألف نون ثانية. والليثي: بفتح اللام وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها ثاء مثلثة، هذه النسبة إلى ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانه بن خزيمة. 507 - (1) عمرو بن مسعدة عمرو بن مسعدة بن سعيد بن صول الكاتب وكنيته أبو الفضل، أحد وزراء المأمون؛ ذكر الخطيب في " تاريخ بغداد " أنه ابن عم إبراهيم بن العباس الصولي الشاعر - وقد تقدم ذكره (2) - وكان كاتباً بليغاً جزل العبارة وجيزها سديد المقاصد والمعاني. ولما كان الفضل بن سهل أخو الحسن بن سهل وزير المأمون لم يكن لأحد معه كلام، لاستيلائه على المأمون، فلما قتل سلم عليه الوزراء بعد ذلك وهم: أحمد بن أبي خالد الأحول وعمرو بن مسعدة المذكور وأبو عباد. وكان المأمون قد أمره أن يكتب لشخص كتاباً إلى العمال بالوصية عليه والاعتناء بأمره، فكتب له " كتابي إليك كتاب واثقٍ بمن كتبت إليه، معنيٍ بمن كتبت له، ولن يضيع بين الثقة والعناية موصله، والسلام ".   (1) ترجمته في تاريخ بغداد 12: 203 ومعجم المرزباني: 33 ومعجم الأدباء 16: 127 وانظر الجهشياري: 216 ونصوص ضائعة: 48 وصفحات متفرقة من كتاب " بغداد " لابن أبي طاهر، وإعتاب الكتاب: 116؛ وجاءت الترجمة مستوفاة في المسودة. (2) المجلد الأول: 44. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 475 وقيل إن هذا من كلام الحسن بن وهب، والأول أصح وأشهر. وقال عمرو بن مسعدة المذكور: كنت أوقع بين يدي جعفر بن يحيى البرمكي فرفع إليه غلمانه ورقة يستزيدونه في رواتبهم، فرمى بها إلي، وقال: أجب عنها، فكتبت " قليل دائم خير من كثير منقطع " فضرب بيده على ظهره، وقال: أي وزير في جلدك وله كل معنى بديع. وتوفي في سنة سبع عشرة ومائتين بموضع يقال له أذنة، وذكر الجهشياري في كتاب " الوزراء " أنه توفي في شهر ربيع الأخر سنة خمسة عشرة ومائتين، والله أعلم. ولما مات رفعت إلى المأمون رقعة أنه خلف ثمانين ألف ألف درهم، فوقع في ظهرها " هذا قليل لمن اتصل بنا وطالت خدمته لنا، فبارك الله لولده فيما خلف، وأحسن لهم النظر فيما ترك ". وذكر المسعودي في كتاب " مروج الذهب " (1) أنه لما مات عرض لماله ولم يعرض لمال وزير غيره، رحمه الله تعالى. ومسعدة: بفتح الميم وسكون السين المهملة وفتح العين والدال المهملتين. وأذنة: بفتح الهمزة والذال المعجمة والنون، وهي بليدة بساحل الشام عند طرسوس، بني حصنها سنة أربع وأربعين ومائة. وبعد انتهائي إلى هذا الموضع ظفرت له برسالة بديعة كتبها إلى بعض الرؤساء وقد تزوجت أمه فساءه ذلك، فلما قرأها ذلك الرئيس تسلى بها وذهب عنه ما كان يجده، فآثرت الإتيان بها لحسنها، وهي " الحمد لله الذي كشف عنا ستر الحيرة، وهدانا لستر العورة، وجدع بما شرع من الحلال أنف الغيرة، ومنع من عضل الأمهات، كما منع من وأد البنات، استنزالاً للنفوس الأبية، عن الحمية حمية الجاهلية ثم عرض لجزيل الأجر من استسلم لواقع قضائه، وعوض جليل الذخر من صبر على نازل بلائه، وهناك الذي شرح للتقوى صدرك، ووسع في البلوى صبرك، وألهمك من التسليم لمشيئته، والرضا بقضيته، ما وفقك له من قضاء الواجب في أحد أبويك، ومن عظم حقه عليك، وجعل تعالى جده ما تجرعته من أنف، وكظمته من أسف، معدوداً فيما يعظم به أجرك،   (1) مروج الذهب 4: 5. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 476 ويجزل عليه ذخرك، وقرن بالحاضر من امتعاضك بفعلها، المنتظر من ارتماضك بدفنها، فتستوفى بها المصيبة، وتستكمل عنها المثوبة، فوصل الله لسيدي ما استشعره من الصبر على عرسها، ما يستكسبه من الصبر على نفسها، وعوضه من أسرة فرشها، أعواد نعشها، وجعل تعالى جده ما ينعم به عليه بعدها من نعمة، معرى من نقمة، وما يوليه من بعد قبضها من منحة، مبرأ من محنة، فأحكام الله تعالى جده وتقدست أسمائه جارية على غير مراد المخلوقين، لكنه تعالى يختار لعباده المؤمنين، ما هو خيرٌ لهم في العاجلة، وأبقى لهم في الآجلة، اختار الله لك في قبضها إليه، وقدومها عليه، ما هو أنفع لها، وأولى بها، وجعل القبر كفؤاً لها، والسلام ". وقيل: إن هذا الرسالة لأبي الفضل ابن العميد - الآتي ذكره إن شاء الله تعالى. ولقد أذكرتني هذه الرسالة بيتين للصاحب بن عباد في شخص زوج أمه، وهما: عذلت لتزويجه أمه ... فقال: فعلت حلالاً يجوز فقلت: صدقت، حلالاً فعلت ... ولكن سمحت بصدع العجوز وكتب عمرو إلى بعض أصحابه في حق شخص يعز علي " أما بعد فموصل كتابي إليك سالم، والسلام "؛ أراد قول الشاعر: يديرونني عن سالم وأديرهم ... وجلدت بين العين والأنف سالم أي: يحل مني هذا المحل. وأنشد محمد بن داود بن الجراح لمحمد البيدق النصيبي في عمرو بن مسعدة وقد اشتكى (1) : قالوا أبو الفضل معتل فقلت لهم: ... نفسي الفداء له من كل محذور يا ليت علته بي ثم أن له ... أجر العليل وأني غير مأجور وكان بين عمرو المذكور وبين إبراهيم بن العباس الصولي - المقدم   (1) انظر ما تقدم في ترجمة الشاوبيني 451. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 477 ذكره - مودة، فحصل لإبراهيم ضائقة بسبب البطالة في بعض الأوقات، فبعث لهم عمرو مالاً، فكتب إليه إبراهيم (1) : سأشكر عمراً ما تراخت منيتي ... أيادي لم تمنن وإن هي جلت فتى غير محجوب الغنى عن صديقه ... ولا مظهر الشكوى إذ النعل ذلت رأى خلتي من حيث يخفى مكانها ... فكانت قذى عينيه حتى تجلت وقال أحمد بن يوسف الكاتب - المقدم ذكره (2) -: دخلت على المأمون، وهو يمسك كتاباً بيده، وقد أطال النظر فيه زماناً وأنا ملتفت إليه، فقال: يا أحمد، أراك مفكراً فيما تراه مني، قلت: نعم، وقى الله أمير المؤمنين من المكاره وأعاذه من المخاوف، قال: فإنه لا مكروه فيه: ولكنني قرأت كلاماً وجدته نظير ما سمعته من الرشيد يقوله في البلاغة، كان يقول: البلاغة التباعد عن الإطالة، والتقرب من معنى البغية، والدلالة بالقليل من اللفظ على المعنى، وما كنت أتوهم أن أحداً يقدر على المبالغة في هذا المعنى، حتى قرأت هذا الكتاب، ورمى به إلي، وقال: هذا كتاب من عمرو بن مسعدة إليه، قال: فقرأته فإذا فيه " كتابي إلى أمير المؤمنين ومن قبلي من قواده وسائر أجناده في الانقياد والطاعة على أحسن ما تكون عليه طاعة جند تأخرت أرزاقهم، وانقياد كفاة تراخت أعطياتهم، واختلت لذلك أحوالهم، والتائت معه أمورهم " فلما قرأته قال: إن استحساني إياه بعثني على أن أمرت للجند قبله بعطائهم لسبعة أشهر، وأنا على مجازاة الكاتب بما يستحقه من حل محله في صناعته.   (1) انظر الطرائف الأدبية: 130. (2) كذا كتب المؤلف في المسودة، ولم يتقدم لأحمد بن يوسف الكاتب ترجمة مستقلة، وإنما ذكر في ترجمة بوران 1: 289. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 478 508 - (1) ابن بانة عمرو بن محمد بن سليمان بن راشد، المعروف بابن بانة، مولى يوسف بن عمر الثقفي؛ أحد المغنين المشهورين المجيدين في طبقة المتقدمين منهم، ذكره أبو الفرج الأصبهاني في كتاب " الأغاني " (2) وقال: كان أبوه صاحب ديوان ووجهاً من وجوه الكتاب، وكان مغنياً مجيداً وشاعراً صالح الشعر، وله كتاب في الأغاني؛ وكانت تياهاً معجباً بنفسه، وهو معدود في ندماء الخلفاء ومغنيهم، على ما كان به من الوضح؛ وتوفي سنة ثماني وسبعين ومائتين بسر من رأى، رحمه الله تعالى؛ وكان خصيصاً بالمتوكل على الله آنساً به، أخذ الغناء عن إسحاق بن إبراهيم الموصلي وغيره، وله صنعة في الغناء تدل على حذقه، وكان منزله بغداد، ويتردد إلى سر من رأى في الأحيان. وبانة: بفتح الباء الموحدة وبعد الألف نون مفتوحة ثم هاء ساكنة، وهو اسم أمه، وهي بانة ابنة روح كاتب سلمة الوصيف، وكان ينسب إليها، وقد تقدم في ترجمة طاهر بن الحسين ذكر بيتين من شعره يهجوه بهما (3) .   (1) وردت الترجمة كاملة في المسودة. (2) الأغاني 15: 211. (3) انظر ص: 520 من المجلد الثاني. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 479 509 - (1) ابن الموصلايا أبو سعد العلاء بن الحسن بن وهب بن الموصلايا، الكاتب البغدادي منشئ دار الخلافة، الملقب أمين الدولة؛ كان نصرانياً وأسلم على يد الإمام المقتدي بالله وحسن إسلامه، وله الرسائل الرائقة والأشعار الجيدة (2) ، وكل منهما مدون. وكان كثير الفضل، وخدم بديوان الإنشاء للإمام القائم في سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة. وتوفي بعد أن كف بصره في تاسع عشر جمادى الأولى سنة سبع وتسعين وأربعمائة، رحمه الله تعالى. (140) وتوفي ابن أخته تاج الرؤساء (3) أبو نصر هبة الله بن صاحب الخير الحسن ابن علي الكاتب - وكان فاضلاً له معرفة بالأدب والبلاغة والخط الحسن، وكان ذا رسائل جيدة، وهي مدونة أيضاً ومشهورة - في عشية الاثنين حادي عشر جمادى الأولى سنة ثمان وتسعين وأربع مائة ببغداد، ودفن بباب أبرز، وكان مرضه خمسة أيام، وعمره سبعون سنة رحمه الله تعالى. وكان قد أسلم مع خاله المذكور، وكان إسلامهما في سنة أربع وثمانين وأربعمائة. والموصلايا: بضم الميم وسكون الواو وفتح الصاد المهملة وبعد اللام ألف ياء مثناة من تحتها وبعدها ألف، وهو من أسماء النصارى.   (1) ترجمته في نكت الهميان: 201 والخريدة (قسم العراق) 1: 123 والمنتظم 9: 141 ومرآة الزمان: 11 والنجوم الزاهرة 5: 189؛ وقد جاءت الترجمة بكاملها في المسودة. (2) ر: والأشعار الفائقة الجميلة الجيدة. (3) انظر ترجمة الرؤساء في الخريدة (قسم العراق) 1: 132. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 480 510 - (1) ابن السوادي أبو الفرج العلاء بن علي بن محمد بن علي بن أحمد بن عبيد الله الواسطي، المعروف بابن السوادي الواسطي الكاتب الشاعر؛ كان شاعراً فاضلاً ظريفاً خليعاً مطبوعاً من بيت كبير في بلد مشهور بالكتابة والنباهة والتميز، وله شعر حسن فمنه قوله: أشكو إليك ومن صدودك أشتكي ... وأظن من شغفي بأنك منصفي وأصد عنك مخافة من إن يرى ... منك الصدود فيشتفي من يشتفي وهو مأخوذ من قول بعضهم: أخفي هواه عن العذول تجلداً ... كي لا يرى جزعي عليه فيشتفي وكنت قد وقفت على هذا البيت قبل وقوفي على بيتي ابن السوادي، فأعجبني المعني، فنظمته في دوبيت، وهو: يا غصن نقا قوامه مياد ... أيام رضاك كلها أعياد ما أكتم حزني عندما تهجرني ... إلا حذرني أن تشمت الحساد وقال عماد الدين الكاتب في كتاب " الخريدة ": أنشدني لنفسه: يميناً بما ضم المصلى وما حوت ... رحاب منًى إني إليك مشوق وهي ثلاثة أبيات اقتصرت منها على هذا لأنه أحسنها. وكان أبو القاسم هبة الله بن الفضل المعروف بابن القطان - الآتي ذكره في   (1) وردت الترجمة كاملة في المسودة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 481 حرف الهاء إن شاء الله تعالى - قد هجا قاضي القضاة الزينبي بقصيدته الكافية التي أولها (1) : يا أخي الشرط أملك ... لست للثلب أترك وهي طويلة عدد أبياتها مائة وثمانية عشر بيتاً، وتناقلتها الرواة وسارت عنه، فبلغ ذلك الزينبي المذكور، فأحضر ابن الفضل وصفعه وحبسه لمدة ثم أفرج عنه، فاتفق أن حضر ابن السوادي المذكور إلى بغداد من واسط عقيب هذه الواقعة، ومدح الزينبي المذكور بقصيدة، فتأخرت عنه الجائزة، وتردد إلى مجلسه كثيراً فما أجدى عليه، فاجتمع بابن الفضل المذكور وشرح له حاله، وقال: أنا على عزم الانحدار إلى واسط، فإذا وصلت إلى بلدي هجوت الزينبي، وكان للزينبي صاحب يقال له أبو الفتح فكتب إليه ابن الفضل أبياتاً من جملتها (2) : يا أبا الفتح الهجاء إذا ... جاش صدرٌ فهو متسع وقوافي الشعر واثبةٌ ... ولها الشيطان متبع فاحذروا كافات منحدرٍ ... مالكم في صفعه طمع فاتصلت الأبيات بالزينبي، فأرسل لابن السوادي جائزة وطيب قلبه. وكانت ولادة ابن السوادي بواسط سنة اثنتين وثمانين وأربعمائة، منتصف شهر ربيع الآخر ليلة الأربعاء. وتوفي سنة ست وخمسين وخمسمائة بواسط (3) . والسوادي: بفتح السين المهملة والواو وبعد الألف دال مهملة، هذه النسبة إلى سواد العراق، وإنما قيل له السواد لأن العرب لما رأت خضرة الأشجار قالت: ما هذا السواد فبقي الاسم عليه.   (1) معاهد التنصيص 4: 222. (2) المصدر السابق: 223. (3) ن: وتوفي في رجب سنة إحدى وخمسين وخمسمائة؛ وموضع الجملة بياض في س لي؛ وسقطت من ل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 482 511 - (1) القاضي عياض القاضي أبو الفضل عياض بن موسى بن عياض بن عمرو (2) بن موسى بن عياض ابن محمد بن موسى بن عياض اليحصبي (3) السبتي؛ كان إمام وقته في الحديث وعلومه والنحو واللغة وكلام العرب وأيامهم وأنسابهم وصنف التصانيف المفيدة منها " الإكمال في شرح كتاب مسلم " كمل به " المعلم في شرح مسلم " للمازري، ومنها " مشارق الأنوار " وهو كتاب مفيد جداً في تفسير غريب الحديث المختص بالصحاح الثلاثة وهي: الموطأ والبخاري ومسلم، وشرح حديث أم زرع شرحاً مستوفى، وله كتاب سماه " التنبيهات " جمع فيه غرائب وفوائد (4) ، وبالجملة فكل تواليفه بديعة. ذكره أبو القاسم بن بشكوال في كتاب " الصلة " (5) فقال: دخل الأندلس طالباً للعلم، فأخذ بقرطبة عن جماعة، وجمع من الحديث كثيراً، وكان له عناية كبيرة به والاهتمام (6) بجمعه وتقييده. وهو من أهل التفنن في العلم والذكاء واليقظة   (1) ترجمته في بغية الملتمس (رقم: 1296) وقلائد العقيان: 222 والديباج المذهب: 168 وابناه الرواة 2: 363 والإحاطة 2: 167 وقضاة النباهي: 101 ومعجم الوادي آشي وتذكرة الحفاظ: 1304 وعبر الذهبي 4: 122 والشذرات 4: 138 والنجوم الزاهرة 5: 285 وجذوة الاقتباس: 277 وأزهار الرياض 1: 23 وفهرس الفهارس 2: 183. (2) كذا ثبت عند ابن الأبار ونقل الوادي آشي عن أبي القاسم الملاحي أنه: عمرون بنون بعد الواو. وقال ابن الملجوم اجتاز علينا القاضي عياض عند انصرافه من سبتة قاصداً إلى الحضرة زائراص لأبي بداره عشية يوم الأثنين الثامن لرجب (543) ... وسألته عن نسبه فقال لي: أنا أحفظ عياض بن موسى بن عمرو بن موسى بن عياض وأحفظ أيضاً: محمد بن عبد الله بن موسى بن عياض ولا أعرف أن محمداً هذا هو أبو عياض أو بينهما أحد. (3) وضع على الصاد ضمة وفتحة وتحتها كسرة وكتب فوقها " جميعاً " - في المسودة. (4) زاد في ر؛ وكتاب الشفا بتعريف حقوق المصطفى، صلى الله عليه وسلم. (5) الصلة: 429. (6) ر: واهتمام. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 483 والفهم، واستقضي ببلده - يعني مدينة سبتة - مدة طويلة حمدت سيرته فيها، ثم نقل عنها إلى قضاء غرناطة، فلم يطل أمده فيها؛ انتهى كلامه. وللقاضي عياض شعر حسن، فمنه ما رواه عنه ولده أبو عبد الله محمد قاضي دانية قال: أنشدني أبي لنفسه في خامات زرع بينها شقائق النعمان هبت عليه ريح: انظر إلى الزرع وخاماته ... تحكي وقد ماست أمام الرياح كتيبةً حمراء (1) مهزومة ... شقائق النعمان فيها جراح الخامة: القصبة الرطبة من الزرع. وأنشد أيضاً لأبيه: الله يعلم أني منذ لم أركم ... كطائرٍ خانه ريح الجناحين فلو قدرت ركبت البحر نحوكم ... لأن بعدكم عني جنى حيني ورأيت لابن العريف رسالة كتبها إليه فأحببت ذكرها، ثم أضربت عنها لطولها. وذكره العماد في " الخريدة " فقال: كبير الشان، غزير البيان، وذكر له البيتين في الزرع الذي بينه شقائق النعمان، ثم قال بعد ذلك: وله في لزوم ما لا يلزم: إذا ما نشرت بساط انبساطٍ ... فعنه فديتك فاطو المزاحا فإن المزاح على ما حكاه ... أولو العلم قبلي عن العلم زاحا ومدحه أبو الحسن ابن هارون المالقي الفقيه المشاور بقوله: ظلموا عياضاً وهو يحلم عنهم ... والظلم بين العالمين قديم جعلوا مكان الراء عيناً في اسمه ... كي يكتموه فإنه معلوم   (1) ن ر: خضراء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 484 لولاه ما ناحت أباطح سبتةٍ ... والروض حول فنائها معدوم وذكره ابن الأبار في تسمية أصحاب أبي علي الغساني، فقال (1) : من أهل سبتة، وأصله من بسطة، يكنى أبا الفضل، أحد الأئمة الحفاظ الفقهاء المحدثين الأدباء، وتواليفه وأشعاره شاهدة بذلك، كتب إليه أبو علي في جماعة جلة، ولقي أيضاً آخرين مثلهم، وشيوخه يقاربون (2) المائة (3) . وكان مولد القاضي عياض بمدينة سبتة في النصف من شعبان سنة ست وسبعين وأربعمائة. وتوفي بمراكش يوم الجمعة سابع جمادى الآخرة، وقيل في شهر رمضان سنة أربع وأربعين وخمسمائة، رحمه الله تعالى، ودفن بباب إيلان داخل المدينة؛ وتولى القضاء بغرناطة سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة. وتوفي ولده المذكور سنة خمس وسبعين وخمسمائة، رحمه الله تعالى (4) . وعياض: بكسر العين المهملة وفتح الياء المثناة من تحتها وبعد الألف ضاد معجمة. واليحصبي: بفتح الياء المثناة من تحتها وسكون الحاء المهملة وضم الصاد المهملة وفتحها وكسرها وبعدها باء موحدة، هذه النسبة إلى يحصب بن مالك قبيلة من حمير. وسبتة: مدينة مشهورة بالمغرب، وكذلك غرناطة - بفتح الغين المعجمة وسكون الراء وفتح النون وبعد الألف طاء مهملة ثم هاء - وهي بالأندلس.   (1) انظر المعجم في أصحاب الصدفي: 294. (2) قوله " يقاربون المائة " يشير إلى أن العدد الذي تحويه بعض نسخ " الغنية " - وهو الكتاب الذي يضم تراجم شيوخ القاضي عياض - ينقص عن مائة. (3) وذكره العماد ... المائة: انفردت به ر، وموضعه في المسودة " تخريجة ". (4) زاد في ر: والصواب في وفاة ولده سنة اثنتين وسبعين، قال رضي الدين الشاطبي: بدانية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 485 (1) 512 عيسى بن عمر الثقفي أبو عمرو عيسى بن عمر الثقفي النحوي البصري، قيل كان مولى خالد بن الوليد، رضي الله عنه، ونزل في ثقيف فنسب إليهم؛ كان صاحب تقعير في كلامه واستعمال للغريب فيه وفي قراءاته، وكانت بينه وبين أبي عمرو بن العلاء صحبة، ولهما مسائل ومجالس [وأخذ القراءة عرضاً عن عبد الله بن أبي إسحاق وروى الحروف عن عبد الله بن كثير وابن محيصن، وسمع الحسن البصري، وله اختيار في القراءة على قياس العربية، وروى القراءات عنه أحمد بن موسى اللؤلؤي وهارون بن موسى النحوي والأصمعي والخليل بن أحمد وسهل بن يوسف وعبيد بن عقيل] (2) وأخذ سيبويه عنه النحو، وله الكتاب الذي سماه " الجامع " في النحو، ويقال إن سيبويه أخذ هذا الكتاب وبسطه وحشى عليه من كلام الخليل وغيره، ولما كمل بالبحث والتحشية نسب إليه، وهو كتاب سيبويه المشهور، والذي يدل على صحة هذا القول أن سيبويه لما فارق عيسى بن عمر المذكور ولازم الخليل بن أحمد سأله الخليل عن مصنفات عيسى، فقال له سيبويه: صنف نيفاً وسبعين مصنفاً في النحو، وإن بعض أهل اليسار جمعها وأتت عنده عليها آفة فذهبت ولم يبق منها في الوجود سوى كتابين: أحدهما اسمه " الإكمال "، وهو بأرض فارس عند فلان، والآخر " الجامع " وهو هذا الكتاب الذي أشتغل فيه وأسألك عن غوامضه، فأطرق الخليل ساعة ثم رفع رأسه وقال: رحم الله عيسى، وأنشد: ذهب النحو جميعاً كله ... غير ما أحدث عيسى بن عمر   (1) ترجمته في نور القبس: 46 وانباه الرواة 2: 374 وفي الحاشية ثبت بمصادر أخرى. (2) انفردت ر بما بين معقفين، وزاد بعد " عقيل " في المطبوعة المصرية: وشجاع بن ابي نصر، وقارن ابن الجزري 1: 613. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 486 ذاك إكمال وهذا جامعٌ ... وهما للناس شمسٌ وقمر فأشار بالإكمال إلى الغائب وبالجامع إلى الحاضر (1) . وكان الخليل قد أخذ عنه أيضاً. ويقال: إن أبا الأسود الدؤلي لم يضع في النحو إلا باب الفاعل والمفعول فقط، وإن عيسى بن عمر وضع كتاباً على الأكثر وبوبه وهذبه وسمى ما شذ عن الأكثر لغات. وكان يطعن على العرب ويخطئ المشاهير منهم، مثل النابغة في بعض أشعاره وغيره، وروى الأصمعي قال (2) : قال عيسى بن عمر لأبي عمرو بن العلاء: أنا أفصح من معد بن عدنان، فقال له أبو عمرو: لقد تعديت، فكيف تنشد هذا البيت: قد كنا يخبأن الوجوه تستراً ... فاليوم حين بدأن للنظار (3) أو " بدين للنظار " فقال عيسى: بدأن للنظار، فقال له أبو عمرو، أخطأت؛ يقال: بدا يبدو إذا ظهر، وبدا يبدأ إذا شرع في الشيء، والصواب " حين بدون للنظار ". وإنما قصد أبو عمرو تغليطه، لأنه لا يقال في هذا الموضع " بدأن " ولا " بدين " بل " بدون ". ومن جملة تقعيره في الكلام ما حكاه الجوهري في كتاب " الصحاح " قال (4) : سقط عيسى بن عمر عن حمار له، فاجتمع عليه الناس، فقال: ما لكم تكأكأتم علي تكأكؤكم على ذي جنة، افرنقعوا عني؛ معناه: ما لكم تجمعتم علي تجمعكم على مجنون، انكشفوا عني. ورأيت في بعض المجاميع أنه كان به ضيق النفس، فأدركه يوماً وهو في السوق، فوقع ودار الناس حوله يقولون: مصروع مصروع، فبين قارئ ومعوذ من الجان، فلما أفاق من غشيته نظر إلى ازدحامهم فقال هذه المقالة، فقال بعض الحاضرين: إنه جنيه يتكلم (5) بالهندية (6) .   (1) قال القفطي: فأشار إلى الجامع بما يشار به إلى الحاضر، وهي لفظة " هذا ". (2) انظر مجالس العلماء: 144 وقد رويت القصة عن أبي عمر الجرمي والأصمعي. (3) البيت للربيع بن زياد العبسي. (4) الصحاح: 66، 1258. (5) لي ن: جنيته تتكلم. (6) ر: بالسريانية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 487 ويروى أن عمر بن هبيرة الفزاري أمير العراقين كان قد ضربه بالسياط، وهو يقول: والله إن كانت إلا أثياباً في أسيفاط قبضها عشاروك. وله من هذا النوع شيء كثير. وتوفي سنة تسع وأربعين ومائة، رحمه الله تعالى. وقيل إن الذي ضربه كان يوسف بن عمر أمير العراقين - وسيأتي ذكره في حرف الياء إن شاء الله تعالى - وكان سبب ضربه إياه أنه لما تولى العراقين بعد خالد بن عبد الله القسري تتبع أصحابه، وكان بعض جلسائه قد أودع عند عيسى بن عمر المذكور وديعةً فنمي الخبر إلى يوسف، فكتب إلى نائبه بالبصرة يأمره بأن يحمل إليه عيسى بن عمر مقيداً، فدعا به ودعا حداداً (1) ، وأمره بتقييده: فلما قيده قال له الوالي: لا بأس عليك، إنما أرادك الأمير لتأديب ولده، قال: فما بال القيد إذاً (2) فبقيت هذه الكلمة مثلاً بالبصرة، فلما وصل إلى يوسف سأله عن الوديعة فأنكر، فأمر بضربه (3) ، فلما أخذه السوط جزع فقال هذه المقالة المقدم ذكرها. 513 - (4) الجزولي أبو موسى عيسى بن عبد العزيز بن يللبخت بن عيسى بن يوماريلي الجزولي اليزدكتني؛ كان إماماً في علم النحو، كثير الاطلاع على دقائقه وغريبه وشاذه، وصنف في المقدمة التي سماها القانون، ولقد أتى فيها بالعجائب، وهي في غاية   (1) لي ن ل س: فدعا حداداً. (2) ن: الأدهم. (3) ن: فأمر به فضرب، وكذلك في القفطي. (4) ترجمته في انباه الرواة 2: 378 وصلة الصلة: 53 والتكلمة (رقم: 1932) وعبر الذهبي 5: 24، وفي حاشية الانباه ذكر لمصادر أخرى؛ وذكر في الأنباه أنه كان مزواراً، قال: والمزوار بالبربرية مقدم جماعة؛ قلت: وقد أوردت المسودة هذه الترجمة كاملة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 488 الإيجاز مع الاشتمال على شيء كثير من النحو، ولم يسبق إلى مثلها، واعتنى بها جماعة من الفضلاء فشرحوها، ومنهم من وضع لها أمثلة، ومع هذا كله فلا تفهم حقيقتها، وأكثر النحاة ممن لم يكن قد أخذوها عن موقف يعترفون بقصور أفهامهم عن إدراك مراده منها، فإنها كلها رموز وإشارات؛ ولقد سمعت من بعض أئمة العربية المشار إليه في وقته وهو يقول: أنا ما أعرف هذه المقدمة، وما يلزم من كوني ما أعرفها أن لا أعرف النحو. وبالجملة فإنه أبدع فيها. وسمعت أن له أمالي في النحو، ولكنها لم تشتهر، ورأيت له مختصر " الفسر " (1) لابن جني في شرح ديوان المتنبي، ويقال: إنه كان يدري شيئاً من المنطق. ودخل إلى الديار المصرية، وقرأ على الشيخ أبي محمد بن بري المقدم ذكره (2) ، وقد نقل عنه شيئاً في المقدمة المذكورة، وذكر بعض المتأخرين في تصنيفه أنه كان قد قرأ " الجمل " على ابن بري، وسأله عن مسائل على أبواب الكتاب، فأجابه ابن بري عنها، وجرى فيها بحث بين الطلبة حصلت منه فوائد علقها الجزولي مفردة، فجاءت كالمقدمة فيها كلام غامض وعقود لطيفة وإشارات إلى أصول صناعة النحو غريبة، فنقلها الناس عنه واستفادوها منه. ثم قال هذا المصنف (3) : وبلغني أنه كان إذا سئل عنها: هل هي من تصنيفك قال: لا، لأنه كان متورعاً، ولما كانت من نتائج خواطر الجماعة عند البحث ومن كلام شيخه ابن بري لم يسعه أن يقول: هي من تصنيفي، وإن كانت منسوبة إليه، لأنه هو الذي انفرد بترتيبها. ثم رجع الجزولي إلى بلاد المغرب بعد أن حج، وأقام بمدينة بجاية مدة، والناس يشتغلون علي، وانتفع به خلق كثير (4) ، ورأيت جماعة من أصحابه. وتوفي سنة عشر وستمائة بمدينة مراكش (5) ، رحمه الله تعالى، هكذا سمعت   (1) ل: القسر، وغير معجمة في ن؛ ر: التفسير. (2) انظر ما تقدم ص: 108 من المجلد الثالث. (3) النقل متابع لما في انباه الرواة. (4) ذكر ابن الزبير أن الجزولي دخل الأندلس بعد قفوله من المشرق، فنزل المرية. (5) حاشية س: بل توفي بمدينة أزمور ودفن حذاء قبر الشيخ الصالح أبي شعيب أيوب المعروف بلباريه خارج باب عبدون، قدمها في رسالة عن المستنصر من بني عبد المؤمن؛ نقلت هذه الحاشية من خط أبي حيان على بعض النسخ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 489 جماعة يذكرون تاريخ وفاته، ثم وقفت على ترجمته، وقد رتبها أبو عبد الله ابن الأبار القضاعي فقال: في سنة ست أو سبع وستمائة مات الجزولي (1) . ويللبخت: بفتح الياء المثناة من تحتها واللام وسكون اللام الثانية وفتح الباء الموحدة وسكون الخاء المعجمة وبعدها تاء مثناة من فوقها، وهو اسم بربري. ويوماريلي: بضم الياء المثناة من تحتها وسكون الواو وفتح الميم وبعد الألف راء مكسورة ثم ياء ساكنة مثناة من تحتها وبعدها لام ثم ياء، وهو اسم بربري أيضاً. والجزولي: بضم الجيم والزاي وسكون الواو وبعدها لام، هذه النسبة إلى جزولة، ويقال لها أيضاً كزولة - بالكاف - وهي بطن من البربر. واليزدكتني: بفتح الياء المثناة من تحتها وسكون الزاي وفتح اللام المهملة وسكون الكاف وفتح التاء المثناة من فوقها وبعدها نون، هذه النسبة إلى فخذ من جزولة (2) . ورأيت بخطي في مسوداتي أنه تولى الخطابة بجامع مراكش وأن قبيلته كزولة من الرحالة يكونون بصحراء بلاد السوس في المغرب الأقصى، وكان إماماً في القراءات والنحو واللغة، وكان يتصدر في الجامع للاقراء، وأنه شرح مقدمته في مجلد كبير أتى فيه بغرائب وفوائد، وذكر بعض أصحابه أنه حضر عنده ليقرأ عليه قراءة أبي عمرو فقال بعض الحاضرين: أتريد أن تقرأ على الشيخ النحو قال: فقلت: لا، قال: فسألني آخر كذلك، فقلت: لا، فأنشد الشيخ وقال: قل لهم: لست للنحو جئتكم ... لا ولا فيه أرغب خل زيداً لشأنه ... أينما شاء يذهب   (1) قال ابن الزبير: مات قبيل سنة 600. (2) هنا تنتهي الترجمة في س ل ن لي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 490 أنا ما لي ولامرئ ... أبد الدهر يضرب وكانت وفاته بهسكورة من أعمال مراكش، والله أعلم. 514 - (1) الفائز العبيدي أبو القاسم عيسى الملقب الفائز بن الظافر بن الحافظ بن محمد بن المستنصر بن الظاهر بن الحاكم بن العزيز بن المعز بن المنصور بن القائم بن المهدي عبيد الله، وقد تقدم ذكر والده وجماعة من أهل بيته، وكيف قتل نصر بن عباس أباه حسبما شرح هناك، وهذا نصر بن عباس هو الذي قتل العادل بن السلار، وقد رفعت هناك في نسبه (2) ، فمن أراد معرفته فلينظره هناك. ولما كان صبيحة ليلة قتل فيها الظافر حضر عباسٌ إلى القصر على جاري عادته في الخدمة، وأظهر عدم الاطلاع على قضيته وطلب الاجتماع به، ولم يكن أهل القصر قد علموا بقتله بعد، فإنه خرج من عندهم في خفية كما ذكر ثم، وما علم أحد بخروجه، فدخل الخدم إلى موضعه ليستأذنوا لعباس فلم يجدوه، فدخلوا إلى قاعة الحرم فقيل: إنه لم يبت ها هنا، وحاصل الأمر أنهم تطلبوه في جميع مظانه في القصر فلم يقفوا له على خبر، فتحققوا عدمه، فأخرج عباس المذكور أخوي الظافر - وهما جبريل ويوسف وهو أبو العاضد المقدم ذكره في جملة من اسمه عبد الله - وقال لهما: أنتما قتلتما إمامنا وما نعرف   (1) أخباره في المنتظم 10: 196 واتعاظ الحنفا: 287 وتاريخ ابن خلدون 4: 57 وتاريخ ابن الأثير 11: 191، 255 وخطط المقريزي 1: 357 والدرة المضية: 566 وعبر الذهبي 4: 156، 157 - 158، والشذرات 4: 174؛ وقد جاءت هذه الترجمة كاملة في المسودة. (2) انظر ما تقدم في هذا الجزء ص: 417. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 491 حاله إلا منكما، فأصرا على الإنكار وكانا صادقين في ذلك، فقتلهما في الوقت لينفي عن نفسه وابنه التهمة، ثم استدعى ولده الفائز المذكور وتقدير عمره خمس سنين، وقيل سنتان، فحمله على كتفه ووقف في صحن الدار، وأمر أن يدخل الأمراء، فدخلوا، فقال لهم: هذا ولد مولاكم وقد قتل عماه أباه، وقد قتلتهما كما ترون، والواجب إخلاص الطاعة لهذا الطفل فقالوا بأجمعهم: سمعنا وأطعنا، وصاحوا صيحة واحدة اضطرب منها الطفل وبال على كتف عباس، وسموه الفائز، وسيروه (1) إلى أمه، واختل من تلك الصيحة فصار يصرع في كل وقت ويختلج، وخرج عباس إلى داره ودبر لأمور وانفرد بالتصرف ولم يبق على يده يد. وأما أهل القصر فإنهم اطلعوا على باطن الأمر، وأخذوا (2) في إعمال الحيلة في قتل عباس وابنه نصر، وكاتبوا الصالح بن رزيك الأرمني - المذكور في حرف الطاء (3) - وكان إذ ذاك والي منية بن خصيب بالصعيد، وسألوه الانتصار لهم ولمولاه والخروج على عباس، وقطعوا شعورهم وسيروها طي (4) الكتاب وسودوا الكتاب، فلما وقف الصالح عليه أطلع من حوله من الأجناد عليه وتحدث معهم في المعنى، فأجأبوا إلى الخروج معه، واستمال جمعاً من العرب، وساروا قاصدين القاهرة وقد لبسوا السواد، فلما قاربوها خرج إليهم جميع من بها من الأمراء والأجناد والسودان، وتركوا عباساً وحده، فخرج عباس في ساعته من القاهرة هارباً ومعه شيء من ماله، وخرج معه ولده نصر قاتل الظافر، وأسامة بن منقذ - المذكور في حرف الهمزة (5) - فقد قيل: إنه الذي أشار عليهما بقتل الظافر وشرح ذلك يطول وقد تقدم في ترجمة العادل بن السلار ذكره أيضاً وأنه الذي أشار بقتله، والله العالم بالخفيات. وكان معهم جماعة يسيرة من أتباعهم، وقصدوا طريق الشام على أيلة، وذلك في رابع عشر شهر ربيع الأول سنة تسع وأربعين وخمسمائة.   (1) ن: وأرسلوه. (2) ر: لما اطلعوا ... فأخذوا. (3) انظر ج 2: 526. (4) لي: وسيروها مع. (5) المجلد الأول: 195. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 492 وأما الصالح بن رزيك فإنه دخل القاهرة بغير قتال، وما قدم شيئاً على النزول بدار عباس المعروفة بدار المأمون ابن البطائحي وهي اليوم مدرسة للطائفة الحنفية، وتعرف بالسيوفية، واستحضر الخادم الصغير الذي كان (1) مع الظافر ساعة قتله، وسأله عن الموضع الذي دفن فيه، فعرفه به، وقلع البلاطة التي كانت (2) عليه، وأخرج الظافر ومن معه من المقتولين وحملوا، وقطعت لهم الشعور وانتشر البكاء والنياح في البلد، ومشى الصالح والخلق قدام الجنازة إلى موضع الدفن، وهو في تربة آبائه، وهي معروفة في قصرهم. وتكفل الصالح بالصغير ودبر أحواله. وأما عباس ومن معه فإن أخت الظافر كاتبت فرنج عسقلان بسببه وشرطت لهم مالاً جزيلاً بسببه إذا أمسكوه، فخرجوا عليه وصادفوه، فتواقعوا وقتلوا عباساً وأخذوا ماله وولده وانهزم بعض أصحابه إلى الشام، وفيهم ابن منقذ، فسلموا، وسيرت (3) الفرنج نصر بن عباس إلى القاهرة تحت الحوطة في قفص حديد (4) ، فلما وصل تسلم رسولهم ما شرطوا لهم من المال، فأخذوا نصراً المذكور وضربوه بالسياط ومثلوا به، وصلبوه بعد ذلك على باب زويلة، ثم أنزلوه يوم عاشوراء من سنة إحدى وخمسين وخمسمائة ثم أحرقوه، هذه خلاصة الواقعة وإن كان فيها طول. وكان دخول نصر بن عباس إلى القصر بالقاهرة في السابع والعشرين من شهر ربيع الأول من سنة خمسين وخمسمائة، وأخرج من القصر يوم الاثنين سادس عشر شهر ربيع الآخر من السنة، وكان قد قطعت يده اليمنى وقرض جسمه بالمقاريض، والله أعلم، وقيل كان ذلك يوم الجمعة ثامن الشهر المذكور. ولم تطل مدة الفائز في ولايته، وكانت ولادته يوم الجمعة لتسع بقين من المحرم سنة أربع وأربعين وخمسمائة وتولى في تاريخ وفاة والده - وهو مذكور في   (1) س: خادماً صغيراً كان. (2) ن: البلاط الذي كان. (3) ن: وأرسلت. (4) س: قفص من حديد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 493 ترجمته في حرف الهمزة (1) ، واسمه إسماعيل - وتوفي ليلة الجمعة لثلاث عشرة ليلة بقيت من رجب سنة خمس وخمسين وخمسمائة، رحمه الله تعالى، وتولى بعده العاضد - وقد سبق ذكره (2) - وهو آخرهم. 515 - (3) الملك المعظم ابن العادل الملك المعظم شرف الدين عيسى، ابن الملك العادل سيف الدين أبي بكر بن أيوب صاحب دمشق؛ كان عالي الهمة حازماً شجاعاً مهيباً فاضلاً جامعاً شمل أرباب الفضائل محباً لهم، وكان حنفي المذهب متعصباً لمذهبه وله فيه مشاركة حسنة، ولم يكن في بني أيوب حنفي سواه، وتبعه أولاده، وكان قد حج إلى بيت الله الحرام في سنة إحدى عشرة وستمائة، سار من الكرك على الهجن في حادي عشر ذي القعدة في جماعة من خواصه، وسلك طريق العلا وتبوك، وفي هذه السنة أخذ المعظم صرخد من ابن قراجا وأعطاها مملوكه عز الدين أيبك المعروف بصاحب صرخد، ولم يزل بها إلى أن أخذها منه الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الملك الكامل في سنة أربع وأربعين وستمائة، وحمله إلى القاهرة واعتقله بدار الطواشي صواب. وكان المعظم يحب الأدب كثيراً ومدحه جماعة من الشعراء المجيدين فأحسنوا في مدحه، وكانت له رغبة في فن الأدب، وسمعت أشعاراً منسوبة إليه ولم   (1) المجلد الأول: 237. (2) انظر ما تقدم ص: 109. (3) ترجمته وأخباره في مفرج الكروب (الجزء: 3) وذيل الروضتين: 152 وابن الأثير 12: 471 والجواهر المضية 1: 402 والسلوك 1/1: 224والبداية والنهاية 13: 121 والنجوم الزاهرة 6: 267 وعبر الذهبي 5: 100 والشذرات 5: 115 والزركشي، الورقة: 235. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 494 أستثبتها فلم أثبت شيئاً منها. وقيل إنه كان قد شرط لكل من يحفظ " المفصل " للزمخشري مائة دينار وخلعة، فحفظه لهذا السبب جماعة، ورأيت بعضهم بدمشق، والناس يقولون: إن سبب حفظهم له كان هذا، وقيل إنه لما توفي كان قد انتهى بعضهم إلى أواخره وبعضهم في أثنائه وهم على قدر أوقات شروعهم فيه، ولم أسمع بمثل هذه المنقبة لغيره. وكانت مملكته متسعة من حدود بلد حمص إلى العريش يدخل في ذلك بلاد الساحل الإسلاميه منها وبلاد الغور وفلسطين والقدس والكرك والشوبك وصرخد وغير ذلك. وكانت ولادته في سنة ثمان وسبعين وخمسمائة، وذكر أبو المظفر يوسف سبط ابن الجوزي في تاريخه " مرآة الزمان " (1) أن المعظم ولد في سنة ست وسبعين وخمسمائة بالقاهرة، وولد أخوه الأشرف موسى قبله بليلة واحدة. وتوفي المعظم يوم الجمعة مستهل ذي الحجة سنة أربع وعشرين وستمائة، والله أعلم بالصواب. وقال غيره: بل توفي يوم الجمعة ثامن ساعة من نهار سلخ ذي القعدة سنة أربع وعشرين وستمائة بدمشق، ودفن بقلعتها ثم نقل إلى جبل الصالحية، ودفن في مدرسة هناك بها قبور جماعة من إخوته وأهل بيته تعرف بالمعظمية، وكان نقله ليلة الثلاثاء مستهل المحرم سنة سبع وعشرين. وكان كثيراً ما ينشد: ومورد الوجنات أغيد خاله ... بالحسن من فرط الملاحة عمه كحل الجفون وكان في ألحاظه ... كحل فقلت سقى الحسام وسمه وهذا ينظر إلى قول عبد الجبار بن حمديس الصقلي - المقدم ذكره (2) : زادت على كحل الجفون تكحلا ... ويسمٌ نصل السيف وهو قتول رحمه الله تعالى، فلقد كان من النجباء الأذكياء؛ أخبرني جماعة عن شرف   (1) انظر مرآة الزمان: 644. (2) المجلد الثالث: 214. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 495 الدين بن عنين بأمور كانت تجري بينهما تدل على حسن الإدراك وإصابة المقصد، منها: أنه كان ابن عنين قد مرض فكتب إليه (1) : انظر إلي بعين مولىً لم يزل ... يولي الندى وتلاف قبل تلافي أنا كالذي أحتاج ما تحتاجه ... فاغنم ثوابي والثناء الوافي فجاء بنفسه إليه يعوده ومعه صرة فيها ثلثمائة دينار، فقال: هذه الصلة وأنا العائد، وهذه لو وقعت لأكابر النحاة ومن هو في ممارسته طول عمره لاستعظم منه، لا سيما مثل هذا الملك، وأشياء كثيرة غير هذه يطول شرحها وكان المقصود ذكر أنموذج منها ليستدل بها على الباقي. (141) وتولى موضعه: ولده الملك الناصر صلاح الدين داود، وتوفي في السابع والعشرين من جمادى الأولى سنة ست وخمسين وستمائة، في قرية يقال لها البويضاء على باب دمشق، ودفن عند والده. وكانت ولادته يوم السبت، سابع عشر جمادى الأولى سنة ثلاث وستمائة بدمشق. (142) وتوفي عز الدين أيبك صاحب صرخد المذكور في أوائل جمادى الأولى من سنة ست وأربعين وستمائة في موضع اعتقاله بالقاهرة. ودفن خارج باب النصر في تربة شمس الدولة، وحضرت الصلاة عليه ودفنه. ثم نقل إلى تربته في مدرسته التي أنشأها ظاهر دمشق على الشرف الأعلى مطلة على الميدان الأخضر الكبير.   (1) ديوان ابن عنين: 92. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 496 516 - (1) الفقيه عيسى الهكاري الفقيه أبو محمد عيسى بن محمد بن عيسى بن محمد بن أحمد بن يوسف بن القاسم ابن عيسى بن محمد بن القاسم بن محمد بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، هكذا أملى علي نسبه ولد ولد أخيه، ويقال له الهكاري، الملقب ضياء الدين. كان أحد الأمراء بالدولة الصلاحية، كبير القدر وافر الحرمة معولاً عليه في الآراء والمشورات (2) . وكان في مبدأ أمره يشتغل في الفقه بالمدرسة الزجاجية بمدينة حلب، فاتصل بالأمير أسد الدين شيركوه، عم السلطان صلاح الدين - المقدم ذكره (3) - وصار إمامه يصلي به الفرائض الخمس. ولما توجه أسد الدين إلى الديار المصرية، وتولى الوزارة - كما سبق شرحه - كان في صحبته. ولما توفي أسد الدين اتفق الفقيه عيسى المذكور والطواشي بهاء الدين قراقوش - الآتي ذكره إن شاء الله تعالى - على ترتيب السلطان صلاح الدين موضعه في الوزارة، ودققا الحيلة في ذلك حتى بلغا المقصود، وشرح ذلك يطول؛ فلما تولى صلاح الدين رأى له ذلك واعتمد عليه، ولم يكن يخرج عن رأيه، وكان كثير الإدلال عليه، يخاطبه بما لا يقدر عليه غيره من الكلام، وكان واسطة خير للناس نفع بجاهه خلقاً كثيراً. ولم يزل على مكانته وتوفر حرمته إلى أن توفي في يوم الثلاثاء عند طلوع الشمس، التاسع من ذي القعدة سنة خمس وثمانين وخمسمائة بالمخيم بمنزلة الخروبة، ثم نقل إلى القدس ودفن بظاهرها، رحمه الله تعالى.   (1) أخباره في صفحات متفرقة من سيرة صلاح الدين وابن الأثير ومرآة الزمان والسلوك ومفرج الكروب، وانظر النجوم الزاهرة 6: 110 وقد سقطت هذه الترجمة من م وجاءت بتمامها في المسودة. (2) ر: والمشاورات. (3) المجلد الثاني: 479. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 497 وكان يلبس زي الأجناد ويعتم بعمائم الفقهاء، فيجمع بين اللباسين. ورأيت أخاه الأمير مجد الدين أبا حفص عمر أيضاً على هذه الصفة. والخروبة: بفتح الخاء المعجمة وتشديد الراء وضمها وسكون الواو وفتح الباء الموحدة وبعدها هاء ساكنة، موضع بالقرب من عكا. (143) وكانت ولادة أخيه مجد الدين عمر في رجب سنة ستين وخمسمائة. وتوفي في الثالث والعشرين من ذي الحجة سنة ست وثلاثين وستمائة بالقاهرة ودفن بسفح المقطم، وحضرت الصلاة عليه، عليه رحمة الله. 517 - (1) فخر الدين صاحب تكريت أبو المنصور عيسى بن مودود بن علي بن عبد الملك بن شعيب، الملقب فخر الدين صاحب تكريت؛ هو من أتراك الشام، وكانت فيه فضائل، وله ديوان شعر حسن ورسائل مطبوعة ودوبيت رقيق، فمن شعره قوله: وما ذات طوق في فروع أراكةٍ ... لها رنةٌ تحت الدجى وصدوح ترامت بها أيدي النوى وتمكنت ... بها فرقة من أهلها ونزوح فحلت بزوراء العراق وزغبها ... بعسفان ثاوٍ منهم وطليح تحن إليهم كلما ذر شارق ... وتسجع في جنح الدجى وتنوح إذا ذكرتهم هيجت ذا بلابل ... وكادت بمكتوم الغرام تبوح بأبرح من وجد لذكراكم متى ... تألق برق أو تنسم ريح ومن رسائله على هذا الأسلوب قوله: " ما شوارد أنعام بسباسب فلوات،   (1) راجع أخباره في ابن الأثير 11: 477، 12: 42، وهذه الترجمة بكاملها في المسودة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 498 لم يسمها أخمص دارج، ولم يلج فيها جان من مارج، منحتها أنفاس الهجير، لوافح زفرات السعير، فارجحنت من الأين، وراهقت مداناة الحين، فأتت العمق، بعد ثلاثٍ تستبق، وقد أدنفها اللغوب، وكادت أن تعلق بها شعوب، فألفت الماء أزرق سلسالا يعثر بصفحاته النسيم، وتعطفه ذوائب التسنيم، غير أن لا سبيل لها إلى مقراته، ولا وصول إلى موارده ونهلاته: ترنو إليه خوازراً بعيونها ... إذ حاولت مضض الجواد عظيما (1) بأشد من ظمئي إلى لقياكم ... من حيث آنس قلبي التسليما فالرغبة والابتهال إلى فارض الفرض، ورب السكون والنبض، أن يحقق الأماني، ويبدل النائي بالداني، إنه سميع الدعاء ". ومن دوبيتياته: القبض لديك في الهوى والبسط ... يا من أملي عذراه المختط قالوا رشأ فقلت مه لا تخطوا ... من أين لساكن الفيافي قرط وله في النظم والنثر شيء كثير ولطيف. ومولده بمدينة حماه، وقتله إخوته سنة أربع وثمانين وخمسمائة بقلعة تكريت، رحمه الله تعالى. وكان له أخ اسمه الياس، وهو الذي سلم تكريت إلى الإمام الناصر في شوال سنة خمس وثمانين وخمسمائة - وسيأتي في ترجمة مظفر الدين كوكبوري صاحب إربل أن تكريت كانت لأبيه زين الدين - وكان له غلام من أهل حمص اسمه " تبر " ويقال " طبر " أيضاً - بالتاء والطاء - فولاه قلعة العماديه وكانت أيضاً له، ثم نقله إلى قلعة تكريت، فلما كبر زين الدين وعزم على الانتقال إلى إربل كما شرحته في ترجمة ولده مظفر الدين سلم البلاد التي كانت له إلى قطب الدين، فعصى تبر في تكريت وسير إلى قطب الدين مودود صاحب الموصل يقول له: أنت ما تقيم بتكريت، ولابد لك فيها من   (1) الجواد: العطش أو شدته. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 499 نائب، وأنا ذلك النائب، فلم يقدر على مشاقته خوفاً أن يسلمها إلى الخليفة، فسكت عنه وأقره على حاله. ولما امتنع تبر من التسليم كان زيد الدين يقول: سود الله وجهك يا تبر كما سودت وجهي مع قطب الدين، ولم يزل تبر بها إلى أن مات، ولم يكن له ولد سوى بنت، فتزوجها ابن أخيه، وهو عيسى ابن مودود صاحب هذه الترجمة وملك تكريت. ثم أنه أحب مطربة فتزوجها وأولدها ولدين: شمس الدين وفخر الدين، وتوصلت المطربة وزوجت ابنها الشمس بابنة حسن بن قفجاق أمير التركمان، وطلبت منه خمسين فارساً تكون عندهم في تكريت لتحفظها. فلما علم أخوته بذلك، وكانوا اثني عشر رجلاً، وثبوا على أخيهم عيسى المذكور فقتلوه خنقاً وملكوا تكريت. ثم وقع بينهم الاختلاف، فباعها المقدم منهم للإمام الناصر لدين الله والله أعلم. وتكريت: بكسر التاء المثناة من فوقها وسكون الكاف وكسر الراء وسكون الياء المثناة من تحتها، وهي بلدة كبيرة لها قلعة حصينة على دجلة فوق بغداد بنحو ثلاثين فرسخاً، وهي في بر الموصل، وسميت تكريت بتكريت بنت وائل أخت بكر بن وائل، وبنى قلعتها سابور بن أردشير بن بابك، وهو ثاني ملوك الفرس. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 500 518 - (1) الحاجري الإربلي أبو يحيى وأبو الفضل عيسى بن سنجر بن بهرام بن جبريل بن خمارتكين بن طاشتكين الإربلي، المعروف بالحاجري الملقب حسام الدين؛ هو جندي ومن أولاد الأجناد، وله ديوان شعر تغلب عليه الرقة وفيه معاني جيدة وهو مشتمل على شعر والدوبيت والموالية، وقد أحسن في الكل مع أنه قل من يجيد في مجموع هذه الثلاثة، بل من غلب عليه واحد منها قصر في الباقي، وله أيضاً " كان وكان " (2) واتفقت له فيها مقاصد حسان. وكان صاحبي وأنشدني كثيراً من شعره، فمن ذلك قوله وهو معنى جيد: ما زال يحلف لي بكل أليةٍ ... ألا يزال مدى الزمان مصاحبي لما جفا نزل العذار بخده ... فتعجبوا لسواد وجهه الكاذب وأنشدني لنفسه أيضاً: لك خالٌ من فوق عر ... ش شقيقٍ قد استوى بعث الصدغ مرسلاً ... يأمر الناس بالهوى   (1) انظر الشذرات 5: 156 والنجوم الزاهرة 6: 290 - 291 (والنقل عن ابن خلكان) ؛ وابن الشعار: 5، الورقة 483، وهذه الترجمة مستوفاة في المسودة. (2) قالب من الشعر العامي كان في مبدأ نشأته مقصوراً على الحكايات والخرافات ولذلك سموه الكان وكان، وقد نظم فيه ابن الجوزي وغيره من الوعاظ الرقائق والزهديات؛ قال ابن سعيد في المقتطف من أزاهر الطرف (الورقة: 39) : ويعرفونه أيضاً بالبطائحي لتولع أهل البطائح به وأكثر ما حفظته من الملاحين في دجلة وهو من العروض المجتث، وقال الصفي الحلي (العاطل الحالي: 148) : وله وزن واحد وقافية واحدة ولكن الشطر الأول من البيت أطول من الشطر الثاني ولا تكون قافيته إلا مردفة قبل حرف الروي بأحد حروف العلة، ومخترعوه البغداديون ثم تداوله الناس في البلاد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 501 وأنشدني لنفسه أيضاً أبيات منها في صفة الخال: لم يحو ذاك الخد خالاً أسواداً ... إلا لنبت شقائق النعمان وله في الخال أيضاً، [وهو معنى لطيف] (1) : ومهفهف من شعره وجبينه ... أمسى الورى في ظلمة وضياء لا تنكروا الخال الذي في خده ... كل الشقيق بنقطة سوداء ومثل هذا قول بن وكيع التنيسي - المقدم ذكره (2) - واسمه الحسن: إن الشقيق رأى محاسن وجهه ... فأراد أن يحكيه في أحواله فأفاد حمرة لونه من خده ... وأفاد لون سواده من خاله [وله أيضاً: يقولون لما خط لام عذاره ... سلا كل قلب كان منه سليما لقد كنت أهوى ورد خديه زائراً ... فكيف إذا ما الآس جاء مقيما] (3) وأنشدني أيضاً أكثر دوبيتياته، فمن ذلك قوله، وقال لي: ما يعجبني فيما عملته مثل هذا الدوبيت، وهو آخر شيء عملته إلى الآن، وهو: حيا وسقى الحمى سحابٌ هامي ... ما كان ألذ عامه من عام يا علوة ما ذكرت أيامكم ... إلا وتظلمت على الأيام وكان لي أخ يسمى ضياء الدين عيسى بينه وبين الحاجري المذكور مودة أكيدة، فكتب إليه من الموصل في صدر كتاب، وكان الأخ بإربل، وذلك في سنة تسع عشرة وستمائة: الله يعلم ما أبقى سوى رمق ... مني فراقك يا من قربه الأمل   (1) وهو معنى لطيف: سقط من ر والمسودة. (2) المجلد الثاني: 104. (3) ما بين معقفين سقط من المسودة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 502 فابعث كتابك واستودعه تعزية ... فربما مت شوقاً قبل ما يصل ومع شهرة ديوانه وكثرة وجوده بأيدي الناس لا حاجة إلى الإطالة في إيراد أكثر من هذا (1) . وكنت خرجت من إربل في أواخر شهر رمضان سنة ست وعشرين وستمائة وهو معتقل بقلعتها لأمر يطول شرحه، بعد أن كان قد حبس في قلعة خفتيدكان ثم نقل منها، وله في ذلك أشعار، فمن ذلك قوله أبيات أولها: قيد أكابده وسجنٌ ضيق ... يا ربي شاب من الهموم المفرق ومنها: يا برق إن جئت الديار بإربلٍ ... وعلى عليك من التداني رونق بلغ تحية نازحٍ حسراته ... أبداً بأذيال الصبا تتعلق قل يا جعلت لك الفداء أسير كم ... من كل مشتاق إليكم أشوق والله ما سرت الصبا نجديةً ... إلا وكدت بدمع عيني أشرق كيف السبيل إلى اللقاء ودونه ... شماء شاهقة وباب مغلق وله وهو في السجن أيضاً: أحبابنا أي داعٍ بالبعاد دعا ... وأي خطبٍ دهانا منه تفريق لا كان دهرٌ رمانا بالفراق فقد ... أضحى له في صميم القلب تمزيق كانت تضيق بي الدنيا بغيبتكم ... فكيف سجنٌ ومن عاداته الضيق ثم بلغني بعد ذلك أنه خرج من الاعتقال، واتصل بخدمة الملك المعظم مظفر الدين صاحب إربل، رحمه الله تعالى، وتقدم عنده وغير لباسه وتزين بزي الصوفية، فلما توفي مظفر الدين - في التاريخ الأتي ذكره في ترجمته إن شاء الله تعالى - سافر عن إربل ثم عاد إليها وقد صارت في مملكة أمير المؤمنين   (1) في هامش ل ثلاثة أبيات له وقد ذهب أكثر ألفاظها لتطرفها، وهي بخط مخالف لخط النسخة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 503 المستنصر بالله ونائبه بها الأمير شمس الدين أبو الفضائل باتكين، فأقام مديدة، وكان ورأه من يقصده، فاتفق أن خرج يوماً من بيته قبل الظهر، فوثب عليه شخص وضربه بسكين فأخرج حشوته، فكتب في تلك الحال إلى بآتكين المذكور وهو يكابد الموت: أشكوك يا ملك البسيطة حالة ... لم تبق رعباً (1) في عضواً ساكنا إن تستبح إبلي لقيطة معشر ... ممن أومل غير جأشك مازنا (2) ومن العجائب كيف يمسي (3) خائفاً ... من بات في حرم الخلافة آمنا (4) ثم توفي بعد ذلك من يومه في يوم الخميس ثاني شوال سنة اثنتين وثلاثين وستمائة، ودفن في مقبرة باب الميدان، رحمه الله تعالى، وتقدير عمره خمسون سنة. (144) وباتكين المذكور كان أرمني الجنس، وهو مملوك أم الخليفة الإمام الناصر لدين الله، ولما أخذ التتر إربل في الدفعة الأولى في أواخر سنة أربع وثلاثين وستمائة رجع إلى بغداد ومات بها يوم الأربعاء الثالث والعشرين من شوال سنة أربعين وستمائة، ودفن بالشونيزية. والحاجري: بفتح الحاء المهملة وبعد الألف جيم مكسورة وبعدها راء، هذه النسبة إلى حاجر، وكانت بليدة (5) بالحجاز ولم يبق منها اليوم سوى الآثار، ولم يكن الحاجري منها، بل لكونه استعملها في شعره كثيراً نسب إليها، وهو إربلي الأصل والمولد والمنشأ، ولما غلبت عليه هذه النسبة وعرف بها واشتهرت بحيث صارت كالعلم عليه عمل في ذلك دوبيت، وهو (6) : لو كنت كفيت من هواك البينا ... ما بات يحاكي دمع عيني عينا   (1) كتب في المسودة " روعاً " وضبب عليها وكتب " رعباً ". (2) يشير إلى قول الحماسي: لو كنت من مازن لم تستبح إبلي ... بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا (3) س: يصبح؛ ل: يمشي. (4) كان قد كتب في المسودة: يا للعجائب كيف يصبح خائفاً، ثم ضرب عليه ووضع ما أثبتناه. (5) ل: بلدة. (6) ر: وهو هذا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 504 لولاك لما ذكرت نجداً بفمي ... من أين أنا وحاجر من أين وذكر ذلك أيضاً في أبيات لطيفة أو لها: أي طرف أحيور ... للغزال الأسيمر وآخرها: أيهذا الأريبلي ... هام فيك الحويجري وفي مدينة إربل (1) محلة يقال لها قرية جبريل بالتصغير ذكر أبو البركات ابن المستوفي في " تاريخ إربل " أنها منسوبة إلى جده جبريل المذكور. وخمارتكين: بضم الحاء المعجمة. وطاشتكين: بفتح الطاء المهملة وسكون الشين المثلثة. والباقي معروف. وخفتيدكان: بضم الخاء المعجمة وسكون الفاء وكسر التاء المثناة من فوقها وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها دال مهملة وكاف وبعد الألف نون (2) ، وهي قلعة حصينة مشهورة في بلد إربل، ويقال لها خفتيدكان صارم الدين وهي غير خفتيدكان أبي علي.   (1) س: وبالقرب من إربل. (2) في المسودة: وبعد الألف كاف ونون، وهو سهو. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 505 519 - (1) طويس المغني قال أبو فرج الأصبهاني في كتاب " الأغاني " (2) اسمه عيسى بن عبد الله وكنيته أبو عبد المنعم، وغيرها المخنثون فقالوا: عبد النعيم، وهو مولى بني مخزوم، وطويس لقب عليه. وقال ابن قتيبة في كتاب " المعارف " (3) في فصل عامر بن عبد الله الصحابي، رضي الله عنه: ومن موالي آل كريز طويس مولى أروى بنت كريز، وهي أم عثمان بن عفان، رضي الله عنه، واسمه عبد الملك ويكنى أبا عبد النعيم. وقال الجوهري في كتاب " الصحاح " (4) : واسمه طاوس، فلما تخنث جعله طويساً ويسمى بعبد النعيم. وقد وقع هذا الاختلاف في اسمه كما تراه، وقيل إن الأصح أنه عيسى لتطابق جماعة من العلماء عليه. وكان طويس المذكور من المبرزين في الغناء المجيدين فيه، وممن تضرب به الأمثال، وإياه عنى الشاعر بقوله في مدح معبد المغني: تغنى طويسٌ والسريجي بعده ... وما قصبات السبق إلا لمعبد وقد ذكر في كتاب " الأغاني " ترجمته وأطال الحديث في أمره وهو الذي يضرب به المثل في الشؤم، فيقال: أشأم من طويس (5) ، وإنما قيل له ذلك   (1) انظر نهاية الأرب 4: 246 والشذرات 1: 99 وسرح العيون: 212؛ والترجمة كاملة في المسودة. (2) الأغاني 3: 27. (3) المعارف: 322. (4) الصحاح: 942. (5) الميداني 1: 173 (أخنث من طويس) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 506 لأنه ولد في اليوم الذي قبض فيه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وفطم في اليوم الذي مات فيه أبو بكر الصديق، رضي الله عنه وختن في اليوم الذي قتل فيه عمر بن الخطاب، وقيل بلغ الحلم في ذلك اليوم، وتزوج في اليوم الذي قتل فيه عثمان بن عفان، رضي الله عنه، وولد له مولود في اليوم الذي قتل فيه علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، وقيل بل في يوم مات الحسن بن علي، رضي الله عنهما، فلذلك تشاءموا به. وهذا من عجائب الاتفاقات. وكان مفرطاً في طوله مضطرباً في خلقه أحول العين، وكان يسكن المدينة ثم انتقل عنها إلى السويداء، وهي على مرحلتين من المدينة في طريق الشام، فلم يزل بها حتى توفي سنة اثنتين وتسعين للهجرة، رحمه الله تعالى وسامحه، وهو ابن اثنتين وثمانين سنة، وقيل إنه مات بالمدينة، والله أعلم. وذكر ياقوت الحموي في كتابه " المشترك " (1) أن قبر طويس المخنث في سقيا الجزل، وما ذكر أين هي (2) . وطويس: بضم الطاء المهملة وفتح الواو وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها سين مهملة، وهي تصغير طاوس بعد حذف الزيادات، هكذا قاله الجوهري في " الصحاح "، وله ذكر في كتاب " الأوائل " تأليف أبي هلال العسكري.   (1) المشترك: 250. (2) في المشترك: وسقيا الجزل موضع بالحجاز. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 507 مقدمة الجزء الرابع 1 - النسخ السابقة أستمر الاعتماد في تحقيق هذا الجزء على عدد من النسخ المعتمدة في تحقيق الأجزاء السابقة، وهذه النسخ هي: - مسودة المؤلف التي انتهت عند ترجمة غيلان (ذي الرمة) من هذا الجزء، وكان فقدان القسم التالي منها يمثل فقدان الحكم الذي نطمئن إليه حين تتعدد الخلافات بين النسخ. - نسخة الظاهرية (ر) التي ستظل معتمدة حتى نهاية الكتاب. - النسختان ل (كوبريللي: 1192) لي (لاله لي: 2212) وكلتاهما تنتهي عند ترجمة ابن التعاويذي. - النسخة ن (ولي الدين: 2460) ويستمر الاعتماد عليها بعد هذا الجزء أيضاً. أما النسخة (م) التي اعتمدنا عليها في الأجزاء السابقة، ثم وقع فيها خرم كبير أشرنا إليه في موضعه، فإننا سنهمل الاعتماد عليها بعد إذ توفر لدينا عدد غير قليل من النسخ. 2 - النسخ الجديدة ذكرنا ست نسخ أسعفتنا في تحقيق هذا الجزء، وقد حصلنا على خمس نسخ أخرى لنجعل عملنا أدق وأوفى، فيكون مجموع النسخ التي راجعناها في تحقيق هذا الجزء (عدا نسخة المختار التي سنتحدث عنها منفردة) إحدى عشرة نسخة وهذا بيان بالنسخ الجديدة: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1 (1) نسخة المجمع العلمي العراقي، ورمزها (مج) : كتب على الورقة الأولى منها " الخامس من تاريخ ابن خلكان " وتحت هذه العبارة بخط مختلف " بخط مصنفه رحمه الله تعالى " ثم ذكر لبعض التملكات. وهذه النسخة في 150 ورقة مسطرتها 17×27 سم وفي كل صفحة 12 سطراً ومعدل الكلمات في السطر الواحد 7 كلمات، وتبدأ بترجمة الأمير المختار عز الملك المسبحي وتنتهي بترجمة الحاكم بأمر الله العبيدي وقد وقع فيها خرم كبير عند الورقة 141/ أضاعت بسببه تراجم كثيرة. وعند مقارنتها بالنسخ الأخرى تبين لنا أنها نسخة غريبة حقاً لعدة أمور: فهي تسقط كثيراً من النصوص الورادة في النسخ الأخرى حتى فيما عددناه نسخاً لا تمثل العمل النهائي للمؤلف، وتنفرد بزيادات في الترجمة الواحدة لا ترد في أية نسخة سواها، وأحياناً يجيء نص الرواية المشتركة بينها وبين النسخ الأخرى بعبارة مختلفة كثيراً، وقد سقطت منها بعض التراجم التي لا ريب في أنها من عمل النؤلف، كترجمة ابن مقلة، وانفردت بإيراد ترجمة محمد بن عبد الله بن طاهر ولم ترد في غيرها، كذلك فإن سياق بعض الترجمات فيها (مثل ترجمة ابن الزيات وابن العميد والملك الكامل) مختلف في مجمله عما اتفقت عليه سائر النسخ ولذلك أثبتنا هذه الترجمات مرتين: مرة كما وردت في النسخ المتفقة ومرة كما وردت في (مج) . وعلى الرغم مما تتمتع به هذه النسخ من دقة وضبط فإنها ليست بخط المؤلف كما توهم العبارة المكتوبة على الورقة الأولى، ذلك أنه لا جدال في أن مسودة المؤلف هي النسخ المحفوظة في المتحف البريطاني، وعند مقارنة الخط فيها بالخط في هذه النسخة بتبدي الاختلافق واضحاً حتى لمن لم يكن ذا خبرة بأنواع الخطوط؛ كذلك فإن في حاشية النسخة (مج) بخط الناسخ نفسه إشارة إلى أنه ينقل عن أصل، ومثل هذا يبعد أن تكون نسخة المؤلف؛ ثم أن اعتبارها " الخامس " من تاريخ ابن خلكان ينفي عنها النسبة إلى المؤلف مباشرة لأن تجزئة المؤلف (كما سيتبين عند الحديث عن المختار) تختلف اختلافاً بعيداً عن هذه النسخة التجزئة. ومهما يكن من شيء فإن الخصائص التي تفرد هذه النسخة عما عداها تضعنا أمام سؤال ليس من الممكن أن نجيب عليه، وذلك هو: كيف يفسر مثل هذا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2 التفرد لا ريب في أن هذه النسخة قطعة من تاريخ ابن خلكان ولكني أقر بأني عاجز عن تعليل هذا التفاوت الكبير بينها وبين النسخ الأخرى. (2) نسخة مكتبة قاضي زاده محمد باستانبول، رقم: 371 (ورموزها: ق) : في المكتبة المذكورة مجلدان، في كل مجلد جزءان، وتحتوي الأجزاء الأربعة جميع كتاب الوفيات، فالمجلد الأول (رقم: 370) يضم التراجم حتى قسم من حرف الميم، في 473 ورقة، ولم نعتمد عليه في هذا التحقيق، وعليه تملك يعود إلى سنة 926، ولكنه مكتوب بنفس الخط الذي كتب به المجلد الثاني. غير أني لما بلغت إلى هذا الحد من تحقيق الكتاب حصلت على الجزء الثاني المشار أليه، وهو يبدأ بترجمة محمد بن السائب الكلبي ويستمر حتى نهاية الكتاب. نسخة محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن النقاش في يوم الأحد الثالث والعشرين من شهر رمضان سنة 739، عدد أوراقه 532 ورقة، في كل صفحة 23 سطراً ومعدل الكلمات في السطر 11 كلمة؛ وهذه النسخة مكتوبة بخط نسخي جميل، والصحة غالبة عليها، إلا أنها غير بارئة من الوهم والسقط والخطأ، وفي قسم من التراجم يغلب عليها التلخيص، ثم تعود النسخة بعد ذلك إلى متابعة نص المؤلف دون حذف، وذلك أمر محير فيها، لأن التراجم التي يغلب عليها التلخيص ليست بخط مختلف عن سائر الخط في هذه النسخة. (3) النسخة (ت) وهي قطعة من الكتاب كانت بحوزة الصديق الاستاذ محمد بن تاويت الطنجي، وقدمها إلي؛ وتبدأ بجانب من ترجمة مظفر الدين كوكبوري، وتنتهي عند جزء من ترجمة ألب أرسلان السلجوقي، وهي في 111 ورقة، في كل صفحة 23 سطراً، ومعدل الكلمات في السطر 13، مكتوبة بخط نسخي واضح. وقد أهملت عدداً غير قليل من التراجم الواردة في النسخ الأخرى، وليس فيها اهتمام بالإعجام، ولكن خطها يدل على أنها ربما كانت تنتمي إلى القرن الثامن؛ وهي تقع في صف الفئة الموجزة من النسخ، التي نقلت عن أصل المؤلف قبل أن يضيف إليه، وتقارب النسخة (س) فيما أوردته من تراجم. (4) نسخة مكتبة جامعة أدنبره باسكتلنده (رقم: 22) ؛ رمزها (بر) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 3 وتمثل نسخة كلماة من وفيات الأعيان، في 394 ورقة بمعدل 53 سطراً في الصفحة، و16 كلمة في كل سطر، وفي الورقات العشرين الأخيرة منها بعض طمس ومحو أو عطب، وانقطعت عند جزء من ترجمة يونس بن حبيب، فضاع منها بقية الترجمة وترجمتان تاليتان وخاتمة المؤلف وتاريخ النسخ واسم الناسخ. وعلى الورقة الأولى منها تملكات تواريخها على التوالي: 1028، 1083، 1127 وربما كانت من نسخ القرن التاسع أو العاشر، ولا تنفرد بأية زيادات، وهي متوسطة في تراجمها بين النسخ الموجزة (مثل س) والأخرى الطويلة التراجم (مثل ر) . (5) نسخة مكتبة جون رايلندز، بمنشستر (رقم 297 [623] تمثل الجزء الثاني من وفيات الأعيان وتبدأ بترجمة أبي شجاع فاتك الكبير، وتنتهي بخاتمة المؤلف، وقد جاء في آخر ناسخها هو محمد بن أبي حامد محمد الحسني الحسيني المكي وأن النسخ تم بمكة، وفرغ منه يوم الثلاثاء سابع عشر ذي الحجة الحرام آخر شهور سنةى إحدى وتسعين وتسعمائة. وبما أنها تمثل الجزء الثاني فإن أوراقها تبدأ بالرقم 239 وتنتهي بالرقم 516 ومسطرتها 19×17.5، في كل صفحة 29 سطراً، بمعدل 17 كلمة للسطر الواحد؛ وخطها نسخي دقيق جميل، ونسبة الضبط فيها جيدة، ولكن أوراقها مضطربة دون أن يكون قد ضاع منها شيء. والمطابقة بينها وبين النسخة السابقة (بر) تكاد تكون تامة، فإذا لم نفترض، أنهما نقلتا عن أصل واحد، فليس من المستبعد أن تكون إحداهما قد نقلت عن الأخرى. 3 - المختار من وفيات الأعيان لابن المؤلف لكتاب وفيات الأعيان في المكتبات المختلفة عدد من الاختصارات والمختارات، رأيت منها في مكتبات استانبول ثلاثة وهي: (1) تجريد ابن خلكان (طوبقبوسراي، رقم: 1222 E. H.) في 91 ورقة وفي آخر النسخة: " تم المختصر المسمى بالتجريد نهار الأحد عشرين خلت من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 4 ربيع الأول سنة ستين ومائة بعد الألف " ومن الطريف أن يقول صانع هذه النسخة، وهو إبراهيم بن مصطفى، إن الدفتر المسمى وفيات الأعيان عزيز الوجود عزيز المقدار، لا يمكن توصيله إلا بتكثير من الدينار، وأنه لذلك يلخصه مع المحافظة على تبيان زمان الولادة والوفاة. (2) المختار من وفيات الأعيان (طوبقبوسراي، رقم 2919 A.) وما تبقى منه هو الجزء الأول في 212 ورقة بترجمة ذي الرمة، وكان تاريخ الاختيار شهر المحرم عام 724 على يد محمد بن الحسن بن عقيل البلبيسي الناسخ بالقاهرة المعزية. (3) مختصر ابن خلكان (أسعد أفندي، رقم: 2195) في 432 ورقة، والنسخة ناقصة من أولها، تبدأ ببقية من ترجمة المتنبي، وفي آخرها ((تم المختصر المبارك)) (دون تاريخ) . ولكني لم أتوقف عند هذه المختصرات والمختارات عند التحقيق، لكثرة النسخ الكاملة وتوفرها، إلا اختيار واحد، صنعه موسى ولد المؤلف، ولذلك حصلت عليه وجعلته بمنزلة إحدى النسخ، إن لم أضعه فوق سائر النسخ من حيث القيمة. المختار من وفيات الأعيان محفوظة بمكتبة وزارة شئون الهند India Offica بلندن (رقم: 705 Loth) ؛ وقد كتب على الورقة الأولى منه بخط غير خط الأصل: " كتاب مختار وفيات الأعيان لموسى بن قاضي القضاة أحمد بن خلكان المشهور، رحمه الله تعالى بمنه وكرمه آمين .... وهو الجزء الثاني ابتداء من حرف العين، ويختم به، تغمدهم الله برحمته الواسعة "؛ ثم تملكات ومطالعات، فالكتاب كان في ملك عبد الرحمن الحمو بالشراء الشرعي، وطالع فيه عثمان ابن الحافظ المغربي سنة 1172، ونظر فيه آخرون منهم عبد الرحمن العمادي سنة 1201. ويبدأ القسم المتبقي من هذه النسخة بترجمة أبي القاسم علي بن أفلح (الترجمة رقم 476 في الجزء الثالث) ويستمر الاختيار فيه حتى آخر الوفيات، ويقع في 333 ورقة، مسطرتها 53×19 وعدد الأسطر في كل صفحة 21 سطراً، ومعدل الكلمات في السطر الواحد 12 كلمة، والخط نسخي قليل الاعجام أميل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 5 إلى التعليق، ولكنه في جملته واضح حسن الضبط، يقل فيه السهو والخطأ إلا أن الترقيم للأوراق ترقيم حديث، وقد ضاعت أوراق كثيرة من هذه النسخة في عدة مواطن متفرقة، رغم تسلسل الأرقام، كذلك فإن بعض الأوراق لم تقع في أماكنها الصحيحة. ومن بداية النسخة حتى الورقة 150 ينتهي ما يعده صاحب المختار " المجلد الأول " ويبدأ " المجلد الثاني " وقد كتب على الورقة الأولى منه: " المجلد الثاني من المختار من وفيات الأعيان " وتحت هذا العنوان: " يقول الفقير إليه تعالى موسى بن أحمد بن محمد بن أبي بكر بن خلكان كاتب هذه التعليقة والمختار لطف الله به: أنني اعتمدت في اختيار هذا المجلد من الكتاب ... ما شرحته في أول المجلد الأول من هذا المختار، من غير إخلال بشيء في ذلك ... الخ " ولما كان أول المجلد الأول قد ضاع مع قسم كبير منه، فأنا لا نعرف ما هو المنهج الذي شرحه ابن المؤلف في اختياره. وعلىالورقة 151 ب من المجلد الثاني كتب ابن المؤلف " بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً: نقلت مبتدئاً من أول الجزء الرابع من كتاب وفيات الأعيان تأليف سيدي والدي أحمد بن محمد ابن إبراهيم بن أبي بكر بن خلكان قدس الله ضريحه مقتضباً تذكرة لنفسي، ومبدأ النقل يوم الأحد ثاني شهر ذي الحجة سنة إحدى وسبعمائة بمدينة بعلبك المحروسة، كتبه ولد المؤلف، الفقير إليه تعالى موسى بن أحمد لطف الله به " ويستمر النقل من الجزء الرابع حتى الورقة 233 ب حيث جاء " هذا آخر ما نقلته من الجزء الرابع من كتاب وفيات الأعيان، ويتلوه ما أنقله من المجلد الخامس إن شاء الله تعالى وأوله ترجمة عون الدين ابن هبيرة ". وهذا يدلنا على أن التجزئة النهائية التي اعتمدها المؤلف لكتابه جعلته في خمسة أجزاء نعرف منها بوضوح الجزءين الاخيرين وهما الرابع والخامس. فالرابع حسب تجزئة المؤلف يبتدي بترجمة أبي تميم معد الملقب المعز لدين الله الفاطمي وينتهي بترجمة يحيى بن خالد البرمكي، والخامس يبدأ بترجمة الوزير ابن هبيرة ويستمر حتى آخر الكتاب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 6 ولا بأس أن نعيد هنا حقيقتين وردنا في النصوص التي نقلناها عن ولد المؤلف وهما: (1) أن نقل المجلد الثاني من المختار بدأ في ذي الحجة سنة 701، وهذا يعني طبعاً أن نقل المجلد الأول بدأ قبل ذلك، ولكنا لا نظنه بدأ قبل العام المذكور. (2) أن ابن المؤلف حين كان ينقل المجلد الأول وبعض الثاني كان يسكن مدينة بعلبك، ونزيد هنا أنه حين انتهى من ترجمة ابن شداد (الورقة 289) انتقل من بعلبك إلى دمشق، وهو يشير إلى ذلك بقوله: " قلت، أعني كاتبها موسى بن أحمد لطف الله به: هذا آخر ما نقلته من أول كتاب وفيات الأعيان المشار إليه إلى هذا المكان بمدينة بعلبك المحروسة، وذلك في يوم الاثنين سابع صفر سنة اثنتين وسبعمائة، ويتلوه ما أنقله منه بدمشق المحروسة إن شاء الله تعالى ". ثم انتهى من نقل بقية الكتاب بدمشق يوم الأحد ثالث شهر ربيع الآخر سنة 702 وهو يسكن قبل الصالحيين بخط ابن جهاركس، قال: " وكان مبدأ ما اخترته منه بدمشق عند قدومي إليها من بعلبك يوم الأحد العشرون من شهر ربيع الأول سنة 702 ". وهذا يفيد أنه حين كان في بعلبك أنهى حوالي 138 ورقة في 65 يوماً، وحين كان في دمشق أنجز نسخ 45 ورقة في 12 يوماً، وذلك يعطي فكرة تقريبية عن نسخ الكتاب كله، إذا كان النسخ متتابعاً دون انقطاع؛ ويجب أن نذكر هنا أن النسخ لم يكن دائماً مطرداً، لأن موسى كان يختار، ويتوقف عندما يحذفه أو يثبته. تلك هي نسخة " المختار " وعلى أنها غير كاملة، وقد سقطت منها أوراق في عدة مواضع، فإنها تعد نسخة بالغة الأهمية، ولعلها تلي " مسودة المؤلف " من حيث القيمة؛ ولما كان جانب كبير من مسودة المؤلف بعد حرف الغين ما يزال مفقوداً، فقد كانت الاستعانة بالمختار أمراً ضرورياً أثناء التحقيق لأنه منقول مباشرة عن نسخة المؤلف، ولأن الذي نقله امرؤ عرف المؤلف والكتاب معرفة وثيقة، وهو رجل مثقف ذو مشاركة حسنة في الفن الذي ندب نفسه لأدائه (وسنتحدث عنه بشيء من التفصيل عند الحديث عن المؤلف وكتابه وما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 7 يتصل بهما في موضع آخر) .وقد أضاف موسى إلى الكتاب فوائد جليلة يتصل كثير منها بأبيه، ويلقي على جوانب من شخصيته وعلاقاته أضواء كاشفة، وكان يضع بين هذه الفوائد المضافة وبين المتن جملة فاصلة يبدأها بقوله: " قال كاتبه موسى بن أحمد لطف الله به " وقد أدرجنا جميع هذه الفوائد في هوامش الكتاب لإيماننا بأنها مفيدة ومنها ما يصور جانباً من ثقافة صانع المختار. وقد أعطانا المختار أحياناً فكرة عن مدى ما أدرجه المؤلف في الترجمة الواحدة، بحيث تأكد لنا أن بعض ما استقلت به مفردات النسخ إنما كان من عمل المؤلف نفسه، وأثبت لدينا أن مجموعة كبيرة من النسخ التي اعتمدناها لا تمثل الشكل النهائي للكتاب، كما أراده مؤلفه، وأن الزيادات التي انفردت بها النسخة (ر) علة وجه الخصوص، هي من أصل المؤلف أيضاً (في هذا القسم من الكتاب) فأما زيادات (مج) فليس هناك ما يثبت، ولو مرة واحدة أنها أصيلة في الكتاب. وكذلك اتضح أن بعض التراجم التي لم ترد في كثير من النسخ (مثل ترجمة يعقوب بن الليث الصفار) إنما هي مما أثبته المؤلف نفسه، لأنها وردت في المختار. أما التراجم التي لم يرد لها ذكر في المختار فلا نقطع بأنها دخيلة لأن المختار يقوم في أساسه على الإيجاز والحذف؛ وقد أهمل صاحب المختار - على هذا الأساس - بعض التراجم كما أنه كان شديد الإيجاز في ما يختاره من بعضها الآخر، وليس له في اختياره منهج محدد، فهو حيناً يهتم بإيراد الشعر، وحيناً يهتم بإيراد الخبر، ومرة ثالثة يكاد لا يحذف شيئاً من الترجمة. غير أنه كان يقدم ويؤخر حسبما تمليه عليه طريقته، ويجمع الأشياء المتشابهة في نطاق، ويحذف في الغالب اسم المصدر المنقول عنه. ونراه في أحيان أخرى يجمل الخبر على طريقته الخاصة، ولكنه في ذلك كله لم يحاول أن يغير في العبارة الأصلية للمؤلف أو أن يقحم في السياق ما ليس من الأصل دون أن ينبه إليه؛ وقد اعتذر عن الطريقة التي جرى عليها في اختياره بقوله في الخاتمة: " وقد قدمت في أول هذا المختار أنني اخترت منه ونقلته تذكرة لنفسي، فليعذر من يقف على ذلك، فأن الآراء والأهواء تختلف، والله أعلم ". ومع ذلك كله فإن المختار سيبقى ذا قيمة كبيرة حتى بعد أن تكتشف الجزء: 4 ¦ الصفحة: 8 الأقسام الضائعة من مسودة المؤلف. وقد ختم موسى كتابه بترجمة موجزة لوالده، وتقديراً لما توضحه من معلومات دقيقة راينا أن نثبتها في هذه المقدمة. 4 - ترجمة المؤلف بقلم ابنه موسى قلت، أعني كاتبها موسى بن أحمد مؤلف هذا الكتاب [المختار] لطف الله به: وكانت وفاة والدي أحمد بن محمد بن إبراهيم بن أبي بكر بن خلكان، تغمده الله برحمته، وقت أذان العصر من يوم السبت السادس والعشرين من شهر رجب سنة إحدى وثمانين وستمائة بدمشق المحروسة، بالمدرسة الجمالية النجيبية، رحم الله واقفها، المجاورة للمدرسة النورية التي بحضرة الخواصين؛ ودفن يوم الأحد السابع والعشرين من بعد ما صلى عليه بجامع دمشق في الساعة الثانية بسفح جبل قاسيون، في الصحراء، جوار التربة الصوابية التي بالسفح من غربي الجبل، من شرقيها؛ وكان مبدأ مرضه يوم الثلاثاء ثاني عشرين شهر رجب المذكور. وأخبرني غير مرة أنه ولد وقت أذان العصر من يوم الخميس حادي عشر شهر ربيع الآخر سنة ثمان وستمائة بمدينة إربل، بالمدرسة المظفرية. وقد تقدم في هذا الكتاب في عدة مواضع ذكر نبذ من أحواله وما جراياته وذكر بعض شيوخه وصفة بعض اشتغااله فأغنى عن الإعادة هنا طلباً للإيجاز والاختصار. وأخبرني أيضاً أن قبيلته التي ينتسب إليها من الأكراد القبيلة المعروفة بالزرزارية، وأن أباه وأمه أصلها من مدينة بلخ إحدى كراسي خراسان، وذلك أن أباه هو محمد بن إبراهيم بن أبي بكر بن خلكان بائك بن عبد الله بن الحسين ابن مالك بن جعفر بن يحيى بن خالد بن برمك البرمكي، وبرمك وبيته من أهل بلخ، وأمه من ولد خلف بن أيوب صاحب الإمام أبي حنيفة، رضي الله عنهما، وهو من أهل بلخ أيضاً، وكانت حنيفة من أهل الموصل واسمها آمنة ولأبيها الشيخ شمس الدين [ .... ] الحنفي شيخ الطائفة الحنفية بالموصل في عصره. واخبرني أيضاً أن جده أبا بكر ابن خلكان اشتغل في الفقه على الشيخ أبي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 9 إسحاق الفيروزابادي الشيرازي وتخرج عليه، وأنه أول من اشتغل بالفقه من عمود نسبه، وأنه توفي سنة خمس وعشرين وخمسمائة، وقد ناهز تسعين سنة من العمر. قلت: وكان عود والدي رحمه الله تعالى إلى دمشق المحروسة في يوم الخميس السابع والعشرين من المحرم سنة سبع وسبعين وستمائة، وقد قلد الأحكام بالشام المحروسة على ما كان عليه الرسم في مباشرة ذلك إلى ثاني عشر صفر سنة تسع وسبعين وستمائة؛ وصرف عن الحكم في ذلك في المحنة التي جرت بدمشق بسبب قيام الأمير شمس الدين الأشقر الصالحي بالأمير بدمشق وأعمالها، وما آل أمره إليه من الحروب في دمشق في التاريخ المذكور، عندما كسره العسكر القادم من الديار المصرية، وكان مقدمه الأمير علم الدين الحلبي الكبير الصالحي. ثم أعيد والدي إلى الحكم بالبلاد الشامية في رابع عشر شهر ربيع الأول من السنة المذكورة فاستمر إلى سلخ المحرم سنة ثمانين وستمائة، وانفصل عنها، وانقطع بالمدرسة النجيبية التي توفي فيها حسبما تقدم ذكره، وكنت أنا يومئذ مدرسها، واستمرت بيدي ثلاث عشرة سنة. ورتب له على المصالح في كل شهر ثلاثمائة درهم، ثم أضيفت إليه المدرسة الأمينية التي بدمشق في أثناء السنة المذكورة، واستمر على ذكر الدرس بها والعود إلى مسكنه والاجتماع بمن تردد إليه من العلماء والفضلاء والأدباء على اختلاف طبقاتهم، والبحث معهم والمذاكرة لهم وبث العلوم والفوائد إلى أن توفي في التاريخ المقدم ذكره، قدس الله روحه ونور ضريحه. وهذه نبذة فيها خلاصة أحواله المتأخرة مع المبالغة في الاختصار والإيجاز، ولم أذكر منها هذه اللمعة إلا لاحتمال من يتفق وقوفه على هذه التعليقة، ويتشوف للوقوف على شيء من أحواله، لكونه تأسياً لما في هذا الكتاب من ذكر التواريخ. وقد ذكرت في أول هذه التعليقة صورة ما اخترته وما اعتقدته فيما نقلته من هذا الكتاب، فأغنى عن إعادته، والله الموفق للصواب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 10 5 - شكر وتقدير وفي الختام أحب أن أتوجه بالشكر الجزيل لعدد ممن أعانني في تذليل بعض العقبات التي اعترضت سبيلي في تحقيق هذا الجزء، وأخص بالذكر منهم الأصدقاء: العلامة المحقق محمد بن تاويت الطنجي الأستاذ بكلية الإلهيات بجامعة أنقرة الذي أهداني النسخة المرموز إليها بالحرف (ت) والأستاذ عبد الله الجبوري أمين مكتبة المتحف العراقي الذي أهداني ميكروفيلم من النسخة (مج) والأستاذ سامي الصفار الذي قدم إلي صورة عن قطعة من تاريخ إربل محفوظة بمكتبة تشستربيتي بدبلن (ارلنده) وصوراً عن فهارس صنعها لعدد من المخطوطات القيمة المحفوظة بجامعة كيمبردج؛ والدكتور أحمد أبو حاكمة الذي أمن إيصال نسخة المختار إلي؛ والدكتور إبراهيم السامرائي الذي أبدى اهتماماً فائقاً بهذا العمل وكتب إلي عن استعداده لتصوير ما أريده من مكتبة جامعة بغداد مما يعين على التحقيق؛ ولن يفوتني أيضاً أن اشكر المس واطسن المسئولة عن المخطوطات بمكتبة وزارة شئون الهند India Office ومدير مكتبة ادنبره ومدير مكتبة جون رايلندز بمنشستر فقد ابدوا جميعاً عوناً مشكوراً في غرسال ما طلبته من مصورات؛ فما كان هذا العمل ليتم على النحو الذي ارتضيته لولا هذا العون الكثير الذي تلقيته، وفيه نفسه حافز لي للمضي بهذا العمل إلى أن يكتمل بتوفيق الله وعونه. بيروت في 11 كانون الثاني (يناير) 1971. إحسان عباس الجزء: 4 ¦ الصفحة: 11 حرف الغين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1 فراغ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2 520 - (1) غازي بن زنكي سيف الدين غازي بن عماد زنكي بن آق سنقر، صاحب الموصل - وقد تقدم ذكر والده في حرف الزاي (2) - وأنه قتل على حصار قلعة جعبر، فلما قتل وكان معه ألب أرسلان بن السلطان محمود المعروف بالخفاجي السلجوقي، المذكور في ترجمة عماد الدين زنكي، اجتمع أكابر الدولة، وفيهم الوزير جمال الدين محمد (3) الأصبهاني، المعروف بالجواد، والقاضي كمال الدين أبو الفضل محمد بن الشهروزي - وسيأتي ذكرهما إن شاء الله تعالى - وقصدوا خيمة ألب أرسلان المذكور، وقالوا له: كان عماد الدين زنكي غلامك ونحن غلمانك، والبلاد لك، وطمنوا (4) الناس بهذا الكلام. ثم إن العسكر افترق فرقتين: فطائفة منهم (5) توجهت صحبة نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي - الآتي ذكره إن شاء الله تعالى - إلى الشام، والطائفة الثانية سارت مع ألب أرسلان وعساكر الموصل وديار ربيعة إلى الموصل، فلما انتهوا إلى سنجار تخيل ألب أرسلان منهم الغدر فتركهم وهرب، فلحقه بعض   (1) أخباره في التاريخ الباهر: 86 - 93 ومرآة الزمان: 203 ومفرج الكروب 1: 116 والسلوك 1/1: 38 والنجوم الزاهرة 5: 286 وعبر الذهبي 4: 123 والشذرات 4: 139 وأماكن متفرقة من الجزء الحادي عشر من تاريخ ابن الأثير؛ وهذه الترجمة شديدة الإيجاز في م، مستوفاة في المسودة، ولم ترد في المختار. (2) المجلد الثاني: 327. (3) ر: ابو الفضل محمد. (4) يريد: وطمأنوا، وحذف الهمزة للتخفيف. (5) ل س: منه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 3 العسكر وردوه، فلما وصلوا إلى الموصل وصلهم سيف الدين غازي المذكور، وكان مقيما بشهرزور لأنها كانت إقطاعه من جهة السلطان مسعود السلجوقي - الآتي ذكره إن شاء الله بعض القلاع، وملك الموصل وما كان لأبيه من ديار ربيعة، وترتبت أحواله، وأخذ أخوه نور الدين محمود - وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى - حلب وما والاها من بلاد الشام، ولم تكن دمشق يومئذ لهم. وكان غازي المذكور منطويا على خير وصلاح يحب العلم وأهله، وبنى بالموصل المدرسة المعروفة بالعتيقة، ولم تطل مدته في المملكة (1) حتى توفي أربعين سنة، ودفن في مدرسته المذكورة، رحمه الله تعالى، وتولى بعده أخوه قطب الدين مودود - وسيأتي ذكره في حرف الميم إن شاء الله تعالى. 521 - (2) الغازي ابن مودود سيف غازي بن قطب الدين مودود بن عماد الدين زنكي بن آق سنقر، صاحب المزصل، وهو ابن أخي المذكور قبله؛ تقلد المملكة بعد وفاة أبيه مودود، وهو والد سنجر شاه صاحب جزيرة ابني عمر، ولما توفي والده - في التاريخ الآتي ذكره في ترجمته - بلغ الخبر الدين وهو بتل باشر، فسار من   (1) ر: الملك. (2) أخباره في التاريخ الباهر: 146، 175، 180 ومرآة الزمان: 363 وصفحات متفرقة من تاريخ الأثير (ج: 11) ومفروج الكروب (الجزء 1، 2) والنجوم الزاهرة 6: 88 والسلوك 1/1: 58، 61، 70 وعبر الذهبي 4: 230 والشذرات 4: 257؛ وقد سقطت الترجمة من م، وجاءت كاملة في المسودة، ولم ترد في المختار. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 4 ليلته طالبا بلاد الموصل إلى الرقة في المحرم سنة ست وستين وخمسمائة وملكها، وسار منها إلى نصبين فملكها في بقية الشهر، وأخذ سنجار في شهر ربيع الآخر منها، ثم قصد الموصل وقصد أن لايقاتلها، فعبر بعسكره من مخاضة بلد - وهي سيف الدين المذكور وعرفه صحة قصده، فصالحه ودخل الموصل في ثالث عشر جمادى الأولى، وأقر صاحبها فيها وزوجه ابنته وأعطى أخاه عماد الدين زنكي - المذكور في ترجمة جده عماد الدين زنكي (1) - سنجار، وخرج من الموصل وعاد إلى الشام ودخل حلب في شعبان من السنة المذكورة، فلما مات نور الدين وملك صلاح الدين دمشق ونزل على حلب يحاصرها سير سيف الدين المذكور جيشا مقدمه أخوه عز الدين مسعود - الآتي ذكره إن شاء الله تعالى - والتقوا عند قرون حماة، وسيأتي تفصيل ذلك هناك، فلما انكسر عز الدين مسعود تجهز سيف الدين بنفسه وخرج إلى لقائه وتصافا على تل السلطان، وهي قرية بين حلب حماة، وذلك في بكرة الخميس عاشر شوال سنة إحدى وسبعين وخمسمائة، قال العماد الأصبهاني في " البرق الشامي " زابن شداد في " سيرة صلاح الدين " (2) : إنه انكسرت ميسرة صلاح الدين بمظفر الدين ابن زين الدين، فإنه كان في ميمنة سيف الدين ثم حمل صلاح الدين بنفسه، فانهزم جيش سيف الدين وعاد إلى حلب، ثم رحل إلى الموصل، ومظفر الدين المذكور هو صاحب إربل - وترجمته في حرف الكاف - وأقام غازي في المملكة عشر سنين وشهورا، وأصابه مرض مزمن (3) وتوفي يوم الأحد ثالث صفر سنة ست وسبعين وخمسمائة، رحمه الله تعالى، وتولى بعده أخوه عز الدين مسعود - وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى - وكان مرضه السل، وطال به، وعاش مقدار ثلاثين سنة (4) .   (1) وردت ترجمة عماد الدين زنكي الشهيد في ج 2: 327 وليس فيها ذكر لما أشار إليه المؤلف هنا؛ ولعماد الدين زنكي صاحب سنجار ترجمة مستقلة رقم: 246. (2) سيرة صلاح الدين: 52. (3) لي ل ن س بر: مرض السل. (4) وكان مرضه.. سنة: سقط من لي ل ن س بر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 5 522 - (1) الملك الظاهر صاحب حلب أبو الفتح وأبو منصور غازي ابن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، الملقب الملك (2) الظاهر غياث الدين صاحب حلب، كان ملكا مهيبا حازما متيقظا كثير الاطلاع على أحوال رعيته وأخبار الملوك، عالي الهمة حسن التدبير والسياسة باسط العدل محبا للعلماء مجيزا للشعراء، أعطاه والده مملكة حلب في سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة بعد أن كانت لعمه الملك العادل، فنزل عنها وتعوض غيرها، كما قد شهر. ويحكى عن سرعة إدراكه أشياء حسنة: منها أنه جلس يوما لعرض العسكر، وديوان الجيش بين يديه، فكان كلما حضر واحد من الأجناد سأله الديوان عن اسمه لينزلوه (3) ، حتى حضر واحد فسألوه (4) فقبل الأرض، فلم يفطن أحد من أرباب الديوان لما أراد، فاودوا سؤاله، فقال الملك الظاهر: اسمه غازي، وكان كذلك، وتأدب الجندي أن يذكر اسمه لما كان موافقا لاسم السلطان، وعرف هو مقصوده، وله من هذا الجنس شيء كثير لا حاجة إلى التطويل فيه. وكانت ولادته بالقاهرة في منتصف رمضان سنة ثمان وستين وخمسمائة، وهي السنة الثانية من استقلال أبيه بمملكة الديار المصرية. وتوفي بقلعة حلب، ليلة   (1) أخباره في ذيل الروضتين: 94 ومرآة الزمان: 579 ومفرج الكروب 2: 178، 3: 237 وصفحات متفرقة من السلوك (ج: 1) ومن تاريخ ابن الأثير (ج: 12) والنجوم الزاهرة 6: 216 وعبر الذهبي 5: 46 والشذرات 5: 55. (2) الملك: سقطت من س ر. (3) ر: ليزكوه. (4) ن: فسالوه عن اسمه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 6 الثلاثاء العشرين من جمادى الآخرة، سنة ثلاث عشرة وستمائة، ودفن بالقلعة، ثم بنى الطواشي شهاب الدين طغريل الخادم اتابك ولده الملك العزيز مدرسة تحت القلعة وعمر فيها تربة ونقله إليها، رحمه الله تعالى. والعجب أنه دخل حلب مالكا لها في الشهر بعينه واليوم من سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة. ورثاه شاعره الشرف راجح بن إسماعيل بن أبي القاسم الأسدي الحلي (1) ، وكنيته أبو الوفاء، بهذه القصيدة، ومدح ولديه السلطان الملك العزيز محمدا وأخاه الملك الصالح صاحب عين تاب، وما أقصر فيها، وهي: سل الخطب إن أصغى إلى من يخاطبه ... بمن علقت أنيابه ومخالبه نشدتك عاتبع على نائباته ... وإن كان نائي السمع عمن يعاتبه لي الله كم أرمي بطرفي ضلالة ... إلى أفق مجد قد تهاوت كواكبه فما لي أرى الشهباء قد حال صبحها ... علي دجى لا تستنير غياهبه أحقا حمى الغازي الغياث بن يوسف ... أبيح وعادت خائبات مواكبه نعم كورت شمس المدائح وانطوت ... سماء العلا والنجح ضاقت مذاهبه فمن مخبري عن ذلك الطود هل وهت ... قواعده أم لان للخطب جانبه أجل ضعضعت بعد الثبات وزعزعت ... بريح المنايا العاصفات مناكبه وغيض ذاك البحر من بعد ما طمت ... وطمت لغيبان (2) البلاد غواربه فشلت يمين الخطب أي مهند ... برغم العلا سلت وفلت مضاربه لئن حبس الغيث الغياثي قطره ... فقد سحبت في كل قطر سحائبه فأنى يلذ العيش بعد ابن يوسف ... أبو أمل أكدت عليه مطالبه فلا أدركت نيل المنى طالباته ... ولا بركت في أرض يمن (3) ركائبه   (1) انظر ترجمة راجح الحلي في الفوات 1: 318 والشذرات 5: 123 والنجوم الزاهرة 6: 275. (2) الغيبان: بتخفيف الباء هنا وقد تشدد، ما لم تصبه الشمس من النبات. وفي ر: الغيبات، وقد خطأه صاحب التاج. (3) في هامش المسودة: خ: أمن؛ وكذلك وردت في لي ن ل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 7 ولا انتجعت إلا معبس حقبة ... من الجدب لا تثني عليه حقائبه مضى من أقام الناس في ظل عدله ... وآمن من خطب تدب (1) عقاربه فكم من حمى صعب أباحت سيوفه ... ومن مستباح قد حمته كتائبه أرى اليوم دست الملك أصبح خاليا ... أما فيكم من مخبر أين صاحبه فمن سائلي عن سائل الدمع لم جرى ... لعل فؤادي بالوجيب يجاوبه فكم من ندوب في قلوب نضيجة (2) ... بنار كروب أججتها نوادبه أيسلم لم تحطم صدور رماحه ... بذب ولم تثلم بضرب قواضبه ولا اصطدمت عند الحتوف (3) كماته ... ولا ازدحمت بين الصفوف جنائبه ولا سيم أخذ الثار يوم كريهة ... تشق مثار النقع فيها سلاهبه فيا ملبسي ثوبا من الحزن مسبلا ... أيحسن بي أن التسلي سالبه خدمتك، روض المجد تضفو ظلاله (4) ... علي، وحوض الجود تصفو مشاربه وقد كنت تدنيني وترفع مجلسي ... لمفروض مدح ما تعداك واجبه فما بال إذني قد تمادى ولم يكن ... إذا جئت يثنيني عن الباب حاجبه أرى الشمس أخفت يوم فقدك نورها ... فلا كان يوم كاسف الوجه شاحبه فكيف نبا سيف اعتزامك أو كبا ... جواد من الحزم الذي أنت راكبه فمن لليتامى يا غياث يغيثهم ... إذا الغيث (5) لم ينقع صدى العام ساكبه ومن لملوك كنت ظلا عليهم ... ظليلا إذا ما الدهر نابت نوائبه أيا تاركي ألقى العدو مسالما ... متى ساءني بالجد قمت ألاعبه سقت قبرك الغر الغوادي وجاده ... من الغيث سارية الملث وساربه   (1) س: وآمن خطباً أن تدب. (2) ر: صحيحة. (3) ر: الحروب. (4) لي: يصفو جلاله. (5) ر: الغيم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 8 فإن يك نور من شهابك قد خبا ... فيا طالما جلى دجى الليل ثاقبه فقد لاح بالملك العزيز محمد ... صباح هدى كنا زمانا نراقبه فتى لم يفته من أبيه وجده ... إباء وجد غالبا من يغالبه ومن كان في المسعى أبوه دليله ... تدانى له الشأو الذي هو طاله وبالصالح استعلى صلاح رعية ... لها منه رعي ليس يقلع راتبه فحسب الورى من أحمد ومحمد ... مليكان من عاداهما ذل جانبه فما أحرزا علياء غازي بن يوسف ... وما ضيعا المجد الذي هو كاسبه فأفق الورى لولاهما كان أظلمت ... مشارقه من بعده ومغاربه سيحمي على رغم الليالي حماهما ... عوالي قنا تردى الأسود ثعالبه فكم من ملم جل موقع خطبه ... فساءت مباديه وسرت عواقبه فيا قمري سعد أطلا على الدجى ... فولى وما ألوى على الأرض (1) هاربه أيمكث في الشهباء عبد أبيكما ... ومادحه أم تستقل نجائبه فإن شئتما بعد الغياث أغثتما ... مصاب سهام فوقتها مصائبه كأن لم أقف أجلو التهاني أمامه ... وتضحك في وجه الأماني مواهبه (2) فهنيتما ما نلتما وبقيتما ... لإعلاء ملك ساميات مراتبه وهذه القصيدة مع جودتها فيها مواضع مأخوذة من مرثية الفقيه عمارة اليمني للصالح بن رزيك، وبعضها مذكور في ترجمة الصالح، وكأنه قد نسج على منوالها، فإنها على وزنها وإن كان حرف الروي مختلفا، فقد استعمل هاء الوصل كما استعمله عمارة، والظاهر أنه كان قد وقف عليها فقصد مضاهاتها (3) . (145) وقام بالأمر ومملكة حلب من بعده: ولده الملك العزيز غياث الدين أبو المظفر محمد ابن الملك الظاهر، ومولده يوم الخميس خامس ذي الحجة   (1) س: الأفق، وفي الحاشية: خ: الأرض. وقد سقط البيت من لي. (2) هنا تنتهي الترجمة في م بعد حذف كثير من أبيات القصيدة. (3) هنا تنتهي الترجمة في بر س ل ن لي بعد ذكر ترجمة راجح الحلي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 9 سنة عشر وستمائة بقلعة حلب، وتوفي يوم الأربعاء رابع شهر ربيع الأول سنة أربع وثلاثين وستمائة، وكنت بحلب في ذلك الوقت، وذفن بالقلعة. (146) وترتب مكانه ولده الملك الناصر صلاح الدين أبو المظفر يوسف ابن الملك العزيز، واتسعت مملكته، فإنه ملك عدة بلاد من الجزيرة الفراتية لما كسر الخوارزمية، وكان مقدم جيشه الملك المنصور صاحب حمص، وذلك في أواخر سنة إحدى وأربعين أو أوائل سنة اثنتين وأربعين، ثم ملك دمشق والبلاد الشامية يوم الأحد سابع عشر ربيع الآخر سنة ثمان وأربعين وستمائة، ومولده بقلعة حلب في تاسع عشر رمضان سنة سبع وعشرين وستمائة، وقصده التتر وملكوا الشام، فخرج من دمشق في صفر سنة ثمان وخمسين، وقتل في الثالث والعشرين من شوال سنة ثمان وخمسين بالقرب من المراغة من أعمال أذربيجان على ما نقل الناقل، والله أعلم، وقصته مشهورة. (147) وتوفي عمه الملك الصالح صلاح الدين أحمد ابن الملك الظاهر صاحب عين تاب في شعبان سنة إحدى وخمسين وستمائة، وكانت ولادته في صفر سنة ستمائة بحلب، ومات بعين تاب، رحمهم الله تعالى أجمعين. وإنما قدموا العزيز وهو الأصغر على أخيه الصالح لأن أمه صفية خاتون بنت الملك العادل بن أيوب، فقدموه في الملك لأجل جده وأخواله اولاد العادل، وأما الصالح فإن أمه جارية. (148) وتوفي الشرف الحلي المذكور في ليلة السابع والعشرين من شعبان سنة سبع وعشرين وستمائة بدمشق، رحمه الله تعالى، ودفن بظاهرها في جوار مسجد النارنج شرقي مصلى العيد، ومولده في منتصف شهر ربيع الآخر سنة سبعين وخمسمائة بالحلة، وهو من مشاهير شعراء عصره. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 10 523 - (1) ذو الرمة أبو الحارث غيلان بن عقبة بن بهيش (2) بن مسعود بن حارثة بن عمرو بن ربيعة بن ساعدة بن كعب بن عوف بن ربيعة بن ملكان بن عدي بن عبد مناة ابن أد بن طانجة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، الشاعر المشهور المعروف بذي الرمة، أحد فحولة الشعراء، ويقال إنه كان ينشد شعره في سوق الإبل، فجاء الفرزدق فوقف عليه، فقال له ذو الرمة: كيف ترى ما تسمع يا أبا فراس فقال: ما أحسن ما تقول! قال: فما لي لا أذكر مع الفحول قال: قصر بك عن غايتهم بكاؤك في الدمن، وصفتك للأبعار والعطن. وهو أحد عشاق العرب المشهورين بذلك، وصاحبته مية ابنة مقاتل بن طلبة (3) بن قيس بن عاصم المنقري، وقيس بن عاصم هو الذي قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفد بني تميم فأكرمه، وقال له: أنت سيد أهل الوبر، وقال أبو عبيد البكري (4) : هي مية بنت عاصم بن طلبة بن قيس بن عاصم، والله أعلم بالصواب. وكان ذو الرمة كثير التشبيب بها في شعره، وإياهما عنى أبوتمام الطائي بقوله في قصيدته البائية: ما ربع مية معمورا يطيف به ... غيلان أبهى ربا من ربعها الخرب   (1) ترجمته في طبقات ابن سلام: 465 والشعر والشعراء: 437 والأغاني 17: 304 والموشح: 170 وسمط اللآلي: 81 والشريشي 2: 53 وتزيين الأسواق 1: 88 والعيني 1: 412 وشرح شواهد المغني: 52 ومعاهد التنصيص 3: 260 والخزانة 1: 50. (2) كذا في المسودة، واضطراب في سائر النسخ، وفي س: نهيس وكذلك ورد في السمط. (3) وضع فتحة وكسرة على اللام في المسودة وكتب فوق الكلمة " معاً ". (4) السمط: 82. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 11 وقال ابن قتيبة في كتاب " طبقات الشعراء " (1) : قال أبو ضرار الغنوي (2) : رأيت مية وإذا معها بنون لها، فقلت: صفها لي، قال: مسنونة الوجه طويلة الخد شماء الأنف، عليها وسم جمال، قلت: أكانت تنشدك شيئا مما قال فيها ذو الرمة قال: نعم. ومكثت مية زمانا تسمع شعر ذي الرمة ولاتراه، فجعلت لله تعالى عليها أن تنحر بدنة يوم تراه، فلما رأته رأت رجلا دميما أسود، وكانت من أهل الجمال، فقالت: واسوأتاه، وابؤساه! فقال ذو الرمة (3) : على وجه مي مسحة من ملاحة ... وتحت الثياب العار لو كان باديا ألم تر أن الماء يخبث طعمه ... وإن كان لون الماء أبيض صافيا فواضيعة الشعر الذي لج فانقضى ... بمي ولم أملك ضلال فؤاديا [ويروى أن ذا الرمة لم ير مية قط إلا في برقع، فأحب أن ينظر إلى وجهها فقال: جزى الله البراقع من ثياب ... عن الفتيان شرا ما بقينا يوارين الملاح فلا نراها ... ويخفين القباح فيزدهينا فنزعت البرقع عن وجهها، وكانت باهرة الحسن، فلما رآها مسفرة قال: على وجه مية مسحة من ملاحة ... البيت المقدم، فنزعت ثيابها وقامت عريانة، فقال: ألم تر أن الماء يخبث طعمه ... البيت المذكور، فقالت له: أتحب أن تذوق طعمه قال: إي والله، فقالت   (1) الشعر والشعراء: 439. (2) الشعر والشعراء: أبو سوار الغنوي. (3) أكثر المصادر على أن هذه الأبيات موضوعة على لسان ذي الرمة (انظر مثلاً الأغاني: 327) والمؤلف ينقل هنا عن ابن قتيبة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 12 له: تذوق الموت قبل أن تذوقه، والله أعلم] (1) . ومن شعره السائر فيها (2) : إذا هبت الأرواح من نحو جانب ... به أهل مي هاج قلبي هبوبها هوى تذرف العينان منه وإنما ... هوى كل نفس حيث كان (3) حبيبها وكان (4) ذو الرمة يشبب (5) بخرقاء أيضا، وهي من بني البكاء بن عامر بن صعصعة وسبب تشبيبه بها أنه مر في سفر ببعض البوادي، فإذا خرقاء خاجة من خباء، فنظر إليها فوقعت في قلبه، فخرق إداوته ودنا منها يستطعم كلامها، فقال: إني رجل على ظهر سفر، وقد تخرقت إداوتي، فأصلحيها لي، فقالت: والله ما احسن العمل وإني لخرقاء، والخرقاء التي لا تعمل شغلا لكرامتها على أهلها، فشبب بها ذو الرمة وسماها خرقاء، وإياها عنى بقوله وهو في غاية المبالغة (6) : وما شنتا خرقاء واهيتا الكلى ... سقى بها ساق ولم يتبللا بأضيع من عينيك للدمع كلما ... تذكرت ربعا أو توهمت منزلا وقال المفضل الضبي (7) : كنت أنزل على بعض الأعراب إذا حججت، فقال لي يوما: هل لك أن أريك خرقاء صاحبة ذي الرمة فقلت له: إنن فعلت فقد بررتني، فتوجهنا جميعا نريدها، فعدل بي عن الطريق بقدر ميل، ثم أتينا   (1) انفردت ر بما وضعناه بين معقفين. (2) ديوانه: 66 - 67. (3) ر والمختار: حيث حل. (4) يتابع المؤلف النقل عن ابن قتيبة. (5) و: تشبب. (6) أدرج البيتان في ملحقات الديوان: 671 وقول المؤلف إن الشاعر عنى صاحبته خرقاء بهذين البيتين من التأويل الذي لا داعي له. (7) الشعر والشعراء: 440. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 13 أبيات شعر، فاستفتح بيتا ففتح له، وخرجت علينا امرأة طويلة حسانة بها قوة، والحسانة أشد حسنا من الحسناء، فسلمت وجلست وتحدثنا ساعة، ثم قالت لي: هل حججت قط: قلت: غير مرة، قالت: فما منعك من زيارتي، أما علمت أني منسك (1) من مناسك الحج قلت: وكيف ذلك قالت: أما سمعت قول ذي الرمة (2) : تمام الحج أن تقف المطايا ... على خرقاء واضعة اللثام وكان ذو الرمة كثير المديح لبلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، وفيه يقول مخاطبا ناقته صيدح، وهذا الاسم علم عليها: إذا ابن أبي موسى بلالا بلغته ... فقام بفأس بين وصليك جازر وقد أخذ هذا المعنى من قول الشماخ في عرابة الأوسي رضي الله عنه، وهو أيضا يخاطب ناقته من جملة أبيات: إذا بلغتني وحملت رحلي ... عرابة فاشرقي بدم الوتين وجاء بعدهما أبو نواس (3) فكشف عن هذا المعنى وأوضحه بقوله في الأمين محمد بن هارون الرشيد: وإذا المطي بنا بلغن محمدا ... فظهورهن على الرجال حرام حتى قال بعض العلماء، ولا أستحضر الآن من هو القائل، لما وقف على بين أبي نواس: هذا المعنى والله الذي كانت العرب تحوم حوله فتخطئه ولا تصيبه فقال الشماخ كذا، وقال ذو الرمة كذا، وأنشد بيتيهما المذكورين، وما أبانه إلا أبو نواس بهذا البيت، وهو في نهاية الحسن. والأصل في هذا المعنى (4)   (1) وضع على السين في المسودة فتحة وكسرة وكتب فوقها " معاً ". (2) ديوانه (الملحقات) : 673. (3) ن: أبو نواس بعدهما. (4) س: البيت. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 14 قول الأنصارية المأسورة بمكة، وكانت قد نجت على ناقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما وصلت إليه قالت: يا رسول الله، إني نذرت إن نجوت عليها أن أنحرها، فقال رسول الله صلىالله عليه وسلم لبئس ما جزيتها. وتفسير هذا المعنى: إني لست أحتاج أن أرحل إلى غيرك، فقد كفيتني وأغنيتني، إلا أن الشماخ وعد ناقته بالذبح، وذا الرمة دعا عليها أيضا بالذبح، وأبو نواس حرم الركوب على ظهرها وأراحها من الكد في الأسفار، فهو أتم في المقصود، لكونه أحسن إليها في قبالة إحسانها إليه، حيث أوصلته إلى الممدوح. وكان لذي الرمة إخوة: هشام وأوفى (1) ومسعود، فمات أوفى ثم مات ذو الرمة بعدة، فقال مسعود يرثيهما - هكذا قال ابن قتيبة، وقال في الحماسة في المراثي خلاف هذا، والله أعلم بالصواب - والأبيات التي قالها مسعود: تعزيت عن أوفى بغيلان بعده ... عزاء وجفن العين ملآن مترع ولم ينسني أوفى المصيبات بعده ... ولكن نكء القرح بالقرح أوجع وهي من جملة أبيات، وهذا مسعود هو الذي أشار إليه أبو تمام بقوله: إن كان مسعود سقى أطلالهم ... سبل الشؤون فلست من مسعود قال أبو القاسم الآمدي صاحب كتاب الموازنة بين الطائيين في الكلام على هذا البيت: هذا مسعود أخو ذي الرمة، وكان يلوم أخاه ذا الرمة على بكائه الطلول، حتى قال فيه ذو الرمة (2) : عشية مسعود يقول وقد جرى ... على لحيي من واكف الدمع قاطر أفي الدار تبكي إذ بكيت صبابة ... وأنت امرؤ قد حلمتك العشائر   (1) ذكر أبو الفرج أوفى بن دلهم وقال إنه ابن عم لذي الرمة ومسعود، وكذلك قال التبريزي في شرح الحماسة وغيره، والأبيات في الحماسة منسوبة لهشام أخي ذي الرمة لا لمسعود (انظر شرح المرزوقي: 793) وانظر تحقيق الأستاذ محمود شاكر هذا الخلاف في هامش ابن سلام: 480. (2) ديوان ذي الرمة: 240. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 15 فكأن أبا تمام يقول: إن كان مسعود قد رجع عن ذلك المذهب وصار يبكي على الطلول فلست منه، وهذا أبلغ في التبري منه مما إذا كان هذا شأنه، فصار كقول القائل: إن كان حاتم قد بخل أو السموأل قد غدر فلست منهما، وهذا أبلغ من قوله: إن كان البخيل قد بخل والغادر قد غدر فلست منهما، وهذا حاصل ما قاله الآمدي، وإن كان بغير هذه العبارة (1) . وأخبار ذي الرمة كثيرة، والاختصار أولى. وكانت وفاته سنة سبع عشرة ومائة، رحمه الله تعالى، ولما حضرته الوفاة قال: أنا ابن نصف الهرم، أنا ابن أربعين سنة، وأنشد (2) : يا قابض الروح عن نفسي إذا احتضرت ... وغافر الذنب زحزحني عن النار وغافر الذنب زحزحني عن النار ... وإنما قيل له ذو الرمة بقوله في الوتد (3) : أشعث باقي رمة التقليد ... والرمة - بضم الراء - الحبل البالي، وبكسرها العظم البالي. وقال أبو عمرو بن العلاء: ختم الشعر بذي الرمة والرجز برؤبة بن العجاج (4) ، فقيل له: إن رؤبة حي، فقال: نعم، ولكن ذهب شعره كما ذهب مطعمه وملبسه ومنكحه، فقيل له: فهؤلاء الآخرون فقال: مرقعون مهدمون، إنما هم كل على غيرهم (5) .   (1) قد وردت صورة من هذا الخبر ومعها نقل عن الآمدي في ترجمة أبي تمام (2: 11) مختلف عن المثبت هنا، والذي أورده هنا رغم أنه منقول بالمعنى أقرب إلى ما جاء في الموازنة؛ قلت: والذي ذكر في ترجمة أبي تمام هنالك من زيادات بعض النسخ وليس هناك ما يدل على أن له وجوداً في مسودة المؤلف. (2) ملحقات الديوان: 667. (3) الديوان: 155. (4) في المختار: افتتح الشعر بامرئ القيس وختم بذي الرمة؛ وهنا تنتهي الترجمة في م. (5) عند هذا الحد ينتهي القسم الأول الموجود من مسودة المؤلف، وبه تنتهي الترجمة في بر والنسخ الأخرى ما عدا ر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 16 [وقال أبو عمرو، قال جرير: لو خرس ذو الرمة بعد قوله قصيدته التي أولها: ما بال عينيك منها الماء ينسكب ... كان أشعر الناس، وقال أبو عمرو: سمعت ذا الرمة يقول: إذا نزل بنا نازل قلنا له: الحليب أحب إليك أم المخيض فإن قال المخيض، قلنا: عبد من أنت: وإن قال الحليب، قلنا: ابن من أنت وقال أبو عمرو: شعر ذي الرمة نقط عروس يضمحل عن قليل، وأبعار ظباء لها شم في أول رائحة، ثم يعود إلى البعر. وبالجملة فقد كان من مشاهير الشعراء في عصره، وذوي التقدم في النظم في دهره، رحمه الله تعالى. وذكر محمد بن جعفر بن سهل الخرائطي في كتاب - اعتلال القلوب - عن محمد ابن سلمة الضبي قال: حججت، فلما صدرت من الحج تيممت منهلا من المناهل، وإذا بيت بناحية من الطريق، فأنخت بفنائه، فقلت: أنزل فقالت ربة البيت: نعم، فقلت: وادخل قالت: أجل، فدخلت فإذا بجارية أحسن من الشمس، فجلست أحدثها وكأن الدر ينثر من فيها، فبينا أنا كذلك إذ خرجت عجوز مؤتزرة بعباءة مشتملة باخرى، فقالت: يا عبد الله، ما جلوسك هاهنا عند هذا الغزال النجدي الذي لا تأمن حباله، ولا ترجو نواله فقالت لها الجارية: أي جدة دعيه يتعلل كما قال ذو الرمة (1) : فإن لا يكن إلا تعلل ساعة ... قليلا فإني نافع لي قليلها قال: فأقمت يومي وانصرفت، وفي قلبي كجمر الغضا من حبها] (2) .   (1) ديوانه: 550. (2) انفردت ر بما بين معقفين، ومعظمه في المختار، وأكثر ما سيرد بين معقفين إنما هو مما تنفرد به ر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 17 فراغ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 18 حرف الفاء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 19 فراغ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 20 524 - (1) فاتك المجنون أبو شجاع فاتك الكبير المعروف بالمجنون، كان روميا، أخذ صغيرا هو وأخ له وأخت لهما من بلد الروم من موضع قرب حصن يعرف بذي الكلاع، فتعلم الخط بفلسطين، وهو ممن أخذه الإخشيد من سيده بالرملة كرها بلا ثمن، فأعتقه صاحبه، وكان معهم حرا في عدة المماليك، وكان كريم النفس بعيد الهمة شجاعا كثير الإقدام، ولذلك قيل له المجنون، وكان رفيق الأستاذ كافور في خدمة الإخشيد، فلما مات مخدومهما وتقرر كافور في تربية (2) ابن الإخشيد - كما سيأتي في ترجمة كافور إن شاء الله تعالى - أنف فاتك من الإقامة بمصر كيلا يكون كافور أعلى رتبة منه، ويحتاج أن يركب في خدمته، وكانت الفيوم وأعمالها إقطاعا له، فانتقل إليها واتخذها سكنا له، وهي بلاد وبيئة كثيرة الوخم، فلم يصح له بها جسم، وكان كافور يخافه ويكرمه فزعا منه وفي نفسه منه ما فيها، فاستحكمت العلة في جسم فاتك وأحوجته إلى دخول مصر للمعالجة، فدخلها وبها أبو الطيب المتنبي ضيفا للأستاذ كافور، وكان يسمع بكرم فاتك وكثرة سخائه (3) ، غير أنه لا يقدر على قصد خدمته خوفا من كافور، وفاتك يسأل عنه ويراسله بالسلام، ثم التقيا في الصحراء مصادفة من غير ميعاد، وجرى بينهما مفاوضات، فلما رجع فاتك إلى داره حمل لأبي الطيب في ساعته هدية قيمتها ألف دينار، ثم أتبعها بهدايا بعدها، فاستأذن المتنبي الأستاذ كافورا في مدحه فأذن له، فمدحه في التاسع من جمادى الآخرة سنة   (1) انظر النجوم الزاهرة 3: 329، 4: 56 وعبر الذهبي 2: 287 والشذرات 3: 5. (2) ر: خدمة. (3) ن: شجاعته. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 21 ثمان وأربعين وثلثمائة بقصيدته المشهورة التي أولها، وهي من غر القصائد (1) : لاخيل عندك تهديها ولا مال ... فليسعد النطق إن لم يسعد الحال وما أحسن قوله فيها: كفاتك ودخول الكاف منقصة ... كالشمس قلت وما للشمس أمثال ثم توفي فاتك المذكور ليلة الأحد عشاء، لإحدى عشرة ليلة خلت من شوال سنة خمسين وثلثمائة بمصر، فرثاه المتنبي، وكان قد خرج من مصر، بقصيدته التي أولها (2) : الحزن يقلق والتجمل يردع ... والدمع بينهما عصي طيع وما أرق قوله فيها: إني لأجبن من فراق أحبتي ... وتحس نفسي بالحمام فأشجع ويزيدني غضب الأعادي قسوة ... ويلم بي عتب الصديق فأجزع تصفو الحياة لجاهل أو غافل ... عما مضى منها وما يتوقع ولمن يغالط في الحقائق نفسه ... ويسومها طلب المحال فتطمع أين الذي الهرمان من بنيانه ... ما قومه ما يومه ما المصرع تتخلف الآثار عن أصحابها ... حينا فيدركها الفناء فتتبع وهي من المراثي الفائقة. ثم عمل بعد خروجه من بغداد يذكر مسيرة من مصر ويرثي فاتكا المذكور، وأنشأها يوم الثلاثاء لتسع خلون من شعبان سنة اثنتين وخمسين وثلثمائة، وأولها (3) : حتام نحن نساري النجم في الظلم ... وما سراه على خف ولا قدم   (1) ديوان المتنبي: 502. (2) ديوان المتنبي: 506. (3) ديوانه: 510 وفيه أنه أنشدها لسبع خلون من شعبان. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 22 ومنها في ذكر فاتك: لا فاتك آخر في مصر نقصده ... ولا له خلف في الناس كلهم من لا تشابهه الأحياء في شيم ... أمسى تشابهه الأموات في الرمم عدمته وكأني سرت أطلبه ... فما تزيدني الدنيا على العدم وله فيه شيء آخر (1) ، رحمه الله تعالى. 525 - (2) صاحب قلائد العقيان أبو نصر الفتح بن محمد بن عبيد الله بن خاقان بن عبد الله القيسي الإشبيلي صاحب كتاب قلائد العقيان، له عدة تصانيف منها الكتاب المذكور وقد جمع فيه من شعراء المغرب طائفة كثيرة، وتكلم على ترجمة كل واحد منهم (3) بأحسن عبارة وألطف إشارة، وله أيضا كتاب - مطمح الأنفس ومسرح التأنس في ملمح أهل الأندلس - وهو ثلاث نسخ كبرى وصغرى ووسطى، وهو كتاب كثير الفائدة، لكنه قليل الوجود في هذه البلاد، وكلامه في هذه الكتب يدل على فضله وغزارة مادته، وكان كثير الأسفار سريع التنقلات. وتوفي قتيلا سنة خمس وثلاثين وخمسمائة بمدينة مراكش في الفندق (4) .   (1) ر: اشياء أخر. (2) ترجمته في معجم شيوخ الصدفي: 300 والذيل والتكملة 5: 529 والمغرب 1: 254 ومعجم الأدباء 16: 186 ونفح الطيب 7: 29 والمسالك 11: 394 والشذرات 4: 107؛ وسقطت الترجمة من المختار. (3) ر: منهم بعينه. (4) ن: الخندق، وهو خطأ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 23 وقال الحافظ أبو الخطاب ابن دحية في كتابه الذي سماه " المطرب من أشعار أهل المغرب " (1) : " إني لقيت جماعة من أصحابه وحدثوني عنه بتصانيفه وعجائبه، وكان مخلوع (2) العذار في دنياه، لكن كلامه في تواليفه كالسحر الحلال والماء الزلال، قتل ذبحا في مسكنه بفندق (3) من حضرة مراكش صدر سنة تسع وعشرين وخمسمائة، رحمه الله تعالى، وإن الذي أشار بقتله أمير المسلمين أبو الحسن علي بن يوسف بن تاشفين " هذا كله لفظه، والله أعلم بالصواب. وأمير المسلمين المذكور هو أخو أبي إسحاق إبراهيم بن يوسف بن تاشفين الذي ألف له أبو نصر المذكور " قلائد العقيان " وقد ذكره في خطبة الكتاب. 526 - (4) الشهاب فتيان الشاغوري الشهاب فتيان بن علي بن فتيان بن ثمال (5) ، الأسدي الحريمي (6) المعروف بالشاغوري المعلم، كان فاضلا وشاعرا ماهرا، خدم الملوك ومدحهم وعلم أولادهم، وله ديوان شعر (7) فيه مقاطيع حسان، وأقام مدة بالزبداني وله فيها أشعار لطيفة، فمن ذلك قوله في جنة الزبداني، وهي أرض فيحاء جميلة المنظر تتراكم عليها الثلوج في زمن الشتاء وتنبت أنواع الأزهار في زمن الربيع، ولقد   (1) انظر المطرب: 25. (2) ر: خليع. (3) اسمه فندق لبيب، قال ابن عبد الملك: أحد فنادق مراكش الخنوية. (4) انظر مطالع البدور 1: 28 والنجوم الزاهرة 6: 226 والشذرات 3: 63 والخريدة (قسم الشام 1: 247) ومعجم البلدان (شاغور) . (5) كذا في لي ن ر، وسقطت " ثمال " من س م، والثاء غير معجمة في ل. (6) ر: الحنفي الدمشقي؛ وفي الخريدة: الخزيمي. (7) نشر ديوانه بدمشق سنة 1967. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 24 أحسن فيها كل الإحسان، وهي (1) : قد أجمد الخمر كانون بكل قدح ... وأخمد الجمر في الكانون حين قدح ياجنة الزبداني أنت مسفرة ... بحسن وجه إذا وجه الزمان كلح فالثلج قطن عليك السحب تندفه ... والجو يحلجه والقوس قوس قزح وله وقد دخل إلى حمام ماؤها شديد الحرارة، وكان قد شاخ [وكبر] (2) : أرى ماء حمامكم كالحميم ... نكابد منه عناء وبوسا وعهدي بكم تسمطون الجداء ... فما بالكم تسمطون التيوسا [ثم وجدت في كتاب الخريدة في ترجمة سعد بن إبراهيم الشيباني الاسعردي الملقب بالمجد الكاتب خمسة أبيات، قال العماد الأصبهاني صاحب " الخريدة ": أنشدنيها سعد المذكور في ذم حمام، ولم يقل إنها له، والبيت الخامس منها: وقد كان في العرف سمط الجداء ... فلم صرتم تسمطون التيوسا وقال العماد: وهو إلى سادس شهر ربيع الآخر سنة سبع وثمانين وخمسمائة مقيم بالعسكر المنصور على عكا. قلت: فقد استعمله فتيان الشاعر تضمينا، فنبهت عليه كيلا يظن أنه لفتيان] . وكان قد تعلق بخدمة الأمير بدر الدين مودود بن المبارك شحنة دمشق، وهو أخر عز الدين فروخ (3) شاه ابن أخي السلطان صلاح الدين لأمه، وكان يعلم أولاده الخط، فكتب إليه شرف الدين بن عنين: يامن تلقب ظلما بالشهاب وإن ... نافى بظلمته في أفقها الشهبا لا يغررنك من مودود دولته ... وإن تمسكت من أسبابها سببا   (1) الأبيات في ديوان فتيان: 94. (2) البيتان في ديوانه: 238؛ وزاد في المختار: وقيل إنها لغيره. (3) ن لي: فرخ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 25 فلست تنبح فيها غير واحدة ... حتى تلف على خيشومك الذنبا وهذا البيت الأخير من أبيات الحماسة وقد استعمله تضمينا، وكانت بينهما مكاتبات ومداعبات يطول شرحها. [ومولده بعد سنة ثلاثين وخمسمائة ببانياس. ومن شعره: علام تحركي والحظ ساكن ... وما نهنهت في طلب ولكن أرى نذلا تقدمه المساوي ... على حر تؤخره المحاسن وله ديوان آخر صغير جميع ما فيه دوبيت رأيته بدمشق ونقلت منه: الورد بوجنتيك زاه زاهر ... والسحر بمقلتيك واف وافر والعاشق في هواك ساه ساهر ... يوجر ويخاف فهو شاك شاكر] (1) وتوفي فتيان المذكور سحر الثاني والعشرين من المحرم سنة خمس عشرة وستماءة، ودفن بمقابر باب الصغير، رحمه الله تعالى. والشاغوري: بفتح الشين المعجمة وبعد الألف غين معجمة مضمومة ثم واو ساكنة بعدها راء، هذه النسبة إلى الشاغور، وهي عمارة بظاهر دمشق من جملة ضواحيها (2) . والزبداني: بفتح الزاي والباء الموحدة والدال المهملة وبعد الألف نون مكسورة ثم ياء مثناة من تحتها، وهي قرية بين دمشق وبعلبك كثيرة الأشجار والمياه، رأيتها مرارا، وهي في غاية الحسن والطيبة (3) .   (1) ما بين معقفين ثبت في ر، ولم أجد البيتين اللذين بقافية النون في ديوانه. (2) ر: نواحيها. (3) ر: والطيب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 26 527 - (1) الفضل بن يحيى البرمكي أبو العباس الفضل بن يحيى بن خالد بن برمك (2) البرمكي، كان من أكثرهم كرما مع كرم البرامكة وسعة جودهم، وكان أكرم من أخيه جعفر المقدم ذكره (3) ، وكان جعفر أبلغ في الرسائل والكتابة منه، وكان هارون الرشيد قد ولاه الوزارة قبل جعفر، وأراد أن ينقلها إلى جعفر فقال لأبيهما يحيى: يا أبت - وكان يدعوه يا أبت - إني أريد أن أجعل الخاتم الذي لأخي الفضل لجعفر، وكان يدعوه الفضل يا أخي، فإنهما متقاربان في المولد، وكانت أم الفضل قد أرضعت الرشيد، واسمها زبيدة من مولدات المدينة، والخيزران أم الرشيد أرضعت الفضل، فكانا أخوين من الرضاع، وفي ذلك قال مروان بن أبي حفصة يمدح الفضل: كفى لك فضلا أن أفضل حرة ... غذتك بثدي والخليفة واحد لقد زنت يحيى في المشاهد كلها ... كما زان يحيى خالدا في المشاهد قال الرشيد ليحيى (4) : وقد احتشمت من الكتاب إليه في ذلك فاكفنيه، فكتب والده إليه: قد أمر أمير المؤمنين بتحويل الخاتم من يمينك إلى شمالك فكتب إليه الفضل قد سمعت مقالة (5) أمير المؤمنين في أخي وأطعت، وما   (1) أخباره في ابن الأثير (ج: 6) والطبري والوزراء والكتاب ومروج الذهب (ج: 3) وزهر الآداب 364 وتاريخ بغداد 12: 334 والنجوم الزاهرة 2: 140 وعبر الذهبي 1: 309 والشذرات 1: 330. (2) زاد في ن: ابن يزيد. (3) ترجمة جعفر البرمكي في (ج 1: 328) . (4) والخيزران ... ليحيى: ورد في ر م والمختار. (5) ر: ما قاله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 27 انتقلت عني نعمة صارت إليه، ولا غربت عني رتبة طلعت عليه فقال جعفر: لله أخي ما أنفس نفسه، وأبين دلائل الفضل عليه، وأقوى منة العقل فيه، وأوسع في البلاغة ذرعه. وكان الرشيد قد جعل ولده محمدا في حجر الفضل بن يحيى، والمأمون في حجر جعفر، فاختص كل واحد منهما بمن في حجره، ثم إن (1) الرشيد قلد الفضل بعمل خراسان، فتوجه إليها وأقام بها مدة، فوصل كتاب صاحب البريد بخراسان إلى الرشيد ويحيى جالس بين يديه ومضمون الكتاب أن الفضل بن يحيى متشاغل بالصيد وإدمان اللذات عن النظر في أمور الرعية، فلما قرأه الرشيد رمى به إلى يحيى، وقال له: يا أبت، اقرأ هذا الكتاب واكتب إليه بما يردعه عن هذا، فكتب يحيى على ظهر كتاب صاحب البريد: حفظك الله يا بني وأمتع بك، قد انتهى إلى أمير المؤمنين مما أنت عليه من التشاغل (2) بالصيد ومداومة اللذات عن النظر في أمور الرعية ما أنكره، فعاود ما هو أزين بك، فإنه من عاد إلى ما يزينه أو يشينه لم يعرفه أهل دهره إلا به، والسلام وكتب في أسفله هذه الأبيات: انصب نهارا في طلاب العلا ... واصبر على فقد لقاء الحبيب حتى إذ الليل أتى مقبلا ... واستترت فيه وجوه العيوب فكابد اليل بما تشتهي ... فإنما الليل نهار الأريب كم من فتى تحسبه ناسكا ... يستقبل الليل بأمر عجيب غطى عليه الليل أستاره ... فبات في لهو وعيش خصيب ولذة الأحمق مكشوفة ... يسعى بها كل عدو رقيب والرشيد ينظر إلى ما يكتب (3) ، فلما فرغ قال: أبلغت يا أبت، فلما ورد   (1) وكان الرشيد ... ثم إن: ورد في ر م والمختار؛ وجاء في سائر النسخ: وكان الرشيد قد ولاه خراسان وأقام بها مدة ... الخ. (2) ر: التغافل. (3) ن: ما كتب، وسقطت من لي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 28 الكتاب على الفضل لم يفارق المسجد نهارا إلى أن انصرف من عمله (1) . ومن مناقبه أنه لما تولى (2) خراسان دخل إلى بلخ وهو وطنهم، وبها النوبهار وهو بيت النار التي كانت المجوس تعبدها، وكان جدهم برمك خادم ذلك البيت - حسبما هو مشروح في ترجمة جعفر - فأراد الفضل هدم ذلك البيت، فلم يقدر عليه لإحكام بنائه، فهدم منه ناحية وبنى فيها مسجدا. وذكر الجهشياري في - أخبار الوزراء (3) - أن الرشيد ولى جعفر بن يحيى الغرب كله من الأنبار إلى أفريقية في سنة ست وسبعين ومائة، وقلد الضل الشرق كله من شروان (4) إلى أقصى بلاد الترك، فأقام جعفر بمصر (5) واستخلف على عمله، وشخص الفضل إلى عمله في سنة ثمان وسبعين، فلما وصل إلى خراسان أزال سيرة الجور، وبنى المساجد والحياض والربط وأحرق دفاتر البقايا (6) وزاد الجند، ووصل الزوار والقواد والكتاب في سنة تسع بعشرة آلاف درهم، واستخلف على عمله، وشخص في آخر هذه السنة إلى العراق، فتلقاه الرشيد وجمع له الناس وأكرمه غاية الإكرام، وأمر الشعراء بمدحه والخطباء بذكر فضله، فكثر المادحون له، ومدحه إسحاق بن إبراهيم الموصلي بأبيات منها: لو كان بيني وبين الفضل معرفة ... فضل بن يحيى لأعداني على الزمن هو الفتى الماجد الميمون طائره ... والمشتري الحمد بالغالي من الثمن وكان أبو الهول الحميري (7) قد هجا الفضل، ثم أتاه راغبا إليه، فقال له:   (1) راجع هذه القصة المتقدمة في سرور النفس للتيفاشي، الورقة: 45 - 46. (2) ر: ولي. (3) الجهشياري: 190. (4) الجهشياري: النهروان. (5) الجهشياري: بحضرة الرشيد. (6) هكذا في المطبوعة والجهشياري، ولعل المعنى: الدفاتر التي تحتوي بقايا مستحقة من الضرائب، وفي المختار: مراكز البقايا، وفي ر: مراكز البغايا. (7) انظر طبقات ابن المعتز: 153 وتاريخ بغداد 12: 273. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 29 ويلك! بأي وجه تلقاني فقال: بالوجه الذي ألقى به الله عز وجل وذنوبي إليه أكثر من ذنوبي إليك، فضحك ووصله (1) . ومن كلامه: ماسرور الموعود بالفائدة كسروري بالإنجاز. وقيل له: ما أحسن كرمك لولا تيه فيك، فقال: تعلمت الكرم والتيه من عمارة بن حمزة (2) . فقيل له: وكيف ذلك فقال: كان أبي عاملا على بعض كور بلاد فارس، فانكسرت عليه جملة مستكثرة، فحمل إلى بغداد، وطولب بالمال، فدفع جميع ما يملكه، وبقيت عليه ثلاثة آلاف ألف درهم لا يعرف لها وجها، والطلب عليه حثيث، فبقي حائرا في أمره، وكانت بينه وبين عمارة بن حمزة منافرة ومواحشة، لكنه علم أنه ما يقدر على مساعدته إلا هو، فقال لي يوما وأنا صبي: امض إلى عمارة وسلم عليه عني وعرفه الضرورة التي قد صرنا إليها واطلب منه هذا المبلغ على سبيل القرض إلى أن يسهل الله تعالى باليسرة، فقلت له: أنت تعلم ما بينكما، وكيف أمضي إلى عدوك بهذه الرسالة وأنا أعلم أنه لو قدر على إتلافك لأتلفك فقال: لا بد أن تمضي إليه لعل الله يسخره ويوقع في قلبه الرحمة، قال الفضل: فلم يمكني معاودته (3) ، وخرجت وأنا أقدم رجلا وأؤخر (4) أخرى، حتى أتيت داره واستأذنت في الدخول عليه، فأذن لي، فلما دخلت وجدته في صدر إيوانه متكئا على مفارش وثيرة، وقد غلف سعر رأسه ولحيته بالمسك، ووجهه إلى الحائط وكان من شدة تيهه لا يقعد إلا كذلك، قال الفضل: فوقفت (5) أسفل الإيوان، وسلمت عليه فلم يرد السلام، فسلمت عليه عن أبي وقصصت عليه   (1) ومن مناقبه ... ووصله: ورد منه جزء يسير في م، وثبت جميعه في المختار والنسخة ر وسقط من سائر النسخ. (2) انظر عن عمارة بن حمزة، معجم الأدباء 15: 242 والهدايا والتحف: 143 ومواضع متفرقة من الجهشياري؛ وقصة الفضل وتشبه بعمارة في الفرج بعد الشدة 2: 65. (3) ر: مخالفته. (4) ر والمختار: مقدم ... ومؤخر. (5) ن: فمشيت إلى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 30 القصة، فسكت (1) ساعة ثم قال: حتى ننظر، فخرجت من عنده نادما على نقل خطاي إليه، موقنا بالحرمان عاتبا على أبي كونه كلفني إذلال نفسي بما لا فائدة فيه، وعزمت على أن لا أعود إليه غيظا منه، فغبت عنه ساعة ثم جئته وقد سكن ما عندي، فلما وصلت إلى الباب وجدت أبغالا محملة، فقلت: ما هذه فقيل: إن عمارة قد سير المال (2) ، فدخلت على أبي ولم أخبره بشيء مما جرى لي معه كيلا أكدر عليه إحسانه، فمكثنا قليلا، وعاد أبي إلى الولاية وحصلت له أموال كثيرة، فدفع إلي ذلك المبلغ وقال: تحمله إليه، فجئت به ودخلت عليه، فوجدته على الهيئة الأولى، فسلمت عليه فلم يرد، فسلمت عليه عن أبي وشكرت إحسانه وعرفته بوصول المال، فقال لي بحرد: ويحك أقسطارا كنت لأبيك اخرج عني لا بارك الله فيك، وهو لك، فخرجت ورددت المال إلى أبي وعجبنا من حاله، فقال لي: يا بني، والله ما تسمح نفسي لك بذلك، ولكن خذ ألف ألف درهم واترك لأبيك ألفي ألف درهم، فتعلمت منه الكرم والتيه. [وحكى الجهشياري في " أخبار الوزراء " (3) هذه الحكاية، لكن بين الحكايتين اختلاف قليل، وذكر أن جملة المال ألف ألف درهم، وكان ذلك في أيام المهدي، وكان يحيى قد ضمن فارس فانكسر عليه المال، وقال المهدي لمن يطالبه بالمال: إن أدى لك المال قبل المغرب من يومنا هذا وإلا فأتني برأسه، وكلن المهدي مغضبا عليه] (4) . والقسطار: الصيرفي (5) . وعمارة المذكور من أولاد عكرمة مولى ابن عباس، وقد تقدم ذكره، وكان   (1) ر: وسكت فسكت. (2) المختار: قد سير إلى يحيى المال. (3) الجهشياري: 197. (4) ما بين معقفين ورد في ر وحدها. (5) القسطار: تعريب للفظة اللاتينية quaestor وهو موظف كانت إليه جباية الخراج أو أمانة المال. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 31 كاتب أبي جعفر المنصور ومولاه، وكان تائها معجبا، كريما بليغا فصيحا، أعور. وكان المنصور وولده المهدي يقدمانه، ويحتملان أخلاقه لفضله وبلاغته ووجوب حقه، وولي لهما الأعمال الكبار، وله رسائل مجموعة من جملتها رسالة الخميس (1) التي تقرأ لبني العباس. ويحكى أن الفضل دخل عليه حاجبه يوما فقال له (2) : إن بالباب رجلا زعم (3) أن له سببا يمت به إليك، فقال: أدخله فإذا هو شاب حسن الوجه رث الهيئة، فسلم، فأوما إليه بالجلوس فجلس، فقال له بعد ساعة: ما حاجتك قال، أعلمتك بها رثاثة ملبسي (4) ، قال: نعم، فما الذي تمت به إلي قال: ولادة تقرب من ولادتك، وجوار يدنو من جوارك، واسم مشتق من اسمك، قال الفضل: أما الجوار فيمكن، وقد يوافق الاسم الاسم، ولكن من أعلمك بالولادة قال: أخبرتني أمي أنها لما ولدتني قيل لها: قد ولد هذه الليلة ليحيى بن خالد غلام وسمي الفضل، فسمتني أمي فضيلا إكبارا لاسمك أن تلحقني به، وصغرته لقصور قدري عن قدرك، فتبسم الفضل وقال له: كم أتى عليك من السنين قال: خمس وثلاثون سنة، قال: صدقت، هذا المقدار الذي أعد، قال: فما فعلت (5) أمك قال: ماتت، قال: فما منعك من اللحاق بنا متقدما قال: لم أرض نفسي للقائك، لأنها كانت في عامية معها حداثة تقعدني عن لقاء الملوك، وعلق هذا بقلبي منذ أعوام، فشغلت نفسي بما يصلح للقائك حتى رضيت نفسي (6) ، قال: فما تصلح له قال: الكبير من الأمر والصغير، قال: يا غلام، أعطه لكل عام مضى من سنه ألف درهم، وأعطه   (1) س ل: الجيش، ن: الحسن؛ ورسالة الخميس هذه مما احتفظ به ابن طيفور في كتابه " المنظوم والمنثور ". (2) انظر القصة في تمام المتون: 265. (3) ر: يزعم. (4) ن: حالي. (5) ر: عملت. (6) حتى ... نفسي: سقط من ر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 32 عشرة آلاف درهم يجمل بها نفسه إلى وقت استعماله (1) . وأعطاه مركوبا سريا. ثم إن الرشيد لما قتل جعفرا - على ما تقدم في ترجمته - قبض على أبيه يحيى وأخيه الفضل المذكور، وكان عنده، ثم توجه الرشيد إلى الرقة وهما معه وجميع البرامكة في التوكيل غير يحيى، فلما وصلوا إليها وجه الرشيد إلى يحيى أن أقم بالرقة أو حيث شئت، فوجه إليه (2) : إني أحب أن أكون مع ولدي، فوجه إليه: أترضى بالحبس فذكر أنه يرضى به، فحبس معهم، ووسع عليهم، ثم كانوا حينا يوسع عليهم وحينا يضيق عليهم حسبما ينقل إليه عنهم، واستصفى أموال البرامكة (3) . ويقال: إن الرشيد سير (4) مسرورا الخادم إلى السجن، فجاءه فقال للمتوكل بهما: أخرج إلي الفضل، فأخرجه، فقال له: إن أمير المؤمنين يقول لك: إني قد أمرتك أن تصدقني عن أموالكم (5) ، فزعمت أنك قد فعلت (6) ، وقد صح عندي أنك بقيت لك أموالا كثيرة (7) ، وقد أمرني إن لم تطلعني على المال أن أضربك مائتي سوط، وأرى لك أن لا تؤثر مالك على نفسك، فرفع الفضل رأسه (8) وقال: والله ما كذبت فيما أخبرت به، ولو خيرت بين الخروج من ملك الدنيا (9) وأن أضرب سوطا واحدا لاخترت الخروج، وأمير المؤمنين يعلم ذلك، وأنت تعلم أنا كنا نصون أعراضنا بأموالنا، فكيف صرنا نصون أموالنا بأنفسنا فإن كنت قد أمرت بشيء فامض له، فأخرج مسرورا أسواطا كانت معه في منديل، وضربه مائتي سوط، وتولى ضربه الخدم   (1) ن: اشتغاله. (2) ر: فأرسل. (3) تم إن الرشيد ... البرامكة: ورد هذا النص بإيجاز شديد في س بر ل ن لي. (4) ن: أرسل إليه. (5) ر س: أموالك. (6) ر: صدقت. (7) ن لي والمختار: مالا كثيراً. (8) ر بر: رأسه إليه. (9) ن: أن أخرج من الدنيا؛ ر: مال الدنيا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 33 فضربوه أشد الضرب، وهم لا يحسنون (1) الضرب، فكادوا أن يتلفوه، وتركوه. وكان هناك رجل بصير بالعلاج فطلبوه لمعالجته، فلما رآه قال: يكون قد ضربوه خمسين سوطا، فقيل: بل مائتي سوط، فقال: ما هذا إلا أثر خمسين سوطا لا غير، ولكن يحتاج أن ينام على ظهره على بارية وأدوس صدره، فجزع الفضل من ذلك ثم أجاب إليه، فألقاه على ظهره وداسه، ثم أخذ بيده وجذبه عن البارية، فتعلق بها من لحم ظهره شيء كثير، ثم أقبل يعالجه، إلى أن نظر يوما إلى ظهره، فخر المعالج ساجدا لله تعالى، فقيل له: ما بالك فقال: قد برئ وقد نبت في ظهره لحم حي، ثم قال: ألست قلت هذا ضرب خمسين سوما، أما والله لو ضرب ألف سوط ما كان أثرها بأشد من هذا الأثر، وإنما قلت ذلك حتى تقوى نفسه (2) فيعينني على علاجه (3) . ثم إن الفضل اقترض من بعض أصحابه عشرة آلاف درهم (4) وسيرها له (5) ، فردها عليه، فاعتقد أنع قد استقلها، فقترض عليها عشرة آلاف أخرى وسيرها فأبى أن يقبلها وقال: ما كنت لآخذ على معالجة فتى من الكرام كراء، والله لو كانت عشرين ألف دينار ما قبلتها، فلما بلغ ذلك الفضل قال: والله إن الذي فعله هذا أبلغ من الذي فعلناه في جميع أيامنا من المكارم، وكان قد بلغه ان ذلك المعالج كان في شدة وضائقة. وكان الفضل ينشد وهو في السجن هذه الأبيات، وأظنها لأبي العتاهية، ثم وجدتها لصالح بن عبد القدوس من جملة أبيات قالها وهو محبوس، وقيل إنها لعلي بن الخليل، وكان هو وصالح المذكور يتهمان بالزندقة، فحبسهما الخليفة المهدي بن المنصور، فقال هذه الأبيات (6) :   (1) ل: يحسبون. (2) لي: يقوى على نفسه. (3) لي: معالجته. (4) ر: درهم أخرى. (5) ن: وأرسلها إليه. (6) ثم وجدتها ... الأبيات: سقط من س ل لي بر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 34 إلى الله فيما نالنا نرفع الشكوى ... ففي يده كشف المضرة والبلوى خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها ... فلا نحن في الأموات فيها ولا الأحيا إذا جاءنا السجان يوما لحاجة ... عجبنا وقلنا: جاء هذا من الدنيا (1) وقد مدح البرامكة جميع شعراء عصرهم، فمن ذلك قول مروان بن أبي حفصة، وقيل إنها لأبي الحجناء في الفضل المذكور: عند الملوك منافع ومضرة ... وأرى البرامك لا تضر وتنفع إن كان شر كان غيرهم له ... والخير منسوب إليهم أجمع وإذا جهلت من امرئ أعراقه ... وقديمه فانظر إلى ما يصنع إن العروق إذا استسر بها الندى ... أشب (2) النبات بها وطاب المزرع وغضب الرشيد على العتابي فشفع له الفضل فرضي عنه، فقال: ما زلت في غمرات الموت مطرحا ... يضيق عني وسيع الرأي والحيل فلم تزل دائما تسعى بلطفك لي ... حتى اختلست حياتي من يدي اجلي ومدحه أبو نواس بقصائد، قال في بعضها: سأشكو إلى الفضل بن يحيى بن خالد ... هواك لعل الفضل يجمع بيننا فقيل له: قد أسأت المقال في المخاطبة بهذا القول، فقال: أردت جمع تفضل لا جمع توصل، وتبعه المتنبي بقوله: عل الأمير يرى ذلي فيشفع لي ... إلى التي صيرتني في الهوى مثلا وعمل فيه بعض الشعراء بيتا واحدا وهو: ما لقينا من جود فضل بن يحيى ... ترك الناس كلهم شعراء   (1) هذا البيت متقدم على الذي قبله في ر. (2) ر: أشر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 35 فاستحسنوا منه ذلك وعابوا عليه كونه مفردا، فقال [أبو] العذافير ورد ابن سعد العمى (1) : علم المفحمين أن ينظموا الأش ... عار منا والباخلين السخاء فاستحسنوا منه ذلك. وكان الفضل كثير البر بأبيه، وكان أبوه يتأذى من استعمال الماء البارد في زمن الشتاء. فيحكى أنهما لما كانا في السجن لم يقدرا على تسخين الماء، فكان الفضل ياخذ الإبريق النحاس وفيه الماء فيلصقه إلى بطنه زمانا عساه تنكسر برودته بحرارة بطنه حتى يستعمله أبوه بعد ذلك. واخباره كثيرة. وكانت ولادته لسبع بقين من ذي الحجة سنة سبع (2) وأربعين ومائة [وذكر الطبري في تاريخه في أول خلافة هارون الرشيد أن مولد الفضل بن يحيى سنة ثمان وأربعين، والله أعلم] (3) . وتوفي بالسجن سنة ثلاث وتسعين ومائة في المحرم غداذ جمعة بالرقة، وقيل إنه توفي في شهر رمضان سنة اثنتين وتسعين ومائة، رحمه الله تعالى. ولما بلغ الرشيد موته قال: أمري قريب من أمره، وكذا كان، فإنه توفي بطوس سنة ثلاث وتسعين ومائة ليلة السبت لثلاث خلون من جمادى الآخرة، وقيل النصف منه، وقيل ليلة الخميس النصف من جمادى الأولى، وقال ابن اللبان الفرضي: في شهر ربيع الآخر، مع اتفاقهم على السنة وقد تقدم أنه كان قرينه في الولادة أيضا [وترتب في الخلافة ولده المين محمد والمأمون صاحب خراسان] .   (1) م: العذافر بن ورد بن سعد القمي وكذلك في المختار بإسقاط " بن سعد " وفي ر: العذافر بن ورد التيمي، وفي أصول البيان 1: 142 العذافر الكندي، وذكره المرزباني (الموشح: 185 والمعجم 512) بكنيته: (أبو العذافر الكندي) وكذلك ذكره البكري (السمط: 696 - 697) والخبر الذي أورده المؤلف منقول عن الجهشياري: 195 وفيه: أبو العذافر ورد بن سعد التيمي، وهو شاعر ترجم له ابن الجراح في الورقة: 3 وكان قد صحب علي بن عيسى بن ماهان إلى خراسان ثم اتصل بالفضل بن يحيى. (2) هامش المختار: وقيل ثمان. (3) ما بين معقفين انفردت به ر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 36 528 - (1) الفضل بن الربيع أبو العباس الفضل بن الربيع بن يونس بن محمد بن عبد الله بن أبي فروة، واسمه كيسان، مولى عثمان بن عفان، رضي الله عنه، وقد تقدم ذكر أبيه في حرف الراء وشيء من أخباره مع المنصور أبي جعفر، فلما آل الأمر إلى الرشيد واستوزر البرامكة، كان الفضل بن الربيع يروم التشبه بهم ومعارضتهم، ولم يكن له من القدرة ما يدرك به اللحاق بهم (2) ، فكان في نفسه منهم إحن وشحناء، قال عبيد الله بن سليمان بن وهب: إذا أراد الله تعالى هلاك قوم وزوال نعمتهم جعل لذلك أسبابا، فمن أسباب زوال أمر البرامكة تقصيرهم بالفضل بن الربيع وسعي الفضل بهم وتمكنه من المجالسة مع الرشيد (3) فأوغر قلبه عليهم ومالأه على ذلك كاتبهم إسماعيل بن صبيح (4) حتى كان ما كان. ويحكى أن الفضل المذكور دخل يوما على يحيى بن خالد البرمكي، وقد جلس لقضاء حوائج الناس، وبين يديه ولده جعفر يوقع في القصص، فعرض الفضل عليه عشر رقاع للناس، فتعلل يحيى في كل رقعة بعلة ةلم يوقع في شيء منها   (1) أخباره وترجمته في تاريخ بغداد 12: 343 ومعجم المرزباني: 182 ومواضع متفرقة من الوزراء والكتاب والكامل لابن الأثير (ج: 6) والنجوم الزاهرة 2: 185 وزهر الآداب: 541، 545 وعبر الذهبي 1: 355 والشذرات 2: 20 والبداية والنهاية 10: 263 وإعتاب الكتاب: 99، وهذه الترجمة كما أثبتناها وردت في ر والمختار وهي موجزة في سائر النسخ. (2) ر: لحاقهم. (3) المختار: وتمكن بالمجالسة من الرشيد. (4) تجد أخبار إسماعيل في صفحات متفرقة من " الوزراء والكتاب " للجهشياري وإعتاب الكتاب: 102. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 37 ألبتة، فجمع الفضل الرقاع وقال: ارجعن خائبات خاسئات (1) ، ثم خرج وهو يقول: عسى وعسى (2) يثني الزمان عنانه ... بتصريف حال والزمان عثور فتقضى لبانات وتشفى حسائف ... وتحدث من بعد الأمور أمور فسمعه يحيى وهو ينشد ذلك، فقال له: عزمت عليك يا أبا العباس إلا رجعت، فرجع فوقع له في جميع الرقاع. ثم ما كان إلا القليل حتى نكبوا على يده وتولى بعدهم وزارة الرشيد، وفي ذلك يقول أبو نواس وقيل أبو حزرة (3) : ما رعى الدهر آل برمك لما ... أن رمى ملكهم بأمر فظيع إن دهرا لم يرع عهدا ليحيى ... غير راع ذمام آل الربيع وتنازع يوما جعفر بن يحيى والفضل بن الربيع بحضرة الرشيد، فقال جعفر للفضل: يا لقيط، إشارة إلى ما كان يقال عن أبيه الربيع: إنه لا يعرف نسبه وأبوه، حسبما ذكرناه في ترجمته، فقال الفضل: اشهد يا أمير المؤمنين، فقال جعفر للرشيد: تراه عند من يقيمك هذا الجاهل شاهدا يا أمير المؤمنين، وأنت حاكم الحكام. ومات الرشيد والفضل مستمر على وزارته [وكان في صحبة الرشيد، فقرر الأمور للأمين محمد بن الرشيد، ولم يعرج على المأمون وهو بخراسان، ولا التفت إليه، فعزم المأمون على إرسال طائفة من عسكره لأن يعترضوه في طريقه لما انفصل عن موضع وفاة الرشيد، وهو طوس حسبما ذكرته في ترجمة الفضل ابن يحيى البرنمي، فأشار عليه وزيره الفضل بن سهل أن لا يعترض له، وخاف عاقبته.   (1) ر: خاسرات. (2) في س كتب فوق لفظة عسى الأولى " متى " وإلى جانبها خ؛ وانظر الفرج بعد الشدة 1: 65. (3) ر: أبو حرزة؛ وفي من عرف بكنيته عند المرزباني (المعجم: 509) أبو حرزة المصري؛ وفي المختار: أبو خرزه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 38 ثم إن الفضل بن الربيع خاف من المأمون إن انتهت الخلافة إليه، فزين للأمين أن يخلع المأمون من ولاية العهد، ويجعل ولي عهده موسى بن الأمين، وحصلت الوحشة بين الأخوين إلى أن سير المأمون جيشا من خراسان مقدمه طاهر بن الحسين المقدم ذكره بإشارة وزيره الفضل بن سهل، وأخرج الأمين من بغداد جيشا بإشارة وزيره الفضل بن الربيع المذكور، مقدمه علي بن عيسى ابن ماهان، فالتقيا، وقتل علي بن عيسى، وذلك في سنة أربع (1) وتسعين ومائة. ثم اضطربت أحوال الأمين وقويت شوكة المأمون، ولما رأى الفضل ابن الربيع الأمور مختلة استتر في رجب سنة ست وتسعين ومائة، ثم ظهر لما ادعى إبراهيم بن المهدي الخلافة ببغداد، كما ذكرته في ترجمته، واتصل به ابن الربيع، فلما اختل حال إبراهيم استتر ابن الربيع ثانيا، وشرح ذلك يطول. وخلاصته أن طاهر بن الحسين سأل المأمون الرضا عنه، فأدخله عليه، وقيل غير ذلك، إلا أنه لم يزل بطالا إلى أن مات، ولم يكن له في دولة المأمون حظ، والله أعلم] (2) . وكتب (3) إليه أبو نواس يعزيه في الرشيد، ويهنئه بولاية ولده الأمين (4) : تعز أبا العباس عن خير هالك ... بأكرم حي كان أو هو كائن حوادث أيام تدور صروفها ... لهن مساو مرة ومحاسن وفي الحي بالميت الذي غيب الثرى ... فلا أنت مغبون ولا الموت غابن وفيه أيضا قال أبو نواس من جملة أبيات: وليس لله (5) بمستنكر ... أن يجمع العالم في واحد   (1) ر: ست. (2) ما بين معقفين انفردت به ر: ولم يأت في المختار من هذه الترجمة بعد ذلك سوى بيت أبي نواس " وليس لله ... الخ " وسقط سائرها. (3) في جميع النسخ ما عدا ر: فكتب، لأن النص أصلا: ومات الرشيد والفضل مستمر على وزارته فكتب ... الخ. (4) ديوان أبي نواس: 130. (5) ر: ليس على الله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 39 قال أبو بكر الصولي: ولقد أخذ أحمد بن يوسف الكاتب هذا المعنى وزاد عليه، وكتبه إلى بعض إخوانه، وقد ماتت له ببغاء، وله أخ كثير التخلف يسمى عبد الحميد: أنت تبقى ونحن طرا فداكا ... أحسن الله ذو الجلال عزاكا فلقد جل خطب دهر أتاكا ... بمقادير أتلفت ببغاكا عجبا للمنون كيف أتتها ... وتخطت عبد الحميد أخاكا كان عبد الحميد أصلح للمو ... ت من الببغا وأولى بذاكا شملتنا المصيبتان جميعا ... فقدنا هذه ورؤية ذاكا وقد تقدم في ترجمة ابن الرومي ذكر المقطوعين المقولين في الوزير أبي القاسم عبيد الله وولديه الحي والميت (1) ، وذلك المعنى مأخوذ من هذه الأبيات وأبو نواس هو الذي فتح لهم الباب، ومنه أخذ الباقون، وإن كان بينهم مغايرة ما لكن المادة واحدة. وكانت وفاة الفضل بن الربيع في ذي القعدة، سنة ثمان ومائتين وسنة ثمان وستون سنة، وقيل في شهر ربيع الآخر، رحمه الله تعالى، وفيه يقول أبو نواس أبياته الدالية التي فيها والخير عادة (2) .   (1) انظر ج 3: 362. (2) يشير إلى قوله (ديوانه: 108) : أنت يا ابن الربيع ألزمتني النسك وعودتنه والخير عاده ... الجزء: 4 ¦ الصفحة: 40 529 - (1) الفضل بن سهل أبو العباس الفضل بن سهل السرخسي أخو الحسن بن سهل - وقد تقدم ذكره في حرف الحاء -؛ أسلم على يد المأمون في سنة تسعين ومائة، وقيل إن أباه سهلا أسلم على يد المهدي، والله أعلم، فوزر للمأمون واستولى عليه حتى ضايقه في جارية أراد شراءها. ولما عزم جعفر البرمكي على استخدام الفضل للمأمون، وصفه يحيى بحضرة الرشيد، فقال له الرشيد: أوصله إلي، فلما وصل إليه أدركته حيرة فسكت، فنظر الرشيد إلى يحيى نظر منكر لاختياره، فقال ابن سهل: يا أمير المؤمنين، إن من أعدل الشواهد على فراهة المملوك أن يملك قلبه هيبة سيده، فقال الرشيد: لئن كنت سكت لتصوغ هذا الكلام فلقد أحسنت، وإن كان بديهة إنه لأحسن وأحسن، ثم لم يسأله بعد ذلك عن شيء إلا أجابه بما يصدق وصف يحيى له. وكان فيه فضائل، وكان يلقب بذي الرياستين لأنه تقلد الوزارة والسيف. وكان يتشيع، وكن من اخبر الناس بعلم النجامة، وأكثرهم إصابة في أحكامه. حكى أبو الحسين علي بن أحمد السلامي في تاريخ ولاة خراسان: أن طاهر بن الحسين، المقدم ذكره، لما عزم المأمون على إرساله إلى محاربة أخيه محمد بن الأمين نظر الفضل بن سهل في مسألته، فوجد الدليل في وسط السماء، وكان ذا يمينين، فأخبر المأمون بأن طاهرا يظفر بالأمين ويلقب بذي اليمينين،   (1) أخباره في أماكن متفرقة من " الوزراء والكتاب " والكامل لابن الأثير (ج: 6) وتاريخ بغداد 12: 339 ومروج الذهب 4: 5 والنجوم الزاهرة 2: 172 وعبر الذهبي 1: 338 والشذرات 2: 4 وله أخبار في ترجمة أخيه الحسن في إعتاب الكتاب: 107. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 41 فتعجب المأمون من إصابة الفضل، ولقب طاهرا بذلك، وولع (1) بالنظر في علم النجوم. وقال السلامي أيضا: ومما أصاب الفضل بن سهل فيه من أحكام النجوم (2) أنه اختار لطاهر بن الحسين حين سمي للخروج إلى الأمين وقتا، فعقد فيه لواءه وسلمه إليه، ثم قال له: قد عقدت لك لواء لا يحل خمسا وستين سنة، فكان بين خروج طاهر بن الحسين إلى وجه علي بن عيسى بن هامان، مقدم جيش الأمين، وقبض يعقوب بن الليث الصفار على محمد بن طاهر بن عبد الله بن طاهر ابن الحسين بنيسابور خمس وستون سنة. وكان قبض يعقوب بن الليث على محمد المذكور يوم الأحد لليلتين خلتا من شوال سنة تسع وخمسين ومائتين. ومن إصاباته (3) أيضا ما حكم به على نفسه، وذلك أن المأمون طالب والدة الفضل بما خلفه، فحملت إليه سلة مختومة مقفلة، ففتح قفلها، فإذا صندوق صغير مختوم، وإذا فيه درج، وفي الدرج رقعة من حرير مكتوب فيها بخطه: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما قضى الفضل بن سهل على نفسه، قضى أنه يعيش ثمانيا وأربعين سنة، ثم يقتل ما بين ماء ونار فعاش هذه المدة، ثم قتله غالب (4) خال المأمون في حمام بسرخس - كما سيأتي إن شاء الله تعالى، وله غير ذلك إصابات كثيرة. ويحكى أنه قال يوما لثمامة بن الأشرس: ما أدري ما أصنع بطلاب الحاجات فقد كثروا علي وأضجروني، فقال له: زل عن موضعك، وعلي أن لا يلقاك أحد منهم، فقال: صدقت، وانتصب لقضاء أشغالهم. وكان من مرض بخراسان وأشفى على التلف، فلما أصاب العافية جلس للناس، فدخلوا عليه وهنوه بالسلامة، وتصرفوا في الكلام، فلما فرغوا من كلامهم أقبل على الناس وقال (5) : إن في العلل لنعما لا ينبغي للعقلاء أن   (1) المختار: وأولع. (2) ر: الأحكام. (3) ر: إصابته. (4) زاد في هامش المختار: السعودي الأسود. (5) انظر الفرج بعد الشدة 1: 40. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 42 يجهلوها: تمحيص الذنوب، والتعرض لثواب الصبر، والإيقاظ من الفغلة، والإذكار بالنعمة في حال الصحة، واستدعاء التوبة، والحض على الصدقة. زقد مدحه جماعة من اعيان الشعراء (1) ، وفيه يقول إبراهيم بن العباس الصولي، وقد سبق ذكره (2) : لفضل بن سهل يد ... تقاصر عنها المثل فنائلها للغنى ... وسطوتها للأجل وباطنها للندى ... وظاهرها للقبل ومن ها هنا أخذ ابن الرومي قوله في الوزير القاسم بن عبيد الله من جملة أبيات: أصبحت بين خصاصة وتجمل ... والحر بينهما يموت هزيلا فامدد إلي يدا تعود بطنها ... بذل النوال وظهرها التقبيلا وفيه يقول أبو محمد عبد الله بن محمد، وقيل ابن أيوب التميمي (3) : لعمرك ما الأشراف في كل بلدة ... وإن عظموا للفضل إلا صنائع ترى عظماء الناس للفضل خشعا ... إذا ما بدا، والفضل لله خاشع تواضع لما زاده الله رفعة ... وكل جليل عنده متواضع وقال فيه مسلم بن الوليد الأنصاري المعروف بصريع الغواني من جملة قصيدة (4) : أقمت خلافة وأزلت أخرى ... جليل ما أقمت وما أزلتا [وحكى الجهشياري (5) أن الفضل بن سهل أصيب بابن له يقال له العباس، فجزع   (1) المختار: الشعراء الأعيان. (2) الطرائف الأدبية: 136. (3) الجهشياري: 320، وفي لي ن ل: التميمي. (4) ديوان مسلم (الملحقات) : 307 نقلا عن الوفيات. (5) لم يرد في المطبوعة من كتاب الجهشياري واستدركه الأستاذ ميخائيل عواد في " نصوص ضائعة من كتابه الوزراء والكتاب ": 53 نقلا عن المؤلف؛ ولم يرد هذا النص في المختار. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 43 عليه جزعا شديدا، فدخل عليه إبراهيم بن موسى بن جعفر العلوي وأنشده: خير من العباس أجرك بعده ... والله خير منك للعباس فقال: صدقت، ووصله وتعزى له] . ولما ثقل أمره على المأمون دس عليه خاله غالبا [المسعودي الأسود] ، فدخل عليه الحمام بسرخس، ومعه جماعة، وقتلوه مغافصة، وذلك يوم الخميس (1) ثاني شعبان سنة اثنتين ومائتين، وقيل ثلاث ومائتين، وعمره ثمان وأربعون سنة، وقيل إحدى وأربعون سنة وخمسة أشهر، والله أعلم. [وذكر الطبري في تاريخه أنه كان عمره ستين سنة، وقيل سنة اثنتين ومائتين يوم الجمعة لليلتين خلتا من شعبان. قلت: وهو الصحيح. ورثاه مسلم بن الوليد ودعبل وإبراهيم بن العباس، رحمه الله تعالى. ومات والده سهل في سنة اثنتين أيضا، بعد قتل ابنه بقليل. وعاشت أمه وأم أخيه الحسن حتى أدركت عرس بوران على المأمون] (2) . ولما قتل مضى المأمون إلى والدته ليعزيها، فقال لها: لا تأسي عليه لا تحزني لفقده، فإن الله قد أخلف عليك مني ولدا يقوم مقامه، فمهما كنت تنبسطين إليه فيه فلا تنقبضي عني منه، فبكت ثم قالت: يا أمير المؤمنين، وكيف لا أحزن على ولد أكسبني ولدا مثلك. والسرخسي: بفتح السين المهملة والراء وسكون الخاء المعجمة وبعدها سين مهملة، هذه النسبة إلى سرخس، وهي مدينة بخراسان.   (1) كذا في ل لي؛ وفي ر ن س: الجمعة. (2) انفردت ر بما بين معقفين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 44 530 - (1) الفضل بن مروان أبو العباس الفضل بن مروان بن ماسرخس (2) وزير المعتصم، وهو الذي أخذ له البيعة ببغداد وكان المعتصم يومئذ ببلاد الروم، فإنه توجه إليها صحبة أخيه المأمون، فاتفق موت المأمون هناك، وتولى المعتصم بعده، واعتد له المعتصم بها يدا عنده [وفوض إليه الوزارة يوم دخوله بغداد، وهو يوم السبت مستهل شهر رمضان سنة ثمان عشرة ومائتين، وخلع عليه، ورد أموره كلها إليه، فغلب عليه بطول خدمته، وتربيته إياه] (3) واستقل بالأمور، وكذلك كان في أواخر ولاية المأمون، فإنه غلب عليه كثيرا. وكان نصراني الأصل قليل المعرفة بالعلم حسن المعرفة بخدمة الخلفاء، وله ديوان رسائل وكتاب " المشاهدات والأخبار " التي شاهدها، ومن كلامه: مثل الكتاب كالدولاب (4) إذا تعطل انكسر. وكان قد جلس يوما لقضاء أشغال الناس ورفعت إليه قصص العامة، فرأى في جملتها رقعة مكتوبا فيها: تفرعنت يا فضل بن مروان فاعتبر ... فقبلك كان الفضل والفضل والفضل ثلاثة أملاك مضوا لسبيلهم ... أبادتهم الأقياد والحبس والقتل وإنك قد أصبحت في الناس ظالما ... ستودي كما أودى الثلاثة من قبل أراد الفضول الثلاثة الذين تقدم ذكرهم، وهم: الفضل بن يحيى البرمكي،   (1) أخباره في مواضع متفرقة من " الوزراء والكتاب " والكامل لابن الأثير 38 (ج 6، 7) وإعتاب الكتاب: 130 والنجوم الزاهرة 2: 322 والشذرات 2: 122؛ وقد اجتزأ في المختار بإيراد قسم يسير من هذه الترجمة. (2) س: ماسرجس؛ لي: ماسرجين. (3) انفردت ر بما بين معقفين. (4) ن: الكاتب مثل الدولاب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 45 والفضل بن الربيع، والفضل بن سهل. وذكر المرزباني في " معجم الشعراء " (1) هذه الأبيات للهيثم بن فراس السامي، من بني سامة ابن لؤي، وكذا ذكرها الزمخشري في كتاب " ربيع الأبرار " (2) . ومثل هذه القضية ما جرى لأسد بن زريق (3) الكاتب، فإنه جاء إلى باب أبي عبد الله الكوفي لما قلد مكان أبي جعفر بن شيرزاد (4) ، وانتقل إلى داره، وجلس في دسته، فمنعه البواب من الدخول إليه، فرجع إلى داره وكتب إليه: إنا رأينا حجابا منك قد عرضا ... فلا يكن ذلنا فيه لك الغرضا اسمع مقالي ولا تغضب علي فما ... أبغي بذلك لا مالا ولا عرضا الشكر يبقى ويفنى ما سواه، وكم ... سواك قد نال ملكا فانقضى ومضى في هذه الدار في هذا الرواق على ... هذا السرير رأيت العز وانقرضا فلما وقف أبو عبد الله على هذه الأبيات استدعاه واعتذر إليه وقضى حاجته. وقد سبق نظير هذا في ترجمة عبد الملك بن عمير، وما جرى له مع عبد الملك ابن مروان الأموي لما حضر بين يديه رأس مصعب بن الزبير، فلينظر هناك. ثم إن المعتصم تغير على الفضل بن مروان، وقبض عليه في رجب سنة إحدى وعشرين ومائتين، ولما قبض عليه قال: عصى الله في طاعتي فسلطني عليه، ثم خدم بعد ذلك جماعة من الخلفاء، ثم توفي في شهر ربيع الآخر سنة خمسين ومائتين، وعمره ثمانون سنة، رحمه الله تعالى. وقال في كتاب " الفهرست " (5) : عاش ثلاثا وتسعين سنة، والله أعلم بالصواب. [وقال الطبري: كانت نكبته في صفر من السنة المذكورة. وقال الصولي:   (1) لم يرد في المعجم المطبوع. (2) وذكر المرزباني.. الأبرار: سقط من س ل لي بر والمختار. (3) س والمختار: رزيق ن: زيد. (4) هو محمد بن يحيى بن شيزاد وكان وزيراً لبجكم (انظر أخباره في ج 8 من تاريخ ابن الأثير وتجارب الأمم) . ل ن لي س بر: شيراز. (5) الفهرست: 127. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 46 أخذ المعتصم من داره لما نكبه ألف ألف دينار، وأخذ أثاثا وآنية بألف ألف دينار، وحبسه خمسة أشهر، ثم أطلقه وألزمه بيته، واستوزر أحمد بن عمار. ومن كلامه: لا تتعرض لعدوك وهو مقبل، فإن إقباله يعينه عليك، ولا تتعرض له وهو مدبر، فإن إدباره يكفيك أمره] (1) . 531 - (2) الفضيل بن عياض أبو علي الفضيل بن عياض بن مسعود بن بشر التميمي الطالقاني الأصل، الفنديني (3) ، الزاهد المشهور أحد رجال الطريقة، كان في أول أمره شاطرا يقطع الطريق بين أبيورد وسرخس، وكان سبب توبته أنه عشق جارية فبينا هو يرتقي الجدران إليها سمع تالياً يتلو: (ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله) ، فقال: يارب قد آن، فرجع، وآواه الليل إلى خربة فإذا فيها رفقة، فقال بعضهم: نرتحل، وقال بعضهم: حتى نصبح، فإن فضيلا على الطريق يقطع علينا، فتاب الفضيل (4) وآمنهم. وكان من كبار السادات، حدث سفيان بن عيينة قال: دعانا هارون الرشيد فدخلنا عليه، ودخل الفضيل آخرنا مقنعا رأسه بردائه، فقال لي:   (1) ما بين معقفين انفردت به ر. (2) ترجمته في طبقات السلمي: 6 - 14 وتذكرة الحفاظ: 245 وميزان الاعتدال 3: 361 وعبر الذهبي 1: 298 وصفة الصفوة 2: 134 وحلية الأولياء 8: 84 والجواهر المضية 1: 409 وتهذيب التهذيب 8: 294 والنجوم الزاهرة 2: 121، 143 والشذرات 1: 316. (3) الفنديني: سقطت من س والمختار، واضطربت في سائر النسخ، ولم يرد لها ضبط في خاتمة الترجمة إلا في النسخة ر. (4) ن س: فبات. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 47 يا سفيان، وأيهم أمير المؤمنين فقلت: هذا، وأومأت إلى الرشيد، فقال له: يا حسن الوجه، أنت الذي أمر هذه الأمة في يدك وعنقك لقد تقلدت أمرا عظيما، فبكى الرشيد، ثم أتي كل رجل منا ببدرة، فكل قبلها إلا الفضيل، فقال الرشيد: يا أبا علي إن لم تستحل أخذها فأعطها ذا دين أو أشبع بها جائعا أو اكس بها عاريا (1) فاستعفاه منها، فلما خرجنا قلت: يا أبا علي، أخطأت، ألا أخذتها وصرفتها في أبواب البر فأخذ بلحيتي ثم قال: يا أبا محمد، أنت فقيه البلد والمنظور إليه وتغلط مثل هذا الغلط (2) لو طابت لأولئك لطابت لي. ويحكى أن الرشيد قال له يوما (3) : ما أزهدك! فقال الفضيل: أنت أزهد مني، قال: وكيف ذلك قال: لأني أزهد في الدنيا، وأنت تزهد في الآخرة، والدنيا فانية والآخرة باقية. وذكر الزمخشري في كتاب ربيع الأبرار في آخر باب الطعام أن الفضيل قال يوما لأصحابه: ما تقولون في رجل في كمه ثمر يقعد على رأس الكنيف فيطرحه فيه ثمرة ثمرة قالوا: هو مجنون، قال: فالذي يطرحه في بطنه حتى يحشوه فهو أجن منه، فإن هذا الكنيف يملأ من هذا الكنيف. ومن كلام الفضيل: إذا أحب الله عبدا أكثر غمه، وإذا أبغض عبدا وسع عليه دنياه. وقال: لو أن الدنيا بحذافيرها عرضت علي على أن لا أحاسب عليها لكنت أتقذرها كما يتقذر أحدكم الجيفة إذا مر بها أن تصيب ثوبه. وقال: ترك العمل لأجل الناس هو الرياء، والعمل لأجل الناس هو الشرك (4) . وقال: إني لأعصى الله تعالى فأعرف ذلك في خلق حماري وخادمي. وقال: لو كانت لي دعوة مستجابة لم أجعلها إلا في إمام، لأنه إذا صلح الإمام أمن البلاد والعباد. وقال: لأن يلاطف الرجل أهل مجلسه ويحسن خلقه معهم خير له من قيام ليله وصيام نهاره.   (1) ر لي: جيعاناً ... عرياناً. (2) لي: هذه الغلطة. (3) البصائر والذخائر 4: 188. (4) زاد في ن: وافخلاص أن يعافيك منهما. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 48 وقال أبو علي الرازي: صحبت الفضيل ثلاثين سنة، ما رأيته ضاحكا ولا متبسما إلا يوم مات ابنه علي، فقلت له في ذلك، فقال: إن الله أحب أمرا فأحببت ذلك الأمر، وكان ولده المذكور شابا سريا من كبار الصالحين. وهو معدود في جملة من قتلهم محبة الباري سبحانه وتعالى، وهم مذكورون (1) في جزء سمعناه قديما ولا أذكر الآن من مؤلفه. وكان عبد الله بن المبارك رضي الله عنه يقول: إذا مات الفضيل ارتفع الحزن من الدنيا. ومناقب الفضيل كثيرة. ومولده بأبيورد، وقيل بسمرقند، ونشأ بأبيورد وقدم الكوفة وسمع الحديث بها، ثم انتقل إلى مكة شرفها الله تعالى وجاور بها إلى أن مات في المحرم سنة سبع وثمانين ومائة، رضي الله عنه. والطالقاني: نسبة إلى طالقان خراسان، وقد تقدم الكلام عليها في ترجمة الصاحب بن عباد في حرف الهمزة. [والفنديني: بضم الفاء وسكون النون وكسر الدال المهملة وسكون الياء المثناة من تحتها وفي آخرها نون، هذه النسبة إلى فندين، وهي من قرى مرو] (2) . وأبيورد: بفتح الهمزة وكسر الباء الموحدة وسكون الياء المثناة من تحتها وفتح الواو وسكون الراء وبعدها دال مهملة، بليدة بخراسان. وسمرقند: بفتح السين المهملة والميم وسكون الراء وفتح القاف وسكون النون وبعدها دال مهملة، أعظم مدينة بما وراء النهر، قال ابن قتيبة في كتاب " المعارف " (3) في ترجمة شمر بن أفريقش أحد ملوك اليمن: إنه خرج في جيش عظيم ودخل أرض العراق، ثم توجه يريد الصين فأخذ على فارس وسجستان وخراسان وافتتح المدائن والقلاع، وقتل وسبى، ودخل مدينة الصغد فهدمها   (1) ر: جماعة مذكورون. (2) انفردت به ر. (3) المعارف: 629. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 49 فسميت شمركند أي: شمر أخربها، لأن كند بالعجمي معناه بالعربي أخرب (1) ، ثم عربها الناس فقالوا: سمرقند، ثم أعيدت عمارتها، فبقي عليها ذلك الاسم (2) . 532 - (3) عضد الدولة أبو شجاع فناخسرو، الملقب عضد الدولة بن ركن الدولة أبي علي الحسن ابن بويه الديلمي - وقد تقدم تمام نسبه في ترجمة عمه معز الدولة أحمد في حرف الهمزة، فليطلب (4) هناك -، [ولما مرض عمه عماد الدولة بفارس أتاه أخره ركن الدولة واتفقا على تسليم فارس إلى أبي شجاع فناخسرو بن ركن الدولة، ولم يكن قبل ذلك يلقب بعضد الدولة، فتسلمها بعد عمه، ثم تقلب بذلك] (5) .   (1) س: خربها ... خرب. (2) قلت: عند هذا الموضع بخط مغاير ورد في النسخة ن هذا التعليق: " وليس الأمر كما زعمه، إنما أصل الكلام أن شمر اسم لجارية إسكندر، وضعت فوصف لها الأطباء أرضاً ذات هواء طيب وأشاروا إليه بظاهر صغد، فأسكنها إياه، فلما طابت بنى به مدينة، وكند بالتركي هو المدينة وكأنه يقول بلد شمر، وعلى هذا يكون كند اسماً جامداً آخر وهو مضاف على القاعدة التي تقدم بيانها، ولملاحظة هذا التغير قال ابن خلكان فكأنه يقول بلد شمر، وإلا فموجب ما قدمه من البيان هو القطع بالمعنى المذكور، ومن كلامه يتبين أن من زعم أن كند بالمعنى الثاني فارسي لم يصب وكذا ممن فسره بالقربة كمال باشا أيضاً في رسالة التعريب، سلمه الله، اه. وجاء في حاشية س: " ليس معنى كند خرب إنما معناه قلع ومعنى خرب بالعجمي: ثيران كرد ". (3) أخباره أخباره في تجارب الأمم وذيله وتكملة الهمذاني وتاريخ ابن اأثير (ج: 8: 9) وانظر اليتيمة 2: 216 والمنتظم 7: 113 والنجوم الزاهرة 4: 142 والسلوك 1/1: 21، 28 وبغية الوعاة: 374 وعبر الذهبي 2: 361 والشذرات 3: 78. (4) ر: فلينظر. (5) انفردت به ر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 50 وقد تقدم أيضاً ذكر والده وعمه الأكبر عماد الدولة أبي الحسن علي وابن عمه عز الدولة بختيار بن معز الدولة، وهؤلاء كلهم - مع عظم شأنهم وجلالة أقدارهم - لم يبلغ أحد منهم ما بلغه عضد الدولة من سعة المملكة والاستيلاء على الملوك وممالكهم، فإنه جمع بين مملكة المذكورين كلهم، وقد ذكرت في ترجمة كل واحد منهم ما كان له من المماليك، وضم إلى ذلك الموصل وبلاد الجزيرة وغير ذلك، ودانت له البلاد والعباد (1) ودخل في طاعته كل صعب القياد، وهو أول من خوطب بالملك في الإسلام، وأول من خطب بله على المنابر ببغداد بعد الخليفة، وكان من جملة ألقابه تاج الملة ولما صنف له أبو إسحاق الصابي كتاب التاجي في أخبار بني بويه أضافه إلى هذا اللقب، وقد تقدم خبر هذا الكتاب في ترجمته. وكان فاضلا محبا للفضلاء مشاركا في عدة فنون، وصنف له الشيخ أبو علي الفارسي كتاب الإيضاح والتكملة في النحو - وقد سبق ذكره في ترجمته - وقصده فحول الشعراء في عصره، ومدحوه بأحسن المدائح، فمنهم أبو الطيب المتنبي، ورد عليه وهو بشيراز في جمادى الأولى سنة أربع وخمسين وثلثمائة، وفيه يقول من جملة قصيدته المشهورة الهائية (2) : وقد رأيت الملوك قاطبة ... وسرت حتى رأيت مولاها ومن مناياهم براحته ... يأمرها فيهم وينهاها أبا شجاع بفارس عضد ال ... دولة فناخسرو شهنشاها أساميا لم تزده معرفة ... وإنما لذة ذكرناها وهذه القصيدة أول شيء أنشده، ثم أنشده في هذا الشهر قصيدته النونية التي ذكر فيها شعب بوان، ومنها قوله (3) : يقول بشعب بوان حصاني ... أعن هذا يسار إلى الطعان   (1) ر: العباد والبلاد. (2) ديوان المتنبي: 554. (3) ديوانه: 558. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 51 أبوكم آدم سن المعاصي ... وعلمكم مفارقة الجنان فقلت: إذا رأيت أبا شجاع ... سلوت عن العباد وذا المكان فإن الناس والدنيا طريق ... إلى من ماله في الناس ثاني ومدحه بعد ذلك بعدة قصائد، ثم أنشده قصيدته الكافية يودعه فيها ويعده بالعود إلى حضرته، وذلك صدر شعبان من السنة المذكورة، وهي آخر شعر المتنبي فإنه قتل في عوده من عنده كما سبق في ترجمته، ومن جملة هذه القصيدة (1) : أروح وقد ختمت على فؤادي ... بحبك أن يحل به سواكا وقد حملتني شكرا طويلا ... ثقيلا لا أطيق به حراكا أحاذر أن يشق على المطايا ... فلاتمشي بنا إلا سواكا (2) لعل الله يجعله رحيلا ... يعين على الإقامة في ذراكا فلو أني استطعت خفضت طرفي ... فلم أبصر به حتى أراكا وكيف الصبر عنك وقد كفاني ... نداك المستفيض وما كفاكا وما أحسن قوله فيها: ومن أعتاض عنك إذا افترقنا ... وكل الناس زور ما خلاكا وما انا غير سهم في هواء ... يعود ولم يجد فيه امتساكا وقصده أيضا أبو الحسن محمد بن عبد الله السلامي - الآتي ذكره إن شاء الله تعالى - وكان عين شعراء العراق، وأنشده قصيدته البديعة التي منها: إليك طوى عرض البسيطة جاعل ... قصارى المطايا أن يلوح لها القصر فكنت وعزمي في الظلام وصارمي ... ثلاثة أشباه (3) كما اجتمع النسر   (1) ديوانه: 584. (2) المختار: أشياء. (3) السواك: المشي المضطرب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 52 وبشرت آمالي بملك هو الورى ... ودار هي الدنيا ويوم هو الدهر وعلى الحقيقة هذا الشعر هو السحر الحلال كما يقال، وقد أخذ هذا المعنى القاضي أبو بكر أحمد الأرجاني - المقدم ذكره - وعمل: يا سائلي عنه لما جئت أمدحه ... هذا هو الرجل العاري من العار كم من شنوف لطاف من محاسنه ... علقن منه على آذان سمار لقيته فرأيت الناس في رجل ... والدهر في ساعة والأرض في دار ولكن أين الثريا من الثرى وهذا المعنى موجود في الشطر الأخير من بيت المتنبي وهو (1) : هي الغرض الأقصى ورؤيتك المنى ... ومنزلك الدنيا وانت الخلائق ولكنه ما استوفاه، فإنه ما تعرض إلى ذكر اليوم الذي جعله السلامي هو الدهر، فليس (2) له طلاوة بيت السلامي. رجعنا إلى ذكر عضد الدولة: كتب إليه أبو منصور أفتكين (3) التركي متولي دمشق كتابا مضمونه أنه الشام قد صفا وصار في يدي، وزال عنه حكم صاحب مصر، وإن قويتني بالأموال والعدد حاربت القوم في مستقرهم، فكتب عضد الدولة جوابه هذه الكلمات، وهي متشابهة في الخط لا تقرأ إلا بعد الشكل والنقط والضبط، وهي غرك عزك فصار قصار ذلك ذلك، فاخش فاحش فعلك فعلك بهذا تهدا (4)   (1) ديوان المتنبي: 70. (2) ر: ومع هذا فليس. (3) س لي ن بر: الفتكين، وكلتا الصورتين في أصول ابن الأثير. (4) ر لي: تهدى بهذا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 53 ولقد أبدع فيها كل الإبداع. (149) وكان أفتكين المذكور مولى معز الدولة بن بويه فتغلب على دمشق وخرج على العزيز العبيدي صاحب مصر، وقصده (1) بنفسه والتقى جيشاهما، وجرت مقتلة عظيمة بينهما (2) وانكسر أفتكين وهرب، وقطع عليه الطريق دغفل بن الجراح البدوي وحمله إلى العزيز وفي عنقه حبل، فأطلقه وأحسن إليه، وأقام يسيرا، ومات سنة اثنتين وسبعين وثلثمائة، رحمه الله تعالى، يوم الثلاثاء لسبع خلون من رجب. وكانت لعضد الدولة أشعار، فمن ذلك ما أورده له أبو منصور الثعالبي في كتاب " يتيمة الدهر " (3) وقال: اخترت من قصيدته التي فيها البيت الذي لم يفلح بعده أبياتا، وهي: ليس شرب الراح إلا في المطر ... وغناء من جوار في السحر غانيات سالبات للنهى ... ناعمات في تضاعيف الوتر مبرزات الكأس من مطلعها ... ساقيات الراح من فاق البشر عضد الدولة وابن ركنها ... ملك الأملاك غلاب القدر فيحكى عنه أنه لما احتضر لم يكن لسانه ينطق إلا بتلاوة: (ما أغنى عني ماليه هلك عني سلطانيه) ، ويقال إنه ما عاش بعد هذه الأبيات إلا قليلا، وتوفي بعلة الصرع في يوم الاثنين ثامن شوال سنة اثنتين وسبعين وثلثمائة ببغداد، ودفن بدار الملك بها، ثم نقل إلى الكوفة ودفن بمشهد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وعمره سبع وأربعون سنة وأحد عشر شهرا وثلاثة أيام، رحمه الله تعالى. والبيمارستان العضدي ببغداد منسوب إليه، وهو في الجاني الغربي، وغرم عليه مالا عظيما، وليس في الدنيا مثل ترتيبه، وفرغ من بنائه سنة ثمان وستين   (1) س ل: فقصده. (2) بينهما: سقطت من س ل ن لي. (3) اليتيمة 2: 218. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 54 وثلثمائة، وأعد له من الآلات ما يقصر الشرح عن وصفه. وهو الذي أظهر قبر علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالكوفة (1) ، وبنى عليه المشهد الذي هناك، وغرم عليه شيئا كثيرا، وأوصى بدفنه فيه، وللناس في هذا القبر اختلاف كثير، حتى قيل إنه قبر المغيرة بن شعبة الثقفي، فإن عليا رضي الله عنه لا يعرف قبره، وأصح ما قيل فيه: إنه مدفون بقصر الإمارة بالكوفة، والله أعلم. وفناخسرو: بفتح الفاء وتشديد النون وبعد الألف خاء معجمة مضمومة وسين ساكنة وبعدها راء مضمومة ثم واو. وشعب بوان: بكسر الشين المعجمة وسكون العين المهملة وبعدها باء موحدة، ثم باء ثانية مفتوحة بعدها واو مشددة وبعد الألف نون، وهو موضع عند شيراز كثير الأشجار والمياه [وهو منسوب إلى بوان بن إيران بن الأسود ابن سام بن نوح عليه السلام] (2) قال أبو بكر الخوارزمي: مستنزهات الدنيا أربعة مواضع: غوطة دمشق ونهر الابلة وشعب بوان وصغد سمرقند، وأحسنها غوطة دمشق، والله أعلم.   (1) بالكوفة: سقطت من ر. (2) انفردت به ر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 55 فراغ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 56 حرف القاف الجزء: 4 ¦ الصفحة: 57 فراغ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 58 533 - (1) القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق أبو محمد القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، ونسبه معروف فلا حاجة إلى رفعه، كان من سادات التابعين، وأحد الفقهاء السبعة بالمدينة، وقد تقدم ذكر ستة منهم، وكان من أفضل أهل زمانه، روى عن جماعة من الصحابة، رضي الله عنهم، وروى عنه جماعة من كبار التابعين. قال يحيى بن سعيد: ما أدركنا أحدا نفضله على القاسم بن محمد. وقال مالك: كان القاسم من فقهاء هذه الأمة. وقال محمد بن إسحاق: جاء رجل إلى القاسم بن محمد فقال: أنت أعلم أم سالم، فقال: ذاك مبارك سالم، قال ابن إسحاق: كره أن يقول هو أعلم مني فيكذب، أو يقول أنا أعلم منه فيزكي نفسه، وكان القاسم أعلمهما، وكان القاسم بن محمد يقول في سجوده: اللهم اغفر لأبي ذنبه في عثمان. وقد تقدم في ترجمة (2) زين العابدين علي بن الحسين رضي الله عنهما أنهما كانا ابني خالة، وأن القاسم بن محمد والدته ابنة يزدجرد آخر ملوك الفرس، وكذلك زين العابدين وسالم بن عبد الله بن عمر، والقصة مستوفاة من هناك. وتوفي سنة إحدى أو اثنتين ومائة، وقيل سنة ثمان، وقيل اثنتي عشرة ومائة بقديد، فقال: كفنوني في ثيابي التي كنت أصلي فيها قميصي وإزاري   (1) ترجمته في طبقات ابن سعد 5: 187 وطبقات الشيرازي، الورقة: 13 وحلية الأولياء 2: 183 وصفة الصقوة 2: 49 ونكت الهميان: 230 وتهذيب التهذيب 8: 333 والشذرات 1: 135؛ وهذه الترجمة في م تقع في ثلاثة أسطر، وهي شديدة الإيجاز في المختار أيضاً. (2) ر: ترجمة الإمام. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 59 وردائي، فقال ابنه: يا أبت ألا نزيد ثوبين (1) ، فقال: هكذا كفن أبو بكر في ثلاثة أثواب، والحي أحوج إلى الجديد من الميت، وكان عمره سبعين سنة أو اثنتين وسبعين سنة، رضي الله عنه. وقديد: بضم القاف وفتح الدال المهملة وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها دال مهملة، وهو منزل بين مكة والمدينة. 534 - (2) أبو عبيد القاسم بن سلام أبو عبيد القاسم بن سلام، بتشديد اللام، كان أبوه عبدا روميا لرجل من أهل هراة، واشتغل أبو عبيد بالحديث والأدب والفقه، وكان ذا دين وسيرة جميلة ومذهب حسن وفضل بارع. وقال القاضي أحمد بن كامل: كان أبو عبيد فاضلا في دينه وعلمه، ربانيا متفننا (3) في أصناف علوم الإسلام من القراءات والفقه والعربية والأخبار، حسن الرواية صحيح النقل، ولا أعلم احدا من الناس طعن عليه في شيء من أمر دينه (4) .   (1) س: ثوبين هناك. (2) ترجمته في الفهرست: 70 وتاريخ بغداد 12: 403 وطبقات الزبيدي: 217 ومراتب النحويين: 93 وطبقات الشيرازي، الورقة: 26 والتهذيب للأزهري 1: 21 وإنباه الرواة 3: 12 ومعجم الأدباء 16: 254 وطبقات الحنابلة 1: 259 وتذكرة الحفاظ: 417 وعبر الذهبي 1: 392 وميزان الاعتدال 3: 371 وطبقات السبكي 1: 270 وغاية النهاية 2: 17 وبغية الوعاة: 376 وتهذيب التهذيب 8: 315 والنجوم الزاهرة 2: 241 والشذرات 2: 54 وانظر مقدمة كتاب الأجناس تحقيق امتياز علي عرشي (بمبي 1938) . (3) ر: متسعاً. (4) ر ل لي: أمره ودينه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 60 قال إبراهيم الحربي: كان أبو عبيد كأنه جبل نفخ فيه الروح يحسن كل شيء. وولي القضاء بمدينة طرسوس ثماني عشرة سنة، وروى عن أبي زيد الأنصاري والأصمعي وأبي عبيدة وابن الأعرابي والكسائي والفراء وجماعة كثيرة غيرهم، وروى الناس من كتبه المصنفة بضعة وعشرين كتابا في القرآن الكريم والحديث وغريبه والفقه وله الغريب المصنف والأمثال ومعاني الشعر وغير ذلك من الكتب النافعة. ويقال إنه أول من صنف في غريب الحدي. وانقطع إلى عبد الله بن طاهر مدة، ولما وضع كتاب الغريب عرضه على عبد الله بن طاهر، فاستحسنه وقال: إن عقلا بعث صاحبه على عمل هذا الكتاب حقيق ألا يحوج (1) إلى طلب المعاش، وأجري عليه عشرة آلاف درهم في كل شهر. وقال محمد بن وهب المسعري: سمعت أبا عبيد يقول: كنت في تصنيف هذا الكتاب أربعين سنة، وربما كنت أستفيد الفائدة من أفواه الرجال فأصعها في موضعها من الكتاب، فأبيت ساهرا فرحا مني بتلك الفائدة، وأحدكم يجيئني فيقيم أربعة خمسة أشهر فيقول: قد أقمت كثيرا. وقال الهلال بن العلاء الرقي: من الله تعالى على هذه الأمة بأربعة في زمانهم: بالشافعي تفقه في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبأحمد بن حنبل ثبت في محنة ولولا ذاك لكفر الناس، وبيحيى بن معين نفى الكذب عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبأبي عبيد القاسم بن سلام فسر غريب الحديث ولولا ذاك لاقتحم الناس الخطأ. وقال أبي بكر ابن الأنباري: كان أبو عبيد يقسم الليل أثلاثا فيصلي ثلثه وينام ثلثه ويضع الكتب ثلثه. وقال إسحاق بن راهويه: أبو عبيد أوسعنا علما وأكثرنا أدبا وأجمعنا جمعا، إنا نحتاج إلى أبي عبيد وأبو عبيد لا يحتاج إلينا. وقال ثعلب: لو كان أبو عبيد في بني إسرائيل لكان عجبا. وكان يخضب بالحناء، أحمر الرأس واللحية، وكان له وقار وهيبة. وقدم بغداد فسمع الناس منه كتبه. ثم حج وتوفي بمكة، وقيل بالمدينة بعد الفراغ   (1) ر: على أن لا يخرج. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 61 من الحج، سنة اثنتين او ثلاث وعشرين ومائتين، وقال البخاري: سنة أربع وعشرين، وزاد غيره: في المحرم، وقال الخطيب في تاريخ بغداد: بلغني أنه عاش سبعا وستين سنة، وذكر الحافظ ابن الجوزي أن مولده سنة خمسين ومائة. وقال أبو بكر الزبيدي في كتاب التقريظ (1) : إن مولده سنة أربع وخمسين ومائة. وذكر أن أبا عبيد لما قضى حجه وعزم على الانصراف واكترى إلى العراق، رأى في الليلة التي عزم على الخروج (2) في صبيحتها النبي صلى الله عليه وسلم في منامه وهو جالس وعلى رأسه قوم يحجبونه وناس يدخلون فيسلمون عليه ويصافحونه، قال: فكلما دنوت لأدخل منعت، فقلت لهم: لم لا تخلون بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: لا والله لا تدخل إليه ولا تسلم عليه وأنت خارج غدا إلى العراق، فقت لهم: إني لا أخرج إذا، فأخذوا عهدي، ثم خلوا بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخلت وسلمت عليه وصافحني، فأصبحت ففسخت الكراء وسكنت بمكة، ولم يزل بها إلى الوفاة (3) ، ودفن في دور (4) جعفر، وقيل إنه رأى المنام بالمدينة ومات بها بعد رحيل الناس عنها بثلاثة أيام، رحمه الله تعالى، ومولده بهراة (5) . وطرسوس: بفتح الطاء المهملة والراء وضم السين المهملة وسكون الواو وبعدها سين ثانية، وهي مدينة بساحل الشام عند السيس والمصيصة بناها المهدي ابن المنصور أبي جعفر في سنة ثمان وستين ومائة، على ما حكاه ابن الجزار في تاريخه. ومن تصانيفه أيضا " المقصور والممدود " و " القراءات " و " المذكر   (1) ذكره ابن خير في فهرسته: 351 باسم كتاب رسالة التقريظ، وقد روى الكتاب عن مؤلفه عبادة بن ماء الشاعر الأندلسي؛ وهذا النص الذي ذكره المؤلف موجود أيضاً في طبقات الزبيدي: 219. (2) ر: على الأنصراف والخروج. (3) ن: إلى أن توفي؛ المختار: إلى الممات. (4) لي: بدور. (5) هنا تنتهي الترجمة في المختار. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 62 والمؤنث وكتاب النسب وكتاب الأحداث وأدب القاضي وعدد آي القرآن والأيمان والنذور والحيض وكتاب الأموال وغير ذلك، رحمه الله تعالى. 535 - (1) الحريري صاحب المقامات أبو محمد القاسم بن علي بن محمد بن عثمان الحريري البصري الحرامي صاحب المقامات، كان أحد أئمة عصره، ورزق الحظوة التامة في عمل المقامات، واشتملت علي شيء كثير من كلام العرب: من لغاتها وأمثالها ورموز أسرار كلامها، ومن عرفها حق معرفتها استدل بها على فضل هذا الرجل وكثرة اطلاعه وغزارة مادته، وكان سبب وضعه لها (2) ما حكاه ولده أبو القاسم عبد الله قال: كان أبي جالسا في مسجده ببني حرام فدخل شيخ ذو طمرين عليه أهبة السفر رث الحال فصيح الكلام حسن العبارة، فسألته الجماعة: من أين الشيخ فقال: من سروج، فاستخبروه عن كنيته فقال: أبو زيد، فعمل (3) أبي المقامة المعروفة بالحرامية، وهي الثامنة والأربعون، وعزاها إلى أبي زيد   (1) ترجمته في المنتظم 9: 241 وانباه الرواة 3: 23 ونزهة الألباء: 162 واللباب: (الحريري) ومرآة الزمان: 109 ومعجم الأدباء 16: 261 وطبقات السبكي 4: 295 وعبر الذهبي: 38 والنجوم الزاهرة 5: 225 والشذرات 4: 500 وخزانة الأدب 3: 117 ومعاهد التنصيص 3: 272 وبغية الوعاة: 378 وشرح الشرشي 1: 3، وقد أوردت م جزءاً من هذه الترجمة ثم سقط سائرها كما سقطت تراجم كثيرة بعدها لضياع أوراق من المخطوطة. (2) ر: وضعها. (3) ن: فوضع المقامات وعزاها إلى أبي زيد المذكور واشتهرت فبلغ ... الخ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 63 المذكور، واشتهرت فبلغ خبرها الوزير (1) شرف الدين أبا نصر (2) أنوشروان ابن خالد بن محمد القاشاني وزير الإمام المسترشد بالله، فلما وقف عليها أعجبته، وأشار على والدي أن يضم إليها غيرها، فأتمها خمسين مقامة (3) ، وإلى الوزير المذكور أشار الحريري في خطبة المقامات بقوله: فأشار من إشارته حكم، وطاعته غنم، إلى أن أنشئ مقامات أتلو فيها البديع، وإن لم يدرك الظالع شأو الضليع هكذا وجدته في عدة تواريخ، ثم رأيت في بعض شهور سنة ست وخمسين (4) وستمائة بالقاهرة المحروسة نسخة مقامات وجميعها بخط مصنفها الحريري، وقد كتب بخطه أيضا على ظهرها: إنه صنفها للوزير جلال الدين عميد الدولة أبي علي الحسن بن أبي العز علي بن صدقة وزير المسترشد أيضا، ولا شك أن هذا أصح من الرواية الأولى لكونه بخط المصنف، وتوفي الوزير المذكور في رجب سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة، فهذا كان مستنده في نسبتها إلى أبي زيد السروجي. وذكر القاضي الأكرم جمال الدين أبو الحسن علي بن يوسف الشيباني القفطي وزير حلب في كتابه الذي سماه إنباه الرواة على أنباه النحاه (5) أن أبا زيد المذكور اسمه المطهر بن سلار، وكان بصرياً (6) نحويا لغويا، صحب الحريري المذكور، واشتغل عليه بالبصرة وتخرج به، وروى عنه القاضي أبو الفتح محمد بن أحمد بن المندائي الواسطي ملحة الأعراب للحريري، وذكر أنه سمعها منه عن الحريري وقال: قدم علينا واسط في سنة ثمان   (1) ر ن: إلى الوزير. (2) ن: أبي نصر؛ وسقطت من ر. (3) مقامة: سقطت من ر. (4) ر: ست وسبعين. (5) انباه الرواة 3: 276 (ترجمة المطهر بن سلار) قلت: وقد اضطر اسم كتاب القفطي في بعض النسخ، فهو في ر: انباه الرواة على ألباب النحاة؛ وفي لي: اثبات الرواة على اثبات النحاة. (6) ل لي بر: بصيراً، ن: قصيراً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 64 وثلاثين وخمسمائة، فسمعتها (1) منه، وتوجه منها مصعدا إلى بغداد فوصلها وأقام بها مدة يسيرة وتوفي بها، رحمه الله تعالى [وكذا ذكره السمعاني في الذيل والعماد في الخريدة وقال: لقبه فخر الدين، وتولى صدرية المشان، ومات بها بعد سنة أربعين وخمسمائة] (2) . وأما تسمية الراوي لها بالحارث بن همام فإنما عنى به نفسه، هكذا وقفت عليه في بعض شروح المقامات، وهو مأخوذ من قوله صلى الله عليه وسلم كلكم حارث وكلكم همام فالحارث الكاسب، والهمام الكثير الاهتمام، وما من شخص إلا وهو حارث وهمام، لأن كل واحد كاسب ومهتم بأموره. وقد اعتنى بشرحها خلق كثير: فمنهم من طول، ومنهم من اختصر (3) . ورأيت في بعض المجاميع أن الحريري لما عمل المقامات كان قد عملها أربعين مقامة، وحملها من البصرة إلى بغداد وادعاها، فلم يصدقه في ذلك جماعة من أدباء بغداد، وقالوا: إنها ليست من تصنيفه، بل هي لرجل مغربي من أهل البلاغة مات بالبصرة ووقعت أوراقه إليه فادعاها، فاستدعاه الوزير إلى الديوان وسأله عن صناعته، فقال: أنا رجل منشيء، فاقترح عليه إنشاء رسالة في واقعة عينها، فانفرد في ناحية من الديوان، وأخذ الدواة والورقة ومكث زمانا كثيرا فلم يفتح الله سبحانه عليه بشيء من ذلك، فقام وهو خجلان، وكان في جملة من أنكر دعواه في عملها أبو القاسم علي بن أفلح الشاعر - المقدم ذكره - فلما لم يعمل الحريري الرسالة التي اقترحها الوزير أنشد ابن أفلح، وقيل إن هذين البيتين لأبي محمد ابن أحمد المعروف بابن جكينا الحريمي البغدادي الشاعر المشهور (4) : شيخ لنا من ربيعة الفرس ... ينتف عثنونه من الهوس أنطقه الله بالمشان كما ... رماه وسط الديوان بالخرس   (1) ر بر: فسمعنا منه، وكذلك عند القفطي. (2) انفردت به ر. (3) ن: قصر. (4) وقيل ... المشهور: وقع هذا بعد البيتين في س. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 65 وكان الحريري يزعم أنه من ربيعة الفرس، وكان مولعا بنتف لحيته عن الفكرة، وكان يسكن في مشان البصرة، فلما رجع إلى بلده عمل عشر مقامات أخر وسيرهن، واعتذر من عيه وحصره في الديوان (1) بما لحقه من المهابة. وللحريري تواليف حسان منها درة الغواص في أوهام (2) الخواص ومنها ملحة الاعراب المنظومة في النحو، وله أيضا شرحها، وله ديوان رسائل وشعر كثير غير شعره الذي في المقامات، فمن ذلك قوله وهو معنى حسن: قال العواذل ما هذا الغرام به ... أما ترى الشعر في خديه قد نبتا فقلت والله لو أن المفند لي ... تأمل الرشد في عينيه ما ثبتا ومن أقام بأرض وهي مجدبة ... فكيف يرحل عنها والربيع أتى وذكر له العماد الكاتب في الخريدة: كم ظباء بحاجر ... فتنت بالمحاجر ونفوس نفائس ... خدرت بالمخادر وتثن لخاطر ... هاج وجدا لخاطري وعذار لأجله ... عاذلي عاد عاذري وشجون تضافرت ... عند كشف الضفائر وله قصائد استعمل فيها التجنيس كثيرا. ويحكى أنه كان دميما قبيح المنظر، فجاءه سخص غريب يزوره ويأخذ عنه شيئا، فلما رآه استزرى شكله (3) ، ففهم الحريري ذلك منه، فلما التمس منه أن يملي عليه قال له: اكتب: ما أنت أول سار نحره قمر ... ورائد أعجبته (4) خضرة الدمن   (1) بر: بالديوان. (2) ن: درة الغواص وإفهام. (3) ل: بشكله. (4) لي: خدعته. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 66 فاختر لنفسك غيري إنني رجل ... مثل (1) المعيدي فاسمع بي ولا ترني فخجل الرجل منه وانصرف (2) . وكانت ولادة الحريري في سنة ست وأربعين وأربعمائة، وتوفي سنة ست عشرة، وقيل خمس عشرة وخمسمائة بالبصرة، في سكة بني حرام [وخلف ولدين، وقال أبو منصور الجواليقي: أجازني المقامات نجم الدين عبد الله وقاضي قضاة البصرة ضياء الإسلام عبيد الله عن أبيهما منشئها] (3) . نسبته بالحراني إلى هذه السكة، رحمه الله تعالى، وهي بفتح الحاء المهملة والراء وبعدها ألف بعده ميم، وبنو حرام: قبيلة من العرب سكنوا في هذه السكة فنسبت إليهم. والحريري: نسبة إلى الحرير وعمله أو بيعه. والمشان: بفتح الميم والشين المعجمة وبعد الألف نون، بليدة فوق البصرة كثيرة النخل موصوفة بشدة الوخم، وكان أصل الحريري منها، ويقال إنه كان له بها ثمانية عشر ألف نخلة، وإنه كان من ذوي اليسار. (150) والوزير أنوشروان المذكور (4) كان نبيلا فاضلا جليل القدر، له تاريخ لطيف سماه صدور زمان الفتور وفتور زمان الصدور ونقل منه العماد الأصبهاني في كتاب نصرة الفترة وعصرة الفطرة الذي ذكر فيه اخبار الدولة السلجوقية نقلا كثيرا، وتوفي الوزير المذكور سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة، رحمة الله تعالى. (151) وأما ابن المندائي المذكور فهو أبو الفتح محمد بن أبي العباس أحمد بن بختيار بن علي بن محمد بن إبراهيم بن جعفر الواسطي، المعروف بابن المندائي، وقد أخذ عنه جماعة من الأعيان كالحافظ أبي بكر الحازمي (5) وغيره، وكانت   (1) لي: شبه. (2) ر بر: وانصرف عنه. (3) انفردت عنه. (4) انظر المنتظم 10: 77 والبداية والنهاية 12: 192 والشذرات 4: 101. (5) زاد في ر بر: المقدم ذكره. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 67 ولادته في شهر ربيع الآخر سنة سبع وخمسمائة بواسط، وتوفي بها في الثامن من شعبان سنة خمس وستمائة، رحمه الله تعالى. والمندائي: بفتح الميم وسكون النون وفتح الدال المهملة ومد الهمزة. والمعيدي: بضم الميم وفتح العين المهملة وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها دال مهملة مكسورة وياء مشددة، وقد جاء في المثل تسمع (1) بالمعيدي لا أن تراه وجاء أيضا تسمع بالمعيدي خير من أن تراه وقال المفضل الضبي (2) : أول من تكلم به المنذر بن ماء السماء، قاله لشقة بن ضمرة التميمي الدارمي، وكان قد سمع بذكره، فلما رآه اقتحمته عينه، فقال له هذا المثل وسار عنه، فقال له شقة: أبيت اللعن! إن الرجال ليسوا بجزر يراد منها الأجسام، إنما المرء بأصغريه قلبه ولسانه، فأعجب المنذر ما رأى من عقله وبيانه. وهذا المثل يضرب لمن له صيت وذكر ولا منظر له، والمعيدي منسوب إلى معد ابن عدنان، وقد نسبوه بعد أن صغروه وخففوا منه الدال. 536 - القاسم بن الشهرزوري أبو أحمد القاسم بن المظفر بن علي بن القاسم الشهرزوري، والد قاضي الخافقين أبي بكر محمد والمرتضى أبي محمد عبد الله وأبي منصور المظفر، وهو جد بيت الشهرزوري قضاة الشام والموصل والجزيرة، وكلهم إليه ينتسبون، كان حاكما بمدينة إربل مدة ومدينة سنجار مدة، وكان من أولاده وحفدته علماء نجباء كرماء نالوا المراتب العلية وتقدموا عند الملوك وتحكموا وقضوا ونفقت أسواقهم، خصوصا حفيده القاضي كمال الدين محمد ومحيي الدين بن كمال الدين - وسيأتي   (1) ر بر: لأن تسمع. (2) أمثال الضبي: 9. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 68 ذكرهما إن شاء الله تعالى - وإلى الآن من نسله جماعة من الأعيان والقضاة بالموصل. وقدم بغداد غير مرة، وذكره الحافظ أبو سعد السمعاني في كتاب الذيل ثم ذكره في كتاب الأنساب في موضعين: أحدهما في نسبة الإربلي (1) ، وقال: كان منها - يعني إربل - جماعة من العلماء، منهم أبو أحمد القاسم المذكور، وقال: إنه شيباني، والثاني في نسبة الشهرزوري (2) ، ذكره وذكر ولده قاضي الخافقين المذكور، وأثنى عليه، وذكره أبو البركات ابن المستوفي في تاريخ إربل (3) وأورد له شعرا، فمن ذلك قوله: همتي دونها السها والزبانى ... قد علت جهدها فما تتدانى فأنا متعب معنى إلى أن ... تتفانى الأيام أو نتفانى ورأيت في كتاب " الذيل " للسمعاني هذين البيتين منسوبين إلى ولده أبي بكر محمد المعروف بقاضي الخافقين (4) ، والله أعلم لمن هما منهما. وتوفي القاسم المذكور سنة تسع وثمانين وأربعمائة بالموصل، ودفن في التربة المعروفة به الآن المجاورة لمسجد جده أبي الحسن بن فرغان، رحمه الله تعالى. وأما ولده المرتضى عبد الله فهو والد القاضي كمال الدين - وقد تقدم ذكره في العبادلة (5) ، وأوردت قصيدته اللامية المعروفة بالموصلية. (152) وأما قاضي الخافقين (6) فقد قال السمعاني: إنه اشتغل بالعلم على أبي إسحاق الشيرازي، وولي القضاء بعدة بلاد، ورحل إلى العراق وخراسان والجبال وسمع الحديث الكثير، وسمع منه السمعاني، وكانت ولادة قاضي الخافقين بإربل سنة ثلاث، أو أربع وخمسين وأربعمائة، وتوفي في جمادى   (1) الأنساب 1: 152. (2) تاريخ إربل، الورقة: 93. (3) اللباب: (الشهرزوري) . (4) كذلك ورداً أيضاً عند الصفدي منسوبين إلى قاضي الخافقين. (5) انظر ج 3: 49. (6) ترجمة قاضي الخافقين في الخريدة (قسم الشام) 2: 322 والوافي 4: 339 وطبقات السبكي 4: 95 والمنتظم 10: 112 والشذرات 4: 123 واللباب: (الشهرزوري) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 69 الآخرة سنة ثمان وثلاثين وخسمائة ببغداد، ودفن في باب أبرز، رحمه الله تعالى، وإنما قيل له قاضي الخافقين لكثرة البلاد التي ولي فيها (1) . (153) وأما المظفر (2) فإن السمعاني ذكره أيضا في الذيل فقال: ولد بإربل، ونشأ بالموصل، وورد بغداد وتفقه بها على الشيخ أبي إسحاق الشيرازي، ورجع إلى الموصل، ثم ولي قضاء سنجار على كبر سنه وسكنها، وكان قد أضر. ثم قال: سألته عن مولده فقال: ولدت في جمادى الآخرة - أو رجب - سنة سبع وخمسين وأربعمائة بإربل، ولم يذكر وفاته. والشهرزوري: بفتح الشين المعجمة وسكون الهاء وضم الراء والزاي وسكون الواو وبعدها راء، هذه النسبة إلى شهرزور، وهي بلدة كبيرة معدودة من أعمال إربل، بناها زور بن الضحاك، وهي لفظة عجمية معناها بالعربي بلدة زور، ومات بها الإسكندر ذو القرنين عند عوده من بلاد المشرق، وحكى لي بعض أهلها وقد سألته عن قبره فقال: هنك قبر يعرف بقبر إسكندر، ولا يعرف أهلها من هو، وهي مدينة قديمة، وحكى الخطيب في تاريخ بغداد أن الإسكندر جعل المدائن دار إقامته، أعني مدائن كسرى، ولم يزل بها إلى أن توفي هناك، وحمل تابوته إلى الإسكندرية لأن أمه كانت مقيمة هناك، ودفن عندها، والله أعلم.   (1) ر بر: وليها. (2) ترجمته في تاريخ إربل " الورقة: 98. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 70 (1) 537 الشيخ الشاطبي أبو محمد القاسم بن فيرة بن أبي القاسم خلف بن أحمد، الرعيني الشاطبي الضرير المقرئ صاحب القصيدة التي سماها حرز الأماني ووجه التهاني في القراءات، وعدتها ألف ومائة وثلاثة وسبعون بيتا، ولقد أبدع فيها كل الإبداع، وهي عمدة قراء هذا الزمان في نقلهم، فقل من يشتغل بالقراءات إلا ويقدم حفظها ومعرفتها، وهي مشتملة على رموز عجيبة وإشارات خفية لطيفة، وما أظنة سبق إلى أسلوبها، وقد روي عنه أنه كان يقول: لا يقرأ أحد قصيدتي هذه إلا وينفعه الله عز وجل بها، لأني نظمتها لله تعالى مخلصا في ذلك. ونظم قصيدة دالية في خمسمائة بيت من حفظها أحاط علما بكتاب التمهيد لابن عبد البر. وكان عالما بكتاب الله تعالى قراءة وتفسيرا، وبحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مبرزا فيه، وكان إذا قرئ عليه صحيح البخاري ومسلم والموطأ تصحح النسخ من حفظه، ويملي النكت على المواضع المحتاج إليها، وكان أوحدا في علم النحو واللغة، عارفا بعلم الرؤيا، حسن المقاصد، مخلصا فيما يقول ويفعل. [وقرأ القرآن الكريم بالروايات على أبي عبد الله محمد بن علي بن محمد بن أبي العاص النفزي المقري وأبي الحسن علي بن محمد بن هذيل الأندلسي، وسمع الحديث من أبي عبد الله محمد بن يوسف بن سعادة وأبي عبد الله محمد بن عبد الرحيم الخزرجي وأبي الحسن ابن هذيل والحافظ أبي الحسن ابن النعمة وغيرهم] (2) وانتفع   (1) ترجمته في التكملة (رقم: 1973) والذيل والتكملة 5: 548 وغاية النهاية 2: 20 (نقلاً عن رحلة ابن رشيد) والديباج المذهب: 224 ومعجم الأدباء 16: 293 ونكت الهميان: 228 وطبقات السبكي 4: 297 والشذرات 4: 301 وبغية الوعاة: 379 والنفح 2: 22 وعبر الذهبي 4: 273. (2) انفردت به ر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 71 به خلق كثير، وأدركت من أصحابه جمعا كثيرا بالديار المصرية. وكان يجتنب فضول الكلام ولا ينطق إلا على طهارة في هيئة حسنة وتخشع واستكانة، وكان يعتل العلة الشديدة فلا يشتكي ولا يتأوه، وإذا سئل عن حاله قال: العافية، لا يزيد على ذلك. أنشدني بعض أصحابه قال: كان الشيخ كثيرا ما ينشد هذا اللغز، وهو في نعش الموتى فقلت له: فهل هو له فقال: لا أعلم، ثم إني وجدته بعد ذلك في ديوان الخطيب أبي زكريا يحيى بن سلامة الحصكفي - وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى - وهو: أتعرف شيئا في السماء يطير ... إذا سار صاح الناس حيث يسير فتلقاه مركوبا وتلقاه راكبا ... وكل أمير يعتليه أسير يحض على التقوى ويكره قربه ... وتنفر منه النفس وهو نذير ولم يستزر عن رغبة في زيارة ... ولكن على رغم المزور يزور وكانت ولادته في آخر سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة، وخطب ببلدة على فتاء سنى، ودخل مصر سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة. وكان يقول عند دخوله إليها: إنه يحفظ وقر بعير من العلوم، بحيث لو نزل عليه ورقة أخرى لما احتملها، وكان نزيل القاضي الفاضل، ورتبه بمدرسته بالقاهرة متصدرا لإقراء القرآن الكريم وقراءاته والنحو واللغة. وتوفي يوم الأحد بعد صلاة العصر، الثامن والعشرين من جمادى الآخرة سنة تسعين وخمسمائة. ودفن يوم الاثنين في تربة القاضي الفاضل بالقرافة الصغرى، وزرت قبره مرارا، رحمه الله تعالى، وصلى عليه الخطيب أبو إسحاق العراقي - المقدم ذكره - خطيب جامع مصر. وفيره: بكسر الفاء وسكون الياء المثناة من تحتها وتشديد الراء وضمها، وهو بلغة اللطيني من أعاجم الأندلس ومعناه بالعربي: الحديد. والرعيني: بضم الراء وفتح العين المهملة وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها نون، هذه النسبة إلى ذي رعين، وهو أحد أقيال اليمن، نسب إليه خلق كثير. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 72 والشاطبي: بفتح الشين المعجمة وبعد الألف طاء مكسورة مهملة وبعدها باء موحدة، هذه النسبة إلى شاطبة (1) ، وهي مدينة كبيرة ذات قلعة حصينة بشرق الأندلس، خرج منها جماعة من العلماء، استولى عليها الفرنج في العشر الأخير من شهر رمضان، سنة خمس وأربعين وستمائة. وقيل إن اسم الشيخ المذكور أبو القاسم، وكنيته اسمه، لكن وجدت في إجازات أشياخه له أبو محمد القاسم كما ذكرته ها هنا. (2) 538 أبو دلف العجلي أبو دلف القاسم بن عيسى بن إدريس بن معقل بن عمير بن شيخ (3) بن معاوية ابن خزاعي بن عبد العزى بن دلف بن جشم بن قيس بن سعد بن عجل بن لجيم ابن صعب بن علي بن بكر بن وائل بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان، العجلي، أحد قواد المأمون ثم المعتصم من بعده - وقد تقدم ذكره في ترجمة علي بن جبلة العكوك، وبعض مديح العكوك فيه، وتقدم أيضا في ترجمة أبي مسلم الخراساني أنه كان تربية جده المذكور، وتقدم ذكر حفيده الأمير أبي نصر علي بن ماكولا، صاحب كتاب الإكمال (4) -.   (1) شاطبة (Sativa) : كانت تعد من عمل بلنسية ولها حصن منيع، ويخترق بطاحها واد عليه بساتين جميلة (انظر العدذري: 18 - 19) . (2) ترجمته في تاريخ بغداد 12: 416 والفهرست: 116 ومروج الذهب 4: 5، 62 ومعجم المرزباني: 216 والأغاني 8: 246 وسمط الآلي: 331 وتاريخ ابن الأثير (ج: 6) واللباب: (العجلي) وعبر الذهبي 1: 394 والشذرات 2: 57، وقد ورد النسب كاملاً في ر وحدها. (3) س لي ن: بن شيخ بن عمير. (4) انظر ج 3: 350، 145، 305. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 73 وكان أبو دلف المذكور كريما سريا جوادا ممدحا شجاعا مقدما ذا وقائع مشهورة وصنائع مأثورة، أخذ عنه الأدباء والفضلاء، وله صنعة في الغناء، وله من الكتب كتاب البزاة والصيد وكتاب السلاح وكتاب النزه (1) وكتاب سياسة الملوك وغير ذلك. ولقد مدحه أبو تمام الطائي بأحسن المدائح، وكذلك بكر بن النطاح، وفيه يقول: يا طالبا للكيمياء وعلمه ... مدح ابن عيسى الكيمياء الأعظم لو لم يكن في الأرض إلا درهم ... ومدحته لأتاك ذاك الدرهم ويحكى أنه اعطاه على هذين البيتين عشرة ألاف درهم، فأغفله قليلا ثم دخل عليه وقد اشترى بتلك الدراهم قرية في (2) نهر الأبلة، فأنشده: بك ابتعت في نهر الأبلة قرية ... عليها قصير بالرخام مشيد إلى جنبها أخت لها يعرضونها ... وعندك مال للهبات عتيد فقال له: كم ثمن الأخت (3) فقال: عشرة آلاف درهم، فدفعها له ثم قال له: تعلم أن نهر الأبلة عظيم وفيه قرى كثيرة، وكل أخت إلى جانبها (4) أخرى، وإن فتحت هذا الباب اتسع علي الخرق، فاقنع بهذه ونصطلح عليها، فدعا له وانصرف. وقد ألم أبو بكر محمد بن هاشم، أحد الخالديين، بمعنى قول بكر بن النطاح المذكور في البيتين الأولين، فقال: وتيقن الشعراء أن رجاءهم ... في مأمن بك من وقوع الياس ما صح علم الكيمياء لغيرهم ... فيمن عرفنا من جميع الناس   (1) س: النزهة. (2) بر: عند. (3) ر: فقال: وكم ثمن أختها هذه. (4) ر: جنبها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 74 تعطيهم الأموال في بدر إذا ... حملوا الكلام إليك في قرطاس وكان أبو دلف قد لحق أكرادا قطعوا الطريق في عمله (1) ، فطعن فارسا فنفذت الطعنة إلى أن وصلت إلى فارس آخر وراءه رديفه، فنفذ فيه السنان فقتلهما، وفي ذلك يقول بكر بن النطاح المذكور: قالوا وينظم فارسين بطعنة ... يوم الهياج ولا تراه كليلا لا تعجبوا فلو أن طول قناته ... ميل إذا نظم الفوارس ميلا وكان أبو عبد الله أحمد بن أبي فنن (2) صالح مولى بني هاشم، أسود مشوه الخلق، وكان فقيرا، فقالت له امرأته: يا هذا، إن الأدب أراه قد سقط نجمه وطاش سهمه، فاعمد إلى سيفك ورمحك وقوسك، وادخل مع الناس في غزواتهم، عسى الله أن ينفلك من الغنيمة شيئا، فأنشد: ما لي وما لك قد كلفتني شططا ... حمل السلاح وقول الدارعين قف أمن رجال المنايا خلتني رجلا ... أمسي وأصبح مشتاقا إلى التلف تمشي المنايا إلى غيري فأكرهها ... فكيف أمشي إليها بارز الكتف ظننت أن نزال القرن من خلقي (3) ... أو أن قلبي في جنبي أبي دلف فبلغ خبره أبا دلف، فوجه إليه ألف دينار. وكان أبو دلف لكثرة عطائه قد ركبته الديون، واشتهر ذلك عنه، فدخل عليه بعضهم وأنشده: أيا رب المنائح والعطايا ... ويا طلق المحيا واليدين لقد خبرت أن عليك دينا ... فزد في رقم دينك واقض ديني (4)   (1) ن لي بر: وكان أبو دلف قد شهد مصافاً. (2) فنن: سقط من ن؛ بر: أبو عبيد أحمد ... (3) تاريخ بغداد: أم يهل حسبت سواد الليل شجعني. (4) فدخل ... ديني: سقطن من ل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 75 فوصله وقضى دينه. ودخل عليه بعض الشعراء فأنشده: الله أجرى من الأرزاق أكثرها ... على يديك تعلم يا أبا دلف ما خط " لا " كاتباه في صحيفته ... كما تخطط لا في سائر الصحف بارى الرياح فأعطى وهي جارية ... حتى إذا وقفت أعطى ولم يقف ومدائحه كثيرة. وله أيضا أشعار حسنة، ولولا خوف التطويل لذكرت بعضها. وكان أبوه قد شرع في عمارة مدينة الكرج وأتمها هو، وكان بها أهله وعشيرته وأولاده، وكان قد مدحه وهو بها بعض الشعراء، فلم يحصل له منه ما في نفسه، فانفصل عنه وهو يقول - وهذا الشاعر هو منصور بن باذان، وقيل هو بكر بن النطاح والله أعلم -: دعيني أجوب الأرض في فلواتها ... فما الكرج الدنيا ولا الناس قاسم وهذا مثل قول بعضهم، ولا أدري أيهما أخذ من الآخر: فإن رجعتم (1) إلى الإحسان فهو لكم ... عبد كما كان، مطواع (2) ومذعان وإن أبيتم فأرض الله واسعة ... لا الناس أنتم ولا الدنيا خراسان ثم وجدت هذين البيتين قد ذكرهما السمعاني في كتاب الذيل، في ترجمة أبي الحسن علي بن محمد بن علي البلخي، فقال: أنشدني القاضي علي بن محمد البلخي بدورق متمثلا للأمير أبي الحسن علي بن المنتجب، ولعله سمع منه، وأنشد البيتين (3) . وروي أن الأمير علي بن عيسى بن ماهان صنع مأدبة لما قدم أبو دلف من   (1) لي: رحلتم. (2) س: إن تكرموني فإني غرس نعمتكم، مهما حييت فمطواع، وذكر في الهامش الرواية التي أثبتت هنا. (3) ثم وجدت ... البيتين: سقط من س والمختار. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 76 الكرج ودعاه إليها، وكان قد احتفل بها غاية الاحتفال، فجاء بعض الشعراء ليدخل دار علي بن عيسى فمنعه البواب، فتعرض الشاعر لأبي دلف وقد قصد دار علي بن عيسى، وبيده جزازة فناوله إياها، فإذا فيها مكتوب: قل له إن لقيته ... متأن بلا وهج جئت في ألف فارس ... لغداء من الكرج ما على الناس بعدها ... في الدنيات من حرج فرجع أبو دلف، وحلف أنه لا يدخل الدار ولا يأكل شيئا من الطعام، ورأيت في بعض المجاميع أن هذا الشاعر هو عباد بن الحريش (1) ، وكانت المأدبة ببغداد. ورأيت في بعض المجاميع أيضا أن أبا دلف لما مرض مرض موته حجب الناس عن الدخول عليه لثقل مرضه، فاتفق أنه أفاق في بعض الأيام، فقال لحاجبه: من بالباب من المحاويج فقال: عشرة من الأشراف، وقد وصلوا من خراسان، ولهم بالباب عدة أيام لم يجدوا طريقا، فقعد على فراشه واستدعاهم، فلما دخلوا رحب بهم وسألهم عن بلادهم وأحوالهم وسبب قدومهم، فقالوا: ضاقت بنا الأحوال، وسمعنا بكرمك فقصدناك، فأمر خازنه بإحضار بعض الصناديق، وأخرج منه عشرين كيسا في كل كيس ألف دينار، ودفع لكل واحد منهم كيسين، ثم أعطى كل واحد مؤونة طريقه، وقال لهم: لا تمسوا الأكياس حتى تصلوا بها سالمة إلى أهلكم، واصرفوا هذا في مصالح الطريق. ثم قال: ليكتب لي كل واحد منكم خطه: أنه فلان بن فلان حتى ينتهي إلى علي ابن أبي طالب رضي الله عنه، ويذكر جدته فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ليكتب: يا رسول الله إني وجدت إضاقة وسوء حال في بلدي وقصدت أبا دلف العجلي، فأعطاني ألفي دينار كرامة لك، وطلبا لمرضاتك، ورجاء لشفاعتك، فكتب كل واحد منهم ذلك، وتسلم الأوراق. وأوصى من   (1) انظر نفح الطيب 3: 321؛ وهذا الخبر سقط من بر ل س لي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 77 يتولى تجهيزه إذا مات أن يضع تلك الأوراق في كفنه، حتى يلقى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعرضها عليه. ومع هذا فقد حكي أنه قال يوما: من لم يكن مغاليا في التشيع فهو ولد زنا، فقال له ولده: إني لست على مذهبك، فقال له أبوه: لما وطئت أمك وعلقت بك ما كنت بعد قد استبرأتها، فهذا من ذاك، والله أعلم. ومع هذا فقد حكى جماعة من أرباب (1) التواريخ أن دلف بن أبي دلف قال: رأيت في المنام آتيا أتاني فقال لي: أجب الأمير، قمت معه، فأدخلني دارا وحشة وعرة سوداء الحيطان مقلعة السقوف والأبواب وأصعدني على درج منها، ثم أدخلني غرفة في حيطانها أثر النيران وفي أرضها أثر الرماد، وإذا بأبي وهو عريان واضع رأسه بين ركبتيه، فقال لي كالمستفهم: دلف قلت: دلف: فأنشأ يقول: أبلغن أهلنا ولا تخف عنهم ... ما لقينا في البرزخ الخناق قد سئلنا عن كل ما قد فعلنا ... فارحموا وحشتي وما قد ألاقي ثم قال: فهمت قلت: نعم، ثم أنشد (2) : فلو كنا إذا متنا تركنا ... لكان الموت راحة كل حي ولكنا إذا متنا بعثنا ... ونسأل بعده عن كل شي ثم قال: أفهمت قلت: نعم، وانتبهت. وكانت وفاته سنة ست وعشرين، وقيل خمس وعشرين ومائتين (3) ببغداد، رحمه الله تعالى. ودلف: بضم الدال المهملة وفتح اللام وبعدها فاء، وهو اسم علم لا ينصرف، لاجتماع العلمية والعدل، فإنه معدول عن دالف.   (1) ر: أهل. (2) فأنشأ يقول ... ثم أنشد: سقط من ن. (3) وقيل ... ومائتين: سقط من ن ر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 78 والعجلي: قد تقدم الكلام عليه. والأبلة: بضم الهمزة والباء الموحدة واللام المشددة المفتوحة وبعدها هاء ساكنة، وهي بلدة قديمة على أربعة فراسخ من البصرة، وهي اليوم من البصرة، وهي من جنان الدنيا، وإحدى المستنزهات الأربع، وقد سبق ذكرها في ترجمة عضد الدولة بن بويه مع شعب بوان وغيره. والكرج: بفتح الكاف والراء وبعدها جيم، وهي مدينة بالجبل (1) ، بين (2) أصبهان وهمذان. والجبل: إقليم كبير بين بلاد العراق وخراسان، والعامة تسميه عراق العجم، وفيه مدن كبار منها: همذان وأصبهان والري وزنجان، وغير ذلك. 539 - (3) شمس المعالي قابوس الأمير شمس المعالي أبو الحسن قابوس بن أبي طاهر وشمكير بن زيار بن وردانشاه الجيلي، أمير جرجان وبلاد الجيل وطبرستان. قال الثعالبي في اليتيمة (4) : أنا أختم هذا الجزء بذكر خاتم الملوك، وغرة الزمان، وينبوع العدل والإحسان، ومن جمع الله سبحانه له إلى عزة العلم بسطة القلم، وإلى فصل الحكمة فصل الحكم. ثم قال: ومن مشهور ما ينسب إليه من الشعر قوله:   (1) لي ن بر: بالجبال. (2) ر س: من. (3) أخباره في صفحات متفرقة من ذيل تجارب الأمم وابن الأثير (ج 8، 9) وتاريخ ابن العبري، وانظر المنتظم 7: 264 ومعجم الأدباء 16: 219 والنجوم الزاهرة 4: 233، وكنيته في بر: أبو الحسين، ر: أبو الخير؛ والترجمة شديدة الإيجاز في المختار. (4) اليتيمة 4: 59. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 79 قل للذي بصروف الدهر عيرنا ... هل حارب الدهر إلا من له خط أما ترى البحر تعلو فوقه جيف ... وتستقر بأقصى قعره الدرر فإن تكن عبثت أيدي الزمان بنا ... ومسنا من تمادي بؤسه ضرر ففي السماء نجوم ما لها عدد ... وليس يكسف إلا الشمس والقمر وينسب إليه أيضا: خطرات ذكرك تستثير مودتي ... فأحس منها في الفؤاد دبيبا لا عضو لي إلا وفيه صبابة ... فكأن أعضائي خلقن قلوبا وذكر له جملة من النثر أيضا. وكان خطه في نهاية الحسن. وكان الصاحب بن عباد إذا رأى خطه قال: هذا خط قابوس، أم جناح طاووس، وينشد قول المتنبي (1) : في خطه من كل قلب شهوة ... حتى كأن مداده الأهواء ولكل عين قرة في قربه ... حتى كأن مغيبه الأقذاء وكان الأمير المذكور صاحب جرجان وتلك البلاد، وكانت من قبله لأبيه. وكانت وفاة أبيه في المحرم سنة سبع وثلاثين وثلثمائة بجرجان، ثم انتقلت مملكة جرجان عنهم إلى غيرهم، وشرح ذلك يطول. وملكها قابوس المذكور في شعبان سنة ثمان وثمانين وثلثمائة، وكانت المملكة قد انتقلت إلى أبيه من أخيه مرداويج بن زيار بن وردانشاه الجيلي، وكان ملكا جليل القدر بعيد الهمة. وكان عماد الدولة أبو الحسن علي بن بويه - المقدم ذكره (2) - من أحد أتباعه ومقدمي أمرائه، وبسببه ترقى إلى درجة الملك، وشرح حديثه يطول، وهو أول من ملك من بني بويه، وهو أكبر الإخوة - وقد سبق ذكر ذلك كله. وكان قابوس من محاسن الدنيا وبهجتها، غير أنه كان، على ما خص به من   (1) ديوانه: 116. (2) انظر ج 3: 399. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 80 المناقب والرأي البصير بالعواقب مر السياسة، لا يساغ كأسه، ولا يؤمن بحال سطوته وبأسه، يقابل زلة القدم، بإراقة الدم، لا يذكر العفو عند الغضب، فما زال على هذا الخلق حتى استوحشت النفوس منه، وانقلبت القلوب عنه، فأجمع أعيان عسكره على خلعه ونزع الأيدي عن طاعته، فوافق هذا التدبير منهم غيبته عن جرجان إلى المعسكر (1) ببعض القلاع، فلم يشعر بهذا التدبير لذلك ولم يحس بهم إلا وقد قصدوه وأرادوا قبضه، ونهبوا أمواله وخيله، فحامى عنه من كان في صحبته من خواصه، فرجعوا إلى جرجان وملكوها، وبعثوا إلى ولده أبي منصور منوجهر، وهو بطبرستان، يستحثونه على الوصول إيهم لعقد البيعة له، فأسرع في الحضور، فلما وصل إليهم أجمعوا على طاعته إن خلع أباه، فلم يسعه في تلك الحال إلا المداراة والإجابة خوفا على خروج الملك عن بيتهم. ولما رأى الأمير قابوس صورة الحال توجه إلى ناحية بسطام بمن معه من الواص لينتظر ما يستقر عليه الأمر، فلما سمع الخارجون عليه انحيازه إلى تلك الجهة حملوا ولده منوجهر على قصده وإزعاجه من مكانه، فسار معهم مضطرا، فلما وصل إلى أبيه اجتمع به وتباكيا وتشاكيا، وعرض الولد نفسه أن يكون حجابا بينه وبين أعاديه، ولو ذهبت نفسه فيه، ورأى الوالد أن ذلك لا يجدي، وأنه أحق بالملك من بعده، وسلم خاتم المملكة إليه، واستوصاه خيرا بنفسه ما دام في قيد الحياة، واتفقا على أن يكون في بعض القلاع إلى أن يأتيه أجله، فانتقل إلى تلك القلعة. وشرع الولد في الإحسان إلى الجيش، وهو لا يطمئنون خشية قيام الوالد، ولو يزالوا حتى قتل، وذلك في سنة ثلاث وأربعمائة، ودفن بظاهر جرجان، رحمه الله تعالى، وقيل إنه لما حبس في القلعة منع من الغطاء والدثار، وكان البرد شديدا فمات من ذلك. والجيلي: بكسر الجيم وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها لام، هذه النسبة إلى جيل، وهو اسم رجل كان أخا ديلم، وقد نسب إلى كل واحد منهما. وهذه النسبة غير نسبة الجيلي إلى الإقليم وراء طبرستان، فليعلم ذلك، فقد يقع   (1) ر بر: العسكر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 81 فيه الالتباس، فلهذا نبهت عليه. وقد تقدم الكلام على جرجان فلا حاجة إلى إعادته. (1) 540 مجاهد الدين قايماز الزيني أبو منصور قايماز بن عبد الله الزيني، الملقب مجاهد الدين الخادم، كان عتيق زين الدين أبي سعيد علي بن بكتكين (2) والد الملك المعظم مظفر الدين صاحب إربل، وهو من أهل سجستان (3) ، أخذ منها صغيرا، وكان أبيض اللون، وكانت مخايل النجابة لائحة عليه، فقدمه معتقه وجعله أتابك أولاده، وفوض إليه أمور إربل في خامس شهر رمضان سنة تسع وخمسين وخمسمائة، فأحسن السيرة وعدل في الرعية، وكان كثير الخير والصلاح، بنى بإربل مدرسة وخانقاه وأكثر وقفهما، ثم انتقل إلى الموصل في سنة إحدى وسبعين وخمسمائة وسكن قلعتها وتولى أمور تدبيرها (4) وراسل الملوك وراسلوه، وكان يبلغ منهم بكتبه ما لا يبلغ سواه، وفوض إليه الأتابك سيف الدين غازي بن مودود - المقدم ذكره - صاحب الموصل الحكم في سائر بلاده لما رآه من حسن مقاصده، واعتمد عليه في جميع أحواله، وكان نائبه وهو السلطان في الحقيقة، وكان يحمل إليه أكثر أموال إربل، وأثر بالموصل آثارا جميلة، منها أنه بنى بظاهرها جامعا كبيرا ومدرسة وخانقاه، والجميع متجاورة، ووقف أملاكا كثيرة على خبز   (1) أخباره في ذيل الروضتين: 14 ومرآة الزمان: 338 وأماكن متفرقة من تاريخ ابن الأثير (ج 11، 12) والتاريخ الباهر ومفروج الكروب 2: 153 والنجوم الزاهرة 6: 144. (2) س: بلتكين. (3) ن ل: سنجار؛ س: سبختان؛ المختار: شبختان. (4) ر: تدبير أمورها، وما هنا مشبه لما في المختار وسائر النسخ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 82 الصدقات، وأنشأ مكتبا للأيتام، وأجرى لهم جميع ما يحتاجون إليه، ومد على شط الموصل جسرا غير الجسر الأصلي، ووجد الناس به رفقا كثيرا لعدم كفايتهم بالجسر الأصلي، وله شيء كثير من وجوه البر، ومدحه جماعة من الشعراء منهم حيص بيص وسبط ابن التعاويذي - الآتي ذكره إن شاء الله تعالى - بقصيدته التي أولها (1) : عليل الشوق فيك متى يصح ... وسكران بحبك كيف يصحو وبين القلب والسلوان حرب ... وبين الجفن والعبرات صلح وهي من قصائده المختارة، وسيرها إليه من بغداد فأجازه جائزة سنية، وسير له (2) معها بغلة، فوصلت إليه وقد هزلت من تعب الطريق، فكتب إليه (3) : مجاهد الدين دمت ذخرا ... لكل ذي فاقة وكنزا بعثت لي بغلة ولكن ... قد مسخت في الطريق عنزا ومدحه بهاء الدين أبو المعالي أسعد بن يحيى السنجاري - المقدم ذكره - بقصيدته المشهورة التي يتغنى بها، ومن جملتها: يا قلب تبا لك من صاحب ... كان البلا منك ومن ناظري لله أيامي على رامة ... وطيب أوقاتي على حاجر تكاد بالسرعة في مرها ... أولها يعثر بالآخر (4) [وعمل له أبو المعالي أسعد بن علي الحظيري - المقدم ذكره - كتاب " الإعجاز في حل الأحاجي والألغاز برسم الأمير مجاهد الدين قايماز " وحمله إليه لما كان بإربل، وأقام عنده مدة، فاشتاق إلى أهله بالحظيرة فقال:   (1) ديوان سبط ابن التعاويذي: 102. (2) ن: وأرسل إليه. (3) ديوان سبط ابن التعاويذي: 236. (4) لم يرد في المختار بعد هذه الترجمة سوى ذكر الوفاة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 83 ألا من لصب قليل العزاء ... غريب يحن إلى المنزل ينادي بإربل أحبابه ... وأنى الحظيرة من إربل] وكان يحب الأدب والشعر، أنشدني بعض أصحابنا قال: كثيرا ما كان ينشد أبياتا من جملتها: إذا أدمت قوارصكم فؤادي ... صبرت على أذاكم وانطويت وجئت إليكم طلق المحيا ... كأني ما سمعت وما رأيت [وهذان البيتان من جملة أبيات لأسامة بن منقذ (1) - المقدم ذكره] وقد تقدم في ترجمة العلم أبي علي الحسن بن سعيد الشاتاني ذكر بيتين عملهما فيه لما قبض عليه (2) وبالجملة فآثاره مشهورة. وكان مجد الدين أبو السعادات المبارك بن الأثير الجزري صاحب جامع الأصول كاتبا بين يديه ومنشئا عنه إلى الملوك، وكان قد مات الأتابك سيف الدين وتولى أخوه عز الدين مسعود، فسعى أهل الفساد إليه في حقه، وكثير ذلك منهم فقبض عليه في سنة تسع وثمانين وخمسمائة، ثم ظهر له فساد رأيه في ذلك، فأطلقه وأعاده إلى ما كان عليه. واستمر على ذلك إلى أن توفي في منتصف شهر ربيع الأول، وقيل في سادسه، وقال ابن المستوفي في تاريخ إربل: في صفر سنة خمس وتسعين وخمسمائة بقلعة الموصل. وكان شروعه في عمارة جامعه بالموصل في سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة، رحمه الله تعالى.   (1) ديوان أسامة: 115. (2) وقد تقدم ... عليه: سقط من س ر؛ وترجمة الشاتان 2: 113 ولم يرد فيها البيتان المشار إليهما، ولا ورداً في المسودة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 84 (1) 541 قتادة السدوسي أبو الخطاب قتادة بن دعامة بن عزيز بن عمرو بن (2) ربيعة بن عمرو بن الحارث ابن سدوس، السدوسي البصري الأكمه، كان تابعيا وعالما كبيرا، قال أبو عبيدة: ما (3) كنا نفقد في كل يوم راكبا من ناحية بني أمية ينيخ على باب قتادة فيسأله عن خبر أو نسب أو شعر، وكان قتادة أجمع الناس. وقال معمر: سألت أبا عمرو بن العلاء عن قوله تعالى: (وما كنا له مقرنين) ، فلم يجبني، فقلت: إني سمعت قتادة يقول: مطيقين، فسكت، فقلت له: ما تقول يا أبا عمرو فقال: حسبك قتادة، فلولا كلامه في القدر - وقد قال صلى الله عليه وسلم إذا ذكر القدر فأمسكوا - لما عدلت به أحدا من أهل دهره. وقال أبو عمرو: كان قتادة من أنسب الناس، كان قد أدرك دغفلا، وكان يدور البصرة أعلاها وأسفلها بغير قائد، فدخل مسجد البصرة، فإذا بعمرو بن عبيد ونفر معه قد اعتزلوا من حلقة الحسن البصري وحلقوا وارتفعت أصواتهم، فأمهم وهو يظن أنها حلقة الحسن، فلما صار معهم عرف أنها ليست هي، فقال: إنما هؤلاء المعتزلة، ثم قام عنهم، فمذ يومئذ سموا المعتزلة. وكانت ولادته سنة ستين للهجرة. وتوفي سنة سبع عشرة ومائة بواسط،   (1) ترجمته في طبقات ابن سعد 7: 229 والمعارف: 462 والجرح والتعديل 3/2: 133 وطبقات الشيرازي، الورقة: 25 ومعجم الأدباء 17: 9 ونكت الهميان: 230 وتذكرة الحفاظ: 122 وميزان الاعتدال 3: 385 وعبر الذهبي 1: 146 وتهذيب التهذيب 8: 351 والشذرات 1: 153 وانظر جمهرة ابن حزم: 318. (2) ر: ابن عمرو بن دعامة بن عمرو بن ربيعة ... وسقط النسب بعد " دعامة " الأولى في س. (3) ما: سقطت من ر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 85 وقيل ثماني عشرة، رضي الله عنه (1) . والسدوسي: بقتح السين المهملة وضم الدال المهملة وسكون الواو وبعدها سين ثانية، هذه النسبة إلى سدوس بن شيبان، وهي قبيلة كبيرة كثيرة العلماء وغيرهم. (154) ودغفل: بفتح الدال المهملة وسكون الغين المعجمة وفتح الفاء ثم لام، هو ابن حنظلة السدوسي النسابة، أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسمع منه شيئا، وقدم على معاوية، وكان أنسب العرب، وقتلته الأزارقة [وقيل إنه غرق بدجيل في وقعة دولاب، وهو الأصح] (2) . (3) 542 قتيبة بن مسلم أبو حفص قتيبة بن أبي صالح مسلم بن عمرو بن الحصن بن ربيعة بن خالد بن أسيد الخير بن قضاعي بن هلال بن سلامة بن ثعلبة بن وائل بن معن بن مالك بن أعصر بن سعد بن قيس عيلان بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، الباهلي أمير خراسان زمن عبد الملك بن مروان من جهة الحجاج بن يوسف الثقفي لأنه كان أمير العراقين، وكل من كان يليهما كانت خراسان مضافة إليه، وأقام بها ثلاث عشرة سنة، وكان من قبلها على الري [وتولى خراسان بعد يزيد   (1) بواسط ... عنه: سقط من س. (2) زيادة من ر. (3) أخباره في الكتب التاريخية التي تتناول الفتوحات زمن الوليد بن عبد الملك كالطبري وابن الأثير وابن خلدون، وانظر معجم المرزباني: 212 ونوادر المخطوطات 1: 193 والمعارف: 406 وخزانة الأدب 3: 657 وصفحات متفرقة من البيان والتبيين وثمار القلوب والكامل للمبرد وعبر الذهبي 1: 114 والشذرات 1: 111. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 86 ابن المهلب بن أبي صفرة وفي ترجمة يزيد شرح ذلك] (1) وهو الذي افتتح خوارزم وسمرقند وبخارى، وقد كانوا كفروا. وكان شهما مقداما نجيبا، وكان أبوه مسلم كبير القدر عند يزيد بن معاوية، وهو صاحب الحرون (2) ، وكان الحرون من الفحول المشاهير يضرب به المثل. ثم فتح قتيبة فرغانة في سنة خمس وتسعين في أواخر أيام الوليد بن عبد الملك [وقال أهل التاريخ: بلغ قتيبة بن مسلم في غزو الترك والتوغل في بلاد ما وراء النهر وافتتاح القلاع واستباحة البلاد وأخذ الأموال وقتل الفتاك ما لم يبلغه المهلب بن أبي صفرة ولا غيره، حتى إنه فتح بلاد خوارزم وسمرقند في عام واحد، ولما فتح هاتين المدينتين الجليلتين عادت السغد وحملت الاتاوة. ودعا قتيبة لما تمت له هذه الأحوال نهار بن توسعة شاعر المهلب بن أبي صفرة وبنيه، وقال له: أين قولك في المهلب لما مات: ألا ذهب الغزو المقرب للغنى ... ومات الندى والجود بعد المهلب أفغزو هذا يا نهار قال: لا بل هذا حشر. ثم قال نهار وأنا القائل: ولا كان مذ كنا ولا كان قبلنا ... ولا هو فيما بعدنا كابن مسلم أعم لأهل الترك قتلا بسيفه ... وأكثر فينا مقسما بعد مقسم ثم إنه لما بلغ الحجاج ما فعل قتيبة من الفتوحات والقتل والسبي قال: بعثت قتيبة فتى غزاء فما زدته باعا إلا زادني ذراعا] (3) . فلما مات الوليد في سنة ست وتسعين وتولى الأمر أخوه سليمان بن عبد الملك وكان يكره قتيبة لأمر يطول شرحه، فخاف منه قتيبة وخلع بيعة سليمان وخرج عليه وأظهر الخلاف، فلم يوافقه على ذلك أكثر الناس، وكان قتيبة قد عزل وكيع بن حسان بن [قيس بن يوسف بن كلب بن عوف بن مالك بن   (1) انفردت به ر. (2) انظر أنساب الخيل: 117 - 127. (3) انفردت به ر وكذلك كل ما يرد بين معقفين في هذه الترجمة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 87 غدانة واسم غدانة أشرس] وكنيه وكيع أبو المطرف الغداني (1) عن رياسة بني تميم، فحقد وكيع عليه وسعى في تأليب الجند سرا وتقاعد عن قتيبة متمارضا، ثم خرج عليه وهو بفرغانة فقتله مع أحد عشر من أهله، وذلك في ذي الحجة سنة ست وتسعين للهجرة، وقيل سنة سبع وتسعين. ومولده سنة تسع وأربعين، وتولى خراسان تسع سنين وسبعة أشهر، هكذا قال السلامي في تاريخ ولاة خراسان وهو خلاف ما قيل أولا [وقال الطبري: تولى خراسان سنة ست وثمانين] وفي قتله يقول جرير: ندمتم على قتل الأغر ابن مسلم ... وأنتم إذا لاقيتم الله أندم لقد كنتم من غزوة في غنيمة ... وأنتم لمن لاقيتم اليوم مغنم على أنه أفضى إلى حور جنة ... وتطبق بالبلوى عليكم جهنم وقتل أبوه مسلم بن عمرو (2) مع مصعب بن الزبير في سنة اثنتين وسبعين للهجرة. (155) وقتيبة المذكور جد [أبي عمرو] سعيد بن سلم (3) بن قتيبة بن مسلم، وكان سعيد المذكور سيدا كبيرا ممدحا، وفيه يقول عبد الصمد بن المعذل يرثيه (4) : كم يتيم نعشته بعد يتم ... وفقير أغنيته بعد عدم كلما عضت النوائب نادى ... رضي الله عن سعيد بن سلم وتولى سعيد أرمينية والموصل والسند وطبرستان وسجستان والجزيرة، وتوفي سنة سبع عشرة ومائتين، ومن أخباره أنه قال (5) : لما كنت واليا بأرمينية   (1) ل س ن لي بر: عزل وكيع بن أبي سود الغداني. (2) انظر أخبار مسلم بن عمرو في المعارف: 406 وأنساب الخيل: 117 وما بعدها وأماكن متفرقة من تاريخ ابن الأثير (ج: 4) والكامل 3: 9 والأمالي. (3) وردت بعض أخبار سعيد في المعارف: 407 والبيان والتبيين 2: 40، 254 وتاريخ ابن الأثير (ج: 6) . (4) الكامل 3: 7. (5) انظر الخبر في البيان والتبيين 2: 200. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 88 أتاني أبو دهمان الغلابي (1) فقعد على بابي أياما فلما وصل إلي جلس قدامي بين السماطين، وقال: والله إني لأعرف أقواما لو علموا أن سف التراب يقيم أود أصلابهم لجعلوه مسكة لأرماقهم إيثارا للتنزه عن عيش رقيق الحواشي، أما والله إني لبعيد الوثبة، بطيء العطفة، إنه والله (2) ما يثنيني عليك إلا مثل ما يصرفك عني، ولأن أكون مقلا مقربا أحب إلي من أن أكون مكثرا مبعدا، والله ما نسأل عملا لا نضبطه، ولا مالا إلا ونحن أكثر منه، إن هذا الأمر الذي صار في يديك قد كان في يد غيرك فأمسكوا والله حديثا إن خيرا فخير وإن شرا فشر، فتحبب إلى عباد الله بحسن البشر ولين (3) الحجاب، فإن حب عباد الله موصول بحب الله (4) ، وهم شهداء الله على خلقه، ورقباء على من اعوج عن سبيله، والسلام. ولما مات ولده عمرو بن سعيد المذكور رثاه أبو عمرو أشجع بن عمرو السلمي الرقي نزيل البصرة الشاعر المشهور بقوله: مضى ابن سعيد حين لم يبق مشرق ... ولا مفرب إلا له فيه مادح وما كنت أدري ما فواضل كفه ... على الناس حتى غيبته الصفائح وأصبح في لحد من الأرض ضيق ... وكانت به حيا تضيق الصحاصح سأبكيك ما فاضت دموعي فإن تغض ... فحسبك مني ما تجن الجوانح فما أنا من رزء وإن جل جازع ... ولا بسرور بعد موتك فارح كأن لم يمت حي سواك ولم يقم ... على أحد إلا عليك النوائح لئن حسنت فيك المرائي وذكرها ... لقد حسنت من قبل فيك المدائح وهذه المرثية من محاسن المراثي، وهي في كتاب " الحماسة " (5) والبيت الأخير   (1) س ن بر: العلاني؛ وأخبار أبي دهمان في الأغاني 22: 269. (2) ل: أما والله. (3) ن: ويمن؛ البيان: ولين الجانب. (4) زاد في ر: وبغضهم موصول ببغضه، وكذلك ثبت في البيان. (5) الحماسية رقم: 280 (شرح المرزوقي: 856) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 89 منها مثل قول مطيع بن إياس في يحيى بن زياد من جملة أبيات: يا خير من يحسن البكاء له ال ... يوم ومن كان أمس للمدح وهذه الأبيات في " الحماسة " (1) في باب المراثي. وأخباره كثيرة. وقد تقدم الكلام على الباهلي في ترجمة الأصمعي، وأن هذه النسبة إلى أي شيء هي، وكانت العرب تستنكف من الانتساب إلى هذه القبيلة حتى قال الشاعر: وما ينفع الأصل من هاشم ... إذا كانت النفس من باهله وقال الآخر: ولو قيل للكلب يا باهلي ... عوى الكلب من لؤم هذا النسب وقيل لأبي عبيدة: يقال إن الأصمعي دعي في نسبه إلى باهلة، فقال: هذا ما يمكن، فقيل: ولم فقال: لأن الناس إذا كانوا من باهلة تبرأوا منها، فكيف يجيء من ليس منها وينتسب إليها ورأيت في بعض المجاميع أن الأشعث ابن قيس الكندي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أتتكافأ دماؤنا فقال: نعم، ولو قتلت رجلا من باهلة لقتلتك به. وقال قتيبة بن مسلم المذكور لهبيرة بن مسروح: أي رجل أنت لو كان أخوالك من غير سلول فلو بادلت بهم، فقال: أصلح الله الأمير، بادل بهم من شئت من العرب وجنبني باهلة. ويحكى أن أعرابيا لقي شخصا في الطريق فسأله: ممن أنت فقال: من باهلة، فرثى له الأعرابي، فقال ذلك الشخص: وأزيدك أني لست من صميمهم، ولكن من مواليهم، فأقبل الأعرابي عليه يقبل يديه ورجليه، فقال له: ولم ذاك فقال: لأن الله تبارك وتعالى ما ابتلاك بهذه الرزية في الدنيا إلا ويعوضك الجنة في الآخرة. وقيل لبعضهم: أيسرك أن تدخل الجنة وأنت   (1) شرح المرزوقي: 853. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 90 باهلي فقال: نعم، بشرط ألا يعلم أهل الجنة أني باهلي، والأخبار في ذلك كثيرة، رحمهم الله أجمعين. وسئل حسين بن بكر الكلابي النسابة عن السبب في اتضاع باهلة وغني عند العرب، فقال: لقد كان بينهما غناء وشرف، ولم يضعهما إلا إشراف أخويهما فزارة وذبيان عليهما بالمآثر، فدنؤا (1) بالإضافة إليهما [ذكر ذلك الوزير أبو القاسم المغربي في كتاب " أدب الخواص "] وقد تقدم الكلام على قتيبة في ترجمة عبد الله بن مسلم بن قتيبة (2) . 543 - (3) بهاء الدين قراقوش أبو سعيد قراقوش بن عبد الله الأسدي، الملقب بهاء الدين، كان خادم صلاح الدين، وقيل خادم أسد الدين شيركوه عم السلطان صلاح الدين، فأعتقه - وقد تقدم ذكره في ترجمة الفقيه عيسى الهكاري (4) . ولما استقل صلاح الدين بالديار المصرية جعله زمام القصر، ثم ناب عنه مدة بالديار المصرية، وفوض أمورها إليه واعتمد في تدبير أحوالها عليه، وكان رجلا مسعودا وصاحب همة عالية، وهو الذي بنى السور المحيط بالقاهرة ومصر وما بينهما وبنى قلعة الجبل، وبنى القناطر التي بالجيزة على طريق الأهرام، وهي آثار دالة على علو الهمة، وعمر بالمقس رباطا، وعلى باب الفتوح بظاهر القاهرة خان سبيل.   (1) قد تقرأ في المختار " فدقا ". (2) انظر ج 3: 43. (3) ترجمته في مرآة الزمان: 504 وذيل الروضتين: 19 والنجوم الزاهرة 6: 176 والسلوك 1/ 1: 158 والشذرات 4: 331 وعبر الذهبي 4: 298 ويجب ألا يخلط بينه وبين شرف الدين قراقوش التقوى المظفري الذي قام بمغامرات كثيرة في طرابلس الغرب وإفريقية. (4) انظر ج 3: 497. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 91 وله وقف كثير لا يعرف مصرفه، وكان حسن المقاصد جميل النية. ولما أخذ صلاح الدين مدينة عكا من الفرنج سلمها إليه، ثم لما عادوا واستولوا عليها حصل أسيرا في أيديهم، ويقال إنه افتك نفسه بعشرة آلاف دينار وذكر شيخنا القاضي بهاء الدين بن شداد في سيرة صلاح الدين (1) أنه انفك من الأسر في يوم الثلاثاء حادي عشر شوال سنة ثمان وثمانين وخمسمائة، ومثل في الخدمة الشريفة السلطانية، ففرح به فرحا شديدا، وكان له حقوق كثيرة على السلطان وعلى الإسلام والمسلمين، واستأذن في المسير إلى دمشق ليحصل مال القطيعة، فأذن له في ذلك، وكان - على ما ذكر - ثلاثين ألفا (2) والناس ينسبون إليه أحكاما عجيبة في ولايته، حتى إن الأسعد بن مماتي - المقدم ذكره (3) - له جزء لطيف سماه الفاشوش في أحكام قراقوش وفيه أشياء (4) يبعد وقوع مثلها منه، والظاهر أنها موضوعة، فإن صلاح الدين كان معتمدا في أحوال المملكة عليه، ولولا وثوقه بمعرفته وكفايته ما فوضها إليه. وكانت وفاته في مستهل رجب سنة سبع وتسعين وخمسمائة بالقاهرة، ودفن في تربته المعروفة به بسفح المقطم (5) بقرب البئر والحوض اللذين أنشأهما على شفير الخندق، رحمه الله تعالى. وقراقوش: بفتح القاف والراء وبعد الألف قاف ثانية ثم واو وبعدها شين معجمة، وهو لفظ تركي تفسيره بالعربي العقاب، الطائر المعروف، وبه سمي الإنسان، والله أعلم (6) .   (1) سيرة صلاح الدين: 239. (2) سيرة صلاح الدين: ثمانين ألفاً؛ والمحصور بين معقفين من ر وحدها. (3) انظر ج 1: 210. (4) ر: وذكر أشياء. (5) عند هذا الحد في س: قوبل معارضة بالكبرى، وسقطت بقية النص حتى آخر الترجمة. (6) وقراقوش ... أعلم: سقط من ل ن لي بر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 92 (1) 544 قطري بن الفجاءة أبو نعامة قطري بن الفجاءة، واسمه جعونة، بن مازن بن يزيد بن زياد ابن خنثر بن كابية (2) بن حرقوص بن مازن بن مالك بن عمرو بن تميم بن مر، المازني الخارجي، خرج زمن مصعب بن الزبير لما ولي العراق نيابة عن أخيه عبد الله بن الزبير وكانت ولاية مصعب في سنة ست وستين للهجرة فبقي قطري عشرين سنة يقاتل ويسلم عليه بالخلافة، وكان الحجاج بن يوسف الثقفي يسير إليه جيشا بعد جيش وهو يستظهر عليهم. وحكي عنه أنه خرج في بعض حروبه وهو على فارس أعجف وبيده عمود خشب، فدعا إلى المبارزة، فبرز إليه رجل، فحسر له قطري عن وجهه، فلما رآه الرجل ولى عنه، فقال له قطري: إلى أين فقال: لا يستحيي الإنسان أن يفر منك. وقد ذكر أبو العباس المبرد في كتاب الكامل (3) من أخبارهم ومحارباتهم قطعة كبيرة. ولم يزل الحال بينهم كذلك حتى توجه إليه سفيان بن الأبرد الكلبي، فظر عليه وقتله في سنة ثمان وسبعين للهجرة، وكان المباشر لقتله سودة بن أبجر (4)   (1) أخباره في تاريخ الطبري وابن الأثير وأنساب الأشراف والأخبار الطوال: 270 والكامل للمبر، وانظر سمط الآلي: 590 والبيان والتبيين 1: 341 والنجوم الزاهرة 1: 197 وأمالي المرتضى 1: 636 وعبر الذهبي 1: 90 والشذرات 1: 86 ومجموعة شعر الخوارج: 41 - 50. (2) اضطربت أعلام هذا النسب في النسخ، ففي س: كايبة؛ ر: زيد مناة بن جبير بن كاتبه، وسقط من ل ن لي ما بعد مازن حتى مازنت الثانية. وانظر جمهرة ابن حزم: 212. (3) انظر الكامل 3: 163 وما بعدها. (4) ن: الحر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 93 الدارمي، وقيل إن قتله كان بطبرستان في سنة تسع وسبعين، وقيل عثر به فرسه فاندقت فخذه فمات، فأخذ رأسه فجيء به إلى الحجاج. قلت (1) : هكذا قال أهل التاريخ والله أعلم أنه أقام عشرين سنة يقاتل ويسلم عليه بالخلافة، وتاريخ خروجه وقتله بخلاف ذلك فتأمله. ولا عقب لقطري، وإنما قيل لأبيه الفجاءة لأنه كان باليمن، فقدم على أهله فجاءة، فسمي به وبقي عليه، وقطري هو الذي عناه الحريري في المقامة السادسة بقوله (2) : فقلدوه في هذا الأمر الزعامة، تقليد الخوارج أبا نعامة وكان رجلا شجاعا مقداما كثير الحروب والوقائع، قوي النفس لا يهاب الموت، وفي ذلك يقول مخاطبا لنفسه (3) : أقول لها وقد طارت شعاعا ... من الأبطال ويحك لا تراعي فإنك لو سألت بقاء يوم ... على الأجل الذي لك لم تطاعي فصبرا في مجال الموت صبرا ... فما نيل الخلود بمستطاع ولا ثوب الحياة (4) بثوب عز ... فيطوى عن أخي الخنع اليراع سبيل الموت غاية كل حي ... وداعية لأهل الأرض داعي ومن لا يغتبط يسأم ويهرم ... وتسلمه المنون إلى انقطاع وما للمرء خير في حياة ... إذا ما عد من سقط المتاع وهذه الأبيات مذكورة في الحماسة في الباب الأول، وهي تشجع أجبن خلق الله، وما أعرف في هذا الباب مثلها، وما صدرت إلا عن نفس أبية وشهامة عربية. وهو معدود في جملة خطباء العرب المشهورين بالبلاغة والفصاحة.   (1) قلت: سقطت من س ل ن لي. (2) مقامات الحريري: 60 - 61. (3) شعر الخوارج: 42 - 43 وتخريجها ص: 162. (4) هامش س: خ: البقاء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 94 روي أن الحجاج قال لأخيه: لأقتلنك، فقال: لم ذلك قال: لخروج أخيك، قال: فإن معي كتاب أمير المؤمنين أن لا تأخذني بذنب أخي، قال: هاته، قال: فمعي ما هو أوكد منه، قال: ما هو قال: كتاب الله عز وجل، حيث يقول: (ولا تزر وازرة وزر أخرى) ، فعجب منه وخلى سبيله. وفي قطري قال حصين بن حفصة السعدي من أبيات (1) : وأنت الذي لا نستطيع فراقه ... حياتك لا نفع وموتك ضائر وقد ضبطت أسماء أجداده ضبطا يغني عن التقييد، ففيه تطويل، فمن كتبه فليعتمد على هذا الضبط ففيه كفاية، وكذلك الألفاظ التي في الأبيات مضبوطة (2) . وقد قيل: إن قولهم قطري ليس باسم له، ولكنه نسبة إلى موضع بين البحرين وعمان، وهو اسم بلد كان منه أبو نعامة المذكور، فنسب إليه، وقيل إنه هو قصبة عمان، والقصبة هي كرسي الكورة.   (1) شعر الخوارج: 40. (2) قلت: يشير المؤلف هنا إلى ما صنعه في نسخته، وليس ذلك متيسراً، ولم يرد مثل هذا الضبط في المختار. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 95 فراغ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 96 حرف الكاف الجزء: 4 ¦ الصفحة: 97 فراغ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 98 (1) 545 كافور الإخشيدي أبو المسك كافور بن عبد الله الإخشيدي - وقد سبق شيء من خبره في ترجمة فاتك -، وكان كافور (2) عبدا لبعض أهل مصر، ثم اشتراه أبو بكر محمد ابن طغج الإخشيد - الآتي ذكره إن شاء الله تعالى - في سنة اثنتي عشرة وثلثمائة بمصر من محمود بن وهب بن عباس وترقى عنده إلى أن جعله أتابك ولديه. وقال محمد وكيل الأستاذ كافور: خدمت الأستاذ (3) والجراية التي يطلقها ثلاث عشرة جراية في كل يوم، ومات وقد بلغت علي يدي ثلاثة عشر ألفا في كل يوم. ولما توفي الإخشيد في التاريخ المذكور في ترجمته تولى مملكة مصر والشام ولده الأكبر وهو أبو القاسم أنوجور، ومعناه بالعربي محمود، بعقد الراضي له، وقام كافور بتدبير دولته أحسن قيام إلى أن توفي أنوجور يوم السبت لثمان [وقيل لسبع] (4) خلون من ذي العقدة سنة تسع وأربعين وثلثمائة، وحمل إلى القدس ودفن عند أبيه. وكانت ولادته بدمشق يوم الخميس لتسع خلون من ذي الحجة سنة تسع عشرة وثلثمائة، رحمه الله تعالى. وتولى بعدة أخوه أبو الحسن علي، وملك الروم في أيامه حلب والمصيصة وطرسوس وذلك الصقع أجمع، فاستمر كافور على نيابته وحسن إيالته، إلى أن توفي علي المذكور في سنة خمس وخمسين وثلثمائة، وقيل بل توفي لإحدى عشرة ليلة خلت من المحرم سنة أربع وخمسين،   (1) انظر أخباره في المغرب (قسم مصر) : 199 وصفحات متفرقة من تاريخ ابن الأثير (ج: 8) والولاة والقضاة: 297 وابن خلدون 4: 314 والنجوم الزاهرة 4: 1 - 10 وديوان المتنبي: 436 - 438 والكواكب السيارة: 199. (2) ر بر: كافور المذكور. (3) المختار: كافوراً. (4) ما بين معقفين لم يرد في النسخ الخطية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 99 وكانت ولادته يوم الثلاثاء لأربع بقين من صفر سنة ست وعشرين وثلثمائة بمصر، رحمه الله تعالى. ثم استقل كافور بالمملكة من هذا التاريخ وأشير عليه بإقامة الدعوة لولد أبي الحسن علي بن الإخشيد، فاحتج بصغر سنة، وركب بالمطارد، وأظهر خلعا جاءته من العراق وكتابا بتكنيته، وركب بالخلع [يوم الثلاثاء لعشر خلون من صفر سنة خمس وخمسين وثلثمائة] (1) وكان وزيره أبا الفضل جعفر بن الفرات - المقدم ذكره (2) -. وكان كافور يرغب في أهل الخير ويعظمهم، وكان أسود اللون شديد السواد بصاصا، واشتراه الإخشيد بثمانية عشر دينارا على ما نقل، وقد سبق في ترجمة الشريف ابن طباطبا شيء من خبره معه. وكان أبو الطيب المتنبي قد فارق سيف الدولة بن حمدان - المقدم ذكره (3) - مغاضبا له، وقصد مصر وامتدح كافورا بأحسن المدائح، فمن ذلك قوله في أول قصيدة أنشأها له في جمادى الآخرة سنة ست وأربعين وثلثمائة، وقد وصف فيها الخيل ثم قال (4) : قواصد كافور توارك غيره ... ومن قصد البحر استقل السواقيا فجاءت بنا إنسان عين زمانه ... وخلت بياضا خلفها ومآقيا ولقد أحسن في هذا غاية الإحسان. وأنشده أيضا في شوال سنة سبع وأربعين قصيدته البائية التي يقول فيها (5) : وأخلاق كافور إذا شئت مدحه ... وإن لم أشأ تملي علي فأكتب إذا ترك الإنسان أهلا وراءه ... ويمم كافورا فما يتغرب ومن جملتها: يضاحك في ذا العيد كل حبيبه ... حذائي وأبكي من أحب وأندب   (1) لم يرد في النسخ الخطية. (2) انظر ج 1: 346. (3) انظر ج 3: 401. (4) ديوان المتنبي: 439. (5) ديوانه: 465. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 100 أحن إلى أهلي وأهوى لقاءهم ... وأين من المشتاق عنقاء مغرب فإن لم يكن إلا أبو المسك أو هم ... فإنك أحلى في فؤادي وأعذب وكل امرئ يولي الجميل محبب ... وكل مكان ينبت العز طيب [وحكي عن المتنبي أنه قال: كنت إذا دخلت على كافور أنشده يضحك إلي ويبش في وجهي، إلى أن أنشدته (1) : ولما صار ود الناس خبا ... جزيت على ابتسام بابتسام وصرت أشك فيمن أصطفيه ... لعلمي أنه بعض الأنام قال: فما ضحك بعدها في وجهي إلى أن تفرقنا، فعجبت من فطنته وذكائه] (2) . وآخر شيء أنشده في شوال سنة تسع وأربعين ولم يلقه بعدها قصيدته البائية وشابها بطرف من العتب، ومنها (3) : أرى لي بقربي منك عينا قريرة ... وإن كان قربا بالبعاد يشاب وهل نافعي أن ترفع الحجب بيننا ... ودون الذي أملت منك حجاب أقل سلامي حب ما خف عنكم ... وأسكت كيما لا يكون جواب وفي النفس حاجات وفيك فطانة ... سكوتي بيان عندها وخطاب وما أنا بالباغي على الحب رشوة ... ضعيف هوى يبغي عليه ثواب وما شئت إلا أن أدل عواذلي ... على أن رأيي في هواك صواب وأعلم قوما خالفوني فشرقوا ... وغربت أنى قد ظفرت وخابوا جرى الخلف إلا فيك أنك واحد ... وأنك ليث والملوك ذئاب وأنك إن قويست صحف قارئ ... ذئابا ولم يخطئ فقال ذباب وإن مديح الناس حق وباطل ... ومدحك حق ليس فيه كذاب إذا نلت منك الود فالمال هين ... وكل الذي فوق التراب تراب   (1) ديوان المتنبي: 476. (2) لم يرد إلا في المختار. (3) ديوانه: 481. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 101 وما كنت لولا أنت إلا مهاجرا ... له كل يوم بلدة وصحاب ولكنك الدنيا إلي حبيبة ... فما عنك لي إلا إليك ذهاب وأقام المتنبي بعد إنشاده هذه القصيدة بمصر سنة لا يلقى كافورا غضبا عليه لكنه يركب في خدمته خوفا منه ولا يجتمع به، واستعد للرحيل في الباطن، وجهز جميع ما يحتاج إليه، وقال في يوم عرفة سنة خمسين وثلثمائة قبل مفارقته مصر بيوم واحد قصيدته الدالية التي هجا كافورا فيها، وفي آخر هذه القصيدة: من علم الأسود المخصي مكرمة ... أقومه البيض أم آباؤه الصيد [أم أذنه في يد النحاس دامية ... أم قدره وهو بالفلسين مردود] (1) وذاك أن الفحول البيض عاجزة ... عن الجميل فكيف الخصية السود وله فيه أهاج كثيرة تضمنها ديوانه، ثم فارقه بعد ذلك، ورحل إلى عضد الدولة بن بويه بشيراز - حسبما تضمنه ترجمته (2) . ورأيت في بعض المجاميع قال بعضهم: حضرت مجلس كافور الإخشيدي، فدخل رجل ودعا له وقال في دعائه: أدام الله أيام مولانا، بكسر الميم من أيام، فتحدث جماعة من الحاضرين في ذلك وعابوه عليه، فقام رجل من أوساط الناس وأنشد مرتجلا وهو أبو اسحاق إبراهيم بن عبد الله بن محمد بن حشيش النجيرمي اللغوي الاخباري كاتب كافور (3) ، والذي دعا لكافور ولحن هو أبو الفضل ابن عياش (4) : لا غرو أن لحن الداعي لسيدنا ... أو غض من دهش بالريق أو بهر فتلك هيبته حالت جلالتها ... بين الأديب وبين القول بالحصر   (1) ديوان المتنبي: 487. (2) ورد هنا في ر عبارة: وأخبار كافور كثيرة، وستأتي بعد النص التالي. (3) ترد هذه الأبيات في ترجمة النجيرمي النحوي في معجم الأدباء 1: 199 وانباه الرواة 1: 171 وفي البقية " جسنس " موضع " حشيش ". (4) في ياقون وبغية الوعاة: الفضل بن عباس؛ وأثبتنا ما في انباه الرواة ومطبوعة وستنفيلد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 102 فإن يكن خفض الأيام من غلط ... في موضع النصب لا عن قلة النظر فقد تفاءلت في هذا لسيدنا ... والفأل مأثورة عن سيد البشر بأن أيامه خفض بلا نصب ... وأن أوقاته صفر بلا كدر وأخبار كافور كثيرة. [ولما كثرت الزلازل بمصر في أيام كافور أنشده محمد بن عاصم قصيدة يقول فيها: ما زلزلت مصر من سوء يراد بها ... لكنها رقصت من عدله فرحا فأمر له بألف دينار، وقيل إن عطاءه ذلك حث المتنبي على المسير إلى مصر. ودخل على كافور غلام فقال: ما اسمك قال: كافور، فقال: نعم ما كل من اسمه محمد نبي. وله مع الشيخ عبد الله بن جابار الصوفي الزاهد شيخ البقاعي، رحمهما الله تعالى، وكان من كبار المشايخ، قصة عجيبة هي من غرر مناقبه، ذكر المسبحي في تاريخه قال: حدثني أبو الدابة كاتب أبي بكر القمي عن أبي الحسن البغدادي قال: وردت إلى مصر مع والدي وأنا صبي دون البلوغ في أيام كافور، وكان أبو بكر المحلي يتولى نفقات مصالحه وخواص خدمه، وقد نتجت بينه وبين أبي مودة، وكان يزوره ويصله، قال: فجاءه ذات يوم فتذاكرا أخبار كافور وطريقته وما هو عليه من الخشوع، فقال أبو بكر لأبي وأنا أسمع: هذا الأستاذ كافور له في كل عيد أضحى عادة، وهي أن يسلم إلي بغلا محملا ذهبا وورقا وجريدة تتضمن أسماء قوم من حد القرافة إلى المنامة وما بينهما، ويمضي معي صاحب الشرطة ونقيب يعرف المنازل، وأطوف من بعد العشاء الآخرة إلى آخر الليل حتى أسلم ذلك إلى من جعل له وتتضمن اسمه الجريدة، وأطوف منزل كل إنسان ما بين رجل وامرأة وأقول: الأستاذ أبو المسك كافور يهنيك بعيدك ويقول لك: اصرف هذا في منفعتك، فادفع إليه ما جعل له، فلما كان في هذا العيد جريت على العادة ورأيته زادني في الجريدة الشيخ أبو عبد الله ابن جابار مائة دينار فأنفقت المال في أربابه ولم يبق إلا الصرة، فجعلتها في كمي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 103 وسرت مع النقيب حتى أتينا منزله بظاهر القرافة، فطرقت الباب فنزل إلينا شيخ عليه أثر السهر فسلمت عليه فلم يرد علي وقال: ما حاجتك قلت: الأستاذ أبو المسك كافور يخص الشيخ بالسلام، فقال: والي بلدنا قلت: نعم، قال: حفظه الله، الله يعلم أنني أدعو له في الخلوات وأدبار الصلوات وللمسلمين بما الله سامعه ومجيبه، قلت: وقد أنفذ معي هذه الصرة وهو يسألك قبولها لتصرفها في مؤونة هذا العيد المبارك فقال: نحن رعيته ونحن نحبه في الله تعالى وما نفسد هذا بعلة، فراجعته القول فتبين لي الضجر في وجهه والقلق والتلهف واستحييت من الله تعالى أن أقطعه عما هو عليه فتركته وانصرفت، قال: فجئت فوجدت الأمير قد تهيأ للركوب وهو ينتظرني فلما رآني قال: هيه يا أبا بكر، فقلت له: أرجو أن يستجيب الله تعالى فيك كل دعوة صالحة دعيت لك في هذه الليلة وفي هذا اليوم الشريف، فقال: الحمد لله الذي جعلني سببا لإيصال الراحة إلى عياله، ثم أخبرته بامتناع ابن جابار فقال: نعم هو بذلك جدير، لم يجر بيننا وبينه معاملة قبل هذا اليوم، ثم قال لي: عد إليه واركب دابة من دواب النوبة فلست أشك فيما لقيت دابتك في هذه الليلة من التعب، ثم امض إليه واطرق بابه فإذا نزل إليك فإنه سيقول: ألم تكن عندنا فلا ترد عليه جوابا ثم استفتح واقرأ: (بسم الله الرحمن الرحيم طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى. إلا تذكرة لمن يخشى. تنزيلا ممن خلق الأرض والسموات العلى. الرحمن على العرش استوى، له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى) . يا ابن جابار، يقول لك كافور: ومن كافور العبد الأسود ومن مولاه ومن الخلق أبقي لأحد مع الله تعالى ملكة أو شركة تلاشى الناس كلهم، ها هنا تدري من معطيك وعلى من رددت أنت ما سألت، هو أرسل إليك يا ابن جابار، ما تفرق بين السبب والمسبب! قال: فركبت وسرت فطرقت منزله فنزل إلى وقال لي مثل لفظ كافور، فأضربت عن الجواب وقرأت طه ثم قلت له ما قال كافور، فبكى ابن جابار وقال: أين ما حملت فأخرجت له الصرة فأخذها وقال: علمنا الأستاذ كيف التصوف، قل له: أحسن الله جزاءك، قال: فعدت إليه فأخبرته فسر بذلك ثم سجد لله تعالى شكرا وقال: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 104 الحمد لله الذي جعلني سببا لإيصال الراحة إلى عبادة، ثم ركب حينئذ] (1) . ولم يزل مستقلا بالأمر بعد أمور يطول شرحها إلى أن توفي يوم الثلاثاء لعشر بقين من جمادى الأولى سنة خمس وخمسين وثلثمائة بمصر، وقيل إنه توفي يوم الأربعاء، وقيل توفي سنة خمس وخمسين وثلثمائة، وقيل سنة سبع وخمسين [وهو قول القضاعي في كتاب الخطط، والله أعلم، وكذا قال الفرغاني في تاريخه أيضا، رحمه الله تعالى] (2) والأول أصح، ودفن بالقرافة الصغرى، وقبته مشهورة هناك (3) ، ولم تطل مدته في الاستقلال على ما ظهر من تاريخ موت علي بن الإخشيد إلى هذا التاريخ. وكانت بلاد الشام في مملكته أيضا مع مصر (4) وكان يدعى له على المنابر بمكة والحجاز جميعه والديار المصرية وبلاد الشام من دمشق وحلب وأنطاكية وطرسوس والمصيصة وغير ذلك، وكان تقدير عمره خمسا وستين سنة على ما حكاه القرغاني في تاريخه، والله أعلم. [وكانت أيامه سديدة جميلة، ووقع الخلف فيمن ينصب للأمر بعده، إلى أن تقرر الأمر وتراضت الجماعة بولد أبي الحسن علي بن الإخشيد، وكانت ولاية كافور سنتين وثلاثة أشهر إلا سبعة أيام، وخطب لأبي الفوارس أحمد بن علي بن الإخشيد يوم الجمعة لسبع بقين من جمادى الأولى سنة سبع وخمسين، وبقية خبرهم مذكورة في ترجمة جده محمد الإخشيد] (5) .   (1) انفردت ر بما بين معقفين، وفي النص بعض اضطراب. (2) زيادة من ر. (3) زاد في ر: ولما دفن كتب على قبره بالقرافة الصغرى بقبة هناك مشهورة: انظر إلى عبر الأيام ما صنعت ... أفنت أناساً بها كانوا وما فنيت دنياهم ضحكت أيام دولتهم ... حتى إذا فنيت ناحت لهم وبكت وانظر النجوم الزاهرة 4: 10 وفيه أن تابوته حمل إلى القدس فدفن به. (4) هنا تنتهي الترجمة في ر. (5) ما بين معقفين سقط من النسخ الخطية وأثبتناه من المطبوعة؛ وفي هامش س حكاية ليست من الأصل وهي: " قيل كان في دار كافور قهرمانة بغدادية ما تهدأ من البكاء على ابنة لها خلقتها ببغداد بنت سبع سنين فقال لها كافور: منذ كم غبت عنها فقالت: من ثمان سنين، فأرسل كافور أمراً إلى صاحب له ببغداد وأمره بتحصيلها وإنفاذها، فحملت إلى مصر وقد صارت بنت ست عشرة سنة وحسنت؛ فلما صارت في دار كافور قال للجواري: أخرجنها علي في جوار يعرضن للبيع ولا تعلم القهرمانة، وتكون هي التي تخرجهن فجاءت إليه القهرمانة فقالت: يا مولاي، قد جاؤوا بالجواري فأعرضهن عليك فقال: افعلي، فاخرجتهن وبنتها فيهن ولا تعلم، فلما عرضن قال كافور للقهرمانة: ما فيهن إلا هذه الصبية، وأراها مليحة، فأيش عندك فقالت القهرمانة: نعم يا مولاي، هي والله مليحة حلوة، فقال لها: ويحك هي ابنتك، أرسلت إلى بغداد وتلطفت في أمرها حتى حملت إليك من بغداد، فقبلت الأرض بين يديه وبكت بكاء شديداً فكأنها القائل في بعض شعره: هجم السرور علي حتى إنه ... من عظم ما قد سرني أبكاني يا عين صار الدمع عندك عادة ... تبكين في فرح وفي أحزان ثم ضمت بنتها إليها واشتد بكاؤها وبكى كافور لبكائهما لما رأى من شوق كل واحدة منهما إلى الأخرى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 105 546 - (1) كثير عزة أبو صخر كثير بن عبد الرحمن بن أبي جمعة الأسود بن عامر بن عويمر الخزاعي، أحد عشاق العرب المشهورين به وقال ابن الكلبي في جمهرة النسب: هو كثير بن عبد الرحمن بن الأسود بن عويمر بن مخلد بن سعيد بن سبيع بن خثعمة (2) بن سعد بن مليح بن عمرو بن ربيعة بن حارثة بن عمرو مزيقياء بن عامر ماء السماء بن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد، وبقية   (1) ترجمته في الأغاني 9: 4، 12: 170، 15: 224 والمؤتلف: 169 وطبقات ابن سلام: 457 والموشح: 143 والشعر والشعراء: 410 وسمط اللآلي: 61 ومعجم المرزباني: 250 ومروج الذهب 3: 401 والعقد 2: 88 وعيون الأخبار 2: 144 وشذرات الذهب 1: 131 ومعاهد التنصيص 2: 136 وشرح شواهد المغني: 24 والخزانة 2: 381 وتزيين الأسواق 1: 43. (2) جمهرة ابن حزم: جعثمة؛ وفي النسب اختلاف عما هنا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 106 النسب معروفة، وربيعة بن حارثة هو لحي، وابنه عمرو بن لحي هو الذي رآه النبي صلى الله عليه وسلم يجر قصبه (1) في النار، وهو أول من سيب السوائب وبحر البحيرة وغير دين إبراهيم عليه السلام، ودعا العرب إلى عبادة الأصنام، وهذا لحي وأخوه أفصى ابنا حارثة هما خزاعة، ومنهما تفرقت، وإنما قيل لهم خزاعة لأنهم انقطعوا عن الأزد لما تفرقت الأزد من اليمن أيام سيل العرم وأقاموا بمكة، وسار الآخرون إلى المدينة والشام وعمان. وقال ابن الكلبي أيضا قبل هذا بقليل: والأشيم وهو أبو جمعة بن خالد بن عبيد بن مبشر بن رباح، وهو جد كثير بن عبد الرحمن صاحب عزة أبو أمه إليه ينسب] (2) . وهو صاحب عزة بنت جميل بن حفص بن إياس بن عبد العزى بن حاجب (3) ابن غفار بن مليل بن ضمرة [بن بكر بن عبد مناة بن كنانة بن خزيمة ابن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان. وقال السمعاني: جميل ابن وقاص بن حفص بن إياس، والله أعلم] (4) . وله معها حكايات ونوادر وأمور مشهورة، وأكثر شعره فيها. وكان يدخل على عبد الملك بن مروان وينشده، وكان رافضيا شديد التعصب لآل أبي طالب، حكى ابن قتيبة في " طبقات الشعراء " (5) أن كثيرا دخل يوما على عبد الملك فقال له عبد الملك: بحق علي بن أبي طالب هل رأيت أحدا أعشق منك قال: يا أمير المؤمنين، لو نشدتني بحقك أخبرتك، قال: نشدتك بحقي إلا ما أخبرتني، قال: نعم، بينا أنا أسير في بعض الفلوات إذا أنا برجل قد نصب حبالة، فقلت له: ما أجلسك ها هنا قال: أهلكني وأهلي الجوع، فنصبت حبالتي هذه لأصيد لهم شيئا ولنفسي ما يكفينا ويعصمنا يومنا هذا،   (1) القصب: الأمعاء. (2) ورد بعضه في المختار فقط بإيجاز. (3) لي ن ل س ر بر: حفص من بني حاجب؛ وما أثبتناه موافق لما في جمهرة ابن حزم ومطبوعة وستنفيلد. (4) ما بين معقفين في ر وحدها. (5) الشعر والشعراء: 416. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 107 قلت: أرأيت إن أقمت معك فأصبت صيدا تجعل لي منه جزءا قال: نعم، فبينا نحن كذلك إذ وقعت ظبية في الحبالة، فخرجنا نبتدر، فبدرني إليها فحلها وأطلقها، فقلت له: ما حملك على هذا قال: دخلتني لها رقة لشبهها بليلى، وأنشأ يقول: أيا شبه ليلى لا تراعي فإنني ... لك اليوم من وحشية لصديق أقول وقد أطلقتها من وثاقها ... فأنت لليلى ما حييت طليق ولما عزم عبد الملك على الخروج إلى محاربة مصعب بن الزبير ناشدته زوجته (1) عاتكة بنت يزيد بن معاوية أن لا يخرج بنفسه، وأن يستنيب غيره في حربه ولم تزل تلح عليه في المسألة وهو يمتنع من الإجابة، فلما يئست أخذت في البكاء حتى بكى من كان حولها من جواريها وحشمها، فقال عبد الملك: قاتل الله ابن أبي جمعة - يعني كثيرا - كأنه رأى موقفنا هذا حين قال: إذا ما أراد الغزو لم يثن عزمه ... حصان عليها نظم در يزينها نهته فلما لم تر النهي عاقه ... بكت فبكى مما شجاها قطينها ثم عزم عليها أن تقصر فأقصرت وخرج لقصده. ويقال إن عزة دخلت على أم البنين ابنة العزيز، وهي أخت عمر ابن عبد العزيز وزوجة الوليد بن عبد الملك: فقالت لها: أرأيت قول كثير: قضى كل ذي دين فوفى غريمه ... وعزة ممطول معنى غريمها ما كان ذلك الدين قالت: وعدته قبلة فحرجت منها، فقالت أم البنين: أنجزيها وعلي إثمها. [ثم ندمت أم البنين فاستغفرت الله تعالى وأعتقت عن هذه الكلمة أربعين رقبة] (2) .   (1) ر: امرأته. (2) بعد هذه الزيادة من ر جاء فيها: وكانت أم البنين عند هشام (كذا) ابن عبد الملك فهي ابنة عبد العزيز بن مروان، وقد سقط من هذه النسخة قوله فيما تقدم: وهي أخت ... عبد الملك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 108 وكان لكثير غلام عطار بالمدينة، وربما باع نساء العرب بالنسيئة، فأعطى عزة وهو لا يعرفها شيئا من العطر، فمطلته أياما، وحضرت إلى حانوته في نسوة فطالبها: فقالت له: حبا وكرامة، ما أقرب الوفاء وأسرعه، فأنشد متمثلا: قضى كل ذي دين فوفى غريمه ... وعزة ممطول معنى غريمها فقالت النسوة: اتدري من غريمتك قال: لا والله، فقلن: هي والله عزة فقال: أشهدكن الله أنها في حل مما لي قبلها، ثم مضى إلى سيده فأخبره بذلك، فقال كثير: وأنا أشهد الله أنك حر لوجهه، ووهبه جميع ما في حانوت العطر، فكان ذلك من عجائب الاتفاق. ولكثير في مطالها (1) بالوعد شعر كثير، فمن ذلك قوله: أقول لها عزيز مطلت ديني ... وشر الغانيات ذوو المطال فقالت ويح غيرك كيف أقضي ... غريما ما ذهبت له بمال (2) وله: وقد زعمت أني تغيرت بعدها ... ومن ذا الذي يا عز لا يتغير تغير جسمي والخليقة كالذي ... عهدت ولم يخبر بسرك مخبر ولما قتل يزيد بن المهلب بن أبي صفرة وجماعة من أهل بيته بعقر بابل - وسيأتي خبر ذلك في ترجمته إن شاء الله تعالى - وكانوا يكثرون الإحسان إلى كثير، فلما بلغه ذلك قال: ما أجل الخطب! ضحى بنو حرب (3) بالدين يوم الطف وضحى بنو مروان بالكرم يوم العقر، وأسبلت عيناه بالدموع.   (1) ر: ولكثير المذكور في مطالبتها. (2) بعد هذا الموضع وردت في ر زيادة وقد أثبتناها في ملحقات الجزء الأول على ترجمة جميل منقولة من ص (انظر ج! 1: ص 480) . (3) ر: بنو أبي سفيان. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 109 وحدث (1) أبو الفرج الأصبهاني صاحب كتاب " الأغاني " (2) أن كثيرا خرج من عند عبد الملك بن مروان وعليه مطرف، فاعترضته عجوز في الطريق اقتبست نارا في روثة، فتأفف كثير في وجهها، فقالت: من أنت قال: كثير عزة، فقالت: ألست القائل: فما روضة زهراء طيبة الثرى ... يمج الندى جثجاثها وعرارها بأطيب من أردان عزة موهنا ... إذا أوقدت بالمندل الرطب نارها فقال لها كثير: نعم، فقالت: لو وضع المندل الرطب على هذه الروثة لطيب رائحتها، هلا قلت كما قال امرؤ القيس: ألم ترياني كلما جئت طارقا ... وجدت بها طيبا وإن لم تطيب فناولها المطرف وقال: استري علي هذا. [وسمعت بعض مشايخ الأدب في زمن اشتغالي بالأدب يقول: إن النصف الثاني من البيت الثاني من تتمة أوصاف الروضة أيضا، فكأنه قال: إن هذه الروضة الطيبة الثرى التي يمج الندى جثجاثها وعرارها إذا أوقدت بالمندل الرطب نارها ما هي بأطيب من أردان عزة وعلى هذا لا يبقى عليه اعتراض، لكنه يبعد أن يكون هذا مقصوده] (3) . وكان كثير (4) ينسب إلى الحمق، ويروى أنه دخل يوما على يزيد بن عبد الملك فقال: يا أمير المؤمنين، ما يعني الشماخ بقوله: إذا الأرطى توسد أبرديه ... خدود جوازئ بالرمل عين (5)   (1) ر: وقال. (2) الأغاني 15: 225. (3) ما بين معقفين لم يرد إلا في المختار، وقد أثبتناه كذلك للتنبيه إليه وإلا فإنه من أصل المؤلف، ولا بد. (4) الشعر والشعراء: 410. (5) الأرطى: نوع من الشجر؛ أبرداه: ظله وفيثه، الجوازئ: التي جزأت بالرطب عن الماء، العين: ذوات الأعين النجل، يصف بقر وحش جزأت بالطرب عن الماء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 110 فقال يزيد: وما يضرني أن لا أعرف ما عنى هذا الأعرابي الجلف واسحمقه وأمر بإخراجه. ودخل (1) كثير على عبد العزيز بن مروان والد عمر يعوده في مرضه، وأهله يتمنون أن يضحك، وكان يومئذ أمير مصر، فلما وقف عليه قال: لولا أن سرورك لا يتم بأن تسلم وأسقم لدعوت الله ربي أن يصرف ما بك إلى، ولكني أسأل الله تعالى لك العافية ولي في كنفك النعمة، فضحك عبد العزيز، وأنشد كثير: ونعود سيدنا وسيد غيرنا ... ليت التشكي كان بالعواد لو كان يقبل فدية لفديته ... بالمصطفى من طارفي وتلادي ومما يستجاد من شعر كثير قصيدته التائية التي يقول من جملتها (2) : وإني وتهيامي بعزة بعد ما ... تسليت من وجد بها وتسلت لكالمرتجي ظل الغمامة كلما ... تبوأ منها للمقيل اضمحلت [وقال أبو علي القالي (3) : أنشدنا أبو عبد الله إبراهيم بن عرفة المعروف بنفطويه لكثير: ألا تلك عزة قد أقبلت ... تقلب للهجر طرفا غضيضا تقول مرضت فما عدتني ... وكيف يعود مريض مريضا ومن شعره أيضا:   (1) قارن بما في الشعر والشعراء: 422. (2) وردت هذه القصيدة التائية في مخطوطة منتهى الطلب وأمالي القالي والخزانة 2: 379 - 381 وبعضها في شرح شواهد المغني: 275 وتزيين الأسواق 1: 49 والعيني 2: 408 والحماسة البصرية، الورقة 151 وصفوة الأدب، الورقة: 72 وشواهد الكشاف: 55 والأغاني 9: 29 وزهر الآداب: 354. (3) الأمالي 1: 30. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 111 رهبان مدين والذين عهدتهم ... يبكون من حذر العذاب قعودا لو يسمعون كما سمعت كلامها ... خروا لعزة ركعا وسجودا] (1) [وبلغ كثيرا أن عزة مريضة وانها تشتاقه فخرج يريدها، فلما صار ببعض الطريق لقيه أعرابي من نهد فقال: يا أبا صخر، أين تريد قال: أريد عزة، قال: فهل رأيت في وجهك شيئا قال: لا، إلا اني رأيت غرابا ساقطا فوق بانة ينتف ريشه، قال: توافي مصر وقد ماتت عزة، فانتهره كثير ثم مضى وعاد كثير إلى مصر فوافاها والناس منصرفون من جنازة عزة فقال: رأيت غرابا ساقطا فوق بانة ... ينتف أعلى ريشه ويطايره فقلت ولو أني أشاء زجرته ... بنفسي للنهدي هل أنت زاجره فقال غراب لاغتراب وفرقة ... وبان فبين من حبيب تعاشره فما أعيف النهدي لا در دره ... وازجره للطير لا عز ناصره] (2) وكان كثير بمصر وعزة بالمدينة، فاشتاق إليها فسافر نحوها، فلقيها في الطريق وهي متوجهة إلى مصر، وجرى بينهما كلام يطول شرحه، ثم إنها انفصلت عنه وقدمت إلى مصر، وعاد كثير إلى مصر فوافاها والناس ينصرفون من جنازتها فأتى قبرها وأناخ راحلته عنده، ومكث ساعة، ثم رحل وهو ينشد أبياتا منها: أقول ونضوي واقف عند قبرها ... عليك سلام الله والعين تسفح وقد كنت أبكي من فراقك حية ... فأنت لعمري اليوم أنأى وأنزح (3)   (1) ما بين معقفين زيادة من ر لم ترد في المختار وكذلك لم ترد في المطبوعة. (2) زيادة من ر لم ترد في المختار والمطبوعة، وقد وقع قبلها: " قال الزبير بن بكار وكان كثير بمصر وعزة بالمدينة فاشتاق إليها فسافر فلقيها في الطريق وهي متوجهة إلى مصر " وقد حذفناه لأنه سيأتي بعد هذا النص؛ وانظر زهر الآداب: 479 والمحاسن والمساوئ: 331 والموشى: 134 وقد زدنا البيت الثاني لتمام المعنى. (3) فأتى قبرها ... وأنزح: لم يرد إلا في المختار. وانظر المحاسن والمساوئ: 331 ومصارع العشاق 1: 126 وتزيين الأسواق 1: 51 وزهر الآداب: 408. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 112 وأخبارهما كثيرة (1) . وتوفي كثير عزة في سنة خمس ومائة، رحمه الله تعالى، وروى محمد بن سعد عن الواقدي عن خالد بن القاسم البياضي قال: مات عكرمة مولى ابن عباس وكثير عزة في يوم واحد في سنة خمس ومائة، فرأيتهما جميعا صلي عليهما في موضع واحد بعد الظهر، فقال الناس: مات أفقه الناس وأشعر الناس، وكان موتهما بالمدينة (2) ، وقد تقدم ذكر عكرمة والخلاف في تاريخ موته، فلينظر هناك في ترجمته (3) . وقد تقدم الكلام على الخزاعي. وكثير: تصغير كثير وإنما صغر لأنه كان حقيرا شديد القصر. وكان إذا دخل على عبد العزيز بن مروان يقول: طأطئ رأسك لئلا يؤذيك السقف، يمازحه بذلك، وكان يلقب زب الذباب لقصره، وقال بعضهم: رأيت كثيرا يطوف بالبيت، فمن أخبرني أن طوله كان أكثر من ثلاثة أشبار فقد كذب (4) . 547 - (5) مظفر الدين صاحب إربل أبو سعيد كوكبوري بن أبي الحسن علي بن بكتكين (6) بن محمد (7) ، الملقب الملك المعظم مظفر الدين صاحب إربل.   (1) ر: وأخباره كثير كثيرة. (2) وكان ... بالمدينة: سقط من س ل ن ر؛ ونص ابن سعد كله ساقط من المختار. (3) انظر ج 3: 265. (4) وكان يلقب .... فقد كذب: ولم يرد إلا في المختار. (5) أخباره في أماكن متفرقة من مرآة الزمان: والباهر وسيرة صلاح الدين وذيل الروضتين: 161، والنجوم الزاهرة 6: 282 وعبر الذهبي 5: 121 والشذرات 5: 138. (6) ل: بلتكين؛ ر: سبكتكين. (7) ابن محمد: سقطت من س ل ر والمختار. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 113 (156) كان والده زين الدين علي المعروف بكجك صاحب إربل، ورزق أولادا كثيرة، وكان قصيرا، ولهذا قيل له كجك وهو لفظ أعجمي معناه بالعربي صغير: أي صغير القدر، وأصله من التركمان، وملك إربل وبلادا كثيرة في تلك النواحي، وفرقها على أولاد أتابك قطب الدين مودود بن زنكي صاحب الموصل ولم يبق له سوى إربل، والشرح يطول، وعمر طويلا، يقال إنه جاوز مائة سنة وعمي في آخر عمره، وانقطع بإربل إلى أن توفي بها ليلة الأحد حادي عشر ذي القعدة سنة ثلاث وستين وخمسمائة [وقال ابن شداد في " سيرة صلاح الدين " (1) : مات في ذي الحجة من السنة] (2) ودفن في تربته المعروفة به المجاورة للجامع العتيق داخل البلد رحمه الله تعالى، وكان موصوفا بالقوة المفرطة والشهامة، وله بالموصل أوقاف كثيرة مشهورة من مدارس وغيرها. [قال شيخنا الحافظ عز الدين أبو الحسن علي المعروف بابن الأثير الجزري في تاريخه الصغير الذي عمله لبني أتابك ملوك الموصل (3) : إن زين الدين المذكور سار عن الموصل إلى إربل سنة ثلاث وستين وخمسمائة، وسلم جميع ما كان بيده من البلاد والقلاع إلى أتابك قطب الدين، فمن ذلك سنجار وحران وقلعة عقر الحميدية وقلاع الهكارية جميعها وتكريت وشهرزور وغير ذلك، وما ترك لنفسه سوى إربل، وكان قد حج هو وأسد الدين شيركوه بن شاذي في سنة خمس وخمسين وخمسمائة] (4) . ولما توفي ولي موضعه ولده مظفر الدين المذكور وعمره أربع عشرة سنة، وكان أتابكه مجاهد الدين قايماز - المذكور في حرف القاف - فأقام مدة، ثم تعصب مجاهد الدين عليه، وكتب محضرا أنه ليس أهلا لذلك، وشاور الديوان العزيز في أمره واعتقله، وأقام أخاه زين الدين أبا مظفر يوسف مكانه، وكان أصغر منه، ثم أخرج مظفر الدين من البلاد، فتوجه إلى بغداد فلم يحصل له بها   (1) سيرة صلاح الدين: 39. (2) ما بين معقفين لم يرد في النسخ الخطية. (3) الباهر: 135. (4) لم يرد في النسخ الخطية التي اعتمدناها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 114 مقصوده، فانتقل إلى الموصل ومالكها يومئذ سيف الدين غازي بن مودود - المقدم ذكره في حرف الغين -، فاتصل بخدمته، وأقطعه مدينة حران، فانتقل إليها وأقام بها مدة، ثم اتصل بخدمة السلطان صلاح الدين، وحظي عنده، وتمكن منه، وزاده في الاقطاع [الرها في سنة ثمان وسبعين وخمسمائة، وأخذ صلاح الدين الرها من ابن الزغفراني وأعطاها مظفر الدين مع حران، وأخذ الرقة من ابن حسان وأعطاها ابن الزعفراني، والشرح في ذلك يطول، ثم أعطاه] (1) سميساط، وزوجه أخته الست ربيعة خاتون بنت أيوب، وكانت قبله زوجة سعد الدين مسعود بن معين الدين صاحب قصر معين الدين الذي بالغور، وتوفي سعد الدين المذكور سنة إحدى وثمانين وخمسمائة. وشهد مظفر الدين مع صلاح الدين مواقف كثيرة وأبان فيها عن نجدة وقوة نفس وعزيمة، وثبت في مواضع لم يثبت فيها غيره على ما تضمنته تواريخ العماد الأصبهاني وبهاء الدين بن شداد وغيرهما، وشهرة ذلك تغني عن الإطالة فيه، ولو لم يكن له إلا وقعة حطين لكفته، فانه وقف هو وتقي الدين صاحب حماة - المقدم ذكره - وانكسر العسكر بأسره، ثم لما سمعوا بوقوفهما تراجعوا حتى كانت النصرة للمسلمين، وفتح الله سبحانه عليهم. ثم لما كان السلطان صلاح الدين منازلا عكا (2) بعد استيلاء الفرنج عليها وردت عليه ملوك الشرق تنجده وتخدمه، وكان في جملتهم زين الدين يوسف أخو مظفر الدين، وهو يومئذ صاحب إربل، فأقام قليلا ثم مرض، وتوفي في الثامن والعشرين (3) من شهر رمضان سنة ست وثمانين وخمسمائة بالناصرة - وهي قرية بالقرب من عكا يقال إن المسيح عليه الصلاة والسلام ولد بها على الاختلاف الذي في ذلك - فلما توفي التمس مظفر الدين من السلطان أن ينزل عن حران والرها وسميساط، ويعوضه إربل، فأجابه إلى ذلك وضم إليه شهرزور، فتوجه إليها ودخل إربل في ذي الحجة سنة ست وثمانين وخمسمائة، هذه خلاصة أمره.   (1) لم يرد في النسخ وهو ملخص في المختار بإيجاز. (2) ر: نازلا على عكا. (3) ر: ثامن عشري. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 115 وأما سيرته الذاتية فلقد كان له في فعل الخيرات (1) غرائب لم يسمع أن أحدا فعل في ذلك ما فعله، لم يكن في الدنيا شيء أحب إليه من الصدقة، كان له كل يوم قناطير مقنطرة من الخبز يفرقها على المحاويج في عدة مواضع من البلد يجتمع في كل موضع خلق كثير يفرق عليهم في أول النهار، وكان إذا نزل من الركوب يكون قد اجتمع عند الدار خلق كثير فيدخلهم إليه ويدفع لكل واحد كسوة على قدر الفصل من الشتاء والصيف (2) أو غير ذلك، ومع الكسوة شيء من الذهب من الدينار والاثنين والثلاثة وأقل وأكثر، وكان قد بنى أربع خانقاهات للزمنى والعميان وملأها من هذين الصنفين، وقرر لهم ما يحتاجون إليه كل يوم، وكان يأتيهم بنفسه في كل عصرية اثنين وخميس ويدخل عليهم، ويدخل إلى كل واحد في بيته، ويسأله عن حاله ويتفقده بشيء من النفقة، وينتقل إلى الآخر، وهكذا حتى يدور على جميعهم، وهو يباسطهم ويمزح معهم ويجبر قلوبهم، وبنى دارا للنساء الأرامل، ودارا للصغار الأيتام (3) ، ودارا للملاقيط رتب (4) بهم جماعة من المراضع، وكل مولود يلتقط يحمل إليهن فيرضعنه، وأجرى على أهل كل دار ما يحتاجون إليه في كل يوم، وكان يدخل إليها في كل وقت ويتفقد أحوالهم ويعطيهم النفقات زيادة على المقرر لهم، وكان يدخل إلى البيمارستان ويقف على مريض مريض ويسأله عن مبيته وكيفية حاله وما يشتهيه وكان له دار مضيف يدخل إليها كل قادم على البلد من فقيه أو فقير أو غيرهما، وعلى الجملة فما كان يمنع منها كل من قصد الدخول إليها، ولهم الراتب الدار في الغداء والعشاء، وإذا عزم الإنسان على السفر أعطوه نفقة على ما يليق بمثله، وبنى مدرسة رتب فيها فقهاء الفريقين من الشافعية والحنفية، وكان كل وقت يأتيها بنفسه، ويعمل السماط بها ويبيت بها ويعمل السماع، فإذا طاب وخلع شيئا من ثيابه، سير للجماعة بكرة شيئا من الأنعام، ولم يكن له   (1) ر بر: فقد ... الخير. (2) من هنا تبدأ النسخة: ت. (3) ت: والأيتام؛ المختار: للضعفاء الأيتام. (4) س والمختار: ورتب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 116 لذة سوى السماع، فإنه كان لا يتعاطى المنكر، ولا يمكن من إدخاله إلى البلد، وبنى للصوفية خانقاهين (1) فيهما خلق كثير من المقيمين والواردين، ويجتمع في أيام المواسم فيهما من الخلق ما يعجب الإنسان من كثرتهم، ولهما أوقاف كثيرة تقوم بجميع ما يحتاج إليه ذلك الخلق، ولا بد عند سفر كل واحد من نفقة يأخذها، وكان ينزل بنفسه إليهم ويعمل عندهم السماعات في كثير من الأوقات. وكان يسير في كل سنة دفعتين جماعة من امنائه إلى بلاد الساحل ومعهم جملة مستكثرة من الناس يفتك بها أسرى المسلمين من أيدي الكفار، فإذا وصلوا إليه أعطى كل واحد شيئا، وإن لم يصلوا فالأمناء يعطونهم بوصية منه في ذلك. وكان يقيم في كل سنة سبيلا للحاج، ويسير معه جميع ما تدعو حاجة المسافر إليه في الطريق، ويسير صحبته أمينا معه خمسة أو ستة آلاف دينار ينفقها بالحرمين على المحاويج وأرباب الرواتب، وله بمكة حرسها الله تعالى، آثار جميلة وبعضها باق إلى الآن، وهو أول من أجرى الماء إلى جبل عرفات ليلة الوقوف: وغرم عليه جملة كثيرة، وعمر بالجبل مصانع للماء، فإن الحجاج كانوا يتضررون من عدم الماء، وبنى له تربة أيضا هناك. وأما احتفاله بمولد النبي صلى الله عليه وسلم، فإن الوصف يقصر عن الإحاطة به، لكن نذكر طرفا منه: وهو أن أهل البلاد كانوا قد سمعوا بحسن اعتقاده (2) فيه، فكان في كل سنة يصل إليه من البلاد القريبة من إربل - مثل بغداد والموصل والجزيرة وسنجار ونصيبين وبلاد العجم وتلك النواحي - خلق كثير من الفقهاء والصوفية والوعاظ والقراء والشعراء، ولا يزالون يتواصلون من المحرم إلى أوائل شهر ربيع الأول، ويتقدم مظفر الدين بنصب قباب من الخشب كل قبة أربع أو خمس طبقات، ويعمل مقدار عشرين قبة وأكثر، منها قبة له (3) ، والباقي للأمراء وأعيان دولته لكل واحد قبة، فإذا كان أول صفر زينوا تلك القباب بأنواع الزينة الفاخرة المستجملة، وقعد في كل قبة جوق من المغاني وجوق   (1) ر: خانقاهيتين، ت: خانقاهتين، بر: خانقين. (2) ت بر: اعتماده. (3) ا: عشرين قبة وأكبر قبة له. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 117 من أرباب الخيال ومن أصحاب الملاهي، ولم يتركوا طبقة من تلك الطباق في كل قبة (1) حتى رتبوا فيها جوقا، وتبطل معايش الناس في تلك المدة، وما يبقى لهم شغل إلا التفرج والدوران عليهم، وكانت القباب منصوبة من باب القلعة إلى باب الخانقاه المجاورة للميدان، فكان مظفر الدين ينزل كل يوم بعد صلاة العصر ويقف على قبة قبة إلى آخرها، ويسمع غناءهم، ويتفرج على خيالاتهم وما يفعلونه في القباب، ويبيت في الخانقاه ويعمل السماع ويركب عقيب صلاة الصبح يتصيد، ثم يرجع إلى القلعة قبل الظهر، هكذا يعمل كل يوم إلى ليلة المولد، وكان يعمله سنة في ثامن الشهر، وسنة في الثاني عشر (2) ، لأجل الاختلاف الذي فيه، فإذا كان قبل المولد بيومين أخرج من الإبل والبقر والغنم شيئا كثيرا زائدا عن الوصف وزفها بجميع ما عنده من الطبول والمغاني والملاهي حتى يأتي بها إلى الميدان، ثم يشرعون في نحرها، وينصبون القدور ويطبخون الألوان، المختلفة فإذا كانت ليلة المولد عمل السماعات بعد أن يصلي المغرب في القلعة ثم ينزل وبين يديه من الشموع المشتعلة شيئ كثير، وفي جملتها شمعتان أو أربع - أشك في ذلك - من الشموع الموكبية التي تحمل كل واحدة منها على بغل، ومن ورائها رجل يسندها وهي مربوطة على ظهر البغل حتى ينتهي إلى الخانقاه، فإذا كان صبيحة يوم المولد أنزل الخلع من القلعة إلى الخانقاه على أيدي الصوفية، على يد كل شخص منهم بقجة، وهو متتابعون كل واحد وراء الآخر، فينزل من ذلك شيء كثير لا أتحقق (3) عدده، ثم ينزل إلى الخانقاه وتجتمع الأعيان والرؤساء وطائفة كبيرة من بياض الناس، وينصب كرسي للوعاظ (4) ، وقد نصب لمظفر الدين برج خشب له شبابيك إلى الموضع الذي فيه الناس والكرسي، وشبابيك أخر للبرج أيضا إلى الميدان، وهو ميدان كبير في غاية الاتساع، ويجتمع فيه الجند (5) ويعرضهم ذلك النهار، وهو تارة ينظر   (1) في كل قبة: زيادة من ت. (2) ن: ثاني عشر. (3) س: لا يتحقق. (4) ت: للوعظ. (5) ت: ويجمع الجند. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 118 إلى عرض الجند وتارة إلى الناس والوعاظ، ولا يزال كذلك حتى يفرغ الجند من عرضهم، فعند ذلك يقدم السماط في الميدان للصعاليك، ويكون سماطا عاما فيه من الطعام والخبز شيء كثير لا يحد ولا يوصف، ويمد سماطا ثانيا (1) في الخانقاه للناس المجتمعين عند الكرسي، وفي مدة العرض ووعظ الوعاظ يطلب واحدا واحدا (2) من الأعيان والرؤساء والوافدين لأجل هذا الموسم ممن قدمنا ذكره من الفقهاء والوعاظ والقراء والشعراء، ويخلع على كل واحد ثم يعود إلى مكانه، فإذا تكامل ذلك كله، حضروا السماط وحملوا منه لمن يقع التعيين على الحمل إلى داره، ولا يزالون على ذلك إلى العصر أو بعدها، ثم يبيت تلك الليلة هناك، ويعمل السماعات إلى بكرة، هكذا يعمل في كل سنة، وقد لخصت صورة الحال فإن الاستقصاء يطول، فإذا فرغوا من هذا الموسم تجهز كل إنسان للعود إلى بلده، فيدفع لكل شخص شيئا من النفقة (3) ، وقد ذكرت في ترجمة الحافظ أبي الخطاب ابن دحية في حرف العين وصوله إلى إربل وعمله لكتاب التنوير في مولد السراج المنير لما رأى من اهتمام مظفر الدين به، وأنه أعطاه ألف دينار غير ما غرم عليه مدة إقامته من الإقامات الوافرة. وكان رحمه الله متى أكل شيئا استطابه لا يختص به، بل إذا أكل من زبدية لقمة طيبة قال لبعض الجنادرة (4) : احمل هذا إلى الشيخ فلان أو فلانة ممن هم عنده مشهورون بالصلاح، وكذلك يعمل في الفاكهة والحلوى وغير ذلك من المطاعم. وكان كريم الأخلاق كثير التواضع حسن العقيدة سالم البطانة شديد الميل إلى أهل السنة والجماعة لا ينفق عنده من أرباب العلوم سوى الفقهاء والمحدثين ومن عداهما لا يعطيه شيئا إلا تكلفا، وكذلك الشعراء لا يقول بهم ولا يعطيهم إلا إذا قصدوه فما كان يضيع قصدهم ولا يخيب أمل من يطلب بره، وكان   (1) ن: سماط ثان؛ ت س ل ن: سماط ثاني. (2) ت: كل واحد. (3) قوله: لكن نذكر طرفاً منه ... النفقة: سقط هذا النص الطويل من النسخة ر. (4) ن: أجناده. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 119 يميل إلى علم التاريخ، وعلى خاطره منه شيء يذاكر به، ولم يزل، رحمه الله تعالى، مؤيدا (1) في مواقفه ومصافاته مع كثرتها، لم ينقل أنه انكسر في مصاف قط (2) ، ولو استقصيت في تعداد محاسنه لطال الكتاب، وفي شهرة معروفه غنية (3) عن الإطالة وليعذر الواقف على هذه الترجمة ففيها تطويل، ولم يكن سببه إلا ما له علينا من الحقوق التي لا نقدر على القيام بشكر بعضها، ولو عملنا مهما عملناه، وشكر المنعم واجب، فجزاه الله عنا أحسن الجزاء، فكم له علينا من الأيادي، ولأسلافه على أسلافنا من الإنعام، والإنسان صنيعة الإحسان، ومع الاعتراف بجميله فلم أذكر عنه شيئا على سبيل المبالغة، بل كل ما ذكرته عن مشاهدة وعيان، وربما حذفت بعضه طلبا للإيجاز. وكانت ولادته بقلعة الموصل ليلة الثلاثاء السابعة والعشرين من المحرم سنة تسع وأربعين وخمسمائة. وتوفي وقت الظهر ليلة الجمعة رابع عشر شهر رمضان سنة ثلاثين وستمائة بداره في البلد التي كانت لمملوكه شهاب الدين قراطايا، فلما قبض عليه في سنة أربع عشرة وستمائة أخذها وصار يسكنها بعض الأوقات، فمات بها، ثم نقل إلى قلعة إربل ودفن بها، ثم حمل بوصية منه إلى مكة، شرفها الله تعالى، وكان قد أعد له بها قبة تحت الجبل في ذيله يدفن فيها، وقد سبق ذكرها، فلما توجه الركب إلى الحجاز سنة إحدى وثلاثين سيروه في الصحبة، فاتفق أن رجع الحاج تلك السنة من لينة، ولو يصلوا إلى مكة، فردوه ودفنوه بالكوفة بالقرب من المشهد، رحمه الله تعالى وعوضه خيرا وتقبل مباره وأحسن منقلبه. (157) وأما زوجته ربيعة خاتون بنت أيوب فإنها توفيت في شعبان سنة ثلاث وأربعين وستمائة، وغالب ظني أنها جاوزت ثمانين سنة، ودفنت في   (1) ر: مؤيداً منصوراً. (2) جاء في المختار بعد هذه اللفظة: " قلت، أعني كاتبها موسى بن أحمد: قد اختصرت هذه الترجمة مع المبالغة في الاختصار مع أن والدي قدس الله روحه قال فيها إنه ذكر أحواله ملخصة مختصرة وأنه لو فصلها لطال الشرح، واعتذر عن طولها مع الاختصار بكثرة ما كان للمذكور عليه وعلى سلفه من الإحسان والحقوق ... ". (3) ر: تغني. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 120 مدرستها الموقوفة على الحنابلة بسفح قاسيون، وكانت وفاتها بدمشق، وأدركت من محارمها من الملوك من إخوتها وأولادهم أكثر من خمسين رجلا غير محارمها من غير الملوك ولولا خوف الإطالة لذكرتهم مفصلا، فإن إربل كانت لزوجها المذكور، والموصل لأولاد بنتها، وخلاط وتلك الناحية لابن أخيها (1) الملك الأوحد نجم الدين أيوب ابن الملك العادل، وبلاد الجزيرة الفراتية للأشرف ابن أخيها، وبلاد الشام لأولاد إخوتها، والديار المصرية والحجازية واليمن لإخوتها وأولادهم، ومن تأمل ذلك عرف الجميع. وكوكبوري: بضم (2) الكافين بينهما واو ساكنة ثم باء موحدة مضمومة ثم واو ساكنة وبعدها راء، وهو اسم تركي معناه بالعربي ذئب أزرق. وبكتكين: بضم الباء الموحدة وسكون الكاف وكسر التاء المثناة من فوقها والكاف وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها نون وهو اسم تركي أيضا. ولينة: بكسر اللام وسكون الياء المثناة من تحتها وفتح النون وبعدها هاء ساكنة، منزلة في طريق الحجاز من جهة العراق، وكان الركب في تلك السنة قد رجع منها لعدم الماء وقاسوا مشقة عظيمة.   (1) ر: لابن اختها. (2) ر ت بر: بفتح. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 121 548 - (1) العتابي كلثوم بن عمرو العتابي الشاعر المشهور، كان شاعرا خطيبا بليغا مجيدا، وهو من أهل قنسرين وقدم بغداد ومدح هارون الرشيد وغيره من الخلفاء، وله رسائل مستحسنة، وكان يتجنب غشيان السلطان قناعة وصيانة وتنزها وتعززا، وكان يلبس الصوف ويظهر الزهد، مترسل بليغ مطبوع متصرف في فنون من الشعر مقدم في الخطابة والرواية حسن العارضة والبديهة، من شعراء الدولة العباسية، وكان يقول بالاعتزال، فاتصل بالرشيد وكثر عليه من أمره فأمر فيه بأمر غليظ فهرب إلى اليمن وكان مقيما بها، فاحتال يحيى بن خالد إلى أن حمل للرشيد من خطبه ورسائله فاستحسن الرشيد ذلك وسأل عن الكلام لمن هو فقال يحيى: هو للعتابي، ولو حضر حتى يسمع منه الأمين والمأمون هذا الكلام ويصنع لهما خطبا لكان في ذلك صلاح، فأمر بإحضاره، فأخذ له يحيى الأمان واتصل الخبر بالعتابي فقال: ما زلت في غمرات الموت منطرحا ... قد غاب عني وجوه الأمر من حيلي   (1) ترجمته وأخباره في تاريخ بغداد 12: 488 وطبقات ابن المعتز: 261 والأغاني 13 107 والشعر والشعراء: 740 ومروج الذهب 4: 14 والفهرست: 181 وكتاب بغداد 69، 87 - 89 ومعجم المرزباني: 351 والوزراء والكتاب: 181 والموشح: 449 والبيان والتبيين 1: 51 ومعجم الأدباء 17: 26 واللباب 2: 118؛ وذكر له الكتبي ترجمة في الفوات (رقم: 359) مع أنه استدرك على المؤلف، وقد انفردت النسخة ر بهذه الترجمة، ولم ترد في المختار أو في المطبوعة، ومعظم الترجمة يعتمد على ما جاء في تاريخ الخطيب؛ قلت: وقد صرح المؤلف في ترجمته لأبي منصور العتابي (رقم: 669 عند وستنفيلد؛ 630 في مطبوعة الشيخ عبد الحميد) أنه لم يترجم للعتابي الشاعر قال: " وكان ينبغي ذكره في هذا الكتاب وإنما أخللت به لأني لم أظفر له بوفاة، ومبنى هذا الكتاب على من عرفت وفاته ". فهذه من الزيادات التي لا سند للنسخة (ر) في إيرادها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 122 فلم تزل دائبا تسعى لتنقذني ... حتى استللت حياتي من يدي أجلي وكان العتابي منقطعا إلى البرامكة، ومنصور النمري روايته وتلميذه. قال أبو دعامة الشاعر: كتب طوق بن مالك إلى العتابي يستزيره ويدعوه إلى أن يصل القرابة بينه وبينه، فرد عليه: إن قريبك من قرب منك خيره وابن عمك من عمك نفعه وإن عشيرك من أحسن عشرتك وإن أحب الناس إليك أجراهم بالمنفعة عليك، ولذلك أقول: ولقد بلوت الناس ثم سبرتهم ... وخبرت ما وصلوا من السباب فإذا القرابة لا تقرب قاطعا ... وإذا المودة أكبر الأنساب قيل للعتابي: انك تلقى العامة ببشر وتقريب فقال: رفع ضغينة بأيسر مؤنة واكتساب إخوان بأهون مبذول. ولما قدم العتابي مدينة السلام على المأمون أذن له فدخل وعنده إسحاق الموصلي، وكان العتابي شيخا جليلا نبيلا، فسلم فرد عليه وأدناه وقربه حتى قرب منه فقبل يده، ثم أمره بالجلوس فجلس، ثم أقبل عليه يسأله عن حاله وهو يجيبه بلسان طلق، فاستطرف المأمون ذلك منه فأقبل عليه بالمداعبة بالمزح، فظن الشيخ أنه استخف به فقال: يا أمير المؤمنين، الإيناس قبل الإبساس، فاشتبه على المأمون قوله فنظر إلى إسحاق مبتسما فأومأ إليه بعينه وغمزه على معناه حتى فهمه ثم قال: يا غلام، ألف دينار، فأتي بذلك فوضعه بين يدي العتابي وأخذوا في الحديث، ثم غمز المأمون إسحاق بن إبراهيم عليه، فجعل العتابي لا يأخذ في شيء إلا عارضه فيه إسحاق بن إبراهيم، فبقي العتابي متعجبا ثم قال: يا أمير المؤمنين، أتأذن لي في مسألة هذا الشيخ عن اسمه قال: نعم سله، فقال إسحاق: يا شيخ، من أنت وما اسمك قال: أنا من الناس واسمي كل بصل، فتبسم العتابي ثم قال: أما النسب فمعروف وأما الاسم فمنكر، فقال له إسحاق: ما أقل انصافك! أتنكر أن يكون اسمي كل بصل واسمك كل ثوم وما كلثوم من الأسماء أو ليس البصل أطيب من الثوم فقال له العتابي لله درك ما أحجك، أتأذن لي يا أمير المؤمنين أن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 123 أصله بما وصلتني به فقال له المأمون: بل ذلك موفر عليك ونأمر له بمثله، فقال له إسحاق: أما إذا أقررت بهذه فتوهمني تجدني، فقال له: ما أظنك إلا إسحاق الموصلي الذي تناهى إلينا خبره، فقال: أنا حيث ظننت، فأقبل عليه بالتحية والسلام، فقال المأمون وقد طال الحديث بينهما: أما إذا اتفقتما على المودة فانصرفا، فانصرف العتابي إلى منزل إسحاق فأقام عنده. كتب المأمون في إشخاص العتابي فلما دخل عليه قال له: يا كلثوم بلغني وفاتك فساءني ثم يلغني وفادتك فسرتني، فقال له العتابي: يا أمير المؤمنين، لو قسمت هاتان الكلمتان على أهل الأرض لوسعتهم فضلا وإنعاما وقد خصصتني منهما بما لا يتسع له أمنية ولا ينبسط لسواه أمل، لأنه لا دين إلا بك ولا دنيا إلا معك، قال: سلني، قال: يدك بالعطاء أطلق من لساني بالمسألة، فوصله صلة سنية وبلغ به من التقديم والإكرام أعلى محل. قال الأصمعي: كتب كلثوم بن عمرو العتابي إلى رجل: ان الكريم ليخفى عنك عسرته ... حتى تراه غنيا وهو مجهود وللبخيل على أمواله علل ... زرق العيون عليها أوجه سود بث النوال ولا يمنعك قلته ... فكل ما سد فقرا فهو محمود قال: فشاطره ماله حتى بعث إليه بنصف خاتمه وفرد نعله. قال مالك بن طوق للعتابي: يا أبا عمرو، رأيتك كلمت فلانا فأقللت كلامك، قال: نعم كانت معي حيرة الداخل وفكرة صاحب الحاجة وذل المسألة وخوف الرد مع [شدة الطمع] . وقيل للعتابي: قد فلح () ابن مسلم الخلق، قال: لعله أكل من شعره. ومثل ذلك اجتمع قوم من الشعراء على فالوذجة حارة فقال أحدهم يخاطب شخصا منهم: كأنها مكانك من النار، قال له: أصلحها ببيب من شعرك. قيل: كان مروان بن السمط يرمى في شعره بالبرد، وكانت له بغلة بالبصرة لا يفارق ركوبها فقال الجماز يهجوه ... الجزء: 4 ¦ الصفحة: 124 حرف اللام الجزء: 4 ¦ الصفحة: 125 فراغ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 126 549 - (1) الليث بن سعد أبو الحارث الليث بن سعد بن عبد الرحمن إمام أهل مصر في الفقه والحديث، كان مولى قيس بن رفاعة، وهو مولى عبد الرحمن بن خالد بن مسافر الفهمي وأصله من أصبهان، وكان ثقة سريا سخيا، قال الليث: كتبت من علم محمد ابن شهاب الزهري علما كثيرا، وطلبت ركوب البريد إليه إلى الرصافة، فخفت أن لا يكون ذلك لله تعالى فتركته. وقال الشافعي رضي الله عنه: الليث بن سعد أفقه من مالك، إلا أن أصحابه لم يقوموا به. وكان ابن وهب تقرأ عليه مسائل الليث، فمرت به مسألة فقال رجل من الغرباء: أحسن والله الليث، كأنه كان يسمع مالكا يجيب فيجيب هو، فقال ابن وهب للرجل: بل كان مالك يسمع الليث يجيب فيجيب هو، والله الذي لا إله إلا هو ما رأينا أحدا قط أفقه من الليث. وكان من الكرماء الأجواد، ويقال إن دخله كان هو كل سنة خمسة آلاف دينار (2) ، وكان يفرقها في الصلات وغيرها. وقال منصور بن عمار: أتيت الليث فأعطاني ألف دينار وقال: صن بهذه الحكمة التي آتاك الله تعالى. ورأيت في بعض المجاميع أن الليث كان حنفي المذهب، وأنه ولي القضاء بمصر، وأن الإمام مالكا أهدى إليه صينية فيها تمر، فأعادها مملوءة ذهبا، وكان يتخذ لأصحابه الفالوذج، ويعمل فيه الدنانير ليحصل لكل من أكل كثيرا أكثر من صاحبه.   (1) ترجمته في تاريخ بغداد 13: 3 ومروج الذهب 3: 349 وصفة الصفوة 4: 281 والجواهر المضية 1: 416 وحلية الأولياء 7: 318 وتذكرة الحفاظ: 225 وميزان الاعتدال 3: 423 وعبر الذهبي 1: 266 والنجوم الزاهرة، 2: 82 وتهذيب التهذيب 8: 459 وصبح الأعشى 3: 399، 400 والشذرات 1: 285. (2) هامش بر: في طبقات الحنفية للشيخ عبد القادر: ثمانين ألف دينار. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 127 وكان قد حج سنة ثلاث عشرة ومائة وهو ابن عشرين سنة، وسمع من نافع مولى ابن عمر، رضي الله عنهما. وكان الليث يقول، قال لي بعض أهلي: ولدت سنة اثنتين وتسعين للهجرة والذي أوقن سنة أربع وتسعين في شعبان. وتوفي يوم الخميس - وقيل الجمعة - منتصف شعبان سنة خمس وسبعين ومائة ومائة ودفن يوم الجمعة بمصر في القرافة الصغرى، وقبره أحد المزارات، رضي الله عنه. وقال السمعاني: ولد في شعبان سنة أربع وعشرين ومائة، والأول أصح. وقال غيره: ولد سنة ثلاث وتسعين، والله أعلم بالصواب. وقال بعض أصحابه: لما دفنا الليث بن سعد سمعنا صوتا وهو يقول: ذهب الليث فلا ليث لكم ... ومضى العلم قريبا وقبر قال فالتفتنا فلم نر أحدا. ويقال: إنه من أهل قلقشندة، وهي بفتح القاف وسكون اللام وفتح القاف الثانية والشين المعجمة وسكون النون وفتح الدال المهملة وبعدها هاء ساكنة، وهي قرية من الوجه البحري من القاهرة، بينها وبين القاهرة مقدار ثلاثة فراسخ. والفهمي: بفتح الفاء وسكون الهاء وبعدها ميم، هذه النسبة إلى فهم وهو بطن من قيس عيلان خرج منها جماعة كثيرة (1) .   (1) كتب ابن المؤلف في المختار في نهاية ترجمة الليث: " آخر ما نقلته من المجلد الثاني من وفيات الأعيان ويتلوه ما نقلته من الجزء الثالث " (وأوله ترجمة مالك بن أنس) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 128 549 - (1) الليث بن سعد أبو الحارث الليث ... سريا سخيا. ولد بقلقشندة سنة أربع وتسعين، وسمع علماء المصريين والحجازيين وروى عن عطاء بن أبي رباح وابن أبي مليكة وابن شهاب الزهري ونافع مولى ابن عمر وغيرهم، وحدث عنه هشيم بن بشير وعبد الله بن المبارك وعبد الوهاب بن وهب وعبد الله بن عبد الحكم ويحيى بن بكير وغيرهم. وقدم بغداد وحدث بها. قال الليث: كتبت من علم ابن شهاب الزهري علما كثيرا وطلبت ركوب البريد إليه إلى الرصافة فخفت أن لا يكون ذلك لله تعالى فتركته. قال الخطيب صاحب " تاريخ بغداد " (2) : خرج الليث إلى العراق سنة إحدى وستين ومائة وخرج في شوال وشهد الأضحى ببغداد. وقال الشافعي ... أفقه من الليث. قال أبو الحسن الخادم: كنت غلاما لزبيدة وأتي يوما بالليث ين سعد، فكنت واقفا على رأس زبيدة خلف الستارة فسأله هارون الرشيد فقال: حلفت أن لي جنتين فاستحلفه الليث ثلاثا انك تخاف الله فحلف له، فقال له الليث: قال الله تعالى: (ولمن خاف مقام ربه جنتان) ، قال: فأقطعه قطائع كثيرة بمصر. قال الليث بن سعد: قال لي أبو جعفر: تلي لي مصر قلت: لا يا أمير المؤمنين إني أضعف عن ذلك، إني رجل من الموالي، فقال: ما بك ضعف   (1) قد راينا أن نفرد هنا الترجمة التي وردت في ر لأنها تختلف عما في سائر النسخ، وقد حذفنا المشترك بين الترجمتين وأبقينا ما يدل على مواضع النصوص المحذوفة؛ وأكثر هذه الترجمة عن تاريخ الخطيب. (2) تاريخ بغداد 13: 4. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 129 معي، ولكن ضعفت نيتك في العمل عن ذلك لي. وحج الليث سنة ثلاث عشرة فسمع من ابن شهاب وغيره بمكة في هذه السنة. وقال الليث: حججت سنة ثلاث عشرة وأنا ابن عشرين سنة. وقال يحيى بن بكير: ما رأيت أحدا أكمل من الليث بن سعد، كان فقيه البدن عربي اللسان يحسن القرآن والنحو ويحفظ الشعر والحديث حسن المذاكرة - وما زال يذكر خصالا جميلة ويعقد بيده حتى عقد عشرة - لم أر مثله. قال سعيد بن أبي أيوب: لو أن مالكا والليث اجتمعا لكان مالك عند الليث أبكم ولباع الليث مالكا في من يزيد. وقال ابن وهب: كل ما كان في كتب مالك وأخبرني من أثق به (1) من أهل العلم فهو الليث بن سعد، وقال ابن وهب: لولا مالك والليث بن سعد لضل الناس. وقال عثمان بن صالح: كان أهل مصر ينتقصون عثمان حتى نشأ فيهم الليث ابن سعد فحدثهم بفضائل عثمان فكفوا عن ذلك، وكان أهل حمص ينتقصون عليا حتى نشأ فيهم إسماعيل بن عياش فحدثهم بفضائله فكفوا عن ذلك. وقال ابن وهب: كان الليث بن سعد يصل مالك بن أنس بمائه دينار في كل سنة، فكتب إليه مالك: إن علي دينا، فبعث إليه بخمسمائة دينار، وكتب إليه مالك: إني أريد أن أدخل ابنتي على زوجها فأحب أن تبعث إلي شيئا من عصفر، فبعث إليه ثلاثين حملا من عصفر فصبغ لابنته وباع منه بخمسمائة دينار وبقي عنده فضلة. وقال قتيبة بن سعيد: كان الليث يستغل عشرين ألف دينار في كل سنة. وقال: ما وجبت علي زكاة قط. وقال محمد بن رمح: كان دخل الليث بن سعد في كل سنة ثمانين ألف دينار وما أوجب الله عليه زكاة درهم قط. قال منصور بن عمار: أتيت الليث بن سعد فأعطاني ألف دينار وجارية   (1) تاريخ بغداد: من أرضى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 130 تسوى ثلاثمائة دينار وقال صن بهذه الحكمة. وجاءت امرأة إلى الليث فقالت: يا أبا الليث فقالت: يا أبا الحارث، إن ابنا لي عليل واشتهى عسلا، فقال: يا غلام، اعطها مرطا من عسل، والمرط عشرون ومائة رطل، وقال غيره: سألت المرأة منا من عسل فأمر لها بزق فقال له كاتبه: إنما سألت منا فقال: إنها سألتني على قدرها فأعطيناها على قدر السعة. وقال الحارث بن مسكين: اشترى قوم من الليث بن سعد ثمرة فاستغلوها فاستقالوه فأقالهم ثم دعا بخريطة فيها أكياس فأمر لهم بخمسمائة دينار (1) ، فقال له الحارث ابنه في ذلك فقال: اللهم غفرا، إنهم كانوا أملوا فيه أملا فأحببت أن أعوضهم من أملهم بهذا. وقال شعيب بن الليث: خرجت مع أبي حاجا فقدم المدينة فبعث إليه مالك بن أنس بطبق رطب فجعل على الطبق ألف دينار ورده إليه. قال أشهب بن عبد العزيز: كان لليث بن سعد كل يوم أربعة مجالس يجلس فيها، أما أولها فيجلس ليأتيه السلطان في نوائبه وحوائجه، وكان الليث يغشاه السلطان فإن أنكر من القاضي أمرا أو من السلطان كتب إلى أمير المؤمنين فيأتيه العزل، ويجلس لأصحاب الحديث، وكان يقول: نجحوا أصحاب الحوانيت فإن قلوبهم معلقة بأسواقهم، ويجلس للمسائل يغشاه الناس فيسألونه، ويجلس لحوائج الناس لا يسأله أحد من الناس فيرده، كبرت حاجته أو صغرت، قال: وكان يطعم الناس في الشتاء الهرائس بعسل النحل وسمن البقر، وفي الصيف سويق اللوز بالسكر. قال أبو رجاء قتيبة: قفلنا مع الليث بن سعد من الإسكندرية وكان معه ثلاث سفائن: سفينة فيها مطبخه، وسفينة فيها عياله، وسفينة فيها أضيافه. وقال ابن بكير: سمعت الليث بن سعد كثيرا ما يقول: أنا أكبر من ابن لهيعة، والحمد لله الذي متعنا بعقلنا. وكان الليث أكبر من ابن لهيعة ولكن إذا نظرت إليهما تقول ذا ابن وذا أب، يعني ابن لهيعة الأب.   (1) تاريخ بغداد: بخمسين ديناراً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 131 وقيل لليث بن سعد: ما صلاح بلدك يا أبا الحارث قال: جرى نيلها وعدل واليها ومن رأس العين يأتي الكدر. وقال أبو محمد ابن أبي القاسم: قلت لليث: أمتع الله بك يا أبا الحارث، إنا نسمع منك الحديث ليس في كتبك، قال: أو كل ما في صدري في كتبي لو كتبت ما في صدري ما وسعه هذا المركب. ورأيت في بعض المجاميع ... وقبره أحد المزارات رضي الله عنه. قال محمد بن عبد الرحمن: كنت جالست الليث بن سعد وشهدت جنازته وأنا مع أبي، فما رأيت جنازة أعظم منها ولا أكثر من أهلها، ورأيت كلهم عليهم الحزن والناس يعزي بعضهم بعضا ويبكون، فقلت لأبي: يا أب، كل واحد من الناس صاحب الجنازة، فقال لي: يا بني كان عالما سعيدا كريما حسن الفعل كثير الأفضال، يا بني لا ترى مثله أبدا. ويقال إنه من أهل قلقشندة ... جماعة كثيرة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 132 حرف الميم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 133 فراغ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 134 550 - (1) الإمام مالك الإمام أبو عبد الله مالك بن أنس [بن مالك] (2) بن أبي عامر بن عمرو بن الحارث بن غميان - بغين معجمة وياء تحتها نقطتان - ويقال عثمان - بعين مهملة وثاء مثلثة - ابن جثيل - بجيم وثاء مثلثة وياء ساكنة تحتها نقطتان - وقال ابن سعد: هو خثيل بخاء معجمة، ابن عمرو بن ذي أصبح (3) الأصبحي المدني إمام دار الهجرة وأحد الأئمة الأعلام. أخذ القراءة عرضا عن نافع بن أبي نعيم، وسمع الزهري ونافعا مولى ابن عمر، رضي الله عنهما، وروى عنه الأوزاعي ويحيى بن سعيد، وأخذ العلم عن ربيعة الرأي - وقد تقدم ذكره (4) - ثم أفتى معه عند السلطان. وقال مالك: قل رجل كنت أتعلم منه ومات (5) حتى يجيئني ويستفتيني. وقال ابن وهب: سمعت مناديا ينادي بالمدينة: ألا لا يفتي الناس إلا مالك بن أنس وابن أبي ذئب. وكان مالك إذا أراد أن يحدث توضأ وجلس على صدر فراشه وسرح لحيته وتمكن في جلوسه بوقار وهيبة ثم حدث، فقيل له في ذلك فقال: أحب أن   (1) ترجمته في ترتيب المدارك 1: 102 - 254 وطبقات الشيرازي: 67 وحلية الأولياء 6: 316 والانتقاء: 9 وصفة الصفوة 2: 99 وتهذيب التهذيب 10: 5 والمعارف: 498 والفهرست: 198 والديباج المذهب: 17 وعبر الذهبي 1: 272 والشذرات 1: 289؛ وليس في الإمكان حصر الكتب التي ألفت في سيرته أو ترجمت له في هذا المجال. (2) زيادة لم ترد في النسخ الخطية. (3) زاد في ر: واسمه الحارث، وسيرد هذا في موضعه. (4) انظر ج 2: 288. (5) ن: فما مات. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 135 أعظم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أحدث به إلا متمكنا على طهارة، وكان يكره أن يحدث على الطريق أو قائما أو مستعجلا ويقول: أحب أن أتفهم ما أحدث به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان لا يركب في المدينة مع ضعفه وكبر سنه، ويقول: لا أركب في مدينة فيها جثة رسول الله صلى الله عليه وسلم مدفونة. وقال الشافعي، قال لي محمد بن الحسن: أيهما أعلم صاحبنا أم صاحبكم يعني أبا حنيفة ومالكا، رضي الله عنهما، قال: قلت: على الإنصاف قال: نعم، قال: قلت: ناشدتك (1) الله من أعلم بالقرآن صاحبنا أم صاحبكم قال: اللهم صاحبكم، قال: قلت: ناشدتك الله من أعلم بأقاويل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم المتقدمين صاحبنا أم صاحبكم قال: اللهم صاحبكم، قال الشافعي: فلم يبق (2) إلا القياس، والقياس لا يكون إلا على هذه الأشياء، فعلى أي شيء يقيس (3) وقال الواقدي: كان مالك يأتي المسجد، ويشهد الصلوات والجمعة والجنائز، ويعود المرضى ويقضي الحقوق ويجلس في المسجد (4) ويجتمع إليه أصحابه، ثم ترك الجلوس في المسجد فكان يصلي وينصرف إلى مجلسه، وترك حضور الجنائز فكان يأتي أصحابها فيعزيهم، ثم ترك ذلك كله فلم يكن يشهد الصلوات في المسجد ولا الجمعة ولا يأتي أحدا يعزيه ولا يقضي له حقا، واحتمل الناس له ذلك حتى مات عليه، وكان ربما قيل له في ذلك فيقول: ليس كل الناس يقدر أن يتكلم بعذره (5) .   (1) بر: فأنشدك. (2) بر: فلم يبق شيء. (3) ن: نقيس؛ وفي هامش ل: الذي أجمع عليه سائر العلماء أن الإمام أبا حنيفة لم يماثله أحد من الأئمة وغيرهم في الفقه، وهذا قول الإمام الشافعي، وكان الإمام مالك رضي الله عنه إذا حضر مع أبي يوسف تلميذ أبي حنيفة في مجلس ( ... ) أبو يوسف وكلمه دون (أبي حنيفة) رضي الله عنه. (4) س: المجلس. (5) هامش ل: وإنما كان تخلف عن المسجد لأنه سلس بوله فقال عند ذلك: لا يجوز أن أجلس في مسجد الرسول (ص) وأنا على غير طهارة، فيكون ذلك استخفافاً، كذا وجد في نسخة بخط المصنف. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 136 وسعي به إلى جعفر بن سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس رضي الله عنهما وهو ابن عم أبي جعفر المنصور، وقالوا له: إنه لا يرى أيمان بيعتكم هذه بشيء، فغضب جعفر ودعا به وجرده وضربه بالسياط، ومدت يده حتى انخلعت كتفه وارتكب منه أمرا عظيما، فلم يزل بعد ذلك الضرب في علو ورفعة وكأنما كانت السياط حليا حلي (1) به. وذكر ابن الجوزي في شذور العقود في سنة سبع وأربعين ومائة: وفيها ضرب مالك بن أنس سبعين سوطا لأجل فتوى لم توافق غرض السلطان (2) ، والله أعلم. وكانت ولادته في سنة خمس وتسعين للهجرة، وحمل به ثلاث سنين. وتوفي في شهر ربيع الأول سنة تسع وسبعين ومائة، رضي الله عنه، فعاش أربعا وثمانين سنة، وقال الواقدي: مات وله تسعون سنة [والله أعلم بالصواب] (3) وقال ابن الفرات في تاريخه المرتب على السنين: توفي مالك بن أنس الأصبحي لعشر مضين من شهر ربيع الأول سنة تسع وسبعين ومائة، وقيل إنه توفي سنة ثمان وسبعين ومائة، وقيل إن مولده سنة تسعين للهجرة، وقال السمعاني في كتاب الأنساب في ترجمة الأصبحي (4) : إنه ولد في سنة ثلاث أو أربع وتسعين، والله أعلم بالصواب. وحكى الحافظ أبو عبد الله الحميدي في كتاب جذوة المقتبس قال: " حدث (5) القعنبي قال (6) : دخلت على مالك بن أنس في مرضه الذي مات فيه، فسلمت عليه، ثم جلست فرأيته يبكي، فقلت: يا أبا عبد الله، ما الذي يبكيك قال فقال لي: يا ابن قعنب، وما لي لا أبكي ومن أحق بالبكاء مني والله لوددت أني ضربت لكل مسألة أفتيت فيها برأيي بسوط سوط، وقد كانت لي   (1) م: تحلى. (2) س بر ن والمختار: السلاطين. (3) زيادة من لي بر س ن. (4) الأنساب 1: 281. (5) لي: حدثني. (6) هو عبد الله بن مسلمة القعنبي، وقد ترجم له ابن خلكان (رقم: 326) ، وانظر الجذوة: 325. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 137 السعة فيما قد سبقت إليه، وليتني لم أفت بالرأي، أو كما قال. وكانت وفاته بالمدينة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، ودفن بالبقيع [جوار إبراهيم ولد النبي صلى الله عليه وسلم] (1) وكان شديد البياض إلى الشقرة، طويلا عظيم الهامة أصلع، يلبس الثياب العدنية الجياد (2) ، ويكره حلق الشارب ويعيبه ويراه من المثلة، ولا يغير شيبه. ورثاه أبو محمد جعفر بن أحمد بن الحسين السراج - وقد سبق ذكره (3) - بقوله: سقى جدثا ضم البقيع لمالك ... من المزن مرعاد السحائب مبراق إمام موطاه الذي طبقت به ... أقاليم في الدنيا فساح وآفاق أقام به شرع النبي محمد ... له حذر من أن يضام وإشفاق له سند عال صحيح وهيبة ... فللكل منه حين يرويه إطراق وأصحاب صدق كلهم علم فسل ... بهم إنهم إن أنت ساءلت حذاق ولو لم يكن إلا ابن إدريس وحده ... كفاه ألا إن السعادة أرزاق والأصبحي: بفتح الهمزة وسكون الصاد المهملة وفتح الباء الموحدة وبعدها حاء مهملة، هذه النسبة الى ذي أصبح، واسمه الحارث بن عوف بن مالك بن زيد بن شداد بن زرعة، وهو من يعرب بن قحطان، وهي قبيلة كبيرة باليمن، واليها تنسب السياط الأصبحية (4) . وقال هشام بن الكلبي في جهرة النسب ذو أصبح هو الحارث بن مالك بن زيد بن غوث بن سعد بن عوف بن عدي بن مالك بن زيد بن سهل بن عمرو بن قيس بن معاوية بن جثم بن عبد شمس بن وائل بن الغوث بن قطن بن عريب بن زهير بن أيمن بن همسيع بن حمير بن سبأبن يشجب بن يعرب بن قحطان، واسمه يقطن، بن عابر بن شالخ   (1) زيادة من ل س. (2) ت: الجدد. (3) انظر 1: 357. (4) إلى هنا تنتهي الترجمة في ت ر ن لي س بر، وورد ما بعده في هامش ل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 138 ابن ارفخشذ بن سام بن نوح عليه السلام، والذي ذكرناه أولا ذكره الحازمي في كتاب " العجالة " (1) والله أعلم بالصواب. 551 - (2) مالك بن دينار أبو يحيى مالك بن دينار البصري، وهو من موالي بني سامة بن لؤي القرشي، كان عالما زاهدا كثير الورع قنوعا لا يأكل إلا من كسبه، وكان يكتب المصاحف بالأجرة، وروي عنه أنه قال: قرأت في التوراة أن الذي يعمل بيده طوبى لمحياه ومماته. وكان يوما في مجلس وقد قص فيه قاص، فبكى القوم، ثم ما كان بأوشك من أن أتوا برؤوس فجعلوا يأكلون منها، فقيل لمالك: كل، فقال: إنما يأكل الرؤوس من بكى، وأنا لم أبك، فلم يأكل. وله مناقب عديدة وآثار شهيرة: فمن ذلك ما حكاه أبو القاسم خلف بن بشكوال الأندلسي - المقدم ذكره (3) - في كتابه الذي سماه كتاب المستغيثين (4) بالله تعالى، فإنه قال: بينما مالك بن دينار يوما جالس إذ جاءه رجل فقال: يا أبا يحيى، ادع الله لامرأة حبلى (5) منذ أربع سنين وقد أصبحت في كرب شديد، فغضب مالك وأطبق المصحف ثم قال: ما يرى هؤلاء القوم إلا أننا انبياء، ثم قرأ ثم دعا فقال: اللهم هذه المرأة إن كان في بطنها جارية فأبدلها بها غلاما فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب، ثم رفع مالك يده ورفع الناس أيديهم، وجاء رسول إلى عند الرجل (6) وقال: أدرك امرأتك، فذهب الرجل   (1) انظر العجالة: 17. (2) ترجمته في حلية الأولياء 2: 357 وصفة الصفوة 3: 197 وتهذيب التهذيب 10: 14. (3) انظر ج 2: 240. (4) ل ن: المستعينين. (5) ر: حامل. (6) ر: إلى الرجل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 139 فما حط مالك يده حتى طلع الرجل من باب المسجد، على رقبته غلام جعد قطط ابن أربع سنين قد استوت أسنانه، ما قطعت سراره (1) . وكان من كبار السادات. وتوفي سنة إحدى وثلاثين ومائة بالبصرة، قبل الطاعون بيسير، رحمه الله تعالى. وقد أذكرني مالك بن دينار أبياتا أنشدنيها (2) لنفسه صاحبنا جمال الدين محمود ابن عبد عملها في بعض الملوك، وقد حارب ملكا آخر فانتصر الملك الذي عمل فيه الأبيات على عدوه، وغنم أمواله وخزائنه وأسر رجاله وأبطاله، فلما صار الجميع في قبضته فرق الأموال على الناس (3) واعتقل الأجناد، فمدحه ابن عبد المذكور بقصيدة أجاد فيها كل الإجادة، ووصف هذه الواقعة، واستعمل لفظة مالك بن دينار وحصل له فيها التورية العجيبة، والموضع المقصود منها قوله: أعتقت من أموالهم ما استعبدوا ... وملكت رقهم وهم أحرار حتى غدا من كان منهم مالكا ... متمنيا لو أنه دينار وهذا في نهايةالحسن، فلهذا ذكرتهما (4) .   (1) ر: قطع سرره. (2) ن: أنشدها. (3) على الناس: سقطت من ر. (4) زاد في المختار بعد هذا: " قلت أعني كتابها موسى بن أحمد لطف الله به: الممدوح هو الملك الجواد ....... بن أيوب ولي عهد الملك العادل ابن الكامل بدمشق، والذي انكسر واستولى الجواد على أمواله ورجاله وأبطاله الملك الناصر داود بن المعظم صاحب الكرك، وكانت الوقعة بظهر حمار من أعمال نابلس، وكان الناصر يلقب بين الملوك بالفقيه. ولابن عبد المذكور في الواقعة المذكورة أيضا: يا فقيها أخطا سبيل الرشاد ... ليس يغني الجلال يوم الجلاد كيف ينجي ظهر الحمار هزيما ... من جواد من فوق ظهر جواد وقد أجاد في معنى هذين البيتين أيضا فلهذا ذكرتهما ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 140 552 - (1) مجد الدين ابن الأثير الجزري أبو السعادات المبارك بن أبي الكرم محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني، المعروف بابن الأثير الجزري، الملقب مجد الدين. قال أبو البركات ابن المستوفي في تاريخ إربل في حقه: أشهر العلماء ذكرا، وأكبر النبلاء قدرا، وأحد الأفاضل المشار إليهم، وفرد الأماثل المعتمد في الأمور عليهم، أخذ النحو عن شيخه أبي محمد سعيد بن المبارك الدهان - وقد سبق ذكره (2) - وسمع الحديث متأخرا، ولم تتقدم روايته. وله المصنفات البديعة والرسائل الوسيعهة، منها: جامع الأصول في أحاديث الرسول جمع فيه بين الصحاح الستة، وهو على وضع كتاب رزين، إلا أن فيه زيادات كثيرة عليه، ومنها كتاب النهاية في غريب الحديث في خمس مجلدات، وكتاب الإنصاف في الجمع بين الكشف والكشاف في تفسير القرآن الكريم، أخذه من تفسير الثعلبي والزمخشري، وله كتاب المصطفى والمختار في الأدعية والأذكار وله كتاب لطيف في صنعة الكتابة، وكتاب البديع في شرح الفصول في النحو لابن الدهان وله ديوان رسائل، وكتاب الشافي (3) في شرح مسند الإمام الشافعي وغير ذلك من التصانيف (4) . وكانت ولادته بجزيرة ابني عمر في أحد الربيعين سنة أربع وأربعين وخمسمائة ونشأ بها، ثم انتقل إلى الموصل [في سنة خمس وستين وخمسمائة ثم عاد إلى الجزيرة ثم عاد إلى الموصل وتنقل في الولايات بها] (5) واتصل بخدمة الأمير مجاهد   (1) ترجمته في انباه الرواة 3: 3: 257 وذكر المحقق في الحاشية مصادر أخرى. (2) انظر ج 2: 382. (3) ر س: وله كتاب. (4) ن: المصنفات. (5) زيادة من ل وبعضه في المختار. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 141 الدين قايماز بن عبد الله الخادم الزيني - المقدم ذكره في حرف القاف (1) - وكان نائب المملكة، فكتب بين يديه منشئا إلى أن قبض عليه - كما سبق ذكره - فاتصل بخدمة عز الدين مسعود بن مودود صاحب الموصل وتولى ديوان رسائله وكتب له إلى أن توفي، ثم اتصل بولده نور الدين أرسلان شاه - وقد سبق ذكره (2) - فحظي عنده وتوفرت حرمته لديه وكتب له مدة. ثم عرض له مرض كف يديه ورجليه فمنعه من الكتابة مطلقا، وأقام في داره يغشاه الأكابر والعلماء، وأنشأ رباطا بقرية من قرى الموصل تسمى قصر حرب ووقف أملاكه عليه وعلى داره التي كان يسكنها بالموصل (3) ، وبلغني أنه صنف هذه الكتب كلها في مدة العطلة، فإنه تفرغ لها، وكان عنده جماعة يعينونه عليها في الاختيار (4) والكتابة. وله شعر يسير، من ذلك ما أنشده للأتابك صاحب الموصل وقد زلت به بغلته: إن زلت البغلة منتحته ... فإن في زلتها عذرا حملها من علمه شاهقا ... ومن ندى راحته بحرا وهذا معنى مطروق وقد جاء في الشعر كثيرا. وحكى أخوه عز الدين أبو الحسن علي أنه لما أقعد جاءهم رجل مغربي، والتزم أنه يداويه ويبرئه مما هو فيه، وأنه لا يأخذ أجرا إلا بعد برئه، فملنا (5) إلى قوله، وأخذ في معالجته بدهن صنعه، فظهرت ثمرة صنعته ولانت رجلاه وصار يتمكن من مدهما، وأشرف على كمال البرء فقال لي: اعط هذا المغربي شيئا يرضيه واصرفه فقلت له: لماذا وقد ظهر نجح معاناته (6) فقال: الأمر   (1) انظر ما تقدم ص: 82. (2) ج 1: 193. (3) ل لي بر: في الموصل. (4) ر: الاختيارات. (5) س ل لي بر: قال فملنا. (6) س ر والمختار: معافاته. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 142 كما تقول، ولكني في راحة مما كنت فيه من صحبة هؤلاء القوم والالتزام بأخطارهم (1) : وقد سكنت روحي إلى الانقطاع والدعة، وقد كنت بالأمس وأنا معافى أذل نفسي بالسعي إليهم، وها أنا اليوم قاعد في منزلي، فإذا طرأت لهم أمور ضرورية جاءوني بأنفسهم لأخذ رأيي، وبين هذا وذاك كثير، ولم يكن سبب هذا إلا هذا المرض، فما أرى زواله ولا معالجته، ولم يبق (2) من العمر إلا القليل، فدعني أعيش (3) باقيه حرا سليما من الذل وقد أخذت منه بأوفر حظ، قال عز الدين: فقبلت قوله وصرفت الرجل بإحسان. وكانت وفاة مجد الدين المذكور بالموصل، يوم الخميس (4) سلخ ذي الحجة سنة ست وستمائة، ودفن برباطه بدرب دراج داخل البلد (5) ، رحمه الله تعالى. وقد سبق ذكر أخيه عز الدين علي (6) ، وسيأتي ذكر أخيه ضياء الدين نصر الله، إن شاء الله تعالى (7) . وجزيرة ابني عمر: مدينة فوق الموصل على دجلتها، سميت جزيرة لأن دجلة محيطة بها، قال الواقدي: بناها رجل من أهل برقعيد يقال له عبد العزيز بن عمر.   (1) ن: والالزام بإحضارهم. (2) س: ولا يبقى. (3) س لي بر: أعش. (4) ن: الاثنين. (5) بر: الموصل. (6) انظر ج 3: 348. (7) هنا تنتهي الترجمة في ن س لي ت بر؛ والتعريف بجزيرة ابني عمر قد مر مفصلاً في الترجمة رقم: 460 (ج 3: 348) ؛ وترد في النسخ ما مدا بر " جزيرة ابن عمر ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 143 (1) 553 المبارك بن منقذ أبو الميمون المبارك بن كامل بن علي بن مقلد بن نصر بن منقذ الكناني، الملقب سيف الدولة مجد الدين، كان من أمراء الدولة الصلاحية، وشاد الديوان بالديار المصرية، وهو من بيت كبير - وقد سبق ذكر جده سديد الدولة علي، وابن عمه أسامة بن مرشد (2) . ولما سير السلطان صلاح الدين أخاه شمس الدولة توران شاه - المقدم ذكره (3) - إلى بلاد اليمن وتملكها رتب ابن منقذ المذكور نائبا عنه في زبيد، ولما رجع شمس الدولة إلى الشام فارق ابن منقذ اليمن واستناب أخاه حطان باذن شمس الدولة، ووصل إلى دمشق، ثم رجع شمس الدولة إلى مصر وابن منقذ معه، وقيل لصلاح الدين عنه: إنه قتل جماعة من أهل اليمن وأخذ أموالهم، فلما مات شمس الدولة حبسه صلاح الدين، وأخذ منه ثمانين ألف دينار وعروضا بعشرين ألف دينار، وذلك في سنة سبع وسبعين وخمسمائة، ثم توجه سيف الإسلام طغتكين - المقدم ذكره - إلى اليمن فتحصن حطان في بعض القلاع، فاستنزله بالمهادنة والخداع، وقبض عليه واستصفى أمواله، وسجنه في بعض القلاع، وكان آخر العهد به، ويقال إنه قتله، وقيل إنه أخذ منه سبعين غلاف زردية مملوءة ذهبا، والله أعلم (4) . ولم يزل سيف الدولة المذكور مقدما في الدولة كبير القدر نبيه الذكر رئيسا عالي الهمة، وكانت فيه فضيلة وكان يحب أربابها، ومدحه جماعة من مشاهير   (1) في الروضتين ومرآة الزمان طرف من أخباره، وانظر النجوم الزاهرة 6: 79. (2) انظر ج 3: 409، ج 1: 195. (3) انظر ج 1: 306. (4) ولما يسر السلطان ... أعلم: لم يرد إلا في ل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 144 الشعراء، ومن جملة مداحه القاضي الوجيه رضي الدين أبو الحسن علي بن أبي الحسن يحيى بن الحسن بن أحمد المعروف بابن الذروي (1) مدحه بقصيدته الذالية التي سارت مسير المثل، وأولها: لك الخير عرج بي على ربعهم فذي ... ربوع يفوح المسك من عرفها الشذي وذا، يا كليم الشوق، واد مقدس ... لدى الحب فاخلع ليس يمشيه محتذي ومن جملتها (2) : وبي ظبي إنس كمل الله حسنه ... وقال لأفواه الخلائق عوذي جلا تحت ياقوت اللمى ثغر جوهر ... رطيب وأبدى شاربا من زمرذ ولي عذل أبدي التشاغل عنهم ... إذا أخذوا في عذلهم كل مأخذ يقولون من هذا الذي مت في الهوى ... به كمدا يا رب لا عرفوا (3) الذي ورب أديب لم يجد في ارتحاله ... جوادا إذا ما قال هات يقل خذ أقول له إذا قام يرحل مصعبا ... يكلفه طول السفار وقد حذي (4) مبارك وفد العيس باب مبارك ... وهل منقذ القصاد إلا ابن منقذ ومن مديحها وفيه صناعة بديعة: وألين عند السلم من بطن حية ... وأخشن يوم الروع من ظهر (5) قنفذ وهي قصيدة نفيسة اقتصرت منها على هذه الأبيات حذرا من التطويل. ولأبي الميمون المذكور شعر، فمن ذلك قوله في البراغيث:   (1) بر: بالذروي. (2) ن لي: ومنها. (3) ن ل لي: لا علموا. (4) سقط البيت من ن. (5) بر: مس. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 145 ومعشر يستحل الناس قتلهم ... كما استحلوا دم الحجاج في الحرم إذا سفكت دما منها فما سفكت ... يداي من دمها المسفوك غير دمي أصطاد هذا فيبقى ذا فيلسعني ... فينقضي الليل في صيدي ولسعهم (1) (158) هكذا رواها (2) عنه عز الدين أبو القاسم عبد الله بن أبي علي الحسين ابن أبي محمد عبد الله بن الحسين بن رواحة بن إبراهيم بن عبد الله بن رواحة بن عبيد بن محمد بن عبد الله بن رواحة الأنصاري الحموي. ومولد ابن رواحة بساحل صقلية سنة ستين وخمسمائة، ومات سنة ست وأربعين وستمائة في جباب التركمان، المنزلة التي بين حلب وحماة، وهو راكب على الجمل، فكانت ولادته في مركب، ومات على جمل (3) . وكانت ولادة سيف الدولة المذكور بقلعة شيزر سنة ست وعشرين وخمسمائة. وتوفي بالقاهرة ثامن شهر رمضان يوم الثلاثاء سنة تسع وثمانين وخمسمائة رحمه الله تعالى. والذروى: بفتح الذال المعجمة والراء وبعدها واو، هذه النسبة إلى ذروى وهي قرية بصعيد مصر.   (1) سقط البيت من النسخ الخطية، وجميع الأبيات الميمية لم ترد في ت؛ وعند آخر هذه الأبيات تنتهي الترجمة في المختار. (2) س ل لي بر: رواهما. (3) ومات سنة ... جمل: سقط من ن س لي بر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 146 (1) 554 شرف الدين ابن المستوفي أبو البركات المبارك بن أبي الفتح أحمد بن المبارك بن موهوب بن غنيمة بن غالب اللخمي، الملقب شرف الدين، المعروف بابن المستوفي الإربلي، كان رئيسا جليل القدر كثير التواضع واسع الكرم، لم يصل إلى إربل أحد من الفضلاء إلا وبادر إلى زيارته وحمل إليه ما يليق بحاله، ويقرب إلى قلبه بكل طريق، وخصوصا أرباب الأدب فقد كانت سوقهم لديه نافقة. وكان جم الفضائل عارفا بعدة فنون، منها الحديث وعلومه وأسماء رجاله وجميع ما يتعلق به، كان إماما فيه. وكان ماهرا في فنون الأدب من النحو واللغة والعروض والقوافي وعلم البيان وأشعار العرب وأخبارها وأيامها ووقائعها وأمثالها. وكان بارعا في علم الديوان وحسابه وضبط قوانينه على الأوضاع المعتبرة عندهم. وجمع لإربل تاريخا في أربع مجلدات، وقد احلت عليه في هذا الكتاب في مواضع عديدة، وله كتاب النظام في شرح شعر المتنبي وأبي تمام في عشر (1) مجلدات، وكتاب إثبات المحصل في نسبة أبيات المفصل في مجلدين تكلم فيه على الأبيات التي استشهد بها الزمخشري في المفصل وله كتاب سر الصنعة وله كتاب سماه أبا قماش جمع فيه أدبا كثيرا ونوادر وغيرها. وسمعت منه كثيرا، وسمعت بقراءته على المشايخ الواردين على إربل شيئا كثيرا فإنه كان يعتمد القراءة بنفسه، وله ديوان شعر أجاد فيه، فمن شعره بيتان فضل فيهما البياض على السمرة، وهما: لا تخدعنك سمرة غرارة (3) ... ما الحسن إلا للبياض وجنسه   (1) في مرآة الزمان: 644 طرف من أخباره، وانظر الحوادث الجامعة: 135 وبغية الوعاة 384 وعبر الذهبي 5: 155 والشذرات 5: 186. (1) في مرآة الزمان: 644 طرف من أخباره، وانظر الحوادث الجامعة: 135 وبغية الوعاة 384 وعبر الذهبي 5: 155 والشذرات 5: 186. (3) ر: بعذاره. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 147 فالرمح يقتل بعضه من غيره ... والسيف يقتل كله من نفسه وقد أخذ هذا المعنى من قول أبي الندى حسان بن نمير الكلبي المعروف بالعرقلة الدمشقي الشاعر المشهور، وهو (1) : إن كنت بالأسمر الزيتي مفتتنا ... فسل عن الأبيض الفضي بلبالي إن كان في الرمح شبر قاتل أبدا ... ففي المهند شبر غير قتال ولما نظم شرف الدين بيتيه هذين قال بعض الأدباء: لو قال إن بعض الرمح الذي يقتل به هو من جنس السيف كان أتم في المعنى، فعمل بعض المتأدبين - ولا أعلم هل هو شرف الدين نفسه أم غيره - بيتين نبه فيهما على هذه الزيادة، وهما: البيض أقتل مضربا ... وبمهجتي منها الحسان والسمر إن قتلت فمن ... بيض يصاغ لها السنان (2) ومن أشعاره التي يتغنى بها قوله (3) : يا ليلة حتى الصباح سهرتها ... قابلت فيها بدرها بأخيه سمح الزمان بها فكانت ليلة ... عذب العتاب بها لمجتذبيه أحييتها وأمتها عن حاسد ... ما همه إلا الحديث يشتهيه ومعانقي حلو الشمائل أهيف ... جمعت ملاحة كل شيء فيه يختال معتدلا فإن عبث (4) الصبا ... بقوامه معترضا يثنيه نشوان تهجم بي عليه صبابتي (5) ... ويردني ورعي فأستحييه   (1) ترجمة العرقلة وأشعاره في الخريدة (قسم الشام) 1: 178 وفي الحاشية ذكر لمصادر أخرى. (2) ولما نظم ... السنان: سقط من جميع النسخ ما عدا ل. (3) ن ر: ومن شعره الذي يغني به (يتغنى) . (4) ر: لعب. (5) ر: صبابة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 148 علقت يدي بعذاره وبخده ... هذا أقبله وذا أجنيه لو لم تخالط زفرتي أنفاسه ... كانت تنم بنا إلى واشيه حسد الصباح الليل لما ضمنا ... غيظا ففرق بيننا داعيه وله: رعى الله ليلات تقضت بقربكم ... قصارا وحياها الحيا وسقاها فما قلت إيه بعدها لمسامر ... من الناس إلا قال قلبي آها وهذان بيتان يوجدان في أثناء قصيدة لصاحبنا الحسام الحاجري - المقدم ذكره في حرف العين (1) - لكن رأيت أكثر أصحابنا يقولون: إنهما لشرف الدين المذكور، والله أعلم. وكان قد خرج من مسجد بجواره ليلا ليجيء إلى داره فوثب عليه شخص وضربه بسكين قاصدا فؤاده، فالتقى الضربة بعضده فجرحته جراحة متسعة فأحضر في الحال المزين وخاطها ومرخها وقمطها باللفائف، فكتب إلى الملك المعظم مظفر الدين صاحب إربل يطالعه بما تم عليه في هذه الأبيات، وغالب ظني أن ذلك كان في سنة ثماني عشرة وستمائة، وأذكر القضية (2) وأنا يومئذ صغير، والأبيات: يا أيها الملك الذي سطواته ... من فعلها يتعجب المريخ آيات جودك محكم تنزيلها ... لا ناسخ فيها ولا منسوخ أشكو إليك وما بليت بمثلها ... شنعاء ذكر حديثها تاريخ هي ليلة فيها ولدت وشاهدي ... فيما ادعيت القمط والتمريخ وهذا معنى بديع جدا. وكان يقول: علمت في نومي بيتين وهما: وبتنا جميعا وبات الغيور ... يعض يديه علينا حنق   (1) انظر ج 3: 501. (2) ت: الفضة؛ بر: القصيدة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 149 نود غراما لو أنا نباع ... سواد الدجى بسواد الحدق وكان قد وصل إلى إربل بعض الشعراء وهو الشرف عبد الرحمن بن أبي الحسن بن عيسى بن علي بن يعرب البوازيجي الشاعر في سنة ثمان وعشرين وستمائة وشرف الدين يومئذ وزير، فسير له مثلوما على يد شخص كان في خدمته يقال له الكمال بن الشعار الموصلي صاحب التاريخ (1) - والمثلوم: عبارة عن دينار تقطع منه قطعة صغيرة وقد جرت عادتهم في العراق وتلك البلاد أن يفعلوا مثل هذا، لأنهم يتعاملون بالقطع الصغار، ويسمونها القراضة، ويتعاملون أيضا بالمثلوم، وهو كثير الوجود بأيديهم في معاملاتهم - فجاء الكمال إلى ذلك الشعر وقال له: الصاحب يقول لك: أنفق الساعة هذا حتى يجهز لك شيئا يصلح لك، فتوهم ذلك الشاعر أن يكون الكمال قد قرض القطعة (2) من الدينار، وأن شرف الدين ما سيره (3) إلا كاملا، وقصد استعلام الحال من جهة شرف الدين، فكتب إليه: يا أيها المولى الوزير ومن به ... في الجود حقا تضرب الأمثال أرسلت بدر التم عند كماله ... حسنا فوافى العبد وهو هلال ما غاله النقصان إلا أنه ... بلغ الكمال، كذلك الآجال فأعجب شرف الدين بهذا (4) المعنى وحسن الاتفاق، وأجاز الشاعر وأحسن إليه. وكنت خرجت من إربل في سنة ست وعشرين وستمائة وشرف الدين مستوفي الديوان، والاستيفاء في تلك البلاد منزلة عليه، وهو تلو الوزارة، ثم بعد ذلك تولى الوزارة في سنة تسع وعشرين وستمائة، وشكرت سيرته فيها، ولم   (1) هو صاحب عقود الجمان الذي نشير إليه في التعليقات. (2) ن لي: تلك القطعة. (3) ن: أرسل. (4) ن ر بر: هذا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 150 يزل عليها إلى أن مات مظفر الدين في التاريخ المذكور في ترجمته في حرف الكاف (1) رحمه الله تعالى، وأخذ الإمام المستنصر إربل في منتصف شوال من السنة المذكورة فبطل شرف الدين وقعد في بيته، والناس يلازمون خدمته على ما بلغني، ومكث كذلك إلى أن أخذ التتر مدينة إربل في سابع عشرين شوال سنة (2) أربع وثلاثين وستمائة، وجرى عليها وعلى أهلها ما قد اشتهر، فكان شرف الدين في جملة من اعتصم بالقلعة وسلم منهم، ولما انتزح التتر عن القلعة انتقل إلى الموصل وأقام بها في حرمة وافرة، وله راتب يصل إليه، وكان عنده من الكتب النفيسة شيء كثير. ولم يزل على ذلك حتى توفي بالموصل يوم الأحد لخمس خلون من المحرم سنة سبع وثلاثين وستمائة، ودفن بالمقبرة السابلة خارج باب الجصاصة. ومولده في النسف من شوال سنة أربع وستين وخمسمائة بقلعة إربل. وهو من بيت كبير كان فيه جماعة (3) من الرؤساء الأدباء. وتولى الاستيفاء بإربل والده وعمه صفي الدين أبو الحسن علي بن المبارك. (159) وكان عمه المذكور فاضلا وهو الذي نقل نصيحة الملوك تصنيف حجة الإسلام أبي حامد الغزالي من اللغة الفارسية إلى العربية، فإن الغزالي لم يضعها إلا بالفارسية، وقد ذكر ذلك شرف الدين في تاريخه، وكنت أسمع ذلك أيضا عنه أيام كنت في تلك البلاد، ووكان ذلك مشهورا بين الناس. (160) ولما مات شرف الدين رثاه صاحبنا الشمس أبو العز يوسف بن النفيس الإربلي المعروف بشيطان الشام، ومولد شيطان الشام سنة (4) ست وثمانين وخمسمائة بإربل، وتوفي بالموصل سادس عشر شهر رمضان سنة ثمان وثلاثين وستمائة، ودفن بمقبرة باب الجصاصة، وفيه يقول: أبا البركات لو درت المنايا ... بأنك فرد عصرك لم تصبكا   (1) انظر ما تقدم ص: 113. (2) ت: في بعض شهور سنة؛ وفي المختار: في سابع عشر شوال سنة ... الخ. (3) ت ر: باربل. (4) ر: ومولده سنة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 151 كفى الإسلام رزأ فقدُ شخص ... عليه بأعين الثقلين يبكى (1) ولولا خوف الإطالة لذكرت كثيرا من وقائعه وأخباره وما جراياته وتفاصيل أحواله وما مدح به، ولقد كان، رحمه الله، من محاسن وقته، ولم يكن في آخر الوقت في ذلك البلد مثله في فضائله ورياسته (2) . وقد سبق الكلام على اللخمي فلا حاجة إلى إعادته. (3) 555 الوجيه ابن الدهان أبو بكر المبارك بن أبي طالب المبارك بن أبي الأزهر سعيد، الملقب الوجيه، المعروف بابن الدهان، النحوي الضرير الواسطي، ولد ببلده ونشأ به، وحفظ القرآن هناك وقرأ القراءات، واشتغل بالعلم وسمع بها من أبي سعيد نصر بن محمد بن سالم الأديب وأبي الفرج العلاء بن علي المعروف بابن السوادي الشاعر - وقد تقدم ذكره (4) - وغيرهما، ثم قدم بغداد واستوطنها، وكان يسكن بالظفرية (5) ، وجالس أبا محمد ابن الخشاب النحوي وصحب أبا البركات ابن الأنباري - المقدم ذكرهما (6) - ولازم أبا البركات، وجل ما أخذ عنه، وسمع الحديث من أبي زرعة طاهر بن محمد بن طاهر المقدسي، وتفقه على مذهب أبي حنيفة بعد أن كان حنبليا، ثم شغر منصب تدريس النحو بالمدرسة النظامية، وشرط   (1) هنا تنتهي الترجمة في المختار. (2) ورياسته: سقطت من ن. (3) ترجمته في مرآة الزمان 2: 573 وانباه الرواة 3: 354 وفي الحاشية ثبت بمصادر أخرى. (4) انظر ج 3: 481. (5) ر: بالظاهرية؛ والظفرية محلة بشرقي بغداد (ياقوت) . (6) انظر ج 3: 481. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 152 الواقف أن (1) لا يفوض إلا إلى شافعي المذهب، فانتقل الوجيه المذكور إلى مذهب الشافعي وتولاه، وفي ذلك يقول المؤيد أبو البركات بن زيد التكريتي (2) : ومن مبلغ عني الوجيه رسالة ... وإن كان لا تجدي إليه الرسائل تمذهبت للنعمان بعد ابن حنبل ... وذلك لما أعوزتك المآكل وما اخترت قول الشافعي تدنيا ... ولكنما تهوى الذي منه حاصل وعما قليل أنت لا شك صائر ... إلى مالك فافطن لما أنا قائل وللوجيه المذكور تصنيف في النحو، وأقرأ القرآن الكريم كثيرا، وكان كثير الهذر، وفيه شره نفس وتوسع في القول، وكان كثير الدعاوى، وله شعر فمنه (3) : لست استقبح اقتضاءك بالوع ... د (4) وإن كنت سيد الكرماء فإله السماء قد ضمن الرز ... ق عليه ويقتضي بالدعاء وكانت ولادته سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة بواسط. وتوفي ليلة الأحد السادس والعشرين من شعبان سنة اثنتي عشرة وستمائة ببغداد، ودفن من الغد بالوردية (5) ، رحمه الله تعالى (6) .   (1) ل والمختار: أنه؛ وسقطت من لي. (2) هو محمد بن أحمد بن زيد التكريتي (ذيل الروضتين: 36 وفيه الأبيات) . (3) س بر: فمنه قوله. (4) س: للوعد؛ لي: في الوعد، وما هنا موافق لما في الانباه وسائر النسخ. (5) الوردية: مقبرة ببغداد بعد باب أبرز من الجانب الشرقي فريبة من باب المظفرية (ياقوت) . (6) تتفق هذه الترجمة مع ما ورد في انباه الرواة في سياقها العام. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 153 (1) 556 القاضي مجلي صاحب الذخائر أبو المعالي مجلي بن جميع بن نجا، القرشي المخزومي الأرسوفي الأصل، المصري الدار والوفاة، الفقيه الشافعي، كان من أعيان الفقهاء المشار إليهم في وقته، وصنف في الفقه كتاب الذخائر وهو كتاب مبسوط جمع (2) من المذهب شيئا كثيرا، وفيه نقل غريب ربما لا يوجد في غيره، وهو من الكتب المعتبرة المرغوب فيها، وتولى أبو المعالي المذكور القضاء بمصر في سنة سبع وأربعين وخمسمائة بتفويض من العادل أبي الحسن علي بن السلار - المقدر ذكره في حرف العين (3) - فإنه كان صاحب الأمر في ذلك الزمان، ثم صرف (4) عن القضاء في أوائل سنة تسع وأربعين وخمسمائة، قيل في العشر الأخير من شعبان من السنة (5) . وتوفي في ذي القعدة سنة خمسين وخمسمائة، ودفن بالقرافة الصغرى، رحمه الله تعالى. والأرسوفي: بضم الهمزة وسكون الراء وضم السين المهملة وسكون الواو وبعدها فاء، هذه النسبة إلى أرسوف، وهي بليدة بالشام على ساحل البحر، كان بها جماعة من العلماء والمرابطين، وهي اليوم بيد الفرنج، خذلهم الله تعالى (6) .   (1) ترجمته في طبقات السبكي 4: 300 وحسن المحاضرة 1: 170 وعبر الذهبي 4: 141 والشذرات 4: 157 وقد رآه ابن العربي في رحلته ببيت المقدس (انظر مجلة الأبحاث، بيروت 1968 ص 59 - 91) ؛ وقد أسقط صاحب المختار ترجمة مجلي وبدأ بتعريف أرسوف، وجاء بسياق التاريخ كما ثبت في ر أيضاً. (2) ن: جمع فيه. (3) انظر ج 3: 416. (4) ر: وقيل أنه صرف. (5) ر: السنة المذكورة. (6) إلى هنا تنتهي الترجمة في ت ن لي س بر وما بعده زيادة من هامش ل وقد ثبت أكثره في ر ووستنفيلد أيضاً وأخلت به المطبوعات المصرية؛ وهذه الزيادة من عمل المؤلف، وسوف يحيل عليها في تراجم لاحقة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 154 (161) قلت: ثم انترعها السلطان الملك الظاهر ركن الدين أبو الفتح بيبرس الصالحي النجمي من أيديهم في ثاني عشرين رجب من شهور سنة ثلاث وستين وستمائة بعد أن ملك قيسارية وخربها وعفى آثارها مع كثير من البلاد الساحلية التي تجاورها مثل يافا وغيرها، فامتلكها وبقي بها بعد ذلك (1) . والملك الظاهر المذكور هو أحد مماليك الملك الصالح نجم الدين أيوب ابن الملك الكامل ابن الملك العادل ابن أيوب - وسيأتي ذكر والده في محله - وتولى المملكة بعد قتل الملك المظفر سيف الدين قطز بن عبد الله المعزي في سنة ثمان وخمسين وستمائة، وكان قتل المظفر وهو عائد من كسرة التتر المخذولين، وهي الكسرة المشهورة على عين جالوت بالقرب من بيسان، وقتل بمنزلة القصير من الرمل، وتولى الظاهر بعده باتفاق الأمراء عليه وتوجه لليلته ووصل القلعة في اليوم الثاني لمسيره ودخلها، وكنت يومئذ بالقاهرة. وكان ملكا عالي الهمة شديد البأس، لم نر في هذا الزمان ملكا مثله في عزمه وهمته وسعادته، وفتح من حصون الفرنج والإسماعيلية ما أعيا من تقدمه من ملوك الإسلام (2) وذلك في مدة مملكته. وكسر التتر دفعات آخرها في أواخر سنة خمس (3) وسبعين وستمائة بحدود بلاد الروم، ودخل الروم ووصل إلى قيسارية   (1) زاد هنا في المختار قوله: " قلت، أعني كاتبها موسى بن أحمد لطف الله به: والذي فتح الملك الظاهر المذكور من البلاد من أيدي الفرنج، خذلهم الله تعالى، غير أرسوف ويافا المذكورتين: قيسارية المجاورة لأرسوف، والقرين الحصن المقارب لعكا، وصفا والشقيف وحصن عكار وحصن الأكراد وحلبا وعرقا والقليعات وصافيتا وأنطاكية وقصير أنطاكية، وأغار على طرابلس فقطع أشجار بساتينها وخرب قناتها، وبذلك انقطع الماء عنها، وأغار على عكا وشعث قراها وفتك بأبطالها وأسر جماعة من ملوك البحر فيها ومن فرسانها، تغمده الله برحمته ". (2) زاد هنا في المختار: " قلت، أعني كاتبها موسى بن أحمد لطف الله به: " وفتح صهيون وبلاطنش وما جاورهما من الحصون واستقصى فتح حصون الإسماعيلية بالشام، وفتح دنقلة كرسي بلاد النوبة وما جاورها من بلادهم، وفتح بلاد السيس دفعتين، وأسر ابن ملكها ثم من عليه من الديار المصرية، قدس الله روحه ". (3) ل: أربع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 155 وجلس على سرير الملك بها ثم عاد إلى دمشق وأقام بها إلى أوائل سنة ست وسبعين وستمائة، فتوفي بها في يوم الخميس السابع والعشرين من المحرم من سنة ست المذكورة بقصر الميدان، ونقل ليومه إلى القلعة وكتم موته، وقام مملوكه وعتيقه الأمير بدر الدين بيلبك المعروف بالخازندار بتدبير الأمور والعساكر وتوجه بهم إلى مصر ودخلها في شهر صفر من السنة ووطد قواعد السلطنة لولده السعيد ناصر الدين محمد بركة قان، واستمرت المملكة. ثم توفي بدر الدين الخازندار في شهر ربيع الأول من السنة المذكورة. وفي أثناء هذه السنة أظهر موت الملك الظاهر ودفن بالتربة المجاورة للمدرسة التي أنشأها ولده الملك السعيد المذكور بدمشق المحروسة شمالي الجامع قبالة المدرسة العادلية الكبيرة. (162) وأقام ولده الملك السعيد في المملكة إلى سنة ثمان وسبعين وستمائة. وفي هذه السنة وصل إلى دمشق وزار قبر والده المذكور وأقام بدمشق مدة يسيرة. وجرت أسباب أوجبت تغير قلوب الأمراء، وانفصل أكثر العساكر عنه (1) وفارقوه وتوجهوا طالبين الديار المصرية وتبعهم هو فيمن بقي من عسكره وفيمن عنده من مماليك أبيه وعسكر الشام ومعه من الأمراء الكبار شمس الدين سنقور الأشقر العلائي والأمير علم الدين سنجر الحلبي الكبير وغيرهما، ثم جرت أمور يطول شرحها، خلاصتها انه شق جموعهم بنفسه ودخل قلعة مصر في العشر الأواخر من ربيع الأول من السنة، ثم حاصروه بها وأنزلوه منها وأعطوه قلعة الكرك، وهي قلعة حصينة بين الشام ومصر على فم البرية الحجازية، فأقام بها إلى أن توفي في يوم الجمعة حادي عشر ذي القعدة سنة ثمان وسبعين وستمائة ودفن بالرك مدة ثم نقل إلى دمشق المحروسة في شهر جمادى من سنة ثمانين وستمائة ودفن على والده في التربة المجاورة للمدرسة المذكورة التي أنشأها. وهذه المدرسة على الفريقين أصحاب الإمام الشافعي وأبي حنيفة رضي الله عنهما، وافتتح بذكر الدرس فيها يوم الأربعاء سابع عشر صفر سنة سبع   (1) زاد في ر هنا: " في العشر الآخر من شهر ربيع الآخر من السنة " وهو مخالف لمات سيأتي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 156 وسبعين وستمائة، وكنت حاضره يومئذ (1) ، وحضر نائب المملكة بدمشق يومذاك، وهو الأمير عز الدين ايدمر بن عبد الله الظاهري، وهي من مشاهير المدارس   (1) زاد في المختار قوله: " قلت، أعني كاتبها موسى بن أحمد لطف الله به: وحضرت الدرس المذكور، وكان مدرس الشافعية الشيخ رشيد الدين إسماعيل المعروف بالفارقي العالم الفاضل الأديب المنشيء المشهور، وهو من أصحاب والدي وأهل وده، وله فيه مدائح كثيرة منها ما كتبه إلى والدي عند قدومه من مصر في المحرم سنة سبع وسبعين وستمائة حاكماً بدمشق والشام، وذلك بعدما أقام بدمشق سبع سنين: أنت في الشام مثل يوسف في مص ... ر وعندي بين الكرام جناس ولكل سبع شداد وبعد ال ... سبع عام فيه يغاث الناس وكان مولده على ما نقلته من خط والدي في سنة سبع وثمانين وخمسمائة، وكان هو يخفي تاريخ مولده بالكلية. وقرأت عليه مختصراً في علم البيان للرماني، وآخر في العلم المذكور للقيرواني، وكان بيني وبينه صحبة واجتماعات كثيرة، وكتب إلي يستدعيني إليه بهذين البيتين وقال: لا يعززا بثالث وهما ممكن أن يزورني أوحد الشا ... م وعهدي به عهودي راعي أو له شاغل فأسعى إليه ... مع ضعف القوى كسعي يراعي وتوفي ( ....... ) المحرم سنة تسع وستمائة قتيلاً بالمدرسة المذكورة وهو مستمر على تدريسها، وكان مجرداً من الأهل والزوجة، خنقه ابن سعد الدين أسعد المنشيء الفارقي، وسعد الدين المذكور ابن اخت الشيخ رشيد الدين، وذلك بسبب ذهب كثير اطلع عليه أنه في حاصله، ودفن من يومه بسفح قاسيون رحمه، الله تعالى. وكان مدرس الحنفية الشيخ صدر الدين سليمان الحنفي قاضي القضاة بالديار المصرية - كان - العالم المشهور، وكان قد استعفى من الحكم بمصر واختار المقام بمصر، فأجابه السلطان إلى ذلك، ولي منه إجازة بجميع مصنفاته ومسموعاته. تم لما توفي مجد الدين عبد الرحمن بن الصاحب كمال الدين ابن العديم الحلبي بدمشق بالجوسق المعروف بهم المطل على الوادي، غربي زاوية الحريري في ( ............. ) ودفن بالتربة التي أنشأها تجاه الجوسق المذكور في القبلة على طريق المزة، وكان قاضي القضاة لمذهبه بدمشق عند وفاته، وحضرت جنازته، وكان صاحبنا، ولي منه إجازة كالأولى: وكان مولده ( ................ ) رحمه الله، أضيف قضاء دمشق لمذهبه إلى سليمان المذكور فباشره إلى أن توفي ( .......... ) ودفن بتربته المعروفة بجبل الصالحيين بالقرب من رباط الناصر وحضرت جنازته، وكان مولده ( ............. ) وهو من أهل حوران، رحمه الله تعالى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 157 وكبارها يومئذ بدمشق المحروسة، حماها الله تعالى وسائر بلاد المسلمين. (163) [ولما نزل الملك السعيد من قلعة الجبل انتهى رأي أكابر الأمراء على أن يقيموا اخاه سيف الدسن سلامش، وكان صغيرا، تقدير عمره دون عشر سنين، وأن يلقبوه بالملك العادل فوضعوه مكانه في السلطنة، وأن يكون اتابك العساكر ومتولي التدبير الأمير سيف الدين قلاون الصالحي المعروف بالألفي الكبير، فجرى الأمر على ذلك، واستمر هذا الحال كذلك إلى أواخر شهر رجب من السنة، فاستقل الأمير سيف الدين قلاون المذكور بالسلطنة وركب بأبهتها في حادي عشرين رجب المذكور، ولقب بالملك المنصور، وخلفه الأمراء والناس، ودخل أهل جميع المماليك في طاعته، ولم يبق إلا الملك السعيد بالكرك. ثم ان الأمراء أرسلوا إلى الملك السعيد بالكرك أخوه سلامش المذكور وعامة أهل بيت الملك الظاهر، فانقطعت مملكتهم من الديار المصرية وغيرها، ولم يبق لهم الا قلعة الكرك وما هو مضاف اليها، والله متولي الأمور، وبمشيئته يجري كل مقدور] (1) . [وكان سبب وفاة الملك السعيد أنه خرج إلى الصيد فتقنطر به الفرس، فحمل إلى قلعة الكرك فبقي يويمات قلائل مريضا، ثم توفي في التاريخ المذكور] (2) .   (1) انفردت النسخة ل بما بين معقفين. (2) زيادة من المختار. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 158 (1) 557 أبو على التنوخي القاضي أبو علي المحسن بن أبي القاسم علي بن محمد بن أبي الفهم داود بن إبراهيم ابن تميم التنوخي - وقد سبق ذكر ابيه في حرف العين وإيراد شيء من أخباره وشعره (2) - وذكرهما الثعالبي في باب واحد وقدم ذكر الأب، ثم قال في حق أبي علي المذكور: هلال ذلك القمر، وغصن هاتيك الشجر، والشاهد العدل بمجد أبيه وفضله، والفرع المسند لأصله، والنائب عنه في حياته، والقائم مقامه بعد وفاته. وفيه يقول أبو عبد الله بن الحجاج الشاعر: إذا ذكر القضاة وهم شيوخ ... تخيرت الشباب على الشيوخ ومن لم يرض ام أصفعه إلا ... بحضرة سيدي القاضي التنوخي وله كتاب " الفرج بعد الشدة " وذكر في أوائل هذا الكتاب أنه كان على العيار في دار الضرب بسوق الأهواز في سنة ست وأربعين وثلثمائة، وذكر بعد ذلك بقليل أنه كان على القضاء بجزيرة ابني عمر (3) ، وله ديوان شعر أكبر من ديوان أبيه، وكتاب " نشوار (4) المحاضرة " وله كتاب " المستجاد من فعلات الأجواد ". وسمع بالبصرة من أبي العباس الأثرم وأبي بكر الصولي والحسين بن محمد بن   (1) ترجمته في تاريخ بغداد 13: 155 واليتيمة 2: 346 ومعجم الأدباء 17: 92 والجواهر المضية 2: 151 والمنتظم 7: 178 وعبر الذهبي 3: 27 والنجوم الزاهرة 4: 168 والشذرات 3: 112. (2) انظر ج 3: 366. (3) وذكر ... عمر: سقط من س ن لي ت. (4) ل ر: نشوان. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 159 يحيى بن عثمان النسوي (1) وطبقتهم، ونزل ببغداد وأقام بها، وحدث إلى حين وفاته وكان سماعه صحيحا، وكان أديبا شاعرا أخباريا، وكان أول سماعه الحديث في سنة ثلاث وثلاثين وثلثمائة، وأول ما تقلد القضاء من قبل أبي السائب عتبة بن عبيد الله بالقصر وبابل وما والاهما في سنة تسع وأربعين، ثم ولاه الإمام المطيع لله القضاء بعسكر مكرم وإيدج ورامهرمز، وتقلد بعد ذلك أعمالا كثيرة في نواح مختلفة. ومن شعره في بعض المشايخ وقد خرج يستسقي وكان في السماء سحاب، فلما دعا أصحت السماء، فقال أبو علي التنوخي: خرجنا لنستسقي بيمن دعائه ... وقد كاد هدب الغيم أن يلحف (2) الأرضا فلما ابتدا يدعو تكشفت السما ... فما تم إلا والغمام قد انفضا ولبعضهم في المعنى وهو أبو الحسين سليمان بن محمد بن الطراوة النحوي الأندلسي المالقي (3) في هذا المعنى: خرجوا ليستسقوا وقد نجمت ... غريبة قمن بها السح حتى إذا اصطفوا لدعوتهم ... وبدا لأعينهم بها رشح كشف السحاب إجابة لهم ... فكأنهم خرجوا ليستصحوا ومن المنسوب إليه أعني القاضي التنوخي (4) : قل للمليحة في الخمار المذهب ... أفسدت نسك أخي التقي المترهب نور الخمار خدك تحته ... عجبا لوجهك كيف لم يتلهب   (1) ل س لي: الفسوي؛ ر: الغسولي؛ القسموي. (2) المختار؛ بر: يلحق. (3) ل ر والمختار: المالكي؛ وانظر ترجمة ابن الطراوة في المقتضب من التحفة: 11 والمغرب 2: 208 والتكملة لابن الأبار (رقم: 1979) وبغية الوعاة: 263 والنفح 3: 384 وبغية الملتمس رقم: 290. (4) أعني القاضي التنوخي: أعني زيادة من ر ل؛ وهي زيادة لازمة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 160 وجمعت بين المذهبين فلم يكن ... للحسن عن ذهبيهما من مذهب وإذا أتت عين لتسرق نظرة ... قال الشعاع لها اذهبي لا تذهب وما ألطف قوله اذهبي لا تذهب. وقد أذكرتني هذه الأبيات في الخمار المذهب حكاية وقفت عليها منذ زمان بالموصل، وهي أن بعض التجار قدم مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعه حمل من الخمر السود، فلم يجد لها طالبا، فكسدت عليه وضاق صدره، فقيل له: ما ينفقها لك إلا مسكين الدارمي، وهو من مجيدي الشعراء الموصوفين بالظرف والخلاعة، فقصده فوجده قد تزهد وانقطع في المسجد، فأتاه وقص عليه القصة، فقال: وكيف أعمل وأنا قد تركت الشعر وعكفت على هذه الحال فقال له التاجر: أنا رجل غريب، وليس لي بضاعة سوى هذا الحمل، وتضرع إليه، فخرج من المسجد وأعاد لباسه الأول وعمل هذين البيتين وشهرهما وهما: قل للمليحة في الخمار الأسود ... ماذا أردت بناسكٍ متعبد قد كان شمر للصلاة ثيابه ... حتى قعدت له بباب المسجد (1) فشاع بين الناس أن مسكينا الدارمي قد رجع إلى ما كان عليه، وأحب واحدة ذات خمار أسود، فلم يبق بالمدينة ظريفة إلا وطلبت خمارا أسود، فباع التاجر الحمل الذي كان معه بأضعاف ثمنه، لكثرة رغباتهم فيه، فلما فرغ منه عاد مسكين إلى تعبده وانقطاعه. وكتب القاضي أبو علي التنوخي المذكور إلى بعض الرؤساء في شهر رمضان: نلت في ذا الصيام ما تشتهيه ... وكفاك الإله ما تتقيه أنت في الناس مثل شهرك في الأش ... هر، بل مثل ليلة القدر فيه   (1) زاد في ن بيتاً ثالثاً وهو: ردي عليه ثيابه ووقاره ... لا تقتليه بحق آل محمد ولذلك قال قبل الأبيات: وعمل هذه الأبيات الثلاثة وأشهرهم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 161 وله أشياء فائقة. وكانت ولادته ليلة الأحد لأربع بقين من شهر ربيع الأول سنة سبع وعشرين وثلثمائة بالبصرة. وكانت وفاته ليلة الاثنين، لخمس بقين من المحرم سنة أربع وثمانين وثلثمائة ببغداد، رحمه الله تعالى. (164) وأما ولده أبو القاسم علي بن المحسن بن علي التنوخي فكان أديبا فاضلا له شعر لم أقف منه على شيء، وكان يصحب أبا العلاء المعري وأخذ عنه كثيرا، وكان يروي الشعر الكثير، وهم أهل بيت كلهم فضلاء أدباء ظرفاء، وكانت ولادة الولد المذكور في منتصف شعبان سنة خمس وستين وثلثمائة بالبصرة، وتوفي في يوم الأحد مستهل المحرم سنة سبع وأربعين وأربعمائة، رحمه الله تعالى، وكانت بينه وبين الخطيب أبي زكريا التبريزي مؤانسة واتحاد بطريق أبي العلاء المعري وذكره الخطيب في " تاريخ بغداد " (1) وعدد شيوخه الذين روى عنهم، ثم قال: وكتبت عنه، وذكر مولده ووفاته كما هو ها هنا، لكنه قال: إن وفاته كانت ليلة الاثنين ثاني المحرم، ودفن يوم الاثنين في داره بدرب التل، وإنه صلى على جنازته، وإن أول سماعه كان في شعبان سنة سبعين، وكان قد قبلت شهادته عند الحكام في حداثته، ولم يزل على ذلك مقبولا إلى آخر عمره، وكان متحفظا في الشهادة محتاطا صدوقا في الحديث، وتقلد قضاء نواح عدة، منها المدائن وأعمالها ودورنجان (2) والبردان وقرميسين وغير ذلك. وقد سيق الكلام على التنوخي. والمحسن: بضم الميم وفتح الحاء المهملة وكسر السين المهملة المشددة، وبعدها نون. وإليه كتب أبو العلاء المعري قصيدته التي أولها: هات الحديث عن الزوراء أو هيتا (3) ...   (1) تاريخ بغداد 12: 115. (2) ر وهامش ل: أذربيجان. (3) شروح السقط: 1593، وعجز البيت: وموقد النار لا تكرى بتكريتا؛ وكان أبو القاسم هذا قد حمل لى أبي العلاء وهو ببغداد جزءاً من شعر تنوخ فخلفه المعري حين عاد إلى بلده عند عبد السلام البصري خازن دار العلم، ثم خشي أن يكون عبد السلام قد غفل عن رد الجزء إلى صاحبه فكتب إلى أبي القاسم هذه القصيدة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 162 558 - (1) الإمام الشافعي الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب ابن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف، القرشي المطلبي الشافعي، يجتمع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عبد مناف المذكور، وباقي النسب إلى عدنان معروف، لقي جده شافع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مترعرع، وكان أبوه السائب صاحب راية بني هاشم يوم بدر، فأسر وفدى نفسه ثم أسلم، فقيل له: لم لم تسلم قبل أن تفدي نفسك فقال: ما كنت أحرم المؤمنين مطمعا لهم في. وكان الشافعي كثير المناقب جم المفاخر منقطع القرين، اجتمعت فيه من العلوم بكتاب الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكلام الصحابة رضي الله عنهم وآثارهم، واختلاف أقاويل العلماء وغير ذلك من معرفة كلام العرب واللغة والعربية والشعر حتى إن الأصمعي مع جلالة قدره في هذا الشأن قرأ عليه أشعار الهذليين ما لم يجتمع في غيره، حتى قال أحمد بن حنبل رضي الله عنه: ما عرفت ناسخ الحديث ومنسوخه حتى جالست الشافعي، وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: ما رأيت رجلا قط أكمل من الشافعي، وقال عبد الله بن أحمد   (1) تكاد مصادر ترجمته لا تحصر، ولكن نشير منها إلى طبقات السبكي (ج 1) ؛ وطبقات الشيرازي: 71 ومعجم الأدباء 17: 281 وحلية الأولياء 9: 63 وتاريخ بغداد 2: 56 وطبقات الحنابلة 1: 280 والفهرست: 209 والديباج: 227 وترتيب المدارك 1: 382 وطبقات ابن هداية الله: 2 وحسن المحاضرة 1: 121 وتذكرة الحفاظ: 361 وتهذيب التهذيب 9: 25 وغاية النهاية 2: 95 وصفة الصفوة 2: 140؛ وقد ألفت في سيرته كتب كثيرة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 163 ابن حنبل: قلت لأبي: أي رجل كان الشافعي فإني سمعتك تكثر من الدعاء له، فقال: يا بني، كان الشافعي كالشمس للدنيا وكالعافية للبدن، هل لهذين من خلف أو عنهما من عوض وقال أحمد: ما بت منذ ثلاثين سنة إلا وأنا أدعو للشافعي وأستغفر له، وقال يحيى بن معين: كان أحمد بن حنبل ينهانا عن الشافعي، ثم استقبلته يوما والشافعي راكب بغلة وهو يمشي خلفه، فقلت: يا أبا عبد الله، تنهانا عنه وتمشي خلفه فقال: اسكت، لو لزمت البغلة انتفعت. وحكى الخطيب في تاريخ بغداد عن ابن عبد الحكم قال: لما حملت أم الشافعي به رأت كأن المشتري خرج من فرجها حتى انقض بمصر، ثم وقع (1) في كل بلد منه شظية، فتأول أصحاب الرؤيا أنه يخرج منها (2) عالم يخص علمه أهل مصر ثم يتفرق في سائر البلدان. وقال الشافعي: قدمت على مالك بن أنس وقد حفظت الموطأ فقال لي: أحضر من يقرأ لك، فقلت: أنا قارئ، فقرأت عليه الموطأ حفظا، فقال: إن يك أحد يفلح فهذا الغلام. وكان سفيان بن عيينة إذا جاءه شيء من التفسير أو الفتيا التفت إلى الشافعي فقال: سلوا هذا الغلام. وقال الحميدي: سمعت زنجي (3) بن خالد - يعني مسلما - يقول للشافعي: أفت يا أبا عبد الله فقد والله آن (4) لك أن تفتي، وهو ابن خمس عشرة سنة (5) . وقال محفوظ بن أبي توبة البغدادي: رأيت أحمد بن حنبل عند الشافعي في المسجد الحرام، فقلت: يا أبا عبد الله، هذا سفيان بن عيينة في ناحية المسجد يحدث، فقال: إن هذا يفوت وذاك لا يفوت. وقال أبو حسان الزيادي: ما رأيت محمد بن الحسن يعظم أحدا من أهل العلم تعظيمه للشافعي، ولقد جاءه يوما فلقيه وقد ركب   (1) ن: فوقع. (2) منها: ثبتت في ن وحدها. (3) ن ر والمختار: الزنجي. (4) ن: آن والله. (5) علق الخطيب (2: 64) على ذلك بقوله: وليس ذلك بمستقيم لأن الحميدي كان يصغر عن إدراك الشافعي وله تلك السن؛ والحميدي المذكور هو عبد الله بن الزبير الحميدي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 164 محمد بن الحسن (1) ، فرجع محمد إلى منزله وخلا به يومه إلى الليل، ولم يأذن لأحد عليه. والشافعي أول من تكلم في أصول الفقه وهو الذي استنبطه، وقال أبو ثور: من زعم انه رأى مثل محمد بن إدريس في علمه وفصاحته ومعرفته وثباته وتمكنه فقد كذب، كان منقطع القرين في حياته، فلما مضى لسبيله لم يعتض منه. وقال أحمد بن حنبل: ما أحد ممن بيده محبرة أو ورق إلا وللشافعي في رقبته منة. وكان الزعفراني يقول: كان أصحاب الحديث رقودا حتى جاء الشافعي فأيقظهم فتيقظوا. ومن دعائه: اللهم يا لطيف أسألك اللطف فيما جرت به المقادير، وهو مشهور بين العلماء بالإجابة، وأنه مجرب (2) . وفضائله أكثر من أن تعدد. وموله سنة خمسين ومائة، وقد قيل إنه ولد في اليوم الذي توفي فيه الإمام أبو حنيفة (3) ، وكانت ولادته بمدينة غزة، وقيل بعسقلان، وقيل باليمن، والأول أصح، وحمل من غزة إلى مكة وهو ابن سنتين فنشأ بها وقرأ القرآن الكريم، وحديث رحلته إلى مالك بن أنس مشهور فلا حاجة إلى التطويل فيه، وقدم بغداد سنة خمس وتسعين ومائة فأقام بها سنتين، ثم خرج إلى مكة، ثم عاد إلى بغداد سنة ثمان وتسعين ومائة فأقام بها شهرا، ثم خرج إلى مصر، وكان وصوله إليها في سنة تسع وتسعين ومائة، وقيل سنة إحدى ومائتين. ولم يزل بها إلى أن توفي يوم الجمعة آخر يوم من رجب سنة أربع ومائتين، ودفن بعد العصر من يومه بالقرافة الصغرى، وقبره يزار بها بالقرب من المقطم، رضي الله عنه. قال الربيع بن سليمان المرادي: رأيت هلال شعبان وأنا راجع من جنازته، وقال: رأيته في المنام بعد وفاته فقلت: يا أبا عبد الله، ما صنع الله بك فقال: أجلسني على كرسي من ذهب، ونثر علي اللؤلؤ الرطب. وذكر الشيخ   (1) ن: ولقد جاءه يوماً الشافعي فلقي محمد بن الحسن وقد ركب. (2) ومن دعائه ... مجرب: سقط من ن لي س بر. (3) بهامش المختار: ولا يصح، بل ولد في السنة التي توفي بها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 165 أبو إسحاق الشيرازي في كتاب طبقات الفقهاء ما مثاله: وحكى الزعفراني عن أبي عثمان ابن الشافعي قال: مات أبي وهو ابن ثمان وخمسين سنة (1) . وقد اتفق العلماء قاطبة من أهل الحديث والفقه والأصول (2) واللغة والنحو وغير ذلك على ثقته وأمانته وعدالته وزهده وورعه ونزاهة عرضه وعفة نفسه وحسن سيرته وعلو قدره وسخائه. وللإمام الشافعي أشعار كثيرة فمن ذلك ما نقلته من خط الحافظ أبي طاهر السلفي رحمه الله تعالى: إن الذي رزق اليسار ولم يصب ... حمدا ولا أجرا لغير موفق الجد يدني كل أمر شاسع ... والجد يفتح كل باب مغلق وإذا سمعت بأن مجدودا حوى ... عودا فأثمر في يديه فصدق وإذا سمعت بأن محروما اتى ... ماء ليشربه فغاض فحقق (3) لو كان بالحيل الغنى لوجدتني ... بنجوم (4) أقطار السماء تعلقي لكن من رزق الحجا حرم الغنى ... ضدان مفترقان أي تفرق ومن الدليل على القضاء وكونه ... بؤس اللبيب وطيب عيش الأحمد ومن المنسوب إليه أيضا (5) : ماذا يخبر ضيف بيتك أهله ... إن سيل كيف معاده ومعاجه   (1) وذكر الشيخ ... سنة: سقط من ن لي س ت بر والمختار، وانظر طبقات الشيرازي: 72. (2) ر: العلم والفقه والحديث. (3) هذا البيت مقدم على الذي قبله في ر مع تبادل في القافيتين. (4) ل: بتخوم. (5) لم ترد الأبيات في ر والمختار؛ وعلق عليها بهامش س بقوله: حاش لله أن ينسب مثل هذا الشعر للإمام الشافعي أو إلى غيره من أئمة المسلمين، وقد أنشده ابن السمعاني في المذيل لشخص يعرف بكنية غريبة لا استحضرها الآن، ورد على حضرة الصاحب ابن عباد فلم ير منه براً فكتبه إليه فجاءه واعتذر إليه وبره. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 166 أيقول جاوزت الفرات ولم أنل ... ريا لديه وقد طغت أمواجه ورقيت في درج العلا فتضايقت ... عما أريد شعابه وفجاجه ولتخبرن خصاصتي بتملقي ... والماء يخبر عن قذاه زجاجه عندي يواقيت القريض ودره ... وعلي إكليل الكلام وتاجه تربي على روض الربا أزهاره ... ويرف في نادي الندى ديباجه والشاعر المنطيق أسود سالخ ... والشعر منه لعابه ومجاجه وعداوة الشعراء داء معضل ... ولقد يهون على الكريم علاجه ومن المنسوب إليه أيضا: رام نفعا فضر من غير قصد ... ومن البر ما يكون عقوقا ومن المنسوب إلى الشافعي: كلما أدبني الده ... ر أراني نقص عقلي وإذا ما ازددت علما ... زادني علما بجهلي وهو القائل: ولولا الشعر بالعلماء يزري ... لكنت اليوم أشعر من لبيد وقال الشافعي رضي الله عنه: تزوجت امرأة من قريش بمكة، وكنت أمازحها فأقول: ومن البلية أن تح ... ب فلا يحبك من تحبه فتقول هي: ويصد عنك بوجهه ... وتلج أنت فلا تغبه (1) وأخبرني أحد المشايخ الأفاضل أنه عمل في مناقب الشافعي ثلاثة عشر تصنيفا.   (1) وقال الشافعي ... تغبه: سقط من س ت. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 167 ولما مات رثاه خلق كثير، وهذه المرثية منسوبة إلى أبي بكر محمد بن دريد صاحب المقصورة، وقد ذكرها الخطيب في " تاريخ بغداد " وأولها: [بملتفتيه للمشيب طوالع ... زواجر عن ورد التصابي روادع تصرفه طوع العنان وربما ... دعاه الصبا فاقتاده وهو طائع ومن لم يزعه لبه وحياؤه ... فليس له من شيب فوديه وازع هل النافر المدعو للحظ راجع ... أم النصح مقبول أم الوعظ نافع أم الهمك المغموم بالجمع عالم ... بأن الذي يوعي من المال ضائع وأن قصاراه على فرط ضنه ... فراق الذي أضحى له وهو جامع ويخمل ذكر المرء ذي المال بعده ... ولكن جمع العلم للمرء رافع (1) ألم تر آثار ابن إدريس بعده ... دلائلها في المشكلات لوامع معالم يفنى الدهر وهي خوالد ... وتنخفض الأعلام وهي فوارع مناهج فيها للهدى متصرف ... موارد فيها للرشاد شرائع ظواهرها حكم ومستبطناتها (2) ... لما حكم التفريق فيه جوامع لرأي ابن إدريس ابن عم محمد ... ضياء إذا ما أظلم الخطب ساطع إذا المفظعات المشكلات تشابهت ... سما منه نور في دجاهن لامع أبى الله إلا رفعه وعلوه ... وليس لما يعليه ذو العرش واضع توخى الهدى واستنقذته يد التقى ... من الزيغ إن الزيغ للمرء صارع ولاذ بآثار الرسول فحكمه ... لحكم رسول الله في الناس تابع وعول في أحكامه وقضائه ... على ما قضى في الوحي والحق ناصع بطيء عن الرأي المخوف التباسه ... إليه إذا لم يخش لبسا مسارع وأنشا له منشيه من خير معدن ... خلائق هن الباهرات البوارع] (3)   (1) ما بين معقفين زيادة من ر؛ وفي النسخ " فمنها قوله " بدل " أولها " - كما في المختار -. (2) بر لي ن ت، والمختار: ومستنبطها. (3) البيتان زيادة من ر؛ وموضعها في النسخ الأخرى " ومنها ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 168 تسربل بالتقوى وليدا وناشئا ... وخص بلب الكهل مذ هو يافع وهذب حتى لم تشر بفضيلة ... إذا التمست إلا إليه الأصابع فمن يك علم الشافعي إمامه ... فمرتعه في ساحة العلم واسع سلام على قبر تضمن جسمه ... وجادت عليه المدجنات الهوامع لقد غيبت أثراؤه جسم ماجد ... جليل إذا التفت عليه المجامع لئن فجعتنا الحادثات بشخصه ... لهن لما حكمن فيه فواجع فأحكامه فينا بدور زواهر ... وآثاره فينا نجوم طوالع وقد يقول القائل: إن ابن دريد لم يدرك الشافعي، فكيف رثاه لكنه يجوز أن يكون رثاه بعد ذلك، فما فيه بعد، فقد رأينا مثل هذا في حق غيره، مثل الحسين، رضي الله تعالى عنه، وغيره. 559 - (1) محمد بن الحنفية أبو القاسم محمد بن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، المعروف بابن الحنفية، أمه الحنفية خولة بنت جعفر بن قيس بن سلمة بن ثعلبة بن يربوع بن ثعلبة ابن الدول بن حنيفة بن لجيم، ويقال بل كانت من سبي اليمامة، وصارت إلى علي رضي الله عنه، وقيل بل كانت سندية سوداء، وكانت أمة لبني حنيفة ولم تكن منهم، وإنما صالحهم خالد بن الوليد على الرقيق، ولم يصالحهم على أنفسهم. وذكر البغوي في كتاب " شرح السنة " في باب قتال مانعي الزكاة أن طائفة   (1) ترجمته في طبقات ابن سعد 5: 91 وأنساب الأشراف 5: 214 - 223، 260 - 273 وحلية الأولياء 3: 174 وطبقات الشيرازي: 62 والبدء والتاريخ 5: 75 والمعارف: 216 وصفة الصفوة 2: 42. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 169 ارتدوا عن الدين وأنكروا الشرائع وعادوا إلى ما كانوا عليه من الجاهلية، واتفقت الصحابة على قتالهم وقتلهم، ورأى أبو بكر رضي الله عنه سبي ذراريهم ونسائهم، وساعده على ذلك أكثر الصحابة، واستولد علي رضي الله عنه جارية من سبي بني حنيفة فولدت له محمد بن علي الذي يدعى محمد بن الحنفية، ثم لم ينقرض عصر الصحابة حتى أجمعوا (1) على أن المرتد لا يسبى (2) . وأما كنيته بأبي القاسم فيقال إنها رخصة من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وإنه قال لعلي رضي الله عنه: سيولد لك بعدي غلام وقد نحلته اسمي وكنيتي ولا تحل لأحد من أمتي بعده. وممن يسمى محمدا ويكنى أبا القاسم: محمد بن أبي بكر الصديق، ومحمد بن طلحة بن عبيد الله، ومحمد بن سعد بن أبي وقاص، ومحمد بن عبد الرحمن بن عوف، ومحمد بن جعفر بن أبي طالب، ومحمد بن حاطب بن أبي بلتعة، ومحمد بن الأشعث بن قيس. وكان محمد المذكور كثير العلم والورع، وقد ذكره الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في " طبقات الفقهاء " (3) . وكان شديد القوة، وله في ذلك أخبار عجيبة، منها ما حكاه المبرد في كتاب الكامل (4) أن أباه عليا، رضي الله عنه، استطال درعا كانت له، فقال: لينقص منها كذا وكذا حلقة، فقبض محمد إحدى يديه على ذيلها والأخرى (5) على ضلها، ثم جذبها فقطع من الموضع الذي حدده أبوه. وكان عبد الله بن الزبير إذا حدث بهذا الحديث غضب واعتراه إفكل، وهو الرعدة، لأنه كان يحسده على قوته، وكان ابن الزبير أيضا شديد القوى. ومن قوته أيضا ما حكاه المبرد (6) في كتابه أن ملك الروم في أيام معاوية وجه إليه: إن الملوك قبلك كانت تراسل الملوك منا، ويجهد بعضهم أن   (1) المختار: اجتمعوا. (2) وذكر البغوي ... لا يسبي: سقط من س ن لي ت بر. (3) انظر طبقات الشيرازي: 62. (4) الكامل 3: 266. (5) الكامل: بإحدى ... بالأخرى، وهو موافق لما في ن. (6) الكامل 2: 114. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 170 يغرب على بعض، أفتأذن في ذلك فأذن له، فوجه إليه برجلين أحدها طويل جسيم، والآخر أيد، فقال معاوية لعمرو بن العاص: أما الطويل فقد أصبنا كفؤه، وهو قيس بن سعد بن عبادة رصي الله عنه، وأما الآخر الأيد فقد احتجنا إلى رأيك فيه، فقال عمرو: ها هنا رجلان كلاهما إليك بغيض: محمد بن الحنفية وعبد الله بن الزبير، فقال معاوية: من (1) هو أقرب إلينا على كل حال، فلما دخل الرجلان وجه إلى قيس بن سعد بن عبادة يعلمه، فدخل قيس، فلما مثل بين يدي معاوية نزع سراويله، فرمى بها إلى العلج فلبسها فبلغت ثندوته (2) ، فأطرق مغلوبا، فقيل إن قيسا لاموه في ذلك، وقيل له: لم تبذلت هذا التبذل بحضرة معاوية هلا وجهت إليه غيرها فقال: أردت لكيما يعلم الناس أنها ... سراويل قيس والوفود شهود وأن لا يقولوا غاب قيس وهذه ... سراويل عادي نمته ثمود وإني من القوم اليمانين سيد ... وما الناس إلا سيد ومسود وبذ جميع الخلق أصلي ومنصبي ... وجسم به أعلو الرجال مديد ثم وجه معاوية إلى محمد بن الحنفية فحضر، فخبر بما دعي له، فقال: قولوا له إن شاء فليجلس وليعطني يده حتى أقيمه أو يقعدني، وإن شاء فليكن القائم وأنا القاعد، فاختار الرومي الجلوس فأقامه محمد، وعجز الرومي عن إقعاده، ثم اختار أن يكون محمد هو القاعد، فجذبه محمد فأقعده، وعجز الرومي عن إقامته، فانصرفا مغلوبين. وكانت راية أبيه يوم صفين (3) بيده، ويحكى أنه توقف أول يوم في حملها لكونه قتال المسلمين، ولم يكن قبل ذلك شهد مثاله (4) ، فقال له علي رضي الله عنه: هل عندك شك في جيش مقدمه أبوك فحملها. وقيل لمحمد: كيف كان   (1) س: مر من. (2) الثندوة: ما اسود حول الحلمة. (3) ر والمختار: يوم الجمل. (4) ر ن ت بر: مثله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 171 أبوك يقحمك المهالك ويولجك المضايق دون أخويك الحسن والحسين فقال: لأنهما كانا عينيه، وكنت يديه، فكان يقي عينيه بيديه. ومن كلامه: ليس بحكيم من لم يعاشر بالمعروف من لا يجد من معاشرته بدا حتى يجعل الله له فرجا. ولما دعا ابن الزبير إلى نفسه وبايعه أهل الحجاز بالخلافة دعا عبد الله بن العباس ومحمد بن الحنفية رضي الله عنهما إلى البيعة، فأبيا ذلك وقالا: لا نبايعك حتى تجتمع لك البلاد، ويتفق الناس، فأساء جوارهم وحصرهم وآذاهم، وقال لهم (1) : لئن لم (2) تبايعا أحرقتكما بالنار، والشرح في ذلك يطول. وكانت ولادته لسنتين بقيتا من خلافة عمر، وتوفي رحمه الله في أول المحرم سنة إحدى وثمانين للهجرة، وقيل سنة ثلاث وثمانين، وقيل سنة اثنتين أو ثلاث وسبعين بالمدينة، وصلى عليه أبان بن عثمان بن عفان، وكان والي المدينة يومئذ، ودفن بالبقيع، وقيل إنه خرج إلى الطائف هاربا من ابن الزبير فمات هناك، وقيل إنه مات ببلاد أيلة. والفرقة الكيسانية تعتقد إمامته وأنه مقيم بجبل رضوى، وإلى هذا أشار كثير عزة بقوله من جملة أبيات، وكان كيساني الاعتقاد (3) : وسبط لا يذوق الموت حتى ... يقود الخيل يقدمها اللواء تغيب لا يرى فيهم زمانا ... برضوى عنده عسل وماء وكان المختار بن أبي عبيد الثقفي يدعو الناس إلى إمامة محمد بن الحنفية، ويزعم أنه المهدي، وقال الجوهري في كتاب " الصحاح " (4) : كيسان لقب   (1) كذا في جميع النسخ ما عدا بر، بصيغة الجمع. (2) س لي ل: والله إن لم. (3) نسب البيتان لكثير في أكثر المصادر (عيون الأخبار 2: 144 والشعر والشعراء: 423 والأغاني 9: 14 ومروج الذهب 3: 87 وغيرهما) وقال أبو الفرج في الأغاني 7: 238 الأبيات للسيد الحميري وأضاف: وهذه الأبيات يعينها تروى لكثير. (4) الصحاح 2: 970 (كيس) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 172 المختار المذكور، وقال غيره: كيسان مولى علي رضي الله عنه. والكيسانية يزعمون أنه مقيم برضوى في شعب منه ولم يمت، دخل إليه ومعه أربعون من أصحابه، ولم يوقف لهم على خبر وهم أحياء يرزقون، ويقولون إنه مقيم في هذا الجبل بين أسد ونمر، وعنده عينان نضاختان تجريان عسلا وماء، وإنه يرجعه إلى الدنيا فيملؤها عدلا (1) . وكان محمد يخضب بالحناء والكتم وكان يختم في اليسار، وله أخبار مشهورة، رضي الله عنه، وانتقلت إمامته إلى ولده أبي هاشم عبد الله ومنه إلى محمد بن علي والد السفاح والمنصور، كما سيأتي في ترجمته إن شاء الله تعالى (2) . ورضوى: بفتح الراء وبعدها ضاد معجمة وبعد الواو ألف، قال ابن جرير الطبري في تاريخه الكبير في سنة أربع وأربعين ومائة: رضوى جبل جهينة، وهو في عمل ينبع، وقال غيره: بينهما مسيرة يوم واحد، وهو من المدينة على سبع مراحل ميامنة طريق المدينة ومياسرة طريق البر لمن كان مصعدا إلى مكة وهو على ليلتين من البحر، والله أعلم. ومن رضوى تحمل حجارة المسن إلى سائر الأمصار، قاله ابن حوقل في كتابه " المسالك والممالك " (3) . وذكر أبو اليقظان (4) في كتاب " النسب " أن ابن الحنفية له ابن اسمه الهيثم (5) وكان مؤخذا عن مسجد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لا يقدر أن يدخله، والأخيذ في اللغة: الأسير، والأخذه - بضم الهمرة - رقية كالسحر، فكانه كان مسحورا.   (1) وكان المختار ... عدلاً: سقط من ن س لي ت بر. (2) إلى هنا تنتهي الترجمة في ن س لي ت بر. (3) صورة الأرض: 40؛ وقد وقعت هذه العبارة " من رضوى ... والممالك " في آخر الترجمة في ر. (4) قيل إن اسمه عامر بن حفص ولقبه سحيم ولذلك يقال في الرواية عنه: حدثنا أبو اليقظان وإذا قيل سحيم بن حفص وعامر بن أبي محمد وعامر بن الأسود وسحيم بن الأسود وعبيد الله بن حفص وأبو إسحاق فكل ذلك يشير إليه (انظر الفهرست: 94) . (5) المختار: اسمه القاسم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 173 (1) 560 محمد الباقر أبو جعفر محمد بن زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين، الملقب الباقر، أحد الأئمة الاثني عشر في اعتقاد الإمامية، وهو والد جعفر الصادق - وقد تقدم ذكره (2) . كان الباقر عالما سيدا كبيرا، وإنما قيل له الباقر لأنه تبقر في العلم، أي توسع، والتبقر: التوسع، وفيه يقول الشاعر: يا باقر العلم لأهل التقى ... وخير من لبى على الأجبل ومولده يوم الثلاثاء ثالت صفر سنة سبع وخمسين للهجرة، وكان عمره يوم قتل جده الحسين، رضي الله عنه، ثلاث سنين، وأمه أم عبد الله بنت الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه. وتوفي في شهر ربيع الآخر سنة ثلاث عشرة ومائة، وقيل في الثالث والعشرين من صفر سنة أربع عشرة، وقيل سبع عشرة، وقيل ثمان عشرة بالحميمة. ونقل إلى المدينة ودفن بالبقيع في القبر الذي فيه أبوه وعم أبيه الحسن بن علي رضي الله عنهم، في القبة التي فيها قبر العباس رضي الله عنه. وقد تقدم الكلام على الحميمة في ترجمة علي بن عبد الله بن العباس.   (1) انظر الأئمة الإثنا عشر: 81 ومصادر ترجمته في الصفحة المقابلة. (2) انظر ج 1: 327. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 174 (1) 561 محمد الجواد أبو جعفر محمد بن علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر المذكور قبله، المعروف بالجواد، أحد الأئمة الاثني عشر أيضا. قدم إلى بغداد وافدا على المعتصر، ومعه امرأته أن الفضل ابنة المأمون، فتوفي بها، وحملت امرأته إلى قصر عمها المعتصم فجعلت مع الحرم. وكان يروي مسندا عن آبائه إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، فقال لي وهو يوصيني: يا علي، ما خاب من استخار ولا ندم من استشار، يا علي، عليك بالدلجة فإن الأرض تطوى بالليل ما لا تطى بالنهار، يا علي اغد بسم الله فإن الله بارك لأمتي في بكورها. وكان يقول: من استفاد أخا في الله فقد استفاد بيتا في الجنة. وقال جعفر بن محمد بن مزيد (2) : كنت ببغداد فقال لي محمد بن منده بن مهريزد: هل لك أن ادخلك على محمد بن علي الرضا فقلت: نعم، قال: فأدخلني عليه، فسلمنا وجلسنا، فقال له: حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أن فاطمة رضي الله عنها أحصنت فرجها فحرم الله ذريتها على النار، قال: ذلك خاص بالحسن والحسين رضي الله عنهما. وله حكايات وأخبار كثيرة. وكانت ولادته يوم الثلاثاء خامس شهر رمضان، وقيل منتصفه، سنة خمس وتسعين مائة. وتوفي يوم الثلاثاء لخمس خلون من ذي الحجة سنة عشرين مائتين، وقيل تسع عشرة ومائتين ببغداد، ودفن عند جده موسى بن جعفر، رضي الله عنهم أجمعين، في مقابر قريش، وصلى عليه الواثق بن المعتصم.   (1) ترجمته في الأئمة الأثنا عشر: 103 ومصادر ترجمته مثبتة على الصفحة المقابلة. (2) بر: مرثد؛ ن: يزيد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 175 (1) 562 أبو القاسم المنتظر أبو القاسم محمد بن الحسن العسكري بن علي الهادي بن محمد الجواد المذكور قبله، ثاني عشر الأئمة الاثني عشر على اعتقاد الامامية، المعروف بالحجة، وهو الذي تزعم الشيعة أنه المنتظر والقائم والمهدي، وهو صاحب السرداب عندهم، وأقاويلهم فيه كثيرة، وهم ينتظرون ظهوره في آخر الزمان من السرداب بسر من رأى. كانت ولادته يوم الجمعة منتصف شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين، ولما توفي أبوه - وقد سبق ذكره (2) - كان عمره خمس سنين، واسم أمه خمط، وقيل نرجس، والشيعة يقولون: إنه دخل السرداب في دار أبيه وأمه تنظر إليه، فلم يعد يخرج إليها، وذلك في سنة خمس وستين ومائتين، وعمره يومئذ تسع سنين. وذكر ابن الأزرق في " تاريخ ميافارقين " أن الحجة المذكور ولد تاسع شهر ربيع الأول سنة ثمان وخمسين ومائتين، وقيل في ثامن شعبان سنة ست وخمسين، وهو الأصح، وأنه لما دخل السرداب كان عمره أربع سنين، وقيل خمس سنين، وقيل إنه دخل السرداب سنة خمس وسبعين ومائتين وعمره سبع عشرة سنة، والله أعلم أي ذلك كان، رحمه الله تعالى.   (1) انظر الأئمة الأثنا عشر: 117 والصفحة المقابلة. (2) انظر ج 1: 94. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 176 (1) 563 الزهري أبو بكر محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب بن عبد الله بن الحارث بن زهرة الزهري أحد الفقهاء والمحدثين، والأعلام التابعين بالمدينة، رأى عشرة من الصحابة رضوان الله عليهم، وروى عنه جماعة من الأئمة: منهم مالك بن أنس وسفيان بن عيينة وسفيان الثوري. وروي عن عمرو بن دينار أنه قال: أي شيء عند الزهري أنا لقيت ابن عمر ولم يلقه، وأنا لقيت ابن عباس ولم يلقه، فقدم الزهري مكة فقال عمرو: احملوني إليه، وكان قد أقعد، فحمل إليه، فلم يأت إلى أصحابه إلا بعد ليل، فقالوا له: كيف رأيت فقال: والله ما رأيت مثل هذا الفتى القرشي قط. وقيل لمكحول: من أعلم من رأيت قال: ابن شهاب، قيل له: ثم من قال: ابن شهاب، قيل له: ثم من قال: ابن شهاب. وكان قد حفظ علم الفقهاء السبعة. وكتب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه إلى الآفاق: عليكم بابن شهاب، فإنكم لا تجدون احدا أعلم بالسنة الماضية منه. وحضر الزهري يوما مجلس هشام بن عبد الملك وعنده أبو والزناد عبد الله بن ذكوان فقال له هشام: أي شهر كان يخرج الطاء فيه لأهل المدينة فقال الزهري: لا أدري، فسأل أبا الزناد عنه فقال: في المحرم، فقال هشام للزهري: يا أبا بكر، هذا علم استفدته اليوم، فقال: مجلس أمير المؤمنين أهل أن يستفاد منه العلم. وكان إذا جلس في بيته وضع كتبه حوله، فيشتغل بها عن   (1) ترجمته في المعارف: 472 وحلية الأولياء 3: 360 وطبقات الشيرازي: 63 ومعجم المرزباني: 345 وصفة الصفوة 2: 77 وميزان الاعتدال 4: 40 وتهذيب التهذيب 9: 445 وغاية النهاية 2: 262 والشذرات 1: 162. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 177 كل شيء من أمور الدنيا، فقالت له امرأته يوما: والله لهذه الكتب أشد علي من ثلاث ضرائر. وكان أبو جده عبد الله بن شهاب شهد مع المشركين بدرا، وكان أحد النفر الذين تعاقدوا يوم أحد لئن رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقتلنه أو ليقتلن دونه، وروي أنه قيل للزهري: هل شهد جدك بدرا قال: نعم، ولكن من ذلك الجانب، يعني أنه كان في صف المشركين. وكان أبوه أسلم مع مصعب بن الزبير، ولم يزل الزهري مع عبد الملك ثم مع هشام بن عبد الملك، وكان يزيد بن عبد الملك قد استقضاه. وتوفي ليلة الثلاثاء لسبع عشرة ليلة خلت من شهر رمضان سنة أربع وعشرين ومائة، وقيل ثلاث وعشرين، وقيل خمس وعشرين ومائة (1) ، وهو ابن اثنتين - وقيل ثلاث - وسبعين سنة، وقيل مولده سنة إحدى وخمسين للهجرة، والله أعلم، ودفن في ضيعته أدامي بفتح الهمزة والدال المهملة وبعد الألف ميم مفتوحة وياء مفتوحة أيضا وقيل: أدمي، مثل الأول لكنها بغير ألف، وهي خلف شغب وبدا، وهما واديان وقيل قريتان بين الحجاز والشام في موضع هو آخر عمل الحجاز وأول عمل فلسطين. وذكر في كتاب التمهيد أنه مات في بيته بنعف، وهي قرية عند القرى المذكورة، وماتت بها أيضا أم حزرة زوجة جرير، فقال من أبيات: نعم القرين وكنت علق مضنة ... وارى بنعف بلية الأحجار وقبره على الطريق ليدعو له كل من يمر عليه، رضي الله عنه. والزهري: بضم الزاي وسكون الهاء وبعدها راء، هذه النسبة إلى زهرة ابن كلاب بن مرة، وهي قبيلة كبيرة من قريش، ومنها آمنة أم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخلق كثير من الصحابة وغيرهم، رضي الله عنهم (2) . وشغب: بفتح الشين المعجمة وسكون الغين المعجمة وبعدها ياء موحدة.   (1) س ن ت لي بر: وقيل خمس ومائة. (2) هنا تنتهي الترجمة في ت. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 178 وبدا: بفتح الباء الموحدة والدال المهملة وبعدها ألف، وفيهما يقول كثير عزة (1) : وأنت التي حببت شغبا إلى بدا ... إلي وأوطاني بلاد سواهما إذا ذرفت عيناي أعتل بالقذى ... وعزة لو يدري الطبيب قذاهما وحلت بهذا حلة ثم أصبحت ... بهذا، فطاب الواديان كلاهما وهذا الشعر يدل على أنهما واديان، لا قريتان والله أعلم. 564 - (2) محمد بن أبي ليلى محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى يسار - ويقال داود بن بلال بن أحيحة ابن الجلاح الانصاري الكوفي - وقد سبق ذكر أبيه في حرف العين (3) ، كان محمد المذكور من أصحاب الرأي، وتولى القضاء بالكوفة وأقام حاكما ثلاثا وثلاثين سنة، ولي لبني أمية ثم لبني العباس وكان فقيها مفننا، وقال: لا أعقل من شأن أبي شيئا غير أني أعرف أنه كانت له امرأتان، وكان له حبان أخضران، فينبذ (4) عند هذه يوما وعند هذه يوما. وتفقه محمد بالشعبي، وأخذ عنه سفيان الثوري، وقال الثوري: فقهاؤنا ابن أبي ليلى وابن شبرمة. وقال محمد المذكور:   (1) وردت الأبيات في ياقوت 3: 302 والمغانم المطابة: 205 وحماسة التبريزي 3: 141 وشواهد المغني: 158. (2) ترجمته في طبقات ابن سعد 6: 358 والمعارف: 494 وطبقات الشيرازي: 84 والفهرست: 202 والوافي 3: 221 وتذكرة الحفاظ: 171 وميزان الاعتدال 3: 613 وغاية النهاية 2: 165 وتهذيب التهذيب 9: 103 والشذرات 1: 224. (3) انظر ج 3: 126. (4) ل س ن: فيبيت. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 179 دخلت على عطاء فجعل يسألني، فأنكر بعض من عنده وكلمه في ذلك فقال: هو أعلم مني. وكانت بينه وبين أبي حنيفة رضي الله عنه وحشة يسيرة، وكان يجلس للحكم في مسجد الكوفة، فيحكى انه انصرف يوما من مجلسه، فسمع امرأة تقول لرجل: يا ابن الزانيين، فأمر بها فأخذت ورجع إلى مجلسه، وأمر بها فضربت حدين وهي قائمة. فبلغ ذلك أبا حنيفة فقال: أخطأ القاضي في هذه الواقعة في ستة أشياء: في رجوعه إلى مجلسه بعد قيامه منه، ولا ينبغي له أن يرجع بعد أن قام منه، وفي ضربه الحد في المسجد، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إقامة الحدود في المساجد، وفي ضربه المرأة قائمة، وإنما تضرب النساء قاعدات كاسيات (1) ، وفي ضربه إياها حدين، وإنما يجب على القاذف إذا قذف جماعة بكلمة واحدة حد واحد، ولو وجب أيضا حدان لا يوالي بينهما، بل يضرب أولا ثم يترك حتى يبرأ من ألم الأمل (2) ، وفي إقامة الحد عليها بغير طالب (3) . فبلغ ذلك محمد بن أبي ليلى، فسير إلى والي الكوفة وقال: ها هنا شاب يقال له أبو حنيفة يعارضني في أحكامي ويفتي بخلاف حكمي ويشنع (4) علي بالخطأ، فأريد أن تزجره عن ذلك، فبعث إليه الوالي ومنعه عن الفتيا، فيقال إنه كان يوما في بيته وعنده زوجته وابنه حماد وابنته، فقالت له ابنته: إني صائمة وقد خرج من بين أسناني دم وبصقته حتى عاد الريق أبيض لا يظهر عليه أثر الدم، فهل أفطر إذا بلعت الآن الريق فقال لها: سلي أخاك حمادا فإن الأمير منعني من الفتيا. وهذه الحكاية معدودة في مناقب أبي حنيفة وحسن تمسكه بامتثال إشارة رب الأمر، فإن إجابته طاعة، حتى إنه أطاعه في السر، ولم يرد على ابنته جوابا، وهذا غاية ما يكون من امتثال الأمر.   (1) س ن ل لي ت بر: قعوداً كاسين. (2) لي: من الألم الأول. (3) في هامش ن تعليق يستفاد منه أن المعترض على حكم ابن أبي ليلى هو امرأة مجنونة يقال لها أم عمران. (4) ت بر: ويشيع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 180 وكانت ولادة محمد المذكور سنة أربع وسبعين للهجرة، وتوفي سنة ثمان وأربعين ومائة بالكوفة، وهو باق على القضاء، فجعل أبو جعفر المنصور ابن أخيه مكانه، رضي الله عنه. 565 - (1) محمد بن سيرين أبو بكر محمد بن سيرين البصري، كان أبوه عبدا لأنس بن مالك، رضي الله عنه، كاتبه على أربعين ألف درهم، وقيل عشرين ألفا، وأدى المكاتبة. وكان من سبي ميسان، ويقال من سبي عين التمر. وكان أبوه سيرين من أهل جرجرايا، وكنيته أبو عمرة (2) ، وكان يعمل قدور النحاس، فجاء إلى عين التمر يعمل بها، فسباه خالد بن الوليد رضي الله عنه في أربعين غلاما مختتنين (3) ، فأنكرهم، فقالوا: إنا كنا أهل مملكة، ففرقهم في الناس. وكانت أمه صفية مولاة أبي بكر الصدين، رضي الله عنه، طيبها ثلاث من أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعون لها، وحضر إملاكها ثمانية عشر بدريا فيهم أبي ابن كعب يدعو وهم يؤمنون. وروى محمد المذكور عن أبي هريرة وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير وعمران بن حصين وأنس بن مالك، رضي الله عنهم، وروى عنه قتادة بن دعامة وخالد الحذاء وأيوب السختياني وغيرهم من الأئمة،   (1) ترجمته في طبقات ابن سعد 7: 193 وحلية الأولياء 2: 263 والمعارف: 442 وطبقات الشيرازي: 88 وتاريخ بغداد 5: 331 وصفة الصفوة 3: 164 والوافي 3: 146 وتهذيب التهذيب 9: 214 والشذرات 1: 138. (2) لي س ن بر: أبو عمرو. (3) كذا في ن؛ ل س: مخثين؛ لي بر: مخنثين؛ تاريخ بغداد: مختفين؛ المطبوعة المصرية: مجنبين؛ وسقطت اللفظة من المختار. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 181 وهو أحد الفقهاء من أهل البصرة، والمذكور بالورع في وقته. وقدم المدائن على عبيدة السلماني وقال: صليت معه، فلما قضى صلاته دعا بغداء، فأتي بخبز ولبن وسمن فأكل وأكلنا معه، ثم جلسنا حتى حضرت العصر، ثم قام عبيدة فأذن وأقام، ثم صلى بنا العصر ولم يتوضأ لا هو ولا احد ممن أكل معنا فيما بين الصلاتين. وكان محمد المذكور صاحب الحسن البصري ثم تهاجرا في آخر الأمر، فلما مات الحسن لم يشهد ابن سيرين جنازته. وكان الشعبي يقول: عليكم بذلك الرجل الأصم، يعني ابن سيرين، لأنه كان في أذنيه صمم. وكانت له اليد الطولى في تعبير الرؤيا. وكانت ولادته لسنتين بقيتا من خلافة عثمان، وتوفي تاسع شوال يوم الجمعة سنة عشر ومائة بالبصرة، بعد الحسن البصري بمائة يوم، رضي الله عنهما، وكان بزازا، وحبس بدين كان عليه، وولد له ثلاثون ولدا من امرأة واحدة عربية (1) ولم يبق منهم غير عبد الله، ولما مات كان عليه ثلاثون ألف درهم دينا فقضاه ولده عبد الله، فما مات عبد الله حتى قوم ماله بثلثمائة ألف درهم. وكان محمد المذكور كاتب أنس بن مالك بفارس. وكان الأصمعي يقول: الحسن البصري سيد سمح وإذا حدث الأصم بشيء - يعني ابن سيرين - فاشدد يديك، وقتادة حاطب ليل. قال ابن عوف: لما مات أنس بن مالك أوصى أن يصلي عليه ابن سيرين ويغسله، قال: وكان ابن سيرين محبوسا، فأتوا الأمير - وهو رجل من بني أسد - فأذن له، فخرج فغسله وكفنه وصلى عليه في قصر أنس بالطف، ثم رجع فدخل كما هو إلى السجن، ولم يذهب إلى أهله. قلت: وذكر عمر بن شبة في كتاب أخبار البصرة أن الذي غسل أنس بن مالك هو قطن بن مدرك الكلابي والي البصرة، وكذلك قال أبو اليقظان (2) .   (1) زاد في المطبوعة المصرية: وإحدى عشرة بنتاً؛ ولم ير ذلك في النسخ الخطية. (2) قال ابن عوف ... اليقظان: ورد في ر، وبشيء يسير من الإيجاز في المختار. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 182 وميسان: بفتح الميم وسكون الياء المثناة من تحتها وفتح السين المهملة وبعد الألف نون، وهي بليدة بأيفل أرض البصرة. وعين التمر: قد سبق الكلام عليها. (1) 566 ابن أبي ذئب أبو الحارث محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن الحارث بن أبي ذئب، واسمه هشام، بن شعبة بن عبد الله بن أبي قيس بن عبد ود بن نصر بن مالك بن حسل ابن عامر بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان (2) ، القرشي العامري المدني، أحد الأئمة المشاهير، وهو صاحب الإمام مالك رضي الله عنه وكانت بينهما ألف أكيدة ومودة صحيحة. ولما قدم مالك على أبي جعفر المنصور سأله: من بقي بالمدينة من المشيخة فقال: يا أمير المؤمنين، ابن أبي ذئب وابن أبي سلمة وابن أبي سبرة. وكان أبوه قد أتى قيصر فسعي به، فحبسه حتى مات في حبسه. وتوفي أبو الحارث المذكور في سنة تسع وخمسين، وقيل ثمان وخمسين ومائة بالكوفة، رضي الله عنه، ومولده في المحرم سنة إحدى وثمانين للهجرة، وقيل سنة ثمانين، وهي سنة سيل الجحاف. والحسل: ولد الضب، وجعه حسول. ولؤي: من همزه قال هو تصغير لأي، وهو الثور، ومن لم يهمزه قال هو تصغير لوى الرمل، والفهر: الحجر، والله أعلم.   (1) ترجمته في المعارف: 485 وطبقات الشيرازي: 76 والوافي 3: 223 وميزان الاعتدال 3: 620 وتذكرة الحفاظ: 191 وتهذيب التهذيب 9: 303 والشذرات 1: 245. (2) بن نصر ... عدنان: سقط من كل النسخ ما عدا ر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 183 (1) 567 محمد بن الحسن الحنفي أبو عبد الله محمد بن فرقد، الشيباني بالولاء الفقيه الحنفي، أصله من قرية على باب دمشق في وسط الغوطة اسمها حرستا، وقدم أبوه من الشام إلى العراق، وأقام بواسط فولد له بها محمد المذكور، ونشأ بالكوفة، وطلب الحديث، ولقي جماعة من أعلام الأئمة، وحضر مجلس أبي حنيفة سنتين، ثم تفقه على أبي يوسف صاحب أبي حنيفة. وصنف الكتب الكثيرة النادرة، منها الجامع الكبير والجمع الصغير وغيرهما. وله في مصنفاته المسائل المشكلة خصوصا المتعلقة بالعربية. ونشر علم أبي حنيفة، وكان من أفصح الناس، وكان إذا تكلم خيل لسامعه أن القرآن نزل بلغته. ولما دخل الإمام الشافعي رضي الله عنه بغداد كان بها، وجرى بينهما مجالس ومسائل بحضرة هارون الرشيد. وقال الشافعي: ما رأيت أحدا يسأل عن مسألة فيها نظر إلا تبينت الكراهة في وجهه، إلا محمد بن الحسن، وقال أيضا: حملت من علم محمد بن الحسن وقر بعير. وقال الربيع بن سليمان المرادي: كتب الشافعي إلى محمد بن الحسن وقد طلب منه كتبا له لينسخها، فتأخرت عنه: قل لمن (2) لم تر ع ... ين من رآه مثله ومن كأن من رآ ... هـ قد رأى من قبله العلم ينهى أهله ... أن يمنعوه أهله لعله يبذله ... لأهله لعله   (1) ترجمته في الفهرست: 203 وتاريخ بغداد 2: 172 وطبقات الشيرازي: 135 والمعارف: 500 والجواهر المضية 2: 42 ولسان الميزان 5: 121 والشذرات 1: 321. (2) كذا في أكثر المصادر؛ وفي هامش نسخة شهيد علي من طبقات الشيرازي: صوابه " قل للذي ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 184 فأنفذ إليه الكتب من وقته. ورأيت هذه الأبيات في ديوان منصور بن إسماعيل الفقيه المصري - الآتي ذكره إن شاء الله تعالى - وقد كتبها إلى أبي بكر بن قاسم. والذي ذكرناه أولا حكاه الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في طبقات الفقهاء (1) . وروي عن الشافعي أنه قال: ما رأيت سمينا ذكيا إلا محمد ابن الحسن. وكان الرشيد قد ولاه قضاء الرقة ثم عزله عنها، وقدم بغداد. وحكى محمد بن الحسن قال: أتوا (2) أبا حنيفة في امرأة ماتت وفي جوفها وله يتحرك، فأمرهم فشقوا جوفها واستخرجوا الولد (3) وكان غلاما، فعاش حتى طلب العلم وكان يتردد إلى مجلس محمد بن الحسن، وسمي ابن أبي حنيفة. ولم يزل محمد بن الحسن ملازما للرشيد حتى خرج إلى الري خرجته الأولى، فخرج معه، ومات برنبويه قرية من قرى الري في سنة تسع (4) وثمانين ومائة. ومولده سنة خمس وثلاثين، وقيل إحدى وثلاثين، وقيل اثنتين وثلاثين ومائة. وقال السمعاني: مات محمد بن الحسن والكسائي في يوم واحد بالري، رحمها الله تعالى، وقيل إن الرشيد كان يقول: دفنت الفقه والعربية بالري. ومحمد بن الحسن المذكور ابن خالة الفراء صاحب النحو واللغة. وقد تقدم الكلام على الشيباني. وحرستا: بفتح الحاء المهملة والراء وسكون السين المهملة وفتح التاء المثناة من فوقها وبعدها ألف مقصورة. ورنبويه (5) : بفتح الراء وسكون النون وفتح الباء الموحدة والواو وبعدها ياء مثناة من تحتها ساكنة وبعدها هاء ساكنة.   (1) انظر ص: 136 والأبيات في ترتيب المدارك 1: 394 والجواهر المضية. (2) ت ل لي س ن بر: أتي. (3) ن: وأخرجوه؛ لي: وأخرجوا الولد. (4) س ن بر: سبع. (5) هذا الضبط لم يرد إلا في ر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 185 (1) 568 محمد بن علي العباسي أبو عبد الله محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب الهاشمي، وهو والد السفاح والمنصور الخليفتين - وقد تقدم ذكر والده في حرف العين (2) -، قال ابن قتيبة (3) : كان محمد المذكور من أجمل الناس وأعظمهم قدرا، وكان بينه وبين أبيه في العمر أربع عشرة سنة، وكان علي يخضب بالسواد ومحمد يخضب بالحمرة، فيظن من لا يعرفهما أن محمدا هو علي. [قال يزيد بن أبي مسلم كاتب الحجاج بن يوسف الثقفي، سمعت الحجاج يقول: بينا نحن عند عبد الملك بن مروان بدومة الجندل في منتزه له ومعه قائف يحادثه ويسائله، إذ أقبل علي بن عبد الله بن العباس ومحمد ابنه، فلما رآه عبد الملك مقبلا حرك شفتيه وهمس بهما وانتقع لونه وقطع حديثه، قال الحجاج: فوثبت نحو علي لأرده، فأشار إلي عبد الملك أن كف عنه، وجاء علي فسلم فأقعده إلى جانبه، وجعل يمس ثوبه، وأشار إلى محمد أن اقعد، وكلمه وساءله، وكان علي حلو المحادثة، وحضر الطعام فأتي بالطست، فغسل يده وقال: أدن الطست من أبي محمد، فقال: أنا صائم، ثم وثب، فأتبعه عبد الملك بصره حتى كاد يخفي عن عينبه، ثم التفت إلى القائف فقال: أتعرف هذا فقال: لا، ولكن أعرف من أمره واحدة، قال: وما هي قال: إن كان الفتى الذي معه ابنه فإنه يخرج من عقبه فراعنه يملكون الأرض ولا يناويهم مناو إلا قتلوه، قال: فاربد لون عبد الملك، ثم قال: زعم راهب   (1) ترجمته في الوافي 4: 103 والشذرات 1: 166 وله ذكر في تاريخ الطبري (حوادث 100، 120، 126) وابن خلدون 3: 172، وقد وضعنا ما انفردت به ر بين معقفين. (2) انظر ج 3: 274. (3) المعارف: 124. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 186 إيليا - ورأى عندي - انه يخرج من صلبه ثلاثة عشر ملكا، وصفهم بصفاتهم] . وكان سبب انتقال الأمر إليه أن محمد بن الحنيفية - وقد سبق ذكره - كانت الشيعة تعتقد إمامته بعد أخيه الحسين، رضي الله عنه، فلما توفي محمد بن الحنيفية انتقل الأمر إلى ولده أبي هاشم - وقد سبق ذكره أيضا في ترجمة أبيه (1) - وكان عظيم القدر، وكانت الشيعة تتوالاه، فحضرته الوفاة بالشام في سنة ثمان وتسعين للهجرة ولا عقب له، فأوصى إلى محمد بن علي المذكور وقاله له: انت صاحب هذا الأمر، وهو في ولدك، ودفع إليه كتبه وصرف الشيعة نحوه. ولما حرض محمدا المذكور الوفاة بالشام أوصى إلى ولده إبراهيم المعروف بالإمام، فلما ظهر أبو مسلم الخراساني بخراسان دعا الناس إلى مبايعة إبراهيم بن محمد المذكور، فلذلك قيل له الإمام. وكان نصر بن سيار نائب مروان بن محمد آخر ملوك بني أمية يومئذ بخراسان، فكتب إلى مروان يعلمه بظهور أبي مسلم يدعو لبني العباس. فكتب مروان إلى نائبه بدمشق بأن يحضر إبراهيم من الحميمة موثقا، فأحضره وحمله إليه وحبسه مروان بن محمد آخر ملوك بني امية بمدينةة حران، فتحقق أن مروان يقتله، فأوصى (2) إلى أخيه السفاح، وهو أول من ولي الخلافة من اولاد العباس، هذه خلاصة الأمر، والشرح فيه تطويل (3) وبقي إبراهيم في الحبس شهرين، ومات وقيل قتل. وكانت ولادة محمد المذكور سنة ستين للهجرة، هكذا وجدته منقولا، وهو يخالف ما تقدم من أن بينه وبين أبيه في العمر أربع عشرة سنة، فقد تقدم في تاريخ أبيه أنه ولد في حياة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أو في ليلة قتل علي، على الاختلاف فيه، وكان قتل علي في رمضان سنة أربعين، فكيف يمكن أن يكون بينهما أربع عشرة سنة بل أقل ما يمكن أن يكون بينهما عشرون سنة. [وذكر ابن حمدون في كتاب التذكرة أن محمدا المذكور مولده في سنة اثنتين وستين للهجرة] ، وتوفي محمد المذكور في سنة ست وعشرين،   (1) المختار: كما سبق في ترجمته. (2) ل س ن ت لي: فلما حبسه مروان ... وتحقيق ... أوصى. (3) ل: يطول. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 187 وقيل اثنتين وعشرين ومائة، وفيها ولد المهدي بن أبي جعفر المنصور، وهو والد هارون الرشيد، وقيل سنة خمس وعشرين ومائة بالشراة، [وقال الطبري في تاريخه: توفي محمد بن علي مستهل ذي القعدة سنة ست وعشرين ومائة، وهو ابن ثلاث وستين سنة] رحمه الله تعالى. وقد تقدم الكلام على الشراة في ترجمة أبيه (1) علي بن عبد الله. وقال الطبري في تاريخه (2) : في سنة ثمان وتسعين للهجرة قدم أبو هاشم عبد الله ابن محمد بن الحنفية على سليمان بن عبد الملك بن مروان فأكرمه، وسار أبو هاشم يريد فلسطين، فأنقذ سليمان من قعد له على الطريق بلبن مسموم، فشرب منه أبو هاشم فأحس بالموت، فعدل إلى الحميمة واجتمع بمحمد بن علي بن عبد الله بن العباس وأعلمه ان الخلافة في ولده عبد الله بن الحارثية - قلت: وهو السفاح - وسلم إليه كتب الدعاة وأوقفه على ما يعمل بالحميمة، هكذا قال الطبري، ولم يذكر إبراهيم الإمام، وجميع المؤرخين اتفقوا على إبراهيم، إلا أنه ما تم له الأمر، والله أعلم. 569 - (3) البخاري أبو عبد الله محمد بن أبي الحسن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن الأحنف يزذبه [وقال ابن ماكولا: هو يزدزبه] الجعفي بالولاء، البخاري الحافظ   (1) إلى هنا تنتهي الترجمة في جميع النسخ ما عدا ر. (2) هذا النص نقل في المختار عند الحديث السابق عن أبي هاشم. (3) ترجمته في تاريخ بغداد 2: 4 - 36 وطبقات السبكي 2: 2 وطبقات الحنابلة 1: 271 والوافي 3: 232 وتذكرة الحفاظ: 555 وتهذيب التهذيب 9: 47 والشذرات 2: 134. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 188 الإمام في علم الحديث، صاحب الجامع الصحيح والتاريخ، رحل في طلب الحديث إلى أكثر محدثي الأمصار، وكتب بخراسان والجبال ومدن العراق والحجاز والشام ومصر، وقدم بغداد، واجتمع إليه أهلها واعترفوا بفضله وشهدوا بتفرده في علم الرواية والدراية، وحكى أبو عبد الله الحميدي في كتاب جذوة المقتبس والخطيب في تاريخ بغداد (1) أن البخاري لما قدم بغداد سمع به أصحاب الحديث، فاجتمعوا وعمدوا إلى مائة حديث فقبلوا متونها وأسانيدها وجعلوا متن هذا الإسناد إسناد آخر، ودفعوا إلى عشرة أنفس إلى كل رجل عشرة أحاديث، وأمروهم إذا حضروا المجلس يلقون ذلك على البخاري، وأخذوا الموعد للمجلس، فحضر المجلس جماعة من أصحاب الحديث من الغرباء من أهل خراسان وغيرها ومن البغداديين، فلما اطمأن المجلس بأهله انتدب إليه واحد من العشرة، فسأله عن حديث من تلك الأحاديث، فقال للبخاري: لا أعرفه، فسأله عن آخر فقال: لا أعرفه، فما زال يلقي عليه واحدا بعد واحد حتى فرغ من عشرته، والبخاري يقول: لا أعرفه، فكان الفقهاء (2) ممن حضر المجلس يلتفت بعضهم إلى بعض ويقولون: الرجل فهم، ومن كان منهم ضد ذلك يقضي على البخاري بالعجز والتقصير وقلة الفهم. ثم انتدب رجل آخر من العشرة فسأله عن حديث من تلك الأحاديث المقلوبة، فقال البخاري: لا أعرفه، فسأله عن آخر فقال: لا أعرفه، فلم يزل يلقي عليه واحدا بعد واحد حتى فرغ من عشرته، والبخاري يقول: لا أعرفه، ثم انتدب الثالث والرابع إلى تمام العشرة حتى فرغوا كلهم من الأحاديث المقلوبة، والبخاري لا يزيدهم على قوله: لا أعرفه، فلما علم البخاري أنهم فرغوا التفت إلى الأول منهم فقال: أما حديثك الأول فهو كذا، وحديثك الثاني فهو كذا، والثالث والرابع على الولاء، حتى أتى تمام العشرة، فرد كل متن إلى إسناده وكل إسناد إلى متنه، وفعل بالآخرين كذلك، ورد متون الأحاديث كلها إلى أسانيدها وأسانيدها إلى متونها، فأقر له الناس بالحفظ وأذعنوا له بالفضل.   (1) الجذوة: 128 وتاريخ بغداد 2: 20. (2) الجذوة: العلماء؛ المختار: الفهماء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 189 وكان ابن صاعد إذا ذكره يقول: الكبش النطاح، ونقل عنه محمد بن يوسف الفربري أنه قال: ما وضعت في كتابي الصحيح حديثا إلا اغتسلت قبل ذلك وصليت ركعتين. وعنه أنه قال: صنفت كتابي الصحيح لست عشرة سنة، خرجته من ستمائة ألف حديث، وجعلته حجة فيما بيني وبين الله عز وجل. وقال القربري: سمع صحيح البخاري تسعون ألف رجل، فما بقي أحد يروي عنه غيري. وروى عنه أبو عيسى الترمذي. وكانت ولادته يوم الجمعة بعد الصلاة، لثلاث عشرة، وقيل لاثنتي عشرة ليلة خلت منن شوال سنة أربع وتسعين ومائة، وقال أبو يعلى الخليلي في كتاب الإرشاد: إن ولادته كانت لاثنتي عشرة ليلة خلت من الشهر المذكور. وتوفي ليلة السبت بعد (1) صلاة العشاء، وكانت ليلة عيد الفطر، ودفن يوم الفطر بعد صلاة الظهر، سنة ست وخمسين ومائتين بخرتنك، رحمه الله تعالى. وذكر ابن يونس في تاريخ الغرباء أنه قدم مصر وتوفي بها، وهو غلط، والصواب ما ذكرناه ها هنا رحمه الله تعالى. وكان خالد بن أحمد بن خالد الذهلي (2) أمير خراسان قد اخرجه من بخارى إلى خرتنك، ثم حج خالد المذكور فوصل إلى بغداد فحبسه الموفق بن المتوكل أخو المعتمد الخليفة، فمات في حبسه. وكان شيخا نحيف الجسم، لا بالطويل ولا بالقصير. [وقد اختلف في اسم جده، فقيل إنه يزذبه - بفتح الياء المثناة من تحتها وسكون الزاي وكسر الذال المعجمة وبعدها باء موحدة ثم هاء ساكنة، وقال أبو نصر بن ماكولا في كتاب الإكمال (3) : هو يزدزبه - بدال وزاي وباء معجمة بواحدة - والله أعلم، وقال غيره: هذا الجد مجوسيا مات على دينه، وأول من أسلم منهم المغيرة، ووجدته في موضع آخر عوض يزذبه الأحنف ولعل يزذبه كان أحنف الرجل، والله أعلم] .   (1) المختار: عند. (2) انظر قصة هذا الأمير مع البخاري في تاريخ بغداد 2: 33. (3) الأكمال 1: 259 وفيه: بردزبه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 190 والبخاري: بضم الباء الموحدة وفتح الخاء المعجمة وبعد الأللف راء، هذه النسبة إلى بخارا، وهي من أعظم مدن ما وراء النهر، بينها وبين سمرقند مسافة ثمانية أيام. وخزنتك: بفتح الخاء المعجمة وسكون الراء وفتح التاء المثناة من فوقها وسكون النون وبعدها كاف، وهي قرية من قرى سمرقند. وقد سبق الكلام على الجعفي (1) ، ونسبة البخاري إلى سعيد بن جعفر والي خراسان، وكان له عليهم الولاء فنسبوا إليه. (2) 570 ابن جرير الطبري أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد بن خالد، الطبري، وقيل يزيد بن كثير ابن غالب، صاحب التفسير الكبير والتاريخ الشهير، كان إماما في فنون كثيرة منها التفسير والحديث والفقه والتاريخ وغير ذلك، وله مصنفات مليحة في فنون عديدة تدل على سعة علمه وغزارة فضله، وكان من الأئمة المجتهدين، لم يقلد أحدا، وكان أبو الفرج المعافى بن زكريا النهرواني المعروف بابن طرارا على مذهبه - وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى -. وكان ثقة في نقله، وتاريخه أصح التواريخ وأثبتها، وذكره الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في طبقات الفقهاء (3) في جملة المجتهدين، ورأيت في بعض   (1) انظر ج 1: 123. (2) ترجمته في تاريخ بغداد 2: 162 ومعجم الأدباء 18: 40 وتذكرة الحفاظ: 710 وميزان الاعتدال 3: 498 وطبقات السبكي 2: 135 ولسان الميزان 5: 100 وغاية النهاية 2: 106 والشذرات 2: 260. (3) طبقات الفقهاء: 93. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 191 المجاميع هذه الأبيات منسوبة إليه، وهي: إذا اعسرت لم يعلم شقيقي ... وأستغني فيستغني صديقي حيائي حافظ لي ماء وجهي ... ورفقي في مطالبتي رفيقي ولو أني سمحت ببذل وجهي ... لكنت إلى الغنى سهل الطريق وكانت ولادته سنة أربع وعشرين ومائتين، بآمل طبرستان، وتوفي يوم السبت آخر النهار، ودفن يوم الأحد في داره، في السادس والعشرين من شوال سنة عشر وثلثمائة ببغداد، رحمه الله (1) تعالى. ورايت بمصر في القرافة الصغرى عند سفح المقطم قبرا يزار، وعند رأسه حجر عليه مكتوب هذا قبر ابن جرير الطبري والناس يقولون: هذا صاحب التاريخ، وليس بصحيح، بل الصحيح أنه ببغداد، وكذلك قال ابن يونس في تاريخ مصر المختص بالغرباء: إنه توفي ببغداد. وأبو بكر الخوارزمي الشاعر المشهور ابن أخته - وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى، وقد سبق الكلام على الطبري.   (1) كتب بهامش ن التعليق التالي: هو الإمام البارع في أنواع العلوم أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، له كتاب التاريخ المشهور وكتاب التفسير لم يصنف أحد مثله، وله في أصول الفقه وفروعه كتب كثيرة، سمعت علي بن عبد الله السمسار يحكي أن محمد بن جرير مكث أربعين سنة يكتب في كل يوم أربعين ورقة. توفي في وقت المغرب ليلة اثنين ليومين بقيا من شوال سنة عشر وثلثمائة وكان مولده في آخر سنة أربع أو أول سنة خمس وعشرين ومائتين؛ واجتمع عليه من لا يحصيهم عدداً إلا الله تعالى، وصلي على قبره عدة شهور ليلاً ونهاراً، وزاره خلق كثير من أهل الدرس والأدب ورثاه ابن الأعرابي وابن دريد وغيرهما؛ والطبري نسبته إلى طبرستان، وأما الطبراني فإن نسبته إلى طبرية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 192 (1) 571 محمد بن عبد الحكم أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن عبد الحكم بن أعين [ابن ليث بن رافع] (2) المصري الفقيه الشافعي، سمع من ابن وهب وأشهب من أصحاب الإمام مالك، فلما قدم الإمام الشافعي، رضي الله عنه، مصر صحبه وتفقه به، وحمل في المحنة إلى بغداد إلى القاضي أحمد بن أبي دواد الإيادي - المقدم ذكره (3) - فلم يجب إلى ما طلب منه فرد إلى مصر، وانتهت إليه الرياسة بمصر. وكانت ولادته سنة اثنتين وثمانين ومائة. وتوفي يوم الأربعاء لليلة خلت من ذي القعدة، وقيل منتصفه، سنة ثمان وستين ومائتين، وقبره فيما يذكر مع قبر أبيه وأخيه عبد الرحمن - وقد سبق ذكر ذلك (4) - وهما إلى جانب الإمام الشافعي، وقال ابن قانع: توفي سنة تسع وستين بمصر، رحمه الله تعالى. روى عنه أبو عبد الرحمن النسائي في سننة. وقال المزني: كنا نأتي الشافعي نسمع منه، فنجلس على باب داره، ويأتي محمد بن عبد الله بن عبد الحكم فيصعد إليه (5) ويطيل المكث، وربما تغدى معه ثم نزل (6) ، فيقرأ علينا الشافعي، فإذا فرغ من قراءته قرب إلى محمد دابته فركبها، وأتبعه الشافعي   (1) ترجمته في طبقات الشيرازي: 99 والوافي 3: 338 والانتقاء: 113 وميزان الاعتدال 3: 611 والديباج المذهب: 230 وطبقات السبكي 1: 223 وحسن المحاضرة 1: 124 والشذرات 2: 154 وطبقات الحسيبي: 7 وطبقات العبادي: 20 وعبر الذهبي 2: 83. (2) زيادة من ر. (3) انظر ج 1: 81. (4) ج 3: 35 (الترجمة رقم: 323) . (5) المختار: فيصعد به. (6) ل س: ينزل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 193 بصره، فإذا غاب شخصه قال: وددت لو أن لي ولدا مثله وعلي ألف دينار لا أجد لها قضاء. وحكي عن محمد المذكور أنه قال: كنت اتردد إلى الشافعي، فاجتمع قوم من أصحابنا إلى أبي، وكان على مذهب الإمام مالك - وقد سبق ذكره في العبادلة (1) - فقالوا: يا أبا محمد، إن محمدا ينقطع إلى هذا الرجل ويتردد إليه فيرى الناس أن هذا رغبة عن مذهب أصحابه، فجعل أبي يلاطفهم ويقول: هو حدث ويحب النظر في اختلاف أقاويل الناس ومعرفة ذلك، ويقول لي في السر: يا بني، الزم هذا الرجل، فإنك لو جاوزت هذا البلد فتكلمت في مسألة فقلت فيها: قال أشهب، لقيل لك: من أشهب قال: فلزمت الشافعي، وما زال كلام والدي في قلبي حتى خرجت إلى العراق فكلمني القاضي بحضرة جلسائه في مسألة فقلت فيها: قال أشهب عن مالك فقال: ومن أشهب وأقبل على جلسائه فقال لبعضهم كالمنكر: ما أعرف أشهب ولا أبلق. وأخباره كثيرة (2) . وذكره القضاعي في كتاب خطط مصر قال: ومحمد هذا هو الذي أحضره أحمد بن طولون في الليل إلى حيث سقايته بالمعافر لما توقف الناس عن شرب مائها والوضوء به، فشرب منه وتوضأ، فأعجب ذلك ابن طولون، وصرفه لوقته ووجه إليه بصلة، والناس يقولون: إنه المزني، وليس بصحيح، والله أعلم.   (1) ج 3: 34. (2) إلى هنا تنتهي الترجمة في س ل لي ت بر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 194 (1) 572 الترمذي أبو جعفر محمد بن أحمد بن نصر، الترمذي الفقيه الشافعي، لم يكن للفقهاء الشافعية في وقته أرأس منه ولا أورع ولا أكثر تقلا، وكان يسكن بغداد، وحدث بها عن يحيى بن بكير المصري ويوسف بن عدي وكثير بن يحيى وغيرهم. وروى عنه أحمد بن كامل القاضي وعبد الباقي بن قانع وغيرهما. وكان ثقة من أهل العلم والفضل والزهد في الدنيا. قال أبو الطيب أحمد بن عثمان السمسار والد أبي حفص عمر بن شاهين: حضرت عند أبي جعفر الترمذي فسأله سائل عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى ينزل إلى سماء الدنيا فالنزول كيف يبقى فوقه علو فقال أبو جعفر: النزول معقول والكيف مجهول، والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة. وكان من التقلل في المطعم على حالة عظيمة فقرا وورعا وصبرا على الفقر، أخبر محمد بن موسى بن حماد أنه أخبره أنه تقوت في سبعة عشر يوما خمس حبات، أو قال ثلاث (2) حبات، قال: قلت: كيف عملت فقال: لم يكن عندي غيرها فاشتريت بها لفتا، فكنت آكل كل يوم واحدة. وذكر أبو إسحاق الزجاج النحوي أنه كان يجرى عليه في كل شهر أربعة دراهم، وكان لا يسأل أحدا شيئا. وكان يقول: تفقهت على مذهب أبي حنيفة، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في مسجد المدينة عام حججت فقلت: يا رسول الله، قد تفقهت بقول أبي حنيفة، أفآخذ به قال: لا، فقلت: آخذ بقول مالك بن أنس فقال:   (1) ترجمته في طبقات الشيرازي: 105 وتاريخ بغداد 1: 365 والوافي 2: 70 وطبقات السبكي 1: 288 وعبر الذهبي 2: 103 والشذرات 2: 220 وطبقات الحسيبي: 10 وطبقات العبادي: 56. (2) ر والمختار: بخمس ... بثلاث. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 195 خذ منه ما وافق سنتي، قلت: فآخذ بقول الشافعي فقال: ما هو بقوله، إلا أنه أخذ بسنتي ورد على من خالفها، قال: فخرجت في أثر هذه الرؤيا إلى مصر، وكتبت كتب الشافعي. وقال الدارقطني: هو ثقة مأمون ناسك، وكان يقول: كتبت الحديث تسعا وعشرين سنة. وكانت ولادته في ذي الحجة سنة مائتين، وقيل سنة عشر ومائتين. وتوفي لإحدى عشرة ليلة خلت من المحرم سنة خمس وتسعين ومائتين، ولم يغير سيبه، وكان قد اختلط في آخر عمره اختلاطا عظيما، رحمه الله تعالى. وقال السمعاني في نسبة الترمذي (1) : هذه النسبة إلى مدينة قديمة على طرف نهر بلخ الذي يقال له جيحون، والناس مختلفون في كيفية هذه النسبة: بعضهم يقول بفتح التاء ثالث الحروف، وبعضهم يقول بضمها، وبعضهم يقول بكسرها، والمتداول على لسان أهل تلك المدينة بفتح التاء وكسر الميم، والذي كنا نعرفه قديما كسر التاء والميم جميعا، والذي يقوله المتنوقون (2) وأهل المعرفة (3) بضم التاء والميم، وكل واحد يقول معنى لما يدعيه، هذا كله كلام السمعاني، والله أعلم بالصواب. وسألت من رآها: هل هي في ناحية خوارزم أم في ناحية ما وراء النهر فقال: بل هي في حساب ما وراء النهر في ذلك الجانب.   (1) الأنساب 3: 41. (2) الأنساب: المتوقون؛ ر: المتقنون. (3) ر: وأهل العلم والمعرفة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 196 (1) 573 ابن الحداد المصري أبو بكر محمد بن أحمد بن محمد بن جعفر الكناني، المعروف بابن الحداد، الفقيه الشافعي المصري، صاحب كتاب الفروع في المذهب وهو كتاب صغير الحجم كثير الفائدة، دقق في مسائله غاية التدقيق، واعتنى بشرحه جماعة من الأئمة الكبار: شرحه القفال المروزي شرحا متوسطا ليس بالكبير، وشرحه القاضي أبو الطيب الطبري في مجلد كبير، وشرحه الشيخ أبو علي السنجي شرحا تاما مستوفى أطال فيه، وهو أحسن الشروح. وكان ابن الحداد المذكور قد أخذ الفقه عن أبي إسحاق المروزي، وقال صاحبنا عماد الدين بن باطيش في كتابه الذي وضعه على المهذب وفي طبقات الفقهاء: إنه من اعيان أصحاب إبراهيم المزني، وقد وهم فيه، فإن ابن الحداد ولد في السنة التي توفي فيها المزني. وقال القضاعي في كتاب خطط مصر إنه ولد في اليوم الذي مات فيه المزني رحمه الله تعالى، فكيف يمكن أن يكون من أصحابه وإنما نبهت على ذلك لئلا يظن ظان أن هذا غلط، وذلك الصواب، ونسب إليه أيضا الأبيات الذالية التي ذكرتها في ترجمة ظافر الحداد الإسكندري، وقد سبق الكلام عليها في ترجمة ظافر (2) . وكان ابن الحداد فقيها محققا (3) غواصا على المعاني، تولى القضاء بمصر والتدريس وكانت الملوك والرعايا تكرمه وتعظمه (4) وتقصده في الفتاوى والحوادث، وكان   (1) ترجمته في طبقات الشيرازي: 114 وطبقات السبكي 2: 112 والوافي 2: 69 والنجوم الزاهرة 3: 302 وحسن المحاضرة 1: 126 وطبقات الحسيبي: 21 والشذرات 2: 317 وعبر الذهبي 2: 264 وطبقات العبادي: 65. (2) ج 2: 540. (3) ت: متحثققاً. (4) ن: تعظمه وتكرمه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 197 يقال في زمنه: عجائب الدنيا ثلاث: غضب الجلاد، ونظافة السماد، والرد على ابن الحداد. وكانت ولادته لست بقين من شهر رمضان، سنة أربع وستين ومائتين، وتوفي سنة خمس وأربعين وثلثمائة، وقال السمعاني: سنة أربع وأربعين، والله أعلم بالصواب. وحدث عن أبي عبد الرحمن النسائي وغيره رحمهم الله أجمعين، وذكر القضاعي في كتاب خطط مصر ان ابن الحداد المذكور توفي عند منصرفه من الحج، سنة أربع وأربعين وثلثمائة بمنية (1) حرب على باب مدينة مصر، وقيل في موضع القاهرة. وكان متصرفا في علوم كثيرة من علوم القرآن الكريم والفقه والحديث والشعر وأيام العرب والنحو واللغة وغير ذلك، ولم يكن في زمانه مثله، وكان محببا إلى الخاص والعام، وحضر جنازته الأمير أبو القاسم أنوجور ابن الإخشيد وكافور وجماعة من اهل البلد، وله تسع وسبعون سنة وأربعة أشهر ويومان (2) ، رحمه الله تعالى (3) . والحداد: بفتح الحاء المهملة وتشديد الدال ثم دال بعد ألف، وكان أحد أجداده يعمل الحديد ويبيعه فنسب إليه.   (1) المختار: بمنشية حرب. (2) ر: يوم وفاته. (3) وذكر القضاعي ... تعالى: ورد في ن ر، وبإيجاز يسير في المختار. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 198 (1) 574 أبو بكر الصيرفي أبو بكر محمد بن عبد الله، المعروف بالصيرفي، الفقيه الشافعي البغدادي، كان من جملة الفقهاء، أخذ الفقه عن أبي العباس بن سريج، واشتهر بالحذق في النظر والقياس وعلوم الأصول، وله في أصول الفقه كتاب لم يسبق إلى مثله. حكى أبو بكر القفال في كتابه الذي صنفه في الأصول أن أبا بكر الصيرفي كان أعلم الناس بالأصول بعد الشافعي، وهو أول من انتدب من أصحابنا للشروع في علم الشروط، وصنف فيه كتابا أحسن فيه كل الإحسان. وتوفي يوم الخميس لثمان بقين من شهر ربيع الآخر سنة ثلاثين وثلثمائة، رحمه الله تعالى. والصيرفي: بفتح الصاد المهملة وسكون الياء المثناة من تحتها وفتح الراء وبعدها فاء، هذه النسبة مشهورة لمن (2) يصرف الدنانير والدراهم، وإنما قصدت بذكرها ضبطها وتقييدها، فقد رأيت كثيرا من الناس ينطقون بكسر الصاد والراء.   (1) ترجمته في الفهرست: 213 وتاريخ بغداد 5: 449 وطبقات الشيرازي: 111 والوافي 3: 346 وطبقات العبادي: 96 وعبر الذهبي 2: 221 والشذرات 2: 325 وحسن المحاضرة 1: 125 وطبقات الحسيبي: 18؛ وقد تأخرت هذه الترجمة في ر عن الترجمة التالية. (2) ر: هي مشهورة لمن؛ ن: إلى من. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 199 (1) 575 القفال الشاشي أبو بكر محمد بن علي بن إسماعيل، القفال الشاشي الفقيه الشافعي، إمام عصره بلا مدافعة، كان فقيها محدثا أصوليا لغويا شاعرا، لم يكن بما وراء النهر للشافعيين مثله في وقته، رحل إلى خراسان والعراق والحجاز والشام والثغور، وسار ذكره في البلاد، وأخذ الفقه عن ابن سريج، وله مصنفات كثيرة، وهو أول من صنف الجدل الحسن من الفقهاء، وله كتاب في أصول الفقه، وله شرح الرسالة، وعنه انتشر مذهب (2) الشافعي في بلاده، وروى عن محمد بن جرير الطبري وأقرانه، وروى عنه الحاكم أبو عبد الله وأبو عبد الله ابن منده وأبو عبد الرحمن السلمي وجماعة كثيرة. وهو والد القاسم صاحب كتاب التقريب الذي ينقل عنه في النهاية والوسيط والبسيط. وقد ذكره الغزالي في الباب الثاني من كتاب الرهن، لكنه قال: أبو القاسم، وهو غط، وصوابه: القاسم. وقال العجلي في شرح مشكلات الوجيز والوسيط في الباب الثالث من كتاب التيمم: إن صاحب التقريب هو أبو بكر القفال، وقيل إنه ابنه القاسم، ثم قال: فلهذا يقال: صاحب التقريب على الإبهام. قلت: ورأيت في شوال سنة خمس وستين وستمائة، في خزانة الكتب بالمدرسة العادلية بدمشق المحروسة كتاب التقريب في ست مجلدات، وهي من حساب عشر مجلدات، وكتب عليه بأنه تصنيف أبي الحسن القاسم ابن أبي بكر القفال الشاشي، وقد كانت النسخة المذكورة للشيخ قطب الدين مسعود   (1) ترجمته في الفهرست: 215 وطبقات الشيرازي: 112 والوافي 4: 112 واللباب: (الشاشي) وطبقات السبكي 2: 176 والشذرات 3: 51 وطبقات الحسيبي: 27 وطبقات العبادي: 92 وعبر الذهبي 2: 338. (2) الشيرازي: فقه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 200 النيسابوري - الآتي ذكره إن شاء الله تعالى - وعليها خطه بأنه وقفها (1) ، وهذا التقريب غير التقريب الذي لسليم الرازي، فإني رأيت خلقا كثيرا من الفقهاء يعتقدونه هو، فلهذا نبهت عليه، والتقريب الذي لابن القفال قليل الوجود، والذي لسليم موجود بأيدي الناس، وهذا التقريب هو الذي تخرج به فقهاء خراسان. وقد وقع الاختلاف في وفاة القفال المذكور، فقال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في طبقات الفقهاء (2) : توفي في سنة ست وثلاثين وثلثمائة، وقال الحاكم أبو عبد الله المعروف بابن البيع النيسابوري: إنه توفي بالشاش، في ذي الحجة سنة خمس وستين وثلثمائة، وقال: كتبت عنه وكتب عني، ووافقه على هذا ابن السمعاني في كتاب الأنساب وزاد فقال: وكانت ولادته في سنة إحدى وتسعين ومائتين، وقال أعني ابن السمعاني في كتاب الذيل: إنه توفي سنة ست وستين وثلثمائة، رحمه الله تعالى، وكذا قاله في كتاب الأنساب أيضا في ترجمة الشاشي، والقول الأول قاله (3) في ترجمة القفال، والله أعلم بالصواب. والشاشي: نسبة إلى الشاش - بشينين معجمتين بينهما ألف - وهي مدينة وراء نهر سيحون، خرج منها جماعة من العلماء، وهذا القفال غير القفال المروزي - وقد سبق ذكر ذلك في العبادلة (4) - وهو متاخر عن هذا.   (1) قلت ... وقفها: انفردت به ر. (2) انظر ص: 112. (3) ن: قاله أيضاً. (4) انظر ج 3: 46. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 201 (1) 576 أبو الحسن الماسرجسي أبو الحسن محمد بن علي بن سهل بن مصلح، الماسرجسي الفقيه الشافعي، أحد أئمة الشافعيين بخراسان، وأعرفهم بالمذهب وترتيبه وفروع المسائل، تفقه بخراسان والعراق والحجاز، وصحب أبا إسحاق المروزي وتفقه عليه وخرج معه إلى مصر ولزمه إلى أن مات ثم رجع إلى بغداد، وكان يخلف علي بن أبي هريرة في مجالسه بعد قيامه عنها، ثم انصرف إلى خراسان سنة أربع وأربعين وثلثمائة، ودرس بنيسابور وعنه أخذ فقهاؤها، وعليه تفقه القاضي أبو الطيب الطبري. وسمع من خاله المؤمل بن الحسن بن عيسى الماسرجسي، وسمع بمصر من أصحاب المزني ويونس بن عبد الأعلى الصدفي. وقال الحاكم أبو عبد الله ابن البيع: عقدت له مجلس الإملاء في دار السنة في رجب سنة إحدى وثمانين وثلثمائة، وتوفي عشية الأربعاء، ودفن في عشية الخميس سادس جمادى الآخرة سنة أربع وثمانين وثلثمائة، وعمره ست وسبعون سنة. وقال الشيخ أبو إسحاق في الطبقات (2) : سنة ثلاث وثمانين، رحمه الله تعالى. والماسرجسي: بفتح الميم وبعد الألف سين مفتوحة مهملة وراء ساكنة ثم جيم مكسورة بعدها سين ثانية، هذه النسبة إلى ماسرجس، وهو اسم لجد أبي علي الحسن بن عيسى بن ماسرجس النيسابوري، كان نصرانيا فأسلم على يد عبد الله بن المبارك، وأبو الحسن الفقيه المذكور ابن بنت أبي علي المذكور، فنسب إليه، ونسبة الكل إلى ماسرجس المذكور.   (1) ترجمته في الوافي 4: 115 واللباب (الماسرجسي) والشذرات 3: 110 وحسن المحاضرة 1: 126 وطبقات الحسيبي: 32 وطبقات العبادي: 100 وعبر الذهبي 3: 26. (2) طبقات الشيرازي: 116. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 202 (1) 577 أبو عبد الله الختن أبو عبد الله محمد بن الحسن بن إبراهيم الأستراباذي، وقيل الجرجاني، المعروف بالختن، الفقيه الشافعي، كان فقيها فاضلا ورعا مشهورا في عصره، وله وجوه حسنة في المذهب، وكان مقدما في الأدب ومعانيالقرآن والقراءات، ومن العلماء المبرزين في النظر والجدل. سمع أبا نعيم عبد الملك بن محمد بن عدي وأقرانه ببلده، وورد نيسابور سنة سبع وثلاثين وثلثمائة فأقام بها إلى آخر سنة تسع، ثم دخل أصبهان فسمع مسند أبي داود من عبد الله بن جعفر، ودخل العراق وكتب بعد الأربعين وأكثر، وكان كثير السماع والرحلة، وشرح كتاب التلخيص لأبي العباس ابن القاص، وتوفي بجرجان يوم عيد الأضحى سنة ست وثمانين وثلثمائة، وهو ابن خمس وسبعين سنة، رحمه الله تعالى. وقد تقدم الكلام على الأستراباذي والجرجاني، والختن: بفتح الخاء المعجمة والتاء المثناة من فوقها وبعدها نون، وإنما قيل له ذلك لأنه كان ختن الفقيه أبي بكر الإسماعيلي.   (1) ترجمته في طبقات الشيرازي: 121 والوافي 2: 338 وطبقات السبكي 2: 143 والشذرات 3: 120 وطبقات الحسيبي: 33 وطبقات العبادي: 111 وعبر الذهبي 3: 33. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 203 578 - (1) أبو سهل الصعلوكي أبو سهل محمد بن سليمان بن محمد بن سليمان بن هارون بن موسى بن عيسى بن إبراهيم بن بشر الحنفي العجلي المعروف بالصعلوكي، الأصبهاني أصلا ومولدا النيسابوري دارا، الفقيه الشافعي المفسر المتكلم الأديب النحوي الشاعر العروضي الكاتب، ذكره الحاكم أبو عبد الله في تاريخه فقال: حبر زمانه، وفقيه أصحابه وأقرانه، صحب أبا إسحاق المرزوي وتفقه عليه وتبحر في العلوم، ثم خرج إلى العراق ودخل البصرة ودرس بها سنين، إلى أن استدعي إلى أصبهان فاقام بها سنين، فلما نعي إليه عمه أبو الطيب خرج مستخفيا فورد نيسابور سنة سبع وثلاثين وثلثمائة، وجلس لمأتم عمه ثلاثة أيام، وكان الشيخ أبو بكر ابن إسحاق يحضر كل يوم فيقعد معه، وكذلك كل رئيس وقاض ومفت من الفريقين، فلما فرغ من العزاء عقدوا له مجلس النظر، ولم يبق موافق ولا مخالف إلا أقربفضله وتقدمه، وحضره المشايخ مرة بعد أخرى يسألونه أن ينقل من خلفهم وراءه بأصبهان، فأجاب إلى ذلك، ودرس وأفتى، وعنه أخذ فقهاء نيسابور. وكان الصاحب ابن عباد يقول: أبو سهل الصعلوكي لا نرى مثله ولا يرى مثل نفسه. وسئل أبو الوليد عن أبي بكر القفال والصعلوكي فقال: ومن يقدر يكون مثل الصعلوكي وكانت ولادته سنة ست وتسعين ومائتين، وسمع الحديث سنة خمس وثلثمائة، وحضر مجلس أبي علي الثقفي للتفقه (2) سنة ثلاث عشرة. وتوفي في آخر سنة تسع وستين وثلثمائة بنيسابور، وحملت جنازته إلى ميدان الحسين، فقدم السلطان   (1) ترجمته في طبقات الشيرازي: 115 والوافي 3: 124 واليتيمة 4: 419 وطبقات السبكي 2: 161 والشذرات 3: 69 وطبقات الحسيبي: 29 وطبقات العبادي: 99 وعبر الذهبي 2: 352. (2) ن: المتفقه؛ ت بر: الفقيه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 204 ولده أبا الطيب للصلاة عليه فصلى، ودفن في المسجد الذي كان يدرس فيه، رحمه الله تعالى، وقد تقدم ذكر ابنه (1) في حرف السين والكلام على الصعلوكي. 579 - (2) أبو الطيب ابن سلمة أبو الطيب محمد بن المفضل بن سلمة بن عاصم الضبي البغدادي الفقيه الشافعي، كان (3) من كبار الفقهاء ومتقدميهم، أخذ الفقه عن أبي العباس ابن شريج، وكان موصوفا بفرط الذكاء، ولهذا كان أبو العباس يقبل عليه كل الإقبال ويميل إلى تعليمه غاية الميل، وصنف كتبا عديدة، وتوفي في المحرم سنة ثمان ثلثمائة، وهو غض الشباب، رحمه الله تعالى، وله في المذهب وجوه حسنة. وسلمة: بفتح السين المهملة واللام والميم. (165) وأبوه أبو طالب المفضل بن سلمة بن عاصم الضبي (4) اللغوي صاحب التصانيف المشهورة في فنون الأدب ومعاني القرآن، وكان كوفي المذهب مليح الخط، لقي ابن الأعرابي وغيره من العلماء، واستدرك على الخليل في كتاب العين وخطأه، وعمل في ذلك كتابا، وله من التصانيف كتاب البارع في علم اللغة وكتاب الفاخر وكتاب العود والملاهي وكتاب جلاد الشبه وكتاب الطيف وكتاب " ضياء القلوب في معاني القرآن " نيف   (1) ل س ن: أبيه؛ وانظر ج! 2: 435. (2) ترجمته في الفهرست: 214 وطبقات الشيرازي: 109 وتاريخ بغداد 3: 83 والشذرات 2: 253 وطبقات العبادي: 72 وعبر الذهبي 2: 137. (3) كان: سقطت من ن ل لي والمختار. (4) ترجمته في انباه الرواة 3: 305 وفي الحاشية مصادر أخرى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 205 وعشرون جزءا، وكتاب " الاشتقاق " وكتاب " الزرع والنبات " وكتاب " خلق الإنسان " وكتاب ما يحتاج إليه الكاتب وكتاب المقصور والممدود وكتاب " المدخل إلى علم النحو " (1) وروى عنه أبو بكر الصولي وزعم أنه سمع عنه في سنة تسعين ومائتين. (166) وجده سلمة بن عاصم (2) صاحب الفراء وروايته، وهم أهل بيت كلهم علماء نبلاء مشاهير، رحمهم الله تعالى. وكان المفضل المذكور متصلا بالوزير إسماعيل بن بلبل فقيل له (3) : إن ابن الرومي الشاعر - المقدم ذكره (4) - قد هجاه، فشق ذلك على الوزير (5) ، وحرم ابن الرومي عطاياه، فعمل ابن الرومي في المفضل أبياتا وهي (6) : لو تلففت في كساء الكسائي ... وتفريت فروة الفراء وتخللت بالخليل وأضحى ... سيبويه لديك رهن سباء وتكونت من سواد أبي الأسود ... شخصا يكنى أبا السوداء لأبى الله أن يعدك أهل العلم ... إلا من جملة الأغبياء   (1) وكان كوفي.. النحو: سقط من س ل لي بر والمختار. (2) ترجمته في انباه الرواة 2: 56 والمصادر الأخرى في الحاشية؛ ولسلمة كتاب " معاني القرآن " قال فيه ابن الأنباري: كتاب سلمة أجود الكتب. (3) ر ن: فنقل إليه. (4) ج 3: 358. (5) ر: فشق عليه ذلك أي على الوزير. (6) ديوان ابن الرومي 1: 87. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 206 580 - (1) أبو بكر النيسابوري أبو بكر محمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري، كان فقيها عالما مطلعا، ذكره الشيخ أبو إسحاق في " طبقات الفقهاء " (2) وقال: صنف في اختلاف العلماء كتبا لم يصنف أحد مثلها، واحتاج إلى كتبه الموافق والمخالف، ولا أعلم عمن أخذ الفقيه، وتوفي بمكة سنة تسع أو عشر وثلثمائة (3) ، رحمه الله تعالى، ومن كتبه المشهورة في اختلاف العلماء " كتاب الاشراف " وهو كتاب كبير يدل على كثرة وقوفه على مذاهب الأئمة، وهم من أحسن الكتب وأنفعها وأمتعها، وله كتاب " المبسوط " أكبر من " الاشراف "، وهو في اختلاف العلماء ونقل مذاهبهم أيضا، وله كتاب " الإجماع " وهو صغير.   (1) ترجمته في الفهرست: 215 والوافي 1: 336 وتذكرة الحفاظ: 782 وطبقات السبكي 2: 126 ولسان الميزان 5: 570 وطبقات العبادي: 67. (2) طبقات الشيرازي: 108. (3) هذا هو تاريخ وفاته كما ذكره الشيرازي، وقال السبكي، قال شيخنا الذهبي: وهذا ليس بشيء لأن محمد بن يحيى بن عمار لقيه سنة ست عشرة وثلاثمائة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 207 581 - (1) أبو زيد المروزي أبو زيد محمد بن أحمد بن عبد الله بن محمد، المرزوي الفاشاني الفقيه الشافعي، كان من الأئمة الأجلاء، حسن النظر مشهورا بالزهد حافظا للمذهب، وله فيه وجوه غريبة. أخذ الفقه عن أبي إسحاق المرزوي، وأخذ عنه أبو بكر القفال المرزوي، ودخل بغداد وحدث بها، وسمع منه الحافظ أبو الحسن الدارقطني ومحمد بن أحمد بن القاسم المحاملي، ثم خرج إلى مكة فجاور بها سبع سنين، وحدث هناك بصحيح البخاري عن محمد بن يوسف الفربري، قال الخطيب: وأبو زيد أجل من روى هذا الكتاب. وقال أبو بكر البزار (2) : عادلت الفقيه أبا زيد من نيسابور إلى مكة فما أعلم أن الملائكة كتبت عليه، يعني خطيئة. وقال أحمد (3) بن محمد الحاتمي الفقيه: سمعت أبا زيد المروزي يقول: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام وأنا بمكة، وكأنه يقول لجبريل عليه السلام: يا روح الله اصحبه إلى وطنه (4) . وكان في أول أمره فقيرا لا يقدر على شيء فكان يعبر الشتاء بلا جبة مع شدة البرد في تلك البلاد، فإذا قيل له في ذلك يقول: بي علة تمنعني من لبس المحشو، يعني به الفقر. وكان لا يشتهي أن يطلع أحدا على باطن حاله، ثم أقبلت عليه الدنيا في آخر عمره وقد أسن وتساقطت أسنانه فكان لا يتمكن   (1) ترجمته في تاريخ بغداد 1: 314 وطبقات الشيرازي: 115 والبصائر 1: 406 والمنتظم 7: 112 والوافي 2: 71 وطبقات السبكي 2: 108 والشذرات 3: 76 وطبقات الحسيبي: 30 وطبقات العبادي: 93 وعبر الذهبي 2: 360. (2) المختار: الخباز؛ لي: البزاز، وانظر تبصير المنتبه 1: 148. (3) ر ن: أبو الحسن أحمد. (4) وقال أحمد ... وطنه: سقط من س لي ل ت بر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 208 من المضغ وبطلت منه حاسة الجماع فكان يقول (1) مخاطبا للنعمة: لا بارك الله فيك! أقبلت حين لا ناب ولا نصاب. وقد أذكرتني هذه الحكاية أبياتا لبعض الفضلاء وقد أثرى وصارت له نعمة وهو في عشر الثمانين، وهي: ما كنت أرجوه إذ كنت ابن عشرينا ... ملكته بعد أن جاوزت سبعينا تطيف بي من بني الأتراك أغزلة ... مثل الغصون على كثبان يبرينا وخرد من بنات الروم رائعة ... يحكين بالحسن حور الجنة العينا يغمزنني بأساريع منعمة ... تكاد تنقض من أطرافها لينا يردن إحياء ميت لا حراك به ... فكيف يحيين ميتا صار مدفونا قالوا أنينك طول الليل يقلقنا ... فما الذي تشتكي قلت الثمانينا وتوفي يوم الخميس ثالث عشر رجب سنة إحدى وسبعين (2) وثلثمائة بمرو، رحمه الله تعالى، وقد تقدم الكلام على نسبة المرزوي والفاشاني فلا حاجة إلى الإعادة. 582 - (3) أبو بكر الأودني أبو بكر محمد بن عبد الله بن محمد بن نصر بن ورقاء الأودني الفقيه الشافعي، إمام أصحاب الشافعي في عصره، ذكره الحاكم أبو عبد الله بن البيع النيسابوري في " تاريخ نيسابور " وقال: حج ثم انصرف وأقام بنيسابور عندنا مدة وكان   (1) ل لي ت س: فيقول. (2) ن: وتسعين. (3) ترجمته في الأنساب 1: 383 والوافي 3: 316 والشذرات 3: 18 وطبقات الحسيبي: 32، وطبقات العبادي: 92 وعبر الذهبي 3: 31. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 209 من أزهد الفقهاء وأبكاهم على تقصيره. وتوفي في شهر ربيع الأول سنة خمس وثمانين وثلثمائة ببخارا، ودفن بكلاباذ رحمه الله تعالى. والأودني: بضم الهمزة وسكون الواو وفتح الدال المهملة وبعدها نون، هذه النسبة إلى أودنة، وهي قرية من قرى بخارا، هكذا قاله السمعاني، والفقهاء يحرفونه فيقولون الأودي وسمعت بعض مشايخنا في زمن الاشتغال بالعلم يقول: هو " الأودني " (1) بفتح الهمزة والله أعلم. [ثم وجدت في كتاب أبي بكر الحازمي الذي سماه ما اتفق لفظه وافترق مسماه ما يدل على أنه بفتح الهمزة، فإنه جعله مع أردن ونظائره مما أوله بفتح الهمزة، ثم قال: وأما أودن - بعد الهمزة واو ساكنة ثم دال مهملة وآخره نون - فقرية من قرى بخارا، وعادته في هذا الكتاب أنه إذا ذكر مكانا على مثل هذه الصورة ثم ذكر بعده مثله تركه على حاله، وإن اختلف في الحركة ذكر وجه المخالفة، ولم يذكر ها هنا ضمة الهمزة، فدل على أنه مثل الأول] (2) . وله وجوه في المذهب، وذكره صاحب " الوسيط " (3) في مواضع عديدة. وكلاباذ: بفتح الكاف وبعد اللام ألف باء موحدة مفتوحة وبعد الألف ذال معجمة، وهي محلة ببخارا. (167) وإليها ينسب الحافظ المتقن أبو نصر أحمد بن محمد بن الحسن بن الحسين ابن علي بن رستم الكلاباذي أحد أئمة الحديث وكان ثقة، وتوفي لسبع بقين من جمادى الآخرة سنة ثمان وتسعين وثلثمائة، ومولده سنة ستين وأربعمائة (4) رحمه الله تعالى. قلت: هكذا ذكره الحافظ أبو سعيد ابن السمعاني في تاريخ وفاة الكلاباذي ومولده وهو غلط، فإنه أخر تاريخ المولد عن تاريخ الوفاة، وكشفته   (1) ر: الأودي. (2) انفردت به ر. (3) س: البسيط. (4) في اللباب: وكانت ولادته سنه ستين، دون ذكر للفظة " وأربعمائة " وقال الذهبي (تذكرة الحفاظ: 1027) مات في جمادى الآخرة سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة عن خمس وسبعين سنة (ولعل سبعين مصحفة عن تسعين) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 210 من جهات عديدة فلم أجد من ذكره، فتركته على حاله، والظاهر أن الأمر بالعكس، والله أعلم. 583 - (1) أبو بكر الفارسي أبو بكر محمد بن أحمد بن علي بن شاهويه الفارسي الفقيه الشافعي، ذكره الحاكم أبو عبد الله في " تاريخ نيسابور " وقال: أقام بنيسابور زمانا، ثم خرج إلى بخارا ثم انصرف إلى نيسابور، ورجع إلى بلاد فارس فولي القضاء بها، ثم رجع إلى نيسابور وحدث بها. وتوفي في سنة اثنتين وستين وثلثمائة بنيسابور، رحمه الله تعالى. وله في المذهب وجوه بعيدة تفرد بها، ولم نرها منقولة عن غيره، ولم أعلم عمن أخذ الفقه (2) . وشاهويه: بالشين المعجمة وبعد الألف هاء مفتوحة ثم واو مفتوحة ثم ياء مثناة من تحتها ساكنة، وهو اسم عجمي مركب، فالشاه الملك، وأما ويه فقد قال الجوهري في كتاب " الصحاح ": سيبويه ونحوه من الأسماء اسم بني مع صوت فجعلا اسما واحدا. وأما فارس فإنها كورة عظيمة قصبتها شيراز، وشهرتها تغني عن ضبطها.   (1) ترجمته في طبقات الشيرازي: 144 والوافي 2: 44 وطبقات الشبكي 2: 112 (موضع ترجمة سقطت) والجواهر المضية 2: 18. (2) آخ الترجمة في النسخ ما عدا ر، واقتصر في المختار بعد هذا على تحديد " فارس ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 211 584 - (1) القضاعي أبو عبد الله محمد بن سلامة بن جعفر بن علي بن حكمون بن إبراهيم بن محمد بن مسلم القضاعي الفقيه الشافعي، صاحب كتاب " الشهاب "، ذكره الحافظ ابن عساكر في " تاريخ دمشق " وقال: روى عنه أبو عبد الله الحميدي، وتولى القضاء بمصر نيابة (2) من جهة المصريين، وتوجه منهم رسولا إلى جهة الروم، وله عدة تصانيف: منها كتاب الشهاب وكتاب " مناقب الإمام الشافعي رضي الله عنه وأخباره " وكتاب " الإنباء عن (3) الأنبياء " و " تواريخ الخلفاء " وله كتاب " خطط مصر ". وذكره الأمير أبو نصر ابن ماكولا في كتاب " الإكمال " وقال: كان مفننا في عدة علوم. وتوفي بمصر ليلة الخميس السادس عشر (4) من ذي القعدة سنة أربع وخمسين وأربعمائة، وصلي عليه يوم الجمعة بعد العصر في مصلى النجار. وقد تقدم ذكره في ترجمة الظاهر بن الحاكم العبيدي (5) صاحب مصر، وأنه كان يعلم عن وزيره الأقطع الجرجرائي. وذكر السمعاني في كتاب " الذيل " في ترجمة الخطيب أبي بكر أحمد بن علي ابن ثابت الحافظ صاحب " تاريخ بغداد " أنه حج سنة خمس وأربعين وأربعمائة   (1) ترجمته في طبقات السبكي 3: 62 والوافي 3: 116 والشذرات 3: 293 وحسن المحاضرة 1: 169 والرسالة المستطرفة: 76. (2) نيابة: سقطت من س ت. (3) ن: على. (4) ل لي س ير: السابع عشر. (5) انظر ج 3: 407. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 212 وحج تلك السنة أبو عبد الله القضاعي المذكور، وسمع الخطيب منه، رحمه الله تعالى. والقضاعي: بضم القاف وفتح الضاد المعجمة وبعد الألف عين مهملة، هذه النسبة إلى قضاعة، ويقال: هم ابن معد بن عدنان، ويقال: هو من حمير، وهو الأكثر والأًح، واسمه عمرو بن مالك، وينسب إليه قبائل كثيرة، منها كلب وبلي وجهينة وعذرة وغيرهم (1) . (168) والنجار صاحب المصلى هو: عمران بن موسى النجار مولى غافق، وقيل إن النجار المذكور هو أبو الطيب محمد بن جعفر البغدادي النجار، ويعرف بغندر، وتوفي سنة ثمان وخمسين وثلثمائة قبل دخول القائد جوهر مصر، رحمه الله تعالى. 585 - (2) المسعودي الفقيه أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن مسعود بن أحمد (3) ، المسعودي الفقيه الشافعي، إمام فاضل مبرز ورع من أهل مرو، تفقه على أبي بكر القفال المرزوي وشرح مختصر المزني وأحسن فيه، وروى قليلا من الحديث عن أستاذه القفال، وحكى عنه الغزالي في كتاب الوسيط في الأيمان في الباب الثالث فيما يقع به الحنث مسألة لطيفة فقال: فرع - لو حلف لا يأكل بيضا، ثم انتهى إلى رجل فقال: والله لآكلن ما في كمك، فإذا هو بيض، فقد سئل القفال عن   (1) هنا تنتهي الترجمة في ت. (2) ترجمته في طبقات السبكي 3: 72 وطبقات الحسيبي: 46 (باسم: محمد بن عبد الملك) ؛ واقتصر في المختار على ذكر المسألة الفقهية الواردة في الترجمة. (3) اختلفت النسخ في اسمه ففي ل: أبو عبد الله ابن مسعود بن أحمد؛ لي بر: محمد بن مسعود بن أحمد؛ ن: محمد بن أحمد المسعودي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 213 هذه المسألة وهو على الكرسي فلم يحضره الجواب، فقال المسعودي تلميذه: يتخذ منه الناطف ويأكله، فيكون قد أكل ما في كمه ولم يأكل البيض، فاستحسن ذلك منه، وهذه الحيلة من لطائف الحيل. وتوفي المسعودي المذكور سنة نيف وعشرين وأربعمائة بمرو، رحمه الله تعالى، ونسبته إلى جده مسعود. 586 - (1) أبو عاصم العبادي القاضي أبو عاصم محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن عباد، العبادي الهروي الفقيه الشافعي، تفقه بهراة على القاضي أبي منصور الأزدي، وبنيسابور على القاضي أبي عمر البسطامي، وصار إماما متقنا دقيق النظر. تنقل في البلاد ولقي خلقا كثيرا من المشايخ وأخذ عنهم، وصنف كتبا نافعة: منها أدب القضاء والمبسوط والهادي إلى مذهب العلماء وكتاب الرد على السمعاني (2) وله كتاب لطيف في طبقات الفقهاء (3) ، وعنه أخذ أبو سعد الهروي صاحب كتاب الأشراف في أدب القضاء وغوامض الحكومات وسمع الحديث ورواه. وتوفي في شوال سنة ثمان وخمسين وأربعمائة، وكانت ولادته في سنة خمس وسبعين وثلثمائة، رحمه الله تعالى. والعبادي: بفتح العين المهملة وتشديد الباء الموحدة وبعد الألف دال مهملة، هذه النسبة إلى جده عباد المذكور. وقد تقدم الكلام على الهروي.   (1) ترجمته في الوافي 2: 82 والشذرات 3: 306 وطبقات الحسيبي: 56 ولم ترد هذه الترجمة في المختار. (2) وكتاب الرد على السمعاني: سقط من ر. (3) هو الذي نشير إليه باسم طبقات العبادي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 214 587 - (1) الخضري أبو عبد الله محمد بن أحمد الخضري المروزي الفقيه الشافعي، إمام مرو ومقدم الفقهاء الشافعية، صحب أبا بكر الفارسي، وكان من أعيان تلامذة أبو بكر القفال الشاشي (2) ، وأقام بمرو ناشرا فقه الشافعي، وكان يضرب به المثل في قوة الحفظ وقلة النسيان، وله في المذهب وجوه غريبة نقلها الخراسانيون عنه، وروى عن الشافعي رضي الله عنه أنه صحح دلالة الصبي على القبلة، قال الخضري: معناه أن يدل على قبلة تشاهد في الجامع، فأما في موضع الاجتهاد فلا يقبل. وذكر أبو الفتوح العجلي في أول كتاب النكاح من كتاب شرح مشكلات الوجيز والوسيط أن الشيخ أبا عبد الله الخضري سئل عن قلامة ظفر المرأة: هل يجوز للرجل الأجنبي النظر إليها، فأطرق الشيخ طويلا ساكتا، وكانت ابنة الشيخ أبي علي الشبوي تحته، فقالت له: لم تتفكر وقد سمعت أبي يقول في جواب هذه المسألة: إن كانت من قلامة أظفار اليدين جاز النظر إليها وإن كانت من أظفار الرجلين لم يجز، وإنما كان ذلك لأن يدها ليست بعورة، بخلاف ظهر القدم، ففرح الخضري (3) وقال: لو لم أستفد من اتصالي بأهل العلم إلا هذه المسألة لكانت كافية، انتهى كلام العجلي. قلت أنا: هذا التفصيل بين اليدين والرجلين فيه نظر، فإن أصحابنا قالوا: اليدان ليستا بعورة في الصلاة، أما بالنسبة إلى نظر الأجنبي فما نعرف بينهما فرقاً، فلينظر.   (1) ترجمته في طبقات السبكي 2: 125 والوافي 2: 72 والشذرات 3: 82 (وفيات 373 وقال: أو في التي قبلها) . وطبقات الحسيبي: 36 وطبقات العبادي: 96. (2) ت ل س لي ن بر: المروزي. (3) ر: الشيخ الخضري. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 215 وكانت له معرفة بالحديث أيضا وكان ثقة. وتوفي في عشر الثمانين والثلثمائة، رحمه الله تعالى. والخضري: بكسر الخاء المعجمة وسكون الضاد المعجمة وبعدها راء، هذه النسبة إلى بعض لأجداده، واسمه الخضر، هذا عند من يكسر الخاء ويسكن الضاد من الخضر، وهي إحدى اللغتين، فأما من يقول الخضر - بفتح الخاء وكسر الضاد - فقياسه أن يقال الخضري - بفتح الضاد - كما قالوا في النسبة إلى نمرة نمري، وهو باب مطرد لا يخرج عنه شيء. والشبوي: بفتح الشين المعجمة وتشديد الباء الموحدة وضمها وسكون الواو، هذه النشبة إلى شبويه، وهو اسم بعض أجداد الشيخ أبي علي المذكور وكان فقيها فاضلا من أهل مرو (1) ، رحمه الله تعالى. 588 - (2) الغزالي أبو حامد محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الغزالي، الملقب حجة الإسلام زين الدين الطوسي الفقيه الشافعي، لم يكن للطائفة الشافعية في آخر عصره مثله،   (1) ر: العلم. (2) ترجمته في طبقات السبكي 4: 101 وتبيين كذب المفتري: 291 - 306 واللباب (الغزالي) والمنتظم 9: 168 و Histories (المنتخب الثاني: 20) وطبقات الحسيبي: 69. وقد جمع الأستاذ عبد الكريم العثمان بعض ما جاء في كتب المتقدمين عنه في كتاب سماه " شيرة الغزالي " (دار الفكر - دمشق) ، وفي كتاب المنقذ من الضلال جانب من سيرته، والدراسات المعاصرة عنه كثيرة، انظر مثلاً: الحقيقة في نظر الغزالي للدكتور سليمان دنيا (دار المعارف - مصر) والغزالي لكارادوفو، ترجمة عادل زعيتر (القاهرة 1959) وكتاب مهرجان الغزالي في دمشق 1061 ومؤلفات الغزالي لعبد الرحمن بدوي القاهرة 1961) ، ومراجع أخرى تكاد تعز على الحصر في مختلف اللغات. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 216 اشتغل في مبدأ أمره بطوس على أحمد الراذكاني (1) ، ثم قدم نيسابور واختلف إلى دروس إمام الحرمين أبي المعالي الجويني، وجد في الاشتغال حتى تخرج في مدة قريبة، وصار من الأعيان المشار إليهم في زمن أستاذه، وصنف في ذلك الوقت، وكان أستاذه يتبجح به، ولم يزل ملازما له إلى أن توفي (2) في التاريخ المذكور في ترجمته، فخرج من نيسابور إلى العسكر، ولقي الوزير نظام الملك فأكرمه وعظمه وبالغ في الإقبال عليه، وكان بحضرة الوزير جماعة من الأفاضل، فجرى بينهم الجدال والمناظرة في عدة مجالس، فظهر عليهم واشتهر اسمه وسارت بذكره الركبان. ثم فوض إليه الوزير تدريس مدرسته النظامية بمدينة بغداد، فجاءها وباشر إلقاء الدروس بها، وذلك في جمادى الأولى سنة أربع وثمانين وأربعمائة، وأعجب به أهل العراق وارتفعت عندهم منزلته، ثم ترك جميع ما كان عليه في ذي القعدة سنة ثمان وثمانين وأربعمائة، وسلك طريق الزهد والانقطاع وقصد الحج [وناب عنه أخوه أحمد في التدريس] (3) فلما رجع توجه إلى الشام فأقام بمدينة دمشق مدة يذكر الدروس في زاوية الجامع في الجانب الغربي منه، وانتقل منها إلى البيت المقدس، واجتهد في العبادة وزيارة المشاهد والمواضع المعظمة، ثم قصد مصر وأقام بالإسكندرية مدة، ويقال إنه قصد منها الركوب في البحر إلى بلاد المغرب على عزم الاجتماع بالأمير يوسف بن تاشفين صاحب مراكش، - وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى - فبينا هو كذلك بلغه نعي يوسف بن تاشفين المذكور، فصرف عزمه عن تلك الناحية. ثم عاد إلى وطنه بطوس واشتغل بنفسه وصنف الكتب المفيدة في عدة فنون منها ما هو أشهرها كتاب " الوسيط " و " البسيط " و " الوجيز " و " الخلاصة " في الفقه، ومنها " إحياء علوم الدين " وهو من أنفس الكتب وأجملها (4) ، وله في أصول الفقه " المستصفى " فرغ من تصنيفه في سادس المحرم   (1) نسبة إلى الراذكان وهي بليدة بنواحي طوس؛ وفي المختار: الزادكاني. (2) ن: حتى توفي. (3) زيادة من ن بر. (4) ر ن: وأجلها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 217 سنة ثلاث وخمسمائة (1) ، وله المنحول والمنتحل في علم الجدل وله تهافت الفلاسفة ومحك النظر ومعيار العلم والمقاصد والمضنون به على غير أهله والمقصد الأقصى (2) في شرح أسماء الله الحسنى ومشكاة الأنوار والمنقذ من الضلال وحقيقة القولين وكتبه كثيرة وكلها نافعة. ثم ألزم بالعود إلى نيسابور والتدريس بها بالمدرسة النظامية، فأجاب إلى ذلك بعد تكرار المعاودات، ثم ترك ذلك وعاد إلى بيته في وطنه، واتخذ خانقاه للصوفية ومدرسة للمشتغلين بالعلم في جواره، ووزع أوقاته على وظائف الخير: من ختم القرآن ومجالسة أهل القلوب والقعود للتدريس، إلى أن انتقل إلى ربه. ويروى له شعر، فمن ذلك ما نسبه إليه الحافظ أبو سعد السمعاني في الذيل وهو قوله: حلت عقارب صدغه في خده ... قمرا فجل بها عن التشبيه ولقد عهدناه يحل ببرجها ... فمن العجائب كيف حلت فيه ورأيت هذين البيتين في موضع آخر لغيره والله أعلم. ونسب إليه العماد الأصبهاني في " الخريدة " (3) هذين البيتين، وهما: هبني صبوت كما ترون بزعمكم ... وحظيت منه بلثم خد أزهر إني اعتزلت فلا تلوموا إنه ... أضحى يقابلني بوجه أشعر (ي) ونسب إليه البيتين اللذين قبلهما. وكانت ولادته سنة خمسين وأربعمائة، وقيل سنة إحدى وخمسين بالطابران (4) ، وتوفي يوم الاثنين رابع عشر جمادى الآخرة سنة خمس وخمسمائة بالطابران (5) ،   (1) فرغ ... وخمسمائة: سقط من النسخ جميعاً. (2) ن: الأسنى. (3) ل ن بر: في كتاب الخريدة. (4) بالطابران زيادة من ر والمختار. (5) ل ن لي س ت بر: بطوس. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 218 ورثاه الأديب أبو المظفر محمد الأبيوردي الشاعر المشهور - وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى - بأبيات فائية من جملتها: مضى وأعظم مفقود فجعت به ... من لا نظير له في الناس يخلفه وتمثل الإمام إسماعيل الحاكمي بعد وفاته بقول أبي تمام من جملة قصيدة مشهورة: عجبت لصبري بعده وهو ميت ... وكنت امرءا أبكي دما وهو غائب على أنها الأيام قد صرن كلها ... عجائب حتى ليس فيها عجائب ودفن بظاهر الطابران، وهي قصبة طوس، رحمه الله تعالى. وقد تقدم الكلام على الطوسي والغزالي في ترجمة أخيه أحمد الزاهد الواعظ المذكور في حرف الهمزة (1) ، والطابران، بفتح الطاء المهملة والباء الموحدة وراء مهملة وبعد الألف الثانية نون، وهي إحدى بلدتي طوس، كما تقدم ترجمة أحمد أيضا. 589 - (2) المستظهري أبو بكر محمد بن أحمد بن الحسين بن عمر الشاشي الأصل الفارقي المولد، المعروف بالمستظهري، الملقب فخر الإسلام الفقيه الشافعي، كان فقيه وقته، تفقه أولا بميافارقين على أبي عبد الله محمد بن بيان (3) الكازروني، وعلى القاضي   (1) انظر ج 1: 98. (2) ترجمته في الوافي 2: 83 والمنتظم 9: 179 وطبقات السبكي 4: 57 وعبر الذهبي 4: 13 والشذرات 4: 16 وطبقات الحسيبي: 72. (3) ن ر: ابن بنان؛ وسقط من س. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 219 أبي منصور الطوسي صاحب أبي محمد الجويني إلى أن عزل عن قضاء ميافارقين، ثم رحل أبو بكر إلى بغداد، ولازم الشيخ أبا إسحاق الشيرازي، رحمه الله تعالى، ثم رحل أبو بكر إلى بغداد، وقرأ عليه وأعاد عنده، وقرأ كتاب الشامل في الفقه على مصنفه أبي نصر ابن الصباغ، رحمه الله تعالى، ودخل نيسابور صحبة الشيخ أبي إسحاق، وتكلم في مسألة بين يدي إمام الحرمين فأحسن فيها، وعاد إلى بغداد. وذكره الحافظ عبد الغافر الفارسي في سياق تاريخ نيسابور وتعين في الفقه بالعراق بعد أستاذه أبي إسحاق، وانتهت إليه رياسة الطائفة الشافعية. وصنف تصانيف حسنة، من ذلك كتاب حلية العلماء في المذهب، وذكر فيه مذهب الشافعي، ثم ضم إلى كل مسألة اختلاف الأئمة فيها، وجمع من ذلك شيئا كثيرا وسماه المستظهري لأنه صنفه للإمام المستظهر بالله، وصنف أيضا في الخلاف. وتولى التدريس بالمدرسة النظامية بمدينة بغداد، سنة (1) أربع وخمسمائة إلى حين وفاته، وكان قد وليها قبله الشيخ أبو إسحاق الشيرازي وأبو نصر ابن الصباغ صاحب الشامل وأبو سعد المتولي صاحب تتمة الإبانة وأبو حامد الغزالي - وقد سبق ذكر ذلك في ترجمة كل واحد منهم - فلما انقرضوا تولاها هو. وحكى لي بعض المشايخ من علماء المذهب أنه يوم ذكر الدرس، وضع منديله على عينيه وبكى كثيرا، وهو جالس على السدة التي جرت عادة المدرسين بالجلوس عليها وكان ينشد (2) : خلت الديار فسدت غير مسود ... ومن العناء (3) تفردي بالسؤدد وجعل يردد هذا البيت ويبكي، وهذا إنصاف منه واعتراف لمن تقدمه بالفضل والرجحان عليه، وهذا البيت من جملة أبيات في الحماسة (4) .   (1) ر: في شعبان سنة. (2) ر والمختار: وأنشد. (3) ر والمختار: البلاء؛ ن: الشقاء. (4) شرح المرزوقي: 807 والأبيات لرجل من خثعم، وورد البيت عند ياقوت (البقيع) منسوباً لعمرو بن النعمان البياضي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 220 ومدحه تلميذه أبو المجد حمدان بن كثير البالسي (1) بقصيدة يقول فيها: يا كعبة الفضل افتنا لم لم يجب ... شرعا على قصادك الإحرام ولما تضمخ زائريك بطيب ما ... تلقيه وهو على الحجيج حرام وقد سبق في مرثية أبي العلاء المعري مثل هذا المعنى. وكانت ولادته في المحرم سنة تسع وعشرين وأربعمائة بميافارقين. وتوفي في يوم السبت خامس عشري شوال سنة سبع وخمسمائة ببغداد، ودفن في مقبرة باب أبرز (2) ، مع شيخه أبي إسحاق في قبر واحد، وقيل دفن إلى جانبه (3) ، رحمهما الله تعالى. 590 - (4) أبو نصر الأرغياني أبو نصر محمد بن عبد الله بن أحمد بن محمد بن عبد الله الأرغياني الفقيه الشافعي، قدم من بلده إلى نيسابور واشتغل على إمام الحرمين أبي المعالي الجويني وبرع في الفقه، وكان إماما مفننا ورعا كثير العبادة. وسمع الحديث من أبي الحسن علي ابن أحمد الواحدي صاحب التفاسير، وروى عنه في تفسير قوله تعالى: (إني لأجد ريح يوسف) ، أن ريح الصبا استاذنت ربها عز وجل أن تأتي بريح يوسف على نبينا وعليهما أفضل الصلاة والسلام قبل أن يأتيه البشير   (1) ن: البالسي؛ ر والمختار: اليانسي، وقد سقط هذا النص حتى آخر البيتين من النسخ ما عدا: ن ر والمختار. (2) كذا في المختار، ر، وفي النسخ الأخرى: باب شيراز. (3) إلى جانبه: كذا في ن ر والمختار؛ وفي سائر النسخ: بجنبه. (4) ترجمته في الوافي 3: 348 والأنساب 1: 168 والمنتظم 10: 40 وطبقات السبكي 4: 71 وطبقات الحسيبي: 78؛ والترجمة موجزة كثيراص في المختار. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 221 بالقميص، فأذن لها فأتته بذلك، فلذلك يستروح (1) كل محزون بريح الصبا، وهي من ناحية المشرق: إذا هبت على الأبدان نعمتها ولينتها، وهيجت الأشواق إلى الأوطان والأحباب، وأنشد: أيا جبلي نعمان بالله خليا ... نسيم الصبا يخلص إلي نسيمها فان الصبا ريح إذا ما تنسمت ... على نفس مهموم تجلت همومها وكانت ولادته في سنة أربع وخمسين وأربعمائة، وتوفي ليلة الرابع والعشرين من ذي القعدة، سنة ثمان وعشرين وخمسمائة بنيسابور، ودفن بظاهرها بموضع يقال له الحيرة على الطريق، رحمه الله تعالى. والفتاوى المستخرجة من كتاب نهاية المطلب المنسوبة إلى الأرغياني أشك فيها: هل هي له أم لأبي الفتح سهل بن علي الأرغياني - المقدم ذكره (2) - فإني بعيد العهد بالوقوف عليها، وذكرت في ترجمة أبي الفتح أنها له، ثم حصل (3) لي الشك، والله أعلم. وقد تقدم الكلام على نسبة الأرغياني في ترجمة أبي الفتح المذكور. ثم إني ظفرت بالفتاوى المذكورة، فوجدتها لأبي نصر المذكور، لا لأبي الفتح.   (1) ن ر: يتروح. (2) انظر ج 2: 434 والحاشية رقم: 4. (3) ن: فحصل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 222 (1) 591 محمد بن يحيى أبو سعد محمد بن يحيى بن أبي منصور النيسابوري، الملقب محيي الدين، الفقيه الشافعي، أستاذ المتأخرين وأوحدهم علما وزهدا، تفقه على حجة الإسلام أبي حامد الغزالي، وأبي المظفر أحمد بن محمد الخوافي - المقدم ذكره (2) - وبرع في الفقه وصنف فيه وفي الخلاف، وانتهت إليه رياسة الفقهاء بنيسابور، ورحل إليه الناس من البلاد، واستفاد منه خلق كثير صار أكثرهم سادة وأصحاب طرق في الخلاف، وصنف كتاب المحيط في شرح الوسيط والانتصاف في مسائل الخلاف وغير ذلك من الكتب. ذكره الحافظ عبد الغافر الفارسي في سياق تاريخ نيسابور وأثنى عليه، وقال: كان له حظ في التذكير، واستمداد من سائر العلوم، وكان يدرس بنظامية نيسابور، ثم درس بمدينة هراة في المدسة النظامية، ومن جملة مسموعاته ما سمعه من الشيخ أبي حامد أحمد بن علي بن محمد بن عبدوس بقراءة الإمام أبي نصر عبد الرحيم بن أبي القاسم عبد الكريم القشيري، في سنة ست وتسعين وأربعمائة، وحضر بعض فضلاء عصرة درسه وسمع فوائده، وحسن إلقائه، فأنشده: رفات الدين والإسلام يحيا ... بمحيي الدين مولانا ابن يحيى كأن الله رب العرش يلقي ... عليه حين يلقي الدرس وحيا ورأيت في بعض المجاميع بيتين منسوبين إليه، ثم وجدت في ترجمة الشيخ شهاب الدين أبي الفتح محمد بن محمود بن محمد الطوسي الفقيه الشافعي نزيل مصر،   (1) ترجمته في طبقات السبكي 4: 197 والشذرات 4: 151 وعبر الذهبي 4: 133. (2) انظر ج 1: 96. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 223 قال: وأنشدني الإمام أبو سعد محمد بن يحيى النيسابوري لنفسه (1) وهما: وقالوا يصير الشعر في الماء حية ... إذا الشمس لاقته فما خلته صدقا فلما ثوى صدغاه في ماء وجهه ... وقد لسعا قلبي تيقنته حقا وكانت ولادته سنة ست وسبعين وأربعمائة بطريثيث. وتوفي شهيدا في شهر رمضان، سنة ثمان وأربعين وخمسمائة، قتلته الغز لما استولوا على نيسابور في وقعتهم مع السلطان سنجر السلجوقس - كما تقدم ذكره في ترجمته (2) - أخذته ودست في فيه التراب حتى مات. وحكى ابن الأزرق الفارقي في تاريخه أن ذلك كان في سنة ثلاث وخمسين، والأول أصح. ولما مات رثاه جماعة من العلماء، من جملتهم أبو الحسن علي بن أبي القاسم البيهقي، قال فيه: يا سافكا دم عالم متبحر ... قد طار في أقصى الممالك صيته تالله قل لي يا ظلوم ولا تخف ... من كان محيي الدين كيف تميته (3) رحمه الله تعالى. (169) وتوفي شهاب الدين الطوسي المذكور، في العشرين من ذي القعدة سنة ست وتسعين وخمسمائة بمصر [ودفن بالقرافة، ومولده سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة، وكان مدرسا بمدرسة منازل العز بمصر، وقدم إلى مصر من مكة سنة تسع وسبعين وخمسمائة ونزل خانقاه سعيد السعداء بالقاهرة] (4) . وطريثيث: بضم الطاء المهملة وفتح الراء وسكون الياء المثناة من تحتها وكسر الثاء المثلثة وسكون الياء المثناة الثانية وبعدها ثاء مثلثة، وهي ناحية كبيرة من نواحي نيسابور، خرج منها جماعة من العلماء وغيرهم.   (1) ثم وجدت. لنفسه: سقط من النسخ ما عدا ر، ووقع فيها بعد إيراد البيتين. (2) انظر ج! 2: 428. (3) إلى هنا انتهت الترجمة في المختار. (4) انفردت به ر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 224 592 - (1) البروي أبو منصور محمد بن محمد بن محمد بن سعد بن عبد الله البروي الفقيه الشافعي، أجد الأئمة المشار إليهم بالتقدم في الفقه والنظر وعلم الكلام والوعظ، وكان حلو (2) العبارة ذا فصاحة وبراعة، تفقه على الفقيه محمد بن يحيى المذكور قبله، وكان من أكبر أصحابه، وصنف في الخلاف تعليقة جيدة، وهي مشهورة، وله جدل مليح مشهور سماه المقترح في المصطلح وأكثر اشتغال الفقهاء به، وقد شرحه الفقيه تقي الدين أبو الفتح مظفر بن عبد الله المصري المعروف بالمقترح شرحا مستوفى (4) وعرف به، واشتهر باسمه لكونه كان يحفظه فلا يقال له إلا التقي المقترح (5) . ودخل البروي بغداد سنة سبع وستين وخمسمائة فصادف قبولا وافرا من العام والخاص، وتولى المدرسة البهائية قريبا من النظامية وكان يذكر بها كل يوم عدة دروس، ويحضر عنده الخلق الكثير، وله حلقة المناظرة بجامع القصر، ويحضر عنده المدرسون والأعيان، وكان يجلس للوعظ بالمدرسة النظامية، ومدرسها يومئذ أبو نصر أحمد بن عبد الله الشاشي، وكان يظهر عليه من الحركات ما يدل على رغبته في تدريس النظامية، وكان ينشد في أثناء مجلسه مشيرا إلى موضع التدريس أبيات المتنبي، وهي أوائل قصيد (6) :   (1) ترجمته في الوافي 1: 279 والمنتظم 10: 239 وطبقات السبكي 4: 182 وعبر الذهبي 4: 200 والشذرات 4: 224؛ وقد أهملت هذه الترجمة في المختار. (2) ن: حسن. (4) ر: مشبعاً. (5) ر: إلا شرح التقي المصري، وهو موافق لما عندي الصفدي. (6) ل ن: قصيدة، وانظ ديوانه: 55. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 225 بكيت يا ربع حتى كدت أبكيكا ... وجدت بي وبدمعي في مغانيكا فعم صباحا لقد هيجت لي شجنا ... وارد تحيتنا إنا محيوكا بأي حكم زمان صرت متخذا ... ريم الفلا بدلا من ريم أهليكا فكان الناس يفهمون منه ذلك، وكان أهلا له، ووعد به فأدركته المنية، وكانت ولادته يوم الثلاثاء خامس عشر ذي القعدة سنة سبع عشرة وخمسمائة بطوس، وتوفي يوم الخميس بين الصلاتين (1) سادس عشر رمضان سنة سبع وستين وخمسمائة ببغداد، وصلي عليه يوم الجمعة بجامع القصر الخليفة المستضيء بأمر الله ودفن في ذلك النهار في تربة الشيخ أبي إسحاق الشيرازي بباب أبرز، رحمهما الله تعالى. وذكر الحافظ ابن عساكر في تاريخ دمشق أن أبا منصور البروي المذكور قدم دمشق في سنة خمس وستين وخمسمائة ونزل في رباط السميساطي، وقرئ عليه شيء من أماليه. والبروي: بفتح الباء الموحدة والراء وبعدها واو (2) ، لا أعلم هذه النسبة إلى أي شيء هي، ولا ذكرها السمعاني، وغالب ظني أنها من نواحي طوس، والله أعلم.   (1) بين الصلاتين: سقط من س ت. (2) في الشذرات: والبروي بفتح المعجمة وتشديد الراء المضمومة نسة إلى برويه، جد (لعلها: جده) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 226 593 - (1) ابن الخل أبو الحسن محمد بن المبارك، وكنيته أبو البقاء، ابن محمد بن عبد الله بن محمد المعروف بابن الخل، الفقيه الشافعي البغدادي، تفقه على أبي بكر محمد بن احمد الشاشي المعروف بالمستظهري - المقدم ذكره - وبرع في العلم، وكان يجلس في مسجده الذي بالرحبة شرقي بغداد لا يخرج عنه إلا بقدر الحاجة يفتي ويدرس، وكان قد تفرد بالفتوى بالمسألة السريجية ببغداد وصنف كتابا سماه توجيه التنبيه على صورة الشرح لكنه مختصر، وهو أول من شرح التنبيه، لكن ليس فيه طائل، وله كتاب في أصول الفقه. وسمع الحديث من أبي عبد الله الحسين بن أبي طلحة النعالي (2) وأبي عبد الله الحسين البسري (3) وغيرهما. وروى عنه الحافظ أبو سعد السمعاني وغيره. وسمعت بعض الفقهاء ينقل عنه أنه كان يكتب خطا جيدا منسوبا وأن الناس كانوا يحتالون على أخذ خطه في الفتاوى من غير حاجة إليها بل لأجل الخط لا غير، فكثرت عليه الفتاوى وضيقت عليه أوقاته، ففهم ذلك منهم، فصار يكسر القلم ويكتب جواب الفتوى به، فأقصروا عنه. [وقيل إن صاحب الخط المليح هو أخوه، والله أعلم] (4) . وتوفي سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة بغداد ونقل إلى الكوفة ودفن بها، رحمه الله تعالى. (170) وكان أخوه أبو الحسين أحمد بن المبارك فقيها فاضلا وشاعرا ماهرا،   (1) ترجمته في الوافي 4: 381 والمنتظم 10: 179 وطبقات السبكي 4: 96 وعبر الذهبي 4: 150 والشذرات 4: 164، وقد اقتصر في المختار على ما ورد في هذه الترجمة عن أحمد ابن المبارك أخي لمترجم به. (2) ل ن: الثعالبي، وهو خطأ. (3) ر: السري، وهو خطأ. (4) انفردت به ر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 227 ذكره العماد الأصبهاني في كتاب الخريدة وأثنى عليه، وأورد له مقاطيع شعر ودوبيت، فمن ذلك أبيات في بعض الوعاظ وهي: ومن الشقاوة أنهم ركنوا إلى ... نزغات ذاك الأحمق التمتام شيخ يبهرج دينه بنفاقه ... ونفاقه منهم على أقوام وإذا رأى الكرسي تاه بأنفه ... أي أن هذا موضعي ومقامي ويدق صدرا ما انطوى إلا على ... غل يواريه بكف عظام ويقول أيش أقول من حصر به ... لا لازدحام عبارة وكلام [وله دوبيت: هذا ولهي وكم كتمت الولها ... صونا لوداد من هوى النفس لها يا آخر محنتي ويا أولها ... آيات غرامي فيك من أولها وله أيضا: ساروا وأقام في فؤادي الكمد ... لم يلق كما لقيت منهم احد شوق وجوى ونار وجد تقد ... مالي جلد، ضعفت ما لي جلد وله أيضا: ما ضر حداة عيسهم لو رفقوا ... لم يبق غداة بينهم لي رمق قلب قلق وأدمع تستبق ... أو هي جلدي من الفراق الفرق] (1) وكانت ولادته سنة اثنتين وثمانين وأربعمائة، وتوفي سنة اثنتين - أو ثلاث - وخمسين وخمسمائة، رحمه الله تعالى.   (1) انفدرت به ر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 228 594 - (1) محي الدين بن زكي الدين أبو المعالي محمد بن أبي الحسن علي بن محمد [أبي المعالي مجد الدين] بن يحيى [أبي الفضل زكي الدين] (2) بن علي بن عبد العزيز بن علي بن الحسين بن محمد بن عبد الرحمن بن القاسم بن الوليد بن القاسم بن عبد الرحمن بن أبان بن [أمير المؤمنين] عثمان بن عفان، رضي الله عنه، القرشي (3) ، الملقب محيي الدين، المعروف بابن زكي الدين، الدمشقي الفقيه الشافعي، كان ذا فضائل عديدة من الفقه والأدب وغيرهما، وله النظم المليح والخطب والرسائل، وتولى القضاء بدمشق في شهر ربيع الأول، سنة ثمان وثمانين وخمسمائة، يوم الأربعاء العشرين من الشهر المذكور، هكذا وجدته بخط القاضي الفاضل: وكذلك أبوه [زكي الدين] وجده [مجد الدين، وجد أبيه زكي الدين أيضا وهو أول من ولي من بينهم] وولداه [زكي الدين أبو العباس الطاهر ومحيي الدين] كانوا قضاتها. وكانت له عند السلطان صلاح الدين، رحمه الله تعالى، المنزلة العالية (4) ، والمكانة المكينة. ولما فتح السلطان المذكور مدينة حلب (5) ، يوم السبت ثامن عشر صفر، سنة تسع وسبعين وخمسمائة، أنشده القاضي محيي الين المذكور قصيدة بائية، أجاد فيها كل الإجادة، وكان من جملتها بيت هو متداول بين الناس، وهو: وفتحك القعلة الشهباء في صفر ... مبشر بفتوح القدس في رجب   (1) ترجمته في الوافي 4: 169 وطبقات السبكي 4: 89 وعبر الذهبي 4: 205 والشذرات 4: 337؛ وسقطت الترجمة من ت. (2) ما بين معقفين زيادات من ر والمختار، ولم يرد في المطبوعة المصرية. (3) ر: وبقية النسب معروف؛ الأموي القرشي. (4) ن: العليا؛ ر: المكانة المكينة والمنزلة العالية. (5) قد مر هذا في ترجمة عماد الدين صاحب سنجار ج 2: 331. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 229 فكان كما قال، فإن القدس فتحت لثلاث بقين من رجب سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة، وقيل لمحيي الدين: من أين لك هذا فقال: أخذته من تفسير ابن برجان في قوله تعالى: (ألم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين) . ولما وقفت أنا على هذا البيت وهذه الحكاية لم أزل أتطلب تفسير ابن برجان حتى وجدته على هذه الصورة، لكن كان هذا الفصل مكتوبا في الحاشية بخط غير الأصل (1) ، ولا أدري هل كان من أصل الكتاب أم هو ملحق به (2) ، وذكر له حسابا طويلا وطريقا في استخراج ذلك حتى حرره من قوله بضع سنين. ولما ملك السلطان صلاح الدين حلب، فوض الحكم والقضاء بها [في ثالث عشر ربيع الآخر من السنة] (3) إلى القاضي محيي الدين المذكور، فاستناب بها زين الدين بنا أبا الفضل بن البانياسي (4) . ولما فتح السلطان القدس الشريف تطاول إلى الخطابة يوم الجمعة كل واحد من العلماء الذين كانوا في خدمته حاضرين، وجهز كل واحد منهم خطبة بليغة، طمعا في أن يكون هو الذي يعين لذلك، فخرج المرسوم إلى القاضي محيي الدين ان يخطب هو، وحضر السلطان وأعيان دولته، وذلك في أول جمعة صليت بالقدس بعد الفتح، فلما رقي المنبر استفتح بسورة الفاتحة، وقرأها إلى آخرها، ثم قال: (فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين) ، ثم قرأ أول سورة الأنعام: (الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور) ، ثم قرأ من سورة سبحان: (وقل الحمد لله   (1) ل لي س بر: بخط الأصل. (2) بهامش المختار: " قلت، أعني كاتبها موسى بن أحمد لطف الله به: وقعت في القاهرة ودمشق على ثلاث نسخ من التفسير المذكور وهذا الفصل المشار إليه لكنه مكتوب على الجميع على الحاشية بعد خط الأصل. وأخبرني الشيخ تقي الدين محمد بن زين الدين الشافعي قاضي القضاة بالديار المصريثة رحمه الله تعالى أنه رأى هذا الفصل المعين في نسختين على صورة ما ذكرناه والله أعلم ". (3) انفردت ر بما بين معقفين. (4) ل: بنا بن الفضل؛ س لي: نبا بن الفضل؛ ابن البانيايسي: سقطت من النسخ ما عدا ر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 230 الذي لم يتخذ ولدا) ، ثم قرأ أول الكهف: (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب) ، الآيات الثلاث، ثم قرأ من النمل: (وقل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى) ، ثم قرأ من سورة سبأ: (الحمد لله الذي له ما في السموات) ، ثم قرأ من سورة فاطر: (الحمد لله فاطر السموات والأرض) ، وكان قصده أن يذكر جميع تحميدات القرآن الكريم، ثم شرع في الخطبة، فقال: الحمد لله معز الإسلام بنصره، ومذل الشرك بقهره، ومصرف الأمور بأمره، ومديم النعم بشكره، ومستدرج الكفار (1) بمكره، الذي قدر الأيام دولا بعدله، وجعل العاقبة للمتقين بفضله، وأفاء على عباده من ظله، وأظهر دينه على الدين كله، القاهر فوق عباده فلا يمانع، والظاهر على خليقته فلا ينازع، والآمر بما يشاء فلا يراجع، والحاكم بما يريد فلا يدافع، أحمده على إظفاره وإظهاره، وإعزازه لأوليائه ونصره لأنصاره، وتطهير بيته المقدس من أدناس الشرك وأوضاره، حمد من استشعر الحمد باطن سره وظاهر جهاره (2) ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، شهادة من طهر بالتوحيد قلبه، وأرضى به ربه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله رافع الشك، وداحض (3) الشرك، وراحض الإفك، الذي أسرى به من المسجد الحرام إلى هذا المسجد الأٌقصى، وعرج به منه إلى السموات العلا إلى سدرة المنتهى، عندها جنة المأوى، ما زاغ البصر وما طغى، صلى الله عليه وعلى خليفته أبي بكر الصديق السابق إلى الإيمان، وعلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أول من رفع عن هذا البيت شعار الصلبان، وعلى أمير المؤمنين عثمان بن عفان ذي النورين جامع القرآن، وعلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب مزلزل الشرك ومكسر الأوثان، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان.   (1) ر: الكفر. (2) ن: اجهاره. (3) كذا في جميع النسخ؛ وزاد في متن ر: قلت وصوابه: مدحض الشرك لأنه رباعي والثلاثي منه لازم فليس له مفعول. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 231 أيها الناس، أبشروا برضوان الله الذي هو الغاية القصوى والدرجة العليا لما يسره الله على أيديكم من استرداد هذه الضالة، من الأمة الضالة، وردها إلى مقرها من الإسلام، بعد ابتذالها في أيدي المشركين قريبا من مائة عام، وتطهير هذا البيت الذي أذن الله أن يرفع ويذكر فيه اسمه، وإماطة الشرك عن طرقه بعد أن امتد عليها رواقه واستقر فيها رسمه، ورفع قواعده بالتوحيد، فإنه بني عليه وشيد بنيانه بالتمجيد (1) ، فإنه أسس على التقوى من خلفه ومن بين يديه، فهو موطن (2) أبيكم إبراهيم، ومعراج نبيكم محمد عليه الصلاة والسلام، وقبلتكم التي كنتم تصلون إليها في ابتداء الإسلام، وهو مقر الأنبياء، ومقصد الأولياء، ومدفن الرسل ومهبط الوحي، ومنزل به ينزل الأمر والنهي، وهو في أرض المحشر وصعيد المنشر، وهو في الأرض المقدسة التي ذكرها الله في كتابه المبين، وهو المسجد [الأقصى] (3) الذي صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالملائكة المقربين، وهو البلد الذي بعث الله إليه عبده ورسوله وكلمته التي ألقاها إلى مريم، وروحه عيسى الذي كرمه برسالته وشرفه بنبوته، ولم يزحزحه عن رتبة عبوديته، فقال تعالى: (لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون) ، كذب العادلون بالله وضلوا ضلالاً بعيدا (ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض، سبحان الله عما يصفون) ، (لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم) إلى آخر الآيات من المائدة، وهو أول القبلتين، وثاني المسجدين، وثالث الحرمين، لا تشد (4) الرحال بعد المسجدين إلا إليه، ولا تعقد الخناصر بعد الموطنين إلا عليه، فلولا أنكم ممن اختاره الله من عباده، واصطفاه من سكان بلاده، لما خصكم بهذه الفضيلة التي لا يجاريكم فيها مجار، ولا يباريكم في شرفها مبار، فطوبى لكم من   (1) ن: بالتجميد. (2) ن: موطئ ثرى. (3) زيادة من ر. (4) ن: الذي لا تشد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 232 جيش ظهرت على أيديكم المعجزات النبوية، والواقعات البدرية، والعزمات الصديقية، والفتوحات العمرية، والجيوش العثماني، والفتكات العلوية، جددتم للإسلام أيام القادسية، والملاحم اليرموكية، والمنازلات الخيبرية (1) ، والهجمات الخالدية، فجزاكم الله عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أفضل الجزاء، وشكر لكم ما بذلتموه من مهجكم في مقارعة الأعداء، وتقبل منكم ما تقربتم به إليه من مهراق الدماء، وأثابكم الجنة فهي دار السعداء، فاقدروا رحمكم الله هذه النعمة حق قدرها، وقوموا لله تعالى بواجب شكرها، فله تعالى المنة عليكم بتخصيصكم بهذه النعمة، وترشيحكم لهذه الخدمة، فهذا هو الفتح الذي فتحت له أبواب السناء، وتبلجت (2) بأنواره وجوه الظلماء، وابتهج به الملائكة المقربون، وقر به عينا الأنبياء والمرسلون، فماذا (3) عليكم من النعمة بأن جعلكم الجيش الذي يفتح على يديه البيت المقدس في آخر الزمان، والجند الذي تقوم بسيوفهم بعد فترة من النبوة أعلام الإيمان، فيوشك أن يفتح الله على أيديكم أمثاله، وأن تكون التهاني لأهل الخضراء، أكثر من التهاني لأهل الغبراء، أليس هو البيت الذي ذكره الله في كتابه، ونص عليه في محكم خطابه، فقال تعالى: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى) ، أليس هو البيت الذي عظمته الملل، وأثنت عليه الرسل، وتليت فيه الكتب الأربعة المنزلة من الله عز وجل أليس هو البيت الذي أمسك الله تعالى لأجله الشمس على يوشع أن تغرب، وباعد بين خطواتها ليتيسر فتحه ويقرب أليس هو البيت الذي أمر الله عز وجل موسى أن يأمر قومه باستنقاذه فلم يجبه إلا رجلان، وغضب الله عليهم لأجله فألقاهم في التيه عقوبة للعصيان فاحمدوا الله الذي أمضى عزائمكم لما نكلت عنه بنو إسرائيل، وقد فضلت على العالمين، ووفقكم لما خذل فيه أمم كانت قبلكم من الأمم (4) الماضين، وجمع لأجله كلمتكم   (1) ن: الحيرية. (2) ن: وسلخت. (3) ن: فماذا لله. (4) ن: من قبلكم من الأمم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 233 وكانت شتى، وأغناكم بما أمضته كان وقد عن سوف وحتى، فليهنكم أن الله قد ذكركم به فيمن عنده، وجعلكم بعد أن كنتم جنودا لأهويتكم جنده، وشكر لكم الملائكة المنزلون، على ما أهديتم لهذا البيت من طيب التوحيد ونشر التقديس والتمجيد، وما أمطتم عن طرقهم فيه من أذى الشرك والتثليث، والاعتقاد الفاجر الخبيث، فالآن تستغفر لكم أملاك السموات، وتصلي عليكم الصلوات المباركات، فاحفظوا رحمكم الله هذه الموهبة فيكم، واحرسوا هذه النعمة عندكم، بتقوى الله التي من تمسك بها سلم، ومن اعتصم بعروتها (1) نجا وعصم، واحذروا من اتباع الهوى، ومواقعة الردى، ورجوع القهقرى، والنكول عن العدا، وخذوا في انتهاز الفرصة، وإزالة ما بقي من الغصة، وجاهدوا في الله حق جهاده، وبيعوا عباد الله أنفسكم في رضاه إذ جعلكم من خير عباده، وإياكم أن يستزلكم الشيطان، وأن يتداخلكم الطغيان، فيخيل لكم أن هذا النصر بسيوفكم الحداد، وخيولكم الجياد، وبجلادكم في مواطن الجلاد، لا والله ما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم، فاحذروا عباد الله - بعد أن شرفكم بهذا الفتح الجليل، والمنح الجزيل، وخصكم بنصره المبين، وأعلق أيديكم بحبله المتين - أن تقترفوا كبيرا من مناهيه، وأن تأتوا عظيما من معاصيه، فتكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا، وكالذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين، والجهاد الجهاد فهو من أفضل عباداتكم، وأشرف عاداتكم، انصروا الله ينصركم، احفظوا الله يحفظكم، اذكروا الله يذكركم، اشكروا الله يزدكم ويشكركم، جدوا في حسم الداء، وقلع شأفة الأعداء، وطهروا بقية الأرض من هذه الأنجاس التي أغضبت الله ورسوله، واقطعوا فروع الكفر واجتثوا أصوله، فقد نادت الأيام يا للثارات (2) الإسلامية والملة المحمدية، الله أكبر، فتح الله ونصر، غلب الله وقهر، أذل الله من كفر، واعلموا رحمكم الله أن هذه فرصة فانتهزوها، وفريسة فناجزوها، وغنيمة فحوزوها، ومهمة فأخرجوا لها هممكم وأبرزوها، وسيروا إليها   (1) ن: الذي تمسك به ... بعروته. (2) المختار: بالثارات. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 234 سرايا عزماتكم وجهزوها، فالأمور بأواخرها، والمكاسب بذخائرها، فقد أظفركم الله بهذا العدو المخذول، وهم مثلكم أو يزيدون، فكيف وقد أضحى قبالة الواحد منهم منكم عشرون، وقد قال الله تعالى: (إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين، وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون) ، أعاننا الله وإياكم على اتباع أوامره، والازدجار بزواجره، وأيدنا معاشر المسلمين بنصر من عنده (إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده) ، إن أشرف مقال يقال في مقام، وأنفذ سهام تمرق عن قسي الكلام، وأمضى قول تحل به الأفهام، كلام الواحد الفرد العزيز العلام، قال الله تعالى: (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم) ، وقرأ أول الحشر، ثم قال: آمركم وإياي بما أمر به من حسن الطاعة فأطيعوه، وأنهاكم وإياي عما نهاكم عنه من قبح المعصية فلا تعصوه، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين فاستغفروه. ثم خطب الخطبة الثانية على عادة الخطباء مختصرة ثم دعا للإمام الناصر خليفة العصر. ثم قال: اللهم وأدم سلطان عبدك الخاضع لهيبتك، الشاكر لنعمتك، المعترف بموهبتك، سيفك القاطع، وشهابك اللامع، والمحامي عن دينك المدافع، والذاب عن حرمك الممانع، السيد الأجل، الملك الناصر، جامع كلمة الإيمان، وقاطع عبدة الصلبان، صلاح الدنيا والدين، سلطان الإسلام والمسلمين، مطهر البيت المقدس أبي المظفر يوسف بن أيوب، محيي دولة أمير المؤمنين، اللهم عم بدولته البسيطة، واجعل ملائكتك براياته محيطة، وأحسن عن الدين الحنيفي جزاءه، واشكر عن الملة المحمدية عزمه ومضاءه، اللهم أبق للإسلام مهجته، ووق للإيمان حوزته، وانشر في المشارق والمغارب دعوته، اللهم كما فتحت على يديه البيت المقدس بعد أن ظنت الظنون، وابتلي المؤمنون، فافتح كما فتحت على يديه داني الأرض وقاصيها، وملكه صياصي الكفر ونواصيها، فلا تلقاه منهم كتيبة إلا مزقها، ولا جماعة إلا فرقها، ولا طائفة بعد طائفة إلا ألحقها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 235 بمن سبقها، اللهم اشكر عن محمد صلى الله عليه وسلم سعيه، وأنفذ في المشارق والمغارب أمره ونهيه، اللهم وأصلح به أوساط البلاد وأطرافها، وأرجاء الممالك وأكنافها، اللهم ذلل به معاطس الكفار، وأرغم به أنوف الفجار، وانشر ذوائب ملكه على الأمصار، وابثث سرايا جنوده في سبل الأقطار. اللهم ثبت الملك فيه وفي عقبه إلى يوم الدين، واحفظه في بنيه وبني أبيه الملوك الميامين (1) ، واشدد عضده ببقائهم، واقض بإعزاز أوليائه وأوليائهم. اللهم كما أجريت على يده في الإسلام هذه الحسنة التي تبقى على الأيام، وتتخلد على مر الشهور والأعوام، فارزقه الملك الأبدي الذي لا ينفد في دار اليقين، وأجب دعاءه في قوله " رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي، وأن أعمل صالحا ترضاه، وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين " - الأحقاف: 15 - ثم دعا بما جرت به العادة. وكانت ولادته سنة خمسين وخمسمائة بدمشق، وتوفي في سابع شعبان سنة ثمان وتسعين وخمسمائةبدمشق ودفن من يومه بسفح جبل قاسيون، رحمه الله تعالى. (171) وكان والده أبو الحسن علي الملقب زكي الدين على القضاء بدمشق. وكان كثير الخير والدين، فاستعفى عن القضاء فأعفي، فخرج إلى مكة حاجا، وعاد إلى بغداد في صفر سنة ثلاث وستين وخمسمائة فأقام بها، وكان عالي الطبقة في سماع الحديث، سمع خلقا كثيرا، وحدث ببغداد مدة إقامته، وسمع عليه الناس، ولم يزل بها إلى أن توفي يوم الخميس الثامن والعشرين من شوال سنة أربع وستين وخمسمائة، وصلي عليه بجامع القصر، ودفن بمقبرة الإمام أحمد بن حنبل، رضي الله عنهم أجمعين (2) . (172) وأما ابن برجان المذكور (3) ، فهو: أبو الحكم عبد السلام بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن اللخمي، كان عبدا صالحا، وله تفسير القرآن   (1) ر: والسلاطين. (2) هنا تنتهي الترجمة في ن س ل لي بر. (3) ترجمته في التكملة رقم: 1797. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 236 العظيم، وأكثر كلامه فيه على طريق أرباب الأحوال والمقامات، وتوفي سنة ست وثلاثين وخمسمائة بمدينة مراكش، رحمه الله تعالى. وبرجان: بفتح الباء الموحدة وتشديد الراء وبعدها جيم وبعد الألف نون. (1) 595 السديد السلماسي السديد محمد بن هبة الله بن عبد الله السلماسي الفقيه الشافعي، كان إماما في عصره (2) ، تولى الإعادة بالمدرسة النظامية ببغداد، وأتقن عدة فنون، وهو الذي شهر طريقة الشريف بالعراق، قيل إنه كان يذكر طريقة الشريف والوسيط للغزالي والمستصفى من غير مراجعة كتاب. قصده الناس من البلاد، واشتغلوا عليه وانتفعوا به، وخرجوا علماء مدرسين مصنفين، ومن جملتهم الشيخان الإمامان: عماد الدين محمد، وكمال الدين موسى ولدا يونس - وسيأتي ذكرهما إن شاء الله تعالى - والشيخ شرف الدين أبو المظفر محمد بن علوان بن مهاجر، وغيرهم من الأفاضل. وكان مسددا في الفتيا، وتوفي ببغداد في شعبان سنة أربع وسبعين وخمسمائة، رحمه الله تعالى. والسلماسي: بفتح السين المهملة واللام والميم وبعد الألف سين ثانية، هذه النسبة إلى سلماس، وهي مدينة من بلاد أذربيجان، خرج منها جماعة مشاهير.   (1) ترجمته في طبقات السبكي 4: 195، ولم ترد هذه الترجمة في المختار. ومن هنا يبدأ الأعتماد على نسخة منشستر ورمزها " من ". (2) كان إمام عصره. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 237 (1) 596 حفدة أبو منصور محمد بن أسعد بن محمد بن الحسين بن القاسم العطاري الطوسي الأصل، المعروف بحفدة، الملقب عمدة الدين، الفقيه الشافعي النيسابوري، كان فقيها فاضلا واعظا فصيحا أصوليا، تفقه بمرو على أبي بكر محمد بن منصور السمعاني والد الحافظ المشهور، ثم انتقل إلى مروالروذ، واشتغل على القاضي حسين بن مسعود الفراء المعروف بالبغوي صاحب شرح السنة والتهذيب - وقد سبق ذكره (2) - ثم انتقل إلى بخارا واشتغل بها على البرهان عبد العزيز ابن عمر بن مارة الحنفي، ثم عاد إلى مرو وعقد له بها مجلس التذكير، وأقام بها مدة، ثم في فتنة الغز - وكانت فتنة الغز (3) - وكانت فتنة الغز سنة ثمان وأربعين وخمسمائة، كما ذكرته في ترجمة الفقيه محمد بن يحيى - خرج (4) إلى العراق ومنها إلى أذربيجان والجزيرة ومنها إلى الموصل، واجتمع الناس عليه بسبب الوعظ، وسمعوا منه الحديث، ومن أماليه: مثل الشافعي في العلماء ... مثل الشمس في نجوم السماء قل لمن قاسه بغير نظير ... أيقاس الضياء بالظلماء وأنشد يوما على الكرسي من جملة أبيات:   (1) ترجمته في المنتظم 10: 279 والوافي 2: 202 وطبقات السبكي 4: 65 وعبر الذهبي 4: 213 والشذرات 4: 240؛ وهي موجزة كثيراً في المختار، اقتصرص على إيراد الأبيات الأربعة المذكورة في الترجمة. (2) انظر 2: 136 وفي من بر: المعروف بالفراوي. (3) س ن ل لي من: مدة في فترة الغز؛ ر: الأغر بر: ثم في فترة الغز خرج. (4) س ن ل لي: ثم خرج؛ من: وخرج. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 238 تحية صوب المزن يقرؤها الرعد ... على منزل كانت تحل به هند نأت فأعرناها القلوب صبابة ... وعارية العشاق ليس لها رد وكانت مجالسه في الوعظ من أحسن المجالس. وتوفي في شهر ربيع الآخر سنة إحدى وسبعين وخمسمائة بمدينة تبريز، وقيل إنه توفي في رجب سنة ثلاث وسبعين، رحمه الله تعالى، والله أعلم بالصواب. وحفدة: بفتح الحاء المهملة والفاء والدال المهملة، ولا أعلم لم سمي بهذا الاسم مع كثرة كشفي عنه. وتبريز: بكسر التاء المثناة من فوقها وسكون الباء الموحدة وكسر الراء وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها زاي، وهي من أكببر مدن أذربيجان. (1) 597 نجم الدين الخبوشاني أبو البركات محمد بن الموفق بن سعيد بن علي بن الحسن بن عبد الله الخبوشاني، الملقب نجم الدين الفقيه الشافعي، كان فقيها فاضلا كثير الورع، تفقه على محمد ابن يحيى - المقدم ذكره - وكان يستحضر كتابه المحيط في شرح الوسيط على ما قيل، حتى نقل عنه أنه عدم الكتاب فأملاه من خاطره، وله كتاب تحقيق المحيط وهو كبير، رأيته في ستة عشر مجلدا. وقد تقدم ذكره في ترجمة العاضد عبد الله العبيدي صاحب مصر وما جرى له معه (2) . ولما استقل   (1) ترجمته في طبقات السبكي 4: 190 وحسن المحاضرة 1: 170 وعبر الذهبي 4: 262 والشذرات 4: 288 (وفيات 586) والنجوم الزاهرة 6: 115 ومرآة الزمان: 414 والبدر السافر، الورقة: 173. (2) انظر 3: 111. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 239 السلطان صلاح الدين رحمه الله تعالى بملك الديار المصرية قربه وأكرمه، وكان يعتقد في علمه ودينه، ويقال إنه أشار عليه بعمارة المدرسة المجاورة لضريح الإمام الشافعي، رضي الله عنه، فلما عمرها فوض تدريسها إليه، وعمرها في سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة، وفي هذه السنة بني البيمارستان في القصر بالقاهرة. ورأيت جماعة من أصحابه وكانوا يصفون فضله ودينه وأنه كان سليم الباطن قليل المعرفة بأحوال الدنيا. وكانت ولادته في الثالث عشر (1) من رجب سنة عشر وخمسمائة، باستوى خبوشان، وتوفي يوم الأربعاء ثاني عشر ذي القعدة سنة سبع وثمانين وخمسمائة، بالمدرسة المذكورة، ودفن في قبة تحت رجلي الإمام الشافعي، وبينهما شباك، رحمها الله تعالى. والخبوشاني: بضم الخاء المعجمة والباء الموحدة وفتح الشين المعجمة وبعد الأف نون، هذه النسبة إلى خبوشان، وهي بليدة بناحية نيسابور. وأستوى: بضم الهمزة وسكون السين المهملة وفتح التاء المثناة من فوقها أو ضمها، ناحية (2) كثيرة القرى من أعمال نيسابور.   (1) ل بر: في ثالث عشرين؛ ن: في ثاني عشرين؛ س: في ثالث عشر (وفي الهامش: عشرين) ؛ لي من: ثالث وعشرين. (2) ن: ناحية كبيرة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 240 (1) 598 القاضي كمال الدين الشهرزوري أبو الفضل (2) محمد بن أبي محمد عبد الله بن أبي أحمد القاسم الشهرزوري الملقب كمال الدين الفقيه الشافعي - وقد سبق ذكر أبيه وجده في موضعهما (3) - تفقه كمال الدين ببغداد على أسعد الميهني، وقد سبق ذكره، وسمع الحديث من أبي البركات محمد بن محمد بن خميس الموصلي، وتولى القضاء بالموصل وبنى بها مدرسة للشافعية، ورباطا بمدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان يتردد في الرسائل منها إلى بغداد عن عماد الدين زنكي الأتابك - المقدم ذكره (4) - ولما قتل عماد الدين على قلعة جعبر، كما ذكرناه في ترجمته، كان كمال الدين المذكور حاضرا في العسكر هو وأخوه تاج الدين أبو طاهر يحيى والد القاضي ضياء الدين، فلما رجع العسكر إلى الموصل كانا في صحبته. ولما تولى سيف الدين غازي ولد عماد الدين - وقد تقدم ذكره أيضا - فوض الأمور كلها إلى القاضي كمال الدين وأخيه (5) بالموصل وجميع مملكته، ثم إنه قبض عليهما في سنة اثنتين وأربعين واعتقلهما (5) بقلعة الموصل، وأحضر نجم الدين أبا علي الحسن بن بهاء الدين أبي الحسن علي وهو ابن عم كمال الدين، وكان قاضي   (1) ترجمته في المنتظم 10: 268 والخريدة (قسم الشام) 2: 323 ومرآة الزمان 8: 340 وتاريخ ابن الدبيثي: 55 وأماكن متفرقة من الباهر، وطبقات السبكي 4: 74 والوافي 3: 331 وعبر الذهبي 4: 215 والشذرات 4: 243 والبدر السافر، الورقة: 116 والزركشي 3: 260. (2) ن: الفضائل. (3) انظر ج2: 327؛ وج 4: 68. (4) انظر ج2: 327. (5) زيادة من ر. (5) زيادة من ر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 241 الرحبة (1) ، وولاه القضاء بالموصل وديار ربيعة عوضا عن كمال الدين. ثم إن الخليفة المقتفي سير رسولا وشفع في كمال الدين وأخيه فأخرجا من الاعتقال، وقعدا في بيوتهما وعليهما الترسيم، وحبس بالقلعة جلال الدين أبو أحمد ولد كمال الدين وضياء الدين أبو الفضائل القاسم بن تاج الدين. ولما مات سيف الدين غازي في التاريخ المذكور في ترجمته رفع الترسيم عنهما، وحضرا إلى قطب الدين مودود بن زنكي - وقد تولى السلطنة بعد أخيه سيف الدين - وكان راكبا في ميدان الموصل، فلما قربا منه ترجلا وعليهما ثياب العزاء بغير طرحات، فلما وصلا إليه ترجل لهما أيضا، وعزياه عن اخيه وهنآه بالولاية، ثم ركبوا، ووقف كل واحد منهما على جانبه، ثم عادا إلى بيتهما بغير ترسيم، وصارا يركبان في الخدمة. ثم انتقل كما الدين إلى خدمة نور الدين محمود صاحب الشام في سنة خمسين (2) وخمسمائة، وأقام بدمشق مدة، ثم عزل زكي الدين عن الحكم، وتولاه كمال الدين في شهر صفر سنة خمس وخمسين وخمسمائة، واستناب ولده وأولاد أخيه ببلاد الشام، وترقى إلى درجة الوزارة، وحكم في بلاد الشام الإسلامية في ذك الوقت، واستناب ولده القاضي محيي الدين في الحكم بمدينة حلب، ولم يكن شيء من أمور الدولة يخرج عنه، حتى الولاية وشد الديوان وغير ذلك، وذلك في أيام نور الدين محمود بن زنكي صاحب الشام، وتوجه من جهته رسولا إلى الديوان في أيام المقتفي، وسيره المقتفي رسولا للإصلاح (3) بين نور الدين المذكور وقلج ارسلان بن مسعود صاحب الروم. ولما مات نور الدين وملك صلاح الدين دمشق أقره على ما كان عليه. وكان فقيها أديبا شاعرا كاتبا ظريفا فكه المجالسة، يتكلم في الخلاف والأصولين كلاما حسنا، وكان شهما جسورا كثير الصدقة والمعروف، وقف أوقافا كثيرة بالموصل ونصيبين ودمشق، وكان عظيم الرياسة خبيرا بتدبير الملك،   (1) ر: وكان قاضياً بالرحبة. (2) ر: أربع وخمسين؛ ل لي س من بر: خمس وخمسين. (3) ن: للصلح. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 242 لم يكن في بيته مثله ولا نال أحد منهم ما ناله من المناصب مع كثرة رؤساء بيته، وذكره الحافظ ابن عساكر في تاريخ دمشق. وله نظم جيد، فمن ذلك ما أنشدني له بعض أهل بيته وهو: ولقد أتيتك والنجوم رواصد (1) ... والفجر وهم في ضمير المشرق وركبت م (2) الأهوال كل عظيمة ... شوقا إليك لعلنا أن نلتقي وقال عماد الدين الكاتب الأصبهاني في الخريدة في ترجمة القاضي كمال المذكور: أنشدني لنفسه هذين البيتين في ثالث شهر ربيع الأول سنة إحدى وسبعين، وقد تذكرت قول أبي يعلى ابن الهبارية الشريف في معنى الصبح وإبطائه: كم ليلة بت مطويا على حرق ... أشكو إلى النجم حتى كان يشكوني والصبح قد مطل الشرق العيون (3) به ... كأنه حاجة في كف (4) مسكين ثم قال: لو قال " تقضى لمسكين " لكان أحسن فإنها تمطل [بقضائها] ثم قال: وكلاهما أحسن وأجاد. وقيل: إنه كتب إلى ولده محيي وهو بحلب، وذكر في الخريدة انهما له: عندي كتائب أشواق أجهزها ... إلى جنابك إلا أنها كتب ولي أحاديث من نفسي أسر بها ... إذا ذكرتك إلا أنها كذب وقيل: إنه لما ضعف وكبر وقلت حركته (5) كان ينشد في كل وقت: يا رب لا تحيني إلى زمن ... أكون فيه كلا على أحد   (1) ت: ولقد ذكرتك والعيون هواجع؛ من بر: رواكد. (2) الخريدة 2: 326. (3) المختار: العبور. (4) ن: نفس. (5) ر والمختار: كبر وضعفت حركته. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 243 خذ بيدي قبل أن أقول لمن ... ألقاه عند القيام: خذ بيدي ولا أعلم هل هذان البيتان له أم لا، ثم وجدت هذين البيتين من جملة أبيات لأبي الحسن محمد بن علي بن الحسن بن أبي الصقر الواسطي - وسيأتي ذكره وذكر البيتين إن شاء الله تعالى -. وكانت ولادته سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة، بالموصل. وتوفي يوم الخميس سادس المحرم سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة بدمشق، ودفن من الغد بجبل قاسيون رحمه الله تعالى، وكان عمره حين وتوفي ثمانين سنة وأشهرا، ورثاه ولده محيي الدين محمد، وأوصى بولاية ابن أخيه أبي الفضائل القاسم بن يحيى بن عبد الله الملقب ضياء الدين، فأنفذ السلطان وصيته، وفوض القضاء بدمشق إلى ضياء الدين المذكور، فأقام به مدة، ثم عرف أن ميل السلطان إلى الشيخ شرف الدين ابن أبي عصرون - المقدم ذكره - فسأله الإقالة فأقيل وتولى شرف الدين. (173) وكان القاضي (1) ضياء الدين أبو الفضائل القاسم بن القاضي تاج الدين أبي طاهر يحيى بن عبد الله المذكور قد سمع الحديث بالإسكندرية من الحافظ أبي طاهر السلفي، وروى عن عمارة اليمني الفقيه شيئا من شعره. وتولى القضاء بدمشق بعد عمه كمال الدين. ولما انفصل عن القضاء صار يتردد في الرسائل إلى بغداد، ولما مات السلطان صلاح الدين سيره ولده الملك الأفضل نور الدين علي صاحب دمشق رسولا إلى بغداد بهدايا وتحف، وصار له هناك منزلة ومكانة جيدة. ثم عاد إلى دمشق وتولى نظر الأوقاف بها، ثم فارق دمشق وقدم الموصل وتولى القضاء بعد الشيخ عماد الدين أبي حامد محمد بن يونس - الآتي ذكره إن شاء الله تعالى - وكانت ولاية ضياء الدين في صفر سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة، ثم فارق بغداد باختياره على القضاء يحكم ويتصرف كما كان، في شهر ذي الحجة سنة سبع وتسعين، ولم يجر هذا لأحد غيره، وعبر على الموصل ولم يدخلها، وانتهى إلى مدينة حماة فولاه الملك المنصور ناصر الدين محمد بن تقي   (1) من هنا حتى آخر الترجمة انفردت به ن؛ وانظر ترجمة ضياء الدين في الخريدة (قسم الشام) 2: 343 وطبقات السبكي 4: 298. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 244 الدين عمر ملكها يومئذ القضاء بها فأقام إلى أن مات ضياء الدين بها في نصف رجب سنة تسع وتسعين وخمسمائة، ونقل إلى دمشق ودفن بها، ومولده سنة أربع وخمسين وخمسمائة بالموصل، وقيل إن مولده في جمادى الأولى سنة خمس وثلاثين، والله أعلم، وله شعر فمن ذلك: فارقتكم ووصلت مصر فلم يقم ... أنس اللقاء بوحشة التوديع وسررت عند قدومها لولا الذي ... لكم من الأشواق بين ضلوعي (174) وأما والده تاج الدين أبو طاهر يحيى فقد ذكره القاضي عماد الدين الكاتب الأصبهاني في كتاب الخريدة (1) فقال: هو أخو كمال الدين، وذكر [بعد] الثناء عليه، أنه توفي بالموصل في سنة ست وخمسين وخمسمائة، [قال] : وأنشدني ولده ضياء الدين أبياتا له على وزن بيت مهيار وهو: وعطل كؤوسك إلا الكبار ... تجد للصغار أناسا صغارا فقال: وسق الندامى عقيقة ... تضيء فتحسب في الليل نارا تدور المسرة مع كأسها ... وتتبعه حيثما الكاس سارا ولا عيب فيها سوى أنها ... متى عرست بحمى الغم سارا ستلقى ليالي الهموم الطوال ... فبادر ليالي السرور القاصرا قلت: وقد سبق في ترجمة عماد الدين زنكي [ذكر] عمهما القاضي بهاد الدين أبي الحسن علي بن القاسم والد نجم الدين الحسين قاضي الرحبة المذكور وتاريخ وفاته، والله أعلم.   (1) الخريدة (قسم الشام) 2: 340 وانظر طبقات السبكي 4: 323. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 245 (1) 599 القاضي محيي الدين ابن الشهرزوري أبو حامد محمد بن القاضي كمال الدين (2) بن الشهرزوري المذكور قبله، الملقب محيي الدين، وقد تقدم من ذكر رياسة أبيه وما كان عليه من علو المرتبة ما لا حاجة إلى إعادته. وكان القاضي محيي الدين قد دخل بغداد للاشتغال فتفقه على الشيخ أبي منصور بن الرزاز وتميز، ثم أصعد إلى الشام، وولي (3) قضاء دمشق نيابة عن والده، ثم انتقل إلى حلب وحكم بها نيابة عن أبيه أيضا في شهر رمضان سنة خمس وخمسين وخمسمائة، وبه عزل ابن أبي جرادة المعروف بابن العديم، وقيل كان ذلك في شعبان سنة ست وخمسين، والله أعلم (4) . وبعد وفاة والده تمكن عند الملك الصالح إسماعيل بن نور الدين صاحب حلب غاية التمكن، وفوض إليه تدبير مملكة حلب في شعبان سنة ثلاث وسبعين، واستمر على ذلك، ثم وشى به أعداؤه وحساده إلى الصالح وجرت أسباب اقتضت أنه لزم بيته، ورأى المصلحة في مفارقة حلب والرجوع إلى بلد الموصل (5) فانتقل إليها، وتولى قضاءها ودرس بمدرسة والده وبالمدرسة النظامية بالموصل، وتمكن عند صاحب الموصل عز الدين مسعود بن قطب الدين مودود بن زنكي - الآتي ذكره إن شاء الله تعالى - واستولى على جميع الأمور، وتوجه من جهته رسولا إلى بغداد مرارا. وذكر بهاء الدين يوسف المعروف بابن شداد قاضي حلب في كتاب " ملجأ   (1) ترجمته في الخريدة (قسم الشام) 2: 329 وطبقات السبكي 4: 99 وعبر الذهبي 4: 259 والشذرات 4: 287 والزركشي3: 290. (2) ت: كمال الدين محمد؛ ل لي س: كمال الدين بن .... (3) ر: وتولى. (4) وقيل ... أعلم: انفردت به ن ر. (5) في النسخ ما عدا ر: وبعد وفاة والده انتقل إلى الموصل، وما بين معقفين قبله انفردت به ر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 246 الحكام عند التباس الأحكام انه كان في خدمة القاضي محيي الدين عند توجهه إلى بغداد في إحدى الرسائل، وناهيك بمن يكون في خدمته مثل هذا الرجل - وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى. وكان محيي الدين المذكور جوادا سريا، قيل إنه انعم في بعض رسائله إلى بغداد بعشرة آلاف دينار أميرية (1) على الفقهاء والأدباء والشعراء والمحاويج، ويقال إنه في مدة حكمه بالموصل لم يعتقل غريما على دينارين فما دونهما، بل كان يوفيهما عنه ويخلي سبيله (2) ويحكى عنه مكارم كثيرة ورياسة ضخمة، وكان من النجباء عريقا في النجابة تام الرياسة، كريم الأخلاق رقيق الحاشية، له في الأدب مشاركة حسنة وله أشعار جيدة، فمن ذلك ما أنشدني له بعض الأصحاب في وصف جرادة (3) ، وهو تشبيه غريب: لها فخذ بكر وساقا نعامة ... وقادمتا نسر وجؤجؤ ضيغم حبتها أفاعي الرمل بطنا وأنعمت ... عليها جياد الخيل بالرأس والفم ورأيت له في بعض المجاميع هذين البيتين، وهما في وصف نزول الثلج من (4) الغيم: ولما شاب رأس الدهر غيظا ... لما قاساه من فقد الكرام أقام يميط هذا الشيب عنه ... وينثر ما أماط على الأنام وكانت ولادته سنة عشر وخمسمائة تقريبا، وقال العماد الكاتب في الخريدة (5) : مولده سنة تسع عشرة، والله أعلم، وزاد في كتاب السيل في شعبان. وتوفي سحرة يوم الأربعاء رابع عشر جمادى الأولى سنة ست وثمانين   (1) أميرية: سقطت من ن من؛ بر: ميرية. (2) زيادة من ر. (3) ر: في الجرادة. (4) ل لي س بر من: مع. (5) الخريدة 2: 230. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 247 وخمسمائة، وقيل ثالث عشريه (1) ، هكذا ذكره العماد في السيل والأول ذكره ابن الدبيثي (2) ، وذلك بالموصل، ودفن بداره بمحلة القلعة، ثم نقل إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، رحمه الله تعالى. هكذا رأيته في بعض التواريخ، وذكر ابن الدبيثي في تاريخه انه نقل إلى تربة عملت له ظاهر البلد، والله أعلم، ثم حققت (3) ذلك فوجدته كما قال ابن الدبيثي، وتربته خارج باب الميدان بالقرب من تربة قضيب البان صاحب الكرامات، رحمه الله تعالى. (175) وكان (4) لكمال الدين ابن آخر يقال له عماد الدين أحمد توجه رسولا إلى بغداد عن نور الدين في سنة تسع وستين وخمسمائة، ومدحه ابن التعاويذي بقصيدة يقول من جملتها (5) : وقالوا: رسول أعجزتنا صفاته ... فقلت: صدقتم هذه صفة الرسل 600 (6) فخر الدين الرازي أبو عبد الله (7) محمد بن عمر بن الحسين بن الحسن بن علي التيمي البكري   (1) ر: ثالث عشر ذي القعدة؛ من بر: ثالث عشرين. (2) ن: ابن الأثير. (3) لي: إني حققت. (4) من هنا حتى آخر الترجمة انفردت به ر ن والمختار. (5) انظر ديوان سبط ابن التعاويذي: 337، ومطلع القصيدة: حللت حلول الغيث في البلد المحل ... وإن جل ما تولي يداك عن المثل (6) ترجمته في طبقات السبكي 5: 33 وذيل الروضتين: 68 ومختصر ابن العبري: 240 والوافي 4: 248 وابن أبي أصيبعة 2: 23 ولسان الميزان 4: 246 وطبقات الحسيبي: 82 وعبر الذهبي 5: 18 والشذرات 5: 21. (7) ر والمختار: أبو الفضل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 248 الطبرستاني الأصل الرازي المولد، الملقب فخر الدين، المعروف بابن الخطيب، الفقيه الشافعي، فريد عصره ونسيج وحده، فاق أهل زمانه في علم الكلام والمعقولات وعلم الأوائل، له التصانيف المفيدة في فنون عديدة منها تفسير القرآن الكريم جمع فيه كل غريب وغريبة، وهو كبير جدا لكنه لم يكمله، وشرح سورة الفاتحة في مجلد، ومنها في علم الكلام المطالب العالية ونهاية العقول وكتاب الأربعين والمحصل (1) وكتاب البيان والبرهان في الرد على أهل الزيغ والطغيان وكتاب المباحث العمادية في المطالب المعادية وكتاب تهذين الدلائل وعيون المسائل وكتاب إرشاد النظار إلى لطائف الأسرار وكتاب أجوبة المسائل التجارية وكتاب تحصيل الحق وكتاب الزبدة والمعالم، وغير ذلك، وفي أصول الفقه المحصول والمعالم، وفي الحكمة الملخص وشرح الإشارات لابن سينا وشرح عيون الحكمة وغير ذلك، وفي الطلسمات السر المكتوم (2) وشرح أسماء الله الحسنى ويقال: إن له شرح المفصل في النحو للزمخشري، وشرح الوجيز في الفقه للغزالي، وشرح سقط الزند للمعري، وله مختصر في الإعجاز، ومؤاخذات جيدة على النحاة، وله طريقة في الخلاف، وله في الطب شرح الكليات للقانون، وصنف في علم الفراسة، وله مصنف في مناقب الشافعي (3) ، وكل كتبه ممتعة، وانتشرت تصانيفه في البلاد ورزق فيها سعادة عظيمة فإن الناس اشتغلوا بها ورفضوا كتب المتقدمين، وهو أو لمن اخترع هذا الترتيب في كتبه، وأتى فيها بما لم يسبق إليه. وكان له في الوعظ اليد البيضاء، ويعظ باللسانين العربي والهجمي، وكان يلحقه الوجد في حال الوعظ ويكثر البكاء، وكان يحضر مجلسه بمدينة هراة أرباب المذاهب والمقالات ويسألونه وهو يجيب كل سائل بأحسن إجابة، ورجع   (1) ومنها في علم الكلام ... والمحصل: وقع في ر بعد قوله: " وكتاب الزبدة ". (2) كذا في جميع النسخ؛ وفي المطبوعة المصرية " السر المكنون ". (3) زاد في المختار: وغير ذلك من المصنفات. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 249 بسببه خلق كثير من الطائفة الكرامية وغيرهم إلى مذهب أهل السنة، وكان يلقب بهراة شيخ الإسلام. وكان مبدأ اشتغاله على والده إلى أن مات، ثم قصد الكمال السماني واشتغل عليه مدة، ثم عاد إلى الري واشتغل على المجد الجيلي، وهو أحد أصحاب محمد ابن يحيى، ولما طلب المجد الجيلي إلى مراغة ليدرس بها صحبه فخر الدين المذكور إليها، وقرأ عليه مدة طويلة علم الكلام والحكمة، ويقال إنه كان يحفظ الشامل لإمام الحرمين في علم الكلام، ثم قصد خوارزم وقد تمهر في العلوم فجرى بينه وبين أهلها كلام فيما يرجع إلى المذهب والاعتقاد، فأخرج من البلد، فقصد ما رواء النهر، فجرى له أيضا هناك ما جرى له في خوارزم، فعاد إلى الري، وكان بها طبيب حاذق له ثروة ونعمة، وكان للطبيب ابنتان، ولفخر الدين ابنان، فمرض الطبيب وأيقن بالموت فزوج ابنتيه لولدي فخر الدين، ومات الطبيب فاستولى فخر الدين على جميع أمواله، فمن ثم كانت له النعمة، ولازم الأسفار، وعامل شهاب الدين الغوري صاحب غزنة في جملة من المال، ثم مضى إليه لاستيفاء حقه منه فبالغ في إكرامه والإنعام عليه (1) وحصل له من جهته مال طائل، وعاد إلى خراسان، واتصل بالسلطان محمد بن تكش المعروف بخوارزم شاه، وحظي عنده، ونال أسنى المراتب، ولم يبلغ أحد منزلته عنده، ومناقبه أكثر من أن تعد، وفضائله لا تحصى ولا تحد. وكان له مع هذه العلومشيء من النظم، فمن ذلك قوله: نهاية إقدام العقول عقال ... وأكثر سعي العالمين ضلال وأرواحنا في وحشة من جسومنا ... وحاصل دنيانا أذى ووبال ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا ... سوى أنم جمعنا فيه قيل وقالوا ولم قد رأينا من رجال ودولة ... فبادوا جميعا مسرعين وزالوا وكم من جبال قد علت شرفاتها ... رجال فزالوا والجبال جبال   (1) زيادة من ر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 250 وكان العلماء يقصدونه من البلاد، وتشد إليه الرحال من الأقطار، وحكى شرف الدين بن عنين - الآتي ذكره إن شاء الله تعالى - أنه حضر درسه يوما وهو يلقي الدروس في مدرسته بخوارزم ودرسه حافل بالأفاضل واليوم شات وقد سقط ثلج كثير وخوارزم بردها شديد إلى غاية ما يكون (1) ، فسقطت بالقرب منه حمامة وقد طردها بعض الجوارح، فلما وقعت رجع عنها الجارح خوفا من الناس الحاضرين، فلم تقدر الحمامة على الطيران من خوفها وشدة البرد، فلما قام فخر الدين من الدرس وقف عليها ورق لها أخذها بيده، فأنشد ابن عنين في الحال: يا ابن الكرام المطمعين إذا شتوا ... في كل مسغبة وثلج خاشف العاصمين إذا النفوس تطايرت ... بين الصوارم والوشيج الراعف من نبأ الورقاء أن محلكم ... حرم وأنك ملجأ للخائف وفدت عليك وقد تدانى حتفها ... فحبوتها ببقائها المستأنف ولو أنها تحبى بمال لانثنت ... من راحتيك بنائل متضاعف جاءت سليمان الزمان بشكوها ... والموت يلمع من جناحي خاطف قرم لواه القوت حتى ظله ... بإزائه يجري بقلب واجف ولابن عنين المذكور فيه قصيدة من جملتها: ماتت به بدع تمادى عمرها ... دهرا وكاد ظلامها لا ينجلي فعلا به الإسلام أرفع هضبة ... ورسا سواه في الحضيض الأسفل غلط امرؤ بأبي علي قاسه ... هيهات قصر عن مداه أبو علي لو أن رسطاليس يسمع لفظة ... من لفظه لعرته هزة أفكل ولحار بطليموس لو لاقاه من ... برهانه في كل شكل مشكل ولو أنهم جمعوا لديه تيقنوا ... أن الفضيلة لم تكن للأول   (1) ن: إلى الغاية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 251 وقال أبو عبد الله الحسين الواسطي: سمعت فخر الدين بهراة ينشد على المنبر عقيب كلام عاتب فيه أهل البلد: المرد ما دام حيا يستهان به ... ويعظم الرزء فيه حين يفتقد وذكر فخر الدين في كتابه الذي سماه تحصيل الحق أنه اشتغل في علم الأصول على والده ضياء الدين عمر، ووالده على أبي القاسم سليمان بن ناصر الأنصاري، وهو على إمام الحرمين أبي المعالي، وهو على الأستاذ أبي إسحاق الإسفرايني، وهو على الشيخ أبي الحسين الباهلي، وهو على شيخ السنة أبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري، وهو على أبي علي الجبائي أولا ثم رجع عن مذهبه ونصر مذهب أهل السنة والجماعة. وأما اشتغاله في المذهب فإنه اشتغل على والده، ووالده على أبي محمد الحسين ابن مسعود الفراء، البغوي، وهو على القاضي حسين المروزي (1) ، وهو على القفال المروزي، وهو على أبي زيد المروزي، وهوعلى أبي إسحاق المروزي، وهو على أبي العباس بن سريج، وهو على أبي القاسم الأنماطي، وهو على أبي إبراهيم المزني، وهو على الإمام الشافعي، رضي الله عنه. وكانت ولادة فخر الدين في الخامس والعشرين من شهر رمضان سنة أربع وأربعين، وقيل ثلاث وأربعين وخمسمائة، بالري. وتوفي يوم الاثنين، وكان عيد الفطر، سنة ست وستمائة بمدينة هراة، ودفن آخر النهار في الجبل المصاقب لقرية مزداخان، رحمه الله تعالى، ورأيت له وصية أملاها في مرض موته على أحد تلاميذته تدل على حسن العقيدة. ومزداخان: بضم الميم وسكون الزاي وفتح الدال المهملة وبعد الألف خاء معجمة مفتوحة وبعد الألف الثانية نون، وهي قرية بالقرب من هراة. وقد تقدم الكلام على هراة.   (1) ت لي س ل: المروروذي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 252 (1) 601 الشيخ عماد الدين بن يونس أبو حامد محمد بن يونس بن محمد بن منعة بن مالك بن محمد، الملقب عماد الدين، الفقيه الشافعي؛ كان إمام وقته في المذهب والأصول والخلاف، وكان له صيت عظيم في زمانه، وقصده الفقهاء من البلاد الشاسعة الاشتغال (2) ، وتخرج عليه خلق كثير صاروا كلهم أئمة مدرسين يشار إليهم، وكان مبدأ اشتغاله على أبيه وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى - وذلك بالموصل، ثم توجه إلى بغداد وتفقه بالمدرسة النظامية على السديد محمد السلماسي - وقد تقدم ذكره (3) وكان معيدا بها، والمدرس يؤمئذ الشرف يوسف بن بندار الدمشقي (4) ، وسمع بها الحديث من أبي عبد الرحمن محمد بن محمد الكشميهني لما قدمها، ومن أبي حامد محمد بن أبي الربيع الغرناطي، وعاد إلى الموصل ودرس بها في عدة مدارس، وصنف كتبا في المذهب: منها كتاب المحيط في الجمع بين المهذب والوسيط وشرح الوجيز للغزالي، وصنف جدلا وعقيدة وتعليقه في الخلاف، لكنه لم يتمها، وكانت إليه الخطابة في الجامع المجاهدي مع التدريس في المدرسة النورية والعزية والزينية (5) والبقشية (6) والعلانية، وتقدم في دولة نور أرسلان شاه   (1) ترجمته في طبقات السبكي 5: 45 ومرآة الزمان: 558 وذيل الروضتين: 80 وعبر الذهبي 5: 28 والشذرات 5: 34 والبدر السافر، الورقة: 186. (2) لي: للأشتغال عليه؛ وزاد بعد هذا الموضع في المختار " قلت، أعني كاتبها موسى بن أحمد لطف الله به: وهو جدي بهاء الدين محمد بن إبراهيم بن أبي بكر بن خلكان، ورأيت عند والدي نسخة " الوسيط " للغزالي وعليها خطه أن جدي المذكور قرأها عليه قراءة اتقان ومعرفة. (3) انظر الترجمة: 595. (4) زاد في المختار: " قلت: أعني كاتبها موسى بن أحمد: وولى جدي المذكور الإعادة بالنظامية ببغداد بعد ذلك بمدة ". (5) س: والزينبية، وكذلك في الشذرات. (6) ت ن س: والنفيسية؛ والشذرات: والبغشية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 253 صاحب الموصل تقدما كثيرا، وتوجه عنه رسولا إلى بغداد غير مرة، وإلى الملك العادل، وناظر في ديوان الخلافة، واستدل في مسألة شراء الكافر للعبد المسلم، وذلك في سنة ست وتسعين وخمسمائة، وتولى القضاء بالموصل (1) يوم الخميس رابع شهر رمضان سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة، ثم انفصل عنه بأبي الفضائل القاسم بن يحيى بن عبد الله بت القاسم الشهرزوي الملقب ضياء الدين - المذكور في ترجمة عمة كمال الدين - في صفر سنة ثلاث وتسعين، وولي ضياء الدين المذكور يوم الأربعاء سابع عشر صفر المذكور، وانتهت إليه رياسة أصحاب الشافعي بالموصل. وكان شديد الورع والتقشف لايلبس الثوب الجديد حتى يغسله، ولا يمس القلم للكتابة إلا ويغسل (2) يده، وكان دمث الأخلاق لطيف الخلوة ملاطفا بحكايات وأشعار، وكان كثير المباطنة لنور الدين صاحب الموصل يرجع إليه في الفتاوى ويشاور في الأمور وله صنف العقيدة المذكورة ولم يزل معه حتى انتقل عن مذهب أبي حنيفة إلى مذهب الشافعي، ولم يوجد في بيت أتابك مع كثرتهم شافعي سواه. ولما توفي نور الدين في سنة سبع وستمائة - كما تقدم - توجه إلى بغداد في الرسالة بسبب تقرير ولده الملك القاهر مسعود - وسيأتي ذكره في ترجمة جده مسعود إن شاء الله تعالى - فعاد وقد قضى الشغل ومعه الخلعة والتقليد، وتوفرت حرمته عند القاهر أكثر مما كانت عند أبيه، وكان مكمل الأدوات، غير أنه لم يرزق سعادة في تصانيفه، فإنها ليست على قدر فضائله. وكانت ولادته بقلعة إربل سنة خمس وثلاثين وخمسمائة، في بيت صغير منها، ولما وصل إلى إربل في بعض رسائله دخل ذلك البيت وتمثل بالبيت المشهور، وهو: بلاد بها نيطت علي تمائمي ... وأول أرض مس جلدي ترابها   (1) ت: وتولى القضاء بالموصل مدة يسيرة (وسقط تعيين اليوم والشهر) . (2) ن: حتى يغسل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 254 وتوفي يوم الخميس، تاسع عشر جمادى الآخرة، سنة ثمان وستمائة بالموصل، رحمه الله تعالى. وكان الملك المعظم مظفر الدين صاحب إربل، رحمه الله تعالى، يقول رأيت الشيخ عماد الدين في المنام بعد موته، فقلت له: أما مت فقال: بلى، ولكني محترم. وقد ذكره ابن الدبيثي في كتاب الذيل وذكره أبو البركات ابن المستوفي فيتاريخ إربل - وسيأتي ذكر أخيه الشيخ كمال الدين موسى إن شاء الله تعالى - وهم أهل بيت خرج منهم جماعة من الأفاضل. (176) وحفيده (1) تاج الدين أبو القاسم عبد الرحيم ابن الشيخ رضي الدين محمد ابن الشيخ عماد الدين أبي حامد المذكور اختصر كتاب الوجيز للغزالي اختصارا حسنا سماهالتعجيز في اختصار الوجيز واختصر كتاب المحصول في أصول الفقه، واختصر طريقة ركن الدين (2) الطاوسي في الخلاف، ومولده بالموصل في سنة ثمان وتسعين وخمسمائة، ولما استولى التتر على الموصل كان بها، ثم انتقل إلى بغداد فدخلها في شهر رمضان سنة سبعين وستمائة، وتوفي بها في سنة إحدى وسبعين وستمائة (3) ، وكانت، وفاته في جمادى الأولى تقديرا من السنة المذكورة رحمه الله تعالى.   (1) من هنا حتى آخر الترجمة انفردت به ر ن والمختار. (2) ن: زكي الدين. (3) قوله " وتوفي بها في سنة إحدى وسبعين وستمائة " يبدو أنه مصحح لقول ابن المؤلف في المختار: " سنة سبعين وستمائة وكانت وفاته في جمادى الأولى من السنة تقديراً رحمه الله " ثم عقب على ذلك بقوله: " قلت: ينظر تاريخ وفاته، هكذا وجدته في النسخة التي نقلتها، والصواب في سنة إحدى وسبعين وستمائة، سمعته من لفظ والدي أحمد قدس الله روحه ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 255 (1) 602 المعين الجاجرمي أبو حامد بن إبراهيم بن أبي الفضل، السهلي الجاجرمي الفقيه الشافعي، الملقب معين الدين؛ كان إماما فاضلا متفننا (2) مبرزا، سكن نيسابور ودرس بها، وصنف في الفقه كتاب الكفاية وهو في غاية الإيجاز مع اشتماله على أكثر المسائل التي تقع في الفتاوى، وهو في مجلد واحد، وله كتاب إيضاح الوجيز أحسن فيه، وهو في مجلدين، وله طريقة مشهورة في الخلاف والقواعد المشهورة منسوبة إليه، واشتغل عليه الناس وانتفعوا به وبكتبه من بعده، خصوصا القواعد، فإن الناس أكبوا على الاشتغال بها. وتوفي بكرة نهار (3) الجمعة حادي عشر (4) رجب سنة ثلاث عشرة وستمائة بنيسابور، رحمه الله تعالى. والجاجرمي: بفتح الجيمين بينهما ألف وسكون الراء وبعدها ميم، هذه النسبة إلى جاجرم، وهي بلدة بين نيسابور وجرجان، خرج منها جماعة من العلماء (5) . ورأيت بمدينة دمشق خطه على كتاب شرح فيه الأحاديث المسطورة في المهذب والألفاظ المشكلة، وقد سمعه عليه جماعة من الفقهاء بنيسابور في الرابع والعشرين من ذي الحجة سنة اثنتي عشرة وستمائة.   (1) ترجمته في طبقات السبكي 5: 46 والشذرات 5: 56. (2) ر: متقناً. (3) ن: يوم. (4) ر: حادي عشرين. (5) نهاية الترجمة في س ل لي ت. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 256 (1) 603 العميدي أبو حامد محمد بن محمد بن محمد - وقيل أحمد - العميدي، الفقيه الحنفي المذهب السمرقندي، الملقب ركن (2) الدين؛ كان إماما في فن الخلاف، خصوصا الجست (3) ، وهو أول من أفرده بالتصنيف ومن تقدمه كان يمزجه بخلاف المتقدمين، وكان اشتغاله فيه على الشيخ رضي الدين النيسابوري، وهو أحد الأركان الأربعة، فإنه كان من جملة المشتغلين علي رضي (4) الدين أربعة أشخاص تميزروا وتبحروا (5) في هذا الفن، وكل واحد منهم ينعت بالركن، وهم: ركن الدين الطاوسي - وقد سبق ذكره - والعميدي المذكور، وركن الدين إمام زادا، وقد شذ عني من هو الرابع، وصنف العميدي في هذا الفن طريقة، وهي مشهورة بأيدي الفقهاء، وصنف الإرشاد واعتنى بشرحها (6) جماعة من أرباب هذا الشأن: منهم القاضي شمس الدين أبو العباس أحمد بن الخليل بن سعادة ابن جعفر بن عيسى الفقيه الشافعي الخوبي قاضي دمشق - كان - رحمه الله تعالى، والقاضي أوحد الدين الدوني قاضي منبج، ونجم الدين المرندي وبدر الدين المراغي [المعروف بالطويل] (7) وغيرهم، وصنف كتاب " النفائس " أيضا،   (1) ترجمته في الجواهر المضية 2: 128 والوافي 1: 280 وعبر الذهبي 5: 57 والشذرات 5: 64 وتاج التراجم: 58. (2) ل: زكي، حيثما وقعت. (3) الجست: لفظة فارسية معناها البحث، وقد أصبحت تطلق على نوع من فروعها الخلاف؛ وقد جاءت الجيم مضمومة في المختار. (4) ن: فإنه كان من جملة ... رضي الدين فإنه اشتغل عليه. (5) ر: وتحرروا. (6) كذا في جميع النسخ، ولعل الضمير إلى " طريقة "، وفي الصفدي: بشرحه. (7) زيادة من المختار، وزاد بعدها بقوله: " قلت، أعني كاتبها موسى بن أحمد لطف الله به: رأيت بدر الدين المذكور بدمشق وهو معيد عند والدي قدس الله روحه بالمدرسة العادلية السيفية وكان مقيماً بها، وتوفي بها في سنة اجتماعي به وهي سن ستين وستمائة رحمه الله تعالى، وعمري يومئذ عشر سنين، فإن مولدي وقت طلوع الشمس من نهار السبت حادي عشر صفر سنة إحدى وخمسين وستمائة بالقاهرة بالديار المصرية بحارة الباطلية بخط الجامع الأزهر ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 257 واختصره شمس الدين الخوبي المذكور، وسماه عرائس النفائس وصنف أشياء مستملحة على هذا الأسلوب. واشتغل عليه خلق كثير وانتفعوا به من جملتهم: نظام الدين أحمد ابن الشيخ جمال الدين أبي المجاهد محمود بن أحمد بن عبد السيد ابن عثمان بن نصر بن عبد الملك البخاري التاجري (1) الحنفي المعروف بالحصيري صاحب الطريقة المشهورة وغيره. وكان [العميدي] كريم الأخلاق كثير التواضع طيب العاشرة. وتوفي ليلة الأربعاء تاسع جمادى الآخرة سنة خمس عشرة وستمائة ببخارا، رحمه الله تعالى. (177) وتوفي شمس الدين الخوبي (2) المذكور يوم السبت سابع شعبان سنة سبع وثلاثين وستمائة بمدينة دمشق، ودفن بسفح جبل قاسيون، ومولده في شوال سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة، رحمه الله تعالى. (178) وتوفي أوحد (3) الدين بحلب عقيب أخذ التتر لقلعة حلب، وكان أخذ القلعة بعد أخذ البلد بتسعة وعشرين يوما، وأخذ البلد في عشر صفر سنة ثمان وخمسين وستمائة، ومولد أوحد الدين سنة ست وثمانين وخمسمائة، رحمهم الله تعالى. والعميدي: بفتح العين المهملة وكسر الميم وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها دال مهملة، ولا أعرف هذه النسبة إلى ماذا، ولاذكرها السمعاني. (179) ونظام الدين الحصيري (4) قتله التتر بمدينة نيسابور عند أول خروجهم   (1) التاجري: غير معجمة في ل ن. (2) ترجمة الخويي في ذيل الروضتين: 169. (3) تأخرت هذه الفقرة في ن فوقعت في آخر الترجمة، وسقطت من ت. (4) في جميع النسخ: ابن الحصيري؛ وانظر ترجمته في الجواهر المضية 1: 124 (الحصري) وذكر أن وفاته كانت سنة 698 وهو وهم؛ وذكر في ترجمة محمود بن أحمد أنه توفي سنة 636، وهو ما ذكره المؤلف في ترجمة الابن، وانظر تردمة محمود الحصيري (الابن) في ذيل الروضتين: 167. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 258 إلى البلاد، وذلك في سنة ست عشرة وستمائة، رحمه الله تعالى. (180) وكان ولده من أعيان العلماء، اجتمعت به عدة دفوع بدمشق، وكان يدرس بالمدرسة النووية ولم يكن في عصره من يقاربه في مذهب الإمام أبي حنيفة؛ وبلغني أنه كان ينكر على والده نظام الدين المذكور تضييع فكره وذهنه، وكان من أشد ذهنا وإدراكا وهو عند ذلك شاب، وكان ابنه يقول عنه لاقتصاره على المذهب فقط: أبي شيخ كودون؛ ومولد الحصيري ببخارا سنة ست وأربعين وخمسمائة في رجب، وتوفي ليلة الأحد الثامن من صفر سنة ست وثلاثين وستمائة بدمشق، ودفن من الغد بمقبرة الصوفية خارج باب النصر، وكان يقول: كان أبي يعرف بالتاجري (1) ، وإنما ببخارا محلة يعمل فيها الحصر، وكنا نحن بها. 604 - (2) محمد بن داود الظاهري أبو بكر محمد بن داود بن علي بن خلف الأصبهاني المعروف بالظاهري؛ كان فقيها أديبا شاعرا ظريفا، وكان يناظر أبا العباس ابن سريج - وقد سبق خبره معه في ترجمته (3) - ولما توفي أبوه في التاريخ المذكور في ترجمة جلس ولده أبو بكر المذكور في حلقته، وكان على مذهب والده، فاستصغروه، فدسوا أليه رجلا وقالوا له: سله عن حد السكر، فأتاه الرجل فسأله عن السكر: ما هو ومتى يكون الإنسان سكران. فقال: إذا عزبت عنه الهموم، وباح   (1) في الجواهر المضية (2: 155) ووالده يعرف بالتاجر. (2) ترجمته في الفهرست: 217 وتاريخ بغداد 5: 256 وطبقات الشيرازي: 175 والوافي 3: 58 وعبر الذهبي 2: 108 والشذرات 2: 226. (3) انظر ج 1: 66. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 259 بسره المكتوم؛ فاستحسن ذلك منه، وعلم موضعه من العلم، وصنف في عنفوان شبابه كتابه الذي سماه الزهرة وهو مجموع أدب فيه بكل غريبة ونادرة وشعر رائق. واجتمع يوما هو وأبو العباس ابن سريج في مجلس الوزير ابن الجراح فتناظرا في الإيلاء، فقال ابن سريج: أنت بقولك من كثرت لحظاته دامت حسراته أبصر منك في الإيلاء، فقال له أبو بكر: لئن قلت ذلك فإني أقول: أنزه (1) في روض المحاسن مقلتي ... وأمنع نفسي أن تنال محرما وأحمل من ثقل الهوى ما لو أنه ... يصب على الصخر الأصم تهدما وينطق طرفي عن مترجم خاطري ... فلولا اختلاسي رده لتكلما رأيت الهوى دعوى من الناس كلهم ... فما إن أرى حبا صحيحا مسلما فقل له ابن سريج: وبم تفتخر علي ولو شئت أنا لقلت: ومساهر بالغنج من لحظاته ... قد بت أمنعه لذيذ سناته ضنا بحسن حديثه وعتابه ... وأكرر اللحظات في وجناته حتى إذا ما الصبح لاح عموده ... ولي بخاتم ربه وبراته فال أبو بكر: يحفظ الوزير عليه ذلك حتى يقيم شاهدي عدل انه ولي بخاتم ربه، فقال أبو العباس ابن سريج: يلزمني في ذلك ما يلزمك في قولك: أنزه في روض المحاسن مقلتي ... وأمنع نفسي أن تنال محرما فضحك الوزير وقال: لقد جمعتما ظرفا ولطفا وفهما وعلما. ورأيت في بعض المجاميع هذه الأبيات منسوبة إليه: لكل امرئ ضيف يسر بقربه ... وما لي سوى الأحزان والهم من ضيف له مقلة ترمي القلوب بأسهم ... أشد من الضرب المدارك بالسيف   (1) الوافي: أكرر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 260 يقول خليلي: كيف صبرك بعدنا ... فقلت: وهل صبر فاسأل عن كيف وحكى أبو بكر عبد الله بن أبي الدنيا أنه حضر مجلس محمد المذكور قال: فجاءه رجل فوقف عليه ورفع له رقعة، فأخذها وتأملها طويلا وظن تلامذته أنها مسألة، ثم قلبها وكتب على ظهرها وردها إلى صاحبها، فنظرنا فإذا الرجل علي بن العباس المعروف بابن الرومي الشاعر المشهور، وإذا في الرقعة (1) : يا ابن داود يا فقيه العراق ... أفتنا في قواتل الأحداق هل عليهن في الجروح قصاص ... أم مباح لها دم العشاق وإذا الجواب: كيف يفتنكم قتيل صريع ... بسهام الفراق والإشتياق وقتيل التلاق أحسن حالا ... عند داود من قتيل الفراق وكان عالما في الفقه وله تصانيف عديدة: منها كتاب الوصول إلى معرفة الأصول وكتاب الإنذار وكتاب الإعذار (2) وكتاب الإنتصار على محمد ابن جرير وعبد الله بن شرشي وعيسى بن إبراهيم الضرير وغير ذلك. وتوفي يوم الاثنين تاسع (3) شهر رمضان سنة سبع وتسعين ومائتين وعمره اثنان وأربعون سنة، وقيل كانت وفاته سنة ست وتسعين، والأول أصح وفي يوم وفاته توفي يوسف بن يعقوب القاضي، رحمهما الله تعالى. ويحكى أنه لما بلغت وفاته (4) ابن سريج كان يكتب شيئا فألقى الكراسة من يده وقال: مات من كنت أحث نفسي وأجهدها على الاشتغال لمناظرته ومقاومته.   (1) الوافي 3: 60. (2) ن: وكتاب الأنذار والأعذار؛ س: وكتاب الأعتذار. (3) ت س: سابع. (4) ر: بلغه الخبر بوفاة؛ لي: بلغته وفاة؛ وهذا خطأ لأن ابن داود توفي قبل ابن سريج. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 261 (1) 605 الطرطوشي أبو بكر محمد بن الوليد بن محمد بن خلف بن سليمان بن أيوب القرشي الفهري الأندلسي الطرطوشي الفقيه المالكي الزاهد، المعروف بابن أبي رندقة؛ صحب أبا الوليد الباجي - المقدم ذكره (2) - بمدينة سرقسطة، وأخذ عنه مسائل الخلاف وسمع منه، وأجاز له (3) ،وقرأ الفرائض والحساب بوطنه، وقرأ الأدب على أبي محمد ابن حزم - المقدم ذكره - بمدينة إشبيلية، ورحل إلى المشرق سنة ست وسبعين وأربعمائة وحج ودخل بغداد والبصرة، وتفقه على أبي بكر محمد بن أحمد الشاشي المعروف بالمستظهري الفقيه الشافعي - وقد تقدم ذكره - وعلى أبي أحمد (4) الجرجاني، وسكن الشام مدة ودرس بها. وكان إماما عالما كامل زاهدا ورعا دينا متواضعا متقشفا متقلالا من الدنيا راضيا منها باليسير، وكان يقول: إذا عرض لك أمران دنيا وأمر أخرى فبادر بأمر الأخرى يحصل لك أمر الدنيا والأخرى، وكان كثيرا ما ينشد: إن لله عبادا فطنا ... طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا فكروا فيها فلما علموا ... أنها ليست لحي وطنا جعلوها لجة واتخذوا ... صالح الأعمال فيها سفنا   (1) ترجمته في الصلة: 545 والمغرب 2: 242 وبغية الملتمس رقم 295 والديباج المذهب: 276 وحسن المحاضرة 1: 192 وعبر الذهبي 4: 48 والشذرات 4: 62 ونفح الطيب 2: 85 وأزهار الرياض 3: 162. (2) انظر ج 2: 208.. (3) ر: وأجازه. (4) ل لي س: أبي العباس. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 262 ولما دخل على الأفضل شاهنشاه ابن امير الجيوش - المقدم ذكره في حرف الشين (1) - بسط مئزرا كان معه (2) وجلس عليه، وكان إلى جانب الأفضل رجل نصراني فوعظ الأفضل حتى بكى، وأنشد: يا ذا الذي طاعته قربة وحقه مفترض واجب إن الذي شرفت من أجله يزعم هذا أنه كاذب وأشار إلى النصراني، فأقام الأفضل من موضعه. وكان الأفضل قد أنزل الشيخ في مسجد شقيق الملك بالقرب من الرصد (3) وكان يكرهه، فلما طال مقامه به ضجر وقال لخادمه: إلى متى نصبر اجمع لي المباح، فجمع له فأكله ثلاثة أيام، فلما كان عند صلاة المغرب قال لخادمه: رميته الساعة، فلما كان من الغد ركب الأفضل فقتل، وولي بعده المأمون بن البطائحي، فأكرم الشيخ إكراما كثيرا، وصنف له كتاب سراج الهدى وهو حسن في بابه. وله من التصانيف سراج الملوك وكتاب بر الوالدين وكتاب الفتن وغير ذلك (4) ، وله طريقة في الخلاف. ورأيت أشعارا منسوبة عليه: فمن ذلك وقد ذكرها الحافظ زكي الدين عبد العظيم المنذري في الترجمة التي جمعها للطرطوشي المذكور، وهي: إذا كنت في حاجة مرسلا ... وأنت بإنجازها مغرم فأرسل بأكمه خلابة ... به صمم أغطش أبكم ودع عنك كل رسول سوى ... رسول يقال له الدرهم وقد سبق في ترجمة أبي الحسين أحمد بن فارس اللغوي بيتان يشتملان على أكثر ألفاظ (5) هذه الإبيات، وهما:   (1) انظر ج 3: 448. (2) ن: معه تحته. (3) ن: بقرب الرصد. (4) ر ل لي ت: وله التصانيف (لي الحسان؛ ن: الحسنة) منها سراج الملوك وغيره. (5) س: معنى ألفاظ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 263 إذا كنت في حاجة مرسلا ... وأنت بها كلف مغرم فأرسل حكيما ولا توصه ... وذاك الحكيم هو الدرهم [وقال الطرشوشي المذكور: كنت ليلة نائما في بيت المقدس، فبننا أنا في جنح الليل غذ سمعت صوتا حزينا ينشد: أخوف ونوم إن ذا لعجب ... ثكلتك من قلب فأنت كذوب أما وجلال الله لو كنت صادقا ... لما كان للاغماض منك نصيب قال: فأيقظ النوام وابكى العيون] (1) . وكانت ولادة الطرشوشي المذكور سنة إحدى وخمسين وأربعمائة تقريبا. وتوفي ثلث الليل الأخير من ليلة السبت لأربع بقين من جمادى الأولى سنة عشرين وخمسمائة بثغر الإسكندرية، وصلى عليه ولده محمد، ودفن في مقبرة وعلة قريبا من البرج الجديد قبلي الباب الأخضر، رحمه الله تعالى؛ وذكر ابن بشكوال في كتاب الصلة أنه توفي في شعبان من السنة المذكورة. [قلت: هكذا وجدت تاريخ وفاة هذا الشيخ في مواضع كثيرة، ثم ظفرت بدمشق في أوائل سنة ثمانين وستمائة بمشيخة جمعت لشيخنا القاضي بهاء الدين يوسف المعروف بابن شداد - المذكور في حرف الياء - ذكر فيها شيوخه الذين سمع عليهم ثم ذكر بعدهم الشيوخ الذين أجازوه فذكر في جملتهم الشيخ أبا بكر الطرشوشي المذكور؛ ولاخلاف أن ابن شداد مولده في سنة تسع وثلاثين وخمسمائة، فكيف يجيزه الطرطوشي ووفاته في سنة عشرين وخمسمائة فقد توفي قبل مولد ابن شداد بتسع عشرة سنة، وكان يمكن أن يقال: ربما وقع الغلط من الذي جمع المشيخة، لكن هذه النسخة التي رأيتها قرئت عليه، وكتب خطه عليها بالسماء فما بقي الغلط منسوبا إلى جامع المشيخة، بل يحتاج هذا إلى التحقيق من جهة أخرى وقد نبهت عليه ليكتشف عن ذلك من يقف عليه، ولا ينسبني إلى الغلط في ذلك، والله أعلم بالصواب] (2) .   (1) انفردت به ر. (2) انفردت ر بما وضع بين معقفين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 264 والطرطوشي: بضم الطاءين المهملتين بينهما راء ساكنة وبعدها واو ساكنة ثم شين معجمة، هذه النسبة إلى طرطوشة (1) ، وهي مدينة في آخر بلاد المسلمين بالأندلس على ساحل البحر وهي شرق الأندلس. ورندقة: بفتح الراء وسكون النون وفتح الدال المهملة والقاف، وهي لفظة فرنجية، سألت بعض الفرنج عنها فقال: معناها رد تعال (2) . وقد تقدم الكلام على وعلة في ترجمة الحافظ أبيطاهر أحمد بن محمد السلفي رحمه الله تعالى. (3) 606 أبو الهذيل العلاف أبو الهذيل محمد الهذيل بن عبد الله بن مكحول العبدي، المعروف المتكلم؛ كان شيخ البصريين في الاعتزال، ومن أكبر علمائهم، وهو صاحب مقالات في مذهبهم ومجالس ومناظرات، وهو مولى عبد القيس (4) . وكان حسن الجدال قوي الحجة كثير الاستعمال للأدلة (5) والإلزامات. حكي أنه لقي صالح بن عبد القدوس، وقد مات له ولد وهو شديد الجزع عليه، فقال له أبو الهذيل: لاأعرف لجزعك عليه وجها، إذ كان الإنسان عندك   (1) طرطوشة (Tortosa) . (2) ن: زنقال. (3) ترجمته في تاريخ بغداد 3: 366 وموضاع متفرقة من مقالات الإسلاميين والفرق بين الفرق ومختصره، ومروج الذهب 2: 298 وأمالي المرتضى 1: 178 والأنتصار: 179 وطبقات المعتزلة: 44 ونكت الهميان: 177 والشذرات 2: 85 ولسان الميزان 5: 413 وروضات الجنات: 158. (4) وهو ... القيس: وقعت بعد لفظة " الأعتدال " في ن. (5) ن: للأدلة القاطعة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 265 كالزرع، قال صالح: ياأبا الهذيل، إنما أجزع عليه لأنه لم يقرأ كتاب الشكوكفقال له: كتاب الشكوك ما هو يا صالح قال: هو كتاب قد وضعته من قرأه يشك فيما كان حتى يتوهم أنه لم يكن، ويشك فيما لم يكن حتى يتوهم أنه قد كان، فقال له أبو الهذيل: فشك أنت في موت ابنك، واعمل على انه لم يمت، وإن كان قد مات، وشك أيضا في قراءته كتاب الشكوك وإن كان لم يقرأه. ولأبي الهذيل كتاب يعرف بميلاس وكان ميلاس رجلا مجوسيا فأسلم وكان سبب إسلامه أنه جمع بين أبي الهذيل المذكور وجماعة من التنويه، فقطعهم أبو الهذيل، فأسلم ميلاس عند ذلك. وكان (1) قد اجتمع عند يحيى بن خالد البرمكي جماعة من أرباب الكلام فسألهم عن حقيقة العشق، فتكلم كل واحد بشيء، وكان أبو الهذيل المذكور في جملتهم، فقال: أيها الوزير، العشق يختم على النواظر ويطبع على الأفئدة، مرتعة في الأجسسام ومشرعة في الأكباد، وصاحبه متصرف الظنون متفنن الأوهام، لايصفو له مرجو (2) ولايسلم له موعود، تسرع إليه النوائب. وهو جرعة من نقيع الموت ونقعة من حياض الثكل، غير أنه من أريحية تكون في الطبع وطلاوة توجد في الشمائل، وصاحبه جواد لايصغي إلى داعية المنع ولا يصيخ لنازع العذل. وكان المتكلمون ثلاثة عشر شخصا، وأبو الهذيل ثالث من تكلم منهم، ولولا خوف الإطالة لذكرت كلام الجميع. ورأيت في بعض المجاميع أن أعرابية وصفت العشق (3) ، فقلت في صفته: خفي عن أن يرى وجل عن أن يخفى، فهو كامن ككمون النار في الحجر: إن قدحته أورى وإن تركته توارى، وإن لم يكن شعبة من الجنون فهو عصارة السحر. وكانت ولادة أبي الهذيل سنة إحدى - وقيل أربع، وقيل خمس - وثلاثين   (1) ر بر من: وعرض لأبي الهذيل رجل وكان ... الخ. (2) ر س: موجود. (3) س: العشق بكلام. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 266 ومائة. وتوفي سنة خمس وثلاثين ومائتين بسر من رأى؛ وقال الخطيب البغدادي توفي سنة ست وعشرين، وقال المسعودي في كتاب مروج الذهب: إنه توفي سنة سبع وعشرين ومائتين، رحمه الله تعالى (1) ، وكان قد كف بصره وخرف في آخر عمره، إلا أنه كان لايذهب عليه شيء من الأصول، لكنه ضعف عن مناهضة المناظرين وحجاج المخالفين، وضعف خاطره. (2) 607 أبو علي الجبائي أبو علي محمد بن عبد الوهاب بن سلام بن خالد بن جمران بن أبان، مولى عثمان بن عفان، رضي الله عنه، المعروف بالجبائي أحد أئمة المعتزلة؛ كان إماما في علم الكلام، وأخذ هذا العلم عن أبي يوسف يعقوب بن عبد الله الشحام البصري رئيس المعتزلة بالبصرة في عصره، وله في مذهب الاعتزاك مقالات مشهورة، وعنه أخذ الشيخ أبو الحسن الأشعري شيخ السنة علم الكلام، وله معه مناظرة روتها (3) العلماء، فيقال إن أبا الحسن (4) المذكور سأل أستاذه أبا علي الجبائي عن ثلاثة إخوة: أحدهم كان مؤمنا برا تقيا، والثاني كان كافرا فاسقا شقيا، والثالث كان صغيرا، فماتوا فكيف حالهم فقال الجبائي: أما الزاهد ففي الدرجات، وأما الكافر ففي الدركات، وأما الصغير فمن أهل السلامة، فقال الأشعري:   (1) هنا تنتهي الترجمة في ت. (2) انظر في أخباره وترجمته صفحات متفرقة من مقالات الإسلاميين والفرق بين الفرق ومختصرة، والمنتظم 6: 137 وطبقات السبكي 2: 250 (مناظرة بينه وبين الأشعري) وطبقات المعتزلة: 80 والأنساب 3: 186 وروضات الجنات: 161 والشذرات 2: 241. (3) ن: دونها؛ وقد تقرأ كذلك في المختار. (4) زاد في س: الأشعري شيخ السنة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 267 إن أراد الصغير أن يذهب إلى درجات الزاهد هل يؤذن له فقال الجبائي: لا، لأنه يقال له: إن أخاك إنما وصل إلى هذه الدرجات بسبب طاعاته الكثيرة، وليس لك تلك الطاعات، فقال الأشعري: فإن قال ذلك الصغير: التقصير ليس مني، فإنك ما أبقيتني ولا أقدرتني على الطاعة، فقال الجبائي: يقول الباري جل وعلا: كنت أعلم أنك لو بقيت لعصيت وصرت مستحقا للعذاب الأليم، فراعيت مصلحتك، فقال الأشعري: فلو قال الأخ الكافر: ياإله العالمين، كما علمت حاله فقد علمت حالي، فلم راعيت مصلحته دوني فقال الجبائي للأشعري: انك لمجنون فقال لا بل وقف حمار الشيخ في العقبة (1) فانقطع الجبائي وهذه المناظرة دالة على أن الله تعالى خص من شاء برحمته، وخص آخر بعذابه، وأن أفعاله غير معللة بشيء من الأغراض (2) . ثم وجدت في تفسير القرآن العظيم تصنيف الشيخ فخر الدين الرازي في سورة الأنعام: أن الأشعري لما فارق مجلس الأستاذ (3) الجبائي وترك مذهبه وكثر اعتراضه على أقاويله عظمت الوحشة بينهما، فاتفق يوما أن الجبائي عقد مجلس التذكير، وحضر عنده عالم من الناس، فذهب الأشعري إلى ذلك المجلس، وجلس في بعض النواحي مختفيا عن الجبائي، وقال لبعض من حضره (4) من النساء: أنا أعلمك مسألة فاذكريها لهذا الشيخ، ثم علمها سؤالا بعد سؤال، فلما انقطع الجبائي في الأخير رأى الأشعري، فعلم أن المسألة منه لا من العجوز. ورأيت في كتاب المسالك والممالك لابن حوقل (5) في فصل خوزستان أن جبى مدينة ورستاق عريض مشتبك العمائر (6) بالنخل وقصب السكر وغيرهما. قال: ومنها أبو علي الجبائي الشيخ الجليل إمام المعتزلة ورئيس المتكلمين في عصره.   (1) انفردت به س. (2) ل س ت والمختار: الأعراض؛ ن: معللة بالأغراض. (3) ر: أستاذه. (4) ر: حضر هناك. (5) صورة الأرض: 221. (6) ابن حوقل: ولها رستاق ... العمارة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 268 وكانت ولادة الجبائي في سنة خمس وثلاثين ومائتين. وتوفي في شعبان سنة ثلاث وثلثمائة، رحمه الله تعالى. وقد سبق ذكر ولده أبي هاشم عبد السلام، والكلام على الجبائي في حرف العين (1) . 608 - (2) أبو بكر الباقلاني القاضي أبو بكر محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر بن القسم، المعروف بالباقلاني البصري المتكلم المشهور؛ كان على مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري، ومؤيدا اعتقاده وناصرا طريقته، وسكن بغداد، وصنف التصانيف الكثيرة المشهورة في علم الكلام وغيره (3) ، وكان في علمه أوحد زمانه وانتهت إليه الرياسة في مذهبه، وكان موصوفا بجوده الاستنباط وسرعة الجواب، وسمع الحديث؛ وكان كثير التطويل في المناظرة مشهورا بذلك عند الجماعة، وجرى يوما بينه وبين أبي سعيد الهاروني مناظرة، فأكثر القاضي أبو بكر المذكور فيها الكلام ووسع العبارة وزاد في الإسهاب، ثم التفت إلى الحاضرين وقال اشهدوا على أنه إن أعاد ما قلت لاغير لم أطالبه بالجواب، فقال الهاروني: اشهدوا علي أنه إن أعاد كلام نفسه سلمت له ما قال. وتوفي القاضي أبو بكر المذكور آخر يوم السبت، ودفن يوم الأحد لسبع   (1) انظر ج 3: 183. (2) ترجمته في تاريخ سبغداد 5: 379 وترتيب المدارك 4: 585 وتبيين كذب المفتري: 217 والوافي 3: 177 والديباج المذهب: 267 والمنتظم 7: 265 وعبر الذهبي 3: 86 والشذرات 3: 168. (3) وغيره: سقطت من س ل لي بر من ووقعت بعد لفظة " مذهبه ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 269 بقين من ذي القعدة سنة ثلاث وأربعمائة ببغداد، رحمه الله تعالى، وصلى عليه ابنه الحسن، ودفنه في داره بدرب المجوس، ثم نقل بعد ذلك فدفن في مقبرة باب حرب. ورثاه بعض شعراء عصره بقوله: انظر إلى جبل تمشي الرجال به ... وانظر إلى القبر مايحوي من الصلف وانظر إلى صارم الإسلام مغتمدا ... وانظر إلى درة الإسلام في الصدف والباقلاني: بفتح الباء الموحدة وبعد الألف قاف مكسورة ثم لام ألف وبعدها نون، هذه النسبة إلى الباقلي وبيعه، وفيه لغتان: من شدد اللام قصر الألف ومن خفتها مد الألف فقال: باقلاء، وهذه النسبة شاذة لأجل زيادة النون فيها، وهو نظير قولهم في النسبة إلى صنعاء صنعاني، وإلى بهراء: بهرانين وقد أنكر الحريري في كتاب درة الغواص (1) هذه النسبة وقال: من قصر الباقلي قال في النسبة إليه: باقلي، ومن مد قال في النسب إليه (2) : باقلاوي وباقلائي ولايقاس على صنعاء وبهراء، لأن ذلك شاذ لايعاج إليه، والسمعاني ما أنكر النسبة الأولى (3) ، والله أعلم بالصواب.   (1) درة الغواص: 84. (2) الدرة: ومن مد الباقلاء جاوز في النسب إليه. (3) انظر الأنساب 2: 52. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 270 (1) 609 أبو الحسين البصري أبو الحسين محمد بن علي بن (2) الطيب البصري المتكلم على مذهب المعتزلة؛ وهو أحد أئمتهم لأعلام المشار إليه في هذا الفن، كان جيد الكلام مليح العبارة غزير المادة، إمام وقته، وله التصانيف الفائقة في أصول الفقه، منه المعتمد وهو كتاب كبير، ومنه أخذ فخر الدين الرازي كتاب المحصول وله تصفح الأدلة في مجلدين، وغرر الأدلة في مجلد كبير، وشرح الأصول الخمسة وكتاب في الإمامة، وغير ذلك في أصول الدين، وانتفع الناس بكتبه (3) . وسكن بغداد وتوفي بها يوم الثلاثاء خامس شهر ربيع الآخر سنة ست وثلاثين وأربعمائة، رحمه الله تعالى، ودفن في مقبرة الشونيزي، وصلى عليه القاضي أبو عبد الله الصيمري. ولفظة المتكلم تطلق على من يعرف علم الكلام، وهو أصول الدين، وإنما قيل له " علم الكلام " لأن أول خلاف وقع في الدين كان في كلام الله، عز وجل: أمخلوق هو أم غير مخلوق فتكلم الناس فيه، فسمي هذا النوع من العلم كلاما، اختص به وإن كانت العلوم جميعها تنشر بالكلام، هكذا قاله السمعاني (4) .   (1) ترجمته في تاريخ بغداد 3: 100 والمنتظم 8: 126 وطبقات المعتزلة: 118 ولسان الميزان 5: 298 وعبر الذهبي 3: 187 والشذرات 3: 259. (2) زيادة من ل لي والمختار، وكذلك هو في عبر الذهبي. (3) س: تفسر؛ لي ن: تنتشر؛ ل: تسن. (4) كتب بهامش ن التعليق التالي: قوله: لأن أول خلاف وقع في الدين كان مسألة الكلام، ليس كذلك، بل كان قبلها الخلاف في مسألة العلم، وقول من قال: الأمر أنف، وكان هذا في زمن عبد الله بن عمر كما ثبت في الصحيح، وقيل إن علي بن أبي طالب رضي الله عنه سمع هذه المقالة وأنكرها كما ذكر ابن عبد البر في في كتاب العلم، فأما مسألة الكلام فكان النزاع فيها بعد المائتين في خلافة المأمون. وإنما قيل لهم " أهل الكلام " لكثرة كلامهم واعتراض بعضهم على بعض، وقيل غير ذلك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 271 610 - (1) أبو بكر ابن فورك الأستاذ أبو بكر محمد بن الحسن بن فورك المتكلم الأصولي الأديب النحوي الواعظ الصبهاني؛ أقام بالعراق مدة يدرس العلم، ثم توجه إلى الري فسمعت به المبتدعة، فراسله أهل نيسابور والتمسوا منه التوجه إليهم، ففعل وورد نيسابور، فبنى له بها مدرسة ودارا، وأحيا الله تعالى به أنواعا من العلوم، ولما استوطنها وظهرت بركاته على جماعة المتفقهة وبلغت مصنفاته في أصول الفقه والدين ومعاني القرآن قريبا من مائة مصنف، دعي إلى مدينة غزنة وجرت له بها مناظرات كثيرة. ومن كلامه: شغل العيال نتيجته متابعة الشهوة بالحلال، فما ظنك بقضية شهوة الحرام وكان شديد الرد على أصحاب أبي عبد الله ابن كرام. ثم عاد إلى نيسابور فسم في الطريق فمات هناك ونقل إلى نيسابور ودفن بالحيرة، ومشهده بها ظاهر يزار ويستسقى به وتجاب الدعوة عنده، وكانت وفاته سنة ست وأربعمائة، رحمه الله تعالى. وقال أبو القاسم القشيري في الرسالة (2) سمعت أبا علي الدقاق يقول: دخلت على أبي بكر ابن فورك عائدا فلما رآني دمعت عيناه، فقلت له: إن الله سبحانه يعافيك ويشفيك، فقال لي: ترامي أخاف من الموت، إنما أخاف مما وراء الموت.   (1) ترجمته في الوافي 2: 344 وتبيين كذب المفتري: 232 وطبقات السبكي 3: 52 واللباب (الفوركي) والنجوم الزاهرة 4: 240 وعبر الذهبي 3: 95 والشذرات 3: 181. (2) الرسالة القشيرية: 310. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 272 وفورك: بضم الفاء وسكون الواو وفتح الراء وبعدها كاف، وهو اسم علم. والحيرة: بكسر الحاء المهملة وسكون الياء المثناة من تحتها وفتح الراء وبعدها هاء ساكنة، وهي محلة كبيرة بنيسابور ينسب إليها جماعة من أهل العلم، وهي تلتبس بالحيرة التي بظاهر الكوفة. وغزنة: بفتح الغين المعجمة وسكون الزاي وفتح النون بعدها هاء ساكنة، وهي مدينة عظيمة في أوائل الهند من جهة خراسان. 611 - (1) الشهرستاني أبو الفتح محمد بن أبي القاسم عبد الكريم بن أبي بكر أحمد الشهرستاني المتكلم على مذهب الأشعري؛ كان إماما مبرزا فقيها تفقه على أحمد الخوافي - المقدم ذكره (2) - وعلى أبي نصر القشيري وغيرهما، وبرع في الفقه، وقرأ الكلام على أبي القاسم الأنصاري وتفرد فيه، وصف كتبا منها كتابنهاية الإقدام في علم الكلام وكتاب الملل والنحلوالمناهج والبينات وكتاب المضارعة (3) وتلخيص الإقسام لمذاهب الأنام وكان كثير المحفوظ حسن المحاورة يعظ الناس، ودخل بغداد سنة عشروخمسمائة وأقام بها ثلاث سنين، وظهر له قبول كثير عند العوام، وسمع الحديث من علي بن أحمد المديني بنيسابور ومن غيره، وكتب عنه الحافظ أبو سعد عبد الكريم السمعاني، وذكره في كتاب " الذيل ".   (1) ترجمته في الوافي 3: 278 وطبقات السبكي 4: 78 ولسان الميزان 5: 263 ومعجم البلدان: (شهرستان) وعبر الذهبي 4: 132 والشذرات 4: 149. (2) انظر ج1: 96. (3) زيادة من ر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 273 وكانت ولادته سنة سبع وستين وأربعمائة بشهرستان، هكذا وجدته بخطي في مسودتين وما أدري من أين نقلته، وقال ابن السمعاني في كتاب الذيل: سألته عن مولده فقال: في سنة تسع وسبعين وأربعمائة وتوفي بها أيضا في أواخر شعبان سنة ثمان وأربعين وخمسمائة، وقيل سنة تسع وأربعين، والأول أصح، رحمه الله تعالى. وذكر في أول كتاب نهاية الإقدام المذكور بيتين وهما: لقد طفت في تلك المعاهد كلها ... وسيرت طرفي بين تلك المعالم فلم أر إلا واضعا كف حائر ... على ذقن أو قارعا سن نادم ولم يذكر لمن هذان البيتان، وقال غيره: هما لأبي بكر محمد بن باجة المعروف بابن الصائغ الأندلسي - الآتي ذكره إن شاء الله تعالى. وشهرستان: بفتح الشين المعجمة وسكون الهاء وفتح الراء وسكون السين المهملة وفتح التاء المثناة من فوقها (1) وبعد الألف نون، وهو اسم لثلاث مدن: الأولى: شهرستان خراسان بين نيسابور وخوارزم في آخر حدود (2) خراسان وأول الرمل المتصل بناحية خوارزم وهي المشهورة، ومنها أبو الفتح محمد المذكور، وأخرجت خلقا كثيرا من العلماء، وبناها عبد الله بن طاهر أمير خراسان - المقدم ذكره - في خلافة المأمون. الثانية: شهراستان قصبة ناحية سابور (3) من أرض فارس، كما ذكره ابن البناء البشاري (4) . الثالثة: مدينة جي بأصبهان يقال لها شهراستان، بينها وبين اليهودية مدينة أصبهان اليوم نحو ميل، بها أسواق، وهي على نهر زرندود وبها قبر الإمام الراشد بن المسترشد.   (1) ر: المثناة الفوقية. (2) ر: بلاد. (3) ل لي س: بنيسابور. (4) أحسن التقاسيم: 287. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 274 وشهرستان لفظة عجمية وهي مركبة، فمعنى شهر مدينة، ومعنى الاستان الناحية، فكأنه قال: مدينة الناحية - ذكر ذلك كله أبو عبد الله ياقوت الحموي في كتابه الذي سماه " المشترك وضعا المختلف صعقا " (1) وفي بعضه زيادة على ماذكره ياقوت. وكان الشهرستان المذكور يروي بالإسناد إلى الكظام البلخي العالم المشهور، واسمه إبراهيم بن سيار، أنه كان يقول: لو كان للفراق صورة لارتاع لها القلوب ولهد الجبال، ولجمر الغضى أقل توجها من حمله، ولو عذب الله أهل النار بالفراق لاستراحوا إلى ماقبله من العذاب. وكان يروى للدريدي أيضا باتصال الإسناد إليه قوله: ودعته حين لاتودعه ... روحي ولكنها تسير معه ثم افترقنا وفي القلوب لنا ... ضيق مكان وفي الدموع سعة وكان يروي للدريدي (2) أيضا مسندا إليه: يا راحلين بمهجة ... في الحب متلفة شقيه الحب فيه بلية ... وبليتي فوق البلية كل ذلك رواه الحافظ أبو سعد ابن السمعاني في كتاب الهذيل ثم قال في آخر الترجمة: وصل إلي نعيه وأنا ببخارا، رحمه الله تعالى.   (1) المشترك: 279. (2) س: الدريدي؛ والصورة نفسها في النسخ الأخرى مع اضطراب في الأعجام. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 275 (1) 612 محمد بن إسحاق أبو بكر، وقيل أبو عبد الله، محمد بن إسحاق بن يسار بن خيار (2) ، وقيل يسار بن كوتان (3) المطلبي بالولاء المديني صاحب المغازي والسير كان جده يسار مولى قيس بن مخرمة بن المطلب بن عبد مناف القرشي، سباه خالد بن الوليد من عين التمر، وكان محمد المذكور ثبتا في الحديث عند أكثر العلماء، وأما في المغازي والسير فلاتجهل إمامته فيها، قال ابن شهاب الزهري: من أراد المغازي فعليه بابن إسحاق وذكره البخاري في تاريخه؛ وروي عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال: من اراد أن يتبحر في المغازي فهو عيال على ابن إسحاق. وقال سفيان بن عيينة: ما أدركت أحدا يتهم ابن إسحاق في حديثه. وقال شعبة بن الحجاج: محمد بن إسحاق أمير المؤمنين، يعنى في الحديث. ويحكى عن الزهري أنه خرج إلى قرية فاتبعه طلاب الحديث فقال لهم: أين أنتم من الغلام الأحول أو قد خلفت فيكم الغلام الأحول، يعني ابن إسحاق. وذكر الساجي أن أصحاب الزهري كانوا يلجؤون إلى محمد بن إسحاق فيما شكوا فيه من حديث الزهري، ثقة منهم بحفظه؛ وحكي عن يحيى بن معين وأحمد بن   (1) أخباره وترجمته في طبقات ابن سلام: 8، 11، 206 وطبقات ابن سعد 7: 321 وتاريخ بغداد 1: 214 والمعارف: 491 والفرست: 92 ومعجم الأدباء: 18: 5 وتذكرة الحفاظ: 172 وميزان الاعتدال 3: 468 وتهذيب التهذيب 9: 38 وعيون الأثر 1: 10 - 17 وليوهان فك كتاب عنه (فرنكفورت 1925) وانظر كتاب تراجم رجال روى عنهم ابن إسحاق، نشر فيشر (ليدن 1890) . (2) كذا في س وتاريخ بغداد، ر: خيسارة، ن: حيوة، لي: حنار، ودون اعجام في ل بر من. (3) س لي ن بر: كوثان، ودون إعدام في ل، وأثبتنا ما في ر وتاريخ بغداد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 276 حنبل ويحيى بن سعيد القطان أنهم وثقوا محمد بن إسحاق واحتجوا بحديثه، وإنما لم يخرج البخاري عنه وقد وثقه، وكذلك مسلم بن الحجاج لم يخرج عنه إلا حديثا واحدا في الرجم طعن مالك بن أنس فيه، وإنما طعن مالك فيه لأنه بلغه عنه أنه قال: هاتوا حديث مالك فأنا طبيب بعلله، فقال مالك: وما ابن إسحاق إنما هو دجال من الدجاجلة، نحن أخرجناه من المدينة؛ يشير - والله أعلم - إلى أن الدجال لايدخل المدينة. وكان محمد بن إسحاق قد أتى أبا جعفر المنصور وهو بالحيرة فكتب له المغازي فسمع منه أهل الكوفة بذلك السبب، وكان يروي عن فاطمة بنت المنذر بن الزبير، وهي امرأة هشام بن عروة بن الزبير، فبلغ ذلك هشاما فأنكره وقال: أهو كان يدخل على امرأتي وحكى الخطيب أبو بكر أحمد ابن علي بن ثابت في تاريخ بغداد (1) أن محمد بن إسحاق رأى أنس بن مالك رضي الله عنه، وعليه عمامة سوداء والصبيان خلفه يشتدون ويقولون (2) : هذا رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لايموت حتى يلقى الدجال. وتوفي محمد بن إسحاق ببغداد سنة إحدى وخمسين ومائة، وقيل سنة خمسين، وقيل سنة اثنتين وخمسين، وقال خليفة بن خياط: سنة ثلاث وخمسين، وقيل أربع وأربعين والله أعلم، والأول أصح رحمه الله تعالى. ودفن في مقبرة الخيزران بالجانب الشرقي، وهي منسوبة إلى الخيزران أم هارون الشيد وأخيه الهادي، وإنما نسبت إليها لأنها مدفونة بها، وهذه المقبرة أقدم المقابر التي بالجانب الشرقي. ومن كتبه أخذ عبد الملك بن هشام سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد تقدم ذكره، وكذلك كل من تكلم في هذا الباب فعليه اعتماده وإليه إسناده. والمطلبي: نسبة إلى المطلب بن عبد مناف المذكور أولا. وقد تقدم الكلام (3) على عين التمر في ترجمة أبي العتاهية.   (1) تاريخ بغداد 1: 217. (2) ر: ينشدون ويقولون. ن: ينشدون. (3) ر: القول. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 277 613 - (1) الترمذي أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة بن موسى الضحاك السلمي الضرير البوغي الترمذي الحافظ المشهور؛ أحد الأئمة الذين يقتدى بهم في علم الحديث. صنف كتاب الجامع والعلل تصنيف رجل متقن، وبه كان يضرب المثل، وهو تلميذ أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، وشاركه في بعض شيوخه مثل قتيبة بن سعيد وعلي بن حجر وابن بشار وغيرهم. وتوفي لثلاث عشرة ليلة خلت من رجب ليلة الاثنين سنة تسع وسبعين ومائتين بترمذ، وقال السمعاني: توفي بقرية بوغ في سنة خمس وسبعين ومائتين، وذكره في كتاب الأنساب في نسبه البوغي، رحمه الله تعالى. وبوغ: بضم الباء الموحدة وسكون الواو وبعدها غين معجمة، وهي قرية من قرى ترمذ على ستة فراسخ منها. وقد تقدم الكلام على الترمذي، والاختلاف في كسر التاء وضمها وفتحها في ترجمة أبي جعفر محمد بن أحمد الفقيه الشافعي.   (1) ترجمته في الفهرست: 233 والوافي 4: 294 والأنساب 3: 42 وتذكرة الحفاظ: 633 وميزان الاعتدال 3: 678 وعبر الذهبي 2: 64 ونكت الهميان: 264 وتهذيب التهذيب 9: 387 والنجوم الزاهرة 3: 8 والشذرات 2: 174 وانظر بروكلمان 3: 190 (الترجمة العربية) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 278 (1) 614 ابن ماجه أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجه الربعي بالولاء القزويني الحافظ المشهور، مصنف كتاب السنن في الحديث؛ كان إماما في الحديث عارفا بعلومه وجميع ما يتعلق به، ارتحل إلى العراق والبصرة والكوفة وبغداد ومكة والشام ومصر والري لكتب (2) الحديث، وله تفسير القرآن الكريم وتاريخ مليح، وكتابه في الحديث أحد الصحاح الستة. وكانت ولادته سنة تسع ومائتين. وتوفي يوم الاثنين، ودفن يوم الثلاثاء، لثمان بقين من شهر رمضان سنة ثلاث وسبعين ومائتين، رحمه الله تعالى؛ وصلى عليه أخوه ابو بكر وتولى دفنه أخواه أبو بكر وعبد الله (3) وابنه عبد الله. وماجه: بفتح الميم والجيم وبينهما ألف وفي الآخر هاء ساكنة. والربعي: بفتح الراء والباء الموحدة وبعدها عين مهملة، هذه النسبة إلى بيعة، وهي اسم لعدة قبائل لاأدري إلى أيها ينسب المذكور. والقزويني: بفتح القاف وسكون الزاي وكسر الواو وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها نون، هذه النسبة إلى قزوين، وهي من أشهرمدن عراق العجم، خرج منها جماعة من العلماء [المعتبرين] .   (1) ترجمته في المنتظم 5: 90 وتذكرة الحفاظ: 636 وعبر الذهبي 2: 51 والشذرات 2: 164 وتهذيب التهذيب 9: 530 وبروكلمان 3: 198 (الترجمة العربية) . (2) ن: يكتب. (3) ر بر من: وأبو عبد الله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 279 (1) 615 الحاكم بن البيع النيسابوري أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد بن حمدويه بن نعيم بن الحكم (2) الضبي الطهاني المعروف بالحاكم (3) النيسابوري، الحافظ المعروف بابن البيع؛ إمام أهل الحديث في عصره والمؤلف فيه الكتب التي لم يسبق إلى مثلها، كان عالما عارفا واسع العلم، تفقه على أبي سهل محمد بن سليمان الصعلوكي الفقيه الشافعي - وقد تقدم ذكره (4) - ثم انتقل إلى العراق وقرأ على أبي علي ابن أبي هريرة الفقيه - وقد تقدم ذكره أيضا (5) - ثم طلب الحديث وغلب عليه فاشتهربه، وسمعه من جماعة لايحصون كثرة فإن معجم شيوخه يقرب من ألفي رجل حتى روى عمن عاش بعده لسعة روايته وكثرة شيوخه. وصنف في علومه مايبلغ ألفا وخمسمائة جزء، منها " الصحيحان " و " العلل " و " الأمالي " و " فوائد الشيوخ " و " أمالي العشيات " و " تراجم الشيوخ ". وأما ما تفرد بإخراجه فمعرفة علوم الحديث و " تاريخ علماء نيسابور " و " المدخل إلى علم الصحيح " و " المستدرك على الصحيحين " و " ما تفرد به كل (6) من الإمامين " و " فضائل الإمام الشافعي " رضي الله عنه.   (1) ترجمته في تاريخ بغداد 5: 473 والوافي 3: 320 والمنتظم 7: 274 وتبيين كذب المفتري: 227 وطبقات السبكي 3: 64 وتذكرة الحفاظ: 1039 وعبر الذهبي 3: 91 وغاية النهاية 2: 184 والشذرات 3: 176 ولسان الميزان: 232. (2) ابن الحكم سقطت من ت ر، ووقعت في ن بعد لفظة " بالحكاكم ". (3) المختار: بابن الحكم. (4) انظر ما تقدم ص: 204. (5) انظر ج2: 75. (6) ر بر: كل واحد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 280 وله إلى الحجاز والعراق رحلتان، وكانت الرحلة الثانية سنة ستين وثلثمائة، وناظر الحفاظ وذاكر الشيوخ وكتب عنهم أيضا، وباحث الدارقطني قرضية، وتقلد القضاء بنيسابور في سنة تسع وخمسين وثلثمائة في أيام الدولة السامانية ووزراء أبي النصر محمد بن عبد الجبار العتيبي، وقلد بعد ذلك قضاء جرجان فامتنع، وكانوا ينفذونه في الرسائل إلى ملوك بني بويه. وكانت ولادته في شهر ربيع الأول سنة إحدى وعشرين وثلثمائة بنيسابور وتوفي بها يوم الثلاثاء ثالث صفر سنة خمس وأربعمائة، وقال الخليلي في كتاب الإرشاد: توفي سنة ثلاث وأربعمائة (1) . وسمع الحديث في سنة ثلاثين، وأملى بما وراء النهر سنة خمس وخمسين، وبالعراق سنة سبع وستين، ولازمه الدارقطني، وسمع منه أبو بكر القفال الشاشي، وأنظارهما. وحمدويه: بفتح الحاء المهملة وسكون الميم وضم الدال المهملة وسكون الواو وفتح الياء المثناة من تحتها وبعدها هاء ساكنة. والبيع: بفتح الباء الموحدة وكسر الياء المثناة من تحتها وتشديدها وبعدها عين مهملة. وإنما عرف بالحاكم لتقلده القضاء، رحمه الله تعالى.   (1) وقال الخليلي ... أربعمائة: سقط من س ت والمختار. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 281 616 - (1) الحميدي أبو عبد الله محمد بن أبي نصر فتوح بن عبد الله بن حميد بن يصل، الأزدي الحميدي الأندلسي الميورقي الحافظ المشهور؛ أصله من قرطبة من ربض الرصافة، وهو من أهل جزيرة ميورقة، روى عن أبي محمد علي بمن حزام الظاهري - المقدم ذكره (2) - واختص به، وأكثر من الأخذ عنه وشهر بصحبته، وعن أبي عمر يوسف بن عبد البر صاحب كتاب الاستيعاب - وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى - وعن غيرهما من الأئمة. ورحل إلى المشرق سنة ثمان وأربعين فحج وسمع بمكة حرسها الله تعالى، وبإفريقية وبالأندلس (3) ومصر والشام والعراق، واستوطن بغداد. وكان موصوفا بالنباهة والمعرفة والإتقان والدين والورع، وكانت له نغمة حسنة في قراءة الحديث. وذكره الأمير أبو نصر علي بن ماكولا صاحب كتاب الإكمال - المقدم ذكره (4) - فقال: أخبرنا صديقنا أبو عبد الله الحميدي، وهو من اهل العلم والفضل والتيقظ، وقال: لم أر مثله في عفته ونزاهته وورعه وتشاغله بالعلم. ولأبي عبد الله المذكور كتاب الجمع بين الصحيحين البخاري ومسلم وهو مشهور، وأخذه الناس عنه، وله أيضا تاريخ علماء الأندلس سماهجذوة المقتبس في مجلد واحد، وذكر في خطبته أنه كتبه من حفظه، وقد طُلب   (1) ترجمته في مواطن متفرقة من فهرسة ابن خير، والصلة: 530 وبغية الملتمس رقم: 257 والمنتظم 9: 96 والوافي 4: 317 وتذكرة الحفاظ: 1218 وعبر الذهبي 3: 323 والشذرات 3: 392 ونفح الطيب 2: 112 والرسالة المستطرقة: 173. (2) انظر ج 3: 235. (3) ر من بر: والأندلس؛ وسقطت من ث. (4) انظر ج 3: 305. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 282 ذلك منه ببغداد. وكان يقول: ثلاثة أشياء من علوم الحديث يجب تقديم التهم بها: كتاب العلل وأحسن كتاب وضع فيه الدارقطني، وكتاب المؤتلف والمختلف وأحسن كتاب وضع فيه كتاب الأمير أبي نصر ابن ماكولا، وكتابوفيات الشيوخ وليس فيه كتاب، وقد كنت أردت أن أجمع في ذلك كتابا فقال لي الأمير: رتبه عل حروف المعجم بعد أن رتبته (1) على السنن، قال أبو بكر بن طرخان: فشغله عنه الصحيحان إلى أن مات. وقال ابن طرخان المذكور: أنشدنا أبو عبد الله الحميدي المذكور لنفسه: لقاء الناس ليس يفيد شيئا ... سوى الهذيان من قيل وقال فأقلل من لقاء الناس إلا ... لأخذ العلم أو إصلاح حال وكان قد أدرك بدمشق (2) الخطيب ابا بكر الحافظ، وروى عنه وعن غيره، وروى الخطيب أيضا عنه. وكانت ولادته قبل العشرين وأربعمائة. وتوفي ليلة الثلاثاء سابع عشر ذي الحجة سنة ثمان وثمانين وأربعمائة ببغداد. وقال السمعاني في كتاب الأنساب في ترجمة الميورقي: إنه توفي في صفر سنة إحدى وتسعين وأربعمائة، رحمه الله تعالى، هكذا وجدته في المختصر الذي اختصره أبو الحسن علي بن الأثيرالجزري - المقدم ذكره (3) - وكشفت عنه عدة نسخ فوجدته على هذه الصورة، لأني توهمت الغلط في نسختي، ولم أقدر على مرجعة الأصل الذي لابن السمعاني الذي هذا المختصر منه، لأنه لايوجد في هذه البلاد، وبقي في نفسي شيء من التفاوت بين التاريخين، فإنه كبير. ثم إني كشفت كتاب الذيل للسمعاني فوجدت فيه أن الحميدي المذكور توفي ليلة الثلاثاء السابع غشر من ذي الحجة سنة ثمان وثمانين وأربعمائة، ودفن من الغد في مقبرة باب أبرز، بالقرب من قبر الشيخ أبي إسحاق الشيرازي، وصلى عليه أبوبكر محمد بن أحمد بن الحسين الشاشي الفقيه في جامع القصر، ثم نقل بعد ذلك   (1) ر من بر: ترتبه. (2) س ت: ببغداد. (3) اللباب 3: 200 (الميرقي - دون واو -) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 283 في صفر سنة إحدى وتسعين إلى مقبرة باب حرب، ودفن عند قبر بشر بن الحارث المعروف بالحاقي، رحمه الله تعالى. فلما وقفت في الذيل على هذه الصورة علمت (1) أن الغلط وقع من ابن الأثير في المختصر: إما لأن النسخة التي اختصرها كانت غلطا من الناسخ، فتتبع ابن الأثير ذلك الغلط ولم يكشفه من موضع آخر، أو لأنه عبر من سطر إلى سطر كما جرت عادة النساخ في بعض الأوقات، والله أعلم أي ذلك كان. والحميدي بضم الحاء المهملة وفتح الميم وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها دال مهملة، هذه النسبة إلى جده حميد المذكور، وأخبرني بعض أرباب التاريخ أنه رأى في بعض التواريخ أن نسبته إلى حميد بن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، وهو ليس بصحيح، لأن أبا عبد الله المذكور أزدي النسب، وعبد الرحمن قرشي زهري، فكيف يجتمعان. ويصل: بفتح الياء المثناة من تحتها وكسر الصاد المهملة وبعدها لام. وقد تقدم الكلام على الأزدي، وكذلك على ميورقة في ترجمة أبي محمد عبد الجبار بن حمديس الصقلي الشاعر (2) ، وهي بفتح الميم وضم الياء المثناة من تحتها وسكون الواو وفتح الراء والقاف وبعدها هاء ساكنة، وهي جزيرة في البحر الغربي قريبة من بر الاندلس.   (1) لي: عرفت. (2) انظر ج 3: 212 قلت: ولم يرد في الترجمة المشار إليها كلام عن ميورقة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 284 617 - (1) المازري أبو عبد الله محمد بن علي بن محمد التميمي المازري الفقيه المالكي المحدث؛ أحد الأعلام المشار إليهم في حفظ الحديث والكلام عليه، وشرح صحيح مسلم شرحا جيدا سماه " كتاب (2) المعلم بفوائد كتاب مسلم وعليه بنى القاضي عياض كتاب الإكمال - وقد تقدم ذكره (3) - وهو تكملة لهذا الكتاب، وله كتاب إيضاح المحصول في برهان الأصول (4) ، وله في الأدب كتب متعددة، وكان فاضلا متقنا. وقيل توفي في الثامن عشر من شهر ربيع الأول سنة ست وثلاثين وخمسمائة يوم الاثنين ثاني الشهر المذكور بالمهدية، وعمره ثلاث وثمانون سنة [ودفن بالمنستير] (5) رحمه الله تعالى. والمازري: بفتح الميم وبعدها ألف ثم زاي مفتوحة وقد تكسر أيضا ثم راء، هذه النسبة إلى مازر، وهي بليدة بجزيرة صقلية.   (1) ترجمته في الوافي 4: 151 والديباج المذهب: 279 وعبر الذهبي 4: 100 والشذرات 4: 114 وأزهار الرياض 3: 165 وللأستاذ حسن حسني عبد الوهاب كتاب عنه (ط. تونس 1955) . (2) كتاب: سقطت من ن ت. (3) انظر ج 3: 483. (4) وله كتاب ... الأصول: سقط من لي ل س ت بر من والمختار. (5) زيادة من ر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 285 618 - (1) الحافظ أبو موسى الأصبهاني أبو موسى محمد بن أبي بكر عمر بن أبي عيسى أحمد بن عمر بن محمد بن أبي عيسى الأصبهاني المديني الحافظ المشهور؛ كان إمام عصره في الحفظ والمعرفة، وله في الحديث وعلومه تواليف مفيدة وصنف كتاب المغيث في مجلد، كمل به كتاب الغريبينللهروي، واستدرك عليه، وهو كتاب نافع، وله كتاب الزيادات في جزء لطيف جعله ذيلا على كتاب شيخه أبي الفضل محمد بن طاهر المقدسي الذي سماه كتاب الأنساب وذكر من أهله وما أقصر فيه. ورحل عن أصبهان في طلب الحديث ثم رجع إليها وأقام بها. وكانت ولادته في ذي القعدة سنة إحدى وخمسمائة، وتوفي ليلة الأربعاء تاسع جمادى الأولى سنة إحدى وثمانين وخمسمائة، وكانت وفاته ومولده بأصبهان، رحمه الله تعالى. والمديني: بفتح الميم وكسر الدال المهملة وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها نون، هذه النسبة إلى مدينة أصبهان، وقد ذكر الحافظ أبو سعد السمعاني في كتاب الأنسابهذه النسبة إلى عدة مدن: أولاهن مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والثانية مرو، والثالثة نيسابور، والرابعة أصبهان، والخامسة مدينة المبارك بقزوين، والسادسة بخارا، والسابعة سمرقند، والثامنة نسف، وذكر أن النسبة إلى هذه المدن كلها المديني، وقال: أكثر ما ينسب إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم " المدني ".   (1) ترجمته في اللباب (المديني) وطبقات السنبكي 4: 90 وتذكرة الحفاظ: 1234 وعبر الذهبي 4: 246 والشذرات 4: 273. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 286 619 - (1) محمد بن طاهر المقدسي أبو الفضل محمد بن طاهر بن علي بن أحمد المقدسي الحافظ المعروف بابن القيسراني؛ كان أحد الرحالين في طلب الحديث، سمع بالحجاز والشام ومصر والثغور والجزيرة والعراق والجبال وفارس وخوزستان وخراسان. واستوطن همذان وكان من المشهورين بالحفظ والمعرفة بعلوم الحديث، وله في ذلك مصنفات (2) ومجموعات تدل على غزارة علمه وجودة معرفته. وصنف تصانيف كثيرة: منهاأطراف الكتب الستة وهي: صحيح البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، وأطراف الغرائب تصنيف الدارقطني، وكتاب الأنساب في جزء لطيف، وهو الذي ذيله الحافظ أبو موسى الأصبهاني المذكور قبله، وغير ذلك من الكتب وكانت له معرفة بعلم التصوف وأنواعه متفننا فيه وله فيه تصنيف أيضا (3) ، وله شعر حسن، وكتب عنه غير واحد من الحفاظ: منهم أبو موسى المذكور. وكانت ولادته في السادس من شوال سنة ثمان وأربعين وأربعمائة، ببيت المقدس، وأول سماعه سنة ستين وأربعمائة، ودخل بغداد سنة سبع وستين وأربعمائة ثم رجع إلى بيت المقدس فأحرم من ثم إلى مكة؛ وتوفي عند قدومه من الحج آخر حجاته، يوم الجمعة لليلتين بقيتا من شهر ربيع الأول سنة سبع وخمسمائة ببغداد، ودفن في المقبرة العتيقة بالجانب الغربي، وقيل توفي يوم الخميس العشرين من الشهر المذكور، رحمه الله تعالى (4) .   (1) ترجمته في المنتظم 9: 177 والوافي 3: 166 وتذكرة الحفاظ: 1242 وميزان الاعتدال 3: 587 وعبر الذهبي 4: 14 والشذرات 4: 18. (2) ر: مصنفات ومحفوظات. (3) وكانت له ... أيضاً: لم يرد إلا في ن ر. (4) بعد هذا ورد في ر الحديث عن قيسارية والنسبة إليها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 287 (181) وكان ولده أبو زرعة طاهر بن محمد بن طاهر (1) من المشهورين بعلو الإسناد وكثرة السماع، ولم يكن له معرفة بالعلم، لكن كان والده قد أسمعه في صباه من جماعة منهم أبو محمد عبد الرحمن بن أحمد الدوني بالري وأبو الفتح عبدوس بن عبد الله بهمذان وأبو عبد الله محمد بن عثكان الكامخي وأبو الحسن مكي ابن منصور السلار. وقدم به بغداد فسمع بها من أبي القاسم علي بن أحمد بن ريان (2) وغيره. وسكن بعد وفاة أبيه بهمذان، وكان يقدم بغداد للحج، فحدث بها بأكثر سماعاته، وسمع منه الوزير ابو المظفر يحيى بن هبيرة وغيره، وكان مولده بالري في سنة إحدى وثمانين وأربعمائة، وتوفي يوم الأربعاء سابع شهر ربيع الآخر سنة ست وستين وخمسمائة بهمذان، رحمه الله تعالى. والقيسراني: بفتح القاف والسين المهملة بينهما ياء مثناة من تحتها ثم راء مفتوحة وبعد الألف نون، هذه النسبة إلى قيسرية، وهي بليدة بالشام على ساحل البحر، وهي الآن بيد الفرنجن خذلهم الله تعالى. قلت (3) : ثم استنفذها من أيديهم الملك الظاهر ركن الدين بيبرس الصالحي في شهور سنة ثلاث وستين وستمائة وخربها، وهي الآن خراب.   (1) راجع ترجمته في عبر الذهبي 4: 192 والشذرات 4: 217. (2) لي: بيان؛ ن س: بنان، وصورتها كذلك في " من " دون إعجام. (3) تقدم ذكر ذلك في ترجمة مجلي بن جميع، ولم يرد في أكثر النسخ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 288 620 - (1) ابن منده أبو عبد الله محمد بن يحيى بن منده العبدي الحافظ المشهور، صاحب كتاب " تاريخ أصبهان " (2) ؛ كان أحد الحفاظ الثقات، وهم أهل بيت كبير خرج منه جماعة من العلماء ولم يكونوا عبدين، وإنما ام الحفظ أبي عبد الله المذكور وإسمها برة بنت محمد كانت من بني عبد ياليل فنسب إلى أخواله، ذكر ذلك الحافظ أبو موسى الأصبهاني في كتاب " زيادات الأنساب " - وقد تقدم ذكره - واستوفى رفع نسبها هناك فأضربت عن ذكره لطوله، وكذلك ذكره الحازمي في كتاب " العجالة " (3) لكنه لم يرفع في نسبها. وتوفي الحافظ أبو عبد الله المذكور في سنة إحدى وثلثمائة (4) ، رحمه الله تعالى. ومنده: بفتح الميم والدال المهملة بينهما نون ساكنة وفي الآخر هاء ساكنة أيضا. وسيأتي ذكر حفيده يحيى بن عبد الوهاب إن شاء الله تعالى (5) .   (1) ترجمته في طبقات الحنابلة 1: 238 وتذكرة الحفاظ: 1031 وعبر الذهبي 2: 120 والشذرات 2: 234؛ وهي شديدة الإيجاز في المختار. (2) في هامش س: وله من التصانيف كتاب " صفوة التصوف " في أحوال الصوفية وآدابها وكتاب " الحجة على تارك المحجة " وكتاب " معجم البلدان " وكتاب " المتفق والمفترق " في الأنساب وغير ذلك. (3) العجالة: 89. (4) في هامش س: في النسخة الكبرى منه (يعني من كتاب ابن خلكان) إحدى وثلثمائة، وفي نسخة بخط المصنف: سنة ست، وتغير كما هو الآن. (5) هذه الجملة لم ترد إلا في ن ر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 289 621 - (1) أبو عبد الله الفربري أبو عبد اله محمد بن يوسف بن مطر بن صالح بن بشر الفربري رواية صحيح البخاري عنه، رحل إليه الناس، وسمعوا منه هذا الكتاب. وكانت ولادته في سنة إحدى وثلاثين ومائتين؛ وتوفي في ثالث شوال سنة عشرين وثلثمائة، رحمه الله تعالى. ونسبته إلى فربر: بفتح الفاء والراء وسكون الباء الموحدة وفي آخرها راء ثانية، وهي بلدة على طرف جيحون مما يلي بخارا، وهو آخر من روى الجامع الصحيح عن البخاري (2) . 622 - (3) أبو عبد الله الفراوي أبو عبد الله محمد بن الفضل بن أحمد بن محمد بن أحمد بن أبي العباس، الصاعدي الفراوي النيسابوري الملقب كمال الدين الفقيه المحدث؛ كان يختلف إلى مجلس إمام الحرمين أبي المعالي الجويني الفقيه الشافعي صاحبنهاية المطلب وعلق عنه الأصول، ونشأ بين الصوفية، وكان فقيها محدثا مفننا مناظرا واعظاً، وكان   (1) انظر معجم البلدان واللباب (فربر) وعبر الذهبي 2: 183 والشذرات 2: 286. (2) ر: روى الحديث عن البخاري. (3) ترجمته في معجم البلدان: (فراوة) والمنتظم 10: 65 والوافي 4: 323 وعبر الذهبي 4: 83 والشذرات 4: 96. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 290 يحمل الطعام إلى المسافرين الواردين عليه ويخدمهم بنفسه مع كبر سنه، وخرج حاجا إلى مكة، وعقد له مجلس الوعظ ببغداد وسائر البلاد التي توجه إليها، وأظهر العلم بالحرمين، وعاد إلى نيسابور وقعد للتدريس بالمدرسة الناصحية، وقام بإمامة مسجد المطرز. وسمع صحيح مسلم من عبد الغافر الفارسي - المقدم ذكره (1) - وصحيح البخاري من سعيد بن أبي سعيد، وسمع من الشيخ أبي إسحاق الشيرازي والحافظ أبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي وأبي القاسم عبد الكريم بن هوازان القشيري وإمام الحرمين، وتفرد برواية عدة كتب للحافظ البيهقي مثل دلائل النبوة والأسماء والصفات والبعث والنشور والدعوات الكبيرة والصغيرة، وكان يقال في حقه: الفراوي، ألف راوي (2) . وكانت ولادته سنة إحدى، وقيل اثنتين، وأربعين واربعمائة بنيسابور، وسمع الحديث سنة سبع وأربعين (3) . وتوفي ضحوة يوم الخميس الحادي، وقيل الثاني، والعشرين من شوال سنة ثلاثين وخمسمائة (4) ، رحمه الله تعالى. والفراوي: بضم الفاء وفتح الراء وبعدها ألف ثم واو، هذه النسبة إلى فراوة، وهي بليدة مما يلي خوارزم يقال لها رباط فراوة، بناها عبد الله بن طاهر في خلافة المأمون، وهو يومئذ أمير خراسان - وقد تقدم ذكره (5) .   (1) انظر ج 3: 225. (2) ن: يعني ألف راوي. (3) وسمع ... وأربعين: سقطت من ر ت بر والمختار. (4) ت: وتوفي في العاشر من شوال سنة اثنتين وخمسمائة. (5) انظر ج 3: 83. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 291 (1) 623 أبو بكر الآجري أبو بكر محمد بن الحسين بن عبد الله الآجري الفقيه الشافعي (2) المحدث صاحب كتاب الأربعين حديثا، وهي مشهورة به؛ وكان صالحا عابدا، وروى عن أبي مسلم الكجي وأبي شعيب الحراني وأحمد بن يحيى الحلواني والمفضل بن محمد الجندي، وخلق كثير من أقرانهم. ذكره محمد بن إسحاق النديم في كتابه الذي سماه " الفهرست " (3) وصنف في الفقه والحديث كثيرا، وذكره الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي في تاريخه (4) وقال: كان ثقة صدوقا دينا، وله تصانيف كثيرة. حدث ببغداد قبل سنة ثلاثين وثلثمائة، ثم انتقل إلى مكة فسكنها، حتى توفي بها. وروى عنه جماعة من الحفاظ منهم ابو نعيم الأصبهاني صاحب كتابحلية الأولياء وغيره. وأخبرني بعض العلماء أنه لما دخل إلى مكة حرسها الله تعالى أعجبه، فقال: الهم ارزقني الإقامة بها سنة، فسمع هاتفا يقول له: بل ثلاثين سنة، فعاش بعد ذلك ثلاثين سنة، ثم مات بها في المحرم سنة ستين وثلثمائة، قال الخطيب: قرأت ذلك على بلاطة قبره (5) بمكة.   (1) ترجمته في الأنساب 1: 69 والمنتظم 7: 55 وصفة الصفوة 2: 265 وتذكرة الحفاظ 936 وعبر الذهبي 2: 318 وطبقات السبكي 2: 150 والشذرات 3: 35 والرسالة المستطرقة: 42 والعقد الثمين 2: 3 وصفحات متفرقة من فهرسة ابن خير؛ وقد سقطت هذه الترجمة من المختار. (2) في هامش س: لم يكن شافعياً بل كان حنبلياً وتصنيفه يدل على ذلك؛ وقد أدرجت هذه العبارة في متن النسخة لي بعد لفظة " المحدث "؛ وبمثل ذلك قال صاحب العقد. (3) الفهرست: 214 - 215. (4) تاريخ بغداد 2: 243. (5) ر: البلاطة التي على قبره. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 292 والآجري: بفتح الهمزة الممدودة وضم الجيم وتشديد الراء، هذه النسبة إلى الآجر، ولاأعلم لأي معنى نسب إليه. ورأيت (1) حاشية على كتاب الصلة صورتها: الإمام أبو بكر الأجري نسب إلى قرية من قرى بغداد يقال لها آجر، واستوطن مكة حرسها الله تعالى، وتوفي بها أول يوم من المحرم سنة ستين وثلثمائة، رحمه الله تعالى. 624 - (2) الحافظ محمد بن ناصر السلامي أبو الفضل محمد بن ناصر بن محمد بن علي بن عمر البغدادي، الحافظ الأديب المعروف بالسلامي؛ كان حافظ بغداد في زمانه (3) وكان له حظ وافر من الأدبن وأخذ الأدب عن الخطيب أبي زكريا التبريزي، وخطه في غاية الصحة والإتقان، وكان كثير البحث عن الفوائد وإثباتها، روى عنه الأئمة فأكثروا، وأخذ عنه علماء عصره منهم الحافظ أبو الفرج ابن الجوزي، وأكثر روايته عنه، وذكره الحافظ أبو سعد ابن السمعاني في كتبه (4) . وكانت ةلادته ليلة السبت خامس عشر شعبان سنة سبع وستين وأربعمائة.   (1) هذه الفقرة مقدمة على ما سبقها في النسخ، وسقطت من ل ت. (2) ترجمته في المنتظم 10: 162 وتذكرة الحفاظ: 1289 وعبر الذهبي 4: 140 والشذرات 4: 155 والرسالة المستطرقة: 160 واللباب والأنساب: (السلامي) ومرآة الزمان: 225 وذيل ابن رجب: 225. (3) ن: وقته. (4) قال السمعاني: إن ابن ناصر كان يجب أن يقع في الناس فرد عليه ابن الجوزي وقبح قوله ونسبه إلى التعصب على الحنابلة؛ وقال السلفي: سمع ابن ناصر معنا كثيراً وهو شافعي اشعري ثم انتقل إلى مذهب أحمد في الأصول والفروع ومات عليه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 293 وتوفي ليلة الثلاثاء ثامن عشر شعبان سنة خمسين وخمسمائة ببغداد، وأخرج من الغد، وصلي عليه بالقرب من جامع السلطان ثلاث مرات، وعبر به إلى جامع المنصور فصلي عليه، ثم حمل إلى الحربية وصلي عليه، ودفن بباب حرب تحت السدرة بجنب أبي منصور ابن (1) الأنباري الواعظ، رحمه الله تعالى. والسلامي: بفتح السين المهملة واللام ألف المخففة وبعدها ميم، هذه النسبة إلى مدينة السلام بغداد، قال ابن السمعاني: كذا كان يكتب لنفسه السلامي، يعني الحافظ المذكور. 625 - (2) الحازمي أبو بكر محمد بن أبي عثمان موسى بن عثمان بن موسى بن عثمان بن حازم، الحازمي الهمذاني الملقب زين الدين؛ أحد الحفاظ المتقنين، وعباد الله الصالحين [حفظ القرآن الكريم، وحضر بهمذان أبا الوقت عبد الأول بن عيسى السجزي، وسمع بها من أبي منصور شهردار بن شيرويه الديلمي (3) وأبي زرعة طاهر بن محمد المقدسي وأبي العلاء الحسن بن أحمد الحافظ، وجماعة كثيرة] (4) وتفقه ببغداد على الشيخ جمال الدين واثق بن فضلان وغيره، وسمع الحديث ببغداد من أبي الحسين عبد الحق وأبي نصر عبد الرحيم ابني عبد الخالق بن أحمد بن يوسف وأبي الفتح   (1) ابن: سقطت من لي س ل من بر. (2) ترجمته في الروضتين 2: 137 وتذكرة الحفاظ: 1363 ومختصر ابن الدبيثي: 144 وعبر الذهبي 4: 254 وطبقات السبكي 4: 189 والشذرات 4: 282 والنجوم الزاهرة 6: 107؛ وفي نسله إيجاز في ن ل ت ر؛ وسقطت ترجمته من المختار. (3) ن: الأربلي؛ وانظر ترجمة شهردار عند السبكي 4: 230 والنجوم الزاهرة 5: 364. (4) سقط من النسخ ما عدا ن، وبعضه في ر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 294 عبيد الله بن عبد الله بن شاتيل وغيرهم (1) ، ثم عني بنفسه فارتحل في طلبه إلى عدة بلاد من العراق ثم إلى الشام والموصل وبلاد فارس وأصبهان وهمذان وكثير من بلاد أذربيجان، وكتب عن أكثر شيوخ هذه البلاد، وغلب عليه الحديث، وبرع فيه واشتهر به، وصنف فيه وفي غيره كتبا مفيدة: منها " الناسخ والمنسوخ " في الحديث، وكتاب الفيصل في مشتبه النسبة، وكتاب العجالة في النسب وكتابما اتفق لفظه وافترق مسماه في الأماكن والبلدان المشتبهة في الخط، وكتابسلسلة الذهب فيما روى الإمام أحمد بن حنبل عن الإمام الشافعي رضي الله عنهما، وشروط الأئمة وغير ذلك من الكتب النافعة. واستوطن بغداد، وسكن بالجانب الشرقي. ولم يزل مواظب الاشتغال ملازم الخير إلى أن اخترمته المنية وغصن شبابه نضير، وذلك في ليلة الاثنين الثامن والعشرين من جمادى الأولى سنة أربع وثمانين وخمسمائة، بمدينة بغداد. ودفن في المقبرة الشونيزية إلى جانب سمنون بن حمزة (2) مقابل قبر الجنيد، رضي الله عنه، بعد أن صلى عليه خلق كثير برحبة جامع القصر. وحمل إلى الجانب الغربي، فصلي عليه (3) مرة أخرى، وفرق كتبه على أصحاب الحديث. وكانت ولادته في سنة ثمان - أوتسع - وأربعين وخمسمائة، بطريق همذان، وحمل إليها ونشأ بها، رحمه الله تعالى. والحازميك بفتح الحاء المهملة وبعد الألف زاي مكسورة وبعدها ميم، هذه النسبة إلى جده حازم المذكور.   (1) من أبي الحسين ... وغيرهم: ثبت في ن ر فقط. (2) ر: سمنون المحب. (3) ر: عليه خلق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 295 626 - (1) الحافظ أبو بكر ابن العربي أبو بكر محمد بن عبد الله بن أحمد، المعوف بابن العربي المعافري الأندلسي الإشبيلي الحافظ المشهور؛ ذكره ابن بشكوال في كتاب " الصلة " (2) فقال: هو الحافظ المستبحر، ختام علماء الأندلس وآخر أئمتها وحفاظها، لقيته بمدينة إشبيلية ضحوة يوم الاثنين لليلتين خلتا من جمادى الآخرة سنة ست عشرة وخمسمائة فأخبرني أنه رحل إلى المشرق مع أبيه يوم الأحد مستهل شهر ربيع الأول سنة خمس وثمانين وأربعمائة وأنه دخل الشام ولقي بها أبا بكر محمد بن الوليد الطرطوشي وتفقه عنده، ودخل بغداد وسمع بها من جماعة من أعيان مشايخها، ثم دخل الحجاز فحج في موسم سنة تسع وثمانين، ثم عاد إلى بغداد وصحب بها أبا بكر الشاشي وأبا حامد الغزالي وغيرهما من العلماء والأدباء، ثم صدر عنهم، ولقي بمصر والأسكندرية (3) جماعة من المحدثين فكتب عنهم واستفاد منهم وأفادهم، ثم عاد إلى الأندلس سنة ثلاث وتسعين، وقدم إلى إشبيلية بعلم كثير لم يدخله أحد قبله ممن كانت له رحلة إلى المشرق. وكان من أهل التفنن في العلوم والاسبحار فيها والجمع لها مقدما في المعارف كلها متكلما في أنواعها نافذا في جميعها، حريصا على أدائها ونشرها،   (1) ترجمته في المغرب 1: 249 وبغية الملتمس (رقم: 179) والديباج المذهب: 281 والمرقبة العليا: 105 ونفح الطيب 2: 25 وأزهار الرياض 3: 262، 86 - 95 وجذوة الاقتباس: 160 والوافي 3: 230 وتذكرة الحفاظ: 1294 والشذرات 4: 141 (وفيات 546) وكذلك عبر الذهبي 4: 125 وانظر مقالتين عن رحلته (مجلة الأبحاث 1963، 1968) ، ومقدمة العواصم من القواصم. (2) الصلة: 558، وفي النقل بعض إيجاز. (3) ن: وأتى مصر والإسكندرية ولقي بهما ... الخ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 296 ثاقب الذهن في تمييز الصواب منها، ويجمع إلى ذلك كله آداب الأخلاق مع حسن المعاشرة ولين الكنف وكثرة الاحتمال وكرم النفس وحسن العهد وثبات الود. واستقضي ببلدة فنفع الله به أهلها لصرامته وشدته ونفوذ أحكامه، وكانت له في الظالمين سورة مرهوبة، ثم صرف عن القضاء، واقبل على نشر العلم وبثه. وسألته عن مولده فقال: ولدت ليلة الخميس لثمان بقين من شعبان سنة ثمان وستين وأربعمائة. وتوفي بالعدوة ودفن بمدينة فاس في شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة، رحمه الله تعالىانتهى كلام ان بشكوال. قلت أنا: وهذا الحافظ له مصنفات: منها كتابعارضة الأحوذي في شرح الترمذي وغيره من الكتب، وكانت ولادته بإشبيلية، وقيل إن ولادته كانت سنة تسع وستين، وقيل إن وفاته كانت في جمادى الأولى على مرحلة من فاس عند رجوعه من مراكش، ونقل إلى فاس، ودفن بمقبرة الجياني. (182) وتوفي والده بمصر منصرفا عن المشرق في السفرة التي كان ولده المذكور في صحبته، وذلك في المحرم سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة، ومولده سنة خمس وثلاثين وأربعمائة، وكان من أهل الآداب الواسعة والبراعة والكتابة (1) ، رحمه الله تعالى. وقد تقدم الكلام على المعافري والإشبيلي. ومعنىعارضة الاحوذي فالعارضة: القدرة على الكلام، يقال: فلان شديد العارضة إذا كان ذا قدرة على الكلام، والأحوذي: الخفيف في الشيء لحذقه، وقال الأصمعي: الأحوذي المشمر في الأمور القاهر لها الذي لايشذ عليه منها شيء، وهو بفتح الهمزة وسكون الحاء المهملة وفتح الواو وكسر الذال المعجمة وفي آخره (2) ياء مشددة.   (1) لي: والكفاية. (2) ن: آخرها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 297 (1) 627 النقاش المفسر أبو بكر محمد بن الحسن بن محمد بن زياد [بن هارون بن جعفر بن سند] (2) المقرئ، المعروف بالنقاش، الموصلي الاصل البغدادي المولد والمنشأ؛ كان عالما بالقرآن والتفسير، وصنف في التفسير كتابا، سماه شفاء الصدور وصنف غيره فمن ذلك الإشارةفي غريب القرآن، والموضح في القرآن ومعانيه و " صد العقل " (3) ، والمناسك، وفهم المناسك، وأخبار القصاص، وذم الحسد، ودلائل النبوة، والأبواب في القرآن، وإرم ذات العماد، والمعجم الأوسط، والمعجم الأصغر، والمعجم الكبير في أسماء القراء وقراءاتهم، وكتاب السبعة بعللها الكبير، وكتاب السبعة الأوسط، وكتاب السبعة الأصغر. وسافر الكثير شرقا وغربا، وسمع بالكوفة والبصرة ومكة ومصر والشام والجزيرة والموصل والجبال وخراسان وماوراء النهر. وفي حديثه مناكير بأسانيد مشهورة، وذكر النقاش عند طلحة بن محمد بن جعفر، فقال: كان يكذب في الحديث، والغالب عليه القصص، وروى عن جماعة من العلماء ورووا عنه، وقال البرقاني: كل حديث النقاش مناكير، وليس في تفسيره حديث صحيح. وكانت ولادته سنة ست، وقيل خمس، وستين ومائتين. وتوفي يوم الثلاثاء ودفن يوم الأربعاء، لثلاث خلون من شوال سنة إحدى وخمسين وثلثمائة، رحمه   (1) ترجمته في تاريخ بغداد 2: 201 والفهرست: 33 ومعجم الأدباء 18: 146 والوافي 2: 345 وتذكرة الحفاظ: 908 وغاية النهايو 2: 119 وطبقات السبكي 2: 148 وميزان الاعتدال 3: 521 والرسالة المستطرقة: 77؛ ولا تزيد هذه الترجمة في المختار عن أربعة سطر. (2) زيادة من ر. (3) كذا من ل ر؛ وفي سائر الأصول: وضد وكذلك في ياقوت والفهرست. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 298 الله تعالى، ويقال توفي سنة خمسين، وقيل اثنتين وخمسين وثلثمائة، والله أعلم. والنقاش: بفتح النون والقاف المشددة وبعد الألف شين معجمة، هذه النسبة إلى من ينقش السقوف والحيطان وغيرهما، وكان أبو بكر المذكور في مبدأ أكره يتعاطى هذه الصنعة فعرف بها. 628 - (1) ابن شنبوذ المقرئ أبو الحسن محمد بن أحمد بن أيوب بن الصلت بن شنبوذ المقرئ البغدادي؛ كان من مشاهير القراء وأعيانهم، وكان دينا، وفيه سلامة صدر وفيه حمق، وقيل إنه كان كثير اللحن قليل العلم، وتفرد بقراءات من الشواذ كان يقرأ بها في المحراب فأنكرت عليه، وبلغ ذلك الوزير أباعلي محمد بن مقلة الكاتب المشهور، وقيل له: إنه يغير حروفا من القرآن ويقرأ بخلاف ما أنزل، فاستحضره في أول شهر بيع الآخر سنة ثلاث وعشرين وثلثمائة، واعتقله في داره أياما، فلما كان يوم الأحد لسبع خلون من الشهر المذكور، استحضر الوزير المذكور القاضي أبا الحسين عمر بن محمد وأبا بكر أحمد بن موسى بن العباس بن مجاهد المقرئ وجماعة من أهل القرآن، وأحضر ابن شنبوذ المذكور، ونوظر بحضرة الوزير، فأغلظ في الخطاب للوزير والقاضي وأبي بكر ابن مجاهد ونسبهم إلى قلة المعرفة وعيرهم بأنهم ما سافروا في طلب العلم كما سافر، واستصبى القاضي أبا الحسين المذكور، فأمر الوزير أبو علي بضربه، فأقيم وضرب سبع درر، فدعا وهو يضرب على الوزير ابن مقلة بأن يقطع الله يده ويشتت (2) شمله، فكان   (1) ترجمته في تاريخ بغداد 1: 280 ومعجم الأدباء 17: 167 والوافي 2: 37 وغاية النهاية 2: 52 والنجوم الزاهرة 3: 248، 267 وعبر الذهبي 2: 213 والشذرات 2: 311. (2) ت لي ل: ويشت. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 299 الأمر كذلك - كما سيأتي في خبر ابن مقلة إن شاء الله تعالى - ثم أوقفوه على الحروف التي قيل إنه يقرأ بها، فأنكر ما كان شنيعا، وقال فيما سواه: إنه قرأ به قوم، فاستتابوه فتاب، وقال إنه قد رجع عما كان يقرؤه، وإنه لايقرأ إلا بمصحف عثمان بن عفان، رضي الله عنه، وبالقراءة المتعارفة التي يقرأ بها الناس. فكتب عليه الوزير محضرا بما قاله، وأمره أن يكتب خطه في آخره، فكتب مايدل على توبته؛ ونسخه المحضر: سئل محمد بن أحمد المعروف بابن شنبوذ عما حكي عنه أنه يقرؤه، وهو " إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فامضوا إلى ذكر الله " فاعترف به، وعن " وتجعلون شكركم أنكم تكذبون " فاعترف به، وعن " تبت يدا أبي لهب وقد تب " فاعترف به، وعن " كالصوف المنفوش " فاعترف به، وعن " فاليوم ننجيك ببدنك " فاعترف به، " وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة [صالحة] (1) غصبا " فاعترف به، وعن " فلما خر تبينت الإنس أن الجن لوكانوا يعلمون الغيب ما لبثوا حولا في العذاب المهين " فاعترف به، وعن " والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى والذكر والأنثى " فاعترف به، وعن " فقد كذب الكافرون فسوف يكون لزاما " فاعترف به، وعن " ولتكن منك فئة يدعون إلى الخير ويامرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويستعينون (2) الله على ما أصابهم أولئك هم المفلحون " فاعترف به، وعن " إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد عريض " فاعترف به، وكتب الشهود الحاضرون شهاداتهم في المحضر حسبما سمعوه من لفظه. وكتب ابن شنبوذ بخطه ما صورته: يقول محمد بن أحمد بن أيوب المعروف بابن شنبوذ: ما في هذه الرقعة (3) صحيح، وهو قولي واعتقادي، وأشهد الله عز وجل وسائر من حضر (4) على نفسي بذلك؛ وكتب بخطه: فمتى خالفت ذلك أو بان مني غيره، فأمير المؤمنين في حل من دمي وسعة، وذلك يوم الأحد   (1) زيادة من س ل لي بر من. (2) ر: ويستغيثون. (3) ر: الورقة. (4) ن: ومن حضر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 300 لسبع (1) خلون من شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وعشرين وثلثمائة في مجلس الوزير أبي علي محمد بن علي بن مقلة أدام الله توفيقه. وكلم أبو أيوب السمسار الوزير أبا علي في أمره وسأله في إطلاقه، وعرفه أنه إن صار إلى منزله قتله العامة، وسأله أن ينفذه في الليل سرا إلى المدائن ليقيم بها أياما، ثم يدخل إلى منزله ببغداد مستخفيا، ولايظهر بها أياما، فأجابه الوزير إلى ذلك، وأنقذه إلى المدائن؛ وتوفي يوم الاثنين لثلاث خلون من صفر (2) سنة ثمان وعشرين وثلثمائة ببغداد، وقيل إنه توفي في محبسه بدار السلطان، رحمه الله تعالى. (183) وتوفي أبو بكر ابن مجاهد المذكور يوم الأربعاء لإحدى عشرة ليلة بقيت من شعبان سنة أربع وعشرين وثلثمائة، ودفن في تربة له بسوق العطش، وكان مولده سنة خمس وأربعين ومائتين، رحمه الله تعالى. وشنبوذ: بفتح الشين المعجمة والنون وضم الباء الموحدة وسكون الواو وبعدها ذال معجمة. 629 - (3) ابن السماك أبو العباس محمد بن صبيح المذكر مولى بني عجل، المعروف بابن السماك القاص الكوفي الزاهد المشهور؛ كان زاهداً عابداً حسن الكلام صاحب مواعظ، جمع كلامه وحفظ، ولقي جماعة من الصدر الأول وأخذ عنهم: مثل هشام بن   (1) ر: لتسع. (2) ت: وتوفي في صفر؛ ن: ثالث صفر. (3) ترجمته في حلية الأولياء 8: 203 وصفة الصفوة 3: 105 واللباب (السماك) وطبقات المعتزلة: 42 والوافي 3: 158 وعبر الذهبي 1: 287 والشذرات 1: 303 وتاريخ بغداد 5: 365. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 301 عروة والأعمش وغيرهما. وروى عنه أحمد بن أحمد بن حنبل وأنظاره؛ وهو كوفي قدم بغداد زمن هارون الرشيد فمكث بها مدة، ثم رجع إلى الكوفة فمات بها. ومن كلامه: خف الله كأنك لم تطعه، وارج الله كأنك لم تعصه. وكان هارون الرشيد قد حلف أنه من أهل الجنة، فاستفتى العلماء فلم يفته أحد بأنه من أهلها فقيل له عن ابن السماك المذكور، فاستحضره وسأله، فقال له هل قدر أمير المؤمنين على معصية فتركها خوفا من الله تعالى فقال: نعم، كان لبعض ألزمي جارية فهويتها فتركها خوفا من الله تعالى فقال: نعم، كان لبعض ألزمي جارية فهويتها وأنا إذ ذاك شاب، ثم إني ظفرت بها مرة، وعزمت على ارتكاب الفاحشة معها، ثم إني فكرت في النار وهولها وأن الزنا من الكبائر، فأشفقت من ذلك، وكففت عن الجارية مخافة من الله تعالى، فقال له ابن السماك: أبشر ياأمير المؤمنين فإنك من أهل الجنة، فقال هارون: ومن أين لك هذا فقال: من قوله تعالى " وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى " - النازعات:40 - فسر هارون بذلك. ودخل على بعض الرؤساء يشفع إليه فقال له: إني أتيتك في حاجة، وإن الطالب والمطلوب منه عزيزان إن قضيت الحاجة، ذليلان إن لم تقضها، فاختر لنفسك عز البذل على ذل المنع، واختر لي عز النجح على ذل الرد؛ فقضى حاجته. ومن كلامه: من جرعته الدنيا حلاوتها بميلة إليها جرعته الآخرة مرارتها بتجافيها عنه. وتكلم يوما وجاريته تسمع كلامه، فقال لها: كيف سمعت كلامي فقالت هو حسن، لولا أنك تردده، فقال: أردده كي يفهمه من لم يفهمه، فقالت: إلى أن يفهمه من لم يفهمه يمله من فهمه (1) . وأخباره ومواعظه كثيرة. وتوفي سنة ثلاث وثمانين ومائة بالكوفة، رحمه الله تعالى. والسماك: بفتح السين المهملة والميم المشددة وبعد الألف كاف، هذه النسبة إلى بيع السمك وصيده.   (1) وتكلم يوماً .... فهمه: سقط من س ل لي بر من. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 302 630 - (1) أبو طالب المكي أبو طالب محمد بن علي بن عطية، الحارثي المكي صاحب كتابقوت القلوب؛ كان رجلا صالحا مجتهدا في العبادة، ويتكلم في الجامع، وله مصنفات في التوحيد، ولم يكن من أهل مكة، وإنما كان من أهل الجبل وسكن مكة فنسب إليها، وكان يستعمل الرياضة كثيرا حتى قيل غنه هجر الطعام زمانا واقتصر على أكل الحشائش المباحة فاخضر جلده من كثرة تناولها. ولقي جماعة من المشايخ في الحديث وعلم الطريقة وأخذ عنهم، ودخل البصرة بعد وفاة أبي الحسن ابن سالم فانتمى إلى مقالته، ودخل البصرة بعد وفاة أبي الحسن ابن سالم فانتمى إلى مقالته، وقدم بغداد فوعظ الناس فخلط في كلامه فتركوه وهجروه. وقال محمد بن طاهر المقدسي في كتاب الأنساب: إن أبا طالب المكي المذكور لما دخل بغداد واجتمع الناس عليه في مجلس الوعظ خلط في كلامه، وحفظ عنه أنه قال: ليس على المخلوقين أضر من الخالق، فبدعه الناس وهجروه، وامتنع من الكلام بعد ذلك؛ وله كتب في التوحيد. وتوفي لست خلون من جمادى الآخرة (2) سنة ست وثمانين وثلثمائة ببغداد، ودفن بمقبرة المالكية، وقبره بالجانب الشرقي، وهو مشهور هناك يزار، رحمه الله تعالى. والحارثي: بفتح الحاء المهملة وبعد الألف راء مكسورة ثم ثاء مثلثة، هذه النسبة إلى عدة قبائل منها الحارث ومنها الحارثة (3) ولا أدري أيها ينسب   (1) ترجمته في تاريخ بغداد 3: 89 والوافي 4: 116 وميزان الاعتدال 3: 655 وعبر الذهبي 3: 33 والشذرات 3: 120 ولسان الميزان 5: 30. (2) ت س لي من بر: وتوفي جمادى الآخرة؛ ل: في شهر جمادى الآخرة؛ ن: في سادس جمادى الآخرة. (3) ت س: حارثة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 303 أبو طالب المذكور من هذه القبائل. والمكي: نسبة إلى مكة، حرسها الله تعالى. 631 - (1) ابن سمعون الواعظ أبو الحسين محمد بن أحمد بن إسماعيل بن عنبس بن إسماعيل الواعظ البغدادي، المعروف بابن سمعون؛ كان وحيد دهره في الكلام على الخواطر وحسن الوعظ وحلاوة الإشارة ولطف العبارة. أدرك جماعة من جلة المشايخ وروى عنهم: منهم الشيخ أبو بكر الشبلي، رحمه الله تعالى وأنظاره. ومن كلامه ما رواه الصاحب أبو القاسم إسماعيل بن عباد (2) - المقدم ذكره - قال: سمعت ابن سمعون يوما، وهو على الكرسي في مجلس وعظه يقول: سبحان من أنطق باللحم، وبصر بالشحم، وأسمع بالعظم، إشارة إلى اللسان والعين والأذن، وهذه من لطائف الإشارات. ومن كلامه أيضا: رأيت المعاصي نذالة، فتركتهامروءة فاستحال ديانة؛ وله كل معنى لطيف. وكان لأهل العراق فيه اعتقاد كثير، ولهم به غرام شديد، وإياه عني الحريري صاحب المقامات في المقامة الحادية والعشرين وهي الرازية بقوله في أوائلها: رأيت بها ذات بكرة، زمرة أثر زمرة، وهم منتشرون انتشار الجراد، ومستنون استنان الجياد، ومتواصفون واعظا يقصدونه، ويحلون ابن سمعون دونهولم يأت بعده في الوعاظ مثله (3) .   (1) ترجمته في تاريخ بغداد 1: 274 وتبيين كذب المفتري: 200 والمنتظم 7: 198 وصفة الصفوة 2: 266 والشريشي 1: 322 وطبقات الحنابلة 2: 155 والوافي 2: 51 وعبر الذهبي 2: 36 والشذرات 3: 124. (2) انظر ج 1: 228. (3) ر بر من: ولم يأت بعده في الوعظ مثله، وسقطت " بعده " من ر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 304 وتوفي في ذي الحجة سنة سبع وثمانين وثلثمائة، وقيل بل توفي يوم الجمعة منتصف ذي القعدة من السنة المذكورة ببغداد، ودفن في داره بدرب العتابين، ثم نقل يوم الخميس حادي عشر رجب سنة ست وعشرين وأربعمائة، ودفن بباب حرب، وقيل إن أكفانه لم تكن بليت بعد، رحمه الله تعالى. وسمعون: بفتح السين المهملة وسكون الميم وضم العين المهملة وسكون الواو وبعدها نون، قيل إن جده اسماعيل غير اسمه فقيل سمعون. وعنبس: بفتح العين المهملة وسكون النون وفتح الباء الموحدة وبعدها سين مهملة، وهو في الأصل اسم الأسد وبه سمي الرجل وهو فنعل من العبوس، والنون زائدة. 632 - (1) الشيخ أبو عبد الله القرشي أبو عبد الله بن أحمد بن إبراهيم القرشي الهاشمي العبد الزاهد (2) الصالح من أهل الجزيرة الخضراء (3) ؛ كانت له كرامات ظاهرة، ورأيت أهل مصر يحكن عنه أشياء خارقة، ورأيت جماعة ممن صحبه، وكل منهم قد نما عليه من بركته، وذكروا عنه أنه وعد جماعته الذين صحبوه مواعيد من الولايات والمناصب العلية، وذكروا عنه أنه وعد جماعته الذين صحبوه مواعيد من الولايات والمناصب العلية، وأنها صحت كلها، وكان من السادات الأكابر، والطراز الأول، وهو مغربي، وصحب بالمغرب أعلام الزهاد وانتفع بهم، فلما وصل إلى مصر انتفع به من صحبته أو شاهده. ثم سافر إلى الشام قاصدا زيارة البيت المقدس فأقام به إلى أن مات في السادس من ذي الحجة سنة تسع وتسعين وخمسمائة،   (1) ترجمته في الوافي 2: 78 وعبر الذهبي 4: 309 والشذرات 4: 342 ولم يرد في المختار من هذه الترجمة إلا قوله " سيروا إلى الله تعالى ... الخ ". (2) ل لي: الزاهد العابد؛ وسقطت لفظة " العبد " من ن، ووقعت " الزاهد " قبلها في س. (3) من أهل .... الخضراء: سقطت من ت بر من. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 305 وصلي عليه بالمسجد الأقصى، وهو ابن خمس وخمسين (1) سنة، رحمه الله تعالى. وقبره ظاهر يقصد للزيارة والتبرك به (2) . والجزيرة الخضراء في بر الأندلس: مدينة قبالة سبتة من بر العدوة. ومن جملة وصايا لأصحابه: سيروا إلى الله تعالى عرجا ومكاسير فإن انتظار الصحة بطالة. 633 - (3) ابن الأعرابي أبو عبد الله محمد بن زياد، المعروف بابن الأعرابي الكوفي صاحب اللغة؛ وهو من موالي بني هاشم، فإنه مولى (4) العباس بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب، رضي الله عنه، وكان أبوه زياد عبدا سنديا، وقيل إنه من موالي بني شيبان، وقيل غير ذلك، والأول أصح، وكان أحول، راوية لأشعار القبائل ناسبا، وكان أحد العالمين باللغة المشهورين بمعرفتها، يقال لم يكن في الكوفيين أشبه برواية البصريين منه، وهو ربيب المفضل بن محمد الضبي صاحب المفضلياتكانت امه تحته. وأخذ الأدب عن أبي معاوية الضرير والمفضل الضبي والقاسم بن معن ابن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود الذي ولاه المهدي القضاء، والكسائي، وأخذ عنه إبراهيم الحربي وأبو العباس   (1) ن: وستين. (2) نهاية الترجمة في س ل لي. (3) ترجمته في نور القبس: 302 وإنباه الرواة 3: 128 وفي الحاشية ذكر لمصادر أخرى؛ وقد جاءت الترجمة موجزة في ت. (4) ن: فإنه من موالي العباس. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 306 ثعلب وابن السكيت وغيرهم. وناقش العلماء واستدرك عليهم وخطأ كثيرا من نقلة اللغة، وكان رأسا في كلام العرب، وكان يزعم أن أبا عبيدة والأصمعي لايحسنان شيئا، وكان يقول: جائز في كلام العرب ان يعاقبوا بين الضاد والظاء، فلا يخطئ من يجعل هذه في موضع هذه، وينشد: إلى الله أشكو من خليل أوده ... ثلاث خلال كلها لي غائض بالضاد، ويقول: هكذا سمعته من فصحاء العرب. وكان يحضر مجلسه خلق كثير من المستفيدين ويملي عليهم؛ قال أبو العباس ثعلب: شاهدت مجلس ابن الأعرابي، وكان يحضره زهاء مائة إنسان، وكان يسأل ويقرأ عليه فيجيب من غير كتاب، ولزمته بضع عشرة سنة ما رأيت بيده كتابا قط، ولقد أملى على الناس مايحمل على أجمال، ولم ير أحد في علم الشعر أغزر منه (1) . ورأى في مجلسه رجلين يتحادثان، فقال لأحدهما: من أين أنت فقال: من إسبيجاب، وقال للآخر: من أين أنت فقال: من الأندلس، فعجب من ذلك وأنشد: رفيقان شتى ألف الدهر بيننا ... وقد يلتقي الشتى فيأتلفان ثم أملى على من حضر مجلسه بقية الأبيات وهي: نزلنا على قيسية يمينية ... لها نسب في الصالحين هجان فقالت وأرخت جانب الستر بيننا ... لأية أرض أم من الرجلان فقلت لها: أما رفيقي فقومه ... تميم، وأما أسرتي فيماني رفيقان شتى ألف الدهر بيننا ... وقد يلتقي الشتى فيأتلفان ومن أماليه ما رواه أبو العباس ثعلب قال: أنشدنا ابن الأعرابي محمد بن زياد المذكور:   (1) وكان يسأل .... أغزر منه: تأخر هذا النص في ر والمختار إلى ما بعد الأبيات النونية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 307 سقىالله حيا دون بطنان دارهم ... وبورك في مرد هناك وشيب وإني وإياهم على بعد دارهم ... كخمر بماء في الزجاج مشوب ومن تصانيفه كتاب النوادر وهو كبير، وكتاب الأنواء وكتاب صفة النخل وكتاب صفة الزرع وكتاب النبات وكتاب الخيل وكتاب تاريخ القبائل وكتاب معاني الشعر وكتاب تفسير الأمثال وكتاب الألفاظ وكتاب نسب الخيل وكتاب نوادر الزبيرين وكتاب نوادر بني فقعس وكتاب الذباب وغير ذلك، وأخباره ونوادره وأماليه كثيرة. وقال ثعلب: سمعت ابن الأعرابي يقول: ولدت في الليلة التي مات فيها الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه، وذلك في رجب سنة خمسين ومائة على الصحيح. وتوفي لأربع عشرة ليلة خلت من شعبان [وقال الطبري في تاريخه: توفي يوم الأربعاء ثالث عشر الشهر المذكور] (1) سنة إحدى وثلاثين ومائتين بسر من رأى، وقيل سنة ثلاثين ومائتين، والأول أصح، وصلى عليه القاضي أحمد بن أبي داود الإيادي - المقدم ذكره. والأعرابي: بفتح الهمزة وسكون العين المهملة وفتح الراء وبعد الألف باء موحدة، هذه النسبة إلى الأعراب، قال أبو بكر بن عزيز السجستاني المعروف بالعزيزي في كتابه الذي فسر فيه غريب القرآن الكريم: يقال رجل أعجم وأعجمي أيضا إذا كان في لسانه عجمة، وإن كان من العرب ورجل عجمي منسوب إلى العجم وإن كان فصيحا، ورجل أعرابي إذا كان بدويا وإن لم يكن من العرب، ورجل أعرابي إذا كان بدويا وإن لم يكن من العرب، ورجل عربي منسوب إلى العرب وإن لم يكن بدويا. وإسبيجاب: بكسر الهمزة وسكون السين المهملة وكسر الباء الموحدة وسكون الياء المثناة من تحتها وفتح الجيم وبعد الألف باء موحدة، وهي مدينة من اقصى بلاد الشرق، وأظنها من إقليم الصين أو قريبة منه.   (1) لم يرد إلا في ر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 308 وبطنان: بضم الباء الموحدة وسكون الطاء المهملة وبين النونين ألف، وهو جمع بطن، وهو الغامض من الأرض (1) . 634 - (2) الكلبي أبو النضر محمد بن السائب بن بشر، وقيل مبشر، بن عمرو الكلبي [وقال محمد بن سعد: هو محمد بن السائب الكلبي بن بشر بن عمرو بن الحارث بن عبد الحارث بن عبد العزى بن امرئ القيس بن عامر بن النعمان بن عامر ابن عبدون بن كنانة بن عوف بن عذرة بن زيد بن عبد اللات بن رفيدة بن ثور بن كلب، ثم كشفت كتاب النسب لهشام بن الكلبي فساق نسبهم على هذه الصورة إلا أنه أسقط منه عبد الحارث فقط، والباقي صحيح] (3) الكوفي، صاحب التفسير وعلم النسب؛ كان أماما في هذين العلمين. حكى ولده هشام عنه قال: دخلت على ضرار بن عطارد بن حاجب بن زرارة التميمي بالكوفة، وإذا عنده رجل كأنه جرذ يتمرغ في الحر (4) ، وهو الفرزدق الشاعر، فغمزني ضرار وقال: سله ممن أنت، فسألته فقال: إن كنت نسابا فانسبني، فإني من بني تميم، فابتدأت أنسب تميما حتى بلغت إلى غالب، وهو والد الفرزدق، فقلت: وولد غالب   (1) بطنان: اسم واد بين منبج وحلب، ويضاف إلى موضع فيقال: بطنان حبيب، وبطنان قنسرين (ياقوت) . (2) ترجمته في الفهرست: 95 والمعارف: 535 والوافي 3: 83 وميزان الاعتدال 3: 556 وعبر الذهبي 1: 206 وتهذيب التهذيب 9: 178 والشذرات 1: 217 وبروكلمان 3: 30 (الترجمة العربية) ؛ وتشترك نسخة قاضي زاده محمد ورمزها (ق) مع النسخ الأخرى ابتداء من هذه الترجمة. (3) ما بين معقفين انفردت به ر. (4) لي ن ق: الخز. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 309 هماما - وهو اسم الفرزدق، كما سيأتي ترجمته في حرف الهاء إن شاء الله تعالى - فاستوى الفرزدق جالسا وقال: والله ماسماني به أبواي ولاساعة من النهار، فقلت: والله إني لأعرف اليوم الذي سماك فيه أبوك الفرزدق، فقال: وأي يوم فقلت: بعثك في حاجة فخرجت تمشي وعليك مستقة (1) ، فقال: والله لكأنك فرزدق، دهقان قرية قد سماها بالجبل، فقال: صدقت والله، ثم قال: أتروي شيئا من شعري فقلت: لا، ولكن أروي لجرير مائة قصيدة، فقال: تروي (2) لابن المراوغة ولاتروي لي والله لآهجون كلبا سنة أو تروي لي كما رويت لجرير، فجعلت أختلف إليه أقرأعليه النقائض خوفا منه، وما لي في شيء منها حاجة. قلت: المستقة، بضم الميم وسكون السين المهملة وضم التاء المثناة من فوقها وهي الفروة الطويلة الكم، والجمع مساتق (3) وفيها لغة أخرى بفتح التاء، وروي عن عمر رضي الله عنه، انه كان يصلي وعليه مستقة [من سندس] (4) وروي عن أنس بن مالك أن ملك الروم أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، مستقة من سندس فلبسها فكأني أنظر إلى يديه قد بدتا، ثم بعث بها إلى جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، فقال: ابعث بهاإلى أخيك النجاشي، وقال النضر بن شميل: المستقة: الجبة الوسعة. وكان الكلبي (5) المذكور من أصحاب عبد بن سبأالذي يقول إن علي بن أبي طالب رضي الله عنه لم يمت وإنه راجع إلى الدنيا. وروى عنه سفيان الثوري ومحمد بن إسحاق، وكانا يقولان: حدثنا أبو النضر حتى لايعرف؛ وشهد الكلبي المذكور دير الجماجم مع عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بن قيس الكندي،   (1) ق: مشنقة؛ وزاد في هذه الموضع تعريف اللفظة. (2) ق: قال فتروي. (3) قلت: المستقة ... مساتق: وردت هذه العبارة في النسخ (ما عدا ر) في آخر الترجمة، وسقط من تلك النسخ سائر ما ورد بعد ذلك متصلاً بالتعليق على لفظة المستقة. (4) زيادة من ر. (5) ر: ابن الكلبي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 310 وشهد جده بشر وبنوه السائب وعبيد وعبد الرحمن وقعة الجمل وصفين مع علي ابن أبي طالب رضي الله عنه، وقتل السائب مع مصعب بن الزبير (1) ، وفيه يقول ابن ورقاء النخعي: فمن مبلغ عني عبيدا بأنني ... علوت أخاه بالحسام المهند فإن كنت تبغي العلم عنه فإنه ... مقيم لدى الديرين غير موسد وعمدا علوت الرأس منه بصارم ... فأثكلته سفيان بعد محمد سفيان ومحمد ابنا السائب. وذكر هشام بن الكلبي المذكور في كتابجمهرة النسب أن جدهم عبد العزى كان جميلا شريفا، وقد وفد على بعض بني جفنة بأفراس فقبلها وأعجبه حديثه، وكان يسامره، فقتلت بنو كنانة ابنا له، فقال لعبد العزى: ائتني بهم فقال: إنهم قوم احرار ليس لي عليهم فضل، وكتب إلى قومه ينذرهم، فقال في شعر له طويل: جزاني جزاه الله شر جزائه ... جزاء سنمار وما كان ذا ذنب وسنمار هو الذي بنى الخورنق على باب الحيرة للنعمان الأكبر ابن امرئ القيس ملك الحيرة فألقاه من أعلاه فقتله، وقصته طويلة مشهورة فلا حاجة إلى ذكرها. وتوفي محمد الكلبي المذكور سنة ست وربعين ومائة بالكوفة، رحمه الله تعالى. - وسيأتي ذكر ولده أبي المنذر هشام النسابة في حرف الهاء، إن شاء الله تعالى -.والكلبي بن وبرة، وهي قبيلة وسكون اللام وبعدها باء موحدة، هذه النسبة إلى كلب بن وبرة، وهي قبيلة كبيرة من قضاعة، ينسب إليها خلق كثير. والمستقة: لفظة فارسية معربة (2) .   (1) سقط ما بعد هذا من ق ما عدا ضبط " الكلبي ". (2) وردت هذه العبارة في ر وحدها في هذا الموضع ومن حقها أن تجيء في تعريف " المستقة " فيما تقدم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 311 635 - (1) قطرب أبو علي محمد بن المستنير بن أحمد النحوي اللغوي البصري، مولى سالم بن زيادة، المعروف بقطرب؛ أخذ الأدب عن سيبويه وعن جماعة من العلماء البصريين، وكان حريصا على الاشتغال والتعلم، وكان يبكر إلى سيبويه قبل حضور أحد من التلامذة، فقال له يوما: ما أنت إلا قطرب ليل، فبقي عليه هذا اللقب، وقطرب: اسم دويبة لا تزال تدب ولا تفتر، وهو بضم القاف وسكون الطاء المهملة وضم الراء وبعدها باء موحدة. وكان من أئمة عصره؛ وله من التصانيف كتاب معاني القرآن وكتاب الاشتقاق وكتاب القوافي وكتاب النوادر وكتاب الأزمنة وكتاب الفرق وكتاب الأصوات وكتاب الصفات وكتاب العلل في النحو وكتاب الأضداد وكتاب خلق الفرس وكتاب خلق الإنسان وكتاب غريب الحديث وكتاب " الهمز " (2) وفعل وأفعل والرد على الملحدين في تشابه القرآن وغير ذلك. وهو أول من وضع المثلث في اللغة، وكتابه وإن كان صغيرا لكن له فضيلة السبق، وبه اقتدى أبو محمد عبد اله بن السيد البطليوسي - المقدم ذكره - (3) وكتابه كبير، ورأيت مثلثاآخر لشخص آخر تبريزي، وليس هو الخطيب أبو (4) زكريا التبريزي - الآتي ذكره إن شاء الله تعالى - بل غيره، ولا أستحضر   (1) ترجمته في نور القبس: 174 وإنباه الرواة 3: 219 وفي الحاشية ثبت بأهم المصادر؛ وهذه الترجمة شديدة الإيجاز في المختار. (2) ن: الهمزة. (3) 3: 96. (4) كذا في جميع النسخ؛ وفي ق بر: وما هو الخطيب ابو زكريا، وهو صواب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 312 الآن اسمه، وهو كبير أيضا واأقصر فيه، وما نهج لهم الطريق إلا قطرب المذكور. وكان قطرب معلم أولاد أبي دلف العجلي - المقدم ذكره (1) - وروى له ابن المنجم في كتاب البارع بيتين وهما: إن كنت لست معي فالذكر منك معي ... يراك قلبي وإن غيبت (2) عن بصري والعين (3) تبصر من تهوى وتفقده ... وباطن القلب لا يخلو من النظر هذان البيتان مشهوران ولاأعلم أنهما إلا من هذا الكتاب. وتوفي سنة ست ومائتين، رحمه الله تعالى؛ ويقال إن اسمه محمد، وقيل الحسن بن محمد، والأول أصح، والله أعلم بالصواب. والمستنير: بضم الميم وسكون السين المهملة وفتح التاء المثناة من فوقها وكسر النون وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها راء. 636 - (4) المبرد أبو العباس محمد بن يزيد بن عبد الأكبر بن عمير بن حسان بن سليمان (5) بن سعد بن عبد الله بن زيد بن مالك بن الحارث بن عامر بن عبد الله (6) بن بلال بن   (1) انظر ما تقدم: 73 وعند هذا الحد تنتهي الترجمة في ق مع إضافة ذكر الوفاة والترجيح في الاسم. (2) س ل بر من: إذا غيبت. (3) لي: فالعين. (4) ترجمته في نور القبس: 324 وعبر الذهبي 2: 74 وإنباه الرواة 3: 241 وفي حاشية الانباه سرد لمصادر أخرى؛ وقد ورد نسبه موجزاص في س ن ل لي ق. (5) الجمهرة: سليم؛ وعند المرزباني " سليمان ". (6) عامر بن عبد الله: تكررت في ر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 313 عوف بن أسلم، وهو ثمالة، بن أحجن (1) بن كعب بن الحارث بن كعب ابن عبد الله بن مالك بن النضر بن الأسد بن الغوث، وقال ابن الكلبي: عوف بن أسلم هو ثمالة والأسد هو الأزد، الثمالي الأزدي البصري المعروف بالمبرد النحوي؛ نزل بغداد، وكان إماما في النحو واللغة، وله التواليف النافعة في الأدب: منها كتاب الكامل وكتاب الروضة وطالمقتضب وغير ذلك. أخذ الأدب عن أبي عثمان المازني وأبي حاتم السجستاني - وقد تقدم ذكرهما - وأخذ عنه نفطويه - وقد تقدم ذكره (2) - وغيره من الأئمة. وكان المبرد المذكور وأبو العباس أحمد بن يحيى الملقب بثعلب صاحب كتاب الفصيح عالمين متعاصرين (3) قد ختم بهما تاريخ الأدباء، وفيهما يقول بعض أهل عصرهما من جملة أبيات وهو أبو بكر ابن أبي الأزهر (4) : أيا طالب العلم لا تجهلن ... وعذ بالمبرد او ثعلب تجد عند هذين علم الورى ... فلا تك كالجمل الأجرب علوم الخلائق مقرونة ... بهذين في الشرق والمغرب وكان المبرد يحب الاجتماع في المناظرة بثعلب والاستكثار منه، وكان ثعلب يكره ذلك ويمتنع منه، وحكى أبو القاسم جعفر بن محمد بن حمدان الفقيه الموصلي وكان صديقهما، قال: لأبي عبد الله الدينوري ختن ثعلب: لم يأبى ثعلب الاجتماع بالمبرد فقال: لأن المبرد حسن العبارة حلو الإشارة فصيح اللسان ظاهر البيان، وثعلب مذهبهمذهب المعلمين، فإذا اجتمعا في محفل حكم للمبرد على الظاهر إلى أن يعرف الباطن. وكان المبرد كثير الأمالي حسن النوادر، فمما أملاه أن المنصور أبا جعفر   (1) ل لي ن س: أحجر؛ وما هنا موافق لنا في الجمهرة ونور القبس وغيرهما. (2) انظر ج 1: 283 و 2: 430 و 1: 47 على التوالي. (3) في نور القبس: وكان ثعلب والمبرد علمين ختم تاريخ الأدباء بهما. (4) نسبت هذه الأبيات في نور القبس لعبد الله بن الحسين بن سعد القطربلي صاحب التاريخ؛ ولم يرد في ق اسم الشاعر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 314 ولى رجلا على العميان والأيتام والقواعد من النساء اللواتي لا أزواج لهن، فدخل على هذا المتولي بعض المتخلفين ومعه ولده، فقال له: إن رأيت أصلحك الله أن تثبت اسمي مع القواعد، فقال له المتولي: القواعد نساء فكيف أثبتك فيهن فقال ففي العميان فقال: أما هذا فنعم، فإن الله تعالى يقول " فإنها لاتعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور " - الحج:46 - فقال: وتثبت ولدي في الأيتام، فقال: وهذا أفعله أيضا، فإنه من تكن أنت أباه فهو يتيم، فانصرف عنه وقد أثبته في العميان وولده في الأيتام. وطلب (1) بعض الأكابر من المبرد معلما لولده، فبعث شخصا وكتب معه: قد بعثت به وأنا اتمثل فيه: إذا زرت الملوك فإن حسبي ... شفيعا عندهم أن يخبروني ومعنى هذا البيت مأخوذ من كلام أحمد بن يوسف كاتب المأمون وقد أهدى إليه ثوب وشي في يوم نيروز: قد أهديت إلى أمير المؤمنين ثوب وشي يصف نفسه، والسلام. [وحكى عنه أبو بكر ابن أبي الأزهر بشيء طريف في هذا قال: حدثني محمد بن يزيد قال: قال لي المازني ياأبا العباس بلغني أنك تنصرف من مجلسنا فتصير إلى مواضع المجانين والمعالجين فما معناك في ذاك قال: فقلت له: ان لهم أعزك الله طرائف من الكلام وعجائب من الأقسام، فقال: حدثني بأعجب ما رأيته منهم، فقلت: دخلت يوما إلى مستقرهم مع ابن أبي خميصة، وكان المتقلد عليهم النفقة والمتقلد أحوالهم، فرأيت مراتبهم على مقدار بليتهم، فمررت على شيخ منهم تلوح صلعته وتبرق بالدهن جبهته، وهو جالس على حصير نظيف ووجهه إلى القبلة كأنه يريد الصلاة، فجاوزته إلى غيره، فناداني: سبحان الله، اين السلام من أولى به أنا أو أنت فاستحسنت منه وقلت: السلام عليكم، فقال: لو كنت ابتدأت لأوجبت علينا حسن الرد عليك، على أننا نصرف سوء   (1) وطلب بعض ... السلام: سقط من النسخ ما عدا ر والمختار. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 315 أدبك لأحسن جهاته من العذر، لأنه كان يقال إن للقادم دهشة، اجلس أعزك الله عندنا، وأومأ إلى موضع من حصيرة ينفضه كأنه يوسعه لي، فعزمت على الدنو، فناداني ابن أبي خميصة: إياك إياك، فأحجمت عن ذلك ووقفت ناحية استجلب مخاطبته وأرصد الفائدة منه؛ ثم قال لي وقد رأى معي محبرة: ياهذا أرى معك آلة رجلين أرجو ألا تكون أحدهما: أتجالس أصحاب الحديث الأغثات أم الأدباء من أصحاب النحو والشعر قلت: الأدباء، قال: أتعرف أبا عثمان المازني قلت: نعم أعرفه معرفة تامة، قال: أفتعرف الذي يقول فيه: وفتى من مازن ... ساد أهل البصرة أمه معروفة ... وأبوه نكره قلت لاأعرفه؛ قال: أفتعرف غلاما له قد نبغ في هذا العصر، معه ذهن وله حفظ وقد برز في النحو وجلس مجلس صاحبه وشاركه فيه يعرف بالمبرد فقلت: أنا والله عين الخبير به، قال: فهل أنشدك شيئا من غثيثات أشعاره قلت: لاأحسبه يحسن قول الشعر، قال: ياسبحان الله، أليس الذي يقول: حبذا ماء العناقي ... د بريق الغانيات بهما ينبت لحمي ... ودمي أي نبات أيها الطالب أشهى ... من لذيذ الشهوات كل بماء المزن تفا ... ح خدود الناعمات قلت: قد سمعته ينشدها في مجلس الأنس، قال: ياسبحان الله اويستحب أن ينشد مثل هذا حول الكعبة ماتسمع الناس يقولون في نسبه قلت يقولون إنه من الأزد، أزد شنوءة، ثم من ثمالة، قال: قاتله الله ما أبعد غوره! أتعرف قوله: سألنا عن ثمالة كل حي ... فقال القائلون ومن ثمالة فقلت: محمد بن يزيد منهم ... فقالوا زدتنا بهم جهالة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 316 فقال لي المبرد خل قومي ... فقومي معشر فيهم نذالة فقلت: أعرف هذه الأبيات لعبد الصمد بن المعذل يقولها فيه؛ قال: كذب من ادعاها غيره، هذا كلام رجل لانسب له يريد أن يثبت بهذا الشعر نسبا له. قلت: أنت أعلمن قال: ياهذا قد غلبت بخفة روحك على قلبي وتمكنت من إنصاتك من استحساني، وقد أخرت ماكان يجب أن أقدمه، الكنية أصلحك الله، فقلت: أبو العباس، قال: فالاسم قلت: محمد، قال: فالأب قلت: يزيد، قال: قبحك الله، أحوجتني إلى الاعتذار إليك مما قدمت ذكره؛ ثم وثب باسطا كفه لمصافحتي، فرأيت القيد في رجله قد شد إلى خشبة في الأرض، فأمنت عند ذلك غائلته، فقال لي: ياأبا العباس، صن نفسك عن الدخول إلى هذه المواضع فليس يتهيألك في كل وقت أن تصادف مثلي على مثل هذه الحال الجميلة، أنت المبرد أنت المبرد أنت المبرد، وجعل يصفق وقد انقلبت عينه وتغيرت حليته، فبادرت مسرعا خوفا من ان يبدر لي منه شيء [أو] بادرة، وقبلت والله قوه فلم أعاود الدخول إلى محبس ولا غيره. وقال أبو العباس المبرد: ماتنادر أحد [علي] ما تنادر به سذاب الوراق، فإني اجتزت يوما به وهو قاعد بباب داره، فقال لي: إلى أين ولا طفني وعرض علي القرى، فقلت له: ما عندك فقال: عندي أنت وعليه أنا، يشير إلى اللحم المبرد بالسذاب. وذكر رجلا عاد المبرد بالبصرة مع جماعة، فغنت جارية من وراء ستارة: وقالوا لها هذا حبيبك معرض ... فقالت ألا إعراضه أيسر الخطب فما هي إلا نظرة بتبسم ... فتصطك رجلاه ويسقط للجنب فطرب كل من حضر إلا المبرد، فقال له صاحب المجلس: كنت أحق بالطرب، فقلت الجارية: دعه يامولاي، فإنه سمعني أقول هذا حبيبك معرض فظنني لحنت ولم يعلم أن ابن مسعود قرأ " وهذا بعلي شيخ " - هود:72 - قال: فطرب المبرد من قولها إلى أن شق ثوبه] (1) .   (1) ما بين معقفين زيادة من ق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 317 وكنت رأيت المبرد المذكور في المنام وجرى لي معه قصة عجيبة فأحببت ذكرها، وذلك أني كنت بالإسكندرية في بعض شهور سنة ست وثلاثين وستمائة وأقمت بها خمسة أشهر، وكان عندي كتاب الكامل للمبرد، وكتاب العقد لابن عبد ربه، وأنا أطالع فيهما، فرأيت في العقد في فصل ترجمة بقوله " ماغلط فيه على الشعراء " (1) وذكر أبياتا نسبوا أصحابها فيها إلى الغلط وهي صحيحة، وإنما وقع ممن استدرك عليهم لعدم اطلاعهم على حقيقة الأمر فيها، ومن جملة من ذكر المبرد فقال: ومثله قول محمد بن يزيد النحوي في كتاب " الروضة " ورد على الحسن بن هانئ - يعني أبا نواس - في قوله: وما لبكر بن وائل عصم ... إلا بحمقائها وكاذبها فزعم أنه أراد بحمقائها هبنقة القيسي، ولايقال في الرجل حمقاء، وإنما أراد دغة العجيلية، وعجل في بكر، وبها يضرب المثل في الحمق، هذا كله كلام صاحب العقد وغرضه أن المبرد نسب أبانواس إلى الغلط بكونه قال ب حمقائها واعتقد أنه أراد هبنقة، وهبنقة رجل، والرجل لايقال له حمقاء، بل يقال له أحمق، وأبونواس إنما أراد دغة وهي امرأة، فالغلط حينئذ من المبرد، لا من أبي نواس. فلما كان بعد ليال قلائلب من وقوفي على هذه الفائدة رأيت في المنام كأني بمدينة حلب في مدرسة القاض بهاء الدين المعروف بابن شداد، وفيها كان اشتغالي بالعلم، وكأننا قد صلينا الظهر في الموضع الذي جرت العادة بالصلاة فيه جماعة، فلما فرغنا من الصلاة قمت لأخرج، فرأيت في أخريات الموضع شخصا واقفا يصلي، فقال لي بعض الحاضرين: هذا أبو العباس المبرد، فجئت إليه وقعدت إلى جانبه أنتظر فراغه، فلما فرغ سلمت عليه وقلت له: أنا في هذا الزمان أطالع في كتابك الكامل فقال لي: رأيت كتابي الروضة فقلت: لا، وما كنت رأيته قبل ذلك، فقال: قم حتى أريك إياه، فقمت معه وصعد بي إلى بيته (2) ، فدخلنا فيه ورأيت كتبا   (1) العقد 5: 390. (2) ق: وصعدت إلى بيته. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 318 كثيرة، فقعد قدامها يفتشى عليه وقعدت انا ناحية عنه، فأخرج منه مجلدا ودفعه إلي ففتحه وتركته في حجري ثم قلت له: قد أخذا عليك فيه، فقال: أي شيء أخذوا فقلت: أنك نسبت أبانواس إلى الغلط في البيت الفلاني، وأنشدته إياه فقال: نعم، غلط في هذا، فقلت له: إنه لم يغلط، بل هو على الصواب، ونسبوك أنت إلى الغلط في تغليطه، فقال: وكيف هذا فعرفته ما قال صاحب العقد فعض على رأس سبابته، وبقي ساهيا ينظر إلي وهو في صورة خجلان ولم ينطق، ثم استيقظت من منامي وهو على تلك الحال، ولم أذكر هذا المنام إلا لغربته. وكانت ولادة المبرد يوم الاثنين عيد الأضحى سنة عشر ومائتين، وقيل سنة سبع ومائتين ز وتوفي يوم الاثنين لليلتين بقيتا من ذي الحجة، وقيل ذي القعدة، سنة ست وثمانين، وقيل خمس وثمانين ومائتين ببغداد، ودفن في مقابر باب الكوفة في دار اشتريت له، وصلى عليه أبو محمد يوسف بن يعقوب القاضي، رحمه الله تعالى. ولما مات نظم فيه وفي ثعلب أبو بكر الحسن بن علي المعروف بابن العلاف - المقدم ذكره (1) - أبياتا سائرة، وكان ابن الجواليقي كثيرا ما ينشدها، وهي: ذهب المبرد وانقضت أيامه ... وليذهبن إثر المبرد ثعلب بيت من الآداب أصبح نصفه ... خربا وباقي بيتها (2) فسيخرب فابكوا لما سلب الزمان ووطنوا ... للدهر أنفسكم على ما يسلب وتزودوا من ثعلب، فبكأس ما ... شرب المبرد عن قريب يشرب وأرى لكم أن تكتبوا أنفاسه ... إن كانت الأنفاس مما يكتب وقريب من هذه الأبيات ما أنشده أبو عبد الله الحسين بن علي اللغوي البصري   (1) ترجمة أبي بكر العلاف في المجلد 2: 107 ولكن المرزباني أورد الأبيات في نور القبس: 333 نسبها لمحمد بن علي بن يسار العلاق (اقرأ: العلاف) الضرير. (2) نور القبس: نصفه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 319 النمري (1) لما مات أبو عبد الله محمدبن المعلى الأزدي، وكان بينهما تنافس وهي: مضى الأزدي والنمري يمضي ... وبعض الكل مقرون ببعض أخي والمجتني ثمرات ودي ... وإن لم يجزني قرضي وفرضي وكانت بيننا أبدا هنات ... توفر عرضه منها وعرضي وما هانت رجال الأزد عندي ... وإن لم تدن أرضهم بأرضي (2) والثمالي: بضم الثاء المثلثة وفتح الميم وبعد الألف لام، هذه النسبة إلى ثمالة، واسمه عوف بن أسلم، وهو بطن من الأزد، قال المبرد في كتاب الاشتقاق: إنما سميت ثمالة لأنهم شهدوا حربا فني فيها أكثرهم، فقال الناس: مابقي منهم إلا ثمالة، والثمالة: البقية اليسيرة. وفي المبرد يقول بعض شعراء عصره وهجا قبيلته بسببه، وذكر أبو علي القالي في كتاب الأمالي أنها لعبد الصمد ابن المعذل (3) : سألنا عن ثمالة كل حي ... فقال القائلون: ومن ثمالة فقلت محمد بن يزيد منهم ... فقالوا زدتنا بهم جهالة فقال لي المبرد خل عني ... فقومي معشر فيهم نذالة ويقال: إن هذه الأبيات للمبرد، وكان يشتهي أن يشتهر بهذه القبيلة، فصنع هذه الأبيات فشاعت وحصل له مقصوده من الاشتهار. وكان كثيرا ما ينشد في مجالسه: يا من تلبس أثوابا يتيه بها ... تيه الملوك على بعض المساكين   (1) ذكره صاحب الفهرست: 80 وترجم له صاحب نزهة الألباء: 224 وقال إن ابا عبد الله الحسين ابن علي البصري أخذ عنه وأنه صنف كتاباً في أسماء الذهب والفضة وكتاباً في مشكلات الحماسة وأورد الأبيات في رثائه للأزدي؛ وفي ق: أبو عبد الله محمد النمري. (2) ق: وأرضي. (3) الأمالي 1: 112؛ وفي ل س لي بر من: ابن المعدل (بالدال المهملة) وقال القاضي عياض (المدارك 1: 47) كثير من يقوله بدال مهملة وصوابه بمعجمة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 320 ما غير الجل أخلاق الحمير ولا ... نقش البراذع أخلاق البراذين (1) والمبرد: بضم الميم وفتح الباء الموحدة والراء المشددة وبعدها دال مهملة، وهو لقب عرف به، واختلف العلماء في سبب تلقيبه بذلك، فالذي ذكره الحافظ أبو الفرج ابن الجوزي في كتاب الألقاب أنه قال: سئل المبرد: لم لقبت بهذا اللقب فقال: كان سبب ذلك أن صاحب الشرطة طلبني للمنادمة والمذاكرة، فكرهت الذهاب إليه، فدخلت إلى أبي حاتم السجستاني، فجاء رسول الوالي يطلبني (2) ، فقال لي أبو حاتم: ادخل في هذا، يعني غلاف مزملة فارغا، فدخلت فيه وغطى رأسه، ثم خرج إلى الرسول وقال: ليس هو عندي، فقال: أخبرت أنه دخل إليك، فقال: إدخل الدار وفتشها، فدخل فطاف كل موضع في الدار ولم يفطن لغلاف المزملة، ثم خرج فجعل أبو حاتم يصفق وينادي على المزملة: المبرد المبرد، وتسامع الناس بذلك فلهجوا به. وقيل إن الذي لقبه بهذا اللقب شيخه أبو عثمان المازني، وقيل غير ذلك. وهبنقة: بفتح الهاء والباء الموحدة والنون المشددة والقاف وبعدها هاء ساكنة، وهو لقب أبي الودعات يزيد بن ثروان القيسي، وقيل كنيته أبو نافع، وبه يضرب المثل في الحمق فيقال أحمق من هبنقة القيسي " (3) لأنه كان قد شردله بعير فقال: من جاء به فله بعيران، فقيل له: أتجعل في بعير بعيرين فقال: إنكم لاتعرفون حلاوة الوجدان، فنسب إلى الحمق بهذا السبب، وسارت به الأشعار فمن ذلك قول أبي محمد يحيى بن المبارك اليزيدي - وسيأتي ذكره إن شاء الله - في شيبة بن الوليد العبسي عم دقاقة (4) ، من جملة أبيات:   (1) وكان كثيراً ... البراذين: سقط من س ن ل لي ت ق بر من؛ وسقط من قبله الأبيات في ثمالة لأنها وردت في النص الذي انفردت به ق قبلاً. (2) ق ر بر من والمختار: فطلبني. (3) مجمع الأمثال 1: 146 وأورد أبيات اليزيدي (ص: 147) وكذلك في الأغاني 20: 191 وفصل المقال: 230 وحماسة البحتري: 158؛ وقد سقط ضبط " هنبقة " من ق. (4) لي: دفافة؛ بر من: دفاقة، وفي الأغاني: ذفافة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 321 عش بجد ولا (1) يضرك نوك ... إنما عيش من ترى بالجدود (2) رب ذي إربة مقل من الما ... ل وذي عنجهية مجدود عش بجد وكن هبنقة القي ... سي أو مثل شيبة بن الوليد وسبب نظم اليزيدي هذه الأبيات أنه تناظر هو والكسائي في مجلس المهدي، وكان شيبة بن الوليد حاضرا فتعصب للكسائي وتحامل على اليزيدي، فهجاه في عدة مقاطيع هذا المقطوع من جملتها. ودغة: بضم الدال المهملة (3) وفتح الغين المعجمة وبعدها هاء ساكنة، واسمها مارية بنت مغنج، بفتح الميم وسكون الغين المعجمة وفتح النون وبعدها جيم، وقيل معنج بكسر الميم وسكون العين المهملة وباقية مثل الأول، وهو لقب، واسمه ربيعة بن سعد بن عجل بن لجيم - وهي التي يضرب بها المثل في الحمق، فيقال " أحمق من دغة " (4) . وذكر ابن الكلبي في كتاب جمهرة النسب غير هذا، فقال في نسب بني العنبر: فولد جندب بن العنبر عديا وكعبا وعويجا أمهم مارية بنت ربيعة بن سعد بن عجل، ويقال بل هي دغة بنت مغنج بن إياد، فجعل مارية غير دغة، والله أعلم. وإنما نسبت إلى الحمق لأنها ولدت فصاح المولود، فقالت لامرأة: أيفتح الجعر فاه فقالت المرأة: نعم ويسب أباه، فسارت مثلا. الأصل في الجعر أنه روث كل ذي مخلب من السباع، وقد يستعمل في غيرها بطريق التجوز، ودغة لجهلها لما ولدت ظنت أنه قد خرج منها المعتاد، فلما استهل المولود عجبت من ذلك وسألت عنه، فهذا كان سبب نسبتها إلى الحمق. وكانت متزوجة في بني العنبربن عمرو بن تميم، فبنو العنبر يدعون لذلك بني الجعراء؛ وهذا كله وإن كان خارجا عن المقصود، لكنها فوائد غريبة فأحببت (5) ذكرها (6) .   (1) ق: فلن. (2) ق: بحدود. (3) سقط ضبط دغة من ق. (4) مجمع الأمثال 1: 147. (5) لي: أحببت. (6) ق: أن أذكرها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 322 637 - (1) ابن دريد أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد بن عتاهية بن حنتم بن حسن بن حمامي بن جرو بن واسع بن وهب بن سلمة ابن حاضر بن أسد بن عدي بن عمرو بن مالك بن فهم بن غانم بن دوس بن عدنان بن عبد الله بن زهران بن كعب بن الحارث بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نصر بن الأزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، الأزدي اللغوي البصري إمام عصره في اللغة والآداب والشعر الفائق؛ قال المسعودي في كتاب (2) " مروج الذهب " في حقه (3) : وكان ابن دريد ببغداد ممن برع في زماننا هذا في الشعر (4) ، وانتهى في اللغة، وقام مقام الخليل بن أحمد فيها، وأورد أشياء في اللغة لم توجد في كتب المتقدمين، وكان يذهب بالشعر كل مذهب، فطورا يجزل وطورا يرق، وشعره أكثر من أن نحصيه أو نأتي على أكثره أو يأتي عليه كتابنا هذا، فمن جيد شعره قصيدته المشهورة بالمقصورة (5) التي يمدح بها الشاه ابن ميكال وولده (6) ، وهما عبد الله بن محمد بن ميكال وولده أبو العباس إسماعيل بن عبد الله، ويقال إنه أحاط فيها بأكثر المقصور، وأولها (7) :   (1) ترجمته في نور القبس: 342 وعبر الذهبي 2: 187 والمحمدون: 201 وانباه الرواة 3: 92 وفي الحاشية ذكر لمصادر أخرى. (2) لي: صاحب كتاب. (3) مروج الذهب 4: 320. (4) ق: في زمانه بالشعر. (5) ر ق بر من والمختار: قصيدته المقصورة. (6) ق: وولديه. (7) ليس هذا أولها، بل مطلعها: يا ظبية أشبه شيء بالمها ... ترعى الخزامى بين أشجار النقا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 323 إما تري رأسي حاكى لونه ... طرة صبح تحت أذيال الدجى واشتعل المبيض في مسوده ... مثل اشتعال النار في جزل الغضى ثم قال المسعودي: وقد عارضه في هذه القصيدة المعروفة جماعة من الشعراء منهم أبو القاسم علي (1) بن محمد بن أبي الفهم الأنطاكي التنوخ، وعدد جمعا ممن عارضها. قلت أنا: وقد اعتنى بهذه المقصورة خلق من المتقدمين والمتأخرين، وشرحوها وتكلموا على ألفاظها، ومن أجود شروحها وأبسطها شرح الفقيه أبي عبد الله محمد بن أحمد بن هشام ابن إبراهيم اللخمي السبتي، وكان متأخرا توفي في حدود سنة سبعين وخمسمائة، وشرحها الإمام أبو عبد الله محمد ابن جعفر المعروف بالقزاز صاحب كتاب الجامع في اللغة - وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى - وشرحها غيرهما أيضا (2) . ولا بن دريد من التصانيف المشهورة كتاب " الجمهرة " وهو من الكتب المعتبرة في اللغة، وله كتاب " الاشتقاق " وكتاب " السراج واللجام " وكتاب " الخيل " الكبير، وكتاب " الخيل " الصغير، وكتاب " الأنواء " وكتاب " المقتبس " وكتاب " الملاحن " وكتاب " زوار العرب " (3) وكتاب " اللغات " وكتاب " السلاح " وكتاب " غريب القرآن " لم يكمله، وكتاب " المجتبى " (4) وهو مع صغر حجمه كثير الفائدة، وكذلك " الوشاح " صغير مفيد (5) . وله نظم رائق جدا (6) ، وكان من تقدم من العلماء يقول: ابن دريد أعلم الشعراء وأشعر العلماء [فمن أول شعر قاله قوله:   (1) ق: القاسم بن علي. (2) قد نشرت المقصورة بشرح التبريزي. (3) كذا ورد في الأصول؛ وفي الفهرست: رواة العرب؛ ولعله " أذواء العرب ". (4) س لي والفهرست: المجتبى، واللفظة غير معجمة في ن ل ت وببعض أعجام في بر من. وقد طبع باسم " المجتبى " في حيدر آباد الدكن (1362) . (5) بعض أسماء كتبه سقطت في ق. (6) ق: جيد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 324 ثوب الشباب علي اليوم بهجته ... وسوف تنزعه عني يد الكبر أنا ابن عشرين ما زادت ولا نقصت ... إن ابن عشرين من شيب على خطر] (1) ومن مليح شعره قوله (2) : غراء لو جلت الخدود شعاعها ... للشمس عند طلوعها لم تشرق غصن على دعص تأود فوقه ... قمر تألق تحت ليل مطبق لو قيل للحسن احتكم لم يعدها ... أو قيل خاطب غيرها لم ينطبق وكأننا من فروعها في مغرب ... وكأننا من وجهها في مشرق تبدو فيهتف للعيون ضياؤها ... الويل حل بمقلة لم تطبق ولولا خوف الإطالة لذكرت كثيرا من شعره (3) . وكانت ولادته بالبصرة في سكة صالح سنة ثلاث وعشرين ومائتين، ونشأ بها وتعلم فيها، وأخذ عن أبي حاتم السجستاني والرياشي وعبد الرحمن بن عبد الله المعروف بابن أخي الأصمعي وأبي عثمان سعيد بن هارون الأشنانداني صاحب كتاب المعاني وغيرهم، ثم انتقل عن البصرة مع عمه الحسين عند ظهور الزنج (4) وقتلهم الرياشي - كماسبق في ترجمته (5) - وسكن عمان وأقام بها اثنتي عشرة سنة، ثم عاد إلى البصرة وسكنها زمانا، ثم خرج إلى نواحي فارس وصحب ابني ميكال، وكانا يومئذ على عمالة فارس، وعمل لهما كتاب الجمهرة وقلداه ديوان فارس، وكانت تصدر كتب فارس عن رأيه، ولا ينفذ أمر إلا بعد توقيعه، فأفاد معهما أموالا عظيمة، وكان مفيدا مبيدا لا يمسك درهما سخاء وكرما، ومدحهما بقصيدته المقصورة فوصلاه بعشرة آلاف درهم، ثم انتقل من فارس إلى بغداد، ودخلها سنة ثمان وثلثمائة بعد عزل ابني ميكال وانتقالهما إلى   (1) زيادة من ق. (2) ديوانه: 86. (3) بعد هذه العبارة اختلف ترتيب النص في ق عما هو عليه في النسخ الأخرى. (4) س: السونج. (5) انظر ما تقدم 3: 27. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 325 خراسان. ولما وصل إلى بغداد أنزله علي بن محمد الحواري في جواره وأفضل عليه، وعرف الإمام المقتدر خبره ومكانه من العلم، فأمر أن يجرى عليه خمسون دينارا في كل شهر، ولم تزل جارية عليه إلى حين وفاته. وكان واسع الرواية لم ير أحفظ منه، وكان يقرأ عليه دواوين العرب فيسابق إلى إتمامها من حفظه، وسئل عنه الدارقطني، أثقة هو أم لا فقال: تكلموا فيه، وقيل إنه كان يتسامح في الرواية فيسند إلى كل واحد ما يخطر له. وقال أبو منصور الأزهري اللغوي (1) : دخلت عليه فرأيته سكران، فلم أعد إليه. وقال ابن شاهينك كنا ندخل عليه ونستحيي مما نرى من العيدان المعلقة والشراب المصفى. وذكر أن سائلا سأله شيئا فلم يكن عنده غير دن من نبيذ فوهبه له، فأنكر عليه أحد غلمانه، وقال تتصدق بالنبيذ فقال: لم يكن عندي شيء سواه، ثم أهدي له بعد ذلك عشرة دنان من النبيذ، فقال لغلامه: أخرجنا دنا فجاءنا عشرة، وينسب إليه من هذه الأمور شيء كثير. وعرض له في رأس التسعين من عمره فالج سقي له الترياق فبرئ منه وصح ورجع إلى أفضل أحواله، ولم ينكر من نفسه شيئا ورجع إلى إسماع تلامذته وإملائه عليهم، ثم عاوده الفالج بعد حول لغذاء ضار تناوله، فكان يحرك يديه حركة ضعيفة، وبطل من محزمه إلى قدميه، فكان إذا دخل عليه الداخل ضج وتألم لدخوله وإن لم يصل إليه، قال تلميذه أبو علي إسماعيل بن القاسم القالي المعروف بالبغدادي - المقدم ذكره (2) -: فكنت أقول في نفسي: إن الله عز وجل عاقبه بقوله في قصيدته المقصورة - المقدم ذكرها - حين ذكر الدهر: مارست من لو هوت في الأفلاك من ... جوانب الجو عليه ما شكا وكان يصيح لذلك صياح من يمشي عليه أويسل (3) بالمسال، والداخل بعيد منه، وكان مع هذه الحال ثابت الذهن كامل العقل، يرد فيما يسأل عنه رداً   (1) مقدمة التهذيب 1: 31، وما هنا منقول عن القفطي وفي إيجاز. (2) انظر 1: 226. (3) ت ن: يشك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 326 صحيحا؛ قال أبو علي: وعاش بعد ذلك عامين، وكنت أسأله عن شكوكي في اللغة وهو بهذه الحال فيرد بأسرع من النفس بالصواب. وقال لي مرة وقد سألته عن بيت شعر: لئن طفئت شحمتا عيني لم تجد من يشفيك من العلم، قال أبو علي: ثم قال لي: يابني، وكذلك قال لي أبو حاتم وقد سألته عن شيء، ثم قال لي أبو حاتم: وكذلك قال لي الأصمعي وقد سألته. وقال أبو علي: وآخر شيء سألته عنه جاوبني أن قال لي: يابني حال الجريض دون القريض، فكان هذا الكلام آخر ماسمعته منه وكان قبل ذلك كثيرا ما يتمثل: فواحزني أن لا حياة لذيذة ... ولا عمل يرضى به الله صالح وقال المرزباني (1) ، قال لي ابن دريد: سقطت من منزلي بفارس، فانكسرت ترقوتي، فسهرت ليلتي، فلما كان آخر الليل غمضت (2) عيني فرأيت رجلا طويلا أصفر الوجه كوسجا (3) دخل علي وأخذ بعضادتي الباب وقال: أنشدني أحسن ما قلت في الخمر، فقلت: ما ترك أبو نواس لأحد شيئا، فقال: أنا أشعر منه، فقلت: ومن أنت فقال: أنا أبو ناجية من أهل الشام، وأنشدني (4) : وحمراء قبل المزج صفراء بعده ... أتت بين ثوبي نرجس وشقائق حكت وجنة المعشوق صرفا فسلطوا ... عليها مزاجا فاكتست لون عاشق فقلت له: أسأت، فقال: ولم قلت: لأنك قلت وحمراء فقدمت الحمراء ثم قلت بين ثوبي نرجس وشقائق فقدمت الصفرة، فهلا قدمتها على الأخرى، فقال: ما هذا الاستقصاء في هذا الوقت يابغيض وجاء في رواية أخرى أن الشيخ أبا علي الفارسي النحوي قال: أنشدني ابن دريد هذين البيتين لنفسه، وقال: جاءني إبليس في المنام وقال: أغرت على أبي   (1) انظر نور القبس: 343. (2) المرزباني والقفطي: حملتني؛ بر: أغمضت. (3) الكوسج: الذي ليس على عارضيه شعر. (4) ديوانه: 86. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 327 نواس فقلت: نعم فقال: أجدت إلا أنك أسأت في شيء، ثم ذكر بقية الكلام إلى آخره، والله أعلم (1) . وتوفي يوم الأربعاء لاثنتي عشرة ليلة بقيت من شعبان سنة إحدى وعشرين وثلثمائة ببغداد، رحمه الله تعالى، ودفن بالمقبرة المعروفة بالعباسية من الجانب الشرقي في ظهر سوق السلاح بالقرب من الشارع الأعظم. وتوفي في ذلك اليوم أبو هاشم عبد السلام بن أبي علي الجبائي المتكلم المعتزلي - المقدم ذكره (2) - فقال الناس: اليوم مات علم اللغة والكلام. ويقال إنه عاش ثلاثا وتسعين سنة لاغير، ورثاه جحظة البرمكي - المقدم ذكره (3) - بقوله: فقدت بابن دريد كل فائدة ... لما غدا ثالث الأحجار والترب وكنت أبكي لفقد الجود منفردا ... فصرت أبكي لفقد الجود والأدب الترب: بفتح الراء، جمع تربة. ودريد (4) : بضم الدال المهملة وفتح الراء وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها دال مهملة، وهو تصغير أدرد: الذي ليس فيه سن، وهو تصغير ترخيم، وإنما سمي هذا التصغير ترخيما لحذف حرف الهمزة من أوله كما تقول في تصغير أسود: سويد، وتصغير أزهر: زهير. وعتاهية: بفتح العين المهملة وفتح التاء المثناة من فوقها وبعد الألف هاء مكسورة وياء مفتوحة مثناة من تحتها وبعدها هاء ساكنة. وحنتم: بفتح الحاء المهملة وسكون النون وفتح التاء المثناة من فوقها وبعدها ميم، والأصل في الحنتم الجرة المدهونة الخضراء وبها سمي الرجل. وحمامي: بفتح الحاء المهملة والميم الخفيفة وبعد الألف ميم مكسورة ثم ياء، قال الأمير أبو نصر ابن ماكولا: هو أول من أسلم من آبائه. وبقية النسب   (1) وجاء في رواية ... أعلم: سقط من س ن ل لي ت ق بر من. (2) ترجمة الجبائي في 3: 183. (3) ترجمة جحظة في 1: 133. (4) توجز ق في ضبط هذه الكلمات. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 328 معروف. وحامي من جملة السبعين راكبا الذين خرجوا مع عمرو بن العاص من عمان إلى المدينة لما بلغهم وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والقصة (1) مشهورة وقد تقدم الكلام على الأزدي. وقوله " حال الجريص دون القريض " (2) هذا مثل مشهور وأول من نطق به عبيد بن الأبرص أحد شعراء الجاهلية لما لقي النعمان بن المنذر اللخمي آخر ملوك الحيرة في يوم بؤسه وعزم على قتله، وكان ذلك عادته، فأحس به عبيد فاستنشده شيئا من شعره، فقال له: حال الجريض دون القريض فسارت مثلا، والجريض: بفتح الجيم وكسر الراء وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها ضاد معجمة، هو الغضة، والقريض: الشعر، فكأنه قال: حالت الغصة دون إنشاد الشعر، وهذه القصة مشهورة، فاقتصرت منها على ذكر خلاصتها. (184) وعبيد: بفتح العين المهملة وكسر الباء الموحدة وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها دال مهملة، وهو شاعر مشهور، وكان في الولادة من أقرن عبد المطلب بن هاشم جد رسول الله صلى الله عليه وسلم. 638 - (3) أبو عمر المطرز الزاهد أبو عمر محمد بن عبد الواحد بن أبي هاشم، المعروف بالمطرز، الباوردي (4) الزاهد غلام ثعلب - المقدم ذكره (5) -؛ أحد أئمة اللغة المشاهير المكثرين،   (1) ر لي ن: والقضية. (2) انظر فصل المقال: 350 والميداني 1: 120 والعسكري 1: 239 والفاخر: 190. (3) ترجمته في انباه الرواة 3: 171 (وفي الحاشية مصادر أخرى) وانظر عبر الذهبي 2: 268 وفي الترجمة متابعة كثيرة لما أورده القفطي؛ وهذه الترجمة شديدة الإيجاز في ق. (4) الباوردي: سقطت من س ل لي ت ق بر من. (5) ترجمة ثعلب في 1: 102. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 329 صحب أبا العباس ثعلبا زمانا فعرف به إليه وأكثر من الأخذ عنه، واستدرك على كتابه " الفصيح " جزئا لطيفا سماه " فائت الفصيح " وشرحه أيضا في جزء آخر. وله كتاب " اليواقيت " (1) وكتاب " شرح الفصيح " لثعلب (2) ، وكتاب " الجرجاني " وكتاب " الموضح " وكتاب " الساعات " وكتاب " يوم وليلة " وكتاب " المستحسن " وكتاب " العشرات " وكتاب " الشورى " وكتاب " البيوع " وكتاب " تفسير أسماء الشعراء " وكتاب " القبائل " وكتاب " المكنون والمكتوم " وكتاب " التفاحة " وكتاب " المداخل " (3) وكتاب " على المداخل " وكتاب " النوادر " وكتاب " فائت العين " وكتاب " فائت الجمهرة " وكتاب " ما أنكرته الأعراب على أبي عبيدة فيما رواه أو صنفه ". وكان ينقل غريب اللغة وحواشيها، وأكثر ما نقل أبو محمد ابن السيد البطليوسي في كتاب " المثلث " عنه، وحكى عنه غرائب. وروى عنه أبو الحسن محمد بن رزقويه وأبو علي ابن شاذان وغيرهم. وكانت ولادته سنة إحدى وستين ومائتين. وتوفي يوم الأحد لثلاث عشرة ليلة خلت من ذي القعدة سنة خمس وأربعين، وقيل أربع وأربعين وثلثمائة، ودفن يوم الاثنين ببغداد في الصفة التي تقابل معروفا الكرخي، رضي الله عنهن وبينهما عرض الطريق، رحمه الله تعالى. وكان اشتغاله بالعلوم واكتسابها قد منعه من اكتساب الرزق والتحيل له، فلم يزل مضيقا عليه. وكان لسعة روايته وغزارة حفظه يكذبه أدباء زمانه في أكثر نقل اللغة ويقولون: لو طار طائر لقال أبو عمر حدثنا ثعلب عن ابن الأعرابي، ويذكر في معنى ذلك شيئا. فأما روايته الحديث فإن المحدثين يصدقونه ويوثقونه؛ وكان أكثر ما يمليه من التصانيف يلقيه بلسانه من غير صحيفة يراجعها، حتى قيل إنه أملى من حفظه ثلاثين ألف ورقة من اللغة، فلهذا الإكثار نسب إلى الكذب. وكان يسأل عن شيء قد تواطأت الجماعة على وضعه،   (1) راجع ما أورده القفطي عن مراحل تأليفه لهذا الكتاب؛ وقد سقط من ق ذكر أسماء الكتب بعد هذا الموضع. (2) ر: وكتاب الفصيح، وكذلك هو في أصل القفطي. (3) نشره الميمني بمجلة المجمع الدمشقي 1929. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 330 فيجيب عنه، ثم يترك سنة ويسأل عنه فيجيب بذلك الجواب بعينه. ومما جرى له في ذلك أن جماعة قصدوه للأخذ عنه، فتذكروا في طريقهم عند قنطرة هناك إكثاره، وأنه منسوب إلى الكذب بسبب ذلك، فقال أحدهم: أنا أصحف له اسم هذه القنطرة وأسأله عنها، فانظروا ماذا يجيب، فلما دخلوا عليه قال له: أيها الشيخ ما القبطرة (1) عند العرب فقال: كذا وكذا، فتضاحكت الجماعة سرا، وتركوه شهرا (2) ، ثم قرروا مع شخص سأله عن القبطرة بعينها فقال: أليس سئلت عن هذه المسألة منذ مدة كذا وكذا وأجبت عنها بكذا وكذا فعجب الجماعة من فطنته وذكائه واستحضاره للمسألة والوقت وإن لم يتحققوا صحة ما ذكره. وكان معز الدولة بن بويه قد قلد شرطة بغداد لغلام له اسمه خواجا، فبلغ أبا عمر الخبر، وكان يملي كتاب اليواقيت فلما جلس للإملاء قال: اكتبوا ياقوتة خواجا، الخواج في أصل لغة العرب: الجوع، ثم فرع على هذا بابا وأملاه، فاستعظم الناس ذلك من كذبه، وتتبعوه في كتب اللغة. قال أبو علي الحاتمي الكاتب اللغوي: أخرجنا في أمالي الحامض عن ثعلب عن ابن الأعرابي الخواج: الجوع. وكان أبو عمر المذكور يؤدب ولد القاضي أبي عمر محمد بن يوسف فأملى يوما على الغلام نحوا من مائة مسألة في اللغة وذكر غريبها وختمها ببيتين من الشعر، وحضر أبو بكر ابن دريد وأبو بكر ابن الأنباري وأبو بكر ابن مقسم عند القاضي أبي عمر، فعرض عليهم تلك المسائل، فما عرفوا منها شيئا وأنكروا الشعر، فقال لهم القاضي: ماتقولون فيها فقال ابن الأنباري: أنا مشغول بتصنيف مشكل القرآن ولست أقول شيئا، وقال ابن مقسم مثل ذلك، واحتج باشتغاله بالقراءات، وقال ابن دريد: هذه المسائل من موضوعات أبي عمر، ولا   (1) كذا في س لي؛ وفي ر ن من: القنطرة، والباء أو النون غير معجمة في ل بر؛ وفي المطبوعة المصرية " ما الهرطنق " وكذلك في معجم ياقوت؛ وهذا ليس تصحيفاً وإنما هو قلب؛ وفي أصل القفطي " القنطرة " وغيره المحقق ليوافق ما في ياقوت. (2) س ل لي بر: أشهراً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 331 أصل لها ولا لشيء منها في اللغة، وانصرفوا، وبلغ أبا عمر ذلك، فاجتمع بالقاضي وسأله إحضار دواوين جماعة من قدماء الشعراء عينهم، ففتح القاضي خزانته وأخرج له تلك الدواوين، فلم يزل أبو عمر يعمد إلى كل مسألة ويخرج لها شاهدا من بعض تلك الدواوين ويعرضه على القاضي حتى استوفى جميعها، ثم قال له: وهذان البيتان أنشدهما ثعلب بحضرة القاضي، وكتبهما القاضي بخطه على ظهر الكتاب الفلاني، فأحضر القاضي الكتاب فوجد البيتين على ظهره بخطه كما ذكر أبو عمر بلفظه به. وقال رئيس الرؤساء (1) : وقد رأيت أشياء كثيرة مما استنكر على أبي عمر ونسب فيها إلى الكذب، فوجدتها مدونة في كتب أهل اللغة، وخاصة في غريب المصنف لأبي عبيد. وقال عبد الواحد بن علي بن برهان الأسدي أبو القاسم (2) : لم يتكلم في علم اللغة أحد من الأزلين والآخرين أحسن من كلام أبي عمر الزاهد، وله كتاب " غريب الحديث " صنفه على مسند أحمد بن حنبل، وكان يستحسنه جدا. وقال أبو علي محمد بن الحسن الحاتمي: اعتللت فتأخرت عن مجلس أبي عمر الزاهد، قال: فسأل عني لما تراخت الأيام، فقيل له إنه كان عليلا، فجاءني من الغد يعودني، فاتفق أني كنت قد خرجت من داري إلى الحمام، فكتب بخطه على بابي باسفيداج: وأعجب شيء سمعنا به ... عليل يعاد فلا يوجد قال: والبيت له. وكان مغاليا في حب معاوية وعنده جزء من فضائله، وكان إذا ورد عليه من يروم الأخذ عنه ألزمه بقراءة ذلك الجزء. وكانت فضائله جمة ومعلوماته غزيرة، وفي هذا القدر كفاية. والمطرز: بضم الميم وفتح الطاء المهملة وكسر الراء المشددة وبعدها زاي،   (1) هو أبو القاسم علي بن الحسن بن أحمد المعروف بابن مسلمة (تاريخ بغداد 12: 491) . (2) انظر ترجمته في الانباه 2: 213. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 332 هذه الفظة تقال لمن يطرز الثياب، وكانت صناعة أبي عمر المذكور التطريز فنسب إليها، وعرف بهذه الصناعة جماعة من العلماء. وكشفت في كتاب الأنساب للسمعاني في ترجمة المطرز عن أبي عمر المذكور فلم يذكره، لكنه ذكر أبا القاسم عبد الواحد بن محمد بن يحيى بن أيوب المطرز البغدادي الشاعر، ويحتمل أن يكون والد أبي عمر المذكور، لأن اسمه موافق اسم والده، ويحتمل أن يكون غيره، لكني لاأعرفه، وقال: هو مشهور الشعر سائره، فمن قوله: ولما وقفنا بالصراة عشية ... حيارى لتوديع ورد سلام وقفنا على رغم الحسود وكلنا ... يفض عن الأشواق كل ختام وسوغني عند الوداع عناقه ... فلما رأى وجدي به وغرامي تلثم مرتابا بفضل ردائه ... فقلت: هلال بعد بدر تمام وقبلته فوق اللثام فقال لي: ... هي الخمر، إلا أنها بفدام لكن السمعاني وإن كان ماذكره في هذه الترجمة فقد ذكره في ترجمة غلام ثعلب، وقال: هو غلام ثعلب، كما ذكرته أولا (1) . (185) قلت: ثم بعد هذا بسنين عديدة رأيت بدمشق المحروسة ديوان شعر أبي القاسم عبد الواحد المعروف بالمطرز المذكور، وهو بغدادي، وأكثر شعره جيد، وكانت ولادته سنة أربع وخمسين وثلثمائة. وتوفي ليلة الأحد مستهل جمادى الآخرة سنة تسع وثلاثين وأربعمائة، فظهر بهذا أنه ليس والد أبي عمرالمذكور، وإنما هو مطرز آخر. والباوردي: بالباء الموحدة وبعد الألف والواو راء ثم دال مهملة، وهي بليدة بخراسان، يقال لها باورد [وأباورد] (2) وأبيورد، ومنها أبو المظفر الأبيوردي الشاعر - الآتي ذكره إن شاء الله تعالى.   (1) ق: ذكرناه أولا؛ وهنا تنتهي الترجمة في س ل لي ت بر من. (2) زيادة من ر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 333 639 - (1) الأزهري أبو منصور محمد بن احمد بن الأزهر [بن] (2) طلحة بن نوح بن أزهر، الأزهري الهروي اللغوي الإمام المشهور في اللغة؛ كان فقيها شافعي المذهب غلبت عليه اللغة فاشتهر بها، وكان متفقا على فضله وثقته ودرايته وورعه. روى عن أبي الفضل محمد بن أبي جعفر المنذري اللغوي عن أبي العباس ثعلب وغيره، ودخل بغداد وأدرك بها أبا بكر ابن دريد ولم يرو عنه شيئا، وأخذعن أبي عبد الله إبراهيم ابن عرفة الملقب نفطويه - المقدم ذكره (3) - وعن أبي بكر محمد بن السري المعروف بابن السراج النحوي - وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى - وقيل إنه لم يأخذ عنه شيئا. وكان قد رحل وطاف في أرض العرب في طلب اللغة؛ وحكى بعض الأفاضل أنه رأى بخطه قال: امتحنت بالأسر سنة عارضت القرامطة الحاج بالهبير، وكان القوم الذين وقعت في سهمهم عربا نشؤوا في البادية يتتبعون مساقط الغيث أيام النجع، ويرجون إلى أعداد المياه في محاضرهم زمان القيظ، ويرعون النعم ويعيشون بألبانها، ويتكلمون بطباعهم ولا يكاد يوجد في منطقهم لحن أو خطأ فاحش، فبقيت في أسرهم دهرا طويلا، وكنا نشتي بالدهناء ونرتبع بالصمان ونقيظ بالستارين، واستفدت من محاورتهم ومخاطبة بعضهم بعضا ألفاظا جمة ونوادر كثيرة أوقعت أكثرها في كتابي - يعني التهذيب - وستراها في مواضعها، وذكر في تضاعيف كلامه أنه أقام بالصمان شتوتين [ومما رواه أن   (1) ترجمته في معجم الأدباء 17: 164 ونزهة الألباء: 221 واللباب (الأزهري) ومقدمة تهذيب اللغة (من تأليفه) وطبقات السبكي 2: 106 والشذرات 3: 72 وبغية الوعاة: 8. (2) زيادة من ر ق وهي ثابتة عند السبكي. (3) ترجمة نفطويه في 1: 47. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 334 أعرابيا قال: اللهم من ظلمني مرة فاجزه ومن ظلمني مرتين فاجزني واجزه، ومن ظلمني ثلاث مرات فاجزني ولا تجزه] (1) . وكان أبو منصور المذكور جامعا لشتات اللغة مطلعا على أسرارها ودقائقها، وصنف في اللغة كتاب التهذيب وهو من الكتب المختارة يكون أكثر من عشر مجلدات، وله تصنيف في غريب (2) الألفاظ التي تستعملها الفقهاء في مجلد واحد، وهو عمدة الفقهاء في تفسير مايشكل عليهم من اللغة المتعلقة بالفقه، وكتاب التفسير. ورأى ببغداد أبا إسحاق الزجاج وأبا بكر ابن الأنباري، ولم ينقل انه أخذ عنهما شيئا. وكانت ولادته سنة اثنين وثمانين ومائتين. وتوفي في سنة سبعين وثلثمائة في أواخرها، وقيل سنة إحدى وسبعين بمدينة هراة، رحمه الله تعالى. والأزهري: بفتح الهمزة وسكون الزاي وفتح الهاء وبعدها راء، هذه النسبة إلى جده أزهر المذكور. وقد تقدم الكلام على الهروي. والقرامطة (3) : نسبتهم إلى رجل من سواد الكوفة يقال لهقرمط - بكسر القاف وسكون الراء وكسر الميم وبعدها طاء مهملة - ولهم مذهب مذموم، وكانوا قد ظهروا في سنة إحدى وثمانين ومائتين في خلافة المعتضد بالله، وطالت أيامهم وعظمت شوكتهم وأخافوا السبيل، واستولوا على بلاد كثيرة، وأخبارهم مستقصاة في التواريخ. وكانت وقعة الهبير التي أشار إليها في سنة إحدى عشرة وثلثمائة، وكان مقدم القرامطة يوم ذاك أبا طاهر الجنابي القرمطي، ولما ظهر على الحجاج قتل بعضهم واسترق (4) آخرين، واستولى على جميع اموالهم، وذلك في خلافة المقتدر بن المعتضد؛ وقيل كان اول ظهورهم في سنة ثمان وسبعين ومائتين،   (1) زيادة من ق. (2) س: غرائب. (3) قد أسهب المؤلف في الحديث عن الفرامطة في 2: 147 وما بعدها. (4) ن: وأسر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 335 وأولهم أبو سعيد الجنابي كان بناحية البحرين وهجر، وقتل في سنة إحدى وثلثمائة، قتله خادم له، وقتل أبو طاهر المذكور في سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة. والجنابي: بفتح الجيم والنون المشددة وبعد الألف باء موحدة، هذه النسبة إلى جنابة، وهي بلدة بالبحرين بالقرب من سيراف على البحر (1) . والهيبر: بفتح الهاء وكسر الباء الموحدة وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها راء ساكنة، وهو الموضع المطمئن من الأرض. والدهناء: بفتح الدال المهملة وسكون الهاء وبعدها نون مفتوحة ثم ألف تمد وتقصر، وهي أرض واسعة في بادية العرب في ديار بني تميم، وقيل هي سبعة أجبل من الرمل، وقيل هي في بادية البصرة في ديار بني سعد. والصمان: بفتح الصاد المهملة والميم المشددة وبعد الألف نون، وهو جبل أحمر ينقاد ثلاث ليال، وليس له ارتفاع، يجاور (2) الدهناء، وقيل إنه قرب رمال عالج، وبينه وبين البصرة تسعة أيام. والستاران: تثنية ستار، بكسر السين المهملة وفتح التاء المثناة من فوقها وبعد الألف راء، وهما واديان في ديار بني سعد، يقال لهما: سودة (3) ، ويقال لأحدهما: الستار الأغبر، وللآخر: الستار الجابري (4) ، وفيهما عيون فوارة يسقى نخيلهما منهما. وهذا كله وإن كان خارجا عن المقصود، لكنها ألفاظ غريبة فأحببت تفسيرها لئلا تشكل على من يطالع هذا المجموع.   (1) وقيل ... على البحر: سقط من س ل لي ت بر من. (2) لي: يجاوز؛ س: تجاوز. (3) ياقوت: السودة؛ وقال إنهما في ديار بني ربيعة. (4) اللفظة غير معجمة في ل ن ت ق بر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 336 640 - (1) أبو عبد الله اليزيدي أبو عبد الله محمد بن العباس بن محمد اليزيدي النحوي - وسيأتي ذكر جده أبي محمد يحيى بن المبارك العدوي اليزيدي إن شاء الله تعالى -؛ كان محمد المذكور (2) إماما في النحو والأدب ونقل النوادر وكلام العرب. ومما رواه أن أعرابيا هوي أعرابية فأهدى إليها ثلاثين شاة وزقا من خمر مع عبد له أسود فأخذ العبد شاة في الطريق فذبحها وأكل منها وشرب بعض الزق، فلما جاءها بالباقي عرفت أنه خانها في الهدية، فلما عزم على الانصراف سألها: هل لك من حاجة فأرادت إعلام سيده بما فعله في الطريق فقالت له: اقرأعليه السلام وقل له: إن الشهر كان عندنا محاقا، وإن سحيما راعي غنمنا جاء مرثوما، فلم يعلم العبد ما أرادت بهذه الكناية، فلما عاد إلى مولاه أخبره برسالتها ففطن لما أرادته، فدعا له بالهراوة وقال: لتصدقني وإلا ضربتك بهذه ضربا مبرحا، فأخبره الخبر، فعفا عنه، وهذه من لطائف الكنايات وأحلى الإشارات. [وروى أبو محمد ابن قتيبة في هذا المعنى عن أبي حاتم عن الأصمعي قال: حدثني شيخ من بني العنبر قال: أسرت بنو شيبان رجلا من العرب من بني العنبر، فقال لهم: أرسل إلي أهلي ليفدوني فقالوا: ولا تكلم الرسول إلا بين أيدينا، فجاءوه برسول فقال له: ايت قومي فقل لهم: إن الشجر قد أورق وإن النساء قد أشكت، قال له: أتعقل قال: نعم، قال: فما هذا وأشار بيده، فقال: هذا الليل، فقال: أراك تعقل، انطلق فقل لأهلي: عروا جملي الأصهب واركبوا ناقتي الحمراء واسألوا حارثة عن أمري؛ فأتاهم الرسول، فأرسلوا إلى   (1) ترجمته في انباه الرواة 3: 198 (وفي الحاشية ثبت بمصادر أخرى) ، وقد جاءت الترجمة موجزة في المختار، اقتصر فيها على حكاية الأعرابي. (2) محمد المذكور: سقطت من س ت ق بر من. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 337 حارثة فقص عليه الرسول القصة، فلما خلا معهم قال: أما قوله: ان الشجر قد أورق فإنه يريد أن القوم قد تسلحوا، وقوله: ان النساء قد شكت [أشكت أي] اتخذت الشكاء للغزو وهي أسقية، وقوله: هذا الليل، يريد يأتونكم مثل الليل، أو في الليل، وقوله: عروا جملي الأصهب، يريد ارتحلوا عن الصمان، وقوله: اركبوا ناقتي [الحمراء] يريد: اركبوا الدهناء. فلما قال لهم ذلك تحملوا من مكانهم، فلما أتاهم القوم لم يجدوا منهم أحدا. وحكي عن الأعرابي قال: أسرت طيء رجلا شابا من العرب، فقدم عليه أبوه وعمه ليفدياه، فاشتطوا عليهما في الفداء فأعطيا به عطية لم يرضوا بها، فقال أبوه: لا والذي جعل الفرقدين يصبحان ويمسيان على جبل طيء لاأزيدكم على ما أعطيتكم. ثم انصرفا، فقال الأب للعم: لقد ألقيت إليه كلمة لئن كان فيه خير لينجون، فما لبث أن نجا وطرد قطعة من إبلهم فذهب بها، كأنه قال له: الزم الفرقدين على جبلي طيء فإنهما طالعان عليه ولا يغيبان عنه] (1) . والمرثوم: بفتح الميم وسكون الراء وضم الثاء المثلثة، المكسور الألف الملطخ (2) بالدم، والرثم: البياض في جحفلة الفرس العليا، وهو في الزق مستعمل على سبيل الاستعارة. وله تصانيف، فمن ذلك كتاب " الخيل " وكتاب " مناقب بني العباس " وكتاب أخبار اليزيدين وله مختصر في النحو. وكان قد استدعي في آخر عمره إلى تعليم أولاد المقتدر بالله فلزمهم مدة، ولقيه بعض أصحابه بعد اتصاله بالخليفة فسأله أن يقرئه فقال: أنا في شغل عن ذلك (3) . وتوفي أبو عبد الله المذكور ليلة الأحد أول الليل لاثنتي عشرة ليلة بقيت من جمادى الآخرة سنة عشر وثلثمائة، وعمره اثنتان وثمانون سنة وثلاثة أشهر، رحمه الله تعالى.   (1) ما بين معقفين زيادة من ق وانظر السمط: 26 وما بعدها. (2) ر: الملطوخ. (3) في القفطي أنه قال له: تجاوزت الأحص وشبيثاً أي أنا مشتغل عن ذلك. وقوله: المرثوم ... ذلك: سقط من ق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 338 واليزيدي:نسبة إلى يزيد بن منصور (1) - وسيأتي الكلام على ذلك في ترجمة جده أبي محمد يحيى بن المبارك، إن شاء الله تعالى. 641 - (2) أبو بكر ابن السراج النحوي أبو بكر محمد بن السري بن سهل (3) النحوي المعروف بابن السراج؛ كان أحد الأئمة المشاهير، المجمع على فضله ونبله وجلالة قدره في النحو والآداب، أخذ الأدب عن أبي العباس المبرد - المقدم ذكره - وغيره، وأخذ عنه جماعة من الأعيان منهم: أبو سعيد السيرافي وعلي بن عيسى الرماني وغيرهما، ونقل عنه الجوهري في كتاب الصحاح في مواضع عديدة. وله التصانيف المشهورة في النحو: منها كتاب الأصول وهو من أجود الكتب المصنفة في هذا الشأن، وإليه المرجع عند اضطراب النقل واختلافه، وكتابجمل الأصول وكتاب الموجز صغير، وكتاب الاشتقاق وكتابشرح كتاب سيبويه وكتاب احتجاج القراء وكتاب الشعر والشعراء وكتاب الرياح والهواء والنار وكتاب الجمل وكتاب " المواصلات " (4) . وكان يلثغ في الراء فيجعلها غينا، فأملى يوما كلاما فيه لفظة بالراء، فكتبوها عنه بالغين، فقال: لا، بالغاء، لا بالغاء يريد بالراء، وجعل يكررها على هذه الصورة (5) .   (1) ق: واليزيدي نسبة إلى يزيد وهم أشخاص عديدة ولا أعلم إلى أيهم ينسب المذكور. (2) ترجمته في نور القبس: 342 وعبر الذهبي 2: 165 والمحمدون: 343 وانباه الرواة 3: 145 (ومصادر أخرى في حاشية الانباه) . (3) ابن سهل: سقطت من ل لي س ت بر من. (4) لم يذكر من مؤلفاته في ق إلا كتاب الأصول. (5) وكان يلثغ ... الصورة: ثبت في ن ر والمختار. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 339 ورأيت في بعض المجاميع أبياتا منسوبة إليه ولا أتحقق صحتها، وهي سائرة بين الناس في جارية كان يهواها، وهي: ميزت بين جمالها وفعالها ... فإذا الملاحة بالخيانة لا تفي حلفت لنا أن لاتخون عهودنا ... فكأنما حلفت لنا أان لا تفي والله لا كلمتها ولو أنها ... كالبدر أو كالشمس أو كالمكتفي وبعد الفراغ من هذه الترجمة وجدت هذه الأبيات له، ولها قصة عجيبة (1) ، وهي أن أبا بكر المذكور كان يهوى جارية فجفته، فاتفق وصول الإمام المكتفي في تلك الأيام من الرقة، فاجتمع الناس لرؤيته، فلما رآه أبو بكر استحسنه، وأنشد لأصحابه الأبيات المذكورة، ثم إن أبا عبد الله محمد بن إسماعيل بن زنجي الكاتب أنشدها لأبي العباس ابن الفرات، وقال: هي لابن المعتز، وأنشدها أبو العباس للقاسم بن عبيد الله الوزير، فاجتمع الوزير بالمكتفي وأنشده إياها فقال لمن هي، فقال لعبيد الله بن عبد الله بن طاهر، فأمر له بألف دينار، فوصلت إليه فقال ابن زنجي: ما أعجب هذه القصة! يعمل أبو بكر ابن السراج أبياتا تكون سببا لوصول الرزق إلى عبيد الله بن عبد الله بن طاهر. توفي أبو بكر المذكور يوم الأحد لثلاث ليال بقين من ذي الحجة سنة ست عشرة وثلثمائة، رحمه الله تعالى. والسراج: بفتح السين المهملة والراء المشددة وبعد الألف جيم، هذه النسبة إلى عمل السروج.   (1) أورد القفطي هذه القصة بتفصيل في الانباه: 147 والمحمدون: 344، وقد سقطت هذه القصة من ق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 340 642 - (1) أبو بكر ابن الأنباري أبو بكر محمد بن أبي محمد القاسم بن محمد بن بشار بن الحسن بن بيان بن سماعة ابن فروة بن قطن بن دعامة الأنباري النحوي صاحب التصانيف في النحو والأدب؛ كان علامة وقته في الآداب وأكثر الناس حفظا لها، وكان صدوقا ثقة دينا خيرا من أهل السنة، وصنف كتبا كثيرة في علوم القرآن وغريب الحديث والمشكل (2) والوقف والابتداء والرد على من خالف مصحف العامة وكتاب الزاهر. ذكره الخطيب في " تاريخ بغداد " (3) وأثنى عليه وقال: بلغني أنه كتب عنه وأبوه حي، وكان يملي ناحية من المسجد وأبوه في ناحية أخرى. (186) وكان أبوه عالما بالأدب موثقا في الرواية صدوقا أمينا سكن بغداد وروى عنه جماعة من العلماء، وروى عنه ولده المذكور، وله تصانيف فمن ذلك كتاب خلق الإنسان وكتاب خلق الفرس وكتاب الأمثال وكتاب المقصور والممدود وكتاب المؤنث والمذكر وكتاب غريب الحديث. وقال أبو علي القالي: كان أبو بكر ابن الأنباري يحفظ فيما ذكر ثلثمائة ألف بيت شاهد في القرآن الكريم، وقيل له: قد أكثر الناس من محفوظاتك فكم تحفظ فقال: أحفظ ثلاثة عشر صندوقا، وقيل إنه كان يحفظ مائة وعشرين تفسيرا للقرآن بأسانيدها. وحكى أبو الحسن الدارقطني أنه حضر في مجلس إملائه يوم جمعة فصحف اسما أورده في إسناد حديث إما كان حيان فقال حبان أو حبان فقال حيان،   (1) ترجمته في انباه الرواة 3: 201 (وفي الحاشية ذكر لمصادر أخرى) وانظر نور القبس: 345 وعبر الذهبي 2: 214؛ وبشار في نسبه ورد بصورة " يسار " في ق. (2) ذكر القفطي أن كتاب " المشكل " في معاني القرآن وأنه لم يتمه، بل بلغ فيه إلى سورة طه. (3) تاريخ بغداد 3: 181. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 341 قال الدارقطني: فأعظمت أن يحمل عن مثله في فضله وجلالته وهم، وهبت أن أوقفه على ذلك، فلما انقضى الإملاء تقدمت إلى المستملي فذكرت له وهمه وعرفته صواب القول فيه، وانصرفت ثم حضرت الجمعة الثانية مجلسه، فقال أبوبكر: عرف جماعة الحاضرين أنا صحفنا الاسم الفلاني لما أملينا حديث كذا في الجمعة الماضية، ونبهنا ذلك الشاب على الصواب، وهو كذا، وعرف ذلك الشاب أنا رجعنا إلى الأصل فوجدناه كما قال. ومن جملة تصانيفه غريب الحديث قيل إنه خمسة وأربعون ألف ورقة، وكتابشرح الكافي وهو نحو ألف ورقة، وكتاب الهاءات نحو ألف ورقة، وكتاب الأضداد وكتاب الجاهليات وهو سبعمائة ورقة، والمذكر والمؤنث ما عمل احد أتم منه، و " رسالة المشكل " (1) رد فيها على ابن قتيبة وأبي حاتم. وكانت ولادته يوم الأحد لإحدى عشرة ليلة خلت من رجب سنة إحدى وسبعين ومائتين. وتوفي ليلة عيد النحر سنة ثمان وعشرين، وقيل سنة سبع وعشرين وثلثمائة. وتوفي أبوه القاسم سنة أربع وثلثمائة ببغداد، وقيل في صفر سنة خمس وثلثمائة، رحمه الله تعالى (2) . وقد تقدم الكلام على الأنباري في ترجمة عبد الرحمن الأنباري النحوي (3) . وأملى أبو بكر المذكور في بعض أماليه لبعض العرب: فهلا منعتم إذ منعتم كلامها ... خيالا يوافيني على النأي هاديا سقى الله أطلالا بأكثبة الحمى ... وإن كن قد أبدين للناس حاليا منازل لو مرت بهن جنازتي ... لقال الصدى ياصاحبي انزلا بيا   (1) يبدو أن رسالة المشكل شيء آخر غير كتاب " المشكل " المتقدم ذكره، فقد ذكر القفطي الكتابين أيضاً. (2) هنا تنتهي الترجمة في ق. (3) انظر الترجمة رقم: 369 (3: 139) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 342 وأملى أيضا في مجلس آخر: وبالعرصة البيضاء إن زرت أهلها ... مها مهملات ما عليهن سائس خرجن لحب اللهو من غير ريبة ... عفائف باغي اللهو منهن آيس 643 (1) أبو العيناء أبو عبد الله محمد بن القاسم بن خلاد بن ياسر بن سليمان، الهاشمي بالولاء، الضرير، مولى أبي جعفر المنصور، المعروف بأبي العيناء صاحب النوادر والشعر والأدب؛ أصله من اليمامة ومولده بالأهواز ومنشؤه بالبصرة، وبها طلب الحديث وكسب (2) الأدب، وسمع من أبي عبيدة والأصمعي وأبي زيد الأنصاري والعتبي وغيرهم، وكان من أحفظ الناس وأفصحهم لسانا، وكان من ظرفاء العالم، وفيه من اللسن وسرعة الجواب والذكاء ما لم يكن أحد من نظرائه، وله أخبار حسان وأشعار ملاح مع أبي علي الضرير. وحضر يوما مجلس بعض الوزراء، فتفاوضوا حديث البرامكة وكرمهم وما كانوا عليه من الجود، فقال الوزير لأبي العيناء - وكان قد بالغ في وصفهم وما كانوا عليه من البذل والإفضال -: قد أكثرت من ذكرهم ووصفك إياهم، وإنما هذا تصنيف الوراقين، وكذب المؤلفين. فقال له أبو العيناء: فلم لا يكذب الوراقون عليك أيها الوزير فسكت الوزير، وعجب الحاضرون من إقدامه عليه.   (1) أخباره ونوادره منشورة في كثير من الكتب الأدبية، وانظر معجم الأدباء 18: 286 ونكت الهميان: 265 وميزان الاعتدال 4: 13 وعبر الذهبي 2: 69 ولسان الميزان 5: 344 ومعجم المرزباني: 402 وتاريخ بغداد 3: 170 والديارات: 52 والوافي 4: 341 وطبقات ابن المعتز: 415 والفهرست: 125 والمنتظم 5: 156 والشذرات 2: 180. (2) ق ر بر من: وكتب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 343 وشكا إلى عبيد الله بن سليمان بن وهب الوزير سوء الحال، فقال له: أليس قد كتبنا إلى إبراهيم في أمرك قال: نعم، قد كتبت إلى رجل قد قصر من همته طول الفقر، وذل الأسر، ومعاناة الدهر، فاخفق سعيي وخابت طلبتي، فقال عبيد الله: أنت اخترته، فقال: وما علي أيها الوزير في ذلك وقد اختار موسى قومه سبعين رجلا فما كان فيهم رشيد، واختار النبي صلى الله عليه وسلم، عبد الله بن سعد بن أبي سرح كاتبا فرجع إلى المشركين (1) مرتدا، واختار علي بن أبي طالب رضي الله عنه أبا موسى الأشعري حاكما له فحكم عليه. وإنما قال ذل الأسر لأن إبراهيم المذكور كان قد أسره علي بن محمد صاحب الزنج بالبصرة وسجنه فنقب السجن وهرب. ودخل (2) على أبي الصقر إسماعيل بن بلبل الوزير يوما فقال له ما الذي أخرك عنا يا أبا العيناء فقال: سرق حماري، فقال: وكيف سرق قال: لم أكن مع اللص فأخبرك، قال: فهلا أتيتنا على غيره، قال: قعد بي عن الشراء قلة يساري وكرهت ذلة (3) المكاري، ومنة العواري. وخاصم علويا فقال له العلوي: تخاصمني وأنت تقول كل يوم: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، فقال: لكني (4) أقول: الطيبين الطاهرين، ولست منهم. ووقف عليه رجل من العامة فلما أحس به قال: من هذا قال: رجل من بني آدم، فقال ابو العيناء: مرحبا بك أطال الله بقاءك، ماكنت أظن هذا النسل إلا قد انقطع. وصار يوما إلى باب صاعد بن مخلد فاستأذن عليه، فقيل هو مشغول بالصلاة، فقال: لكل جديدة لذة، وكان صاعد قبل الوزارة نصرانيا. ومر بباب عبد الله ابن منصور وهو مريض وقد صلح، فقال لغلامه: كيف خبره فقال: كما تحبن فقال: ما لي لا أسمع الصراخ عليه ودعا سائلا ليعيشه فلم يدع شيئا إلا أكله، فقال: يا هذا دعوتك رحمة فتركتني رحمة. ولقيه بعض أصحابه في   (1) ق: مكة. (2) لي: ودخل أبو العيناء. (3) ل ن: دلة. (4) لي: بل ولكني. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 344 السحر، فجعل يتعجب من بكورة، فقال أبو العيناء: أراك تشركني في الفعل، وتفردني بالتعجب. وذكر له أن المتوكل قال: لولا أنه ضرير لنادمناه، فقال: إن أعفاني من رؤية الأهلة وقراءة نقوش الفصوص فأنا أصلح للمنادمة. وقيل له: إلى متى تمدح وتهجو فقال: ما دام المحسن محسنا والمسيء مسيئا، بل أعوذ بالله أن أكون كالعقرب التي تلسب النبي والذمي. وذكر الزمخشري في كتابربيع الأبرار في باب الظلم قال أبو العيناء فقلت: قد تضافروا علي وصاروا يدا واحدة، فقال: " يد الله فوق أيديهم " - الفتح:10 - قلت: فإن لهم مكرا، قال: " ولايحيق المكر السيء إلا بأهله " - فاطر:43 - قلت هم كثير، قال: " كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين " (البقرة:249) . وكان بينه وبين ابن مكرم مداعبات، فسمع ابن مكرم رجلا يقول: من ذهب بصره قلت حيلته، فقال: ما أغفلك عن أبي العيناء! ذهب بصره فعظمت حيلته. وقد ألم أبو علي البصير إلى هذا المعنى يشير به إلى أبي العيناء، فقال: قد كنت خفت يد الزما ... ن عليك أن ذهب البصر لم أدر أنك بالعمى ... تغنى ويفتقر البشر وسمع ابن مكرم أبا العيناء يقول في بعض دعائه: يارب سائلك، فقال يا ابن الفاعلة، ومن لست (1) سائله. وقال له ابن مكرم يوما يعرض به: كم عدد المكدين بالبصرة فقال له: مثل عدد البغائين ببغداد. ودخل على ابن ثوابة عقيب كلام جرى بينه وبين أبي الصقر أربى ابن ثوابة عليه فيه، فقال له: بلغني ماجرى بينك وبين أبي الصقر، وما منعه من استقصاء الجواب إلا أنه لم يجد عزا فيضيعه، ولا مجدا فينقصه، وبعد فإنه عاف لحمك أن يأكل، وسهك (2) دمك أن يسفكه، فقال ابن ثوابة: وما أنت   (1) ر: ومن لست فاعله؛ ن: ومن الذي ليس، ق: ومن لست بسائله. (2) لي: ونهك؛ ن ل ق بر: وسهل؛ س ت: وسفك؛ وسهك بمعنى كره رائحته. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 345 والدخول بيني وبين هؤلاء يامكدي فقال: لاتنكر على ابن ثمانين قد ذهب بصره وجفاه سلطانه أن يعول على إخوانه فيأخذ من أموالهم، ولكن أشد من هذا من يستنزل الماء من أصلاب الرجال فيستفرغه في جوفه، فيقطع أنسابهم ويعظم أوزارهم، فقال ابن ثوابة: ماتساب اثنان إلا غلب ألأمهما، فقال أبو العيناء: وبها غلبت أبا الصقر بالأمس، فأسكته. ودخل على المتوكل في قصره المعروف بالجعفري سنة ست وأربعين ومائتين فقال له: ما تقول في دارنا هذه فقال: إن الناس بنوا الدور في الدنيا وأنت بنيت الدنيا في دارك، فاستحسن كلامه، ثم قال: كيف شربك للخمر قال: أعجز عن قليله وأفتضح عنده كثيره، فقال له: دع هذا عنك ونادمنا، فقال: أنا رجل مكفوف، وكل من في مجلسك يخدمك، وأنا أحتاج أن أخدم (1) ولست آمن من أن تنظر إلي بعين راض، وقلبك علي غضبان، أو بعين غضبان وقلبك راض، ومتى لم أميز بين هذين هلكت، فأختار العافية على التعرض للبلاء، فقال: بلغنا عنك بذاء في لسانك، فقال: ياأمير المؤمنين، قد مدح الله تعالى وذم، فقال " نعم العبد إنه أواب " - ص:44 - وقال عز وجل (هماز مشاء بنميم مناع للخير معتد أثيم) (القلم:11) وقال الشاعر: إذا أنا بالمعروف لم أثن صادقا ... ولم أشتم النكس اللئيم المذمما ففيم عرفت الخير والشر باسمه ... وشق لي الله المسامع والفما قال: فمن أين أنت، قال: من البصرة، قال: فما تقول فيها قال ماؤها أجاج وحرها عذاب، وتطيب في الوقت الذي تطيب فيه جهنم. ولما سلم نجاح بن سلمة إلى موسى بن عبد الله الأصبهاني ليستأدي ما عليه من الأموال عاقبه فتلف في مطالبته، وذلك في يوم الاثنين لثمان بقين من ذي القعدة سنة خمس وأربعين ومائتين، وفي تلك الليلة بلغ المعتز بالله ابن المتوكل الخبر (2) ، فاجتمع بعض الرؤساء بأبي العيناء، فقال له: ما عندك من خبر نجاح   (1) ق: وأنا أحتاج إلى من يخدمني. (2) وذلك ... الخبر: سقط من س بر من ل لي ت؛ ق: الحكم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 346 ابن سلمة فقال أبو العيناء " فوكزه موسى فقضى عليه " - القصص:15 - فبلغت كلمته موسى فلقيه في الطريق فتهدده، فقال له أبو العيناء " أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس " - القصص:19 -. وكتب إلى بعض الرؤساء وقد وعده بشيء فلم ينجزه: ثقتي بك تمنعني من استبطائك، وعلمي بشغلك يدعوني إلى إذكارك، ولست آمن، مع استحكام ثقتي بطولك والمعرفة بعلو همتك، اخترام الأجل، فإن الآجال آفات الآمال، فسح الله في أجلك، وبلغك منتهى أملك، والسلام. وأحواله ونوادره كثيرة (1) . وروي عنه أنه قال: كنت يوما جالسا (2) عند أبي الحكم إذ أتاه رجل فقال له: وعدتني وعدا فإن رأيت أن تنجزه، فقال: ما أذكره، فقال: إن لم تذكره فلأن من تعده مثلي كثير، وأنا لا أنساه، لأن من أسأله مثلك قليل، فقال: أحسنت لله أبوك (3) ، وقضى حاجته. وكانت ولادته سنة إحدى وتسعين ومائة بالأهواز - كما تقدم، ونشأ بالبصرة وكف بصره وقد بلغ أربعين سنة. وكان جده الأكبر لقي علي بن أبي طالب فأعياه في المخاطبة معه فدعا عليه بالعمى له ولولده، فكل من عمي من ولد جد أبي العيناء في فهو صحيح النسب فيهم، هكذا قاله أبو سعيد (4) الطلحي. وخرج من البصرة وهو بصير وقدم سر من رأى فاعتلت عيناه فعمي وسكن بغداد مدة وعاد إلى البصرة، وتوفي بها في جمادى الآخرة سنة ثلاث وثمانين، وقيل اثنتين وثمانين ومائتين (5) . وقال ابنه جعفر: توفي أبي لعشر ليال خلون من جمادى الأولى، ومولده سنة تسعين ومائة، والله أعلم، رحمه الله تعالى. ولقب بأبي   (1) ورد هنا في ر ق والمختار ذكر تاريخ ولادة أبي العيناء. (2) يوماً جالسا: سقط من س ن ل لي بر من وامختار؛ وهذه القصة وردت آخر شيء في المختار، وفي بر: عند أبي الجهم. (3) ن: لله درك. (4) ق: سعد. (5) س ل لي بر من: وقيل سنة ثمانين ومائتين، وسقط ما بعد ذلك حتى قوله: تعالى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 347 العيناء لأنه قال لأبي زيد الأنصاري: كيف تصغر عينا فقال: عيينا ياأبا العيناء، فبقي عليه. وعيناء: بفتح العين المهملة وسكون الياء المثناة من تحتها وفتح النون وبعدها ألف ممدودة. وخلاد: بفتح الخاء المعجمة وتشديد اللام ألف. وقد تقدم الكلام على اليمامة والأهواز فأغنى عن الإعادة. 644 - (1) الواقدي أبو عبد الله محمد بن عمر بن واقد الواقدي المدني مولى بني هاشم، وقيل مولى بني سهم بن أسلم؛ كان إماما عالما له التصانيف في المغازي وغيرها، وله كتاب الردة ذكر فيه ارتداد العرب بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، ومحاربة الصحابة رضي الله عنهم، لطليحة بن خويلد الأزدي والأسود العنسي ومسيلمة الكذاب، وما أقصر فيه. سمع من أبي ذئب ومعمر بن راشد ومالك بن أنس والثوري وغيرهم. وروى عنه كاتبه محمد بن سعد - المذكور عقيبة (2) إن شاء الله تعالى - وجماعة من الأعيان، وتولى القضاء بشرقي بغداد، وولاه المأمون القضاء بعسكر المهدي. وضعفوه في الحديث وتكلموا فيه.   (1) ترجمته في الفهرست: 98 وطبقات ابن سعد 7: 334 وكتاب بغداد: 39 وتاريخ بغداد 3: 3 ونور القبس: 311 ومعجم الأدباء 18: 277 وتذكرة الحفاظ: 348 وعبر الذهبي 1: 353 وميزان الاعتدال 3: 662 وتهذيب التهذيب 9: 363 وعيون الأثر 1: 17 والشذرات 2: 18. (2) ق: بعده؛ وفي المختار: الآتي ذكره. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 348 وكان المأمون يكرم جانبه ويبالغ في رعايته، وكتب إليه مرة يشكو ضائقة لحقته وركبه بسببها دين، وعين مقداره في قصته، فوقع المأمون فيها بخطه: فيك خلتان سخاء وحياء، فالسخاء أطلق يديك بتبذي ماملكت، والحياء حملك أن ذكرت لنا بعض دينك، وقد أمرنا لك بضعف ما سألت، وإن كن قصرنا عن بلوغ حاجتك فبجنايتك على نفسك، وإن كنا بلغنا بغيتك فزد في بسطة يدك، فإن خزائن الله مفتوحة ويده بالخير مبسوطة، وأنت حدثتني حين كنت على قضاء الرشيد أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال للزبير: يا زبير إن مفاتيح الرزق بإزاء العرش، ينزل الله سبحانه للعباد أرزاقهم على قدر نفقاتهم، فمن كثر كثر له، ومن قلل قلل عليه، قال الواقدي وكنت نسيت الحديث، فكانت مذكراته إياي أعجب إلي من صلته. وروى عنه بشر الحافي - المقدم ذكره (1) - رضي الله عنه، حكاية واحدة، وهي أنه سمعه يقول: ما يكتب للحمى، يؤخذ [ثلاث] (2) ورقات زيتون تكتب يوم السبت وأنت على طهارة على واحدة منهاجهنم غرثيوعلى الأخرى جهنم عطشى وعلى الأخرى جهنم مقرورة ثم تجعل في خرقة وتشد على عضد المحموم الأيسر، قال الواقدي المذكور جربته فوجدته نافعا، هكذا نقل هذه الحكاية أبو الفرج ابن الجوزي في كتابه الذي وضعه في أخبار بشر الحافي. وروى المسعودي في كتاب " مروج الذهب " أن الواقدي المذكور قال: كان لي صديقان أحدهما هاشمي، وكنا كنفس واحدة، فنالتني ضائقة شديدة، وحضر العيد فقالت امرأتي: أما نحن في أنفسنا فنصبر على البؤس والشدة، وأما صبياننا هؤلاء فقد قطعوا قلبي رحمة لهم، لأنهم يرون صبيان الجيران قد تزينوا في عيدهم وأصلحوا ثيابهم وهم على هذه الحال من الثياب الرثة، فلو احتلت في شيء تصرفه في كسوتهم، قال: فكتبت إلى صديق لي وهو الهاشمي أسأله التوسعة علي بما حضر، فوجه إلي كيسا مختوما ذكر أن فيه ألف درهم،   (1) ترجمة بشر في ج 1: 274. (2) زيادة من ن. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 349 فما استقر قراري حتى كتب إلي الصديق الآخر يشكو مثل ما شكوت إلى صاحبي الهاشمي، فوجهت إليه الكيس بحاله، وخرجت إلى المسجد فأقمت فيه ليلتي مستحييا من امرأتي، فلما دخلت عليها استحسنت ما كان مني ولم تعنفني عليه، فبينا أنا كذلك إذ وافى صديقي الهاشمي ومعه الكيس كهيئته، فقال لي: اصدقني عما فعلته فيما وجهت به إليك، فعرفته الخبر على وجهه، فقال لي: إنك وجهت إلي وما أملك على الأرض إلا ما بعثت به إليك، وكتبت إلى صديقنا أسأله المواساة، فوجه كيسي بخاتمي، قال الواقدي: فتواسينا ألف درهم فيما بيننا (1) ، ثم إنا أخرجنا للمرأة مائة درهم قبل ذلك، ونمي الخبر إلى المأمون، فدعاني وسألني (2) ، فشرحت له الخبر، فامر لنا بسبعة آلاف دينار، لكل واحد منا ألفا دينار وللمرأة ألف دينار. وقد ذكر الخطيب في " تاريخ بغداد " (3) هذه الحكاية وبينها وبين ماذكرناه ها هنا اختلاف يسير. وكانت ولادة الواقدي في أول سنة ثلاثين ومائة. وتوفي عشية يوم الاثنين حادي عشر ذي الحجة سنة سبع ومائتين، وهو يومئذ قاض ببغداد (4) في الجانب الغربي، كذا قاله ابن قتيبة. وقال السمعاني: كان قاضيا بالجانب الشرقي كما تقدم، والله أعلم. وصلى عليه محمد بن سماعة التميمي ودفن في مقابر الخيزران، وقيل مات سنة تسع، وقيل سنة ست ومائتين، والأول أصح، وقال الخطيب فيتاريخ بغداد في أول ترجمة الواقدي: إنه توفي في ذي القعدة، وقال في آخر الترجمة: إنه مات في ذي الحجة، والله أعلم، رحمه الله تعالى [ورأيت بخطي في مسوداتي أن الواقدي مات وعمره ثماني وسبعون سنة] (5) .   (1) ن: فقسمنا الألف بيننا. (2) ن: فسالني؛ وسقطت من ر ق والمختار. (3) تاريخ بغداد 3: 19 - 20. (4) ق: قاضي بغداد. (5) ر: ورأيت بخطي في مسوداتي أن الواقدي عاش ثمانياً وأربعين سنة؛ وقد سقطت العبارة من النسخ الأخرى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 350 والواقدي: بفتح الواو وبعد الألف قاف مكسورة ثم دال مهملة، هذه النسبة إلى واقد وهو جده المذكور. وقد تقدم الكلام على المدني. وعسكر المهدي هي المحلة المعروفة اليوم بالرصافة في الجانب (1) الشرقي من بغداد، عمرها أبو جعفر المنصور لولده المهدي فنسب إليه، وهذا يؤيد أن الواقدي كان قاضي الجانب الشرقي لاالغربي، والله أعلم. 645 - (2) محمد بن سعد كاتب الواقدي أبو عبد الله محمد بن سعد بن منيع، الزهري البصري كاتب الواقدي؛ كان أحد الفضلاء النبلاء الأجلاء، صحب الواقدي المذكور قبله زمانا وكتب له فعرف به، وسمع سفيان بن عيينة وأنظاره، وروى عنه أبو بكر ابن أبي الدنيا وأبو محمد الحارث بن أبي أسامة التميمي وغيرهما وصنف كتابا كبيرا في طبقات الصحابة والتابعين والخلفاء إلى وقته، فأجاد فيه وأحسن، وهو يدخل في خمس عشرة مجلدة (3) ، وله طبقات أخرى صغرى، وكان صدوقا ثقة. ويقال اجتمعت كتب الواقدي عند أربعة أنفس: أولهم كاتبه محمد بن سعد المذكور، وكان كثير العلم غزير الحديث والرواية كثير الكتبة (4) ، كتب   (1) ق: بالجانب. (2) ترجمته في الفهرست: 99 وتاريخ بغداد 5: 321 والوافي 3: 88 وطبقات ابن سعد 7: 364 وتذكرة الحفاظ: 425 وعبر الذهبي 1: 407 وميزان الاعتدال 3: 560 وغاية النهاية 1: 142 والجرح والتعديل (رقم: 1433) وتهذيب التهذيب 9: 182 والشذرات 2: 69 والنجوم الزاهرة (وفيات: 230) . (3) رن: خمسة عشر مجلداً. (4) ن: كثير كتب الحديث. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 351 الحديث والفقه وغيرهما. وقال الحافظ أبو بكر الخطيب صاحب " تاريخ بغداد " في حقه (1) : ومحمد بن سعد عندنا من أهل العدالة وحديثه يدل على صدقه فإنه يتحرى في كثير من رواياته، وهو من موالي الحسين بن عبد الله بن عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب. وتوفي يوم الأحد لأربع خلون من جمادى الآخرة، سنة ثلاثين ومائتين ببغداد. ودفن في مقبرة باب الشام، وهو ابن اثنتين وستين سنة، رحمه الله تعالى. 646 - (2) الدولابي أبو بشر محمد بن أحمد بن حماد بن سعد، الأنصاري بالولاء، الوراق الرازي الدولابي؛ كان عالما بالحديث والأخبار والتواريخ، سمع الأحاديث بالعراق والشام وروى عن محمد بن بشار وأحمد بن عبد الجبار العطاردي وخلق كثير؛ وروى عنه الطبراني وأبوحاتم ابن حبان البستي. وله تصانيف مفيدة في التاريخ ومواليد العلماء ووفياتهم، واعتمد عليه أرباب هذا الفن في النقل وأخبروا عنه في كتبهم ومصنفاتهم المشهورة. وبالجملة فقد كان من الأعلام في هذا الشأن وممن يرجع إليه، وكان حسن التصنيف. وتوفي سنة عشرين وثلثمائة بالعرج، رحمه الله تعالى. وروي عنه أنه كان ينشد لعروة بن حزام العذري [حيث قال] (3) :   (1) تاريخ بغداد 5: 321. (2) ترجمته في المنتظم 6: 169 والوافي 2: 36 وتذكرة الحفاظ: 759 والأنساب 5: 413 ولسان الميزان 5: 41 والشذرات 2: 260، ولم يورد في المختار من هذه الترجمة إلا بيتي عروة بن حزام. (3) زيادة من ر ق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 352 إذا رام قلبي هجرها حال دونه ... شفيعان من قلبي لها جدلان إذا قال: لا، قالا: بلى، ثم أصبحوا ... جميعا على الرأي الذي يريان (1) والدولابي: بضم الدال المهملة وفتحها - قال السمعاني: والفتح أصح - وسكون الواو وبعد اللام الف باء موحدة، هذه النسبة إلى الدولاب، وهي قرية من أعمال الري، وبالأهواز قرية يقال لها الدولاب، وبها كانت الوقعة المشهورة للأزارقة، وبشرقي بغداد موضع آخر يقال له الدولاب، ودولاب الجار أيضا موضع آخر، والدولاب الذي يدار ويستعمل بضم الدال وفتحها. والعرج: بفتح العين المهملة وسكون الراء وبعدها جيم، وهي عقبة بين مكة والمدينة على جادة الحاج (2) . والعرج أيضا: قرية جامعة من نواحي الطائف إليها ينسب العرجي الشاعر، وهو عبد الله [بن عمرو] (3) بن عمر بن عثمان بن عفان، رضي الله عنه. ولا أعلم هل توفي الدولابي في العرج الأولى أم الثانية، وباليمن بلد آخر يقال له سوق العرج (4) ، والله أعلم.   (1) وروي عنه. يريان: سقط من س ل لي ت بر من. (2) هنا تنتهي الترجمة فيما عدا ن ر. (3) بن عمرو: سقط من ن ر. (4) ق: يقال له العرج. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 353 647 - (1) المرزباني أبو عبيد الله محمدبن عمران بن موسى بن سعيد بن عبيد الله، الكاتب المرزباني الخراساني الأصل البغدادي المولد، صاحب التصانيف المشهورة والمجاميع الغربية؛ كان راوية للأدب صاحب أخبار، وتواليفه كثيرة، وكان ثقة في الحديث ومائلا إلى التشيع في المذهب، حدث عن عبد الله بن محمد البغوي وأبي بكر ابن داود السجستاني في آخرين. وهو أول من جمع ديوان يزيد (2) بن معاوية بن أبي سفيان الأموي واعتنى به، وهو صغير الحجم يدخل في مقدار ثلاث كراريس، وقد جمعه من بعده جماعة وزادوا فيه أشياء كثيرة ليست له وكنت حفظت جميع ديوان يزيد لشدة غرامي به، وذلك في سنة ثلاث وثلاثين وستمائة بمدينة دمشق وعرفت صحيحه من المنسوب إليه الذي ليس له، وتتبعته حتى ظفرت بصاحب كل أبيات، ولولا خوف التطويل لبينت ذلك. وشعر يزيد، مع قلته، في نهاية الحسن، ومن أطايب شعره الأبيات العينية التي منها: إذا رمت من ليلى على البعد نظرة ... تطفي (3) جوى بين الحشا والأضالع تقول نساء الحي تطمع أن ترى ... محاسن ليلى مت بداء المطامع   (1) ترجمته في تاريخ بغداد 3: 135 والفهرست: 132 ومعجم الأدباء 18: 268 والوافي 4: 23 وميزان الاعتدال 3: 672 وعبر الذهبي 3: 27 ولسان الميزان 5: 236 والشذرات 3: 111 والنجوم الزاهرة 4: 168 وقد اتبعنا في ترتيب هذه الترجمة نسخة المختار. (2) ق: ودون شعر يزيد بن معاوية. (3) ر: لتطفي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 354 وكيف ترى ليلى بعين ترى بها ... سواها وما طهرتها بالمدامع وتلتذ منها بالحديث بالحديث وقد جرى ... حديث سواها في خروق المسامع أجلك ياليلى عن العين إنما ... أراك بقلب خاشع لك خاضع [ومن لطيف شعره قوله: ولي ولها إذا الكاسات دارت ... رقى سحر يفك عرى الهموم معاتبة ألذ من الأماني ... وبث جوى أرق من النسيم ومن شعره: وداع دعاني والثريا كأنها ... قلائص قد أعنقن خلف فنيق وناولني كأسا كأن بنانه ... مخلقة من نورها بخلوق إذا ما سما فيها المزاج حسبتها ... نجوم لآل في سماء عقيق وقال اغتنم من دهرنا غفلاته ... فعقد نظام الدهر غير وثيق وإني من لذات دهري لقانع ... بحلو حديث صديق أو بمر عتيق هما ما هما لم يبق شيء سواهما ... حديث صديق أو عتيق رحيق] (1) وكانت ولادة المرزباني المذكور (2) في جمادى الآخرة سنة سبع وتسعين ومائتين، وقيل سنة ست وتسعين. وتوفي يوم الجمعة ثاني شوال سنة أربع وثمانين، وقيل سنة ثمان وسبعين وثلثمائة، والأول أصح، رحمه الله تعالى، وصلى عليه الفقيه أبو بكر الخوارزمي ودفن في داره بشارع عمرو (3) الرومي ببغداد في الجانب الشرقي. وروى عن أبي القاسم البغدادي وأبي بكر ابن دريد وأبي بكر ابن الأنباري، وروى عنه أبو عبد الله الصيمري وأبو القاسم التنوخي وأبو محمد الجوهري وغيرهم.   (1) زيادة من هامش المختار. (2) ن: وكانت ولادته. (3) س: عمر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 355 والمرزباني: بفتح الميم وسكون الراء وضم الزاي وفتح الباء الموحدة وبعد الألف نون، هذه النسبة إلى بعض أجداده، وكان اسمه المرزبان، وهذا الاسم لايطلق عند العجم إلا على الرجل المقدم العظيم القدر، وتفسيره بالعربية حافظ الحد، قاله ابن الجواليقي في كتابه " المعرب " (1) . 648 - (2) أبو بكر الصولي أبو بكر محمد بن يحيى بن عبد الله بن العباس بن محمد بن وصول تكين الكاتب، المعروف بالصولي الشطرنجي؛ كان أحد الأدباء الفضلاء المشاهير، روى عن أبي داود السجستاني وأبي العباس ثعلب وأبي العباس المبرد وغيرهم، وروى عنه أبو الحسن الدارقطني الحافظ، وأبو عبيد الله المرزباني المذكور قبله وغيرهما. ونادم الراضي، وكان أولا يعلمه ثم نادم المقتدر، ونادم قبله المكتفي. وله التصانيف المشهورة منها كتاب الوزراء وكتاب الورقة وكتاب (3) أدب الكاتب وكتاب الأنواع وكتاب أخبار أبي تمام وكتاب أخبار القرامطة وكتاب الغرر وكتاب أخبار أبي عمرو بن العلاء وكتاب " العبادة " (4) وكتاب أخبار ابن هرمة وكتاب أخبار السيد الحميري وكتاب أخبار إسحاق بن إبراهيم، وجمع أخبار جماعة من الشعراء، ورتبه   (1) المغرب: 317؛ ق: في كتابه المعروف. (2) ترجمته في الفهرست: 150، 156 وتاريخ بغداد 3: 427 ومعجم الأدباء 19: 109 ونزهة الالبا: 188 ومعجم المرزباني: 431 واللباب: (الصولي) وعبر الذهبي 2: 241 ولسان الميزان 5: 427 والنجوم الزاهرة 3: 296 والشذرات 2: 339. (3) لا ترد كلمة " كتاب " في سرد مؤلفاته في النسخ ن ل لي س من بر بعد هذا الموضع. (4) س ن ق: العيادة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 356 على حروف المعجم، وكلهم من الشعراء المحدثين، وغير ذلك. وكان ينادم الخلفاء، وكان أغلب فنونه أخبار الناس، وله رواية واسعة ومحفوظات كثيرة، وكان حسن الاعتقاد جميل الطريقة مقبول القول، وكان أوحد وقته في لعب الشطرنج، لم يكن في عصره مثله في معرفته. والناس إلى الآن يضربون به المثل في ذلك فيقولون لمن يبالغون في حسن لعبه " فلان يلعب الشطرنج (1) مثل الصولي " (2) . ورأيت خلقا كثيرا يعتقدون أن الصولي المذكور هو الذي وضع الشطرنج، وهو غلط، فإن الذي وضعه صصه بن داهر الهندي، واسم الملك الذي وضعه له شهرام، بكسر الشين المعجمة. وكان أردشير ابن بابك أول ملوك الفرس الأخيرة قد وضع النرد، ولذلك قيل له النردشير لأنهم نسبوه إلى واضعه المذكور، وجعله مثالا للدنيا وأهلها (3) ، فرتب الرقعة اثني عشر بيتا بعدد شهور السنة، وجعل القطع ثلاثين قطعة بعدد أيام كل شهر، وجعل الفصوص مثل القدر وتقلبه بأهل الدنيا. وبالجملة فالكلام في هذا يطول ويخرج عما نحن بصدده؛ فافتخرت الفرس بوضع النرد وكان ملك الهند يومئذ بلهيت، فوضع له صصه المذكور الشطرنج، فقضت حكماء ذلك العصر بترجيحه على النرد لأمور يطول شرحها. ويقال إن صصه لما وضع الشطرنج وعرضه على الملك شهرام المذكور أعجبه وفرح به كثيرا، وأمر أن يكون في بيوت الديانة، ورآه أفضل ما علم لأنه آلة للحرب وعز للدين والدنيا وأساس لكل عدل، وأظهر الشكر والسرور على ما أنعم عليه في ملكه منه، وقال لصصه: اقترح علي ما تشتهي، فقال له: اقترحت أن تضع حبة قمح في البيت الأول، ولا تزال تضعها حتى تنتهي إلى آخرها، فمهما بلغ تعطيني، فاستصغر الملك ذلك، وأنكر عليه كونه   (1) ق س: بالشطرنج؛ ر: في الشطرنج. (2) ن: فيقولون: فلان يلعب ... وهم يبالغون في ذلك في حسن لعبه. (3) بهامش ن هنا تعليق طويل حول تحريم الشطرنج والنردشير وتحليلهما؛ وهو بخط غير خط الأصل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 357 قابله بالنزر اليسير، وكان قد أضمر له شيئا كثيرا، فقال: ما أريد إلاهذا، فراده (1) فيه وهو مصر عليه فأجابه إلى مطلوبه وتقدم له به، فلما قل لأرباب الديوان حسبوه فقالوا ما عندنا قمح يفي بهذا ولا بما يقاربه، فلما قيل للملك استنكر هذه المقالة، وأحضر أرباب الديوان وسألهم فقالوا له: لو جمع كل قمح في الدنيا ما بلغ هذا القدر، فطالبهم بإقامة البرهان على ذلك، فقعدوا وحسبوه، فظهر له صدق ذلك (2) ، فقال الملك لصصه: أنت في اقتراحك ما اقترحت أعجب حالا من وضعك الشطرنج. وطريق هذا التضعيف ان يضع الحاسب في البيت الأول حبة وفي الثاني حبتين وفي الثالث أربع حبات وفي الرابع ثماني حبات، وهكذا إلى آخره، كلما انتقل إلى بيت ضاعف ما قبله وأثبته فيه. ولقد كان في نفسي من هذه المبالغة شيء حتى اجتمع بي بعض حساب الإسكندرية، وذكر لي طريقا تبين لي صحة ماذكروه، وأحضر لي ورقة بصورة ذلك، وهو أنه ضاعف الأعداد إلى البيت السادس عشر فأثبت فيه اثنين وثلاثين ألفا وسبعمائة وثمانيا وستين حبة، وقال: نجعل هذه الجملة مقدار قدح، وقد اعتبرتها (3) فكانت كذلك، والعهدة عليه في هذا النقل، ثم ضاعف القدح في البيت السابع عشر، وهكذا حتى بلغ ويبة في البيت العشرين ثم انتقل إلى الويبات، ومنها إلى الأرادب، ولم يزل يضاعفها حتى انتهى في بيت الأربعين إلى مائة ألف إردب أربعة وسبعين ألف إردب وسبعمائة واثنين وستين إردبا وثلثين، فقال تجعل هذه الجملة في شونه فإن الشونة لايكون فيها أكثر من هذا، ثم ضاعف الشون إلى بيت الخمسين فكانت الجملة ألفا وأربعا وعشرين شونة، فقال: تجعل هذه في مدينة، فإن المدينة لايكون فيها أكثر من هذه الشون، وأي مدينة يكون فيها هذه الجملة من الشون ثم ضاعف المدن حتى انتهى في البيت (4) الرابع والستين - وهو آخر   (1) ن س ت والمخار: فرواده؛ ل لي بر من: فراوده. (2) ر: فظهر صحة ذلك له. (3) ت لي من بر: عبرتها؛ س: عبر بها. (4) لي: في بيت. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 358 أبيات رقعة الشطرنج - إلى ستة عشر ألف وثلثمائة وأربع وثمانين مدينة، وقال: تعلم أنه ليس في الدنيا مدن أكثر من هذا العدد، فإن دور كرة الأرض معلوم بطريق الهندسة، وهو ثمانية آلاف فرسخ، بحيث لو وضعنا طرف حبل على أي موضع كان من الأرض وأدرنا الحبل على كرة الأرض حتى انتهينا بالطرف الآخر إلى ذلك الموضع من الأرض والتقى الطرفان فإذا مسحنا ذلك الحبل كان طوله أربعة وعشرين ألف ميل، وهي ثمانية آلاف فرسخ، وهو قطعي لاشك فيه، ولولا خوف التطويل والخروج عن المقصود لبينت ذلك - وسأذكره إن شاء الله تعالى في ترجمة بني موسى (1) - وتعلم ما في الأرض من المعمور وهو مقدار ربع الكرة بطريق التقريب. وقد انتشر الكلام وخرجنا عن المقصود، لكنه ماخلا عن فائدة، فإن هذه الطريقة غريبة، فأحببت إثباتها ليقف عليها من يستنكر ما قالوه في تضعيف رقعة الشطرنج ويعلم أن ذلك حق، وأن هذه الطريقة سهلة (2) الاطلاع على حقيقة ما ذكروه. ولنرجع إلى حديث الصولي: حكى المسعودي في كتاب " مروج الذهب " (3) أن الإمام الراضي بالله أتى في بعض منتزهاته بستانا مونقا رائقا، فقال لمن حضره ممن كان أتى ندمائه: هل رأيتم منظرا أحسن من هذا فكل أثنى، وذهب فيه إلى مدحه ووصف محاسنه، وأنها لايفي بها شيء من زهرات الدنيا، فقال الراضي لعب الصولي بالشطرنج أحسن من هذا، ومن كل ما تصفون. ثم قال المسعودي: وقد ذكر أن الصولي في بدء دخوله على الإمام المكتفي، وقد كان ذكر له تخرجه في اللعب بالشطرنج، وكان الماوردي اللاعب متقدما   (1) وهو ثمانية ... موسى: سقط من ر. (2) ت: سهلت. (3) مروج الذهب 4: 324. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 359 عنده، متمكنا من قلبه معجبا به للعبه، فلما لعبا جميعا بحضرة المكتفي حمل المكتفي حسن رأيه في الماوردي وتقدم الحرمة في الألفة على نصرته وتشجيعه وتنبيهه حتى أدهش ذلك الصولي في أول وهلة، فلما اتصل اللعب بينهما وجمع له الصولي متانته وقصد قصده غلبه غلبا لايكاد يرد عليه شيئا، وتبين حسن لعب الصولي للمكتفي، فعدل عن هواه ونصرة الماوردي، وقال له: عاد ماء وردك بولا. وأخبارالصولي ونوادره كثيرة، وما جراياته أكثر من أن تحصى. ومع فضائله والاتفاق على تفننه في العلوم وخلاعته وظرافته ما خلا من منتقص هجاه هجوا لطيفا، وهو أبو سعيد العقيلي، فإنه رأى له بيتا مملوءا كتبا قد صفها وجلودها مختلفة الألوان، وكان يقول: هذه كلها سماعي، وإذا احتاج إلى معاودة شيء منها قال: ياغلام هات الكتاب الفلاني، فقال أبو سعيد المذكور هذه الأبيات: إنما الصولي شيخ ... أعلم الناس خزانه إن سالناه بعلم ... طلبا منه إبانه قال يا غلمان هاتوا ... رزمة العلم فلانه وتوفي الصولي المذكور سنة خمس - وقيل ست - وثلاثين وثلثمائة بالبصرة مستترا، لأنه روى خبرا في حق علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فطلبته الخاصة والعامة لتقتله فلم تقدر عليه، وكان قد أخرج من بغداد لإضاقه لحقته. وقد سبق الكلام على الصولي في ترجمة إبراهيم بن العباس الصولي، وهو عم والدأبي بكر المذكور، فليطلب هناك. وصصه: بصادين مهملتين الأولى منهما مكسورة والثانية مشددة مفتوحة وفي الآخر هاء ساكنة. وداهر: بدال مهملة وبعد الألف هاء مكسورة ثم راء. وأردشير: بفتح الهمزة وسكون الراء وفتح الدال المهملة وكسر الشين المعجمة وسكون الياء المثناة من تحتها وفي آخرها راء؛ هكذا قاله الحافظ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 360 الدارقطني [وقال غير الدارقطني: هذا لفظ عجمي، وتفسيره بالعربي دقيق وحليب، فأرد: دقيق، وشير: حليب، وقيل دقيق وحلاوة، وقيل إنه بالزاي لا بالراء، والله أعلم] (1) وهو الذي أباد ملوك الطوائف، ومهد الملك لنفسه، واستولى على الممالك، وهو جد ملوك الفرس الذين آخرهم يزدجر، وكان انقراض ملكهم في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه اثنتين وثلاثين من الهجرة، وأخبارهم مشهورة [وهؤلاء غير ملوك الفرس الأوائل الذين آخرهم دار بن دارا الذي قتله الإسكندر، ورتب في البلاد ملوك الطوائف وسماهم بذلك لأن كل ملك يحكم على طائفة مخصوصة، بعد أن كانت الممالك لرجل واحد، وكان أردشير من ملوك الطوائف، ثم استقل بالجميع كالعادة الأولى، وكانت مدة مملكة ملوك الطوائف أربعمائة سنة، ومدة مملكة ملوك الفرس الأواخر أربعمائة سنة] (2) . ويزدجر: بفتح الياء المثناة من تحتها وسكون الزاي وفتح الدال المهملة وكسر الجيم وسكون الراء وفي الآخر دال مهملة. وأما بلهيت ملك الهند فلا أتحقق ضبطه، غير أني وجدته مضبوطا بخط الناسخ، وقد فتح الباء الموحدة وسكن اللام وفتح الهاء وسكن الياء المثناة من تحتها وبعدها تاء مثناة من فوقها، والله أعلم بصحة ذلك من سقمه.   (1) ما بين معقفين انفردت به ر ق. (2) ر بر: للهجرة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 361 649 - (1) الحاتمي أبو علي محمد بن الحسن بن المظفر، الكاتب اللغوي البغدادي المعروف بالحاتم؛ أحد الأعلام المشاهير المطلعين المكثرين، أخذ الأدب عن أبي عمر الزاهد غلام ثعلب - وقد تقدم ذكره (2) - وروى عنه أخبارا وأملاها في مجالس الأدب، وروى عن غيره أيضا، وأخذ عنه جماعة من النبلاء: منهم القاضي أبو القاسم التنوخي - المقدم ذكره (3) - وغيره، وله الرسالة الحاتمية التي شرح فيها ما جرى ينه وبين أبي الطيب المتنبي من إظهار سرقاته وإبانة عيوب شعره، ولقد دلت على غزارة مادته وتوفر اطلاعه. وحكى في أول الرسالة السبب الحامل له على ذلك فقال (4) : لما ورد أحمد بن الحسين المتنبي مدينة السلام منصرفا عن مصر ومتعرضا للوزير أبي محمد المهلبي، بالتخييم عليه والمقام لديه، التحف رداء الكبر وأذال ذيول التيه، ونأى بجانبه استكبارا وثنى عطفيه جبرية وازورارا، فكان لايلاقي أحد إلا أعرض عنه تيها وزخرف القول عليه تمويها، تخيل عجبا إليه أن الأدب مقصور عليه، وأن الشعر بحر لم يرد نمير مائة غيره وروض لم يرد نواره سواه، فهو يجني جناه ويقطف قطوفه دون من تعاطاه، وكل مجر في الخلاء يسر ولكل نبأ مستقر،   (1) ترجمته في تاريخ بغداد 2: 214 واليتيمة 3: 108 ومعجم الأدباء 18: 154 والمحمدون: 230 والانباه 3: 103 والوافي 2: 343 وانظر الامتاع 1: 135 والشذرات 3: 129 وعبر الذهبي 3: 40 وبغية الوعاة: 35 واللباب والأنساب: (الحاتمي) والمنتظم (وفيات سنة 388) ؛ وورد اسمه في ت ر: محمد بن الحسين؛ وقد اكتفى المختار من هذه الترجمة بإيراد ثلاثة أبيات من الشعر. (2) انظر الترجمة رقم: 638. (3) انظر ج 3: 366. (4) انظر الرسالة الموضحة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 362 فغبر جاريا على هذه الوتيرة مدة مديدة أجررته رسن البغي فيها، فظل يمرح في تيهه حتى إذا تخيل أنه السابق الذي لا يجارى في مضمار ولا يساوي عذاره بعذار، وأنه رب الكلام ومقتض عذارى الألفاظ، ومالك زق الفصاحة نثرا ونظما وقريع دهره الذي لا يقارع فضلا وعلما، وثقلت وطأته على كثير مما وسم نفسه بميسم الأدب، وأنبط من مائه أعذب مشرب، فطأطأ بعض رأسه وخفض بعض جناحه وطامن على التسليم له طرفه، وساء معز الدولة أحمد بن بويه - المقدم ذكره (1) - وقد صورت حاله، أن يرد حضرته مهي دار الخلافة ومستقر العز وبيضة الملك رجل صدر عن حضرة سيف الدولة بن حمدان - وقد تقدم ذكره أيضا - وكان عدوا مباينا لمعز الدولة، فلا يلقى أحدا بمملكته يساويه في صناعته، وهو ذو النفس الأبية والعزيمة الكسروية، والهمة التي لو همت بالدهر لما تصرفت بالأحرار صروفه ودارت عليهم دوائره (2) ، وتخيل الوزير المهلبين رجما بالغيب، أن أحدا لا يستطيع مساجلته ولا يرى نفسه كفؤا له ولا يضطلع بأعبائه فضلا عن التعلق بشيء من معانيه، وللرؤساء مذاهب في تعظيم من يعظمونه وتفخيم من يفخمونه وتكرمة من يراعونه ويكرمونه، وربما حالت بهم الحال وأوشكوا عن هذه الخليقة الانتقال، وتلك صورة الوزير المهلبي في عودة عن رأيه هذا فيه، ولم ولم يكن هناك مزية يتميز بها أبو الطيب عن الهجين الجذع من أبناء الأدب فضلا عن العتيق القارح إلا الشعر، ولعمري إن أفنانه كانت فيه رطبة ومجانية عذبة، فنهدت له متتبعا عواره ومقلما أظفاره ومذيعا أسراره، وناشرا مطاويه ومنتقدا من نظمه ما تسمح فيه، ومتحنيا أن تجمعنا دار يشار إلى ربها فأجري أنا وهو في مضمار يعرف به السابق من المسبوق واللاحق من المقصر عن اللحوق، وكنت إذ ذاك ذا سحاب مدرار وزند في كل فضيلة وار، وطبع يناسب صفو العقار إذا وشيت بالحباب ووشت بها سرائر الأكواب، هذا وغدير الصبا صاف ورداؤه ضاف، وديباجة العيش غضة وأرواحه معتلة وغمائمة منهلة، وللشبيبة شره وللاقبال من الدهر غرة، والخيل   (1) انظر ج 1: 174. (2) ر: دوائره وحتوفه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 363 تجري في يوم (1) الرهان بإقبال أربابها لا بعروقها ونصابها، ولكل امرئ حظ من مواتاه زمانه، يقضى في ظله أرب ويدرك مطلب ويتوسع مراد ومذهب، حتى إذا عدت عن اجتماعنا عواد من الأيام قصدت مستقره وتحتي بغلة سفواء تنظر عن عيني باز وتتشوف بمثل قادمتي نسر، وهي مركب رائع، وكأنني كوكب وقاد من تحته غمامة يقتادها زمام الجنوب، وبين يدي عدة من الغلمان الروقة (2) مماليك وأحرار يتهافتون تهافت فريد الدر عن أسلاكه. ولم أورد هذا متبجحا ولا متكثرا بذكره، بل ذكرته لأن أبا الطيب شاهد جميعه في الحال، ولم ترعه روعته ولا استعطفه زبرجه، ولا زادته تلك الجملة الجميلة التي ملأت أتهمه طرفه وقلبه إلا عجبا بنفسه وإعراضا عني بوجهه، وكان قد أقام هناك سوقا عند أغيلمة لم ترضهم العلماء ولاعركتهم رحى النظراء، ولا أنضوا أفكار في مدرسة الأدب، ولا فرقوا بين حلو الكلام ومره وسهله ووعره، وإنما غاية أحدهم مطالعة شعر أبي تمام وتعاطي الكلام على نبذ من معانيه، وعلى ما تعلقت الرواة مما يجوز فيه، فألفيت هناك فتية تأخذ عنه شيئا من شعره. فحين أوذن بحضوري واستؤذن عليه لدخولي، نهض من مجلسه مسرعا ووارى شخصه عني مستخفيا، وأعجلته نازلا عن البغلة وهو يراني لانتهائي بها إلى حيث أخذها طرفة، ودخلت فأعظمت الجماعة قدري وأجلستني في مجلسه وإذا تحته أخلاق عباءة قد ألحت عليها الحوادث رسوم دائرة وأسلاك متناثرة، فلم يكن إلا ريثما جلست، فنهضت (3) ، فوفيته حق السلام غير مشاح له في القيام، لأنه إنما اعتمد بنهوضه عن الموضع ألا ينهض إلي، والغرض كان في لقائه غير ذلك، وحين لقيته تمثلت بقول الشاعر: وفي الممشى إليك علي عار ... ولكن الهوى منع القرارا   (1) ت س: في يوم. (2) ن: الروم (3) ن: كان لي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 364 فتمثل بقوله الآخر: يشقى رجال ويشقى آخرون بهم ... ويسعد الله أقواما بأقوام وليس رزق الفتى من فضل حيلته ... لكن جدود وأرزاق بأقسام كالصيد يحرمه الرامي المجيد وقد ... يرمي فيحرزه من ليس بالرامي وإذا به لابس سبعة أقبية كل قباء منها لون، وكنا في وغرة (1) القيظ وجمرة الصيف وفي يوم تكاد ودائع الهامات تسيل فيه، فجلست مستوفزا وجلس متحفزا (2) ، وأعرض عني لاهيا وأعرضت عنه ساهيا، أؤنب نفسي في قصده وأستخف رأيها في تكلف ملاقاته، فغبر هنية ثانيا عطفه لا يعيرني طرفة، وأقبل على تلك الزعنفة التي بين يديه، وكل يومي إليه ويوحي بلحظة ويشير إلى مكاني بيديه (3) ، ويوقظه من سنته وجهله، ويأبى إلا ازورارا ونفارا وعتوا واستكبارا، ثم رأى أن يثني جانبه إلي ويقبل بعض الإقبال علي، فأقسمت بالوفاء والكرم، فأنهما من محاسن القسم (4) ، أنه لم يزد على أن قال: أيش خبرك، فقلت: بخير أنا لولا ما جنيته على نفسي من قصدك ووسمت به قدري من ميسم الذل بزيارتك وجشمت رأيي من السعي إلى مثلك، ممن لم تهذبه تجربة ولا أدبته بصيرة. ثم تحدرت عليه تحدر السيل إلى قرارة الوادي وقلت له: أبن لي مم تيهك وخيلاؤك وعجبك وكبرياؤك وما الذي يوجب ما أنت عليه من الذهاب بنفسك والرمي بهمتك إلى حيث يقصر عنه باعك ولا تطول إليه ذراعك هل ها هنا نسب انتسب إلى المجد بهظ أو شرف علقت بأذياله أو سلطان تسلطت بعزة أو علم تقع الإشارة إليك به إنك لو قدرت نفسك بقدرها أو وزنتها بميزانها ولم يذهب بك التيه مذهبا لما عدوت أن تكون شاعرا مكتسبا، فامتقع (5)   (1) في النسخ ما عدا ر: وعرة. (2) ر: محتفزاً. (3) ر: بيده. (4) ق: الشيم. (5) ن ر: فانتفع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 365 لونه وغص بريقه، وجعل يلين في الاعتذار ويرغب في الصفح والاغتفار، ويكرر الأيمان أنه لم يثبتني، ولا اعتمد التقصير بي، فقلت: ياهذا إن قصدك شريف في نسبه تجاهلت نسبه، أو عظيم في أدبه صغرت أدبه، أو متقدم عند سلطانه خفضت منزلته، فهل المجد تراث لك دون غيرك كلا والله، لكنك مددت الكبر سترا على نقصك وضربته رواقا حائلا دون مباحثتك، فعاود الاعتذار فقلت: لا عذر لك مع الاصرار. وأخذت الجماعة في الرغبة إلي في مياسرته وقبول عذره، واستعمال الأناة التي تستعملها (1) الحزمة عند الحفيظة، وأنا على شاكلة واحدة في تقريعه وتوبيخه وذم خليقته، وهو يؤكد القسم أنه لم يعرفني معرفة ينتهز معها (2) الفرصة في قضاء حقي، فأقول: ألم أستأذن (3) عليك باسمي ونسبي أما كان في هذه الجماعة من كان يعرفني لو كنت جهلتني وهب أن كذلك، ألم تر شارتي أما شممت عطر نشري ألم أتميز في نفسك عن غيري وهو في أثناء ما أخاطبه وقد ملأت سمعه تأنيبا وتفنيدا يقول: خفض عليك، اكفف من غربك، اردد من سورتك (4) ، استأن فإن الأناة من شيم مثلك، فأصحب حينئذ جانبي له ولانت عريكتي في يده، واستحيت من تجاوز الغاية التي انتهيت إليها في معاتبته، وذلك بعد أن رضته رياضة الصعب من الإبل، وأقبل علي معظما وتوسع في تفريطي مفخما، وأقسم أنه ينازع منذ ورد العراق ملاقاتي ويعد نفسه بالاجتماع معي ويسوفها (5) التعلق بأسباب مودتي. فحين استوفى القول في هذا المعنى استأذن عليه فتى من فتيان الطالبين الكوفيين، فأذن له، فإذا حدث مرهف تميل به نشوة الصبا، فتكلم فأعرب عن نفسه، فإذا لفظ رخيم ولسان حلو وأخلاق فكهة وجواب حاضر وثغر   (1) ر: استعملها؛ س: يستعملها الخدمة. (2) ر: بها. (3) ر ق بر من: يستأذن. (4) ر: صوتك. (5) ر: ويسومها؛ بر: ويشوقها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 366 باسم، في أناة الكهول، ووقار المشايخ (1) ، فأعجبني ما شاهدته من شمائله وملكني ما تبينته من فضله، فجاراه أبياتا. ومن هاهنا كان افتتاح الكلام بينهما في إظهار سرقاته ومعايب شعره؛ وقد طال الكلام لكنه لزم بعضه بعضا فما أمكن قطعه. وهذه الرسالة تشتمل على فوائد جمة، فإن كان كما ذكر أنه أبان له جميعها في ذلك المجلس فما هذا إلا اطلاع عظيم، وقد سماهاالموضحة وهي كبيرة تدخل في اثنتي عشرة كراسة شهدت لصاحبها بالفضل الباهر، مع سرعة الاستحضار وإقامة الشاهد. وله كتابحلية المحاضرة يدخل في مجلدين، وفيه أدب كثير أيضا. وتوفي الحاتمي المذكور يوم الأربعاء لثلاث بقين من شهر ربيع الآخر سنة ثمان وثمانين وثلثمائة، رحمه الله تعالى. وذكر الحاتمي (2) أنه اعتل فتأخر عن مجلس شيخه أبي عمر الزاهد المذكور في أول هذه الترجمة، فسأل عنه، فقيل له: إنه مريض، فجاءه يعوده، فوجده قد خرج إلى الحمام، فكتب على بابه بإسفيداج: وأعجب شيء سمعنا به ... عليل يعاد فلا يوجد والحاتمي: بفتح الحاء المهملة وبعد الألف تاء مثناة من فوقها مكسورة وبعدها ميم، هذه النسبة إلى بعض أجداده اسمه حاتم.   (1) ر: الشيوخ. (2) ر ق: الحاتمي المذكور؛ قلت: وقد وردت هذه القصة في ترجمة أبي عمر المطرز ص: 329 من هذا الجزء؛ وفي هامش ل ما يفيد ذلك أيضاً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 367 (1) 650 ابن القوطية أبو بكر محمد بن عمر بن عبد العزيز بن إبراهيم بن عيسى بن مزاحم، المعروف بابن القوطية، الأندلسي الإشبيلي الأصل القرطبي المولد والدار؛ سمع بإشبيلية من محمد بن عبد الله ابن القوق، وحسن بن عبد الله الزبيدي، وسعيد بن جابر وغيرهم، وسمع بقرطبة من طاهر بن عبد العزيز وابن أبي الوليد الأعرج ومحمد بن عبد الوهاب ابن مغيث وغيرهم (2) . كان من أعلم أهل زمانه باللغة العربية، وكان مع ذلك حافظا للحديث والفقه والخبر والنادر (3) ، وأروى الناس للأشعار وأدركهم للآثار، لايلحق شأوه ولا يشق غباره، وكان مضطلعا بأخبار الأندلس مليا برواية سير أمرائها وأحوال فقائها وشعرائها، يملي ذلك عن ظهر قلب، وكانت كتب اللغة أكثر ما تقرأ عليه وتؤخذ عنه، ولم يكن بالضابط لروايته في الحديث والفقه ولا كانت له أصول يرجع إليها، وكان ما يسمع (4) عليه من ذلك إنما يحمل على المعنى لا على اللفظ، وكان كثيرا ما يقرأ عليه مالا رواية به على جهة التصحيح، وطال عمره فسمع الناس منه طبقة بعد طبقة، وروى عنه الشيوخ والكهول؛ وكان قد لقي مشايخ عصره بالأندلس وأخذ عنهم وأكثر من النقل من فوائدهم. وصنف الكتب المفيدة في اللغة، منها كتاب " تصاريف الأفعال " وهو   (1) ترجمته في انباه الرواة 3: 178 والجذوة: 71 وتاريخ ابن الفرضي 2: 78 والديباج المذهب: 262 واليتيمة 2: 74 وبغية الوعاة: 84 ومعجم الأدباء 18: 272 وعبر الذهبي 2: 345 والنفح 3: 73. (2) سمع ... وغيرهم: سقط من س ن لي ل بر من والمختار. (3) لي: والنوادر. (4) ن: سمع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 368 الذي فتح هذا الباب فجاء من بعده ابن القطاع وتبعه - كما سبق في ترجمته (1) - وله كتاب المقصور والممدود جمع فيه مالا يحد ولا يوصف، ولقد أعجز من يأتي (2) بعده وفاق من تقدمه. وكان أبو علي القالي لما دخل الأندلس اجتمع به، وكان يبالغ في تعظيمه حتى قال له الحكم بن الناصر لدين الله عبد الرحمن صاحب الأندلس يومئذ: من أنبل من رأيته ببلدنا هذا في اللغة فقال: محمد ابن القوطية، وكان مع هذه الفضائل من العباد النساك، وكان جيد الشعر صحيح الألفاظ واضح المعاني حسن المطالع والمقاطع، إلا أنه ترك ذلك ورفضه. حكى الأديب الشاعر أبو بكر يحيى بن هذيل التميمي (3) أنه توجه يوما إلى ضيعة له بسفح جبل قرطبة، وهي من بقاع الأرض الطيبة المونقة، فصادف أبا بكر ابن القوطية المذكور صادرا عنها، وكانت له أيضا هناك ضيعة، قال فلما رآني عرج علي واستبشر بلقائي، فقلت له على البديهة مداعبا له: من أين أقبلت يا من لا شبيه له ... ومن هو الشمس والدنيا له فلك قال: فتبسم وأجاب بسرعة: من منزل يعجب النساك خلوته ... وفيه ستر على الفتاك إن فتكوا قال: فما تمالكت أن قبلت يده إذ كان شيخي، ومجدته ودعوت له. وتوفي أبو بكر المذكور يوم الثلاثاء لسبع بقين من شهر ربيع الأول سنة سبع وستين وثلثمائة بمدينة قرطبة، ودفن يوم الأربعاء وقت صلاة العصر بمقبرة قريش رحمه الله تعالى، وقيل إنه توفي في رجب من السنة المذكورة، والأول أصح. والقوطية: بضم القاف وسكون الواو وكسر الطاء المهملة وتشديد الياء المثناة   (1) الترجمة رقم: 447. (2) ق: أتى. (3) ترجمة ابن هذيل في الجذوة: 358 وابن الفرضي 2: 193 ونكت الهميان: 307 وله شعر في اليتيمة وكتاب التشبيهات والمسالك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 369 من تحتها (1) وبعدها هاء ساكنة، هذه النسبة إلى قوط بن حام بن نوح عليه السلام، نسب إليه (2) جده أبي بكر المذكور، وقوط أبو السودان والهند والسند، وهي أم إبراهيم بن عيسى بن مزاحم (3) جد أبي بكر المذكور، وهي ابنة وبة بن غيطشة (4) ، وكان من ملوك الأندلس، وعلي وعلى أخويه أرطباس قومس الأندلس وسيدة (5) افتتح طارق مولى موسى بن نصير مع المسلمين بلاد الأندلس، وكانت القوطية المذكورة وفدت على هشام بن عبد الملك (6) متظلمة من عمها أرطباس المذكور فتزوجها بالشام عيسى بن مزتحم المذكور، وهو من موالي عمر بن عبد العزيز الأموي رضي الله عنه، وسافر معها إلى الأندلس فكان ذلك سبب انتقال عيسى بن مزاحم إلى الأندلس وإنساله بها، وجاءت القوطية بكتاب هشام إلى الخطاب الشعبي الكلبي (7) ، وكان عامله على الأندلس، بالوصاة عليها فكف عمها عنها وأنصفها مما كان لها قبله ورعى حرمتها وتمادت (8) بها الحال وطالت حياتها إلى أيام الأمير عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك الداخل إلى الأندلس من بني أمية، فكانت تدخل عليه وتقضي حاجتها (9) ، وغلب اسمها على   (1) ر: ثم ياء مثناه من تحتها مشددة. (2) ر: تنسب إليه، س ن بر من: نسب إلى جدة. (3) زاد في ر ق هنا: واسمها سارة بنت المند (ق: المنذر) بن غيطشة (ق: حنظلة) من ملوك القوط بالأندلس. (4) تصحف الأسمان في النسخ كثيراً؛ أما وبة (Oppa) فهو أخو غيطشة (Witiza) لا ابنه على الأرجح، وفي أخبار مجموعة: 8 أنه ابنه؛ وأما أبناء غيطشة فهم وقله (Aquila) ويتصحف أحياناً إلى رملة Romulu وألمند (Olmundo) وأرطباس (Ardadas) . (5) كذا وردت هذا اللفظة؛ وفي ق: سنده، وهي غير معجمة في لي؛ والأرجح أنها سبسرة (Sisiberto) الذي تعده بعض الروايات أخاً لغيطشة؛ والقومس (Comes) رتبة لأرطباس وفي ن لي ل: أرطباس وقومس، وزيادة الواو هنا خطأ. (6) زاد في ر: وهو بالشام. (7) كذا في س ن لي ل ت، وسقطت لفظة الشعبي من س ت ر ق، ووالي الأندلس في زمن هشام هو أبو الخطار حسام الكلبي. (8) وتمادت: هذه هي الرواية رق؛ وفي النسخ الأخرى: وعادت. (9) ر: ويقضي حاجاتها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 370 ذريتها وعرفوا بها إلى اليوم. ذكر ذلك في كتاب الاحتفال في أعلام الرجال مما انتخبه وألفه في أخبار الفقهاء والعلماء المتأخرين من أهل قرطبة الفقيه أبو عمر أحمد بن محمد بن عفيف التاريخي (1) بما بسطه ونمقه من ذلك الفقيه أبو بكر الحسن ابن محمد بن مفرج بن عبد الله بن مفرج المعافري القرطبي المعروف بالقبشي حامله عنه (2) ، قال أبو محمد الرشاطي (3) في كتاب الأنساب: عين قبش في الريض الغربي من قرطبة، ينسب بذلك أبو عبد الله محمد بن مفرج المعافري القبشي. وتوفي ليلة الجمعة خامس شهر رمضان سنة إحدى وسبعين وثلثمائة. قلت: وهذا المذكور والد أبي بكر الحسن بن محمد المذكور قبله، والله أعلم.   (1) انظر الجذوة: 375 ولعله هو المترجم أيضاً في رقم: 174 وهو من شيوخ أبي العباس العذري؛ وترجم له ابن بشكوال (الصلة: 42) وقد اختصر ابن حيان كتابه وهذبه وعنه ينقل ابن الابار في التكملةوالنباهي في المرقبة العليا. (2) الصلة: قال ابن بشكوال: " وجمع كتاباً سماه بكتاب الاحتفال في تاريخ أعلام الرجال في أخبار الخلفاء والقضاة والفقهاء وقد نقلت منه في كتابي هذا ما نسبته اليه، ونقلته من خطه " وقد ابتدأ بتأليفه سنة 417 بمرسية وأتمه بعد 430 وعن كتابه ينقل النباهي في المرقبة العليا. (3) وردت كنية الرشاطي " أبو بكر " في النسخ جميعاً ما عدا ق واسمه عبد الله بن علي، انظر الصلة: 285 ومعجم شيوخ الصدفي: 217 وكتابه في الأنساب يسمي: " اقتباس الأنوار والتماس الأزهار في أنساب الصحابة ورواة الآثار: وقد جمع إسماعيل بن إبراهيم البلبيسي بين هذا هذا الكتاب وزيادات ابن الأثير على أنساب السمعاني. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 371 (1) 651 أبو بكر الزبيدي أبو بكر محمد بن الحسن بن عبد الله بن مذحج بن محمد بن عبد الله بن بشر الزبيدي الإشبيلي نزيل قرطبة؛ كان واحد عصره في علم النحو وحفظ اللغة، وكان أخبر (2) أهل زمانه بالإعراب والمعاني والنوادر، إلى علم السير والأخبار، ولم يكن بالأندلس في فنه مثله في زمانه، وله كتب تدل على وفور علمه (3) منها مختصر كتاب العين وكتابطبقات النحويين والغويين بالمشرق والأندلس من زمن أبي الأسود الدؤلي إلى زمن شيخه أبي عبد الله النحوي الرباحي (4) ، وله كتاب الردة على ابن مسرة وأهل مقالته سماههتك ستور الملحدين وكتابلحن العامة وكتاب الواضح في العربية وهو مفيد جدا، وكتاب الأبنية في النحو ليس لأحد مثله. واختار الحكم المنتصر بالله صاحب الأندلس لتأديب ولده ولي عهده هشام المؤيد بالله، فكان الذي علمه الحساب والعربية ونفعه نفعا كثيرا، ونال أبو بكر الزبيدي منه دينا عريضة، وتولى قضاء إشبيلية وخطة الشرطة، وحصل (5) نعمة   (1) ترجمته في الجذوة: 43 وبغية الملتمس (رقم: 80) وتاريخ ابن الفرضي 2: 92 والمغرب 1: 250 واليتيمة 2: 71 والانباه 3: 109 ومعجم الأدباء 18: 180 والوافي 2: 351 وبغية الوعاة: 34 وصفحات متفرقة من فهرسة ابن خير والمقتبس (ط. بيروت) والمطمح: 53 ونفح الطيب (راجع فهرسه في مادة " الزبيدي ") ؛ وهذه الترجمة اقتصر اكثرها على الشعر في المختار. (2) ق: أحفظ. (3) ق: عقله وعلمه. (4) ر لي: الرياحي، وهو خطأ؛ راجع ترجمة الرباحي في طبقات الزبيدي: 335 وابن الفرضي 2: 71 والجذوة: 91 وبغية الملتمس رقم: 312 والقفطي 3: 229 والوافي 2: 372 وبغية الوعاة: 113. (5) ق: وحصل له. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 372 ضخمة لبسها بنوه من بعده زمانا. وكان يستعظم أدب المؤيد بالله أيام صباه ويصف رجاحته وحجاه، ويزعم أنه لم يجالس قط من أبناء العظماء من أهل بيته وغيره في مثل سنة أذكى منه ولا أحضر يقظة وألطف حسا وأرزن حلما، وذكر عنه حكايات عجيبة. وكان الزبيدي المذكور شاعرا كثير الشعر، فمن ذلك قوله في أبي مسلم ابن فهر: أبا مسلم إن الفتى بجنانه ... ومقولة لا بالمراكب واللبس وليس ثياب المرء تغني قلامه ... إذا كان مقصورا على قصر النفس وليس يفيد العلم والحلم والحجا ... أبا مسلم طول القعود على الكرسي وكان في صحبة الحكم المستنصر، وترك جاريته بإشبيلية فاشتاق إليها، فاستأذنه في العود إليها فلم يأذن له، فكتب إليها: ويحك يا سلم لا تراعي ... لا بد للبين من زماع لا تحسبني صبرت إلا ... كصبر ميت على النزاع ما خلق الله من عذاب ... أشد من وقفة الوداع ما بينها والحمام فرق ... لولا المناجاة والنواعي إن يفترق شملنا وشيكا ... من بعد ما كان ذا اجتماع فكل شمل إلى فراق ... وكل شعب إلى انصداع وكل قرب إلى بعاد ... وكل وصل إلى انقطاع وكان كثيرا ما ينشد: الفقر في أوطاننا غربة ... والمال في الغربة أوطان والأرض شيء كلها واحد ... والناس إخوان وجيران وكان قد قيد الأدب واللغة على أبي علي البغدادي المعروف بالقالي - المقدم ذكره (1) - لما دخل الأندلس، وسمع من قاسم بن أصبغ وسعيد بن فحلون وأحمد   (1) انظر ج 1: 226. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 373 ابن سعيد بن حزم. وأصله من جند حمص المدينة التي بالشام. وتوفي يوم الخميس مستهل جمادى الآخرة سنة تسع وسبعين وثلثمائة بإشبيلية، ودفن ذلك اليوم بعد صلاة الظهر، وصلى عليه ابنه أحمد، وعاش ثلاثا وستين سنة، رحمه الله تعالى. ومذحج: بفتح الميم وسكون الذال المعجمة وكسر الحاء المهملة وبعدها جيم، وهو في الأصل اسم أكمة حمراء باليمن، ولد عليها مالك بن أدد فسمي باسمها، ثم كثر ذلك في تسمية العرب حتى صاروا يسمون بها ويجعلون علما على المسمى، وقطعوا النظر عن تلك الأكمة. والزبيدي: بضم الزاي وفتح الباء الموحدة وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها دال مهملة، هذه النسبة إلى زبيد، واسمه منبه بن صعب بن سعد العشيرة بن مذحج، وهو الذي سمي بالأكمة المذكورة، وزبيد قبيلة كبيرة باليمن خرج منها خلق كثير من الصحابة وغيرهم، رضي الله عنهم. 652 - (1) القزاز أبو عبد الله محمد بن جعفر التميمي النحوي المعروف بالقزاز القيرواني؛ كان الغالب عليه علم النحو واللغة والافتتان في التواليف (2) ، فمن ذلك كتاب الجامع في اللغة، وهو من الكتب الكبار المختارة المشهورة. وذكر أبو القاسم ابن الصيرفي الكاتب المصري أن أبا عبد الله القزاز المذكور   (1) ترجمته في انباه الرواة 3: 84 وفي الحاشية ثبت بمصادر أخرى، وقد اقتصر صاحب المختار على إيراد الأشعار المثبتة في هذه الترجمة. (2) ت: في التواريخ؛ ر: في التأليف. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 374 كان في خدمة العزيز ابن المعز العبيدي صاحب مصر وصنف له كتبا. وقال غيره (1) : كان العزيز بنه المعز العبيدي صاحب مصر قد تقدم إليه أن يؤلف كتابا يجمع فيه سائر الحروف التي ذكر النحويون أن الكلام كله اسم وفعل وحرف جاء لمعنى، وأن يقصد في تأليفه إلى ذكر الحرف الذي جاء لمعنى، وأن يجري ما ألفه من ذلك على حروف المعجم؛ قال ابن الجزارك وما علمت أن نحويا ألف شيئا من النحو على هذا التأليف، فسارع أبو عبد الله القزاز إلى ماأمره العزيز به، وجمع المفترق من الكتب النفيسة في هذا المعنى على أقصد سبيل وأقرب مأخذ وأوضح طريق، فبلغ جملة الكتاب ألف ورقة، ذكر ذلك كله الأمير المختار المعروف بالمسبحي في تاريخه الكبير. وله كتاب التعريض ذكر فيه مادار بين الناس من المعاريض في كلامهم. وقال أبو علي الحسن بن رشيق في كتاب " الأنموذج " (2) : إن القزاز المذكور فضح المتقدمين وقطع ألسنة المتأخرين، وكان مهيبا عند الملوك والعلماء وخاصة الناس محبوبا عند العامة، قليل الخوض إلا في علم دين أو دنيا، يملك لسانه ملكا شديدا. وكان له شعر مطبوع مصنوع ربما جاء به مفاكهة وممالحة من غير تحفز ولا تحفل، يبلغ بالرفق والدعة على الرحب والسعة أقصى ما يحاوله أهل القدرة على الشعر من توليد المعاني وتوكيد المباني، علما بتفاصيل الكلام وفواصل النظام، فمن ذلك قوله: أما ومحل حبك في فؤادي ... وقدر مكانه فيه المكين لو انبسطت لي الآمال حتى ... تصير من عنانك في يميني لصنتك في مكان سواد عيني ... وخطت عليك من حذر جفوني فأبلغ منك غايات الأماني ... وآمن فيك آفات الظنون فلي نفس تجرع كل يوم ... عليك بهن كاسات المنون   (1) وذكر ... غيره: سقط من س ن لي ل ت بر من. (2) احتفظ العمري في مسالك الأبصار بقطعة من هذا الكتاب القزاز تقع في ج 11: 376 كما أن العمري ذكره في النحويين 4: 399. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 375 إذا أمنت قلوب الناس خافت ... عليك خفي الحاظ العيون فكيف وأنت دنياي ولولا ... عقاب الله فيك لقلت ديني ومن شعره أيضا: أضمروا لي ودا ولا تظهروه ... يهده منكم إلي الضمير ما أبالي إذا بلغت رضاكم ... في هواكم لأي حال أصير وله أيضا: ألا من لركب فرق الدهر شملهم ... فمن منجد نائي المحل متهم كأن الردى خاف الردى في اجتماعهم ... فقسمهم في الأرض كل مقسم وله أيضا: ولنا من أبي الربيع ربيع ... ترتعيه هوامل الآمال أبدا يذكر العدات وينسى ... ماله عندنا من الإفضال وله أيضا: أحين علمت أنك نور عيني ... وأني لا أرى حتى أراكا جعلت كغيب شخصك عن عياني ... يغيب كل مخلوق سواكا وذكر له مقاطيع مثيرة غير هذه، ثم قال: وشعر أبي عبد الله - يعني القزاز المذكور - أحسن مما ذكرت، لكني لم أتمكن من روايته، وقد شرطت في هذا الكتاب أن كل ماجئت به من الأشعار على غير جهة الاختيار. وكانت وفاته بالحضرة سنة اثنتي عشرة (1) وأربعمائة، وقد قارب السبعين، رحمه الله تعالى؛ والمراد بالحضرة القيروان، فإنها كانت دار المملكة يوم ذاك. والقزاز: بفتح القاف وزايين بينهما ألف والأولى منهما مشدودة، هذه النسبة إلى عمل القز وبيعه، وقد اشتهر به جماعة.   (1) ق: سنة إحدى أو اثنتي عشرة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 376 653 - (1) المسبحي بالأمير المختار عز الملك محمد بن أبي القاسم عبيد الله بن أحمد بن إسماعيل بن عبد العزيز، المعروف بالمسبحي الكاتب، الحراني الأصل المصري المولد، صاحب التاريخ المشور وغيره من المصنفات؛ كانت فيه فضائل ولديه معارف، ورزق حظوة في التصانيف، وكان على زي الأجناد، واتصل بخدمة الحاكم بن العزيز العبيدي صاحب مصر ونال منه سعادة، وذكر في تاريخه أن أول تصرفه في خدمة الحاكم صاحب مصر كان في سنة ثمان وتسعين وثلثمائة، وذكر فيه أيضا: أنه تقلد القيس (2) والبهنسا من أعمال الصعيد، ثم تولى ديوان الترتيب، وله مع الحاكم مجالس ومحاضرات حسبما يشهد بها (3) تاريخه الكبير. وجمع مقدار ثلاثين مصنفا، منها: التاريخ المذكور الذي قال في حقه " التاريخ الجليل قدره الذي يستغنى بمضمونه عن غيره من الكتب الواردة في معانيه، وهو أخبار مصر ومن حلها من الولاة والأمراء والأئمة والخلفاء، وما بها من العجائب والأبنية واختلاف أصناف الأطعمة، وذكر نيلها، وأحوال من حل بها إلى الوقت الذي كتبنا فيه تعليق هذه الترجمة، وأشعار الشعراء وأخبار المغنين (4) وجالس القضاة والحكام والمعدلين والأدباء والمعتزلين وغيرهم "   (1) ترجمته في اللباب: (المسبحي) والوافي 4: 7 والمغرب (قسم مصر) 1: 264 والنجوم الزاهرة 4: 271 وعبر الذهبي 3: 139 والشذرات 3: 215 وحسن المحاضرة 1: 248 وتاج العروس: (سبح) ؛ وقد اقتصر صاحب المختار من هذه الترجمة على إيراد مرثيته في والده؛ وبهذه الترجمة تبدأ نسخة المجمع العلمي ببغداد ورمزها (مج) . (2) غير معجمة في لي ل ت ر بر وانظر ابن دقماق 5: 4؛ ن: الفشن، وقد وردت عند ابن دقماق أيضاً، وهي والقيس من القرى الاطفيحية؛ ق: المقيس، وبالهامش: الفيوم. (3) ت ل بر من لي مج: به. (4) ل ن لي: المفتين؛ ق: المفتيين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 377 وهو ثلاثة عشر ألف ورقة. ومن تصانيفه كتاب التلويح والتصريح في معاني الشعر وغيره وهو ألف ورقة، وهو ألف ورقة، وكتاب الراح والارتياح ألف وخمسمائة ورقة، وكتاب الغرق والشرق في ذكر من مات غرقا غرقا وشرقا مائتا ورقة، وكتاب الطعام والإدام ألف ورقة، وكتاب درك البغية في وصف الأديان والعبادات ثلاثة آلاف وخمسمائة ورقة، وقصص الأنبياء عليهم السلام وأحوالهم ألف وخمسمائة ورقة، وكتاب المفاتحة والمناكحة في أصناف الجماع ألف ومائتا ورقة، وكتاب الأمثلة للدول المقبلة يتعلق بالنجوم والحساب خمسمائة ورقة، وكتاب القضايا الصائبة في معاني أحكام النجوم ثلاثة آلاف ورقة، وكتاب جونة الماشطة يتضمن غرائب الأخبار والأشعار والنوادر التي لم يتكرر مرورها على الأسماع، وهو مجموع مختلف غير مؤتلف، ألف وخمسمائة ورقة، وكتاب الشجن والسكن في أخبار أهل الهوى وما يلقاه أربابه ألفان وخمسمائة ورقة، وكتاب السؤال والجواب ثلثمائة ورقة، وكتاب السؤال والجواب ثلثمائة ورقة، وكتاب مختار الأغاني ومعانيها وغير ذلك من الكتب. وله شعر حسن (1) ، فمن ذلك أبيات رثى بها أم ولده، وهي: ألا في سبيل الله قلب تقطعا ... وفادحة لم تبق للعين مدمعا أصبرا وقد حل الثرى من أوده ... فلله هم ما أشد وأوجعا فيا ليتني للموت قدمت قبلها ... وإلا فليت الموت أذهبنا معا وكان المسبحي المذكور قد استزار أبا محمد عبيد الله بن أبي الجوع الأديب الوراق الكاتب المشهور، فزاره؛ فعمل المسبحي هذه الأبيات وأنشده إياها على البديهة: حللت فأحلت قلبي السرورا ... وكاد لفرحته أن يطيرا وأمطر علمك سحب السماء ... ولولاك ما كان يوما مطيرا تضوع نشرك لما وردت ... وعاد الظلام ضياء منيرا   (1) ق: جيد حسن. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 378 (187) وكان ابن أبي الجوع المذكور شاعرا أديبا حلوا مقبولا له أشعار كثيرة في المراسلات والمعاتبات والأهاجي، وكان نسخة في غاية الجودة، وكان ينسخ كل (1) خمسين ورقة بدينار، وخطه موجود بأيدي الناس ومرغوب فيه، وكانت وفاة ابن أبي الجوع (2) سنة خمس وتسعين وثلثمائة. وكانت ولادة المسبحي المذكور يوم الأحد عاشر رجب سنة ست وستيم وثلثمائة، كذا ذكره في تاريخه الكبير. وتوفي في شهر ربيع الآخر سنة عشرين وأربعمائة. (188) وتوفي والده ضحوة نهار الاثنين تاسع شعبان سنة أربعمائة، وعمره ثلاث وتسعون سنة، وصلي عليه في جامع مصر ودفن في داره، رحمهم الله تعالى أجمعين. ولما توفي الوالد رثاه ولده المسبحي المذكور بهذه الأبيات: خطب يقل له البكاء وينطوي ... عنه العزاء ويظهر المكتوم خطب يميت من الصدور قلوبها ... أسفا ويقعد تارة ويقيم يا دهر قد أنشبت في مخالبا ... بالأسودين لوقعهن كلوم يا دهر قدألبستني حلل الأسى ... مذ حل شخص في التراب كريم لو كنت تقبل فدية لفديت من ... رضت عظامي فيه وهو رميم يا من يلوم إذا رآني جازعا ... من طارق الحدثان، فيم تلوم بأبي فجعت فأي ثكل (3) مثله ... ثكل الأبوة في الشباب أليم قد كنت أجزع أن يلم به الردى ... أو يعتريه من الزمان هموم ورثاه جماعة من شعراء عصره (4) ذكرهم ولده في تاريخه وذكر مراثيهم. والمسبحي: بضم الميم وفتح الين المهملة وكسر الباء الموحدة وفي آخره حاء   (1) ق: كل يوم. (2) مج: وكانت وفاته. (3) ر: خطب؛ مج: وأي ثكل. (4) ق ر: الشعراء في عصره. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 379 مهملة (1) قال السمعاني في كتاب الأنساب: هذه النسبة إلى الجد، وعرف بها المسبحي صاحب تاريخ المغاربة ومصر، يعني الأمير المذكور. 654 - (2) ابن حمدون صاحب التذكرة أبو المعالي محمد بن أبي سعد الحسن بن محمد بن علي بن حمدون الكاتب الملقب كافي الكفاة بهاء الدين البغدادي؛ كان فاضلا ذا معرفة تامة بالأدب والكتابة، من بيت مشهور بالرياسة والفضل هو وأبوه وأخواه أبو نصر وأبو المظفر، وسمع أبو المعالي المذكور من أبي القاسم إسماعيل بن الفضل الجرجاني وغيره، وصنف كتاب التذكرة وهو من أحسن المجاميع، يشتمل على التاريخ والأدب والنوادر والأشعار، لم يجمع أحد من المتأخرين مثله، وهو مشهور بأيدي الناس كثير الوجود، وهو من الكتب الممتعة. ذكر العماد الأصبهاني الكاتب في كتاب الخريدة فقال: كان عارض العسكر المقتفوي، ثم صار صاحب ديوان الزمام المستنجدي، وهو كلف باقتناء الحمد وابتناء المجد، وفيه فضل ونبل وله على أهل الأدب ظل، وألف كتابا سماهالتذكرة وجمع فيه الغث والسمين والمعرفة والنكرة، فوقف افمام المستنجد على حكايات ذكرها نقلا من التواريخ توهم في الدولة غضاضة، ويعتقد للتعرض بالقدح فيها عراضة، فأخذ من دست منصبه وحبس، ولم يزل في نصبه إلى أن رمس، وذلك في أوائل سنة اثنتين وستين وخمسمائة، وأنشدني لنفسه لغزا في مروحة الخيش:   (1) ر: وفي آخرها الحاء المهملة. (2) ترجمته في الخريدة (قسم العراق) 1: 184 والفوات 2: 377 والوافي 2: 357 والمنتظم 10: 221 والنجوم الزاهرة 5: 374 والشذرات 4: 206. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 380 ومرسلة معقودة دون قصدها ... مقيدة تجري حبيس طليقها يمر خفيف (1) الريح وهي مقيمة ... وتسري وقد سدت عليها طريقها لها من سليمان النبي وراثة ... وقد عزيت نحو النبيط عروقها إذا صدق النوء السماكي (2) أمحلت ... وتمطر والجوزاء ذاك (3) حريقها تحيتها إحدى الطبائع انها ... لذلك كانت كل روح صديقها وأورد له أيضا: وحاشا معاليك أن تستزاد ... وحاشا نوالك أن يقتضى ولكنما أستزيد الحظوظ ... وإن أمرتني النهى بالرضا وأورد له أيضا: يا خفيف الرأس والعقل معا ... وثقيل الروح أيضا والبدن تدعي أنك مثلي طيب ... طيب أنت ولكن بلبن انتهى كلام العماد. وقال غيره: إنه سمع الحديث كثيرا وروى عن الإمام المستنجد قول أبي حفص الشطرنجي في جارية حولاء: حمدت إلهي إذبليت بحبها ... على حول يغني عن النظر الشزر نظرت إليها والرقيب يخالني ... نظرت إليه فاسترحت من العذر (4) وهذا من المعاني النادرة العجيبة [والأمام في هذا قول مهيار الديلمي يصف ناقة:   (1) لي: هفيف؛ مج: حفيف. (2) ل لي مج س ن ت ق بر من والمختار: الشمالي. (3) لي: دان. (4) حاول ناسخ لي أن يغير النص فكتب " الينا "، " يخالها " وعلق على ذلك بقوله إنه لو كان البيت كما هو مثبت هنا فالرقيب هو الأحوال لا هي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 381 هواها وراءها والسرى من أمامها ... فهن صحيحات النواظر حول] (1) وكانت ولادة ابن حمدون المذكور في رجب سنة خمس وتسعين وأربعمائة وتوفي يوم الثلاثاء حادي عشر ذي القعدة سنة اثنتين وستين وخمسمائة، ودفن يوم الأربعاء بمقابر قريش ببغداد، وكان موته في الحبس. (189) وأخوه أبو نصر محمد بن الحسن الملقب غرس الدولة كان من العمال، وممن يعتقد في أهل الخير والصلاح ويرغب في صحبتهم، ولد في صفر سنة ثمان وثمانين وأربعمائة، وتوفي في ذي الحجة سنة خمس وأربعين وخمسمائة ببغداد، ودفن بمقابر قريش. (190) وكان والدهما من شيوخ الكتاب والعارفين بقواعد التصرف (2) والحساب وله تصنيف في معرفة (3) الأعمال، وعمر طويلا، وتوفي يوم السبت عاشر جمادى الأولى سنة ست وأربعين وخمسمائة (4) ، رحمهم الله تعالى أجمعين. 655 - (5) ابن قريعة القاضي لأبو بكر محمد بن عبد الرحمن، المعروف بابن قريعة البغدادي؛ كان قاضي السندية وغيرها من أعمال بغداد، ولاه أبو السائب عتبة بن عبيد الله القاضي، وكان من إحدى عجائب الدنيا في سرعة البديهة بالجواب عن جميع   (1) ما بين معقفين زيادة من مج. (2) س: الصرف. (3) لي: تصريف. (4) وتوفي ... وخمسمائة: سقط من س ت مج. (5) ترجمته في تاريخ بغداد 2: 317 والوافي 3: 227 والمنتظم 7: 91 وعبر الذهبي 2: 345 والبداية والنهاية 11: 292. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 382 ما يسأل عنه في أفصح (1) لفظ وأملح سجع، وكان مختصا بحضرة الوزير أبي محمد المهلبي - المقدم ذكره (2) - منقطعا إليه، وله مسائل وأجوبة مدونة في كتاب مشهور بأيدي الناس، وكان رؤساء ذلك العصر وفضلاؤه يداعبونه ويكتبون إليه المسائل الغريبة المضحكة، فيكتب الجواب من غير توقف ولا تلبث مطابقا لما سألوه، وكان الوزير المذكور يغري به جماعة يضعون له من الأسئلة الهزلية على معان شتى من النوادر الطنزية ليجيب عنها بتلك الأجوبة، فمن ذلك ما كتب إليه العباس (3) بن المعلى الكاتب: مايقول القاضي، وفقه الله تعالى، في يهودي زنى بنصرانية فولدت ولدا جسمه للبشر ووجهه للبقر، وقد قبض عليهما، فما يرى القاضي فيهما فكتب جوابه بديها: هذا من أعدل الشهود على الملاعين اليهود، بأنهم أشربوا حب العجل في صدورهم حتى خرج من أيورهم، وأرى أن يناط برأس اليهودي رأس العجل، ويصلب على عنق النصرانية الساق مع الرجل، ويسحبا على الأرض، وينادى عليهما ظلمات بعضها فوق بعض، والسلام. ولما قدم الصاحب بن عباد - المقدم ذكره (4) - إلى بغداد حضر مجلس الوزير المهلبي المقدم ذكره أيضا، وكان في المجلس القاضي أبو بكر المذكور، فرأى من ظرفه وسرعة أجوبته مع لطافتها ما عظم منه تعجبه، وكتب الصاحب إلى أبي الفضل ابن العميد كتابا يقول فيه: وكان في المجلس شيخ خفيف الروح يعرف بالقاضي ابن قريعة، جاراني في مسائل خستها تمنع (5) من ذكرها، إلا أني استظرفت من كلامه، وقد سأله كهل (6) يتطلب بحضرة الوزير أبي محمد عن حد القفا، فقال: ما اشتمل عليه جربانك، ومازحك فيه إخوانك، وأدبك فيه سلطانك، وباسطك فيه غلمانك، فهذه حدود أربعة (7) .   (1) لي: بأفصح. (2) انظر ج 2: 124. (3) لي: أبو العباس. (4) انظر ج 1: 228. (5) س ن: حسنها يمنع. (6) ق: رجل. (7) وردت هذه القصة على النحو التالي في مج: " وأخبر محمد ن جعفر التميمي قال، قال ابو الحسن الزهراني لابن قريعة في مجلس المهلبي: ما حدود الفق؛ فأجابه في الوقت: ما داعبك فيه اخوانك، وشرطك فيه حجامك، وأدبك فيه سلطانك، واشتمل عليه جربانك، فقال له: ما حد الصفع؛ قال: الرفع والوضع والضر والنفع. قال هلال بن المحسن الكاتب توفي ابن قريعة في يوم السبت .... الخ ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 383 قلت: وجربان الثوب: بضم الجيم والراء وتشديد الباء الموحدة وبعدها ألف ثم نون، وهي العريضة التي فوق القب، وهي التي تستر القفا، والجربان لفظ فارسي معرب (1) . وجميع مسائله على هذا الأسلوب، ولولا خوف الإطالة لذكرت جملة منها، وقد سرد أبو بكر (2) محمد بن شرف القيرواني الشاعر المشهور في كتابه الذي سماه " أبكار الأفكار " عدة مسائل وجواباتها من هذه المسائل. وتوفي القاضي أبو بكر المذكور يوم السبت لعشر بقين من جمادى الآخرة، سنة سبع وستين وثلثمائة ببغداد، وعمره خمس وستون سنة، رحمه الله تعالى. وقريعة: بضم القاف وفتح الراء وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها عين مهملة، وهولقب جده، كذا حكاه السمعاني. والسندية: بكسر السين المهملة وسكون النون وكسر الدال المهملة وتشديد الياء المثناة وبعدها هاء ساكنة، وهي قرية على نهر عيس بين بغداد والأنبار، وينسب إليها ليحصل الفرق بين هذه النسبة والنسبة إلى بلاد السند المجاور لبلاد الهند.   (1) قلت ... معرب: ثبت في ر ق والمختار. (2) كذا وردت كنيته والمشهور أنه أبو عبد الله (الذخيرة 4 - 1: 133) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 384 656 - (1) الوهراني أبو عبد الله محمد بن محرز بن محمد الوهراني الملقب ركن الدين، وقيل جمال الدين؛ أحد الفضلاء الظرفاء، قدم من بلاده إلى الديار المصرية في أيام السلطان صلاح الدين، رحمه الله تعالى، وفنه الذي يمت به صناعة الإنشاء، فلما دخل البلاد ورأى بها القاضي الفاضل وعماد الدين الأصبهاني الكاتب وتلك الحلبة (2) علم من نفسه أنه ليس من طبقتهم ولا تتفق سلعته مع وجودهم، فعدل عن طريق الجد وسلك طريق الهزل، وعمل المنامات والرسائل المشهورة به والمنسوبة إليه، وهي كثيرة الوجود بأيدي الناس، وفيها دلالة على خفة روحه ورقة حاشيته وكمال ظرفه، ولو لم يكن له فيها إلا المنام الكبير لكفاه، فإنه أتى فيه بكل حلاوته، ولولا طوله لذكرته، ثم إن الوهراني المذكور تنقل في البلاد وأقام بدمشق زمانا (3) ، وتولى الخطابة بداريا، وهي قرية على باب دمشق في الغوطة. وتوفي في سنة خمس وسبعين وخمسمائة بداريا، رحمه الله تعالى، ودفن على باب تربة الشيخ أبي سليمان الداراني. نقلت من خط القاضي الفاضل: وردت الأخبار من دمشق في سابع عشر رجب بوفاة الوهراني (4) . والوهراني: بفتح الواو وسكون الهاء وفتح الراء وبعد الألف نون، هذه النسبة إلى وهران، وهي مدينة كبيرة في (5) أرض القيروان، بينهما وبين تلمسان   (1) ترجمته في الوافي 4: 386 وعبر الذهبي 4: 225 والشذرات 4: 252 وقد سقطت هذه الترجمة من النسخة ر والمختار. (2) ن: الحلة. (3) جاء بعده في مج ذكر الوفاة وتعريف موجز بالنسبة (الوهراني) وتنتهي الترجمة. (4) نقلت ... بوفاة الوهراني: سقط من س ن ل لي ت مج بر من. (5) س: بأرض؛ ت ل لي ن بر: على أرض. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 385 مسافة يومين، وهي على ساحل البحر الشامي، وذكر الرشاطي أنها أسست في سنة تسعين ومائتين على يدي محمد بن أبي عون ومحمد بن عبدوس وجماعة (1) ، وخرج منها جماعة من العلماء وغيرهم. وداريا: بالدال المهملة (2) وبعد الألف راء مفتوحة وبعدها ياء مثناة من تحتها مشددة. 657 - (3) فخر الدين ابن تيمية الحراني أبو عبد الله محمد بن أبي القاسم الخضر بن محمد بن الخضر بن علي بن عبد الله، المعروف بابن تيمية الحراني الملقب، فخر الدين الخطيب الواعظ الفقيه الحنبلي؛ كان فاضلا، تفرد في بلده (4) بالعلم، وكان المشار إليه في الدين، لقي جماعة من العلماء (5) وقدم بغداد وتفقه بها على أبي الفتح ابن المني، وسمع الحديث بها من شهدة بنت الإبري وابن المقرب وابن البطي وغيرهم (6) ، وصنف في مذهب الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه، مختصرا أحسن فيه، وله ديوان خطب مشهور وهو في غاية الجودة، وله تفسير القرآن الكريم، وله نظم حسن، وكانت إليه الخطابة بحران، ولأهله من بعده، ولم يزل أمره جاريا على سداد وصلاح حال.   (1) وذكر الرشاطي ... وجماعة: سقط من س ن ل لي ت مج بر من. (2) لي: بفتح الدال؛ وقد سقط ضبط داريا من ق ت مج. (3) ترجمته في طبقات الحنابلة 2: 151 وذيل الروضتين: 146 والوافي 3: 37 وعبر الذهبي 5: 92 والشذرات 5: 102 وتاريخ إربل: 67 وعقود الجمان لابن الشعار 6: 536. (4) س ن لي: بلاده. (5) ق ر مج: الفضلاء. (6) وقدم بغداد .... وغيرهم: سقط من النسخ ما عدا ر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 386 ومولده في أواخر شعبان سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة، بمدينة حران (1) . وتوفي بها في حادي عشر صفر، سنة إحدى وعشرين وستمائة، رحمه الله تعالى. قال أبو المظفر سبط ابن الجوزي في حقه (2) : كان ضنينا (3) بحران، متى نبغ فيها أحد لايزال وراءه حتى يخرجه منها ويبعده عنها، ومات في خامس صفر من السنة المذكورة، وهذا خلاف ما ذكرته أولا، قال: وسمعته في جامع حران يوم الجمعة بعد الصلاة ينشد: أحبابنا قد نذرت مقلتي ... لا تلتقي بالنوم أو نلتقي رفقا بقلب مغرم واعطفوا ... على سقام الجسد المغرق كم تمطلوني بليالي اللقا ... قد ذهب العمر ولم نلتق ذكره أبو يوسف محاسن بن سلامة بن خليفة الحراني في تاريخ حران وأثنى عليه، ثم قال: توفي يوم الخميس بعدالعصر عاشر صفر سنة اثنتين وعشرين وستمائة (4) . وذكره أبو البركات ابن المستوفي فيتاريخ إربل فقال: ورد إربل حاجا في سنة أربع وستمائة، وذكر فضله، وقال: كان يدرس التفسير في كل يوم، وهو حسن القصص حلو الكلام مليح الشمائل، وله القبول التام (5) عند الخاص والعام، وكان أبوه أحد الأبدال والزهاد، وتفقه بحران وببغداد، وكان حاذقا في المناظرات صنف مختصرات في الفقه، وخطبا سلك فيها مسلك ابن نباتة، وكان بارعا في تفسير القرآن وجميع العلوم له فيها يد بيضاء، وسمع من مشايخ الحديث ببغداد وأنشد له: سلام عليكم مضى ما مضى ... فراقي لكم لم يكن عن رضا   (1) ر ق: ومولده في حران في الثامن والعشرين من شعبان، وتوفي بمدينة حران. (2) لم يرد هذا النص في مرآة الزمان المطبوع. (3) كذا في ر ق؛ وفي ذيل الروضتين: خطيباً، نقلا عن سبط ابن الجوزي. (4) قال أبو المظفر ... وستمائة: انفردت به النسختان ر ق. (5) ت ل لي: العام؛ وكذلك في تاريخ إربل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 387 سلوا الليل عني مذ غبتم ... أجفني بالنوم هل أغمضا (1) أأحباب قلبي وحق الذي ... بمر الفراق علينا قضى لئن عاد عيد اجتماعي بكم ... وعوفيت من كارث (2) أمرضا لألتقين مطاياكم ... بخدي (3) وأفرشه في الفضا ولو كان حبوا على جبهتي ... ولو لفح الوجه جمر الغضى فأحيا وأنشد من فرحتي ... سلام عليكم مضى ما مضى (4) ثم قال: سألته عن اسم تيمية ما معناه، فقال: حج أبي أو جدي، انا أشك أيهما، قال: وكانت امرأته حاملا، فلما كان بتيماء رأى جويرية قد خرجت من خباء، فلما رجع إلى حران وجد امرأته قد وضعت جارية، فلما رفعوها إليه قال: ياتيمية، ياتيمية، يعني أنها تشبه التي رآها بتيماء، فسمي بها (5) ، أو كلاما هذا معناه. وتيماء: بفتح التاء المثناة من فوقها وسكون الياء المثناة من تحتها وفتح الميم وبعدها همزة ممدودة، وهي بليدة في بادية تبوك إذا خرج الإنسان من خيبر إلها تكون على منتصف طريق الشام، وتيمية منسوبة إلى هذه البليدة، وكان ينبغي أن تكون تيماوية، لأن النسبة إلى تيماء تيماوي، لكنه هكذا قال واشتهر كما قال.   (1) ق: بالليل ... غمضا؛ المختار وتاريخ إربل: غمضا. (2) ق: عارض. (3) تاريخ إربل: بوجهي. (4) علق ابن المؤلف بعد هذه الأبيات بقوله: " قلت، أعني كاتبها موسى بن أحمد لطف الله به: وهو جد الشيخ تقي الدين أحمد الموجود الآن بدمشق، ورأيت أبا التقي ولقبه شهاب الدين واسمه ( .... ) وكان يغشى مجلس والدي قدس الله روحه بدمشق كثيراً وتوفي بها ". (5) ق مج: به. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 388 658 - (1) أبو منصور العتابي أبو منصور محمد بن علي بن إبراهيم بن زبرج، النحوي المعروف بالعتابي؛ كانت له معرفة بالنحو واللغة وفنون الأدب، وله الخط المليح الصحيح (2) الذي يتنافس فيه أهل العلم، وقرأ الأدب على الشريف أبي السعادات هبة الله بن الشجري - الآتي ذكره إن شاء الله تعالى - وعلى أبي المنصور موهوب بن الجواليقي وغيرهما وسمع الحديث من مشايخ وقته، وكتب الكثير، وكل كتاب يوجد بخطه فهو مرغوب فيه. وكانت ولادته في شهر ربيع الأول سنة أربع وثمانين وأربعمائة. وتوفي ليلة الثلاثاء الخامس والعشرين من جمادى الأولى سنة ست وخمسين وخمسمائة، رحمه الله تعالى. والعتابي: بفتح العين المهملة وتشديد التاء المثناة من فوقها وبعد الألف باء موحدة، هذه النسبة إلى العتابيين، وهي إحدى محال بغداد في الجانب الغربي منها، وكان أبو منصور المذكور قد تركها وسكن في الجانب الشرقي. وأما أبو عمرو كلثوم بن عمرو بن أيوب العتابي الشاعر المشهور فهو منسوب إلى عتاب بن سعد بن زهير بن جشم، وكان شاعرا بليغا مجيدا، مدح هارون الرشيد وغيره، وهو من اهل قنسرين المدينة القديمة التي بالشام مجاورة حلب، وكان ينبغي ذكره في هذا الكتاب، وإنما أخللت به لأني لم أظفر له بوفاة، ومبنى هذا الكتاب على من عرفت وفاته.   (1) ترجمته في انباه الرواة 3: 188 (وذكرت في الحاشية مصادر أخرى) وقد سقطت الترجمة من ت مج ومن المختار. (2) ر: الصحيح المليح. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 389 659 - (1) المسعودي شارح المقامات أبو سعيد - ويقال أبو عبد الله - محمد بن أبي السعادات عبد الرحمن بن محمد بن مسعود بن أحمد بن الحسين بن محمد المسعودي، الملقب تاج الدين، الخراساني المروروذي البندهي الفقيه الشافعي الصوفي؛ ان أديبا فاضلا اعتنى بالمقامات الحريرية فشرحها وأطال شرحها، واستوعب فيه مالم يستوعبه غيره، رأيته في خمس مجلدات كبار لم يبلغ أحد من شراح هذا الكتاب إلى هذا القدر ولا إلى نصفه، وهو مشهور كثير الوجود بأيدي الناس، وكان مقيما بدمشق (2) في الخانقاه (3) السميساطية، والناس يأخذون عنه بعد أن كان يعلم الملك الأفضل أبا الحسن علي ابن السلطان صلاح الدين - وقد تقدم ذكره (4) - وحصل بطريقه كتبا كثيرة نفيسة غريبة، وبها استعان على شرح المقامات. وحكى أبو البركات الهاشمي الحلبي قال: لما دخل السلطان صلاح الدين إلى حلب في سنة تسع (5) وسبعين وخمسمائة نزل المسعودي المذكور إلى جامع حلب وقعد في خزانة كتبها الوقف واختار منها أخذها لم يمنعه منها مانع، ولقد رأيته وهو يحشوها في عدل، ولقيت جماعة من أصحابه وسمعت منهم وأجازوني. ورأيت في تاريخ بعض المتأخرين أن البندهي المذكور كانت ولادته سنة إحدى وعشرين وخمسمائة. ونقل بعض الأفاضل من خط البندهي ما صورته:   (1) ترجمته في الوافي 3: 233 وعبر الذهبي 4: 253 والشذرات 4: 280 ولسان الميزان 5: 256، وقد سقطت هذه الترجمة من ت مج واقتصر منها في المختار على إيراد بعض الشعر. (2) زاد في ر ق: المحروسة. (3) ق: بالخانقاه. (4) انظر ج 3: 419. (5) ل لي س ن ق بر: سبع؛ وما أثبتناه موافق لما في سيرة صلاح الدين: 59. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 390 ولدت وقت المغرب من ليلة الثلاثاء غرة شهر ربيع الآخر (1) سنة اثنين وعشرين وخمسمائة، واظاهر أن هذا أصح، لكونه منقولا من خطه باليوم والشهر. وتوفي في ليلة السبت التاسع والعشرين من شهر ربيع الأول، وقيل في مستهل شهر ربيع الاخر سنة أربع وثمانين وخمسمائة بمدينة دمشق، ودفن بسفح جبل قاسيون، رحمه الله تعالى، ووقف كتبه على الخانقاه المذكورة، وكان كثرا ما ينشد: قالت عهدتك تبكي ... دما حذار التنائي فلم تعوضت عنها ... بعد الدماء بماء فقلت ما ذاك مني ... لسلوة أو عزاء لكن دموعي شابت ... من طول عمر بكائي ومثله قول الإخر: قالت سعاد أتبكي ... بالدمع بعد الدماء فقلت قد شاب دمعي ... من طول عمر بكائي (2) ونسبته بالمسعودي إلى جده مسعود المذكور. وقد تقدم الكلام على المروروذي فلا حاجة إلى إعادته. والبندهي: بفتح الباء الموحدة وسكون النون وفتح الدال المهملة وبعدها هاء، هذه النسبة إلى بنج دية من أعمال مرووذ، ومعناه بالعربي خمس قرى، ويقال في النسبة أيضا إليها: الفنجديهي والبنديهي، بالفاء والجيم أو بالباء الموحدة والجيم، وخرج منها خلق كثير من العلماء وغيرهم. وقاسيون: بفتح القاف وبعد الألف سين مهملة مكسورة وياء مثناة من تحتها مضمومة ثم واو ساكنة وبعدها نون، وهو جبل مطل على دمشق من جهتها الشمالية فيه المنازل المليحة والمدارس والربط والبساتين، وفيه نهر يزيد،   (1) ق: الأول أو الآخر. (2) وكان كثيراً ... بكائي: سقط من س ن ل لي بر من. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 391 ونهر ثورى في ذيله، وفيه جامع كبير بناه مظفر الدين بن زين الدين صاحب إربل - المقدم ذكره في حرف الكاف (1) - رحمه الله تعالى، وفيه يقول ابن عنين - الآتي ذكره إن شاء الله تعالى - في قصيدته اللامية التي مدح بها سيف الإسلام ابن أيوب صاحب اليمن - المذكور في حرف الطاء (2) - فإنه تشوق إلى دمشق فيها، وذكر مواضع من مستنزهاتها، وقال في الجبل المذكور (3) : وفي كبدي من قاسيون حزازة ... تزول رواسيه وليس تزول وهي من غر (4) ولقد أبدع فيها، رحمه الله. 660 - (5) ابن نقطة أبو بكر محمد بن عبد الغني بن أبي بكر بن شجاع بن أبي نصر بن عبد الله الحنبلي، المعروف بابن نقطة، الملقب معين الدين البغدادي المحدث؛ كان من طلبة الحديث المشهورين به المكثرين من سماعه وكتابته والراحلين في تحصيله. دخل خراسان وبلاد الجبل والجزيرة والشام ومصر، ولقي المشايخ وأخذ عنهم واستفاد منهم، وكتب الكثير وعلق التعاليق النافعة، وذيل على " الإكمال "   (1) انظر الترجمة رقم: 547. (2) انظر المجلد 2: 523. (3) ديوان ابن عنين: 70. (4) ر بر من: غرر. (5) ترجمته في ذيل طبقات الحنابلة 2: 182 وتذكرة الحفاظ: 1412 وعبر الذهبي 5: 117 والوافي 3: 267 والشذرات 5: 132 والرسالة المستطرفة: 117 وتاريخ إربل: 234 واقتصر صاحب لمختار من هذه الترجمة على شعر ابن الشبل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 392 كتاب الأمير أبي نصر ابن ماكولا - المقدم ذكره (1) - وما أقصر فيه وجاء في مجلدين. وله كتاب آخر لطيف في الأنساب مثل الذيل على كتابي محمد بن طاهر المقدسي وأبي موسى الأصبهاني الحافظين - المقدم ذكرهما - وكتاب التقييد لمعرفة الرواة والسنن (2) والمسانيد (3) وكنت أسمع به في وقته، ولم أجتمع به. وذكر أبو البركات ابن المستوفي في تاريخ إربل وعده في جملة من وصل إليها وسمع الحديث بها، وأثنى عليه وقال: أنشدني لأبي على محمد بن الحسين بن أبي الشبل البغدادي، وهو أحد شعراء العراق المجيدين المتأخرين، وقد ذكره ابن الحظيري في كتاب " زينة الدهر ": لا تظهرن لعاذل أو عاذر ... حاليك في الضراء والسراء فلرحمة المتوجعين مرارة ... في القلب مثل شماتة الأعداء وتوفي ابن نقطة المذكور في الثاني والعشرين من صفر سنة تسع وعشرين وستمائة ببغداد، وهو في سن الكهولة، وكنت يؤمئذ مقيما بمدينة حلب للاشتغال فوصلنا خبر موته، رحمه الله تعالى (4) . (191) وتوفي ابوه عبد الغني في رابع جمادى الآخرة سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة ببغداد، ودفن في موضع مجاور لمسجده، وكان مشهورا بالتقلل والإيثار. ونقطة: بضم النون وسكون القاف (5) وفتح الطاء المهملة وبعدها هاء ساكنة. (192) وتوفي أبو علي ابن أبي الشبل المذكور سنة ثلاث وسبعين وأربعمائة، رحمه الله تعالى؛ ذكره العماد الأصبهاني في كتاب " الخريدة ".   (1) ج 3: 516. (2) ر لي بر: رواة السنن؛ وسقطت العبارة من ت مج. (3) ر ق: والأسانيد. (4) حاشية بهامش س: قلت: رأيت مكتوباً على أول المجلدة الثانية من تكملة ابن الأبار التي بخط ابن نقطة المذكور ما صورته: " توفي أبو بكر محمد بن عبد الغني ابن نقطة الحافظ البغدادي في عاشر شعبان سنة ثمان وعشرين وستمائة، رحمه الله تعالى ". (5) إلى هنا تنتهي الترجمة في مج. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 393 661 - (1) ابن الدبيثي أبو عبد الله محمد بن أبي المعالي سعيد بن أبي طالب بن أبي الحسن علي ابن الحجاج بن محمد بن الحجاج، المعروف بابن الدبيثي، الفقيه المؤرخ الواسطي؛ سمع الحديث كثيرا وعلق تعاليق مفيدة، وكانت له محفوظات حسنة، وكان يوردها ويستعملها في محاوراته، وكان في الحديث وأسماء رجاله والتاريخ من الحفاظ المشهورين والنبلاء المذكورين، وصنف كتابا جعله ذيلا على تاريخ أبي سعد عبد الكريم ابن السمعاني الحافظ - المقدم ذكره (2) - المذيل على تاريخ بغداد للخطيب، وذكر فيه مالم يذكره السمعاني ممن أغفله أو كان بعده، وهو (3) في ثلاث مجلدات وما أقصر فيه، وصنف تاريخا لواسط، وصنف غير ذلك. ذكره ابن المستوفي في تاريخ إربل فقال: ورد علينا في ذي القعدة سنة إحدى عشرة وستمائة، وهو شيخ حسن، وقال: أنشد لنفسه: خبرت بني الأيام طرا فلم أجد ... صديقا مسعدا في النوائب وأضيفتهم مني الوداد فقابلوا ... صفاء ودادي بالقذى والشوائب وما اخترت منهم صاحبا وارتضيته ... فأحمدته في فعله والعواقب ولم يزل أبو عبد الله المذكور على اجتهاده وتعليقه إلى أن توفي. وكانت ولادته يوم الاثنين السادس والعشرين من رجب سنة ثمان وخمسين   (1) ترجمته في الوافي 3: 102 وطبقات السبكي 5: 26 وعبر الذهبي 5: 154 وغاية النهاية 2: 450 والشذرات 5: 581 والرسالة المستطرفة: 131 وابن الشعار 7: 64 ولم يأت من هذه الترجمة في المختار سوى الأبيات البائية، وقد ورد النسب موجزاً في مج. (2) انظر ج 3: 209. (3) ل لي ت مج: رأيته. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 394 وخمسمائة بواسط. وتوفي يوم الاثنين لثمان خلون من شهر ربيع الآخر سنة سبع وثلاثين وستمائة ببغداد، رحمه الله تعالى، ودفن بالوردية من الغد (1) . والدبيثي: بضم الدال المهملة وفتح الباء الموحدة وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها ثاء مثلثة هذه النسبة إلى دبيثى، وهي قرية بنواحي واسط، وأصله من كنجة، وقدم جده علي من دبيثي وسكن واسط وبها توالدوا (2) . (193) وتوفي والده أبو المعالي سعيد ليلة عيد النحر سنة خمس وثمانين وخمسمائة بواسط، ومولده بها في السابع والعشرين من صفر سنة سبع وعشرين وخمسمائة. 662 - (3) ابن ظفر أبو عبد الله محمد بن أبي محمد بن محمد بن ظفر الصقلي المنعوت بحجة الدين؛ أحد الأدباء الفضلاء، صاحب التصانيف الممتعة، منها كتابسلوان المطاع في عدوان الاتباع صنفه لبعض القواد بصقلية، سنة أربع وخمسين وخمسمائة،   (1) ر: من الغرب. (2) هنا تنتهي الترجمة في النسخ ما عدا ر ق؛ وانتهت عند لفظة " واسط " في ت مج؛ وعند لفظة " كنجه " في س ن ل لي بر من. (3) ترجم له العماد في الخريدة (قسم الشام) 3: 49 والصفدي في الوافي 1: 141 (محمد بن محمد بن محمد) وانظر أيضاً العقد الثمين 2: 344 (محمد بن أبي محمد بن مظفر، وكناه أبا هاشم نقلاً عن أبي الحسن القطيعي في ذيل تاريخه لبغداد، وذكر أنه توفي سنة 567 ومولده سنة 497؛ قال: وذكره القطب الحلبي في تاريخ مصر فقال محمد بن محمد بن ظفر ... الخ وأن وفاته في عشر السبعين وخمسمائة) ، وبغية الوعاة: 59 ومعجم الأدباء 19: 48 ونقا أماري بعض هذه الترجمات في المكبتة الصقلية (605، 659، 671) وزاد عليها نقلاً عن المقفى للمقريزي (المكتبة: 665) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 395 و " خير البشر بخير البشر " وكتاب " الينبوع " (1) في تفسير القرآن الكريم، وهو كبير، وكتاب " نجباء الأبناء "، وكتاب " الحاشية على درة الغواص " للحريري صاحب المقامات، و " شرح المقامات للحريري " وهما شرحان: كبير وصغير، وغير ذلك من التواليف الظريفة المليحة (2) . ورأيت في أول الشرح الذي له يذكر أنه أخبره بها الحافظ أبو الطاهر السلفي عن منشئها الحريري، والناس يقولون: إن الحافظ السلفي رأى الحريري في جامع البصرة وحوله حلقة، وهو يأخذون عنه المقامات، فسأل عنه فقيل له: إن هذا قد وضع شيئا من الأكاذيب وهو يمليه على الناس، فتنكبه (3) ولم يعرج عليه، والله أعلم بالصواب. وحكي عن الشيخ تاج الدين الكندي - المقدم ذكره (4) - انه قال: أحلت على ديوان حماة برزق، فسرت إليها لأجل ذلك، فلما حللتها جمع الجماعة بيني وبين ابن ظفر المذكور، وجرت بيننا مناظرة في النحو واللغة، فأوردت عليه مسائل في النحو فلم يمش فيها، وكان حاله في اللغة قريبا، فلما كاد المجلس يتقوض قال ابن ظفر: الشيخ تاج الدين أعلم مني بالنحو وأنا أعلم منه باللغة، فقلت: الأول مسلم والثاني ممنوع، وتفرقنا. وكان ابن ظفر قصير القامة دميم الخلقة غير صبيح الوجه. ويروى لابن ظفر المذكور شعر، فمن ذلك ما وجدته في بعض المجاميع منسوبا إليه وهو: حملتك في قلبي فهل أنت عالم ... بأنك محمول وأنت مقيم ألا إن شخصا في فؤادي محله ... وأشتاقه، شخص علي كريم [وقد أخذ هذا المعنى من قول بعض العرب: سقى بلدا كانت سليمى تحله ... من المزن ما تروى به وتشيم   (1) المكبتة الصقلية (666) : ينبوع الحياة، وبهامش مج بخط الناسخ نفسه: " من غير الأصل: وينبوع الحياة في تفسير القرآن الحكيم، ثماني مجلدات كبار ". (2) راجع أسماء مؤلفاته في المصدر السابق، نقلاً عن المقفى؛ وقد ورد ذكرها موجزاً في ق مج. (3) ر: فتركه. (4) انظر ج 2: 339. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 396 وإن لم أكن من ساكنيه فإنه ... يحل به شخص علي كريم] (1) وأورد له العماد الأصبهاني في كتاب الخريدةعدة مقاطيع، فمن ذلك قوله (2) : على قدر فضل المرء تأتي خطوبه ... ويعرف عند الصبر في ما يصيبه (3) ومن قل فيما يتقيه اصطباره ... فقد قل فيما يرتجيه نصيبه وكانت نشأته بمكة، وتنقل في البلاد، ومولده بصقلية، وسكن آخر الوقت بمدينة حماة وتوفي بها سنة خمس وستين وخمسمائة، رحمه الله تعالى. ولم يزل يكابد الفقر إلى أن مات، حتى قيل إنه زوج ابنته في حماة بغير كفء من الحاجة والضرورة، وإن الزوج رحل بها عن حماة وباعها (4) في بعض البلاد. وظفر: بفتح الظاء المعجمة والفاء وبعدها راء، وهو المصدر من قولهم: ظفر بالشيء يظفر ظفرا، إذا فاز به. وقد تقدم الكلام على صقلية فلاحاجة إلى إعادته.   (1) ما بين معقفين لم يرد في النسخ الخطية/ وزدناه عن المطبوعة المصرية. (2) الخريدة: 52؛ وهذا الشعر لم يرد في ت مج. (3) في النسخ: فيه نصيبه، والتصويب عن الخريدة. (4) لي: وأباعها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 397 663 - (1) العتبي أبو عبد الرحمن محمد بن عبيد الله بن عمرو (2) بن معاوية بن عمرو بن عتبة بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس القرشي الأموي المعروف بالعتبي، الشاعر البصري المشهور؛ كان أديبا فاضلا شاعرا مجيدا، وكان يروي الأخبار وأيام العرب، ومات له بنون، فكان يرثيهم، وروى عن أبيه وعن سفيان بن عيينة ولوط بن محنف، وروى عنه أبو حاتم السجستاني وأبو الفضل الرياشي وإسحاق بن محمد النخعي وغيرهم، وقدم بغداد وحدث بها وأخذ عنه أهلها، وكان مستهترا (3) بالشراب، ويقول الشعر في عتبة. وكان هو وأبوه سيدين أديبين فصيحين، وله من التصانيف كتاب الخيل وكتاب أشعار الأعاريب وأشعار النساء اللاتي أحببن ثم أبغضن وكتاب الذبيح وكتاب الأخلاق وغير ذلك. وقال العتبي المذكور: سمعت أعرابيا يقول لرجل: إن فلانا وإن ضحك لك فإن عقاربه تسري إليك، فإن لم تجعله عدوا في علانيتك فلا تجعله صديقا في سريرتك (4) .   (1) ترجمته في الفهرست: 121 ومعجم المرزباني: 356 وطبقات ابن المعتز: 314 والوافي 4: 3 وتاريخ بغداد 2: 324 واللباب (العتبي) وعبر الذهبي 1: 403 وله شعر في عيون الأخبار 3: 60 والتعاوزي والمراثي: 64. (2) س بر: عمر، وانظر جمهرة ابن حزم: 112. (3) مج ق بر: مشتهراً. (4) وقال العتبي.. سريرتك: انفردت به ر ق؛ والنص من قوله " ويقول الشعر ... سريرتك " سقط من مج وجاء في موضعه: " وأكثر اخباره عن بني أمية، فمن المنقول عنه قال: حضرت قينة مجلسنا فغنت فأجادت، فقام إليها شيخ فجلس بين يديها وقال: كل مملوك له حر وكل امرأة له طالق، لو كانت الدنيا كلها صرراً في كمي لقطعتها لك، فأما إذ لم يكن فجعل الله كل حسنة لي لك، وكل سيئة لك علي؛ فقال: جزا لك الله خيراً فو الله ما يقوم الوالد لولده بما قمت به لنا؛ فقام شيخ آخر فقعد بين يديها وقال: كل مملوك له حر، وكل امرأة له طالق إن كان وهب لك شيئاً أو حمل عنك شيئاً لأنه ما له حسنة يهبها لك ولا عليك سيئة يحملها عنك، فلأي شيء نحمدينه ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 398 وذكره ابن قتيبة في كتاب المعارف (1) وابن المنجم في كتاب البارع وروى له (2) : رأين الغواني الشيب لاح بعارضي ... فأعرضن عني بالخدود النواضر وكن متى أبصرنني أو سمعن بي ... سعين فرقعن الكوى بالمحاجر فإن عطفت عني أعنة أعين ... نظرن بأحداق المها والجآذر فإني من قوم كريم ثناؤهم ... لأقدامهم ضيعت رؤوس المنابر خلائف في الإسلام، في الشرك قادة ... بهم وإليهم فخر كل مفاخر وفي المجموع الذي بخطي أبيات للشريف الرضي، رحمه الله، في هذا المعنى (3) . وأورد له أيضا: لما رأتني سليمى قاصرا بصري ... عنها وفي الطرف عن أمثالها زور قالت عهدتك مجنونا، فقلت لها ... إن الشباب جنون برؤه الكبر وهذا البيت من الأمثال السائرة. وذكر له المبرد في كتاب الكامل (4) بيتين يرثي بهما بعض أولاده، وهما: أضحت بخدي للدموع رسوم ... أسفا عليك وفي الفؤاد كلوم والصبر يحمد في المواطن كلها ... إلا عليك فإنه مذموم وهذا البيت أيضا من الأبيات المشهورة. وشعره كثير جيد، وهو من   (1) المعارف: 538. (2) معجم المرزباني: 357 وفيه بيتان منها، وكذلك ورد بيتان في مج. (3) وفي المجموع ... المعنى: مذكور في ن لي ل برمن وسقط من س ت ر ق مج. (4) الكامل 2: 41. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 399 فحول الشعراء المحدثين. وتوفي سنة ثمان وعشرين ومائتين، رحمه الله تعالى. والعتبي: بضم العين المهملة وسكون التاء المثناة من فوقها وبعدها باء موحدة، هذه النسبة إلى جده عتبه بن أبي سفيان المذكور، وقد نسب مثل هذه النسبة إلى عتبة بن غزوان الصحابي، رضي الله عنه، وغيره ويجوز أن تكون نسبته إلى عتبة التي كان يقول الشعر فيها (1) ، والله أعلم. وروي عنه (2) أنه كان يقول: الزرافة - بفتح الزاي وضمها - الحيوان المعروف وهي متولدة بين ثلاث حيوانات: الناقة الوحشية والبقرة الوحشية والضبعان، وهو الذكر من الضباع، فيقع الضبعان على الناقة فتأتي بولد بين الناقة والضبع، فإذا كان الولد ذكرا وقع على البقرة فتأتي بالزرافة، وذلك في بلاد الحبشة، ولذلك قيل لها الزرافة، والزرافة في الأصل الجماعة، قلما تولدت من جماعة قيل لها الزرافة، والعجم تسميها: اشتروا كاو بلنك لان الأشتر: الجملوالكاو البقرة، والبلنك الضبع. 664 - (3) أبو بكر الخوارزمي الشاعر أبو بكر محمد بن العباس الخوارزمي الشاعر المشهور، ويقال له الطبرخزي أيضا لأن أباه من خوارزم وأمه من طبرستان فركب له من الاسمين نسبة، كذا ذكره السمعاني، وهو ابن أخت أبي جعفر بن جرير الطبري صاحب   (1) ويجوز ... فيها: سقط من س ن ل لي مج بر من. (2) من هنا حتى آخر الترجمة زيادة من ر ق والمختار، وقارن بما في الحيوان 1: 143، وقد سخر الجاحظ ممن يذهبون هذه المذاهب. (3) ترجمته في اللباب: (الطبرخزي) وتاريخ ابن الأثير 9: 101 ورسائل البديع: 28 - 84 (مناظرته معه) وبغية الوعاة: 51 والوافي 3: 191 وله ذكر في أخلاق الوزيرين للتوحيدي وانظر الشذرات 3: 105. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 400 التاريخ - وقد تقدم ذكر ذلك في ترجمة ابن جرير. وأبو بكر المذكور أحد الشعراء المجيدين الكبار المشاهير، كان إماما في اللغة والأنساب، أقام بالشام مدة وسكن بنواحي حلب، وكان مشارا إليه في عصره. ويحكى أنه قصد حضرة ابن عباد وهو بأرجان، فلما وصل إلى بابه قال لأحد حجابه: قل للصاحب على الباب أحد الأدباء وهو يستأذن (1) في الدخول، فدخل الحاجب وأعلمه، فقال الصاحب، قل له: قد ألزمت نفسي أن لايدخل علي من الأدباء إلا من يحفظ عشرين ألف بيت من شعر العرب، فخرج إليه الحاجب وأعلمه بذلك، فقال له أبو بكر: ارجع إليه وقل له: هذا القدر من شعر الرجال أم من شعر النساء فدخل الحاجب فأعاد عليه ماقال، فقا الصاحب: هذا يريد أن يكون أبا (2) الخوارزمي، فأذن له في الدخول، فدخل عليه فعرفه وانبسط له. وأبو بكر المذكور له ديوان رسائل وديوان شعر. وقد ذكره الثعالبي في كتاب " اليتيمة " (3) ، وذكر قطعة من نثره ثم أعقبها بشي من نظمه، فمن ذلك قوله: رأيتك إن أيسرت خيمت عندنا ... مقيما وإن أعسرت ررت لماما فما أنت إلا البدر إن قل ضوؤه ... أغب إن زاد الضيا أقاما [يشير إلى قول ابنة عبيد الله بن مطيع لزوجها يحيى بن طلحة: ما رأيت ألأم من أصحابك، إذا أيسرت لزموك، وإذا أعسرت تركوك، فقال: هذا من كرمهم، يأتوننا في حال القوة منا عليهم ويعافوننا في حال الضعف منا عنهم؛ وأنشدني عثمان بن سعيد بن تولوا لنفسه: متواضع كالغصن يدنوا مثمرا ... فإذا أنالك ماعليه ترفعا] (4)   (1) ق: يستأذن عليك. (2) أن سقطت من ر مج؛ ق: هذا تراه يكون؛ وفي ر مج والمختار: أبو؛ بر: هذا يكون أبا. (3) اليتيمة 4: 184. (4) زيادة انفردت بها مج. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 401 ومن شعره أيضا: يا من يحاول صرف الراح يشربها ... ولا يفك لما يلقاه قرطاسا الكاس والكيس لم يقض امتلاؤهما ... ففرغ الكيس حتى تملأ الكاسا وفيه يقول أبو سعيد أحمد بن شهيب (1) الخوارزمي: أبو بكر له أدب وفضل ... ولكن لا يدوم على الوفا مودته إذا دامت لخل ... فمن وقت الصباح إلى المساء وملحه ونوادره كثيرة. ولما رجع من الشام سكن نيسابور ومات بها في منتصف شهر رمضان سنة ثلاث وثمانين وثلثمائة. وذكر شيخنا ابن الأثير في تاريخه أنه توفي سنة ثلاث وتسعين، والله أعلم، رحمه الله تعالى (2) . وكان قد فارق الصاحب ابن عباد غير راض عمل فيه: لا تحمدن ابن عباد وإن هطلت ... يداه بالجود حتى أخجل الديما فإنها خطرت من وساوسه ... يعطي ويمنع لا بخلا ولا كرما فبلغ ابن عباد ذلك، فلما بلغه خبر موته أنشد: أقول لركب من خراسان قافل ... أمات خوارزميكم قيل لي: نعم فقلت: اكتبوا بالجص من فوق قبره ... ألا لعن الرحمن من كفر النعم قلت: هكذا وجدت هذين البيتين منسوبين إلى أبي بكر الخوارزمي المذكور في الصاحب ابن عباد، ذكر ذلك جماعة من الأدباء في مجاميعهم وفي مذكراتهم. (194) ثم نظرت في كتاب " معجم الشعراء " (3) تأليف المرزباني، فوجدت   (1) ل لي ت بر من: شبيب. (2) هامش ن: وكان مولده في سنة ثلاث وعشرين وثلثمائة، هكذا ذكره الثعالبي في " اليتيمة " وغيره؛ وقوله: وذكر شيخنا ... تعالى: سقط من س ن لي ل بر من. (3) معجم المرزباني: 316. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 402 في ترجمة أبي القاسم الأعمى، واسمه معاوية بن سفيان، وهو شاعر بغداد أحد غلمان الكسائي، اتصل بالحسن بن سهل يؤدب أولاده، فعتب عليه في شيء فقال يهجوه: لا تحمدن حسنا بالجود إن مطرت ... كفاه غزرا ولا تذممه إن زرما فليس يمنع إبقاء على نشب ... ولا يجود لفضل الحمد مغتنما لكنها خطرت من وساوسه ... يعطي ويمنع لا بخلا ولا كرما والله أعلم بذلك (1) . وقد تقدم الكلام على الخوارزمي. والطبرخزي: بفتح الطاء المهملة والباء الموحدة وسكون الراء وفتح الخاء المعجمة وبعدها زاي، وقد سبق في أول الترجمة الكلام على سبب هذه النسبة. 665 - (2) السلامي الشاعر أبو الحسن محمد بن عبد الله (3) بن محمد بن يحيى بن خليس بن عبد الله بن يحيى بن عبد الله ابن الحارث بن عبد الله بن الوليد بن الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر (4) بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر بن   (1) قلت: هكذا ... أعلم بذلك: سقط هذا النص من أكثر النسخ. (2) ترجمته في تاريخ بغداد 2: 335 والوافي 3: 317 والمنتظم 7: 225 والامتاع 1: 134 والبداية والنهاية 11: 333؛ واكتفى صاحب المختار بإيراد الأشعار الواقعة في هذه الترجمة. (3) ر لي ق بر وتاريخ بغداد: عبيد الله؛ وفي تاريخ بغداد اختلاف في نسبه عما هو هنا، والنسب موجز في كل من س ن ت مج. (4) ن: عمرو. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 403 نزار بن معد بن عدنان، المخزومي السلامي الشاعر المشهور؛ هو من ولد الوليد بن الوليد بن المغيرة المخزومي، أخي خالد بن الوليد، رضي الله عنه. قال الثعالبي في حقه (1) : هو من أشعر أهل العراق قولا بالإطلاق، وشهادة بالاستحقاق، وعلى ما أجريته من ذكره، شاهد عدل من شعره، والذي كتبت من محاسنه نزه العيون، ورقى القلوب، ومنى النفوس. ومن خبره أنه قال الشعر وهو ابن عشر سنين (2) ، وأول شيء قال (3) في المكتب: بدائع الحسن فيه مفترفة ... وأعين الناس فيه متفقه سهام ألحاظه مفوقة ... فكل من رام لحظه رشقه قد كتب الحسن فوق وجنتيه (4) ... هذا مليح وحق من خلقه [وركب في صباه سمارية في دجلة، ولم يكن رأى دجلة قبل ذلك فقال: وميدان تجول به خيول ... تقود الدارعين ولا تقاد ركبت به إلى اللذات طرفا ... له جسم وليس له فؤاد جرى فظننت أن الأرض وجه ... ودجلة ناظر، وهو السواد] (5) ونشأ ببغداد وخرج منها إلى الموصل وهو صبي يوم ذاك (6) ، فوجد بها جماعة من مشايخ الشعراء، منهم أبو عثمان الخالدي أحد الخالدين، وأبو الفرج الببغاء - المقدم ذكره - وأبو الحسن التلعفري، وغيرهم، فلما رأوه عجبوا منه لبراعته مع حداثة سنه، فاتهموه بان الشعر ليس له، فقال الخالدي: أنا أكفيكم أمره، واتخذ دعوة جمع فيها الشعراء وأحضر السلامي المذكور معهم، فلما توسطوا   (1) يتيمة الدهر 2: 396؛ وهذه الترجمة في أكثرها نقل عن اليتيمة. (2) ق من: ابن عشرين سنة. (3) لي: قال وهو. (4) اليتيمة: عارضه. (5) زيادة انفردت بها مج. (6) مج: وخرج من مدينة السلام وورد الموصل وهو صبي حين راهق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 404 الشراب أخذوا في التفتيش عن (1) بضاعته، فلم يلبثوا أن جاء مطر شديد وبرد ستر وجه الأرض، فألقى الخالدي نارنجا كان بين أيديهم على ذلك البرد، وقال ياأصحابنا، هل لكم أن نصف هذا فقال السلامي ارتجالا: لله در الخالدي ... الأوحد الندب الخطير أهدى لماء المزن عن ... د جموده نار السعير حتى إذا صدر العتا ... ب إليه عن حر الصدور بعثت إليه هدية (2) ... عن خاطري أيدي السرور لا تعذلوه فإنه ... أهدى الخدود إلى الثغور فلما رأوا ذلك منه أمسكوا عنه. وكانوا يصفونه بالفضل ويعترفون له بالإجادة والحذق، إلا التلعفري فإنه أقام على قوله الأول حتى قال السلامي فيه: سما التلعفري إلى وصالي ... ونفس الكلب تكبر عن وصاله ينافي خلقه خلقي وتأبى ... فعالي أن تضاف إلى فعاله فصنعتي النفيسة في لساني ... وصنعته الخسيسة في قذاله فإن أشعر فما هو من رجالي ... وإن يصفع فما أنا من رجاله (3) وله فيه أهاج كثيرة. ودخل السلامي يوما على أبي تغلب (4) ، وأظنه الحمداني، وبين يديه درع فقال: صفها لي، فارتجل: يا رب سابغة حبتني نعمة ... كافأتها بالسوء غير مفند أضحت تصون عن المنايا مهجتي ... وظللت أبذالها لكل مهند   (1) مج: أخذوا في ملاحته والتفتيش عن قدر. (2) اليتيمة: بعذره. (3) سقط البيت من ن. (4) ن ر ت ل لي: ثعلب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 405 وهذا المعنى مأخوذ من قول عبد الله بن المعتز في الخمرة المطبوخة، وقد سبق ذكر ذلك في ترجمته وهو (1) : وقتني من نار الجحيم بنفسها ... وذلك من إحسانها ليس يجحد وقصد السلامي حضرة الصاحب ابن عباد وهو بأصبهان، فأنشده قصيدته البائية التي من جملتها: تبسطنا على الآثام لما ... رأينا العفو من ثمر الذنوب وهذا البيت من محاسنه، وفيه إشارة إلى قول أبي نواس الحسن بن هانئ من جملة أبيات في الزهد - وقد تقدم ذكرها في ترجمته (2) - وهو قوله: تعض ندامة كفيك مما ... تركت مخافة النار السرورا وفيه إلمام أيضا بقول المأمون: لو علم أرباب الجرائم تلذذي بالعفو لتقربوا إلي بالذنوب. ولم يزل السلامي عند الصاحب بين خير مستفيض، وجاه عريض، ونعم بيض، لإلى أن آثر قصد حضرة الصاحب عضد الدولة بن بويه بشيراز، فحمله الصاحب إليها وزوده كتابا بخطه إلى أبي القاسم عبد العزيز بن يوسف الكاتب، وكان أحد البلغاء، وممن يجري عند عضد الدولة مجرى الوزراء، ونسخة الكتاب: قد علم مولاي (3) أن باعة الشعر أكثر من عدد الشعر، ومن يوثق أن حليته التي يهديها من صوغ طبعه، وحلله التي يؤديها من نسخ فكره، أقل من ذلك، وممن خبرته بالامتحان فحمدته (4) ، وفررته بالاختبار فاخترته، أبو الحسن محمد بن عبد الله السلامي (5) ، وله بديهة قوية، توفي على الروية، ومذهب في الإجادة   (1) انظر ج 3: 79. (2) ج 2: 98. (3) زاد في مج: أطال الله بقاءه. (4) ق ر ل مج: فأحمدته. (5) زاد في مج: أيده الله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 406 يهش السمع لوعيه، كما يرتاح الطرف لرعيه، وقد امتطى أمله، وخير له (1) إلى الحضرة الجليلة رجاء أن يحصل في سواد أمثاله، ويظهر معهم بياض حاله، فجهزت منه أمير الشعر في موكبه، وحليت فرس البلاغة بمركبه، وكتابي هذا رائده إلى القطر، بل مشرعة إلى البحر، لإن رأى مولاي أن يراعي كلامي في بابه، ويجعل ذلك من ذرائع غيجابه، فعل إن شاء الله تعالى. فلما ورد عليه تكفل به أبو القاسم وأفضل عليه وأوصله إلى عضد الدولة، حتى أنشده قصيدته التي منها (2) : إليك طوى عرض البسيطة جاعل ... قصارى المطايا أن يلوح لها القصر فكنت وعزمي في الظلام وصارمي ... ثلاثة أشباه كما اجتمع النسر وبشرت آمالي بملك هو الورى ... ودار هي الدنيا، ويوم هو الدهر وقد تقدم ذلك في ترجمة عضد الدولة في حرف الفاء فليطلب هناك -. وقد أخذ القاضي أبو بكر أحمد الأرجاني - المقدم ذكره (3) - معنى البيت الأخير وسبكه في قوله: يا سائلي عنه لما ظلت أمدحه ... هذا هو الرجل العاري من العار لو زرته لرأيت الناس في رجل ... والدهر في ساعة والأرض في دار وهذا البيت وإن كان في معنى ذلك البيت لكن ليس فيه رشاقته ولا عليه طلاوته؛ وقد استعمل المتنبي أيضا هذا المعنى المذكور لكنه لم يكمله فأتى ببعضه في النصف الأخير من هذا البيت وهو قوله: هي الغرض الأقصى ورؤيتك المنى ... ومنزلك الدنيا وأنت الخلائق (4)   (1) ن: وخيرته؛ س ت: وخبر له. (2) لم يرد في ر ق، إلا البيت سالأول، ثم أحالتا على ما ورد في ترجمة عضد الدولة. (3) ج 1: 151. (4) وقد أخذ القاضي ... الخلائق: ورد في جميع النسخ ما عدا ر ق، وهو مكرر مع اختلاف يسير، إذ ورد ما يشبهه في ترجمة عضد الدولة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 407 رجعنا إلى خبر السلامي مع عضد الدولة: فاشتمل عليه بجناح القبول، ودفع إليه مفتاح المأمول، واختص بخدمته في مقامه وظعنه، وتوفر من صلاته حظه، وكان عضد الدولة يقول: إذا رأيت السلامي في مجلس ظننت أعطارد قد نزل من الفلك إلي ووقف بين يدي. ولما توفي عضد الدولة - في التاريخ المذكور في ترجمته - تراجع طبع السلامي ورقت حاله، ثم مازالت تتماسك مرة وتتداعى أخرى حتى مات. وله في عضد الدولة كل قصيدة بديعة، فمن ذلك قوله ذلك قوله من جملة قصيد (1) : نبهت ندماني وقد ... عبرت بنا الشعرى العبور والبدر في أفق السما ... ء كروضة فيها غدير هبوا إلى شرب المدا ... م فإنما الدنيا غرور (2) هبوا فقد عيي الرقي ... ب فنام وانتبه السرور وأشار إبليس فقل ... نا كلنا: نعم المشير صرعى بمعركة تعف ... الوحش عنا والنسور نوار روضتنا خدو ... دو الغصون بها خضور والعيش أستر ما يكو ... ن إذا تهتكت الستور طاف السقاة بها كما ... أهدت لك الصيد الصقور عذراء يكتمها المزا ... ج كأنها فيه ضمير وتظن تحت حبابها ... خدا تقبله ثغور حتى سجدنا والإما ... م أمامنا بم (3) وزير وله فيه أيضا من جملة أبيات: يزور نائلك العافي وصارمك الع ... اصي فتحويها أيد وأعناق   (1) اليتيمة: 416. (2) تأخر عن هذا الموضع في اليتيمة، وسقط من مج ل. (3) مج واليتيمة: مثنى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 408 في كل يوم لبيت المجد منك غنى ... وثروة، ولبيت المال إملاق وله فيه أيضا: تشبهه المداح في البأس والندى ... بمن لو رآه كان أصغر خادم ففي جيشه خمسون ألفا كعنتر ... وأمضى، وفي خزانة (1) ألف حاتم ومن شعره أيضا: لما أصيب الخد منك بعارض ... أضحى بسلسلة العذار مقيدا ومن هاهنا أخذ ابن التلعفري قوله: هب أن خدك قد أصيب بعارض ... فعلام صدغك راح وهو مسلسل وأنشدني ابن التلعفري - وهو الشهاب محمد بن يوسف بن مسعود الشيباني - أبياته التي من جملتها هذا البيت. وبالجملة فأكثر شعره نخب وغرر (2) . وكانت ولادته آخر نهار الجمعة لست خلون من رجب سنة ست وثلاثين وثلاثمائة في كرخ بغدادز وتوفي يوم الخميس رابع جمادى الأولى سنة ثلاث وتسعين وثلثمائة، رحمه الله تعالى. والسلامي: نسبة إلى دار السلام بغداد - وقد تقدم ذكر ذلك في ترجمة محمد بن ناصر الحافظ (3) .   (1) ق: وفي جيرانه. (2) وقعت هذه الجملة في ق قبل سالبيت الدالي، وسقطت من ر. (3) انظر هذا الجزء: 294. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 409 (1) 666 ابن سكرة الشاعر أبو الحسن محمد بن عبد الله بن محمد، المعروف بابن سكرة الهاشمي البغدادي الشاعر المشهور، وهو من ولد علي بن المهدي بن أبي جعفر المنصور الخليفة العباسي؛ قال الثعالبي في ترجمته (2) : هو شاعر متسع الباع في أنواع الإبداع، فائق في قول الطرف والملح على الفحول والأفراد، جار في ميدان المجون والسخف ما أراد، وكان يقال ببغداد: إن زمانا جاد بمثل ابن سكرة وابن حجاج لسخي جدا، وما شبها إلا بجرير والفرزدق في عصرهما. ويقال إن ديوان ابن سكرة يربي على خمسين ألف بيت (3) ، فمن بديع تشبيهه ما قاله في غلام رآه وفي يده غصن وعليه زهر، وهو: غصن بان بدا وفي اليد منه ... غصن فيه لؤلؤ منظوم   (1) ترجمته في تاريخ بغداد 5: 465 والمنتظم 7: 186 والوافي 3: 308 وعبر الذهبي 3: 30 والشذرات 3: 117. (2) اليتيمة 3: 3. (3) زاد هنا في مج زيادة نستبعد أن تكون من عمل المؤلف ولهذا نثبتها في الحاشية لا في المتن وهي: " منها في قينة سوداء تسمى خمرة أكثر من عشرة آلاف بيت؛ وحكى أبو طاهر ميمون بن سهل الواسطي أن ابن سكرة حلف بطلاق امرأته وهي بنت عمه أنه لا يخلي بياض يوم من سواد شعر في هجاء خمرة، ولما شعرت امرأته وهي بنت عمه أنه لا يخلي بياض يوم من سواد شعر في هجاء خمرة، ولما شعرت امرأته بالقصة كانت كل يوم إذا انفتل زوجها من الصبح تجيئه بالدواة والقرطاس وتلزم مصلاه لزوم الغريم، فلا تفارقه ما لم يقرض ولو بيتاً في ذكرها وهجائها، وكان يقول ابن سكرة: ما رأيت هجاء بمستحث غير هذا، فمن قوله فيها: عجبت لخمرة البخراء أني ... أقامت مع مؤاجرها زمانا وليس (لفعله) طول ولكن ... (يبيك) به ويردفه لسانا لحاه الله كيف يدس فيها ... لساناً ربما درس القرانا " قلت: وانظر جانباً من هذا الخبر في الهفوات النادرة: 377 - 378. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 410 فتحيرت بين غصنين في ذا ... قمر طالع وفي ذا نجوم ومن شعره: قالوا: التحى وستسلو عنه قلت لهم: ... هل يحسن الروض ما لم يطلع الزهر هل التحى طرفه الساجي فأهجره ... أم هل تزحزح عن أجفان الحور وله في غلام أعرج: قالوا بليت بأعرج فأجبتهم ... ألعيب يحدث في غصون البان إني أحب حديثه وأريده للنو ... م لا للجري في الميدان وله أيضا: أنا والله هالك ... آيس من سلامتي أو أرى القامة التي ... قد أقامت قيامتي (1) وقال ابو الحسن علي بن محمد بن الفتح المعروف بابن أبي العصب - وقال ابن العصب (2) - الأشناني الملحي البغدادي الشاعر: كتب إلي ابن سكرة الهاشمي: يا صديقا أفادنيه زمان ... فيه ضن بالأصدقاء وشح بين شخصي وبين شخصك بعد ... غير أن الخيال بالوصل سمح   (1) سقط هذان البيتان من مج وورد في موضوعهما: " وله في غلام يعرف بابن برغوث: بليت ولا أقول بمن لأني ... متى ما قلت من هو يعشوه حبيب قد نفي عني رقادي ... فإن غمضت أيقظني أبوه وحدث ابن أبي الجوائز الواسطي قال: سمعت محمد بن سكرة الهاشمي يقول: دخلت حماماً وخرجت وقد سرق مداسي فعدت إلى داري حافياً وأنا أقول: إليك أذم حمام ابن موسى ... وإن فاق المنى طيباً وحرا تكاثرت اللصوص عليه حتى ... لتخفي من يطوف به ويعري ولم أفقد به ثوباً ولكن ... دخلت محمداً وخرجت بشرا يريد النبي عليه السلام وبشراً الحافي ". (2) ن: العصيب؛ ت: العضب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 411 إنما أوجب التباعد منا ... أنني سكر وأنك ملح فكتب إليه: هل يقول الإخوان يوما لخل ... شاب منه محض المودة قدح بيننا سكر فلاتفسدنه أم ... يقولون: بيننا وبينك ملح (1) وله يهجو بعض الرؤساء: تهت علينا ولست فينا ... ولي عهد ولا خليفة فته وزد ما علي جار ... يقطع عني ولا وظيفة ولا تقل ليس في عيب ... قد تقذف الحرة العفيفه والشعر نار بلا دخان ... وللقوافي رقى لطيفه كم من ثقيل المحل سام ... هوت به أحرف خفيفه لوهجي المسك وهو أهل ... لكل مدح لصار جيفه وله أيضا: قيل: ما أعددت للبر ... د فقد جاء بشده قلت: دراعة عري ... تحتها جبة رعده وله بيتان اللذان ذكرهما الحريري في المقامة الكرجية (2) ، وهما: جاء الشتاء وعندي من حوائجه ... سبع إذا القطر عن حاجاتنا حبسا   (1) ورد بعد هذا في النسخ ن س ل لي بر من: ذكره العماد في الخريدة وقال: لقيته بدمشق سنة ثلاث وستين وخمسمائة، وتوفي بعد ذلك بقليل؛ والكلام بحسب موقعه ينصرف إلى ابن أبي العصب، وهو واضح الخطأ، ولهذا ورد في هامش ن تعليق بخط غير خط الأصل يقول فيه المعلق " لعل هذا سهو من قلم الناسخ إذ لو كان تاريخ وفاة الملحي ذاك، كيف يمكن المطارحة بينه وبين ابن سكرة ... " والترتيب كما أثبتناه عن نسخة ر يصحح هذا الوهم، فإن كلام العماد ينصرف إلى أبي الثناء محمود لا إلى ابن سكرة. (2) مقامات الحريري: 254 - 255. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 412 كن وكيس وكانون وكاس طلا ... بعد الكباب وكس ناعم وكسا وقد نسج ابن التعاويذي - الآتي ذكره في المحمدين إن شاء الله تعالى - على منواله، فقال: إذا اجتمعت في مجلس الشرب سبعة ... فما الرأي في التأخير عنه صواب شواء وشمام وشهد وشادن ... وشمع وشاد مطرب وشراب وقال أبو الثناء محمود بن نعمة بن أرسلان النحوي الشيزري (1) : يقولون كافات الشتاء كثيرة ... وما هي إلا واحد غير مفترى (2) إذا صح كاف الكيس فالكل حاصل ... لديك، وكل الصيد يوجد في الفرا (3) وله (4) في الشباب أيضا: لقد بان الشباب وكان غصنا ... له ثمر وأوراق تظلك وكان البعض منك فمات فاعلم ... متى ما مات بعضك مات كلك ومحاسن شعره كثيرة. وتوفي يوم الأربعاء حادي عشر شهر ربيع الآخر سنة خمس وثمانين وثلاثمائة رحمه الله تعالى. (195) وكانت ولادة ابن العصيب المذكور بعد سنة خمس وثمانين ومائتين، وسمع منه الحسن ابن علي الجوهريهذه الأبيات سنة أربع وسبعين وثلاثمائة. وتوفي أبو الثناء محمود بن نعمة المذكور سنة خمس وستين وخمسمائة بدمشق (5) ،   (1) ترجمته في الخريدة (قسم الشام) 1: 575 - 579. (2) الخريدة: وما هي إلا فرد كاف بلا مرا. (3) قوله " وقد نسج ... الفرا " سقط من النسخ ما عدا ر ق والمختار. (4) هنا يعود الضمير إلى ابن سكرة؛ ولذلك قال في المختار: ولابن سكرة المذكور في الشباب. (5) ترجم له المؤلف ترجمة عارضة في ج 1: 525، ونقل عن العماد قوله إنه توفي بعد سنة خمس وستين وخمسمائة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 413 وذكر عماد الدين الكاتب في كتاب الخريدة أنه رآه بدمشق سنة ثلاث وستين وخمسمائة، وأنشد عدة مقاطيع له (1) . وسكرة: بضم السين المهملة وتشديد الكاف وفتح الراء وبعدها هاء ساكنة، وهي معروفة فلا حاجة إلى تفسيرها (2) . 667 - (3) الشريف الرضي الموسوي الشريف الرضي أبو الحسن محمدبن طاهر ذي المناقب أبي أحمد الحسين بن موسى بن محمد ابن موسى بن إبراهيم بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، المعروف بالموسوي صاحب ديوان الشعر؛ ذكره الثعالبي في كتاب اليتيمة فقال في ترجمته (4) : ابتدأ يقول الشعر بعد أن جاوز عشر سنين بقليل، وهو اليوم أبدع أنشأ الزمان، وأنجب سادة العراق، يتحلى مع محتدة الشريف ومفخره المنيف، بأدب ظاهر وفضل باهر وحظ من جميع المحاسن وافر، ثم هو أشعر الطالبين من مضى منهم ومن غبر، على كثرة شعرائهم الملفقين، ولو قلت إنه   (1) وتوفي ... له: سقط من س لي ل ت مج بر من. (2) عند هذا الموطن ينتهي الجزء الثاني من نسخة ولي الدين (ن) وقد جاء هنالك " وكان الفراغ من نسخ هذا المجلد يوم الثلاثاء بعد العصر الخامس والعشرين من شهر رجب الفرد الحرام سنة إحدى وثمانين وثمانماية من الهجرة النبوية على ساكنها () أفضل الصلاة والسلام؛ وعلقه لنفسه لينظر فيه أقل عبيد الله عملاً وأكثرهم زللا المعترف بذنبه الراجي عفو ربه محمد بن يوسف ابن ناصر الدين محمد الميدومي المالكي البرساوي منشأ نزيل طرا غفر الله ولوالديه ... الخ " قلت: وتستمر نسخة ن حتى آخر الكتاب. (3) انظر دراسة عنه للدكتور إحسان عباس (بيروت: 1957) وفيها ذكر لمصادر ترجمته. (4) اليتيمة 3: 136. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 414 أشعر قريش لم أبعد عن الصدق، وسيشهد بما أخبر به (1) شاهد عدل من شعره العالي القدح الممتنع عن القدح، الذي يجمع إلى السلاسة متانة وإلى السهولة رصانة ويشتمل على معان يقرب جناها ويبعد مداها. وكان أبوه يتولى قديما (2) نقابة نقباء الطالبين، ويحكم فيهم أجمعين، والنظر في المظالم والحج بالناس، ثم ردت هذه الأعمال كلها إلى ولده الرضي المذكور في سنة ثمان وثمانين وثلثمائة وأبوه حي. ومن غرر شعره ما كتبه إلى الإمام القادر بالله أبي العباس أحمد بن المقتدر من جملة قصيدته (3) : عطفا أمير المؤمنين فإننا ... في دوحة العلياء لا نتفرق ما بيننا يوم الفخار تفاوت ... أبدا، كلنا في المعالي معرق إلا الخلافة ميزتك، فإنني ... أنا عاطل منها وأنت مطوق ومن جيد شعره قوله أيضا (4) : رمت المعالي فامتنعن ولم يزل ... أبدا يمانع عاشقا معشوق وصبرت حتى نلتهن ولم أقل ... ضجرا: دواء الفارك التطليق وله من جملة أبيات (5) : يا صاحبي قفا لي واقضيا وطرا ... وحدثاني عن نجد بأخبار هل روضت قاعة الوعساء أم مطرت ... خميلة الطلح ذات البان والغار أم هل أبيت ودار دون كاظمة ... وداري، وسمار ذاك الحي سماري   (1) ر ل لي ق: أخبرته؛ اليتيمة: أجريه؛ مج: أجريه من ذكره. (2) لي: قديماً متولي. (3) ديوانه 2: 42. (4) ديوانه 2: 50؛ ق مج بر: ومن جيد قوله أيضاً. (5) ديوانه 1: 517؛ وقد وردت الأبيات في ر بعد قوله " وديوان شعره ... ذكره " وسقطت من النسخ الأخرى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 415 تضوع أرواح نجد من ثيابهم ... عند القدوم لقرب العهد بالدار وديوان شعره كبير يدخل في أربع مجلدات، وهو كثير الوجود فلاحاجة إلى الإكثار من ذكره. وذكر أبو الفتح ابن جني النحوي - المقدم ذكره (1) - في بعض مجاميعه أن الشريف الرضي المذكور أحضر إلى ابن السيرافي النحوي وهو طفل جدا لم يبلغ عمره عشر سنين فلقنه النحو، وقعد معه يوما في حلقته (2) ، فذاكره بشيء من الإعراب على عادة التعليم، فقال له: إذا قلنارأيت عمر فما علامة النصب في عمر فقال له الرضي: بغض علي؛ فعجب السيرافي والحاضرون من حدة خاطره. وذكر أنه تلقن القرآن بعد أن دخل في السن فحفظه في مدة يسيرة. وصنف كتابا في معاني القرآن الكريم يتعذر وجود مثله دل على توسعه في علم النحو واللغة، وصنف كتابا في مجازات القرآن فجاء نادرا في بابه. وقد عني بجمع ديوان الشريف الرضي المذكور جماعة، وأجود ما جمع الذي جمعه أبو حكيم الخبري (3) . ولقد أخبرني بعض الفضلاء (4) أنه رأى في مجموع أن بعض الأدباء اجتاز بدار الشريف الرضي المذكور بسر من رأى (5) ، وهو لايعرفها، وقد أخنى عليها الزمان وذهبت بهجتها وأخلقت ديباجتها، وبقايا رسومها تشهد له بالنضارة وحسن الشارة، فوقف عليها متعجبا من صروف الزمان وطوارق الحدثان، وتمثل بقول الشريف الرضي المذكور (6) :   (1) ج 3: 246. (2) ر: الحلقة. (3) الخبري: بفتح الخاء وإسكان الباء نسبة إلى خبر وهي قرية من قرى شيراز نسب إليها أبو حكيم عبد الله بن إبراهيم بن عبد الله المعلم (الأنساب واللباب: الخبري) قلت: والنسخة التي جمعها الخبري من ديوان الشريف لا تزال موجودة، وقد اعتمدت عليها في دراستي لشعر الرضي. (4) ن: جماعة الفضلاء. (5) ل لي ت مج بر: ببغداد. (6) ديوانه 1: 181. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 416 ولقد وقفت على ربوعهم ... وطلولها بيد البلى نهب فبكيت حتى ضج من لغب ... نضوي ولج بعذلي الركب وتلفتت عيني فمذ خفيت ... عني الطلول تلفت القلب فمر به شخص وسمعه وهو ينشد الأبيات، فقال له: هل تعرف هذه الدار لمن هي فقال لا، فقال: هذه الدار لصاحب هذه الأبيات الشريف الرضي فتعجبا (1) من حسن الاتفاق. ولقد اذكرتني هذه الواقعة حكاية هي في معناها ذكرها الحريري (2) في كتاب " درة الغواص في أوهام الخواص " (3) وهي على ما رواه أن عبيد بن شرية الجرهمي عاش ثلثمائة سنة وأدرك الإسلام ودخل على معاوية بن أبي سفيان بالشام وهو خليفة، فقال له: حدثني بأعجب ما رأيت، فقال: مررت ذات يوم بقوم يدفنون ميتا لهم، فلما انتهيت إليهم اغرورقت عيناي بالدموع فتمثلت بقول الشاعر: يا قلب إنك من أسماء مغرور ... فاذكر وهل ينفعك اليوم تذكير قد بحت بالحب ماتخفيه من أحد ... حتى جرت لك اطلاقا محاضير فلست تدري وما تدري أعاجلها ... أدنى لرشدك أم مافيه تأخير فاستقدر الله خيرا وارضين به ... فبينما العسر إذ دارت مياسير وبينما المرء في الأحياء مغتبط ... إذا هو الرمس تعفوه الأعاصير يبكي الغريب عليه ليس يعرفه ... وذو قرابته في الحي مسرور قال، فقال لي رجل: أتعرف من يقول هذا شعر فقلت: لا، قال: إن قائله هو الذي دفناه الساعة، وأنت الغريب الذي تبكي عليه ولست (4)   (1) ل ن مج: فتعجبنا؛ ت: فبقي متعجباً؛ ق: فعجبنا. (2) ر: ابن الحريري. (3) درة الغواص: 55 - 56. (4) لي: وليس؛ وكذلك في الدرة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 417 تعرفه، وهذا الذي خرج من قبره أمس الناس رحما به وأسرهم بموته، فقال له معاوية: لقد رأيت عجبا، فمن الميت قال: هو عثير بن لبيد العذري. [ويقرب من هذا ما ذكره الأمير المسبحي في كتاب الحمة الذي ألفه للظاهر بن الحاكم سنة اثنتين عشرة وأربعمائة قال، قال محمود المادرائي: كنت متوجها إلى الديوان فدخلنا الأبلة فصعدت من السفينة لحاجة، ووقفت على تل رماد عتيق وعن لي أن أنشدت قول الشاعر: يا رب قائله يوما وقد لغبت ... كيف الطريق إلى حمام منجاب وكان شيخ من أهل الأبلة جالسا على قرب من الموضع، فقال لي: يافتى، تعرف حمام منجاب قلت: لا، قال: فأنت واقف على مستوقده؛ فعجب من الاتفاق في ذلك] (1) . ومثل هاتين القضيتين ما ذكره الخطيب أبو زكريا التبريزي في كتاب " شرح الحماسة " (2) وذكر غيره أيضا أن عمرو بن شاس الأسدي الشاعر المشهور كانت له امرأة من قومه، وابن من أمه سوداء يقال له عرار، فكانت تعير به أباه وتؤذيه ويؤذيها، فأنكر عمرو عليها أذاها له وقال: أرادت عرارا بالهوان ومن يرد ... عرارا لعمري بالهوان لقد ظلم وإن عرارا إن يكن غير واضح ... فإني أحب الجون ذا المنكب العمم وهي عدة أبيات في الباب الاول من كتاب الحماسة - والجنون: الأسود، والعمم: التام - وكان عرار أحد فصحاء العقلاء، وتوجه من عند الملهب بن أبى صفرة إلى الحجاج بن يوسف الثقفي رسولا في بعض فتوحه فلما مثل بين يدي الحجاج لم يعرفه وازدراه، فلما استنطقه أبان وأعرب ما شاء وبلغ الغاية والمراد في كل ما سئل عنه، فأنشد الحجاج متمثلاً:   (1) زيادة انفردت بها مج، وقد حذفت منها القصة التالية المتعلقة بعمرو بن شأس وابنه عرار، وقصة عرار أشار إليها في المختار ولكنه لم يشر إلى هذه القصة المنقولة عن المسبحي. (2) شرح التبريزي 1: 149؛ وقد سقطت هذه القصة من س ل لي ت مج بر من. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 418 أرادت عرارا بالهوان ومن يرد ... عرارا لعمري بالهوان لقد ظلم فقال عرار: أنا - أيد الله الأمير - عرار، فأعجب به وبذلك الاتفاق 0 وشاس: المكان الغليظ. (196) وعمرو المذكور من أسد بن خزيمة، وهو مخضرم أدرك الإسلام وهو شيج كبير. وعرار من قولهم عار الظليم بتشديد الراء يعار عرارا (1) إذا صاح؛ يقول: أردت امرأتي إهانة عرار، ومن طلب ذلك من مثله فقد وضع الشيء في غير محله، وهو الظلم. واجتهد عمرو بن شاس أن يصلح بين امرأته وابنه فلم يمكنه ذلك فطلقها فندم وقال في ذلك شعرا تركته لعدم الحاجة وخشية الإطالة. رجعنا إلى ذكر الشريف: قال الخطيب في تاريخ بغداد (2) : سمعت أبا عبد الله محمد بن عبد الله الكاتب بحضرة أبي الحسين ابن محفوظ، وكان أوحد الرؤساء، يقول: سمعت جماعة من أهل العلم بالأدب يقولون: الرضي أشعر قريش، فقال ابن محفوظ: هذا صحيح، وقد كان في قريش من يجيد القول، إلا أن شعره قليل، فأما مجيد مكثر فليس إلا الرضي. وكانت ولادته سنة تسع وخمسين وثلثمائة ببغداد؛ وتوفي بكرة يوم الأحد (3) سادس المحرم - وقيل صفر - سنة ست وأربعمائة ببغداد، ودفن في داره بخط مسجد الأنبارين بالكرخ، وقد خربت الدار ودرس (4) القبر. ومضى أخوه المرتضى أبو القاسم إلى مشهد موسى بن جعفر لأنه لم يستطع أن ينظر إلى تابوته ودفنه، وصلى عليه الوزير فخر الملك في الدار مع جماعة كثيرة، رحمه الله تعالى.   (1) هذا وجهه بكسر العين، وعرار - اسم الرجل - بفتحها. (2) تاريخ بغداد 2: 246. (3) ر: الخميس. (4) ن ر ق: ودثر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 419 (197) وكانت ولادة والدة الطاهرذي المناقب أبي أحمد سنة سبع وثلثمائة، وتوفي في جمادى الأولى سنة أربعمائة، وقيل توفي سنة ثلاث وأربعمائة ببغداد ودفن في مقابر قريش بمشهد باب التبن، ورثاه ولده الرضي، ورثاه أيضا أبو العلاء المعري بقصيدته التي أولها (1) : أودى فليت الحادثات كفاف ... مال المسيف وعنبر المستاف وهي طويلة أجاد فيها كل الإجادة. وقد تقدم ذكر أخيه الشريف المرتضى أبي القاسم علي (2) . وعبيد: بفتح العين المهملة وكسر الباء الموحدة وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها دال مهملة. وشرية: بفتح الشين المعجمة وسكون الراء وفتح الياءالمثناة من تحتها وبعدها هاء ساكنة. والجرهمي: بضم الجيم وسكون الراء وضم الهاء وبعدها ميم، هذه النسبة إلى جرهم بن قحطان، وهي قبيلة كبيرة مشهورة باليمن. وعثير: بكسر العين المهملة وسكون الثاء المثلثة وفتح الياء المثناة من تحتها وبعدها راء، وهو في الأصل اسم للغبار، وبه سمي الرجل. ولبيد: اسم علم مشهور فلا حاجة إلى ضبطه. وقد تقدم الكلام على العذري، والله أعلم.   (1) شروح السقط: 1264. (2) انظر ج 3: 313. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 420 (1) 668 ابن هانئ الأندلسي أبو القاسم وأبو الحسن، محمد بن هانىء الأزدي الأندلسي الشاعر المشهور؛ قيل إنه من ولد يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلب بن أبي صفرة الأزدي، وقيل بل هو من ولد أخيه روح بن حاتم - وقد تقدم ذكر يزيد وأخيه روح في ترجمة روح في حرف الراء (2) -؛ وكان أبوه هانئ من قرية من قرى المهدية بأفريقية، وكان شاعرا أديبا، فانتقل إلى الأندلس، فولد له بها محمد المذكور بمدينة إشبيلية ونشأ بها واشتغل، وحصل له حظ وافر من الأدب وعمل الشعر فمهر فيه، وكان حافظا لأشعار العرب وأخبارهم، واتصل بصاحب إشبيلية وحظي عنده، وكان كثير الانهماك في الملاذ متهما بمذهب الفلاسفة، ولما اشتهر عنه ذلك نقم عليه أهل إشبيلية وساءت المقالة في حق الملك بسببه، واتهم بمذهبه أيضا، فأشار الملك عليه بالغيبة عن البلد مدة ينسى فيها خبره، فانفصل عنها وعمره يومئذ سبعة وعشرون عاما. وحديثه طويل، وخلاصته أنه خرج إلى عدرة المغرب ولقي جوهرا للقائد مولى المنصور - وقد تقدم ذكره وما جرى له عند توجهه إلى مصر وفتحها للمعز (3) - فامتدحه ثم ارتحل إلى يحيى ابني علي - وقد تقدم ذكر جعفر (4) - وكانا بالمسيلة وهي مدينة الزاب، وكانا والييها، فبالغا في إكرامه والإحسان إليه، فنمي خبره إلى المعز أبي تميم معد بن المنصور العبيدي   (1) ترجمته في التكملة 1: 368 والمطمح: 74 والمطرب: 192 والجذوة: 89 وبغية الملتمس (رقم: 301) والنفح 4: 40 (نقلاً عن المطمح) والإحاطة 2: 212 ومعجم الأدباء 19: 92 وعبر الذهبي 2: 328 والشذرات 3: 41. (2) انظر 2: 305. (3) انظر ج 1: 375. (4) انظر ج 1: 360. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 421 - وسيأتي ذكره (1) في هذا الحرف إن شاء الله تعالى - فطلبه منهما، فلما انتهى إليه بالغ في الإنعام عليه. ثم توجه المعز إلى الديار المصرية - كما سيأتي في خبره - فشيعه ابن هانئ المذكور ورجع إلى المغرب لأخذ عياله والالتحاق به، فتجهز وتبعه، فلما وصل إلى برقة أضافه شخص (2) من أهلها، فأقام عنده أياما في مجلس الأنس، فيقال إنهم عربدوا عليه فقتلوه، وقيل خرج من تلك الدار وهو سكران فنام في الطريق وأصبح ميتا ولم يعرف سبب موته، وقيل إنه وجد في سانيه من سواني (3) برقة مخنوقا بتكة سراريله، وكان ذلك في بكرة يوم الأربعاء لسبع ليال بقين من رجب سنة اثنتين وستين وثلثمائة، وعمره ست وثلاثون سنة، وقيل اثنتان وأربعون، رحمه الله تعالى، هكذا قيده صاحب كتابأخبار القيروان وأشار إلى انه في صحبة المعز، وهو مخالف لماذكرته أولا من تشييعه للمعز ورجوعه لأخذ عياله. ولما بلغ المعز وفاته وهو بمصر تأسف عليه كثيرا وقال: هذا الرجل كنا نرجو أن نفاخر به شعراء المشرق فلم يقدر لنا ذلك. وله في المعز المذكور غرر المدائح ونخب الشعر، فمن ذلك قصيدته النونية التي أولها (4) : هل من أعقه عالج يبرين ... أم منهما بقر الحدوج العين ولمن ليال ما ذككنا عهدها ... مذ كن إلا أنهن شجون المشرقات كأنهن كواكب ... والناعمات كأنهن غصون بيض وما ضحك الصباح، وإنها ... بالمسك من طرر الحسان لجون أدمى (5) لها المرجان صفحة خده ... وبكى عليها اللؤلؤ المكنون   (1) ت ل لي مج: خبره؛ ق: ذكره وخبره. (2) لي: رجل. (3) مج ل لي: شانية من شواني؛ والسانية: الساقية؛ والشانية: نوع من السفن. (4) ديوانه: 171. (5) ر والمختار: أدنى؛ ق: أهدى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 422 أعدى الحمام تأوهي من بعدها ... فكأنه فيما سجعن رنين بانوا سراعا للهوادج زفرة ... مما رأين وللمطي حنين فكأنما صبغوا الضحى بقبابهم ... أو عصفرت فيه الخدود جفون ماذا على حلل الشقيق لو أنها ... عن لابسيها في الخدود تبين فلأعطشن الروض بعدهم ولا ... يرويه لي دمع عليه هتون أأعير لحظ العين بهجة منظر ... وأخونهم إني إذن لخؤون لا الجو جو مشرق ولو اكتسى ... زهرا، ولا الماء المعين معين لا يبعدن إذ العبير له ثرى ... والبان دوح والشموس قطين أيام فيه العبقري مفوف ... والسابري مضاعف موضون والزاغبية شرع والمشرفي ... ة لمع والمقربات صفون والعهد من ظمياء إذ لا قومها ... خزر ولا الحرب الزبون زبون حزني لذاك الجو وهو أسنة ... وكناس ذاك الخشف وهو عرين هل يدنيني منه أجرد سابح ... مرح وجائله النسوع أمون ومهند فيه الفرند كأنه ... ردء له خلف الغرار كمين عضب المضارب مقفر من أعين ... لكنه من أنفس مسكون قد كلن رشح حديده أجلا، وما ... صاغت مضاربه الرقاق قيون وكأنما يلقى الضريبة دونه ... بأس المعز أو اسمه المخزون ومنها في صفة الخيل: وصواهل لا الهضب يوم مغارها ... هضب ولا البيد الحزون حزون عرفت بساعة سبقها، لا أنها ... علقت بها يوم الرهان عيون وأجل علم البرق فيها أنها ... مرت بجانحتيه وهي ظنون في الغيث شبه من نداك كأنما ... مسحت (1) على الأنواء منك يمين   (1) ق: سحبت. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 423 وهذه القصيدة من قصائده الطنانة، ولولا طولها لأوردتها كلها. [وله أيضا: والله لولا أن يسفهني الهوى ... ويقول بعض القائلين تصابى لكسرت دملجها بضيق عناقه ... ورشفت من فيها البرود رضابا] (1) وفي هذا الأنموذج دلالة على علو درجته وحسن طريقته. وديوانه كبير، ولولا ما فيه من الغلو في المدح والإفراط المفضي إلى الكفر لكان من احسن الدواوين، وليس في المغاربة (2) من هو في طبقته: لا من متقدميهم ولا من متأخريهم، بل هو أشعرهم على الإطلاق، وهو عندهم كالمتنبي عند المشارقة، وكانا متعاصرين، وإن كان في المتنبي مع أبي تمام من الاختلاف مافيه. وما زلت أتطلب تاريخ وفاة ابن هانيء المذكور من التواريخ والمظان التي يطلب منها فلا أجده، وسألت عنه خلقا كثيرا من مشايخ هذا الشأن فلم أجده، حتى ظفرت به في كتاب لطيف لأبي علي الحسن بن رشيق القيرواني سماه قراضة الذهب (3) فألفيته كما هو مذكور هاهنا، ونقلت مدة عمره من موضع آخر رأيت بعض الأفاضل قد اعتنى بأحواله فجمعها وكتبها في أول ديوانه، وذكر مدة العمر، ولم يذكر تاريخ الوفاة لأنه ماعثر عليه. ويقال إن أبا العلاء المعري كان إذا سمع شعر ابن هانئ يقول: ما أشبهه إلا برحى تطحن قرونا، لأجل القعقعة التي في ألفاظه، ويزعم أنه لاطائل تحت تلك الألفاظ، ولعمري ما أنصفه في هذا المقال، وما حمله على هذا فرط تعصبه للمتنبي، وبالجملة فما كان إلا من المحسنين في النظم (4) ، والله أعلم.   (1) زيادة من مج. (2) ت ل لي بر: للمغاربة. (3) طبع في سلسلة الرسائل النادرة (مكتبة الخانجي، القاهرة: 1926) . (4) تعليق بهامش س: لقد صدق المعري وأخطأ القاضي، ولم يكن له علم بالشعر. ولقد ذكر في هذا الباب في شعراء المغاربة جماعة لا يعد ابن هانئ في طبقتهم ولا يقاربهم، وحسبك بابن عمار هذا (انظر الترجمة التالية) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 424 (1) 669 ابن عمار الأندلسي ذو الوزارتين أبو بكر محمد بن عمار، المهري الأندلسي الشلبي الشاعر المشهور؛ هو وابن زيدون القرطبي المذكور في حرف الهمزة (2) فرسا رهان، ورضيعا لبان، في التصرف في فنون البيان، وهما كانا شاعري ذلك الزمان. وكانت ملوك الأندلس تخاف من ابن عمار المذكور لبذاءة لسانه وبراعة إحسانه، لاسيما حين اشتمل عليه المعتمد على الله ابن عباد صاحب غرب الأندلس - الآتي ذكره في هذا الحرف إن شاء الله تعالى - وأنهضه جليسا وسميرا وقدمه وزيرا ومشيرا ثم خلع عليه خاتم الملك ووجهه أميرا، وكان قد أتى عليه حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا، فتبعته المواكب والمضارب والنجائب والجنائب والكتائب والجنود، وضربت خلفه الطبول ونشرت على رأسه الرايات والبنود، فملك مدينة تدمير، وأصبح راقي منبر وسرير، مع ما كان فيه من عدم السياسة وسوء التدبير، ثم وثب على مالك رقه ومستوجب شكره ومستحقه، فبادر إلى عقوقه وبخس حقه، فتحيل المعتمد عليه وسدد سهام المكايد إليه، حتى حصل في قبضته قنيصا، وأصبح لا يجد محيصا، إلى أن قتله المعتمد في قصره ليلا بيده، وأمر من أنزله في ملحده، وذلك في سنة سبع وسبعين وأربعمائة بمدينة إشبيلية. وكانت ولادته في سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة، وقصته مشهورة، ولما   (1) ترجمته في بغية الملتمس (رقم: 277) والمغرب 1: 382 والذخيرة 2 الورقة: 74 والقلائد: 83 والحلة السيراء 2: 131 والمطرب: 169 والمعجب: 169 ورايات المبرزين: 25 وأعمال الأعلام: 160 والنفح 1: 652 (نقلاً عن القلائد) والوافي 4: 229 وعبر الذهبي 3: 288 والشذرات 3: 356 وللدكتور صلاح خالص مؤلف عنه (ط. بغداد: 1957) . (2) انظر ج 1: 139. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 425 قتله المعتمد رثاه صاحبه أبو محمد عبد الجليل بن وهبون الأندلسي المرسي (1) بقوله من جملة قصيدة: عجبا له أبكيه ملء مدامعي ... وأقول لا شلت يمين القاتل وقال أبو نصر الفتح بن خاقان صاحب قلائد العقيان (2) : لقد رأيت عظمي ساقي ابن عمار قد أخرج بعد سنين من حفر حفر بجانب القصر وأساودهما بهما ملتفة، ولبلتهما (3) مشتفة، ما فغرت أفواهما، ولا حل التواؤهما، فرمق الناس العبر، وصدق المكذب الخبر. يعني بالأساود القيود. ومن مشاهير قصائد ابن عمار المذكور قوله: أدر الزجاجة فالنسيم قد انبرى ... والنجم قد صرف العنان عن السرى والصبح قد أهدى لنا كافوره ... لما استرد الليل منا العنبرا ومن مديحها، وهي في المعتضد (4) بن عباد: ملك إذا ازدحم الملوك بمورد ... ونحاه لا يردون حتى يصدرا أندى على الأكباد من قطر الندى ... وألذ في الأجفان من سنة الكرى قداح زند المجد لا ينفك من ... نار الوغى إلا إلى نار القرى وهي طويلة وفائقة. ومن جيد شعره أيضا القصيدة الميمية، وهي أيضا في المعتضد بن عباد (5) ، وأولها:   (1) ترجمته في القلائد: 242 والذخيرة 2: 192 وصفحات متفرقة من نفح الطيب. (2) س: القلائد؛ وانظر هذا المصدر: 83. (3) س: وليلهما؛ ر ن: وليلتهما؛ ق: ولبتها؛ مج: ولبنتهما. (4) لي بر والمختار: المعتمد؛ وهو خطأ، راجع القلائد: 96. (5) انظر صلاح خالص: 209. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 426 علي، وإلا ما بكاء الغمائم ... وفي، وإلا فيم نوح الحمائم ومنها أيضا (1) في وصف وطنه: كساها الحيا برد الشباب، فإنها ... بلاد بها عق الشباب تمائمي ذكرت بها عهد الصبا فكأنما ... قدحت بنار الشوق بين الحيازم ليالي لاألوي على رشد لائم ... عناني، ولا أتثنيه عن غي هائم أنال سهادي من عيون نواعس ... وأجني عذابي من غصون نواعم وليل لنا بالسد بين معاطف ... من النهر ينساب انسياب الأرقم تمر علينا ثم عنا كأنها ... حواسد تمشي بيننا بالنمائم [بحيث اتخذنا الروض جارا تزورنا ... هداياه في أيدي الرياح النواسم] (2) وبتنا ولا واش يحس كأنما ... حللنا مكان السر من صدر كاتم ومن مديحها: ملوك مناخ العز في عرصاتهم ... ومثوى المعالي بين تلك المعالم هم البيت ما غير الظبا لبنائه ... بأس ولا غير القنا بدعائم إذا قصر الروع الخطا نهضت بهم ... طوال العوالي في طوال المعاصم وأيد أبت من ان تؤوب ولم تفز ... بجز النواصي او بحز الغلاصم ندامى الوغى يجرون بالموت كأسها ... إذا رجعت أسيافهم بالجماجم هناك القنا مجرورة من حفائظ ... وثم الظبا مهزوزة من عزائم ومنها: إذا ركبوا فانظره أول طاعن ... وإن نزلوا فارصده آخر طاعم وهي أيضا طويلة وطنانة.   (1) أيضاً: سقطت من ت س ن بر من؛ من: في صفة. (2) زيادة لم ترد في النسخ الخطية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 427 ومن جملة ذنوبه عند المعتمد بن عباد ما بلغه عنه من هجائه وهجاء أبيه المعتمد في بيتين، هما كانا من أكبر أسباب قتله، وهما: مما يقبح عندي ذكر أندلس ... سماع معتضد فيها ومعتمد أسماء مملكة في غير موضعها ... كالهر يحكي انتفاخا صولة الأسد ومحاسن ابن عمار كثيرة. والمهري: بفتح الميم وسكون الهاء وبعدها راء، هذه النسبة إلى مهرة بن حيدان بن إلحاف بن قضاعة وهي قبيلة كبيرة ينسب إليها خلق كثير. والشلبي: بكسر الشين المعجمة وسكون اللام وبعدها باء موحدة، هذه النسبة إلى شلبن وهي مدينة بالأندلس على ساحل البحر. وتدمير: بضم التاء المثناة من فوقها وشسكون الدال المهملة وكسر الميم وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها راء، وهي مدينة مرسية، وكان المعتمد ابن عباد قد سير إليها أبا بكر ابن عمار المذكور نائبا عنه، فعصى بها، ولم يزل المعتمد يحتال عليه حتى وقع في قبضته، وقتله بيده كما تقدم أولا، وشهرة هذه الواقعة تغني عن الإطالة في تفصيلها (1) . وذكر عماد الدين الأصفهاني الكاتب في كتاب الخريدة في ترجمة ابن عمار المذكور: وقتله المعتمد، وكلن أقوى الأسباب لقيله أنه هجاه بشعر ذكر فيه أم بنيه المعروفة بالرمكية، وهي أبيات منها: تخيرتها من بنات الهجان ... رميكية لا تساوي عقالا فجاءت بكل قصير الذراع ... لئيم النجارين عما وخالا قلت: وهذه الرمكية كانت سرية المعتمد، اشتراها من رميك بن حجاج، فنسبت إليه، وكان قد اشتراها في أيام أبيه المعتضد فأفرط في الميل إليها وغلبت عليه، واسمها اعتماد، فاختار لنفسه لقبا يناسب اسمها، هو المعتمد، وتوفيت بأغمات قبل المعتمد بأيام، ولم ترقأ له عبرة ولا فارقته حسرة حتى قضى   (1) هنا تنتهي الترجمة في س ل لي ت بر من. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 428 نحبه أسفا وحزنا (1) ، وهي التي أغرت المعتمد على قتل ابن عمار، لكونه هجاها؛ وقيل إن هذا الشعر ليس لابن عمار (2) ، وإنما نسبته (3) إليه لكي توغر صدر (4) المعتمد عليه، والله أعلم. 670 - (5) أبو بكر ابن الصائغ الأندلسي أبو بكر محمد بن باجه التجيبي الأندلسي السرقسطي المعروف بابن الصائغ، الفيلسوف الشاعر المشهور؛ ذكره أبو نصر الفتح بن محمد بن عبيد بن خاقان القيسي، صاحب قلائد العقيان في كتابه (6) ، ونسبه إلى التعطيل ومذهب الحكماء والفلاسفة وانحلال العقيدة، وقال في حقه في كتابه الذي سماه مطمح الأنفس (7) ما مثاله: نظر في كتاب التعاليم، وفكر في أجرام الأفلاك وحدود الأقاليم، ورفض كتاب الله الحكيم، ونبذه من وراء ظهره ثاني عطفه، وأراد إبطال ما لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، واقتصر على الهيئة، وأنكر أن يكون لنا إلى الله فيئة، وحكم للكواكب بالتدبير، واجترم على الله اللطيف الخبير، واجترأ عند سماع النهي والإيعاد، واستهزأ بقوله تعالى " إن   (1) ق: ولم ترقأ لها ... فارقتها ... قضت نحبها. (2) ق والمختار: ليس له. (3) ر ق والمختار: نسب. (4) ق: يوغر قلب. (5) ترجمته في المغرب 2: 119 والنفح 7: 17، 27 - 30 وتاريخ الحكماء: 406 وابن أبي أصيبعة 2: 62 والشذرات 4: 103. (6) انظر القلائد: 300 - 306. (7) هذا النص موجود في قلائد العقيان، وليس له وجود في المطمع المطبوع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 429 الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد " - القصص:85 - فهو يعتقد أن الزمان دور، وأن الإنسان نبات أو نور، حمامة تمامه، واختطافه قطافه (1) ، قد محي الإيمان من قلبه فما له فيه رسم، ونسي الرحمن لسانه فما يمر عليه له اسم. ولقد بالغ ابن خاقان في أمره وجاوز الحد فيما وصفه به من هذه الاعتقادات الفاسدة، والله أعلم بكنه حاله، وأورد له مقاطيع من الشعر، فمن ذلك قوله: أسكان نعمان الأراك تيقنوا ... بأنكم في ربع قلبي سكان ودوموا على حفظ الوداد فطالما ... بلينا باقوام إذا استؤمنوا خانوا سلوا الليل عني مذ تناءت دياركم ... هل اكتحلت بالغمض لي فيه أجفان وهل جردت أسياف برق سماؤكم ... فكانت لها إلا جفوني أجفان وكان قد أنشدني هذه الأبيات بعض (2) أشياخ المغاربة الفضلاء بمدينة حلب منسوبة إلى ابن الصائغ المذكور، ثم وجدتها بعد ذلك بعينها في ديوان أبي الفتيان محمد بن حيوس - الآتي ذكره إن شاء الله تعالى - فبقيت شاكا فيما أنشدني ذلك الشيخ، وقلت: لعله وهم في نسبتها إلى ابن الصائغ، إلى أن وجدتها في كتابه (3) " مطمح الأنفس " (4) أيضا منسوبة إلى ابن الصائغ المذكور، والله تعالى أعلم لمن هي منهما. وله (5) : ضربوا القباب على أقاحة روضة ... خطر النسيم بها ففاح عبيرا وتركت قلبي سار بين حمولهم ... دامي الكلوم يسوق تلك العيرا هلا سألت أسيرهم هل عندهم ... عان يفك ولو سألت غيورا   (1) ق: اقتطافه. (2) ر ت ل مج بر من: أحد. (3) ر ل لي بر من: كتاب. (4) ر بر من: المطمح. (5) ق: وله أيضاً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 430 لا والذي جعل الغصون معاطفا ... لهم وصاغ الأقحوان ثغورا ما مر بي ريح الصبا من بعدهم ... إلا شهقت له فعاد سعيرا (1) ولما حضرته الوفاة كان ينشد: أقول لنفسي حين قابلها الردى ... فراغت فرارا منه يسرى إلى يمنى ففي تحملي بعض الذي تكرهينه ... فقد طالما اعتدت الفرار إلى الأهنا وتوفي في شهر رمضان المعظم سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة، وقيل سنة خمس وعشرين وخمسمائة مسموما في باذنجان بمدينة فاس، رحمه الله تعالى. وباجه: بالباء الموحدة وبعد الألف جيم مشددة ثم هاء ساكنة، وهي الفضة بلغة فرنج المغرب. والتجيبي (2) : بضم التاء المثناة من فوقها وفتحها وكسر الجيم وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها باء موحدة؛ هذه النسبة إلى تجيب، وهي أم عدي وسعد ابني أشرس بن شبيب بن السكون، نسب ولدها إليها، وهي تجيب بنت ثوبان بن سليم بن مذحج. والسرقي: بفتح السين المهملة والراء وضم القاف وسكون السين المهملة وبعدها طاء مهملة، هذه النسبة إلى سرقطة، وهي مدينة بالأندلس خرج منها جماعة من العلماء واستولى عليها سنة اثنتي عشرة وخمسمائة.   (1) سقط البيت من ت مج. (2) سقط هذا التعريف من مج. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 431 671 - (1) الرصافي الشاعر أبو عبد الله محمد بن غالب الرفاء الأندلسي الرصافي الشاعر المشهور؛ له أشعار ظريفة ومقاصد في النظم لطيفة، وشعره سائر في الآفاق، ومن أشهر شعره أبياته التي نظمها في غلام صنعته النسج فيها كل الإجادة (2) ، وهي: قالوا وقد أكثروا في حبه عذلي ... لو لم تهم بمذال القدر مبتذل فقلت لو كان أمري في الصبابة لي ... لاخترت ذلك ولكن ليس ذلك لي أحببته حببي الثغر عاطره ... حلو اللمى ساحر الأجفان والمقل غزيلا لم تزل في الغزل جائله ... بنانه جولان الفكر والغزل جذلان يلعب بالمحواك أنمله ... على السدى لعب الأيام بالدول (3) جذبا بكفيه او فحصا بأخمصه ... تخيط الظبي في أشراك محتبل وله غير هذا المقطوع أشياء رائقة، فمن ذلك قوله في غلام يبل عينيه بريقه ويظهر أنه يبكي وليس بباك: عذيري من جذلان يبكي كآبة ... وأضلعه مما يحاوله صفر يبل مآقي زهرتيه بريقه ... ويحكي البكا عمدا كما ابتسم الزهر   (1) ترجمته في المعجب: 286 والتكملة 2: 520 والمغرب 2: 342 والمقتضب من التحفة: 56 ورايات المبرزين: 84 وجذوة الاقتباس: 164 وأدباء مالقة لابن عساكر، الورقة: 18 وأماكن متفرقة من نفح الطيب، والوافي 4: 309 والشذرات 4: 241 ومقدمة ديوانه (ط. دار الثقافة 1961) . (2) فأجاد ... الإجادة: سقط من ق ر بر مج. (3) مج ر ت ل ق بر من: بالأمل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 432 ويوهم أن الدمع بل جفونه ... وهل عصرت يوما من النرجس الخمر وله أيضا: ومهفهف كالغصن إلا أنه ... تتحير اللباب عند لقائه أضحى ينام وقد تكلل خده ... عرقا، فقلت: الورد (1) رش بمائه وتوفي في شهر رمضان، سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة بمدينة مالقة، رحمه الله تعالى. والرصافي: بضم الصاد المهملة وبعد الألف فاء، هذه النسبة إلى الرصافة، وهي بليدة صغيرة بالأندلس عند بلنسية، وبالأندلس أيضا بليدة أخرى صغيرة اسمها الرصافة (2) ، وهي عند قرطبة، أنشأها عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك الأموي أول ملوك الأندلس من بني أمية، ويعرف بالداخل، لأنه دخل إلى الأندلس من بلاد الشام خوفا من أبي جعفر المنصور العباسي، وقصته مشهورة، فلما دخلها ملكها وبويع له بقرطبة يوم عيد الأضحى سنة ثمان وثلاثين ومائة، وعمره يومئذ خمس وعشرون سنة، وبنى هذه الرصافة وسماها برصافة جده هشام بن عبد الملك بن مروان، وهي بليدة مشهورة بالشام، كذا قاله ياقوت الحموي - الآتي ذكره إن شاء الله تعالى - في كتابه المسمىبالمشترك وضعا المختلف صعقا وذكر أن الرصافة اسم تسع مواضع، وعددها، ولولا خوف التطويل لذكرتها، غير أنه لم يذكر رصافة بلنسية، وبهذه الرصافة تكون عشرة (3) مواضع، والله تعالى أعلم.   (1) لي: الخمر. (2) ل: رصافة. (3) في النسخ الخطية جميعاً: عشر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 433 672 - (1) أبو بكر ابن زهر أبو بكر محمد بن أبي مروان عبد الملك بن أبي العلاء زهر بن أبي مروان عبد الملك بن أبي بكر محمد بن مروان بن زهر الإيادي الأندلسي الإشبيلي؛ كان من أهل بيت كلهم علماء رؤساء حكماء وزراء، نالوا المراتب العلية وتقدموا عند الملوك ونفذت أوامرهم. قال الحافظ أبو الخطاب ابن دحية في كتابه المسمى " المطرب من أشعار أهل المغرب " (2) : وكان شيخنا أبو بكر - يعني ابن زهر المذكور - بمكان من اللغة مكين، ومورد من الطب (3) عذب معين، كان يحفظ شعر ذي الرمة، وهو ثلث لغة العرب مع الإشراف على جميع أقوال أهل الطب والمنزلة العليا عند أصحاب المغرب، مع سمو النسب، وكثرة الأموال والنشب، صحبته زمانا طويلا، واستفدت منه أدبا جليلا. وأنشد من شعره: وموسدين على الأكف خدودهم ... قد غالهم نوم الصباح وغالني ما زلت أسقيهم وأشرب فضلهم ... حتى سكرت ونالهم ما نالني والخمر تعلم حين تأخذ ثارها ... أني أملت إناءها فأمالني ثم قال: سألته عن مولده فقال: ولدت سنة سبع وخمسمائة، وبلغني وفاته   (1) ترجمته في المغرب 1: 266 وزاد المسافر: 71 والذيل والتكملة 6: 160 (نسخة باريس) والتكملة: 255 والمعجب: 145 وابن أبي أصيبعة 2: 67 والنفح 2: 247 ومعجم الأدباء 18: 256 والوافي 4: 39 وعبر الذهبي 4: 288 والشذرات 4: 320 وله موشحات في دار الطراز. (2) المطرب: 206. (3) ر بر مج من والمطرب: الطلب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 434 في آخر سنة خمس وتسعين وخمسمائة، رحمه الله تعالى؛ انتهى كلام ابن دحية. قلت أنا: وقد ألم ابن زهر المذكور في هذه الأبيات بقول الرئيس أبي غالب عبيد الله بن هبة الله بن الاصباغي وهو: عقرتهم مشمولة لو سالمت ... شرابها ما سميت بعقار ذكرت حقائدهم القديمة إذ غدت ... صرعى تداس بأرجل العصار لانت لهم حتى انتشوا وتمكنت ... منهم، وصاحت فيهم بالثار ومن المنسوب إليه أيضا في كتاب جالينوس الحكيم المسمىحيلة البرء - وهو من أجل كتبهم وأكبرها - قوله: حيلة البرء صنفت لعليل ... يترجى الحياة أو لعليله فإذا جاءت المنية قالت: ... حيلة البرء ليس في البرء حيله (1) ومن شعر ابن زهر أيضا يتشوق ولدا له صغيرا: ولي واحد مثل فرخ القطا ... صغير تخلف قلبي لديه نأت عنه داري فيا وحشتا ... لذاك الشخيص وذاك الوجيه تشوقني وتشوقته ... فيبكي علي وأبكي عليه لقد تعب الشوق ما بيننا ... فمنه إلي ومني إليه وله وقد شاخ وغلب الشيب: إني نظرت إلى المرآة إذ جليت ... فانكرت مقلتاي كل ما رأتا رأيت فيها شييخا لست أعرفه ... وكنت أعهده من قبل ذاك فتى فقلت: أين الذي بالأمس كان هنا ... متى ترحل عن هذا المكان متى فاستضحكت ثم قالت وهي معجبة: ... إن الذي أنكرته مقلتاك أتى كانت سليمى تنادي يا أخي وقد ... صارت سليمى تنادي اليوم يا أبتا   (1) ومن المنسوب ... حيله: سقط من مج س ل لي ت والمختار. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 435 والبيت الأخير من هذه الأبيات ينظر إلى قول الأخطل الشاعر المشهور (1) : وإذا دعونك عمهن فإنه ... نسب يزيدك عندهن خبالا وإذا دعونك يا أخي فإنه ... أدنى وأقرب خلة ووصالا وأوصى أنه إذا مات يكتب على قبره هذه الأبيات، وفيها إشارة إلى طبه ومعالجته للناس، وهي: تأمل بحقك يا واقفا ... ولاحظ مكانا دفعنا إليه تراب الضريح على وجنتي ... كأني لم أمش يوما عليه أداوي الأنام حذار المنون ... وها أنا قد صرت رهنا لديه وهذه المقاطيع إنما أخذتها من أفواه العلماء منسوبة إلى ابن زهر المذكور، والله أعلم بصحتها، والعهدة عليهم في نقلها. وقال ابن دحية أيضا في حقه (2) : والذي انفرد به شيخنا وانقادت لتخيله طباعه وصارت النبهاء فيه خوله وأتباعه، الموشحات، وهي زبدة الشعر ونخبته وخلاصة جوهره وصفوته، وهي من الفنون التي أغربت بها أهل المغرب على أهل المشرق، وظهروا فيها كالشمس الطالعة والضياء المشرق؛ وأورد له موشحا حسنا. (198) وقال في حق جده أبي العلاء زهر: إنه كان وزير ذلك الدهر وعظيمه، وفيلسوف ذلك العصر وحكيمه، وتوفي ممتحنا من نغلة (3) بين كتفيه سنة خمس وعشرين وخمسمائة بمدينة قرطبة. (199) ثم قال في حق جد أبيه عبد الملك (4) : إنه رحل إلى المشرق، وبه تطبب زمانا طويلا، وتولى رياسة الطب ببغداد ثم بمصر ثم بالقيروان، ثم استوطن   (1) انظر ديوان الأخطل: 43 وسقط بيتا الأخطل من س ل لي ت مج بر من. (2) المطرب: 204. (3) كذا في المطرب ور؛ وفي النسخ الأخرى: بعلة. (4) المصدر نفسه: 203. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 436 مدينة دانية وطار ذكره منها إلى أقطار الأندلس والمغرب، واشتهر بالتقدم (1) في علم الطب حتى بذ أهل زمانه، ومات بمدينة دانية. (200) ثم قال في حق جد جده محمد بن مروان: إنه كان عالما بالرأي حافظا للأدب، ففيها حاذقا بالفتوى مقدما في الشورى، متفننا في الفنون، وسيما فاضلا، جمع الرواية والدراية، توفي بطلبيرة سنة اثنتين وعشرين وأبعمائة، وهو ابن ست وثمانين سنة، حدث عنه جماعة من العلماء الأندلسيين (2) ووصفوه بالدين والفضل والجود والبذل، رحمه الله تعالى. وقد تقدم الكلام على الإيادي وعلى طلبيرة فلا حاجة إلى الإعادة. وزهر: بضم الزاي وسكون الهاء وبعدها راء (3) . وذكر عماد الدين الكاتب في كتاب الخريدة لأبي الطيب ابن البزاز (4) في بعض بني زهر وكنيته أبو زيد، ولم يذكر اسمه، قوله (5) : قل للوبا انت وابن زهر ... جاوزتما الحد في النكاية ترفقا بالورى قليلا ... فواحد منكما كفايه (201) ثم وجدت هذين البيتين لأبي بكر أحمد بن محمد الأبيض (6) ، وأنه توفي سنة أربع وأربعين وخمسمائة رحمه الله تعالى، والله أعلم.   (1) ر: بالتقدمة. (2) ر والمطرب: علماء الأندلس؛ بر: من العلوم بالأندلس. (3) هنا تنتهي الترجمة في س ل لي ت مج. (4) ق ن: البزار. (5) أوردها المقري في النفح 3: 434 ونسبهما لابن باجه، وقد سقطا مع سائر النص من س ل لي ت بر من ووردا في زاد المسافر: 111 منسوبين للأبيض وقال: وينسب أيضاً لابن الصائغ (أي ابن باجه) . (6) سماه في زاد المسافر: 108 أحمد بن محمد الأبيض وكنيته أبو بكر، وفي المطرب: 76 والمغرب 2: 127 والنفح 3: 489 أنه محمد بن أحمد الأنصاري المشهور بالأبيض؛ وفي ق: محمد بن محمد الأبيض. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 437 673 - (1) ابن حيوس الشاعر أبو الفتيان محمد بن سلطان بن محمد بن حيوس بن محمد المرتضى بن محمد بن الهيثم بن عدي بن عثمان الغنوي الملقب مصطفى الدولة، الشاعر المشهور؛ كان يدعى بالأميرلأن أباه كان من أمراء العرب، وهو أحد الشعراء الشاميين المحسنين ومن فحولهم المجيدين، له ديوان شعر كبير. لقي جماعة من الملوك والأكابر ومدحهم وأخذ جوائزهم، وكان منقطعا إلى بني مرداس أصحاب حلب - ذكر الجوهري في الصحاح في فصل ردس المرداس: حجر يرمى به في البئر ليعلم أفيها ماء أم لا، وبه سمي الرجل - وله فيهم القصائد الأنيقة. وقضيته مشهورة مع الأمير جلال الدولة وصمامها أبي المظفر نصر بن محمود بن سبل الدولة نصر صالح بن مرداس الكلابي صاحب حلب، فإنه كان قد مدح أباه محمود بن نصر فأجازه ألف دينار، فلما مات وقام مقامه ولده نصر (2) المذكور قصده ابن حيوس المذكور بقصيدته الرائية يمدحه بها ويعزيه عن أبيه، وهي (3) : كفى الدين عزا ماقضاه لك الدهر ... فمن كان ذا نذر فقد وجب النذر ومنها: ثمانية لم تفترق مذ جمعتها ... فلا افترقت ماذب عن ناظر شفر   (1) ترجمته في زبدة الحلب 2: 40 والوافي 3: 118 ومعاهد التنصيص 2: 278 وعبر الذهبي 3: 279 والشذرات 3: 343 ومقدمة ديوانه (ط. دمشق 1951) . (2) ق: المنصور نصر. (3) ديوانه 1: 242. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 438 يقينك والتقوى، وجودك والغنى، ... ولفظك والمعنى وعزمك والنصر يذكر فيها وفاة أبيه وتوليته الأمر من بعده بقوله: صبرنا على حكم الزمان الذي سطا ... على أنه لولاك لم يكن الصبر غزانا ببؤس لا يماثلها الأسى ... تقارن نعمى لا يقوم بها الشكر ومنها: تباعدت عنكم حرفة لا زهادة ... وسرت إليكم حين مسني الضر فلاقيت ظل الأمن ماعنه حاجز ... يصد، وباب العز ما دونه ستر وطال مقامي في غسار جميلكم ... فدامت معاليكم ودام لي الأسر وأنجز لي رب السموات وعدة ال ... كريم بأن العسر يتبعه (1) اليسر فجاد ابن نصر لي بألف تصرمت ... وإني عليم أن سيحلفه نصر لقد كنت مأمورا (2) ترجى لمثلها ... فكيف وطوعا أمرك النهي والأمر (3) وما بي إلى الإلحاح والحرص (4) حاجة ... وقد عرف المبتاع وانفصل السعر واني بآمالي لديك مخيم ... وكم في الورى ثاو وآماله سفر وعندك ما أبغي بقولي تصنعا ... بأيسر ما توليه يستبعد الحر فلما فرغ من إنشادها قال الأمير نصر: والله لوقال عوض قولهسيحلفها نصر: سيضعفها نصر، لأضعفتها له، وأعطاه ألف دينار في طبق فضة. وكان قد اجتمع على باب الأمير نصر المذكور جماعة من الشعراء، وامتدحوه وتأخرت صلته عنهم، ونزل بعد ذلك الأمير نصر إلى دار بولص النصراني، وكانت له عادة بغشيان منزله، وعقد مجلس الأنس عنده، فجاءت الشعراء الذين   (1) الديوان: من بعده. (2) ن: مأمولا. (3) الديوان: النفع والضر. (4) الديوان: الأشطاط في السوم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 439 تأخرت جوائزهم إلى باب بولص، وفيهم أبو الحسن (1) أحمد بن محمد بن الدويدة المعري الشاعر المعروف (2) ، فكتبوا ورقة فيها أبيات اتفقوا على نظمها، وقيل بل نظمها ابن الدويدة المذكور، وسيروا الورقة إليه، والأبيات المذكورة هي: على بابك المحروس منا عصابة ... مفاليس فانظر في أمور المفاليس وقد قنعت منك الجماعة كلها ... بعشر الذي أعطيته لابن حيوس وما بيننا هذا التفاوت كله ... ولكن سعيد لايقاس بمنحوس فلما وقف عليه الأمير نصر اطلق لهم مائة دينار، فقال: والله لو قالوا بمثل الذي أعطيته لابن حيوس لأعطيتهم مثله. وذكر العماد (3) في الخريدة أن هذه الأبيات لأبي سالم عبد الله بن أبي الحسن (4) أحمد بن محمد بن الدويدة وأنه كان يعرف بالقاق (5) ، والله أعلم. (202) وكان الأمير نصر سخيا واسع العطاء، ملك حلب بعد وفاة أبيه محمود في سنة سبع وستين وأربعمائة، ولم تطل مدته حتى ثار عليه جماعة من جنده فقتلوه في ثاني شوال سنة ثمان وستين وأربعمائة - وقد ذكر جد أبيه صالح بن مرداس في حرف الصاد (6) -. وقدم ابن حيوس حلب في شوال سنة اربع وستين وأربعمائة، وداره بها هي الدار المعروفة الآن بالأمير علم الدين سليمان بن حيدر. ومن محاسن شعر ابن حيوس القصيدة اللامية التي مدح بها أبا الفضائل سابق   (1) ق مج بر: أبو الحسين. (2) قال العماد (الخريدة - قسم الشام 2: 52) شعراء بني الدويدة فيهم كثرة، قد أورد منهم الباخرزي في دمية القصر جماعة فمن جملتهم أحمد بن محمد بن الدويدة وله ثلاثة أبناء: هم علي ومحمد وعبد الله الملقب بالقاق. (3) ق: العماد الكاتب. (4) ق: أبي الحسين. (5) لي س: بالواف؛ ل: بالعاف، بر: بالقاف؛ وانظر الخريدة 2: 54. (6) انظر ج 2: 487. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 440 ابن محمود وهو أخو الأمير نصر المذكور، ومن مديحها قوله (1) : طالما قلت للمسائل عنكم ... واعتمادي هداية الضلال إن ترد علم حالهم عن يقين ... فالقهم في مكارم أو نزال تلق بيض الأعراض سود مثار النقع خضر الأكناف حمر النصال ... وما أحسن هذا التقسيم الذي اتفق له، وقد ألم فيه بقول أبي سعيد محمد بن محمد بن الحسين الرستمي الشاعر المشهور من جملة قصيدة يمدح بها الصاحب بن عباد - المقدم ذكره في حرف الهمزة (2) - وهي من فاخر الشعر، وذلك قوله: من النفر العالين في السلم والوغى ... وأهل المعالي والعوالي وآلها (3) إذا نزلوا اخضر الثرى من نزولهم ... وإن نازلوا احمر القنا من نزالها هذا والله الشعر الخالص الذي لايشوبه شيء من الحشو. وكان ابن حيوس المذكور قد أثرى وحصلت له نعمة ضخمة من بني مرداس، فبنى دارا بمدينة حلب وكتب على بابها من شعره (4) : دار بنيناها وعشنا بها ... في نعمة من آل مرداس قوم نفوا بؤسي ولم يتركوا ... على للأيام من باس قل لبني الدنيا ألا هكذا ... فليصنع الناس مع الناس وقيل: إن هذه الأبيات للأمير الجليل أبي الفتح الحسن بن عبد الله بن عبد الجبار، المعروف بابن أبي حصينة الحلبي، وهو الصحيح (5) . ومن غرر قصائده السائرة قوله (6) :   (1) ديوانه 2: 460. (2) انظر ج! 1: 228. (3) مج ر ت لي: واللها. (4) لم ترد في ديوان ابن حيوس. (5) انظر ديوان ابن أبي حصينة 1: 360. (6) ديوان ابن حيوس 1: 312، وسقطت الأبيات من مج، وكذلك الأبيات الميمة بعدها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 441 هو ذلك ربع المالكية فاربع ... واسأل مصيفا عافيا عن مربع واستق للدمن الخوالي بالحمى ... غر السحائب واعتذر عن أدمعي فلقد فنين أمام دان هاجر ... في قربه، ووراء ناء مزمع لو يخبر الركبان عني حدثوا ... عن مقلة عبرى وقلب موجع ردي لنا زمن الكثيب فإنه ... زمن متى يرجع وصالك يرجع لو كنت عالمة بأدنى لوعتي ... لرددت أقصى نيلك المسترجع بل لو قنعت من الغرام بمظهر ... عن مضمر بين الحشى والأضلع أعتبت إثر تعتب، ووصلت غب تجنب، وبذلت بعد تمنع ... ولو أنني أنصفت نفسي صنتها ... عن أن اكون كطالب لم ينجح ومنها: إني دعوت ندى الكرام فلم يجب ... فلأشكرن ندى أجاب وما دعي ومن العجائب، والعجائب جمة، ... شكر بطيء عن ندى متسرع ومن شعره أيضا (1) : قفوا في القلى حيث انتهيتم تذمما ... ولا تقتفوا من جار لما تحكما أرى كل معوج المودة يصطفى ... لديكم ويلقى حتفه من تقوما فإن كنتم لم تعدلوا إذ حكمتم ... فلا تعدلوا عن مذهب قد تقدما حنى الناس من قبل القسي لتقنى ... وثقف منآد القنا ليقوما وما ظلم الشيب الملم بلمتي ... وإن بزني حظي من الظلم واللمى ومحجوبة عزت وعز نظيرها ... وإن أشبهت في الحسن والعفة والدمى أعنف فيها صبوة قط ما ارعوت ... وأسأل عنها معلما ما تكلما سلي عنه تخبر عن يقين (2) دموعه ... ولا تسألي عن قلبه أين يمما   (1) ديوانه 2: 598. (2) ق: باليقين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 442 فقد كان لي عونا على الصبر برهة ... وفارقني أيام فارقتم الحمى فراق قضى أن لا تأسي بعد أن ... مضى منجدا صبري وأوغلت متهما وفجعة بين مثل صرعة مالك ... ويقبح بي أن لا أكون منكما خليلي إن لم تسعداني على الأسى ... فلا (1) أنتما مني ولا انا منكما وحسنتما لي سلوة وتناسيا ... ولم تذكرا كيف السبيل إليهما سقى الله أيام الصبا كل هاطل ... ملث إذا ماالغيث أثجم أنجما وعيشا سرقناه برغم رقيبنا ... وقد مل من طول السهاد فهو ما وهي طويلة (2) . وحكى الحافظ ابن عساكر في تاريخ دمشق قال: أنشدنا أبو القاسم علي بن إبراهيم العلوي من حفظه سنة سبع وخمسمائة قال: أخذ الأمير أبو الفتيان بن حيوس بيدي ونحن بحلب وقال: اروعني هذا البيت وهو في شرف الدولة مسلم بن قريش: أنت الذي نفق الثناء بسوقه ... وجرى الندى بعروقه قبل الدم وهذا البيت في غاية المدح؛ وقد تقدم في ترجمة أبي بكر بن الصائغ الأندلسي ذكر الأبيات النونية، وكونها منسوبة إليه، وهي موجودة في ديوان ابن حيوس المذكور، والله اعلم بجلية الحال فيها. وكان أبو عبد الله أحمد بن محمد بن الخياط الشاعر - المقدم ذكره (3) - قد وصل إلى حلب في بعض شهور (4) سنة اثنتين وسبعين وأربعمائة، وبها يؤمئذ أبو الفتيان المذكور فكتب إليه ابن الخياط المذكور قوله: لم يبق عندي ما يباع بدرهم ... وكفاك مني منظري عن مخبري   (1) س ق: فما، وعلق في س بأنها " فلا " في نسخة أخرى وهي كذلك في بر ر لي ل. (2) زاد في ن: جداً. (3) انظر ج 1: 145 وفي هامش لي: هذه الحكاية تقدمت في ترجمة ابن الخياط. (4) بعض شهور: زيادة من ر ق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 443 إلا بقية ماء وجه صنتها ... عن أن تباع وأين أين المشتري (1) فقال: لو قال (2) " وأنت نعم المشتري " لكان أحسن. وكانت ولادة ابن حيوس يوم السبت سلخ صفر سنة أربع وتسعين وثلثمائة بدمشق، وتوفي في شعبان سنة ثلاث وسبعين وأربعمائة بحلب. وهو شيخ أبي عبد الله أحمد بن محمد المعروف بابن الخياط الشاعر المشهور وقد تقدم ذكر ذلك في ترجمته. وحيوسك بالحاء المهملة المفتوحة والياء المشددة المثناة من تحتها المضمومة والواو الساكنة وبعدها سين مهملة. وفي شعراء المغاربة ابن حبوس مثل الأول، ولكن بالباء الموحدة المخففة، وإنما ذكرته لئلا (3) يتصحف على كثير من الناس بابن حيوس. ورأيت خلقا كثيرا يتوهمون (4) أن المغربي يقال له ابن حيوس ايضا، وهو غلط، والصواب ما ذكرته، والله تعالى أعلم. 674 - (5) الأبيوردي الشاعر أبو المظفر محمد بن أبي العباس أحمد بن محمد أحمد بن إسحاق بن أبي العباس الإمام محمد بن إسحاق وهو أبو الفتيان بن أبي الحسن (6) ابن   (1) ن ر ق: وقد وجدتك مشتري. (2) ل: لو كان قال. (3) ر بر من مج: لأنه. (4) ق ل ت مج: يتوهم. (5) ترجمته في معجم الأدباء 17: 234 والوافي 2: 91 ومرآة الزمان: 48 وطبقات السبكي 4: 62 والنجوم الزاهرة 5: 206 والشذرات 4: 18 واللباب: (المعاوي) . (6) ر ل لي س: ابن الحسن. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 444 [أبي] (1) مرفوعة بن منصور بن معاوية الأصغر بن محمد بن أبي العباس عثمان بن عنبسة الأصغر بن عتبة (2) بن الأشرف بن عثمان بن عنبسة بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، القرشي الأموي المعاوي الأبيوردي الشاعر المشهور؛ كان من الأدباء المشاهير، رواية نسابة شاعرا ظريفا، قسم ديوان شعره إلى أقسام: منها العراقيات ومنها النجديات ومنها الوجديات، وغير ذلك، وكان من أخبر الناس بعلم الأنساب نقل عنه الحافظ الأثبات الثقات (3) ، وقد روى عنه الحافظ أبو الفضل محمد بن طاهر المقدسي في غير موضع من كتابه الذي وضعه في الأنساب، وقال في حقه في ترجمة المعاوي: إنه كان أوحد زمانه في علوم عديدة، وقد أوردنا عنه في غير موضع من هذا الكتاب أشياء وكان يكتب في نسبه المعاوي، وأليق ما وصف به بيت أبي العلاء المعري: وإني وإن كنت الأخير زمانه ... لآت بما لم تستطعه الأوائل انتهى كلام المقدسي بعد أن ذكر له أبياتا يفتخر بها لا حاجة بنا إليها (4) . وذكره أبو زكريا ابن منده في تاريخ أصبهان فقال: فخر الرؤساء أفضل الدولة، حسن الاعتقاد جميل الطريقة، متصرف في فنون جمة من العلوم، عارف بأنساب العرب، فصيح الكلام حاذق في تصنيف الكتب، وافر العقل كامل الفضل، فريد دهره ووحيد عصره. وكان فيه تيه وكبر وعزة نفس، وكان إذا صلى يقول: اللهم ملكني مشارق الأرض ومغاربها. وذكره الحافظ ابن السمعاني في كتاب الأنساب في ترجمة المعاوي، وفي كتاب الذيل وقال: كان ينسب إلى معاوية الأصغر المقدم ذكره في عمود نسبه، وأخبر عنه أنه كتب رقعة إلى أمير المؤمنين المستظهر بالله وعلى رأسها   (1) زيادة من ل لي س ت. (2) كذا في أكثر النسخ؛ وفي بر واللباب: " عنبسة ". (3) الثقات: سقطت من ر. (4) ر: إلى ذكرها. ق: بذكرها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 445 " الخادم المعاوي " فكره الخليفة النسبة إلى معاوية، فحك (1) الميم من المعاوي ورد الرقعة إليه، فصار العاوي (2) . ومن محاسن قوله: ملكنا أقاليم البلاد فأذعنت ... لنا رغبة أو رهبة عظماؤها فلما انتهت أيامنا علقت بنا ... شدائد أيام قليل رخاؤها وكان إلينا في السرور ابتسامها ... فصار علينا في الهموم بكاؤها وصرنا نلاقي النائبات بأوجه ... رقاق الحواشي كاد يقطر ماؤها إذا ما هممنا أن نبوح بما جنت ... علينا الليالي لم يدعنا حياؤها وقوله أيضا (3) : تنكر لي دهري ولم يدر أنني ... أعز وأحداث الزمان تهون فبات يريني الخطيب كيف اعتداؤه ... وبت أريه الصبر كيف يكون ومن شعره أيضا: وهيفاء لا أصغي إلى من يلومني ... عليها ويغريني بها أن أعيبها أميل بإحدى مقلتي إذا بدت ... إليها، وبالأخرى أراعي رقيبها وقد غفل الواشي ولم يدر أنني ... أخذت لعيني من سليمى نصيبها   (1) ر: فكشط، مج: فحك الخليفة. (2) علق ابن المؤلف هنا في المختار بقوله: " قلت، أعني كاتبها موسى بن أحمد لطف الله به: ومثل هذا ما حكاه لي بعض أدباء بغداد أن رجلاً متشيعاً مر بباب مدرسة ببغداد وكان بيده قوس بندق وكان حاذقاً بالرمي، فرأى على ذلك الباب مكتوباً بالآجر حروفاً نابتة، مضمونها " معاوية خال المؤمنين " فغاظه ذلك، فرمى بندقة أصاب بها وسط الشكل القائم من حرف اللام في " خال " فزال موضع البندقة فبقي سفل اللام يشبه النون وما هي من الشكل القائم كالنقطة عليه فقرئ " خان " وهذا من لطيف الاتفاقات ". (3) ق: ومن شعره أيضاً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 446 وله في أبي النجيب عبد الرحمن بن عبد الجبار المراغي، وكان من أفراد زمانه فضلا، وكان يستعمل في شعره لزوم مالا يلزم، وكانت إقامته بثغر حيرة (1) : شعر المراغي وحوشيتم ... كعقله أسلمه أسقمه يلزم ما ليس له لازما ... لكنه يترك ما يلزمه وله أيضا: أأميم إن لم تسمحي بزيارة ... بخلا فجودي بالخيال الطارق والله لا تمحو الوشاة ولا النوى ... سمة لحبك في ضمير العاشق قلت: ومن معنى هذا البيت الأول أخذ سبط ابن التعاويذي - الآتي ذكره - قوله من جملة قصيدة: إن كنت ليلى بالسلام بخيلة ... فمري الخيال يمر بي فيسلم وعدي بوصلك في المنام لعلها ... ترجو لقاءك مقلتي فتهوم ومن نجدياته: نزلنا بنعمان الأراك وللندى ... سقيط به ابتلت علينا المطارف فبت أعاني الوجد والركب نوم ... وقد أخذت مني السرى والتنائف وأذكر خودا إن دعاني إلى (2) النوى ... هواها أجابته الدموع الذوارف لها في مغاني ذلك الشعب منزل ... لئن أنكرته العين فالقلب عارف وقفت به والدمع أكثره دم ... كأني من جفني بنعمان راعف [وله وقد أخرج من الحلة المزيدية مكرها، وكان سنيا:   (1) ق ر بر: بحيرة س: ولعل الصواب " جنزة ". (2) ر والمختار: على. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 447 أبابل ما واديك بالرفد مفعم ... لدينا ولا ناديك بالوفد آهل لئن ضقت عنا فالبلاد فسيحة ... وحسبك عارا أنني عنك راحل لئن كنت بالسحر الحرام مدلة ... فعندي من السحر الحلال دلائل قواف تعير الأعين النجل سحرها ... فكل مكان خيمت فيه بابل] (1) ومن معانيه البديعة قوله من جملة أبيات في صفة (2) الخمرة: ولها من ذاتها طرب ... فلهذا يرقص الحبب وله من جملة قصيدة: فسد الزمان فكل من صاحبته ... راج ينافق أو مداج خاشي (3) وإذا اختبرتهم ظفرت بباطن ... متجهم وبظاهر هشاش وهذا المعنى مأخوذ من قول أبي تمام الطائي من جملة قصيدة أجاد فيها كل الإجادة (4) : إن شئت أن يسود ظنك كله ... فأجله في هذا السواد الأعظم ليس الصديق بمن يعيرك ظاهرا ... متبسما عن باطن متجهم وقد خرجنا عن المقصود بالتطويل. وله تصانيف كثيرة مفيدة: منها " تاريخ أبيورد ونساو " كتاب " المختلف والمؤتلف " و " طبقات كل فن " و " ما اختلف وائتلف (5) في أنساب العرب "   (1) زيادة انفردت بها مج، وقد سقط ما قبلها ابتداء من قوله " وله في أبي التجيب " حتى آخر الأبيات الفائية. (2) س لي ن: وصف. (3) ت لي مج: حاشي. (4) ديوان أبي تمام 3: 250؛ كل الإجادة: سقطت من ق س ت ل مج بر من. (5) وطبقات ... وائتلف: سقط من ر ن ق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 448 وله في اللغة مصنفات كثيرة لم يسبق إلى مثلها (1) . وكان حسن السيرة جميل الأثر له معاملة صحيحة. وكانت وفاة الأبيوردي المذكور بين الظهر والعصر يوم الخميس العشرين من ربيع الأول سنة سبع وخمسين وخمسمائة بأصبهان مسموما، وصلي عليه في الجامع العتيق بها، رحمه الله تعالى. والأبيوردي: بفتح الهمزة وكسر الباء الموحدة وسكون الياء المثناة من تحتها وفتح الواو وسكون الراء وبعدها دال مهملة، هذه النسبة إلى أبيورد، ويقال لها أباورد وبارود، وهي بليدة بخراسان خرج منها جماعة من العلماء وغيرهم (2) ، وذكر السمعاني في كتاب الأنساب في ترجمة الكوفني - بضم الكاف وسكون الواو وفتح الفاء (3) وبعدها نون - هذه النسبة إلى كوفن، وهي بليدة صغيرة على ستة فراسخ من أبيورد بخراسان بناها عبد الله بن طاهر، وخرج منها جماعة من المحدثين والفضلاء، منهم الأديب أبو المظفر محمد بن أحمد الكوفني المعروف بالأديب الأبيوردي، والله أعلم.   (1) بهامش ن، بخط غير خط الأصل: " وقفت على مؤلف له سماه بزاد الرفاق واستصحبته بحمد الله سبحانه وهو من الكتب الممتعة ويشتمل من نوادر الظرف والآداب على ما يروق العيون ويعجب الاسماع؛ حرره الفقير عارف ". (2) هنا تنتهي الترجمة في ت مج. (3) ق: الكوقني ... وفتح القاف؛ وانظر اللباب: (الكوفني) ؛ وقد كتبت اللفظة كوقن - بالقاف - في المختار. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 449 675 - (1) ابن أبي الصقر الواسطي أبو الحسن محمد بن علي بن عمر، المعروف بابن أبي الصقرالواسطي؛ كان فقيها شافعي المذهب، تفقه على الشيخ أبي إسحاق الشيرازي، رحمه الله تعالى، لكنه غلب عليه الأدب والشعر واشتهر به، ورأيت له بدمشق ديوان شعر في الخزانة الأشرفية التي في الجامع المشهور في تربته شمال الكلاسة التي هي زيادة في الجامع الكبير، والديوان مجلد واحد (2) ، وكان شديد التعصب للطائفة الشافعية، وظهر ذلك في قصائده المعروفة بالشافعية، وله في الشيخ أبي إسحاق الشيرازي مرات، وكان كاملا في البلاغة والفضل وحسن الخط وجودة الشعر. وذكره أبو المعالي الحظيري - المقدم ذكره (3) - في كتابزينة الدهر وأورد له عدة مقاطيع، فمن ذلك قوله: كل رزق ترجوه من مخلوق ... يعتريه ضرب من التعويق شطر أولوأنا قائل واستغفر الل ... هـ مقال المجاز لا التحقيق لست أرضى من فعل إبليس شيئا ... غير ترك السجود للمخلوق وذكر له أيضا (4) : وحرمة الود مالي عنكم عوض ... لأنني ليس لي في غيركم غرض (5)   (1) ترجمته في معجم الأدباء 18: 257 والمنتظم 9: 145 والوافي 4: 142 والبدر السافر، الورقة: 132 وطبقات السبكي 3: 80. (2) ورأيت له ... واحد: سقط النص من لي ل ت بر من. (3) انظر ج 2: 366. (4) زاد في لي: قوله؛ وفي ق بر: وهي سائرة؛ وقد سقطت الأبيات من مج. (5) ت وهامش س: وليس لي في سواكم بعدكم غرض. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 450 أشتاقكم وبودي لو يواصلني ... لكم خيال ولكن لست أغتمض وقد شرطت على قوم صحبتهم ... بأن قلبي لكم من دونهم، ورضوا (1) ومن حديثي بكم قالوا به مرض ... فقلت لا زال عني ذلك المرض وكان قد طعن في السن وضعف عن المشي فصار يتوكأ على عصا، فقال في ذلك: كل أمري (2) إذا تفكرت فيه ... وتأملته رأيت ظريفا كنت أمشي على اثنتين قويا ... صرت أمشي على ثلاث ضعيفا قلت: ولي أبيات أشير فيها إلى مثل هذا المعنى وهي: يا سائلي عن حالتي ... خذ شرحها ملخصا قد صرت بعد قوة ... تفض أفلاذ الحصى أمشي على ثلاثة ... أجود ما فيها العصا (3) ولابن أبي الصقر (4) أيضا في اعتذاره عن ترك القيام لأصدقائه (5) : علة سميت ثمانين عاما ... منعتني للأصدقاء القياما فإذا عمروا تمهد عذري ... عندهم بالذي ذكرت وقاما وله في كبره أيضا: ولما إلى عشر تسعين صرت ... ومالي إليها أب قبل صارا تيقنت أني مستبدل ... بداري دارا وبالجار جارا   (1) ر: فرضوا. (2) ل ن بر: أمر. (3) قلت ... العصا: سقط من س ل لي ل ت مج بر من. (4) كذا في ر ق؛ وفي النسخ الأخرى: وله. (5) ر: لبعض أصدقائه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 451 فتبت إلى الله مما مضى ... ولن يدخل الله من تاب نارا وله أيضا وقد حضر عزاء صغير وهو يرتعش من الكبر، فتغامز عليه الحاضرون كيف مات الصغير وبقي هذا الشيخ في هذا السن، فقال: إذا دخل الشيخ بين الشباب ... عزاء وقد مات طفل صغير رأيت اعتراضا على الله إذ ... توفى الصغير وعاش الكبير فقل لابن شهر وقل لابن ألف ... وما بين ذلك: هذا المصير (1) وله أيضا في ذلك: ابن أبي الصقر افتكروا ... وقال في حال الكبر والله لولا بولة ... تحرقني وقت السحر لما ذكرت أن لي ... ما بين فخذي ذكر وله كل مقطوع مليح (2) . وكانت ولادته ليلة الاثنين ثالث عشر ذي القعدة سنة تسع وأربعمائة. وتوفي يوم الخميس رابع عشر جمادى الأولى سنة ثمان وتسعين وأربعمائة بواسط، رحمه الله تعالى.   (1) وله أيضاً ... المصير: سقط من س ل لي ت مج، وقبله سقطت من مج الأبيات الرائية المطلقة. (2) ق: مقطوع حسن. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 452 676 - (1) ابن الهبارية الشريف أبو يعلى محمد بن محمد بن صالح بن حمزة بن عيسى بن محمد بن عبد الله ابن داود بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس الهاشمي العباسي المعروف بابن الهبارية الملقب نظام الدين (2) البغدادي الشاعر المشهور؛ كان شاعرا مجيدا حسن المقاصد، لكنه كان خبيث اللسان كثير الهجاء والوقوع في الناس لايكاد يسلم من لسانه أحد. وذكره العماد الكاتب في الخريدة فقال (3) : من شعراء نظام الملك، غلب على شعره الهجاء والهزل والسخف، وسبك في قالب ابن حجاج وسلك أسلوبه وفاقه في الخلاعة، والنظيف من شعره في غاية الحسن؛ انتهى كلام العماد. وكان ملازما لخدمة نظام الملك أبي علي الحسن بن علي بن إسحاق وزير السلطان ألب أرسلان وولده ملك شاه - وقد تقدم ذكره في حرف الحاء (4) - وله عليه الإنعام التام والإدرار المستمر، وكان بين نظام الملك وتاج الملك أبي الغنائم بن دارست شحناء ومنافسة، كما جرت العادة بمثله بين الرؤساء، فقال أبو الغنائم لابن الهبارية: إن هجوت نظام الملك فلك عندي كذا، وأجزل له الوعد فقال: كيف أهجو شخصا لا أرى في بيتي شيئا إلا من نعمته فقال لا بد من هذا، فعمل (5) :   (1) ترجمته في اللباب: (الهباري) والوافي 1: 130 ومرآة الزمان: 58 والنجوم الزاهرة 5: 210 ولسان الميزان 5: 367 والشذرات 4: 24 وقد أوجزت النسخ س ل لي ت في نسبه. (2) لي: نظام الملك. (3) الخريدة (قسم العراق) 2: 70. (4) انظر ج 2: 128. (5) ق: فقال. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 453 لا غرو إن ملك ابن إس ... حاق وساعده القدر وصفت له الدنيا وخ ... ص أبو الغنائم بالكدر فالدهر كالدولاب لي ... س يدور إلا بالبقر فبلغت الأبيات نظام الملك، فقال: هو يشير إلى المثل الساءر على ألسن الناس، وهو قولهمأهل طوس بقروكان نظام الملك من طوس، وأغضى عنه ولم يقابله على ذلك بل زاد في إفضاله عليه، فكانت هذه معدودة من مكارم أخلاق نظام الملك وسعة حلمه. وكان مع فرط إحسان كظام الملك إليه يقاسي من غلمانه وأتباعه شر مقاساة لما يعلمونه من بذاءة لسانه، فلما اشتد عليه الحال منهم كتب إلى نظام الملك: لذ بنظام الحضرتين الرضى ... إذا بنو الدهر تحاشوك واجل به عن ناظريك القذى ... إذا لئام القوم أعشوك واصبر على وحشة غلمانه ... لا بد للورد من الشوك وذكر العماد الأصبهاني فيالخريدة أنه أنفذ هذه الأبيات مع ولده إلى نقيب النقباء علي بن طراد الزبيبي، ولقبه نظام الحضرتين أبو الحسن. ومن شعره أيضا: وجهي يرق عن السؤا ... ل وحالتي منه أرق دقت معاني الفضل في ... وحرفتي منها أدق ومن معانيه الغريبة قوله في الرد على من يقول إن السفر به يبلغ الوطر: قالوا أقمت وما رزقت وإنما ... بالسير يكتسب اللبيب ويرزق فأجبتهم ما كل سير نافعا ... الحظ ينفع لا الرحيل المقلق كم سفرة نفعت، وأخرى مثلها ... ضرت، ويكتسب الحريص ويخفق كالبدر يكتسب الكمال بسيره ... وبه إذا حرم السعادة يمحق وله أيضا: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 454 خذ جملة البلوى ودع تفصيلها ... ما في البرية كلها إنسان وإذا البياذق في الدسوت تفرزنت ... فالرأي أن يتبيذق الفرزان وله على سبيل الخلاعة والمجون: يقول أبو سعيد إذ رآني ... عفيفا منذ عام ما شربت على يد أي شيخ قل لي ... فقلت على يد الإفلاس تبت وله في المعنى أيضا: رأيت في النوم عرسي وهي ممسكة ... أذني، وفي كفلها شيء من الأدم معوج الشكل مسود به نقط ... لكن أسفله في هيئة القدم [تظل ترقعني كيما ترنخني ... فصرت ألتئذ بالإيقاع والنغم] (1) حتى تنبهت محمر القذال، ولو ... طال المنام (2) على الشيخ الأديب عمي وله أيضا: المجلس التاجي، دام جماله ... وجلاله وكماله، بستان والعبد فيه حمامة، تغريدها ... فيه المديح وطوقه الإحسان [وله: وعندي شوق دائم وصبابة ... ومن أنا ذا حتى أقول له عندي إلى رجل لو أن بعض ذكائه ... على كل مولود تكلم في المهد فلولا نداه خفت نار ذكائه ... عليه ولكن الندى مانع الوقد] (3) وله أيضا:   (1) زيادة من المختار. (2) ر: الرقاد. (3) زيادة من مج، سقط كثير مما قبلها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 455 دعوه ما شاء فعل ... سيان صد أو وصل فكم رأينا قبلها ... أسود من ذا ونصل ومحاسنه كثيرة. وله كتابنتائج الفطنة في نظم كليلة ودمنةوقد سبق في ترجمة البارع الدباس في حرف الحاء ذكر الأبيات الدالية وجوابها وما دار بينهما (1) ، وسيأتي في ترجمة الوزير فخر الدولة محمد بن جهير واقعة لطيفة جرت له مع السابق الشاعر المعري، إن شاء الله تعالى. وديوان شعره كبير يدخل في أربع مجلدات (2) ، ومن غرائب نظمه كتاب الصادح والباغم نظمه على أسلوب دليلة ودمنة وهو أراجيز، وعدد بيوته ألفا بيت، نظمها في عش سنين، ولقد أجاد فيه كل الإجادة، وسير الكتاب على يد ولده الأمير أبي الحسن صدقة بن منصور بن دبيس الأسدي صاحب الحلة - المقدم ذكره في حرف الصاد (3) - وختمه بهذه الأبيات (4) ، وهي: هذا كتاب حسن ... تحار فيه الفطن أنفقت فيه مدة ... عشر سنين عدة منذ سمعت باسمكا ... وضعته برسمكا بيوته ألفان ... جميعها معاني لو ظل كل شاعر ... وناظم وناثر كعمر نوح التالد ... في نظم بيت واحد من مثله لما قدر ... ما كل من قال شعر أنفذته مع ولدي (5) ... بل مهجتي وكبدي   (1) انظر ج 2: 181. (2) المختار: في ثلاث أربع مجلدات. (3) انظر ج 2: 490. (4) لم يرد منها في ت إلا بيتان، واكتفى في المختار بإيراد المطلع. (5) ل لي بر: وولدي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 456 وأنت عند ظني ... أهل لكل من وقد طوى إليكا ... توكلا عليكما مشقة شديدة ... سعيا وما ونيت إن الفخار والعلا ... إرثك من دون الورى فأجزل صلته وأسنى جائزته (1) . وتوفي ابن الهبارية المذكور بكرمان سنة أربع وخمسمائة، هكذا قال العماد الأصبهاني في كتاب الخريدة بعد أن أقام مدة بأصبهان وخرج إلى كرمان وأقام (2) بها إلى آخر عمره، وقال ابن السمعاني: توفي بعد سنة تسعين وأربعمائة. والهبارية: بفتح الهاء وتشديد الباء الموحدة وبعد الألف راء، هذه النسبة إلى هبار، وهو جد أبي يعلى المذكور لأمه. وكرمان: بكسر الكاف وقيل بقتحها وسكون الراء وفتح الميم وبعد الألف نون، وهي ولاية كبيرة تشتمل على مدن كبار وصغار، وخرج منها خلق من الأعيان، وهي متصلة بأطراف أعمال خراسان (3) ، ومن جانبها الآخر البحر، والله أعلم.   (1) ق: فأجزل جائزته وأسنى صلته. (2) ر بر: فأقام. (3) ق مج بر ر: بأطراف خراسان. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 457 677 - (1) الخالدي المعروف بابن القيسراني الشاعر أبو عبد الله محمد بن نصر بن صغير بن داغر بن محمد بن خالد بن نصر بن داغر بن عبد الرحمن بن المهاجر بن خالد بن الوليد المخزومي، الخالدي الحلبي الملقب شرف المعالي عدة الدين، المعروف بابن القيسراني، هكذا أملى علي نسبه بعض حفدته، الشاعر المشهور؛ من الشعراء المجيدين والأدباء المتفنين (2) ، قرأ الأدب على توفيق بن محمد وأبي عبد الله ابن الخياط الشاعر - المقدم ذكره (3) - وكان فاضلا في الأدب وعلم الهيئة، سمع بحلب من الخطيب أبي طاهر هاشم بن أحمد الحلبي وغيره، وسمع منه الحافظان أبو القاسم ابن عساكر وأبو سعد ابن السمعاني (4) ، وذكراه في كتابيهما، وكذلك ابو المعالي الحظيري، وذكره في كتاب " الملح " (5) أيضا. وكان هو وابن منير - المذكور في حرف الهمزة (6) - شاعري الشام في ذلك العصر، وجرت بينهما وقائع وماجرايات وملح ونوادر، وكان ابن منير ينسب إلى التحامل على الصحابة، رضي الله عنهم، ويميل إلى التشيع، فكتب إليه ابن القيسراني المذكور وقد بلغه أنه هجاه: ابن منير هجوت مني ... حبرا أفاد الورى صوابه   (1) ترجمته في الروضتين 1: 91 والخريدة (قسم الشام) 1: 96 - 160 ومرآة الزمان: 213 وذيل ابن القلانسي: 322 ومعجم الأدباء 19: 64 وعبر الذهبي 5: 133 والشذرات 4: 150. (2) ر ل لي مج بر من: المتعينين. (3) انظر ج 1: 145. (4) ق: وأبو سفيان السمعاني. (5) ق: الملح والنوادر. (6) ج 1: 156. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 458 ولم تضيق بذاك صدري ... فإن لي أسوة الصحابة ومن محاسن شعره قوله: كم ليلة بت من كاسي وريقته ... نشوان أمزج سلسالا بسلسال وبات لا تحتمي عني مراشفه ... كأنما ثغره ثغر بلا والي وظفرت بديوانه وجميعه بخطبه وأنا يومئذ بمدينة حلب ونقلت منه أشياء فمن ذلك قوله في مدح خطيب: شرح المنبر صدرا ... لتلقيك رحيبا أترى ضم خطيبا ... منك أم ضمخ طيبا وهذا الجناس في غاية الحسن؛ ثم وجدت هذين البيتين لأبي القاسم ابن زيد ابن أبي الفتح أحمد بن عبيد بن فضل (1) الموازيني الحلبي المعروف أبوه بالماهر، وأن ابن القيسراني المذكور أنشدهما للخطيب ابن هاشم لما تولى خطابة حلب فنسيا إليه (2) ، ورأيت الأول على هذه الصورة، وهو: قد زها المنبر عجبا ... إذ ترقيت خطيبا وله في الغزل: بالسفح من لبنان لي ... قمر منازله القلوب حملت تحيته الشما ... ل فردها عني الجنوب فرد الصفات غريبها ... والحسن في الدنيا غريب لم أنس ليلة قال لي ... لما رأى جسدي يذوب (3) بالله قل لي من أعل ... ك يافتى قلت: الطبيب   (1) ق: فضال. (2) ما تقدم يفيد أن المؤلف نقل البيتين من ديوان ابن القيسراني وهو يقول إن الديوان كله بخطه وهذا يستوقف النظر. (3) سق البيت سهواً من ق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 459 وله أيضا (1) : وقالوا لاح عارضه ... وما ولت ولايته فقلت عذار من أهوى ... أماراته إمارته ومن معانيه البديعة قوله من جملة قصيدته رائقة (2) : هذا الذي سلب العشاق نومهم ... أما ترى عينيه ملأى من الوسن وهذا البيت ينظر إلى قول المتنبي في مدح سيف الدولة بن حمدان: نهبت من الأعمار ما لو حويته ... لهنئت الدنيا بأنك خالد (3) وكان كثير الإعجاب بقوله من جملة قصيدة: وأهوى الذي أهوى له البدر ساجدا ... ألست ترى في وجهه أثر الترب وحضر مرة في سماع وكان المغني حسن الغناء، فلما طربت الجماعة وتواجدت عمل (4) : والله لو أنصفت العشاق انفسهم ... فدوك منها بما عزوا وما صانوا ما أنت حين تغني في مجالسهم ... إلا نسيم الصبا والقوم أغصان وأنشدني صاحبنا الفخر إسحاق بن المختص الإربلي لنفسه دوبيت، وأخبرني أنه كان في سماع وفيه جماعة من أرباب القلوب، فلما طابت (5) الجماعة كان هناك فرش منضود على كراسي فتساقطت، قال: فعملت في الحال: داعي النغمات حلقة الشوق طرق ... وهنا فأجابته شجون وحرق   (1) سقط البيتان التاليان من مج. (2) رائقة: سقطت من ق. (3) وهذا البيت ... خالد: سقط من س ل لي ت ق مج بر من. (4) ق: عمل فقال. (5) الجماعة: سقطت من ل لي ت ق مج بر من. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 460 لو أسمع صخرة لخرت طربا ... من نغمته فكيف قطن وخرق وكانت ولادة ابن القيسراني المذكور سنة ثمان وسبعين وأربعمائة بعكا. وتوفي ليلة الأربعاء الحادي والعشرين من شعبان سنة ثمان وأربعين وخمسمائة من شعبان سنة ثمان وأربعين وخمسمائة بمدينة دمشق، ودفن بمقبرة باب الفراديس، رحمه الله تعالى. والخالدي: بفتح الخاء المعجمة وبعد الألف لام ثم دال مهملة، هذه النسبة إلى خالد بن الوليد المخزومي، رضي الله عنه؛ هكذا يزعم أهل بيته، وأكثر المؤرخين وعلماء الأنساب يقولون: إن خالدا رضي الله عنه، لم يتصل نسبه بل انقطع منذ زمان، والله أعلم. والقيسراني: بفتح القاف وسكون الياء المثناة من تحتها وفتح السين المهملة والراء وبعد الألف نون، هذه النسبة إلى قيسارية، وهي بليدة بالشام على ساحل البحر. 678 - (1) الكيزاني أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن ثابت بن إبراهيم بن فرح (2) الكناني المقرئ الأديب الشافعي الحامي (3) المصري المعروف بابن الكيزاني، الشاعر المشهور (4) ؛ كان زاهدا ورعا، وبمصر طائفة ينسبون إليه ويعتقدون مقالته، وله ديوان شعر أكثره في الزهد، ولم أقف عليه، وسمعت بيتا واحدا أعجبني، وهو:   (1) ترجمته في اللباب: (الكيزاني) والوافي 1: 347 والخريدة (قسم مصر) 2: 18 والنجوم الزاهرة 5: 367، 376 والمغرب (قسم مصر) 1: 261. (2) س ن بر: فرج. (3) ق: الخامي؛ بر: الحاتمي. (4) ر ن: المعروف. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 461 وإذا لاق بالمحب غرام ... فكذا الوصل بالحبيب يليق [ويروى له: يا ضنى جسمي تحكم أو فدع ... ليس في السلوان عن ليلى طمع عنفوني والهوى يغلبني ... وأطالوا العتب لو كان نفع سألوني هل يوافي طيفها ... إنما يعلم هذا من هجع] (1) وفي شعره أشياء حسنة (2) . وتوفي ليلة الثلاثاء التاسع من شهر ربيع الأول، وقيل بل توفي في المحرم سنة اثنتين وستين وخمسمائة بمصر، ودفن بالقرب من قبة الإمام الشافعي، رضي الله عنه، بالقرافة الصغرى، ثم نقل إلى سفح المقطم بقرب الحوض المعروف بأم مودود، وقبره مشهور هناك يزار، وزرته مرارا، رحمه الله تعالى. والكيزاني: بكسر الكاف وسكون الياء المثناة من تحتها وفنح الزاي وبعد الألف نون، هذه النسبة إلى عمل الكيزان وبيعها (3) ، وكان بعض أجداده يصنع ذلك، والله أعلم.   (1) زيادة انفردت بها مج. (2) نقل الصفدي في الغيث المسجم (2: 78) هذين البيتين: يا من يسود شعره بخضابه ... لعساه من أهل الشبيبة يحصل ها فاختضب بسواد حظي مرة ... ولك الأمان بأنه لا ينصل ثم قال: ووجدتهما بخط القاضي شمس الدين أحمد بن خلكان في بعض مسوداته لابن الكيزاني المصري. (3) وبيعها: سقطت من ن ر ق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 462 679 - (1) الأبلة الشاعر أبو عبد الله محمد بن بختيار بن عبد الله الولد، المعروف بالأبلة البغدادي، الشاعر المشهور أحد المتأخرين المجيدين، جمع في شعره بين الصناعة والرقة، وله ديوان شعر بايدي الناس كثير الوجود. وذكره العماد الكاتب الأصبهاني في كتاب " الخريدة " (2) فقال: هو شاب ظريف يتزيا بزي الجند، رقيق أسلوب الشعر حلو الصناعة رائق البراعة عذب اللفظ (3) ، أرق من النسيم السحري وحسن من الوشي التستري، وكلما ما ينظمه، ولو أنه يسير، يسير، والمغنون يغنون برائقات أبياته عن أصوات القدماء، فهم يتهافتون على نظمه المطرب تهافت الطير الحوم على عذب المشرب. ثم قال: أنشدني لنفسه من قصيدة سنة خمس وخمسين وخمسمائة ببغداد: زار من أحيا بزورته ... والدجى في لون طرته قمر يثني معانقه (4) ... بانة في طي بردته بت أستجلي المدام على ... غرة الواشي وغرته يا لها من زورة قصرت ... فأملت طول جفوته آه من حضر له وعلى ... رشفة من برد ريقته يا له في الحسن من صنم ... كلنا من جاهليته (5)   (1) ترجمته في مرآة الزمان: 379 والوافي 2: 244 والنجوم الزاهرة 6: 95 وعبر الذهبي 4: 238 والشذرات 4: 266. (2) ن: في الخريدة. (3) س: الألفاظ. (4) ق ر بر: قمر تثني معاطفه. (5) سقطت هذه الأبيات من س ت مج. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 463 ومن أبياته السائرة قوله من جملة قصيدة أنيقة: لا يعرف الشوق إلا من يكابده ... ولا الصبابة إلا من يعانيها ومن رقيق شعره قوله في غزل (1) قصيدة: دعني أكابد لوعتي وأعاني ... أين الطليق من الأسير العاني آليت لا أدع الملام يغرني ... من بعد ما أخذ الغرام عناني أولا تروض (2) العاذلات وقد أرى ... روضات حسن في خدود حسان ولدي يلتمس السلو، ولم أزل ... حي الصبابة ميت السلوان يا برق إن تجف (3) العقيق فطالما ... أغنته عنك سحائب الأجفان هيهات أن أنسى رباك ووقفه ... فيها أغير بها على الغيران ومهفهف ساجي اللحاظ حفظته ... فأضاعني وأطعته فعصاني يصمي قلوب العاشقين بمقلة ... طرف السنان وطرفها سيان خنث الدلال: بشعره وبثغره ... يوم الوداع أضلني وهداني ما قام معتد لا يهز قوامه ... إلا وبانت خجلة في البان يا أهل نعمان إلى وجناتكم ... تعزى الشقائق لا إلى نعمان ما يفعل المران من يد قلب ... في القلب فعل مرارة (4) الهجران وهي قصيدة طويلة ومديحها جيد، وجميع شعره على هذا الأسلوب والنسق (5) ومخالصة من الغزل إلى المدح في نهاية (6) الحسن، وقل من يلحقه فيها، فمن ذلك قوله من قصيدة أولها:   (1) مج: قوله من قصيدة. (2) ت بر: أولى بروض؛ ل: بروض. (3) ر ن ق: إن تجز. (4) ق: في فعله ومرارة. (5) ت ل مج بر من: على هذا النسق. (6) ق: غاية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 464 جنيت جني الورد من ذلك الخد ... وعانقت غصن البان من ذلك القد فلما انتهى إلى مخلصها قال: لئن يوما بسمعي ملامة ... لهند فلا عفت الملامة في هند ولا وجدت عيني سبيلا إلى البكا ... ولا بت في أسر الصبابة والوجد وبحت بما ألقى ورحت مقابلا ... سماحة مجد الدين بالكفر والجحد وقوله من قصيدة أخرى: فلا وجد سوى وجدي بليلى ... ولا مجد كمجد ابن الدوامي وقوله في أخرى: فأقسم أني أفي الصبابة واحد ... وأن كمال الدين في الجود واحد إلى غير ذلك. وكانت وفاته، على ماقاله ابن الجوزي في تاريخه، في جمادى الآخرة سنة تسع وسبعين، وقال غيره: سنة ثمانين وخمسمائة ببغداد، ودفن في باب أبرز محاذي التاجية، رحمه الله تعالى. والأبله: معروف فلا حاجة إلى ضبطه، وإنما قيل له أبله لأنه كان فيه طرف بله، وقيل لأنه كان في غاية الذكاء، وهو من أسماء الأضداد، كما قيل للأسود: كافور. وكان له ميل إلى بعض أبناء البغاددة، فعبر على باب داره فوجد خلوة، فكتب على الباب، قال العماد الكاتب: وأنشدنيهما: دارك يا بدر الدجى جنة ... بغيرها نفسي ما تلهو وقد روي في خبر أنه ... أكثر أهل الجنة البله ولابن التعاويذي المذكور بعده فيه هجاء أفحش فيه، فأضربت عن ذكره مع أنها أبيات جيدة، والله أعلم (1) .   (1) هنا تنتهي نسخة كوبريللي (ل) وقد جاء في آخرها: " آخر الجزء الثاني ولله الحمد والمنة ويتلوه في الثالث أبو الفتح محمد بن عبيد الله بن عبد الله الكاتب المعروف بابن التعاويذي إن شاء الله تعالى، وكتبه العبد الفقير إلى رحمة ربه الراجي عفوه ومغفرته احمد بن محمد بن حمدان الحراني الحنبلي، عامله الله بلطفه، وكان الفراغ منه يوم الأربعاء الثالث عشر من شعبان سنة إحدى وثلاثين وسبعمائة من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام والرحمة ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 465 680 - (1) ابن التعاويذي الشاعر أبو الفتح محمد بن عبيد الله (2) بن عبد الله الكاتب المعروف بابن التعاويذي، الشاعر المشهور؛ كان مولى لابن المظفر واسمه نشتكين، فسماه ولده المذكور عبيد الله، وهو سبط أبي محمد المبارك بن علي بن نصر السراج الجوهري الزاهد المعروف بابن التعاويذي (3) ، وإنما نسب إلى جده المذكور لأنه كفله صغيرا، ونشأ في حجره فنسب إليه. وكان أبو الفتح المذكور شاعر وقته، لم يكن فيه مثله، جمع شعره بين جزالة الأافاظ وعذوبتها ورقة المعاني ودقتها، وهو في غاية الحسن والحلاوة، وفيما أعتقد لم يكن قبله بمائتين سنة من يضاهيه، ولا يؤاخذني من يقف على هذا الفصل فإن ذلك يختلف بميل الطباع، ولله القائل: وللناس فيما يعشقون مذاهب ... وكان كاتبا بديوان المقاطعات ببغداد، وعمي في آخره عمره سنة تسع وسبعين، وله في عماه أشعار كثيرة يرثي بها ويندب زمان شبابه وتصرفه، وكان قد جمع ديوانه بنفسه قبل العمى، وعمل له خطبة طريفة، ورتبه أربعة فصول،   (1) ترجمته في الروضتين 2: 122 ومعجم الأدباء 18: 235 ونكت الهميان: 259 والوافي: 11 وعبر الذهبي 4: 253 والنجوم الزاهرة 6: 105 والشذرات 4: 281. (2) س: محمد بن محمد بن عبيد الله، وهو خطأ كما يتضح مما يلي. (3) زاد في ر ن: الملقب جمال الدين؛ وجاء في المختار " وكان يلقب بجمال الدين " بعد لفظة " صغيراً ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 466 وكل ما جدده بعد ذلك سماه " الزيادات " فلهذا يوجد ديوانه في بعض النسخ خاليا من الزيادات، وفي بعضها مكملا بالزيادات، ولما عمي كان باسمه راتب في الديوان، فالتمس أن ينقل باسم أولاده، فلما نقل كتب إلى الإمام لدين الله هذه الأبيات يسأله أن يحدد له راتبا مدة حياته، وهي (1) : خليفة الله أنت بالدين والدن ... يا وأمر الإسلام مضطلع أنت لما سنه الأئمة أع ... لام الهدى مقتنف ومتبع قد عدم العدم في زمانك وال ... جور معا والخلاف والبدع فالناس في الشرع والسياسة ... والإحسان والعدل كلهم شرع يا ملكا يردع الحوادث ... والأيام عن ظلمها فترتدع ومن له أنعم مكررة ... لنا مصيف منها ومرتبع أرضي قد أجدبت وليس لمن ... أجدب يوما سواك منتجع ولي عيال لا در درهم ... قد أكلوا دهرهم وما شبعوا (2) إذا رأوني ذا ثروة جلسوا ... حولي ومالوا إلي واجتمعوا وطالما قطعوا حبالي إع ... راضا إذا لم تكن معي قطع يمشون حولي شتى كأنهم ... عقارب كلما سعوا لسعوا فمنهم الطفل والمرهق والرضي ... ع يحبو والكهل واليفع لا قارح منهم أؤمل أن ... ينالني خبره ولا جذع لهم حلوق تفضي إلى معد ... تحمل في الأكل فوق ما تسع من كل رحب المعاء أجوف نا ... ري الحشا لا يمسه الشبع لا يحسن المضغ فهو ينزل (3) في ... فيه بلا كلفة ويبتلع   (1) ديوانه: 272. (2) بعده في الديوان: لو وسموني وسم العبيد وبا ... عوني بسوق الأعراب ما قنعوا (3) الديوان: يطرح؛ المختار: يترك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 467 ولي حديث يلهي ويعجب من ... يوسع لي خلقه فيسمع نقلت ريمي جهلا إلى ولد ... لست بهم ما حييت أنتفع نظرت في نفعهم وما أنا في اج ... تلاب نفع الاولاد مبتدع وقلت هذا بعدي يكون لكم ... فما أطاعوا أمري ولا سمعوا واختلسوه مني فما تركوا ... عيني عليه ولا يدي تقع فبئس والله ما صنعت فأض ... ررت بنفسي وبئس ما صنعوا فإن أردتم أمراً يزول به ال ... خصام من بيننا ويرتفع فاستأنفوا لي رسما أعود على ... ضنك معاشي به فيتسع وإن زعمتم أني أتيت بها ... خديعة فالكريم ينخدع حاشا لرسمي الكريم ينسخ من ... نسخ دواوينكم فينقطع فوقعوا لي بما سألت فقد ... أطعت نفسي واستحكم (1) الطمع ولا تطيلوا معي فلست ولو ... دفعتوني بالراح اندفع وحلفوني أن لا تعود يدي ... ترفع في نقله ولا تضع فما ألطف ما توصل به إلى بلوغ مقصوده بهذه الأبيات التي لو مرت بالجماد لاستمالته وعطفته، فأنعم عليه أمير المؤمنين بالراتب، فكان يصله بصلة من الخشكار الرديء، فطتب إلى فخر الدين صاحب المخزن أبياتا يشكو من ذلك أولها (2) : مولاي فخر الدين أنت إلى الندى ... عجل وغيرك محجم متباطي ومنها: حاشاك ترضى أن تكون جرايتي ... كجراية البواب والنفاط سوداء مثل الليل سعر قفيزها ... ما بين طسوج إلى قيراط   (1) ن: فاستحكم. (2) ديوانه: 487. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 468 أخنت علي الحادثات وأفرطت ... فيها الرداءة أيما إفراط قد كدرت حسي المضيء، وغيرت ... طبعي السليم، وعفنت أخلاطي فتول تدبيري فقد أنهيت ما ... أشكوه من مرضي إلى بقراط وكان وزير الديوان العزيز شرف الدين أبو جعفر أحمد بن محمد بن سعيد بن إبراهيم التميمي وزير الإمام المستنجد بالله المعروف بابن البلدي (1) ، وقد عزل أرباب الدواوين وحسبهم وحاسبهم وصادرهم وعاقبهم ونكل بهم، فعمل سبط ابن التعاويذي المذكور في ذلك قوله (2) : يا قاصدا بغداد حد (3) عن بلدة ... للجور فيها زخرة وعباب إن كنت طالب حاجة فارجع فقد ... سدت على الراجي بها الأبواب ليست، وما بعد الزمان، كعهدها ... أيام يعمر ربعها الطلاب ويحلها الرؤساء من ساداتها ... والجلة الأدباء والكتاب والدهر في أولى حداثته ولل ... أيام فيها نضرة وشباب والفضل في سوق الكرام يباع بال ... غالي من الأثمان، والآداب بادت وأهلوها معا، فبيوتهم ... ببقاء مولانا الوزير خراب وارتهم الأجداث أحياء تها ... ل جنادل من فوقهم وتراب فهم خلود في محابسهم يصب ... عليهم بعد العذاب عذاب لا يرتجى منها إيابهم، وهل ... يرجى لسكان القبور إياب والناس قد قامت قيامتهم، فلا ... أنساب بينهم ولا أسباب والمرء يسلمه أبوه وعرسه ... ويخونه القرباء والأحباب لا شافعاً تغني شفاعته، ولا ... جان له مما جناه متاب   (1) ت لي بر من: أبو جعفر ابن البلدي؛ مج س: أبو جعفر ابن البكري، وسقط سائر النسب من هذه النسخ. (2) ذلك: سقطت من ت س؛ وفي ن: في ذلك شعراً. وانظر ديوانه: 47. (3) ق ر مج بر من والديوان: جز. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 469 شهدوا معادهم فعاد مصدقا ... من كان قبل ببعثه يرتاب حشر وميزان وعرض جرائد ... وصائف منشورة وحساب وبها زبانية تبث على الورى ... وسلاسل ومقامع وعذاب (1) ما فاتهم من كل ما وعدوا به ... في الحشر إلا راحم وهاب وله في الوزير المذكور: يا رب أشكو إليك ضرا ... أنت على كشفه قدير أليس صرنا زمان ... فيه أبو جعفر وزير وذكر محب الدين المعروف بابن النجار فيتاريخ بغداد أن الإمام المستنجد بالله توفي يوم الاثنين ثامن شهر ربيع الآخر سنة وستين وخمسمائة وتولى بعده ولده المستضيء بأمر الله وجلس للمبايعة يوم الثلاثاء ثاني اليوم المذكور، فخرج أستاذ الدار عضد الدين (2) أبو الفرج المذكور عقيب هذا ومعه ابن السيبي فقال له: إن الخليفة قد تقدم أن يستوفي القصاص من هذان وأشار إلى الوزير، فأخذ وسحب وقطع أنفه ويده ورجلهن ثم ضربت رقبته، وجمع في ترس وألقي في دجلة، وكان هذا الوزير قد قطع أنف أم ابن السيبي (3) المذكور ويد أخيه ورجله في أيام ولايته، فاقتص منه في هذا اليوم، نعوذ بالله من سوء العاقبة (4) . وكتب سبط ابن التعاويذي إلى عضد الدين أبي الفرج محمد بن المظفر، وهو من ابناء مواليه يطلب منه شعيرا لفرسه، وهو الذي فعل بالوزير ابن البلدي (5) تلك الفعلة المذكورة قبل هذا (6) : مولاي يا من له أياد ... ليس إلى عدها سبيل   (1) سقط البيت من س لي ت مج وجاء آخراً في ر. (2) ر: عضد الدولة، وورد كلاهما في ق. (3) ق: ابن السبتي. (4) وذكر ... العاقبة: سقط من س لي ت بر من. (5) ق: ابن البكري. (6) ديوانه: 357. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 470 ومن إذا قلت العطايا ... فجوده وافر جزيل إليه إن جارت الليالي ... نأوي، وفي ظله نقيل إن كميتي العتيق سنا ... له حديث معي يطول (1) كان شرائي له فضولاً ... فأعجب لما يجلب الفضول ظننته حاملاً لرحلي ... فخاب ظني به الجميل ولم أخل للسقاء أني ... لثقل أعبائه حمول فإن أكن عاليا عليه ... فهو على كاهلي ثقيل أرجل (2) كالبوم ليس فيه ... خير كثير ولا قليل ليس له مخبر حميد ... ولا له منظر جميل وهو حرون وفيه بطء ... ولا جواد ولا ذلول لا كفل معجب لراء ... إذا رآه ولا تليل مقصرا إن مشى، ولكن ... إن حضر الاكل مستطيل يعجبه التبن والشعيرال ... مغسول والقت والقصيل إذا رأى عكرشا رأيت ... اللعاب من شدقه يسيل وليس فيه من المعاني ... شيء سوى أنه أكول فهب له اليوم ما تسنى ... وهبه من نعض ما تنيل ولا تقل إن ذا قليل ... فالجل في عينيه جليل وإنما أوردت هذه المقاطيع من شعره لكونها مستملحة. وأما قصائده المشتملة على النسيب والمدح فإنها في غاية الحسن، وصنف كتابا سماهالحجبة والحجاب يدخل في مقدار خمس عشرة كراسة، وأكال الكلام فيه، وهو قليل الوجود. وذكر العماد الأصبهاني في كتاب الخريدة أن ابن التعاويذي المذكور كان   (1) ر ق بر من والديوان: طويل. (2) ر ق والديوان: أرحل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 471 صاحب لما كان بالعراق، فلما انتقل العماد إلى الشام واتصل بخدمة السلطان صلاح الدين كتب إليهابن التعاويذي رسالة يطلب منه فروة، وذكر الرسالةن وهيوقد كلف مكارمه وإن لم يكن للجود عليها كلفة، وأتحفه بما وجهه إليه من أمله وهو لعمر الله تحفه، أهدى فروة دمشقية، سرية نقية، يلين لمسها، ويزين لبسها، ودباغتها نظيفة، وخياطتها لطيفة، طويلة كطوله، سابغة كأنعمه حالية كذكره، جميلة كفعله، واسعة كصدره، نقية كعرضه، رفيعة كقدره، موشية كنظمه ونثره، ظاهرها كظاهره، وباطنها كباطنه، يتجمل بها اللابس، وتتحلى بها المجالس، وهي لخادمه سربال، وله - حرس الله مجده - جمال، يشكره عليها من لم يلبسها، ويثني عليه من لم يتدرعها، تذهب خميلة وبرها، ويبقى حميد أثرها، ويخلق إهابها وجلدها، ويتجدد شكرها وحمدها، وقد نظم أبياتا ركب في نظمها الغرر، وأهدى بها التمر إلى هجر، إلا أنه قد عرض الطيب على عطاره، ووضع الثوب في يد بزازة، وأحل الثناء في محله، وجمع بين الفضل وأهله، وهي في حسنه وخفارة كرمه ثم ذكر القصيدة التي أولها (1) : بأبي من ذبت في الح ... ب له شوقا وصبوة وهي موجودة في ديوانه. وكتب العماد جواب القصيدة على هذا الروي أيضا، وهما طويلتان. وذكر العماد قبل ذكر الرسالة والقصيدة في حقه: هو شاب فيه فضل وآداب ورياسة وكياسة ومروة وأبوه وفتوة، جمعني وإياه صدق العقيدة في عقد الصداقة، وقد كملت فيه أسباب الظرف واللطف واللباقة؛ ثم أتى بالرسالة والقصيدة وجوابها، وهذه الرسالة لم أر مثلها في بابها، سوى ماسيأتي في ترجمة بهاء الدين ابن شداد - في حرف الياء إن شاء الله تعالى - فان ابن خروف المغربي كتب إليه رسالة بديعة يستجديه فروة يستجديه فروة قرظ (2) . وكانت ولادة ابن التاويذي المذكور في العاشر من رجب يوم الجمعة سنة تسع عشرة وخمسمائة. وتوفي في ثاني شوال سنة أربع، وقيل ثلاث   (1) ديوانه: 453. (2) ت: قرص، لي بر من: قرض؛ ن: قرط، وسقطت العبارة من مج. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 472 وثمانين وخمسمائة ببغداد، ودفن في باب أبرز، رحمه الله تعالى. وقال ابن النجارفي تاريخه: مولده يوم الجمعة، وتوفي يوم السبت ثامن عشر شوال. والتعاويذي: بفتح التاء المثناة من فوقها والعين المهملة وكسر الواو بعد الألف وبعدها ياء مثناة من تحتها ساكنة ثم ذال معجمة، هذه النسبة إلى كتبه التعاويذ وهي الحروز. (203) واشتهر بها أبو محمد المبارك بن المبارك بن السراج التعاويذي البغدادي الزاهد، المقدم ذكره في أول هذه الترجمة، وكان صالحا. ذكره ابن السمعاني في كتاب " الذيل " (1) وكتاب الأنساب وقال: لعل أباه كان يرقي ويكتب التعاويذ، وسمع منه ابن السمعاني المذكورن وقال: سألته عن مولده، فقال: ولدت في سنة ست وتسعين وأربعمائة بالكرخ. وتوفي في جمادى الأولى سنة ثىث وخمسين وخمسمائة، ودفن في جمادى الأولى سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة، ودفن بمقبرة الشوينزي، رحمه الله تعالى. وقال السمعاني: أنشدني أبو محمد المبارك المذكور لنفسه قوله: اجعل همومك واحدا ... وتخل عن كل الهموم فعساك أن تحظى بما ... يغنيك عن كل العلوم ثم قال، قال لي ابن التعاويذي: ما قلت من الشعر غير هذين البيتين. ونشتكين: بضم النون وسكون الشين المعجمة وكسر التاء المثناة من فوقها والكاف وبعدها النون وسكون الشين المعجمة وكسر التاء المثناة من فوقها والكاف وبعدها ياء مثناة من تحتها ساكنة ثم نون، وهو اسم أعجمي تسمى به المماليك، وقد تقدم في أول الترجمة أنه كان من مماليك أحد بني المظفر رئيس الرؤساء (2) ، وله فيهم مدائع بديعة، وأفراد مدائعهم في فصل من الفصول الأربعة المرتبة في ديوانه لكونهم مواليه، وكانوا يحسنون إليه، والله أعلم (3) .   (1) ق: المذيل. (2) مج ر بر من: ابن رئيس الرؤساء. (3) إلى هنا تنتهي نسخة لا له لي (لي) وفي آخرها أنها نجزت في أواخر سنة أربع وعشرين وسبعمائة؛ وهذه النسخة تمثل الجزء الثاني، والمفروض أن يليه الثالث وأوله ترجمة أبي الغنائم محمد بن علي ابن فارس ... المعروف بابن المعلم الواسطي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 473 (1) ابن المعلم الشاعر أبو الغنائم محمد بن علي بن فارس بن عبد الله بن الحسين بن القاسم، المعروف بابن المعلم الواسطي الهرئي، الملقب نجم الدين، الشاعر المشهور؛ كان شاعراً رقيق الشعر لطيف حاشية الطبع، يكاد شعره يذوب من رقته، وهو أحد من سار (2) شعره وانتشر ذكره ونبه بالشعر قدره وحسن به حاله وأمره وطال في نظم القريض عمره وساعده على قوله زمانه ودهره، وأكثر القول في الغزل والمدح وفنون المقاصد، وكان سهل الألفاظ صحيح المعاني يغلب على شعره وصف الشوق والحب وذكر الصبابة والغرام، فعلق بالقلوب ولطف مكانه عند أكثر الناس ومالوا إليه وحفظوه (3) وتداولوه بينهم واستشهد به الوعاظ واستحلاه السامعون. سمعت جماعة من مشايخ البطائح يقولون: ما سبب لطافة شعر ابن المعلم إلا أنه كان إذا نظم قصيدة حفظها الفقراء (4) المنتسبون إلى الشيخ أحمد بن الرفاعي - المقدم ذكره في حرف الهمزة (5) - وغنوا بها في سماعهم وطابوا عليها، فعادت عليه بركة أنفاسهم، ورأيتهم يعتقدون ذلك اعتقاداً لا شك (6) عندهم فيه، وبالجملة   (1) ترجمته في مرآة الزمان: 451 وذيل الروضتين: 9 والوافي 4: 165 وعبر الذهبي 4: 279 والشذرات 4: 310 والنجوم الزاهرة 6: 102. (2) بر: شاع. (3) ر بر: وتحفظوه. (4) ر والمختار: الشعراء. (5) انظر ج 1: 171. (6) بر من: اعتقاد من لا شك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 5 فشعره يشبه النوح، ولا يسمعه من عنده أدنى هوى إلا فتنه (1) وهاج غرامه. وكان بين ابن المعلم المذكور وبين ابن التعاويذي المذكور قبله تنافس، وهجاه ابن التعاويذي بأبيات جميلة أجاد فيها ولا حاجة إلى ذكرها (2) . ولابن المعلم قصيدة طويلة أولها: ردوا علي شوارد الأظعان ... ما الدار إن لم تغن من أوطاني منها: ولكم بذاك الجزع من متمنع ... هزأت معاطفه بغصن البان أبدى تلونه بأول موعدٍ ... فمن الوفي لنا بوعد ثاني فمتى اللقاء ودونه من قومه ... أبناء معركةٍ وأسد طعان نقلوا الرماح وما أظن أكفهم ... خلقت لغير ذوابل المران وتقلدوا بيض السيوف فما ترى ... في الحي غير مهندٍ وسنان ولئن صددت فمن مراقبة العدا ... ما الصد عن ملل ولا سلوان يا ساكني نعمان أين زماننا ... بطويلعٍ يا ساكني نعمان وله من أخرى (3) : كم قلت إياك العقيق فإنه ... ضريت جآذره بصيد أسوده وأردت صيد مها الحجاز فلم يسا ... عدك القضاء فرحت بعض صيوده وله من أخرى: أجيراننا إن الدموع التي جرت ... رخاصاً على أيدي النوى لغوالي أقيموا على الوادي ولو عمر ساعة ... كلوث إزار أو كحل عقال   (1) ر ق مج بر: افتتنه، وأثبتنا ما في بر والمختار. (2) ديوان ابن التعاويذي: 75. (3) سقط البيتان من بر ت س، وقد أوردهما المؤلف من قبل في ترجمة التهامي 3: 380 ونسبهما هنالك للتهامي، وهما ثابتان في ترجمة ابن المعلم في ((المختار)) أيضاً. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 6 فكم ثم لي من وقفة لو شريتها ... بنفسي لم أغب فكيف بمالي وله من أخرى: كيف يخفي سر الهوى المستهام ... هي حزوى وما الخيام الخيام ولئن كانت الخيام وما النا ... س بها الناس، فالغرام الغرام (1) وله من أخرى: قسماً بما ضمت عليه شفاههم ... من قرقف في لؤلؤٍ مكنون إن شارف الحادي العذيب لأقضين ... نحبي ومن لي أن تبر يميني لو لم يكن آثار ليلى والهوى ... بتلاعه ما رحت كالمجنون وكان سبب عمل هذه القصيدة أن ابن المعلم المذكور والأبله وابن التعاويذي المذكورين قبله لما وقفوا على قصيدة صردر - المقدم ذكره في حرف العين (2) - التي أولها (3) : أكذا يجارى ود كل قرين ... أم هذه شيم الظباء العين وهي من نخب القصائد " وسأذكرها في ترجمة عميد الملك محمد إن شاء الله تعالى " (4) أعجبتهم، فعمل ابن المعلم من وزنها هذه القصيدة وعمل ابن التعاويذي من وزنها قصيدة أبدع فيها، وأرسلها إلى السلطان صلاح الدين الأيوبي، رحمه الله تعالى، وهو بالشام يمدحه بها، وأولها: إن كان دينك في الصبابة ديني ... فقف المطي برملتي يبرين وعمل الأبله قصيدة أخرى، وأحسن الكل قصيدة ابن التعاويذي.   (1) زيادة من مج. (2) انظر ج 3: 385. (3) ديوان صردر: 53. (4) زيادة من ر ق. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 7 وحكي عن ابن المعلم المذكور أنه قال: كنت ببغداد، فاجتزت يوماً بالموضع الذي يجلس فيه أبو الفرج ابن الجوزي للوعظ، فرأيت الخلق مزدحمين، فسألت بعضهم عن سبب الزحام فقال: هذا ابن الجوزي الواعظ جالس، ولم أكن علمت بجلوسه، فزاحمت وتقدمت حتى شاهدته وسمعت كلامه وهو يعظ حتى قال مستشهداً على بعض إشاراته: ولقد أحسن ابن المعلم حيث يقول: يزداد في مسمعي تكرار ذكركم ... طيباً، ويحسن في عيني تكرره فعجبت من اتفاق حضوري واستشهاده بهذا البيت من شعري، ولم يعلم بحضوري لا هو ولا غيره من الحاضرين. وهذا البيت من جملة قصيدة له مشهورة. ولابن المعلم في أناء قصيدة أيضاً: يوهي قوي جليدي من لا أبوح به ... ويستبيح دمي من لا أسميه قسا فما في لساني ما يعاتبه ... ضعفاً، بلى في فؤادي ما يقاسيه وفي يوم وقعة الجمل على البصرة، قبل مباشرة الحرب، أرسل علي بن أبي طالب رضي الله عنه ابن عمه عبد الله بن العباس، رضي الله عنهما، إلى طلحة والزبير رضي الله عنهما برسالة يكفهما عن الشروع في القتال، ثم قال له: لا تلقين طلحة فإنك إن تلقه تجده كالثور عاقصاً أنفه يركب الصعب، ويقول: هو الذلول، ولكن الق الزبير، فإنه ألين عريكة منه، وقل له: يقول لك ابن خالك: عرفتني بالحجاز، وأنكرتني بالعراق، فما عدا مما بدا وعلي، رضي الله عنه، أول من نطق بهذه الكلمة، فأخذ ابن المعلم المذكور هذا الكلام وقال: منحوه بالجزع السلام وأعرضوا ... بالغور عنه، فما عدا مما بدا هذا البيت من جملة قصيدة طويلة. ورسالة علي نقلتها من كتاب " نهج البلاغة " (1) .   (1) وفي يوم وقعة ... البلاغة: لم يرد في بر من س ت مج. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 8 ولا حاجة إلى الإطالة فرائده مع شهرة ديوانه وكثرة وجوده بأيدي الناس. وكانت ولادته في ليلة سابع عشر جمادى الآخرة سنة إحدى وخمسمائة. وتوفي رابع رجب سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة بالهرث، رحمه الله تعالى. والهرث: بضم الهاء وسكون الراء وبعدها ثاء مثلثة، وهي قرية من أعمال جعفر، بينها وبين واسط نحو عشرة فراسخ، وكانت وطنه ومسكنه إلى أن توفي بها، رحمه الله تعالى. 682 - (1) البحراني الشاعر أبو عبد الله محمد بن يوسف بن محمد بن قائد، الملقب موفق الدين الإربلي أصلاً ومنشأ البحراني مولداً الشاعر المشهور؛ كان غماماً مقدماً في علم العربية، مفننا (2) في أنواع الشعر، ومن اعلم الناس بالعروض والقوافي وأحذقهم بنقد الشعر وأعرفهم بجيده من رديئه وأدقهم نظراً في اختياره. واشتغل بشيء من علوم الأوائل، وحل كتاب إقليدس (3) ، وبدأ ينظم الشعر وهو صبي صغير بالبحرين جرياً على عادة العرب قبل أن ينظر في الأدب. وهو شيخ أبي البركات ابن المستوفي صاحب " تاريخ إربل " - المقدم ذكره (4) - وعليه اشتغل بعلوم الشعر وبه تخرج، وقد ذكره في تاريخه وعدد فضائله، وقال: كان شيخنا أبو الحرم مكي الماكسيني (5) ، النحوي - وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى -   (1) لم ترد ترجمته في القطعة التي بقيت من تاريخ ابن المستوفي. (2) ر ن من: متفنناً. (3) س ت بر من: أوقليدس. (4) ج 4: 147. (5) ت س مج بر من: الماكساني. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 9 يراجعه كثير من المسائل المشكلة في النحو وكان يرجع إليه في أجوبة ما يورد عليه. وكان قد رحل إلى شهرزور وأقام بها مدة، ثم رحل إلى دمشق ومدح السلطان صلاح الدين، رحمه الله تعالى، بقصيدة طويلة، وله ديوان شعر جيد ورسائل حسنة، وكان في الشعر في طبقة معاصريه ممن تقدم ذكرهم. ومن شعره قصيدة يمدح بها زين الدين أبا المظفر يوسف بن زين الدين صاحب إربل - وقد تقدم ذكره في ترجمة أخيه مظفر الدين في حرف الكاف (1) -: رب دار بالغضا طال بلاها ... عكف الركب عليها فبكاها درست إلا بقايا أسطر ... سمح الدهر بها ثم محاها كان لي فيها زمان وانقضى ... فسقى الله زماني وسقاها وقفت فيها الغوادي وقفةً ... ألصقت حر ثراها بحشاها (2) وبكت أطلالها نائبةً ... عن جفوني، أحسن الله جزاها قل لجيران مواثيقهم ... كلما أحكمتها رثت قواها كنت مشغوفاً بكم إذا كنتم ... شجراً لا يبلغ الطير ذراها لا تبيت الليل إلا حولها ... حرس ترشح بالموت ظباها وإذا مدت إلى أغصانها ... كف جان قطعت دون جناها فتراخى الأمر حتى أصبحت ... هملاً يطمع فيها من رآها (3) تخصب الأرض فلا أقربها ... رائداً إلا إذا عز حماها لا يراني الله أرعى روضةً ... سهلة الأكناف من شاء رعاها وإذا ما طمع أغرى بكم ... عرض اليأس لنفسي فثناها فصبابات الهوى أولها ... طمع النفس وهذا منتهاها لا تظنوا لي إليكم رجعةً ... كشف التجريب عن عيني عماها   (1) ج 4: 113. (2) المختار وبعض النسخ: الغوافي؛ ووقع البيت ثالثاً في ت س مج. (3) بهامش س: يراها، وكذلك في ق بر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 10 إن زين الدين أولاني يداً ... لم تدع لي رغبة فيما سواها وهي طويلة أجاد في مدحها (1) . وكان أبوه من أهل إربل وصنعته التجارة، وكان يتردد من إربل إلى البحرين ويقيم بها مدة لتحصيل اللآلئ من المغاصات أسوة التجار، فاتفق أن ولد له هناك الموفق أبو عبد الله المذكور، ثم انتقل إلى إربل فنسب إلى البحرين لهذا السبب (2) . وله معنى مليح في غلام اسمه السهم وقد التحى: قالوا التحى السهم قلت حصن ... حشاك فالآن لا يطيش فالسهم لا ينفذ الرمايا ... إلا إذا كان فيه ريش وتوفي ليلة الأحد ثالث شهر ربيع الآخر (3) سنة خمس وثمانين وخمسمائة بإربل، ودفن بمقبرة أهله قبلي البست، رحمه الله تعالى. قال المطرزي في كتاب " المغرب ": البست كلمة فارسية وهو مفتح الماء في فم النهر (4) . والبحراني: بفتح الباء الموحدة وسكون الحاء المهملة وفتح الراء وبع الألف نون، هذه النسبة إلى البحرين المقدم ذكرها، وهي بليدة بالقرب من هجر، قال الأزهري: وإنما سميت البحرين لأن في ناحية قراها بحيرة على باب الأحساء وقرى، هجر بينها وبين البحر الأخضر عشرة فراسخ، وقدرت البحيرة ثلاثة أميال في مثلها، ولا يغيض ماؤها، وهو راكد زعاق. وحدث أبو عبيد عن أبي محمد اليزيدي قال: سألني المهدي وسأل الكسائي عن النسبة إلى البحرين وعن الحصين، لم قالوا: حصني، وبحراني فقال الكسائي: كرهوا أن يقولوا   (1) ن: أجاد فيها؛ بر من: فيها وفي مدحها. (2) زاد في مج س ت: وتردد إلى البلاد ورحل في آخر عمره إلى الموصل، وتوفي بها ليلة الأحد ... الخ، وقد سقط البيتان التاليان من النسخ المذكورة ومن بر من. (3) ت: الأول. (4) قال المطرزي ... النهر: زيادة من ن ر ق؛ وانظر المغرب 1: 37. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 11 حصناني لاجتماع النونين، قال: وقلت أنا: كرهوا أن يقولوا بحري فتشبه النسبة إلى البحر. والبست: بفتح الباء الموحدة وسكون السين المهملة وبعدها تاء مثناة من فوقها، واد عريض في وسط إربل تجري فيه مياه السيول في الشتاء والربيع وفيه شيء كثير من الحجارة الصغار، والله أعلم. 683 - (1) أبو شجاع الفرضي أبو شجاع محمد بن علي بن شعيب، المعروف بابن الدهان، الملقب فخر الدين، البغدادي الفرضي الحاسب الأديب؛ هو من أعل بغداد، وانتقل إلى الموصل وصحب جمال الدين الأصبهاني الوزير بها، ثم تحول إلى خدمة السلطان سلاح الدين فولاه ديوان ميافارقين، فلم يمش له بها حال مع واليها، فدخل (2) إلى دمشق فاجري له بها رزق لم يكن كافياً وكان يزجي به الوقت، ثم ارتحل إلى مصر في سنة ست وثمانين وخمسمائة ثم عاد منها إلي دمشق وجعلها دار إقامة. وله أوضاع الجداول في الفرائض وغيرها، وصنف " غريب الحديث " في ستة عشر مجلداً لطافاً، ورمز فيه حروفاً يستدل بها على أماكن الكلمات المطلوبة منه، وكان قلمه أبلغ من لسانه، وجمع تاريخاً وغير ذلك. وذكره أبو البركات ابن المستوفي في " تاريخ إربل " وعده في زمرة الوافدين عليها، وقال في حقه: عالم فاضل متفنن (3) ، وله شعر جيد، وذكر الأبيات التي   (1) ترجمته في ذيل الروضتين: 9 والوافي 4: 164 والنجوم الزاهرة 6: 136، 139 وعبر الذهبي 4: 274 والشذرات 4: 304 وبغية الوعاة: 76 واقتصر من هذه الترجمة في المختار على ثلاثة أبيات من شعره. (2) ن: فرحل. (3) بر من: متقن. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 12 مدح بها تاج الدين أبا اليمن زيد بن الحسن الكندي، وقد ذكرتها في ترجمة الكندي (1) . وذكره أيضاً العماد الكاتب في " الخريدة " (2) وأثنى عليه، وأورد له مقاطيع أحسن فيها، فمن ذلك قوله في ابن الدهان المعروف بالناصح أبي محمد سعيد بن المبارك النحوي وقد سبق ذكره (3) وكان مخلاً بإحدى عينيه: لا يبعد الدهان إن ابنه ... أدهن منه بطريقين في عجب البحر (4) فحدث به ... بفرد عينٍ وبوجهين ومنه ما كتبه إلى بعض الرؤساء وقد عوفي من مرضه: نذر الناس يوم برئك صوماً ... غير أني نذرت وحدي فطرا عالماً أن يوم برئك عيدٌ ... لا أرى صومه ولو كان نذرا وله غير ذلك أناشيد حسان. وكانت له اليد الطولى في النجوم وحل الأزياج. وتوفي في صفر سنة تسعين وخمسمائة بالحلة السيفية، وكان سبب موته أنه حج من دمشق وعاد على طريق العراق، ولما وصل إلى الحلة عثر جمله هناك فأصاب وجهه بعض خشب المحمل فمات لوقته. وكان شيخاً دميم الخلقة مسنون الوجه مسترسل اللحية خفيفها، أبيض تعلوه صفر، رحمه الله تعالى. وقيل إنه كان يلقب برهان الدين، والله أعلم أي ذلك كان. وقد تقدم الكلام على الحلة فلا حاجة إلى إعادته.   (1) انظر ما تقدم 2: 341. (2) الخريدة (قسم العراق) 2: 312. (3) ج 2: 382. (4) بر من: من عجب الدهر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 13 (1) 684 ابن عنين الشاعر أبو المحاسن محمد بن نصر (2) بن الحسين بن عنين الأنصاري، الملقب شرف الدين، الكوفي الأصل الدمشقي المولد الشاعر المشهور؛ كان خاتمة الشعراء لم يأت بعده مثله، ولا كان في أواخر عصره من يقاس به، ولم يكن شعره مع جودته مقصوراً على أسلوب واحد بل تفنن فيه، وكان غزير المادة من الأدب مطلعاً على معظم أشعار العرب، وبلغني أنه كان يستحضر نقل (3) كتاب " الجمهرة " لابن دريد في اللغة، وكان مولعاً بالهجاء وثلب أعراض الناس، وله قصيدة طويلة جمع فيها خلقاً من رؤساء دمشق (4) سماها " مقراض الأعراض ". وكان السلطان صلاح الدين، رحمه الله تعالى، قد نفاه من دمشق بسبب وقوعه في الناس، فلما خرج عمل (5) : فعلام أبعدتم أخا ثقة ... لم يجترم (6) ذنباً ولا سرقا انفوا المؤذن من بلادكم (7) ... إن كان ينفى كل من صدقا وطاف البلاد من الشام والعراق والجزيرة (8) وأذربيجان وخراسان وغزنة   (1) انظر مقدمة ديوانه، ففيها إشارات إلى أهم مصادر ترجمته، وراجع البدر السافر، الورقة: 170. (2) ن ق: محمد بن نصر الله. (3) نقل: سقطت من ق بر من. (4) بر من: مصر. (5) زاد في المختار: عمل هذين البيتين وأنفذهما إلى بعض أصحابه بها وهما، وانظر ديوانه: 94. (6) بر من: يقترف. (7) ر: دياركم. (8) ت س مج: والشرق، وبهامش س: خ: والجزيرة؛ وسقطت اللفظة من المختار. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 14 وخوارزم ما وراء النهر، ثم دخل الهند واليمين وملكها يومئذ سيف الإسلام طغتكين بن أيوب أخو السلطان صلاح الدين، رحمه الله تعالى - المذكور في حرف الطاء (1) - وأقام بها مدة، ثم رجع إلى الحجاز والديار المصرية، وعاد إلى دمشق، وكان يتردد منها إلى البلاد ويعود إليها. ولقد رأيته بمدينة إربل في سنة ثلاث وعشرين وستمائة ولم آخذ عنه شيئاً، وكان قد وصل إليها رسولاً عن الملم المعظم شرف الدين عيسى بن الملك العادل صاحب دمشق، وأقام بها قليلاً، ثم سافر وكتب من بلاد الهند إلى أخيه وهو بدمشق هذين البيتين، والثاني منهما لأبي العلاء المعري استعمله مضمناً فكان أحق بها، وهما (2) : سامحت كتبك في القطيعة عالماً ... أن الصحيفة لم تجد من حامل " وعذرت طيفك في الجفاء أنه ... يسري فيصبح دوننا بمراحل " (3) لله دره فما أحسن ما وقع له هذا التضمين. وقد كرر هذا المعنى في مواضع من شعره: فمن ذلك قوله من جملة قصيدة طويلة (4) : ألا يا نسيم الريح من تل راهط ... وروض الحمى، كيف اهتديت إلى الهند وقوله من أبيات وهو في عدن اليمن: أأحبابنا لا أسأل الطيف زورة ... وهيهات، أن أين الديلميات من عدن الديلميات وتل راهط والحمى: أسماء مواضع من ضواحي دمشق، والبيت الذي للمعري قبله (5) : وسألت كم بين العقيق إلى الحمى ... فعجبت من بعد المدى المتطاول   (1) ج 2: 523. (2) ديوانه: 86. (3) علق صاحب المختار بعد هذا بقوله: ((قلت أعني كاتبها موسى بن أحمد لطف الله به: كونه لم ينه على أنه مضمن عيب عند أهل الأدب، والله أعلم)) . (4) ديوانه: 73. (5) شروح السقط: 734. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 15 والمعري أخذا هذا المعنى من دعبل بن علي الخزاعي الشاعر - المقدم ذكره (1) - فإنه كان قد هجا الخليفة المعتصم بالله بن هارون الرشيد، فطلبه، فهرب من العراق إلى الديار المصرية وسكن بأسوان (2) في آخر بلادها، وقال في ذلك (3) : وإن امرءاً أضحت مطارح سهمه ... بأسوان لم يترك من الحزم معلما حللت محلاً يحسر الطرف دونه ... ويعجز عنه الطيف أن يتجشما وقد خرجنا عن المقصود ولكن ساق الكلام بعضه بعضا (4) ً. ولما مات السلطان صلاح الدين ومللك الملك العادل دمشق كان غائباً في السفرة التي نفي فيها، فسار متوجهاً إلى دمشق، وكتب إلى الملك العادل قصيدته الرائية يستأذنه في الدخول إليها ويصف دمشق ويذكر ما قاساه في الغربة، ولقد أحسن فيها كل الإحسان واستعطفه أبلغ استعطاف (5) ، وأولها (6) : ماذا على طيف الأحبة لو سرى ... وعليهم لو سامحوني بالكرى ووصف في أوائلها دمشق وبساتينها وأنهارها ومستلزماتها (7) ، ولما فرغ من وصف دمشق قال مشيراً إلى النفي منها: فارقها لا عن رضاً، وهجرتها ... لا عن قلى، ورحلت لا متخيرا أسعى لرزق في البلاد مشتتٍ ... ومن العجائب أن يكون مقترا وأصون وجه مدائحي متقنعاً ... وأكف ذيل مطامعي متسترا   (1) ج 2: 266. (2) زيادة من المختار. (3) ديوان دعبل: 139. (4) وقد كرر ... بعضاً: سقط من بر ت س من. (5) من ر ق بر: الاستعطاف. (6) ديوانه: 3. (7) بر: وموضع مستنزهاتها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 16 ومنا يشكو الغربة وما قاساه فيها: أشكو إليك نوى تمادي عمرها ... حتى حسبت اليوم منها أشهرا لا عيشتي تصفو، ولا رسم الهوى ... يعفو، ولا جفني يصافحه الكرى أضحي عن الأحوى المريع محلاً (1) ... وأبيت عن ورد النمير منفرا ومن العجائب أن يقبل ظلكم (2) ... كل الورى، ونبذت وحدي بالعرا وهذه القصيدة من أحسن الشعر، وعندي هي خير من قصيدة أبي بكر ابن عمار الأندلسي التي أولها - وهي على وزنها ورويها وقد تقدم ذكر شيء منها في ترجمته -: أدِرِ الزجاجة فالنسيم قد انبرى ... فلما وقف عليه الملك العادل أذن له في الدخول إلى دمشق، فلما دخلها قال (3) : هجوت الأكابر في جلقٍ ... ورعت الوضيع بسب الرفيع وأخرجت منها ولكني ... رجعت على رغم أنف الجميع وكان له في عمل الألغاز وحلا اليد الطولى، فمن كتب إليه بشيء منها حله في وقته وكتب الجواب أحسن من السؤال (4) نظماً. ولم يكن له غرض في جمع شعره، فلذلك لم يدونه، فهو يوجد مقاطيع في أيدي الناس، وقد جمع له بعض أهل دمشق ديواناً صغيراً لا يبلغ عشر ما له من النظم، ومع هذا ففيه أشياء ليست له. وكان من أظرف الناس وأخفهم روحاً وأحسنهم مجوناً، وله بيت عجيب من جملة قصيدة يذكر فيها أسفاره ويصف توجهه إلى جهة الشرق، وهو (5) :   (1) ق ن: محولا، ر: محللا. (2) ق: يقيل بظلكم. (3) ديوانه: 94. (4) ر: أحسن ما يكون. (5) ر: وهو قوله، انظر ديوانه: 29. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 17 أشفق قلب الشرق حتى كأنني ... أفتش في سودائه عن سنا الفجر وبالجملة فمحاسن شعره كثيرة. وكنت قد رأيته في المنام في بعض شهور سنة تسع وأربعين وستمائة، وأنا يوم ذاك بالقاهرة المحروسة، وفي يده ورقة حمراء، وهي عريضة، وفيها مقدار خمسة عشر بيتاً تقريباً، وهو يقول: عملت هذه الأبيات في الملك المظفر صاحب حماة، وكان الملك المظفر في ذلك الوقت ميتاً أيضاً، وكان في المجلس جماعة حاضرون، فقرأ علينا الأبيات، فأعجبني منها بيت فرددته في النوم، واستيقظت من المنام وقد علق بخاطري، وهو: والبيت لا يحسن (1) إنشاده ... إلا إذا أحسن من شاده وهذا البيت غير موجود في شعره. وقد تقدم ذكره في ترجمة الإمام فخر الدين الرازي وأبياته الفائية وكذلك في ترجمة سيف الإسلام. وكان وافر الحرمة عند الملوك، وتولى الوزارة بدمشق في آخر دولة الملك المعظم ومدة ولاية الملك الناصر ابن المعظم، وانفصل عنها لما ملكها الملك الأشرف وأقام في بيته، ولم يباشر بعدها خدمة. وكانت ولادته بدمشق يوم الاثنين تاسع شعبان سنة تسع وأربعين وخمسمائة، وتوفي عشية نهار الاثنين لعشرين من شهر ربيع الأول سنة ثلاثين وستمائة بدمشق أيضاً، ودفن من الغد بمسجده الذي أنشأه بأرض المزة، وهي - بكسر الميم وتشديد الزاء - قرية على باب دمشق، رحمه الله تعالى. قال ابن الدبيثي: سمعته يقول: إن أصلنا من الكوفة من موضع يعرف بمسجد بني النجار، ونحن من الأنصار؛ قلت: هكذا نقلته أولاً، ثم إني زرت قبر بلال مؤذن سول الله صلى الله عليه وسلم بمقابر باب الصغير ظاهر دمشق، فلما خرجت من تربته وجدت على الباب قبراً كبيراً فقيل لي: هذا قبر ابن عنين، فوقفت وترحمت عليه.   (1) ق: يصلح. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 18 وعنين: بضم العين المهملة وفتح النون وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها نون، والله أعلم. (1) 685 القائم ابن المهدي أبو القاسم محمد، ويدعى نزار، ابن المهدي أبي محمد عبيد الله القائم بالمغرب، كان أبو القاسم المذكور يلقب بالقائم - وقد تقدم ذكر والده المهدي في حرف العين وذكر ولده المنصور إسماعيل في حرف الهمزة (2) - وكان أبوه المهدي قد بايع بولاية العهد في حياته بإفريقية وما معها، وكانت الكتب تكتب باسمه، والمظلة تحمل على رأسه، ولما توفي أبوه في التاريخ المذكور في ترجمته جددت له البيعة. وكان جهزه أبوه إلى مصر ليأخذها مرتين: المرة الأولى في الثامن عشر من ذي الحجة سنة إحدى وثلثمائة، فوصل إلى الإسكندرية وملكها (3) والفيوم، وصار في يده أكثر خراج مصر، وضيق على أهلها، والمرة الثانية وصل إلى الإسكندرية في شهر ربيع الأول من سنة سبع وثلثمائة في عسكر عظيم، فخرج عامل الإمام المقتدر عنها ودخلها القائم المذكور، ثم خرج إلى الجيزة في خلق عظيم ووردت الأخبار بذلك إلى بغداد، فجهز المقتدر مؤنساً الخادم إلى محاربته بالرجال والأموال، فجد في السير، فلما وصل إلى مصر كان القائم قد ملك الجيزة والأشمونين وأكثر بلاد الصعيد، فتلاقيا، وجرت (4) بين العسكرين   (1) أخباره في تاريخ ابن الأثير (ج: 8) والبيان المغرب (ج: 1) وأعمال الأعلام 3: 53 والدرة المضية: 110 واتعاظ الحنفا ورسالة افتتاح الدعوة وعيون الأخبار للداعي إسماعيل وغير ذلك؛ وسقطت هذه الترجمة من المختار. (2) انظر ج 3: 117، ج 1: 234. (3) ر: وتملكها؛ ق: فملكها. (4) ن ر ق: وجرى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 19 حروب لا توصف، ووقع عسكر القائم الوباء والغلاء فمات الناس والخيل، فرجع إلى إفريقية وتبعه عسكر مصر إلى أن تباعد عنهم (1) ، وكان وصوله إلى المهدية يوم الثلاثاء الثالث من رجب من السنة المذكورة، وفي أيامه خرج أبو يزيد مخلد بن كيداد (2) الخارجي - وقد تقدم ذكره وما جرى له وكيف مات في الأسر في ترجمة المنصور - والشرح في ذلك يطول. وكانت ولادة القائم بمدينة سليمة - المذكورة في ترجمة والده المهدي - في المحرم سنة ثمانين، وقيل سنة اثنتين وثمانين، وقيل سبع وسبعين ومائتين، واستصحبه والده معه عند توجهه إلى بلاد المغرب؛ وتوفي يوم الأحد ثالث عشر شوال سنة أربع وثلاثين وثلثمائة، رحمه الله تعالى بالمهدية وأبو يزيد الخارجي محاصر له، فقام بالأمر ولد المنصور إسماعيل، وكتم خبر موته خوفاً من الخارجي أن يطلع عليه فيطمع فيه، وكان بالقرب منه على مدينة سوسة، فأبقى الأمور على حالها وأكثر من العطايا والصلات ولم يتسم بالخليفة، وكانت كتبه تنفذ من الأمير إسماعيل ولي عهد المسلمين، والله أعلم.   (1) بدله في مج: فلقيه بالفيوم فهزمه وقتل عسكره وقيل أن عدد القتلى كان خمسين ألفاً، والأرض التي كانت الوقعة فيها تعرف إلى الآن بأرض الخمسين، فرجع إلى إفريقية وتبعه عسكر مصر إلى أن تباعد عنهم. (2) بر من: كنداد؛ ر: كيدان؛ ن: كندار. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 20 (1) 686 المعتمد بن عباد ملك الأندلس وأبوه وجده المعتمد على الله أبو القاسم محمد بن المعتضد بالله أبي عمرو عباد بن الظافر المؤيد بالله أبي القاسم محمد قاضي إشبيلية بن أبي الوليد إسماعيل بن قريش بن عباد بن عمرو بن أسلم بن عمرو بن عطاف بن نعيم، اللخمي من ولد النعمان بن المنذر اللخمي آخر (2) ملوك الحيرة؛ كان المعتمد المذكور صاحب قرطبة وإشبيلية وما والاهما من جزيرة الأندلس وفيه وفي أبيه المعتضد يقول بعض لشعراء (3) : من بني المنذرين وهو انتساب ... زاد في فخره بنو عباد فتية لم تلد سواها المعالي ... والمعاني قليلة الأولاد وكان بدء أمرهم في بلاد الأندلس أن نعيماً وابنه عطافاً أول من دخل إليها من بلاد المشرق، وهما من أهل العريش، المدينة القديمة الفاضلة بين الشام والديار المصرية في أول الرمل من جهة الشام، وأقاما بها مستوطنين بقرية بقرب يومين (4) من إقليم طشانة (5) من أرض اشبيلية.   (1) ترجمته في الذخيرة (القسم الثالث) : 14 والمعجب: 158 والقلائد: 40 والحلة السيراء 2: 52 وأعمال الأعلام: 157 والبيان المغرب 3: 257 والوافي 3: 183 والشذرات 3: 286 وعبر الذهبي 3: 321 ونفح الطيب (صفحات متفرقة) وقد جمع دوزي كثيراً مما ورد في المصادر في مجموع سماه ((تاريخ بني عباد Historia Abbadidorum)) (ليدن: 1846) . (2) ن ر ق: أحد. (3) نسب ابن الأبار هذين البيتين لابن اللبانة (الحلة 2: 35) . (4) يرجح دوزي أن هناك قرية تسمى Toriomina وأن اسمها الكامل بالعربية طور يومين؛ وفي بعض النسخ: تومين، وفي مج غير معجمة. (5) طشانة Tocina لا تزال معروفة بمنطقة اشبيلية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 21 (204) وامتد لعطاف عمود النسب في الولد إلى الظافر محمد بن إسماعيل القاضي، فهو أول من نبغ منهم في تلك البلاد وتقدم بإشبيلية إلى أن ولي القضاء بها فأحسن السياسة مع الرعية والملاطفة بهم، فرمقته القلوب، وكان يحيى بن علي بن حمود الحسني المنعوت (1) بالمعتلي صاحب قرطبة، وكان مذموم السيرة، فتوجه إلى إشبيلية محاصراً لها، فلما نزل عليها اجتمع رؤساء إشبيلية وأعيانها وأتوا القاضي محمداً المذكور وقالوا له: أما ترى ما حل بنا من هذا الظالم وما أفسد من أموال الناس فقم بنا نخرج إليه ونملكك ونجعل الأمر إليك، ففعل، ووثبوا على يحيى، فركب إليهم وهو سكران فقتل. وتم له الأمر ثم ملك بعد ذلك قرطبة وغيرها من البلاد. وقصته مشهورة مع الذي زعم أنه هشام بن الحكم آخر ملوك بني أمية بالأندلس الذي كان المنصور بن أبي عامر قد استولى عليه وحجبه عن الناس، وكان يصدر الأمور عن إشارته، ولا يمنه من التصرف، ليس له سوى الاسم والخطبة على المنابر، فإنه كان قد انقطع خبره مدة نيف وعشرين سنة، وجرت أحوال مختلفة في هذه المدة، ثم قيل للقاضي محمد المذكور بعد تملكه واستيلائه على البلاد: إن هشام بن الحكم في مسجد بقلعة رباح، فأرسل إليه من أحضره، وفوض الأمر إليه، وجعل نفسه كالوزير بين يديه، وهذه الواقعة يقول الحافظ أبو محمد بن حزم الظاهري في كتاب " نقط العروس ": أخلوقة لم يقع في الدهر مثلها فإنه ظهر رجل يقال له خلف الحصري (2) بعد نيف وعشرين سنة من موت هشام بن الحكم المنعوت بالمؤيد وادعى أنه هشام، فبويع وخطب له على جميع منابر الأندلس في أوقات شتى، وسفك الدماء وتصادمت الجيوش في أمره، وأقام المدعي أنه هشام نيفاً وعشرين سنة، والقاضي محمد بن إسماعيل في رتبة الوزير بين يديه، والأمر إليه، ولم يزل الأمر كذلك إلى أن توفي المدعو هشاماً، فاستبد القاضي محمد بالأمر بعده. وكان من أهل العلم والأدب والمعرفة التامة بتدبير الدول، ولم يزل ملكاً مستقلاً إلى أن توفي ليلة الأحد لليلة بقيت من جمادى   (1) ن ر ق: المعروف. (2) ق ر ن: الخضري. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 22 الأولى سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة؛ وقيل إنه عاش إلى قريب الخمسين وأربعمائة ودفن بقصر إشبيلية، واختلفوا أيضاً في مبدإ استلائه: فقيل سنة أربع عشرة وأربعمائة، وهو الذي ذكره العماد الكاتب في " الخريدة "، وقيل أربع وعشرين، والله أعلم بالصواب في ذلك كله. (205) ولما مات محمد القاضي قام مقامه ولده المعتضد بالله أبو عمرو عباد، قال أبو الحسن علي بن بسام صاحب كتاب " الذخيرة " في حقه: ثم أفضى الأمر إلى عباد سنة ثلاث وثلاثين، وتسمى أولاً بفخر الدولة ثم بالمعتضد، قطب رحى الفتنة، ومنتهى غاية المحنة، من رجل لم يثبت له قائم ولا حصيد، ولا سلم منه قريب ولا بعيد، جبار أبرم الأمر وهو متناقض، وأسد فرس الطلا وهو رابض، متهور تتحاماه الدهاة، وجبان لا تأمنه الكماة، متعسف اهتدى، ومنبت قطع ما أبقى، ثار والناس حرب وضبط شأنه بين قائم وقاعد، حتى طالت يده واتسع بلده وكثر عديده وعدده، وكان قد أوتي أيضاً من جمال الصورة وتمام الخلقة وفخامة الهيئة وسباطة البنان وثقوب الذهن وحضور الخاطر وصدق الحس، ما فاق على نظرائه، ونظر مع ذلك في الأدب قبل ميل الهوى به إلى طلب السلطان أدنى نظر بأزكى طبع حصل منه لثقوب ذهنه على قطعة وافرة علقها من غير تعمد لها ولا إمعان في غمارها ولا إكثار من مطالعتها ولا منافسة في اقتناء صحائفها، أعطته سجية على ذلك ما شاء من تحبير الكلام وقرض قطع من الشعر ذات طلاوة في معان أمدته فيها الطبيعة، وبلغ فيها الإرادة، واكتتبها الأدباء للبراعة، جمع هذه الخلال الظاهرة إلى جود كف باري السحاب بها. وأخبار المعتضد في جميع أفعاله وضروب أنحائه غريبة بديعة. وكان ذا كلف بالنساء فاستوسع في اتخاذهن وخلط في جنوسهن، فانتهى في ذلك إلى مدى لم يبلغه أحد من نظرائه، ففشا نسله لتوسعه في النكاح وقوته عليه، فذكر أنه كان له من الولد نحو العشرين ذكوراً، ومن الإناث مثلهم. وأورد له عدة مقاطيع، فمن ذلك قوله: شربنا وجفن الليل يغسل كحله ... بماء صباحٍ والنسيم رقيق معتقة كالتبر أما نجارها ... فضخم وأما جسمها فدقيق الجزء: 5 ¦ الصفحة: 23 - وقد تقدم في ترجمة أبي بكر محمد بن عمار الأندلسي ذكر شيء من قصيدتيه اللتين مدح المعتضد المذكور بهما: إحداهما رائية والأخرى ميمية (1) -. ولولده المعتمد فيه من جملة أبيات: سميدع يهب الآلاف مبتدئاً ... ويستقل عطاياه ويعتذر له يد كل جبارٍ يقبلها ... لولا نداها لقلنا إنها الحجر ولم يزل في غز سلطانه واغتنام مساره، حتى أصابته علة الذبحة، فلم تطل مدتها، ولما أحس بتداني حمامه استدعى مغنياً يغنيه ليجعل ما يبدأ به فألاً فأول ما غنى: نطوي الليالي علماً أن ستطوينا ... فشعشعيها بماء المزن واستقينا فتطير من ذلك ولم يعش بعده سوى خمسة أيام وقيل إنه ما غنى منها إلا بخمسة أبيات (2) وتوفي يوم الاثنين غرة جمادى الآخرة سنة إحدى وستين وأربعمائة، ودفن ثاني يوم بمدينة إشبيلية، رحمه الله تعالى. وقام بالمملكة بعده ولده المعتمد على الله أبو القاسم محمد. قال أبو الحسن علي بن القطاع السعدي - المقدم ذكره (3) - في كتاب " لمح الملح " في حق المعتمد المذكور (4) : أندى (5) ملوك الأندلس راحة، وأرحبهم ساحة، وأعظمهم ثماداً، وأرفعهم عماداً، ولذلك كانت حضرته ملقى الرحال، وموسم الشعراء، وقبلة الآمال ومألف الفضلاء، حتى إنه لم يجتمع بباب أحد من ملوك عصره من أعيان الشعراء وأفاضل الأدباء ما كان يجتمع ببابه، وتشتمل عليه حاشيتا جنابه.   (1) انظر 4: 426 - 427. (2) لم يرد في النسخ الخطية. (3) ج 3: 322. (4) انظر النفح 4: 372. (5) ر ن: هو أسمح. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 24 وقال ابن بسام في " الذخيرة ": وللمعتمد بن عباد شعر كما انشق الكمام عن الزهر، لو صدر (1) مثله عمن جعل الشعر صناعة واتخذه بضاعة، لكان رائقاً معجباً ونادراً مستغرباً، فمن ذلك قوله (2) : أكثرت هجرك غير أنك ربما ... عطفتك أحياناً علي أمور فكأنما زمن التهاجر بيننا ... ليلٌ وساعات الوصال بدور وهذا المعنى ينظر إلى قول بعضهم من جملة أبيات: أسفر ضوء الصبح عن وجهه ... فقام خال الخد فيه بلال كأنما الخال على خده ... ساعة هجرٍ في زمان الوصال وعزم المعتمد على إرسال حظاياه من قرطبة إلى إشبيلية، فخرج معهن يشيعهن (3) فسايرهن من أول الليل إلى الصبح، فودعهن ورجع وأنشد أبياتاً من جملتها (4) : سايرتهم والليل غفلٌ ثوبه ... حتى تبدى للنواظر معلما فوقفت ثم مودعاً وتسلمت ... مني يد الإصباح تلك الأنجما وهذا المعنى في نهاية الحسن. وله في وداعهن أيضاً (5) : ولما وقفنا للوداع غديةً ... وقد خفقت في ساحة القطر رايات بكينا دماً حتى كأن عيوننا ... بجري الدموع الحمر منها جراحات وهذا ينظر إلى قول القائل: بكيت دماً حتى لقد قال قائلٌ ... أهذا الفتى من جفن عينيه يُرعف   (1) بر من: صار. (2) ديوانه: 13. (3) ن: ليشيعهن؛ المختار: يودعهن. (4) هذه القطعة في ديوانه: 26 والمسالك 10: 397. (5) ديوانه: 4. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 25 وقد سبق في شعر الأبيوردي نظيره. ومن شعره أيضاً (1) : لولا عيونٌ من الواشين ترمقني ... وما أحاذر من قول حراس لزرتكم لا أكافيكم بجفوتكم ... مشياً على الوجه أو سعياً على الراس وكتب إلى نداماه من قصره بقرطبة وقد اصطبحوا بالزهراء يدعوهم إلى الاغتباق عنده (2) : حسد القصر فيكم الزهراء ... ولعمري وعمركم ما أساء قد طلعتم بها شموساً نهاراً ... فاطلعوا عندنا بدوراً مساء وهذا من بديع المعاني العجيبة. والزهراء: بفتح الزاي وسكون الهاء وفتح الراء وبعدها همزة ممدودة، وهي من عجائب أبنية الدنيا، أنشأها أبو المطرف عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله الملقب الناصر أحد ملوك بني أمية بالأندلس، بالقرب من قرطبة، في أول سنة خمس وعشرين وثلثمائة، ومسافة ما بينهما أربعة أميال وثلثا ميل، وطول الزهراء من الشرق إلى الغرب ألفان وسبعمائة ذراع، وعرضها من القبلة إلى الجنوب ألف وخمسمائة ذراع، وعدد السواري التي فيها أربعة آلاف سارية وثلثمائة سارية، وعدد أبوابها يزيد على خمسة عشر ألف باب (3) . وكان الناصر يقسم جباية البلاد أثلاثاً، فثلث للجند وثلث مدخر وثلث ينفقه على عمارة الزهراء، وكانت جباية الأندلس يومئذ خمسة آلاف دينار أربعمائة ألف وثمانين ألف دينار، ومن السوق والمستخلص سبعمائة ألف وخمسة وستون ألف دينار، وهي من أهول ما بناه الإنس وأجله خطراً وأعظمه شأناً، ذكر ذلك كله ابن بشكوال - المقدم ذكره في حرف الخاء (4) - في " تاريخ الأندلس ".   (1) ديوانه: 58 والمسالك 10: 397. (2) ديوانه: 49. (3) كذا في جميع النسخ. (4) ج 2: 240. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 26 وكان أبو بكر محمد بن عيسى بن محمد اللخمي الداني الشاعر المشهور مائلاً إلى بني عباد بطبعه، إذ كان المعتمد الذي جذب بضبعه، وله في المدائح الأنيقة، فمن ذلك قصيدة يمدحه بها ويذكر أولاده الربعة وهم: الرشيد عبيد الله، والراضي يزيد والمأمون والمؤتمن (1) ، ومن جملتها قوله، ولقد أجاد فيه كل الإجادة وأبدع فيه (2) : يغيثك في محل، يغنيك في ردىً ... يروعك في درع، يروقك في برد جمال وإجمالٌ وسبق وصولة ... كشمس الضحى كالمزن كالبرق كالرعد بمهجته شاد العلا ثم زادها ... بناء بأبناءٍ جحاجحة لد بأربعة مثل الطباع تركبوا ... لتعديل جسم المجد والشرف العد ومع هذا المكارم والإحسان العام لم يسلموا من لسان طاعن، وفيهم يقول أبو الحسن جعفر بن إبراهيم بن الحاج اللورقي (3) : تعز عن الدنيا ومعروف أهلها ... إذا عدم المعروف في آل عباد حللت بهم ضيفاً ثلاثة أشهر ... بغير قرى ثم ارتحلت بلا زاد وكان الأذفونش فرذلند ملك الإفرنج بالأندلس قد قوي أمره في ذلك الوقت، وكانت ملوك الطوائف من المسلمين هناك يصالحونه، ويؤدون إليه ضريبة، ثم إنه أخذ طليطلة في يوم الثلاثاء مستهل صفر سنة ثمان وسبعين وأربعمائة بعد حصار شديد، وكانت للقادر بالله بن ذي النون، وفي أخذها يقول أبو محمد عبد الله بن فرج بن غزلون اليحصبي، يعرف بابن العسال الطليطلي، وهو مذكور في " الصلة " لابن بشكوال (4) :   (1) ن: والمأمول والمؤمل؛ ق ر: والمأمول والمؤمل. (2) كل الإجادة وأبدع فيه: سقط من ت س بر من. (3) النفح 4: 226؛ وفي ن: جعفر بن محمد بن إبراهيم. (4) الصلة: 276 (وتوفي سنة 478) ؛ س بر: عزلون، ق غرنون؛ المختار: غرنون؛ المختار: غرنون، ن: عرنون، دون اعجام؛ وفي س: الغسال. وقد وردت هذه الأبيات في عدة مصادر أندلسية، انظر النفح 4: 352. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 27 حثوا رواحلكم يا أهل أندلس ... فما المقام بها إلا من الغلط السلك ينثر من أطرافه وأرى ... سلك الجزيرة منثوراً من الوسط من جاور الشر لم يأمن عواقبه ... كيف الحياة مع الحيات في سفط وكان المعتمد بن عباد أكبر ملوك الطوائف وأكثرهم بلاداً. وكان يؤدي الضريبة للأذفونش، فلما ملك طليطلة لم يقبل ضريبة المعتمد طمعاً في أخذ بلاده، وأرسل إليه يتهدده ويقول له: تنزل عن الحصون التي بيدك ويكون لك السهل (1) : فضرب المعتمد الرسول وقتل من كان معه، فبلغ الخبر للأذفونش وهو متوجه لحصار قرطبة فرجع إلى طليطلة لأخذ آلات الحصار. فلما سمع مشايخ الإسلام وفقهاؤها بذلك اجتمعوا وقالوا: هذه مدن الإسلام قد تغلب عليها الفرنج، وملوكنا مشتغلون بمقاتلة بعضهم بعضاً، وإن استمرت الحال ملك الفرج جميع البلاد، وجاءوا إلى القاضي عبيد الله بن محمد بن أدهم (2) وفاوضوه فيما نزل بالمسلمين وتشاوروا فيما يفعلونه، فقال كل واحد منهم شيئاً، وآخر ما اجتمع (3) رأيهم عليه أن يكتبوا إلى أبي يعقوب يوسف بن تاشفين ملك الملثمين (4) صاحب مراكش يستنجدونه - وسيأتي ذكره في حرف الياء إن شاء الله تعالى. فاجتمع القاضي بالمعتمد وأخبره بما جرى، فوافقهم على أنه مصلحة وقال له تمضي إليه بنفسك، فامتنع فألزمه بذلك، فقال: أستخير الله سبحانه، وخرج من عنده، وكتب للوقت كتاباً إلى يوسف بن تاشفين يخبره بصورة الحال، وسيرة مع بعض عبيده إليه، فلما وصله خرج مسرعاً إلى المدينة سبتة، وحتى خرج القاضي ومعه جماعة إلى سبتة للقائه وإعلامه بحال المسلمين فأمر بعبور عسكره   (1) مج: وتكون ملك السهل. (2) فيما عدا ن ق: عبد الله، وانظر الصلة: 293؛ وكنيته أبو بكر، كان قاضي الجماعة بقرطبة استقضاه المعتمد سنة 468 وكان قد نظر قبل ذلك في أحكام المظالم وشوور في الأحكام وتوفي سنة 486؛ قلت: وفي مج فوق لفظة أدهم: (خ: إبراهيم) . (3) بر ن من: أجمع؛ ت: أجمعوا. (4) ر: المسلمين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 28 إلى الجزيرة الخضراء، وهي مدينة في بر الأندلس، وأقام بسبتة، وهي في بر مراكش مقابلة الجزيرة الخضراء، وسر (1) إلى مراكش يستدعي من تخلف بها من جيشه، فلما تكاملوا عنده أمرهم بالعبور، وعبر آخرهم وهو في عشرة آلاف مقاتل، واجتمع بالمعتمد وقد جمع أيضاً عساكره، وتسامع المسلمون بذلك، فخرجوا من كل البلاد طلباً للجهاد، وبلغ الأذفونش الخبر وهو بطليطلة، فرج في أربعين ألف فارس غير ما انضم إليه، وكتب الأذفونش إلى الأمير يوسف كتاباً يتهدده، وأطال الكتاب، فكتب يوسف الجواب في ظهره: " الذي يكون ستراه " ورده إليه. فلما وقف عليه ارتاع لذلك وقال: هذا رجل عازم. ثم سار الجيشان والتقيا في مكان يقال له الزلاقة من بلد بطليوس وتصافا، وانتصر المسلمون وهرب الأذفونش بعد استئصال عساكره ولم يسلم معه سوى نفر يسير، وذلك يوم الجمعة في العشر الأول من شهر رمضان المعظم سنة تسع وسبعين وأربعمائة، كذا قال بعضهم، والصحيح أن هذه الوقعة (2) كانت في منتصف رجب من السنة المذكورة، وهذا يؤرخ به في بلاد الأندلس كلها فيقال عام الزلاقة، وهذه الواقعة من أشهر الوقائع. وثبت المعتمد في ذلك اليوم ثباتاً عظيماً، وأصابه عدة جراحات في وجهه وبدنه، وشهد له بالشجاعة، وغنم المسمون دوابهم وسلاحهم، ورجع الأمير يوسف إلى بلاده والمعتمد إلى بلاده. ثم إن الأمير يوسف عاد إلى الأندلس في العام الثاني وخرج إليه المعتمد، وحاصرا بعض حصون الفرنج (3) ، فلم يقدرا عليه، فرحلا عنه وعبر يوسف على (4) غرناطة، فخرج إليه صاحبها عبد الله بن بلكين ثم دخل البلد ليخرج إليه التقادم، فغدر به يوسف ودخل البلد وأخرج عبد الله ودخل قصره فوجد فيه   (1) ق: فتصافا فانتصر. (2) ق: الواقعة. (3) هو حصن لييط. (4) ق: زدخل إلى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 29 من الأموال والذخائر ما لا يحد ولا يحصى. ثم رجع إلى مراكش وقد أعجبه حسن بلاد الأندلس وبهجتها وما بها من المباني والبساتين والمطاعم وسائر أصناف الأموال التي لا توجد في مراكش، فإنها بلاد بربر وأجلاف العربان (1) وجعل خواص الأمير يوسف يعظمون عنده بلاد الأندلس ويحسنون له أخذا، ويغرون قلبه على المعتمد بأشياء نقلوها عنه فتغير عليه وقصده، فلما انتهى إلى سبتة جهز إليه العساكر وقدم عليها سير (2) بن أبي بكر الأندلسي، فوصل إلى إشبيلية وبها المعتمد فحاصره أشد محاصرة، وظهر من مصابرة المعتمد وشدة بأسه وتراميه على الموت بنفسه ما لم يسمع بمثله، والناس بالبلد قد استولى عليهم الفزع وخامرهم الجزع يقطعون سبلها سياحة ويخوضون نهرها سباحة ويترامون من شرفات الأسوار. فلما كان يوم الأحد العشرين من رجب سنة أربع وثمانين وأربعمائة هجم عسكر الأمير يوسف البلد وشنوا فيه بالغارات، ولم يتركوا لأحد شيئاً، وخرج الناس من منازلهم يسترون عوراتهم بأيديهم، وقبض على المعتمد وأهله، وكان قد قتل له ولدان قبل ذلك، أحدهما: المأمون، وكان ينوب عن والده في قرطبة فحصروه بها إلى أن أخذوه وقتلوه والثاني الراضي، كان أيضاً نائباً عن أبيه في رندة (3) وهي من الحصون المنيعة فنازلوها وأخذوها وقتلوا الراضي، ولأبيهما المعتمد فيهما مرات كثيرة (4) . وبعد ذلك جرى إشبيلية على المعتمد ما ذكرناه. ولما أخذ المعتمد قيدوه من ساعته، وجعل مع أهله في سفينة، قال ابن خاقان في " قلائد العقيان " في هذا الموضع (5) : ثم جمع هو وأهله وحملتهم الجواري المنشآت، وضمتهم (6) كأنهم أموات، بعد ما ضاق عنهم القصر، وراق منهم العصر، والناس قد حشروا   (1) المختار: وأحلاف الغربان. (2) ن ر والمختار: شير. (3) بر س ن ت ق من: روندة؛ ر: رنودة، مج: رويله. (4) س ت بر من: مرات عديدة، وسقطت ((عديدة)) من ر. (5) قلائد العقيان: 23. (6) القلائد: وضمنتهم جوانحها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 30 بضفتي الوادي، يبكون بدموع الغوادي (1) ، فساروا والنوح يحدوهم، والبوح باللوعة لا يعدوهم، وفي ذلك يقول أبو بكر محمد بن عيسى الداني المعروف بابن اللبانة: تبكي السماء بدمع رائح غادي ... على البهاليل من أبناء عباد ومن جملتها: يا ضيف أفقر بيت المكرمات فخذ ... في ضم رحلك واجمع فضلة الزاد وهي قصيدة طويلة لا حاجة إلى ذكرها. وفي هذه الحال وصفتها يقول أبو محمد عبد الجبار بن حمديس الصقلي الشار المشهور - المقدم ذكره (2) : ولما رحلتم بالندى في أكفكم ... وقلقل رضوى منكم وثبير رفعت لساني بالقيامة قد دنت ... فهذي الجبال الراسيات تسير وهي أبيات كثيرة، وهذا المعنى مأخوذ من قول عبد الله بن المعتز في أبي العباس أحمد بن محمد الفرات الوزير وقد مات (3) : قد استوى الناس ومات الكمال ... وصاح (4) صرف الدهر أين الرجال هذا أبو العباس في نعشه ... قوموا انظروا كيف تسير الجبال وقيل إنه أنشدها لما مات الوزير أبو القاسم عبيد الله بن سليمان بن وهب، والله أعلم بالصواب، ثم وجدت القول الثاني هو الصحيح، والله أعلم. وتألم المعتمد يوماً من قيده وضيقه وثقله فأنشد (5) :   (1) القلائد: كالغوادي. (2) انظر ج 3: 212 وديوانه: 268. (3) ورد هذا من قبل في ترجمة ابن حمديس 3: 214 وذكر هنالك أن ابن المعتز رثى الوزير أبا القاسم عبيد الله بن سليمان بن وهب. (4) ن ق: وقال. (5) ديوان المعتمد: 94. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 31 تبدلت من ظل عز البنود ... بذل الحديد وثقل القيود وكان حديدي سناناً ذليقاً ... وعضباً رقيقاً صقيل الحديد وقد صار ذاك وذا أدهما ... يعض بساقي عض الأسود ثم إنهم حملوا إلى الأمير يوسف بمراكش، فأمر بإرسال المعتمد إلى مدينة أغمات، واعتقله بها ولم يخرج منها على الممات، قال ابن خاقان (1) : ولما أجلي (2) عن بلاده، وأعري من طارفه وتلاده، وحمل في السفين، وأحل في العدوة محل الدفين، تندبه منابره وأعواده، ولا يدنو منه زواره ولا عواده، بقي آسفاً تتصعد زفراته، وتطرد اطراد المذانب عبراته، ولا يخلو بمؤانس، ولا يرى إلا عريناً (3) بدلاً من تلك المكانس، ولما لم يجد سلواً ولم يؤمل دنواً ولم ير وجه مسرة مجلواً، تذكر منازله فشاقته، وتصور بهجتها فراقته، وتخيل استيحاش أوطانه، وإجهاش قصره إلى قطانة، وإظلام جوه (4) من أقماره، وخلوه من حراسة سماره. وفي اعتقاله يقول أبو بكر الداني المذكور قصيدته المشهورة التي أولها: لكل شيء من الأشياء ميقات ... وللمنى من مناياهن غايات والدهر في صبغة الحرباء منغمسٌ ... ألوان حالاته فيها استحالات ونحن من لعب الشطرنج في يده ... وربما قُمرت بالبيدق الشاة قلت: هذا غلط، فإن الشاة بالهاء الملك بالعجمي، وإذا كان كذلك فلا تسلم القافية، لأنها على حرف التاء، ثم قال: انفض يديك من الدنيا وساكنها ... فالأرض قد أقفرت والناس قد ماتوا وقل لعالمها الأراضي: قد كتمت ... سريرة العالم العلوي أغمات   (1) القلائد: 23. (2) القلائد: نقل؛ ر: أخلي. (3) في النسخ: غريباً، والتصويب عن القلائد. (4) ت: الوجوه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 32 وهي طويلة تقارب خمسين بيتاً. وله أيضاً في حبسه قصيدة عملها بأغمات، سنة ست وثمانين وأربعمائة: تنشق رياحين السلام فإنما ... أقض بها ممسكاً عليك مختما وقل لي مجازاً إن عدمت حقيقةً ... لعلك في نعمى وقد كنت منعما أفكر في عصرٍ مضى لك مشرقا ... فيرجع ضوء الصبح عندي مظلما وأعحب من أفق المجرة إذ رأى ... كسوفك شمساً كيف أطلع أنجما لئن عظمت فيك الرزية إننا ... وجدناك منها في المزية (1) أعظما قناة سعت للطعن حتى تقصدت ... وسيفٌ أطال الضرب حتى تثلما ومنها: بكى آل عباد ولا كمحمد ... وأبنائه صوب الغمامة إذا همى حبيبٌ إلى قلبي، حبيبٌ لقوله ... عسى طلل يدنو بهم ولعلما صباحهم كنا بهم نحمد السرى ... فلما عدمناهم سرينا على عمى وكنا رعينا العز حول حماهم ... فقد أجدب المرعى وقد أقفر الحمى وقد ألبست أيدي الليالي محلهم ... مناسج سدى الغيث فيها وألحما قصورٌ خلت من ساكنيها فما بها ... سوى الأدم تمشي حول واقعة الدمى يجيب بها الهام الصدى ولطالما ... أجاب القيان الطائر المترنما كأن لم يكن فيها أنيس ولا التقى ... بها الوفد جمعاً والخميس عرمرما ومنها (2) : حكيت وقد فارقت ملكك مالكا ... ومن ولهي أحكي عليك متمما مصاب هوى بالنيرات من العلا ... ولم يبق في أرض المكارم معلما تضيق علي الأرض حتى كأنما ... خلقت وإياها سواراً ومعصما   (1) ر ن ق: الرزية. (2) ومنها: زيادة من ن ر ق بر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 33 ندبتك حتى لم يخل لي الأسى ... دموعاً بها أبكي عليك ولا دما وإني على رسمي مقيمٌ فإن أمت ... سأجعل للباكين رسمي موسما بكاك الحيا والريح شقت جيوبها ... عليك، وناح الرعد باسمك معلما ومزق ثوب البرق واكتست الضحى ... حداداً، وقامت أنجم الجو مأتما وحار ابنك الإصباح وجداً فما اهتدى ... وغاض أخوك البحر غيضاً فما طما وما حل بدر التم بعدك دارةً ... ولا أظهرت شمس الظهيرة مبسما قضى الله أن حطوك عن ظهر أشقرٍ ... أشم وأن أمطوك أشأم أدهما وكان قد انفكت عنه القيود فأشار إلى ذلك بقوله منها: قيودك ذابت فانطلقت لقد غدت ... قيودك منهم بالمكارم أرحما عجبت لأن لان الحديد وقد قسوا ... لقد كان منهم بالسريرة أعلما سينجيك من نجى من الجب يوسفا ... ويؤويك من آوى المسيح بن مريما وله في البكاء على أيامهم وانتثار نظامهم عدة مقاطيع (1) وقصائد مطولات يشتمل عليها جزء لطيف صدر عنه في صورة (2) تأليف وهيئة تصنيف سماه " نظم السلوك في وعظ الملوك ". ووفد على المعتمد وهو بأغمات وفادة وفاء، لا وفادة السلوك استجداء، وحكى أنه لما عزم على الانفصال عنه بعث إليه المعتمد عشرين ديناراً وشقة بغدادية، وكتب معها: إليك النزر من كف الأسير ... فإن تقبل يكن عين الشكور تقبل ما يذوب له حياء ... وإن عذرته أحوال (3) الفقير وهي عدة أبيات، قال أبو بكر المذكور: فرددتها إليه، لعلمي بحاله وأنه لم يترك عنده شيئاً، وكتبت إليه جوابها، وهو:   (1) ق بر ر ن: مقطوعات. (2) صورة: سقطت من ق بر من. (3) بر من ق مج: حالات. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 34 سقطت من الوفاء على خبير ... فذرني والذي لك في ضمير تركت هواك وهو شقيق نفسي (1) ... لئن شقت برودي عن غدور ولا كنت الطليق من الرزايا ... لئن أصبحت أجحف بالأسير جذيمة أنت والزباء خانت (2) ... وما أنا من يقصر عن قصير أسير ولا أسير إلى اغتنام ... معاذ الله من سوء المصير أنا أدري بفضلك منك، إني ... لبست الظل منه في الحرور ومنها أيضاً قوله: تصرف في الندى خيل (3) المعالي ... فتسمح من قليل بالكثير (4) وأعجب منك أنك في ظلام ... وترفع للعفاة منار نور رويدك سوف توسعني سروراً ... إذا عاد ارتقاؤك للسرير وسوف تحلني رتب المعالي ... غداة تحل في تلك القصور تزيد على ابن مروان عطاءً ... بها وأزيد ثم على جرير تأهب أن تعود إلى طلوعٍ ... فليس الخسف ملتزم البدور ودخل عليه يوماً بناته السجن، وكان يوم عيد، وكن يغزلن للناس بالأجرة في أغمات، حتى إن إحداهن غزلت لبيت صاحب الشرطة الذي كان في خدمة أبيها وهو في سلطانه، فرآهن في أطمار رثة وحاله سيئة، فصدعن قلبه وأنشد (5) : فيما مضى كنت بالأعياد مسرورا ... فساءك العيد في أغمات مأسور نرى بناتك في الأطمار جائعةً ... يغزلن للناس لا يملكن قطميرا   (1) ن ر: قلبي. (2) ق: يوماً. (3) ن: حيل، مج: جيد. (4) ق: بالقليل وبالكثير. (5) ديوانه: 100 والقلائد: 25. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 35 برزن نحوك للتسليم خاشعةً ... أبصارهن حسيراتٍ مكاسيرا يطأن في الطين والأقدام حافيةٌ ... كأنها لم تطأ مسكاً وكافورا ومنها أيضاً: لا خد إلا ويشكو (1) الجدب ظاهره ... وليس إلا مع الأنفاس مطمورا قد كان دهرك إن تأمره ممتثلاً ... فردك الدهر منهياً ومأمورا من بات بعدك في ملك يسر به ... فإنما بات بالأحلام مغرورا ودخل عليه وهو في تلك الحال ولده أبو هاشم والقيود قد عضت بساقيه عض الأسود، والتوت عليه التواء الأساود السود، وهو لا يطيق إعمال قدم، ولا يريق دمعاً إلا ممتزجاً بدم، بعد ما عهد نفسه فوق منبر وسرير، وفي وسط جنة وحرير، تخفق عليه الألوية، وتشرق منه الأندية، فلما رآه بكى وعمل (2) : قيدي أما تعلمني مسلما ... أبيت أن تشفق أو ترحما دمي شرابٌ لك، واللحم قد ... أكلته، لا تهشم الأعظما يبصرني فيك أبو هاشمٍ ... فينثني والقلب قد هشما ارحم طفيلاً طائشاً لبه ... لم يخش أن يأتيك مسترحما وارحم أخياتٍ له مثله ... جزعتهن السم والعلقما منهن من يفهم شيئاً فقد ... خفنا عليه للبكاء العمى والغير لا يفهم شيئاً فما ... يفتح إلا لرضاعٍ فما وكان قد اجتمع عنده جماعة من الشعراء (3) وألحوا عليه في السؤل، وهو على تلك الحال، فأنشد: سألوا اليسير من الأسير وإنه ... بسؤالهم لأحق منهم فاعجب   (1) بر ر ق من: تشكى. (2) ديوانه: 112. (3) بر من: السؤال. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 36 لولا الحياء وعزةٌ لخميةٌ ... طي الحشا لحكاهم في المطلب وأشعار المعتمد وأشعار الناس فيه كثيرة، وقد جاوزنا الحد في تطويل ترجمته، وسببه أن قضيته (1) غريبة لم يعهد مثلها، ودخل فيها حديث أبيه وجده فطالت. وكانت ولادته في شهر ربيع الأول سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة بمدينة باجة من بلاد الأندلس، وملك بعد وفاة أبيه في التاريخ المذكور هناك، وخلع في التاريخ المقدم ذكره. وتوفي في السجن بأغمات لإحدى عشرة ليلة خلت من شوال، وقيل في ذي الحجة، سنة ثمان وثمانين وأربعمائة رحمه الله تعالى؛ ومن النادر الغريب أنه نودي في جنازته بالصلاة على الغريب، بعد عظم سلطانه وجلالة شانه، فتبارك من له البقاء والعزة والكبرياء. واجتمع عند قبره جماعة من الشعراء الذي كانوا يقصدونه بالمدائح، ويجزل لهم المنائح، فرثوه بقصائد مطولات، وأنشدوها عند قبره وبكوا عليه، فمنهم أبو بحر عبد الصمد شاعره المختص به، رثاه بقصيدة طويلة أجاد فيها، وأولها (2) : ملك المولك، أسامع فأنادي ... أم قد عدتك عن السماع عوادي لما نقلت عن القصور ولم تكن ... فيها كما قد كنت في الأعياد أقبلت في هذا الثرى لك خاضعاً ... وجعلت قبرك موضع الإنشاد ولما فرغ من إنشادها قبل الثرى، ومرغ جسمه وعفر خده، فأبكى كل من حضر. ويحكى (3) أن رجلاً رأى في منامه إثر الكائنة عليه كأن رجلاً صعد منبر جامع قرطبة واستقبل الناس وأنشد: رب ركبٍ قد أناخوا عيسهم ... في ذرى مجدهم حين بسق   (1) ق بر من: قصته. (2) انظر القلائد: 31. (3) ق: ويروى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 37 سكت الدهر زماناً عنهم ... ثم أبكاهم دماً حين نطق ورأى أبو بكر الداني حفيد المعتمد وهو غلام وسيم قد اتخذ الصياغة صناعة وكان يلقب في أيام دولتهم " فخر الدولة " وهو من الألقاب السلطانية عندهم، فنطر إليه وهو ينفخ الفحم بقصبة الصائغ، فقال من جملة قصيدة: شكاتنا فيك يا فخر العلا عظمت ... والرزء يعظم فيمن قدره عظما طوقت من نائبات الدهر مخنقة ... ضاقت عليك وكم طوقتنا نعما وعاد طوقك في دكان قارعةٍ ... من بعدما كنت في قصر حكى إرما صرفت في آلة الصواغ أنملةً ... لم تدر إلا الندى والسيف والقلما يد عهدتك للتقبيل تبسطها ... فتستقل الثريا أن تكون فما يا صائغاً كانت العليا تصاغ له ... حلياً وكان عليه الحلي منتظما للنفخ في الصور هولٌ، ما حكاه سوى ... أني رأيتك فيه تنفخ الفحما وددت إذا نظرت عيني عليك به ... لو أن عيني تشكو قبل ذاك عمى ما حطك الدهر لما حط من شرفٍ ... ولا تحيف من أخلاقك الكرما لح في العلا كوكباً إن لم تلح قمرا ... وقم بها ربوةً إن لم تقم علما والله لو أنصفتك الشهب لانكسفت ... ولو وفى لك دمع العين لانسجما أبكى حديثك حتى الدهر حيد غدا ... يحكيك رهطاً وألفاظاً ومبتسما ولا حاجة إلى الزيادة على ما اودعناه (1) هذه الترجمة. واللورقي: بضم اللام وسكون الواو والراء وبعدها قاف، هذه النسبة إلى الورقة، وهي مدينة بالأندلس، وهذا الشاعر ذكره في " الخريدة " وقال: عاش بعد الخمسمائة (2) طويلاً، واورد كثيراً من شعره. وأغمات: بفتح الهمزة وسكون الغين المعجمة وفتح الميم وبعد الألف تاء مثناة   (1) بر: أوردناه في. (2) ق: المائة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 38 من فوقها، وهي بليدة وراء مراكش، بينهما مسافة يوم، وخرج منهما جماعة مشاهيرا (1) . (206) وأما أبو بكر بن اللبابة المذكور فما رأيت تاريخ وفاته في شيء من الكتب ولا رأيت من يعلم ذلك، لكن رأيت في كتاب الحماسة التي صنفها أبو الحجاج يوسف البياسي المذكور بعد هذا أن ابن اللبابة قدم ميورقة في آخر شعبان سنة تسع وثمانين وأربعمائة، ومدح ملكها مبشر بن سليمان بأبيات أولها: ملك يروعك في حلى ريعانه ... راقت برونقه صفات زمانه وكنت أظن انه مات قبل المعتمد، لأني ما رأيت له فيه مرثية، إلى أن رأيت ما قاله البياسي، والله تعالى أعلم. 687 - (2) المعتصم ابن صمادح الأندلسي أبو يحيى محمد بن معن بن محمد بن أحمد بن صمادح، المنعوت بالمعتصم، التجيبي، صاحب المرية وبجاية والصمادحية من بلاد الأندلس. (207) كان جده محمد بن أحمد بن صمادح صاحب مدينة وشقة وأعمالها، وذلك في أيام المؤيد هشام بن الحكم الأموي - المذكور في ترجمة المعتمد بن عباد -   (1) هنا تنتهي الترجمة في بر من وينتهي الجزء الثاني من النسخة س، والثالث مفقود، ولهذا تتوقف الإشارة إلى س حتى بداية الجزء الرابع، وكنا اعتمدنا في عناوين التراجم على هذه النسخة بعد توقف المسودة، ولما كان الجزء الثالث مفقوداً وكذلك القسم الموازي له من المسودة، فان صيغة العناوين ستصبح تقديرية بالاستئناس إلى مختلف النسخ. (2) ترجمته في الذخيرة 1/ 2: 236 والقلائد: 47 والمغرب 2: 195 والبيان المغرب 3: 167، 173 والمطرب: 34 - 38 والوافي 5: 45 والمعجب: 196 والحلة السيراء 2: 78 - 88 وأعمال الأعلام: 190 وعبر الذهبي 3: 306. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 39 فحاربه ابن عمه منذر بن يحيى التجيبي، فاستظهر عليه وعجز عن دفعه لكثرة رجاله، وترك مدينة وشقة، وفر بنفسه ولم يبق له بالبلد علقة، وكان صاحب رأي ودهاء ولسان وعارضة لم يكن في أصحاب السيوف من يعدله في هذه الخلال في ذلك العصر. (208) وكان ولده معن والد المعتصم مصاهراً لعبد العزيز بن أبي عامر صاحب بلنسية، فلما قتل زهير مولى أبيه - وكان صاحب المرية - وثب عبد العزيز على المرية فملكها لكونها كانت لمولاهم، فحسده على ذلك مجاهد بن عبد الله العامري المكني أبا الجيش صاحب دانية، فخرج قاصداً بلاد عبد العزيز وهو بالمرية مشتغل في تركة زهير، فلما سمع بخروج مجاهد خرج من المرية مبادراً لاستصلاحه واستخلف بها صهره ووزيره معن بن صمادح والد المعتصم فخانه في الأمانة وغدر به، وطرده عن الإمارة، فلم يبق في ملوك الطوائف بالأندلس أحد إلا ذمه على هذه الفعلة، إلا أنه تم له الأمر واستتب. فلما مات انتقل الملك إلى ولده المعتصم وتسمى بأسماء الخلفاء، وكان رحب الفناء، جزل (1) العطاء، حليماً عن الدماء، طافت به الآمال، واتسع في مدحه المقال، وأعملت إلى حضرته الرحال، ولزمه جماعة من فحول الشعراء، كأبي عبد الله بن الحداد وغيره، وله أشعار حسنة، فمن ذلك ما كتبه إلى أبي بكر ابن عمار الأندلسي - المقدم ذكر - يعاتبه: وزهدني في الناس معرفتي بهم ... وطول اختباري صاحباً بعد صاحب فلم ترني الأيام خلاً تسرني ... بواديه إلا ساءني في العواقب ولا صرت أرجوه لدفع ملمة ... من الدهر إلا كان إحدى النوائب فكتب إليه ابن عمار جوابها، وهي أبيات كثيرة فلا حاجة إلى ذكرها. ومن شعره أيضاً: يا من بجسمي لبعده سقم ... ما منه غير الدنو يبريني   (1) جزلا في. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 40 بين جفوني والنوم معترك ... تصغر عنه حروب صفين إن كان صرف الزمان أبعدني ... عنك فطيف الخيال يدنيني ومن هنا أنشد بهاء الدين زهير بن محمد - الكاتب المقدم ذكره (1) - قوله من جملة قصيدة: بين جفوني والكرى ... مذ غبت عني معترك وله غير ذلك مقاطيع كثيرة. ولأبي عبد الله محمد بن أحمد بن خلف بن أحمد بن عثمان بن إبراهيم المعروف بالحداد القيسي (2) من أهل المرية في مديحه قصائد بديعة، فمن ذلك قصيدته التي أولها: لعلي بالوادي المقدس شاطئ ... فكالعنبر الهندي ما أنا واطئ وإني من رياك واجد ريحهم ... فروح الهوى بين الجوانح ناشئ ولي في السرى من نارهم ومنارهم ... حدادة هداة والنجوم طوافئ لذلك ما حنت ركابي وحمحمت ... عرابي وأوحى سيرها المتباطئ فهل هاجها ما هاجني ولعلها ... إلى الوجد من نيران قلبي لواجئ (3) رويداً فذا وادي لبيني وإنه ... لورد لباناتي وإني لظامئ ويا حبذا من آل لبنى مواطنٌ ... ويا حبذا في أرض لبنى مواطئ ميادين تهيامي ومسرح خاطري ... فللشوق غاياتٌ بها ومبادئ ولا تحسبوا غيداً حوتها مقاصرٌ ... فتلك قلوبٌ ضمنتها جآجئ   (1) انظر ج 2: 332، وديوانه البها زهير: 130. (2) ترجمة ابن الحداد في الذخيرة 1/2: 201 والمطمح: 80 والإحاطة 2: 250 والفوات 2: 341 والمحمدون: 99 والمغرب 2: 143 والمسالك 11: 400 والوافي 2: 86 وصفحات متفرقة في نفح الطيب، وقصيدته الهمزية في الذخيرة. (3) ق ن ر: نواجيء. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 41 وفي الكلة الزرقاء مكلوء عزه (1) ... تحف به زرق العوالي الكوالئ محاملة السلوان مبعث حسنه ... فكل إلى دين الصبابة صابئ ومنها أيضاً: تمنى مدى قرطبة عفرٌ توالع ... وتهوى ضيا عينيه عينٌ جوازئ وفي ملعب الصدغين أبيض ناصع ... تخلله للحسن أحمر قانئ أفاتكة الألحاظ ناسكة الهوى ... ورعت ولكن لحظ عينك (2) خاطئ وآل الهوى جرحى ولكن دماؤهم ... دموع هوامٍ والجروح مآقئ وكيف أعاني كلك طرفك في الحشا ... وليس لتمزيق المهند راقئ ومن أين أرجو برء نفسي من الجوى ... وما كل ذي سقم بارئ ويخرج من هذا إلى المدح، وهذه القصيدة طنانة طويلة. وقصده أيضاً من شعراء الأندلس أبو القاسم الأسعد بن بليطة (3) ، وهو من فحول شعرائهم، ومدحه بقصيدته الطائية التي أولها: برامة ريم زارني بعدما شطا ... تقنصته في الحلم بالشط فاشتطا رعى من أناس في الحشا ثمر الهوى ... جنياً ولم يرع العرار ولا الخمطا ومنها: وقد ذاب كحل الليل في دمع فجره ... إلى أن تبدي الصبح كاللمة الشمطا كأن الدجى جيش من الزنج نافر ... وقد أرسل الإصباح في إثره القبطا ومنها في صفة الديك:   (1) ق ر مج: غرة. (2) مج: عينيك. (3) ترجمة الأسعد بن بليطة في الذخيرة 1/2: 290 والمطمح 83 وبغية الملتمس: 228 والمطرب: 126 والمغرب 2: 17. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 42 كأن أنو شروان أعلاه تاجه ... وناطت عليه كف مارية القرطا سبى حلة الطاوس (1) حسن لباسه ... ولم يكفه حتى سبى المشية البطا ومنها أيضاً: توهم عطف الصدع نوناً بخدها ... فباتت بمسك الخال تنقطه نقطا غلامية جاءت وقد جعل الدجى ... لخاتم فيها فص غالية خطا غدت تنفع المسواك في بر ثغرها ... وقد ضمخت مسكا غدائرها المشطا فقلت أحاجيها بما في جفونها ... وما في الشفاه اللعس من حسنها المعطى محيرة (2) الألحاظ من غير سكرةٍ ... متى شربت ألحاظ عينيك إسفنطا أرى صفرة المسواك في حمرة (3) اللمى ... وشاربك المخضر بالمسك قد خطا عسى قزح قلبه فاخاله ... على الشفة اللمياء قد جاء مختطا ومنها في المدح قوله (4) : كأن أبا يحيى بن معن أجادها ... فعلمها من كفه الوكف والبسطا تألف من در وشذرٍ نجاره ... فجاءت به العليا على جيدها سمطا إذا سار سار المجد تحت لوائه ... فليس يحط المجد إلا إذا حطا رفيع عماد النار في الليل للسرى ... فما يخيط العشواء طارقه خبطا ومنها أيضاً: أقول لركب يمموا مسقط الندى ... وقد جاوز الركبان من دونك السقطا أفي المجد تبغي لابن معنٍ مناقضاً ... ومن يوقد المصباح في الشمس قد أخطا وهي قصيدة طويلة مقدار تسعين بيتاً، أحسن فيها ناظمها مع وعورة   (1) ر بر من: يساجله الطاوس. (2) ق ر مج: مخثرة؛ ن: مخنرة. (3) الذخيرة: حوة؛ وهو أدق. (4) ق: ومنها أيضاً في المدح. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 43 مسلك حرف رويها. وكان المعتصم المذكور قد اختص بمؤانسة الأمير يوسف بن تاشفين عند عبوره إلى جزيرة الأندلس حسبما شرحناه في ترجمة المعتمد بن عباد المذكور قبله وأقبل عليه أكثر من بقية ملوك الطوائف، فلما تغيرت نية الأمير يوسف على المعتمد وجاهره المعتمد بالعصيان شاركه في ذلك المعتصم، ووافقه على الخروج عن طاعته وعدم الإنقياد لأمره، فلما قصد الأمير يوسف بلاد الأندلس عزم على خلعهما وقبضهما. قال ابن بسام في " الذخيرة " (1) : وكان بين المعتصم وبين الله سريرة، أسلفت له عند الحمام يداً مشكورة، فمات وليس بينه وبين حلول الفاقرة به إلا أيام يسيرة، في سلطانه وبلده، وبين أهله وولده. حدثني من لا أرد خبره عن أروى بعض مسان حظايا أبيه قالت: إني لعنده وهو يرضى بشأنه، وقد غلب على أكثر يده ولسانه، ومعسكر أمير المسلمين (2) - تعني يوسف بن تاشفين - يومئذ بحيث نعد خيماتهم ونسمع اختلاط أصواتهم إذ سمع وجبة من وجباتهم، فقال: لا إله إلا الله، نعض علينا كل شيء حتى الموت! قالت أروى: فدمعت عيني، فلا أنسى طرفاً إلي يرفعه، وإنشاده لي بصوت لا أكاد أسمعه: ترفق بدمعك لا تفنه ... فبين يديك بكاء طويل وقال محمد بن أيوب الأنصاري في كتابه الذي صنفه للسلطان الملك الناصر صلاح الدين رحمه الله تعالى في سنة ثمان وستين وخمسمائة في ترجمة المعتصم بن صمادح المذكور، بعد أن ذكر طرفاً من أخباره، وشيئاً من أشعاره، وحكى صورة حصاره، وقوله في مرضه نغض غلينا كل شيء حتى الموت: ومات - يعني المعتصم - في أثر ذلك عند طلوع الشمس يوم الخميس لثمان بقين من شهر ربيع الأول سنة أربع وثمانين وأربعمائة بالمرية، رحمه الله تعالى، ودفن في تربة له عند باب الخوخة.   (1) الذخيرة 1/2: 240. (2) ق ر بر: المؤمنين؛ وهو غير دقيق، لأن يوسف لم يتخذ لقب خليفة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 44 وصمادح: بضم الصاد االمهملة وفتح الميم وبعد الألف دال مكسورة ثم حاء مهملة، وهو الشديد. وبليطة: والد أبي القاسم الأسعد الشاعر المذكور، بكسر الباء الموحدة واللام المشددة وسكون الياء المثناة من تحتها وفتح الطاء المهملة وبعدها هاء ساكنة، ولا أعرف معناه، وهو بلغة أعاجم الأندلس. والتجيبي: قد تقدم الكلام عليه. وبجاية: بفتح الباء الموحدة والجيم (1) وبعد الألف ياء (2) ثم هاء ساكنة، وهي مدينة بالأندلس. والمرية قد تقدم الكلام عليها؛ والصمادحية منسوبة إلى صمادح المذكور. ووشقة: بفتح الواو وسكون الشين المعجمة وفتح القاف وبعدها هاء ساكنة، بلدة بالأندلس أيضاً، والله أعلم. 688 - (3) المهدي ابن تومرت أبو عبد الله بن محمد بن عبد الله بن تومرت، المنعوت بالمهدي الهرغي، صاحب دعوة عبد المؤمن بن علي بالمغرب - وقد تقدم في ترجمة عبد المؤمن طرف من خبره (4) - وكان ينتسب إلى الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما؛ وجدت على   (1) ق ر بر من: وتشديد الجيم. (2) ق ر بر من: نون. (3) ترجمته في المعجب: 245 وطبقات السبكي 4: 71 وابن خلدون 6: 225 والحلل الموشية: 84 وجذوة الاقتباس: 128 والوافي 3: 323 وعبر الذهبي 4: 57 والشذرات 4: 70 والاستقصا 2: 78 وراجع تاريخ البيذق وابن القطان وروض القرطاس وكل المصادر التاريخية المتعلقة بنشأة دولة الموحدين. (4) انظر ج 3: 237. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 45 ظهر كتاب النسب للشريف العابد (1) بخط أهل الأدب من عصرنا نسب ابن تومرت المذكور فنقلته كما وجدته وهو: محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن هود بن خالد بن تمام بن عدنان بن صفوان بن سفيان بن جابر بن يحيى بن عطاء بن رباح بن يسار بن العباس بن محمد بن الحسن بن علي بن أبي طالب، رضي الله عنهما، والله أعلم. وهو من جبل السوس في أقصى بلاد المغرب، ونشأ هناك ثم رحل إلى المشرق في شبيبته طالباً للعلم، فانتهى إلى العراق، واجتمع بأبي حامد الغزالي والكيا الهراسي والطرطوشي وغيرهم، وحج وأقام بمكة مديدة وحصل طرفاً صالحاً من علم الشريعة والحديث النبوي وأصول الفقه والدين. وكان ورعاً ناسكاً متقشفاً مخشوشناً مخلوقاً كثير الإطراق، بساماً في وجوه الناس، مقبلاً على العبادة، لا يصحبه من متاع الدنيا إلا عصا وركوة. وكان شجاعاً فصيحاً في لسان العربي والمغربي، شديد الإنكار على الناس فيما يخالف الشرع، لا يقنع في أمر الله بغير إظهاره. وكان مطبوعاً على الالتذاذ بذلك متحللاً للأذى من الناس بسببه، وناله بمكة، شرفها الله تعالى، شيء من المكروه من أجل ذلك، فخرج منها إلى مصر وبالغ في الإنكار، فزادوا في أذاه، وطردته الدولة، وكان إذا خاف من ابطش وإيقاع الفعل به خلط في كلامه فينتسب إلى الجنون؛ فخرج من مصر إلى الإسكندرية، وركب البحر متوجهاً إلى بلاده. وكان قد رأى في منامه وهو في بلاد المشرق كأنه شرب ماء البحر جميعه كرتين، فلما ركب في الفينة شرع في تغيير المنكر على أهل السفينة، وألزمهم بإقامة الصلوات وقراءة أحزاب من القرآن العظيم، ولم يزل على ذلك حتى انتهى إلى المهدية إحدى مدن (2) إفريقية، وكان ملكها يومئذ الأمير يحيى بن تميم بن المعز بن باديس الصنهاجي، وذلك في سنة خمس وخمسمائة. هكذا وجدته في " تاريخ القيروان "، وقد تقدم في ترجمة الأمير تميم والد يحيى المذكور أن محمد بن تومرت المذكور اجتاز في أيام ولايته بإفريقية عند عوده من   (1) في بعض النسخ: في كتاب النسب الشريف العابد وأثبتنا ما في ن؛ وقد سقط هذا النسب من بر من. (2) ر ق ن: قرى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 46 المشرق، وكنت وجدته كذا أيضاً والله أعلم بالصواب، ولم يرحل إلى المشرق مرتين حتى يحمل (1) ذلك على دفعتين، فإن كان عوده في سنة خمس كما ذكرناه فهو ولاية الأمير يحيى، لأن أباه الأمير تميماً توفي سنة إحدى وخمسمائة كما تقدم في ترجمته، وغنما نبهت عليه ألا يتوهم الواقف عليه أنه فاتني ذلك، وهو متناقض. ورأيت في تاريخ القاضي الأكرم بن القفطي وزير حلب وهو مرتب على السنين ما صورته: في هذه السنة - وكان آخر (2) سنة إحدى عشر وخمسمائة - خرج محمد بن تومرت من مصر في زي الفقهاء بعد الطلب (3) بها وبغيرها ووصل (4) إلى بجاية، والله أعلم بالصواب؛ ولما وصل إلى المهدية نزل في مسجد معلق، وهو على الطريق، وجلس في طاق شارع إلى المحجة ينظر إلى المارة فلا يرى منكراً من آلة الملاهي أو أواني الخمر إلا نزل إليها وكسرها، فتسامع به الناس في البلد (5) ، فجاءوا إليه، وقرأوا عليه كتباً من أصول الدين (6) ، وبلغ خبره الأمير يحيى، فاستدعاه مع جماعة من الفقهاء، فلما رأى سمتة وسمع كلامه أكرمه وأجله وسأله الدعاء، فقال له: أصلح الله لرعيتك، ولم يقم بعد ذلك بالمهدية إلا أياماً يسيرة، ثم انتقل إلى بجاية، وأقام بها مدة وهو على حاله في الإنكار، فأخرج منها إلى بعض قررها واسمها ملالة، فوجد بها (7) عبد المؤمن بن علي القيسي المقدم ذكره. ورأيت في كتاب " المغرب (8) عن سيرة ملوك المغرب " أن محمد بن تومرت كان   (1) مج: نحمل؛ ر: تحمل. (2) ق ن ر: في. (3) ر ق ن: الطلبة. (4) ووصل: سقطت من ق ر ن. (5) مج: فتسامع به أهل البلد. (6) مج: فقصدوه يقرءون عليه أنواع العلوم وكان إذا مر به المنكر غيره وأزاله فلما كثر ذلك منه أحضره الأمير يحيى مع جماعة.. الخ. (7) مج: ورحل عن المهدية وأقام بالمنستير مع جماعة من الصالحين مدة، وسار إلى بجاية ففعل بها مثل ذلك فأخرج منها إلى قرية بالقرب منها اسمها ملاية، فلقيه بها عبد المؤمن ... الخ. (8) يتردد اسم هذا الكتاب في النسخ بين المعرب والمغرب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 47 قد اطلع من علوم أهل البيت على كتاب يسمى الجفر وأنه رأى فيه صفة رجل يظهر بالمغرب الأقصى بمكان السوس، وهو من ذرية رسول الله صلى الله عليه وسلم، يدعو إلى الله، يكون مقامه ومدفنه بموضع من المغرب يسمى باسم هجاء حروفه (ت ي ن م ل) ورأى فيه أيضاً أن استقامة ذلك الأمر واستلاءه وتمكنه يكون على يد رجل من أصحابه هجاء اسمه (ع ب، م وم ن) ويجاوز وقته المائة الخامسة للهجرة، فأوقع الله سبحانه وتعالى في نفسه أنه القائم بأول الأمر، وأن أوانه قد أزف، فما كان محمد يمر بموضع إلا سأل عنه، ولا يرى أحداً إلا أخذ اسمه وتفقد حليته، وكانت حلية عبد المؤمن معه، فبينما هو في الطريق رأى شاباً قد بلغ أشده (1) على الصفة التي نعه. فقال له محمد وقد تجاوزه: ما اسمك يا شاب فقال: عبد المؤمن، فرجع إليه وقال له: الله أكبر، أنت بغيتي، فنظر في حليته فوافقت ما عنده، فقال له: ممن أنت، فقال: من كومية، قال: أين مقصدك فقال: الشرق، فقال: ما تبغي قال: اطلب علماً وشرفاً، قال: وجدت علماً وشرفاً وذكراً، اصحبني تنله فوافقه على ذلك، فألقى محمد إليه أمره وأودعه سره. وكان محمد قد صحب رجلاً يسمى عبد الله الونشريسي ففاوضه فيما عزم عليه من القيام، فوافقه على ذلك أتم موافقة (2) ، وكان الونشريسي ممن تهذب وقرأ فقهاً، وكان جميلاً فصيحاً في لغة العرب وأهل المغرب، فتحثا يوماً في كيفية الوصول إلى الأمر المطلوب، فقال محمد لعبد الله: أرى أن تستر ما أنت عليه من العلم والفصاحة عن الناس وتظهر من العجز واللكن والحصر والتعري عن الفضائل ما تشتهر به عند الناس، لنتخذ الخروج عن ذلك واكتساب العلم والفصاحة دفعة واحدة ليقوم ذلك مقام المعجزة عند حاجتنا إليه، فتصدق فيما نقوله، ففعل عبد الله ذلك. ثم إن محمداً استدنى أشخاصاً مناهل الغرب أجلاداً في القوى الجسمانية أغماراً، وكان أميل إلى الأغمار من أولى الفطن والاستبصار، فاجتمع له منهم   (1) زاد في ق: وبلغ أربعين سنة. (2) ق: فوافقه على ذلك وكانت موافقته أتم موافقة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 48 ستة سوى عبد الله الونشريسي، ثم إنه رحل إلى أقصى المغرب، واجتمع بعبد المؤمن بعد ذلك، وتوجهوا جميعاً إلى مراكش وملكها يومئذ أبو الحسن علي بن يوسف بن تشافين - وقد سبق ذكر والده في ترجمة المعتمد بن عباد والمعتصم بن صمادح - وكان ملكاً عظيماً حليماً عادلاً متواضعاً، وكان بحضرته رجل يقال له مالك بن وهيب الأندلسي، وكان عالماً صالحاً، فشرع محمد في الإنكار على جاري عادته، حتى أنكر على ابنة الملك، وله في ذلك قصة يطول شرحها (1) . وبلغ الملك خبره وانه يتحدث (2) في تغيير الدولة، فتحدث مالك بن وهيب في أمره، وقال: نخاف من فتح باب يعسر علينا سده، والرأي أن يحضر هذا المختص وأصحابه لنسمع كلامهم بحضور جماعة من علماء البلد، فأجاب الملك إلى ذلك، وكان محمد وأصحابه مقيمين في مسجد خراب خارج البلد، فطلبوهم، فلما ضمهم المجلس قال الملك لعلماء بلده: سلوا هذا الرجل ما ينبغي منا، فانتدب له قاضي المرية واسمه محمد بن أسود (3) فقال: ما هذا الذي يذكر عنك من الأقوال في حق الملك العادل الحليم المنقاد إلى الحق المؤثر طاعة الله تعالى على هواه، فقال له محمد: أما ما نقل عني فقد قلتها ولي من ورائه أقوال، وأما قولك إنه يؤثر طاعة الله تعالى على هواه وينقاد إلى الحق فقد حضر اعتبار   (1) لعلها القضية التي وردت في مج إذ جاء النص فيها كالآتي: ((وتوجهوا جميعاً إلى مراكش دار مملكة أمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين وقد سبق ذكر والده في ترجمة المعتمد بن عباد والمعتصم بن صمادح فرأى فيها من المنكرات أكثر مما عاينه في طريقه، فزاد في أمره بالمعروف ونهيه عن المنكرات فكثر اتباعه وحسنت ظنون الناس فيه، فبينما هو في بعض الأيام في طريقه إذ رأى أخت المسلمين في موكبها ومعها من الجواري الحسان كثير وهن مسفرات، وكانت هذه عادة الملثمين، تسفر نساؤهم وجوههن وتتلثم الرجال، فأنكر على النساء وأمرهن بستر وجوههن وصرف هو وأصحابه دوابهن، فسقطت أخت أمير المسلمين عن دابتها فرفع أمره إلى أمير المسلمين فأحضره وأحضر الفقهاء ليناظروه فأخذ يعظه ويذكره ويخوفه فبكى أمير المسلمين، وأمر أن يناظره الفقهاء فلم يكن فيهم من يقوم له القوة ايمانه في الذي فعله، وكان عند المسلمين ما لك ابن وهيب وكان كثير الاجتراء على الملك ... الخ. (2) ن ر ق بر من: تحدث. (3) المختار: محمد بن سواد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 49 صحة هذا القول عنه، ليعلم بتعريه عن هذه الصفة أنه مغرور بما تقولون له وتضرونه (1) به، مع علمكم أن الحجة عليه متوجهة، فهل بلغك يا قاضي أن الخمرة تباع جهاراً وتمشي الخنازير بين المسلمين، وتؤخذ أموال اليتامى وعدد من ذلك شيئاً كثيراً. فلما سمع الملك كلامه ذرفت عيناه وأطرق حياء، ففهم الحاضرون من فحوى كلامه انه طامع في المملكة لنفسه، ولما رأوا سكوت الملك وانخداعه لكلامه لم يتكلم أحد منهم، فقال مالك بن وهيب، وكان كثير الاجتراء على الملك: أيها الملك، إن عندي لنصيحة إن قبلتها حمدت عاقبتها، وإن تركتها لم تأمن غائلتها، فقال الملك: ما هي قال: إني خائف عليك من هذا الرجل، وأرى أنك تعتقله وأصحابه، وتنفق عليهم كل يوم ديناراً لتكتفي شره، وإن لم تفعل ذلك لتنفقن عليه (2) خزائنك كلها، ثم لا ينفعك ذلك. فوافقه الملك على ذلك، فقال له وزيره: يقبح منك أن تبكي من موعظة هذا الرجل ثم تسيئ إليه في مجلس واحد، وأن يظهر منك الخوف منه مع عظم ملكك، وهو رجل فقير لا يملك سد جوعه، فلما سمع الملك كلامه أخذته عزة النفس واستهون أمره وصرفه، وسأله الدعاء. وحكى صاحب كتاب " المغرب في أخبار أهل المغرب " أنه لما خرج من عند الملك لم يزل وجهه تلقاء وجهه إلى أن فارقه، فقيل له: نراك قد تأدبت مع الملك إذ لم توله ظهرك، فقال: أردت أن لا يفارق وجهي الباطل حتى أغيره ما استطعت (3) ؛ انتهى كلامه. فلما خرج محمد وأصحابه من عند الملك قال لهم: لا مقام لنا بمراكش مع وجود مالك بن وهيب، فلما نأمن من أن يعاود الملك في أمرنا فينالنا منه مكروه، وإن لنا بمدينة أغمات أخاً في الله، فنقص المرور به فلن نعدم منه رأياً ودعاء صالحاً، واسم هذا الشخص عبد الحق بن إبراهيم، وهو من فقهاء   (1) ق بر من: وتطرونه. (2) مج بر من المختار: لتنفقن عليك. (3) ت مج بر من: ما استطعت حتى أغيره. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 50 المصامدة، فخرجوا إليه ونزلوا عليه، وأخبروا محمد خبرهم وأطلعه على مقصدهم وما جرى لهم عند الملك، فقال عبد الحق: هذا الموضع لا يحميكم، وإن أحصن الموضع المجاورة لهذا البلد تين مل، وبيننا وبينها مسافة يوم في هذا الجبل، فانقطعوا في برهة ريثما ينسى ذكركم، فلما سمع محمد بهذا الإسم تجدد (1) له ذكر اسم الموضع الذي رآه في كتاب الجفر، فقصده مع أصحابه، فلما أتوه رآهم أهله على تلك الصورة فعلموا أنهم طلاب العلم، فقاموا إليهم وأكرموهم وتلقوهم بالترحاب وأنزلوهم في أكرم منازلهم، وسأل الملك عنه بعد خروجهم من مجلسه فقيل له: إنهم سافروا، فسره ذلك وقال: تخلصنا من الإثم بحبسهم. ثم إن أهل الجبل تسامعوا بوصول محمد إليهم، وكان قد سار فيهم ذكره، فجاءوه من كل فج عميق وتبركوا بزيارته، وكان كل من أتاه استناه وعرض عليه ما في نفسه من الخروج على الملك، فإن أجابه أضافه إلى خواصه، وان خالفه أعرض عنه. وكان يستميل الأحداث وذوي العزة (2) ، وكان ذو العقل والعلم والحلم من أهاليهم ينهونهم ويحذرونهم من اتباعه ويخوفونهم (3) من سطوة الملك، فكان لا يتم له مع ذلك حال. وطالت المدة وخاف محمد من مفاجأة الأجل قبل بلوغ الأمل، وخشي أن يطرأ على أهل الجبل من جهة الملك ما يحوجهم إلى تسليمه إليه والتخلي عنه، فشرع في إعمال الحيلة فيما يشاركونه فيه ليعصوا على الملك بسببه، فرأى بعض أولاد القوم شقراً زرقاً، وألوان آبائهم السمرة والكحل، فسألهم عن سبب ذلك فلم يجيبوه، فألزمهم بالإجابة فقالوا: نحن من رعية الملك وله علينا خراج، وفي كل سنة تصعد مماليكه إلينا ينزلون في بيوتنا ويخرجونا عنها ويخلون بمن فيها من النساء، فتأتي الأولاد على هذه الصفة، وما لنا قدرة في دفع ذلك عنا، فقال محمد: والله إن الموت خير من هذه الحياة، وكيف رضيتم بهذا وأنتم أضرب خلق الله بالسيف وأطعنهم بالرمح والحربة فقالوا: بالرغم لا بالرضا، فقال: أرأيتم لو أنا ناصراً نصركم على   (1) ق والمختار: تحدد. (2) وكان يستميل ... الغرة: سقط من ر ق والمختار؛ بر من: الغرارة. (3) ت مج بر من: ويخيفونهم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 51 أعدائكم ما كنتم تصنعون قالوا: كنا نقدم أنفسنا بين يديه للموت، قالوا: من هو قال: ضيفكم - يعني نفسه - فقالوا: السمع الطاعة، وكانوا يغالون في تعظيمه؛ فأخذ عليهم العهود والمواثيق واطمأن قلبه، ثم قال لهم: استعدوا لحضور هؤلاء بالسلاح، فإذا جاءوكم فأجروكم على عاداتهم وخلوا بينهم وبين النساء وميلوا عليهم بالخمور، فإذا سكروا فأذوني بهم، فلما حضر (1) المماليك وفعل بهم أهل الحبل ما أشار به محمد، وكان ليلاً، فأعلموه بذلك، فأمر بقتلهم بأسرهم، فلم يمض من الليل سوى ساعة حتى أتوا على آخرهم، ولم يفلت منهم سوى مملوك واحد كان خارج المنازل لحاجة له، فسمع التكبير عليهم والوقع فهرب من غير الطريق حتى خلص من الحبل ولحق بمراكش وأخبر الملك بما جرى، فدنم على فوات محمد من يده، وعلم أن الحزم كان مع ملك بن وهيب فيما أشار به، فجهز من وقته خيلاً بمقدار ما يسع وادي تين مل فإنه ضيق المسلك، وعلم محمد أنه لا بد من عسكر يخرج إليهم، فأمر أهل الجبل بالقعود على أنقاب الوادي ومراصده (2) ، واستنجد لهم بعض المجاورين، فلما وصلت الخيل إليهم أقبلت عليهم الحجارة من جانبي الوادي مثل المطر، وكان ذلك من أول النهار إلى آخره، وحال بينهم الليل، فرجع العسكر إلى الملك وأعلموه بما تم لهم، فعلم أنه لا طاقة له بأهل الجبل لتحصنهم، فأعرض عنهم. وتحقق محمد ذلك منه، وصفت له مودة أهل الجبل، فعند ذلك استدعى الونشريسي المذكور وقال له: هذا أوان إظهار فضائلك دفعة واحدة. ليقوم لك مقام المعجزة لنستميل بك قلوب من لا يدخل في الطاعة، ثم اتفقنا على أنه يصلي الصبح ويقول بلسان فصيح بعد استعمال العجمة واللكنة في تلك المدة: إني رأيت البارحة في منامي وقد نزل بي ملكان من السماء وشقا فؤادي وغسلاه وحشياه علماً وحكمة وقرآناً، فلما أصبح فعل ذلك، وهو فصل يطول شرحه، فانقاد له كل صعب القياد، وعجبوا من حاله وحفظه القرآن   (1) المختار، ر ن: حضروا. (2) ن: ومراصدة من يحضر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 52 في النوم، فقال له محمد فعجل لنا البشرى في أنفسنا وعرفنا أسعداء نحن أم أشقياء فقال له: أما أنت فإنك المهدي القائم بأمر الله، ومن تبعك سعد ومن خالفك هلك؛ ثم قال: اعرض أصحابك علي حتى أميز أهل الجنة من أهل النار، وعمل في ذلك حيلة قتل بها من خالف أمر محمد، وأبقى من أطاعه، وشرح ذلك يطول، وكان غرضه أن لا يبقى في الجبل مخالف لمحمد، فلما قتل من قتل وعلم محمد أن في الباقين من له أهل وأقارب قتلوا وأنهم لا تطيب قلوبهم بذلك فجمعهم وبشرهم بانتقال ملك (1) مراكش إليهم، واغتنام أموالهم، فسرهم ذلك وسلاهم عن أهلهم، وبالجملة فإن تفصيل هذه الواقعة يطول شرحه ولسنا بصدد ذلك. وخلاصة الأمران محمداً لم يزل يجهز جيشاً عدد رجاله عشرة آلاف بين فارس وراجل، وفيهم عند المؤمن والونشريسي وأصحابه كلهم، وأقام هو بالجبل، فنزل لحصار مراكش، وأقاموا عليها شهراً، ثم كسروا كسرة شنيعة، وهرب من سلم من القتل، وكان فيمن سلم عبد المؤمن، وقتل الونشريسي، وبلغ محمداً الخبر وهو بالجبل وحضرته الوفاة قبل عودة أصحابه إليه، فأوصى من حضر أن يلغ الغائبين أن النصر لهم، وأن العاقبة حميدة فلا يضجروا وليعاودوا القتال:، وأن الله سبحانه وتعالى سيفتح على أيديهم والحرب سجال، وإنكم ستقوون ويضعفون ويقلون وتكثرون، وأنتم في مبدإ أمرٍ وهم في آخره، ومثل هذه الوصايا وأشباهها، وعي وصية طويلة. ثم إنه توفي إلى رحمه الله تعالى في سنة أربع (2) وعشرين وخمسمائة، ودفن في الجبل، وقبره هناك مشهور يزار، وهذه السنة تسمى عندهم عام البحيرة؛ وكانت ولادته يوم عاشوراء سنة خمس وثمانين وأربعمائة، وأول ظهوره ودعائه إلى هذا الأمر سنة أربع عشرة وخمسمائة. وكان رجلاً ربعة قضيفاً أسمر عظيم الهامة حديد النظر، وقال صاحب كتاب " المغرب في أخبار أهل المغرب " في حقه:   (1) المختار: وبشرهم بالقتال وأن ملك صاحب. (2) ق: خمس. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 53 آثاره تنبيك عن أخباره ... حتى كأنك بالعيان تراه قدم في الثرى وهمة في الثريا، ونفس ترى إراقة ماء الحياء دون إراقة ماء المحيا، أغفل المرابطون حله وربطه، حتى دب دبيب الفلق في الغسق، وترك الدنيا دوياً، انشأ دولة لو شاهدها أبو مسلم، لما كان لعزمه فيها بمسلم، وكان قوته من غزل أخت له رغيفاً في كل يوم بقليل سمن أو زيت، ولم ينتقل عن هذا حين كثرت عليه الدنيا، ورأى أصحابه يوماً وقد مالت نفوسهم إلى كثرة ما غنموه، فأمر بضم ذلك جميعه وأحرقه وقال: من كان يتبعني للدنيا فما له عندي إلا ما رأى، ومن تبعني للآخرة فجزاؤه عند الله تعالى. وكان على خمول زيه وبسط وجهه مهيباً منيع الحجاب، إلا عند مظلمة، وله رجل مختص بخدمته والإذن عليه، وكان شعر فمن ذلك قوله: أخذت بأعضادهم إذ نأوا ... وخلفك القوم إذ وعوا فكم أنت تنهى ولا تنتهي ... وتسمع وعظاً ولا تسمع فيا حجر الشحذ حتى متى ... تسن الحديد ولا تقطع وكان كثيراً ما ينشد: تجرد من الدنيا فإنك إنما ... خرجي إلى الدنيا وأنت مجرد وكان أيضاً يتمثل بقول المتنبي: إذا غامرت في شرف مروم ... فلا تقنع بما دون النجوم فطعم الموت في أمر حقير ... كطعم الموت في أمر عظيم وبقوله أيضاً: ومن عرف الأيام معرفتي بها ... وبالناس، روى رمحه غير راحم فليس بمرحوم إذا ظفروا به ... ولا في الردى الجاري عليهم بآثم وبقوله أيضاً: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 54 وما أنا منهم بالعيش فيهم ... ولكن معدن الذهب الرغام ولم يفتح شيئاً من البلاد، وإنما قرر القواعد ومهدها، ورتب الأحوال ووطدها، وكانت الفتوحات على يد عبد المؤمن كما تقدمر ذكره في ترجمته. والهرغي: بفتح الهاء وسكون الراء وبعدها غين معجمة، هذه النسبة إلى هرغة وهي قبيلة كبيرة من المصامدة في جبل السوس في أقصى المغرب تنسب إلى الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، يقال إنها نزلت في ذلك المكان عندما فتح المسلمون البلاد على يد موسى بن نصير - الآتي ذكره إن شاء الله تعالى. وتومرت: بضم التاء المثناة من فوقها وسكون الواو وفتح الميم وسكون الراء بعدها تاء مثناة من فوقها أيضاً، وهو اسم بربري. والونشريسي: بفتح الواو وسكون النون وفتح الشين المعجمة وكسر الراء وسكون الياء المثناة من تحتها وبعها سين مهملة، هذا النسبة إلى ونشريس، وهي بليدة (1) بإفريقية من أعمال بين باجة وقسطنطينة المغرب. وتين مل: بكسر التاء المثناة من فوقها وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها نون ثم ميم مفتوحة ولام مشددة (2) . وقد تقدم الكلام على الجفر فر ترجمة عبد المؤمن فليكشف من هناك؛ والله أعلم.   (1) ونشريس: جبل يقع في الجزائر. (2) تكتب في المصادر المغربية تين ملل، وهو أصح. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 55 (1) 689 أبو بكر الأخشيد أبو بكر محمد بن أبي محمد طغج - وتفسيره عبد الرحمن - ابن جف بن يلتكين بن فوران بن فوري (2) بن خالقان، الفرغاني الأصل، صاحب سرير الذهب المنعوت بالإخشيد، صاحب مصر والشام والحجاز؛ أصله من أولاد ملوك فرغانة (3) . (209) وكان المعتصم بالله بن هارون الشريد قد جلبوا إليه من فرغانة جماعة كثيرة، فوصفوا له جف وغيره بالشجاعة والتقدم في الحروب فوجه المعتصم من أحضرهم، فلما وصلوا إليه بالغ في إكرامهم وأقطعهم قطائع بسر من رأى، وقطائع جف إلى الآن معروفة هناك ولم يزل مقمياً بها، وجاءته الأولاد، وتوفي جف ببغداد في الليلة التي قتل فيها المتوكل، وكانت ليلة الأربعاء لثلاث خلون من شوال سنة سبع وأربعين ومائتين.   (1) أخباره في تاريخ ابن الأثير (صفحات متفرقة من ج: 8) والمغرب (قسم مصر) 1: 148 والنجوم الزاهرة 3: 251 والكندي: 281، 286 والوافي 3: 171 وعبر الذهبي 2: 239 والشذرات 2: 337. (2) مج: قوران بن قوري. (3) وردت هذه الترجمة في مج ت موجزة كثيراً مختلفة في سياقها كالآتي: أصله من أولاد ملوك فرغانة وكان أبوه طغج ينوب عن خمارويه أحمد بن طولون المقدم ذكره في ولاية دمشق والشام، وكان ولده محمد المذكور حازماً شديد التيقظ في حروبه حسن التدبير مكرماً للأجناد شديد القوى لا يكاد يجر قوسه غيره، حسن السيرة في الرعية، فلما رأى الإمام القاهر بالله نجابته وشهامته ولاه مصر في سنة ثلاث وعشرين وثلثمائة ولقبه الإخشيد لكونه من أولاد ملوك فرغانة وهذا اللقب وضع لكل من تلك الجهة كما لقبوا ملك الترك ... الخ؛ فلما مات الراضي وتولى ولده المتقي ضم إليه الشام والحجاز فاتسعت مملكته وعظم شأنه، وهو أستاذ كافور وفاتك ... الخ وهو عم أبي محمد الحسن بن عبيد الله بن طغج صاحب الرملة الذي مدحه المتنبي (ثم قصيدة المتنبي وذكر الولادة والوفاة وضبط بعض الأسماء) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 56 (210) فخرج (1) أولاده إلى البلاد يتصرفون ويطلبون لهم معايش، فاتصل طغج بن جف بلؤلؤ غلام ابن طولون وهو إذ ذاك مقيم بديار مصر، فاستخدمه على ديار مصر، ثم انحاز طغج إلى جملة أصحاب إسحاق بن كنداج، فلم يزل معه إلى أن مات أحمد بن طولون، وجرى الصلح بين ولده أبي الجيش خمارويه بن أحمد بن طولون - المقدم ذكره (2) - وبين إسحاق بن كنداج، ونظر أبو الجيش إلى طغج بن جف في جملة أصحاب إسحاق فأعجب به وأخذه من إسحاق وقدمه على جميع من معه، وقلده دمشق وطبرية، ولم يزل معه إلى أن قتل أبو الجيش - في تاريخه المقدم ذكره - فرجع طغج إلى الخليفة المكتفي بالله، فخلع عليه وعرف له ذلك، وكان وزير الخليفة يومئذ العباس بن الحسن، فسام طغج أن يجري في التذلل له مجرى غيره، فكبرت نفس طغج عن ذلك، فأغرى به المكتفي، فقبض عليه وحبسه وابنه أبا بكر محمد بن طغج المذكور، فتوفي طغج في السجن. وبقي له ولده أبو بكر بعده محبوساً مدة، ثم أطلق وخلع عليه، ولم يزل يراصد العباس بن الحسن الوزير المذكور حتى أخذ بثأر أبيه هو وأخوه عبيد الله في الوقت الذي قتله فيه الحسين بن حمدلن. ثم خرج أبو بكر وأخوه عبيد الله في سنة ست وتسعين ومائتين، وهرب عبيد الله إلى ابن أبي الساج، وهرب أبو بكر على الشام، وأقام متغرباً في البادية سنة، ثم اتصل بأبي منصور تكين الخرزي، فكان أكبر أركانه. ومما كبر به اسمه سريته إلى التنقيب على الجمع الذين تجمعوا على الحجاج لقطع الطريق عليهم، وذلك سنة ست (3) وثلثمائة، وهو يومئذ يتقلد عمان وجبال الشراة من قبل تكين المذكور، وظفره بهم، ومجيء الحاج وقد فرغ من أمرهم بأسر من أسره وقتل من قتله وشرد الباقين. وكان قد حج في هذه السنة من دار الخليفة المقتدر بالله امرأة تعرف بعجوز، فحدثت المقتدر بالله بما شاهدت   (1) ق بر من: فنجع. (2) ج 2: 221. (3) ق: ثمان. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 57 منه، فانفذ إليه خلعاً وزيادة في رزقه. ولم يزل أبو بكر في صحبة تكين إلى سنة ست عشرة وثلثمائة، ثم فارقه بسبب اقتضى ذلك ولا حاجة بنا إلى التطويل بذكره، وسار إلى الرملة فوردت كتب المقتدر إليه بولاية الرملة، فأقام بها إلى سنة ثماني عشرة، فوردت كتب المقتدر إليه بولاية دمشق فسار إليها، ولم يزل بها إلى أن ولاه القاهرة بالله ولاية مصر في شهر رمضان سنة إحدى وعشرين وثلثمائة، ودعي له بها مدة اثنتين وثلاثين يوماً ولم يدخلها، ثم ولي أبو العباس أحمد بن كيغلغ الولاية الثانية من قبل القاهرة أيضاً لتسع خلون من شوال سنة إحدى وعشرين وثلثمائة، ثم أعيد إليها أبو بكر بن محمد بن الإخشيد من جهة الخليفة الراضي بالله بن المقتدر بعد خلع عمه القاهر عن الخلافة، وضم إليه البلاد الشامية والجزرية والحرمين وغير ذلك، ودخل مصر يوم الأربعاء لسبع (1) بقين من شهر رمضان المعظم سنة ثلاث وعشرين وثلثمائة وقيل إنه لم يزل على مصر فقط إلى أن توفي الراضي بالله في سنة تسع وعشرين وثلثمائة، وتولى أخوه المقتفي لأمر الله فضم إليه الشام والحجاز وغير ذلك، والله أعلم. ثم إن الراضي لقبه بلإخشيد في شهر رمضان المعظم سنة سبع وعشرين وثلثمائة إنما لقبه بذلك لأنه لقب ملوك فرغانة، وهو من أولادهم - كما سبق ذكره في أول هذه الترجمة - وتفسيره بالعربي ملك الملوك، وكل من ملك تلك الناحية لقبوا بهذا اللقب، كما لقبوا كل من ملك بلاد فارس كسرى (2) ، وملك الترك خاقان، وملك الروم قيصر، وملك الشام هرقل، وملك اليمن تبع، ملك الحبشة النجاشي، وغير ذلك. وقيصر كلمة فرنجية تفسيرها بالعربية شق عنه وسببه أن أمه ماتت في المخاض فشق بطنها وأخرج، فسمي قيصر، وكان يفتخر بذلك على غيره من الملوك، لأنه لم يخرج من الرحم، واسمه أغسطس، وهو أول ملوك الروم، وقد قيل إنه في السنة الثالثة والربعين من ملكه ولد المسيح   (1) ق: لتسع. (2) ق: كل من ملك بلاد بهذا اللقب - يعني فارس - كسرى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 58 عيسى عليه السلام وقيل في السنة السابعة عشرة من ملكه، فسموا ملوك الروم بإسمه، والله أعلم (1) . ودعي له إخشيد على المنابر بهذا اللقب واشتهر به وصار كالعلم عليه؛ وكان ملكاً حازماً كثير التيقظ في حروبه ومصالح دولته، حسن التدبير، مكرماً للجنود شديد القوى لا يكاد يجر قوسه غيره؛ وذكر محمد بن عبد الملك الهمذاني في تاريخه الصغير الذي سماه " عيون السير " إن جيشه كان يحتوي على أربعمائة ألف رجل، وأنه كان جباناً، وكان له ثمانية آلاف يحرسه في كل ليلة ألفان منهم، ويوكل بجانب خيمته الخدم إذا سافر، ثم لا يثق حتى يمضي إلى خيم الفراشين فينام فيها. ولم يزل على مملكته وسعادته إلى أن توفي في الساعة الرابعة من يوم الجمعة لثمان بقين من ذي الحجة سنة أربع وثلاثين وثلثمائة بدمشق، وحمل تابوته إلى بيت المقدس فدفن به؛ وقال أبو الحسين الرازي: توفي في سنة خمس وثلاثين، والله أعلم؛ وكانت ولادته يوم الإثنين منتصف شهر رجب من سنة ثمان وستين ومائتين ببغداد، بشارع باب الكوفة، رحمه الله تعالى. وهو أستاذ كافور الإخشيدي وفاتك الجنون - وقد تقدم ذكر كل واحد منهما في ترجمة مستقلة في هذا الكتاب (2) . ثم قام كافور المذكور بتربية ابني مخدومه أحسن قيام، وهما أبو القاسم أنوجور وأبو الحسن علي، كما تقدم شرحه في ترجمة كافور فأغنى عن إعادته هاهنا، فقد ذكرت هناك تاريخ مولد كل واحد منهما، ومدة ولايته وتاريخ وفاته، على سبيل الاختصار، واستوفيت حديث كافور وما كان منه إلى حين وفاته، وأن الجند أقاموا بعده أبا الفوارس أحمد بن علي بن الإخشيد المذكور، وأحلت بقية الكلام في ذلك على ذكره في هذه الترجمة؛ وكان عمر أبي الفوارس أحمد يوم ذاك إحدى عشرة سنة.   (1) زاد هنا في المختار: ((قلت، أعني كاتبها موسى بن أحمد لطف الله به: وكذلك برمك اسم لكل من يلي النوبهار الذي كان ببلخ وهو بيت النار الذي كان ألهة المجوس)) . (2) انظر ج 4: 21، 94. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 59 (211) وجعلوا خليفته في تدبير أموره أبا محمد الحسن بن عبيد الله بن طغج بن جف، وهو ابن عم أبيه، وكان صاحب الرملة من بلاد الشام، وهو الذي مدحه المتنبي بقصيدته التي أولها (1) : أنا لائمي إن كنت وقت الوائم ... علمت بما بي بين تلك المعالم وقال في مخلصها: إذا صليت لم أترك مصالا لفاتكٍ ... وإن قلت لم أترك مقالا لعالم وإلا فخانتني القوافي وعاقني ... عن ابن عبيد الله ضعف العزائم وما أحسن قولها فيها: أرى دن ما بين الفرات وبرقة ... ضراباً ينشي الخيل فوق الجماجم وطعن غطاريف كأن أكفهم ... عرفن الردينيات قبل المعاصم حمته على الأعداء من كل جانب ... سيوف بني طغج بن جف القاقم هم المحسنون الكر في حومة الوغي ... وأحسن منه كرهم في المكارم وهو يحسنون العفو عن كل مذنب ... ويحتملون الغرم عن كل غارم حييون إلا أنهم في نزالهم ... أقل حياء من شفار الصوارم ولولا احتقار الأسد شبهتها بهم ... ولكنها معدومة في البهائم ومنها: كريم نقضت الناس لما بلغته ... كأنهم ما جف من زاد قادم وكاد سروري لا يفي بندامتي ... على تركه في عمري المتقادم وهي قصيدة طويلة من غرر القصائد. ولما تقرر الأمر على هذه القاعدة تزوج الحسن بين عبيد الله ابنة عمه الإخشيد، دعوا له على المنابر بعد أبي الفوارس احمد بن علي وهو بالشام، واستمر الحال   (1) ديوان المتنبي: 195. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 60 على ذلك إلى يوم الجمعة لثلاث عشرة ليلة خلت من شعبان من سنة ثمان وخمسين وثلثمائة، ودخل إلى مصر رايات المغاربة الواصلين صحبة القائد جوهر المغربي - المقدم ذكره (1) - وانقرضت الدولة الإخشيدية، وكانت مدتها أربعاً وثلاثين سنة وعشرة أشهر وأربعة وعشرين يوماً. وكان قد قدم ابن عبيد الله من الشام منهزماً من القرامطة لما استولوا على الشام ودخل على ابنة عمه التي تزوجها وحكم وتصرف، وقبض على الوزير جعفر بن الفرات وصارده وعذبه، ثم سار إلى الشام في مسته شهر بيع الآخر من سنة ثمانين وخمسين وثلثمائة. ولما سير القائد جوهر المغربي جعفر بن فلاح إلى الشام، وملك البلاد حسبما شرحته في ترجمته، أسر جعفر بن فلاح أبا محمد بن عبد الله، وسيره إلى مصر مع جماعة من امراء الشام إلى القائد جوهر، ودخلوا مصر في جمادى الأولى سنة تسع وخمسن، وكان ابن عبيد الله قد أساء إلى أهل مصر في مدة ولايته عليهم فلما ولصوا إلى مصر تركوهم وقوفاً مشهورين مقدار سبع (2) ساعات، والناس ينظرون إليهم، وشمت بهم من في نفسه منهم شيء، ثم أنزلوا في مضرب القائد جوهر وجعلوا مع المعتقلين. وفي السابع عشر من جمادى الأولى أرسل القائد جوهر ولده جعفراً إلى مولاه المعز، ومعه هدايا عظيمة تجل عن الوصف، وأرسل معه المأسورين الواصلين من الشام، وفيهم ابن عبيد الله، وحملوا في مركب بالنيل، وجوهر واقف ينظر إليهم، فانقلب المركب، فصاح ابن عبيد الله على القائد (3) جوهر: يا أبا الحسن، أتريد أن تغرقنا فاعتذر إليه وأظهر التوجع له: ثم نقوا إلى مركب آخر، وكانوا مقيدين، فلم أقف لهم بعد على خير، والله أعلم. ثم وجدت بعدها في تاريخ العتقي أن الحسن المذكور توفي ليلة الجمعة لعشر بقين من شهر رجب سنة إحدى وسبعين وثلثمائة، وصلى عليه العزيز نزار بن المعز المذكور في القصر بالقاهرة.   (1) ج 1: 375. (2) ر ق بر من: خمس. (3) ر ق بر من: للقائد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 61 وذكر الفرغاني في تاريخه أن ولادة الحسن المذكور في سنة اثنتي عشرة وثلثمائة، وأنه توفي في التاريخ المذكور، وان أبا الفوارس أحمد بن علي المذكور توفي لثلاث عشرة ليلة خلت من ربيع الأول سنة سبع وسبعين وثلثمائة، والله أعلم. والإخشيد: بكسر الهمزة وسكون الخاء المعجمة وكسر الشين المعجمة وبعدها ياء ساكنة مثناة من تحتها ثم دال مهملة (1) - وقد تقدم الكلام على تفسير هذه الكلمة. وطغج: بضم الطاء المهملة وسكون الغين المعجمة وبعدها جيم. وجف: بضم الجيم وفتحها وبعدها فاء مشددة. ويلتكين: بفتح الياء الثناة من تحتها سكون اللام وكسر التاء المثناة من فوقها وبعدها كاف مكسورة ثم ياء مثناة من تحتها نون. وفوران بضم الفاء، وفوري بضم الفاء (2) . (212) وأما تكين المذكور فإنه ولي مصر ثلاث مرات، وتوفي بها في المرة الثالثة يوم السبت لست عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول سنة إحدى وعشرين وثلثمائة وتولاهما بعده أبو بكر الإخشيد كما تقدم ذكره. (213) وأما أحمد بن كيغلغ فقد ذكره الحافظ ابن عساكر في " تاريخ دمشق " في ترجمة مستقلة (3) وذكر ولايته مصر وقال: وجرت بينه وبين محمد بن تكين الخاصة حروب إلى أن خلص الأمر له، ثم قدم محمد بن طغج أميراً على مصر من قبل الراضي فسلم إليه مصر، وكان أحمد أديباً شاعراً، ومن شعره: لا يكن للكأس في كف ... ك يوم الغيث لبث أوما تعلم أن ال ... غيث ساق مستحث ومن شعره أيضاً:   (1) ق ر ن بر من: ثم ذال معجمة. (2) مج: وقوران وقوري بالغت في الكشف عنهما فلم أجد من يحقق ضبطهما. (3) تهذيب ابن عساكر 1: 440. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 62 واعطشا إلى فم ... يمج خمراً من برد إن قسم الناس فحس ... بي بك من كل أحد (214) ثم قال: ومات أخوه إبراهيم بن كيغلغ في مستهل ذي القعدة سنة ثلاث وثلثمائة. (215) وابنه إسحاق بن إبراهيم هو الذي كان بطرابلس، وعاق بها أبا الطيب المتنبي لما قدمها من الرملة يريد أنطاكية ليمدحه فلم يفعل، وهجاه بقصيدته التي أولها (1) : لهوى القلوب سريرة لا تعلم ... عرضاً نظرت وخلت أني أسلم ثم راح من عنده فبلغه موته بجبلة فقال (2) : قالوا لنا مات إسحاق فقلت لهم ... هذا الدواء الذي يشفي من الحمق وهذه القصيدة والتي قبلها موجودتان في ديوانه، فلذلك تركنا ذكرهما، وله فيه أيضاً غير ذلك من الهجاء، تجاوز الله عنا وعنهم أجمعين. (3) 690 طغرلبك أبو طالب محمد بن ميكائيل بن سلجوق بن دقاق الملقب ركن الدين طغرلبك أول ملوك السلاجقة؛ كان هؤلاء القوم قبل استيلائهم على المماليك يسكنون فيما   (1) ديوان المتنبي: 217. (2) ديوان المتنبي: 221. (3) أخباره في تاريخ ابن الأثير وأخبار الدولة السلجوقية ونصرة الفترة والنجوم الزاهرة موانظر المتنظم 8: 233 والوافي 5: 25 وعبر الذهبي 3: 235 والشذرات 3: 294. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 63 وراء النهر في موضع بينه وبين بخارى مسافة عشرين فرسخاً، وهم اتراك (1) ، وكانوا عدداً يجل عن الحصر والإحصاء، وكانوا لا يدخلون تحت طاعة سلطان، وإذا قصدهم جمع لا طاقة لهم به دخلوا المفاوز وتحصنوا بالرمال فلا يصل إليهم أحد، فلما عبر السلطان محمود بن سبكتكين إلى ما وراء النهر - وكان سلطان خراسان وغزنة وتلك النواحي وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى - وجد (2) زعيم بني سلجوق قوي الشوكة كثير العدة، يتصرف في أمره على المخاتلة والمراوغة وينتقل من أرض إلى غيرها ويغير في أثناء ذلك على تلك البلاد، فاستماله وجذبه، ولم يزل يخدعه حتى أقدمه إليه، فأمسكه وحمله إلى بعض القلاع واعتقله (3) ، وخرج في إعمال الحيلة في تدبير أمر أصحابه، واستشار أعيان دولته في شأنهم، فمنهم من أشار بإغراقهم في نهر جيحون؛ وأشار آخرون بقطع إبهام كل رجل منهم ليعتذر عليهم الرمي والعمل بالسلاح، واختلفت الآراء في ذلك، وآخر ما وقع الاتفاق عليه أن يعبر بهم جيحون إلى أرض خراسان ويفرقهم في النواحي، ويضع عليهم الخراج، ففعل ذلك، فدخلوا في الطاعة واستقاموا، وأقاموا على تلك الحالة مدة، فطمع فيهم العمال وظلموهم وامتدت إليهم أيدي الناس وتهضموا جانبهم وأخذوا من أموالهم ومواشيهم، فانفصل منهم ألفا بيت، ومضوا إلى بلاد كرمان، وملكها يومئذ الأمير أبو الفوارس ابن بهاء الدولة عضد الدولة بن بويه، فأقبل عليهم وخلع على وجوههم، وعزم على استخدامهم فلم يستتموا عشرة أيام حتى مات أبو الفوارس، وخافوا من الديلم، وهم أهل ذلك الإقليم، فبادروا إلى قصد أصبهان ونزلوا بظاهرها، وصاحبها علاء الدولة أبو جعفر بن كاكويه، فرغب في استخدامهم، فكتب إليه السلطان محمود يأمره بالإيقاع بهم ونهبهم، فتواقعوا   (1) وهم اتراك: سقطت من أكثر النسخ. (2) اختلف النص هنا في مج، إذ جاء فيه: ((فمر على أحياء هذه القبيلة وخركاواتها فاستكثر حاشيتها واستعظم ماشيتها وتخوف معرتها وخشي مضرتها، فاستدعي مقدمها واستماله ولم يزل يخدعه حتى أقدمه عليه وأمسكه وحمله. (3) واعتقله: سقطت من ق ر ن بر من. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 64 وقتل من الطائفتين جماعة، وقصد الباقون أذربيجان وانحاز الذين بخراسان إلى جبل قريب من خوارزم، فجرد السلطان محمود جيشاً وأرسله في طلبهم، فتتبعوهم في تلك المفاوز مقدار سنتين، ثم قصدهم محمود بنفسه ولم يزل في أثرهم حتى شردهم وشتتهم. ثم توفي محمود عقيب ذلك - في التاريخ الآتي ذكره في ترجمته إن شاء الله تعالى - وقام بالأمر بعده ولده مسعود، فاحتاج إلى الاستظهار بالجيوش، فكتب إلى الطائفة التي بأذربيجان لتتوجه إليه، فجاءه منهم ألف فارس، فاستخدمهم ومضى بهم إلى خراسان، فسألوه في أمر الباقين الذي شتتهم والده محمود، فراسلهم وشرد عليه لزوم الطاعة، فأجابوه إلى ذلك وأمنهم، وحضروا إليه ورتبهم على ما كان والده قد رتبهم أولاً، ثم دخل مسعود بلاد الهند لاضطراب أحوالها عليه، فخلت لهم البلاد وعادوا إلى الفساد، وبالجملة فإن الشرح في هذا يطول. وجرى هذا كله والسلطان طغرلبك المذكور واخوه داود ليسا معهم، بل كانا في موضعهم من نواحي ما وراء النهر، وجرت بينهما وبين ملكشاه صاحب بخارى وقعة عظيمة قتل فيها خلق كثير من أصحابهما، ودعت حاجتهما إلى اللحاق بأصحابهما الذي بخراسان فكاتبوا مسعوداً وسألوه الأمان والاستخدام، فحبس الرسل وجرد جيوشاً لمواقعة من بخراسان منهم، فكانت مقتلة عظيمة، ثم إنهم اعتذورا إلى مسعود وبذلوا له الطاعة وضمنوا له أخذ خوارزم من صاحبها، فطيب قلوبهم وأفرج عن الرسل الواصلين من جهة ما وراء النهر وسألوه أن يفرج عن زعيمهم الذي اعتقله أبوه محمود في أول الأمر، فأجابهم إلى سؤالهم وأنزله من تلك القلعة، وحمل إلى بلخ مقيداً فاستأذن مسعوداً في مراسلة ابني أخيه طغرلبك وداود - المقدم ذكرهما - فأذن له، فراسلهما. وحاصل الأمر أنهما وصلا إلى خراسان ومعهما أيضاً جيش كبير، فاجتمع الجميع، وجرت لهم مع ولاة خراسان ونواب مسعود في البلاد أسباب يطول شرحها. وخلاصة الأمر انهم استظهروا عليهم وظفروا بهم، وأول شيء ملكوه من البلاد طوس، وقيل الري، وكان تملكهم في سنة تسع وعشرين وأربعمائة، ثم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 65 بعد ذلك بقليل ملكوا نيسابور، إحدى قواعد خراسان، في شهر رمضان في السنة المذكورة، وكان السلطان طغرلبك المذكور كبيرهم، وإليه الأمر والنهي في السلطنة، وأخذ أخوه داود المذكور مدينة بلخ، وهو والد ألب أرسلان - الآتي ذكره إن شاء الله تعالى - واتسع لهم الملك واقتسموا البلاد، وانحاز مسعود إلى غزنة وتلك النواحي، وكانوا يخطبون له في أول الأمر، وعظم شأنهم إلى أن أرسلهم الإمام القائم بأمر الله، وكان الرسول الذي أرسلهم إليهم القاضي أبا الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي، مصنف " الحاوي " في الفقه - وقد تقدم ذكره (1) - ثم ملك بغداد والعراق، في سادس عشر شهر رمضان المعظم، سنة سبع وأربعين وأربعمائة، وأوصاهم بتقوى الله تعالى والعدل في الرعية والرفق بهم وبث الإحسان إلى الناس. وكان طغرلبك حليماً كريماً محافظاً على الصلوات الخمس في أوقاتها جماعة، وكان يصوم الإثنين والخميس ويكثر من الصدقات ويبني المساجد، ويقول: أستحي من الله سبحانه وتعالى أن أبني لي داراً ولا أبني إلى جانبها مسجداً. ومن محاسنه المسطورة أنه سير الشريف ناصر بن إسماعيل رسولاً إلى ملكة الروم، وكانت إذا ذاك امرأة كافرة، فاستأذنها الشريف في الصلاة بجامع القسطنطينية جماعة يوم الجمعة، فأذنت له في ذلك، فصلى وخطب للإمام القائم، وكان رسول المستنصر العبيدي صاحب مصر حاضراً فأنكر ذلك، وكان من أكبر الأسباب في فساد الحال بين المصريين والروم. ولما تمهدت له البلاد وملك العراق وبغداد، سير إلى الإمام القائم وخطب ابنته، فشق على القائم ذلك واستعفى منه، وترددت الرسل بينهما، ذكر ذلك في " الشذور " سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة، فلم يجد من ذلك بداً فزوجه بها، وعقد العقد بظاهر مدينة تبريز، ثم توجه إلى بغداد في سنة خمس وخمسين وأربعمائة، ولما دخلها سير طلب الزفاف وحمل مائة ألف دينار برسم حمل القماش ونقله، فزفت إليه ليلة الإثنين خامس عشر صفر بدار المملكة، وجلست على سرير ملبس بالذهب، ودخل إليها السلطان فقبل الأرض بين يديها ولم يكشف   (1) انظر ج 3: 282. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 66 البرقع عن وجهها في ذلك الوقت، وقدم لها تحفاً يقصر الوصف عن ضبطها، وقبل الأرض وخدم وتنصرف وظهر عليه سرور عظيم (1) . وبالجملة فأخبار الدولة السلجوقية كثيرة، وقد اعتنى بها جماعة من المؤرخين وألفوا فيها تآليف اشتملت على تفاصيل أمرهم، وما قصدت من الإتيان بهذه النبة إلا التنبيه على مبدإ حالهم، ليكشف جلية ذلك من يروم الوقوف عليه. وتوفي طغرلبك المذكور يوم الجمعة ثامن شهر رمضان المعظم سنة خمس وخمسين وأربعمائة بالري، وعمره سبعون سنة، ونقل إلى مرو ودفن عند قبر أخيه داود - وسيأتي ذكره في ترجمة ولده ألب أرسلان، إن شاء الله تعالى - وقال ابن الهمذاني في تاريخه، إنه دفن بالري في تربة هناك (2) ، وكذا قال السمعاني في " الذيل " (3) ، في ترجمة السلطان سنجر المقدم ذكره. وحكى وزيره محمد بن منصور الكندري - الآتي ذكره (4) - عنه انه قال: رأيت وأنا بخراسان في المنام كأنني رفعت إلى السماء، وأنا في ضباب لا أبصر معه شيئاً غير أني أشم رائحة طيبة، وإذا بمناد ينادي: أنت قريب من الباري جلت قدرته، فاسأل حاجتك لتقضى، فقلت في نفسي أسأل طول العمر، فقيل لك سبعون سنة، فقلت: يا رب لا تكفيني، فقيل لك سبعون سنة، فقلت: لا تكفيني، فقيل لك سبعون سنة، ذكر هذا شيخنا ابن الأثير في تاريخه (5) . ولما حضرته الوفاة قال: إنما مثلي مثل شاة تشد قوائهما لجز الصوف، فتظن أنها تذبح فتضطرب، حتى إذا أطلقت تفرح، ثم تشد للذبح فتظن أنه لجز الصوف فتسمن فتذبح، وهذا المرض الذي أنا فيه هو أشد القوائم للذبح، فمات منه، رحمه الله تعالى؛ ولم تقم بنت الإمام القائم في صحبته إلا مقدار ستة أشهر.   (1) جاءت هذه الفقرة بإيجاز شديد في مج ت؛ ر ن من بر: السرور. (2) ق: تربة والده هناك. (3) ق ن ر: الذيل. (4) في النسخ: المقدم ذكره. (5) ابن الأثير 10: 26. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 67 ولم يخلف ولداً ذكراً، فانتقل ملكه إلى ابن أخيه ألب أرسلان حسبما شرح في ترجمته. وماتت زوجته ابنة القائم في سنة ست وتسعين وأربعمائة، في سادس المحرم. وطغرلبك: بضم الطاء المهملة وسكون الغين المعجمة وضم الراء وسكون اللام وفتح الباء الموحدة وبعدها كاف، وهو اسم علم تركي مركب من طغرل وهو اسم علم بلغة الترك لطائر معروف عندهم، وبه سمي الرجل، وبك معناه الأمير. وسلجوق: بفتح السين المهملة وسكون اللام وضم الجيم وسكون الواو وبعدها قاف. ودقاق: بضم الدال المهملة وبين القافين ألف ساكنة. وجيحون: بفتح الجيم وسكون الياء المثناة من تحتها وضم الحاء المهملة وسكون الواو وبعدها نون، وه النهر العظيم الفاصل ما بين خوارزم وبلاد خراسان وبين بخارى وسمرقند وتلك البلاد، فكل ما كان من تلك الناحية فهو ما وراء النهر، والمراد بالنهر هم النهر المذكور، وهو أحد انهار الجنة الذي جاء ذكره في الحديث أنه يخرج منها أربعة أنهار: نهران ظاهران ونهران باطنان، فالظاهران: النيل والفرات، والباطنيان: سيحون وجيجون. وسيحون: بفتح السين المهملة وسكون الياء المثناة من تحتها وضم الحاء المهملة وسكون الواو وبعدها نون، وهو وراء جيحون فيما يلي بلاد الترك، وبينهما مسافة خمسة وعشرين يوما (1) ً، وهذان النهران مع عظمهما وسعة عرضهما يجمدان في زمن الشتاء، وتعبر القوافل عليهما بدوابهما وأثقالهما ويقيمان كذلك مقدار ثلاثة أشهر. وهذا كله وإن كان خارجاً عن مقصودنا لكنه متعلق بما نحن فيه، فانتشر الكلام، وما يخلو من فائدة يقف عليها من كان يتوقعها ممن بعدت بلاده ولا يعرف صورة الحال.   (1) ر ق بر من: خمسة عشر يوماً. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 68 (1) 691 ألب أرسلان أبو شجاع محمد بن جعفري بك داود بن ميكائيل بن سلجوق بن دقاق، الملقب عضد الدولة ألب أرسلان، وهو ابن أخي السلطان طغرلبك - المقدم ذكره - وقد تقدم في ترجمة طغرلبك طرف من أخبار والده داود المذكور. ولما مات السلطان طغرلبك - في التاريخ المذكور في ترجمته - نص على تولية المر لسليمان بن داود أخي ألب أرسلان المذكور، ولم ينص عليه إلا لأن أمه كانت عنده فتبع هواها في ولدها، فقام سليمان بالأمر وثار عليه أخوه ألب أرسلان وعمه شهاب الدولة قتلمش، وجرت بينهم خطوب فلم يتم لسليمان الأمر، وكانت النصرة لأخيه ألب أرسلان. فاستولى على الممالك، وعظمت مملكته ورهبت سطوته، وفتح من البلاد ما لم يكن لعمه طغرلبك مع سعة ملكك عمه، وقصد بلاد الشام فانتهى إلى مدينة حلب وصاحبها يومئذ محمود بن نصر بن صالح بن مرداس الكلابي، فحاصره مدة ثم جرت المصالحة بينهما، فقال ألب أرسلان: لا بد من دوس بساطي، فخرج إليه محمود ليلاً ومعه أمه، فتلقاهما بالجميل وخلع عليهما وأعادهما إلى البلد ورحل عنها. وقال المأموني في تاريخه: قيل إنه لم يعبر الفرات في قديم الزمان ولا حديثه في الإسلام ملك تركي قبل ألب أرسلان، فإنه أول من عبرها (2) من ملوك الترك. ولما عاد عزم على قصد بلاد الترك، وقد كمل عسكره مائتي ألف فارس أو يزيدون، فمد عللا جيحون - النهر المقدم ذكره - جسراً وأقام العسكر   (1) ترجمته في المصادر التاريخية المذكورة في الترجمة السابقة، وانظر الوافي 2: 308 والمنتظم 8: 279 والنجوم الزاهرة 5: 92 وعبر الذهبي 4: 258 والشذرات 3: 318. (2) كذا هو في المختار وق ر بر من، وسقط النص من مج ت. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 69 يعبر عليه شهراً، وعبر هو بنفسه أيضاً، ود السماط في بليدة يقال لها " فربر " ولتلك البليدة حصن على شاطئ جيحون، في السادس من شهر ربيع الأول، سنة خمس وستين وأربعمائة، فأحضر إليه أصحابه مستحفظ الحص، ويقال (1) له يوسف الخوارزمي، وكان قد ارتكب جريمة في أمر الحصن، فحمل إليه مقيداً، فلما قرب منه أمر أن تضرب (2) أربعة أوتاد لتشد أطرافه الأربعة إليها ويعذبه ثم يقتله، فقال يوسف المذكور: ومثلي يفعل به هذه المثلة فغضب ألب أرسلان وأخذ قوسه وجعل فيها سهماً، وأمر بحل قيده ورماه فأخطأه وكان مدلاً برميه، وكان جالساً على سريره، فنزل عنه فعثر ووقع على وجهه، فبادر يوسف المذكور وضربه بسكين كانت معه في خاصرته، فوثب عليه فراش أرمني فضربه في رأسه بمزربة فقتله، فانتقل ألب أرسلان إلى خيمة أخرى مجروحاً، فأحضر وزيره نظام الملك أبا علي الحسن - المذكور في حرف الحاء (3) - وأوصى به إليه، وجعل ولده ملك شاه ولي عهده - وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى. ثم توفي يوم السبت عاشر الشهر المذكور، وكانت ولادته سنة أربع وعشرين وأربعمائة، وكانت مدة ملكه تسع سنين وأشهراً، ونقل إلى مرو ودفن عند قبر أبيه داود وعمه طغرلبك، ولم يدخل بغداد ولا رآها، مع أنها كانت داخلة في ملكه، وهو الذي بنى على قبر الإمام أبي حنيفة مشهداً، ووبنى ببغداد مدرسة أنفق عليها أمولاً عظيمة؛ وذكر في كتاب " زبدة التواريخ " أنه جرح يوم السبت، سلخ شهر ربيع الأول سنة خمس وستين، وعاش بعد الجراحة ثلاثة أيام، والله أعلم. وقد تقدم ذكر أبيه، وانه كان صاحب بلخ، وتوفي بها في رجب سنة إحدى وخمسين، وقيل سنة خمسين وأربعمائة، ونقل إلى مرو ودفن بها، وقيل إنه توفي بمرو، والله أعلم بالصواب، وقيل توفي في صفر سنة اثنتين وخمسين   (1) ت مج: مستحفظ قلعة يقال له. (2) إلى هنا تنتهي النسخة ت وقد سقطت منها أوراق كثيرة. (3) ج 2: 128. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 70 وأربعمائة، ودفن بمدرسة مرو، رحمه الله تعالى. وقد تقدم ذكر ولده تتش في حرف التاء. وألب أرسلان: بفتح الهمزة وسكون اللام وبعدها ياء موحدة، وبقية الاسم معروفة فلا حاجة إلى تفسيرها، وهو اسم تركي معناه شجاع أسد، فألب شجاع، وأرسلان أسد. (216) وأما شهاب الدولة قتلمش بن إسرائيل بن سلجوق، فإنه والد سليمان ابن قتلمش جد الملوك أصحاب الروم إلى الآن، وكان له حصون وقلاع من جملتها كردوكه وغيرها من عراق العجم، وعصى على ابن أخيه ألب أرسلان المذكور وحاربه بالقرب من الري، فلما انجلى الأمر وجد قتلمش ميتاً لا يدري كيف كان موته، وذلك في المحرم من سنة ست وخمسين وأربعمائة، قيل إنه مات من الخوف، فشق ذلك على ألب أرسلان، والله تعالى أعلم بالصواب. (1) 692 محمد بن ملكشاه السلجوقي أبو شجاع محمد بن ملك شاه بن ألب أرسلان المذكور قبله، الملقب غياث الدين، وقد تقدم في ترجمة جده تتمة نسبه فلا حاجة إلى الإعادة. ولما توفي والده ملكشاه اقتسم مملكته أولاده الثلاثة وهو بركياروق وسنجر - وقد تقدم ذكرهما - ومحمد المذكور، ولم يكن لمحمد وسنجر، وهما من أم واحدة، وجود بركياروق حديث، لأنه كان السلطان المشار إليه، وهما كالأتباع له، ثم اختلف محمد وبركياروق، فدخل محمد المذكور وأخوه سنجر إلى بغداد، وخلع عليهما الإمام المستظهر بالله، وكان محمد قد التمس من   (1) انظر المصادر التاريخية السابقة وراجع المنتظم 9: 196 والنجوم 5: 214 وعبر الذهبي 4: 23 والشذرات 4: 30، ولم يقف صاحب المختار عند هذه الترجمة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 71 أمير المؤمنين أن يجلس له ولأخيه سنجر، فأجيب إلى ذلك، وجلس لهما في قبة التاج وحضر أرباب المناصب وأتباعهم وجلس أمير المؤمنين على سدته، ووقف سيف الدولة صدقة بن مزيد صاحب الحلة عن يمين السدة، وعلى كتفه بردة النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى رأسه العمامة وبين يديه القضيب، وأفيض على محمد الخلع السبع التي جرت عادة السلاطين بها، وأبس الطوق والتاج والسوارين، وعقد له الخليفة اللواء بيده وقلده سيفين، وأعطاه خمسة أفراس بمراكبها، وخلع على أخيه سنجر خلعة أمثاله، وخطب لمحمد بالسلطنة في جامع بغداد كجاري عادتهم في ذلك الزمان وتركوا الخطبة لبركياروق لسبب اقتضى ذلك، ولا حاجة لشرحه لطوله، قال محمد بن عبد الملك الهمداني في تاريخه: وكان ذلك في سنة خمس وتسعين وأربعمائة، وقال صاحب تاريخ السلجوقية: أقيمت الخطبة ببغداد للسلطان محمد في سابع عشر ذي الحجة من سنة اثنتين وتسعين واربعمائة، ووافقه على ذلك غيره؛ ثم قال الهمداني: وكان من الاتفاق العجيب أن خطيب جامع القصر ببغداد لما بلغ إلى الدعاء للسلطان بركياروق، وأراد أن يذكره، سبق لسانه للسلطان محمد ودعا له، فأتى أصحاب بركياروق وشنعوا بما جرى في الديوان العزيز، فعزل الخطيب لهذا السبب ورتبوا ولده موضعه، فلم تتأخر خطبة السلطان محمد عن هذه الواقعة إلا أياماً قلائل، وكان ذلك فألاً للسلطان محمد، وأما بركياروق فإنه كان مريضاً وانحدر إلى واسط، ثم قوي أمره واستظهر، وجرى بينه وبين أخيه محمد مصاف على الري، وانكسر محمد، وبالجملة فإن شرح ذلك يطول. وكان السلطان محمد المذكور رجل الملوك السلجوقية وفحلهم، وله الآثار الجميلة والسيرة الحسنة، والمعدلة الشاملة، والبر للفقراء والأيتام، والحرب للطائفة الملحدة والنظر في أمور الرعية. وذكره أبو البركات ابن المستوفي في " تاريخ إربل " وذكر أنه وصل إليها في تاسع شهر ربيع الأول سنة ثمان وتسعين وأربعمائة، ورحل عنها متوجهاً إلى الموصل في ثاني عشر الشهر المذكور، ثم قال: ووجدت في كتاب ذكره الإمام أبو حامد الغزالي في مخاطبته السلطان محمد بن ملكشاه: اعلم يا سلطان الجزء: 5 ¦ الصفحة: 72 العالم أن بني آدم طائفتين: طائفة غفلاء نظروا إلى مشاهد حال الدنيا، وتمسكوا بتأميل العمر الطويل، ولم يتفكروا في النفس الأخير، وطائفة عقلاء جعلوا النفس الأخير نصب أعينهم، لينظروا إلى ماذا يكون مصيرهم، وكيف يخرجون من الدنيا ويفرقونها وإيمانهم سالم، وما الذي ينزل من الدنيا في قبورهم، وما الذي يتركون لأعيادهم من بعدهم ويبقى عليهم وباله ونكاله. ثم إن السلطان محمداً استقل بالمماليك بعد موت أخيه بركياروق - في التاريخ المذكور في ترجمته - ولم يبق له منازع وصفت له الدنيا، وأقام على ذلك مدة، ثم مرض زماناً طويلاً، وتوفي يوم الخميس الرابع والعشرين من ذي الحجة سنة إحدى عشرة وخمسمائة بمدينة أصبهان، وعمره سبع وثلاثون سنة وأربعة أشهر وستة أيام، وهو مدفون بأصبهان في مدرسة عظيمة، وهي موقوفة على الطائفة الحنفية، وليس بأصبهان مدرسة مثلها. ولما أيس من نفسه (1) أحضر ولده محمداً - الآتي ذكره إن شاء الله تعالى - فقبله وبكى كل واحد منهما، وأمره أن يخرج ويجلس على تخت السلطنة وينظر في أمور الناس، فقال لوالده: إنه يوم غير مبارك، يعني من طريق النجوم، فقال: صدقت، ولكن على أبيك، وأما عليك فمبارك بالسلطنة. فخرج وجلس على التخت بالتاج والسوارين، ولم يخلف أحد من الملوك السلجوقية ما خلفه من الذخائر وأصناف الموال والدواب وغير ذلك مما يطول شرحه، رحمه الله تعالى؛ وسيأتي ذكر والده في هذا الحرف، إن شاء الله تعالى. (217) وتزوج الإمام المقتفي أمر الله فاطمة ابنة السلطان محمد المذكور، وكان الوكيل في قبول النكاح الوزير شرف الدين أبا القاسم علي ابن طراد الزينبي، وذلك في سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة، وحضر أخوها مسعود العقد، ونقلت (2) فاطمة ابنة السلطان المذكورة إلى دار الخلافة للزفاف سنة أربع وثلاثين، ويقال إنها كانت تقرأ وتكتب، ولها التدبير الصائب، وسكنت في الموضع المعروف بدركاه خاتون، وتوفيت في عصمته يوم السبت الثاني والعشرين من شهر ربيع   (1) ق: حياته. (2) ق: ودخلت. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 73 الآخر سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة، ودفنت بالرصافة، رحمها الله تعالى، والله أعلم بالصواب. 693 - (1) الملك العادل ابن أيوب أبو بكر محمد بن أبي الشكر أيوب بن شاذي بن مروان، الملقب بالملك العادل سيف الدين، أخوه السلطان صلاح الدين، رحمهما الله تعالى - وقد تقدم ذكر والده في حرف الهمزة (2) ، وسيأتي ذكر أخيه صلاح الدين في حرف الياء إن شاء الله تعالى؛ وكان الملك العادل قد وصل إلى الديار المصرية صحبة أخيه وعمه أسد الدين شيركوه - المقدم ذكره - وكان يقول: لما عزمنا على المسير إلى مصر احتجب إلى حرمدان، فطلبته من والدي فأعطاني وقال: يا أبا بكر إذا ملكتم مصر أعطني ملئه ذهباً، فلما جاء إلى مصر قال: يا أبا بكر أين الحرمدان فرحت وملأته من الدراهم السود وجعلت أعلاها شيئاً من الذهب وأحضرته إليه، فلما رآه اعتقده ذهباً، فقلبه فظهرت الفضة السوداء، فقال: يا أبا بكر تعلمت من زغل المصريين. ولما ملك صلاح الدين الديار المصرية كان ينوب عنه في حال غيبته في الشام ويستدعي منه الأموال للإنفاق في الجند وغيرهم، ورأيت في بعض رسائل القاضي الفاضل أن الحمول تأخرت مدة، فتقدم السلطان إلى العماد الأصبهاني أن يكتب إلى أخيه الملك العادل يستحثه على إنفاذها حتى قال: يسير لنا الحمل من مالنا أو من ماله؛ فلما وصل الكتاب إليه ووقف على هذا الفصل شق عليه،   (1) أخباره في تاريخ ابن الأثير ومفرج الكروب والسلوك وابن إياس 1: 75 ومرآة الزمان: 594 وذيل الروضتين: 111 والشذرات 5: 65 والوافي 2: 235 والنجوم 6: 160 وعبر الذهبي 5: 58. (2) ج 1: 255، 260. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 74 وكتب إلى القاضي الفاضل يشكو من السلطان لأجل ذلك، فكتب القاضي الفاضل جوابه، وفي جملته: " وأما ما ذكره المولى من قوله يسير لنا الحمل من مالنا أو من ماله، فتلك لفظة فظة ما المقصود بها من المالك النجعة، وإنما المقصود بها من الكاتب السجعة، وكم من لفظة فظة، وكلمة فيها غلظة، جبرت عي الأقلام، وسدت خلل الكلام، وعلى المملوك الضمان في هذه النكتة، وقد فات لسان القلم منها أي سكنة، وكان المملوك حاضراً وقد خرجت قوارع الاستحثاث، وصرصر البازي وقوة نفس العماد قوة نفس البغاث، والسلام ". ولما ملك السلطان مدينة حلب في صفر سنة تسع وسبعين وخمسمائة - كما تقدم في ترجمة عماد الدين زنكي (1) - أعطاها لولده الملك الظاهري غازي - المقدم ذكره - ثم أخذها منه أعطاها للملك العادل، فانتقل إليها وقصد (2) قلعتها يوم الجمعة الثاني والعشرين من شهر رمضان المعظم من السنة المذكورة، ثم نزل عنها للملك الظاهري غازي ابن السلطان - المقدم ذكره - لمصلحة وقع الاتفاق عليها بينه وبين أخيه صلاح الدين، وخرج منها في سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة ليلة السبت الرابع والعشرين من شهر ربيع الأول، ثم أعطاها السلطان قلعة الكرك، وتنقل في المماليك في حياة السلطان وبعد وفاته؛ وقضاياه مشهورة مع الملك الفضل والملك العزيز والملك الظاهر، فلا حاجة إلى الإطالة بشرحها؛ وآخر الأمر أنه استقل بمملكة الديار المصرية، وكان دخوله القاهرة لثلاث عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الآخر سنة ست وتسعين وخمسمائة، واستقرت له القواعد. وقال أبو البركات ابن المستوفي في " تاريخ إربل " في ترجمة ضياء الدين أي الفتح نصر الله المعروف بابن الأثير الوزير الجزري ما مثاله: وجدت بخطه " خطب للملك العادل أبي بكر ابن أيوب بالقاهرة ومصر يوم الجمعة الحادي والعشرين من شوال سنة ست وتسعين وخمسمائة، وخطب له بحلب يوم الجمعة حادي عشر جمادى الآخرة سنة ثمان وتسعين وخمسمائة. وملك معها البلاد الشامية والشرقية وصفت له الدنيا، ثم ملك بلاد اليمن في سنة اثنتي عشرة وستمائة، وسير إليها   (1) انظر ج 2: 327. (2) ن ر ق بر من: وصعد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 75 ولد ولده المسعود صلاح الدين أبا المظفر يوسف المعروف بأطسيس ابن الملك الكامل - الآتي ذكره إن شاء الله تعالى -. وكان ولده الملك الأوحد نجم الدين أيوب ينوب عنه في ميافارقين وتلك النواحي، فاستولى على مدينة خلاط وبلاد أرمينية واتسعت مملكته، وذلك في سنة أربع وستمائة. ولما تمهدت له البلاد قسمها بين أولاده، فأعطى الملك الكامل الديار المصرية والملك المعظم البلاد الشامية، والملك الأشرف البلاد الشرقية، والأوحد في المواضع التي ذكرناها. وكان ملكاً عظيماً ذا رأي ومعرفة تامة قد حنكته التجارب، حسن السيرة جميل الطوية، وافر العقل، حازماً في الأمور صالحاً محافظاً على الصلوات في أوقاتها، متبعاً لأرباب السنة مائلاً إلى العلماء، حتى صنف له فخر الدين الرازي كتاب " تأسيس التقديس " وذكر اسمه في خطبته وسيره إليه من بلاد خراسان وبالجملة فإنه كان رجلاً مسعوداً، ومن سعادته أنه خلف أولاداً لم يخلف أحد من الملوك امثالهم في نجابتهم وبسالتهم ومعرفتهم وعلة همتهم، ودانت لهم العباد وملكوا خيار (1) البلاد، ولما مدح ابن عنين - المقدم ذكره (2) - الملك العادل بقصيدته الرائية المذكور بعضها في ترجمته جاء منها في مديح أولاده المذكورين قوله (3) : وله البنون بكل أرض منهم ... ملكٌ يقود إلى الأعادي عسكرا من كل وضاح الجبين تخاره ... بدراً، وإن شهد الوغى فغضنفرا   (1) ق: خير. (2) انظر ما تقدم ج 5: 14. (3) ديوان ابن عنين:7؛ وعلق ابن المؤلف هنا بقوله: " قلت، أعني كاتبها موسى بن أحمد لطف الله به: أخبرني والدي قدس الله روحه أن ابن عتيق لما كان ينشد هذه القصيدة بين يدي الملك العادل ووصل إلى هذا البيت " وله البنون ... " قال له ولده الملك المعظم: يا خوند، قصد بقوله " يقود " القيادة، وذلك في حالة المجون، فقال له الملك العادل: ما ترى في ما يقوله يا ابن عنين، فأنكر ثم أقسم عليه فقال: هذا أردت، فضحكوا من ذلك ". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 76 متقدمٌ حتى إذا النقع انجلى ... بالبيض عن سبي الحريم تأخرا قوم زكوا أصلاً وطابوا محتدا ... وتدفقوا جوداً وراقوا منظرا وتعاف خيلهم الورود بمنهلٍ ... ما لم يكن بدم الوقائع أحمرا يعشو إلى نار الوغى شغفاً بها ... ويجل أن يعشو إلى نار القرى وكم للشعراء فيهم من القصائد المختارة، لكن ذكرت هذه لكونها جامعة لجمعهم، ومن جملة هذه القصيدة في مدح الملك العادل قوله ولقد أحسن فيه: العادل الملك الذي أسماؤه ... في كل ناحية تشرف منبرا وبكل أرض جنة من عدله الص ... افي أسأل نداه فيها كوثرا عدل ببيت الذئب منه على الطوى ... غرتان وهو يرى الغزال الأعقرا ما في أبي بكر لمعتقد الهدى ... شك يريب بأنه خير الورى سيف صقال المجد أخلص متنه ... وأبان طيب الأصل منه الجوهرا ما مدحه بالمستعار له ولا ... آيات سؤدده حديث يفترى بين الملوك الغابرين وبينه ... في الفضل ما بين الثريا والثرى نسخت خلائقه الحميدة ما أتى ... في الكتب عن كسرى الملوك وقيصرا ملك إذا خفت حلوم ذوي النهى ... في الروع زاد رصانة (1) وتوقرا ثبت الجنان تراع من وثابته ... وثباته يوم الوغى أسد الشرى لفظٌ يكاد يقول عما في غد ... ببديهة أغنته أن يتفكرا حلم تخف له الحلوم وراءه ... رأي وعزم يحقر الإسكندرا يعفو عن الذنب العظيم تكرماً ... ويصد عن قول الخنا متكبرا لا تسعمن حديث ملك غيره ... يروى، فكل الصيد في جوف الفرا وبالجملة فإنها من القصائد المختارة. ولما قسم البلاد بين أولاده كان يتردد بينهم، وينتقل إليهم من مملكة إلى   (1) ر: صيانة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 77 أخرى. وكان في الغالب يضيف بالشام لأجل الفواكه (1) والثلج والمياه الباردة، ويشتي في الديار المصرية لاعتدال الوقت فيها وقلة البرد، وعاش في أرغد عيش، وكان يأكل كثيراً خارجاً عن المعتاد، حتى يقال إنه يأكل وحده خروفاً لطيفاً مشوياً، وكان له في النكاح نصيب وافر، وحاصل الأمر (2) انه كان ممتعاً في دنياه. وكانت ولادته بدمشق في المحرم سنة أربعين، وقيل ثمان وثلاثين وخمسمائة. وتوفي في سابع جمادى الآخرة سنة خمس عشرة وستمائة بعالقين، ونقل إلى دمشق ودفن بالعلقة ثاني يوم وفاته، ثم نقل إلى مدرسته المعروفة به ودفن في التربة التي بها (3) ، وقبره على الطريق يراه المجتاز من الشباك المركب هناك، رحمه الله تعالى. وعالقين: بفتح العين المهملة وبعد الألف لام مكسورة وقاف مكسورة أيضاً وياء مثناة من تحتها ساكنة وبعدها نون، وهي قرية بظاهر دمشق من الجيدور وكان ذلك عند وصول الفرنح إلى ساحل الشام، وقصدوا أولاً لقاء الملك العادل، فتوجه قدامهم إلى جهة دمشق ليتجهز ويتأهب للقائهم، فلما وصل إلى الموضع المذكور توفي به، فحينئذ أعرض جميع الفرنج عن دمشق (4) ، وقصدوا الديار المصرية فكانت وقعة دمياط المشهورة في ذلك التاريخ، وتاريخها مضبوط في ترجمة يحيى بن منصور المعروف بابن جراح في حرف الياء. وأطسيس: بفتح الهمزة وسكون الطاء المهملة وكسر السين المهملة وبعدها ياء مثناة من تحتها ثم سين ثانية، وهي كلمة تركية معناها بالعربية ما له اسم، ويقال: إنما سمي بذلك لأن الملك الكامل ما كان يعيش له ولد، فلما ولد هذا المسعود المذكور قال بعض الحاضرين في مجلسه من الأتراك: في بلادنا إذا كان الإنسان لا يعيش له ولد سماه أطسيس، فسماه أطسيس (5) ، والناس يقولون   (1) ر: الفاكهة. (2) ر ق: وحاصل ذلك. (3) إلى هنا انتهت الترجمة في مج. (4) ق ر: دمشق والشام. (5) ق: بذلك؛ المختار: ذلك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 78 أقسيس بالقاف، وصوبه (1) بالطاء، كذا قوالو والله أعلم. ثم ظفرت بتاريخ تسلم حلب محرراً، وهو أن عماد الدين زنكي نزل من قلعتها يوم الخميس الثاني والعشرين من صفر، وصعد صلاح الدين إليها يوم الاثنين السادس (2) والعشرين من صفر المذكور، والله أعلم. 694 - (3) الملك الكامل الأيوبي أبو المعالي محمد، ابن الملك العادل المذكور، الملقب بالملك الكامل ناصر الدين؛ قد سبق فر ترجمة والده طرف من خبره؛ ولما وصل الفرنج إلى دمياط - كما تقد ذكره - كان الملك الكامل في مبدأ استقلاله بالسلطنة، وكان عند جماعة كثيرة من أكابر الأمراء، وفيهم عماد الدين أحمد بن المشطوب - المذكور في حرف الهمزة - فاتفقوا مع أخيه الملك الفائز سابق الدين إبراهيم بن الملك العادل وانضموا إليه، وظهر للملك الكامل منهم أمور تدل على أنهم عازمون على تفويض السلطنة إليه وخلع الملك الكامل، واشتهر ذلك بين الناس؛ وكان الملك الكامل يداريهم لكونه في قبالة العدو، ولا يمكنه المقافزة والمنافرة، وطول نفسه معه، ولم يزل على ذلك حتى وصل إليه أخوه الملك المعظم صاحب دمشق - المذكور في حرف العين (4) - يوم الخميس تاسع عشر ذي القعدة سنة خمس عشرة وستمائة، فأطلعه الملك الكامل في الباطن على صورة الحال، وأن رأس هذه   (1) ق: والصواب. (2) ق ر: السابع. (3) أخباره في تاريخ ابن الأثير ومفرج الكروب والسلوك (ج 1) وابن إياس والوافي 1: 193 وابن الشعار ج 7: 240 والحوادث الجامعة: 107 ومرآة الزمان: 705 وذيل الروضتين: 166 وعبر الذهبي 5: 144 والشذرات 5: 172. (4) انظر ج 3: 494. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 79 الطائفة (1) ابن المشطوب، فجاءه يوماً على غفلة إلى خيمته واستدعاه، فخرج إليه فقال له: أريد أن أتحدث معك سراً في خلوة، فركب فرسه وسار معه وهو جريدة وقد جرد (2) المعظم جماعة ممن يعتمد عليهم ويثق إليهم، وقال لهم: اتبعونا، ولم يزل المعظم يشاغله بالحديث ويخرج معه من شيء إلى شيء حتى أبعد عن المخيم، ثم قال له: يا عماد الدين، هذه البلاد لك ونشتهي أن تهبها لنا، ثم أعطاه شيئاً من النفقة، وقال لأولئك المجردين: تسلموه حتى تخرجوه من الرمل، فلم يسعه إلا امتثال الأمر لانفراده وعدم القدرة على الممانعة في تلك الحال. ثم عاد المعظم إلى أخيه الكامل وعرفه صورة ما جرى، ثم جهز أخاه الملك الفائز إلى الموصل لإحضار النجدة منها ومن بلاد الشرق، فمات بسنجار وكان ذلك خديعة لإخراجه من البلاد، فلما خرج هذان الشخصان من العسكر تحللت عزائم من بقي من المراء الموافقين لهما، ودخلوا في طاعة الملك الكامل كرهاً لا طوعاً، وجرى في قضية دمياط ما هو مشهور، فلا حاجة إلى الإطالة بذكره؛ ولما ملك الفرنج دمياط وصارت في قبضتهم خرجوا منها قاصدين القاهرة ومصر، ونزلوا في رأس الجزيرة التي دمياط في برها، وكان المسلمون قبالتهم في القرية المعروفة بالمنصورة، والبحر حائل بينهم، وهو بحر أشموم، ونصر الله تعالى بمنه وجميل لطفه المسلمين عليهم، كما هو مشهور، ورحل الفرنج عن منزلهم ليلة الجمعة سابع شهر رجب سنة اثنا عشرة وستمائة، وتم الصلح بينهم وبين المسلمين في حادي عشر الشهر المذكور، ورحل الفرنج عن البلاد في شعبان من السنة المذكورة، وكانت مدة إقامتهم في بلاد الإسلام ما بين الشام والديار المصرية أربعين شهراً وسبعة عشرة يوماً، وكفى الله شرهم والحمد لله على ذلك، وقد فصلت ذلك في ترجمة يحيى بن جراح فيكشف هناك. فلما استراح خاطر الملك الكامل من جهة هذا العدو تفرغ للأمراء الذين كانوا متحاملين عليه فنفاهم عن البلاد، وبدد شملهم وشردهم، ودخل إلى القاهرة   (1) المختار: الضية. (2) هامش ن: أعلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 80 وشرع في عمارة البلاد واستخراج الأموال من جهاتها، وكان سلطاناً عظيم القدر جميل الذكر محباً للعلماء متمسكاً بالسنة النبوية حسن الاعتقاد معاشراً لأرباب الفضائل حازماً في أموره، لا يضع الشيء إلا في موضعه من غير إسراف ولا إقتار؛ وكانت تبيت عنده كل ليلة جمعة جماعة من الفضلاء، ويشاركهم في مباحثاتهم، ويسألهم عن المواضع المشكلة من كل فن، وهو معهم كواحد منهم، وكان يعجبه هذا البيتان وينشدهما كثيراً، وهما: ما كنت من قبل ملك قلبي ... تصد عن مدنف حزين وإنما قد طمعت لما ... حللت في موضع حصين وبنى بالقاهرة دار حديث ورتب لها وقفاً جيداً، وكان قد بنى على ضريح الإمام الشافعي، رضي الله عنه، قبة عظيمة، ودفن أمه عنده، وأجرى إليها من ماء النيل، ومدده بعيد، وغرم على ذلك جملة عظيمة. ولما مات أخوه الملك المعظم صاحب الشام - في التاريخ المذكور في ترجمته - وقام ولده الملك الناصر صلاح الدين داود مقامه، خرج الملك الكامل من الديار المصرية قاصداً أخذ دمشق منه، وجاءه أخوه الملك الأشرف مظفر الدين موسى - الآتي ذكره بعده إن شاء الله تعالى - فاجتمعا على أخذ دمشق - بعد فصول جرت يطول شرحها - وملك دمشق في أول شعبان سنة ست وعشرين وستمائة، وكان يوم الاثنين، فلما ملكها دفعها إلى أخيه الملك الأشرف، وأخذ عوضها من بلاد الشرق حران والرها وسروج والرقة ورأس عين، وتوجه إليها بنفسه في تاسع شهر رمضان المعظم من السنة المذكورة. واجتزت بحران في شوال سنة ست وعشرين وستمائة، والملك الكامل مقيم بها بعساكر الديار المصرية، وجلال الدين خوارزم شاه يوم ذاك يحاصر خلاط، وكانت لأخيه الملك الأشرف، ثم رجع إلى الديار المصرية. ثم تجهز (1) في جيش عظيم وقصد آمد في سنة تسع وعشرين وستمائة، فأخذها مع حصن كيفما وتلك البلاد من الملك المسعود ركن الدين مودود بن الملك الصالح   (1) المختار: ثم تجهز من الديار المصرية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 81 أبي الفتح محمد بن نور الدين محمد بن فخر الدين قرأ أرسلان بن ركن الدولة داود ابن نور الدولة سقمان - ويقال سكمان - بن أرتق، وقد تقدم ذكر جدهم أرتق؛ أخبرني بعض أهل آمد ممن عنده معرفة أن آمد انبرم أمرها وتسليمها إلى الملك الكامل في تاسع عشر ذي الحجة من السنة المذكورة، ودخلها ولده الملك الصالح نجم الدين أيوب في العشرين من الشهر المذكور، دخلها المذكور في مستهل المحرم سنة ثلاثين وستمائة. ولما مات الملك الأشرف - في التاريخ الآتي ذكره إن شاء الله تعالى في ترجمته - جعل ولي عهده أخاه الملك الصالح إسماعيل بن الملك العادل، فقصده الملك الكامل وانتزع منه دمشق، بعد مصالحة جرت بينهما، وذلك في التاسع من جمادى الأولى سنة خمس وثلاثين وستمائة، وأبقى له (1) بعلبك وأعمالها وبصرى وأرض السواد وتلك البلاد. ولما ملك البلاد الشرقية وآمد وتلك النواحي استخلف فيها ولده الملك الصالح نجم الدين أبا المظفر أيوب، واستخلف ولده الأصغر الملك العادل سيف الدين أبا بكر بالديار المصرية. وقد تقدم في ترجمة الملك العادل انه سير الملك المسعود إلى اليمن، وكان أكبر أولاد الملك الكامل، وملك الملك المسعود مكة حرسها الله تعالى وبلاد الحجاز مضافة إلى اليمن. وكان رحيل الملك المسعود عن الديار المصرية متوجهاً إلى اليمن يم الاثنين سابع عشر رمضان المعظم سنة إحدى عشرة وستمائة، ودخل مكة شرفها الله تعالى في الثالث من ذي العقدة من السنة، وخطب له بها وحج، ودخل زبيد وملكها مستهل المحرم سنة اثنتي عشرة وستمائة، ودخل مكة شرفها الله تعالى في ربيع الآخر من سنة عشرين وستمائة، أخذها من الشريف حسن بن قتادة الحسني، واتسعت المملكة للملك الكامل. ولقد حكى لي من حضر الخطبة يوم الجعة بمكة شرفها الله تعالى انه لما وصل الخطيب إلى الدعاء للملك الكامل قال: صاحب مكة وعبيدها، واليمن وزبيدها، ومصر وصعيدها، والجزيرة ووليدها، سلطان القبلتين، ورب العلامتين، خادم الحرمين الشريفين، أبو   (1) المختار: وأبقى عليه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 82 المعالي محمد الملك الكامل ناصر الدين خليل أمير المؤمنين؛ وبالجملة فق خرجا عن المقصود. ولقد رأيته بدمشق في سنة ثلاثة وثلاثين وستمائة عند رجوعه من بلاد الشرق واستنفاذه إياها من يد علاء الدين كيقباذ بن كيخسرو بن قلج أرسلان بن مسعود بن قلج (1) أرسلان بن سليمان بن قتلمش بن إسرائيل بن سلجوق بن دقاق السلجوقي صاحب الروم، وهي وقعة مشهورة يطول شرحها، وفي خدمته يومئذ بضعة عشر ملكاً منهم أخوه الملك الأشرف. ولم يزل في علو شانه وعظم سلطانه إلى أن مرض بعد أخذ دمشق ولم يركب، وكان ينشد في مرضه كثيراً: يا خليلي خبراني بصدق ... كيف طعم الكرى فإني عليل ولم يزل كذلك إلى أن توفي يوم الأربعاء بعد العصر، ودفن بالقلعة بمدينة دمشق يوم الخميس من رجب سنة خمس وثلاثين وستمائة، وكنت بدمشق يومئذ، وحضرت الصبحة يوم السبت في جامع دمشق لأنهم أخفوا موته إلى وقت صلاة الجمعة، فلما حضرت الصلاة قام بعض الدعاة على العريشة الذي بين يدي المنبر وترحم على الملك الكامل ودعا لولده الملك العادل صاحب مصر، وكنت حاضراً في ذلك الموضع، فضج الناس ضجة واحدة، وكانوا قد أحسوا بذلك، لكنهم لم يتحققوه إلا ذلك اليوم. وترتب ابن أخيه الملك الجواد مظفر الدين يونس بن شمس الدين مودود ابن الملك العادل في نيابة السلطنة بدمشق، عن الملك العادل بن الملك الكامل صاحب مصر، باتفاق الأمراء الذين كانوا حاضرين ذلك الوقت بدمشق. ثم بنى له تربة مجاورة للجامع، ولها شباك إلى الجامع، ونقل إليها؛ وكانت ولادته في سنة ست وسبعين وخمسمائة في الخامس والعشرين من شهر ربيع الأول كذا وجدته بخط من يعتني بالتاريخ، والله أعلم. (218) وتوفي ولده الملك المسعود بمكة شرفها الله تعالى في ثالث عشر جمادى الأولى سنة ست وعشرين وستمائة، ومولده في سنة سبع وتسعين وخمسمائة، وكان   (1) ق ر: قابيج. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 83 بمكة رجل من المجاورين يقال له الشيخ صديق بن بدر بن جناح، من أكراد بلاد إربل، وكان من كبار الصالحين، فلما حضرت الملك المسعود الوفاة أوصى أنه إذا مات لا يجهز بشيء من ماله، وكفنه في إزار كان أحرم فيه بالحج والعمرة سنين عديدة، وجهزه تجهيز الفقراء على حسب قدرته، وكان أوصى انه لا يبني على قبره شيء، بل يدفن في جانب المعلى جبانة مكة، وكان أوصى انه لا يبنى على قبره " هذا قبر الفقير إلى رحمة الله تعالى (1) يوسف بن محمد بن أبي بكر بن أيوب (2) " ففعل به ذلك. ثم إن عتيقة الصارم قايماز المسعودي الذي تولى القاهرة بعد ذلك بنى عليه قبة، ولما بلغ الملك الكامل ما فعله الشيخ الذي تولى القاهرة بعد ذلك بنى عليه قبة، ولما بلغ الملك الكامل ما فعله الشيخ صديق كتب إليه وشكره فقال: ما فعلت ما أستق به الشكر، فإن هذا رجل فقير سألني القيام بأمره فساعدته بما يجب على كل أحد القيام به من مواراة الميت، فقيل له: تكتب جواب الملك الكامل فقال: ليس لي إليه حاجة، وكان قد سأله أن يسأله حوائجه كلها، فما رد عليه الجواب؛ أخبرني بذلك كله من كان حاضراً ويعرف ما يقول، والله أعلم. (219) وأما ولد الملك العادل فإنه أقام في المملكة إلى يوم الجمعة ثامن ذي القعدة سنة سبع وثلاثين وستمائة، فقبض عليه أمراء دولته بظاهر بلبيس، وطلبوا أخاه الملك الصالح نجم الدين أيوب، وكان الصالح قد صالح الملك الجواد على أن أعطاه دمشق، وعوضه عنها سنجار وعانة، وقدم الصالح دمشق متملكاً لها في مستهل جمادى الآخرة سنة ست وثلاثين وستمائة. ثم إن عمه الملك الصالح عماد الدين إسماعيل صاحب بعلبك اتفق مع الملك المجاهد أسد الدين شير كوه بن ناصر الدين محمد بن أسد الدين شير كوه صاحب حمص على أخذ دمشق اغتيالاً، وكان الملك الصالح نجم الدين قد خرج منها قاصداً الديار المصرية ليأخذها من أخيه الملك العادل، فلما استقر بنابلس وأقام بها مدة جرت هذه الكائنة في سنة سبع وثلاثين وستمائة، يوم الثلاثاء السابع والعشرين من صفر، فهجما دمشق   (1) ق: رحمة ربه. (2) انظر العقد الثمين 7: 492، 4: 168. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 84 بعساكرهما وأخذاها، وهي قضية مشهورة، فلما أخذت دمشق رجع العسكر الذي كان مع الصالح نجم الدين إليها ليدرك كل واحد منهم أهله وبنيه، وتركوا الملك الصالح بنابلس وحيداً في نفر قليل من غلمانه وأتباعه (1) ، فجاءه الملك الناصر ابن الملك المعظم صاحب الكرك، وقبض عليه ليلة السبت الثاني والعشرين من شهر ربيع الأول من السنة، وأرسله إلى الكرك واعتقله بها، ثم إنه أفرج عنه في ليلة السبت السابع والعشرين من شهر رمضان المعظم من السنة المذكورة، وشرح ذلك يطول. واجتمع هو والملك الناصر على نابلس، فما قبض الملك العادل في التاريخ المذكور وطلب الأمراء الملك الصالح نجم الدين أيوب جاءهم ومعه الملك الناصر صاحب الكرك، ودخلا القاهرة في الساعة الثانية من يوم الأحد السابع والعشرين من ذي القعدة سنة سبع وثلاثين وستمائة، وكنت إذ ذاك (2) بالقاهرة (3) ، وأدخل أخوه الملك العادل في محفة واعتقله بها عند دخوله في داخل الدور السلطانية، وبسط العدل في الرعية وأحسن إلى الناس وأخرج الصدقات ورمم ما تهدم من المساجد، وسيرته طويلة. ثم إنه أخذ دمشق من عمه الملك الصالح في يوم الاثنين ثامن جمادى الأولى سنة ثلاث وأربعين وستمائة، وأبقى عليك بعلبك، ومضى بعد ذلك إلى الشام في سنة " أربع وأربعين ودخلها في تاسع عشر ذي القعدة من السنة، ثم توجه إليها " (4) ست وأربعين بعد أن كان عاد إلى مصر، ودخل دمشق في أوائل شعبان من السنة، وسير العساكر لحصار حمص، وقد كان الملك الناصر صاحب حلب أخذها من صاحبها الأشرف ابن صاحب حمص، ثم رجع في أوائل سنة سبع وأربعين وهو مريض. وقصد الفرنج دمياط وهو مقيم بأشموم ينتظر وصولهم، وكان وصولهم إليها   (1) وأبتاعه: سقطت من ق والمختار. (2) ق بر من: يومئذ؛ ر: يوم ذاك. (3) ق بر من: بالقاهرة مقيماً. (4) زيادة من ق، وفي المختار: ثم خرج غلى الشام مرتين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 85 يوم الجمعة العشرين من صفر سنة سبع وأربعين وستمائة، وملكوا بر الجيزة يوم السبت، وملكوا دمياط يم الأحد ثلاثة أيام متوالية لأن العسكر وجميع أهلها تركوها وهربوا منها. وانتقل الملك الصالح من بأشموم إلى المنصورة، ونزل بها وهو في غاية من المرض، وأقام بها على تلك الحال إلى أن توفي هناك ليلة الاثنين نصف شعبان من السنة المذكورة، وحمل إلى القلعة الجديدة التي في الجزيرة، وترك بها في مسجد هناك، وأخفي موته مقدار ثلاثة أشهر، والخطبة باسمه، إلى أن وصل ولده الملك المعظم توران شاه من حصن كيفا على البرية إلى المنصورة، فعند ذلك أظهروا موته، وخطب لولده المذكور، ثم بعد ذلك بني له بالقاهرة إلى جنب مدراسه تربة، ونقل إليها في رجب سنة ثمان وأربعين وستمائة. وكانت ولادته في الرابع والعشرين من جمادى الآخرة سنة ثلاث وستمائة، هكذا وجد بخط ابنه مكتوباً، ورأيت في مكان آخر أنه ولد في ليلة الخميس الخامس من جمادى الآخرة من السنة المذكورة وفي مكان آخر أنه ولد في الرابع من المحرم سنة أربع وستمائة، والله تعالى أعلم؛ وأمه جارية مولدة سمراء اسمها ورد المنى، رحمه الله تعالى. وكانت ولادة الملك العادل في ذي الحجة سنة سبع عشرة وستمائة، بالمنصورة ووالده في قبالة العدو على دمياط، وتوفي في الاعتقال يوم الاثنين ثاني عشر شوال سنة خمس وأربعين وستمائة بقلعة القاهرة، ودفن في تربة شمس الدولة خارج باب النصر، رحمه الله تعالى. هذه الفصول ذكرت خلاصتها، ولو فصلتها لطال الشرح، والمقصود الاختصار وطلب الإنجاز مع أني كنت حاضراً أكثر وقائعها (1) . (220) وكان للملك العادل المذكور ولد صغير يقال له الملك المغيث مقيماً بالقلعة، فلما وصل بن عمه الملك المعظم توران شاه إلى المنصورة سير من هناك ونقله إلى قلعة الشوبك. فلما جرت الكائنة على المعظم متسلم قلعة الكرك   (1) وقعت هذه الجملة في آخر الترجمة في المختار. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 86 الملك المغيث من الشوبك وسلم إليه الكرك والشوبك وتلك النواحي، وهو الآن ملكها، ولم يزل مالكاً لها إلى سنة إحدى وستين وستمائة، فنزل الملك الظاهر ركن الدين بيبرس (1) المذكور في ترجمة القاضي مجلي صاحب كتاب " الذخائر " بالغور، وراسله وبذل له من تسليم البلد بذولاً كثيرة وحلف له، ويقال إنه ورى في اليمن ولم يستقص فيها. فنزل إليه إلى منزله بالطور من (2) الغور، فقيض عليه ساعة وصوله إلى قلعة الجبل بمصر واعتقله بها. (221) وكان للمغيث ولد ينعت بالعزيز فخر الدين عثمان صغير السن، فأمره الملك الظاهر، ولم يزل في خدمته أميراً إلى أن فتح أنطاكية في شهر رمضان سنة ست وستين وستمائة، وتوجه من الشام بعد ذلك إلى مصر، فلما دخل إليها قبض عليه واعتقله، وهو الآن معتقل بقلعة الجبل المذكور. وهذه قلعة الكرك هي المذكورة في ترجمة القاضي مجلي أيضاً، وكان الملك الظاهر يخاف على أولاده فكان يبالغ في تحصين القلعة المذكور، ويملؤها بالذخائر والأموال، ولما جرى لولده السعيد ما ذكرنا في ترجمة القاضي مجلي وتوجه إلى الكرك نفعته تلك الذخائر ووجدها عوناً له على زمانه. (222) ولما توفي الملك السعيد ابن الملك الظاهر في الكرك - كما ذكرناه في الترجمة المذكورة - ملكها بعد أخوه الملك المسعود نجم الدين خضر ابن الملك الظاهر (3) باتفاق ممن كان بها من مماليك أبيه ومن أمرائه، وهو الآن ممتلكها مقيم بها، ثم نزل منه بالأمان بعد حصاره فيها مدة الأمير حسام الدين طرنطاي المنصوري كان نائب المملكة، وتقدم العساكر، ونزل معه أخوه الملك العادل سلامش بعد أخيه السعيد، وتوجه إلى الديار المصرية إلى خدمة السلطان الملك   (1) المختار: صاحب الديار المصرية والبلاد الشامية. (2) بالطور من: سقطت من ر والمختار. (3) علق ابن المؤلف بقوله: " قلت، أعني كاتبها موسى بن أحمد لطف الله به: ولم يزل خضر المذكور بها إلى سنة خمس وثمانين فتسلمها منه نواب الملك المنصور سيف الدين قلاون الصالحي المعروف بالألفي وبدل منها على مصالحة جرت بينهما وانتقل غلى الديار المصرية ملازماً للخدمة " وجاء بعد ذلك قوله وهو من الأصل: " وتوفي المعظم توران شاه يوم الاثنين السابع وابعشرين من المحرم سنة ثمان وأربعين وستمائة ". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 87 المنصور سيف الدين قلاون الصالحي المذكور في ترجمة القاضي مجلي في أوائل هذا الحرف، فاحسن السلطان إليهما، وجعل الملك خضراً وأخاه سلامش أميرين، وأقطعهما الإقطاعات الجيدة، وأسكنهما بقلعة الجبل المنصور، واستمر الأمر على ذلك، وهما مختلطان به في جملة من أهله ملازمان للركوب مع ولديه السلطان الملك الصالح علاء الدين والملك الأشرف صلاح الدين خليل. " ولم يزل الأمر كذلك إلى شهور سنة ثمان وثمانين وستمائة، فجرى من الأمر ما اقتضى الحال معه القبض على الأميرين نجم الدين خضر وبدر الدين سلامش المذكورين واعتقالهما بقلعة الجبل المنصورة وأما الملك الصالح بن الملك المنصور المذكور، فإنه كان ولي عهد أبيه، وكان حازماً شديد الرأي. وتوفي في حياة والده في شهر شعبان سنة سبع وثمانين وستمائة، ثم إن والده جعل ولاية العهد إلى ولده الملك الأشرف المذكور، وقلده الملك في شهر شوال سنة سبع وثمانين المذكورة وهو من الملوك المشهورين بعلو الهمة والسعادة والحزم. وتوفي الملك المنصور قلاون في يوم السبت من شهر ذي القعدة سنة تسع وثمانين وستمائة في دهليزه بمسجد التين. وكان قد خرج على نية الغزاة إلى عكا، فعرض له مرض، فقضى به نحبه وعادت العساكر إلى مستقرها. واستقل ولده السلطان الملك الأشرف بالمملكة يجمع المعاقل والبلاد، ولم ير في الملوك أكثر سعادة منه، ولا أعلى همة ولا أكرم نفساً ولا أكثر وفاء لمن خدمه ولاذ به. وفي أيام الملك المنصور فتحت طرابلس الشام يوم الثلاثاء تاسع ربيع الآخر سنة ثمان وثمانين وستمائة، وكان نازلها بنفسه وعساكره، وفتحها قهراً بالسيف، واستولى القتل والأسر والنهب على أهلها، وملك ما جاورها من قلعة جبيل والبترون وغير ذلك، ثم إن الملك الأشرف المذكور بعد استقلاله بالملك بمدة يسيرة خرج بنفسه وجمع عساكره وتوجه إلى عكا، فنازلها في يوم، وكان خروجه من مصر في يوم، واجتمع على عكا جميع الناس: الجند والمتطوعة وغيرهم وسائر البلاد، ويسر الله فتحها في يوم الجمعة سابع عشر جمادى الأولى سنة تسعين وستمائة، في مثل الساعة من اليوم من الشهر الذي أخذت فيه من السلمين، إلا أن الشهر كان الأولى، وأخذت من المسلمين في أيام صلاح الدين يوسف بن أيوب في الآخرة سنة سبع وثمانين وخمسمائة، وأن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 88 السلطان الملك الأشرف صلاح الدين أخرج أهلها منها وقتلهم جميعاً بالسيف، وكذلك الفرنج عملوا بالذي كان فيها من المسلمين لما ملكوها في أيام صلاح الدين، فانظروا إلى هذا الاتفاق العجيب في أمور كثيرة. لما أخذت من صلاح الدين ملكها صلاح الدين وقتل المسلمون بها ثم قتل الكافرون بها، ثم ملكها المسلمون ثاني ساعة من يوم الجمعة سابع عشر جمادى الأولى، فسبحان مقدر الأمور. ثم انحلت عزائم الفرنج عن أخذ عكا، فهرب من كان في بيروت وعثليت وهما حصنان عظيمان لا تتطرق الأوهام إليهما، وملكها المسلمون بحول الله وقوته من غير منازع. وملكوا أيضاً صيدا وبيروت وحيفا فلم يبق للفرنج على الساحل الشامي قلعة ولا بلد ولا قرية ولا جزيرة إلا وملك المسلمون ذلك جميعه والحمد لله وحده " (1) . وتوفي المعظم توران شاه يوم الاثنين السابع والعشرين من المحرم من سنة ثمان وأربعين وستمائة رحمه الله تعالى، والله تعالى أعلم. 694ب - (2) الملك الكامل الأيوبي أبو المعالي محمد بن أبي بكر الملقب الملك الكامل ناصر الدين صاحب الديار المصرية. خطب له أخوته وأهل بيته في بلادهم وضربوا السكة باسمه؛ وكان محبوباً إلى الناس مسعوداً مؤيداً في الحروب. ولما نزل الفرنج على دمياط في صفر سنة خمس عشرة اتفق لما يريده الله تعالى وفاة والده العادل، وجرت أمور مع ذلك أوجبت خروج السلطان ومن معه من المخيم ليلاً إلى أشموم - حسبما هو مشروح في ترجمة عماد الدين أحمد بن المشطوب المذكور في حرف الهمزة -   (1) من الوضاح أن هذا ليس من عمل المؤلف، لأنه توفي قبل هذه الأحداث. (2) هذه الترجمة تنفرد بها مج وهي تختلف عن الترجمة السابقة، فلذلك أثبتناها في هذا الموضع. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 89 وكان " الفرنج " قد ساروا عن دمياط في الفارس والراجل، وقصدوا الملك الكامل فنزلوا مقابله، وبينهما بحر أشموم وهم يرمون بمناجيقهم وجروخهم إلى عساكر المسلمين، وتيقنوا وكل الناس أنهم يملكون الديار المصرية، فوصل الشرف وتلقاه أخوه الكامل والمعظم، واستبشروا به وكافة المسلمين وتوقعوا النصرة على الأعداء الكافرين، ووقع الاتفاق أن يبعثوا في بحر المحلة أسطولاً يدخل إلى بحر دمياط ليمنع الميرة عن الفرنج، وأمر السلطان بنصب الجسور وعبر عليها المسلمون إلى جزيرة، شرمساح التي الفرنج مخيمون عليها، وكسروا النيل عليها؛ وكان النيل في زيادته، فركب الماء أكثر تلك الأرض، ولم يبق للفرنج جهة يسلكونها، غير جهة واحدة ضيقة إن أرادوا العود إلى دمياط، وعبرت العساكر وملكوا الطريق، ولم يبق لهم خلاص، وأيقنوا بالهلكة، فراسلوا السلطان الملك الكامل يبذلون له النزول عن دمياط على أن يؤمنهم، فأجابهم إلى ذلك، وشرط عليهم إطلاق من في أيديهم من أسرى المسلمين، وأخذ منهم رهائن ملوكهم على تسليم البلد، وتقرر بينهم صلح مدة ثمان سنين، وتسلم السلطان دمياط يوم الأربعاء لإحدى عشرة ليلة بقيت من جرب، فكانت مدة ملك الفرنج لها سنة وعشرة أشهر وأربعة وعشرين يوماً؛ وكان يوماً مشهوداً؛ ومن العجيب أن المسلمين لما تسلموها وصلت الفرنج نجدة في البحر فلو سبقوا المسلمين إليها لامتنعوا من تسليم دمياط ليقضي الله أمراً كان مفعولاً. فلما دخلها المسلمون لم يجدوا فيها من أهلها إلا آحاداً، فبعضهم سار عنها باختياره، وبعضهم مات. وكان الفرنج قد حصنوها تحصيناً عظيماً بحيث بقيت لا ترام ولا يوصل إليها؛ وأعاد الله سبحانه وتعالى الحق إلى نصابه ورده إلى أربابه، فالله المحمود المشكور على ما أنعم به على الإسلام والمسلمين من كف عادية هذا العدو، وكفاهم شره. منقبة للملك الكامل جرت في هذه النوبة: لما وقع الحصار على مدينة دمياط اتفق أن علجاً منهم، لعنه الله، قد ألهج لسانه بسبب النبي صلى الله عليه وسلم، معلناً به على خنادقهم، ومنكياً لمن يليهم من حرس الإسلام ورجالهم، وكان أمره قد استفحل، وداء اشتهاره بهذه العظيمة قد أعضل، وقد جعل هذا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 90 الأمر ديدن جهاده، وذهب عنه أن الله تعالى ينتقم لنفسه من عتو هذا اللعين وعناده. فلما كانت الوقعة المشهورة في شعبان من سنة عشرة التي أسر فيها أعلاج الكفر وكنودهم، وأفاء الله على أهل دينه عدوهم وعديدهم، واستولى منهم على ما يناهز ألفي فارس، عرف هذا العلج في جملة من اشتمل عليه الاستيلاء منهم حصراً وعداً، وعوجل بعقوبة كفره الذي تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا؛ فلما صفد في وثاقه، وخرست شقاشق شقاقه، أشعر السلطان الملك الكامل بموضعه، فتنوعت المشورات بصورة قتل هذا الكافر، واللحاق بروحه إلى الجحيم التي هي مأوى الفاجر، فصمم الملك الكامل على إرسال هذا العلج مع من يوصله إلى والي المدينة النبوية، على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، وإشعاره بأمره، وأن يباشر بذلك المحل الشريف تطهير الأرض من كفره. فما وصل أقيم بين يدي الضريح المطهر، ونوجي ذلك المحل الأطهر، وذلك في عيد الفطر من السنة المذكورة، وقيل: يا رسول الله: هذا عدو لله وعدوك، والمصرح في ملة كفره بسبك وسبب صاحبك، قد أرسله محمد سلطان مصر ليقتل بين يديك، ويشكر الله لما وفقه من مجاهدة الشرك الذين كفروا بما أنزل إليك، ورام أن يجعله عبرة لمن انتهك حرمتك واجترأ عليك، فتهادته أيدي المنايا ضرباً بالسيوف، وفرح المؤمنون بنصر الله لدينه على طوائف الشرك وأن رغمت منها الأنوف، والحمد لله رب العالمين. لا جرم أنه بعد وفاته أثيب على هذا المقصد السديد، والتوفيق الذي ما على النعمة به من مزيد: أن الانبرور ملك صقلية وغيرها من بلاد الفرنج - وهو اليوم أكبر ملوكهم خطراً وكانت بينه وبين الملك الكامل صداقة ومهاداة يألف بها إلى أن تأكدت له محبته وصار ذبه عن بلاده من طوائف الكفر ديدنه وعادته - كان عنده من الأسرى المأخوذين من مدينة ميرقة من الغرب عند استيلائه عليها جماعة، فأحضرهم الانبرور بين يديه، وقال له: يا حجاج، قد أعتقتكم عن الملك الكامل؛ وسيرهم مع قصاد تقودهم إلى عكا وأمرهم بحب قيودهم عند قبره، وإطلاق سبيلهم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 91 وكانت وفاته بدمشق يوم الأربعاء آخر النهار، ودفن يوم الخميس في الساعة الثانية منه، وذلك لتسع بقين من شهر رجب سنة خمس وثلاثين وستمائة بالكلاسة رحمه الله تعالى. ولما توفي كان ولده الملك الصالح نجم الدين أيوب بالبلاد الشرقية، وهي التي كانت بيده في حياة والده، وكان ولده الملك العادل سيف الدين أبو بكر بالديار المصرية؛ ولما بلغ بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل وفاة السلطان، قصد سنجار مريداً حصارها، وبها الملك الصالح نجم الدين، فنازلها وزحف إليها، فأرسل عليهم الخوارزمية، فأوقعوا بهم واستولوا على جميع ما معهم من الأثقال، ثم جرت مراسلات آخرها أنهم انقادوا لأمره، ودخلوا في طاعته؛ وكانت هذه الواقعة من الوقائع العجيبة. ولما كان مستهل جمادى الآخرة وصل الملك الصالح المذكور إلى دمشق ودخلها في الساعة الخامسة من النهار، وقد تقدم في ترجمة بهاء الدين زهير المذكور طرف من حديثه وملكه للديار المصرية، حسبما شرحناه ثم. (1) 695 محمد بن عبد الله بن طاهر أبو العباس محمد بن عبد الله بن طاهر الخزاعي؛ كان شيخاً فاضلاً وأديباً شاعراً، وهو أمير ابن أمير، ولي إمارة بغداد في أيام المتكل، وكان مألفاً لأهل العلم والدب؛ وقد أسند حديثاً عن أبي الصلت. قال أحمد بن يزيد المهلبي: كانت لأبي حاجة إلى محمد بن عبد الله بن طاهر فكتب إليه: ألا مبلغ عني الأمير محمداً ... مقالاً له فضل على القول واسع   (1) انفردت مج بهذه الترجمة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 92 لنا حاجة إن أمكنتك قضيتها ... وإن هي لم تمكن فعذرك واسع فأنت وإن كنت الجواد بعينه ... فلست بمعطي الناس ما الله مانع فإن يور زند الطاهري فبالحرى ... وإلا فقد تنبو السيوف القواطع وقيل: كان الحسن بن وهب عند محمد بن عبد الله بن طاهر فعرضت لها سحابة ومطرت، فقال كل من حضر فيها شيئاً، فقال الحسن: هطلتنا السماء هطلاً داركاً ... عارض المرزمان فيها السماكا قلت للبرق إذ توقد فيها ... يا زناد السماء من أوراكا أحببت نأيته فجفاكا ... فهو العارض الذي استبكاها أم تشبهت بالأمير أبي العب ... اس في جوده، فلست هناكا قال إبراهيم بن عرفة: في سنة ثلاث وخمسين ومائتين لإحدى عشرة ليلة خلت من ذي القعدة انكسف القمر في أول الليل حتى ذهب أكثره فلما انتصف الليل مات محمد بن عبد الله بن طاهر، وكان به خراج في حلقه واشتد حتى عولج بالفتائل؛ وفي وفاته يقول أخوه عبد الله بن عبد الله بن طاهر: هد ركن الخلافة الموطود ... زال عنها السرادق الممدود كسف البدر والأمير جميعاً ... وانجلى البدر والأمير عميد ودفن في مقابر قرش رحمه الله تعالى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 93 (1) 696 الوزير ابن الزيات أبو جعفر محمد بن عبد الملك بن أبان بن حمزة، المعروف بابن الزيات، وزير لمعتصم؛ كان جده أبان رجلاً من أهل جبل من قرية كان بها يقال لها الدسكرة يجلب الزيت من مواضعه إلى بغداد، فسمت بمحمد المذكور همته - على ما سيأتي ذكره فيه - وكان من أهل الأدب الظاهر والفضل الباهر، أديباً فاضلاً بليغاً عالماً بالنحو واللغة. ذكر ميمون بن هرون الكاتب أن أبا عثمان المازني لما قدم بغداد في أيام المعتصم كان أصحابه وجلساؤه يخوضون بين يديه في علم النحو، فإذا اختلفوا فيما يقع فيه الشك يقول لهم أبو عثمان: ابعثوا إلى هذا الفتى الكاتب؛ يعني محمد بن عبد الملك المذكور، فاسألوه واعرفوا جوابه، فيفعلون ويصدر جوابه بالصواب الذي يرتضيه أبو عثمان ويوقفهم عليه. وقد ذكر دعبل بن علي الخزاعي المقدم ذكره في كتاب " طبقات الشعراء " وذكره أبو عبد الله هرون بن المنجم - الآتي ذكره إن شاء الله تعالى - في كتاب " البارع " وأورد له من شعره عدة مقاطيع. وكان في أول أمره من جملة الكتاب، وكان أحمد بن عمار بن شاذي البصري وزير المعتصم، فورد على المعتصم كتاب من بعض العمال فقرأه الوزير عليه، وكان في الكتاب ذكر الكلإ، فقال له المعتصم، ما الكلأ فقال: لا أعلم، وكان قليل المعرفة بالأدب، فقال المعتصم: خليفة أمي ووزير عامي! وكان المعتصم ضعيف الكتابة، ثم قال: أبصروا من بالباب من الكتاب، فوجدوا   (1) أخباره في تاريخ الطبري والمسعودي وابن الأثير وتاريخ بغداد 2: 342 ومعجم المرزباني: 365 والخزانة 1: 215 والأغاني 22: 463 والفهرست: 122 والوافي 4: 23 وعبر الذهبي 1: 414 والشذرات 2: 78. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 94 محمد بن عبد الملك المذكور، فأدخلوه إليه فقال له: ما الكلأ فقال الكلأ العشب على الإطلاق، فإن كان رطباً فهو الخلا، فإذا يبس (1) فهو الحشيش، وشرع في تقسيم أنواع النبات، فعلم المعتصم فضله، فاستوزره وحكمه وبسط يده. وقد ذكرنا ما كان بينه وبين القاضي أحمد بن أبي داود الإيادي في ترجمته. وحكى أبو عبد الله البيمارستاني أن أبا حفص الكرماني كاتب عمرو بن مسعدة كتب إلى محمد بن عبد الملك الزيات المذكور: أما بعد فإنك ممن إذا غرس سقى، وإذا أسس بنى ليستتم بناء أسه ويجتني ثمره غرسه، وبناؤك في ودي وقد وهى وشارف الدروس، وغرسك عندي قد عطش وأشفى على اليبوس، فتدارك بناء ما أسست وسقي ما غرست، فقال البيمارستاني: فحدثت بذلك أبا عبد الرحمن العطوي، فقال في هذا المعنى يمدح محمد بن عمران بن موسى بن يحيى بن خالد بن برمك، ثم وجدت الأبيات (2) في ديوان أبي نواس، صنعة الأصبهاني، وهي: إن البرامكة الكرام تعلموا ... فعل الجميل وعلموه الناسا كانوا إذا غرسوا سقوا وإذا بنوا ... لا يهدمون لما بنوه أساسا وإذا هم صنعوا الصنائع في الورى ... جعلوا لها طول البقاء لباسا فعلام تسقيني وأنت سقيتني ... كأس المودة من جفائك كاسا آنستني متفضلاً، أفلا ترى ... أن القطيعة توحش الإيناسا وقد تقدم في ترجمة عبد المحسن الصوري هذا المعنى أيضاً. ولابن الزيات المذكور أشعار رائقة، فمن ذلك قوله (3) : سماعاً يا عباد الله مني ... وكفوا عن ملاحظة الملاح   (1) ن: وأن كان يبساً. (2) ن ر ق من بر: هذه الأبيات الثلاثة. (3) هذه القطعة غير موجودة في ديوانه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 95 فإن الحب آخره المنايا ... وأوله يهيج بالمزاح وقالوا دع مراقبة الثريا ... ونم فالليل مسود الجناح فقلت وهل أفاق القلب حتى ... أفرق بين ليلي والصباح وله على ما نقلته من خط بعض الأفاضل (1) : ظالم ما علمته ... معتدٍ لا عدمته مطمع في الوصال مم ... تنع حين رمته قال إذ أفصح البكا ... ء بما قد كتمته لو بكى طول عمره ... بدم ما رحمته رب هم طويت في ... هـ وغيظ كظمته وحياة سئمتها ... والهوى ما سئمته وذكر الخطيب في " تاريخ بغداد " (2) أن ابن الزيات المذكور كان يعشق جارية من جواري القيان، فبيعت من رجل من أهل خراسان، فأخرجها، قال: فذهل عقل ابن الزيات حتى غشي عليه، ثم إنه أنشأ يقول (3) : يا طول ساعات ليل العاشق الدنف ... وطول رعيته للنجم في السدف ماذا أوارى ثيابي من أخي حرق ... كأنما الجسم منه دقة الألف ماذا قال يا أسفا يعقوب من كمد ... إلا لطول الذي لاقى من الأسف من سهر أن يرى ميت الهوى دنفا ... فليستدل على الزيات وليقف ومن شعره ما ذكره في كتاب " البارع " يرثي جاريته، وقد خلفت له ابن ثمان سنين، وكان يبكي عليها فيتألم بسببه وهو (4) :   (1) ديوانه: 80. (2) تاريخ بغداد 2: 343. (3) لم أجدها في ديوانه. (4) ديوانه: 67. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 96 ألا من رأى الطفل المفارق أمه ... بعيد الكرى عيناه تنسكبان رأى كل أم وابنها غير أمه ... يبيتان تحت الليل يننتجيان وبات وحيداً في الفراش تجيبه ... بلابل قلب دائم الخفقان فهبني أطلت الصبر عنها لأنني ... جليد، فمن للصبر بابن ثمان ضعيف القوى لا يعرف الصبر جسمه ... ولا يأتسي بالناس في الحدثان وله ديوان رسائل جيد. ومدحه البحتري بقصيدته الدالية واحسن في مصف خطه وبلاغته، وقال في آخرها (1) : ورأى الخلق مجمعين على فض ... لك من بين سيد ومسود عرف العالمون فضلك بالعل ... م وقال الجهال بالتقليد ولأبي تمام فيه مدائح وجماعة من شعراء عصره، ولإبراهيم بن العباس الصولي المقدم ذكره فيه مقاطيع يعبث به فيها، فمن ذلك قوله (2) : أخ كنت آوي منه عند إدركاره ... إلى ظل آباء من العز شامخ سعت نوب الأيام بيني وبينه ... فأقلعن منه عن ظلوم وصارخ وإني وإعدادي لدهري محمداً ... كملتمسٍ إطفاءه نار نافخ ومن ذلك قوله أيضاً: دعوتك عن بلوى ألمت ضرورة ... فأوقدت عن طعن علي سعيرها وإني إذا أدعوك عند ملمة ... كداعيةٍ عند القبور نصيرها له أيضاً فيه: أبا جعفر خف نبوة بعد دولة ... وقصر قليلاً عن مدى غلوائكما   (1) ديوان البحتري: 638. (2) الطرائف الأدبية: 157، 156، 161، 158، 165. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 97 فإن يك هذا اليوم يوماً حويته ... فإن رجائي في غدٍ كرجائكما وله فيه أيضاً: قلت لها حين أكثرت عذلي: ... ويحك! أزرت بنا المروءات قالت: فأين السراة قلت لها: ... لا تسألي عنهم فقد ماتوا قالت: ولم ذاك قلت لها: ... هذا وزير الإمام زيات وله فيه أيضاً: لئن صدرت بي زورة عن محمد ... بمنع لقد فارقته ومعي قدري أليست يداً عندي لمثل محمد ... صيانته عن مثل معروفه شكري وله فيه أيضاً: فإن تكن الدنيا أنالتك ثروة ... فأصبحت ذا يسر وقد كنت ذا عسر فقد كشف الإثراء منك خلائقاً ... من اللؤم كانت تحت ثوب من الفقر وله فيه أيضاً: من يشتري مني إخاء محمد ... أم من يريد إخاءه مجانا أم من يخلص من إخاء محمد ... وله مناه كائناً من كانا وله أشياء غير ذلك، وما زالت الأشراف تهجي وتمدح. وفيه يقول بعضهم، ولا أذكره الآن، ثم ظفرت به بعد ذلك، وهو القاضي أحمد بن أبي داود الإيادي - المقدم ذكره (1) - وكان ابن الزيات المذكور قد هجاه بتسعين بيتاً، فعمل القاضي أحمد فيه بيتين وهما: أحسن من تسعين بيتاً سدى ... جمعك معناهن في بيت ما أحوج الملك إلى مطرةٍ ... تغسل عنه وضر الزيت   (1) انظر ج 1: 81. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 98 ونسب صاحب " العقد " (1) هذين البيتين إلى علي بن الهجم، والأول حكاه في " الأغاني " والله تعالى أعلم؛ " فأجابه ابن الزيات عن بيتيه بقوله، معرضاً بأن بعض أجداد القاضي كان يبيع القار: يا أيها الطامع في هجونا ... نفسك قد عرضت للموت الزيت لا يزري بأحسابنا ... أحسابنا معروفة البيت قيرتم الملك فلم ننقه ... حتى غسلنا القار بالزيت " (2) ولما مات المعتصم وقام بالأمر ولده الواثق هارون أنشد ابن الزيات المذكور (3) : قد قلت إذ غيبوك وامصرفوا ... في خير قبر لخير مدفون لن يحبر الله أمة فقدت ... مثلك إلا بمثل هارون وأقره الواثق على ما كان عليه في أيام المعتصم، بعد أن كان متسخطاً عليه في أيام أبيه وحلف يميناً مغلظة أنه ينكبه إذا صار الأمر إليه، فلما ولي أمر الكتاب أن يكتبوا ما يتعلق بأمر البيعة، فكتبوا فلم يرض ما كتبوه، فكتب ابن الزيات نسخة رضيها، وأمر بتحرير المكاتبات عليها، فكفر عن يمينه وقال: عن المال والفدية عن اليمين عوض، وليس عن الملك وابن الزيات عوض. فلما مات وتولى المتوكل كان في نفسه منه شيء كثير، فسخط عليه بعد ولايته بأربعين يوماً، فقبض عليه واستصفى أمواله، وكان سبب قبضه عليه أنه لما مات الواثق بالله أخو المتوكل أشار محمد المذكور بتولية ولد الواثق وأشار القاضي أحمد ابن دواد المذكور بتولية المتوكل وقام في ذلك وقعد حتى عممه بيده وألبسه البردة وقبله بين عينيه وكان المتوكل في أيام الواثق يدخل على الوزير المذكور فيتجهمه ويغلظ عليه في الكلام، وكان يتقرب بذلك إلى قلب الواثق فحقد المتوكل ذلك عليه، فلما ولي الخلافة خشي إن نكبه عاجلاً أن يستر أمواله فيفوته، فاستوزره ليطمئن، وجعل القاضي أحمد يغريه ويجد لذلك عنده موقعاً،   (1) العقد 3: 194. (2) زيادة من ر، وانظر ديوانه: 12. (3) ديوانه: 76. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 99 فلما قبض عليه ومات في التنور - كما سيأتي ذكره - لم يجد من جميع أملاكه وضياعه وذخائره إلا ما كانت قيمته مائة ألف دينار، فندم على ذلك ولم يجد عنه عوضاً، وقال للقاضي أحمد: أطعمتني في باطل وحملتني على شخص لم أجد عنه عوضاً. وكان ابن الزيات المذكور قد اتخذ تنوراً من حديد وأطراف مساميره المحددة إلى داخل، وهي قائمة مثل رؤوس المسال، في أيام وزارته، وكان يعذب فيه المصادرين وأرباب الدواوين المطلوبين بالأموال، فكيفما انقلب واحد منهم أو تحرك من حرارة العقوبة (1) تدخل المسامير في جسمه، فيجدون لذلك أشد الألم لم يسبقه أحد إلى هذه المعاقبة، وكان إذا قال أحد منهم أيها الوزير ارحمني، فيقول له: الرحمة خور في الطبيعة، فلما اعتقله المتوكل أمر بإدخاله في التنور، قيده بخمسة عشر رطلاً من الحديد فقال: يا أمير المؤمنين ارحمني، فقال له: لرحمة خور في الطبيعة، كما كان يقول (2) للناس، فطلب دواة وبطاقة فأحضرتا إليه فكتب (3) : هي السبيل فمن يوم إلى يوم ... كأنه ما تريك العين في النوم لا تجزعن، رويداً إنها دول ... دنيا تنقل من قوم إلى قوم وسيرها إلى المتوكل، فاشتعل عنها ولم يقف عليها إلا في الغد، فلما قرأها المتوكل أمر بإخراجه، فجاؤوا إليه فوجدوه ميتاً، وذلك في سنة ثلاث وثلاثين ومائتين، وكانت مدة إقامته في التنور أربعين يوماً، وكان القبض عليه لثمان مضين من صفر من السنة المذكورة. ولما مات وجد في التنور مكتوب بخطه قد خطه بالفحم على جانب لتنور يقول: من له عهد بنوم ... يرشد الصب إليهِ   (1) ق: حرارة النار والعقوبة. (2) ر: كنت تقول. (3) ديوانه: 66. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 100 رحم الله رحيماً ... دل عيني عليه سهرت عيني ونامت ... عين من هنت لديه وقال أحمد الأحوال: لما قبض على ابن الزيات تلطفت إلى أن وصلت إليه فرأيته في حديد ثقيل، فقلت له: يعز علي ما أرى، فقال: سل ديار الحي من غيرها ... وعفاها ومحا منظرها وهي الدنيا إذا ما أقبلت ... صيرت معروفها منكرها إنما الدنيا كظل مائل ... نحمد الله كذا قدرها ولما جعل في التنور قال له خادمه: يا سيدي، قد صرت إلى ما صرت إليه وليس لك حامد، فقال: وما نفع البرامكة صنعهم فقال: ذكرك لهم هذه الساعة، فقال: صدقت، رحمه الله تعالى. 696ب - (1) الوزير ابن الزيات كان شاعراً مجيداً وفاضلاً نبيلاً، وزر لثلاثة خلفاء من بني العباس وهم: المعتصم والواثق والمتوكل، وكان سبب وزارته ما حكى الصولي عن سعيد بن سلم قال: ورد كتاب من الجبل عن المعتصم بوصف خصب السنة وكثرة الكلأ فقال لأحمد بن عمار: ما الكلأ فلم يعرفه، فدعا ابن عبد الملك وسأله عنه فقال: ما رطب من النبات فهو كلأ، وإذا جف فهو حشيش، ويسمى أول ما ينبت الرطب والبقل، فقال لأحمد: أنت انظر في الأمور والدواوين والأعمال، وهذا يعرض علي، فعرض عليه أياماً ثم استوزره؛ وكان محمد   (1) ب - انفردت بها النسخة مج على هذا النحو. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 101 المذكور قبل ذلك يلي أمور المطبخ والفرش. وكان الواثق لما ولي أمر أن يقوم جميع الناس لابن الزيات، ولم يجعل في ذلك رخصة لأحد، فكان ابن أبي داود يستعجل صلاة الضحى إذا أحس بقدومه أنفة من القيام له في دار السلطان، وامتثالاُ للأمر، فصنع ابن الزيات: صلى الضحى لما استقاد عداوتي ... وأراه ينسك بعدها ويصوم لا تأمنن عداوة مسمومة ... تركتك تقعد تارة وتقوم وقد سبق شيء من خبره معه في ترجمته. ومن شعر محمد المذكور في جارته أم ابنه عمر، وقد ماتت: يقول لي الخلان لو زرت قبرها ... فقلت وهل غير الفؤاد لها قبر على حين لم أحدث فاجهل فقدها ... ولم أبلغ السن التي معها الصبر وشعره كله نخب، ونقتصر منه على هذا القدر ففيه كفاية. وكان أبوه زياتاً إلا انه كان كثير المال؛ وكان محمد المذكور شديد القسوة صعب العريكة لا يرق لأحد ولا يرحمه، وكان يقول: الرحمة خور في الطبيعة، ووقع يوماً على رقعة رجل توسل إليه بقرب الجوار منه: الجوار للحيطان، والتعطف للنسوان. فلما أراد المتوكل قتله أحضره وأحضر تنور خشب فيه مسامير من حديد أطرافها إلى داخل التنور تمنع من يكون فيه من الحركة، كان محمد اتخذه ليعذب فيه من يطالبه - وهو أول من عمل ذلك وعذب فيه ابن أسباط المصري - وقال: أجرينا فيك حكمك في الناس، فاجلس فيه، فمات بعد ثلاث وذلك في سنة ثلاثة وثلاثين ومائتين؛ وقيل إنه كتب في التنور بفحمه: من له عهد بنوم ... يرشد الصب إليه رحم الله رحيماً ... دل عيني عليه ودفن لم يعمق قبره فنبشته الكلاب وأكلته، رحمه الله تعالى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 102 وكان الجاحظ منقطعاً إليه فخاف أن يؤخذ مع أسبابه، فغاب وكان يقول: كدت أكون. وحكى ابن أبي العيناء قال: كنت عند ابن أبي داود بعد قتل ابن الزيات فجيء بالجاحظ مقيداً وكان في أسبابه وناحيته، وعند ابن أبي محمد بن منصور، وهو إذ ذاك يلي قضاء فارس وخورستان، فقال ابن أبي داواد للجاحظ، ما تأويل هذه الآية " وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة، إن أخذه أليم شديد ". هود: - 102 - فقال: تلاوتها تأويلها أعز الله القاضي، فقال: جيئوا بحداد، فقال اعز الله القاضي، ليفك عني أو ليزيدني فقال: بل ليفك عنك، فجيء بالحداد وغمره بعض أهل المجلس أن يعنف بساق الجاحظ ويطيل أسره قليلاً، ففعل، فلطمه الجاحظ وقال: اعمل عمل شهر في يوم وعمل يوم في ساعة وعمل ساعة في لحظة، فإن الغرر على ساقي وليس يجذع ولا ساجة، فضحك ابن أبي داود وأهل المجلس منه، وقال ابن أبي داود لمحمد بن منصور: أنا أثق بظرفه ولا أثق بدينه. (1) 697 أبو الفضل ابن العميد أبو الفضل محمد بن العميد أبي عبد الله الحسين بن محمد الكاتب، المعروف بابن العميد، والعميد لقب (2) والده، لقبوه بذلك على عادة أهل خراسان في إجرائه مجرى التعظيم، وكان فيه فضل وأدب وله ترسل. وأما ولده أبو الفضل فإنه كان وزير ركن الدولة أبي علي الحسن بن بويه   (1) ترجمته في اليتيمة 3: 158 ومعاهد التنصيص 2: 115 وتراجع أخباره في تجارب الأمم لمسكويه وأخلاق الوزيرين والأمتاع 1: 66 والشذرات 3: 31 وترجمته في مج مختلفة عما ورد هنا، وتكاد لا تلتقي في كثير من الأمور مع ما ورد في النسخ الأخرى وسنثبت أهم ما ورد فيها في الحواشي. (2) ن ر ق بر من: نعت. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 103 الديلمي والد عضد الدولة - وقد تقدم ذكرهما (1) - وتولى وزارته عقيب موت وزيره أبي علي ابن القمي، وذلك في سنة ثمان وعشرين وثلثمائة (2) ، وكان متوسعاً في علوم الفلسفة والنجوم، وأما الأدب والترسل فلم يقاربه فيه أحد في زمانه، وكان يسمى الجاحظ الثاني، وكان كامل الرياسة جليل المقدار، من بعض أتباعه الصاحب ابن عباد - المقدم ذكره - ولأجل صحبته قيل له الصاحب، وكان له في الرسائل اليد البيضاء. قال الثعالبي في كتاب " اليتيمة ": كان يقال: بدئت الكتابة بعبد الحميد، وختمت بابن العميد، وقد تقدم ذكر عبد الحميد. وكان الصاحب ابن عباد قد سافر إلى بغداد، فلما رجع إليه قال له: كيف وجدتها فقال: بغداد في البلاد، كالأستاذ في العباد، وكان يقال له " الأستاذ " وكان سائساً مدبراً للملك قائماً بحقوقه. وقصد جماعة من مشاهير الشعراء من البلاد الشاسعة، ومدحوه بأحسن المدائح، فمنهم أبو الطيب المتنبي، ورد عليه وهو بأرجان، ومدحه بقصائد إحداهما التي أولها (3) : باد هوالك صبرت أو لم تصبرا ... وبكاك إن لم يجر دمعك أو جرى ومنها عند مخلصها: أرجان أيتها الجياد فإنه ... عزمي الذي يذر الوشيج مكسرا لو كنت أفعل ما اشتهيت فعاله ... ما شق كوكبك العجاج الأكدرا أمي أبا الفضل المبر، أليتي ... لأيممن أجل بحر جوهرا   (1) انظر ج 2: 118. (2) جاء في مج أن ركن الدولة كان واهي السياسة " قطع على بغال له خرجت إلى العلف، فأخذ منها ستة بغال، فقال: كم كان الحرامية فقيل: سبعة فقال: الآن يختلفون لأن البغال لا تتقسم على عددهم: فقامت سياسة ابن العميد لضبط الأمر وسد خلل ضعف صاحبه، وله في ذلك أخبار مشهورة ". (3) ديوان المتنبي: 537. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 104 أفتى برؤيته الأنام وحاش لي ... من أكون مقصرا أو مقصرا ومنها: من مبلغ الأعراب أني بعدها ... شاهدت رسطاليس والإسكندرا ومللت نحر عشارها فأضافني ... من ينحر البدر النضار لمن قرى وسمعت بطليموس دارس كتبه ... متملكاً متبدياً متحضرا ولقيت كل الفاضلين كأنما ... رد الإله نفوسهم والأعصرا نسقوا لنا نسق الحساب مقدما ... وأتى فذلك إذا أتيت مؤخرا وهي من القصائد المختارة. وقال ابن الهمداني في كتاب " عيون السير ": أعطاه ثلاثة آلاف دينار. وقد استعمل أرجان بتخفيف الراء، وهي مشددة على ما ذكره الجوهري في كتاب " الصحاح " والحازمي في كتاب " ما اتفق لفظه وافترق مسماه " وابن الجواليقي في كتاب " المعرب ". وقد سبق ذكره هذه القصيدة في ترجمة أبي الفضل جعفر بن الفرات، وأن المتنبي نظمها فيه وهو بمصر، فلم يرضه لم ينشده إياها، فلما توجه إلى بلاد فارس صرفها لابن العميد. وكان أبو نصر عبد العزيز بن نباتة السعدي - المقدم ذكره (1) - قد ورد عليه وهو بالري وامتدحه بقصيدته التي أولها: برح اشتياق وادكار ... ولهيب أنفاس حرار ومدامع عبراتها ... ترفض عن نوم مطار لله قلبي ما يجن ... من الهموم وما يواري لقد انقضى سكر الشبا ... ب وما انقضى وصب الخمار وكبرت عن وصل الصغا ... ر وما سلوت عن الصغار سقياً لتغليسي إلى ... باب الرصافة وابتكاري   (1) انظر ج 3: 190. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 105 أيام أخطر في الصبا ... نشوان مسحوب الإزار حجي إلى حجر الصرا ... ة وفي حدائقها اعتماري ومواطن اللذات أو ... طاني ودار اللهو داري ومنها: لم يبق لي عيش يلذ ... سوى معاقرة العقار حسبي بألحان قمر ... ت بهن ألحان القماري وإذا استهل ابن العمي ... د تضاءلت ديم القطار خرق صفت أخلاقه ... صفو السبيك من النصار فكأنما رفدت موا ... هبه بأمواج البحار وكأن نشر حديثه ... نشر الخزامى والعرار وكأننا مما تف ... رق راحتاه في نثار كلف بحفظ السر تح ... سب صدره ليل السرار ومنها: إن الكبار من الأمو ... ر تنال بالهمم الكبار وإلى أبي الفضل اتبع ... ت هواجس النفس السواري فتأخرت صلته عنه، فشفع هذه القصيدة بأخرى وأتبعها برقعة، فلم يزده ابن العميد على الإهمال مع ورقة حاله التي ورد عليها إلى بابه، فتوسل إلى أن دخل عليه يوم المجلس وهو حفل بأعيان الدولة ومقدمي أرباب الديوان، فوقف بين يديه وأشار إليه بيده، وقال: أيها الرئيس، إني لزمتك لزوم الظل، وذللت لك ذل النعل، وأكلت النوى المحرق انتظاراً لصلتك، والله ما بي من الحرمان، ولكن شماتة الأعداء، قوم نصحوني فاغتششتهم، وصدقوني فاتهمتهم، فبأي وجه ألقاهم وبأي حجة أقاومهم ولم أحصل من مديح بعد مديح ومن نثر بعد نظم إلا على ندم مؤلم ويأس مسقم فإن كان للنجاح علامة فأين هي وما الجزء: 5 ¦ الصفحة: 106 هي إن الذين تحسدهم على ما مدحوا به كانوا من طينتك، وإن الذين هجوا كانوا مثلك، فزاحم بمنكبك أعظهم سناماً وأنورهم شعاعاً، وأشرفهم بقاعاً، فحار ابن العميد وشده ولم يدر ما يقول، فاطرق ساعة ثم رفع رأسه وقال: هذا وقت يضيق عن الإطالة منم في الاستزادة، وعن الإطالة مني في المعذرة، وإذا تواهبنا ما دفعنا إليه استأنفنا ما نتحامد عليه، فقال ابن نباتة: أيها الرئيس، هذه نفثة صدر دوي (1) منذ زمان، وفضلة لسان قد خرس منذ دهر، والغني إذا مطل لئيم، فاستشاط ابن العميد، وقال: والله ما استوجبت هذا العتب من أحد من خلق الله تعالى، ولقد نافرت العميد من دون ذا حتى دفعنا إلى قري عائم ولجاج قائم، ولست ولي نعمتي فاحتملك، ولا صنيعتي فأغضي عليك، وإن بعض ما أقررته في مسامعي ينقض مرة الحليم ويبدد شمل الصبر، هذا وما استقدمتك بكتاب ولا استدعيتك برسول، ولا سألتك مدحي ولا كلفتك تقريضي؛ فقال ابن نباتة: صدقت أيها الرئيس ما استقدمتني بكتاب ولا استدعيتني برسول، ولا سألتني مدحك ولا كلفتني تقريضك، ولكن جلست في صدر ديوانك بأبهتك وقلت: لا يخاطبني أحد إلا بالرياسة، ولا ينازعني خلق في أحكام السياسة، فإني كاتب ركن الدولة وزعيم الأولياء والحضرة، والقيم بمصالح المملكة، فكأنك دعوتني بلسان الحال ولم تدعني بلسان المقال، فثار ابن العميد مغضباً وأسرع في صحن داره إلى أن دخل حجرته، وتقوض المجلس وماج الناس، وسمع ابن نباتة وهو في صحن الدار ماراً يقول: والله إن سف التراب والمشي على الجمر أهون من هذا، فلعن الله الأدب إذا كان بائعه مهيناً له، ومشتريه مماسكاً فيه. فلما سكن غيظ ابن العميد وثاب إليه حلمه التمسه من الغد ليعتذر إليه ويزيل آثار ما كان منه، فكأنما غاص في سمع الأرض وبصرها، فكانت حسرة في قلب ابن العميد إلى أن مات. ثم إني وجدت هذه القصيدة وصورة هذا المجلس منسوبين إلى غير ابن نباتة، وكشفت ديوان ابن نباتة فلم أر هذه القصيدة فيه، والله أعلم بالصواب، ثم   (1) ق ر والمختار: ذوى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 107 وجدت في كتاب " الوزيرين " (1) تأليف أبي حيان التوحيدي هذه القصيدة لأبي محمد عبد الرزاق بن الحسين المعروف بابن أبي الثياب البغدادي اللغوي المنطيقي الشاعر، وهذه المخاطبة لشاعر آخر من أهل الكرخ يعرف بممويه والله أعلم. وكان أبو الفرج أحمد بن محمد الكاتب مكيناً عند مخدومه ركن الدولة ابن بويه، وله الرتبة العلية لديه، وكان ابن العميد لا يوفيه حقه من الإكرام، فعاتبه مراراً فلم يفد، فكتب إليه: مالك موفور فما باله ... أكسبك التيه على المعدم ولم إذا جئت نهضنا وإن ... جئنا تطاولت ولم تتمم وإن خرجنا لم تقل مثل ما ... نقول قدم طرفه قدم إن كنت ذا علم فمن ذا الذي ... مثل الذي تعلم لم يعلم ولست في الغارب من دولة ... ونحن من دونك في المنسم وقد ولينا وعزلنا كما ... أنت فلم نصغر ولم تعظم تكافأت أحوالنا كلها ... فصل على الإنصاف أو فاصرم وللصاحب ابن عباد فيه مدائح كثيرة، وكان ابن العميد قد قدم مرة إلى أصبهان والصاحب فيها فكتب إليه: قالوا ربيعك قد قدم ... قلت البشارة إن سلم أهو الربيع أخو الشتا ... ء أم الربيع أخو الكرم قالوا الذي بنواله ... أمن المقل من العدم قلت الرئيس ابن العمي ... د إذاً، فقالوا لي نعم وكان ابن العميد كثير الإعجاب بقول بعضهم:   (1) انظر أخلاق الوزيرين: 427، 533 وفي الرواية اختلاف عما أورده بن خلكان. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 108 وجاءت إلى ستر على الباب بيننا ... مجاف (1) وقد قامت عليه الولائد لتسمع شعري وهو يقرع قلبها ... بوحي تؤديه إليه القصائد إذا سمعت مني لطيفاً تنفست ... له نفساً تنقد منه القلائد ولابن العميد شعر، وما أعجبني الذي وقفت عليه منه حتى أثبته (2) ، سوى ما ذكره ابن الصابي في كتاب " الوزراء "، وهو قوله: رأيت في الوجه طاقة بقيت ... سوداء عيني تحب رؤيتها فقلت للبيض إذ تروعها ... بالله إلا رحمت وحدتها فقل لبث السوداء في وطنٍ ... تكون فيه البيضاء ضرتها وذكر له الأمير أبو الفضل الميكالي في كتاب " المنتخل ": آخ الرجال من الأبا ... عد والأ قارب لا تقارب إن الأقارب كالعقا ... رب بل أضر من العقارب وتوفي ابن العميد المذكور في صفر، وقيل في المحرم بالري، وقيل ببغداد، سنة ستين وثلثمائة، رحمه الله تعالى (3) . وذكر أبو الحسين هلال بن المحسن بن إبراهيم الصابي في كتاب " الوزراء " أنه توفي في سنة تسع وخمسين وثلثمائة، وكذا قال جده إبراهيم الصابي في كتاب " التاجي "، والله أعلم (4) . وكان أبو الفضل ابن العميد يعتاده القولنج تارة والنقرس أخرى، تسلمه   (1) ر المختار؛ بر من: يخاف. (2) كذا قال هنا، وفي مج: وله شعر حسن فمنه قوله في غلام قام على رأسه يظلله من الشمس: كانت تظللني من الشمس ... نفس أعز علي من نفسي فأقول يا عجباً ومن عجب ... شمس تظللني من الشمس (3) زاد في مج: وكان عمره قد زاد على ستين سنة يسيراً، وكانت وزارته أربعاً وعشرين سنة؛ وقال في مج: إنه توفي بهمذان. (4) زيادة من ر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 109 هذه إلى هذه، وقال لسائل سأله: أيهما أصعب عليك وأشق قال: إذا عارضني النقرس فكأني بين فكي سبع يمضغني، وإذا اعتراني القولنج وددت لو استبدلت النقرس عنه، ويقال: إنه رأى أكاراً في بستان يأكل خبزاً ببصل ولبن وقد أمعن منه، فقال: وددت لو كنت كهذا الأكار آكل ما أشتهي؛ قلت: وهذه شيمة الدنيا، قل أن تصفو من الشوائب (1) . ورأيت في بعض المجاميع أن الصاحب بن عباد عبر على باب داره بعد وفاته فلم ير هناك أحداً بعد أن كان الدهليز يغص من زحام الناس (2) ، فأنشد: أيها الربع لم علاك اكتئاب ... أين ذاك الحجاب والحجاب أين من كان يفرغ الدهر منه ... فهو اليوم في التراب تراب قل بلا رقبة وغير احتشام ... مات مولاي فاعتراني اكتئاب ثم رأيت في كتاب " اليميني " للعتبي هذه الأبيات، وقد نسبها إلى أبي العباس الضبي، ثم قال: ويقال إنها لأبي بكر الخوارزمي، وقد اجتاز بباب الصاحب ابن عباد، ولا يمكن أن تكون على هذا التقدير للخوارزمي لأنه مات قبل الصاحب كما تقدم ذكره. ومثل هذه الحكاية ما حكاه علي بن سليمان قال: رأيت بالري دار قوم لم يبق منها إلا رسم بابها، وعليه مكتوب: اعجب لصرف الزمان (3) معتبرا ... فهذه الدار من عجائبها عهدي بها بالملوك زاهية ... قد سطع النور في جوانبها تبدلت وحشة بساكنها ... ما أوحش الدار بعد صاحبها (223) ولما مات رتب مخدومه ركن الدولة ولده ذا الكفايتين أبا الفتح   (1) سقط من النسخ وهو ثابت في المطبوعة المصرية. (2) ق: الزحام بالناس. (3) ق: الأزمان. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 110 علياً (1) مكانه في دست الوزارة، وكان جليلاً نبيلاً سرياً فضائل وفواضل، وهو الذي كتب إليه المتنبي الأبيات الخمسة الدالية الموجودة في ديوانه أثناء مدائح والده، ولا حاجة إلى ذكرها. وذكره الثعالبي في " اليتيمة " في ترجمة والده، وقال: كتب إلى صديق له يستهديه خمراً مستوراً عن والده " قد اغتنمت الليلة - أطال الله بقاءك يا سيدي - رقدة من عين الدهر، وانتهزت فرصة من فرص العمر، وانتظمت مع أصحابي في سمط الثريا، فإن لم تحفظ علينا هذا النظام، بإهداء المدام، عدنا كبنات نعش والسلام " وذكر له مقاطيع من الشعر. ولم يزل أبو الفتح المذكور في وزارة ركن الدولة إلى أن توفي مؤيد الدولة فاستوزره أيضاً، وأقام على ذلك مدة مديدة، وكانت بينه وبين الصاحب ابن عباد منافسة، ويقال: إنه أغرى قلب مؤيد الدولة عليه، فظهر له منه التنكر والإعراض، وقبض عليه في بعض شهور سنة ست وستين وثلثمائة، وله في اعتقاله أبيات شرح فيها حاله. وقال الثعالبي: اجتاح ماله وقطع في العقوبة أنفه وجز لحيته - وقال غيره: وقطع يديه - فلما أيس من نفسه وعلم أنه لا مخلص له مما هو فيه ولو بذل جميع ما تحتوي عليه يده، فتق جيب جبة كانت عليه واستخرج منها رقعة فيها تذكرة بجميع ما كان له ولوالده من الذخائر والدفائن (2) ، وألقاها في النار، فلما علم أنها احترقت قال للموكل به: افعل ما أمرت به. فوالله لا يصل إلى صاحبك من أموالنا درهم واحد، فما زال يعرضه على أنواع (3) العذاب حتى تلف، وكان القبض عليه يوم الأحد ثامن عشر ربيع الآخر سنة ست وستين وثلثمائة، وكانت ولادته سنة سبع وثلثمائة. ولما انصرف أهل خراسان في سنة خمس وخمسين وثلثمائة أيام الغزاة من الري بعد الحادثة التي جرت هناك - وهي واقعة مشهورة ودفع الله شرها -   (1) ترجمة أبي الفتح في اليتيمة 3: 185 ومعجم الأدباء 14: 191 ونكت الهميان: 215 وتاريخ ابن خلدون 4: 452 وراجع أخلاق الوزيرين للتوحيدي. (2) ر ق بر من: والدفاتر. (3) أنواع: سقطت من ر ق والمختار. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 111 شرع الرئيس أبو الفضل ابن العميد في بناء حائط عظيم دار مخدومه ركن الدولة، فقال له عارض الجيش: هذا كما يقال: الشد بعد الضراط، فقال ابن العميد: هذا أيضاً جيد، لئلا تنفلت أخرى، فاستحسن منه هذا الجواب (1) . وفيه يقول بعض أصحابه: آل العميد وآل برمك ما لكم ... قل المعين لكم وذل الناصر كان الزمان يحبكم فبدا له ... إن الزمان هو الخؤون الغادر وتولى موضعه الصاحب ابن عباد - وقد تقدم ذكره في ترجمته فينظر هناك في حرف الهمزة (2) . وكان أبو الفتح المذكور قبل أن يقتل بمدة قد لهج بإنشاد هذين البيتين: دخل الدنيا أناس قبلنا ... رحلوا عنها وخلوها لنا ونزلناها كما قد نزلوا ... ونخليها لقوم بعدنا ومن المنسوب إلى أبي الفتح ابن العميد: يقول لي الواشون: كيف تحبها ... فقلت لهم: بين المقصر والغالي ولولا حذاري منهم لصدقتهم ... فقلت: هوى لم يهوه قط أمثالي وكم من شفيق قال: مالك واجما ... فقلت: ترى ما بي وتسأل عن حالي (3) (224) وكان أبو حيان علي بن محمد التوحيدي البغدادي (4) قد وضع كتاباً سماه " مثالب الوزيرين " ضمنه معايب أبي الفضل ابن العميد المذكور والصاحب   (1) لم يرد هذا في النسخ الخطية، وهو قلق في موضعه. (2) انظر ج 1: 228. (3) لم يرد في النسخ الخطية. (4) البغدادي: سقطت من ق ر بر من والمختار، وفي ترجمة التوحيدي يراجع معجم الأدباء 15: 5 وميزان الاعتدال 2: 355 وشد الأزار: 53 وطبقات السبكي 4: 2 ولسان الميزان 6: 369 وبغية الوعاة: 348 وروضات الجنات: 714 وعنه كتبت دراسات متعددة في السنوات الأخيرة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 112 ابن عباد، وتحامل عليهما وعدد نقائصهما، وسلبهما ما اشتهر عنهما من الفضائل والإفضال، وبالغ في التعصب عليهما وما انصفهما، وهذا الكتاب من الكتب المحدودة، ما ملكه أحد إلا وتعكست أحواله، ولقد جربت ذلك وجربه غيري على ما أخبرني من أثق به. وكان أبو حيان المذكور فاضلاً منصفاً له من الكتب المشهور الإمتاع والمؤانسة في مجلدين، وكتاب وكتاب البصائر والذخائر وكتاب الصديق والصداقة في مجلد واحد أيضاً وكتاب المقابسات (1) في مجلد أيضاً، وكتاب " مثالب الوزيرين " في مجلد واحد أيضاً، وغير ذلك، وكان موجوداً في السنة الأربعمائة، ذكر في كتاب " الصديق والصداقة ". والتوحيدي: بفتح التاء المثناة من فوقها وسكون الواو وكسر الحاء المهملة وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها دال مهملة، ولم أر أحداً ممن وضع كتب الأنساب تعرض إلى هذه النسبة، لا السمعاني ولا غيره، لكن يقال إن أباه كان يبيع التوحيد ببغداد، وهو نوع من التمر بالعراق، وعليه حمل بعض من شرح ديوان المتنبي قوله: يترشفن من فمي رشفات ... هن فيه أحلى من التوحيد والله أعلم بالصواب. 698 - (2) ابن مقلة أبو علي بن الحسين بن مقلة الكاتب المشهور؛ كان في أول أمره يتولى بعض أعمال فارس ويجبي خراجها، وتنقلت أحواله إلى أن استوزره   (1) ن ق بر من: المقايسات. (2) أخباره في ثمار القلوب 210 - 212 ورسالة في الكتابة للتوحيدي والوافي 1: 168 والمنتظم 6: 309 وج! 8 من ابن الأثير والشذرات 2: 310 وعبر الذهبي 2: 211 والفخري 243 وتحفة أولي الألباب: 43 وما يعدها؛ ولم ترد هذه الترجمة في مج. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 113 الإمام المقتدر بالله، وخلع عليه لأربع عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الأول سنة ست عشرة وثلثمائة، وقبض عليه يوم الأربعاء لأربع عشرة ليلة بقيت من جمادى الأولى سنة ثماني عشرة وثلثمائة، ثم نفاه إلى بلاد فارس بعد أن صادره، ثم استوزره الإمام القاهر بالله، فأرسل إليه إلى فارس رسولاً يجيء به، ورتب له نائباً عنه، فوصل ابن نقلة من فارس بكرة يوم الخميس عيد (1) الأضحى من سنة عشرين وثلثمائة، وخلع عليه، ولم يزل وزيره حتى اتهمه بمعاضدة علي بن بليق على الفتك به، وبلغ ابن مقلة الخبر، فاستتر في أول شعبان من سنة إحدى وعشرين وثلثمائة. ولما ولي الرضي بالله، لست خلون من جمادى الأولى من سنة اثنتين وعشرين وكان المظفر بن ياقوت مستحوذاً على أمور الراضي، وكانت بينه وبين أبي علي الوزير وحشة، فقرر ياقوت المذكور مع الغلمان الحجرية أنه إذا جاء الوزير أبو علي قبضوا عليه، وأن الخليفة لا يخالفهم في ذلك، وربما سره هذا الأمر، فلما حصل الوزير في دهليز دار الخلافة وثب الغلمان عليه ومعهم ابن ياقوت المذكور فقبضوا عليه وأرسلوا إلى الراضي يعرفونه صورة الحال، وعددوا له ذنوباً وأسباباً تقضي ذلك، فرد جوابهم وهو يستصوب رأيهم فيما فعلوه، وذلك في يوم الاثنين لأربع عشرة ليلة بقيت من جمادى الأولى سنة أربع وعشرين وثلثمائة، واتفق رأيهم على تفويض الوزارة إلى عبد الرحمن بن عيسى بن داود بن الجراح، فقلده الراضي الوزارة، وسلم إليه أبا علي بن مقلة، فضربه بالمقارع وجرى عليه من المكاره بالتعليق وغيره من العقوبة شيء كثير، وأخذ خطه بألف ألف ينار، ثم خلص وجلس بطالاً في داره. ثم إن أبا بكر محمد بن رائق استولى على الخلافة، وخرج عن طاعتها فانفذ إليه الراضي واستماله، وفوض إليه تدبير المملكة وجعله أمير الأمراء ورد (2) إليه تدبير أعمال الخراج والضياع في جيمع النواحي، وأمر أن يخطب له على جميع   (1) الخميس عيد: سقطن من ن ر ق؛ وهذا النص كله موجز في بر من. (2) المختار: وفوض. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 114 المنابر، فقوي أمره وعظم شأنه وتصرف على حسب اختياره؛ واحتاط على أملاك ابن مقلة المذكور وضياعه وأملاك ولده أبي الحسين، فحضر إليه ابن مقلة وإلى كاتبه وتذلل لهما في معنى الإفراج عن أملاكه، فلم يحصل منهما إلا على المواعيد، فلما رأى ابن مقلة ذلك أخذ في السعي بابن رائق المذكور من كل جهة، وكتب إلى الراضي يشير عليه بإمساكه والقبض عليه، وضمن له أنه متى فعل ذلك وقلده الوزارة استخرج له ثلثمائة ألف ألف دينار، وكانت مكاتبته على يد علي بن هارون المنجم النديم - المقدم ذكره (1) - فأطمعه الراضي بالإجابة إلى ما سأل، وترددت الرسائل بينهما في ذلك، فلما استوثق ابن مقلة من الراضي اتفقا على أن ينحدر إليه سراً ويقيم عنده إلى أن يتم التدبير، فركب من داره وقد بقي من شهر رمضان ليلة واحدة، واختار هذا الطالع لأن القمر يكون تحت الشعاع، وهو يصلح للأمور المستورة، فلما وصل إلى دار الخليفة لم يمكنه من الوصول إليه، واعتقله في حجره، ووجه الراضي من غد إلى ابن رائق، وأخبره بما جرى، وانه احتال على ابن مقلة حتى حصله في أسره وترددت بينهما المكاتبات في ذلك. فلما كان رابع عشر شوال سنة ست وعشرين وثلثمائة، اظهر الراضي أمر ابن مقلة وأخرجه من الاعقتال، وحضر حاجب ابن رائق وجماعة من القواد وتقابلا، وكان ابن رائق قد التمس قطع يده اليمنى التي كتب بها تلك المطالعة، فلما انتهى كلامهما في المقابلة قطعت يده اليمنى ورد إلى محبسه، ثم ندم الراضي على ذلك وأمر الأطباء بملازمته للمداواة، فلازموه حتى برئ، وكان ذلك نتيجة دعاء أبي الحسن محمد بن شنبوذ المقرئ عليه بقطع اليد - وقد تقدم ذكر سبب ذلك في ترجمته - وذلك من عجيب الاتفاق. وقال أبو الحسن ثابت بن سنان بن ثابت بن قرة الطبيب، وكان يدخل عليه لمعالجته: كنت إذا دخلت عليه في تلك الحال يسألني عن أحوال ولده أبي الحسين، فأعرفه استتاره وسلامته، فتطيب نفسه، ثم ينوح على يده ويبكي ويقول: خدمت بها الخلفاء وكتبت بها القرآن الكريم دفعتين، تقطع كما تقطع   (1) انظر ج 3: 375. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 115 أيدي اللصوص فأسليه وأقول له: هذا انتهاء المكروه وخاتمة القطوع فينشدني ويقول: إذا ما مات بعضك فابك بعضا ... فإن البعض (1) من بعض قريب ثم عاد وراسل الراضي من الحبس بعد قطع يده وأطمعه في المال وطلب الوزارة وقال: إن قطع اليد ليس مما يمنع الوزارة، وكان يشد القلم على ساعده ويكتب به. ولما قدم (2) بحكم التركي من بغداد، وكان من المنتمين إلى ابن رائق أمر بقطع لسانه أيضاً فقطع، وأقام في الحبس مدة طويلة ثم لحقه ذرب، ولم يكن له من يخدمه، فكان يستقي الماء لنفسه من البئر، فيجتذب بيده اليسرى جذبة وبفمه الأخرى. وله أشعار في شرح حاله وما انتهى أمره إليه ورثاء يده والشكوى من المناصحة وعدم تلقيها بالقبول، فمن ذلك قوله: ما سئمت الحياة لكن توثق ... ت بأيمانهم فبانت يميني بعت ديني لهم بدنياي حتى ... حرموني دنياهم بعد ديني ولقد حطمت ما استطعت بجهدي ... حفظ أرواحهم فما حفظوني ليس بعد اليمين لذة عيش ... يا حياتي بانت يميني فبيني ومن المنسوب إلى ابن مقلة أيضاً: لست ذا ذلة إذا عضني الده ... ر ولا شامخاً إذا واتاني أنا نار في مرتقى نفس الحا ... سد ماء جار مع الإخوان وفي الوزير المذكور يقول بعضهم: وقالوا العزل للوزراء (3) حيض ... لحاه الله من أمر بغيض   (1) بر من: فبعض الشيء. (2) بر: قرب. (3) بر: للأخوان؛ ق ر: للأحرار. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 116 ولكن الوزير أبا علي ... من اللائي يئسن من المحيض ومن شعره أيضاً ما قاله الثعالبي في " يتيمة الدهر ": وإذا رأيت فتى بأعلى رتبة ... في شامخ من عزه المترفع قالت لي النفس العروف بقدرها ... ما كان أولاني بهذا الموضع ولم يزل على هذه الحال إلى أن توفي في موضعه يوم الأحد عاشر شوال، سنة ثمان وعشرين وثلثمائة، ودفن في مكانه، ثم نبش بعد زمان وسلم إلى أهله. وكانت ولادته يوم الخميس بعد العصر، لتسع بقين من شوال سنة اثنتين وسبعين ومائتين، ببغداد، رحمه الله تعالى. وقد تقدم طرف من خبره في ترجمة ابن البواب الكاتب، وأنه أول من نقل هذه الطريقة من خط الكوفيين إلى هذه الصورة هو وأخوه، على الخلاف المذكور في ترجمة ابن البواب، وأن ابن البواب تبع طريقته ونقح أسلوبه. ولابن مقلة ألفاظ منقولة مستعملة، فمن ذلك قوله: إذا أحببت تهالكت، وإذا أبغضت أهلكت، وإذا رضيت آثرت، وإذا غضبت أثرت. ومن كلامه أيضاً: يعجبني من يقول الشعر تأدباً لا تكسبا، ويتعاطى الغناء تطرباً لا تطلبا. وله كل معنى مليح في النظم والنثر. وكان ابن الرومي الشاعر - المتقدم ذكره - يمدحه فمن معاينة المقولة فيه قوله: إن يخدم القلم السيف الذي خضعت ... له الرقاب ودانت خوفه الأمم فالموت، والموت لا شيء يعادله ... ما زال يتبع ما يجري به القلم كذا قضى الله للأقلام مذ بريت ... أن السيوف لها مذ أرهفت خدم وكل صاحب سيف دائماً أبداً ... ما يزال يتبع ما يجري به القلم (225) وكان أخوه أبو عبد الله الحسن بن علي بن مقلة كاتباً أديباً بارعاً، والصحيح أنه صاحب الخط المليح، ومولده يوم الأربعاء طلوع الفجر، سلخ شهر رمضان سنة ثمان وسبعين ومائتين. وتوفي في شهر ربيع الآخر سنة ثمان الجزء: 5 ¦ الصفحة: 117 وثلثين وثلثمائة، رحمه الله تعالى. وأما ابن رائق، فإن الحافظ ابن عساكر ذكر في " تاريخ دمشق " أنه قدمها في ذي الحجة سنة سبع وعشرين وثلثمائة وذكر أن الإمام المقتفي بالله ولاه أمر دمشق، وأخرج منها بدر بن عبد الله الإخشيدي، ثم توجه إلى مصر، وتواقع هو وصاحبها محمد بن طغج الإخشيد - المقدم ذكره - فهزمه (1) الإخشيد فرجع إلى دمشق، ثم توجه إلى بغداد وقتل بالموصل سنة ثلاثين وثلثمائة، وقيل أن بني حمدان قتلوه بالموصل (2) ، قتله ناصر الدولة الحسن - المقدم ذكره -. 699 - (3) ابن بقية الوزير أبو الطاهر محمد بن محمد بن بقية بن علي، الملقب نصير الدولة، وزير عز الدولة بختيار بن معز الدولة بن بويه - المقدم ذكره (4) - كان من جلة الرؤساء، أكابر الوزراء، وأعيان الكرماء. وقد تقدم فر ترجمة عز الدولة طرف من خبره في قضية الشمع، وأن الشماع لما سئل عن راتب عز الدولة في السمع كم كان، فقال: كان راتب وزيره محمد بن بقية ألف من في كل شهر، فإذا كان هذا راتب الشمع خاصة مع قلة الحاجة إليه، فكم يكون غيره مما تشتد الحاجة إليه وكان من أهل أوانا من أعمال بغداد، وكان في أول أمره قد توصل إلى أن صار صاحب مطبخ معز الدولة والد عز الدولة، ثم تنقل إلى غيرها من الخدم.   (1) ق: فقهره. (2) ق: صلبوه وقتلوه. (3) أخباره في تاريخ ابن الأثير (ج: 8) وتجارب الأمم (ج: 2) وراجع الامتاع والمؤانسة (ج: 1) والشذرات 3: 63؛ وبعد سطرين من بداية هذه الترجمة وقع في النسخة مج خرم ضاعت به أوراق حتى أول ترجمة منصور بن إسماعيل الفقيه. (4) انظر ج 1: 276. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 118 ولما مات معز الدولة وأفضى الأمر إلى عز الدولة حسنت حاله عنده، ورعى خدمته لأبيه، وكان فيه توصل وسعة صدر، وتقدم إلى أن استوزره عز الدولة يوم الاثنين لسبع ليال خلون من ذي الحجة سنة اثنتين وستين وثلثمائة. ثم إنه قبض عليه لسبب اقتضى ذلك يطول شرحه؛ وحاصله أنه حمله على محاربة ابن عمه عضد الدولة، فالتقيا على الأهواز وكسر عز الدولة، فنسب ذلك إلى رأيه ومشورته، وفي ذلك يقول أبو غسان الطبيب بالبصرة: أقام على الأهواز خمسين ليلة ... يدبر أمر الملك حتى تدمرا فدبر أمراً كان أوله عمى ... وأوسطه بلوى وآخره خرا وكان قبضه يوم الاثنين لثلاث عشرة ليلة بقيت من ذي الحجة سنة ست وستين وثلثمائة بمدينة واسط، وسمل عينيه ولزم بيته. وكان في مدة وزارته يبلغ عضد الدولة ابن بويه عنه أمور يسوءه سماعها، منها أنه كان يسميه أبا بكر الغددي (1) تشبيهاً له برجل أشقر أزرق أنمش يسمى أبا بكر كان يبيع الغدد برسم السنانير ببغداد، وكان عضد الدولة بهذه الحلية وكان الوزير يفعل ذلك تقرباً إلى قلب مخدومه عز الدولة لما كان بينه وبين ابن عمه عضد الدولة من العداوة، فلما قتل عز الدولة - كما وصفناه في ترجمته - وملك عضد الدولة بغداد ودخلها طلب ابن بقية المذكور وألقاه تحت أرجل الفيلة، فلما قتل صلبه بحضرة البيمارستان العضدي ببغداد، وذلك في يوم الجمعة لست خلون من شوال سنة سبع وستين وثلثمائة، رحمه الله تعالى. وقال ابن الهمذاني في كتاب " عيون السير ": لما استوزر عز الدولة بختيار ابن بويه ابن بقية المذكور، بعد أن كان يتولى أمر المطبخ، قال الناس: من الغضارة إلى الوزارة، وستر كرمه عيوبه، وخلع في عشرين يوماً عشرين ألف خلعة، قال أبو إسحاق الصابي: رأيته وهو يشرب في بعض الليالي، وكلما لبس خلعة خلعها على أحد الحاضرين، فزادت على مائتي خلعة، فقالت له مغنيته (2) :   (1) بر: العذري؛ وقد حولت " سنانير " إلى " بساتين " لتوافق هذه اللفظة، في بعض الأصول. (2) ر ق: مغنية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 119 يا سيدي الوزير في هذه الثياب زنابير ما تدعها تثبت على جسمك، فضحك وأمر لها بحقة حلي. وهو أول وزير لقب بلقبين، فإن الإمام المطيع لقبه بالناصح، ولقبه ولده الطائع بنصير الدولة. ولما جرت الحرب بين عز الدولة وابن عمه عضد الدولة قبض عز الدولة عليه وسمله وحمله إلى عضد الدولة مسمولاً، فشهره عضد الدولة وعلى رأسه برنس، ثم أمر بطرحه للفيلة فقتله، ثم صلبه عند داره بباب الطاق، وعمره نيف وخمسون سنة. ولما صلب رثاه أبو الحسن محمد بن عمر بن يعقوب الأنباري أحد العدول ببغداد بقوله: علو في الحياة وفي الممات ... لحق أنت إحدى المعجزات كأن الناس حولك حين قاموا ... وفود نداك أيام الصلات كأنك قائم فيهم خطيباً ... وكلهم قيام للصلاة مددت يديك نحوهم احتفاء ... كمدهما (1) إليهم بالهبات ولما ضاق بطن الأرض عن أن ... يضم علاك من بعد الممات أصاروا الجو قبرك واستنابوا ... عن الكفان ثوب السافيات لعظمك في النفوس تبيت ترعى ... بحفاظ وحراس ثقات وتشعل عندك النيران ليلاً ... كذلك كنت أيام الحياة ركبت مطية من قبل زيد ... علاها في السنين الماضيات وتلك فضيلة فيها تأس ... تباعد عنك تعيير العداة ولم أر قبل جذعك قط جذعا ... تمكن من عناق المكرمات أسأت إلى النوائب فاستثارت ... فأنت قتيل ثأر النائبات وكنت تجير من صرف الليالي ... فعاد مطالباً لك بالترات وصير دهرك الإحسان فيه ... إلينا من عظيم السيئات وكنت لمعشر سعداً، فلما ... مضيت تفرقوا بالمنحسات   (1) ر ق والمختار: كمدكها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 120 غليل باطن لك في فؤادي ... يخفف بالدموع الجاريات ولو أني قدرت على قيام ... لفرضك والحقوق الواجبات ملأت الأرض من نظم القوافي ... ونحت بها خلاف النائحات ولكني أصبر عنك نفسي ... مخافة أن أعد من الجناة وما لك تربة فأقول تسقى ... لأنك نصب هطل الهاطلات عليك تحية الرحمن تترى ... برحمات غواد رائحات ولم يزل (1) ابن بقية مصلوباً إلى أن توفي عضد الدولة - في التاريخ المذكور في ترجمته في حرف الفاء (2) - فأنزل عن الخشبة، ودفن في موضعه، فقال فيه أبو الحسن ابن الأنباري صاحب المرثية المذكورة: ولم يلحقوا بك عاراً إذ صلبت بلى ... باءوا بإثمك ثم استرجعوا ندما وأيقنوا أنهم في فعلهم غلطوا ... وأنهم نصبوا من سؤدد علما فاسترجعوك وواروا منك طود علا ... بدفنه دفنوا الأفضال والكرما لئن بليت فلا يبلى نداك فيك كما ... يُنسى، وكم هالك ينسى إذا عدما تقاسم الناس حسن الذكر فيك كما ... ما زال مالك بين الناس منقسما قال الحافظ ابن عساكر في " تاريخ دمشق ": لما صنع أبو الحسن المرثية التائية كتبها ورماها في شوارع بغداد، فتداولتها الأدباء (3) ، إلى أن وصل الخبر إلى عضد الدولة، فلما أنشدت بين يديه تمنى أن يكون هو المصلوب دونه، فقال: علي بهذا الرجل، فطلب سنة كاملة، واتصل الخبر بالصاحب ابن عباد وهو بالري فكتب له الأمان، فلما سمع أبو الحسن ابن الأنباري بذكر الأمان قصد حضرته فقال له: أنت القائل هذه الأبيات قال: نعم، قال: أنشدنيها من فيك، فلما أنشد:   (1) ق: قال الحافظ ابن عساكر في تاريخ دمشق ولم يزل ... الخ. (2) انظر ج 4: 54. (3) ق: فتداولها الناس والأدباء. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 121 ولم أر قبل جذعك قط جذعا ... تمكن من عناق المكرمات قام إليه الصاحب وعاتقه وقبل فاه، وأنفذ إلى عضد الدولة، فلما مثل بين يديه قال له: ما الذي حملك على مرثية عدوي فقال: حقوق سلفت وأياد مضت، فجاش الحزن في قلبي فرثيت، فقال: هل يحضرك شيء في الشموع، والشموع تزهر بين يديه، فأنشأ يقول: كأن الشموع وقد أظهرت ... من النار في كل رأس سنانا أصابع أعدائك الخائفين ... تضرع تطلب منك الأمانا فلما سمعها خلع عليه وأعطاه فرساً وبدرة؛ انتهى كلام الحافظ ابن عساكر رحمه الله. (227) قلت: قوله في الأبيات: ركبت مطية من قبل زيد ... علاها في السنين الماضيات زيد هذا هو أبو الحسين زيد بن زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، وكان قد ظهر في أيام هشام بن عبد الملك في سنة اثنتين وعشرين ومائة، ودعا إلى نفسه، فبعث إليه يوسف بن عمر الثقفي والي العراقين يومئذ جيشاً مقدمه العباس المري، فرماه رجل منهم بسهم فأصابه فمات، وصلب بكناسة الكوفة (3) ، ونقل رأسه إلى البلاد. وقال ابن قانع: كان ذلك في صفر سنة إحدى وعشرين ومائة، وقيل سنة اثنتين وعشرين ومائة في صفر أيضاً، بالكوفة، ولزيد من العمر اثنان وأربعون سنة يومئذ. وقال ابن الكلبي في كتاب " جمهرة النسب ": إن زيد بن علي رضي الله عنهما أصابه سهم في جبهته فاحتمله أصحابه، وكان ذلك عند المساء، ثم دعوا الحجام فانتزع النشابة (2) وسالت نفسه، رضي الله عنه. وذكر أبو عمرو الكندي في كتاب " أمراء مصر " أن أبا الحكم ابن أبي الأبيض العبسي (3) قدم إلى مصر برأس زيد   (3) كذا في ق ر والكندي: 81 وورد في ن والخطط: القيسي. (2) ق والمختار: السهم. (3) كذا في ق ر والكندي: 81 وورد في ن والخطط: القيسي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 122 ابن علي خطيباً يوم الأحد لعشر خلون من جمادى الآخرة سنة اثنتين وعشرين ومائة، واجتمع إليه الناس في المسجد، وهو صاحب المشهد الذي بين مصر وبركة قارون، بالقرب من جامع ابن طولون يقال: إن رأسه مدفون به، والله أعلم بالصواب. (228) وقتل ولده يحيى بن زيد سنة خمس وعشرين ومائة، وقصته مشهورة بالجوزخان، قتله سالم بن أحوز المازني، وقيل جهم بن صفوان صاحب الجهمية (1) . وهذه القصيدة اتفق العلماء على أنه لم يعمل في بابها مثلها. وقد ذكر أبو تمام أيضاً حال المصلوبين في قصيدته التي مدح بها المعتصم لما صلب الأفشين خيذر ابن كاوس مقدم قواده وبابك ومازيار في سنة ست وعشرين ومائتين، وقصتهم مشهورة، فمنها قوله (2) : ولقد شفى الأحشاء من برحائها ... إذ صار بابك جار مازيار ثانية في كبد السماء ولم يكن ... كاثنين ثان إذ هما في الغار وكأنما اتنبذا لكيما يطويا ... عن ناطس خبراً من الأخبار سود اللباس كأنما نسجت لهم ... أيدي السموم مدارعاً من قار بكروا وأسروا في متون ضوامر ... قيدت لهم من مربط النجار لا يبرجون ومن رآهم خالهم ... أبداً على سفر من الأسفار وقبل هذا في وصف الأفشين خاصة: رمقوا أعالي جذعه فكأنما ... رمقوا الهلال عشية الإفطار وهي من القصائد الطنانة. والأفشين مشهور فلا حاجة إلى ضبطه، وهو بكسر الهمزة وفتحها، واسمه خيذر - بفتح الخاء المعجمة وسكون الياء المثناة من تحتها وفتح الذال المعجمة وبعدها راء - وإنما قيدته لأنه يتصحف على كثير من الناس بحيدر، بالحاء المهملة.   (1) ق: وقتل أيضاً جهم بن صفوان صاحب (بياض) . (2) ديوان بي تمام 2: 207. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 123 ومن شعر أبي الحسن الأنباري المذكور في الباقلي الأخضر قوله (1) : فصوص زمرد في غلف در ... بأقماع حكت تقليم ظفر وقد خلع الربيع له ثيابا ... لها لونان من بيض وخضر وقد ذكره الخطيب في " تاريخ بغداد " (2) وقال: إنه من المقلين في الشعر، رحمه الله تعالى. 700 - (3) الوزير فخر الملك أبو غالب محمد بن علي بن خلف، الملقب فخر الملك، وزير بهاء الدولة أبي نصر بن عضد الدولة بن بوية، وبعد وفاته وزر لولده سلطان الدولة أبي شجاع فناخسرو. وكان فخر الملك المذكور من أعظم وزراء آل بويه على الإطلاق بعد أبي الفضل محمد بن العميد والصاحب بن عباد - المقدم ذكرهما - وكان أصله من واسط، وأبوه صيرفياً، وكان واسع النعمة فسيح مجال الهمة جم الفضائل والإضال جزيل العطايا والنوال، قصد جماعة من أعيان الشعراء ومدحوه، وقرضوه بنخب المدائح، منهم أبو نصر عبد العزيز بن نباتة الشاعر - المقدم ذكره - له فيه قصائد مختارة، منها قصيدته النونية التي من جملتها يقول: لكل فتى قرين حين يسمو ... وفخر الملك ليس له قرين أنخ بجنابه واحكم عليه ... بما أملته فأنا الضمين   (1) ورد البيتان في حلبة الكميت: 235 منسوبين للصنوبري وانظر ديوانه 480. (2) تاريخ بغداد 3: 35. (3) أخباره في المنتظم 7: 286 والوافي 4: 118 ومواضع متفرقة من ابن الأثير (ج: 9) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 124 أخبرني بعض علماء الأدب أن بعض الشعراء امتدح فخر الملك بعد هذه القصيدة، فأجازه إجازة لم يرضها، فجاء الشعر إلى نباتة، وقال له: أنت غررتني (1) ، وأنا ما مدحته إلا ثقة بضمانك، فتعطي ما يليق بمثل قصيدتي، فأعطاه من عنده شيئاً رضي به، بلغ ذلك فخر الملك، فسير لابن نباتة جملة مستكثرة لهذا السبب. ويقرب من معنى هذين البيتين في شدة الوثوق بالعطاء قول المتنبي: وثقنا بأن تعطي فلو لم تجد لنا ... لخلناك قد أعطيت من قوة الوهم ويحكى في هذا المعنى أيضاً أن بعض الشعراء مدح بعض الأكابر بقصيدة، فلما أصبح كتب إليه: لم أعالجك بالرقاع إلى أن ... عاجلتني رقاع أهل الديون علموا أنني بمدحك أمسي ... ت ملياً فأصبحوا يرفعوني (2) ومن جملة مداحه المهيار بن مرزويه الكاتب الشاعر المشهور - وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى - وفيه يقول قصيدته الرائية التي منها (3) : أرى كبدي وقد بردت قليلاً ... أمات الهم أم عاش السرور أم الأيام خافتني لأني ... بفخر الملك منها أستجير ومدائحه كثيرة، ولأجله صنف أبو بكر محمد بن الحسن الحاسب الكرجي (4) كتاب " الفخري " في الجبر والمقابلة، وكتاب " الكافي " في الحساب. ورأيت في بعض المجاميع أن رجلاً شيخاً رفع إلى فخر الملك المذكور قصة   (1) ر والمختار: غريتني. (2) ن: يقتضوني. (3) ديوان مهيار 1: 358. (4) الكرجي: كذا في ر والمختار، والمشهور أنه الكرخي، (كما في بعض النسخ) ، وانظر فصلاً عن جهوده في الرياضيات في كتاب تراث العرب العلمي لقدري طوقان ص: 249. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 125 سعى فيها بهلاك شخص، فلما وقف فخر الملك عليها قلبها وكتب في ظهرها: " السعاية قبيحة وإن كانت صحيحة، فإن كنت أجريتها مجرى النصح، فخسرانك فيها أكثر من الربح، ومعاذ الله أن نقبل من مهتوك في مستور، ولولا أنك في خفارة من شيبك لقابلناك بما يشبه مقالك، ونردع به أمثالك، فاكتم هذا العيب، واتق من يعلم الغيب، والسلام ". وذكر أبو منصور الثعالبي في كتاب " تتمة يتيمة الدهر " للأشرف بن فخر الملك قوله (1) : مر بي الموكب لكنني ... لم أر فيه قمر الكوكب قل لأمير الجيش يا سيدي ... ما لأمير الحسن لم يركب ومحاسن فخر الملك كثيرة، ولم يزل في عزه وجاهه وحرمته إلى أن نقم عليه مخدومه سلطان الدولة المذكور بسبب اقتضى ذلك، فحبسه ثم قتله بسفح جبل قريب من الأهواز، يوم السبت، وقيل يوم الثلاثاء، لثلاث بقين من شهر ربيع الأول سنة سبع وأربعمائة، ودفن هناك، ولم يستقص في دفنه فنبشت الكلاب قبره وأكلته، ثم أعيد دفن رمته، فشفع فيه بعض أصحابه فنقلت عظامه إلى مشهد هناك فدفنت فيه في سنة ثمان وأربعمائة. وقال أبو عبد الله أحمد بن القادسي في " أخبار الوزراء ": وكان الوزير فخر الملك قد أهمل بعض الواجبات فعوقب سريعاً، وذلك أن بعض خواصه قتل رجلاً ظلماً، فتصدت له زوجة المقتول تستغيث، فلم يلتفت إليها، فلقيه ليلة في مشهد باب التبن وقد حضر للزيارة، فقالت له: يا فخر الملك، القصص التي أرفعها إليك ولا تلتفت إليها صرت أرفعها إلى الله، وأنا منتظرة خروج التوقيع من جهته، فلما قبض عليه قال: لا شك أن توقيعها خرج، واستدعي إلى مضرب سلطان الدولة، ثم قبض عليه وعدل به إلى خركاه، وقد أحيط على أمواله وخزائنه وكراعه وولده وأصحابه، وقتل في التاريخ المذكور أعلاه وأخذ من ماله ستمائة ألف دينار ونيف وثلاثون ألف دينار، وقيل إنه وجد   (1) انظر تتمة اليتيمة 1: 56 - 57. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 126 له ألف ألف ومائتا ألف دينار منطبعة. ورثاه الشريف الرضي بأبيات ما اخترت منها شيئاً حتى أثبته هاهنا (1) فسبحان اللطيف الخبير، الفعال لما يريد. ومولده بواسط يوم الخميس الثاني والعشرين من شهر ربيع الآخر سنة أربع وخمسين وثلثمائة، وقد استوفى هلال ابن الصابي أخباره في تاريخه، والله تعالى أعلم بالصواب. 701 - (2) أبو نصر ابن جهير أبو نصر محمد بن محمد بن جهير، المقلب فخر الملك مؤيد الدين الموصلي الثعلبي؛ كان ذا رأي وعقل وحزم وتدبير، خرج من الموصل لأمر يطول شرحه، وصار ناظر الديوان بحلب، ثم صرف عنه وانتقل إلى آمد، وأقام بها مدة طويلة بطالاً، ثم توصل إلى أن وزر للأمير (3) نصر الدولة أحمد بن مروان الكردي صاحب ميافارقين وديار بكر - وقد تقدم ذكر ذلك في ترجمة نصر الدولة - وكان نافذ الكلم مطاع الأمر، ولم يزل على ذلك إلى أن توفي نصر الدولة في التاريخ المذكور في ترجمته، وقام بالأمر ولده نظام الدين، فأقبل عليه وزاد في إكرامه فرتب أمور دولته وأجراها على الأوضاع التي كانت في أيام أبيه. ثم خطر له التوجه إلى بغداد، فعمل على ذلك، وكان يكاتب الإمام القائم بأمر الله، ولم يزل يتوصل ويبذل الأموال حتى خرج إليه نقيب النقباء ابن طراد الزينبي، فقرر معه ما أراد تقريره ثم خرج لوداعه، ويمم إلى بغداد، وأرسل   (1) انفردت ق بما بين معقفين. (2) أخباره في تاريخ ابن الأثير (ج: 10) وابن خلدون 4: 320 وتاريخ الدولة السلجوقية: 62 والمنتظم 9: 54 والفخري: 260 والوافي 1: 122 وعبر الذهبي 3: 304 والشذرات 3: 369. (3) ر: استوزره الأمير. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 127 ابن مروان خلفه من يرده فلم يقدر عليه، فلما بلغها تولى وزارة القائم بدلاً من أبي الغنائم ابن دراست (1) في سنة أربع وخمسين وأربعمائة، ودام فيها إلى أن توفي القائم، وتولى ولده المقتدي بأمر الله فأقره على الوزارة مدة سنين، ثم عزله عنها يوم عرفة الأمير أبو الغنائم ابن دراست، بإشارة الوزير نظام الملك، وكان ولده عميد الدولة شرف الدين أبو منصور محمد ينوب عنه فيها، فلما عزل والده خرج هو نظام الملك أبي الحسن وزير ملكشاه بن ألب أرسلان السلجوقي - المقدم ذكره واسترضاه وأصلح حاله معه وعاد إلى بغداد، وتولى الوزارة مكان أبيه. وخرج أبوه فخر الدولة في سنة ست وسبعين إلى جهة السلطان ملكشاه المذكور باستدعائه إياه، فعقد له على ديار بكر، وسار معه الأمير أرتق بن أكسب صاحب حلوان - المقدم ذكره - في جماعة من التركمان والأكراد والأمراء، فلما وصلوا إلى ديار بكر فتح ولده أبو القاسم زعيم الرؤساء مدينة آمد بعد حصار شديد، ثم فت أبوه فخر الدولة ميافارقين بعد ثلاثة أشهر من فتح آمد وكان أخذها من ناصر الدولة أبي المظفر منصور بن نظام الدين، واستولى على أموال بني مروان وذلك في سنة تسع وسبعين وأربعمائة. ومن عجيب الاتفاق أن منجماً حضر إلى ابن مروان نصر الدولة، وحكم له بأشياء، ثم قال له: ويخرج على دولتك رجل قد أحسنت إليه، فيأخذ الملك من أولادك، فأفكر ساعة ثم رفع رأسه إلى فخر الدولة وقال: إن كان هذا القول صحيحاً فهو الشيخ هذا، ثم أقبل عليه وأوصاه على أولاده، فكان الأمر كما قال، فإنه وصل إلى البلاد وكان فتحها على يديه كما ذكرنا، والشرح في ذلك يطول. وكان رئيساً جليلاً، خرج من بيتهم جماعة من الوزراء والرؤساء، ومدحهم أعيان الشعراء، فمنهم أبو منصور علي بن الحسن (2) المعروف بصردر، أنفذ إلى فخر الملك المذكور من واسط عند تقلده الوزارة قصيدة، وهي من مشاهير القصائد، وأولها (3) :   (1) بدلاً ... دارست: سقطت من ن ر. (2) ر ق: الحسين. (3) الديوان: 56 وانفذهما اليه سنة 455 وفيها يعرض بابن دارست. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 128 لجاجة قلب ما يفيق غرورها ... وحاجة نفس ليس يقضى يسيرها وقفنا صفوفاً في الديار كأنها ... صحائف ملقاة ونحن سطورها يقول خليلي والظباء سوانح: ... أهذا الذي تهوى فقلت: نظيرها لئن شابهت أجيادها وعيونها ... لقد خالفت أعجازها وصدورها فيا عجباً منها يصد أنيسها ... ويدنو على ذعر إلينا نفورها وما ذاك إلا أن غزلان عامر ... تيقن أن الزائرين صقورها ألم يكفها ما قد جنته شموسها ... على القلب حتى ساعدتها بدورها نكصنا على الأعقاب خوف إناثها ... فما بالها تدعو نزال ذكورها ووالله ما أدري غداة نظرننا ... أتلك سهام أم كؤوس تديرها فإن كن من نبل فأين حفيفها ... وإن كن من مر فأين سرورها أيا صاحبي استأذنا لي خمرها ... فقد أذنت لي في الوصول خدورها هباها تجافت عن خليل يروعها ... فهل أنا إلا كالخيال يزورها وقد قلتما لي ليس في الأرض جنة ... أما هذه فوق الركائب حورها فلا تحسبا قلبي طليقاً فإنما ... لها الصدر سجن وهو فيه أسيرها يعز على الهيم الخوامس وردها ... إذا كان ما بين الشفاه غديرها أراك الحمى قل لي بأي وسيلة ... توسلت حتى قبلتك ثغورها ومن مديحها: أعدت إلى جسم الوزارة روحه ... وما كان يرجى بعثها ونشورها أقامت زماناً عند غيرك طامثاً ... وهذا الزمان قرؤها طهورها من الحق أن يحبى بها مستحقها ... وينوعها مردوة مستعيرها إذا ملك الحسناء من ليس كفؤها ... أشار عليها بالطلاق مشيرها وأنشده أيضاً لما عاد إلى الوزارة في صفر سنة إحدى وستين وأربعمائة بعد العزل، وكان المقتدري بالله قد أعاده إلى الوزارة بعد العزل وقبل الخروج إلى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 129 السلطان ملكشاه، فعمل فيه صردر هذه القصيدة (1) : قد رجع الحق إلى نصابه ... وأنت من كل الورى أولى به ما كنت إلا السيف سلته يد ... ثم أعادته إلى قرابه هزته حتى أبصرته صارماً ... رونقه يغنيه عن ضرابه أكرم بها وزارة ما سلمت ... ما استودعت إلا إلى أربابه مشوقة إليك مذ فارقتها ... شوق أخي الشيب إلى شبابه مثلك محسود ولكن معجز ... أن يدرك البارق في سحابه حاولها قوم ومن هذا الذي ... يخرج ليثاً خادراً من غابه يدمى أبو الأشبال من زاحمه ... في خيسه بظفره ونابه وهل سمعت او رأيت لابساً ... ما خلع الأرقم من إهابه ومنها: تيقنوا لما رأوها صعبة (2) ... أن ليس للجو سوى عقابه إن الهلال يرتجي طلوعه ... بعد السرار ليلة احتجابه والشمس لا يؤيس من طلوعها ... وإن طواها الليل في جنابه ما أطيب الأوطان إلا انها ... للمرء أحلى أثر اغترابه كم عودة دلت على دوامها ... والخلد للإنسان في مآبه لو قرب الدر على جالبه ... ما لجج الغائض في طلابه ولو أقام لازماً أصدافه ... لم تكن التيجان في حسابه ما لؤلؤ البحر ولا مرجانه ... إلا وراء الهول من عبابه وهي قصيدة طويلة اقتصرنا منها على هذا القدر. وقد سبق في ترجمة سابور بن أردشير ثلاثة أبيات كتبها إليه أبو إسحاق   (1) ديوانه: 63. (2) ق ر والمختار: صنعة؛ بر: ضيعة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 130 الصابي لما عاد إلى الوزارة بعد العزل، ولم يعمل في هذا الباب مثلها. وممن مدحه أيضاً القائد أبو الرضا الفضل بن منصور الشريف الفارقي، وفيه عمل الأبيات الحائية المشهورة، وهي: يا قالة الشعر قد نصحت لكم ... ولست أدهى إلا من النصح قد ذهب الدهر بالكرام وفي ... ذاك أمور طويلة الشرح وأنتم تمدحون بالحسن وال ... ظرف (1) وجوهاً في غاية القبح وتطلبون السماح من رجل ... قد طبعت نفسه على الشح من أجل ذا تحرمون كدكم ... لأنكم تكذبون في المدح صونوا القوافي فما أرى أحداً ... يعثر فيه الرجاء سمح فإن شككتم فيما أقول لكم ... فكذبوني بواحد سمح سوى الوزير الذي رياسته ... تعرك أذن الزمان بالملح وكانت ولادة فخر الدولة المذكور في سنة ثمان وتسعين وثلثمائة بالموصل؛ وتوفي بها في شهر رجب، وقيل في المحرم، سنة ثلاث وثمانين وأربعمائة ودفن في تل توبة، وهو تل في قبالة الموصل يفصل بينهما عرض الشط، رحمه الله تعالى. وكان قد عاد إلى ديار ربيعة متولياً من جهة ملكشاه أيضاً في سنة اثنتين وثمانين وأربعمائة، فأول ما ملك نصيبين في شهر رمضان من هذه السنة، ثم ملك الموصل وسنجار والرحبة والخابور وديار ربيعة أجمع، وخطب به على منابرها (2) نيابة عن الموصل إلى أن توفي. (230) وأما ولده عميد الدولة المذكور فقد ذكره محمد بن عبد الملك الهمداني في تاريخه فقال: انتشر عنه الوقار والهيبة والعفة وجودة الرأي، وخدم ثلاثة من الخلفاء ووزر لاثنين منهم، وكان عليه رسوم كثيرة وصلات جمة، وكان نظام الملك يصفه دائماً بأوصاف عظيمة، ويشاهدها بعين الكافي الشهم، ويأخذ رأيه في أهم الأمور ويقدمه على الكفاة والصدور، ولم يكن يعاب بأشد من الكبر   (1) ق: بالظرف والحسن. (2) ق: المنابر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 131 الزائد، فإن كلماته كانت محفوظة مع ضنه بها، ومن كلمة بكلمة قامت عنده مقام بلوغ الأمل، فمن جملة ذلك ما قاله لولد الشيخ الإمام أبي نصر ابن الصباغ: اشتغل وتأدب، وإلا كنت صباغاً بغير أب، انتهى كلامه ابن الهمداني. وكان نظام الملم الوزير قد زوجه زبيدة ابنته، وكان قد عزل عن الوزارة ثم أعيد إليها بسبب المصاهرة، وفي ذلك يقول الشريف أبو يعلى ابن الهبارية - المقدم ذكره -: قل للوزير ولا تفزعك هيبته ... وإن تعاظم واستولى لمنصبه لولا ابنة الشيخ ما استوزرت ثانية ... فاشكر حراً صرت مولانا الوزير به ووجدت بخط أسامة بن منقذ - المقدم ذكره أن السابق بن أبي مهزول الشاعر المعري قال: دخلت العراق واجتمعت بابن الهبارية، فقال لي في بعض الأ يام: امض بنا لنخدم الوزير ابن جهير، وكان قد عزل ثم استوزر، قال السابق: فدهلت معه حتى وقفنا بين يدية الوزير، فدفع إليه رقعة صغيرة، فلما قرأها تغير وجهه ورأيت فيه الشر، وخرجنا من مجلسه فقلت: ما كان في الرقعة فقال: خير، الساعة تضرب رقبتي ورقبتك، فأشفقت وقلقت، وقلت: أنا رجل غريب صحبتك هذه الأيام، وسعيت في هلاكي، فقال: كان ما كان. فقصدنا باب الدار لنخرج فردنا البواب، فقال: أمرت بمنعكما، فقال السابق: أنا رجل غريب من أهل الشام ما يعرفني الوزير، إنما القصد هذا، فقال البواب: لا تطول فما إلى خروجك من سبيل، فأيقنت بالهلاك، فلما خف الناس من الدار خرج إليه غلام معه قرطاس فيه خمسون ديناراً وقال: قد شكرنا فاشكر، فانصرفنا، ودفع لي عشرة دنانير منها، فقلت: ما كان في الرقعة فأنشدني البيتين المذكورين، فآليت أن لا أصحبه بعدها. ولعميد الدولة شعر ذكره في " الخريدة " لكنه غير مرضي، وذكره ابن السمعاني في كتاب " الذيل "؛ ومدحه خلق كثير من شعراء عصره، وفيه يقول صردر المذكور قصيدته العينية المشهورة التي أولها (1) :   (1) ديوانه: 67. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 132 قد بان عذرك والخليط مودع ... وهوى النفوس مع الهوادج يرفع لك حيثما سمت الركائب لفتة ... أترى البدور بكل واد تطلع في الظاعنين من الحمى ظبي له ال ... أحشاء مرعى والمآقي مكرع ممنوع أطراف الجمال رقيبه ... حذراً عليه من العيون البرقع عهد الحبائل صائدات شبهه ... فارتاع فهو لكل حبل يقطع لم يدر حامي سربه أني إذا ... حرم الكلام له لساني الأصبع وإذا الطيوف إلى المضاجع أرسلت ... بتحية منه فعيني تسمع وهذه القصيدة طويلة، وهي من غرر الشعر، وقوله فيها: عهد الحبائل صائدات شبهه ... فارتاع فهو لكل حبل يقطع نظير قول ابن الحمارة الأندلسي: عن النوم سل عيناً به طال عهدها ... وكان قليلاً في ليال قلائل إذا ظن وكراً مقلتي طائر الكرى ... رأى هدبها فارتاع خوف الحبائل ولا أدري أيهما أخذ من الآخر، لأني لم أقف على تاريخ وفاة ابن الحمارة حتى أعرف عصره (1) . ويجوز أن يكون ذلك بطريق التوارد على هذا المعنى من غير أن يأخذ أحدهما من الآخر. وعزل عميد الدولة المذكور عز الدولن الوزارة وحبس وقيد في شهر رمضان المعظم سنة اثنتين وأربعمائة، وتوفي في شوال من السنة، وإليه كتب أبو الكرم ابن العلاف الشاعر قوله: ولولا مدائحنا لم تبن (2) ... فعال المسيء من المحسن فهبك احتجبت عن الناظرين ... فهلا احتجبت عن الألسن   (1) المشهور بهذا الاسم أبو عامر ابم الحمارة تلميذ ابن باجة الأندلسي في الغناء والموسيقى (انظر ترجمته في بغية الملتمس: 517 والمغرب 2: 120 وصفحات متفرقة من نفح الطيب) . (2) ق ر والمختار: تكن. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 133 (231) وتوفيت زوجته بنت نظام الملك المذكور في شعبان سنة سبعين وأربعمائة وكان تزوجها في سنة اثنتين وستين وأربعمائة. وتوفي سنة ثلاث وتسعين في حصن مقابل لتل بها (1) . (232) ولصردر أيضاً في زعيم الرؤساء أبي القاسم ابن فخر الدولة قصيدته القافية التي أولها (2) : صبحها الدمع ومساها الأرق ... هل بين هذين بقاء للحدق وهي بديعة مختارة مشهورة فلا حاجة إلى التطويل في الاتيان بها، وتولى زعيم الرؤساء أبو القاسم ابن فخر الدولة وزارة الإمام المستظهر بالله، في شعبان من سنة ست وتسعين وأربعمائة، ولقبه نظام وقيل قوام، الدين. وجهير: بفتح الجيم وكسر الهاء وسكون الياء الثمناة من تحتها وبعدها راء، وقال السمعاني: بضم الجيم، وهو غلط، يقال رجل جهير بين الجهارة، أي ذو منظر، ويقال أيضاً جهير الصوت بمعنى جهوري الصوت، والله تعالى أعلم بالصواب. 702 - (3) ظهير الدين الروذراوري أبو شجاع محمد بن الحسين بن محمد (4) بن عبد الله بن إبراهيم، الملقب ظهير الدين، الروذراوري الأصل الأهوازي المولد؛ قرأ الفقه على الشيخ أبي إسحاق الشيرازي، وقرأ الأدب، وولي الوزارة للإمام المقتدي بأمر الله بعد عزل عميد   (1) كذا وهو مغاير لما سبق. (2) ديوانه: 110. (3) أخباره في تاريخ ابن الأثير (ج: 10) والفخري: 214 والوافي 3: 3 والمنتظم 9: 90 والخريدة (قسم العراق) 1: 77 وطبقات السبكي 3: 57. (4) بن محمد: سقطت من ر ق. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 134 الدولة أبي منصور ابن جهير المذكور قبله في ترجمة أبيه فخر الدولة، وذلك في سنة ست وسبعين وأربعمائة، وعزل عنها يوم الخميس تاسع عشر صفر سنة أربع وثمانين وأربعمائة، وأعيد ابن جهير. ولما قرأ أبو شجاع التوقيع بعزله أنشد: تولاها وليس له عدو ... وفارقها وليس له صديق وخرج بع عزله ماشياً يوم الجمعة من داره إلى الجامع، وانثالت عليه العامة تصافحه وتدعوا له، وكان ذلك سبباً (1) لإلزامه بالقعود في داره، ثم خرج إلى روذراور وهي موطنه قديماً، فأقام هناك مدة، ثم خرج إلى الحج في الموسم (2) سنة سبع وثمانين وأربعمائة، وخرجت العرب على الركب الذي هو فيه بقرب الربذة، فلم يسلم من الرفقة سواه، وجاور بعد الحج بمدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى أن توفي في النصف من جمادى الآخرة سنة ثمان وثمانين وأربعمائة، ودفن بالبقيع عند القبة التي فيها قبر إبراهيم عليه السلام ابن رسول الله صلى الله عليع وسلم؛ وكانت ولادته سنة سبع وثلاثين وأربعمائة رحمه الله تعالى. قال العماد الكاتب في " الخريدة " في حقه: وكان عصره أحسن العصور، وزمانه أنضر (3) الأزمان، ولم يكن في الوزراء من يحفظ أمر الدين وقانون الشريعة مثله، صعباً شديداً في أمور الشرع، سهلاً في أمور الدنيا، لا تأخذه في الله لومة لائم. ثم قال: ذكره ابن الهمذاني في " الذيل " (4) فقال: كانت أيامه أوفى الأيام سعادة للدولتين، وأعظمها بركة على الرعية، وأعمها أمناً وأشملها رخصاً وأكملها صحة، لم يغادها (5) بؤس ولم تشبها مخافة، وقامت للخلافة في نظره من الحشمة   (1) ق: سبيلا. (2) ق: موسم. (3) ر: أفضل؛ بر من: أحسن. (4) ق ر: المذيل. (5) ق ر ن بر من: يغادرها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 135 والاحترام، ما أعادت سالف الأيام، وكان أحسن الناس خطاً ولفظاً. وذكره الحافظ ابن السمعاني في " الذيل " فقال: كان يرجع إلى فضل كامل وعقل وافر ورزانة ورأي صائب، وكان له شعر رقيق مطبوع، أدركته حرفة الأدب، وصرف عن الوزارة وكلف لزوم البيت، فانتقل من بغداد إلى جوار النبي صلى الله عليه وسلم، وأقام بالمدينة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام إلى حين وفاته، وزرت قبره غير مرة عند قبر إبراهيم ابن نبينا، صلى الله عليه وسلم، بالبقيع؛ ثم قال السمعاني بعد ذلك: سمعت من أثق به يقول إن الوزير أبا شجاع وقت أن قرب أمره وحان ارتحاله من الدنيا حمل إلى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، فوقف عند الحظيرة وبكى وقال: يا رسول الله، قال الله سبحانه وتعالى: " ولو أنهم ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيماً " النساء: - 14 - ولقد جئتك معترفاً بذنوبي وجرائمي أرجو شفاعتك، وبكى ورجع وتوفي من يومه. وله شعر حسن مجموع في ديوان، فمن ذلك (1) قوله: لأعذبن العين غير مفكر ... فيها بكت بالدمع أو فاضت دما ولأهجرن من الرقاد لذيذه ... حتى يعود على الجفون محرما هي أوقعتني في حبائل فتنة ... لو لم تكن نظرت لكنت مسلما سفكت دمي لأسفكن دموعها ... وهي التي بدأت فكانت أظلما وإلى هذا المعنى ينظر قول بعضهم: يا عين ما ظلم الفؤاد ... ولا تعدى في الصنيع جرعته مر الهوى ... فمحا سوادك بالدموع (2) وله أيضاً: وإني لأبدي في هواك تجلداً ... وفي القلب مني لوعة وغليل   (1) بر من: فمن شعره. (2) وغلى هذا ... بالدموع: ثبت في النسخ الخطية ولم يرد في المطبوعة المصرية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 136 فلا تحسبي أني سلوت فربما ... ترى صحة بالمرء وهو عليل (1) وله أيضاً (2) : أيذهب جل العمر بيني وبينكم ... بغير لقاء إن ذا لشديد فإن يسمح الدهر الخؤون بوصلكم ... على فاقتي إني إذاً لسعيد وعمل ذيلاً على كتاب " تجارب الأمم "، تأليف أبي علي أحمد بن محمد المعروف بمسكويه، وهو التاريخ المشهور بأيدي الناس. وقال محمد بن عبد الملك الهمداني في تاريخه: وظهر منه من التلبس في الدين وإظهاره وإعزاز أهله والرأفة بهم والأخذ على أيدي الظلمة ما أذكر به عدل العادلين؛ وكان لا يخرج من بيته حتى يكتب شيئاً من القرآن العظيم ويقرأ في المصحف ما تيسر. وكان يؤدي زكاة أمواله الظاهرة في سائر أملاكه وضياعه واقطاعه ويتصدق سراً. وعرضت عليه رقعة فيها: إن الدار الفلانية بدرب القيار، فيها إمراة معها أربعة أيتام وهو عراة جياع، فاستدعى صاحباً له وقال له: مر واكسهم وأشبعهم، وخلع أثوابه وحلف: لا لبستها ولا دفئت حتى تعود إلي وتخبرني أنك كسوتهم وأشبعتهم. ولم يزل يرعد إلى أن جاء صاحبه وأخبره بذلك؛ وكانت له مبار كثيرة. والروذراوري: بضم الراء وسكون الواو والذال المعجمة وفتح الراء والواو بينهما ألف في آخرها راء أخرى، هذه النسبة على روذراور، وهي بليدة (3) بنواحي همذان، والله تعالى أعلم.   (1) لم يرد إلا في بر من. (2) بر من: ومن شعره أيضاً. (3) ق ن بر من: بلدة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 137 703 - (1) عميد الملك الكندري أبونصر محمد بن منصور بن محمد، الملقب عميد الملك الكندري؛ كان من رجال الدهر جوداً وسخاء وكتابة وشهامة، واستوزره السلطان طغرلبك السلجوقي - المقدم ذكره - ونال عنده الرتبة العالية والمنزلة الجليلة، ولم يكن أحد من أصحابه معه كلام، وهو أول وزير كان لهذه الدولة، ولم تكن له منقبة إلا صحبة إمام الحرمين أبي المعالي عبد الملك ابن الشيخ أبي محمد الجويني الفقيه الشافعي صاحب " نهاية المطلب " على ما ذكره المسعاني في ترجمة أبي المعالي في كتاب " الذيل " فإنه قال - بعد الإطناب في وصف إمام الحرمين وذكر تنقله في البلاد - ثم قال: وخرج إلى بغداد وصحب العميد الكندري أبا نصر مدة يطوف معه ويلتقي في حضرته بالأكابر من العلماء ويناظرهم، وتحنك بهم حتى تهذب في النظر، وشاع ذكره (2) . وذكره شيخنا ابن الأثير في تاريخه (3) في سنة ست وخمسين وأربعمائة وقال: إن الوزير المذكور كان شديد التعصب على الشافعية كثير الوقيعة في الشافعي، رضي الله عنه، حتى بلغ من تعصبه أنه خاطب السلطان ألب أرسلان السلجوقي في لعن الرافضة على منابر خراسان، فأذن في ذلك، فلعنهم وأضاف إليهم الأشعرية، فانف من ذلك أئمة خراسان، منهم أبو القاسم القشيري وإمام الحرمين الجويني وغيرهما، ففارقوا خراسان، وأقام إمام الحرمين بمكة شرفها الله تعالى أربع سنين يدرس ويفتي، فلهذا قيل له إمام الحرمين فلما جاءت الدولة   (1) أخباره في تاريخابن الأثير (ج: 9، 10) وأخبار الدولة السلجوقية واللباب: (الكندي) وعبر الذهبي 3: 240 والشذرات 3: 301. (2) زاد في ن: قلت: وهذا خلاف ما ذكره شيخنا ... الخ فإنه قال. (3) انظر تاريخ ابن الأثير 10: 33. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 138 النظامية أحضر من انتزح منهم وأكرمهم وأحسن إليهم؛ وقيل إنه تاب عن الوقيعة في الشافعي، فإن صح فقد أفلح. وكان عميد الملك ممدحاً مقصداً للشعراء، مدحه جماعة من أكابر شعراء عصره، منهم أبو الحسن الباخرزي - المقدم ذكره - والرئيس أبو منصور علي بن الحسين بن علي بن الفضل، الكاتب المعروف بصردر - المقدم ذكره أيضاً - وفيه يقول قصيدته النونية، وهي (1) : أكذا يجازى ود كل قرين ... أم هذه شيم الظباء العين قصوا علي حديث من قتل الهوى ... إن التأسي روح كل حزين ولئن كتمتم مشفقين لقد درى ... بمصارع العذري والمجنون فوق الركاب ولا أطيل مشبها ... بل ثم شهوة أنفس وعيون هزت قدوهدهم وقالت للصبا ... هزؤاً عند البان مثل غصوني ووراء ذياك المقبل مورد ... حصباؤه من لؤلؤ مكنون إما بيوت النحل بين شفاههم ... منظومة (2) أو حانة الزرجون ترمي بعينيك الفجاج مقلباً ... ذات الشمال بها وذات يمين لو كنت زرقاء اليمامة ما رأت ... من بارق حياً على جيرون شكواك من ليل التمام وإنما ... أرقي بليل ذوائب وقرون ومعنف (3) في الوجد قلت له اتئد ... فالدمع دمعي والحنين حنيني ما نافعي إذ كان ليس بنافعي ... جاه الصبا وشفاعة العشرين لا تطرقن خجلاً للومة لائم ... ما أنت أول حازم (4) مفتون أأسومهم، وهم الأجانب، طاعة ... وهواي بين جوانحي يعصيني   (1) ديوانه: 53. (2) ق بر من: منضودة. (3) ق ر بر من والمختار: ومعنفي. (4) بر: حاذر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 139 ديني على ظبياته ما يقتضى ... فبأي حكم يقتضون رهوني وخشيت من قلبي الفرار إليهم ... حتى لقد طالبته بضمين كل النكال أطيق إلا ذلة ... إن العزيز عذابه بالهون يا عين مثل قذاك رؤية معشر ... عار على دنياهم والدين لم يشبهوا الإنسان إلا أنهم ... متكونون من الحما المسنون نجس العيون فإن رأيتهم مقلتي ... طهرتها فنزحت ماء جفوني أنا إن هم حسبوا الذخائر دونهم ... وهم إذا عدوا الفضائل دوني لا يشمت الحساد أن مطامعي ... عادت إلي بصفقة المغبون ما يستدير البدر إلا بعدما ... أبصرته في الضمر كالعرجون هذا الطريق اللحب زاجر ناقتي ... واليم قاذف فلكي المشحون فإذا عميد الملك حلى ربعه ... ظفراً بفأل الطائر الميمون ملك إذا ما العزم حث جياده ... مرحت بأزهر شامخ العرنين بأغر ما أبصرت نور جبينه ... إلا اقتضاني بالسجود جبيني تجلو النواظر في نواحي دسته ... والسرج بدر دجى وليث عرين عمت فضائله البرية فالتقى ... شكر الغني ودعوة المسكين قالوا وقد شنوا عليه غارة ... أصلات جود أم قضاء ديون لو كان في الزمن القديم تظلمت ... منه الكنوز إلى يدي قارون أما خزائن ماله فمباحة ... فاستوهبوا من علمه المخزون (1) ما الرزق محتاجاً بعرصته إلى ... طلب وليس الأجر بالمنون أقسمت أن ألقى المكارم عالماً ... أني برؤيته أبر يميني ساس الأمور فليس يخلي رغبة ... من رهبة، وبسالة من لين كالسيف رونق أثره في متنه ... ومضاؤه في حده المسنون شهدت علاه أن عنصر ذاته ... مسك وعنصر غيره من طين   (1) سقط البيت من ن ر ق. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 140 وكان إنشاده إياه (1) هذه القصيدة عند وصول عميد الملك إلى العراق، وهو في دست وزارته وعلو منصبه، وهذه القصيدة من الشعر الفائق المختار وقد أثبتها بكمالها ما خلا ثلاثة أبيات فإنها لم تعجبني فأهملتها، وقد وازن هذه القصيدة جماعة من الشعراء منهم ابن التعاويذي - المقدم ذكره - وازنه بقصيدته التي أولها: إن كان دينك في الصبابة ديني ... فقف المطي برملتي يبرين وهي القصيدة النادرة، وأرسلها من العراق إلى الشام ممتدحاً بها السلطان صلاح الدين، رحمه الله تعالى، ولولا خوف الإطالة لأثبتها، ثم ذكرتها في ترجمة صلاح الدين يوسف بن أيوب فتطلب هناك؛ ووازنه أيضاً ابن المعلم - المقدم ذكره - بقصيدته التي أولها: ما وقفة الحادي على يبرين ... وهو الخلي من الظباء العين وهي أيضاً قصيدة جيدة، وقد ذكرت بعضها في ترجمته، وقد وازنها الأبله أيضاً، وبالجملة فما قاربها إلا ابن التعاويذي، وقد خرجنا عن المقصود، ولكن انتشر الكلام فلم يكن بد من استيفائه. ولم يزل عميد الملك في دولة طغرلبك عظيم الجاه والحرمة، إلى أن توفي طغرلبك - في التاريخ المذكور في ترجمته - وقام في المملكة ابن أخيه ألب أرسلان - المقدم ذكره - فأقره على حاله وزاد في إكرامه ورتبته، ثم إنه سيره إلى خوارزم شاه ليخطب له ابنته، فأرجف أعداؤه أنه خطبها لنفسه، وشاع ذلك بين الناس فبلغ عميد الملك الخبر، فخاف تغير قلب مخدومه عليه، فعمد إلى لحيته فحلقها وإلى مذاكيره فجبها، فكان ذلك سبب سلامته من ألب أرسلان، وقيل إن السلطان خصاه، فلما فعل ذلك عمل أبو الحسن علي بن الحسن الباخرزي المذكور في ترجمته قوله: قالوا محا السلطان عنه بعدكم ... سمة الفحول وكان قرماً صائلاً   (1) إياه: سقطت من ر ق. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 141 قلت اسكتوا فالآن زاد فحولة ... لما اغتدى من أنثييه عاطلاً فالفحل يأنف أن يسمى بعضه ... أنثى، لذلك جذه مستاصلا وهذا من المعاني الغريبة البديعة. ثم إن ألب أرسلان عزله من الوزارة في المحرم من سنة ست وخمسين وأربعمائة لسبب يطول شرحه، وفوض الوزارة إلى نظام الملك أبي علي الحسن بن علي بن إسحاق الطوسي المقدم ذكره. وحبس عميد الملك بنيسابور في دار عميد خراسان، ثم نقله إلى مرو الروذ وحبسه في داره، فكان في حجرة تلك الدار عياله، وكانت له بنت واحدة لا غير، فلما أحس بالقتل دخل الحجرة وأخرج كفنه وودع عياله وأغلق باب الحجرة واغتسل وصلى ركعتين، وأعطى الذي هم بقتله مائة دينار نيسابورية وقال: حقي عليك أن تكفنني في هذا الثوب الذي غسلته بماء زمزم، وقال لجلاده: قل للوزير نظام الملك: بئس ما فعلت، علمت الأتراك قتل الوزراء، وأصحاب الديوان، ومن حفر مهواة وقع فيها، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة؛ ورضي بقضاء الله المحتوم. وقتل يوم الأحد سادس عشر ذي الحجة سنة خمس وخمسين وأربعمائة وعمره يومئذ نيف وأربعون سنة، فعمل في ذلك الباخرزي الشاعر المذكور مخاطباً للسلطان ألب أرسلان. وعمك أدناه وأعلى محله ... وبوأه من ملكه كنفاً رحبا قضى كل مولى منكما حق عبده ... فخوله الدنيا وخولته العقبى ومن العجائب أنه دفنت مذاكيره بخوارزم، واريق دمه بمرو الروذ، ودفن جسده بقريته كندر، وجمجمته ودماغه بنيسابور، وحشيت سوأته بالتين ونقلت إلى كرمان، وكان نظام الملك هناك، ودفنت ثم، وفي ذلك عبرة لمن اعتبر، بعد أن كان رئيس عصره، رحمه الله تعالى. والكندري: بضم الكاف وسكون النون وضم الدال المهملة وبعدها راء، هذه النسبة إلى كندر، وهي قرية من قرى طريثيت - بضم الطاء المهملة وفتح الجزء: 5 ¦ الصفحة: 142 الراء وسكون الياء المثناة من تحتها وكسر الثاء المثلثة وسكون الياء المثناة من تحتها أيضاً وبعدها ثاء مثلثة - وهي كورة من نواحي نيسابور، خرج منها جماعة من العلماء وغيرهم، والله تعالى أعلم بالصواب. 704 - (1) الوزير الجواد جمال الدين أبو جعفر محمد بن علي بن أبي منصور، الملقب جمال الدين المعورف بالجواد الأصفهاني، وزير صاحب الموصل؛ كان جده أبو منصور فهاداً للسلطان ملكشاه بن ألب أرسلان السلجوقي - الآتي ذكره إن شاء الله تعالى فتأدب ولده وسمت همته، فاشتهر أمره وخدم في مناصب علية وصاهر الأكابر، فلما ولد له جمال الدين المذكور عني بتأديبه وتهذيبه، ثم ترتب في ديوان العرض للسلطان محمود بن محمد بن ملكشاه - الآتي ذكره إن شاء الله تعالى - فظهرت كفايته وحمدت طريقته، فلما تولى أتابك زنكي بن آق سنقر - المقدم ذكره - الموصل وما والاها استخدم جمال الدين المذكور وقربه واستصحبه معه إليها، فولاه نصيبين، فظهرت كفايته، وأضاف إليه الرحبة، فأبان عن كفاية وعفة، وكان من خواصه وأكبر ندمائه، فجعله مشرف مملكته كلها وحكمه تحكيماً لا مزيد عليه. وكان الوزير يومئذ ضياء الدين أبا سعيد بهرام بن الخضر الكفرتوثي، استوزره أتابك نكي في سنة ثمان وعشرين وخمسمائة، وتوفي خامس شعبان سنة ست وثلاثين وخمسمائة، وهو على وزارته، وتولى الوزارة بعده أبو الرضى ابن صدقة، وجمال الدين المذكور على وظائفه. وكان جمال الدين دمث الأخلاق، حسن المحاضرة مقبول المفاكهة، فخف على أتابك زنكي المذكور وأعجبه حديثه ومحاورته، وجعله من ندمائه،   (1) تراجع أخباره في الباهر والمنتظم 10: 209 والشذرات 4: 185. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 143 وعول عليه في آخر مدته في أشراف ديوانه (1) وزارد ماله، ولم يظهر منه في أيام أتابك زنكي كرم ولا جود ولا تظاهر بموجود، فلما قتل على قلعة جعبر - كما تقدم في ترجمته - أراد بعض العسكر قتل الوزير المذكور ونهب ماله، فتعرضوا له ورموا خيمته بالنشاب، فحماه جماعة من الأمراء، وتوجه بالعسكر إلى الموصل، فرتبه سيف الدين غازي بن أتابك زنكي - المقدم ذكره - في وزارته، وفوض الأمور وتدبير أحوال الدولة إليه وإلى زين الدين علي بن بكتكين والد مظفر الدين صاحب إربل - وقد تقدم طرف من خبره فير ترجمة ولده في حرف الكاف - فظهر حينئذ جود الوزير المذكور وانبسطت يده، ولم يزل يعطي ويبذل الأموال ويبالغ في الإنفاق حتى عرف بالجواد، وصار ذلك كالعلم عليه، حتى لا يقال له إلا " جمال الدين الجواد ". ومدحه جماعة من الشعراء، من جملتهم محمد بن نصر بن صغير القيسراني الشاعر - المقدم ذكره فإنه قصده بقصيدته المشهورة التي أولها: سقى الله بالزوراء من جانب الغربي ... مهاً وردت عين الحياة من القلب وهي من القصائد الطنانة. وأثر آثار جميلة، وأجرى الماء إلى عرفات أيام الموسم من مكان بعيد، وعمل الدرج من أسفل الدبل إلى أعلاه، وبنى سور مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، وما كان خرب من مسجده، وكان يحمل في كل سنة إلى مكة شرفها الله تعالى والمدينة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام من الأموال والكسوات للفقراء والمنقطعين ما يقوم بهم مدة سنة كاملة، وكان له ديوان مرتب باسم أرباب الرسوم والقصاد لا غير، ولقد تنوع في فعل الخير حتى جاء في زمنه بالموصل غلاء مفرط فواسى الناس حتى لم يبق له شيء، وكان إقطاعه عشر مغل البلاد على جاري عادة وزراء الدولة السلجوقية، فأخبر بعض وكلائه أنه دخل عليه يوماً فناوله بقياره، وقال له: بع هذا واصرف ثمنه إلى المحاويج، فقال له الوكيل: إنه لم يبق عندك سوى هذا البقيار والذي على رأسك، وإذا بعت   (1) لم يرد في ر ن ق، وورد في بر من. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 144 هذا ربما تحتاج إلى تغيير (1) البقيار فلا تجد ما تلبسه، فقال له: إن هذا الوقت صعب كما ترى، وربما لا أجد وقتاً أصنع فيه الخير كهذا الوقت، وأما البقيار فإني أجد عوضه كثيراً، فخرج الوكيل وباع البقيار وتصدق بثمنه؛ وله من هذه النوادر أشياء كثيرة. وأقام على هذه الحال إلى أن توفي مخدومه غازي - في التاريخ المذكور في ترجمته - وقام بالأمر من بعده أخوه قطب الدين مودود - وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى - فاستولى عليه مدة، ثم إنه استكثر إقطاعه وثقل عليه أمره، فقبض عليه في شهر رجب الفرد سنة ثمان وخمسين وخمسمائة. وفي أخبار زين الدين صاحب إربل طرف من خبر قبضه وحبسه في قلعة الموصل. ولم يزل مسجوناً (2) بها إلى أن توفي في العشر الأخير من شهر رمضان المعظم، وقيل شعبان، سنة تسع وخمسين وخمسمائة، وصلي عليه، وكان يوماً مشهوداً من ضجيج الضعفاء (3) والأرامل والأيتام حول جنازته، ودفن بالموصل إلى بعض سنة ستين، ثم نقل إلى مكة - حرسها الله تعالى - وطيف به حول الكعبة، وكان بعد أن صعدوا به ليلة الوقفة إلى جبل عرفات، وكانوا يطوفون به كل يوم مراراً مدة مقامهم بمكة، شرفها الله تعالى، وكان يوم دخوله مكة يوماً مشهوداً من اجتماع الخلق والبكاء عليه، ويقال إنه لم يعهد (4) عندهم مثل ذلك اليوم، وكان معه شخص مرتب يذكر محاسنه ويعدد مآثره، إذا وصلوا به إلى المزارات والمواضع المعظمة، فلما انتهوا به إلى الكعبة وقف وأنشد: يا كعبة الإسلام هذا الذي ... جاءك يسعى كعبة الجود قصدت في العام وهذا الذي ... لم يخل يوماً غير مقصود ثم حمل إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم ودفن بها بالبقيع بعد أن أدخل   (1) ق: إلى أن تعير. (2) بر: محبوساً. (3) بر: من ضجيج الناس من الضعفاء. (4) بر: إنهم لم يعهدوا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 145 المدينة، وطيف به حول حجرة الرسول صلى الله عليه وسلم مراراً وأنشد الشخص الذي كان مرتباً معه، فقال: سرى نعشه فوق الرقاب وطالما ... سرى جوده فوق الركاب ونائله يمر على الوادي فتثني رماله ... عليه وبالنادي فتبكي أرامله قلت: وهذان البيتان من جملة القصيدة المذكورة في ترجمة المقلد بن نصر بن منفذ الشيزري - وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى؛ رحمه الله تعالى. (233) وكان ولده أبو الحسن علي الملقب جلال الدين، من الأدباء الفضلاء البلغاء الكرماء، رأيت له ديوان رسائل أجاد فيه، وجمعه مجد الدين أبو السعادات المبارك المعروف بابن الأثير الجزري صاحب جامع الأصول - وقد تقدم ذكره (1) - وسماه كتاب الجواهري واللآلي من الإملاء المولوي الوزيري الجلالي ". وكان مجد الدين المذكور في أول أمره كاتباً بين يديه، يملي رسائله وإنشاءه عليه، وهو كاتب يده، وقد أشار مجد الدين إلى ذلك في أول هذا الكتاب، وبالغ في وصف جلال الدين المذكور وتقريضه، وفضله على كل من تقدم من الفصحاء، وذكر أنه كان بينه وبين حيص بيص - الشاعر المقدم ذكره (2) - مكاتبات، ولولا خوف الإطالة لذكرت بعض رسائله. وفي جملة ما ذكره أن حيص بيص كتب إليه على يد رجل عليه دين رسالة مختصرة، فأتيت بها لقصرها، وهي " الكرم غامر والذكر سائر، والعون على الخطوب أكرم ناصر، وإغاثة الملهوف من أعظم الذخائر، والسلام " (3) . وكان جلا الدين المذكور وزير سيف الدين غازي بن قطب الدين مودو، - وقد تقدم ذكره أيضاً في حرف الغين (4) -. وتوفي جلا الدين المذكور سنة أربع وسبعين وخمسمائة، بمدينة دنيسر   (1) انظر ج 4: 141. (2) انظر ج 2: 362. (3) لم ترد هذه الرسالة في ق. (4) انظر ج 4: 4. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 146 وحمل إلى الموصل ثم نقل إلى المدينة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، ودفن بها في تربة والده، رحمه الله تعالى. ودنيسر: بضم الدال المهملة وفتح النون، وسكون الياء المثناة من تحتها وفتح السين المهملة وبعدها راء، وهي مدينة بالجزيرة الفراتية بين نصيبين ورأس عين، تطرقها التجار من جميع الجهات، وهي مجمع الطرقات، ولهذا قيل لها: دنيسر، وهي لفظ مركب عجمي، وأصله دنياسر، ومعناه رأس الدنيا، وعادة العجم في الأسماء المضافة أن يؤخروا المضاف عن المضاف إليه، وسر بالعجمي رأس. والكفر توثي الوزير المذكور: بفتح الكاف وسكون الفاء وفتح الراء وضم التاء المثناة من فوقها وسكون الواو وبعدها ثاء مثلثة، هذه النسبة إلى كفرتوثا وهي قرية من أعمال الجزيرة الفراتية بين رأس عين ودارا، والله أعلم بالصواب. 705 - (1) العماد الأصفهاني الكاتب أبو عبد الله محمد بن صفي الدين أبي الفرج محمد بن نفيس (2) الدين أبي الرجا حامد بن محمد بن عبد الله بن علي بن محمود بن هبة الله المعروف بابن أخي العزيز - وقد تقدم ذكر عمه العزيز في حرف الهمزة (3) -. المعروف بأله، الملقب عماد الدين، الكاتب الأصبهاني. كان العماد المذكور فقيهاً شافعي المذهب، تفقه بالمدرسة النظامية زماناً،   (1) أخباره في مرآة الزمان والكامل لابن الأثير (ج: 12) والروضتين 1: 144 والوافي 1: 133 ومعجم الأدباء 18: 11 وطبقات السبكي 4: 97 وعبر الذهبي 4: 299 والشذرات 4: 332 وفي الخريدة والبرق الشامي أخبار كثيرة عن شئونه وأشعاره. (2) ر: نصير. (3) انظر ج 1: 188 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 147 وأتقن الخلاف وفنون الأدب، وله من الشعر والرسائل ما يغني عن الإطالة في شرحه. وكان قد نشأ بأصبهان وقد بغداد في حداثته، وتفقه على الشيخ أبي منصور سعيد بن محمد بن الزاز مدرس النظامية، وسمع بها الحديث من أبي الحسن علي بن هبة الله بن عبد السلام وأبي منصور محمد بن عبد الملك بن جيرون وأبي المكارم المبارك بن علي السمرقندي وأبي بكر أحمد بن علي بن الأشقر، وغيرهم، وأقام بها مدة. ولما تخرج ومهر تعلق بالوزير عون الدين يحيى بن هبيرة ببغداد، فولاه النظر بالبصرة ثم بواسط، ولم يزل ماشي الحال مدة حياته، فلما توفي - في التاريخ الآتي ذكره في ترجمته إن شاء الله تعالى - تشتت شمل أتباعه والمنتسبين إليه ونال المكروه بعضهم، وأقام العماد مدة في هيش منكد وجفن مسهد، ثم انتقل إلى مدينة دمشق، فوصلها في شعبان سنة اثنتين وستين خمسمائة، وسلطانها يومئذ الملك العادل نور الدين أبو القاسم محمود بن أتابك زنك - الآتي ذكره إن شاء الله تعالى - وحاكمها ومتولي أمورها وتدبير دولتها القاضي كمال الدين أبو الفضل محمد ابن الشهرزوري - المقدم ذكره (1) - فتعرف به وحضر مجالسه، وذكر لديه مسألة في الخلاف، وعرفه الأمير الكبير نجم الدين أبو الشكر أيوب والد السلطان صلاح الدين رحمهما الله تعالى، وكان يعرف عمه العزيز من قلعة تكريب فأحسن إليه وأكرمه وميزه عند الأعيان والأماثل، وعرفه السلطان صلاح الدين من جهة والده، ومدحه في ذلك الوقت بدمشق المحروسة، وذكر العماد ذلك في كتابه " البرق الشامي " وأورد القصيدة التي مدحه بها يومئذ. ثم إن القاضي كمال الدين نوه بذكره عند السلطان نور الدين، وعدد عليه فضائله وأهله لكتابة الإنشاء. قال العماد: فبقيت متحيراً في الدخول فيما ليس من شأني ولا وظيفتي، ولا تقدمت لي به دربة. ولقد كانت مواد هذه الصناعة عتيدة عنده، لكنه لم يكن قد مارسها فجبن عنها في الابتداء، فلما باشرها هانت عليه، وأجاد فيها وأتى فيها بالغرائب؛ وكان ينشئ الرسائل باللغة العجمية أيضاً، وحصل بينه وبين صلاح الدين في تلك المدة مودة أكيدة وامتزاج تام (2) ،   (1) انظر ج 4: 241. (2) تام: سقطت من ق ن بر من. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 148 وعلت منزلته عند نور العين، وصار صاحب سره، وسيره إلى دار السلام بغداد رسولاً في أيام الإمام المستنجد، ولما عاد فوض إليه تدريس المدرسة المعروفة به في دمشق، أعني العماد، وذلك في شهر رجب سنة سبع وستين وخمسمائة، ثم رتبه في إشراف الديوان في سنة ثمان وستين، ولم يزل مستقيم الحال رخي البال، إلى أن توفي نور الدين - في التاريخ الآتي ذكره إن شاء الله تعالى - وقام ولده الملك الصالح إسماعيل مقامه وكان صغيراً فاستولى عليه جماعة كانوا يكرهون العماد فضايقوه وأخافوه إلى أن ترك جميع ما هو فيه وسافر قاصداً بغداد فوصل إلى الموصل ومرض بها مرضاً شديداً. ثم بلغه خروج السلطان صلاح الدين من الديار المصرية لأخذ دمشق، فانثنى عزمه عن قصد العراق وعزم على العود إلى الشام وخرج من الموصل رابع جمادى الأولى سنة سبعين وخمسمائة، وسلك طريق البرية، فوصل إلى دمشق في ثامن جمادى الآخرة وصلاح الدين يومئذ نازل على حلب، ثم قصد خدمته وقد تسلم قلعة حمص في شعبان من السنة، فحضر بين يديه وأنشده قصيدة أطال نفسه فيها، ثم لزم الباب ينزل لنزول السلطان ويرحل لرحيله (1) ، فاستمر على عطلته مديدة، وهو يغشى مجالس السلطان وينشده في كل وقت مدائح ويعرض عليه ويقرب بصحبته القديمة، ولم يزل على ذلك حتى نظمه في سلك جماعته واستكتبه واعتمد عليه وقرب (2) منه، فصار من جملة الصدور المعدودين والأماثل المشهورين، يضاهي الوزراء ويجري في مضمارهم. وكان القاضي الفاضل في أكثر أوقاته ينقطع عن خدمة السلطان ويتوفر على مصالح الديار المصرية، والعماد ملازم الباب بالشام وغيره وهو صاحب السر المكتوم. وصنف التصانيف النافعة، من ذلك: كتاب " خريدة القصر وجريدة العصر " جعله ذيلاً على " زينة الدهر " تأليف أبي المعالي سعد بن علي الوراق الحظيري، والحظيري جعل كتابه ذيلاً على دمية القصر وعصر أهل العصر للباخرزي، والباخرزي جعل كتابه ذيلاً على " يتيمة الدهر " للثعالبي، وقد   (1) ق ر: يرحل لرحيل السلطان وينزل لنزوله. (2) ق: وقربه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 149 تقدم ذكر هؤلاء الثلاثة المؤلفين، والثعالبي جعل كتابه ذيلاً على كتاب " البارع " لهارون بن علي المنجم - وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى - وقد ذكر العماد في خريدته (1) الشعراء الذين كانوا بعد المائة الخامسة إلى سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة، وجمع شعراء العراق والعجم والشام والجزيرة ومصر والمغرب، ولم يترك أحداً (2) إلا النادر الخامي، وأحسن في هذا الكتاب، وهو في عشر مجلدات. وصنف كتاب " البرق الشامي " في سبع مجلدات، وهو مجموع تاريخ، وبدأ فيه بذكر نفسه وصورة انتقاله من العراق إلى الشام، وما جرى له في خدمة السلطان نورد الدين محمود، وكيفية تعلقه بخدمة السلطان صلاح الدين، وذكر شيئاً من الفتوحات بالشام، وهو من الكتب الممتعة، وإنما سماه " البرق الشامي " لأنه شبه أوقاته في تلك الأيام بالبرق الخاطف لطيبها وسرعة انقضائها. وصنف كتاب " الفتح القدسي (3) في الفتح القدسي " في مجلدين، يتضمن كيفية فتح البيت المقدس، وصنف كتاب " السيل على الذيل " جعله ذيلاً على " الذيل " لابن السمعاني المقدم ذكره الذي ذيل به " تاريخ بغداد " تأليف الخطيب البغدادي الحافظ، هكذا كنت قد سمعت ثم إني وقفت عليه فوجدته ذيلاً على كتابه " خريدة القصر " المذكور، وصنف كتاب " نصرة الفترة وعصره الفطرة في أخبار الدولة السلجوقية " وله ديوان رسائل وديوان شعر في أربع مجلدات، ونفسه في قصائده طويل، وله ديوان صغير جميعه دوبيت. وكان بينه وبين القاضي الفاضل مكاتبات ومحاورات لطاف، فمن ذلك ما يحكى عنه أنه لقيه يوماً وهو راكب على فرس، فقال له: سر فلا كبا بك الفرس، فقال له الفاضل: دام علا العماد، وهذا مما يقرأ مقلوباً وصحيحاً سواء. واجتمعا يوماً في موكب السلطان، وقد انتشر من الغبار لكثرة الفرسان ما سد الفضاء، فتعجبا من ذلك، فأنشد العماد في الحال: أما الغبار فإنه ... مما أثارته السنابك والجو منه مظلم ... لكن أنار به السنابك   (1) ق ر ن: الخريدة. (2) أحداً: سقطت من ر ق. (3) ر ن: القسي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 150 يا دهر لي عبد الرحي ... م فلست أخشى مس نابك وقد اتفق له الجناس في الأبيات الثلاثة، وهو في غاية الحسن. وكان القاضي الفاضل قد حج من مصر في سنة أربع وسبعين وخمسمائة وركب البحر في طريقه، فكتب إليه العماد: طوبى للحجر والحجون من ذي الحجر والحجا، منيل الجدا ومنير الدحى، ولندي الكعبة من كعبة الندى، وللهدايا المشعرات من مشعر الهدى، وللمقام الكريم من مقام الكريم، ومن حاط فقار القفر للحطيم، ومتى رؤي هرم في الحرم، وحاتم ماتح زمزم ومتى ركب البحر البحر، وسلك البر البر لقد عادي قس إلى عكاظه، ولقبلة يستقبلها قبلة القبول والإقبال، والسلام. لقد أبدع في هذه الرسالة وما أودعها من الصناعة، لكن الظاهر أنه غلط في قوله قيس لحفاظه، فإن المشهور أنس الحافظ، وهم أربعة أخوة لكل واحد منهم لقب، ولولا خوف الإطالة والانتقال عما نحن بصدده لذكرت قصتهم (1) . ولما توفي الوزير عون الدين بن هبيرة اعتقل الديوان العزيز جماعة من أصحابه وكان العماد في جملة من اعتقل، لأنه كان ينوب عنه في واسط تلك المدة، فكتب من الحبس إلى عماد الدين بن عضد الدين بن رئيس الرؤساء، وكان حينئذ أستاذ الدار المستنجدية، وذلك في شعبان سنة ستين وخمسمائة من قصيدة: قل للإمام: علام حبس وليكم ... أولوا جميلكم جميل ولائه أوليس إذ حبس الغمام وليه ... خلى أبوك سبيله بدعائه فأمر بإطلاقه، وهذا معنى مليح غريب، وفيه إشارة إلى قضية العباس بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فإن الغيث قد انقطع في زمن خلافته وأمحلت الأرض، فخرج للاستسقاء ومعه   (1) هم المعروفون بالكلمة من بني عبس أبناء فاطمة بنت الخرشب الأنمارية: الربيع الكامل وقيس الحفاظ وعمارة الوهاب وأنس الفوارس؛ وأخطأ المؤلف في تعليقه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 151 العباس والناس، فلما وقف للدعاء قال: اللهم إنا كنا إذا قحطنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك اليوم بعم نبينا فاسقنا، فسقوا. وأما الوي فهو المطر الذي يأتي بعد الوسمي، وسمي ولياً لأنه يلي الوسمي، والوسمي: مطر الربيع الأول، وسمي بذلك لأنه يسم الأرض بالنبات، وهو منسوب إلى الوسم، وقد جمعها المتنبي في بيت واحد وهو: أمنعمة بالعود الظبية التي ... بغير ولي كان نائلها الوسمي يعني أنه لم تكن لزيارتها الأولى ثانية: ولم يزل العماد الكاتب على مكانته ورفعة منزلته إلى أن توفي السلطان صلاح الدين، رحمه الله تعالى، فاختلت أحواله وتعطلت أوصاله، ولم يجد في وجهه باباً مفتوحاً، فلزم بيته وأقبل على الاشتغال بالتصانيف، وقد ساق في أوائل " البرق الشامي " طرفاً من ذلك. وتقد في ترجمة ابن التعاويذي ما دار بينهما في طلب الفروة والرسالة والقصيدة وجوابهما. وكانت ولادته يوم الاثنين ثاني جمادى الآخرة، وقيل في شعبان، سنة تسع عشرة وخمسمائة بأصبهان. وتوفي يوم الاثنين مستهل شهر رمضان المعظم سنة سبع وتسعين وخمسمائة بدمشق، ودفن في مقابر الصوفية خارج باب النصر، رحمه الله تعالى. أخبرني بعض الرؤساء ممن كان ملازمه في مدة مرضه أنه كان إذا دخل عليه أحدٌ يعوده أنشده: أنا ضيف بربعكم ... أين أين المضيف أنكرتني معارفي ... مات من كنت أعرف وأله: بفتح الهمزة وضم اللام وسكون الهاء، وهو اسم عجمي معناه بالعربي العقاب، وهو الطائر المعروف، وقد قيل إن العقاب لا يوجد فيه ذكر بل جميعه أنثى، وإن الذي يسافده طائر آخر من غير جنسه، وقيل إن الثعلب يسافده، وهذا من العجائب. ولابن عنين الشاعر المقدم ذكره في هجو شخص يقال له ابن سيده: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 152 ما أنت إلا كالعقاب فأمه ... معروفة وله ب مجهول وهذه إشارة إلى ما نحن فيه، والله تعالى أعلم بالصواب. 706 - (1) الفارابي الفيلسوف أبو نصر محمد بن محمد بن طرخان بن أوزلغ الفارابي التركي الحكيم المشهور، صاحب التصانيف في المنطق والموسيقى وغيرهما من العلوم، وهو أكبر فلاسفة المسلمين، ولم يكن فيهم من بلغ رتبته في فنونه، والرئيس أبو علي ابن سينا - المقدم ذكره - بكتبه تخرج وبكلامه انتفع في تصانيفه. وكان رجلاً تركياً ولد في بلده ونشأ بها - وسيأتي الكلام عليها في آخر الترجمة إن شاء الله تعالى - ثم خرج من بلده وتنقلت به الأسفار إلى أن وصل إلى بغداد، وهو يعرف اللسان التركي وعدة لغات غير العربي، فشرع في اللسان العربي فتعلمه وأتقنه غاية الإتقان، ثم اشتغل بعلوم الحكمة. (234) ولما دخل بغداد كان بها أبو بشر متى بن يونس الحكيم المشهور، وهو شيخ كبير، وكان يقرأ الناس عليه (2) فن المنطق، وله إذ ذاك صيت عظيم وشهرة وافية، ويجتمع في حلقته كل يوم المئون من المشتغلين بالمنطق، وهو يقرأ كتاب أرسطاطاليس في المنطق ويملي على تلامذته شرحه، فكتب عنه في شرحه سبعون (3)   (1) ترجمته في الفهرست: 263 وتاريخ الحكماء: 277 وطبقات صاعد: 53 وعبر الذهبي 2: 251 وتاريخ ابن العبري: 170 والوافي 1: 106 قال ورأيت ابن خلكان قد قال: محمد بن طرخان؛ قلت: وهو ثابت في النسخ ق ر ن والمختار: محمد بن محمد، وانظر عيون الانباه 2: 136. (2) ر ن بر من: وكان يعلم الناس. (3) بر: سبعين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 153 سفراً، ولم يكن في ذلك الوقت أحد مثله في فنه، وكان حسن العبارة في تواليفه لطيف الإشارة، وكان يستعمل في تصانيفه البسط والذليل، حتى قال بعض علماء هذا الفن: ما أرى أبا نصر الفارابي أخذ طريق تفهيم المعاني الجزلة بالألفاظ السهلة إلا من أبي بشر يعني المذكور، وكان أبو نصر يحضر حلقته في غمار تلامذته. فأقام أبو نصر كذلك برهة ثم ارتحل إلى مدينة حران وفيها يوحنا بن حيلان (1) الحكيم النصراني، فأخذ عنه طرفاً من المنطق أيضاً، ثم أنه قفل راجعاً إلى بغداد وقرأ بها علوم الفلسفة، وتناول جميع كتب أرسطاطاليس وتمهر في استخراج معانيها والوقوف على أغراضه فيها، ويقال إنه وجد " كتاب النفس " لأرسطاطاليس وعليه مكتوب بخط أبي نصر الفارابي: إني قرأت هذا الكتاب مائتي مرة. ونقل عنه أنه كان يقول: قرأت " السماع الطبيعي " لأرسطاطاليس الحكيم أربعين مرة، وأرى أني محتاج إلى معاودة قراءته. ويروى عنه أنه سئل: من أعلم الناس بهذا الشأن أنت أم أرسطاطاليس فقال: لو أدركته لكنت أكبر تلامذته. وذكره أبو القاسم صاعد بن أحمد بن عبد الرحمن بن صاعد القرطبي في كتاب " طبقات الحكماء " فقال: الفارابي فيلسوف المسلمين بالحقيقة، أخذ صناعة المنطق عن يوحنا بن حيلان المتوفى بمدينة السلام في أيام المقتدر، فبذ جميع أهل الإسلام وأربى عليهم في التحقيق لها وشرح غامضها وكشف سرها وقرب تناولها، وجميع ما يحتاج إليه منها، في كتب صحيحة العبارة لطيفة الإشارة، منبهاً على ما أعيا الكندي وغيره من صناعة التحليل وأنحاء التعاليم، وأوضح القول فيها عن مواد المنطق الخمسة، وأفاد وجوه الانتفاع بها وعرف طرق استعمالها، وكيف تصرف صورة القياس في كل مادة منها، فجاءت كتبه في ذلك الغاية الكافية والنهاية الفاضلة، ثم له بعد هذا كتاب شريف في إحصاء العلوم والتعريف بأغراضها لم يسبق إليه ولا ذهب أحد مذهبه فيه ولا يستغني طلاب العلوم كلها عن الاهتداء به، انتهى كلام ابن صاعد؛ وذكر بعد ذلك   (1) الوافي: حبلان؛ بر: حلان؛ ق ر: خيلان. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 154 شيئاً من تواليفه ومقاصده فيها. ولم يزل أبو نصر ببغداد مكباً على الاشتغال بهذا العلم والتحصيل له إلى أن برز فيه وفاق أهل زمانه، وألف بها معظم كتبه، ثم سافر منها إلى دمشق، ولم يقم بها، ثم توجه إلى مصر، وقد ذكر أبو بصر في كتابه الموسوم بالسياسة المدنية، أنه ابتدأ بتأليفه في بغداد وأكمله بمصر، ثم عاد إلى دمشق وأقام بها، وسلطانها يومئذ سيف الدولة بن حمدان، فأحسن إليه. ورأيت في بعض المجاميع أن أبا نصر لما ورد على سيف الدولة وكان مجلسه مجمع الفضلاء في جميع المعارف فأدخل عليه وهو بزي الأتراك، وكان ذلك زيه دائماً، فوقف، فقال له سيف الدولة: اقعد، فقال: حيث أنا أم حيث أنت فقال: حيث أنت، فتخطى رقاب الناس حتى انتهى إلى مسند سيف الدولة وزاحمه فيه حتى أخرجه عنه، وكان على رأس سيف الدولة مماليك، وله معهم لسان خاص يسارهم به قل أن يعرفه أحد، فقال لهم بذلك اللسان: إن هذا الشيخ قد أساء الأدب، وإني مسائله عن أشياء إن لم يوف بها فاخرقوا به، فقال له أبو نصر بذلك اللسان: أيها الأمير (1) ، اصبر فإن الأمور بعواقبها، فعجب سيف الدولة منه وقال له: أتحسن هذا اللسان فقال: نعم أحسن أكثر من سبعين لساناً، فعظم عنده. ثم أخذ يتكلم مع العلماء الحاضرين في المجلس في كل فن، فلم يزل كلامه يعلو وكلامهم يسفل حتى صمت الكل وبقي يتكلم وحده، ثم أخذوا يكتبون ما يقوله، فصرفهم سيف الدولة وخلا به، فقال له: هل لك في أن تأكل فقال: لا، فقال: فهل تشرب فقال: لا، فقال: فهل تسمع فقال: نعم، فأمر سيف الدولة بإحضار القيان، فحضر كل ماهر في هذه الصناعة بأنواع الملاهي، فلم يحرك أحد منهم آلته إلا وعابه أبو نصر وقال له: أخطأت، فقال له سيف الدولة: وهل تحسن في هذه الصناعة شيئاً فقال: نعم، ثم أخرج من سوطه خريطة ففتحها وأخرج منها عيداناً وركبها، ثم لعب بها، فضحك منها كل من كان في المجلس، ثم فكها وركبها تركيباً آخر وضرب بها فبكي كل من في المجلس، ثم فكها وغير   (1) أيها الأمير: سقط من ن ر والمختار. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 155 تركيبها وحركها فنام كل من في المجلس حتى البواب، فتركهم نياماً وخرج. ويحكى أن الآلة المسماة القانون من وضعه، وهو أول من ركبها هذا التركيب. وكان منفرداً بنفسه لا يجالس الناس (1) ، وكان مدة مقامه بدمشق لا يكون غالباً إلا عند مجتمع ماء أو مشتبك رياض، ويؤلف هناك كتبه، وينتابه المشتغلون عليه. وكان أكثر تصنيفه في الرقاع، ولم يصنف في الكراريس إلا القليل، فلذلك جاءت أكثر تصانيفه فصولاً وتعاليق، ويوجد بعضها ناقصاً مبتوراً. وكان أزهد الناس في الدنيا لا يحتفل بأمر مكسب ولا مسكن، وأجرى عليه سيف الدولة كل يوم من بيت المال أربعة دراهم، وهو الذي اقتصر عليها لقناعته. ولم يزل على ذلك إلى أن توفي في سنة تسع وثلاثين وثلثمائة بدمشق، وصلى عليه سيف الدولة في أربعة من خواصه، وقد ناهز ثمانين سنة، ودفن بظاهر دمشق خارج باب الصغير، رحمه الله تعالى. وتوفي متى بن يونس ببغداد في خلافة الراضي، هكذا حكاه ابن صاعد القرطبي في " طبقات الأطباء " (2) . وظفرت في مجموع بأبيات منسوبة إلى الفارابي، ولا أعلم صحتها، وهي: أخي خل حيز ذي باطل ... وكن للحقائق في حيز فما الدار دار مقام لنا ... وما المرء في الأرض بالمعجز ينافس هدا لهذا على ... أقل من الكلم الموجز وهل نحن إلا خطوط وقعن ... على نقطة وقع مستوفز محيط السموات أولى بنا ... فماذا التنافس في مركز (235) ورأيت هذه الأبيات في " الخريدة " منسوبة إلى الشيخ محمد بن عبد الملك الفارقي البغدادي الدار. وقال العماد مؤلف " الخريدة ": إنه اجتمع به يوم الجمعة ثامن عشر شهر رجب، سنة إحدى وستين وخمسمائة، وتوفي بسنيات بعد ذلك.   (1) ق: لا يجالس أحداً من الناس. (2) ق: الحكماء، وانظر ص: 154. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 156 وطرخان: بفتح الطاء المهملة وسكون الراء وفتح الخاء المعجمة وبعد الألف نون. وأوزلغ: بفتح الهمزة وسكون الواو وفتح الزاي واللام وبعدها غين معجمة، وهما من أسماء الترك. والفارابي: بفتح الفاء والراء وبينهما ألف وبعد الألف الثانية باء موحدة، هذه النسبة إلى فاراب، وتسمى في هذا الزمان أطرار - بضم الهمزة وسكون الطاء المهملة وبين الراءين ألف ساكنة - وقد غلب عليها هذا الاسم، وهي مدينة فوق الشاش، قريبة من مدينة بلاساغون، وجميع أهلها على مذهب الإمام الشافعي، رضي الله عنه، وهي قاعدة من قواعد مدن الترك، ويقال له فاراب الداخلة، ولهم فاراب الخارجة، وهي من أطراف بلاد فارس. وبلاساغون: بفتح الباء الموحدة واللام ألف والسين المهملة وبعد الألف غين معجمة ثم واوا ساكنة وبعدها نون، وهي بلدة في ثغور الترك وراء نهر سيحون - المقدم ذكره - بالقرب من كاشغر. وكاشغر: بفتح الكاف وبعد الألف شين معجمة ساكنة ثم غين معجمة مفتوحة وفي آخرها راء، وهي من المدن العظام في تخوم الصين؛ والله تعالى أعلم بالصواب. 707 - (1) ابن زكريا الرازي أبو بكر محمد بن زكريا الرازي الطبيب المشهور؛ ذكر ابن جلجل في " تاريخ الأطباء " أنه دبر مارستان الري ثم مارستان بغداد - في أيام المكتفي. ومن   (1) ترجمته في طبقات ابن جلجل: 77 وطبقات صاعد: 33 والفهرست: 299 وابن أبي أصيبعة 2: 343 (ط. بيروت) ونكت الهميان: 349 وتاريخ الحكماء: 271 والوافي 3: 76 وتاريخ ابن العبري: 158 وعبر الذهبي 2: 150 والشذرات 2: 263 وابتداء من هذه الترجمة تشترك نسخة لاله لي (رقم 2113) ورمزها (لي) مع سائر النسخ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 157 أخباره أنه كان يضرب بالعود ويغني، فلما التحى وجهه قال: نجاة ل غناء يخرج من بين شارب ولحية لا يستظرف (1) ، فنزع عن ذلك وأقبل على دراسة كتب الطب والفلسفة، فقرأها قراءة رجل متعقب على مؤلفيها، فبلغ من معرفة غوائرها الغاية، واعتقد الصحيح منها وعلل السقيم، وألف في الطب كتباً كثيرة. وقال غيره: كان إمام وقته في علم الطب والمشار إليه في ذلك العصر، وكان متقناً لهذه الصناعة حاذقاً فيها عارفاً بأوضاعها وقوانينها، تشد إليه الرحال في أخذها عنه، وصنف فيها الكتب النافعة، فمن ذلك كتاب " الحاوي " وهو من الكتب الكبار، يدخل في مقدار ثلثين مجلداً، وهو عمدة الأطباء في التنقل منه والرجوع إليه عند الاختلاف. ومنها كتاب " الجامع "، وهو أيضاً من الكتب الكبار النافعة. وكتاب " الأعصاب " (2) وهو أيضاً كبير، وله أيضاً كتاب " المنصوري " المختصر المشهور، وهو - عل صغر حجه - من الكتب المختارة، جمع فيه بين العمل والعلم ويحتاج إليه كل أحد، وكان قد صنفه لأبي صالح منصور بن نوح بن نصر بن إسماعيل بن أحمد بن أسد بن سامان، أحد الملوك السامانية، فنسب الكتاب إليه، وله غير ذلك تصانيف كثيرة وكلها يحتاج إليها. ومن كلامه: مهما قدرت أن تعالج بالأغذية فلا تعالج بالأدوية، مهما قدرت أن تعالج بدواء مفرد فلا تعالج بدواء مركب؛ من كلامه: إذا كان الطبيب عالماً والمريض مطيعاً فما أقل لبث العلة؛ ومن كلامه: عالج في أول العلة بما لا تسقط به القوة. [وذكر القاضي التنوخي في كتاب " الفرج بعد الشدة " في باب من اشتد بلاؤه بمرض عافاه الله بأيسر سبب وأقاله: أن غلاماً من بغداد قدم الري وكان ينفث الدم، وكان لحقه ذلك في طريقه، فاستدعى أبا بكر الرازي الطبيب المشهور بالحذق، صاحب الكتب المصنفة، فأراه ما ينفث ووصف له ما يجد،   (1) ر: يطرب. (2) لي: الأقصاب؛ ر: الأقطار؛ ن: الإعصار؛ بر من: الأعضاء. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 158 فأخذ الرازي مجسه، ورأى قارورته واستوصف حاله منذ ابتداء ذلك به، فلم يقم له دليل على سل ولا قرحة، ولم يعرف العلة، واستنظر الرجل لينظر في الأمر، فقامت على العليل القيامة وقال: هذا أيأس لي من الحياة لحذق الطبيب وجهله بالعلة، فازداد ما به من الألم، فولد الفكر للرزاي أن عاد إليه فسأله عن المياه التي شربها في طريقه، فأخبر أنه شرب من مستنقعات وصهاريج، فقام في نفس الرازي بحدة الخاطر وجودة الذكاء أن علقة كانت في الماء وقد حصلت في معدته وأن ذلك الدم من فعلها وقال له: إذا كان في غد جئتك فعالجتك ولم أنصرف حتى تبرأ، ولكن بشرط أن تأمر غلمانك أن يطيعوني فبك لم آمرهم، فقال: نعم؛ فانصرف الرازي فجمع ملء مركنين كبيرين من طحلب فأحضرهما في غد معه فأراه إياهما وقال له: ابلع، فقال: لا أستطيع، فقال للغلمان: خذوه فأنيموه، ففعلوا به ذلك، وطرحوه على قفاه وفتحوا فاه وأقبل الرازي يدس الطحلب في حلقه ويكبسه شديداً ويسأله ببلعه ويهدده بأن يضرب، إلى أن أبلعه كارهاً أحد المركنين بأسره، والرجل يستغيث فلا ينفعه مع الرازي شيء، إلى أن قال العليل: الساعة أقذف، فزاد الرازي في ما يكبسه في حلقه، فذرعه القيء فقذف، فتأمل الرازي قذفة فإذا فيه علقة، وإذا هي لما وصل إليها الطحلب قربت إليه بالطبع وتركت موضعها والتفت على الطحلب ونهض العليل معافى] (1) . ولم يزل رئيس هذا الشان، وكان اشتغاله به على كبر، يقال إنه لما شرع فيه كان قد جاوز أربعين سنة من العمر، وطال عكره فعمي في آخر مدته، وتوفي سنة إحدى عشرة وثلثمائة، رحمه الله تعالى. وكان اشتغاله بالطب على الحكيم أبي الحسن علي بن ربن الطبري صاحب التصانيف المشهورة، منها " فردوس الحكمة " وغيره. وكان مسيحياً ثم أسلم. وقد تقدم الكلام على الرازي. وأما الملوك السامانية فكانوا سلاطين ما وراء النهر وخراسان، وكانوا أحسن الملوك سيرة، ومن ولي منهم كان يقال له سلطان السلاطين، لا ينعت إلا به،   (1) زيادة انفردت بها لي، وقد وردت عند وستفيلد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 159 وصار كالعلم لهم، وكان يغلب عليهم العدل والدين والعلم، وملك من بينهم جماعة، ولم تنقرض دولتهم إلا بدولة السلطان محمود بن سبكتكين - الآتي ذكره إن شاء الله تعالى - وكانت مدة ولايتهم مائة سنة وسنتين وستة أشهر وعشرة أيام. (236) وكانت وفاة أبي صالح منصور المذكور في شوال سنة خمس وستين وثلثمائة وكان قد صنف له الرازي المذكور الكتاب المذكور في حال صغره، ليشتغل به. ثم رأيت نسخة كتاب (1) " المنصوري "، وعلى ظهره: أن المنصور الذي وسم الرازي هذا الكتاب باسمه هو المنصور بن إسحاق بن أحمد بن نوح من ولد بهرام كوس (2) صاحب كرمان وخراسان، وكنيته أبو صالح، والله أعلم بالصواب. وحكى ابن حلجل - المقدم ذكره - في تاريخه أيضاً: أن الرازي المذكور صنف لمنصور المذكور كتاباً في إثبات صناعة الكيمياء، وقصد به من بغداد فدفع له الكتاب، فأعجبه وشكره عليه وحباه بألف دينار وقال له: أريد أن تخرج هذا الذي ذكرت في هذا الكتاب إلى الفعل، فقال له الرازي: إن ذلك مما يتمون له المؤن، ويحاج إلى آلات وعقاقير صحيحة، وإلى إحكام صنعة ذلك كله، وكل ذلك كلفة، فقال له منصور: كل ما احتجت إليه من الآلات، ومما يليق بالصناعة أحضره لك كاملاً حتى تخرج عما ضمنته كتابك إلى العمل. فلما حقق عليه كع عن مباشرة ذلك وعجز عن عمله. فقال له منصور: ما اعتقدت أن حكيماً يرضى بتحليل الكذب في كتب ينسبها إلى الحكمة، يشغل بها قلوب الناس ويتعبهم فيما لا يعود عليهم من ذلك منفعة. ثم قال له: قد كافأتك على قصدك وتعبك بما صار إليك من الألف دينار، ولا بد من معاقبتك على تخليد الكذب، فحمل السوط على رأسه، ثم أمر أن يضرب بالكتاب على رأسه حتى يتقطع، ثم جهزه وسير به إلى بغداد، فكان ذلك الضرب سبب نزول الماء إلى عينيه، ولم يسمح بقدحهما وقال: قد رأيت الدنيا.   (1) ق بر من: بكتاب. (2) كذا هو في أكثر النسخ؛ وسقطت الفقرة من لي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 160 (237) وكانت وفاة والده أبي محمد نوح بن نصر في شعر ربيع الآخر سنة ثلاث وأربعين وثلثمائة. (238) وكانت وفاة جده أبي الحسن نصر بن إسماعيل في رجب سنة إحدى وثلاثين وثلثمائة. (239) وكانت وفاة جد أبيه أبي إبراهيم إسماعيل بن احمد في صفر ليلة الثلاثاء لأربع عشرة ليلة خلت منه، سنة خمس وتسعين ومائتين ببخاري؛ ومولده سنة أربع وثلاثين ومائتين بفرغانة، وكن يكتب الحديث ويكرم العلماء. (240) وكانت وفاة أحمد بن أسد بن سامان سنة خمسين ومائتين بفرغانة، رحمهم الله تعالى. وسامان: بفتح السين المهملة والميم وبينهما ألف وبعد الألف الثانية نون - وهذا وإن كان خارجاً عن المقصور، لكن مساق (1) الكلام جره، وفيه فائدة لا يستغنى عنها، والله أعلم بالصواب. 708 - (2) ابن شاكر أبو عبد الله بن موسى بن شاكر؛ أحد الأخوة الثلاثة الذي ينسب إليهم حيل بن موسى، وهم مشهورون بها، واسم أخويه أحمد والحسن، وكانت لهم همة عالة في تحصيل العلوم القديمة وكتب الأوائل، وأتعبوا أنفسهم في شأنها، وأنفذوا إلى بلاد الروم من أخرجها لهم، وأحضروا النقلة من الأصقاع الشاسعة والأماكن البعيدة بالبذل السني، فأظهروا عجائب الحكمة. وكان الغالب عليهم من العلوم: الهندسة والحيل والحركات والموسيقى والنجوم، وهو   (1) ق: سياق. (2) ترجمته في طبقات صاعد: 55 والفهرست: 271 وأخبار الحكماء: 315. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 161 الأقل. ولهم في الحيل كتاب عجيب نادر يشتمل على كل غريبة، ولقد وقفت عليه فوجدته من أحسن الكتب وأمتعها، وهو مجلد واحد. ومما اختصوا به في ملة (1) الإسلام وأخرجوه من القوة إلى الفعل - وإن كان أرباب الأرصاد المتقدمون على الإسلام قد فعلوه، لكنه لم يقل إن أحداً من أهل هذه الملة تصدى له وفعله، إلا هم - وهو أن المأمون كان مغرى بعلوم الأوائل وتحقيقها، ورأى فيه أن دور كرة الأرض أربعة وعشرون ألف ميل، كل ثلاثة أميال فرسخ، فيكون المجموع ثمانية آلاف فرسخ، بحيث لو وضع طرف حبل على أي نقطة كانت من الأرض، وأدرنا الحبل على كرة الأرض حتى انتهينا بالطرف الآخر إلى ذلك الموضع من الأرض، والتقى طرفا الحبل، فإذا مسحنا ذلك الحبل كان طوله أربعة وعشرين ألف ميل. فأراد المأمون أن يقف على حقيقة ذلك، فسأل بني موسى المذكورين عنه فقالوا: نعم، هذا قطعي. فقال: أريد منكم أن تعملوا الطريق الذي ذكره المتقدمون حتى نبصر هل يتحرر ذلك أم لا، فسألوا عن الأراضي المتساوية في أي البلاد هي فقيل لهم: صحراء سنجار في غاية الاستواء وكذلك وطأة الكوفة، فأخذوا معهم جماعة ممن يثق المأمون إلى أقوالهم، ويركن إلى معرفتهم بهذه الصناعة، وخرجوا إلى سنجار، وجاءوا إلى الصحراء المذكورة، فوقفوا في موضع منها وأخذوا ارتفاع القطب الشمالي ببعض الآلات، وضربوا في ذلك الموضع وتداً وربطوا فيه حبلاً طويلاً، ثم مشوا إلى جهة الشمالية على الاستواء من غير انحراف إلى اليمين واليسار حسب الإمكان. فلما فرغ الحبل نصبوا في الأرض وتداً آخر وربطوا فيه حبلاً طويلاً، ومشوا إلى جهة الشمال أيضاً كفعلهم الأول؛ ولم يزل ذلك دأبهم، حتى انتهوا إلى موضع أخذوا (2) فيه ارتفاع القطب المذكور، فوجدوه قد زاد على الارتفاع الأول درجة، فمسحوا ذلك القدر الذي قدروه من الأرض بالحبل، فبلغ ستة وستين ميلاً وثلثي ميل، فعلموا أن كل درجة من درج الفلك، يقابلها من سطح الأرض ستة وستون ميلاً وثلثان.   (1) ملة: سقطت من ق. (2) لي: الموضع الذي أخذوا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 162 ثم عادوا إلى الموضع الذي ضربوا فيه الوتد الأول وشدوا فيه حبلاً وتوجهوا إلى جهة الجنوب، ومشوا على الاستقامة، وعملوا عاماً عملوا في جهة الشمال: من نصب الأوتاد وشد الحبال، حتى فرغت الحبال التي استعملوها في جهة الشمال، ثم أخذوا الارتفاع فوجدوا القطب الشمالي قد نقص عن ارتفاعه الأول درجة، فصح حسابهم وحققوا ما قصدوه من ذلك، وهذا إذا وقف عليه من له يد في علم الهيئة ظهر له حقيقته. ومن المعلوم أن عدد درج الفلك ثلثمائة وستون درجة، لأن الفلك مقسوم باثني عشر برجاً، وكل برج ثلاثون درجة، فتكون الجملة ثلثمائة وستين درجة، فضربوا عدد درج الفلك في ست وستين ميلاً وثلثين - أي التي هي حصة كل درجة - فكانت الجملة أربعة وعشرين ألف ميل، وهي ثمانية آلاف فرسخ، وهذا محقق لا شك فيه. فلما عاد بنو موسى إلى المأمون وأخبروه بما صنعوا، وكان موفقاً لما رآه في الكتب القديمة من استخراج الأوائل، طلب تحقيق ذلك في موضع آخر، فسيرهم إلى أرض الكوفة وفعلوا كما فعلوا في سنجار، فتوافق الحسابان، فعلم المأمون صحة ما حرره القدماء في ذلك، وهذا الفصل هو الذي أشرت إليه في ترجمة أبي بكر محمد بن يحيى الصولي وقلت: لولا التطويل لبينت ذلك (1) . وكانت لبني موسى المذكورين أوضاع نادرة غريبة، ولولا الإطالة لذكرت شيئاً منها. وتوفي محمد المذكور في شهر ربيع الأول سنة تسع وخمسين ومائتين، رحمه الله تعالى؛ والله أعلم بالصواب.   (1) انظر ج 4: 359. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 163 709 - (1) البتاني الحاسب أبو عبد الله محمد بن جابر الحراني الأصل البتاني الحاسب، المنجم المشهور صاحب الزيج، الصابي؛ له الأعمال العجيبة والأرصاد المتقنة. وأول ما ابتدأ بالرصد في سنة أربع وستين ومائتين، إلى سنة ست وثلثمائة، وأثبت الكواكب الثابتة في زيجه لسنة تسع وتسعين ومائتين. وكان أوحد عصره في فنه، وأعمال تدل على غزارة فضله وسع علمه. وتوفي سنة سبع عشرة وثلثمائة، عند رجوعه من بغداد، بموضع يقال له قصر الحضر، ولم أعلم أنه أسلم، لكن اسمه يدل على إسلامه. وله من التصانيف " الزيج " وهو نسختان: أولى وثانية، والثانية أجود وكتاب " معرفة مطالع البروج فيما بين أرباع الفلك " ورسالة في " مقدار الاتصالات "، وكتاب شرح فيه أربع أرباع الفلك، ورسالة في تحقيق أقدار الاتصالات، وشرح أربع مقالات بطليموس (2) ، وغير ذلك. والبتاني: بفتح الباء الموحدة، وقال أبو محمد هبة الله بن الأكفاني (3) بكسرها، وبتشديد التاء المثناة من فوقها وبعد الألف نون، هذه النسبة إلى بتان، وهي ناحية من أعمال حران. والحضر: بفتح الحاء المهملة وسكون الضاد المعجمة وبعدها راء، وهي مدينة قديمة، بالقرب من تكريت؛ بين دجلة والفرات في البرية، وكان صاحبها الساطرون، فحاصره أردشير بن بابك أول ملوك الفرس، وأخذ البلد وقتله، وفي ذلك يقول أبو داود الإيادي، واسمه حارثة بن حجاج،   (1) ترجمته في الفهرست: 279 وتاريخ الحكاء: 280 وطبقات صاعد: 31 والشذرات 2: 276. (2) ن: بطليموس. (3) ذكره المؤلف 1: 269 وكانت وفاته سنة 523. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 164 وقيل حنظلة بن شرقي (1) : وأرى الموت قد تدلى من الحض ... ر على رب أهله الساطرون صرعته الأيام (2) من بعد ملك ... ونعيم وجوهر مكنون وذكره أيضاً عدي بن زيد العبادي في قوله (3) : وأخو الحضر إذ بناه وإذ دج ... لة تجبى إليه والخابور وجاء ذكره في السعر كثيراً، وقيل إن الذي حصروه سابور ذو الأكتاف وهو الذي ذكره ابن هشام في سيرة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأول أصح. والساطرون: بفتح السن المهملة وبعد الألف طاء مهملة مكسور ثم راء مضمومة ثم واو ساكنة وبعدها نون وهو لفظ سرياني، ومعناه الملك، واسمه ضيزن - بفتح الصاد المعجمة وسكون الياء المثناة من تحتها وفتح الزاي وبعدها نون - بن معاوية. وضيزن: اسم صنم كان في الجاهلية وبه سمي الرجل، وهو قضاعي، وكان من ملوك الطوائف، وإذا اجتمعوا لحرب غيرهم تقدم عليهم، لعظمته (4) عندهم. فأقام أردشير على حصره أربع سنين وهو لا يقدر عليه، وكان للساطرون ابنة يقال لها نضيرة - بفتح النون وكسر الضاد المعجمة وسكون الياء المثناة من تحتها وفتح الراء وبعدها هاء ساكنة - وفيها يقول الشاعر: أقفر الحضر من نضير فالمر ... باع منها فجانب الثرثار وكانت في غاية الجمال، وكانت عادتهم إذا حاضت المرأة أنزلوها إلى الربض،   (1) ديوان أبي داود: 347. (2) ق: صدعته المنون. (3) ديوان عدي: 88. (4) ق ر: لعظمه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 165 فحاضت نضيرة فأنزلت إلى ربض الحضر، فأشرفت ذات يوم فأبصرت أردشير وكان من أجمل الرجال فهويته، فأرسلت إليه أن يتزوجها وتفتح له الحصن، واشترطت عليه، والتزم لها ما طلبت، ثم اختلفوا في السبب الذي دلته عليه حتى فتح الحصن، والذي قاله الطبري أنها دلته على طلسم كان في الحصن، وكان في علمهم أنه لا يفتح حتى تؤخذ حمامة ورقاء وتخضب رجلاها بحيض جارية بكر زرقاء، ثم ترسل الحمامة فتنزل على سور الحصن، فيقع الطلسم (1) فيفتح الحصن، ففعل أردشير ذلك واستباح الحصن وخربه أباد أهله " وقتل الساطرون أباها " (2) وسار بنضيرة وتزوجها، فبينما هي نائمة على فراشها ليلاً إذ جعلت تتململ لا تنام (3) ، فدعا بالشمع، ففتش فراشها فوجد عليه ورق آس، فقال لها أردشير: أهذا الذي أسهرك قال: نعم، قال: فما كان أبوك يصنع بك قالت: كان يفرش لي الديباج ويلبسني الحرير ويطعمني المخ والزبد وشهد أبكار النحل، ويسقيني الخمر الصافي، قال: فكان جزاء أبيك ما صنعت به أنت إلي بذلك أسرع، ثم أمر بها (4) فربطت قرون رأسها بذنب فرس، ثم ركض الفرس حتى قتلها. والحضر إلى الآن آثاره باقية، وفيه بقايا عمائر، لكنه لم يسكن منذ ذلك الوقت؛ وقد طال الكلام فيه، إنما هي حكاية غريبة فأحببت إثباتها.   (1) ق: فنزل على طلسم الحصن. (2) لم ترد إلا في المختار. (3) ورد النص في لي مغايراً لسائر النسخ إذ جاء هناك: ((فجعلت تململ ولا يأخذها النوم، فقال لها سابور: أي شيء خبرك لا تنامين قالت: ما نمت على فراش أخشن من هذا الفراش، وبعد فأنا أحس بشيء يؤذيني، فأمر سابور بالفراش فأبدل، فلم تنم أيضاً حتى أصبحت وهي تشكي جنبها، فنظر إليه ورقة آس قد لصقت للعض عكنها وقد أدمتها، فعجب سابور من ذلك وقال: أهذا الذي أسهرك ... الخ "؛ وكذلك أورده وستنفيلد. (4) لي: ثم أمر بها فشدت ذوائبها إلى فرسين جامحين، ثم أرسلا فقطعاها؛ والدليل على ذلك أن في البرية مواضع قريبة من الثرثار: موضع يعرف بالورك وآخر يقال له الكتف وآخر يعرف بالأعضاء، وهي أماكن وجدت أعضاؤها فيها فسمي المكان بالعضو الذي وجد فيه؛ وهذا هو ما أثبته وستنفيلد أيضاً في هذه الترجمة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 166 ورأيت في تاريخ آخر أنه دخل بغداد وخرج منها وتوفي في الطريق بقصر الحضر في التاريخ المذكور، قال ياقوت الحموي في كتابه " المشترك ": قصر الحضر بقرب سامرا من أبنية المعتصم، والله تعالى أعلم (1) . 710 - (2) أبو الوفاء المهندس أبو الوفاء محمد بن محمد بن يحيى بن إسماعيل بن العباس البوزجاني الحاسب المشهور؛ أحد الأئمة المشاهير في علم الهندسة، وله فيه استخراجات غريبة لم يسبق بها، وكان شيخنا العلامة كمال الدين أبو الفتح موسى بن يونس، تغمده الله برحمته وهو القيم بهذا الفن، يبالغ في وصف كتبه ويعتمد عليها في أكثر مطالعاته، ويحتج بما يقوله. وكان عنده من تواليفه عدة كتب. وله في استخراج الأوتار تصنيف جيد نافع. وكانت ولادته يوم الأربعاء مستهل شهر رمضان المعظم سنة ثمان وعشرين وثلثمائة، بمدينة بوزجان. وتوفي سنة سبع وثمانين وثلثمائة (3) ، رحمه الله تعالى. ووزجان: بضم الباء الموحدة وسكون الواو والزاي وفتح الجيم وبعد الألف نون، وهي بليدة بخراسان بين هراة ونيسابور. وكان قد قدم العراق سنة ثمان وأربعين وثلثمائة. وكنت وقفت على تاريخ ولادته على هذه الصورة في كتاب " الفهرست "   (1) ورأيت .... أعلم: لم يرد في لي. (2) ترجمته في الفهرست: 283 وأخبار الحكماء: 287 والوافي 1: 209 وابن الأثير (وفيات: 387) وراجع الامتاع والمؤانسة فقد كتبه أبو حيان له؛ ولم يقف صاحب المختار عند هذه الترجمة. (3) موضع التاريخ بياض في لي؛ وفي تاريخ الحكماء أنه توفي سنة 388. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 167 تأليف أبي الفرج ابن النديم، ولم يذكر تاريخ وفاته. فكتبت هذه الترجمة، وذكرت تاريخ الولادة، فأخليت بياضاً لأجل تاريخ الوفاة لعي أظفر به، فإن قصدي في هذا التاريخ إنما هو ذكر الوفاة كما ذكرته في أول الكتاب. ثم إني وجدت تاريخ الوفاة في تاريخ شيخنا ابن الأثير قد ذكرها في السنة المذكورة فألحقتها. وكان بين شروعي في هذا التاريخ وظفري بالوفاة أكثر من عشرين سنة، والله تعالى أعلم. 711 - (1) الزمخرشي صاحب الكشاف أبو القاسم محمود بن عمر بن محمد بن عمر الخوارزمي الزمخشري، الإمام الكبير في التفسير والحديث والنحو واللغة وعلم البيان؛ كان إمام عصره من غير ما دفع، تشد إليه الرحال في فنونه. أخذ النحو عن أبي مضر منصور (2) ، وصنف التصانيف البديعة: منها " الكشاف " في تفسير القرآن العزيز، لم يصنف قبله مثله و " المحاجاة بالمسائل النحوية " و " المفرد والمركب " في العربية (3) و " الفائق " في تفسير الحديث، و " أساس البلاغة " في اللغة، و " ربيع الأبرار وفصوص الأحبار " و " متشابه أسامي الرواة " و " النصائح الكبار " و " النصائح الصغار " و " ضالة الناشد والرائض (4) في علم الفرائض "   (1) ترجمته في طبقات المعتزلة: 20 ولسان الميزان 6: 4 والجواهر المضية 2: 160 والبدر السافر، الورقة: 193 وعبر الذهبي 4: 106 وأنباه الرواة 3: 265 وفي الحاشية ثبت كبير بالمصار الأخرى. (2) لي أبي منصور مضر؛ وسقطت مضر من بر من والمختار. (3) لم يرد في النسخ، وورد عند وستنفيلد والمطبوعة المصرية. (4) ن: وضالة الناشد وكتاب الرائض ... الجزء: 5 ¦ الصفحة: 168 و " المفصل في النحو وقد اعتنى بشرحه خلق كثير، و " الأنموذج " في النحو، و " المفرد والمؤلف " في النحو، و " رؤوس المسائل " في الفقه، و " شرح أبيات كتاب سيبويه " و " المستقصى (1) في أمثال العرب " و " صميم العربية " و " سوائر الأمثال " و " دويان التمثيل " و " شقائق النعمان في حقائق النعمان " و " شافي العي من كلام الشافعي " رضي الله عنه، و " القسطاس " في العروض، و " معجم الحدود " و " المنهاج " في الأصول، و " مقدمة الآداب " (2) و " ديوان الرسائل " و " ديوان الشعر " و " الرسالة الناصحة " والأمالي في كل فن وغير ذلك؛ وكان شروعه في تأليف " المفصل " في غرة شهر رمضان سنة ثلاث عشرة وخمسمائة، وفرغ منه في غرة المحرم سنة خمس عشرة وخمسمائة. وكان قد سافر إلى مكة، حرسها الله تعالى، وجاور بها زماناً، فصار يقال له " جار الله " لذلك، وكان هذا الاسم علماً عليه. وسمعت من بعض المشايخ أن إحدى رجليه كانت ساقطة، وأنه كان يمشي في جاون خشب، وكان سبب سقوطها أنه كان في بعض أسفاره ببلاد خوارزم أصابه ثلج كثير وبرد شديد في الطريق فسقطت منه رجله، وأنه كان بيده محضر فيه شهادة خلق كثير ممن اطلعوا على حقيقة ذلك خوفاً من أن يظن من لم يعلم صورة الحال أنها قطعت لريبة، والثلج والبرد كثيراً ما يؤثر في الأطراف في تلك البلاد فتسقط، خصوصاً خوارزم، فإنها في غاية البرد، ولقد شاهدت خلقاً كثيراً ممن سقطت أطرافهم بهذا السبب، فلا يستبعده من لم يعهده. ورأيت في تاريخ بعض المتأخرين (3) أن الزمخشري لما دخل بغداد واجتمع بالفقيه الحنفي الدامغاني سأله عن سبب قطع رجله، فقال: دعاء الوالدة، وذلك أني في صباي أمسكت عصفوراً وربطته بخيط في رجله، وأفلت من يدي، فأدركته وقد دخل في خرق، فجذبته فانقطعت رجله في الخيط، فتألمت   (1) ق: والمستصفى، وقد طبع الكتاب باسم " المستقصي ". (2) ن بر من: الأدب. (3) انظر ابناه الرواة 3: 268. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 169 والدتي لذلك وقال: قطع الله رجل الأبعد كما قطعت رجله؛ فلما وصلت إلى سن الطلب رحلت إلى بخارى لطلب العلم، فسقطت عن الدابة فانكسرت الرجل (1) وعملت علي عملاً أوجب قطعها؛ والله أعلم بالصحة. وكان الزمخشري المذكور معتزلي الاعتقاد متظاهراً به، حتى نقل عنه أنه كان إذا قصد صاحباً له واستأذن عليه في الدخول يقول لمن يأخذ له الإذن: قل له أبو القاسم المعتزلي بالباب. وأول ما صنف كتاب " الكشاف " كتب استفتاح الخطبة " الحمد لله الذي خلق القرآن " فيقال إنه قيل له: متى تركته على هذه الهيئة هجره الناس ولا يرغب أحد فيه، فغيره بقوله " الحمد لله الذي جعل القرآن " وجعل عندهم بمعنى خلق، والبحث في ذلك يطول، ورأيت في كثير من النسخ " الحمد لله الذي أنزل القرآن " وهذا إصلاح الناس لا إصلاح المصنف. وكان الحافظ أبو الطاهر أحمد بن محمد السلفي المقدم ذكره، رحمه الله تعالى، قد كتب إليه من الإسكندرية (2) ، وهو يومئذ مجاور بمكة حرسها الله تعالى، يستجيره في مسموعاته ومصانفه، فرد جزابه بما لا يشفي الغليل، فلما كان في العام الثاني كتب إليه أيضاً مع الحجاج استجازه أخرى اقتراح فيها مقصوده، ثم قال له في آخرها: ولا يحوج، أدام الله توفيقه، إلى المراجعة، فالمسافة بعيدة، وقد كاتبه في السنة الماضية قلم يجبه بما يشفي الغليل، وله في ذلك لأجر الجزيل. فكتب إليه الزمخشري جوابه، ولولا خوف التطويل لكتبت الاستدعاء والجواب، لكن نقتصر على بعض الجواب وهو " ما مثلي مع أعلام العلماء إلا كمثل السها مع مصابيح السماء، والجهام الصفر من الرهام مع الغوادي الغامرة للقيعان والآكام، والسكيت المخلف مع خيل السباق، والبغاث مع الطير العتاق، وما التقيت بالعلامة، إلا شبه الرقم بالعلامة، والعلم مدينة أحد بابيها الدارية، والثاني الرواية (3) ، وأنا في كلا البابين ذو بضاعة مزجاة، ظلي   (1) ق: رجلي. (2) انظر خذخ المكاتبات في أزهار الرياض 3: 283. (3) ق: للدراية ... للرواية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 170 فيه أقلص من ظل حصاة، أما الرواية فحديثة الميلاد، قريبة الإسناد، لم تستند إلى علماء نحارير، ولا إلى أعلام المشاهير، وأما الدراية فثمد لا يبلغ أفواها، وبرض لا يبل شفاها " ثم كتب بعد هذا: لا يغرنكم قول فلان في ولا قول فلان وعدد جماعة من الشعراء والفضلاء مدحوه بمقاطيع من الشعر، وأوردها كلها، ولا حاجة إلى الاتيان بها ها هنا، فلما فرغ من إيرادها كتب " فإن ذلك اعتزاز منهم بالظاهر المموه، وجهل بالباطن المشوه، ولعل الذي غرهم مني ما رأوا من حسن منصح للمسلمين ويبلغ الشفقة على المستفيدين، وقطع المطامع عنهم، وإفادة المبار والصنائع عليهم، وعزة النفس والرب بها على عن الإسفاف للدنيات، والإقبال على خويصتي، والإعراض عما يغنيني، فجللت في عيونهم، وغلطوا في ونسبوني إلى ما لست منه قبيل ولا دبير، وما أنا فيا أقول بهاضمٍ لنفسي كما قال الحسن البصري، رحمه الله تعالى، في أبكر الصديق رضوان الله عليه بقوله " وليتكم ولست بخيركم ": إن المؤمن ليهضم نفسه، وإنما صدقت الفاحص عني وعن كنه روايتي ودرايتي ومن لقيت وأخذت عنه، وما بلغ علمي وقصارى فضلي، وأطلعته طلع أمري، وأفضيت إليه بخبية سري، وألقيت إليه عجري وبجري، وأعلمته نجمي وشجري. وأما الموالد فقرية مجهولة من قرى خوارزم تسمى زمخشر، وسمعت أبي، رحمه الله تعالى، يقول: اجتاز بها أعرابي فسأل عن اسمها واسم كبيرها، فقيل له: زمخشر والرداد، فقال لا خير في شر ورد، ولم يلمم بها؛ وقت الميلاد شهر الله الصم في عام سبع وستين وأربعمائة، والله المحمود، والمصلى عليه محمد وآله وأصحابه " هذا آخر الإجازة، وقد أطال الكلام فيها، ولم يصرح له بمقصوده فيها، وما أعلم هل أجازه بعد ذلك أم لا. وبيني وبينه في الرواية شخص واحد، فإنه أجاز زينب بنت الشعري، ولي منها إجازة كما تقدم في ترجمتها في حرف الزاي. ومن شعره السائر قوله، وقد ذكره السمعاني في " الذيل " (1) قال: أنشدني أحمد بن محمود الخوارزمي إملاء بسمرقند، فقال: أنشدنا محمود بن عمر الزمخشري   (1) لي: المذيل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 171 لنفسه بخوارزم، وذكر الأبيات وهي: ألا قل لسعدي ما لنا فيك من وطر ... وما تطلبين النجل من أعين البقر فإنا اقتصرنا بالذين تضايقت ... عيونهم والله يجزي من اقتصر مليح ولكن عنده كل جفوة ... ولم أر في الدنيا صفاء بلا كدر ولم أنس إذ غازلته قرب روضة ... إلى جنب حوض فيه للماء منحدر فقلت له: جئني بورد وإنما ... أردت به ورد الخدود وما شعر فقال: انتظرني رجع طرفٍ أجيء به ... فقلت له: هيهات ما لي منتظر فقال: ولا ورد سوى الخد حاضر ... فقلت له، إني قنعت بما حضر ومن شعره يرثي شيخه أبا مضر منصوراً المذكور أولاً: وقائله: ما هذه الدرر التي ... تساقط من عينيك سمطين سمطين فقلت: هو الدر الذي كان قد حشا ... أبو مضر أذني تساقط من عيني وهذا مثل قول القاضي أبي بكر الرجاني - المقدم ذكره - ولا أعلم أيهما أخذ من الآخر لأنهما كانا متعاصرين، وهو: لم يبكني إلا حديث فراقكم (1) ... لما أسر به إلى مودعي هو ذلك الدر الذي أدعتم ... في مسمعي أجريته من مدمعي وهذان البيتان من جملة قصدية طويلة بديعة؛ ومن المنسوب إلى القاضي الفاضل في هذا المعنى: لا تزدني نظرة ثانية ... كَفَتِ الأولى ووفت ثمني لك في قلبي حديث مودع ... لا جحدت العب ما أودعتني خذه من جفني عقوداً إنه ... بعض ما أودعته في أذني ومما أنشده لغيره في كتابه " الكشاف " عند تفسير قول الله تعالى في سورة البقرة " إن الله لا يستحي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها " " البقرة: 26 "   (1) ق ر لي: فراقهم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 172 فإنه قال: أنشدت لبعضهم: يا من يرى مد البعوض جناحها ... في ظلمة الليل البهيم الأليل ويرى عروق نياطها في نحرها ... والمخ في تلك العظام النحل اغفر لعبدٍ تاب من فرطاته ... ما كان منه في الزمان الأول وكان بعض الفضلاء قد أنشدني هذه الأبيات بمدينة حلب وقال: إن الزمخشري المذكور أوصى أن تكتب على لوح قبره هذه البيات، ثم أنشدني ذلك الفاضل الرئيس بيتين وذكر أن صاحبهما أوصى أن يكتبا على قبره وهما (1) : إلهي قد أصبحت ضيفك في الثرى ... وللضيف حق عند كل كريم فهب لي ذنوبي في قراي فإنها ... عظيم ولا يفرى بغير عظيم وأخبرني بعض الأصحاب أنه رأى بجزيرة سواكن تربة ملكها عزيز الدولة ريحان وعلى قبره مكتوب: يا أيها الناس كان لي أمل ... قصر بي عن بلوغه الأجل فليتق الله ربه رجل ... امكنه قبل موته العمل ما أنا وحدي نقلت حيث ترى ... كل إلى ما نقلت ينتقل وكانت ولادة الزمخشري يوم الربعاء السابع والعشرين من شهر رجب سنة سبع وستين وأربعمائة بومخشر. وتوفي ليلة عرفة سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة، بجرجانية خوارزم، بعد رجوعه من مكة، رحمه الله تعالى ورثاه بعضهم بأبيات، ومن جملتها: فأرض مكة تذري الدمع مقلتها ... حزناً لفرقة جار الله محمود وزمخشر: بفتح الزاي والميم وسكون الخاء المعجمة وفتح الشين المعجمة   (1) ينتهي هناالجزء الأول من المختار، وقد سقطت منه تراجم، ثم يبدأ الجزء الثاني بترجمة " أبو تميم معد ". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 173 وبعدها راء، وهي قرية كبيرة من قرى خوارزم. وجرجانية: بضمن الجيم الأولى وفتح الثانية وسكون الراء بينهما وبعد الألف نون مكسورة وبعدها ياء مثناة من تحتها مفتوحة مشددة ثم هاء ساكنة، وهي قضبة خوارزم. قال ياقوت الحموي في كتاب " البلدان ": يقال لهم بلغتهم كركانج، وقد عربت فقيل لها الجرجانية، وهي على شاطء جيحون، والله تعالى أعلم بالصواب. 712 - (1) القاضي الأصبهاني أبو طالب محمود بن علي بن أبي طالب بن عبد الله بن أبي الرجا التميمي الصبهاني، المعورف بالقاضي، صاحب الطريقة في الخلاف، تفقه على الشهيد محمد بن يحي - المقدم ذكره - وبرع في الخلاف، وصنف فيه التعليقة التي شهدت بفضله وتحقيقه وتبريزه على أكثر نظرائه، وجمع فيها بين الفقه والتحقيق، وكان عمدة المدرسين في إلقاء الدروس عليها ومن لم يذكرها فإنما كان لقصور فهمه عن إدراك دقائقها، واشتغل عليه خلق كثير وانتفعوا به، وصاروا علماء مشاهير. وكان له في الوعظ اليد الطولى، وكان متفنناً في العلوم خطيباً، خطب ودرس بأصبهان مدة؛ وتوفي في شوال سنة خمس وثمانين وخمسمائة، رحمه الله تعالى.   (1) ترجمته في طبقات السبكي 4: 304 والشذرات 4: 284. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 174 713 - (1) محمود بن سبكتكين أبو القاسم محمود بن ناصر الدولة أبي منصور سبكتكين، الملقب أولاً سيف الدولة، ثم لقبه الإمام القادر بالله لما سلطنه بعد موت أبيه " يمين الدولة وأمين الملة " واشتهر به. (241) وكان والده سبكتكين قد ورد مدينة بخارى في أيام نوح بن منصور أحد ملوك السامانية (2) المذكورين في ترجمة أبي بكر محمد بن زكريا الرازي الطبيب، وكان وروده في صحبة أبي إسحاق ابن البتكين، وهو حاجبه وعليه مدار أموره، فعرفه أركان تلك الدولة بالشهامة والصرامة، وتوسموا فيه الإرتفاع إلى اليفاع. ولما خرج أبو إسحاق المذكور إلى غزنة والياً عليها وساداً مسداً أبيه انصرف الأمير سبكتكين بانصارفه على جملته (3) في زعامة رجاله ومراعاة ما وراء بابه، فلم يلبث أبو إسحاق بعد موافاتها أن قضى نحبه، ولم يبق من ذوي قرابته من يصلح لمكانته واحتاج الناس إلى من يتولى أمورهم، فاختلفوا فيمن يصلح لذلك، ثم وقع اتفاقهم واجتمعت كلمتهم على تأمير الأمير سبكتكين، فبايعوه على ذلك، وانقادوا لحكمه. فلما تمكن واستحكم شرع في الغزاة والإغارة على أطراف الهند، فافتتح قلاعاً كثيرة منها، وجرت بينه وبين الهنود وعظم جريدته، وعمرت أرض خزانته (4) ، وأشفقت النفوس من هيبته. وكان من جملة فتوحاته ناحية بست، وكان من   (1) أخباره في تاريخ ابن الأثير (ح: 9) وابن خلدون 4: 363 والجواهر المضية 2: 157 والبداية والنهاية 2: 27 والمنتظم 8: 52 وعبر الذهبي 3: 145 والشذرات 3: 220. (2) ق: أحد الملوك السلطانية السامانية. (3) لي لي ن: حملته. (4) خزائنه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 175 جملة ما استفاده (1) من صفاياها أبو الفتح بن محمد البستي الشاعر المقدم ذكره، فإنه كان كاتباً لملك الناحية المذكورة، واسمه بابي نور (2) ، فلما تعلق بخدمته اعتمد عليه في أموره، وأسر إليه بأحواله، وشرح ذلك يطول. وآخر الأمر أن الأمير سبكتكين كان قد وصل إلى مدينة بلخ من طوس فمرض بها، واشتاق إلى غزنة فخرج إليها في تلك الحال، فمات في الطريق قبل وصوله، وذلك في شعبان سنة سبع وثمانين وثلثمائة، ونقل تابوته إلى غزنة، ورثاه جماعة من شعراء عصره منهم كاتبه أبو الفتح الببستي المذكور بقوله: قلت إذ مات ناصر الدين والدو ... لة حياه ربه بالكرامة وتداعيت جموعه بافتراق: ... هكذا هكذا تكون القيامة! واجتاز بعض الأفاضل بداره بعد موته وقد تشعثت، فأنشد: عليك سلام الله من منزل قفر ... فقد هجت لي شوقاً قديماً وما تدري عهدتك مذ شهر جديداً ولم أخل ... صروف الردى تبلي مغاتيك في شهر وكان الأمير المذكور قد جعل ولي عهده من بعده ولده إسماعيل، واستخلفه على الأعمال وأوصى إليه بأمر أولاده وعياله، وجمع وجوه حجابه وقواده على طاعته ومتابعته، وجلس على سرير السلطنة، وتحكم واعتبر بيوت الأموال، وكان أخوه السلطان محمود بخراسان مقيماً بمدينة بلخ وإسماعيل بغزنة، فلما بلغه نعي أبيه كتب إلى أخيه إسماعيل ولاطفه في القول وقال له: إن أبي لم يستخلفك دوني إلا لكونك كنت عنده وأنا كنت بعيداً عنه، ولو أوقف المر على حضوري لفاتت مقاصده (3) ، ومن المصلحة أن نتقاسم الأموال بالميراث وتكون أنت مكانك بغزنة وأنا بخراسان، وندبر الأمور زنتفق على المصالح كيلا يطمع فينا عدو، ومتى ظهر للناس اخلافنا قلت حرمتنا (4) ، فأبى إسماعيل من   (1) ن: استقاده. (2) لي ن: بابي ثور، ق: بابي النور، وعند دي سلان: باي توز. (3) لي: مصالح ومقاصد. (4) ق ن لي: كي لا يطمح فينا متى ما ظهر للناس اختلافنا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 176 موافقته على ذلك وكان فيه لين ورخاوة، فطمع فيه الجند وتشغبوا عليه وطالبوه بالأموال فاستنفد في مرضاتهم الخزائن. ثم خرج محمود إلى هراة وجدد مكاتبة أخيه، وهو لا يزداد إلا اعتياصاً (1) ، فدعا محمود عمه بغراجق إلى موافقته فأجابه؛ وكان أخوه أبو المظفر نصر بن سبكتكين أميراً بناحية بست، فنهض إليه وعرض عليه الإنقاياد لمتابعته فلم يتوقف عليه، فلما قوي جأشه بعمه وأخيه قصد أخاه إسماعيل بغزنة وهما معه، فنازلهما في جيش عظيم وجم غفير وحاصرها، واشتد القتال عليها ففتحها، وانحاز إسماعيل إلى قلعتها متحصناً بها، ثم تلطف في طلب الأمان من أخيه محمود فأجابه إلى سؤاله، ونزل في حكم أمانة وتسلم منه مفاتيح الخزائن، ورتب في غزنة النواب والأكفاء وانحدر إلى بلخ. وكان السلطان محمود قد اجتمع بأخيه إسماعيل في مجلس الأنس بعد ظفره به، فسأله عما كان في نفسه أنه يعتمد في حقه لو ظفر به، فحملته سلامة صدره ونشوة السكر على أن قال: كان في عزمي إن أسيرك إلى بعض القلاع موسعاً عليك فيما تقترحه من دار وغلمان وجوار ورزق على قدر الكفاية (2) ، فعامله بجنس ما كان قد نواه له، وسيره إلى بعض الحصون وأوصى عليه الوالي أن يمكنه من جميع ما يشتهي. ولما انتظم الأمر للسسلطان محمود، كان في بعض بلاد خراسان نواب لصاحب ما وراء النهر من ملوك بني سامان، فجرى بين السلطان محمود وبينهم حروب (3) انتصر فيها عليهم، وملك بلاد خراسان وانقطعت الدولة السامانية (4) منها، وذلك في سنة تسع وثمانين وثلثمائة، واستتب له الملك، وسير له الإمام القادر بالله خلعة السلطنة، ولقبه بالألقاب المذكورة في أول ترجمته، وتبوأ سرير المملكة، وقام بين يديه أمراء خراسان سماطين مقيمين برسم الخدمة، وملتزمين   (1) ر: إباء. (2) ق: على قدر الكفاية دار. (3) ر: حروب عظيمة. (4) ق: السلطانية السامانية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 177 حكم الهيبة، وأجلهم بعد الإذن العام على مجلس الأندلس، وأمر لكل واحد منهم ولسائر غلمانه ووجوه أوليائه وحاشيته من الخلع والصلات ونفائس الأمتعة ما لم يسمع بمثله. واتسعت الأمور عن آخرها في كنف إيالته، واستوسقت الأعمال في ضمن كفالته، وفرض على نفسه في كل عام غزو الهند. ثم إنه ملك سجستان في سنة ثلاث وتسعين وثلثمائة، بدخول قوادها وولاة أمرها في طاعته من غير قتال. ولم يزل يفتح في بلاد الهند حتى انتهى إلى حيث لم تبلغه في الإسلام راية، ولم تتل (1) به قط سورة ولا آية، فرحض عنها أدناس الشرك وبنى بها مساجد وجوامع، وتفصيل حاله يطول شرحه. ولما فتح بلاد الهند كتب إلى الديوان العزيز ببغداد كتاباً يذكر فيه ما فتحه الله تعالى على يديه من بلاد الهند، وأنه كسر الصنم (2) المعروف بسومنات. وذكر في كتبه أن هذا الصنم عند الهنود يحي ويميت ويفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، وأنه إذا شاء أبرأ من جميع العلل، وربما كان يتفق لشقوتهم إبلال عليل يقصده فيوافقه طيب الهواء وكثرة الحركة فيزيدون به افتناناً ويقصدونه من أقاصي البلاد رجالاً وركباناً، ومن لم يصادف منهم انتعاشاً احتج بالذنب وقال: إنه لم يخلص له الطاعة، ولم يستحق منه الإجابة، ويزعمون أن الأرواح إذا فارقت الأجسام اجتمعت لديه على مذهب أهل التناسخ، فينشئها فيمن يشاء، وأن مد البحر وجزره عبادة له على قدر طاقته، وكانوا بحكم هذا الاعتقاد يحجونه من كل صقيع بعيد، ويأتونه من كل فج عميق، ويتحفونه بكل مال نفيس. ولم يبق في بلاد السند والهند على تباعد أقطارها وتفاوت أديانها ملك ولا سوقة إلا تقرب إلى هذا الصنم بما عز عليه من أمواله وذخائره حتى بلغت أوقافه عشرة آلاف قرية مشهورة في تلك البقاع (3) ، وامتلأت خزائنه من أصناف الأموال، وفي خدمته من البراهمة ألف رجل يخدمونه، وثلثمائة رجل يحلقون رؤوس حجيجه ولحاهم عند الورود   (1) ر: ولم تقر به؛ ن: ولم تقل به قط صورة ولاية. (2) ق: الصنم الكبير. (3) ق: البلاد والبقاع. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 178 عليه، وثلثمائة رجل وخمسمائة امرأة يغنون ويرقصون عند بابه، ويجري من مال الأوقاف المرصدة له لكل طائفة من هؤلاء رزق معلوم. وكان بين المسلمين وبين القلعة التي فيها الصنم مسيرة شهر في مفازة موصوفة بقلة المياه وصعوبة المسالك واستيلاء الرمل على طرقها، فسار إليها السلطان محمود في ثلاثين ألف فارس جريدة مختارة من بين عدد كثير، وأنفق عليهم من الأموال ما لا يحصى؛ فلما وصلوا إلى القلعة وجدوها حصناً منيعاً وفتحوها في ثلاثة أيام، ودخلوا بيت الصنم وحوله من الأصنام الذهب المرصع بأصناف الجوهر عدة كثيرة (1) محيطة بعرشه، يزعمون أنها الملائكة، وأحرق المسلمون الصنم المذكور فوجدوا في أذنه نيفاً وثلثين حلقة، فسألهم محمود عن معنى ذلك فقالوا: كل حلقة عبادة ألف سنة، وكانوا يقولون بقدم العالم ويزعمون أن هذا الصنم يعبد منذ أكثر من ثلاثين ألف سنة، وكلما عبدوه ألف سنة علقوا في أذنه حلقة، وبالجملة فإن شرح ذلك يطول. وذكر شيخنا ابن الأثير في تاريخه أن بعض الملوك بقلاع الهند أهدى له هدايا كثيرة من جملتها طائر على هيئة القمري، من خاصيته أنه إذا حضر الطعام وفيه سم دمعت عينا هذا الطائر وجرى منها ماء وتحجر؛ فإذا حك (2) ووضع على الجراحات الواسعة لحمها، ذكر ذلك في سنة أربع عشرة وأربعمائة. وقد جمع سيرته أبو النصر محمد بن عبد الجبار العتبي الفاضل المعروف في كتاب سماه " اليميني " وهو مشهور، وذكر في أوله أن السلطان المذكور ملك الشرق بجنبيه، والصدر من العالم ويديه، لانتظام الإقليم الرابع بما يليه من الثالث والخامس في حوزة ملكه وحصول ممالكها الفسيحة وولايتها (3) العريضة في قبضة ملكه، ومصير أمرائها وذوي الأ لقاب الملوكية من عظمائها تحت حمايته وجبايته، واسدرائهم من آفات الزمان بظل ولايته ورعايته، وإذعان ملوك الأرض لعزته، وارتياعهم بفائض (4) هيبته، واحتراسهم - على تقاذف الديار   (1) ق: عدد كثير. (2) ق: حل، ر: خط. (3) ن: وولايتها؛ لي: وولاتها. (4) ق: من فائض. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 179 وتحاجز الأنجاد والأغوار - من فاجئ ركضته، واستخفاء الهند تحت جيوبها (1) عند ذكره، واقشعرارهم لمهب الرياح من أرضه، وقد كان مذ لفظه المهد وجفاه الرضاع، وانحلت عن لسانه عقدة الكلام، واستغنى عن الإشارة بالإفهام مشغول اللسان بالذكر والقرآن، مشغوف النفس بالسيف والسنان، ممدود الهمة إلى معالي الأمور، معقود الأمنية بسياسة الجمهور، لعبه مع الأتراب جد، وجده مستكد، يألم لما لا يعلم حتى يقتله (2) خبراً، ويحزن لما يحزن حتى يدمثه قسراً وقهراً. وذكر إمام الحرمين أبو المعالي عبد الملك الجويني - المقدم ذكره - في كتابه الذي سماه " مغيث الخلق في اختيار الأحق " أن السلطان محموداً المذكور كان على مذهب أبي حنيفة، رضي الله عنه، وكان مولعاً بعلم الحديث، وكانوا يسمعون الحيث من الشيوخ بين يديه، وهو يسمع، وكان يستفسر الحاديث، فوجد أكثرها موافقاً لمذهب الشافعي رضي الله عنه، فوقع في خلده (3) حكة، فجمع الفقهاء من الفريقين في مرو، والتمس منهم الكلام في ترجيح أحد المذهبين على الآخر، فوقع الاتفاق على أن يصلوا بين يديه ركعتين على مذهب الإمام الشافعي، رضي الله عنه، وعلى مذهب أبي حنيفة، رضي الله عنه، لينظر فيه السلطان، ويتفكر ويختار ما هو أحسنهما، فصلى القفال المروزي - وقد تقدم ذكره - بطهارة مسبغة وشرائط معتبرة من الطهارة والسترة واستقبال القبلة، وأتى بالأركان والهيئات والسنن والآداب والفرائض على وجه الكمال والتمام، وقال: هذه صلاة لا يجوز الإمام الشافعي دونها رضي الله عنه، ثم صلى ركعتين على ما يجوز أبو حنيفة رضي الله عنه، فلبس جلد كلب مدبوغاً ولطخ ربعه بالنجاسة، وتوضأ بنبيذ التمر، وكان في صميم الصيف في المفازة، واجتمع عليه الذباب والبعوض، وكان وضوءه منكساً منعكساً، ثم استقبل القبلة، وأحرم بالصلاة من غير نية في الوضوء، وكبر بالفارسية دو بركك سبز، ثم نقر   (1) لي: جنودها؛ ن ق: جبوبها. (2) لي: يقلبه؛ ق: يقبله. (3) لي: جلده. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 180 نقرتين كنقرات الديك من غير فصل ومن غير ركوع، وتشهد، وضرط في آخره، من غير نية السلام، وقال: أيها السلطان، هذه صلاة أبي حنيفة (1) ، فقال السلطان، لو لم تكن هذه الصلاة صلاة أبي حنيفة لقتلك، لأن مثل هذه الصلاة لا يجوزها ذو دين، فأنكرت الحنفية أن تكون هذه صلة أبي حنيفة، فأمر القفال بإحضار كتب أبي حنيفة، وأمر السلطان نصرانياً كاتباً يقرأ (2) المذهبين جميعاً، فوجدت الصلاة على مذهب أبي حنيفة على ما حكاه القفال، فأعرض السلطان عن مذهب أبي حنيفة، وتمسك بمذهب الشافعي رضي الله عنه؛ انتهى كلام إمام الحرمين. وكانت مناقب السلطان محمود كثيرة، وسيرته من أحسن السير، ومولده ليلة عاشوراء سنة إحدى وستين وثلثمائة. وتوفي في شهر ربيع الآخر، وقيل حادي عشر صفر، سنة إحدى، وقيل اثنتين وعشرين وأربعمائة بغزنة، رحمه الله تعالى. (242) وقام بالأمر من بعده ولده محمد بوصية من أبيه، اجتمعت عليه الكلمة، وغمرهم بإنفاق الأموال فيهم، وكان أخوه أبو سعيد مسعود غائباً، فقدم نيسابور وقد استتب أمر أخيه محمد، فراسله، ومال الناس إليه لقوة نفسه وتمام هيبته (3) ، وزعم أن الإمام القادر بالله قلده خراسان، ولقبه الناصر لدين الله وخلع عليه وطوقه سواراً، فقوي أمره لذلك. وكان محمد هذه سيء التدبير منهمكاً في ملاذه، فأجمع الجند على عزل محمد وتولية الملك المسعود، ففعلوا ذلك، وقبضوا على محمد وحملوه إلى قلعة ووكلوا به. (243) واستقر الملك للأمير مسعود، وجرى له مع بني سلجوق خطوب يطول شرحها. وله في ترجمة المعتمد بن عباد حكاية في المنام، فلتننظر هناك (4) . وقتل سنة ثلاثين وأربعمائة، واستولى على المملكة بنو سلجوق، وقد تقدم في   (1) في حاشية في تعليق بغير خط الأصل في الدفاع عن مذهب أبي حنيفة. (2) ن: فقرأ. (3) ن ر ق: في تمام. (4) لم يرد شيء من ذلك في ترجمة المعتمد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 181 ترجمة السلطان طغرلبك السلجوقي طرف من الخبر، وكيفية ما اعتمده السلطان محمود في حقهم، وكيف تغلبوا على الأمر. وسبكتكين: بضم السين المهملة والباء الموحدة وسكون الكاف وكسر التاء المثناة من فوقها والكاف الثانية وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها نون. وتفسر " دو بركك سبز " ورقتان خضراوان، وهو معنى قوله تعالى في سورة الرحمن " مدهامتان " الرحمن: 64 والله تعالى أعلم. 714 - (1) مغيث الدين السلجوقي أبو القاسم محمود بن ملكشاه بن ألب أرسلان السلجوقي، الملقب مغيث الدين، أحد الملوك السلجوقية المشاهير، وقد تقدم ذكر والده وجماعة من أهل بيته وسيأتي ذكر جده وغيره منهم إن شاء الله تعالى، وتقدم طرف من خبره في ترجمة العزيز أبي نصر أحمد بن حامد الأصبهاني عن العماد الكاتب. تولى أبو القاسم المذكور السلطنة بعد وفاة والده، وخطب له بها بمدينة بغداد على جاري عادة الملوك السلجوقية، يوم الجمعة الثالث والعشرين من المحرم سنة اثنتي عشرة وخمسمائة، في خلافة المستظهر بالله، وهو يومئذ في سن الحلم، وكان متوقداً ذكاء، قوي المعرفة بالعربية، حافظاً للأشعار والأمثال، عارفاً بالتواريخ والسير، شديد الميل إلى أهل العلم والخير، وكان حيص بيص الشاعر المقدم ذكره قد قصده من العراق ومدحه بقصيدته الدالية المشهورة التي أولها: ألق الحدائج ترع الضمر القود ... طال السرى وتشكت وخدك البيد   (1) أخباره في تاريخ ابن الأثير (ج: 10) وتاريخ الدولة السلجوقية واين خلدون 5: 45 والسلوك 1: 34 والباهر: 42 والمنتظم 10: 24 وعبر الذهبي 4: 66 والشذرات 4: 76. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 182 يا ساري الليل لا جذب ولا فرق ... فالنبت أغيد والسلطان محمود قيل تألفت الأضداد خيفته ... فالمورد الضنك فيه الشاء والسيد وهي طويلة ومن غرر القصائد، وأجازه عليها جائزة سنية. وكان قد تزوج بنتي عمه السلطان سنجر، المقدم ذكره - حسبما شرحناه في ترجمة العزيز الأصبهاني، واحدة بعد الأخرى، وكانت السلطنة في أواخر أيامه قد ضعفت وقلت أموالها، حتى عجزوا عن إقامة وظيفة الفقاعي، فدفعوا له يوماً بعض صناديق الخزانة حتى باعها وصرف ثمنها في حاجته، وكان في آخر مدته قد دخل بغداد، ثم خرج منها، فمرض في الطريق واشتد به المرض، وتوفي يوم الخميس خامس عشر شوال سنة خمس وعشرين وخمسمائة، رحمه الله تعالى. وذكر ابن الأزرق الفارقي في تاريخه أنه مات خامس عشر شوال سنة أربع وعشرين بباب أصبهان، ودفن بها. وولي السلطنة أخوه طغرلبك، ومات سنة سبع وعشرين، وتولى أخوه مسعود وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى (244) وابنه محمد شاه بن محمود بن محمد هو الذي حاصر بغداد ومعه زين الدين أبو الحسن علي بن بلتكين صاحب إربل في سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة، وقال شيخنا ابن الأثير في سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة - قال ذلك في تاريخه الصغير المعروف بالأتابكي -: ومات محمد شاه المذكور في ذي الحجة سنة أربع وخمسين وخمسمائة، وتاريخ وفاة زين الدين المذكور مذكور في ترجمة ولده مظفر الدين صاحب إربل في حرف الكاف؛ ومات محمد شاه بباب همذان، ومولده في شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 183 715 - (1) الملك العادل نور الدين أبو القاسم محمود بن عماد الدين زنكي بن آق سنقر، الملقب الملك العادل نور الدين، قد تقدم ذكر أبيه في حرف الزاي. ولما حاصر أبوه قلعة جعبر - حسبما تقدم ذكره في ترجمته - كان ولده نور الدين المذكور في خدمته، فلما قتل أبو سار نور الدين وفي خدمته صلاح الدين محمد بن أيوب اليغيساني وعساكر الشام إلى مدينة حلب (2) فملكها في ذلك التاريخ. وملك أخوه سيف الدين غازي - المذكور في حرف الغين - مدينة الموصل وما والاها من تلك النواحي. ثم إنه نزل على دمشق محاصراً لها وصاحبها يومئذ مجير الديم أبو سعيد أبق ابن جمال الدين محمد بن تاج الملوك بوري بن ظهير الدين طغتكين، وهو أتابك الملك دقاق بن تتش - المقدم ذكره في ترجمة تتش في حرف التاء - وكان نزوله عليها ثالث صفر سنة تسع وأربعين وخمسمائة، وملكها يوم الأحد تاسع الشهر المذكور، وعوض مجير الدين أبق عن دمشق حمص ثم أخذها منه وعوضه عنها بالس، فانتقل إليها وأقام بها مدة ثم قصد بغداد في أيام الإمام المقتفي. وكان أتابكه معين الدين أثر بن عبد الله عتيق جد أبيه ظهير الدين طغتكين الأتابك - المقدم ذكره في ترجمة تتش السلجوقي، وقد سبق ذكر ظهير الدين طغتكين الأتابك هناك أيضاً. ثم استوزر نور الدين محمود على بقية بلاد الشام من حماة (3) وبعلبك، وهو   (1) أخباره في الباهر والكامل (ج: 11) وابن خلدون 5: 253 وابن الوردي 2: 83 ومرآة الزمان: 305 ومفرج الكروب (ج: 1) والنجوم الزاهرة 6: 71 والمنتظم 10: 248 وعبر الذهبي 4: 208 والشذرات 4: 228 ولابن قاضي شهبة مؤلف في سيرته باسم " الكواكب الدرية في السيرة النورية "، تحقيق الدكتور محمود زايد (بيروت 1971) . (2) زاد لي في بر من: وحماء وحمص ومنبج وحران. (3) لي: حمص وحماة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 184 الذي بنى سورها، منبج ما وبين ذلك، وافتتح من بلاد الروم عدة حصون منها مرعش وبهسنا (1) وتلك الأطراف، وكان فتحه لمرعش في ذي القعدة من سنة ثمان وستين وخمسمائة ولبهسنا في ذي الحجة من السنة (2) ، وافتتح أيضاً من بلاد الفرنج حارم، وكان فتحها في أواخر شهر رمضان سنة تسع وخمسمائة، وفتح أعزاز وبانياس وغير ذلك ما تزيد عدته على خمسين حصناً. ثم سير الأمير أسد الدين شيركوه - المقدم ذكره - إلى مصر ثلاث دفعات، وملكها السلطان صلاح الدين في الدفعة الثالثة (3) نيابة عنه، وضرب باسمه السكة والخطبة، وهي قضية مشهورة فلا حاجة إلى الإطالة في شرحها (4) ، وسيأتي ذلك في ترجمة صلاح الدين إن شاء الله تعالى. وكان ملكاً عادلاً زاهداً عابداً ورعاً، متمسكاً (5) بالشريعة مائلاً إلى أهل الخير، مجاهداً في سبيل الله تعالى، كثير الصدقات، بنى المدارس بجميع بلاد الشام الكبار مثل دمشق وحلب وحماة وحمص وبعلبك ومنبج والرحبة، وقد تقدم ذلك في ترجمة الشيخ شرف الدين بن أبي عصرون، وبنى بمدينة الموصل الجامع النوري ورتب له ما يكفيه، وبحماة الجامع الذي على نهر العاصي، وجامع الرها وجامع منبج، وبيمارستان دمشق، ودار الحديث بها أيضاً، وله من المناقب والمآثر والمفاخر ما يستغرق الوصف. وكان بينه وبين أبي الحسن سنان بن سليمان (6) بن محمد الملقب راشد الدين صاحب قلاع الإسماعيلية ومقدم الفرقة الباطنية بالشام، وإليه تنسب الطائفة السنانية، مكاتبات ومحاورات بسبب المجاورة، فكتب إليه نور الدين في بعض الأزمنة كتاباً يتهدده فيه ويتوعده (7) لسبب اقتضى ذلك، فشق على سنان فكتب   (1) ق: وبهنشا، لي: وبهشنا. (2) زاد هنا في ق: واعزاز وبانياس في ذي الحجة من السنة المذكورة؛ وسيأتي هذا بعد قليل. (3) ق: الأولى والثالثة. (4) ق: في ذكرها وشرحها. (5) ق ر بر من: متمسكا. (6) ق ر لي من: سلمان. (7) لي ر ن: ويتواعده. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 185 جوابه أبياتاً ورسالة، وهما: ياذا الذي بقراع السيف هددنا (1) ... لا قام مصرع جنبي حين تصرعه قام الحمام إلى البازي يهدده ... واستيقظت لأسود البر أضبعه أضحى يسد فم الأفعى بإصبعه ... يكفيه ما قد تلاقي منه إصبعه وقفنا على تفاصيله (2) وجمله، وعلمنا ما هددنا به من قوله وعمله، فيالله العجب من ذبابة تطن في أذن فيل، وبعوضة تعد في التماثيل، ولقد قالها من قبلك قوم آخرون، فدمرنا عليه وما كان لهم من ناصرين، أو للحق تدحضون، وللباطل تنصرون وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، وأما ما صدر من قولك في قطع رأسي، وقلعك لقلاعي من الجبال الرواسي، فتلك أماني كاذبة، وخيالات غير صائبة، فإن الجواهر لا تزل بالأعراض، كما أن الرواح لا تضمحل بالأمراض، كم بين قوي وضعيف، ودني وشريف وإن عدنا إلى الظاهر والمحسوسات، وعدلنا عن البواطن والمعقولات، فنا أسوة برسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله " ما أوذي نبي ما أوذيت " ولقد علمتم ما جرى على عترته، وأهل بيته وشيعته، والحال ما حال، والأمر ما زال، ولله الحمد في الآخرة والأولى إذ نحن مظلومون لا ظالمون، ومغضوبون لا غاضبون، وإذا جاء الحق زهق الباطل إن الباطل كان زهوقاًً، ولقد علمتم ظاهر حالنا، وكيفية رجالنا، وما يتمنونه من الفوت، ويتقربون به إلى حياض الموت، " قل فتمنوا الموت إن كنتم صادقين، ولا يتمنونه أبداً بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين " الجمعة 6 - 7 وفي أمثال العامة السائرة: أو للبط تهددون بالشط فهيئ للبلايا جلباباً، وتدرع للرزايا أثواباً، فلأظهرن عليك منك، ولأفتتنهم (3) فيك عنك، فتكون كالباحث عن حتفه بظلفه، والجادع مارن   (1) لي: هددني. (2) ق لي: تفصيله. (3) وردت هذه اللفظة بصةورة مختلفة في النسخ: ن: ولا يقيتهم؛ ر: ولا نصبهم؛ لي: ولا يفنيهم؛ بر من: ولا يقتيهم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 186 أنفه بكفه، وما ذلك على الله بعزيز. وهذه الرسالة نقلت من خط القاضي الفاضل على هذه الصورة، ورأيت في نسخة زيادة على هذا، وهي: فإذا وقفت على كتابنا هذا فكن لأمرنا بالمرصاد، إلى السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، والله أعلم؛ ورأيت في بعض النسخ زيادة بيت في أول الأبيات الثلاثة، وهو: يا للرجال لأمر هال مفظعه (1) ... ما مر قط على سمعي توقعه وكتب سنان المذكور مرة أخرى إليه، وقد جرت بينهما وحشة: بنا نلت هذا الملك حتى تأثلت ... بيوتك فيها واشمخر عمودها فأصبحت ترمينا بنبل بنا استوى ... مغارسها منا، وفينا حديدها وبالجملة فإن محاسن نور الدين كثيرة؛ وكانت ولادته يوم الأحد عند طلوع الشمس سابع عشر شوال سنة إحدى عشرة وخمسمائة؛ وتوفي يوم الأربعاء حادي عشر شوال سنة تسع وستين وخمسمائة، بقلعة دمشق، بقلعة الخوانيق، وأشار عليه الأطباء بالفصد فامتنع، وكان مهيباً فما روجع. ودفن في بيت بالقلعة كان يلازم الجلوس فيه والمبيت أيضاً، ثم نقل إلى تربته بمدرسته التي أنشأها عند باب سوق الخواصين، وسمعت من جماعة من أهل دمشق يقولون: إن الدعاء عند قبره مستجاب، ولقد جربت ذلك فصح، رحمه الله تعالى. وذكر شيخنا عز الدين أبو الحسن علي بن محمد المعروف بابن الأ ثير اجزري في تاريخه الكبير الذي سماه " الكامل " في سنة ثمان وخمسين وخمسمائة (2) أن نور الدين المذكور نزل في البقيعة تحت حصن الكراد في السنة المذكورة محاصراً لحصن الأكراد، وعازماً على قصد طرابلس وهو في جميع عساكره، فاجتمع من الفرنج خلق كثير وكبسوهم في النهار والمسلمون في غفلة عنهم، فلم يتمكنوا   (1) ق ر لي بر من: مقطعه. (2) الكامل 11: 295 - 296. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 187 من الاستعداد لهم وهربوا منهم، ونجا نور الدين بنفسه وهي وقعة مشهورة معروفة، ونزل على بحيرة قدس بالقرب من حمص، وبينه وبين الفرنج مقدار أربعة فراسخ، فسير إلى حلب وبقية البلاد وأحضروا الأموال الكثيرة وأنفقها ليقوى جيشه ثم يعود إليهم فيستوفي الثار، فقال له بعض أصحابه: إن في بلادك إدرارات وصدقات وصلات كثيرة على الفقهاء والصوفية والقراء، ولو استعنت بها في هذا الوقت لكان أصلح، فغضب من ذلك غضباً شديداً وقال: إني لا أرجو النصر إلا بأولئك، فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم، كيف أقطع صلات قوم يقاتلون عني وأنا نائم على فراشي بسهام لا تخطئ، وأصرفها إلى من لا يقاتل عني إلا بسهام قد تصيب وتخطئ وهؤلاء القوم لهم نصيب في بيت المال فكيف يحل ان أعطيه غيرهم (1) . وكان أسمر اللون طويل القامة حسن الصورة، ليس بوجهه شعر سوى ذقنه. (245) وكان قد عهد بالملك إلى ولده الملك الصالح عماد الدين إسماعيل وعمره يوم مات أبوه إحدى عشرة سنة، فقام بالأمر من بعده، وانتقل من دمشق إلى حلب ودخل قلعتها يوم الجمعة مستهل المحرم سنة سبعين وخمسمائة، وخرج السلطان صلاح الدين من مصر، وملك دمشق وغيرها من بلاد الشام، ولم يبق عليه سوى مدينة حلب، ولم يزل الصالح بها إلى أن توفي يوم الجمعة الخامس والعشرين من رجب سنة سبع وسبعين وخمسمائة، وذكروا أنه لم يبلغ عشرين سنة، والله أعلم. وكان مبدأ مرضه في تاسع شهر رجب من السنة المذكورة، وحدث له قولنج في مستهل جمادى الأولى، وكان لموته وقع عظيم في قلوب الناس، وتأسفوا عليه لأنه كان محسناً محمود السيرة، ودفن في المقام الذي في القلعة، ثم نقل إلى رباطه المعروف به تحت القلعة، وهو مشهور هناك، رحمه الله تعالى. (246) وتوفي مجير الدين أبق (2) المذكور في سنة أربع وستين وخمسمائة ببغداد،   (1) لم ترد في النسخ، وإنما أثبتها وستنفيلد. (2) راجع أخبار مجير الدين في ذيل تاريخ دمشق لابن القلانسي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 188 ودفن في داره، كذا وجدته في بعض المسودات التي بخطي، والله أعلم، ومولده يوم الجمعة ثامن شعبان سنة أربع وثلاثين وخمسمائة ببعلبك، والله تعالى أعلم. (1) 716 مروان بن أبي حفصة أبو السمط - وقيل أبو الهندام - مروان بن أبي حفصة سليمان بن يحيى ابن أبي حفصة يزيد، الشاعر المشهور؛ كان جده أبو حفصة مولى مروان بن الحكم بن أبي العاصي الموي، فأعتقه يوم الدار، لأنه أبلى يومئذ، فجعل عتقه جزاءه، وقيل إن أبا حفصة كان يهودياً طبيباً أسلم على يد مروان بن الحكم ويزعم أهل المدينة أنه كان من موالي اسموأل بن عادياء اليهودي المشهور بالوفاء صاحب القصة المشهورة مع امرئ القيس بن حجر الشاعر المشهور، وأن أبا حفصة سبي من اصطخر وهو غلام فاشتراه عثمان رضي الله عنه، ووهبه لمروان بن الحكم. ومروان بن أبي حفصة الشاعر المذكور من أهل اليمامة، وقدم بغداد ومدح المهدي وهارون الرشيد، وكان يتقرب إلى الرشيد بهجاء العلويين، ومروان المذكور من الشعراء المجيدين، والفحول المقدمين. حكى ابن سيف (2) عن أبي خليفة عن ابن سلام قال: لما أنشد مروان بن أبي حفصة المهدي قصيدته التي يقول فيها: إليك قسمنا النصف من صلواتنا ... مسير شهر بعد شهر نواصله   (1) ترجمته في الفهرست: 160 والأغاني 10: 74 ومعجم المرزباني: 396 والشعر والشعراء: 649 وتاريخ بغداد 13: 142 وصفحات من أمالي المرتضى، والفلاكة: 80 والموشح: 251 وطبقات ابن المعتز: 42 ومطالع البدور 1: 73 والشذرات 1: 301. (2) وستنفيلد: ابن يوسف. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 189 فلا نحن نخشى أن يخيب رجاؤنا ... لديك ولكن أهنأ العيش عاجله فقال له المهدي، قف بحيث أنت، كم قصيدتك هذه من بيت قال: سبعون بيتاً، قال: فلك سبعون ألفاً، لا تتم إنشادك حتى يحضر المال، فأحضر المال، فأنشد القصيدة وقبضه وانصرف (1) وذكره أبو العابس بن المعتز في كتاب " طبقات الشعراء " فقال في حقه (2) : وأجود ما قاله مروان قصيدته الغراء اللامية، وهي التي فضل بها على شعراء زمانه، يمدح فيها معن بن زائدة الشيباني، ويقال إنه أخذ منه عليها مالاً كثيراً لا يقدر قدره، ولم ينل أحد من الشعراء الماضين ما ناله مروان بشعره، فمما ناله ضربة واحدة ثلثمائة ألف درهم من بعض الخلفاء بسبب بيت واحد؛ انتهى كلام ابن المعتز. والقصيدة اللامية طويلة تناهز الستين بيتاً ولولا خوف الإطالة لذكرتها، ولكن نأتي ببعض مديحها وهو في أثنائها (3) : بنو مطر يوم اللقاء كأنهم ... أسود لهم في بطن خفان أشبل هم يمنعون الجار حتى كأنما ... لجارهم بين السماكين منزل تجنب " لا " في القول حتى كأنه ... حرام عليه قول " لا " حين يسأل تشابه يوماه علينا فأشكلا ... فلا نحن ندري أي يوميه أفضل أيوم نداه الغمر أم يوم بؤسه ... وما منهما إلا أغر محجل بهاليل في الإسلام سادوا ولم يكن ... كأولهم في الجاهلية أول هم القوم إن قالوا أصابوا، وإن دعوا ... أجابوا، وإن أعطوا أصابوا وأجزلوا وما يستطيع الفاعلون فعالهم ... وإن أحسنوا في النائبات وأجملوا تلاث بأمثال الجبال حبالهم (4) ... وأحلامهم منها لدى الوزن أثقل   (1) زيادة من لي بر، وردت عند وستنفيلد. (2) طبقات الشعراء: 51 وفيه اختلاف عما أورده المؤلف. (3) انظر المصدر السابق: 43. (4) لي: جباهم؛ بر: خباهم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 190 هذا لعمري عز الدولة السحر الحلال المنقح لفظاً ومعنى، وحقه أن يفضل على شعراء عصره وغيرهم، وله في مدائح معن المذكور ومرائيه كل معنى بديع، وسيأتي شيء من ذلك في أخبار معن إن شاء الله تعالى. وحكى ابن المعتز أيضاً (1) عن شراحيل بن معن بن زائدة أنه قال: عرضت في طريق مكة ليحيى بن خالد البرمكي، وهو في قبة، وعديله القاضي أبو يوسف الحنفي وهما يريدان الحج، قال شراحيل: فإني لأسير تحت القبة إذ عرض له رجل من بني أسد في شارة حسنة، فأنشده شعراً، فقال له يحيى بن خالد في بيت منها: ألم أنهك عن مثل هذا البيت أيها الرجل ثم قال: يا أخا بني أسد، إذا قلت الشعر فقل كقول الذي يقول، وأنشده الأ بيات اللامية المقدم ذكرها، فقال له القاضي أبو يوسف، وقد أعجبته الأبيات جداً: من قائل هذه البيات يا أبا الفضل فقال يحيى: يقولها مروان بن أبي حفصة يمدح بها أبا هذا الفتى الذي تحت القبة، قال شراحيل: فرمقني أبو يوسف بعينيه وأنا راكب على فرس لي عتيق وقال لي: من أنت يا فتى حياك الله تعالي وقربك قلت: أنا شراحبيل بن معن بن زائدة الشيباني، قال شراحبيل: فوالله ما أتت علي ساعة قط كانت أقر لعيني من تلك الساعة ارتياحاً وسروراً. ويحكى أن ولداً لمروان بن أبي حفصة المذكور دخل على شراحبيل المذكور فأنشده: أبا شراحيل من معن بن زائدة ... يا أكرم الناس من عجم ومن عرب أعطي أبوك أبي مالاً فعاش به ... فأعطيني مثل نا أعطى أبوك أبي ما حل قط أبي أرضاً أبوك بها ... إلا وأعطاه قنطاراً من الذهب فأعطاه شراحيل قنطاراً من الذهب. ومما يقارب هذه الحكاية ما يروى عن أبي مليكة جرول بن أوس المعروف بالحطيئة الشاعر المشهور لما اعتقله عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، لبذاءة   (1) لم ترد هذه القصة في الطبقات. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 191 لسانه وكثرة هجوه الناس، كتب إليه من الاعتقال: ماذا تقول لأفراخ بذي مرخ ... حمر الحواصل لا ماء ولا شجر ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة ... فارحم عليك سلام الله يا عمر أنت الإمام الذي من بعد صاحبه ... ألقت إليك مقاليد النهي البشر ما آثروك بها إذا قدموك لها (1) ... لكن لأنفسهم قد كانت الأثر فأطلقه، وشرط عليه أن يكف لسانه عن الناس، فقال له: يا أمير المؤمنين اكتب لي كتاباً إلى علقمة بن علاثة لأقصده به، فقد منعتني التكسب بشعري وكان علقمة مقيماً بحوران، وهو من الأجواد المشهورين - قال ابن الكلبي في كتاب جمهرة النسب هو علقمة بن علاثة بن عوف بن ربيعة، ويقال له الأحوص لصغر عينيه، ابن جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوزان - وكان عمر، رضي الله عنه استعمله على حوران، فامتنع عمر رضي الله عنه من ذلك، فقيل له: با أمير المؤمنين وما عليك من ذلك علقمة ليس من عمالك (2) فتخشى من ذلك أن تأثم، وإنما هو رجل من المسلمين تشفع بك غليه. فكتب له بما أراد، فمضى الحطيئة بالكتاب، فصادف علقمة قد مات والناس منصرفون من قبره، وابنه حاضر، فوقف عليه ثم أنشد (3) : لعمري لنعم المرء من آل جعفر ... بحوران أمسى علقته الحبائل فإن تحي لا أملل حياتي، وإن تمت ... فما في حياة بعد موتك طائل وما كان بيني لو لقيتك سالماً ... وبين الغنى إلا ليال قلائل فقال له ابنه: كم ظننت أن علقمة كان يعطيك لو وجدته حياً فقال: مائة ناقة يتبعها مائة من أولادها، فأعطاه ابنه إياها.   (1) ق: إذ كنت موئلها. (2) قد مر قبل قليل أن عمر هو الذي استعمله على حوران. (3) ديوان الحطيئة: 216. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 192 والبيتان الأخيران من هذه الثلاثة وجدتهما في ديوان النابغة الذبياني، واسمه زياد بن معاوية بن جابر، من جملة قصيدة يرثي بها النعمان بن أبي شمر الغساني. وأخبار ابن أبي حفصة ونوادره ومحاسنه كثيرة، فلا حاجة إلى الإطناب بذكرها، وكانت ولادته سنة خمس ومائة. وتوفي سنة إحدى وثمانين ومائة ببغداد، ودفن بمقبرة نصر بن مالك الخزاعي، رحمه الله تعالى. (247) وحفيده مروان الأصغر (1) ، وهو أبو السمط مروان بن أبي الجنوب ابن مروان الأكبر المذكور، وكان من شعراء عصره المشاهير المقدمين، وذكر المبرد في كتاب " الكامل " (2) طرفاً من أخبار عبد الرحمن بن حسان بن ثابت الأنصاري ثم قال: ويروي أن عبد الرحمن المذكور لدغه زنبور فجاء أباه يبكي، فقال له: ما بك قال: لسعني طائر كأنه ملتف في بردي حبرة، فقال أبوه: قلت الشعر والله ثم قال بعد ذلك: وأعرق قوم كانوا في الشعر آل حسان، فإنهم كانوا يعدون ستة في نسق كلهم شاعر، وهم: سعيد بن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت بن المنذر بن حرام، وبعد هؤلاء في الوقت آل أبي حفصة: فإنهم أهل بيت كل واحد منهم شاعر يتوارثونه كابراً عن كابر (3) ، ويحيى ابن أبي حفصة كنيته أبو جميل، وأمه تحيا بنت ميمون، يقال إنها من ولد النابغة الجعدي، وإن الشعر أتي إلى أبي حفصة بذلك السبب، وكل واحد من هؤلاء كان يضرب بلسانه أرنبة أنفه، وهو دليل على الفصاحة والبلاغة، والله تعالى أعلم.   (1) ترجمة مروان الأصغر في معجم المرزباني: 321 وطبقات ابن المعتز: 392 وتاريخ بغداد 13: 153 والأغاني 12: 71، 23: 96. (2) الكامل للمبرد 1: 263. (3) إلى هنا انتهت الترجمة في لي بر من. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 193 (1) 717 مسلم صاحب الصحيح أبو الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم بن ورد بن كوشاذ القشيري النيسابوري صاحب الصحيح؛ أحد الأئمة الحفاظ وأعلام المحدثين، رحل إلى الحجاز والعراق والشام ومصر، وسمع يحيى بن يحيى النيسابوري وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهوية وعبد الله بن مسلمة القعنبي وغيرهم، وقدم بغداد غير مرة فروى عنه أهلها، وآخر قدومه إليها في سنة تسع وخمسين ومائتين، وروى عنه الترمذي وكان من التقات. وقال محمد الماسرجسي، سمعت مسلم بن الحجاج يقول: صنفت هذا المسند الصحيح من ثلثمائة ألف حديث مسموعة. وقال الحافظ أبو علي النيسابوري: ما تحت أديم السماء أصح من كتاب مسلم في علم الحديث. وقال الخطيب البغدادي: كان مسلم يناضل عن البخاري، حتى أوحش ما بينه وبين محمد بن يحيى الذهلي بسببه. وقال أبو عبد الله محمد بن يعقوب الحافظ: لما استوطن البخاري نيسابور أكثر مسلم من الاختلاف إليه، فلما وقع بين محمد بن يحيى والبخاري ما وقع في مسألة اللفظ، ونادى عليه، ومنع الناس من الاختلاف إليه، حتى هجر وخرج من نيسابور في تلك المحنة، قطعه أكثر الناس غير مسلم، فإنه لم يتخلف عن زيارته، فأنهي إلى محمد بن يحيى أن مسلم بن الحجاج على مذهبه قديماً وحديثاً وأنه عوتب على ذلك بالحجاز والعراق ولم يرجع عنه، فلما كان يوم مجلس محمد ابن يحيى قال في آخر مجلسه: ألا من قال باللفظ فلا يحل له أن يحضر مجلسنا، فأخذ مسلم الرداء فوق عمامته، وقام على روؤس الناس وخرج من مجلسه، وجمع   (1) ترجمته في تذكرة الحفاظ: 588 وتاريخ بغداد 13: 100 وطبقات الحنابلة 1: 337 والفهرست: 231 والمنتظم 5: 32 وتهذيب التهذيب 10: 126 والبداية والنهاية 11: 33 وعبر الذهبي 2: 23 والشذرات 2: 144. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 194 كل ما كان كتب منه وبعث به على ظهر حمال إلى باب محمد بن يحيى، فاستحكمت بذلك الوحشة وتخلف عنه وعن زيارته. وتوفي مسلم المذكور عشية يوم الأحد ودفن بنصر أباذ ظاهر نيسابور يوم الاثنين لخمس، وقيل لست، بقين من شهر رجب الفرد سنة إحدى وستين ومائتين بنيسابور، وعمره خمس وخمسون سنة. هكذا وجدته في بعض الكتب، ولم أر أحداً من الحفاظ يضبط (1) مولده ولا تقدير عمره، وأجمعوا أنه ولد بعد المائتين. وكان شيخنا تقي الدين أبو عمرو عثمان المعروف بابن الصلاح يذكر مولده، وغالب ظني أنه قال: سنة اثنتين ومائتين، ثم كشفت ما قاله ابن الصلاح فإذا هو في سنة ست ومائتين، نقل ذلك من كتاب " علماء الأمصار " تصنيف الحاكم أبي عبد الله بن البيع النيسابوري الحافظ، ووقعت على الكتاب الذي نقل منه، وملكت النسخة التي نقل منها أيضاً، وكانت ملكه، وبيعت في تركته ووصلت إلي وملكتها، وصورة ما قاله بإن مسلم بن الحجاج توفي بنيسابور لخمس بقين من شهر رجب الفرد سنة إحدى وستين ومائتين، وهو ابن خمس وخمسين سنة، فتكون ولادته في سنة ست ومائتين، والله أعلم، رحمه الله تعالى. وقد تقدم الكلام على القشيري صاحب الرسالة (2) فأغنى عن الإعادة. (248) وأما محمد بن يحيى المذكور فهو أبو عبد الله محمد بن يحيى بن عبد الله ابن خالد ابن فارس بن ذؤيب الذهلي النيسابوري، وكان أحد الحفاظ الأعيان، روى عنه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة القزويني، وكان ثقة مأموناً. وكان سبب الوحشة بينه وبين البخاري أنه لما دخل البخاري مدينة نيسابور شعث عليه محمد بن يحيى في مسألة خلق اللفظ، وكان قد سمع منه، فلم يمكنه ترك الرواية عنه، وروى عنه في الصوم والطب والجنائز والعتق وغير ذلك مقدار ثلاثين موضعاً، ولم يصرح بإسمه فيقول حدثنا محمد بن يحيى الذهلي، بل يقول: حدثنا محمد، ولا يزيد عليه، ويقول محمد بن عبد الله،   (1) لي: ولم أر من الحفاظ من يضبط. (2) زاد في بر: في ترجمة أبي القاسم التستري. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 195 فينسبه إلى جده وينسبه أيضاً إلى جد أبيه، وتوفي محمد المذكور سنة اثنتين، وقيل سبع، وقيل ثمان وخمسين ومائتين رحمه الله تعالى، والله أعلم. (1) 718 مسعود الطريثيثي أبو المعالي مسعود بن محمد بن مسعود بن طاهر النيسابوري الطريثيثي الفقيه الشافعي، الملقب قطب الدين؛ تفقه بنيسابور ومرو على أئمتها، وسمع الحيث من غير واحد، ورأى الاستاذ أبا نصر القشيري، ودرس بالمدرسة الناظمية بنيسابور نيابة عن الجويني. وكان قد قرأ القرآن الكريم والأدب على والده، وقدم بغداد ووعظ بها وتكلم في المسائل فأحسن، وقدم دمشق سنة أربعين وخمسمائة، ووعظ بها وحصل له قبول، ودرس بالمدرسة المجاهدية ثم بالزاوية الغربية من جامع دمشق بعد موت الفقيه أبي الفتح نصر الله المصيصي؛ وذكره الحافظ ابن عساكر في " تاريخ دمشق ". ثم خرج إلى حلب وتولى التدريس مدة في المدرستين اللتين بناهما له نور الدين محمود وأسد الدين شيركوه، ثم مضى إلى همذان وتولى التدريس بها، ثم رجع إلى دمشق ودرس بالزاوية الغرية وحدث، وتفرد برئاسة أصحاب الشافعي رضي الله عنه. وكان عالماً صالحاً (2) ، صنف كتاب " الهادي " في الفقه، وهو مختصر نافع لم يأت فيه إلا بالقول الذي عليه الفتوى، وجمع للسلطان صلاح الدين عقيدة تجمع جميع ما يحتاج إليه في أمور دينه، وحفظها أولاده الصغار حتى تترسخ في   (1) ترجمته في طبقات السبكي 4: 309 ومرآة الزمان: 372 وعبر الذهبي 4: 235 والشذرات 4: 263. (2) لي بر من: صالحاً ورعاً. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 196 أذهانهم من الصغر، قال بهاء الدين ابن شداد في " سيرة السلطان " (1) : ورأيته - يعني السلطان - وهو يأخذها عليهم، وهو يقرؤونها بين يديه من حفظهم. وكان متواضعاً قليل التصنع. مطرحاً للتكليف؛ وكانت ولادته سنة خمس وخمسمائة، في الثالث عشر من شهر رجب الفرد (2) ؛ وتوفي في آخر يوم من شهر رمضان المعظم، سنة ثمان وسبعين وخمسمائة بدمشق، وصلي عليه يوم العيد، وكان نهار (3) الجمعة، ودفن بالمقبرة التي أنشأها جوار مقبر الصوفية غربي دمشق، وزرت قبره غير مرة، رحمه الله تعالى. وكان والده من طريثت، وقد تقدم الكلام عليها في ترجمة عميد الملك الكندري فلا حاجة إلى إعادته، وهي من نواحي نيسابور (4) . وقال بعض أصحابه: أنشدنا الشيخ قطب الدين لبعضهم: يقولون إن الحب كالنار في الحشا ... ألا كذبوا فالنار تذكو وتخمد وما هي إلا جذوة مس عودها ... ندى فهي لا تخبو ولا تتوقد والله تعالى أعلم بالصواب. (5) 719 الشريف البياضي الشاعر الشريف أبو جعفر مسعود بن عبد العزيز بن المحسن بن الحسن بن عبد الرزاق البياضي، الشاعر المشهور، هكذا وجدته بخط بعض الحفاظ المتقينن، ورأيت   (1) انظر سيرة صلاح الدين: 7 وفيها: وهم يقرءونها من حفظهم بين يديه. (2) ق: من ربيع الآخر أو رجب. (3) ق: يوم. (4) انتهت الترجمة هنا في بر من لي. (5) ترجمته في تاريخ ابن الأثير 10: 88، 89 ودمية القصر: 87 والشذرات 3: 331 وله شعر في تاريخ الدولة السلجوقية: 69. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 197 في أول ديوانه أنه أبو جعفر مسعود بن المحسن بن العباس بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم القرشي الهاشمي، والله أعلم بالصواب. وهو من الشعراء الممجيدين في المتأخرين، وديوان شعره صغير، وهو في غاية الرقة، وليس فيه من المدائح (1) إلا اليسير، فمن أحسن شعره قصديته القافية التي أولها: إن غاض دمعك والركاب تساق ... مع ما بقلبك فهو منك نفاق لا تحبسن ماء الجفون فإنه ... لك يا لديغ هواهم ترياق واحذر مصاحبة العذول فإنه ... مغر، وظاهر عذله إشفاق لا يبعدن زمن مضت أيامه ... وعلى متون غصونها أوراق أيام نرجسنا العيون ووردنا ال ... غض الخدود (2) وخمرنا الأرياق ولنا بزوراء العراق مواسم ... كانت تقام لطيبها أسواق فلئن بكت عيني دماً شوقاً إلى ... ذاك الزمان فمثله يشتاق ومنها: أين الأغيلمة الأولى لولاهم ... ما كان طعم هوى الملاح يذاق وكأنما أرماحهم بأكفهم ... أجسامهم ونصولها الأحداق شنوا الإغارة في القلوب بأعين ... لا يرتجى لأسيرها إطلاق واستعذبوا ماء الجفون فعذبوا ال ... أسراء حتى درت الآماق ونمى الحديث بأنهم نذروا دمي ... أو لي دم يوم الفراق يراق وله، وهو مما يغني به: كيف يذوي عشب أشوا ... قي ولي طرف مطير إن يكن في العشق حر ... فأنا العبد الأسير   (1) لي بر من: المديح؛ ر: مدائح. (2) بر من: عض الخدود. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 198 أو على الحسن زكاة ... فأنا ذاك الفقير وله وكتبها على مروحة: وارحمتا لي أن حللت بمجلس ... إن لحنوا فيه يكون كسادي (1) وله أيضاً: يا ليلة بات فيها البدر معتنقي ... إلى الصباح بلا خوف ولا حذر كلامه الدر يغني عن كواكبها ... ووجهه عوض فيها عن القمر فبينما أنا أرعي في محاسنه ... سمعي وطرفي إذ أنذرت بالسحر ولم يكن عيبها إلا تقاصرها ... وأي عيب لها أشنى من القصر وودت لو أنها طالت علي ولو ... أمددتها بسواد القلب والبصر والبيت الأخير منها ينظر إلى قول أبي العلاء بن سليمان المعري، وهو (2) : يود أن ظلام الليل دام له ... وزيد فيه سواد القلب والبصر وشعره كله على هذا الأسلوب، وقد تقدم له بيتان في ترجمة صر در الشاعر. وتوفي الباضي المذكور يوم الثلاثاء سادس عشر ذي القعدة سنة ثمان وستين وأربعمائة ببغداد، ودفن بمقبرة باب أبرز. وإنما قيل له البياضي لأن أحد أجداداه كان في مجلس بعض الخلفاء مع جماعة من العباسيين، وكانوا قد لبسوا سواداً، ما عداه، فإنه كان قد لبس بياضاً فقال الخليفة: من ذلك البياضي فثبت الإسم عليه واشتهر به. وذكر ابن الجوزي في كتاب " الألقاب " أن صاحب هذه الواقعة هو محمد ابن عيسى بن محمد بن عبد الله بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب، رضي الله عنهم أجمعين، وهو الذي يقال له البياضي. ورأيت بخط أسامة بن منقذ - المقدم ذكره - أن الذي لقبه بهذا اللقب هو الخليفة الراضي بالله، والله تعالى أعلم.   (1) زيادة من: لي بر من، ثابتة عند وستنفيلد. (2) شروح السقط: 119. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 199 (1) 720 غياث الدين السلجوقي أبو الفتح مسعود بن محمد بم ملكشاه بن ألب أرسلان السلجوقي، الملقب غياث الدين، أحد ملوك (2) السلجوقية المشاهير وقد تقدم ذكر والده وأخيه محمود وجماعة من أهل بيته. كان مسعود المذكور قد سلمه والده في سنة خمس وخمسمائة إلى الأمير مودود ابن التوتكين وجعله صاحب الموصل ليربيه، فلما قتل مودود في سنة سبع وخمسمائة وتولى الأمير آق سنقر البرسقي - المذكور في حرف الهمزة - مكانه سلمه والده إليه أيضاً، ثم أرسله من بعده إلى جيوش بك (3) أتابك الموصل أيضاً. فلما توفي والده وتولى موضعه ولده محمود - المقدم ذكره - أخذ جيوش بك يحسن لمسعود المذكور الخروج على أخيه محمود وأطعمه في السلطنة، ولم يزل على ذلك حتى جمع العساكر واستكثر منها، وقصد أخاه، والتقيا بالقرب من همذان في ربيع الأول سنة أربع عشرة (4) وخمسمائة، وكان النصر لمحمود، وقتل في هذه الواقعة الأستاذ أبو إسماعيل الطغرائي - وقد سبق شيء من خبره في حرف الحاء. ثم انتقلت الأحوال وتقلبت بمسعود المذكور واستقل بالسلطنة سنة ثمان وعشرين وخمسمائة، ودخل بغداد، واستوزر شرف الدين أنو شروان بن خالد   (1) أخباره في تاريخ الدولة السلجوقية وابن الأثير (ج 10، 11) وابن خلدون 5: 45 والسلوك 1: 34 والباهر (صفحات مختلفة) ومرآة الزمان: 214 والمنتظم 10: 151 وعبر الذهبي 4: 127 والشذرات 4: 145. (2) لي: الملوك. (3) لي: حوس بك؛ بر: خوش بك؛ ر: جيوش بك. (4) لي: ثلاث عشرة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 200 القاشاني الذي كان وزير المسترشد، وقد تقدم ذكره في ترجمة الحريري صاحب المقامات؛ وكان سلطاناً عادلاً لين الجانب كبير النفس، فرق مملكته على أصحابه، ولم يكن له من السلطنة غير الاسم، وكان حسن الأخلاق كثير المزاح والانبساط مع الناس، فمن ذلك أن أتابك زنكي صاحب الموصل أرسل إليه القاضي كمال الدين محمد بن عبد الله بن القاسم الشهرزوري في رسالة، فوصل إليه وأقام معه في العسكر، فوقف يوماً على خيمة الوزير حتى قارب أذان امغرب فعاد إلى خيمته وأذن المغرب وهو في الطريق، فرأى إنساناً فقيهاً في خيمة، فنزل إليه فصلى معه، فسأله كمال الدين من أين هو فقال: أنا قاضي مدنية كذا، فقال له كمال الدين: القضاة ثلاثة: قاضيان في النار وهو أنا وأنت، وقاض في الجنة وهو من لا يعرف أبواب هؤلاء الظلمة ولا يراهم. فلما كان من الغد أرسل السلطان وأحضر كمال الدين، فلما دخل عليه ورآه ضحك وقال: القضاة ثلاثة، فقال كمال الدين: نعم يا مولانا، فقال: والله صدقت، ما أسعد من لا يرانا ولا نراه، ثم أمر به فقضيت حاجته وأعاده من يومه. ومن ذلك أنه اجتاز يوماً في بعض أطراف بغداد فسمع امرأة تقول لأخرى: تعالي انظري إلى السلطان، فوقف وقال: يقف حتى تجيء هذه الست تنظر إلينا. وله مناقب كثيرة (1) وكان مع لين جانبه ما ناوأه أحد وظفر به، وقتل من الأمراء الأكابر خلقاً كثيراً، ومن جملة من قتل الخليفتان المسترشد بالله والراشد لأنه كان قد وقع بينه وبين الخليفة المسترشد وحشة قبل استقلاله في السلطنة، فلما استقل استطال نوابه على العراق، وعارضوا الخليفة في أملاكه، فقويت الوحشة بينهما، وتجهز المسترشد وخرج لمحارتبه، وكان السلطان مسعود بهمذان، فجمع جيشاً عظيماً وخرج للقائه، وتصافا بالقرب من همذان فكسر عسكر الخليفة، وأسر هو وأرباب دولته، وأخذه السلطان مسعود مأسوراً وطاف به بلاد أذربيجان، وقتل على باب المراغة، حسبما شرحناه في ترجمة دبيس بن صدقة، وهو الذي خلع الراشد وأقام المقتفي كما هو مشهور.   (1) ما بين معقفين انفردت به لي من، وهو وارد عند وستنفيلد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 201 ثم أقبل مسعود على الاشتغال باللذات والانعكاف على مواصلة وجوه الراحات، متكلاً على السعادة تعمل له ما يؤثره، إلى أن حدث له القيء وعلى الغثيان، واستمر به ذلك إلى أن توفي في حادي عشر جمادى الآخرة، سنة سبع وأربعين وخمسمائة، وقيل يوم الأربعاء، الثاني والعشرين من الشهر المذكور بهمذان ومات معه سعادة البيت السلجوقي فلم تقم له بعد راية يعتد بها ولا يلتفت إليها: فما كان قيس هلكه واحد ... ولكنه بنيان قوم تهدما (1) ودفن في مدرسة بناها (2) جمال الدين إقبال الخادم. وقال ابن الأزرق الفارقي في تاريخه: رأيت السلطان المذكور ببغداد، في السنة المذكورة، وسار إلى همذان ومات بباب همذان، وحمل إلى أصبهان رحمه الله تعالى، وقد تقدم شيء من خبره في ترجمة دبيس بن صدقة صاحب الحلة. ومولده يوم الجمعة، لثلاث خلون من ذي القعدة، سنة اثنتين وخمسمائة. ولما ولي السلطنة جرت بينه وبين عمه سنجر - المقدم ذكره - منازعة، ثم خطب له بعد عمه المذكور ببغداد، يوم الجمعة لاثنتي عشرة ليلة خلت من صفر سنة سبع وعشرين وخمسمائة والله أعلم.   (1) زيادة من لي، وردت عند وستنفيلد. (2) لي: مدرسته التي بناها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 202 (1) 721 عز الدين مسعود صاحب الموصل أبو الفتح وأبو المظفر، مسعود بن قطب الدين مودود بن عماد الدين زنكي ابن آق سنقر، أتابك صاحب الموصل، الملقب عز الدين - قد تقدم خبر جده وجد أبيه، وخبر ولده نور الدين أرسلان شاه وغيرهم من أهل بيته، وسيأتي ذكر أبيه في هذا الحرف إن شاء الله تعالى - ولما توفي والده قام بالملك ولده سيف الدين غازي - المقدم ذكره - أنه أكبر الإخوة، وكان قد خلف هذين الولدين، وعماد الدين زنكي صاحب سنجار المذكور عقيب ترجمة جده عماد الدين زنكي. وكان عز الدين المذكور مقدم الجيوش في أيام أخيه غازي؛ ولما خرج السلطان صلاح الدين من الديار المصرية بعد وفاة الملك العادل نور الدين محمود - المقدم ذكره - وأخذ دمشق وتقدم إلى حلب وحاصرها، خاف غازي منه، وعلم أنه قد استفحل أمره وعظم شأنه، واستشعر أنه متى استحوذ على الشام تعدى الأمر إليه، فجهز جيشاً عظيماً وقدم عليه أخاه عز الدين مسعوداً المذكور، وسار يريد لقاء السلطان، وضرب المصاف معه ليرده على البلاد فلما بلغ السلطان خروجه رحل عن حلب، وذلك في مستهل رجب الفرد سنة سبعين وخمسمائة، وسار إلى حمص وأخذ قلعتها. وكان قد أخذ البلد في جمادى الأولى من السنة المذكورة بعد خروجه من دمشق قاصداً حلب، ووصل عز الدين مسعود إلى حلب لينجد ابن عمه الملك الصالح إسماعيل ابن نور الدين، صاحب حلب. هذا كان في الصورة الظاهرة، وفي الباطن كان غرضهم ما ذكرناه من   (1) أخباره في الباهر: 181 - 189 والكامل (ج 11، 12) والنجوم الزاهرة 6: 136 وعبر الذهبي 5: 269 والشذرات 4: 297. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 203 خوفهم على بلادهم، فانضم إلى عز الدين مسعود عسكر حلب وخرج في جمع كثير. ولما عرف السلطان مسيرهم سار حتى وافاهم على قرون حماة، وراسلهم وراسلوه، واجتهد في أن يصالحوه فلم يفعلوا، ورأوا أن ضرب المصاف معه ربما نالوا به الغرض الأكبر والمقصود الأوفر، والقضاء يجر إلى أمور لا يشعرون بها، فقام المصاف بين العسكرين، وقضى الله تعالى أن انكسر جيش عز الدين وأسر السلطان جماعة من أمرائه ثم أطلقهم، وذلك يوم الأحد التاسع عشر من شهر رمضان المعظم من السنة المذكورة، وهذه الواقعة من الوقائع المشهورة. ثم سار السلطان عقيب الكسر إلى حلب ونزل عليها، وهي الدفعة الثانية، فصالحه الملك الصالح إسماعيل على أخذ المعرة وكفرطاب وبارين ثم رحل عنها. وشرح ذلك يطول، وتتمة هذه القضية مذكورة في ترجمة أخيه سيف الدين غازي. ولما توفي أخوه سيف الدين في التاريخ المذكور في ترجمته، استقل عز الدين المذكور بالملك من بعده، ولم يزل إلى أن حضرت الملك الصالح إسماعيل بن نور الدين الوفاة - في التاريخ المذكور في ترجمة أبيه نور الدين - فأوصى بمملكة حلب وما معها لابن عمه عز الدين مسعود المذكور، واستخلف له المراء والأجناد، فلما توفي وبلغ الخبر عز الدين مسعوداً، بادر متوجهاً إليها خوفاً من صلاح الدين أن يسبقه فيأخذه، وكان وصوله إليها في العشرين من شعبان سنة سبع وسبعين وخمسمائة، وصعد القلعة واستولى على ما بها من الخزائن والحواصل، وتزوج أم الملك الصالح في خامس شوال من السنة، وأقام بها إلى سادس عشر شوال. ثم علم أنه لا يمكنه حفظ الشام والموصل، وخاف من جانب صلاح الدين، وألح عليه الأمراء في طلب الزيادات، وتبسطوا عليه في المطالب (1) ، وضاق عنهم عطنه. وكان المستولي على أمره مجاهد الدين قايماز الزيني - المقدم ذكره في حرف القاف - فرحل عن حلب وخلف بها مظفر الدين ولده، ومظفر   (1) لي: الطلب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 204 الدين بن زين الدين صاحب إربل - المذكور في حرف الكاف؛ ولما وصل إلى الرقة لقيه بها أخوه عماد الدين زنكي صاحب سنجار، فقرر معه مقايضة حلب بسنجار وتحالفا على ذلك، وسير عماد الدين من يتسلم حلب، وسير عز الدين من يتسلم سنجار. وفي ثالث عشر المحرم سنة ثمان وسبعين وخمسمائة، صعد عماد الدين إلى قلعة حلب، وكان قد تقرر الصلح بين عز الدين المذكور وابن عمه الملك الصالح، وبين صلاح الدين، على يد قليج أرسلان صاحب الروم، وصعد السلطان صلاح الدين إلى الديار المصرية، واستناب بدمشق ابن أخيه عز الدين فروخ شاه بن شاهان شاه بن أيوب، فلما بلغه خبر وفاة الملك الصالح وهذه الأمور المتجددة عاد إلى الشام. وكان وصوله إلى دمشق في سابع عشر صفر سنة ثمان وسبعين، وبلغه بها أن رسول عز الدين مسعود وصل إلى الفرنج يحثهم على قتال السلطان ويبعثهم على قصده، فعلم أنه قد غدر به ونكث اليمين، فعزم على قصد حلب والموصل وأخذ في التأ هب للحرب، فبلغ عماد الدين صاحب حلب ذلك، فسير إلى أخيه صاحب الموصل يعلمه ذلك ويستدعي منه العساكر. فسار السلطان صلاح الدين من دمشق ونزل على حلب، في ثاني عشر جمادى الأولى سنة ثمان وسبعين وخمسمائة، وأقام عليها ثلاثة أيام. ثم رحل في الحادي والعشرين من الشهر، ثم جاءه مظفر الدين بن زين الدين صاحب إربل، وكان يوم ذلك في خدمة صاحب الموصل وهو صاحب حران، وكان قد استوحش من عز الدين مسعود صاحب الموصل وخاف من مجاهد الدين قايماز الزيني - المذكور في حرف القاف - فالتجأ إلى السلطان صلاح الدين وقطع الفرات وعبر إليه، وقوى عزمه على قصد بلاد الجزيرة وسهل أمرها عليه، فعبر السلطان صلاح الدين الفرات، وأخذ الرها والرقة ونصيبين وسروج، ثم أشحن (1) على بلاد الخابور وأقطعها، وتوجه إلى الموصل، ونزل عليها يوم الخميس حادي عشر رجب سنة ثمان وسبعين وخمسمائة ليحاصرها، فأقام أياماً، وعلم أنه بلد عظيم لا يتحصل منه شيء بالمحاصرة، وان طريق أخذه أخذ قلاعه   (1) ن ر لي بر من: شحن. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 205 وبلاده وإضعاف أهله على طول الزمان، فرحل عنها ونزل على سنجار في سادس عشر شعبان من السنة، وأخذها في ثاني شهر رمضان المعظم، وأعطاها لابن أخيه الملك المظفر تقي الدين عمر - المقدم ذكره - وشرح ذلك يطول. وخلاصة الأمر أنه رجع إلى الشام فكان وصوله إلى حران في أول ذي القعدة ثم عاد إلى منازلة الموصل، وكان وصوله إليها في أول شهر ربيع الأول سنة إحدى وثمانين، ونزلت إليه والدة عز الدين ومعها جماعة من نساء بني أتابك وابنه نور الدين أرسلان شاه بن مسعود - وقد سبق ذكره في حرف الهمزة - وطلبت منه المصالحة، فردها خائبة ظناً منه أن عز الدين أرسلها عجزاً عن حفظ الموصل، واعتذر بأعذار ندم عليها بعد ذلك، وبذل أهل الموصل نفوسهم في القتال لكونه رد النساء والولد بالخيبة، فأقام عليها إلى أن أتاه خبر وفاة شاه أرمن ناصر الدين محمد بن إبراهيم بن سكمان القطبي صاحب خلاط، وقيام مملوكه بكتمر بالأمر من بعده، وطمع في خلاط، وقرر معه تسليمها إليه وأن يعوضه عنها ما يرضيه. وكانت وفاة شاه أرمن يوم الخميس تاسع شهر ربيع الآخر من السنة المذكورة. فرحل السلطان صلاح الدين عن الموصل لهذا السبب في العشرين من الشهر المذكور وتوجه نحو خلاط، وفي مقدمته مظفر الدين صاحب إربل وهو يوم ذاك صاحب حران وناصر الدين محمد بن أسد الدين شيركوه وهو ابن عم صلاح الدين، فنزلوا بالطوانة، البليدة التي هي بالقرب من خلاط، وسير الرسل إلى بكتمر لتقرير القاعدة، فوصلت الرسل إليه وشمس الدين بهلوان بن الذكر (1) صاحب أذربيجان وعراق العجم قد قرب من خلاط ليحاصرها، فبعث إليه بكتمر يعرفه أنه إن لم يرجع عنه وإلا سلم البلاد إلى السلطان صلاح الدين فصالحه وزوجه ابنته ورجع عنه، وسير بكتمر إلى السلطان صلاح الدين يعتذر عما قاله من تسليم خلاط، وكان السلطان قد نزل على ميافارقين يحاصرها، فقاتلها قتالاً شديداً، ثم أخذها عن صلح بالخديعة في التاسع والعشرين من   (1) ر: الدكن، ن بر من: الذكر؛ ق لي: الذكز؛ ولعل الصواب ((الدكز)) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 206 جمادى الأولى من السنة المذكورة، وكان صاحبها قطب الدين ايغازي بن البي بن كرماس (1) بن غازي (2) بن أرتق، فمات وتركها لولده حسام الدين بولق أرسلان، وهو طفل صغير، فطمع في أخذها من واليها فأخذها. ولما أيس السلطان من خلاط عاد إلى الموصل، وهي الدفعة الثالثة، ونزل بعيداً عنها بموضع يقال له كفر زمار، فأقام به مدة، وكان الحر شديداً، فمرض السلطان مرضاً شديداً أشفى على الموت، فرحل طالباً حران في مستهل شوال من السنة. ولما علم عز الدين مسعود المذكور بمرض السلطان وأنه رقيق القلب، انتهز الفرصة وسير القاضي بهاء الدين بن شداد - الآتي ذكره إن شاء الله تعالى في حرف الياء - ومعه بهاء الدين الربيب، فوصلا إلى حران في الرسالة والتماس الصلح، فأجاب إلى ذلك، وحلف يوم عرفة من السنة وقد تماثل للصحة، ولم يتغير عن تلك اليمين إلى أن مات رحمه الله تعالى، ثم رحل إلى الشام. وأمن حينئذ عز الدين مسعود وطابت نفسه، ولم يزل على ذلك إلى أن توفي في السابع والعشرين من شعبان سنة تسع وثمانين وخمسمائة بعلى الإسهال. وكان قد بنى بالموصل مدرسة كبيرة وقفها على الفقهاء الشافعية والحنفية، فدفن بهذه المدرسة في تربة هي بداخلها، رحمه الله تعالى؛ ورأيت المدرسة والتربة، وهي من أحسن المدارس والترب، ومدرسة ولده نور الدين أرسلان شاه في قبالتها، وبينهما ساحة كبيرة. ولما مات خلف ولده نور الدين المذكور - وقد تقدم ذكره في حرف الهمزة - ولما مات نور الدين - في التاريخ المذكور في ترجمته - خلف ولدين أحدهما الملك القاهر عز الدين أبو الفتح مسعود، والآخر الملك المنصور عماد الدين زنكي ولما حضرته الوفاة قسم البلاد بينهما، فأعطى الملك القاهر - وهو الأكبر - الموصل وأعمالها، وأعطى عماد الدين الشوش (3) والعقر وتلك النواحي.   (1) ق: كرماش؛ ر: كرقاس؛ ن: تمرتاش؛ وسقط النص من بر من. (2) ن: ايلغازي. (3) ق ر: التوش؛ ن: السوس. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 207 (249) فأما الملك القاهر فكانت ولادته في سنة تسعين وخمسمائة بالموصل، وتوفي بها فجأة ليلة الاثنين لثلاث بقين من شهر ربيع الآخر سنة خمس عشرة وستمائة، وكان قد بنى مدرسة أيضاً فدفن بها. (250) وأما عماد الدين فإنه أخذ بعد موت أخيه الملك القاهر قلعة العمادية، ثم أخذت منه، وهي من أحسن القلاع بجبل الهكارية من أعمال الموصل، وكذلك عدة قلاع مما يجاورها، وانتقل إلى إربل، وكان زوج ابنه مظفر الدين صاحب إربل، فأقام بها زماناً، وكنا في جواره، وكان من أحسن الناس صورة، ثم قبض عليه مظفر الدين لأمر يطول شرحه، وسيره إلى سنجار الملك الأشرف ابن الملك العادل - الآتي ذكره إن شاء الله تعالى - فأفرج عنه الملك الأشرف، وعاد إلى أربل، وقايضه مظفر الدين عن العقر بشهرزور وأعمالها، فانتقل إليها، وأقام إلى أن توفي في حدود سنة ثلاثين وستمائة، وخلف ولداً أقام بعده قليلاً ثم مات، رحمهما الله تعالى. ولما مات عز الدين مسعود بن أرسلان شاه خلف ولدين نور الدين أرسلان شاه، وكان سمي عليا في حياة جده أرسلان شاه، فلما مات جده نور الدين سموه باسمه، وناصر الدين محمد. (251) فتولى بعده نور الدين المذكور، وكان تقدير عمره عشر سنين، وبقي بعد أبيه قليلاً وتوفي في بقية السنة. (252) وتولى أخوه بعده ناصر الدين محمود، واملدبر لأمر المملكة بدر الدين لؤلؤ الذي ملك الموصل فيما بعد. (253) وتوفي بهلوان بن الذكر (1) المذكور، في سلخ ذي الحجة سنة إحدى وثمانين وخمسمائة، رحمه الله تعالى. (254) وتوفي والده شمس الدين الذكرالأتابك في أواخر شهر ربيع الآخر سنة سبعين وخمسمائة، بنقجوان، ودفن بها رحمه الله تعالى؛ وكان أتابك السلطان أرسلان شاه بن طغرلبك بن محمد بن ملكشاه بن محمد السلجوقي.   (1) الدكر؛ لي: الدكز. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 208 وبعد الذكر بمقدار شهر توفي أرسلان شاه المذكور بهمذان ودفن بها رحمه الله تعالى. (255) وقتل قزل بن الذكر المذكور في أوائل شعبان سنة سبع وثمانين وخمسمائة، وكان ملكاً كبيراً، وهو ابن الذكر المذكور، رحمهم الله تعالى أجمعين. والله تعالى أعلم بالصواب. (1) 722 مطرف الصنعاني أبو أيوب مطرف بن مازن، الكناني بالولاء، وقيل القيسي بالولاء، اليماني الصنعاني؛ ولي القضاء بصنعاء اليمن، وحدث عن عبد الملك بن عبد العزيز بن جريح وجماعة كثيرة، وروى عنه الإمام الشافعي رضي الله عنه، وخلق كثير. واختلفوا في روايته: فنقل عن يحيى بن معين أنه سئل عنه فقال: كذاب. وقال النسائي: مطرف بن مازن ليس بثقة. وقال السعدي (2) : مطرف بن مازن الصنعاني يتثبت في حدثه حتى يبلى ما عنده. وقال أبو حاتم محمد بن حبان البستي: مطرف بن مازن الكناني قاضي اليمن يروي عن معمر وابن جريح، روى عنه الشافعي وأهل العراق، وكان يحدث بما لم يسمع، ويروي ما لم يكتب عمن لم يره، ولا تجوز الرواية عنه إلا عند الخواص للإعتبار فقط. وقال حاجب ابن سليمان: كان مطرف بن مازن قاضي صنعاء وكان رجلاً صالحاً، وذكر عنه حكاية في إبراره قسم من أقسم على أمر شنيع يفعله به. وذكر أبو أحمد عبد الله بن عدي الجرجاني أحاديث من رواية مطرف بن مازن وقال: لمطرف غير   (1) ترجمته في ميزان الاعتدال 4: 125. (2) يريد عبد الله بن محمود السعدي محدث مرو، توفي سنة 302. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 209 ما ذكرت أفراد يتفرد بها عمن يرويها عنه، ولم أر فيما يرويه شيئاً (1) منكراً. وقال أبو بكر أحمد بن الحسين البهقي: أخبرنا أبو سعيد قال، حدثنا أبو العباس قال: أخبرنا الربيع قال الشافعي رضي الله عنه: وقد كان من حكام الآفاق من يستحلف على المصحف وذلك عندي حسن، وقال: وأخبرني مطرف بن مازن بإسناد لا أحفظه أن ابن الزبير أمر بأن يحلف على المصحف قال الشافعي؛ رضي الله عنه: ورأيت مطرفاً بصنعاء اليمن يحلف على المصحف، وقال غيره، قال الشافعي رضي الله عنه ورأيت ابن مازن - وهو قاضي صنعاء - يغلط باليمين بالمصحف. وتوفي مطرف المذكور بالرقة، وقيل بمنبج، وكانت وفاته في أواخر خلافة هارون الرشيد، وتوفي هارون الرشيد ليلة السبت لثلاث خلون من جمادى الآخرة سنة ثلاث وتسعين ومائة بطوس، وكانت ولايته يوم الجمعة لأربع عشرة ليلة بقيت من ربيع الأول سنة سبعين ومائة، رحمه الله تعالى. وهذا مطرف ليس من المشاهير الذين أحتاج إلى ذكرهم، والذي حملني على ذكره أن الشيخ أبا إسحاق الشيرازي، رحمه الله تعالى، ذكره في كتاب ذكره في كتاب " المهذب " في باب اليمين في الدعاوى في فصل التغليظ، فقال: " وإن حلف بالمصحف وما فيه من القرآن فقد حكى الشافعي رضي الله عنه عن مطرف أن ابن الزبير كان يحلف على المصحف، قال: ورأيت مطرفاً بصنعاء يستحلف على المصحف، قال الشافعي رضي الله عنه: وهو حسن " انتهى كلام صاحب " المهذب ". ورأيت الفقهاء يسألون عن مطرف المذكور ولا يعرفه أحد، حتى غلط فيه صاحبنا عماد الدين أبو المجد إسماعيل بن أبي البركات هبة الله بن أبي الرضى بن باطيش الموصلي الفقيه الشافعي في كتابه الذي وضعه على " المهذب " في أسماء رجاله والكلام على غريبه فقال: " مطرف بن عبد الله بن الشخير " ثم قال " وتوفي (2) سنة سبع وثمانين " يعني للهجرة، فيا لله العجب! شخص يموت في هذا التاريخ كيف يمكن أن يراه الشافعي رضي الله عنه ومولد الشافعي   (1) ق: متناً. (2) ق: بعد سنة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 210 سنة خمسين ومائة بعد موت ابن الشخير بثلاث وستين سنة، وما أدري كيف وقع هذا الغلط فلو أنه ما حكى تاريخ وفاته كان يمكن أن يقال: ظن أنه أدركه الشافعي. ولما انتهيت في هذه الترجمة إلى هذا الموضع رأيت في تاريخ أبي الحسين عبد الباقي بن قانع الذي جعله مرتباً على السنين أن مطرف بن مازن توفي سنة إحدى وتسعين ومائة، وهذا يوافق ما قاله الأول من أنه توفي في أواخر خلافة هارون الرشيد. والذي أفادني هذه الترجمة على الصورة المحكية في الأول هو الشيخ الحافظ زكي الدين أبو محمد عبد العظيم المنذري، نفع الله به. ومطرف: بضم الميم وفتح الطاء المهملة وتشديد الراء المكسورة وبعدها فاء. والباقي معروف فلا حاجة إلى ضبطه وتقييده. (256) وأما مطرف الذي ذكره عماد الدين فهو أبو عبد الله مطرف بن عبد الله بن الشخير (1) بن عوف بن كعب بن رقدان بن الحريش بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن منصور بن عكرمة بن حفصة بن قيس عيلان بن مضر بن معد بن عدنان، الحرشي، كان فقيهاً، وكان لوالده عبد الله صحبة، وكان مطرف من أعبد الناس وأنسكهم، فذكروا أنه وقع بينه وبين رجل منازعة، فرفع يديه، وكان ذلك في مسجد البصرة، وقال: اللهم إني أسألك ألا يقوم من مجلسه حتى تكفيني إياه، فلم يفرغ مطرف من كلامه حتى صرع الرجل فمات، وأخذ مطرف وقدموه إلى القاضي، فقال القاضي: لم يقتله، وإنما دعا عليه فأجاب الله دعوته، فكان بعد ذلك تتقى دعوته، ومات في سنة سبع وثمانين للهجرة وقيل غير ذلك (2) وقال ابن قانع: سنة خمس وتسعين، والله تعالى أعلم بالصواب.   (1) ترجمته في طبقات ابن سعد 7: 141 وتذكرة الحفاظ: 64 ورجال ابن حيان: 88. (2) زيادة من ق. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 211 723 - الواعظ الروزي أبو منصور المظفر بن أبي الحسين أزدشير بن أبي منصور العبادي، الواعظ المروزي الملقب قطب الدين، المعروف بالأمير؛ كان من أهل مرو، وله اليد الطولى في الوعظ والتذكير وحسن العبارة، ومارس هذا الفن من صغره إلى كبره، ومهر فيه حتى صار ممن يضرب به المثل في ذلك وصار عين ذلك العصر، وشهد له الكل بالفضل وحيازة قصب السبق. وقدم بغداد فأقام بها قريباً من ثلاث سنين يعقد له فيها مجالس الوعظ، ولقي من الخلق قبولاً تاماً، وحظي عند الإمام المقتفي لأمر الله، ثم خرج منها رسولاً إلى جهة السلطان سنجر بن ملك شاه السلجوقي - المقدم ذكره - فوصل إلى خراسان، ثم عاد إلى بغداد، وخرج منها إلى خوزستان في رسالة فمات بعسكر مكرم في سلخ ربيع الآخر يوم الخميس، وقيل الاثنين، سنة سبع وأربعين وخمسمائة، وحمل تابوته إلى بغداد، ودفن بها في الشونيزية في حظيرة الشيخ الجنيد بن محمد العبد الصالح، رضي الله عنه. ومولده في شهر رمضان سنة إحدى وتسعين وأربعمائة، وسمع الحد يث الكثير بنيسابور من أبي علي نصر الله بن أحمد بن عثمان الخشنامي وأبي عبد الله إسماعيل بن الاحفظ عبد الغافر الفارسي وغيرهما، وروي عنه الحافظ أبو سعد السمعاني، وقال عنه: كان صحيح السماع، ولم يكن موثوقاً به في دينه، رأيت منه أشياء، وطالعت بخطه رسالة جمعها في إباحة شرب الخمر، سامحه الله تعالى وعفا عنه. وكان والده أبو الحسين يعرف بالأمير أيضاً، وكان مليح الوعظ حسن السيرة توفي سنة نيف وتسعين وأربعمائة، رحمهما الله تعالى. والعبادي: بفتح العين المهملة وتشديد الباء الموحدة وبعد الألف دال مهملة هذه النسبة إلى سنج عباد، وهي قرية من قرى مرو. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 212 وسنج: بكسر السين المهملة وسكون النون وبعدها جيم؛ وبأعمال مرو أيضاً قرية كبيرة يقال لها سنج، منها الفقيه أبو علي النجي - وقد تقدم ذكره في حرف الحاء - وتكلمنا على سنج هناك، فلا يظن ظان أنهما موضع واحد، بل هما قريتان، وقد نبه على ذلك جماعة من أرباب هذا الفن. وأما أزدشير فقد تقدم الكلام على ضبطه في ترجمة الوزير سابور، فلا حاجة إلى إعادته، والله تعالى أعلم. (1) 724 موفق الدين العيلاني المصري أبو العز مظفر بن إبراهيم بن جماعة بن علي بن شامي (2) بن أحمد بن ناهض بن عبد الرزاق العيلاني، الحنبلي المذهب الملقب موفق الدين، الشاعر المشهور المصري؛ كان أديباً عروضياً شاعراً مجيداً، صنف في العروض مختصراً جيداً دل على حذقه فيه، وله ديوان شعر رائق (3) ، وكان ضريراً، فمن شعره: قالوا عشقت وأنت أعمى ... ظبياً كحيل الطرف ألمى وحلاه ما عاينتها ... فنقول قد شغفتك هما وخياله بك في المنا ... م فما أطاف ولا ألما من أين أرسل للفؤا ... د، وأنت لم تنظره، سهما ومتى رأيت جماله ... حتى كساك هواه سقما   (1) ترجمته في حاشية إنباه الرواه 3: 330 وفي الحاشية ثبت بمصادر أخرى. (2) ق: سامي. (3) زاد في ن: في غاية الرقة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 213 والعين داعية الهوى ... وبه تنم إذا تنمى] (1) وبأي جارحة وصل ... ت لوصفه نثراً ونظما فأجبت إني موسو ... ي العشق إنصاتاً وفهما أهوى بجارحة السما ... ع، ولا أرى ذات المسمى ولقد أذكرتني هذه الأبيات أبياتاً لرجل ضرير أيضاً، والشيء بالشيء يذكر، وهي هذه: وغادة قالت لأترابها ... يا قوم ما أعجب هذا الضرير أيعشق الإنسان ما لا يرى ... فقلت والدمع بعيني غزير: إن لم تكن عيني رأت شخصها ... فإنها قد مثلت في الضمير ومثل هذا أيضاً قول المهذب عمر بن محمد المعروف بابن الشحنة الموصلي الأديب الشاعر المشهور من جملة قصيدة طويلة مدح بها السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، والبيت المقصود قوله: وإني امرؤ أحببتكم لمكارم ... سمعت بها، والأذن كالعين تعشق وقد أخذ هذا المعنى من قول بشاربن برد الشاعر المقدم ذكره: يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة ... سمعت بها، والأذن تعشق قبل العين أحياناً (2) وكان الوزير صفي الدين أبو محمد عبد الله بن علي، عرف بابن شكر، قد عاد من الشام إلى مصر، فخرج أصحابه للقائه إلى الخشبي المنزلة المجاورة للعباسة، فكتب مظفر المذكور إليه هذه الأبيات، يعتذر من تأخره عن الخروج إليه وهي: قالوا إلى الخشبي سرنا على عجل ... نلقى الوزير جميعاً ذوي الرتب (3)   (1) زيادة من ر: ثابتة عند وستنفيلد. (2) ولقد أذكرتني ... أحياناً: لم ترد هذه الفقرة في لي بر من. (3) ق: النسب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 214 ولم تسر أيها الأعمى، فقلت لهم: ... لم أخش من تعب ألقى ولا نصب وإنما النار في قلبي لوحشته ... فخفت أجمع بين النار والخشب وهذا المعنى مطروق لكنه استعمله حسناً. وأخبرني أحد أصحابه أن شخصاً يقال له: رأيت في بعض تواليف أبي العلاء المعري ما صورته: أصلحك الله وأبقاك، لقد كان من الواجب أن تأتينا اليوم إلى منزلنا الخالي، لكي نحدث عهداً بك يا زين الأخلاء، فما مثلك من غير عهداً أو غفل؛ وسأله: من أي الأبحر هذا وهل هو بيت واحد أم أكثر فإن كان أكثر فهل أبياته على روي واحد أم هي مختلفة الروي قال: فأفكر فيه، ثم أجابه بجواب حسن، فلما قال لي المخبر ذلك قلت له: اصبر علي حتى أنظر فيه ولا تقل ما قاله، ثم أفكرت فيه فوجدته يخرج من بحر الرجز، وهو المجزوء منه، وتشتمل هذه الكلمات على أربع أبيات على روي الكلام، وهي على صورة يسوغ استعمالها عند العروضيين، ومن لا يكون له معرفة بهذا الفن فإنه ينكرها، لأجل قطع الموصول منها، ولا بد من الإتيان بها لتظهر صورة ذلك، وهي: أصلحك (1) الله وأب ... قاك لقد كان من ال واجب أن تأتينا الي ... وم إلى منزلنا ال خالي لكي نحدث عه ... داً بك يا زين الأخل لاء فما مثلك من ... غير عهداً أو غفل وهذا إنما يذكره أهل هذا الشأن للمعاياة، لا لأنه من الأشعار المستعملة، فلما استخرجته عرضته على ذلك الشخص فقال: هكذا قاله مظفر الأعمى. وقال الشيخ زكي الدين أبو محمد عبد العظيم بن عبد القوي المنذري المحدث المصري، رحمه الله تعالى، أخبرني الأديب موفق الدين مظفر الضرير الشاعر المصري أنه دخل على القاضي السعيد بن سناء الملك - قلت: وسيأتي ذكره إن   (1) ق لي ر: أكرمك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 215 شاء الله تعالى، واسمه هبة الله - قال: فقال لي: يا أديب، قد صنعت نصف بيت، ولي أيام أفكر فيه، ولا يأتي لي تمامه، فقلت: وما هو فأنشدني: بياض عذارى من سواد عذاره ... قال مظفر: فقلت: قد حصل تمامه وأنشدت: كما جل ناري فيه من جلناره ... فاستحسنه، وجعل يعمل عليه، فقلت في نفسي: أقوم وإلا يعمل المقطوع من كيسي (1) . وبالجملة فقد خرجنا عن المقصود، لكن الكلام يسوق بعضه بعضاً. [وكتب مظفر المذكور لتقي الدين، ومدحه جماعة هو منهم، فخلع على الجميع ولم يخلع عليه: العبد مملوك مولانا وخادمه ... مظفر الشاعر الأعمى حليف ضنى يقبل الأرض إجلالاً لمالكه ... رقاً، وينهي إليه بعد كل هنا أن القميص جميع الناس قد بصروا ... به وما منهم يعقوب غير أنا وله يوم رمي الشواني: يا أيها الملك المسرور آمله ... هذي شوانيك ترمي يوم سراء كأنما هي قعبان بها ظمأ ... طاردت من البحر وانقضت على الماء وله في يوم لعبها: مولاي هذه الشواني في ملاعبها ... مثل الشواهين بين السهل والجبل تسقي مجاذيفها ماء وتنفضه ... نفض العقاب جناحهيا من البلل وله يصف فانوس الجامع العتيق بمصر: أرى علماً للناس ينصب ... على جامع ابن العاص أعلاه كوكب   (1) وقال الشيخ ... كيسي: سقط من لي بر من. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 216 وما هو في الظلماء إلا كأنه ... على رمح زنجي سنان مذهب ومن عجب أن الثريا سماؤها ... مع الليل تلهي كل من يترقب فطوراً تحييه بباقة نرجس ... وطوراً يحييها بكاس تلهب وما الليل إلا قانص لغزالة ... بفانوس نار نحوها يتطلب ولم أر صيداً على البعد قبله ... إذا قربت منه الغزالة يهرب وشعره كثير] (1) . وكانت ولادة مظفر المذكور لخمس بقين من جمادى الآخرة سنة أربع وأربعين وخمسمائة بمصر. وتوفي بها سحر يوم السبت التاسع من المحرم سنة ثلاث وعشرين وستمائة، ودفن من الغد بسفح المقطم، رحمه الله تعالى. والعيلاني، بفتح العين المهملة وسكون الياء المثناة من تحتها وبعد اللام ألف نون، هذه النسبة إلى قيس عيلان، وقيل قيس بن عيلان بن مضر بن نزار بن عدنان، فمن قال إنه قيس علان فقد اختلفوا في عيلان ماذا فمنهم من قال: هو اسم فرس كان له فأضيف إليه، وقيل اسم كلب كان له، وقيل اسم رجل كان قد حضنه صغيراً، وإنما أضيف إلى عيلان لأنه كان في عصره شخص يقال له قيس كبة - بضم الكاف وتشديد الباء الموحدة - وهو اسم فرس كنت له أيضاً، فكان كل واحد منهما يضاف إلى ما له ليتميز عن الآخر، والله أعلم، وقد قيل إن قيس عيلان اسمه الناس - بالنون - وهو أخو إلياس - بالياء - جد النبي صلى الله عليه وسلم، والله أعلم بالصواب.   (1) زيادة من لي ر بر من، واردة عند وستنفيلد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 217 (1) 725 الهرا النحوي أبو مسلم معاذ بن مسلم الهرا النحوي الكوفي، من موالي محمد بن كعب القرظي؛ قرأ عليه الكسائي وروى الحديث عنه، وحكيت عنه في القراءات حكايات كثيرة، وصنف في النحو كثيراً، ولم يظهر له شيء من التصانيف، وكان يتشيع، وله شهر كشعر النحاة. وكان في عصره مشهوراً بالعمر الطويل، وكان له أولاد وأولاد أولاد، فمات الكل وهو باق. وحكى بعض كتابه قال: صحبت معاذ بن مسلم زماناً، فسأله رجل ذات يوم: كم سنك فقال: ثلاث وستون، قال: ثم مكث بعد ذلك سنين وسأله كم سنك فقال: ثلاث وستون، فقلت: أنا معك منذ إحدى وعشرين سنة، وكلما سألك أحد: كم سنك تقول: ثلاث وستون، فقال: لو كنت معي إحدى وعشرين سنة أخرى ما قلت إلا هذا. وقال عثمان بن أبي شيبة: رأيت معاذ بن مسلم الهرا، وقد شد أسنانه بالذهب من الكبر، وفيه يقول أبو السري سهل بن أبي غالب الخزرجي الشاعر المشهور (2) : إن معاذ بن مسلم رجل ... ليس لميقات عمره أمد قد شاب رأس الزمان واكتهل ... الدهر وأثواب عمره جدد قل لمعاذ إذا مررت به ... قد ضج من طول عمر الأمد يا بكر حواء كم تعيش وكم ... تسحب ذيل الحياة يا لبد قد أصبحت دار آدم خربت ... وأنت فيها كأنك الوتد   (1) ترجمته في نور القبس: 276 وعبر الذهبي 1: 298 وانباه الرواق 3: 288 (وانظر ممصادر أخرى في الحاشية) . (2) وردت في بعض المصادر المشار إليها، وانظر الحيوان 7: 51. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 218 تسأل غربانها إذا نعبت ... كيف يكون الصداع والرمد مصححاً كالظليم ترفل في ... بردك مثل السعير تتقد صاحبت نوحاً ورضت بغلة ... ذي القرنين شيخاً لولدك الولد فارحل ودعنا لأن غايتك الموت ... وغن شد ركنك الجلد قوله " تسحب ذيل الحياة يا لبد " فهذا لبد آخر نسور لقمان بن عاد، وكان لقمان قد سيره قومه - وهو عاد الذين ذكرهم الله تعالى في كتابه العزيز - إلى الحرم يستقي لها، فلما هلكت عاد خير لقمان بين أن يعيش عمر سبع بعرات سمر أو عمر سبعة أنسر، كلما هلك نسر خلف بعده نسر، فاختار النسور، فكان بأخذ الفرخ عند خرجه من البيضة فيربيه فيعيش ثمانين سنة، وهكذا، حتى هلك منها ستة، وبقي السابع فسمي لبداً، فلما كبر وعجز عن الطيران كان يقول له لقمان: انهض لبد، فلما هلك لبد مات لقمان، وقد ذكرت العرب لبداً في أشعارها كثيراً، فمن ذلك قول النابغة الذبياني: أضحت خلاء وأضحى أهلها احتملوا ... أخنى عليها الذي أخنى على لبد رجعنا إلى حديث معاذ (1) : لما مات بنوه وحفدته قال: ما يرتجي في العيش من قد طوى ... من عمره الذاهب تسعينا أفنى بنيه وبينهم فقد ... جرعه الدهر الأمرينا لا بد أن يشرب من حوضهم ... وإن تراخى عمره حينا وكان معاذ المذكور صديقاً للكمين بن زيد الشاعر المشهور؛ قال محمد بن سهل رواية الكميت: صار الطرماح الشاعر إلى خالد بن عبد الله القسري أمير   (1) قوله تسحب ... حديث معاذ: سقط من ر لي بر من. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 219 العراقيين وهو بواسط فامتدحه، فأمر له بثلاثين ألف درهم وخلع عليه حلي وشيء لا قيمة لهما (1) ، فبلغ ذلك الكميت، فعزم على قصده، فقال له معاذ الهرا: لا تفعل فلست كالطرماح، فإنه ابن عمه، وبينكما بون: أنت مضري وخالد يمني متعصب على مضر، وأنت شيعي وهو أموي، وأنت عراقي وهو شامي، فلم يقبل إشارته، وأبي إلا قصد خالد، فقصده، فقالت اليمانية لخالد: قد جاء الكميت وقد هجانا بقصيدة نونية فخر فيها علينا، فحبسه خالد وقال: في حبسه صلاح لأنه يهجو الناس ويتأكلهم، فبلغ ذلك معاذاً فغمه فقال: نصحتك والنصيحة إن تعدت ... هوى المنصوح عز لها القبول فخالفت الذي لك فيه رشد ... فغالت دون ما أملت غول فعاد خلاف ما تهوى خلافاً ... له عرض من البلوى طويل فبلغ الكميت قوله، فكتب إليه: أراك كمهدي الماء للبحر حاملاً ... إلى الرمل من يبرين متجراً رملا ثم كتب تحته: قد جرى علي القضاء فما الحيلة الآن فأشار عليه أن يحتال في الهرب، وقال له: إن خالداً قاتلك لا محالة، فاحتال بامرأته، وكانت تأتيه بالطعام وترجع، فلبس ثيابها وخرج كأنه هي، فلحق بمسلمة بن عبد الملك فاستجار به وقال: خرجت خروج القدح قدح ابن مقبل ... إليك على تلك الهزاهز والأزل علي ثياب الغانيات وتحتها ... عزيمة رأى أشبهت سلة النصل فكان ذلك سبب نجاته من خالد. وسأل شخص معاذاً عن مولده فقال: ولدت في أيام يزيد بن عبد الملك أو في أيام عبد الملك؛ وكان يزيد بن عبد الملك قد تولى بعد موت عمر بن عبد العزيز في شهر رجب سنة إحدى ومائة، وتوفي في شعبان سنة خمس ومائة،   (1) أي لا يمكن تقدير قيمتهما. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 220 فهذه المدة هي أيامه؛ وأما أبوه عبد الملك فإنه تولى بعد أبيه مروان في شهر رمضان المعظم سنة خمس وستين للهجرة ومات سنة ست وثمانين، فهذه مدته. وتوفي معاذ سنة تسعين ومائة وقيل في السنة التي نكبت فيها البرامكة وهي سنة سبع وثمانين ومائة، وهو الأصح، رحمه الله تعالى. وكان يكنى أبا مسلم، فولده له ولد سماه علياً فصار يكنى به. والهرا: بفتح الهاء وتشديد الرء وبعدها ألف مقصورة؛ وإنما قيل له ذلك لأنه كان يبيع الثياب الهروية فنسب إليها. (257) وأما أبو السري الشاعر صاحب الأبيات الدالية المذكورة فإنه نشأ بسجستان، وادعى رضاع الجن وأنه صار إليهم، ووضع كتاباً ذكر فيه أمر الجن وحكمتهم وأنسابهم وأشعارهم، وزعم أنع بايعهم للأمين بن هارون الرشيد ولي العهد فقربه الرشيد وابنه الأمين وزبيدة أم الأمين، وبلغ معهم، وأفاد منهم، وله أشعار حسان وضعها على الجن والشياطين والسعالي، وقال له الرشيد: إن كنت رأيت ما ذكرت لقد رأيت عبجباً، وإن كنت ما رأيته لقد وضعت أدباً، وأخباره كلها غريبة عجيبة، والله أعلم بالصواب. 726 - (1) ابن طرارا الجريري القاضي أبو الفرج المعافى بن زكريا بن يحيى بن حميد بن حماد بن داود المعروف بابن طرارا الجريري النهرواني؛ كان فقيهاً أديباً شاعراً، عالماً بكل فن، ولي القضاء ببغداد، بباب الطاقة نيابة عن ابن صبر القاضي، وروى عن جماعة من الأئمة، منهم أبو القاسم البغوي وأبو بكر بن أبي داود ويحيى بن   (1) ترجمته في طبقات الشيرازي: 93 وعبر الذهبي 3: 47 وانباه الرواة 3: 296 (وراجع الحاشية) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 221 صاعد وأبو سعيد العدوي وأبو حامد محمد بن هارون الحضرمي وغيرهم. وأخذ الدب عن أبي عبد الله إبراهيم محمد بن عرفة المعروف بنفطويه وغيره. وروى عنه جماعة من الأئمة أيضاً، منهم أبو القاسم الأزهري والقاضي أبو الطيب الطبري الفقيه الشافعي وأحمد بن علي التوزي وأحمد بن عمرو بن روح. وذكر أحمد بن عمر بن روح أن أبا الفرج المذكور حضر في دار لبعض الرؤساء، وكان هناك جماعة من أهل العلم والأدب، فقالوا له: في أي نوع من العلوم نتذاكر فقال أبو الفرج لذلك الرئيس: خزانتك قد جمعت أنواع العلوم، وأصناف الأدب، فإن رأيت أن تبعث الغلام إليها، تأمره أن يفتح بابها، ويضرب بيده إلى أي كتاب رأى (1) منها، فيحمله ثم يفتحه، وينظر في أي العلوم هو، فنتذاكره ونتجارى فيه. قال ابن روح: وهذا يدل على أن أبا الفرج كان له أنسة بسائر العلوم. وكان أبو محمد عبد الباقي يقول: إذا حضر القاضي أبو الفرج فقد حضرت العلوم كلها، وقال: لو أوصى رجل بثلث ماله لأعلم الناس (2) لوجب أن يدفع إلى أبي الفرج المعافى. وكان ثقة مأموناً في روايته، وله شعر حسن، فمن ذلك ما رواه عنه القاضي أبو الطيب الطبري الفقيه الشافعي، وهو: ألا قل لم كان لي حاسداً ... أتدري على من أسأت الأدب أسأت على الله في فعله ... لأنك لم ترض لي ما وهب فجازك عنه بأن زادني ... وسد عليك وجوه الطلب وذكر الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في كتاب " طبقات الفقهاء " وأثنى عليه ثم قال: وأنشدني قاضي بلدنا أبو علي الداودي، قال: أنشدني أبو الفرج لنفسه: أأقتبس الضياء من الضباب ... وألتمس الشراب من السراب   (1) لي: أراد. (2) الخلق. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 222 أريد من الزمان النذل بذلاً ... وأرياً من جنى سلع وصاب أرجي أن ألاقي لاشتياقي ... خيار الناس في زمان الكلاب ومن شعره أيضاً: مالك العلمين ضامن رزقي ... فلماذا أملك الخلق رقي قد قضى لي بما علي وما لي ... خالقي جل ذكره قبل خلقي صاحبي البذل والندى في يساري ... ورفيقي في عسرتي حسن رفق وكما لا يرد عجزي رزقي ... فكذا لا يجر رزقي حذقي وذكر أنه علمها في معنى قول علي بن الجهم (1) : لعمرك ما كل التعطل ضائر ... ولا كل شغل فيه للمرء منفعه إذا كانت الأرزاق في القرب والنوى ... عليك سواء فاغتنم راحة الدعه ومن غريب ما اتفق له ما حكاه أبو عبد الله الحميدي، صاحب " الجمع بي الصحيحين " - المقدم ذكره - قال: قرأت بخط أبي الفرج المعافى بن زكريا النهرواتي: حججت سنة، وكنت بمنى أيام التشريق، فسمعت منادياً ينادي: يا أبا الفرج، فقلت: لعله يريدني، ثم قلت: في الناس خلق كثير ممن يكنى أبا الفرج، ولعله ينادي غيري، فلم أجبه، فلما رأى أنه لا يجيبه أحد نادي: يا أبا الفرج المعافى، ففهمت أن أجيبه، ثم قلت: قد يتفق أن يكون آخر اسمه المعافى، ويكنى أبا الفرج بن زكريا النهرواني، فقلت: لم يبق شك في مناداته إياي إذ ذكر اسمي وكنيتي واسم أبي وبلدي الذي أنسب إليه، فقلت: ها أنا ذا فما تريد قال: لعلك من نهروان الشرق، فقلت: نعم، فقال: نحن نريد نهروان الغرب، فعجبت من اتفاق الاسم والكنية واسم الأب وما أنتسب   (1) لم تورد لي بر من إلا بيتاً واحداً وبعده على بيتين آخرين؛ وانظر ديوان ابن الجهم: 194 حيث لم يرد في التكملة إلا بيتان. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 223 إليه، علمت أن بالمغرب موضعاً يسمى النهروان، غير النهروان الذي بالعراق. ولأبي الفرج المذكور عدة تصانيف ممتعة في الأدب وغيره [وكتاب " الجليس الأنيس " تصنيفه أيضاً] (1) . وكانت ولادته يوم الخميس لسبع خلون من شهر رجب سنة ثلاث، وقيل خمس، وثلثمائة؛ وتوفي يوم الاثنين الثامن عشر من ذي الحجة، سنة تسعين وثلثمائة بالنهروان، رحمه الله تعالى. وطرارا: بفتح الطاء المهملة والراء بعد الأف راء ثانية مفتوحة ثم ألف مقصورة وبعضهم يكتبه بالهاء بدلاً من الألف، فيقول: طرارة، والله أعلم. والجريري: بفتح الجيم وكسر الراء وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها راء هذه النسبة إلى الامام محمد بن جرير الطبري - المقدم ذكره - وإنما نسب إليه لأنه كان على مذهبه مقلداً له، وقد تقدم في ترجمته أنه كان مجتهداً صاحب مذهب مستقل، وكان له أتباع، وأخذ بمذهبه جماعة منهم أبو الفرج المذكور. وقد سبق الكلام على النهرواني (2) فأغنى عن الإعادة، والله تعالى أعلم. 727 - (3) المعز العبيدي أبو تميم معد، الملقب المعز لدين الله، بن المنصور بن القائم بن المهدي عبيد الله. وقد تقدم ذكر والده وجده وجد أبيه وطرف من أخبارهم؛ وكان   (1) انفردت به لي بر من. (2) ن: النهروان. (3) أخباره في المنتظم 7: 82 وأعمال الأعلام 3: 55 والبيان المغرب 1: 221 والدرة المضية: 119 والخطط 1: 351 واتعاظ الحنفا: 93 وابن خلدون 4: 46 وابن الأثير (ج: 8) والنجوم الزاهرة 4: 69 وعبر الذهبي 2: 339 والشذرات 3: 52، وابتداء من هذه الترجمة تشترك مخطوطة آيا صوفيا رقم: 3533 مع سائر المخطوطات (ورمزها ص) ؛ وبترجمة المعز يبدأ الجزء الثاني من المختار الذي صنعه ابن المؤلف. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 224 المعز المذكور قد بويع بولاية العهد في حياة أبيه المنصور إسماعيل ثم جددت له البيعة بعد وفاته (1) في التاريخ المذكور في ترجمته، ودبر الأمور وساسها وأجراها على أحسن أحكامها إلى يوم الأحد سابع ذي الحجة سنة إحدى وأربعين وثلثمائة، فجلس يومئذ عل سرير ملكه، دخل عليه الخاصة وكثير من العامة، سلموا عليه بالخلافة، وتمسى بالمعز، ولم يظهر على أبيه حزناً. ثم خرج إلى بلاد إفريقية يطوف فيها، ليمهد قواعدها ويقرر أسبابها، فانقاد له العصاة من أهل تلك البلاد ودخلوا في طاعته، وعقد لغلمانه، وأتباعه على الأعمال، واستندب لكل ناحية من يعلم كفايته وشهامته، وضم إلى كل واحد منهم جمعاً كبيراً من الجند وأرباب السلاح. ثم جهز أبا الحسن جوهراً (2) القائد - المذكور في حرف الجيم - ومه جيش كثيف، ليفتح ما استعصى عليه من بلاد (3) المغرب، فسار إلى فاس، ثم منها إلى سجلماسة ففتحها، ثم توجه إلى البحر المحيط وصاد من سمكه وجعله في قلال الماء (4) ، وأرسله إلى المعز، ثم رجع إلى المعز ومعه صاحب سجلمانة وساحب فاس أسيرين في قفصي حديد، والشرح في ذلك يطول. وخلاصة الأمر: أنه ما رجع القائد جوهر إلى ملولاه المعز إلا وقد وطد له البلاد، وحكم على أهل الزيغ والعناد من باب إفريقية إلى البحر المحيط في جهة الغرب، وفي جهة الشرق من باب إفريقية إلى أعمال مصر، ولم يبق بلد من هذه البلاد إلا أقيمت فيه دعوته وخطب به في جعمته (5) وجماعته، إلا مدينة سبتة فإنها بقيت لبني أمية أصحاب الأندلس. ولما وصل الخبر إلى المعز المذكور بموت كافور الإخشيدي صاحب مصر - حسبما شرحناه في ترجمته من هذا الكتاب - تقدم المعز إلى القائد جوهر المذكور   (1) ص: وفاة أبيه. (2) في أكثر النسخ " جوهر " دون تنوين. (3) ن: ديار. (4) ر: قلل من الماء. (5) ق ن ص بر من: جميعه: جمعته؛ ر: جميع جمعته. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 225 ليتجهز للخروج إلى مصر، فخرج أولاً إلى جهة المغرب لإصلاح أموره، وكان معه جيش عظيم، وجمع قبائل العرب الذي يتوجه بهم إلى مصر، جبى القطائع التي كانت على البربر فكانت خمسمائة ألف دينار. وخرج المعز بنفسه في الشتاء إلى المهدية، فأخرج من قصور آبائه خمسمائة حمل دنانير وعاد إلى قصره. ولما عاد جوهر بالرجال والأموال، وكان قدومه على المعز يوم الأحد لثلاث بقين من المحرم سنة ثمان وخمسين وثلثمائة، أمره المعز بالخروج إلى مصر، فخرج ومعه أنواع القبائل - وقد ذكرت في ترجمة جوهر تاريخ خروجه وتاريخ وصوله إلى مصر فأغنى عن الإعادة " مفصلاً ها هنا " (1) - وأنفق المعز في العسكرالمسير صحبته أموالاً كثيرة، حتى أعطى من ألف دينار إلى عشرين ديناراً، وغمر الناس بالعطاء، وتصرفوا في القيروان وصبرة في شراء جميع حوائجهم (2) ؛ ورحلوا ومعه ألف (3) حمل من الماء والسلاح، ومن الخيل والعدد ما لا يوصف، وكان بمصر في تلك السنة غلاء عظيم ووباء، حتى مات في مصر وأعمالها في تلك المدة ستمائة ألف إنسان على ما قيل. ولما كان منتصف شهر رمضان المعظم سنة ثمان وخمسين وثلثمائة، وصلت البشارة إلى المعز بفتح الديار المصرية ودخول عساكره إليها، ثم وصلته النجب بعد ذلك تخبره بصورة الفتح، وكانت كتب جوهر ترد إلى المعز باستدعائه إلى مصر وتحثه كل وقت على ذلك، ثم سير (4) إليه يخبره بانتظام الحال بمصر والشام والحجاز وإقامة الدعوة له بهذه المواضع، فسر المعز بذلك سروراً عظيماً. ولما تقررت قواعده بالديار المصرية استخلف على إفريقية بلكين بن زيري بن مناد الصنهاجي - المذكور في حرف الباء - وخرج المعز متوجهاً بأموال جليلة المقدار ورجال عظيمة الأخطار. وكان خروجه من المنصورية دار ملكه يوم   (1) زيادة من المختار. (2) لي: ما يحتاجون. (3) لي: ألف ألف. (4) المختار: كتب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 226 ذاك يوم الاثنين، لثمان بقين من شوال سنة إحدى وستين وثلثمائة، وانتقل إلى سردانية، أقام بها ليجتمع رجاله وأتباعه ومن يستصحبه معه. وفي هذه المنزلة عقد العهد لبلكين في التاريخ المذكور في ترجمته، ورحل عنها يوم الخميس خامس صفر سنة اثنتين وستين وثلثمائة. ولم يزل في طريقه يقيم بعض الأوقات في بعض البلاد أياماً ويجد السير في بعضها، وكان اجتيازه على برقة، ودخل الاسكندرية يوم السبت لست بقين من شعبان من السنة المذكورة وركب فيها (1) ودخل الحمام، وقدم عليه بها قاضي مصر - وهو أبو طاهر محمد ابن أحمد - وأعيان أهل البلاد، وسلموا عليه، وجلس لهم عند المنارة وخاطبهم بخطاب طويل يخبرهم فيه أنه لم يرد دخول مصر لزيادة في ملكه ولا لمال، وإنما أراد إقامة الحق والحج والجهاد، وأن يختم عمره بالأعمال الصالحة، ويعمل بما أمر به جده صلى الله عليه وسلم، ووعظهم وأطال حتى بكى بعض الحاضرين، وخلع على القاضي وبعض الجماعة وحملهم، وودعوه وانصرفوا ثم رحل منها في أواخر شعبان. ونزل يوم السبت ثاني شهر رمضان المعظم على ميناء ساحل مصر بالجيزة (2) ، فخرج إليه القائد جوهر وترجل عند لقائه وقبل الأرض بين يديه، وبالجيزة أيضاً اجتمع به الوزير أبو الفضل جعفر بن الفرات - المذكور في حرف الجيم - وأقام المعز هناك ثلاثة أيام، وأخذ العسكر في التعدية بأثقالهم إلى ساحل مصر. ولما كان يوم الثلاثاء لخمس خلون من شهر رمضان المعظيم من السنة، عبر المعز النيل ودخل القاهرة، ولم يدخل مصر، وكانت قد زينت له، وظنوا أنه يدخلها، وأهل القاهرة لم يستعدوا للقائه لأنهم بنوا الأمر على دخوله أولاً، ولما دخل القاهرة ودخل القصر ودخل مجلساً منه خر ساجداً لله تعالى، ثم صلى ركعتين وانصرف الناس عنه. وهذا المعز هو الذي تنسب إليه القاهرة، فيقال القاهرة المعزية، لأنه الذي بناها القائد جوهر له.   (1) ن: وركب فيها يوم السبت. (2) المختار: ونزل على الجيزة تجاه مصر على الساحل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 227 وفي يوم الجمعة لثلاث عشرة ليلة بقيت من المحرم سنة أربع وستين عزل المعز القائد جوهراً عن دواواين مصر وجباية أموالها والنظر في سائر أمورها. وقد ذكرنا في ترجمة الشريف عبد الله بن طباطبا ما دار بينه وبين المعز من السؤال عن نسبه وما أجابه به وما اعتمده بعد الدخول إلى القصر. وكان المعز عاقلاً حازماً سرياً أدبياً حسن النظر في النجامة، وينسب إليه من الشعر قوله: لله ما صنعت بنا ... تلك المحاجز في المعاجز أمضى وأقضى في النفو ... س من الخناجر في الحناجر ولقد تعبت بينكم ... تعب المهاجر في الهواجر وينسب إليه أيضاً: أطلع الحسن من جبينك شمساً ... فوق ورد وجنتك أطلا وكأن الجمال خاف على الور ... د جفافاً فمد بالشعر ظلا وهو معنى غريب بديع. وقد مضى ذكر ولده تميم وشيء من شعره، وسيأتي ذكر ولده العزيز نزار في حرف النون إن شاء الله تعالى. وكانت ولادته بالمهدية يوم الاثنين حادي عشر شهر رمضان سنة تسع عشرة وثلثمائة. وتوفي يوم الجمعة الحادي عشر من شهر ربيع الآخر، وقيل الثالث عشر، وقيل لسبع خلون منه سنة خمس وستين وثلثمائة بالقاهرة، رحمه الله تعالى. ومعد: بفتح الميم والعين المهملة وتشديد الدال المهملة، والله تعالى أعلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 228 728 - (1) المستنصر العبيدي أبو تميم معد الملقب المستنصر بالله بن الظاهر لإعزاز دين الله بن الحاكم بن العزيز بن المعز لدين الله المذكور قبله، وقد تقدم بقية النسب؛ بويع بالمر بعد موت والده الظاهر، وذلك يوم الأحد النصف من شعبان سنة سبع وشعرين وأربعمائة، وجرى على أيامه ما لم يجر على أيام أحد من أهل بيته ممن تقدمه ولا تأخره: منها قضية أبي الحارث أرسلان البساسيري - المقدم ذكره في حرف الهمزة - فإنه لما عظم أمره، وكبر شأنه ببغداد قطع خطبة الإمام القائم، وخطب للمسنصر المذكور، وذلك في سنة خمسين وأربعمائة، ودعا له منابرها مدة سنة. ومنها أنه ثار في أيامه علي بن محمد الصليحي - المقدم ذكره - وملك بلاد اليمن كما شرحنا، ودعا للمسنصر على منابرها بعد الخطبة، وهو شمهور فلا حاجة إلى الإطالة في شرحه. ومنها أنه أقام في الأمر ستين سنة، وهذا أمر لم يبلغه أحد من أهل بيته ولا من بني العباس. ومنها أنه ولي الأمر وهو ابن سبع سنين. ومنها أن دعوتهم لم تزل قائمة بالمغرب منذ قام جدهم المهدي - المقدم ذكره - إلى أيام المعز المذكور قبله، ولما توجه المعز إلى مصر واستخلف بلكين بن زيري حسبما شرحناه، كانت الخطبة في تلك النواحي جارية على عادتها لهذا البيت، إلى أن قطعها المعز بن باديس - الآتي ذكره إن شاء الله تعالى - في أيام   (1) أخباره في تاريخ ابن خلدون 4: 62 والخطط 1: 355 والدرة المضية: 342 والنجوم الزاهرة 5: 1 - 23 وعبر الذهبي 3: 318 والشذرات 3: 382، وسقطت هذه الترجمة من بر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 229 المستنصر المذكور، وذلك في سنة ثلاث وأربعين وأربعمائة، وقال في " تاريخ القيروان " (1) : إن ذلك كان في سنة خمس وثلاثين، والله تعالى أعلم بالصواب. وفي سنة تسع قطع اسمه واسم آبائه من الحرمين الشريفين، وذكر اسم المقتدي خليفة بغداد، والشرح في ذلك يطول. ومنها أنه حدث في أيامه الغلاء العظيم الذي ما عهد مثله منذ زمان يوسف عليه السلام، وأقام سبع سنين، وأكل الناس بعضهم بعضاً، حتى قيل أنه بيع رغيف واحد بخمسين ديناراً، وكان المستنصر في هذه الشدة يركب وحده، وكل من معه من الخواص مترجلون ليس لهم دواب يركبونها، وكانوا إذا مشوا تساقطوا في الطرقات من الجوع، وكان المستنصر يستعير من ابن هبة صاحب ديوان الإنشاء بغلته ليركبها صاحب مظلته، وآخر الأمر توجهت أم المستنصر وبناته إلى بغداد من فرط الجوع، وذلك في سنة اثنتين وستين وأربعمائة، وتفرق أهل مصر في البلاد وتشتتوا، ولم يزل هذا الأمر على شدته حنى تحرك بدر الجمالي والد الفضل أمير الجيوش من عكا وركب البحر - حسبما شرحناه في ترجمة ولده الأفضل شاهنشاه - وجاء إلى مصر وتولى تدبير الأمور فانصلحت، وشرح ذلك يطول. وكانت ولادة المستنصر صبيحة يوم الثلاثاء لثلاث عرة ليلة بقيت من جمادى الآخرة سنة عشرين وأربعمائة (2) ، وتوفي ليلة الخميس لاثنتي عشرة ليلة بقين من ذي الحجة سنة سبع وثمانين وأربعمائة، رحمه الله تعالى. قلت: وهذه الليلة هي ليلة عيد الغدير، أعني ليلة الثامن عشر من ذي الحجة وهو غدير خم - بضم الخاء وتشديد الميم - ورأيت جماعة كثيرة يسألون عن هذه الليلة حتى كانت من ذي الحجة وهذا المكان بين مكة والمدينة، وفيه غدير ماء، ويقال إنه غيضة هناك، ولما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من   (1) ر: التاريخ القيرواني. (2) علق ابن المؤلف هنا بقوله: " قلت، أعني كاتبها موسى بن أحمد لطف الله به: قد ذكر أنه ولي الأمر وهو ابن سبع سنين وأنه بويع في سنة أربع وعشرين فكيف يستقيم أن يكون مولده سنة عشرين، والله أعلم ". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 230 مكة، شرفها الله تعالى، عام حجة الوداع، وصل إلى هذا المكان وآخى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال: " علي مني كهارون من موسى، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه، وانصر من نصره واخذل من خذله "، وللشيعة به تعلق كبير (1) . وقال الحازمي: هو وادٍ بين مكة والمدينة عند الجحفة به غدير عنده خطب النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الوادي موصوف بكثرة الوخامة وشدة الحر (2) . وقد تقدم ذكر جماعة من أهل بيته وسيأتي ذكر الباقين كل واح في موضعه إن شاء الله تعالى، والله أعلم بالصواب. 729 - (3) معروف الكرخي أبو محفوظ معروف بن فيروز، وقيل الفيروزان، وقيل علي، الكرخي الصالح المشهور، وهو من موالي علي بن موسى الرضا - وقد تقدم ذكره. وكان أبواه نصرانيين، فأسلماه إلى مؤدبهم وهو صبي، فكان المؤدب يقول له: قل ثالث ثلاثة، فيقول معروف: بل هو الواحد، فضربه المعلم على ذلك ضرباً مبرحاً فهرب منه. وكان أبواه يقولان: ليته يرجع إلينا على أي دين شاء فنوافقه عليه، ثم إنه أسلم على يد علي بن موسى الرضا، ورجع إلى أبويه   (1) ص ق: كثير. (2) قلت وهذه الليلة ... الحر: سقط من لي ن. (3) ترجمته في طبقات السلمي: 83 وصفة الصفوة 2: 179 وطبقات الحنابلة 1: 381 وتاريخ بغداد 13: 199 وحلية الأولياء 8: 360 والرسالة القشيرية 1: 60وعبر الذهبي 1: 335 (وفيات سنة 200) وشذرات الذهب 1: 335. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 231 فدق الباب، فقيل له: من بالباب فقال: معروف، فقيل له: على أي دين فقال: على الاسلام، فأسلم أبواه. وكان مشهوراً بإجابة الدعوة، وأهل بغداد يستسقون بقبره ويقولون: قبر معروف ترياق مجرب. وكان سري السقطي المقدم ذكره تلميذه، وقال له يوماً: إذا كانت لك حاجة إلى الله تعالى فأقسم عليه بي. وقال سري السقطي: رأيت معروفاً الكرخي في النوم (1) كأنه تحت العرش، والباري جلت قدرته يقول لملائكته: من هذا وهو يقولون: أنت أعلم يا ربنا منا، فقال: هذا معروف الكرخي سكر من حبي فلا يفيق ألا بلقائي. وقال معروف: قال لي بعض أصحاب داود الطائي: إياك أن تترك العمل، فإن ذلك الذي يقربك إلى رضا مولاك، فقلت: وما ذلك العمل قال: دوام الطاعة لمولاك (2) ، وحرمة المسلمين، والنصيحة لهم. وقال محمد بن الحسين، سمعت أبي يقول: رأيت معروفاً الكرخي في النوم بعد موته فقلت له: ما فعل الله بك فقال: غفر لي، فقلت: بزهدك وورعك فقال: لا بل بقبول موعظة ابن السماك ولزومي الفقر ومحبتي للفقراء. وكانت موعظة ابن السماك ما رواه معروف قال: كنت ماراً بالكوفة فوقفت على رجل يقال له ابن السماك وهو يعظ الناس، فقال في خلال كلامه: من أعرض عن الله بكليته أعرض عنه الله جملة، ومن أقبل على الله تعالى بقلبه أقبل الله تعالى برحمته عليه، وأقبل بوجوه الخلق إليه، ومن كان مرة ومرة فالله تعالى يرحمه وقتاً ما، فوقع كلامه في قلبي وأقبلت على الله تعالى وتركت جميع ما كنت عليه إلا خدمة مولاي علي بن موسى الرضا، وذكرت هذا الكلام لمولاي فقال: يكفيك هذا موعظة إن اتعظت. وقد تقدم ذكر ابن السماك في المحمدين. وقيل لمعروف في مرض موته: أوص، فقال: إذا مت فتصدوا بقميصي فإني أريد أن أخرج من الدينا عرياناً كما دخلتها عرياناً؛ ومر معروف بسقاء وهو   (1) ن: رأيت يوماً في المنام معروفاً الكرخي. (2) لي: دوام طاعة مولاك؛ ر: داوم على طاعة مولاك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 232 يقول: رحم الله من يشرب، فتقدم وشرب، وكان صائماً، فقيل له: ألم تك صائماً قال: بلى، ولكن رجوت دعاءه. وأخبار معروف ومحاسنه أكثر من أن تعد؛ وتوفي سنة مائتين، وقيل إحدى ومائتين، وقيل أربع ومائتين ببغداد، وقبره مشهور بها يزار، رحمه الله تعالى. والكرخي: بفتح الكاف وسكون الرء وبعدها خاء معجمة، هذه النسبة إلى الكرخ، وهو اسم تسع مواضع ذكرها ياقوت الحموي في كتابه، وأشهرها كرخ بغداد، والصحيح أن معروفاً الكرخي منه، وقيل إنه من كرخ جدان - بضم الجيم وتشديد الدال المهملة وبعد الألف نون - وهي بليدة بالعراق تفصل بين ولاية خانقين وشهرزور، والله تعالى أعلم بالصواب. 730 - (1) المعز باديس الصنهاجي المعز بن باديس بن المنصور بن بلكين بن زيري بن مناد الحميري الصنهاجي، صاحب إفريقية وما والاها من بلاد المغرب، وقد سبق تمام نسبه عند ذكر ولده الأمير تميم، وكان الحاكم صاحب مصر قد لققبه شرف الدولة، وسير له تشريفاً وسجلاً يتضمن اللقب المذكور، وذلك في ذي الحجة سنة سبع وأربعمائة. وكان ملكاً جليلاً عالي الهمة، محباً لأهل العلم كثير العطاء، وكان واسطة عقد بيته - وقد تقدم ذكر أبيه وجده وجد أبيه - ومدحه الشعراء وانتجعه الأدباء، وكانت حضرته نحط بني الآمال. وكان مذهب أبي حنيفة رضي الله   (1) أخباره في تاريخ ابن خلدون 6: 158 وابن الأثير (ج: 10) والبيان المغرب 1: 267 وأعمال الأعلام 3: 72 ورحلة التجاني: 13 - 16 وعبر الذهبي 3: 233 والشذرات 3: 294. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 233 عنه يإفريقية أظهر المذاهب، فحمل المعز المذكور جميع أهل المغرب على التمسك بمذهب الإمام مالك بن أنس، رضي الله عنه، وحسم مادة الخلاف في الذاهب واستمر الحال في ذلك إلى الآن. وقد تقدم في خبر المستنصر بالله العبيدي أن المعز المذكور قطع خطبته وخلع طاعته، فلما فعل ذلك خطب للإمام القائم بأمر الله خليفة بغداد، فكتب إليه المستنصر يتهدده ويقول له: هلا اقتفيت آثار آبائك في الطاعة والولاء، في كلام طويل، فأجابه المعز: إن آبائي وأجدادي كانوا ملوك الغرب قبل أن تملكه أسلافك، ولهم عليهم من الخدم أعظم من التقديم، ولو أخروهم لتقدموا بأسيافهم؛ واستمر على قطع الخطبة، ولم يخطب بعد ذلك بإفريقية لأحد من المصرينن إلى اليوم. وأخبار المعز كثيرة وسيرته مشهورة، فلا حاجة إلى الإطالة، وله شعر قليل لم أقف منه على شيء. وكان المعز يوماً جالساً في مجلسه وعنده جماعة من الادباء، وبين يديه أترجة ذات أصابع، فأمرهم المعز أن يعملوا فيها شيئاً، فعمل أبو علي الحسن بن رشيق القيرواني الشاعر المقدم ذكره (1) : أترجة سبطة الأطراف ناعمة ... تلقى العيون بحسن غير منحوس كأنما بسطت كفا لخالقها ... تدعو بطول بقاء لابن باديس فاستحسن ذلك منه وفضله على من حضر من الجماعة الأدباء. وكانت ولادته بالمنصورية، ويقال لها صبرة، من أعمال إفريقية، يوم الخميس لخمس مضين من جمادى الأولى سنة ثمان وتسعين وثلثمائة، وملك بعد أبيه باديس في التاريخ المذكور في ترجمته، وبويع بالمحمدية من أعمال إفريقية أيضاً يوم السبت لثلاث مضين من ذي الحجة سنة ست وأربعمائة. وتوفي رابع شعبان سنة أربع وخمسين وأربعمائة بالقيروان، من أصابه وهو ضعيف الكبد، ولم تطل مدة أحد من أهل بيته في الولاية كمدته، ورثاه أبو علي الحسن بن   (1) ديوان ابن رشيق: 92. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 234 رشيق - المقدم ذكره - بأبيات على روي الكاف (1) ، أضربت عن ذكرها (2) خوف الإطالة. وهذا المعز لا يعرف له اسم سوى المعز، مع أني كشفت عنه كشفاً تاماً من الكتب وأفواه العلماء وأهل المغرب، فلم يذكر أحد سوى المعز، ولاتعرف كنيته أيضاً، والظاهر أن هذا اسمه، فإن أهل بيته لم يكن فيهم من تلقب حتى يقال هذا لقب، فأ على قدر ما وجدته، والله تعالى أعلم بالصواب. 731 - (3) أبو عبيدة معمر بن المثنى أبو عبيدة معمر بن المثنى، التميمي بالولاء، تيم قريش، البصري النحوي العلامة؛ قال الجاحظ في حقه: لم يكن في الأرض خارجي ولا جماعي أعلم بجميع العلوم منه. وقال ابن قتيبة في كتاب المعارف (4) : كان الغريب أغلب عليه وأخبار العرب وأيامها، وكان مع معرفته ربما لم يقم البيت إذا أنشده حتى يكسره، وكان يخطئ إذا قرأ القرآن الكريم نظراً، وكان يبغض العرب، وألف في مثالبها كتباً، وكان يرى رأي الخوارج. وقال غيره: إن هارون الرشيد أقدمه من البصرة إلى بغداد سنة ثمان وثمانين ومائة، وقرأ عليه بها أشياء (5) من كتبه، وأسند الحديث إلى هشام بن عروة وغيره، وروى عنه علي بن المغيرة الأثرم وأبو عبد القاسم بن سلام - المقدم   (1) انظر ديوان ابن رشيق: 137، ومطلع الأبيات الكافية: لكل حي وإن طال المدى هلك ... لا عز مملكة يبقى ولا ملك (2) ق: عنها وعن ذكرها. (3) ترجمته في نور القبس: 109 وعبر الذهبي 1: 359 وانباه الرواة 3: 276 (والحاشية) . (4) المعارف: 543. (5) لي ص: شيئاً. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 235 ذكره - وأبو عثمان المازني وأبو حاتم السجستاني وعمر بن شبة النميري، وغيرهم، وقد تقدم ذكر هؤلاء جميعهم. وقال أبو عبيدة: أرسل إلي الفضل بن الربيع إلى البصرة في الخروج إليه، فقدمت عليه، وكنت أخبر عن تجبره، فأذن لي، فدخلت عليه وهو في مجلس طويل عريض فيه بساط واحد قد ملأه، وفي صدره فرش عاليةلايرتقى عليها إلابكرسي وهو جالس على الفرش، فسلمت عليه بالوزارة، فرد وضحك إلي واستد ناني حتى جلست معه على فرشه، ثم سألني وبسطني وتلطف بي وقال: أنشدني، فأنشدته من عيون أشعار أحفظها جاهلية، فقال لي: قد عرفت أكثر هذه وأريد من ملح الشعر، فأنشدته، فطرب وضحك وزاد نشاطاً، ثم دخل رجل في زي الكتاب وله هيئة حسنة، فأجلسه إلى جانبي، وقال له: أتعرف هذا قال: لا، فقال: هذاأبو عبيدة علامة أهل البصرة أقدمناه لنستفيد من علمه، فدعا الرجل وقرظه لفعله هذا، ثم التفت إلي وقال لي: كنت إليك مشتاقاً، وقد سئلت عن مسألة، أفتأذن لي أن أعرفك إياها قلت: هات، فقال: قال الله تعالى " طلعها كأنه رءوس الشياطين " الصافات: - 65 -، وإنما يقع الوعد والايعاد بما قد عرف مثله، وهذا لم يعرف، قال: فقلت: إنما كلم الله العرب على قدر كلامهم، أما سمعت قول امرئ القيس: أيقتلني والمشرفي مضاجعي ... ومسنونة رزق كأنياب أغوال وهم لم يروا الغول قط، ولكنه لما كان أمر الغول يهولهم أوعدوا به، فاستحسن الفضل ذلك واستحسنه السائل، وأزمعت منذ ذلك اليوم أن أضع كتاباً في القرآن لمثل هذا وأشباهه، ولما يحتاج إليه من علمه، ولما رجعت إلى البصرة عملت كتابي الذي سميته المجاز وسألت عن الرجل فقيل لي: هو من كتاب الوزير وجلسائه. وقال أبو عثمان المازني (1) ، سمعت أبا عبيدة يقول: أدخلت على هارون الرشيد   (1) سقطت هذه الفقرة من لي ر بر من، وذلك لأنها تكررت، إذ ورد ما يشبهها في ترجمة الأصمعي 3: 172. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 236 فقال لي: يا معمر، بلغني أن عندك كتاباً حسناً في صفة الخيل أحب أن أسمعه منك، فقال الأصمعي: وما تصنع بالكتب يحضر فرس ونضع أيدينا على عضو عضو منه ونسميه ونذكر ما فيه، فقال الرشيد: يا غلام، فرس، فأحضر فرس (1) فقام الاصمعي فجعل يضع يده على عضو عضو منه ويقول: هذا كذا، قال فيه الشاعر كذا، حتى انقضى قوله، فقال لي الرشيد: ما تقول فيما قال فقلت: أصاب في بعض وأخطأ في بعض، والذي أصاب فيه مني تعلمه، والذي أخطأ فيه ما أدري من أين أتى به. وبلغ أبا عبيدة أن الأصمعي يعيب عليه كتاب المجاز، فقال: يتكلم في كتاب الله تعالى برأيه؛ فسأل عن مجلس الأصمعي في أي يوم هو، فركب حماره في ذلك اليوم ومر بحلقته، فنزل عن حماره وسلم عليه، وجلس عنده وحادثه ثم قال له: أبا سعيد، ما تقول في الخبز، أي شيء هو فقال: هو الذي تخبزه وتأكله، فقال أبو عبيدة: فقد فسرت كتاب الله تعالى برأيك، فإن الله تعالى قال: وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزاً يوسف: - 26 -،فقال الأصمعي: هذا شيء بان لي فقلته ولم أفسره برأيي، فقال أبو عبيدة: والذي تعيب علينا كله شيء بان لنا فقلناه ولم نفسره برأينا، وقام فركب حماره وانصرف. وزعم الباهلي صاحب كتاب المعاني أن طلبة العلم كانوا إذا أتو مجلس الأصمعي اشتروا البعر في سوق الدر، وإذا أتوا مجلس أبي عبيدة اشتروا الدر في سوق البعر، لأن الأصمعي كان حسن الانشاد والزخرفة لردئ الأخبار والأشعار حتى يحسن عنده القبح، وإن الفائدة عنده مع ذلك قليلة، وإن أبا عبيدة كان معه سوء عبارة مع فوائد كثيرة وعلوم جمة، ولم يكن أبو عبيدة يفسر الشعر. وقال المبرد: كان أبو زيد الانصاري أعلم من الأصمعي وأبي عبيدة بالنحو، وكانا بعده يتقاربان، وكان أبو عبيدة أكمل القوم، وكان علي بن المديني يحسن ذكر أبي عبيدة ويصحح روايته، وقال: كان لا يحكي عن العرب إلا الشيء   (1) ق: يا غلام أحضر فرساً فأحضر فرساً.. الخ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 237 الصحيح. وحمل أو عبيدة والأصمعي إلى هارون الرشيد للمجالسة، فاختار الأصمعي لأنه كان أصلح للمنادمة. وكان أبو نواس يتعلم من أبي عبيدة ويصفه ويشنأ الأصمعي ويهجره، فقيل له: ما تقول في الأصمعي فقال: بلبل في قفص، قيل له: فما تقول في خلف الأحمر فقال: جمع علوم الناس وفهمها، قيل: فما تقول في أبي عبيدة فقال: ذاك أديم طوي على علم (1) . وقال إسحاق بن إبراهيم النديم الموصلي يخاطب الفضل بن الربيع، يمدح أبا عبيدة ويذم الأصمعي (2) : عليك أبي عبيدة فاصطنعه ... فإن العلم عند أبي عبيده وقدمه وآثر علي ... ودع عنه القريد بن القريده وكان أبو عبيدة إذا أنشد بيتاً لا يقيم وزنه، وإذا تحدث أو قرأ لحن عتماداً منه لذلك، ويقول: النحو محدود. ولم يزل يصنف حتى مات؛ وتصانيفه تقارب مائتي تصنيف: فمنها كتاب " مجاز القرآن الكريم " وكتاب غريب القرآن وكتاب معاني القرآن وكتاب غريب الحديث وكتاب الديباج وكتاب التاج وكتاب الحدود وكتاب خراسان وكتاب خوارج البحرين واليمامة وكتاب الموالي وكتاب البله وكتاب الضيفان وكتاب مرج (3) راهط وكتاب المنافرات وكتاب القبائل وكتاب خبر البراض وكتاب القرائن وكتاب الببازي وكتاب الحمام وكتاب الحيات وكتاب العقارب وكتاب النواكح (4) وكتاب   (1) مر شبيه بهذا من قبل، انظر 2: 100 وما ثبت هنالك زيادة من نسختي ص ر، فلعله وقع هنالك تحشية من أحد المعلقين. (2) لي بر من: بمدح أبي عبيدة وذم الأصمعي. (3) ق لي ص: شرح. (4) ن: المناكح. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 238 النواشز (1) وكتاب حضر الخيل وكتاب الأعيان وكتاب بيان بالهلة وكتاب أيادي الأزد وكتاب الخيل وكتاب الإبل وكتاب الإنسان وكتاب الزرع وكتاب الرحل وكتاب الدلو وكتاب البكرة وكتاب السرج وكتاب اللجام وكتاب الفرس وكتاب السيف وكتاب الشوارد وكتاب الاحتلام وكتاب مقاتل الفرسان وكتاب مقاتل الأشراف وكتاب الشعر والشعراء وكتاب فعل وأفعل وكتاب المثالب وكتاب خلق الإنسان وكتاب الفرق وكتاب الخف وكتاب مكة والحرم وكتاب الجمل وصفين وكتاب بيوتات العرب وكتاب اللغات وكتاب الغازات وكتاب المعاتبات وكتاب الملاومات وكتاب الأضداد وكتاب مآثر العرب وكتاب مآثر غطفان وكتاب أدعية العرب وكتاب مقتل عثمان رضي الله عنه وكتاب أسماء الخيل وكتاب العققة وكتاب قضاة (2) البصرة وكتاب فتوح الأهواز وكتاب فتوح أرمينية وكتاب لصوص العرب وكتاب أخبار الحجاج وكتاب قصة الكعبة وكتاب الحمس من قريش وكتاب فضائل الفرس (3) وكتاب ما تلحن فيه العامة وكتاب السواد وفتحه وكتاب من شكر العمال وحمد (4) وكتاب الجمع والتثنية " وكتاب المجلة الأولى والثانية، وكتاب البيضة (5) وكتاب الأوس والخزرج وكتاب محمد وإبراهيم ابني عبد الله ابن الحسن بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين وكتاب الأيام الصغير، خمسة وسبعون يوماً، وكتاب الأيام الكبير، ألف ومائتا يوم، وكتاب أيام بني مازن وأخبارهم وغير ذلك من الكتب النافعة، ولولا خوف الإطالة لذكرت (6) جميعها.   (1) ق: النواشير. (2) ن ص ق: فضالة. (3) ق لي ر ن بر من: العرش. (4) بر: من شكي من العمال وحمل. (5) زيادة من ق. (6) ن: لذكرتها؛ ص: لذكر لك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 239 [ولما جمع كتاب المثالب، قال له رجل مطعون النسب: بلغني أنك عبت العرب جميعها، فقال: وما يضرك أنت من ذلك برئ، يعني أنه ليس منهم (1) . وقال أبو عبيدة: لما قدمت على الفضل بن الربيع قال لي: من أشعر الناس فقلت: الراعي، قال: وكيف فضلته على غيره فقلت: لأنه ورد على سعيد ابن عبد الرحمن الأموي فوصله في يومه الذي لقيه فيه وصرفه، فقال يصف حاله معه: وأنضاء تحن إلى سعيد ... طروقاً ثم عجلن ابتكارا حمدن مناخه وأصبن منه ... عطاء لم يكن عدة ضمارا فقال الفضل: ما أحسن ما اقتضيتنا يا أبا عبيدة، ثم غدا إلى هارون الرشيد فأخرج لي صلة، وأمر لي بشيء من ماله وصرفني. وكان أبو عبيدة من موالي بني عبيد الله بن معمر التيمي، وقال له بعض الأجلاء: تقع في الناس فمن أبوك فقال: أخبرني أبي عن أبيه أنه كان يهودياً من أهل باجروان، فمضى الرجل وتركه. وكان أبو عبيدة جباهاً، لم يكن بالبصرة أحد إلا وهو يداجيه ويتقيه على عرضه؛ وخرج إلى بلاد فارس قاصداً موسى بن عبد الرحمن الهلالي، فلما قدم عليه قال لغلمانه: احترزوا من أبي عبيدة، فإن كلامه كله دق، ثم حضر الطعام فصب بعض الغلمان على ذيله مرقة، فقال له موسى: قد أصاب ثوبك مرق، وأنا أعطيك عوضه عشر (2) ثياب، فقال أبو عبيدة: لا عليك، فإن مرقكم لا يؤذي، أي ما فيه دهن، ففطن لها موسى وسكت. وكان الأصمعي إذا أراد دخول المسجد قال: انظروا لا يكون فيه ذاك، يعني أبا عبيدة، خوفاً من لسانه، فلما مات لم يحضر جنازته أحد، لأنه لم يكن يسلم من لسانه شريف ولا غيره. وكلن وسخاً ألثغ مدخول النسب مدخول الدين يميل إلى مذهب الخوارج،   (1) ورد في ن ص، وتأخر في ر إلى ما يعد حكاية موسى بن عبد الرحمن الهلالي. (2) لي ر ن المختار: عشرة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 240 قال أبو حاتم السجستاني: كان أبو عبيدة يكرمني على أنني من خوارج سجستان. وقال الثوري: دخلت المسجد على أبي عبيدة، وهو ينكت الأرض جالساً وحده فقال لي: من القائل: أقول لها وقد جشأت وجاشت ... مكانك تحمدي أو تستريحي فقلت له: قطري بن الفجاءة، فقال: فض الله فاك! هلا قلت: هو لأمير المؤمنين أبي نعامة، ثم قال لي: اجلس، واكتم على ما سمعت مني، قال: فما ذكرته حتى مات. قلت أنا: وهذه الحكاية فيها نظر، لأن البيت من جملة أبيات لعمرو ابن الإطنابة الخزرجي الأنصاري، والإطنابة أمه، وسام أبيه زيد مناة، لا يكاد يخالف فيه أحد من أهل الأدب، فإنها أبيات مشهورة للشاعر المذكور. وذكر المبرد في كتاب الكامل (1) أن معاوية بن أبي سفيان الأموي قال: اجعلوا الشعر أكبر همكم وأكثر آدابكم، فإن فيه مآثر أسلافكم، ومواضع إرشادكم، فلقد رأيتني يوم الهرير وقد عزمت على الفرار فما ردني، إلا قول ابن الإطنابة الأنصاري: أبت لي عفتي وأبى بلائي ... وأخذي الحمد بالثمن الربيح وإجشامي على المكروه نفسي ... وضربي هامة البطل المشيح وقولي كلما جشأت وجاشت ... مكانك تحمدي أو تستريحي لأدفع عن مآثر صالحات ... وأحمي بعد عن عرض صريح رجعنا إلى حديث أبي عبيدة: وكان لا يقبل شهادته أحد من الحكام أنه كان يتهم بالميل إلى الغلمان؛ قال الأصمعي: دخلت أنا وأبو عبيدة يوماً المسجد، فإذا على الاسطوانة التي   (1) الكامل 4: 68. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 241 يجلس إليها أبو عبيدة مكتوب على نحو من سبعة أذرع: صلى الإله على لوط وشيعته ... أبا عبيدة قل بالله أمينا فقال لي: يا أصمعي، امح هذا، فركبت على ظهره ومحوته بعد أن أثقلته إلى أن قال: أثقلتني وقطعت ظهري، فقلت له: قد بقيت الطاء، فقال: هي شر حروف هذا البيت؛ وقيل إنه لما ركب ظهره وأثقله قال له: عجل، فقال: قد بقي لوط، فقال: من هذا نفر. وكان الذي كتب البيت أبو نواس الحسن بن هانئ المقدم ذكره. وقيل إنه وجدت رقاع في مجلس أبي عبيدة هذا البيت فيها، وبعده: فأنت عندي بلا شك بقيتهم ... منذ احتملت وقد جاوزت سبعينا (1) وقال الزمخشري في كتاب ربيع الأبرار في باب الأسماء والكنى والأقاب: سأل رجل أباعبيدة عن اسم رجل، فما عرفه، فقال كيسان: أنا أعرف الناس به، هو: خداش، أو خراش أو رياش أو شيء آخر، فقال أبو عبيدة: ما أحسن ما عرفته! فقال: إي والله، وهو قرشي أيضاً، قال: فما يدريك قال: أما ترى كيف احتوشته الشينات من كل جانب (2) وأخبار أبي عبيدة كثيرة؛ وكانت ولادته في رجب سنة عشر ومائة، في الليلة التي توفي فيها الحسن البصري، رضي الله عنه، وقد تقدم ذكره، وقيل في سنة إحدى عشرة ومائة، وقيل أربع عشرة، وقيل ثمان، وقيل تسع، والأول أصح؛ والذي يدل عليه أن الأمير جعفربن سليمان بن علي بن عبد الله ابن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه سأله عن مولده فقال: قد سبقني إلى الجواب عن مثل هذا عمر بن أبي ربيعة المخزومي وقد قيل له: متى ولدت فقال: في الليلة التي مات فيها عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فأي خير رفع وأي شر وضع وإني ولدت في الليلة التي مات فيها الحسن البصري وجوابي   (1) بر من: تسعينا. (2) النص المنقول عن الزمخشري لم يرد في: لي بر من، وهو في المختار. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 242 جواب عمر بن أبي ربعة. وقد تقدم في ترجمة ابن أبي ربيعة هذا الجواب منسوباً إلى الحسن البصري رضي الله عنه، فلينظر هناك؛ وتوفي سنة تسع ومائتين بالبصرة وقيل سنة إحدى عشرة، وقيل سنة عشر، وقيل ثلاث عشرة ومائتين رحمه الله تعالى. وكان سبب موته أن محمد بن القاسم بن سهل النوشجاني أطعمه موزاً فمات منه، ثم أتاه أبو العتاهية فقدم إليه موزاً، فقال له: ما هذا يا أبا جعفر قتلت أبا عبيدة بالموز، وتريد أن تقتلني به لقد استحليت قتل العلماء!. وأبو عبيدة: بضم العين المهملة وإثبات الهاء في آخره، بخلاف القاسم بن سلام المقدم ذكره فإنه أبو عبيدة، بغير هاء. ومعمر: بفتح الميمين بينهما عين مهملة وفي آخره الراء. والمثنى: بضم الميم وفتح الثاء المثلثة وتشديد النون المفتوحة وفي آخره ياء مثناة من تحتها. وباجروان التي والده منها: بفتح الباء الموحدة وبعد الألف جيم مفتوحة ثم راء ساكنة وبعدها واو مفتوحة وبعد الألف نون، وهو اسم لقرية من بلاد البليخ من أعمال الرقة، واسم المدينة بنواحي أرمينية من أعمال شروان عندها - فيما قيل - عين الحياة التي وجدها الخضر عليه السلام، وغالب ظني أن أبا عبيدة من هذه المدينة. وقيل إن باجروان اسم للقرية التي استطعم أهلها موسى والخضر عليهما السلام. والنوشجاني: بضم النون وسكون الواو والشين المعجمة وفتح الجيم وبعد الألف نون، هذه النسبة إلى نوشجان، وهي بلدة من بلاد فارس، والله تعالى أعلم بالصواب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 243 732 - (1) معن بن زائدة أبو الوليد معن بن زائدة بن عبد الله بن زائدة بن مطر بن شريك بن الصلب - بضم الصاد المهملة وسكون اللام وآخره الباء الموحدة (2) - واسمه عمرو بن قيس بن شراحيل بن همام بن مرة بن ذهل بن شيبان، الشيباني، وبقيت النسب معروف؛ وقال البن الكلبي في كتاب " جمهرة النسب ": هو معن بن زائدة بن مطر بن شريك بن عمرو بن قيس بن شراحيل بن مرة بن همام بن مرة بن ذهل بن شيبان بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر (3) بن وائل بن قاسط هنب بن أفضى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان (4) . كان جواداً شجاعاً جزل العطاء كثير المعرف ممدحاً مقصوداً؛ حكى الأصمعي قال: وفد أعرابي على معن بن زائدة فمدحه وطال مقامه على بابه ولم يحصل له جائزة، فعزم على الرحيل، فخرج معن راكباً فقام إليه وأمسك بزمام دابته وقال: وما في يديك الخير يا معن كله ... وفي الناس معروف وعنك مذاهب ستدري بنات العم ما قد أتيته ... إذا فتشت عند الإياب الحقائب فأمر معن بإحضار خمس نوق من كرام إبله وأوقرهم (5) له ميرة وبراً   (1) ترجمته في تاريخ بغداد 13: 235 ومعجم المرزباني: 324 وتاريخ ابن الأثير (ج: 5) وأمالي المرتضى 1: 222 وخزانة الأدب 1: 182 واسماه المغتالين (نوادر المخطوطات 2: 195) ورغبة الآمل 8: 168 وعبر الذهبي 1: 217 والشذرات 1: 231. (2) هذا الضبط لم يرد في ق لي ص بر من؛ وفي النسختين الأخيرتين: بن شريك بن قيس. (3) ص: تبر. (4) الرواية عن ابن الكلبي لم ترد في: لي بر من. (5) كذا في النسخ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 244 وثياباً وقال: انصرف يا ابن أخي في حفظ الله إلى بنات عمك، فلئن فتشن الحقائب ليجدن فيها ما يسرهن، فقال له: صدقت، وبيت الله (1) . وقد سبق في ترجمة مروان بن أبي حفصة الشاعر طرف من أخباره، وكان مروان خصيصاً به وأكثر مدائحه فيه. وكان معن في أيام بني أمية متنقلاً في الولايات، منقطعاً إلى يزيد بن عمر بن هبيرة الفزاري أمير العراقين، فلما انتقلت الدولة إلى بني العباس وجرى بين أبي جعفر المنصور وبين يزيد بن عمر المذكور من محاصرته بمدينة واسط ما هو مشهور - وسيأتي في ترجمة يزيد المذكور طرف من هذه الواقعة إن شاء الله تعالى - أبلى يؤمئذ معن مع يزيد بلاء حسناً، فلما قتل يزيد خاف معن بن المنصور (2) فاستتر عنه مدة، وجرى له مدة استتاره غرائب. فمن ذلك ما حكاه مروان بن أبي حفصة الشاعر المذكور قال: أخبرني معن بن زائدة، وهو يومئذ متولي بلاد اليمن، أن المنصور جد في طلبي وجعل لمن يحملني إليه مالاً، قال: فاضطررت لشدة الطلب إلى أن تعرضت للشمس حتى لوحت وجهي، وخففت عارضي ولبست جبة صوف، وركبت جملاً وخرجت متوجهاً إلى البادية لأقيم بها، قال: فلما خرجت من باب حرب، وهو أحد أبواب بغداد، تبعني أسود متقلد بسيف، حتى إذا غبت عن الحرس قبض على خطام الجمل فأناخه، وقبض على يدي، فقلت له: ما بك فقال: أنت طلبة أمير المؤمنين فقلت: ومن أنا حتى أطلب (3) فقال: أنت معن ابن زائدة، فقلت له: يا هذه اتق الله عز وجل، وأين أنا من معن فقال: دع هذا، فوالله إني لأعرف بك منك، فلما رأيت منه الجد قلت له: هذا جوهر قد حملته بأضعاف ما جعله المنصور لمن يجيئه بي، فخذه ولا تكن سبباً في سفك دمي، قال: هاته، فأخرجته إليه، فنظر فيه ساعة وقال: صدقت في قيمته، ولست قابله حتى أسألك عن شيء، فإن صدقتني أطلقتك،   (1) زيادة من لي بر من، أوردها أيضاً وستنفيلد. (2) لي بر من: أبي جعفر المنصور. (3) ر: ومن أنا حتى أكون طلبة أمير المؤمنين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 245 فقلت (1) : قل (2) ، قال: إن الناس قد وصفوك بالجود، فأخبرني هل وهبت مالك كله قط قلت: لا، قال: فنصفه قلت: لا، قال فثلثه قلت لا، حتى بلغ العشر، فاستحييت وقلت: أظن أني قد فعلت هذا، قال: ما ذاك بعظيم، وأنا والله راجل ورزقي من أبي جعفر المنصور كل شهر عشرون درهماً، وهذا الجوهر قيمته ألوف دنانير، وقد وهبته لك ووهبتك لنفسك ولجودك المأثور (3) بين الناس، ولتعلم أن في هذه الدنيا (4) من هو أجود منك، فلا تعجبك نفسك، ولتحقر (5) بعد هذا كل جود فعلته ولا تتوقف عن مكرمة، ثم رمى العقد في حجري وترك خطام الجمل وولى منصرفاً، فقلت: يا هذا، قد والله فضحتني ولسفك دمي أهون علي مما فعلت، فخذ ما دفعته لك فإني غني عنه، فضحك وقال: أردت أن تكذ بني في مقالي هذا، والله لا أخذته ولا آخذ لمعروف ثمناً أبداً، ومضى لسبيله، فوالله لقد طلبته بعد أن أمنت، وبذلت لمن يجيء به ما شاء، فما عرفت له خبراً، وكأن الأرض ابتلعته. ولم يزل معن مستتراً حتى كان يوم الهاشمية، وهو يوم مشهور ثار فيه جماعة من أهل خراسان على المنصور فوثبوا عليه، وجرت مقتلة (6) بينهم وبين أصحاب المنصور بالهاشمية، وهي مدينة بناها السفاح بالقرب من الكوفة. ذكر غرس النعمة بن الصابي في كتاب " الهفوات " ما مثاله (7) : لما فرغ السفاح من بناء مدينته بالأنبار، وذلك في ذي العقدة سنة أربع وثلاثين ومائة، وكان معن متوارياً بالقرب منهم، فخرج متنكراً معتماً ملثماً، وقد تقدم إلى القوم وقاتل قدام المنصور قتالاً أبان فيه عن نجدة وشهامة وفرقهم، فلما أفرج عن المنصور   (1) ر: فقلت له. (2) بر: نعم قل. (3) ق: المأثور عنك. (4) هذه: سقطت من بر من والمختار. (5) ر ص لي: ولتحقر. (6) بر من: مقتلة عظيمة. (7) لم ترد هذه الحكاية في كتاب الهفوات المطبوع. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 246 قال له: من أنت ويحك فكشف لثامه فقال: أنا طلبتك يا أمير المؤمنين معن بن زائدة، فأمنه المنصور وأكرمه وكساه وزينه، وصار من خواصه، ثم دخل عليه بعد ذلك في بعض الأيام فلما نظر إليه قال: هيه يا معن، تعطي مروان بن أبي حفصة مائة ألف درهم على قوله: معن بن زائدة الذي زيدت به ... شرفاً على شرف بنو شيبان فقال: كلا يا أمير المؤمنين، إنما أعطيته على قوله في هذه القصيدة: ما زلت يوم الهاشمية معلناً ... بالسيف دون خليفة الرحمن فمنعت حوزته وكنت وقاءه ... من وقع كل مهند وسنان فقال: أحسنت يا معن. وقال له يوماً: يا معن، ما أكثر وقوع الناس في قومك فقال: يا أمير المؤمنين: إن العرانين تلقاها محسدة ... ولا ترى للئام الناس حساداً ودخل عليه يوماً وقد أسن فقال له: كبرت يا معن، فقال: في طاعتك يا أمير المؤمنين، فقال: وإني لجلد، فقال: على أعدائك يا أمير المؤمنين، فقال: وفيك بقية، فقال، هي لك يا أمير المؤمنين. وعرض هذا الكلام على عبد الرحمن بن زيد زاهد أهل البصرة، فقال: ويح هذا، ما ترك لربه شيئاً. وأشهر قصائد مروان فيه وأحسنها القصيدة اللامية التي ذكرت بعضها في ترجمة مروان، وهي طويلة تزيد على خمسين بيتاً، ولولا خوف الإطالة لذكرتها، وله فيه من قصيدة: قد آمن الله من خوف ومن عدم ... من كان معن له جاراً من الزمن معن بن زائدة الموفي بذمته ... والمشتري المجد بالغالي من الثمن يرى العطايا التي تبقى محامدها ... غنماً إذا عدها المعطي من الغبن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 247 بنى لشيان مجداً لا زوال له ... حتى تزول ذرى الأركان من حضن حضن: بفتح الحاء المهملة والضاد المعجمة وبعدها نون، اسم جبل عظيم بين نجد وتهامة، بينه وبين تهامة مرحلة، يقال في المثل: أنجد من رأى حضناً، وله ذكر كثير من الأشعار والأخبار (1) . ودخل على معن بعض الفصحاء يوماً فقال له: إني لو أردت أن أستشفع إليك ببعض من يثقل عليك لوجدت ذلك سهلاً، ولكني استشفعت إليك بقدرك، واستغنيت بفضلك، فإن رأيت أن تضعني من كرمك بحيث وضعت نفسي من رجائك فافعل، وإني لم أكرم نفسي عن مسألتك فأكرم وجهي عن ردك. ولمعن أشعار جيدة وأكثرها في الشجاعة، وقد ذكره أبو عبد الله ابن المنجم في كتاب البارع وأورد له عدة مقاطيع، فمن ذلك قوله في خطاب ابن أخي عبد الجبار بن عبد الرحمن، وقد رآه يتبختر بين السماطين، وكان قبل ذلك لقي الخوارج ففر منهم: هلا مشيت كذا غداة لقيتهم ... وصبرت عند الموت يا خطاب نجاك خوار العنان كأنه ... تحت العجاج إذا استحث عقاب وتركت صحبك والرماح تنوشهم ... وكذاك من قعدت به الأحساب وقال أبو عثمان المازني النحوي: حدثني صاحب شرطة معن قال: بينما أنا على رأس معن إذا هو براكب يوضع، فقال معن: ما أحسب الرجل يريد غيري، ثم قال لحاجبه: لا تحجبه، قال: فجاء حتى مثل بين يديه وأنشد: أصلحك الله قل ما بيدي ... فما أطيق العيال إذ كثروا ألح دهر رمى بكلكله ... فأرسلوني إليك وانتظروا قال: فقال معن وأخذته الأريحية: لا جرم والله لأعجلن أوبتك، ثم قال:   (1) وله فيه ... والأخبار: سقط من: لي بر من. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 248 يا غلام، ناقتي الفلانية وألف دينار، فادفعها إليه، فادفعها إليه وهو لا يعرفه، هكذا روى هذا الخطيب في تاريخه (1) . وأخبار معن ومحاسنه كثيرة. وكان قد ولي سجستان في أواخر أمره، وانتقل إليها، وله في آثار وماجرايات، وقصده الشعراء بها، فلما كانت سنة إحدى وخمسين، وقيل اثنتين وخمسين، وقيل ثمان وخمسين ومائة، كان في داره صناع يعملون له شغلاً، فاندس بينهم قوم من الخوارج، فقتلوه بسجستان وهو يحتجم، ثم تتبعهم ابن أخيه يزيد بن مزيد بن زائدة - الآتي ذكره إن شاء الله تعالى - فقتلهم بأسرهم، وكان قتله بمدينة بست. ولما قتل معن رثاه الشعرا بأحسن المراثي، فمن ذلك قول مروان بن أبي حفصة شاعره المذكور، وهي قصيدة من أفخر الشعر وأحسنه، وأولها: مضى لسبيله معن، وأبقى ... مكارم لن تبيد ولن تنالا كأن الشمس يوم أصيب معن ... من الإظلام ملبسة جلالاً هو الجبل الذي كانت نزار ... تهد من العدو به الجبالا وعطلت الثغور لفقد معن ... وقد يروي بها الأسل النهالا (2) وأظلمت العراق وأورثتها ... مصيبته المجللة اختلالا وظل الشام يرجف جانباه ... لركن العز حين وهى فمالا (3) وكادت من تهامة كل أرض ... ومن نجد تزول غداة زالا فإن يعل (4) البلاد له خشوع ... فقد كانت تطول به اختيالا أصاب الموت يوم أصاب معناً ... من الأحياءأكرمهم فعالا وكان الناس كلهم لمعن ... إلى أن زار جفرته عيالا   (1) سقطت رواية المازني من النسخ لي بر من. (2) ق ن والمختار: النبالا. (3) لي ق: ومالا. (4) ص والمختار: يعرُ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 249 ولم يك طالب للعرف ينوي ... إلى غير ابن زائدة ارتحالا مضى من كان يحمل كل ثقل ... ويسبق فيض نائله السؤالا وما عمد الوفود لمثل معن ... ولا حطوا بساحته الرحالا ولا بلغت أكف ذوي العطايا ... يميناً من يديه ولا شمالا وما كانت تجف له حياض ... من المعروف مترعة سجالا لأبيض لايعد المال حتى ... يعم به بغاة الخير مالا (1) فليت الشامتين به فدوه ... وليت العمر مد له فطالا ولم يك كنزه ذهباً، ولكن ... سيوف الهند والحلق المذالا ومارنة من الخطي سمراً ... ترى فيهن ليناً واعتدالا وذخراً من محامد باقيات ... وفضل تقى به التفضيل نالا ومنها (2) : مضى لسبيله من كنت ترجو ... به عثرات دهرك أن تقالا فلست بمالك عبرات عين ... أبت بدموعها إلا انهمالا وفي الأحشاء منك غليل حزنٍ ... كحر النار تشتعل اشتعالا وقائلة رأت جسمي ولوني ... معاً عن عهدها قلباً فحالا أرى مروان عاد كذي نحول ... من الهنندي قد فقد الصقالا رأت رجلاً براه الحزن حتى ... أضر به وأورثه خبالا فقلت لها: الذي أنكرت مني ... لفجع مصيبة أنكى وعالا (3) وأيام المنون لها صروف ... تقلب بالفتى حالاً فحالا ومنها (4) :   (1) سقط البيت من أكثر النسخ. (2) ن: ومن القصيدة. (3) في أكثر النسخ: وغالا. (4) ن: ومن قصيدته. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 250 كأن الليل واصل بعد معن ... ليالي قد قرن به فطالا فلهف أبي عليك إذا العطايا ... جعلن منى كواذب واعتلالا ولهف أبي عليك إذا اليتامى ... غدوا شعثاً كأن بهم سلالا (1) ولهف أبي عليك إذا القوافي ... لممتدح بها ذهبت ضلالا ولهف أبي عليك لكل هيجا ... لها تلقي حواملها السخالا أقمنا باليمامة إذ يئسنا ... مقاماً لا نريد له زيالا وقلنا أين نرحل بعد معن ... وقد ذهب النوال فلا نوالا ما شهد الوقائع منك أمضى ... وأكرم مقدماً وأشد بالا سيذكرك الخليقة غير قال ... إذا هو في الأمور بلا الرجالا ولا ينسى وقائعك اللواتي ... على أعدائه جعلت وبالا ومعتركاً شهدت به حفاظاً ... وقد كرهت فوارسه النزالا حباك أخو أمية بالمراثي ... مع المدح الذي قد كان قالا أقام وكان نحوك كل عام ... يطيل بواسط الرحل اعتقالا وألقى رحله أسفاً وآلى ... يميناً لا يشد له حبالا وهذه المرثية من أحسن المراثي. وقال عبد الله بن المعتز في كتاب طبقات الشعراء (2) : دخل مروان بن أبي حفصة على جعفر البرمكي فقال له: ويحك، أنشدني مرثيتك في معن بن زائدة، فقال: بل أنشدك مديحي فيك، فقال جعفر: أنشدني مرثيتك في معن، فأنشأ يقول: وكان الناس كلهم لمعن ... إلى أن زار حفرته عيالا حتى فرغ من القصيدة، وجعل جعفر يرسل دموعه على خديه، فلما فرغ قال له جعفر: هل أثابك على هذه المرثية أحد من ولده وأهله شيئاً قال:   (1) : غدوا غرثى وقد راحوا ثكالى؛ لي ر: غدوا سغباً. (2) طبقات ابن المعتز: 45. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 251 لا: قال جعفر: فلو كان معن حياً ثم سمعها منك كم كان يثيبك عليها قال: أصلح الله الوزير، أربعمائة دينار، قال جعفر: فأنا نظن أنه كان لا يرضى لك بذلك، قد أمرنا لك عن معن، رحمه الله تعالى، بالضعف مما ظننت، وزدناك نحن مثل ذلك، فاقبض من الخازن ألفاً وستمائة دينار قبل أن تنصرف إلى رحلك، فقال مروان يذكر جعفراً وما سمح به عن معن: نفحت مكافئاً عن قبر معن ... لنا مما تجود به سجالا فعجلت العطية يا ابن يحيى ... لنادبه ولم ترد المطالا فكافأ عن صدى معن جواد ... بأجود راحة بذل النوالا بنى لك خالد وأبوك يحيى ... بناء في المكارم لن ينالا كأن البرمكي بكل مال ... تجود به يداه يفيد مالا ثم قبض المال وانصرف. وحكى أبو الفرج الاصبهاني في كتاب الأغاني عن محمد البيذق النديم أنه دخل على هارون الرشيد، فقال له: أنشدني مرثية مروان بن أبي حفصة في معن ابن زائدة، فأنشده بعض هذه القصيدة، فبكى الرشيد، قال: وكان بين يديه سكرجة فملأها من دموعه. ويقال: أن مروان بعد هذه القصيدة المرثية (1) لم ينتفع بشعره، فإنه كان إذا مدح خليفة أو من دونه قال له: أنت قلت في مرثيتك: وقلنا أين نرحل بعد معن ... وقد ذهبت النوال فلا نوالا فلا يعطيه الممدوح شيئاً، ولا يسمع قصيدته. حدث الفضل ابن الربيع قال (2) : رأيت مروان بن أبي حفصة وقد دخل على المهدي بعد موت معن بن زائدة في جماعة من الشعراء فيهم سلم الخاسر وغيره، فأنشده مديحاً، فقال له: من أنت فقال: شاعرك مروان بن أبي حفصة،   (1) القصيدة: سقطت من: لي ر بر من؛ المثية: سقطت من المختار. (2) الأغاني 10: 91. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 252 فقال له المهدي: ألست القائل: وقلنا أين نرحل بعد معن ... وأنشده البيت المذكور، وقد جئت تطلب نوالنا وقد ذهب النوال! لا شيء لك عندنا، جروا برجله، قال: فجروا برجله حتى أخرجوه، فلما كان في العام المقبل تلطف حتى دخل مع الشعراء، وإنما كانت الشعراء تدخل على الخلفاء في ذلك الحين في كل عام مرة، قال: فمثل بين يديه وأنشده قصيدته التي أولها: طرقتك زائرة فحي خيالها ... بيضاء تخلط بالحياء دلالها قادت فؤادك فاستقاد ومثلها ... قاد القلوب إلى الصبا فأمالها فأنصت له حتى بلغ إلى قوله: هل تطمسون من السماء نجومها ... بأكفكم أو تسترون هلالها (1) وقد تقد ذكر بعضها في ترجمة مروان، قال: فأنصت له المهدي، ولم يزل يزحف كلما سمع شيئاً فشيئاً منها، حتى صار على البساط إعجاباً بما سمع، ثم قال له: كم بيت هي فقال: مائة بيت، فأمر له بمائة ألف درهم، وهذا يخالف ما ذكرناه في ترجمته، لكنه يختلف باختلاف الروايات، ويقال إنها أول مائة ألف أعطيها شاعر في خلافة بني العباس. قال الفضل بن الربيع فلم تلبث الأيام أن (2) أفضت الخلافة إلى هارون الرشيد، ولقد رأيت مروان مائلاً مع الشعراء بين يديه، وقد أنشده شعراً، فقال له: من أنت فقال: شاعرك مروان بن أبي حفصة، فقال له: ألست القائل في معن كذا، وأنشده البيت، ثم قال: خذوا بيده فأخرجوه فإنه لا شيء له عندنا، ثم تلطف حتى دخل عليه بعد ذلك، فأنشده فأحسن جائزته (3) .   (1) ما بين معقفين انفردت ر بايراده؛ وهو متابع لما في الأغاني. (2) ق: فلم تلبث الأيام والليالي حتى. (3) حدث الفضل ... جائزته: سقط كله من: لي بر من، والمختار. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 253 ومن المراثي النادرة أيضاً أبيات الحسين بن مطير بن الأشيم الأسدي في معن بن زائدة أيضاً، وهي من أبيات الحماسة (1) : ألما على معن وقولا لقبره ... سقتك الغوادي مربعاً ثم مربعا فيا قبر كيف واريت جوده ... وقد كان منه البر والبحر مترعا ويا قبر معن أنت أول حفرة ... من الأرض خطت للمكارم مضجعا بلى قد وسعت الجود، والجود ميت ... ولو كان حياً ضقت حتى تصدعا فتى عيش في معروفه بعد موته ... كما كان بعد السيل مجراه مرتعا ولما مضى معن مضى الجود وانقضى ... وأصبح عرنين المكارم أجدعا وقد سبق لمعن في ترجمة الصاحب بن عباد نادرة مستظرفة (2) فلا حاجة على إعادتها هنا، ولولا خوف الإطالة لأتيت من محاسنه بكل نادرة بديعة. (258) والحوفزان بن شريك الشيباني الموصوف بالكرم والشجاعة أخو جده مطر بن شريك، وإنما قيل له الحوفزان لأن قيس بن عاصم المنقري حفزه بالرمح حين خاف أن يفوته، ومعنى حفزه أي دفعه من خلفه، واسم الحوفزان الحارث بن شريك، وقيل إن الذي حفزه بسطام بن قيس الشيباني، والأول أصلح، والله تعالى أعلم بالصواب.   (1) انظر شرح المرزوقي: الحماسية رقم: 319. (2) انظر ج 1: 229. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 254 733 - (1) مقاتل صاحب التفسير أبو الحسن مقاتل بن سليمان بن بشير، الأزدي بالولاء الخراساني المروزي، أصله من بلخ وانتقل إلى البصرة ودخل بغداد وحدث بها، وكان مشهوراً بتفسير كتاب الله العزيز، وله التفسير المشهور. وأخذ الحديث عن مجاهد بن جبر وعطاء بن أبي رباح - المقدم ذكره - وأبي إسحاق السبيعي - وقد تقدم ذكره أيضاً - والضحاك بن مزاحم ومحمد بن مسلم الزهري وغيرهم. وروى عنه بقية بن الوليد الحمصي (2) وعبد الرزاق بن همام الصنعاني - المقدم ذكره - وحرمي بن عمارة وعلي بن الجعد، وغيرهم. وكان العلماء الأجلاء، حكى عن الإمام الشافعي، رضي الله عنه، أنه قال: الناس كله عيال على ثلاثة: على مقاتل بن سليمان في التفسير، وعلى زهير ابن أبي سلمى في الشعر، وعلى أبي حنيفة في الكلام. وروي أن أبا جعفر المنصور كان جالساً، فسقط عليه الذباب فطيره، فعاد إليه، وألح عليه، وجعل يقع على وجهه، وأكثر من السقوط عليه مراراً حتى أضجره، فقال المنصور: انظروا من بالباب، فقيل له: مقاتل بن سليمان، فقال: علي به، فأذن له، فلما دخل عليه قال له: هل تعلم لماذا خلق الله تعالى الذباب قال: نعم ليذل الله عز وجل به الجبابرة، فسكت المنصور. وقال إبراهيم الحربي: قعد مقاتل بن سليمان فقال: سلوني عما دون العرش، فقال له رجل: آدم صلى الله عليه وسلم حين حج من حلق رأسه فقال له: ليس هذا من علمكم، ولكن الله تعالى أراد أن يبتليني لما أعجبتني نفسي. وقال   (1) ترجمته في الجرح والتعديل 1/4: 354 وتاريخ بغداد 13: 160 وتهذيب التهذيب 10: 279 وميزان الاعتدال 4: 173 والشذرات 1: 227. (2) الحمصي: سقطت من: بر من لي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 255 سفيان بن عيينة، قال مقاتل بن سليمان يوماً: عما دون العرش، فقال له إنسان: يا أبا الحسن، أرأيت الذرة والنملة معاها في مقدمها أو في مؤخرها قال: فبقي الشيخ لا يدري ما يقول له، قال سفيان: فظننت أنها عقوبة عوقب بها. وقد اختلف العلماء في أمره، فمنهم من وثقه في الرواية، ومنهم من نسبه إلى الكذب. قال بقية بن الوليد: كنت كثيراً أسمع شعبة بن الحجاج وهو يسأل عن مقاتل، فما سمعته قط ذكره إلا بخير. وسئل عبد الله بن المبارك عنه فقال: رحمه الله، لقد ذكر لنا عنه عباده. وروي عن عبد الله بن المبارك أيضاً أنه ترك حديثه. وسئل إبراهيم الحربي عن مقاتل: هل سمع من الضحاك ابن مزاحم شيئاً فقال: لا مات الضحاك قبل أن يولد مقاتل بأربع سنين. وقال مقاتل: أغلق علي وعلى الضحاك باب أربع سنين؛ قال إبراهيم: وأراد بقوله باب يعني باب المدينة، وذلك في المقابر. وقال إبراهيم أيضاً: ولم يسمع مقاتل عن مجاهد شيئاً ولم يلقه. وقال أحمد بن سيار: مقاتل بن سليمان كان من أهل بلخ، وتحول إلى مرو، وخرج إلى العراق، وهو متهم متروك الحديث مهجور القول، وكان يتكلم في الصفات بما لا تحل الرواية عنه. وقال إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني: مقاتل بن سليمان كان دجالاً جسوراً. وقال أبو عبد الرحمن النسائي: الكذابون المعروفون بوضع الحديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة: ابن يحيى بالمدينة، والواقدي ببغداد، ومقاتل بن سليمان بخراسان، ومحمد بن سعيد ويعرف بالمصلوب بالشام. وذكر وكيع يوماً مقاتل بن سليمان فقال: كان كذاباً. وقال أبو بكر الآجري: سألت أبا داود سليمان بن الأشعث عن مقاتل بن سليمان، فقال: تركوا حديثه. وقال عمرو بن علي الفلاس: مقاتل بن سليمان كذاب متروك الحديث. وقال البخاري: مقاتل بن سليمان سكتوا عنه. وقال في موضع آخر: لا شيء ألبتة. وقال يحيى بن معين: مقاتل بن سليمان ليس حديثه بشيء. وقال أحمد بن حنبل: مقاتل بن سليمان صاحب التفسير ما يعجبني أن أروي عنه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 256 شيئاً. وقال أبو حاتم الرازي: هو متروك الحديث. وقال زكريا بن يحيى الساجي: مقاتل بن سليمان من أهل خراسان قالوا: كان كذاباً متروك الحديث. وقال أبو حاتم محمد بن حبان البستي: مقاتل بن سليمان كان يأخذ عن اليهود والنصارى علم القرآن العزيز الذي يوافق كتبهم، وكان مشبهاً يشبه الرب بالمخلوقين، وكان يكذب مع ذلك في الحديث. وبالجملة فإن الكلام في حقه كثير، وقد خرجنا عن المقصود، لكن أردت ذكر اختلاف أقاويل العلماء في شأنه. وتوفي سنة خمسين ومائة بالبصرة، رحمه الله تعالى. وقد تقدم الكلام على الأزدي والمروزي فأغنى عن الإعادة. 734 - (1) شبل الدولة أبو الهيجاء مقاتل بن عطية بن مقاتل البكري الحجازي، الملقب شبل الدولة؛ كان من أولاد أمراء العرب، فوقع بينه وبين إخوته وحشة أوجبت رحيله عنهم، ففارقهم ووصل إلى بغداد ثم خرج إلى خراسان وانتهى إلى غزنة، وعاد إلى خراسان، واختص بالوزير نظام الملك وصاهره، ولما قتل نظام النلك رثاه أبو الهيجاء المذكور ببيتين، تقدم ذكرهما في ترجمته. ثم عادى إلى بغداد وأقام بها مدة، وعزم على قصد كرمان مسترفداً وزيرها ناصر الدين مكرم بن العلاء، وكان من الأجواد المشاهير، فكتب إلى الأمام المستظهر بالله قصة يلتمس فيها الإنعام عليه بكتاب إلى الوزير المذكور، مضمونه الإحسان إليه، فوقع المستظهر على رأس قصته: " يا أبا الهيجاء، أبعدت النجعة، أسرع الله بك الرجعة، وفي ابن العلاء مقنع، وطريقه في الخير   (1) انظر النجوم الزاهرة 5: 204؛ ولم يرد من هذه الترجمة في المختار إلا بعض أبيات الغزي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 257 مَهْيَع، وما يسديه إليك تستحلي ثمرة شكره، وتستعذب مياه بره، والسلام " فاكتفى أبو الهيجاء بهذه الأسطر، واستغنى عن الكتاب. وتوجه إلى كرمان، فلما وصلها قصد حضرة الوزير واستأذن في الدخول فأذن له، فدخل عليه وعرض على رأيه القصة، فلما رآها قام وخرج عن دسته فأذن له، إجلالاً لها وتعظيماً لكاتبها، وأطلق لأبي الهيجاء ألف دينار في ساعته ثم عاد إلى دسته، فعرفه أبو الهيجاء أن معه قصيدة يمدحه بها، فاستنشده إياها فأنشده: دع العيس تذرع عرض الفلا ... إلى ابن العلاء، وإلا فلا فلما سمع الوزير هذا البيت أطلق له ألف دينار أخرى، ولما أكمل إنشاده القصيدة أطلق له ألف دينار أخرى، وخلع عليه، وقاد إليه جواداً بمركبة، وقال له: دعاء أمير المؤمنين مسموع مرفوع، وقد دعا بسرعة الرجوع، وجهزه بجميع ما يحتاج إليه. فرجع إلى بغداد وأقام بها قليلاً، ثم سافر إلى ما وراء النهر وعاد إلى خراسان ونزل إلى مدينة هراة، وهوي بها امرأة وأكثر من التشبيب فيها، ثم رحل إلى مرو واستوطنها؛ ومرض في آخر عمره وتسودن، وحمل إلى البيمارستان، وتوفي في حدود سنة خمس وخمسمائة، رحمه الله تعالى. وكان من جملة الأدباء الظرفاء، وله النظم البديع الرائق، وبينه وبين العلامة أبي القاسم الزمخشري المقدم ذكره مكاتبات ومادعبات، وكتب إليه قبل الاجتماع به: هذا أديب كامل ... مثل الدراري درره زمخشري فاضلٌ ... أنجبه زمخشره كالبحر إن لم أره ... فقد أتاني خبره فكتب إليه الزمخشري: شعره أمطر شعري شرفا ... فاعتلى منه ثياب الحسد (1)   (1) ق ن ر: ثياب الجسد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 258 كيف لا يستأسد النبت إذا ... بات مسقياً بنوء الأسد (1) وله كل مقطوع لطيف، رحمه الله تعالى. والوزير المذكور هو الذي تقدم ذكره في ترجمة أبي إسحاق إبراهيم الغزي الشاعر المشهور، فإن قصده بكرمان وامتدحه بقصيدة بائية طنانة ذكرت منها في ترجمة الغزي بيتين هما من الشعر العجيب، وضمنهما المعنى الغريب. وأول هذه القصيدة: ورود ركايا الدمع يكفي الركائبا ... وشم تراب الربع يشفي الترائبا إذا شمت من برق العقيق عقيقه ... فلا تنتجع دون الجفون (2) السحائبا ومنها عند الخروج إلى المديح: وعيسٍ لها برهان عيسى بن مريم ... إذا قتل الفج العميق المطالبا يرقصهن الآل إما طوافيا ... تراهن في آذيه أو رواسبا سوانح (3) كالبنيان تحسب أنني ... مسحت المطايا إذ مسحت السباسبا تنسمن من كرمان عرفاً عرفته ... فهن يلاعبن النشاط لواغبا يرين وراء الخفاقين من المنى ... مشارق لم يؤبه لها ومغاربا إلى ماجد لم يقبل المجد وارثاً ... ولكن سعى حتى حوى المجد كاسبا تبسم ثغر الدهر منه بصاحب ... إذا جد لم يصحب سوى العزم صاحبا ومنها: تصيخ له الأسماع ما دام قائلاً ... وتعنو له الأبصار مادام كاتبا ولم أر ليثاً خادراً قبل مكرم ... ينافس في العليا ويعطي الرغائبا ولو لم يكن ليثاً مع الجود لم يكن ... إذا صال بالأقلام صارت مخالبا   (1) يتلاعب الزمخشري على لفظة " أسد " اسم البرج، والممدوح هو " شبل " الدولة (2) لي: البروق؛ ق ن: الخفوق. (3) كذا في النسخ، ولعلها " شوامخ ". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 259 ومنها: إذا زان قوماً بالمناقب واصف ... ذكرنا له فضلاً يزين المناقبا له السئيم الشم التي لو تجسمت ... لكانت لوجه الدهر عيناً وحاجبا ثنى نحو شمطاء الوزارة طرفه ... فصارت بأدنى لحظة منه كاعبا تناول أولاها وما مد ساعداً ... وأحرز أخراها وما قام واثبا وهي من غرر القصائد، وفي هذا الأنموذج منها دلالة على الباقي. 735 - (1) المقلد العقيلي أبو حسان المقلد بن المسيب بن رافع بن المقلد بن جعفر بن عمرو بن المهنا عبد الرحمن بن بريد - بالتصغير - ابن عبد الله بن زيد بن قيس بن جوثة (2) بن طهفة بن حزن بن عقيل بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوزان، العقيلي، الملقب حسام الدولة، صاحب الموصل. كان أخوه أبو الدواد (3) محمد بن المسيب أول من تغلب على الموصل وملكها من أهل هذا البيت، وذلك في سنة ثمانين وثلثمائة. وتزوج بهاء الدولة أبو نصر ابن عضد الدولة بن بويه الديلمي ابنته. فلما مات أبو الدواد في سنة سبع وثمانين قام أخوه المقلد المذكور بالملك من بعده، وكان أعور. وذكر شيخنا ابن الأثير في تاريخه أن ذلك في سنة ست وثمانين، وأن أبا الدواد لما توفي طمع   (1) أخباره في تاريخ ابن الأثير (ج: 9) والنجوم الزاهرة 4: 203 وعبر الذهبي 3: 51 والشذرات 3: 138. (2) ص: جوية؛ وفي ق غير معجمة؛ لي: حونة؛ بر: حوثة. (3) ق: الذواد؛ ص: الزواد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 260 المقلد في الملك، فلم يساعده بنو عقيل، وقدموا أخاه علياً لكبر سنه، ثم توصل بالخديعة حتى ملك، وأطال القول في ذلك فاختصرته، وهذا حاصله. وقال غير ابن الأثير: إنه كان فيه عقل وسياسة وحسن تدبير، فغلب على سقي الفرات واتسعت مملكته. ولقبه الإمام القادر بالله وكناه، وأنفذ إليه باللواء والخلع فلبسها بالأنبار. واستخدم من الديلم والأتراك ثلاثة آلاف رجل وأطاعته خفاجة، وكان فيه فضل ومحبة لأهل الأدب، وينظم الشعر. حكى أبو الهيجاء بن عمران بن شاهين قال: كنت أساير معتمد الدولة أبا المنيع قرواش بن المقلد المذكور ما بين سنجار ونصيبين، فنزلنا، ثم استدعاني بعد الزوال، وقد نزل بقصر هناك يعرف بقصر (1) العباس بن عمرو الغنوي، وكان مطلاً على بساتين ومياه كثيرة، فدخلت عليه فوجدته قائماً يتأمل كتابه على الحائط، فقرأتها فإذا هي: يا قصر عباس بن عم ... رو كيف فراقك ابن عمرك قد كنت تغتال الدهو ... ر فكيف غالك ريب دهرك واهاً لعزك بل لجو ... دك بل لمجدك بل لفخرك وتحتها مكتوب " وكتب علي بن عبد الله بن حمدان بخطه في سنة إحدى وثلاثين " قلت: وهذا الكاتب هو سيف الدولة بن حمدان ممدوح المتنبي، وقد تقدم ذكره - قال الراوي: وكان تحت ذلك مكتوب: يا قصر ضعضعك الزما ... ن وحط من علياء فخرك ومحا محاسن أسطر ... شرفت بهن متون جدرك واهاً لكاتبها الكري ... م وقدره الموفي بقدرك وتحت الأبيات مكتوب " وكتب الغضنفر بن الحسن بن علي بن حمدان بخطه في سنة اثنتين وستين وثلثمائة " - قلت: وهذا الكاتب هو عدة الدولة بن ناصر الدولة الحسن بن عبد الله بن حمدان ابن أخي سيف الدولة، وقد سبق ذكر   (1) لي: بقصير. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 261 والده أيضاً في حرف الحاء - وتحت ذلك مكتوب: يا قصر ما فعل الألى ... ضربت قبابهم بعقرك أخنى الزمان عليهم ... وطواهم بطويل نشرك واهاً لقاصر عمر من ... يختال فيك وطول عمرك وتحته مكتوب " وكتب المقل بن المسيب بن رافع بخطه فيسنة ثمان وثمانين وثلثمائة " - قلت: وهذا الكاتب هو المقلد المذكور صاحب هذه الترجمة - وتحت ذلك مكتوب: يا قصر ما صنع الكرا ... م الساكنون قديم عصرك عاصرتهم فبذذتهم ... وشأوتهم طراً بصبرك ولقد أثار تفجعي ... يا ابن المسيب رقم سطرك وعلمت أني لاحق ... بك دائب في قفو أثرك وتحته مكتوب " وكتب قرواش بن المقلد بن المسيب بخطه في سنة إحدى وأربعمائة " قال الراوي: فعجبت من ذلك، وقلت لقرواش: الساعة كتبت هذا فقال: نعم، ولقد هممت بهدم القصر فإنه مشؤم قد دفن الجماعة، فدعوت له بالسلامة وانصرفت، ورحلت بعد ثلاثة أيام، ولم يهدم القصر. (259) وهذا العباس بن عمرو الغنوي من أهل تل بن سيار الذي بين الرقة ورأس عين بالقرب من حصن مسلمة بن عبد الملك بن مروان الحكمي، وكان يتولى اليمامة والبحرين، وسيره المعتضد بالله لحرب القرامطة في أول أمرهم، فقاتلوه وكسروه وأسروه، ثم أطلقوا فرجع إلى المعتضد ودخل بغداد ليلة الأحد لإحدى عشرة ليلة مضت من شهر رمضان سنة سبع وثمانين ومائتين. وقال أبو عبد الله العظيمي الحلبي في تاريخه الصغير: مات العباس بن عمرو الغنوي في سنة خمسين وثلثماثة، ومن العجائب أنه توجه إليهم في عشرة آلاف، فقتل الجميع وسلم وحده، وعمرو بن الليث الصفار حارب إسماعيل بن أحمد صاحب خراسان الجزء: 5 ¦ الصفحة: 262 وهو في خمسين ألفاً، فأخذوه ونجا الباقون (1) . وكان بين ما كتبه سيف الدولة وبين ما كتبه قرواش سبعون سنة؛ وقد سبق نظير هذه الحكاية في ترجمة عبد الملك بن عمير وما جرى له مع عبد الملك ابن مروان، فلينظر هناك. وبينما المقلد المذكور في مجلس أنسه وهو بالأنبار إذ وثب عليه غلام تركي فقتله، وذلك في صفر سنة إحدى وتسعين وثلثمائة، ويقال: إنه مدفون على الفرات بمكان يقال له شيفيا (2) بين الأنبار وهيت، وحكي أن هذا التركي سمعه وهو يقول لرجل ودعه وهو يريد الحج: إذا جئت ضريح رسول الله صلى الله عليه وسلم فقف عنده وقل له عني: لولا صاحباك لزرتك؛ ولما مات رثاه الشريف الرضي بقصيدتين ورثاه جماعة من الشعراء. (260) وكان ولده معتمد الدولة أبو المنيع قرواش غائباً عنه، ثم تقلد الأمر من بعده وكان له عمان ينازعانه في الأمر: أحدهما ابو الحسن ابن المسيب، والآخر أبو مرح (3) مصعب بن المسيب، فتوفي أبو الحسن سنة اثنتين وتسعين، وتوفي أبو مرح سنة سبع وتسعين، فتفرد قرواش بالملك واستراح خاطره منهما، وكانت له بلاد الموصل والكوفة والمدائن وسقي الفرات، وخطب في بلاده للحاكم صاحب مصر - وسيأتي ذكره (4) - في سنة إحدى وأربعمائة، ثم رجع عن ذلك، ووصلت الغز إلى الموصل ونهبوا دار قرواش، وأخذوا منها ما يزيد على مائتي ألف دينار، فاستنجد بنور الدولة أبي الأغر دبيس يبن صدقة - المقدم ذكره (5) - فانجده واجتمعا على محاربة الغز فنصروا عليهم وقتل الكثير منهم. ومدحه أبو علي ابن الشبل البغدادي الشاعر المشهور بقصيدة ذكر فيها هذه الواقعة، فمنها قوله:   (1) وهذا العباس ... الباقون: سقط من: لي بر من. (2) ر ن ق ص: شيقيا. (3) ن: مرج؛ وفي المطبوعات المصرية ودي سلان: مرخ. (4) ن: المقدم ذكره، وهو خطأ. (5) ج 2: 263. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 263 نزهت أرضك عن قبور (1) جسومهم ... فغدت قبورهم بطون الأنسر من بعد ما وطئوا البلاد وظفروا ... من هذه الدنيا بكل مظفر فضوا رتاج السد عن يأجوجه ... ولقوا ببأسك سطوة الإسكندر وكان قرواش المذكور يلقب مجد الدين، وهو ابن أخت الأمير أبي الهيجاء الهذباني صاحب إربل، وكان (2) أديباً ظريفاً، وله أشعار سائرة، فمن ذلك ما أورده له أبو الحسن الباخزري في أول كتاب " دمية القصر " (3) وهو قوله: لله در النائبات فإنها ... صدأ اللئام وصقيل الأحرار ما كنت إلا زبرة فطبعنني ... سيفاً وأطلق صرفهن غراري وأورد له أيضاً: من كان يحمد أو يذم مورثاً ... للمال من آبائه وجدوده فأنا امرؤ لله أشكر وحده ... شكراً كثيراً جالياً لمزيده لي أشقر ملء العنان مغاور ... يعطيك كا يرضيك من مجهوده ومهند عضب إذا جردته ... خلت البروق تموج في تجريده ومثقف لدن السنان كإنما ... أم المنايا ركبت في عوده وبذا حويت المال إلا أنني ... سلطت جود يدي على تبديده ما أحسن هذا الشعر وأمتنه! ومن المنسوب إليه أيضاً: وآلفه للطيب ليست تغبه ... منعمة الطراف لينة اللمس   (1) لي بر من: قبول. (2) زيادة من ر، وردت عند وستنفيلد. (3) دمية القصر: 13 - 14. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 264 إذا ما دخان النذ من جيبها علا ... على وجهها أبصرت غيما على شمس (261) وذكر الباخرزي المذكور في " دمية القصر " أيضاً لأبي جوثة (1) ابن عم الأمير قرواش المذكور: قوم إذا اقتحموا العجاج رأيتهم ... شمساً وخلت وجوههم أقمار لا يعدولن برفدهم عن سائل ... عدل الزمان عليهم أو جارا وإذا الضريح دعاهم لملمة ... بذلوا النفوس وفارقوا الأعمارا وإذا زناد الحرب أخمد نارها ... قدحوا بأطراف الأسنة نارا (262) ومن جملة شعراء " دمية القصر " أيضاً الطاهر الجزري (2) ، وقد مدح قرواشاً المذكور بقوله، وهو في نهاية الحسن في باب الاستطراد: وليل كوجه البرقعيدي ظلمةً ... وبرد أغانيه وطول قرونه سريت ونومي فيه مشردٌ ... كعقل سليمان بن فهد ودينه على أولقٍ فيه مضاء (3) كأنه ... أبو جابر في طيشه وجنونه إلى أن بدا ضوء الصباح كأنه ... سنا وجه قرواش وضوء جبينه ولشرف الدين ابن عنين الشاعر المقدم ذكره على هذه الأسلوب في فقيهين كانا بدمشق ينبز أحدهما بالبغل والآخر بالجاموس (4) : البغل والجاموس في جدليهما ... قد أصبحا عظمةً لكل مناظر برزا عشية ليلة فتباحثا ... هذا بقرنيه وذا بالحافر ما أتقنا غير الصباح كأنما ... لقنا جدال المرتضى بن عساكر   (1) بر من: حوثة؛ ق لي: حونة؛ ر: جوشنة. (2) دمية القصر: 50. (3) ن: انزعاج. (4) ديوان ابن عنين: 205. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 265 لفظ طويل تحت معنى قاصر ... كالعلقل في عبد اللطيف الناظر اثنان ما لهما وحقك ثالث ... إلا رقاعة مدلولية (1) الشاعر ولقد حكى لي بعض الصحاب أنه سأل ابن عنين عن أبيات الطاهر الجزري واستحسن بناءه (2) عليها، فحلف أنه ما كان سمعها، والله أعلم. (263) ومدلويه المذكور: لقب كان ينبز به الرشيد أبو محمد عبد الرحمن بن محمد بن بدر بن الحسن بن المفرج بن بكار الشاعر المعروف بابن النابلسي، وكان مقيماً بدمشق، ولابن عنين فيه عدة مقاطيع هجو. وتوفي في منتصف صفر سنة تسع عشرة وستمائة بدمشق المحروسة، ودفن بباب الصغير، رحمه الله تعالى. وذكر في كتاب " الدمية " أيضاً للطاهر الجزري المذكور أبياتاً لطيفة أحببت ذكرها، وهي: انظر إلى حظ ابن شبل في الهوى ... إذ لا يزال لكل قلب شائقا شغل النساء عن الرجال، وطالما ... شغل الرجال عن النساء مراهقا عشقوه أمرد والتحى فعشقنه ... الله أكبر ليس يعدم عاشقا ثم وجدت في كتاب " الخريدة " في ترجمة أبي نصر ابن النحاس الحلبي البيتين الأخيرين من هذه الأبيات الثلاثة وقال: أورده أبو الصلت في " الحديقة " (3) له، يعني لابن النحاس، والله أعلم. رجعنا إلى حديث الأمير قرواش: وكان كريماً وهاباً نهاباً جارياً على سنن العرب، نقل أنه جمع بين أختين في النكاح (4) ، فلامته العرب على ذلك فقال: خبروني ما الذي نستعمله مما   (1) ص ق: مدكويه. (2) لي بر من: ثناءه. (3) ص ق ن: الخريدة، وهو سهو. (4) ن: نكاح. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 266 تبيحه الشريعة وكان يقول: ما في رقبتي غير خمسة أو ستة من أهل البادية قتلتهم، فأما الحاضرة فما يعبأ الله بهم. ودامت إمارة قرواش مدة خمسين سنة فوقع بينه وبين أخيه بركة بن المقلد، وكان (1) خارج البلد فقبض بركة عليه في سنة إحدى وأربعين وأربعمائة، وقيده وحبسه في الجراحية إحدى قلاع الموصل، وتولى مكانه. (264) ولقب بركة بزعيم الدولة وأقام في الإمارة سنتين، وتوفي في ذي الحجة سنة ثلاث وأربعين. (265) فقام مقامه ابن أخيه أبو المعالي قريش بن أبي الفضل بدران بن المقلد، وكان بدران المذكور صاحب نصيبين، وتوفي في رجب سنة خمس وعشرين وأربعمائة، فأول ما فعل قريش أنه قتل عمه قرواشاً المذكور في محبسه في مستهل رجب سنة أربع وأربعين وأربعمائة، ودفن بتل توبة شرقي الموصل، وكان فصيحاً شاعراً كريماً شجاعاً. وقرواش: بكسر القاف وسكون الراء وفتح الواو وبعد الأف شين معجمة، وهو فعوال من القرش، وهو في اللغة الكسب والجمع، وبه سميت قريش أيضاً لأنها كانت تعاني التجارة. واجتمع قريش مع أرسلان البساسيري المقدم ذكره على نهب (2) دار الخلافة، ثم إن الإمام القائم بأمر الله جرى على سجيته في الحلم، وكتب إلى السلطان طغرلبك المقدم ذكره في المحمدين ليرضى عنه، وورد الخبر بعد ذلك بموته، أعني قريش بن بدران في سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة في أوائلها بالطاعون بمدينة نصيبين، وكان عمره إحدى وخمسن سنة. (266) وولي بعده إمارة بني عقيل ولده أبو المكارم مسلم بن قريش الملقب شرف الدولة، وكان قد طمع في الاستيلاء على بغداد بعد وفاة السلطان طغرلبك السلجوق، المقدم ذكره ثم رجع عن ذلك، واستولى على ديار ربيعة ومضر وملك حلب وأخذ الأتاوة من بلاد الروم، وقصد دمشق وحاصرها وكاد يأخذها،   (1) ن لي بر من: وكانا. (2) ج 1: 192. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 267 فبلغه أن حران عصى عليه أهلها فرحل إليهم وحاربوه، ففتحها وقتل خلقاً كثيراً من أهلها، وذلك في سنة ست وسبعين وأربعمائة، واتسعت له المملكة، ولم يكن من أهل بيته من ملك مثله، وكانت سيرته من أحسن السير وأعدلها، وكانت الطرقات آمنة في بلاده. ومن جملة ما نقل عنه أن ابن حيوس الشاعر، المقدم ذكره مات عنده وخلف أكثر من عشرة آلاف دينار، فحمل ذلك على خزانته فرده وقال: لا يتحدث عني أحد أنني أعطيت شاعراً مالاً ثم شرهت فيه وأخذته، وأنه دخل خزانتي مال جمع من أوساخ الناس. وكان يصرف الجزية في جميع بلاده إلى الطالبين (1) ولا يأخذ منها شيئاً، وهو الذي عمر سور الموصل، وكان ابتداء عمارته يوم الحد ثالث شوال سنة أربع وسبعين، وفرغ من عمارته في ستة أشهر؛ وأخباره كثيرة. وجرى بينه وبين سليمان بن قتلمش السلجوقي صاحب الروم مصاف، قتل فيه على باب أنطاكية في خامس عشر صفر سنة ثمان وسبعين وأربعمائة، يوم الجمعة، وعمره خمس وأربعون سنة وشهور، هكذا قاله محمد بن عبد الملك الهمداني في كتابه الذي سماه " المعارف المتأخرة "؛ وذكر أيضاً ابن الصابي في تاريخه أن مولد مسلم بن قريش يوم الجمعة الثالث والعشرين من رجب سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة، والله أعلم؛ وذكر المأموني في تاريخه أنه وثب عليه خادم من خواصه فخنقه في الحمام، وذكر له واقعة في ذلك، وذلك في سنة أربع وسبعين، والله أعلم بالصواب. (267) ورتب السلطان ملكشاه السلجوقي، المقدم ذكره ولده أبا عبد الله محمداً في الرحبة وحران وسروج وبلد الخابور، وزوجه أخته زليخا بنت السلطان ألب أرسلان، وكان والده مسلم بن قريش اعتقل أخاه أبا سالم إبراهيم ابن قريش بقلعة سنجار مدة أربع عشرة سنة، فلما هلك مسلم وتقرر أمر ولده محمد في الإمارة اجتمع أهله على إبراهيم المذكور فأخرجوه وقدموه عليهم، ثم اعتقله ملكشاه وولي ابن أخيه محمداً المذكور، فلما مات ملكشاه أطلق (2) ،   (1) ر ن بر من: الطالبين. (2) ن: اطلقوه؛ ق ر لي بر من: اطلقا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 268 وجمع إبراهيم للعرب وحارب (1) تاج الدولة تتش السلجوقي، المذكور في حرف التاء بمكان يعرف بالمصنع وقتله تاج الدولة تتش صبرا في سنة ست وثمانين وأربعمائة. (268) ومن أمراء بني عقيل أيضاً أبو الحارث مهارش بن المجلي بن عليب ابن قيان (2) بن شعيب (3) بن المقلد الأكبر بن جعفر بن عمرو بن المهنا المذكور في أول هذه الترجمة؛ ومهارش المذكور هو صاحب الحديثة، وهو الذي نزل عليه الإمام القائم في قصة البساسيري لما خرج من بغداد، وبالغ في إكرامه وإجلاله والإحسان إليه، وأقام عنده سنة، وهي واقعة مشهورة فلا حاجة إلى شرحها. وكان مهارش المذكور كثير الصدقة والصلوات (4) ، ملازم الجمع والجماعات، وتوفي في صفر سنة تسع وتسعين وأربعمائة، وعمره ثمانون سنة، رحمهم الله أجمعين. 736 - مخلص الدولة ابن منقذ أبو المتوج مقلد بن نصر بن منقذ الكناني، الملقب مخلص الدولة، والد الأمير سديد الدولة أبي الحسن علي صاحب قلعة شيزر، المقدم ذكره؛ كان رجلاً نبيل القدر سائر الذكر، رزق السعادة في بنيته وحفدته،، وقد تقدم في ترجمة ولده المذكور طرف من بدء أمرهم، وكيف ملك القلعة المذكورة. وكان والده مقلد المذكور في جماعة كثيرة من أهل بيته مقيمين بالقرب من   (1) ن ق: وداور. (2) ن: عكيث؛ بر من: عكيب؛ ق ص: عليث، ر: عكيث؛ ص: قبان؛ ن: قنان ر: فتان؛ وفي لي دون اعجام إلا الباء؛ بر من: قيار. (3) لي ن ر: شعب؛ ق: أشعب. (4) ن: والصلات. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 269 قلعة شيزر عند جسر بني مقلد المنسوب إليهم، وكانوا يترددون إلى حلب وحماة وتلك النواحي، ولهم بها الآدار (1) النفسية والملاك المثمنة، وذلك كله قبل أن ملكوا (2) قلعة شيزر، وكان ملوك الشام يكرمونهم ويبجلون أقدارهم، وشعراء عصرهم يقصدونهم ويمدحونهم، وكان فيهم جماعة أعيان رؤساء كرماء علماء، وقد سبق ذكر أسامة بن منقذ (3) ، وهو من أحفاده. ولم يزل مخلص الدولة في رياسته وجلالته، إلى أن توفي في ذي الحجة سنة خمسين وأربعمائة بحلب، وحمل إلى كفرطاب؛ ورأيت في ديوان ابن سنان الخفاجي الشاعر عقيب أشعار له في المذكور (4) ، يقول ما صورته: وقال يرثيه وقد توفي في ذي الحجة سنة خمس وثلاثين وأربعمائة، والله أعلم بالصواب، رحمه الله تعالى. ورثاه القاضي أبو يعلى حمزة بن عبد الرزاق بن أبي حصين (5) بهذه القصيدة، وهي من فائق الشعر، وأنشدها لولده أبي الحسن علي المذكور، سأذكرها كلها إن شاء الله تعالى، وإن كانت طويلة، لكنها غريبة قليلة الوجود بأيدي الناس، وما رأيت أحداً قط يحفظ منها إلا أبياتاً يسيرة فأحببت ذكرها لذلك، وهي هذه: ألا كل حي مقصدات مقاتله ... وآجل ما يخشى من الدهر عاجله وهل يفرح الناجي السليم وهذه ... خيول الردى قدامه (6) وحبائله لعمر الفتى إن السلامة سلم ... إلى الحين والمغرور بالعيش آمله فتسلب أثواب الحياة معارها ... ويقضي غريم الدين ما هو ماطله مضى قيصرٌ لم تغن عنه قصوره ... وجدل كسرى ما حمته مجادله   (1) ر: الأدؤر، وهما بمعنى واحد. (2) لي بر من: تملكوا. (3) ر لي بر من: أسامة بن مرشد. (4) عقيب ... المذكور: سقطت من: ر لي بر من. (5) لي: ابن أبي حصينة؛ ن: ابن أبي حفص. (6) ق: حبال الردى تقتاده. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 270 وما صد هلكاً عن سليمان ملكه ... ولا منعت منه أباه سرابله ولم يبق إلا من يروح ويغتدي ... على سفر ينأى عن الأهل قافله وما نفس الإنسان إلا خزامة ... بأيدي المنايا والليالي مراحله فهل غال بدءاً مخلص الدولة الردى ... وهل تنزوي عمن سواه غوائله ولكنه حوض الحمام، ففارط ... إليه، وتالٍ مسرعاتٍ رواحله لقد دفن الأقوام أروع لم تكن ... بمدفونةٍ طول الزمان فضائله سقى جدثاً هالت عليه ترابه ... أكفهم طل الغمام ووابله ففيه سحابٌ يرفع المحل هديه ... وبحر ندىً يستغرق البر ساحله كأن ابن نصر سائراً في سريره ... حبي (1) من الوسمي أقشع هاطله يمر على الوادي فتثني رماله ... عليه، وبالنادي فتبكي أرامله سرى تعشه فوق الرقاب وطالما ... سرى جوده فوق الركاب ونائله أناعيه إن النفوس منوطةٌ ... بقولك فانظر ما الذي أنت قائله بفيك الثرى لم تدر من حل بالثرى ... جهلت وقد يستصغر الأمر جاهله هو السيد المهتز للتم بدره ... وللجود عطفاه وللطعن عالمه أفاض عيون الناس حتى كأنما ... عيونهم مما تفيض أنامله فيا عين سحي لا تشحي بسائل ... على ماجد لم يعرف الشح سائله متى يسألوه المال تند بنانه ... وإن لم يسألوه الضيم تبد عوامله وكم عاد عنه بالخسار مقنع ... وكم نال منه قانع ما يحاوله له الغلب القاضي على كل باسل ... يجالده أو كل خصم يجادله محاسنه في روضةٍ طلها الندى ... ولكنه في المجد مات مساجله فيا عمره أنى قصرت ولم تطل ... منازله بل كفه بل حمائله جرت تحته العلياء ملء فروجها ... إلى غاية طالت على من يطاوله   (1) ق: حياء. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 271 فما مات حتى نال أقصى مراده ... كما يستسر البدر تمت منازله (1) فتى طالما يعتاده الجيش عافياً ... فينزله أو عادياً فينازله صفوحٌ عن الجاني وصفحة سيفه ... إذا هي لم تقتله فالصفح قاتله وأدمى عسيب الطرف بعدك هلبه ... وعادته أن يقذف الدم كاهله فيا طرفه ما كان عجزك حاملاً ... أدى (2) صارم لو أن ظهرك حامله لقد كثر الملبوس بعد مروع ... جرت ببيان المشكلات شواكله إذا ظن لا يخطي كأن ظنونه ... على ما يضل الناس عنه دلائله فلا رحلت عنه نوازل رحمةٍ ... ضحاه بها موصولة وأصائله وروى ثراه منهن العفو في غد ... فقد روت العافين أمس مناهله قضى الله أن يرزا الأمير وهذه ... صوافنه موقورة (3) ومناصله وكل فتى كالبراق إبريق غمده (4) ... إذا شماه (5) ، او كالذبالة ذابله فليت ظباه صلت اليوم خلفه ... وظلت على غير الصيام صواهله بني منقذ صبراً فإن مصابكم ... يصاب به حافي الأنام وناعله لقد جل حتى كل واجد لوعة ... إذا لج فيها ليس يوجد عاذله إذا صوحت أيدي الرجال فأنتم ... بني منقذ روض الندى وخمائله وإن فر من وزر الزمان مفرحٌ ... فإنكم أوزاره ومعاقله وصاحب، علي، الصبر عنه فما غوى ... مصاحب صبرٍ عن حبيب يزايله وما نام حتى قام منك وراءه ... أخو يقظات وافر العزم (6) كامله كأنكما نوءان في فلك العلا ... فطالعه هذه وذلك آفله   (1) ق ن والمختار: أقصى منازله. (2) ص ن: أذى؛ لي: أرى صارماً. (3) ص: صوافيه؛ ق لي ن: موفورة. (4) ق: عهده. (5) ر بر من ن: سامه. (6) ق: العقل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 272 وما كفلوك (1) الأمر إلا لعلمهم ... قيامك بالأمر الذي أنت كافله سعيت إلى نيل المكارم سعيه ... ولو كنت لا تسعى كفتك فواضله ولم تر أن ترقى بما كان فاعلاً ... أجل إنما المرفوع بالفعل فاعله لعمرك إني في الذي عن كله ... شريك عنان ناصح الود ناخله وكيف خلو القلب من ذلك الهوى ... وقد خلدت بين الشغاف دواخله نجزت القصيدة بتمامها وكمالها. وقد تقدم في ترجمة الصالح طلائع بن رزيك وزير مصر مرثية رثاه بها الفقيه عمارة الميني، وهي على وزن هذه المرثية ورويها، ولم أذكر منها هناك سوى أبيات قلائل لكثرة وجود ديوان عمارة بأيدي الناس، وهذه لا تكاد توجد بكمالها، فلهذا أتممتها ها هنا، وقد تقدم منها ذكر بيتين في ترجمة الوزير جمال الدين أبي جعفر محمد المعروف بالجواد الأصبهاني وزير الموصل. (269) وتوفي أخوه أبو الغيث منقذ بن نصر بن منقذ سنة تسع وثلاثين وأربعمائة، ورثاه الشيخ الأديب أبو محمد عبد الله بن محمد بن سعيد بن يحيى بن الحسين بن محمد بن الربيع بن سنان بن الربيع الخفاجي الحلبي الشاعر المشهور صاحب الديوان الشعر بقوله، وهو من شعره القديم زمن الصبا: غربت خلائقك الحسان غريبةً ... ورمى الزمان دنوها ببعاد ذهبت كما ذهب الربيع وخلفت ... فيض الدموع حرارة الأكباد والخفاجي المذكور رثى مخلص الدولة المذكور أيضاً بقصيدة طويلة رائية، ومدحه بأخرى حائة أجاد فيهما وتركتهما لطولهما، والله تعالى أعلم بالصواب.   (1) لي ر ص بر من: كلفوك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 273 (1) 737 مكي بن أبي طالب أبو محمد مكي بن أبي طالب بن حموش بن محمد بن مختار القيسي المقرئ؛ أصله من القيروان، وانتقل إلى الأندلس وسكن قرطبة، وهو من أهل التبحر في علوم القرآن والعربية، كان حسن الفهم والخلق جيد الدين والعقل، كثير التواليف في علم القرآن محسناً لذلك، مجوداً للقراءات السبع عالماً بمعانيها. ولد بالقيروان عند طلوع الشمس أو قبل طلوعها بقليل، لسبع بقين من شعبان سنة خمس وخمسين وثلثمائة، وقال أبو عمرو المقرئ الداني: إنه ولد سنة أربع وخمسين، ونشأ بالقيروان وترعرع، وسافر إلى مصر وهو ابن ثلاث عشرة سنة، واختلف بها إلى المؤدبين والعارفين بعلوم الحساب، ثم رجع إلى القيروان، وكان إكماله لاستظهار القرآن بعد كماله وفراغه من الحساب وغيره من الآداب، وذلك في سنة أربع وسبعين وثلثمائة، ثم عاد إلى مصر ثانية بعد استكماله القراءات بالقيروان وذلك في سنة سبع وسبعين، فحج في تلك السنة حجة الإسلام، ثم ابتدأ بالقراءات على أبي الطيب عبد المنعم بن عبيد الله بن غلبون الحلبي المقرئ نزيل مصر بمصر في أول سنة ثمان وسبعين، فقرأ عليه بقية السنة وبعض سنة تسع، ورجع إلى القيروان وقد بقي عليه بعض القراءات. ثم عاد إلى مصر مرة ثالثة في سنة اثنتين وثمانين، فاستكمل ما بقي له، ثم عاد إلى القيروان في سنة ثلاث وثمانين وأقام بها يقرئ إلى سنة سبع وثمانين، ثم خرج إلى مكة وأقام بها إلى آخر سنة تسعين، وحج أربع حجج متوالية، ثم رجع من مكة سنة إحدى وتسعين، فوصل إلى مصر، ثم رحل منها إلى القيروان في سنة اثنتين وتسعين، ثم ارتحل إلى الأندلس وقدمها في رجب سنة ثلاث وتسعين وثلثمائة، وجلس للأقراء بجامع قرطبة،   (1) ترجمته في عبر الذهبي 3: 187 وانباه الرواة 3: 313 (وفي الحاشية ذكر لمصادر أخرى) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 274 فانتفع به خلق كثير وجودوا عليه القرآن، وعظم اسمه في البلد وجل فيها قدره، ونزل عند دخوله قرطبة في مسجد النخيلة (1) الذي بالزقاقين (2) عند باب العطارين، فأقرأ به، ثم نقله المظفر عبد الملك بن أبي عامر إلى جامع الزاهرة، وأقرأ فيه حتى انصرمت دولة آل عامر، فنقله محمد بن هشام المهدي إلى المسجد الخارج بقرطبة، وأقرأ فيه مدة الفتنة كلها إلى أن قلده أبو الحسن ابن جهور (3) الصلاة والخطبة بالمسجد بعد وفاة يونس بن عبد الله، وكان ضعيفاً عليها على أدبه وفهمه، وأقام في الخطابة إلى أن مات، رحمه الله تعالى. وكان خيراً فاضلاً متواضعاً متديناً مشهوراً بإجابة الدعاء، وله في ذلك أخبار، فمن ذلك ما حكاه أبو عبد الله الطرفي المقرئ (4) قال: كان عندنا بقرطبة رجل فيه بعض الحدة، وكان له على الشيخ أبي محمد المذكور تسلط، وكان يدنو منه إذا خطب فيغمره ويحصي عليه سقطاته، وكان الشيخ كثيراً ما يتلعثم ويتوقف، فحضر ذلك الرجل في بعض الجمع، وجعل يحد النظر إلى الشيخ ويغمزه، فلما خرج معنا ونزل في الموضع الذي كان يقرأ فيه قال لنا: أمنوا على دعائي، ثم رفع يديه وقال: اللهم اكفنيه، اللهم اكفنيه (5) ، فأمنا، قال: فأقعد ذلك الرجل، وما دخل الجامع بعد ذلك اليوم. وله تصانيف كثيرة نافعة فمنها: " الهداية إلى بلوغ النهاية " في معاني القرآن الكريم وتفسيره وأنواع علومه، وهو سبعون جزءاً، و " منتخب الحجة " لأبي علي الفارسي، ثلاثون جزءاُ، وكتاب " التبصر في القراءات " في خمسة أجزاء، وهو من أشهر تواليفه (6) ، و " الموجز في القرءات " جزءان، وكتاب   (1) الانباه: النخيلية. (2) كذا في ن ر ص ق؛ لي: بالزفافين؛ وستنفيلد: بالزقاقين؛ القفطلي: بالرواقين. (3) كذا في جميع النسخ، والقفطي. وفي وستنفيلد: ابن جوهر: قلت والصواب: أبو الحزم ابن جمهور كما ذكره الجزري في طبقات القراء نقلا عن الصلة. (4) هو محمد بن أحمد بن مطرف الكتاني القرطبي المقريء (387 - 454) عرف بالطرفي لكونه كان يؤم في جامع طرفة (غاية النهاية 2: 89) . (5) اللهم اكفنيه: كررت ثلاث مرات في ر ن. (6) ق ن: وهو من تواليفه وأشهرها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 275 " المأثور عن مالك في أحكام القرآن وتفسيره " عشر أجزاء، وكتاب " الرعاية لتجود القراءة " أربعة أجزاء، وكتاب " اختصار أحكام القرآن " أربعة اجزاء، وكتاب " الكشوف عن وجوه القرءات وعللها " عشرون جزءاً، وكتاب " الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه " ثلاثة أجزاء، وكتاب " الإيجاز في ناسخ القرآن ومنسوخه " جزء، وكتاب " الزاهي في اللمع الدالة على مستعملات الإعراب " أربعة أجزاء، وكتاب " التنبيه على أصول قراءة نافع وذكر الاختلاف عنه " جزاءان، وكتاب " الانتصاف، فيما رده على أبي بكر الأدفوي وزعم أنه غلط في كتاب الإبانة " ثلاثة أجزاء، وكتاب " الرسالة إلى أصحاب الأنطاكي في تصحيح المد لورش " ثلاثة أجزاء، وكتاب " الإبانة عن معاني القراءة " جزء، وكتاب " الوقف على كلا وبلى في القرآن " جزءان، وكتاب " الاختلاف في عدد الأعشار " جزء، وكتاب " الإدغام الكبير في المخارج " جزء، وكتاب " بيان الصغائر والكبائر " جزء، وكتاب " الاختلاف في الذبيح من هو " جزء، وكتاب " دخول حروف الجر بعضها مكان بعض " جزء، وكتاب " تنزيه الملائكة عن الذنوب وفضلهم على بني آدم " جزء، وكتاب " الياءات المشددة في القرآن والكلام " جزء، وكتاب " اختلاف العلماء في النفس والروح " جزء، وكتاب " إيجاب الجزاء على قاتل الصيد في الحرم خطأ " على مذهب الإمام مالك، والحجة في ذلك " جزء، وكتاب " مشكل غريب القرآن " ثلاثة أجزاء، وكتاب " فرض الحج على من استطاع إليه سبيلا " جزء وكتاب " التذكرة لاختلاف القراء " جزء، وكتاب " تسمية الأحزاب " جزء (1) ، وكتاب " منخب كتاب الإخوان لابن وكيع " جزءان، وكتاب " الحروف المدغمة " جزءان، وكتاب " شرح التمام والوقف " أربعة أجزاء، وكتاب " مشكل المعاني والتفسير " خمسة عشر جزءاً، وكتاب " هجاء المصاحف " جزءان، وكتاب " الرياض " مجموع خمسة أجزاء، وكتاب " المنتقى في الأخبار " أربعة أجزاء، وله في القراءات واختلاف القراء وعلوم   (1) زيادة من ن بر من؛ وفي القفطي ((قسمة الأحزاب)) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 276 القرآن تصانيف كثيرة، ولولا خوف التطويل لاستوعبت ذكرها. وتوفي يوم السبت عند صلاة الفجر (1) ، ودفن يوم الأحد ضحوة لليلتين خلتا من المحرم سنة سبع وثلاثين وأربعمائة بقرطبة، ودفن بالربض، وصلى عليه ولده أبو طالب محمد، رحمه الله تعالى. وحموش: بفتح الحاء المهملة وتشديد الميم المضمومة وسكون الواو وبعدها شين معجمة. وقد تقدم الكلام على القيسي والقيروان وقرطبة، فأغنى عن الإعادة. (270) وأبو الطيب عبد المنعم بن غلبون المقرئ المصري (2) المذكور في هذه الترجمة ذكره الثعالبي في كتاب " اليتيمة " فقال: كان على دينه وفضله وعلمه بالقرآن ومعانيه وإعرابه متفنناً في سائر علوم الأدب، أنشدت له قصيدة منها قوله: عليك باقلال الزيارة إنها ... إذا كثرت كانت إلى الهجر مسلكا ألم تر أن الغيث يسأم دائماً ... ويطلب بالأيدي إذا هو أمسكا وقال غير الثعالبي: ولد أبو الطيب المذكور في رجب سنة تسع وثلثمائة، وتوفي في مصر يوم الجمعة لسبع خلون من جمادى الأولى سنة تسع وثلثمائة، رحمه الله تعالى.   (1) ن من بر: عند طلوع؛ ق: قبل طلوع الفجر. (2) انظر اليتيمة 2: 129 (الطبعة الشامية) وطبقات القراء لابن الجزري 1: 470. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 277 (1) 738 مكي الماكسيني النحوي أبو الحرم (2) مكي بن ريان بن شبة بن صالح، الماكسيني المولد الموصلي الدار، المقرىء النحوي الضرير، الملقب صائن الدين (3) ؛ كان والده يصنع الأنطاع بماكسين، ومات فقيراً لم يخلف شيئاً، وترك ولده أبا الحرم المذكور وأمه وبنتاً، فلم تقدر أمه على القيام بمصالحه بسب الفقر، وتضجرت منه ففارقها، وخرج من بلده وقصد الموصل، واشتغل بها بعلم القرآن والأدب، ثم رحل إلى بغداد واجتمع بأئمة الأدب، وقرأ على أبي محمد ابن الخشاب وابن العصار وابن الأنباري وأبي محمد سعيد بن الدهان وقد تقدم ذكرهم ثم عاد إلى الموصل وتصدر بها للإفادة، وأخذ الناس عنه، وانتشر ذكره في البلاد وبعد صيته وانتفع به خلق كثير. وذكره أبو البركات ابن المستوفي في " تاريخ إربل " فقال: هو جامع فنون الأدب، وحجة كلام العرب، المجمع على دينه وعقله، والمتفق على علمه وفضله؛ رحل إلى بغداد ولقي بها مشايخ النحو واللغة والحديث، وكان واسع الرواية، قد نصب نفسه للانتفاع عليه بالقرآن العزيز (4) وجميع ضروب الأدب، ثم قال: وأنشدني من شعره، وكان قد اشتغل عليه بالموصل، أعني ابن المستوفي المذكور: سئمت من الحياة فلم أردها ... تسالمني وتشجيني بريقي عدوي لا يقصر في أذائي ... ويفعل مثل ذلك بي صديقي   (1) ترجمته في البدر السافر، الورقة: 200 وانباه الرواة 3: 320 (وبقية المصادر الهامة مذكورة في الحاشية) . (2) لي: الحزم. (3) ق: ضياء الدين. (4) زاد في لي: ومعانيه واعرابه متقناً في سائر علوم الأدب، أنشدت له قصيدة منها ... الخ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 278 وقد أضحت لي الحدباء داراً ... وأهل مودتي بلوى العقيق والحدباء: كنية الموصل. ومن شعره أيضاً: إذا احتاج النوال إلى شفيع ... فلا تقبله تضح قرير عين إذا عيف النوال لفرد من ... فأولى أن يعاف لمنتين وله أيضاً: على الباب عبد يسأل الإذن طالباً ... به أدباً لا أن نعماك تحجب فإن كان إذن فهو كالخير داخلٌ ... عليك وإلا فهو كالشر يذهب وهذا مأخوذ من قول بعضهم: على الباب عبدٌ من عبيدك واقفٌ ... بنعماك مغمورٌ بشكرك معترف أيدخل كالاإقبال لا زالت مقبلاً ... مدى الدهر أم مثل الحوادث ينصرف (1) ثم قال ابن المستوفي: وكان قد أضر وهو ابن ثمان أو تسع سنين، وكان أبداً يتعصب لأبي العلاء المعري، ويطرب إذا قرئ عليه شعره، للجامع بينهما من العمى والأدب، فسلك مسلكه في النظم؛ انتهى كلام ابن المستوفي. قلت: وحكى لي بعض من أخذ عنه أنه لما كان ببلده كان جيرانهم ومعارفهم يسمونه مكيك تصغير مكي، فلما ارتحل واشتغل وحصل اشتاقت نفسه إلى وطنه، فعاد إليه، فتسامع به من بقي ممن كان يعرفه، فزاروه وفرحوا به لكونه فاضلاً من أهل بلدهم، وبات تلك الليلة، فلما كان سحر خرج إلى الحمام فسمع امرأة في غرفتها تقول لأخرى: ما تدرين من جاء فقالت: لا، فقالت: مكيك ابن فلانة، فقال: والله لا قعدت في بلد أدعى فيه مكيك وسافر من غير تربث بعد أن كان قد نوى الإقامة بها مدة وعاد إلى الموصل، ثم   (1) ومن شعره ... ينصرف: سقط من: لي بر من. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 279 خرج إلى الشام في أواخر عمره لزيارة بيت المقدس، فانتهى إليه وقضى منه وطره. ورجع إلى الموصل من حلب. وكان دخوله إلى الموصل في شهر رمضان وتوفي ليلة السبت السادس من شوال سنة ثلاث وستمائة بالموصل، وخلف ولداً صغيراً. ودفن بصحراء باب الميدان في مقبرة المعافى بن عمران جوار أبي بكر القرطبي وابن الدهان النحوي، رحمهم الله تعالى؛ ويقال إنه مات مسموماً من جهة صاحب الموصل نور الدين أرسلان شاه المقدم ذكره في حرف الهمزة لسبب اقتضى ذلك، والله أعلم. وريان: بفتح الراء وتشديد الياء المثناة من تحتها وبعد الألف نون. وشبه: بفتح الشين المعجمة وتشديد الباء الموحدة وبعد هاء ساكنة. والماكسيني: بفتح الميم وبعد الألف كاف مكسورة أيضاً ثم ياء ساكنة مثناة من تحتها وبعدها نون، هذه النسبة إلى ماكسين، وهي بليدة من أعمال الجزيرة الفراتية على نهر الخابور، وهي على صغرها تشابه المدن في حسن بنائها ومنازلها. 739 - (1) مكحول الشامي أبو عبد الله مكحول بن عبد الله الشامي، من سبي كابل [ذكره ابن ماكولا في كتاب " الإكمال " في ترجمة شاذل فقال في نسبه: وهو مكحول بن أبي   (1) ترجمته في طبقات ابن سعد 7 453 والمعارف: 452 وطبقات الشيرازي: 75 وحلية الأولياء 5: 177 والجرح والتعديل 1/4: 407 وتذكرة الحفاظ: 107 وميزان الاعتدال 4: 177 وتهذيب التهذيب 10: 289 وحسن المحاضرة 1: 119 والشذرات 1: 146. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 280 مسلم - واسمه شهراب - ابن شاذل بن سند بن سروان بن بزدك بن يغوب ابن كسرى (1) . قال ابن عائشة: كان مولى لامرأة من قيس، وكان سندياً لا يفصح؛ وقال الواقدي: كان مولى لامرأة من هذيل، وقيل هو مولى سعبد بن العاص، وقيل مولى لبني ليث. قال الخطيب (2) : كان جده شاذل من أهل هراة، فتزوج ابنة ملك من ملوك كابل، ثم هلك عنها وهي حامل، فانصرفت إلى أهلها، فولدت شهراب (3) فلم يزل في أخواله بكابل حتى ولد له مكحول، فلما ترعرع سبي، ثم وقع إلى سعيد بن العاص فوهبه لامرأة من هذيل فأعتقته. وكان معلم الأوزاعي المقدم ذكره في حرف الهمزة وسعيد بن عبد العزيز، قال الزهري: العلماء أربعة، سعيد بن المسيب بالمدينة، والشعبي بالكوفة، والحسن البصري بالبصرة، ومكحول بالشام. ولم يكن في زمنه أبصر منه بالفتيا، وكان لا يفتي حتى يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، هذا رأي والرأي يخطئ ويصيب. وسمع أنس بن مالك وواثلة بن الأسقع وأبا هند الداري (4) وغيرهم، وكان مقامه بدمشق. وكان في لسانه عجمة ظاهرة، ويبدل بعض الحروف بغيره، قال نوح بن قيس: سأله بعض الأمراء عن القدر، فقال: أساهر أنا يريد أساحر أنا. وكان يقول بالقدر ورجع عنه، وقال معقل بن عبد الأعلى القرشي: سمعته يقول لرجل: ما فعلت تلك الحاجة يريد الحاجة؛ وهذه العجمة تغلب على أهل السند.   (1) زيادة من ر، وانظر الاكمال 5: 1 وعنه أثبتنا صور مالأسماء إذ أنها في ر: مروان بن برديك بن يعقوب.. الخ. (2) لم يرد النقل عن الخطيب في: لي بر من. (3) ق ص: شهران. (4) في المختار: الرازي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 281 (271) يحكى عن أبي عطاء السندي الشاعر (1) المشهور، واسمه مرزوق، وهو من موالي أسد بن خزيمة، أنه كان في لسانه هذه العجمة، فاجتمع حماد الرواية وحماد عجرد الشاعر المقدم ذكرهما (2) وحماد بن الزبرقان النحوي وبكر بن مصعب المزني، في بعض الليالي ليتذاكروا فقالوا: ما بقي شيء إلا وقد تهيأ لنا في مجلسنا هذا، فلو بعثنا إلى أبي عطاء السندي ليحضر عندنا ويكمل به المجلس، فأرسلوا إليه، فقال حماد بن الزبرقان: أيكم يحتال لأبي عطاء حتى يقول: جرادة وزج شيطان وإنما اختار له هذه الألفاظ لأنه كان يبدل من الجيم زاياً ومن الشين سيناً، فقال حماد الراوية: أنا احتال في ذلك، فلم يلبثوا أن جاءهم أبو عطاء فقال لهم: هياكم الله، يريد حياكم الله، فقالوا له: مرهباً مرهبا، يريدون مرحبا مرحبا على لغته، فقالوا له: ألا تتعشى فقال: قد تعسيت، فهل عندكم نبيذ نشرب فقالوا: نعم، فأتوا له بنبيذ فشرب حتى استرخى (3) فقال له حماد الراوية: يا أبا عطاء، كيف معرفتك باللغز فقال: هسن، يريد حسن، فقال له ملغزاً في جرادة: فما صفراء تكنى أم عوف ... كان رجيلتيها منجلان فقال: زرادة، فقال: صدقت، ثم قال ملغزاً في زجٍ: فما اسم حديدةٍ في الرمح ترسي ... دوين الصدر ليست بالسنان فقال أبو عطاء: زر، فقال حماد: أصبت، ثم قال ملغزاً في مسجد بجوار بني شيطان، وهو بالبصرة: أتعرف مسجداً لبني تميم ... فويق الميل دون بني أبان   (1) ترجمة أبي عطاء السندي في معجم المرزباني: 456 والشعر والشعراء: 652 والأغاني 17: 245 والخزانة 4: 167 والعيني 1: 560 والسمط: 602 والقصة المروية هنا متابعة للشعر والشعراء. (2) انظر ج 2: 206، 210. (3) الشعر والشعراء: حتى استرخت؛ أي أعصاب عنقه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 282 فقال: هو في بني سيطان، فقال: أحسنت، ثم تنادموا وتفاكهوا إلى سحرة في أرغد عيش. وهذا أبو عطاء من الشعراء المجيدين، وكان عبداً أخرب، والأخرب: المشقوق الأذن، وله في كتاب الحماسة (1) مقاطيع ناردة، ولولا خشية التطويل والخروج عن المقصود لذكرن جملة من شعره ونوادره. وتوفي مكحول المذكور في سنة ثماني عشرة، وقيل ثلاث عشرة، وقيل ست عشرة، وقيل اثنتي عشرة، وقيل أربع عشرة ومائة، رضي الله عنه. وكابل: بفتح الكاف وبعد الألف باء موحدة مضمومة ثم لام، وهي ناحية معروفة ببلاد السند. 740 - (2) ملكشاه السلجوقي أبو الفتح ملكشاه بن ألب أرسلان محمد بن داود بن ميكائيل بن سلجوق بن دقاق، الملقب جلال الدولة وقد تقدم ذكر أبيه وجماعة من أهل بيته. ولما توفي أبوه في التاريخ المذكور في ترجمته كان ملكشاه المذكور في صحبته، ولم يصحبه قبلها في سفر غير هذه المرة، فولي الأمر من بعده بوصية والده وتحليف الأمراء والجناد على طاعته، ووصى وزيره نظام الملك أبا علي الحسن المقدم ذكره في حرف الحاء (3) على تفرقة البلاد بين أولاده، ويكون مرجعهم إلى ملكشاه المذكور، ففعل ذلك وعبر بهم نهر جيحون راجعاً إلى   (1) انظر مثلاً شرح التبريزي للحماسة 2: 151. (2) انظر المنتظم 9: 69 وتاريخ ابن الأثير (ج: 10) والنجوم الزاهرة 5: 134 وعبر الذهبي 3: 309 والشذرات 3: 376 وأخبار الدولة السلجوقية: 55. (3) ج 2: 128. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 283 البلاد، وقد شرحت الوقاعة في ترجمة والده فلا حاجة إلى الإعادة. فلما وصل إلى البلاد وجد بعض أعمامه وهو قاروت بك (1) صاحب كرمان قد خرج عليه، فعاجله وتصافا بالقرب من همذان، فنصره الله عليهم وانهزم عمه، فتبعه بعض جند ملكشاه فأسروه وحملوه إلى ملكشاه، فبذل التوبة ورضي بالاعتقال وأن لا يقتل، فلم يجبه ملكشاه إلى ذلك، فأنفذ له خريطة مملوءة من كتب أمرائه، وأنهم حملوه على الخروج عن طاعته وحسنوا له ذلك، فدعا السلطان بالوزير نظام الملك فأعطاه الخريطة ليفتحها ويقرأ ما فيها، فلم يفتحها، وكان هناك كانون نار فرمى الخريطة فيه فاحترقت الكتب، فسكنت قلوب العساكر وأمنوا، ووطنوا أنفسهم على الخدمة، بعد أن كانوا قد خافوا من الخريطة لأن أكثرهم كان قد كاتبه، وكان ذلك سبب ثبات قدم ملكشاه في السلطنة، وكانت هذه معدودة في جميل آراء نظام الملك. ثم إن ملكشاه أمر بقتل عمه فخنق بوتر قوسه، واستقرت القواعد للسلطان وفتح البلاد واتسعت عليه المملكة، وملك ما لم يملكه أحد من ملوك الإسلام بعد الخلفاء المتقدمين فكان في مملكته جميع بلاد ما وراء النهر وبلاد الهياطلة وباب الأبواب والروم وديار بكر والجزيرة والشام وخطب له على جميع منابر الإسلام سوى بلاد المغرب، فإنه ملك من كاشغر وهي مدينة في أٌقصى بلاد الترك إلى بيت المقدس طولاً، ومن القسطنطينية إلى بلاد الخزر وبحر الهند عرضاً، وكان قد قدر لمالكه ملك الدنيا. وكلن من أحسن الملوك سيرة حتى كان يلقب بالسلطان العادل، وكان منصوراً في الحروب، ومغرماً بالعمائر، فحفر كثيراً من الأنهار، وعمر على كثير من البلدان الأسوار، وأنشأ في المفاوز رباطات وقناطر، وهو الذي عمر جامع السلطان ببغداد ابتدأ بعمارته في المحرم من سنة خمس وثمانين وأربعمائة، وزاد في دار السلطنة بها، وصنع بطريق مكة مصانع، وغرم عليها أموالاً كثيرة خارجة عن الحصر، وأبطل المكوس والخفارات في جميع البلاد. وكان لهجاً بالصيد، حتى قيل إنه ضبط ما اصطاده بيده فكان عشرة   (1) أخبار الدولة السلجوقية: قاورد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 284 آلاف، فتصدق بعشرة آلاف دينار بعد أن نسي كثيراً منه، وقال: إنني خائف من الله سبحانه وتعالى لإزهاق الأرواح لغير مأكلة، وصار بعد ذلك كلما قتل صيداً تصدق بدينار. وخرج من الكوفة لتوديع الحاج، فجاوز العذيب وشيعهم بالقرب من الواقصة وصاد في طريقه وحشاً كثيراً فبنى هناك منارة من حوافر الحمر الوحشية وقرون الظباء التي صادها في ذلك الطريق، والمنارة باقية إلى الآن وتعرف بمنارة القرون، وذلك في سنة ثمانين وأربعمائة. وكانت السبيل في أيامه ساكنة والمخاوف آمنة، تسير القوافل من ما وراء النهر إلى أقصى الشام وليس معها خفير، ويسافر الواحد والإثنان من غير خوف ولا رهب. وحكى محمد بن عبد الملك الهمذاني في تاريخه أن السلطان ملكشاه المذكور توجه لحرب أخيه تكش فاجتاز بمشهد علي بن موسى الرضا رضي الله عنهما بطوس ودخل مع نظام الملك الوزير وصليا فيه وأطالا الدعاء، ثم قال لنظام الملك: بأي شيء دعوت قال: دعوت الله تعالى أن ينصرك ويظفرك بأخيك، فقال: أما أنا فلم أدع بهذا بل قلت: اللهم انصر أصلحنا للمسليمن وأنفعنا للرعية. ثم قال الهمذاني أيضاً عقيب (1) هذا: وحكي أن واعظاً دخل عليه ووعظه، فكان من جملة ما حكى له أن بعض الأكاسرة اجتاز منفرداً عن عسكره على باب بستان، فتقدم إلى الباب (2) وطلب ماء يشربه، فأخرجت له صبية إناء فيه ماء السكر والثلج، فشربه واستطابه، فقال لها: هذا كيف يعمل فقالت: إن قصب السكر يزكو عندنا حتى نعصره بأيدينا، فيخرج منه هذا الماء، فقال: ارجعي وأحضري شيئاً آخر، وكانت الصبية غير عارفة به، ففعلت، فقال في نفسه: الصواب أن أعوضهم عن هذا المكان وأصطفيه لنفسي، فما كان بأسرع من خروجها باكية، وقالت: إن نية سلطاننا قد تغيرت، فقال: ومن أين علمت ذلك قالت: كنت آخذ من هذا ما أريد من غير تعسف، والآن   (1) ق ن: بعد. (2) فتقدم إلى الباب: سقطت من ر والمختار؛ وفي بر: إلى البستان. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 285 فقد اجتهدت في عصر القصب فلم يسمح ببعض ما كان يأتي، فعلم صدقها، فرجع عن تلك النية، ثم قال لها: ارجعي الآن فأنك تبلغين الغرض، وعقد على نفسه أن لا يفعل ما نواه، فخرجت الصبية ومعها ما شاءت من ماء السكر وهي مستبشرة. فقال السلطان للواعظ: فلم لا تذكر للرعية أن كسرى اجتاز على بستان فقال للناطور: ناولني عتقوداً من الحصرم، فقال له: ما يمكنني ذلك، فإن السلطان لم يأخذ حقه ولا تجوز لي خيانته، فعجب الحاضرون من مقابلته الحكاية بمثلها، ومعارضته بما أوجب الحق له ما أوجب الحق عليه. وحكى الهمذاني أيضاً أن سوادياً لقيه وهو يبكي، فسأله السلطان عن سبب بكائه، فقال (1) : ابتعت بطيخاً بدريهمات لا أملك غيرها، فلقيني ثلاثة أغلمة أتراك فأخذوه مني، وما لي حيلة سواه، فقال: أمسك، واستدعى فراشاً وكان ذلك عند باكورة البطيخ، وقال له: إن نفسي قد تاقت إلى البطيخ، فطف في العسكر وانظر من عنه شيء فأحضره، فعاد ومعه بطيخ، فقال: عند من رأيته قال: عند الأمير فلان، فأحضره وقال: من أين لك هذا البطيخ فقال: جاء به الغلمان، فقال: أريدهم الساعة، فمضى وقد عرف نية السلطان فيهم، فهربهم وعاد فقال: لم أجدهم فالتفت إلى السوادي وقال: هذا مملوكي وقد وهبته لك حين لم يحضر القوم الذين أخذوا متاعك، والله لئن خليته لأضربن عنقك، فأخذه السوادي بيده، وأخرجه من بين يدي السلطان فاشترى المير نفسة بثلاثمائة دينار، وعاد السوادي وقال: يا سلطان، قد بعث المملوك بثلثمائة دينار فقال: أو قد رضيت قال: نعم، قال: امض مصاحباً (2) . وكانت البركة والثمن مقرونين بناصيته، فكان إذا يدخل أصبهان أو بغداد أو أي بلد من البلاد كان، دخل معه عدد لا يحصى لكثرته فيرخص السعر وتنحط أثمان الأشِياء عما كانت عليه قبله، ويكتسب المتعيشون مع عسكره الكسب الكثير. وحكى الهمذاني أيضاً أنه أحضرت إليه مغنية وهو بالري، فأعجب بها   (1) انظر أخبار الدولة السلجوقية: 73. (2) ر: مصاحباً بالسلامة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 286 واستطاب غناءها، فهم بها فقالت: يا سلطان، إني أغار على هذا الوجه الجميل أن يعذب بالنار، وإن الحلال أيسر، وبينه وبين الحرام (1) كلمة، فقال: صدقت، واستدعى القاضي فتزوجها منه وابتنى بها، وتوفي عنها. [وقال صاحب الندول المنقطعة: ومن جملة ما سعى تاج الملك (2) في نظام الملك الوزير أن قال للسلطان: إنه ينفق في كل سنة على أرباب المدارس والرباطات ثلثمائة ألف دينار، ولو جيش بها جيشاً لبلغ باب القسطنطينية، فاستحضر الناظم واستفسره على الحال، فقال: يا سلطان العالم إني أنا رجل شيخ، ولو ندوي علي لما زادت قيميتي على ثلاثة دنانير، وأنت حدث لو نودي عليك ما زادت قيمتك على ثلاثين ديناراً، وقد أعطاك الله تعالى وأعطاني بك ما لم يعطه أحداً من خلقه، أفلا نعوضه عن ذلك في حملة دينه وحفظة كتابه ثلاثمائة ألف دينار ثم إنك تنفق على الجيوش المحاربة في كل سنة ستة أضعاف هذا المال، مع أن أقواهم وأرماهم لا تبلغ رميته ميلاً ولا يضرب بسيفه إلا ما قرب منه، وأنا أجيش لك بهذا المال جيشاً تصل من الدعاء سهامه إلى العرض لا يحجبها شيء عن الله تعالى، فبكى السلطان وقال: يا أبت استكثر من الجيش، والأموال مبذولة لك، والدنيا بين يديك] (3) . وعيون محاسنه أكثر من أن تحصى. وحكى الهمذاني أيضاً أن ناظم الملك الوزير وقع للملاحين الذين عبروا بالسطان والعسكر نهر جيحون على العامل بأنطاكية، وذلك لسعة المملكة، وكان مبلغ أجره المعابر أحد عشر ألف دينار. وتزوج الإمام المقتدي بأمر الله أمير المؤمنين ابنة السلطان، وكات السفير في الخطبة الشيخ أبا إسحاق الشيرازي صاحب المهذب والتنبيه رحمه الله تعالى، وأنقذه الخليفة إلى نيسابور لهذا السبب، فإن السلطان كان هناك، فلما وصل إلى بغداد في أقل من أربعة أشهر، وناظر إمام الحرمين هناك، فلما   (1) لي: وبينك وبين الحلال. (2) هو تاج الملك أبو الغنائم صاحب خزانة السلطان والناظر في أمر دوره وفي وزارة أولاده. (3) زيادة انفردت بها النسخة ر، وانظر أخبار الدولة السلجوقية: 67. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 287 أراد الإنصراف من نيسابور خرج إمام الحرمين للوداع، وأخذ بركابه حتى ركب أبو إسحاق، وظهر له في خراسان منزلة (1) عظيمة وكانوا يأخذون التراب الذي وطئته بغلته فيتبركون به. وكان زفاف ابنة السلطان إلى الخليفة في سنة ثمانين وأربعمائة، وفي صبيحة دخولها عليه أحضر الخليفة المقتدي عسكر السلطان على سماط صنعه لهم كان فيه أربعون ألف مناً سكراً، وفي بقية هذه السنة في ذي القعدة منها رزق الخليفة ولداً من ابنة السلطان سماه أبا الفضل جعفراً، وزينت بغداد لأجله. وكان السلطان قد دخل إلى بغداد دفعتين، وهي من جملة بلاده التي تحتوي عليها مملكته، وليس للخليفة فيها سوى الاسم، فلما عاد إليها الدفعة الثالثة دخلها في أوائل شوال سنة خمس وثمانين وأربعمائة، وخرج من فوره إلى ناحية دجيل لأجل الصيد، فاصطاد وحشاَ وأكل من لحمه، فابتدأت به العلة، وافتصد، فلم يكثر من إخراج الدم، فعاد إلى بغداد مريضاً، ولم يصل إليه أحد من خاصته، فلما دخلها توفي ثاني يوم دخوله، وهو السادس عشر من شوال سنة خمس وثمانين وأربعمائة، وكانت ولادته في التاسع من جمادى الأولى سنة سبع وأربعين وأربعمائة، رحمه الله تعالى، وقيل إنه سم في خلال تخلل به، وحمل تاوبته إلى أصبهان ودفن بها في مدرسة عظيمة موقوفة على طائفة للشافعية والحنفية، ولم يشهد أحد جنازته ببغداد ولا صلي عليه في الصورة الظاهرة ولا جلسوا للعزاء، ولا حذف عليه ذنب فرس كعادة أمثاله، بل كأنه اختلس من العالم (2) . ومن عجيب الاتفاق أنه لما دخل بغدا في هذه المرة، وكان للخليفة المقتدي ولدان أحدهما الإمام المستظهر بالله والآخر أبو الفضل جعفر ابن بنت السلطان وقد تقدم ذكر ولادته، وكان الخليفة قد بايع لولده المستظهر بالله بولاية العهد من بعده لأنه كان الأكبر، فألزم السلطان الخليفة أن يخلعه إلى البصرة، فشق ذلك   (1) ق: بركة. (2) وكانت ولادته.. العالم: اتبعنا في ترتيب النص هنا ما جاء في المختار، وفيه بعض اختلاف عن النسخ الأخرى في الترتيب العام. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 288 على الخليفة، وبالغ في استنزال السلطان عن هذه الرأي، فلم يفعل، فسأل المهلة عشرة أيام ليتجهز فأمهله، فقيل إن الخليفة في تلك الأيام جعل يصوم ويطوي وإذا أفطر جلس على الرماد للإفطار، وهو يدعو الله سبحانه وتعالى على السلطان، فمرض السلطان في تلك الأيام ومات، وكفي الخليفة أمره، وتزوج ابنة الإمام المستظهر بالله ابنة السلطان خاتون العصمة (1) في سنة اثنتين وخمسمائة. وقد تقدم ذكر أولاده الثلاثة الملوك، وهم بركياروق وسنجر محمد، كل واحد له ترجمة في حرفه، رحمهم الله تعالى أجمعين. وكاشغر: بفتح الكاف وبعد الألف شين معجمة ساكنة وغين معجمة مفتوحة وبعدها راء، وقد ذكرت أين هي فلا حاجة إلى الإعادة، وهي قصبة بلاد تركستان. والواقصة: بفتح الواو وبعد الألف قاف مكسورة وبعدها صاد مهملة مفتوحة ثم هاء ساكنة، وهي منزل معروف بطريق مكة يقال لها واقصة الحرون. والباقي معروف فلا حاجة إلى تفسيره، والله أعلم بالصواب. 741 - (2) منصور الفقيه أبو الحسن منصور بن إسماعيل بن عمر لتميمي المصري الفقية الشافعي الضرير؛ أصله من رأس عين، البلدة المشهورة بالجزيرة، وأخذ الفقه عن أصحاب الشافعي، رضي الله عنه وعن أصحاب أصحابه. وله مصنفات في المذهب مليحة منها   (1) ق ن: العظمة. (2) ترجمته في معجم الأدباء 19: 185 ونكت الهميان: 297 والمغرب (قسم مصر) 1: 262 والمنتظم 6: 152 وطبقات السبكي 1: 317 وحسن المحاضرة 1: 168 والشذرات 2: 249، وهذه الترجمة شديدة الايجاز في: مج بر من، على تفاوت بينها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 289 " الواجب " و " المستعمل " و " المسافر " و " الهدية " وغير ذلك من الكتب، وله شعر جيد سائر، وذكره الشيخ أبو إسحاق الشيرازي، رحمه الله تعالى، في " طبقات الفقهاء " (1) وأنشد له: عاب التفقه قوم لا عقول لهم ... وما عليه إذا عابوه من ضرر ما ضر شمس الضحى والشمس طالعة ... أن لا يرى ضوءها من ليس ذا بصر ومن هنا أخذ أبو العلاء المعري قوله من قصيدته المشهورة (2) : والنجم تستصغر الأبصار رؤيته ... والذنب للطرف لا للنجم في الصغر ومن شعره أيضاً: لي حيلة فيمن ينم ... وليس في الكذاب حيله من كان يخلق ما يقو ... ل فحيلتي فيه قليله وله أيضاً: الكلب أحسن عشرةً ... وهو النهاية في الخساسه ممن ينازع في الريا ... سة قبل أوقات الرياسه وحكي أنه أصاب مسغبة في سنة شديدة القحط،، فرقي سطح داره ونادى بأعلى صوته في الليل: الغياث الغياث يا أخرار ... نحن خلجانكم وأنتم بحار إنما تحسن المواساة في الش ... دة لا حين ترخص الأسعار فسمعه جيرانه، فأصبح على بابه مائة حمل برٍ. وحكاياته وأخباره مشهورة؛ وتوفي في جمادى الأولى سنة ست وثلثمائة بمصر،   (1) طبقات الشيرازي: 107. (2) شروح السقط: 162. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 290 وقال الشيخ أبو إسحاق في " الطبقات ": إنه مات قبل العشرين والثلثمائة، رحمه الله تعالى. وذكره القاضي أبو عبد الله القضاعي في كتاب " خطط مصر " فقال: أصله من رأس عين وسكن الرملة، وقدم إلى مصر وسكنها، وتوفي سنة ست وثلثمائة، وكان فقيهاً جليل القدر، متصرفاً في كل علم، شاعراً مجيداً، لم يكن في زمانه مثله بمصر. وكان من أكرم الناس على أبي عبيدة القاضي، حتى كان منهما ما كان بسبب المسألة، وكان لأبي عبيدة في كل عشية مجلس يذاكر فيه رجلاً من أهل العلم ويخلو به، خلا عشية الجمعة فإنه كان يخلو بنفسه فيها، فكان من العشايا عشية يخلو فيها بمنصور، وعشية يخلو فيها بأبي جعفر الطحاوي، وعشية يخلو فيها بمحمد بن الربيع الجيزي، وعشية يخلو فيها بعفان بن سليمان، وعشية يخلو فيها بالسجستاني، وعشية يخلو فيها للنظر مع الفقهاء، وربما حدث، فجرى بينه وبين منصور في بعض العشايا ذكر الحامل المطلقة ثلاثاً، ووجوب نفقتها، فقال أبو عبيد: زعم قوم أن لا نفقة لها في الثلاث، وأن نفقتها في الطلاق غير الثلاث، فأنكر ذلك منصور، وقال: قائل هذا ليس من أهل القبلة. ثم انصرف منصور فحدث بذلك أبا جعفر الحطاوي، فحكاه أبو جعفر لأبي عبيدة فأنكره، وبلغ ذلك منصوراً فقال: أنا أكذبه، واجتمع الناس عند القاضي وتواعدوا لحضور ذلك، فلما حضروا لم يتكلم أحد، فابتدأ أبو عبيد وقال: ما أريد أحداً يدخل علي، ما أريد منصوراً ولا نصاراً ولا منتصراً، قوم عميت قلوبهم كما عميت أبصارهم يحكون عنا ما لم نقله، فقال له منصور: قد علم الله أنك قلت كذا وكذا، فقال أبو عبيد: كذبت، فقال له منصور: قد علم الله الكاذب، ونهض فلم يأخذ أحد بيده غير أبي بكر ابن الحداد فإنه أخذ بيده وخرج معه حتى ركب، وزاد الأمر فيما بينهما، وتعصب الأمير ذكا وجماعة من الجند وغيرهم لمنصور، وتعصب للقاضي جماعة، وشهد على منصور محمد بن الربيع الجيزي بكلام سمعه منه يقال إن منصوراً حكاه عن النظام، فقال القاضي: إن شهد عليه آخر مثل ما شهد به عليه محمد بن الربيع ضربت عنقه، فخاف الجزء: 5 ¦ الصفحة: 291 على نفسه ومات في جمادى الأولى من السنة المذكورة. وخاف أبو عبيد أن يصلي عليه لأجل الجند الذين تعصبوا لمنصور، فتأخر عن جنازته لهذا السبب، وحضرها الأمير ذكا وابن بسطام صاحب الخراج، وأوعظ الناس ولم يتخلف كبير أحد، وذكر لأبي عبيد أن منصوراً قال عند موته: قضيت نحبي فسر قوم ... حمقى بهم غفلة ونوم كأن يومي علي حتم ... وليس للشامتين يوم تموت قبلي ولو بيوم ... ونحن يوم النشور توم فأطرق أبو عبيد ساعة ثم قال: فقد فرحنا وقد شمتنا ... وليس للشامتين لوم والله أعلم بالصواب. 742 - (1) الحاكم العبيدي أبو علي المنصور الملقب الحاكم بأمر الله بن العزيز بن المعز بن المنصور بن القائم ابن المهدي صاحب مصر وقد تقدم ذكر أجداده وجماعة من أحفاده، وسيأتي ذكر أبيه في حرف النون إنشاء الله تعالى وكلهم كانوا يتسمون بالخلفاء. وتولى الحاكم المذكور عهد أبيه في حياته، وذلك في شعبان سنة ثلاث وثمانين وثلثمائة، ثم استقل بالأمر يوم وفاة والده على ما سيأتي في تاريخه إن شاء الله تعالى؛ وكان جواداً بالمال سفاكاً للدماء، قتل عدداً كثيراً من أماثل   (1) أخباره في الخطط 1: 354، 2: 285 والنجوم 4: 176 وتاريخ ابن خلدون 4: 56 والإشارة إلى من نال الوزارة: 31 وتاريخ ابن الأثير (ج: 9) والدرة المضية: 256 وعبر الذهبي 3: 104 والشذرات 3: 192. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 292 أهل دولته وغيرهم صبراً. وكانت سيرته من أعجب السير، يخترع كل وقت أحكاماً يحمل الناس على العمل بها، منها أنه أمر الناس في سنة خمس وتسعين وثلثمائة بكتب سب الصحابة (1) رضوان الله عليهم في حيطان المساجد والقياسر والشوارع، وكتب إلى سائر عمال الديار (2) المصرية يأمرهم بالسب، ثم أمر بقطع ذلك ونهى عنه وعن فعله في سنة سبع وتسعين، ثم تقدم بعد ذلك بمدة يسيرة بضرب من يسب الصحابة وتأديبه ثم يشهره؛ ومنها أنه أمر بقتل الكلاب في سنة خمسة وتسعين وثلثمائة فلم ير كلب في الأسواق والأزقة والشوارع إلا قتل؛ ومنها أنه نهى عن بيع الفقاع والملوخيا وكبب الترمس المتخذة لها والجرجير والسمكة التي لا قشر لها، وأمر بالتشديد في ذلك والمبالغة في تأديب من يعترض لشيء منه، فظهر على جماعة أنهم باعوا أشياء منه، فضربوا بالسياط وطيف بهم، ثم ضربت أعناقهم، ومنها أنه في سنة اثنتين وأربعمائة نهى عن بيع الزبيب (3) قليلة وكثيرة على اختلاف أنواعه، ونهى التجار عن حمله إلى مصر، ثم جمع بعد ذلك منه جملة كثيرة وأحرق جميعها، ويقال إن مقدار النفقة التي غرموها على إحراقه كانت خمسمائة دينار (4) ، وفي هذه السنة منع من بيع العنب وأنفذ الشهود إلى الجيزة حتى قطعوا كثيراً من كرومها (5) ورموها في الأرض وداسوها بالبقر، وجمع ما كان في مخازنها من جرار العسل فكانت خمس آلاف جرة، وحملت إلى شاطىء النيل وكسرت وقلبت في بحر النيل؛ وفي هذه السنة أمر النصاري واليهود إلا الخيابرة يلبس العمائم السود، وأن يعمل النصارىفي أعناقهم الصلبان ما يكون طوله ذراعاً ووزنه خمسة أرطال. وأن تحمل اليهود في أعناقهم قرامي   (1) زاد في ر: أبي بكر وعمر وعثمان. (2) ر: العمال بالديار؛ ق: والمختار: سائر أعمال. (3) ق والمختار: الرطب. (4) مج: وذكر أن ثمنها كان ألفي قطعة وثمانمائة قطعة وأحرق جميعها بظاهر الحمراء على شاطيء النيل، وذكر أن مقدار النفقة .... دينار. (5) ن: قطعوا كروماً كثيرة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 293 الخشب على وزن صلبان النصارى، ولا يركبوا شيئاً من المراكب المحلاة، وأن تكون ركبهم من الخشب، ولا يستخدمون أحداً من المسلمين، ولا يركبون حماراً لمكار مسلم ولا سفينة نوتيها مسلم، وأن يكون في أعناق النصاري إذا دخلوا الحمام الصلبان، وفي أعناق اليهود الجلاجل ليتميزوا عن المسلمين، ثم أفرد حمامات اليهود والنصارى والمسلمين (1) وحط على حمامات النصارى الصلبان، وعلى حمامات الهود القرامي، وذلك في سنة (2) ثمان وأربعمائة. وفيها أمر بهدم الكنيسة المعروفة بقمامة وجميع الكنائس بالديار المصرية، ووهب جميع ما فيها من الآلات وجميع ما لها من الأرباع والأحباس لجماعة من المسلمين، وتتابع إسلام جماعة من النصارى؛ وفي هذه السنة نهى عن تقبيل الأرض له وعن الدعاء له والصلاة عليه في الخطب والمكتبات (3) ، وأن يجعل عوض ذلك السلام على أمير المؤمنين (4) . وفي سنة أربع وأربعمائة أمر أن لا ينجم أحد ولا يتكلم عن صناعة النجوم، وأن ينفي المنجمون من البلاد (5) ، فحضر جميعهم إلى القاضي مالك بن سعيد الحاكم بمصر كان وعقد عليهم توبة (6) ، وأعفو من النفي وكذلك أصحاب الغناء. وفي شعبان من هذه السنة منع النساء من الخرزج إلى الطرقات ليلاً ونهاراً، ومنع الأساكفة من عمل الخفاف للنساء، ومحيت صورهن من الحمامات (7) ، ولم تزل النساء ممنوعات عن الخروج إلى أيام ولده الظاهر المقدم ذكره، وكانت مدة منعهن سبع سنين وسبعة أشهر، وفي شعبان سنة إحدى عشرة وأربعمائة تنصر جماعة ممن كان أسلم من النصارى، وأمر ببناء ما كان قد هدم من كنائسهم ورد ماكان في أحباسها، وبالجملة فهذه نبذة   (1) زاد في مج: ونهوا عن الاجتماع مع المسلمين في الحمامات. (2) مج: وكان افرادهم الحمامات في سنة ... الخ. (3) زاد في مج: والمخاطبات. (4) زاد في مج: ونهى أن يقبل التراب له وتشدد في ذلك. (5) مج: وأن ينفى جميع المعروفين بهذه الصناعة. (6) مج: وعقد أيضاً التوبة مع جماعة كانوا مشهورين بصناعة الغناء. (7) زاد في مج: ومنع من بيع اللعب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 294 من أحواله، وإن كان شرحها يطول. وكان أبو الحسن علي المعروف بابن يونس المنجم قد صنع له الزيج المشهور المعروف بالحاكمي، وهو زيج كبير مبسوط. ونقلت من خط الحافظ أبي أحمد بن محمد السلفي، رحمه الله تعالى، أن الحاكم المذكور كان جالساً في مجلسه العام وهو حفل بأعيان دولته، فقرأبعض الحاضرين قوله تعالى " فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدون فيأنفسهم حرجا مماقضيت ويسلموا تسليما) " النساء:65 والقارىء في أثناء ذلك يشير إلى الحاكم، فلما فرغ من القراءة قرأ شخص آخر يعرف بابن المشجر وكان رجلاً صالحاً " يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له، إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له، وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه، ضعف الطالب والمطلوب، ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز " الحج:73 فلما أنهى (1) قراءته تغير وجه الحاكم، ثم أمر لابن المشجر المذكور بمائة دينار، ولم يطلق للآخر شيئاً؛ ثم إن بعض أصحاب المشجر قال له: أنت تعرف خلق الحاكم، وكثرة استحالاته، وما نأمن أن يحقد عليك، وأنه لا يؤاخذك في هذا الوقت ثم يؤاخذك بعد هذا فتتأذى معه، ومن المصلحة عندي أن تغيب عنه، فتجهز ابن المشجرللحج، وركب في البحر فغرق، فرآه صاحبه في النوم، فسأله عن حاله، فقال: ما أقصر الربان معنا أرسى بنا على باب الجنة، رحمه الله تعالى؛ وذلك ببركة جميل نيته (2) وحسن قصده. [ومن أخبار المستطرفة التي تدخل في أبواب الفرج بعد الشدة ما حدث به الرؤساء أن ولي الدولة ابن خيران استحضره الحاكم ذات يوم وقال له: يا ولي الدولة، إني أريد أن أزوج مملوكي فلاناً على جاريتي فلانة بعد عتقهما وكذلك آخر لأخرى فخذ هاتين الشقتين واخطب فيهما خطبتين حسنتين وانسق الصداق والمهر بعد ذلك ما تقتضيه صانعة الوراق، وبكر إلينا من الفجر   (1) ق: أنهى القاريء. (2) ق ن: ببركة نيته. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 295 ولا تتأخر. فقبل ذلك من الحاكم بالسمع والطاعة وانصرف، ووصل إلى داره بمصر وأسهر نفسه واستنتج قريحته وجود فكرته وعمل ما أشار له في الكتابين ولم يزل في السهر إلى وقت السحر، فاستحثه الرسل فقام ليتوضأ ويتهيأ إليه فعثرت رجله في المحبرة فتطرطش الكتابين، فلطم وجهه ووقع مغشياً عليه وانقبض أهله، وعلم أنه مقتول، فوصى أهله الوصية التامة وركب وأخذ الكتابين في كمه مطويين، ولم يزل إلى أن دخل من باب القاهرة ووصل إلى القصر مغلساً، والرسل والحجاب منتظرون قدومه، وحين وصل أذن له في الدخول، فوجد الحاكم في الإيوان الكبير جالساً على سرير، وبين يديه طشطان وعليهما قوارتان (1) ، فلما رأى الحاكم قبل الأرض ووقف صامتاً فقال له: يا ولي الدولة اكشف هذين الطشطين، فكشف عنهما فإذا في كل منهما رأس رجل ورأس امرأة، فقال: هؤلاء اطلعنا منهم على قضية منحوسة وفساد لا ينبغي الصبر، عليه ففعلنا بهم ما فعلناه، وتلك الثوبان خذهما فصلهما لأهلك، امض لشأنك، فخرج من بين يديه مغشياً عليه، فأقام في الديوان إلى أن سكنت نفسه وهدأ روعه، وكتب إلى أهله رقعة يأمرهم فيها بالسكون والسكوت إلى أن يجتمع بهم] (2) . والحاكم المذكور هو الذي بنى الجامع الكبير بالقاهرة، بعد أن كان قد شرع فيه والده العزيز بالله كما سيأتي ذكره في ترجمته إن شاء الله تعالى وأكمله وأبده، وبنى جامع راشدة بظاهر مصر، وكان شروعه في عمارته يوم الاثنين سابع عشر شهر ربيع الأول سنة ثلاث وتسعين وثلثمائة، وكان متولي بنائه الحافظ أبا محمد عبد الغني بن سعيد، والمصحح لمحرابه أبا الحسن علي بن يونس المنجم، وقد تقدم ذكرهما، وأنشأ عدة مساجد بالقرافة وغيرها، وحمل إلى الجوامع من المصاحف والآلات الفضية والستور والحصر السامان ما له قيمة طائلة. وكان يفعل الشيء وينقضه. [وخرج عليه في سنة خمس وتسعين وثلثمائة أبو ركوة الوليد بن هشام العثماني   (1) انفردت مج بهذه القصة، وقد أبقيناها على حالها مع ما فيها مما لا يتفق والصحة اللغوية. (2) التاء غير معجمة في النسخة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 296 الأندلسي، وكان خروجه في نواحي برقة، ومال إليه خلق عظيم، وسير إليه الحاكم المذكور جيشاً كبيراً وانتصر عليهم وملك، ثم تكاثروا عليه وأمسكوه، ويقال إنه قتل من أصحابه مقدار سبعين ألفاً، وكان قبضهم إياه في سنة سبع وتسعين، وحمل إلى الحاكم فشهره وقتله، يوم الأحد السابع والعشرين من جمادى الآخرة من السنة، وحديثه مستوفى في تاريخ ابن الصابي (1) . وكانت ولادته بالقاهرة ليلة الخميس الثالث والعشرين من شهر ربيع الأول سنة خمس وسبعين وثلثمائة. وكانت يحب الانفراد والركوب على بهيمة وحده، فاتفق أنه خرج ليلة الاثنين السابع والعشرين من شوال سنة (2) إحدى عشرة وأربعمائة إلى ظاهر مصر، وطاف ليلته كلها وأصبح عند قبر الفقاعي، ثم توجه إلى شرقي حلوان ومعه ركابيان، فأعاد أحدهما مع تسعة من العرب السويدين، ثم أعاد الركابي الآخر، وذكر هذا الركابي أنه خلفه عند القبر والمقصبة، وبقي الناس على رسمهم يخرجون يلتمسون رجوعه ومعهم دواب الموكب إلى يوم الخميس سلخ الشهر المذكور، ثم خرج يوم الأحد ثاني ذي القعدة مظفر صاحب المظلة وخطي الصقلبي ونسيم متولي الستر وابن بشتكين (3) التركي صاحب الرمح وجماعة من الأولياء الكتاميين والأتراك (4) ، فبلغوا دير القصير والموضع المعروف بسلوان (5) ، ثم أمعنوا في الدخول في الجبل فبينما هم كذلك إذ أبصروا حماره الأشهب الذي كان راكباً عليه المدعو بالقمر، وهو على قرنة الجبل (6) ، وقد ضربت يداه بسيف فأثر فيهما، وعليه سرجه ولجامه، فتتبعوا الأثر فإذا أثر الحمار في الأرض وأثر راجل خلفه وراجل   (1) ما بين معقفين ورد في ص ن ر ق وعند وستنفيلد، ولم يرد في المختار ولي مج والمطبوعة المصرية. (2) ر: من شهر شوال المبارك من شهور السنة. (3) ق ن: نشتكين. (4) زاد في مج: ومعهم ماضي القري. (5) مج: بعسلان، وغير واضحة في المختار؛ وفي دي سلان: بحلوان. (6) مج: فبصروا بالحمار الذي كان راكبه على قرنة الجبل.. فتتبع الأثر فإذا أثر الحمار. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 297 قدامه، فلم يزالوا يقصون هذا الأُثر حتى انتهوا إلى البركة التي في شرقي حلوان، فنزل إليها بعض الرجالة فوجد فيها ثيابه، وهي سبع جباب (1) ، ووجدت مزررة لم تحل أزرارها، وفيها آثار السكاكين فأخذت وحملت إلى القصر (2) بالقاهرة، ولم يشك في قتله، مع أن جماعة من المغالين في حبهم السخيفي العقول يظنون حياته، وأنه لا بد أن سيظهر، ويحلفون بغيبة الحاكم وتلك خيالات هذيانية (3) ، ويقال إن أخته دست عليه من يقتله لأمر يطول شرحه، والله أعلم. وابن المشجر: بضم الميم وفتح الشين المعجمة والجيم المشددة وبعدها راء. وحلوان: بضم الحاء المهملة وسكون الميم وفتح الواو وبعد الألف نون، وهي قرية مليحة كثيرة النزه فوق مصر بمقدار خمسة أميال، كان يسكنها عبد العزيز بن مروان بن الحكم الأموي لما كان والياً بمصر نيابة عن أخيه عبد الملك أيام خلافته، وبها توفي، وبها ولد ولده عمر بن عبد العزيز، رضي الله عنه (4) .   (1) مج: سبع جبب. (2) مج: فأخذها ماضي وجاء بها إلى القصر. (3) لا بد أن نشير هنا إلى أن قتل الحاكم قد اتخذ في حينه صورة قضية واقعية يتعقب فاعلوها، إذ يذكر المسبحي في تاريخه (الجزء 40: 148) أن تأثرا في الصعيد أخذ فقرر (فأقر أنه قتل الحاكم بأمر الله عليه السلام في جملة أربعة أنفس تفرقوا في البلاد فمنهم من مضى إلى برقة ومنهم من مضى إلى العراق، وأنه أظهر (لمقرره) قطعة من جلد رأسه عليه السلام وقطعة من الفوطة التي كانت عليه، فقال له حيدرة (المقرر) ولم قتلته فقال: غرت لله وللإسلام، فقال كيف قتلته، فأخرج سكيناً فضرب بها فؤاد نفسه فقتل نفسه وقال: هكذا قتلته.. الخ، وانظر الخطط 2: 289. (4) هنا تنتهي النسخة مج. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 298 743 - (1) الآمر بأحكام الله أبو علي المنصور الملقب الآمر بأحكام الله بن المستعلي بن المستنصر بن الظاهر ابن الحاكم العبيدي المذكور قبله، وقد تقدم بقية نسبه، وسبق ذكر والده في الأحمدين في حرف الهمزة. وبويع الآمر بالخلافة بالولاية يوم مات أبوه في التاريخح المذكور في ترجمته وقام بتدبير دولته الأفضل شاهنشاه بن أمير الجيوش المذكور في حرف الشين وكان وزير والده، وقد ذكرنا في ترجمته طرفاً من الآمر المذكور، ولما اشتد الآمر وفطن لنفسه قتل الأفضل حسبما تقدم شرحه، واستوزر المأمون أبت عبيد الله بن أبي شجاع فاتك بن أبي الحسن مختار المعروف بابن فاتك البطائحي (2) ، فاستولى هذا الوزير عليه، وقبح سمعته وأساء السيرة، ولما كثر ذلك منه قبض عليه الآمر أيضاً ليلة السبت رابع شهر رمضان سنة تسع عشرة وخمسمائة واستطفى جميع أمواله، ثم قتله في رجب سنة إحدى وعشرين، وصلب بظاهر القاهرة وقتل معه خمسةً من إخوته، أحدهم يقال له المؤتمن، وكان متكبراً متجبراً خارجاً عن طوره، وله أخبار مشهورة. [ثم ظهر في مدة القبض على المأمون المصادرات على يد الراهب المسمى أبا شجاع بن قسا (3) ، فلم يبق أحد إلا وناله بمكروه من ضرب ونهب مال، وكان هذا الراهب الملعون في ابتداء حاله يخدم ولي الدولة أبا البركات ين يحيى بن أبي الليث ثم اتصل بالآمر وبذل في مصادرة قوم من النصارى مائة ألف دينار، فأطلق يده فيهم، وتسلسل الحال إلى أن عم البلاد جميع رؤساء مصر وقضاتها وكتابها   (1) أخباره في النجوم الزاهرة 5: وابن الأثير (ج: 10) والخطط 2: 290 والدرة المضية: 461 وتاريخ ابن خلدون 4: 68 وعبر الذهبي 4: 62 والشذرات 4: 73. (2) ترجمته في الاشارة: 62 والدرة: 488. (3) كذا، وعند المقريزي: ابن أبي نجاح. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 299 وشهودها وسوقتها إلى أن صادر رجلاً حمالاً فأخذ عشرين ديناراً ثمن جمل باعه لم يكن يملك سواه، وارتفع عنده إلى أن كان يستعمل بتنس ودمياط ملابس مخصوصة من الصوف الأبيض معلمة بالذهب، فكان يلبسها ويلبس فوقها الدماقس والديباج، وكان يتطيب من المسك بعدة من المثاقيل كل يوم، وكان يشم رائحة طيبه من مكان بعيد، وكان يركب الحمر بالسروج المحلاة بالذهب والفضة، ويدخل إلى دهليز القاعة المعروفة بلباس الخطباء بالجامع العتيق بمصر، فيجلس هناك ويستدعي الناس للمصادرة، وأقام كذلك مدة إلى أن قتل في سنة ثلاث وعشرين، على يد المقداد الوالي بمصر ثم صلب عند الجسر. ذكر أنه لما قبض على دار الراهب وجد فيها مكان فيه ثمانمائة طراحة جدد لم تستعمل قدرت إلى السقف، هذا نوع واحد فيها مكان قليل الاستعمال فكيف ما عداه من الديباج وأنواع المتاع الفاخر] (1) . وكان الآمر سيء الرأي (2) جائر السيرة مستهتراً متظاهراً باللهو اللعب، وفي أيامه أخذ الفرنج مدينة عكا في شعبان سنة سبع وتسعين وأربعمائة، وأخذوا طرابلس الشام بالسيف يوم الاثنين لإحدى عشرة ليلة خلت من ذي الحجة سنة اثنتين وخمسمائة، وكان أخذهم بالسيف (3) ، ونهبوا ما فيها، وأسروا رجالها وسبوا نساءها وأطفالها، وحصل في أيديهم من أمتعها وذخائرها وكتب دار علمها وما كان في خزائن أربابها ما لايحد عدده ولا يحصى، وعوقب من بقي من أهلها، واستصفيت أموالهم، ثم وصلتها نجدة المصريين بعد فوات الأمر فيها، وفي هذه السنة ملكوا عرقة وكان نزولهم عليها أول شعبان من السنة المذكورة، وفيها ملكوا بانياس، وفيها جبيل بالأمان، وتسلموا قلعة تبنين يوم الجمعة لثمان بقين من ذي الحجة سنة إحدى عشرة وخمسمائة، وكان الوالي بها من جهة الأتابك ظهير الدين طغتكين المذكور في حرف التاء   (1) ما بين معقفين زيادة من ر. (2) ر: سيء الخلق والرأي. (3) هذا مكرر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 300 في ترجمة تتش بن ألب أرسلان وكان يومئذ صاحب دمشق وما والاها. ولما ملكوا صور ضربوا السكة باسم الآمر المذكور مدة ثلاث سنين، ثم قطعوا ذلك، وأخذوا بيروت يوم الجمعة الحادي والعشرين من شوال سنة ثلاث وخمسمائة بالسيف، وأخذوا صيدا لعشر بقين من جمادى الآخرة (1) سنة أربع وخمسمائة. (273) وفي أيام الآمر أيضاً سنة أربع وخمسمائة، وقيل سنة إحدى عشرة، والله أعلم، قصد بردويل الافرنجي الديار المصرية ليأخذها، وانتهى إلى الفرما ودخلها وأحرقها وأحرق جامعها ومساجدها وأبواب البلد وقتل بها رجلاً مقعداً وابنته، فذبحها على صدره (2) ورحل عنها وهو مريض، فهلك في الطريق قبل وصوله إلى العريش، فشق أصحابه بطنه ورموا حشوته هناك، فهي ترجم إلى اليوم، ورحلوا بجثته فدفنوها بقمامة (3) . وسبخة بردويل التي في وسط الرمل على طريق الشام منسوبة إلى بردويل المذكور، والحجارة الملقاة هناك، والناس يقولون: هذا قبر بردويل وإنما هو هذه الحشوة، وكان بردويل صاحب البيت المقدس وعكا ويافا وعدة بلاد من ساحل الشام، وهو الذي أخذ هذه البلاد المذكور من المسلمين. وفي هذه السنة أيضاً خرج المهدي محمد بن تومرت المقدم ذكره من مصر وصاحبها الآمر المذكور إلى بلاد المغرب في زي الفقهاء، وجرى له هناك ما سبق شرحه في ترجمته. وكانت ولادة الآمر يوم الثلاثاء ثالث عشر المحرم وقيل ثاني المحرم سنة تسعين وأربعمائة بالقاهرة، وتولى وعمره خمس سنين. ولما انقضت أيامه خرج من القاهرة صبيحة يوم الثلاثاء ثالث ذي القعدة سنة أربع وعشرين وخمسمائة ونزل إلى مصر وعدى على الجسر إلى الجزيرة (4) التي قباله مصر، فكمن له قوم بالأسلحة وتواعدوا على مقتله في السكة التي يمر فيها إلى فرن هناك، فلما مر بهم وثبوا   (1) ر ن: الأولى. (2) زيادة من ر. (3) ر: بقمامة بيت المقدس؛ ق: بقمامة جهنم. (4) ر ص لي: الجيزة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 301 عليه فلعبوا عليه بأسيافهم، وكان قد جاوز الجسر وحده مع عدة قليلة من غلمانه وبطانته وخاصته وشيعته، فحمل في النيل في زورق ولم يمت، وأدخل القاهرة وهو حي، وجيء به إلى القصر من ليلته فمات ولم يعقب، وهو العاشر من أولاد المهدي عبيد الله القائم بسجلماسة المقدم ذكره (1) . وانتقل الأمر إلى ابن عمه الحافظ عبد المجيد المقدم ذكره رحمهم الله تعالى؛ وكان قبيح السيرة ظلم للناس وأخذ أموالهم وسفك دماءهم (2) ، وارتكب المحذورات، واستحسن القبائح المحظورات، فابتهج الناس بقتله، وكان شديد الأدمة جاحظ العينين، حسن الخط والمعرفة والعقل. وأما المأمون ابن البطائحي الوزير المذكور فهو الذي بنى الجامع الأقمر بالقاهرة سنة خمس عشرة وخمسمائة، وكان الأفضل ابن أمير الجيوش قد شرع في عمارة جامع النيل بظاهر مصر عند الرصد المطل على بركة حبش في سنة ثمان وتسعين وأربعمائة، ولم يكلمه، فأكمله بعده في مدة وزارته، والله أعلم بالصواب. 744 - (3) قطب الدين مودود قطب الدين مودود بن عماد الدين زنكي بن آق سنقر، المعروف بالأعرج صاحب الموصل وقد تقدم طرف من خبره في ترجمة أخيه نور الدين محمود صاحب الشام، وذكر أولاده الثلاثة وهم: سيف الدين غازي الذي تولى السلطنة بعده، وعز الدين مسعود، وعماد الدين زنكي صاحب سنجار، واستوعبت في   (1) هنا تنتهي الترجمة في: بر من، وبعد سطر تنتهي في: لي. (2) زاد في ق: واستقبح الحسن. (3) أخباره في الباهر: 94 وما بعدها وابن الوردي 2: 78 ومفرج الكروب (ج: 1) وتاريخ ابن الأثير 11: 355 ومرآة الزمان: 280 والنجوم الزاهرة 5: 383 وعبر الذهبي 4: 191 والشذرات 4: 216، ولم يتوقف صاحب المختار عند هذه الترجمة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 302 ترجمة غازي ما جرى من نور الدين عقيب موت قطب الدين المذكور وأنه قصد الموصل ثم قرر غازي المذكور فيها، ورتب أحوال أولاد أخيه كلهم. وفي تلك السفرة بنى نور الدين الجامع النوري داخل الموصل، وهو مشهور هناك يقام فيه الجمعة، وكان سبب عمارته ما حكاه العماد الأصبهاني في البرق الشامي عند ذكره لوصول نور الدين إلى الموصل أنه كان بالموصل خربة متوسطة البلد واسعة، وقد أشاعوا عنها ما ينفر القلوب منها، وقالوا: ما شرع في عمارتها إلا من ذهب عمره، ولم يتم على مراده أمره، فأشار عليه الشيخ الزاهد معين الدين عمر الملا وكان من كبار الصالحين بابتياع الخربة وبنائها جامعاً؛ وأنفق فيها أموالاً جزيلة، ووقف على الجامع ضيعة من ضياع الموصل. وكان قطب الدين قد تولى السلطنة بالموصل وتلك البلاد عقيب موت أخيه سيف الدين غازي الأكبر المقدم ذكره أيضاً وكان حسن السيرة، عادلاً في حكمه. وفي دولته عظم شأن جمال الدين محمد الوزير الأصبهاني المعروف بالجواد المقدم ذكره وهو الذي قبض عليه حسبما سبق شرحه، وكان مدبر دولته وصاحب رأيه الأمير زين الدين علي كجك والد مظفر الدين صاحب إربل، وكان نعم المدبر والمشير لصلاحه وخيره وحسن مقاصده مع شجاعة تامة وفروسية مشهورة وقد تقدم ذكره في ترجمة ولده مظفر الدين في حرف الكاف. ولم يزل قطب الدين المذكور على سلطنته ونفاذ كلمته إلى أن توفي في شوال سنة خمس وستين وخمسمائة، وقيل في الثاني والعشرين من ذي الحجة من السنة المذكور. وذكر أسامة بن منقد في كتاب له صغير ذكر فيه من أدركه في عمره من ملوك البلاد أن قطب الدين المذكور توفي سلخ ربيع الآخر سنة ست ستين وخمسمائة، وليس بصحيح، فإن أخاه نور الدين كان بالموصل في شهر ربيع الآخر، وجاءته رسل الخليفة وهو مخيم على الموصل في الشهر المذكور، ولم يتوجه نور الدين إليها إلا بعد وفاة أخيه قطب الدين. وكانت وفاته بالموصل، ومدة عمره أكثر من أربعين سنة بقليل، وخلف عدة أولاد، وأكثرهم ملك البلاد. وقد تقدم ذكر أبيه وجده وجماعة من أهل بيته، رحمهم الله تعالى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 303 745 - (1) مؤرج السدوسي أبو فيد مؤرج بن عمرو بن الحارث بن ثور بن حرملة بن علقمة بن عمرو بن سدوس بن شيبان بن ذهل بن ثعلبة بن عكابة، السدوسي النحوي البصري؛ أخذ العربية عن الخليل بن أحمد، وروى الحديث عن شعبة بن الحجاج وأبي عمرو ابن العلاء وغيرهما، وكان يقول: قدمت من البادية ولا معرفة لي بالقياس في العربية، وإنما كانت معرفتي قريحة، وأول ما تعلمت القياس في حلقة أبي زيد الأنصاري بالبصرة. ودخل الأخفش سعيد على محمد بن المهلب، فقال له محمد: من أين جئت فقال الأخفش: من عند القاضي يحيى بن أكثم، قال: فما جرى عنده قال: سألني عن الثقة المأمون المقدم من أصحاب الخليل بن أحمد من هو ومن الذي كان يوثق بعلمه فقلت: النضر بن شميل وسيبويه مؤرج السدوسي. وكان الغالب على مؤرج المذكور اللغة والشعر، وله عدة تصانيف: منها كتاب الأنواء وهو كتاب حسن، وكتاب " غريب القرآن " وكتاب جماهير القبائل وكتاب المعاني وغير ذلك، واختصر نسب قريش في مجلد لطيف سماه " حذف نسب قريش (2) ". وكان قد رحل مع المأمون من العراق إلى خراسان، وسكن مدينة مرو، وقدم نيسابور وأقام بها وكتب عنه مشايخها، وكان له شعر، فمن ذلك مما أنشده هارون بن علي بن يحيى المنجم في كتابه المسمى ب " البارع "، وهو: روعت بالبين حتى ما أراع له ... وبالمصائب من أهلي وجيراني   (1) ترجمته في نور القبس: 104 والمؤتلف والمختلف: 54 وأنباء الرواة 3: 327 وتاريخ بغداد 13: 258 (وفي حاشية الانباه مصادر أخرى) . (2) نشر هذا الكتاب بتحقيق الدكتور صلاح الدين المنجد (القاهرة 1960) ؛ وقوله: واختصر ... قريش سقط من: بر من لي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 304 لم يترك الدهر لي علقاً أضن به ... إلا اصطفاه بنأيٍ أو بهجران ثم قال ابن المنجم المذكور: وهذان البيتان من أملح ما قيل في معناهما، ومثلهما في معناهما لبعض المحدثين: وفارقت حتى ما أروع من النوى ... وإن غاب جيران علي كرام فقد جعلت نفسي على اليأس تنطوي ... وعيني على هجر الصديق (1) تنام ومن هاهنا أخذ ابن التعاويذي المقدم ذكره قوله: وها أنا لا قلبي يراع لفائت ... فيأسى ولا يلهيه حظ فيفرح وهذا البيت من جملة قصيدة يذكر فيها توجعه لذهاب بصره، فمنها قوله مشيراً إلى زوجته (2) : وباكية لم تشك فقداً ولا رمى ... بجيرتها الأدنين نأي مطوح رمتها يد الأيام في ليث غابها ... بفادح خطبٍ والحوادث تفدح رأت جللاً لا الصبر يجمل بالفتى ... على مثله يوماً، ولا الحزن يقبح فلا غرو أن تبكي الدماء لكاسب ... لها كان يسعى في البلاد ويكدح عزيز عليهما أن تراني جاثماً ... وما لي في الأرض البسيطة مسرح وأن لا أقود العيش تنفح في البرى ... وجرد المذاكي في الأعنة تمرح أظل حبيساً في قرارة منزل ... رهين أسى أمسى عليه وأصبح مقامي منه مظلم الجو قاتم ... ومسعاي ضنك وهو صمحان (3) أفيح أقاد به قود الجنيبة مسمحاً ... وما كنت لولا غدرة الدهر أسمح كأني ميت لا ضريح لجنبه ... وما كل ميت لا أبالك يضرح   (1) المختار: فقد الحبيب. (2) ديوان ابن التعاويذي: 79. (3) لي ن بر من: ضحيان. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 305 وها أنا لا قلبي يراع لفائت ... فيأسى، ولا يلهيه خظ فيفرح فلله نصل فل مني غراره ... وعود شباب عاد وهو مصوح وسقياً لأيام ركبت بها الهوى ... جموحاً ومثلي في هوى الغيد يجمح وماضي صبا قضيت منه لبانتي ... خلاساً وعين الدهر زرقاء تلمح ليالي لي عند الغواني مكانة ... فألحاظها ترنو إلي وتطمح وليلى بها أضعاف ما بي من الهوى ... أعرض بالشكوى لها فتصرح وهي طويلة طنانة يمدح بها الإمام الناصر لدين الله خليفة بغداد. وقال المزرباني: وجدت بخط محمد بن العباس اليزيدي ما مثاله: أهدى أبو فيد مؤرج السدوسي إلى جدي محمد بن أبي كساء، فقال جدي فيه يمدحه: سأشكر ما أولى ابن عمرو مؤرج ... وأمنحه حسن الثناء مع الود أغر سدوسي نماه إلى العلى ... أب كان صباً بالمكارم والمجد أتينا أبا فيد نؤمل سيبه ... ونقدح زنداً غير كابٍ ولا صلد فأصدرنا بالري والبذل واللهى ... وما زال محمود المصادر والورد كساني ولم أستكسه متبرعاً ... وذلك أهنى ما يكون من الرفد كسانيه فضفاضاً إذا ما لبسته ... تروحت مختالاً وجرت عن القصد كساء جمال إن أردت جمالة ... وثوب شتاء إن خشيت من البرد ترى حبكاً فيه كأن اطرداها ... فرند حديث صقله سل من غمد سأشكر ما عشت السدوسي بره ... وأوصي بشكرٍ للسدوسي من بعدي وأخبار مؤرج كثيرة. وقال ابن النديم (1) : وجدت بخط عبد الله بن المعتز: مؤرج بن عمرو السدوسي كان من أصحاب الخليل بن أحمد، توفي سنة خمس وتسعين ومائة، في اليوم الذي توفي فيه أبو نواس، وهذا يستقيم على قول من ذهب إلى أن أبا نواس   (1) الفهرست: 48. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 306 توفي سنة خمس وتسعين ومائة، وقد سبق الخلاف فيه. ورأيت في كتاب الأنوار في أوله ما مثاله، قال أبو علي إسماعيل بن يحيى بن المبارك اليزيدي: قرأنا هذا الكتاب على المؤرج بجرحان ثم قدمنا مع المأمون العراق، سنة أربع ومائتين، فخرج المؤرج إلى البصرة ثم مات بها رحمه الله تعالى. وهذا خلاف للأول، والله أعلم بالصواب. وأما المؤرج فلا خلاف أنه مات في هذه السنة. وقد ذكره ابن قتيبة في كتاب المعارف (1) وغيره. وفيد: بفتح الفاء وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها دال مهملة، وهو في الأصل ورد الزعفران، وقيل هو الزعفران بعينه. ومؤرج: بضم الميم وفتح الواو المهموزة وكسر الراء المشددة وبعدها جيم، وهو اسم فاعل من قولهم أرجت بين القوم إذا أغريت بينهم. وقد تقدم الكلام على السدوسي في ترجمة قتادة في حرف القاف (2) . وقيل: إن اسمه مرثد، ومؤرج لقب له، ومرثد: بفتح الميم والثاء المثلثة وراء ساكنة وفي الآخر دال مهملة، قال الجوهري في كتاب الصحاح (3) : يقال رثدت المتاع: نضدته ووضعت بعضه على بعض أو إلى جنب بعض، ثم قال بعد ذلك: تركت بني فلان مرتثدين ما تحملوا بعد، أي ناضدين متاعهم، قال ابن السكيت: ومنه اشتق مرثد، وهو اسم رجل، والمرثد اسم من أسماء الأسد (4) . وكان مؤرج يقول: اسمي وكنيتي غريبان، اسمي مؤرج، والعرب تقول أرجت بي القوم وأرشت (5) وأنا أبو فيد، والفيد: ورد الزعفران (6) ، ويقال: فاد الرجل يفيد فيداً، إذا مات، والله أعلم بالصواب.   (1) المعارف: 543. (2) هنا تنتهي الترجمة في: لي بر من. (3) الصحاح 1: 469. (4) هنا تنتهي النقل عن الصحاح. (5) زاد في ق: إذا حرشت. (6) ق: الورد من الزعفران. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 307 (1) 746 موسى الكاظم أبو الحسن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين ابن الحسين بن علي بن أبي طالب، رضي الله عنهم، أحد الأئمة الاثني عشر، رضي الله عنهم أجمعين. قال الخطيب في " تاريخ بغداد " (2) : " كان موسى يدعى العبد الصالح، من عبادته واجتهاده. روي أنه دخل مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فسجد سجدة في أول الليل، وسمع وهو يقول في سجوده: عظم الذنب عندي فليحسن العفو من عندك يا أهل التقوى ويا أهل المغفرة، فجعل يرددها حتى أصبح. وكان سخياً كريماً، وكان يبلغه عن الرجل أنه يؤذيه فيبعث إليه بصرة فيها ألف دينار، وكان يصر الصرر ثلثمائة دينار ومائتي دينار، ثم يقسمها بالمدينة. وكان يسكن المدينة فأقدمه المهدي بغداد وحبسه، فرأى في النوم علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو يقول (3) : يا محمد " فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم " محمد:22 قال الربيع: فأرسل إلي ليلاً، فراعني ذلك، فجئته فإذا هو يقرأ هذه الآية، كان أحسن الناس صوتاً، وقال: علي بموسى بن جعفر، فجئته به فعانقه وأجلسه إلى جنبه وقال: يا أبا الحسن، إني رأيت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه في النوم يقرأ علي كذا، فتؤمنني أن تخرج علي أو على أحد من أولادي، فقال: والله   (1) ترجمته في ((الأئمة الاثنا عشر)) : 87 وعلى الصفحة المقابلة ثبت بمصادر أخرى يضاف اليها صفحة الصفوة 2: 103 وميزان الاعتدال 4: 201 ومنهاج السنة 2: 115، 124 وعبر الذهبي 1: 287 وتاريخ ابن خلدون 4: 115 وفرق الشيعة (صفحات متفرقة) . (2) تاريخ بغداد 13: 27. (3) تاريخ بغداد 13: 30 - 31. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 308 لا فعلت ذلك ولا هو من شأني، قال: صدقت، أعطه ثلاثة آلاف دينار، ورده إلى أهله إلى المدينة، قال الربيع: فأحكمت أمره ليلا فما أصبح إلا وهو في الطريق خوف العوائق. وأقام بالمدينة إلى أيام هارون الرشيد، فقدم هارون منصرفاً من عمرة شهر رمضان سنة تسع وسبعين ومائة، فحمل موسى معه إلى بغداد وحبسه بها إلى أن توفي محبسه (1) . وذكر أيضاً أن هارون الرشيد حج فأتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم زائراً وحوله قريش ورؤساء القبائل، ومعه موسى بن جعفر، فقال: السلام عليك يا رسول الله يا ابن عم، افتخاراً على من حوله، فقال موسى: السلام عليك يا أبت، فتغير وجه هارون الرشيد وقال: هذا هو الفخر يا أبا الحسن حقا؛ انتهى كلام الخطيب. وقال أبو الحسن علي بن الحسين بن علي المسعودي في كتاب " مروج الذهب " (2) في أخبار هارون الرشيد: " إن عبد الله بن مالك الخزاعي كان على دار هارون الرشيد وشرطته، فقال: أتأني رسول الرشيد وقتاً ما جاءني فيه قط،، فانتزعني من موضعي ومنعني من تغيير ثيابي، فراعني ذلك، فلما صرت إلى الدار سبقني الخادم فعرف الرشيد خبري، فأذن لي في الدخول عليه فدخلت فوجدته قاعداً على فراشه فسلمت عليه فسكت ساعة، فطار عقلي وتضاعف الجزع علي، ثم قال: يا عبد الله أتدري لما طلبتك في هذا الوقت قلت: لا والله ياأمير المؤمنين، قال: إني رأيت الساعة في منامي كأن حبشياً قد أتاني ومعه حربة فقال: إن خليت عن موسى بن جعفر الساعة وإلا نحرتك بهذه الحربة، فاذهب فخل عنه، قال: فقلت: يا أمير المؤمنين، أطلق موسى بن جعفر ثلاثاً، قال: نعم امض الساعة حتى تطلق موسى بن جعفر، وأعطه ثلاثين ألف درهم، وقل له: إن أحببت المقام قبلنا فلك عندي ما تحب، وإن أحببت المضي إلى المدينة فالإذن في ذلك لك، قال: فمضيت إلى الحبس لأخرجه، فلما رآني موسى   (1) ورد في النسخ: لي بر من هنا، انتهى كلام الخطيب؛ وسقط الكلام بعده حتى بدء النقل عن المسعودي. (2) مروج الذهب 3: 356. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 309 وثب إلي قائماً وظن أني قد أمرت فيه بمكروه، فقلت: لا تخف، فقد أمرني بإطلاقك وأن أدفع لك ثلاثين ألف درهم، وهو يقول لك إن أحببت المقام قبلنا، فلك كل ما تحب، وإن أحببت الانصراف إلى المدينة فالأمر في ذلك مطلق لك، وأعطيته ثلاثين ألف درهم، وخليت سبيله وقلت له: لقد رأيت من أمرك عجباً، قال: إني أخبرك، بينما أنا نائم إذ أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا موسى، حبست مظلوماً فقل هذه الكلمات فإنك لا تبيت هذه الليلة في الحبس، فقلت: بأبي وأمي ما أقول قال: قل يا سامع كل صوت، ويا سابق الفوت، ويا كاسي العظام لحماً ومنشرها بعد الموت، أسألك بأسمائك الحسنى وباسمك الأعظم الأكبر المخزون المكنون الذي لم يطلع عليه أحد من المخلوقين، يا حليماً ذا أناة لا يقوى على أناته، يا ذا المعروف الذي لا ينقطع أبداً ولا يحصى عدداً، فرج عني؛ فكان ما ترى ". وله أخبار ونوادر كثيرة. وكانت ولادته يوم الثلاثاء قبل طلوع الفجر سنة تسع وعشرين ومائة، وقال الخطيب: سنة ثمان وعشرين بالمدينة؛ وتوفي لخمس بقين من رجب سنة ثلاث وثمانين ومائة، وقيل سنة ست وثمانين ببغداد، وقيل إنه توفي مسموماً. وقال الخطيب: توفي في الحبس ودفن في مقابر الشونيزيين خارج القبة، وقبره هناك مشهور يزار، وعليه مشهد عظيم فيه قناديل الذهب والفضة وأنواع الآلات والفرش ما لا يحد، وهو في الجانب الغربي، وقد سبق ذكر أبيه وأجداده وجماعة من أحفاده، رضي الله عنهم وأرضاهم، وكان الموكل به مدة حبسه السندي بن شاهك جد كشاجم الشاعر المشهور. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 310 (1) 747 كمال الدين ابن يونس أبو الفتح موسى بن أبي الفضل يونس بن محمد بن منعة بن مالك بن محمد، الملقب كمال الدين، الفقيه الشافعي؛ تفقه بالموصل على والده، ثم توجه إلى بغداد سنة إحدى وسبعين وخمسمائة، وأقام بالمدرسة النظامية بشتغل على المعيد بها السديد السلماسي المقدم ذكره وكان المدرس بها يومئذ الشيخ رضي الدين أبو الخير أحمد بن اسماعيل بن يوسف بن محمد بن العباس القزويني، فقرأ الخلاف والأصول وبحث الأدب على الكمال أبي البركات عبد الرحمن بن محمد الأنباري المقدم ذكره فتميز ومهر، وكان قد قرأ أولاً على الشيخ أبي بكر يحيى بن سعدون القرطبي الآتي ذكره إن شاء الله تعالى وهو بالموصل ثم أصعد إلى الموصل وعكف على الاشتغال، ودرس بعد وفاة والده في التاريخ الآتي ذكره في ترجمته إن شاء الله تعالى في موضعه بالمسجد المعروف بالأمير زين الدين صاحب إربل، وهذا المسجد رأيته وهو على وضع المدرسة، ويعرف الآن بالمدرسة الكمالية لأنه نسب إلى كمال الدين المذكور لطول إقامته به. ولما اشتهر فضله انثال عليه الفقهاء، وتبحر في جمع الفنون، وجمع من العلوم ما لم يجمعه أحد، وتفرد بعلم الرياضة، ولقد رأيته بالموصل في شهر رمضان سنة ست وعشرين وستمائة، وترددت إليه دفعات (2) عديدة لما كان بينه وبين الوالد رحمه الله من المؤانسة والمودة الأكيدة، ولم يتفق لي الأخذ عنه لعدم الإقامة وسرعة الحركة إلى الشام، وكان الفقهاء يقولون: إنه يدري أربعة   (1) ترجمته في طبقات السبكي 5: 158 والحوادث الجامعة: 149 وذيل الروضتين: 172 والفلاكة والمفلوكون: 84 والبداية والنهاية 13: 158 وعبر الذهبي 5: 162 والشذرات 5: 206. (2) ق ن: دفيعات. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 311 وعشرين فناً دراية متقنة، فمن ذلك المذهب وكان فيه أوحد الزمان، وكان جماعة من الطائفة الحنفية يشتغلون عليه بمذهبهم، ويحل لهم مسائل الجامع الكبير (1) أحسن حل مع ما هي عليه من الإشكال المشهور؛ وكان يتقن فني الخلاف العراقي والبخاري، وأصول الفقه وأصول الدين. ولما وصلت كتب فخر الدين الرازي إلى الموصل وكان بها إذ ذاك جماعة من الفضلاء لم يفهم أحد منهم اصطلاحة فيها سواه، وكذلك الإرشاد للعميدي لما وقف عليها حلها في ليلة واحدة وأقرأها على ما قالوه. وكان يدري فن الحكمة: المنطق والطبيعي والإلهي، وكذلك الطب، ويعرف فنون الرياضة من اقليدس والهيئة والمخروطات والمتوسطات (2) والمجسطي المجسطي لفظة يونانية معناها بالعربي الترتيب، ذكر ذلك الوكري (3) في كتابه وأنواع الحساب: المفتوح (4) منه والجبر والمقابلة والأرثماطيقي وطريق الخطأين (5) ، والموسيقى والمساحة، معرفة لا يشاركه فيها غيره إلا في ظواهر هذه العلوم دون دقائقها والوقوف على حقائقها، وبالجملة فلقد كان كما قال الشاعر: وكان من العلوم بحيث يقضى ... له في كل فن بالجميع واستخرج في علم الأوفاق طرقاً لم يهتد إليها أحد؛ وكان يبحث في العربية والتصريف بحثاً تاماً مستوفًى، حتى إنه كان يقرىء كتاب سيبويه والإيضاح والتكملة لأبي علي الفارسي، والمفصل للزمخشري، وكان له في التفسير والحديث وأسماء الرجال وما يتعلق به يدٌ جيدة؛ وكان يحفظ من التواريخ وأيام العرب ووقائعهم، والأشعار والمحاضرات، شيئاً كثيراً. وكان أهل الذمة يقرءون عليه التوراة والإنجيل، ويشرح لهما هذين الكتابين شرحاً يعترفون   (1) الجامع الكبير من تأليف أبي الحسن عبيد الله بن الحسين الكرخي (- 340) في الفقه الحنفي. (2) ر: والمبسوطات. (3) ر: الكوكري. (4) ن: الفتوح. (5) ق: بطريق الخطأين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 312 أنهم لا يجدون من يوضحهما لهم مثله. وكان في كل فن من هذه الفنون كأنه يعرف سواه لقوته فيه. وبالجملة فإن مجموع ما كان يعلمه من الفنون لم يسمع عن أحد ممن تقدمه أنه قد جمعه. ولقد جاءنا الشيخ أثير الدين المفضل بن عمر بن المفضل الأبهري، صاحب التعليقة في الخلاف والزيج والتصانيف المشهورة، من الموصل إلى إربل في سنة ست وعشرين وستمائة وقبلها في خمس وعشرين وستمائة، ونزل بدار الحديث، وكنت أشتغل عليه بشيء من الخلاف، فبينما أنا يوماً عنده إذ دخل عليه بعض فقهاء بغداد، وكان فاضلاً، فتجارياً في الحديث زماناً، وجرى ذكر الشيخ كمال الدين في أثناء الحديث، فقال له الأثير: لما حج الشيخ كمال الدين ودخل بغداد كنت هناك فقال: نعم، فقال: كيف كان إقبال الديوان العزيز عليه فقال ذلك الفقيه: ما أنصفوه على قدر استحقاقه، فقال الأثير: ما هذا إلا عجب، والله ما دخل إلى بغداد مثل الشيخ، فاستعظمت منه هذا الكلام، وقلت له: يا سيدنا كيف تقول كذا (1) فقال: يا ولدي ما دخل إلى بغداد مثل أبي حامد الغزالي، ووالله ما بينه وبين الشيخ نسبة. وكان الأثير على جلالة قدره في العلوم يأخذ الكتاب ويجلس بين يديه يقرأ عليه، والناس يوم ذاك يشتغلون في تصانيف الأثير. ولقد شاهدت هذا بعيني، وهو يقرأ عليه كتاب " المجسطي " (2) . ولقد حكى لي بعض الفقهاء أنه سأل الشيخ كمال الدين عن الأثير ومنزلته في العلوم فقال: ما أعلم، فقال: وكيف هذا يا مولانا. وهو في خدمتك منذ سنين عديدة، ويشتغل عليك فقال: لأني مهما (3) قلت له تلقاه بالقبول وقال: نعم يا مولانا، فما جاذبني في مبحث قط حتى أعلم حقيقة فضله، ولا شك أنه كان يعتمد هذا القدر مع الشيخ تأدباً، وكان معيداً عنده في المدرسة البدرية، وكان يقول: ما تركت بلادي وقصدت الموصل إلا للاشتغال على الشيخ.   (1) بر من: هذا. (2) ر: المجريطي. (3) بر من: كلما. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 313 وكان شيخنا تقي الدين أبو عمرو عثمان بن عبد الرحمن المعروف بابن الصلاح المقدم ذكره (1) يبالغ في الثناء على فضائله وتعظيم شأنه وتوحده في العلوم؛ فذكره يوماً وسرع في وصفه على عادته، فقال له بعض الحاضرين: يا سيدنا، على من اشتغل ومن كان شيخه فقال: هذا الرجل خلقه الله تعالى عالماً إماماً في فنونه، لا يقال على من اشتغل ولا من شيخه، فإنه أكبر من هذا. وحكى لي بعض الفقهاء بالموصل أن ابن الصلاح المذكور سأله أن يقرأ عليه شيئاً من المنطق سراً، فأجابه إلى ذلك، وتردد إليه مدة فلم يفتح عليه فيه بشيء فقال له: يا فقيه، المصلحة عندي أن تترك الاشتغال بهذا الفن، فقال له: ولم ذاك يا مولانا فقال: لأن الناس يعتقدون فيك الخير، وهم ينسبون كل من اشتغل بهذا الفن إلى فساد الاعتقاد، فكأنك تفسد عقائدهم فيك ولا يحصل لك من هذا الفن شيء؛ فقبل إشارته وترك قراءته (2) . ومن يقف على هذه الترجمة فلا (3) ينسبني إلى المغالاة في حق الشيخ. ومن كان من أهل تلك البلاد وعرف ما كان عليه الشيخ، عرف أني ما أعرته وصفاً ونعوذ بالله من الغلو والتساهل في النقل. ولقد ذكره أبو البركات المبارك بن المستوفي المقدم ذكره (4) في تاريخ إربل فقال: هو عالم مقدم، ضرب في كل علم، وهو في علم الأوائل: كالهندسة والمنطق وغيرهما ممن يشار إليه، حل اقليدس (5) والمجسطي على الشيخ شرف الدين المظفر بن محمد المظفر الطوسي الفارابي، يعني صاحب الاصطرلاب الخطي المعروف بالعصا. ثم قال ابن المستوفي: وردت عليه مسائل من بغداد في مشكلات هذا العلم، فحلها واستصغرها، ونبه على براهينها، بعد أن احتقرها، وهو في الفقه والعلوم   (1) انظر ج 3: 243. (2) وكان شيخنا ... قراءته: سقط من بعض النسخ ومن المطبوعات المصرية. (3) ر لي: قد. (4) ج 4: 147. (5) لي: أوقليدس. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 314 الإسلامية نسيج وحده، ودرس في عدة مدارس بالموصل، وتخرج عليه خلق كثير في كل فن. ثم قال: أنشدنا لنفسه، وأنفذها إلى صاحب الموصل يشفع عنده: لئن شرفت أرضٌ بمالك رقها ... فمملكة الدنيا بكم تتشرف (1) بقيت بقاء الدهر أمرك نافذ ... وسعيك مشكور وحكمك منصف ومكنت في حفظ البسيطة مثل ما ... تمكن في أمصار فرعون يوسف قلت أنا: ولقد أنشدني هذه الأبيات عنه أحد أصحابنا بمدينة حلب، وكنت بدمشق سنة ثلاث وثلاثين وستمائة، وبها رجل فاضل في علوم الرياضة، فأشكل عليه مواضع في مسائل الحساب والجبر والمقابلة والمساحة واقليدس، فكتب جميعها في درج وسيرها إلى الموصل، ثم بعد أشهر عاد جوابه، وقد كشف عن خفيها وأوضح غامضها وذكر ما يعجز الإنسان عن وصفه، ثم كتب في آخر الجواب: فليمهد العذر في التقصير في الأجوبة، فإن القريحة جامدة، والفطنة خامدة، قد استولى عليها كثرة النسيان، وشغلتها حوادث الزمان، وكثير مما استخرجناه وعرفناه نسيناه، بحيث صرنا كأنا ما عرفناه؛ وقال لي صاحب المسائل المذكورة: ما سمعت مثل هذا الكلام إلا للأوائل المتقنين (2) لهذه العلوم، ما هذا من كلام أبناء هذا الزمان. وحكى لي الشيخ الفقيه الرياضي علم الدين قيصر بن أبي القاسم عبد الغني بن مسافر الحنفي المصري المعروف بتعاسيف، وكان إماماً في علوم الرياضة، قال (3) : لما أتقنت علوم الرياضة بالديار المصرية ودمشق، تاقت نفسي إلى الاجتماع بالشيخ كمال الدين لما كنت أسمعه من تفرده بهذه العلوم، فسافرت إلى الموصل قصد الاجتماع به، فلما حضرت في خدمته وجدته على حلية الحكماء المتقدمين، وكنت   (1) علق على هامش بخط مختلف: ((ولقد كتبت هذه الأبيات في مكتوب إلى أمير الأمراء بالقاهرة حضرة سنان باشا وأصاب فخرها () وذلك في سنة ست وسبعين وتسعمائة)) . (2) ق: المتقدمين المتقنين. (3) بعض هذا النص ورد في الطالع السعيد نقلا عن المؤلف. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 315 قد طالعت أخبارهم، فسلمت عليه وعرفته قصدي له للقراءة عليه، فقال لي: في أي العلوم تريد تشرع فقلت: في الموسيقى، فقال: مصلحة هو، فلي زمان ما قرأه أحد عليّ، فأنا أوثر مذاكرته، وتجديد العهد به، فشرعت فيه ثم في غيره حتى شققت عليه أكثر من أربعين كتاباً في مقدار ستة أشهر، وكنت عارفاً بهذا الفن، لكن كان غرضي الانتساب في القراءة إليه، وكان إذا لم أعرف المسألة أوضحها لي، وما كنت أجد من يقوم مقامه في ذلك (1) . وقد أطلت الشرح في نشر علومه، ولعمري لقد اختصرت. ولما توفي أخوه الشيخ عماد الدين محمد المقدم ذكره تولى الشيخ المدرسة العلائية موضع أخيه، ولما فتحت المدرسة القاهرية تولاها. ثم تولى المدرسة البدرية في ذي الحجة سنة عشرين وستمائة. وكان مواظباً على إلقاء الدروس والإفادة. وحضر في بعض الأيام دروسه جماعة من المدرسين أرباب الطيالس، وكان العماد أبو علي عمر بن عبد النور بن ماجوج (2) بن يوسف الصنهاجي اللزني النحوي البجائي حاضراً، فأنشد على البديهة قوله: كمال كمال الدين للعلم والعلى ... فهيهات ساع في مساعيك يطمع إذا اجتمع النظار في كل موطن ... فغاية كلٍ أن تقول ويسمعوا فلا تحسبوهم من غناء (3) تطيلسوا ... ولكن حياء واعترافاً تقنعوا وللعماد المذكور فيه أيضاً: تجر الموصل الأذيال فخراً ... على كل المنازل والرسوم بدجلة والكمال، هما شفاء ... لهيمٍ أو لذي فهم سقيم فذا بحرٌ تدفق وهو عذب ... وذا بحر ولكن من علوم وكان الشيخ سامحه الله تعالى يتهم في دينه لكون العلوم العقلية غالبة   (1) وحكى لي الشيخ ... في ذلك: سقط هذا النص من: لي بر من المطبوعة المصرية. (2) ر: ماخوخ، وكذلك أثبته دي سيلان، وسقط من بقية النسخ. (3) بر من لي: عناد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 316 عليه، وكانت تعتريه غفلة في بعض الأحيان لاستيلاء الفكرة عليه بسبب هذه العلوم، فعمل فيه العماد المذكور: أجدك أن قد جاد بعد التعبس ... غزال بوصلٍ لي وأصبح مؤنسي وعاطيته صهباء من فيه مزجها ... كرقة شعري أو كدين ابن يونس وقد خرجنا عن المقصود إلى ما لاحاجة بنا إليه. وكانت ولادته يوم الخميس، خامس صفر إحدى وخمسين وخمسمائة، بالموصل. وتوفي بها رابع عشر شعبان سنة تسع وثلاثين وستمائة، ودفن في تربتهم المعروفة بهم عند تربة عناز (1) ، خارج باب العراق. وقد سبق ذكر ولده شرف الدين أحمد في حرف الهمزة، وأخيه عماد الدين في حرف الميم، وسيأتي ذكر والده في حرف الياء إن شاء الله تعالى، رحمهم الله أجمعين. ولما كنت أتردد إلى خدمته بالموصل أوقع الله في نفسي أنه إن رزقت ولداً ذكراً سميته باسمه، ثم سافرت في بقية السنة المذكورة إلى الشام وأقمت به عشر سنين، ثم سافرت إلى الديار المصرية في سنة ثلاث وثلاثين وستمائة وتقلبت الأحوال ثم حصل التأهل، فرزقني الله ولدي الأكبر في بكرة يوم السبت حادي عشر صفر سنة إحدى وخمسين وستمائة بالقاهرة المحروسة فسميته موسى (2) ، وعجبت من موافقته للشيخ في الولادة، في الشهر والسنة، فكان بين مولدهما سنة. وذكرت ذلك للشيخ الحافظ زكي الدين عبد العظيم المحدث فعجب من هذا الاتفاق، وجعل يكرر التعجب ويقول: والله إن هذا لشيء غريب (3) . (274) وتوفي الشيخ رضي الدين القزويني (4) مدرس المدرسة النظامية، المذكور   (1) ر: عنان. (2) قلت: هو الذي انتقى من كتاب أبيه ما أسماه ((المختار من وفيثات الأعيان)) وزوده بتعليقات قيمة (انظر مقدمة الجزء الرابع) . (3) ولما كنت .... غريب: سقط من: لي بر من المطبوعات المصرية. (4) ترجمة رضي الدين في الشذرات 4: 300 ومرآة الزمان: 443. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 317 في أول هذه الترجمة، في الثالث والعشرين من المحرم سنة تسعين وخمسمائة. وكانت ولادته في شهر رمضان سنة اثنتي عشرة وخمسمائة بقزوين، وموته بها أيضاً. ولولا خوف الإطالة لذكرت من مناقب الشيخ كمال الدين ما يستغرق الوصف. وقد تقدم الكلام على الصنهاجي. وأما اللزني: فهو بفتح اللام وسكون الزاي وبعدها نون، هذه النسبة إلى لزنة، وهي قبيلة من البربر تسكن بالقرب من بجاية من عمل إفريقية. (275) وتوفي علم تعاسيف (1) المذكور يوم الأحد ثالث عشر رجب من سنة تسع وأربعين وستمائة بدمشق، ودفن خارج باب شرقي، ثم نقل إلى باب الصغير. ومولده في سنة أربع وسبعين وخمسمائة بأصفون (2) ، من شرقي صعيد مصر، رحمه الله تعالى. 748 - (3) موسى بن نصير أبو عبد الرحمن موسى بن نصير، اللخمي بالولاء، صاحب فتح الأندلس؛ كان من التابعين، رضي الله عنهم، وروى عن تميم الداري، رضي الله عنه،   (1) ترجمة قيصر بن عبد الغني المعروف بتعاسيف في الطالع السعيد: 469 (الطبعة الثانية) ، وكان فقيهاً حنفي المذهب، اشتغل بالرياضيات بالديار المصرية والشامية، ثم أقام بحماة، وتولى تدريس المدرسة النورية، وقد كان هو الذي أجاب عن أسئلة الانبرور صاحب صقلية؛ وانظر أيضاً مختصر أبي الفدا 3: 186 وتاريخ ابن الوردي: 2: 188 والسلوك 1: 382 وحسن المحاضرة 1: 256. (2) عند الأدفوي: أسفون، بالسين لا بالصاد. (3) أخباره في كتب التاريخ العامة كالطبري وابن الأثير والأمامة والسياسة وابن خلدون.. الخ وانظر جذوة المقتبس: 317 وتاريخ ابن الفرضي 2: 144 وأخبار مجموعة: 3 وبغية الملتمس: 442 والبيان المغرب 1: 46 وتاريخ ابن عبد الحكم: 203 والحلة السيراء 2: 332 ونفح الطيب (ج: 1) وتاريخ دمشق لابن عساكر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 318 وكان عاقلاً كريماً شجاعاً ورعاً تقياً لله تعالى، لم يهزم له جيش قط. وكان والده نصير على حرس معاوية بن أبي سفيان، ومنزلته عنده مكينة. ولما خرج معاوية لقتال علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، لم يخرج معه، فقال له معاوية: ما منعك من الخروج معي ولي عندك يد لم تكافئني عليها فقال: لم يمكني أن أشكرك بكفر من هو أولى بشكري، فقال: ومن هو قال: الله عزوجل، فقال: وكيف لا أم لك قال: وكيف لا أعلمك هذا، فأعض وأمص (1) ، قال: فأطرق معاوية ملياً، ثم قال: أستغفر الله، ورضي عنه. وكان عبد الله بن مروان أخو عبد الملك بن مروان والياً على مصر وإفريقية، فبعث إليه ابن أخيه الوليد بن عبد الملك أيام خلافته يقول له: أرسل موسى بن نصير إلى إفريقية، وذلك في سنة تسع وثمانين للهجرة. وقال الحافظ أبو عبد الله الحميدي في كتاب جذوة المقتبس: إن موسى ابن نصير تولى إفريقية والمغرب سنة سبع وسبعين، فأرسله إليها، فلما قدمها ومعه جماعة من الجند، بلغه أن بأطراف البلاد جماعة خارجين عن الطاعة، فوجه ولده عبد الله، فأتاه بمائة ألف رأس من السبايا، ثم وجه ولده مروان إلى جهة أخرى فأتاه بمائة ألف رأس. قال الليث بن سعد: فبلغ الخمس ستين ألف رأس، وقال أبو شبيب (2) الصدفي: لم يسمع في الإسلام بمثل سبايا موسى بن نصير. ووجد أكثر مدن إفريقية خالية لاختلاف أيدي البربر عليها، وكانت البلاد (3) في قحط شديد، فأمر الناس بالصوم والصلاة وإصلاح ذات البين، وخرج بهم إلى الصحراء، ومعه سائر الحيوانات، وفرق بينها وبين أولادها، فوقع البكاء والصراخ والضجيج، وأقام على ذلك إلى منتصف النهار، ثم صلى وخطب بالناس، ولم يذكر الوليد بن عبد الملك، فقيل له: ألا تدعو لأمير المؤمنين فقال: هذا مقام لا يدعى فيه لغير   (1) في أكثر النسخ: فأغض وأمض. (2) ن: شيث. (3) لي: وكان الناس. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 319 الله عزوجل، فسقوا حتى رووا. ثم خرج موسى غازياً، وتتبع البربر وقتل فيهم قتلاً ذريعاً، وسبى سبياً عظيماً، وسار حتى انتهى إلى السوس الأدنى لا يدافعه أحد. فلما رأى بقية البربر ما نزل بهم استأمنوا وبذلوا له الطاعة فقبل منهم، وولى عليهم والياً، واستعمل على طنجة وأعمالها مولاه طارق بن زياد البربري، ويقال إنه من الصدف، وترك عنده تسعة عشر ألف فارس من البربر بالأسلحة والعدد الكاملة، وكانوا قد أسموا وحسن إسلامهم، وترك موسى عندهم خلقاً يسيراً من العرب لتعليم القرآن وفرائض الإسلام، ورجع إلى إفريقية، ولم يبق بالبلاد من ينازعه من البربر ولا من الروم. فلما استقرت له القواعد كتب إلى طارق وهو بطنجة يأمره بغزو بلاد الأندلس في جيش من البربر ليس فيه من العرب إلا قدر يسير، فامتثل طارق أمره، وركب البحر (1) من سبتة إلى الجزيرة الخضراء من بر الأندلس، وصعد إلى جبل يعرف اليوم بجبل طارق لأنه نسب إليه لما حصل عليه، وكان صعوده إليه يوم الاثنين لخمس خلون من رجب سنة اثنتين وتسعين للهجرة في اثني عشر ألف فارس من البربر خلا اثني عشر رجلاً. وذكر عن طارق أنه كان نائماً في المركب وقت التعدية، وأنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الأربعة رضي الله عنهم يمشون على الماء، حتى مروا به فبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفتح؛ وأمره بالرفق بالمسلمين والوفاء بالعهد، ذكر ذلك ابن بشكوال - المقدم ذكره في حرف الخاء - في تاريخ الأندلس. وكان صاحب طليطلة ومعظم بلاد الأندلس ملك يقال له لذريق (2) . ولما احتل (3) طارق بالجبل المذكور كتب إلى موسى بن نصير: إني فعلت ما أمرتني به، وسهل الله سبحانه وتعالى بالدخول. فلما وصل كتابه إلى نوسى بدم على تأخره،   (1) زاد في ر: في من معه. (2) ق: الذريق؛ صف: أزريق؛ لي: لذريس. (3) لي بر من: صار، ق ص: أحفل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 320 وعلم أنه إن فتح نسب الفتح إليه دونه، فأخذ في جمع العساكر، وولى على القيروان ولده عبد الله، وتبعه فلم يدركه إلا بعد الفتح. وكان لذريق المذكور قد قصد عدواً له، واستخلف في المملكة شخصاً يقال له تدمير، وإلى هذا الشخص تنتسب بلاد تدمير بالأندلس - وهي مرسية وما والاها، وهي خمس مواضع تسمى بهذا الاسم، واستولى الفرنج على مرسية سنة اثنتين وخمسين وستمائة (1) - فلما نزل طارق من الجبل بالجيش الذي معه كتب تدمير إلى لذريق الملك إنه قد وقع بأرضنا قوم لا ندري من السماء هم أم من الأرض، فلما بلغ ذلك لذريق رجع عن مقصده في سبعين ألف فارس، ومعه العجل يحمل الأموال والمتاع، وهو على سريره بين دابتين عليه قبة مكللة بالدر والياقوت والزبرجد. فلما بلغ طارقاً دنوه قام في أصحابه فحمد الله سبحانه وتعالى، وأثنى عليه بما هو أهله، ثم حث المسلمين على الجهاد ورغبهم في الشهادة، ثم قال: أيها الناس، أين المفر والبحر من ورائكم والعدو أمامكم فليس لكم والله إلا الصدق والصبر، واعلموا أنكم في هذه الجزيرة أضيع من الأيتام في مآدب اللئام، وقد استقبلتم عدو كم بجيشه وأسلحته، وأقواته موفورة، وأنتم لا وزر لكم غير سيوفكم، ولا أقوات (2) لكم إلا ما تستخلصونه من أيدي أعدائكم، وإن امتدت بكم الأيام على افتقاركم، ولم تنجزوا لكم أمراً، ذهبت ريحكم وتعوضت القلوب برعبها منكم الجراءة عليكم، فافعوا عن أنفسكم خذلان هذه العاقبة من أمركم بمناجزة هذا الطاغية (3) ، فقد ألقت إليكم مدينته المحصنة، وإن انتهاز الفرصة فيه لممكن لكم إن سمحتم بأنفسكم للموت. وإني لم أحذركم أمراً أنا عنه بنجوة (4) ، ولا حملتكم على خطة أرخص متاع فيها النفوس أبداً فيها بنفسي، واعلموا أنكم إن صبرتم على الأشق قليلاً، استمتعتم بالأرفه الألذ طويلاً، فلا ترغبوا   (1) وهي مرسية ... وستمائة: سقط من: لي بر من. (2) ق ن ص: أثواب. (3) ر ن ق لي: هذه الطاغية. (4) ق: بنجاة؛ ن: بمنجاة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 321 بأنفسكم عن نفسي، فيما حظكم فيه أوفر من حظي، وقد بلغكم نا أنشأت هذه الجزيرة من الحور الحسان من بنات اليونان الرافلات في الدر والمرجان، والحلل المنسوجة بالعقيان، المقصورات في قصور الملوك ذوي التيجان، وقد انتخبكم الوليد بن عبد الملك من الأبطال عرباناً (1) ، ورضيكم لملوك هذه الجزيرة أصهاراً وأختاناً، ثقة منه بارتياحكم للطعان، واستماحكم بمجالدة الأبطال والفرسان، ليكون حظه معكم ثواب الله على إعلاء كلمته، وإظهار دينه بهذه الجزيرة، ويكون مغنمها خالصاً لكم من دونه ومن دون المسلمين سواكم، والله تعالى ولي إنجادكم على ما يكون لكم ذكراً في الدارين. واعلموا أني أول مجيب إلى ما دعوتكم إليه، وأني عند ملتقى الجمعين حامل بنفسي على طاغية قومه لذريق فقاتله إن شاء الله تعالى، فاحملوا معي، فإن هلكت بعده فقد كفيتكم (2) أمره ولن يعوزكم بطل عاقل تسندون أمركم إليه، وإن هلكت قلب وصولي إليه فاخلفوني في عزيمتي هذه، واحملوا بأنفسكم عليه، واكتفوا المهم من فتح هذه الجزيرة بقتله، فإنهم بعده يخذلون. فلما فرغ طارق من تحريض أصحابه على الصبر في قتال (3) لذريق وأصحابه وما وعدهم من النيل الجزيل، انبسطت نفوسهم وتحققت آمالهم وهبت ريح النصر عليهم وقالوا: قد قطعنا الآمال مما يخالف ما عزمت عليه، فاحضر إليه فأنا معك وبين يديك. فركب طارق وركبوا وقصدوا مناخ لذريق، وكان قد نزل بمتسع من الأرض، فلما تراءى الجمعان نزل طارق وأصحابه، فباتوا ليلتهم في حرس إلى الصبح. فلما أصبح الفريقان تلببوا (4) وعبوا كتائبهم (5) وحمل لذريق على سريره، وقد رفع على رأسه رواق ديباج يظله، وهو مقبل (6) في غاية من (7) البنود والأعلام   (1) ق ص بر من: عزبانا؛ لي: غزيانا. (2) ق: كفيتم. (3) ص: على قتال؛ بر من: من قتال. (4) لي: تلبسوا؛ النفح: تكتبوا. (5) ن: كنائنهم؛ بر: مواكبهم. (6) ص: متحمل. (7) ق: على غاية من؛ من: سقطت من لي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 322 وبين يديه المقاتلة والسلاح، وأقبل طارق وأصحابه عليهم الزرد، ومن فوق رؤوسهم العمائم البيض وبأيديهم القسي العربية، وقد تقلدوا السيوف واعتقلوا الرماح، فلما نظر إليهم لذريق قال: أما والله إن هذه الصور التي رأينا ببيت الحكمة ببلدنا، فداخله منهم رعب. ونتكلم هاهنا على بيت الحكمة ماهو، ثم نتكلم على حديث (1) هذه الواقعة: وأصل خبر بيت احكمة أن اليونان - وهم الطائفة المشهورة بالحكمة - كانوا يسكنون ببلاد المشرق قبل عهد الإسكندر، فلما ظهرت الفرس واستولت على البلاد، وزاحمت اليونان على ما كان بأيديهم من الممالك، انتقل اليونان إلى جزيرة الأندلس، لكونها طرفاً في آخر العمارة، ولم يكن لها ذكر يوم ذاك، ولا ملكها أحد من الملوك المعتبرةن ولاكانت عامرة، وكان أول من عمر فيها واختطها أندلس بن يافث بن نوح عليه السلام، فسميت باسمه، ولما عمرت الأرض بعد الطوفان كان صورة المعمور منها عندهم على شكل طائر رأسه المشرق والجنوب والشمال جناحاه، وما بينهما بطنه، والمغرب ذنبه، فكانوا يزدرون المغرب لنسبته إلى أخس أجزاء الطائر. قلت (2) : وجرى في مجلس الحافظ أبي طاهر السفلي نادرة تصلح أن نذكرها هاهنا وهي أن أبا إسحاق إبراهيم بن عبد الله المعروف بابن الجمش البلبيسي كان في مجلسه، وعبد العزيز الشريشي يقرأ حديث عمرو بن العاص: خلقت الدنيا على صورة طير ... الحديث المذكور؛ فقال الشريشي لأبي إسحاق يمازحه: اسمع يا أبا إسحاق، وشر ما في الطير ذنبه، فقال أبو إسحاق: هيهات ما عرفت أنت ما كان ذلك الطائر المشبه كان طاووساً، وما فيه أحسن من ذنبه. وكانت اليونان لا ترى فناء الأمم بالحروب لما ترى فيه من الإضرار والاشتغال   (1) ر بر من: ثم نكمل حديث. (2) هذه القصة لم ترد في النسخ: لي بر من والمطبوعة المصرية ودي سلان. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 323 عن العلوم التي كان أمرها عندهم من أهم الأمور، فلذلك انحازوا من بين يدي الفرس إلى الأندلس. فلما صاروا إليها أقبلوا على عمارتها، فشقوا الأنهار وبنوا المعاقل، وغرسوا (1) الجنات والكروم، وشيدوا الأمصار، وملؤوها حرثاً ونسلاً وبنياناً، فعظمت وطابت حتى قال قائلهم لما رأى بهجتها: إن الطائر الذي صورت العمارة على شكله، وكان المغرب ذنبه، كان طاوساً معظم جماله في ذنبه. فاغتبطوا بها أتم اغتباط واتخذوا دار الملك والحكمة بها مدينة (2) طليطلة لأنها وسط البلاد، وكان أهم الأمور عندهم تحصينها عمن يتصل به خبرها من الأمم، فنظروا فإذا ليس ثم من يحسدهم على أرغد العيش إلا أرباب الشظف والشقاء، وهم يوم ذاك طائفتان: العرب والبربر (3) ، فخافوهم على جزيرتهم المعمورة، فعزموا أن يتخذوا لدفع هذين الجنسين من الناس طلمساً، فرصدوا لذلك أرصاداً. ولما كان البربر بالقرب منهم، وليس بينهم سوى تعدية البحر، ويرد عليهم منهم طوائف منحرفة الطباع خارجة عن الأوضاع، وازدادوا منهم نفراً، وكثر تحذيرهم من مخالطتهم في نسب أو مجاورة، حتى انبث ذلك في طبائعهم، وصار بغضهم مركباً في غرائزهم، فلما علم البربر عداوة أهل الأندلس لهم وبغضهم، أبغضوهم وجسدوهم، فلا تجد أندلسياً إلا مبغضاً بربرياً ولا بربرياً إلا مبغضاً أندلسياً، إلا أن البربر أحوج إلى أهل الأندلس من أهل الأندلس إلى البربر، لكثرة وجود الأشياء بالأندلس وعدمها ببلاد البربر. وكان بنواحي غرب جزيرة الأندلس ملك يوناني بجزيرة يقال لها قادس، وكانت له ابنة في غاية الجمال، فتسامع بها ملوك الأندلس، وكانت جزيرة الأندلس كثيرة الملوك، لكل بلدة أو بلدتين ملك تناصفاً منهم في ذلك، فخطبها كل واحد منهم (4) ، وكان أبوها يخشى من تزويجها لواحد منهم وإسخاط (5)   (1) ق: وعرشوا. (2) مدينة: سقطت من ص ن ق. (3) ق: البربر والعرب. (4) وقع هنا خرم في النسخة (لي) صاعت به عدة أوراق؛ وفي ص ر بر من: كل منهم. (5) ص: أن يسخط؛ ن ق: اسخاطاً. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 324 الباقين، فتحير في أمره، وأحضر ابنته المذكورة، وكانت الحكمة مركبة في طباع القوم ذكورهم وإناثهم (1) - ولذلك قيل إن الحكمة نزلت من السماء على ثلاثة أعضاء من أهل الأرض: على أدمغة اليونان وأيدي أهل الصين وألسنة العرب - فلما حضرت بين يديه قال لها: يا ينية، وإني قد أصبحت في حيرة من أمري، قالت: وما حيرك قال: قد خطبك جميع ملوك الأندلس، ومتى أرضيت واحداً أسخطت الباقين، فقالت: اجعل الأمر إلي تخلص من اللوم، قال: وما تصنعين قالت: أقترح لنفسي أمراً من فعله كنت زوجته، ومن عجز عنه لم يحسن به السخط قال: وما الذي تقترحين قالت: أقترح أن يكون ملكاً حكيماً، قال: نعم ما اخترتيه (2) لنفسك، وكتب في أجوبة الملوك الخطاب: إني جعلت الأمر إليها فاختارت من الأزواج الملك الحكيم. فلما وقفوا على الأجوبة سكت عنها كل من لم يكن حكيماً. وكان في الملوك رجلان حكيمان، فكتب كل واحد منهما إليه: أنا الرجل الحكيم. فلما وقف على كتابيهما قال: يا بنية بقي الأمر على إشكاله، وهذان ملكان حكيمان، أيهما أرضيته أسخطت الأخر قالت: سأقترح على كل واحد منهما أمراً يأتي به، فأيهما سبق إلى الفراغ مما التمسته تزوجت به، قال: وما الذي تقترحين عليهما قالت: إننا ساكنون بهذه الجزيرة، ونحن محتاجون إلى رحى تدور بها، وإني مقترحة على أحدهما إدارتها بالماء العذب الجاري إليها من ذلك البر، ومقترحة على الآخر أن يتخذ طلسماً يحصن (3) به جزيرة الأندلس من البربر، فاستظرف أبوها اقتراحها، وكتب إلى الملكين بما قالته ابنته، فأجابا إلى ذلك، وتقاسماه على ما اختارا، وشرع كل واحد في عمل ما ندب (4) إليه من ذلك. فأما صاحب الرحى فإنه عمد إلى خرز عظام اتخذها من الحجارة، ونضد   (1) ن ق: ذكرهم وأنثاهم. (2) ر: اقترحتيه. (3) ر: نحصن؛ ق؛ لتحصين. (4) ندب: سقطت من: ق ص ن؛ النفح: أسند. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 325 بعضها في بعض في البحر المالح الذي بين جزيرة الأندلس والبر الكبير في الموضع المعروف بزقاق سبتة، وسد الفروج التي بين الحجارة بما اقتضته حكمته، وأوصل تلك الحجارة من البر إلى الجزيرة، وآثارها باقية إلى اليوم في الزقاق الذي بين سبتة والجزيرة الخضراء، وأكثر أهل الأندلس يزعمون أن هذا أثر قنطرة كان الإسكندر قد عملها ليعبر عليها الناس من سبتة إلى الجزيرة، والله أعلم أي القولين أصح. فلما تم تنضيد الحجارة للملك الحكيم، جلب إليها الماء العذب من موضع عال في الجبل بالبر الكبير، وسلطه في ساقية محكمة البناء، وبنى بجزيرة الأندلس رحى على هذه الساقية. وأما صاحب الطلسم فإنه أبطأ عمله بسب انتظار الرصد الموافق لعمله، غير أنه أعمل أمره وأحكمه، وابتنى بنياناً مربعاً من حجر أبيض على ساحل البحر في رمل حفر أساسه إلى أن جعله تحت الأرض بمقدار ارتفاعه فوق الأرض ليثبت، فلما انتهى البناء المربع إلى حيث اختار صور من النحاس الأحمر والحديد المصفى المخلوطين بأحكم الخلط صورة رجل بربري له لحية، وفي رأسه ذؤابة من شعر جعد قائم في رأسه لجعودتها، متأبط بصورة بصورة كساء قد جمع طرفيه على يده اليسرى، بألطف (1) تصوير وأحكمه، في رجليه نعل، وهو قائم في رأس البناء على مستدق (2) بمقدار رجليه فقط، وهو شاهق في الهواء طوله نيف عن ستين ذراعاً أو سبعين، وهو محدد الأعلى إلى أن ينتهي إلى ما سعته قدر الذراع، وقد مد يده اليمنى بمفتاح قفل قابضاً عليه مشيراً إلى البحر كأنه يقول لاعبور. وكان من تأثير هذا الطلسم في البحر الذي تجاهله أنه لم ير قط ساكناً ولا كانت تجري فيه قط سفينة بربري (3) حتى سقط المفتاح من يده. وكان الملكان العاملان للرحى والطلسم يتسابقان إلى التمام من عملهما إذ كان بالسبق يستحق التزويج، وكان صاحب الرحى قد فرغ لكنه يخفي أمره عن صاحب الطلسم حتى لا يعلم به فيبطل عمل الطلسم، وكان يود عمل الطلسم حتى   (1) ن ق بر من: بأرطب. (2) ص: مسترق؛ ر: مستند. (3) ق ص: ببربري. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 326 يحظى بالمرأة والرحى والطلسم، فلما علم اليوم الذي فرغ صاحب الطلسم في آخره أجرى الماء بالجزيرة من أوله وأدار الرحى، واشتهر ذلك واتصل الخبر بصاحب الطلسم وهو في أعلاه يصقل وجهه، وكان الطلسم مذهباً، فلما تحقق أنه مسبوق ضعفت نفسه فسقط من أعلى البناء ميتاً، وحصل صاحب الرحى على الرحى والمرأة والطلسم. وكان من تقدم من ملوك اليونان يخشى على جزيرة الأندلس من البربر للسب الذي قدمنا ذكره، فاتفقوا وعملوا الطلسمات (1) في أوقات اختاروا أرصادها، وأودعوا تلك الطلسمات تابوتاً من الرخام وتركوه في بيت بمدينة طليطلة، وركبوا على ذلك البيت باباً وأقفلوه، وتقدموا إلى كل من ملك منهم بعد صاحبه أن يلقي على ذلك الباب قفلاً، تأكيداً لحفظ ذلك البيت، فاستمر أمرهم على ذلك. ولما كان (2) وقت انقراض دولة اليونان ودخول العرب والبربر إلى جزيرة الأندلس، وذلك بعد مضي سنة وعشرين ملكاً من ملوك اليونان من يوم عملهم الطلسمات بمدينة طليطلة، وكان الملك لذريق المذكور السابع والعشرين من ملوكهم، فلما جلس في ملكه قال لوزارئه وأهل الرأي من دولته: قد وقع في نفسي من أمر هذا البيت الذي عليه سنة وعشرون قفلاً شيء، وأريد أن أفتحه لأنظر ما فيه، فإنه لم يعمل عبثاً، فقالوا: أيها الملك، صدقت لم يعمل عبثاً ولا أقفل سدى، بل المصلحة أن تلقي عليه قفلاً كما فعل من تقدمك من الملوك، وكانوا آباءك وأجدادك ولم يهملوا هذا فلا تهمله وسر سيرهم، فقال: إن نفسي تنازعني إلى فتحه، ولا بد لي منه، فقالوا: إن كنت تظن فيه مالاً فقدره ونحن نجمع لك من أموالنا نظيره، ولا تحدث علينا بفتحه حدثاً لا نعرف عاقبته، فأصر عل ذلك، وكان رجلاً مهيباً فلم يقدروا على مراجعته، وأمر بفتح الأقفال، وكان على كل قفل مفتاحه معلقاً، فلما فتح الباب لم ير في البيت شيئاً إلا مائدة عظيمة من ذهب وفضة مكللة بالجواهر، وعليها مكتوب (3) :   (1) ن ص ق بر من: طلسمات. (2) ر: حان. (3) ن ق: مكتوب عليها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 327 هذه مائدة سليمان بن داودعليهما السلام، ورأى في البيت ذلك التابوت، وعليه قفل ومفتاحه معلق، ففتحه فلم يجد فيه سوى رق، وفي جوانب التابوت صور فرسان مصورة بأصباغ محكمة التصوير على أشكال العرب، وعليهم الفراء وهم معممون على ذوائب جعد، ومن تحتهم الخيل العربية، وبأيديهم القسي العربية وهم متقلدون بالسيوف (1) المحلاة، معتقلون بالرماح (2) ، فأمر بنشر ذلك الرق، فإذا فيه: متى فتح هذا الباب وهذا التابوت المقفلان بالحكمة دخل القوم الذين صورهم في التابوت إلى جزيرة الأندلس، وذهب ملك اليونان من أيديهم، ودرست حكمتهم، فهذا هو بيت الحكمة المقدم ذكره؛ فلما سمع لذريق ما في الرق ندم على ما فعل، وتحقق انقراض دولتهم، فلم يلبث إلا قليلاً حتى سمع أن جيشاً وصل من المشرق جهزه ملك العرب يستفتح بلاد الأندلس؛ انتهى الكلام على بيت الحكمة. ونعود الآن إلى تتمة حديث لذريق وجيش طارق بن زياد: فلما رأى طارق لذريق قال لأصحابه: هذا طاغية القوم، فحمل وحمل أصحابه معه، فتفرقت المقاتلة من بين يدي لذريق، فخلص إليه طارق، وضربه بالسيف على رأسه فقتله على سريره، فلما رأى أصحابه مصرع ملكهم اقتحم الجيشان، وكان النصر للمسلمين، ولم تقف هزيمة اليونان على موضع، بل كانوا يسلمون بلداً بلداً ومعقلاً معقلاً. فلما سمع بذلك موسى بن نصير المذكور أولاً عبر الجزيرة بمن معه، ولحق بمولاه طارق، فقال له: يا طارق، إنه لن يجازيك الزليد بن عبد الملك عى بلائك بأكثر من أن يبيحك جزيرة الأندلس، فاستبحه هنيئاً مريئاً، فقال طارق: أيها الأمير، والله لا أرجع عن قصدي هذا مالم أنته إلى البحر المحيط وأخوض فيه بفرسي، يعني البحر الشمالي الذي تحت بنات نعش، فلم يزل طارق   (1) ن ص: متقلدو السيوف؛ بر من: متقلدون السيوف. (2) ر ص ن: معتقلو الرماح؛ بر من: معتقلون الرماح. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 328 يفتح وموسى معه إلى أن بلغ جليقية، وهي على ساحل البحر المحيط، ثم رجع. قال الحميدي في " جذوة المقتبس ": إن موسى بن بصير نقم على طارق إذ غزا بغير إذنه، وسجنه وهم بقتله، ثم ورد عليه كتاب الوليد بإطلاقه فأطلقه، وخرج معه إلى الشام. وكان خروج موسى من الأندلس وافداً على الوليد يخبره بما فتح الله سبحانه وتعالى على يديه وما معه من الأموال في سنة أربع وتسعين للهجرة، وكان معه مائدة سليمان بن داود عليهما السلام التي وجدت في طليطلة على ما حكاه بعض المؤرخين، فقال: كانت مصنوعة من الذهب والفضة، وكان عليها طوق لؤلؤ وطوق ياقوت وطوق زمرد، وكانت عظيمة بحيث إنها حملت على بغل قوي فما سار قليلاً حتى تفسخت قوائمه، وكان معه تيجان الملوك الذين تقدموا من اليونان، وكلها مكللة بالجواهر، واستصحب ثلاثين ألف رأس من الرقيق. ويقال إن الوليد كان قد نقم عليه أمراً، فلما وصل إليه وهو بدمشق أقامه في الشمس يوماً كاملاً في يوم صائف حتى خر مغيشاً عليه. وقد أطلنا هذه الترجمة كثيراً لكن الكلام انتشر فلم يمكن قطعه، مع أني تركت الأكثر وأتيت بالمقصود. وقال الليث بن سعد: إن موسى بن نصير حين فتح الأندلس كتب إلى الوليد ابن عبد الملك، إنها ليست الفتوح ولكنها الجنة (1) . ولما وصل موسى إلى الشام ومات الوليد بن عيد الملك وقام من بعده سليمان أخوه، وحج في سنة سبع وتسعين للهجرة - وقيل سنة تسع وتسعين - حج معه موسى بن نصير، ومات في الطريق بوادي القرى، وقيل بمر الظهران، على اختلاف فيه. وكانت ولادته في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه في سنة تسع عشرة للهجرة، رحمه الله تعالى.   (1) ر والنفح: الحشر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 329 749 - (1) الملك الأشرف موسى الأيوبي أبو الفتح موسى ابن الملك العادل سيف الدين أبي بكر بن أيوب، الملقب الملك الأشرف مظفر الدين؛ أول شيء ملكه من البلاد مدينة الرها، سيره إليها والده من الديار المصرية في سنة ثمان وتسعين وخمسمائة، ثم أضيفت إليه حران. وكان محبوباً إلى الناس مسعوداً مؤيداً في الحروب من يومه، لقي نور الدين أرسلان شاه صاحب الموصل - المذكور في حرف الهمزة - وكان يوم ذاك من الملوك المشاهير الكبار، وتواقعا في مصاف فكسره، وذلك في سنة ستمائة يوم السبت تاسع عشر شوال بموضع يقال له بين النهرين من أعمال الموصل وهي وقعة مشهورة فلا حاجة إلى تفصيلها؛ ولما توفي أخوه عبد الملك الأوحد نجم الدين أيوب صاحب خلاط وميافارقين وتلك النواحي، أخذ الملك الأشرف مملكته مضافة إلى ملكه، وتوفي الملك في شهر ربيع الأول سنة تسع وستمائة وكانت وفاته بملازكرد من أعمال خلاط ودفن بها، وكان الملك الأوحد قد ملك خلاط في سنة أربع وستمائة. فاتسعت حينئذ مملكته وبسط العدل على الناس وأحسن إليهم إحسانا لم يعهدوه ممن كان قبله، وعظم وقعه في قلوب الناس، وبعد صيته، وكان قد ملك نصيبين الشرق في سنة ست وستمائة، وأخذ سنجار سنة سبع عشرة في رابع جمادى الأولى، ورأيت في موضع آخر أنه أخذها في مستهل صفر من السنة، والله أعلم، كذلك الخابور، وملك (2) معظم بلاد الجزيرة، وكان يتنقل   (1) أخباره في مفرج الكروب (ج: 3) وذيل الروضتين: 165 والسلوك 1: 256 والحوادث الجامعة: 105 ومرآة الزمان: 711 والنجوم الزاهرة 6: 300 وعبر الذهبي 5: 146 والشذرات 5: 175 والزركشي 3، الورقة: 236؛ وقد انفردت النسخ ص ن ر ق بزيادات في عدة مواضع من هذه الترجمة لم ترد في المطبوعة المصرية. (2) ن: فإنه أخذها وملك .... الجزء: 5 ¦ الصفحة: 330 فيها، وأكثر إقامته بالرقة لكونها على الفرات. ولما مات ابن عمه الملك الظاهر غازي صاحب حلب - في التاريخ المذكور في ترجمته في حرف الغين - عزم عز الدين كيكاوس بن غياث الدين كيسخرو بن قليج أرسلان بن مسعود بن قليج أرسلان صاحب الروم على قصد حلب فسير أرباب الأمر بحلب إلى الملك الأشرف وسألوه الوصول إليهم لحفظ البلد، فأجابهم إلى شؤالهم وتوجه إليهم وأقام بالياروقية بظاهر حلب مدة ثلاث سنين، وجرت له مع صاحب الروم وابن عمه الملك الأفضل بن صلاح صاحب سمسياط وقائع مشهورة لا حاجة إلى الإطالة في شرحها. ولما أخذت الفرنج دمياط في سنة ست عشرة وستمائة - حسبما شرحناه في ترجمة الملك الكامل - توجهت جماعة من ملوك الشام إلى الديار المصرية، لإنجاد الملك الكامل، وتأخر عنه الملك الأشرف لمنافرة كانت بينهما، فجاءه أخوه الملك العظيم - المقدم ذكره في حرف العين - بنفسه، وأرضاه، ولم يزل بلاطفه حتى استصبحه معه، فصادف عقيب وصوله إليها بأشهر - كما ذكرناه في ترجمة الكامل محمد - انتصار المسلمين على الفرنج وانتزاع دمياط من أيديهم، وكانوا يرون ذلك بسب يمن غرته. وكان وصوله إليها في المحرم سنة ثماني عشرة وستمائة، واستناب أخاه الملك المظفر شهاب الدبن غازي ابن الملك العادل في خلاط، فعصى عليه، فقصده في عساكره وأخذها منه يوم الاثنين ثاني عشر جمادى الآخرة سنة إحدى وعشرين وستمائة. ولما مات الملك المعظم - في التاريخ المذكور في ترجمته - قام بالأمر من بعده ولده الملك الناصر صلاح الدين داود، فقصده عمه الملك الكامل من الديار المصرية ليأخذ دمشق منه، فاستنجد بعمه الملاك الأشرف، وكان يومئذ ببلاد الشرق، فوصل إليه، واجتمع به في دمشق، ثم خرج منها متوجهاً إلى أخيه الملك الكامل، واجتمع به وجرى الاتفاق بينهما على أخذ دمشق من الملك الناصر وتسليمها إلى الملك الأشرف، ويبقى للملك الناصر الكرك والشوبك ونابلس وبيسان وتلك النواحي، وينزل الملك الأشرف عن حران والرها وسروج والرقة ورأس عين، ويسلمها إلى الملك الكامل، فاستتب الحال على ذلك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 331 وتسلم الملك الكامل دمشق لاستقبال شعبان من السنة بنوابه، ورحل الناصر إلى بلاده التي عليه يوم الجمعة ثاني عشر شعبان، ثم دخل الملك الكامل إلى دمشق في سادس عشر الشهر المذكور وعاد وخرج إلى مكانه الذي كان فيه، ثم دخل هو الأشرف إلى القلعة في ثامن عشر شعبان ثم سلمها إلى أخيه الملك الأشرف على ما تقرر بينهما، في أواخر شعبان من سنة ست وعشرين وستمائة، وانتقل الملك الكامل إلى بلاده التي تسلمها بالشرق، ليكشف أحوالها ويرتب أمورها، واجتزت في التاريخ المذكور بحران وهو بها. وانتقل الأشرف إلى دمشق واتخذها دار إقامة وأعرض عن بقية البلاد، ونزل جلال الدين خوارزم شاه على خلاط وحاصرها وضايقها أشد مضايقة، وأخذها في جمادى الآخرة من سنة ست وعشرين من نواب الملك الأشرف، وهو مقيم بدمشق، ولم يمكنه في ذلك الوقت قصدها للدفع عنها لأعذار كانت له. ثم عقيب ذلك دخل إلى بلاد الروم باتفاق مع سلطانها علاء الدين كيقباذ أخي عز الدين كيكاوس المذكور، وتعاقدا (1) على قصد خوارزم شاه، وضرب المصاف معه، فإن صاحب الروم أيضاً كان يخاف على بلاده منه. لكونه مجاوره، فتوجها نحوه في جيش عظيم من جهة الشام والشرق في خدمة الملك الأشرف، وعسكر صاحب الروم، والتقوا بين خلاط وأرزنكان، بموضع يقال له: يا للرحمان (2) في يوم الجمعة ثاني عشر رمضان سنة سبع وعشرين وستمائة، وانكسر خوارزم شاه، وهي واقعة مشهورة، وعادت خلاط إلى الملك الأشرف وقد خربت. ثم رجع إلى الشام وتوجه إلى الديار المصرية، وأقام عند أخيه الملك الكامل مدة، ثم خرج في خدمته قاصدين آمد، ونزلوا عليها وفتحوها في مدة يسيرة وذلك في سنة تسع وعشرين وستمائة، وأضافها الملك الكامل إلى ممالكها ببلاد الشرق، ورتب فيها ولده الملك الصالح نجم الدين أيوب - المذكور في ترجمة   (1) ر بر من: وتظافرا؛ (والصواب: وتضافرا أو تظاهرا) . (2) ر: يا سي جمان؛ دي سلان: بني جمان، وأشار إلى اضطراب النسخ في الأسم، وسقط الأسم من نسختي بر من. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 332 والده - وفي خدمته الطواشي شمس الدين صواب الخادم العادلي، ثم عاد كل واحد إلى بلاده. ثم كانت واقعة ببلاد الروم والدربندات في أواخر سنة إحدى وثلاثين وستمائة وهي مشهورة، ورجع الكامل والأشرف ومن معهما من الملوك بغير حصول مقصود، ولما رجعا خرج عسكر صاحب الروم على بلاد الكامل بالشرق فأخذها وأخربها، ثم عاد الكامل والأشرف وأتباعهما ومن معهما من الملوك إلى بلاد الشرق، واستنقذوها من نواب صاحب الروم. ثم رجعوا إلى دمشق في سنة ثلاث وثلاثين وستمائة، وكنت يومئذ بدمشق، وفي تلك الواقعة (1) رأيت الكامل والأشرف، وكانا يركبان معاً ويلعبان بالكرة في الميدان الأخضر الكبير كل يوم، وكان شهر رمضان، فكانا يقصدان بذلك تعبير النهار لأجل الصوم؛ ولقد كنت أرى من تأدب كل واحد منهما مع الآخر شيئاً كثيراً، ثم وقعت بينهما وحشة، وخرج الأشرف عن طاعة الكامل، ووافقته الملوك بأسرها، وتعاهد هو وصاحب الروم وصاحب حلب وصاحب حماة وصاحب حمص وأصحاب الشرق، على الخروج على الملك الكامل، ولم يبق مع الملك الكامل سوى ابن أخيه الملك الناصر صاحب الكرك، فإنه توجه إلى خدمته بالديار المصرية، فلما تحالفوا وتحزبوا واتفقوا وعزموا على الخروج على الملك الكامل، مرض الملك الأشرف مرضاً شديداً، وتوفي يوم الخميس رابع المحرم سنة خمس وثلاثين وستمائة بدمشق، ودفن بقلعتها ثم نقل إلى التربة التي أنشئت له بالكلاسة في الجانب الشمالي من جامع دمشق. وكان ولادته سنة ثمان وسبعين وخمسمائة بالديار المصرية بالقاهرة، وقيل بقلعة الكرك، رحمه الله تعالى. وقد ذكرت في ترجمة أخيه الملك المعظم عيسى ما ذكره سبط ابن الجوزي في مولدهما؛ وتوفي أخوه شهاب الدين غازي صاحب ميافارقين في رجب سنة خمس وأربعين وستمائة بميافارقين. هذه خلاصة أحواله؛ وكان سلطاناً كريماً حليماً واسع الصدر كريم الأخلاق كثير العطاء، لا يوجد في خزانته شيء من المال مع إتساع مملكته، ولا تزال   (1) ن بر من: الدفعة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 333 عليه الديون للتجار وغيرهم. ولقد رأى يوماً في دواة كاتبه وشاعره الكمال أبي الحسن علي بن محمد المعروف بابن النبيه المصري قلماً واحداً، فأنكر عليه ذلك، فأنشده في الحال دوبيت: قال الملك الأشرف قولاً رشدا ... أقلامك يا كمال قلت عددا جاوبت لعظم كتب ما تطلقه ... تحفى فتقط فهي تفنى أبدا ويقال إنه طرب ليلة في مجلس أنسه على بعض الملاهي، فقال لصاحب الملهى: تمن علي، فقال: تمنيت مدينة خلاط، فأعطاها له، وكان نائبه بها الأمين حسام الدين المعروف بالحاجب علي بن حماد الموصلي، فتوجه ذلك الشخص إليه ليتسلمها منه، فعوضه الحاجب عنها جملة كثيرة من المال وصالحه عنها، وكان له في ذلك غرائب. وكان يميل إلى أهل الخير والصلاح ويحسن الاعتقاد فيهم، وبنى بدمشق دار حديث، فوض تدريسها إلى الشيخ تقي الدين عثمان المعروف بابن الصلاح، المقدم ذكره. وكان بالعقيبة ظاهر دمشق خان يعرف بابن الزنجاري، قد أجمع أنواع أسباب الملاذ، ويجري فيه من الفسوق والفجور ما لايحد ولا يوصف، فقيل له عنه: إن مثل هذا لايليق أن يكون في بلاد المسلمين، فهدمه وعمره جامعاً غرم عليه جملة مستكثرة، وسماه الناس جامع التوبة كأنه تاب إلى الله تعالى وأناب مما كان فيه. وجرت في خطابته نكتة لطيفة، أحببت ذكرها، وهي: أنه كان بمدرسة ست الشام التي خارج البلد، إمام يعرف بالجمال السبتي، أعرفه شيخاً حسناً، ويقال كان في صباه بشيء من الملاهي، وهي التي تسمى الجغانة، ولما كبر حسنت طريقته وعاشر العلماء وأهل الصلاح، حتى صار معدوداً في الأخيار، فلما احتاج الجامع المذكور إلى خطيب ذكر للملك الأشرف جماعة، وشكر الجمال المذكور، فتولى خطابته، فلما توفي تولى موضعه العماد الواسطي الواعظ، وكان يتهم باستعمال الشراب، وكان صاحب دمشق يومئذ الصالح عماد الدين إسماعيل بن الملك العادل بن أيوب، فكتب إليه الجمال عبد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 334 الرحيم المعروف بابن زويتينة الرحبي أبياتاً، وهي: يا مليكاً أوضح الحق لدينا وأبانه ... جامع التوبة قد قلدني منه أمانه ... قال قل للملك الصا ... لح أعلى الله شانه يا عماد الدين يا من ... حمد الناس زمانه كم إلى كم أنا في ضر وبؤس وإهانه ... لي خطيب واسطي ... يعشق الشرب ديانه والذي قد كان من قب ... ل يغني بجغانه فكما نحن فما زلن ... اوما نبرح حانه ردني للنمط الأو ... ل واستبق ضمانه وهذه الأبيات في بابها في غاية الظرف (1) ، وكان ابن زويتينة المذكور قد   (1) كتب في النسخة ق في ورقة صغيرة ملحقة ما يلي: " ثم لم يزل الجامع المذكور على ذلك الحال إلى أن تولى مولانا السلطان الملك المؤيد شيخ نصره الله تعالى، والجامع المذكور كأنه يقول بلسان الحال: ألا هل من مبلغ قصتي إلى المقام الشريف لعله ينظر في أمري، ثم كتبت قصته وأرسل بها من الشام المحروس إلى القاهرة المحروسة وفيها ما صورته: يا مليكاً هو فحل ... أطلق الله عنانه جامع التوبة كم ذا ... يشتكي فينا هوانه إن صلاح الدين ولى ... فبكم نرجو الإعانه قال بالله اذكروني ... فزماني في زمانه واشرحوا حالي لشيخ ... عظم الرحمن شانه فهو سلطان سعيد ... وله عندي مكانه ليرى لي بخطيب ... وإمام ذي صيانه مثلما عمر غيري ... ليتني كنت الخزانه فارحموني يالقومني ... ضاع في الناس الامانه في قوم قد أقاموا ... للمعاضي طبلخانه نقضوا التوبة مني ... واستباحوا للخيانه يشقعوا أو يبلعوا أو ... مع فلان أو فلانه فانتفوا ذقن خطيبي ... نتف كس بلبانه وأصفعوا ظهر إمامي ... بالبراطيش المهانه فعلى هذا وهذا ... لعنة الله كمانه تمت 15 بيتاً. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 335 وصل إلى الديار المصرية في رسالة من عند صاحب حمص، وأنشدني هذه الأبيات وحكى السبب الحامل عليها، وذلك في بعض شهور سنة سبع وأربعين وستمائة. ومدح الملك الأشرف أعيان شعراء عصره، وخلدوا مدائحه في دواوينهم فمنهم: شرف الديم محمد بن عنين وقد سبق ذكره. والبهاء أسعد السنجاري وقد سبق ذكره أيضاً. والشرف راجح الحلي وقد ذكرته في ترجمة الملك الظاهر. (277) والكمال ابن النبيه المذكرو وكانت وفاته سنة تسع عشرة وستمائة، بمدينة نصيبين الشرق، وعمره تقديراً مقدار ستين سنة (1) ، كذا أخبرني صهره بالقاهرة. (278) والمهذب (2) محمد بن أبي الحسين (3) بن يمن بن علي بن أحمد بن محمد بن عثمان ابن عبد الحميد الأنصاري، المعروف بابن الأردخل الموصلي الشاعر المشهور، ومولده سنة سبع وسبعين وخمسمائة بالموصل، وتوفي في شهر رمضان، سنة ثمان وعشرين وستمائة بميافارقين، رحمه الله تعالى. وغير هؤلاء خلق كثير، والله أعلم بالصواب.   (1) هنا تنتهي الترجمة في ر. (2) ص: صهره بالقاهرة أبو المهذب .... الخ. (3) ص ق: الحسن. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 336 750 - موسى بن عبد الملك الأصبهاني أبو عمران (1) موسى بن عبد الملك بن هشام (2) الأصبهاني صاحب ديوان الخراج؛ كان من جلة الرؤساء، وفضلاء الكتاب وأعيانهم، تنقل في الخدم في أيام جماعة من الخلفاء. وكان إليه ديوان (3) السواد وغيره في أيام المتوكل، وكان مترسلاً، وله ديوان رسائل. وقد سبق طرف من خبره مع أبي العيناء في ترجمته، وما دار بينهما من المحاورة في قضية نجاح بن سلمة (4) . وله شعر رقيق حسن فمن ذلك قوله: ولما وردنا القادسية حيث مجتمع الرفاق ... وشممت من أرض الحجا ... ز نسيم أنفاس العراق أيقنت لي ولمن أحب بجمع شمل واتفاق ... وضحكت من فرح اللقا ... ء كما بكيت من الفراق لم يبق لي إلا تجشم ... هذه السبع الطباق حتى يطول حديثنا ... بصفات ما كنا نلاقي [يروى: لما وردنا الثعلبية، وكلتاهما من منازل الحاج على طريق العراق، والثعلبية منسوبة إلى ثعلبة بن دودان بن أسد بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، قاله ابن الكلبي في " جمهرة النسب "] (5) .   (1) ر: أبو عمران والحسين. (2) زيادة من ر. (3) ر: إليه النهاية في ديوان. (4) انظر ج 4: 346. (5) زيادة من ر وهامش ن. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 337 ولهذه الأبيات حكاية مستطرفة أحببت ذكرها هاهنا وقد سردها الحافظ أبو عبد الله الحميدي، في كتاب جذوة المقتبس (1) ، وغيره من أرباب تواريخ المغاربة، وهي أن أبا علي الحسن بن الأشكري (2) المصري قال: كنت رجلاً من جلاس الأمير تميم بن أبي تميم، وممن يخفف عليه جداً - وهذا تميم هو أبو العز بن باديس المذكور في حرف التاء - قال: فأرسلني إلى بغداد، فاتبعت له جارية رائقة فائقةالغناء، فلما وصلت إليه دعا جلساءه، قال: وكنت فيهم، ثم مدت الستارة، وأمرها بالغناء فغنت: وبدا له من بعد ما اندمل الهوى ... برق تألق موهناً لمعانه يبدو كحاشية الرداء ودونه ... صعب الذرا متمنع أركانه فمضى لينظر كيف لاح فلم يطق ... نظراً إليه وصده (3) سجانه فالنار ما اشتملت عليه ضلوعه ... والماء ما سمحت به أجفانه وهذه الأبيات ذكرها صاحب الأغاني (4) للشريف أبي عبد الله محمد بن صالح الحسني، قال ابن الأشكري: فأحسنت الجارية ما شاءت، فطرب الأمير تميم ومن حضر، ثم غنت: سيسليك عما فات دولة مفضل ... أوائله محمودة وأواخره ثنى الله عطفيه وألف شخصه ... على البر مذ شدت عليه مآزره قال: فطرب الأمير تميم ومن حضر طرباً شديداً، قال: ثم غنت: أستودع الله في بغداد لي قمراً ... بالكرخ من فلك الأزرار مطلعه وهذا البيت لمحمد بن زريق الكاتب البغدادي، من جملة قصيدة طويلة.   (1) جذوة المقتبس: 66 - 68 وانظر المطرب: 62. (2) ر: الاسبكري، حيثما ورد. (3) ر: ورده، وكذلك في الأغاني. (4) الأغاني 16: 283. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 338 قال الراوي: فاشتد طرب الأمير تميم وأفراط جداً، ثم قال لها: تمني ما شئت، فقال، أتمنى عافية الأمير وسلامته، فقال: والله لا بد أن تتمني، فقالت: على الوفاء أيها الأمير بما أتمنى قال: نعم، فقالت: أتمنى أن أغني بهذه النوبة ببغدادفانتقع لون الأمير تميم وتغير وجهه وتكدر المجلس، وقام وقمنا. وقال ابن الأشكري: فلقيني بعض خدمه وقال لي: ارجع فالأمير يدعوك، فوجدته جالساً ينتظرني، فسلمت عليه وقمت بين يديه، فقال لي: ويحك، ورأيت ما امتحنا به فقلت: نعم أيها الأمير، فقال: لا بد من الوفاء لها، ولا أثق في هذا بغيرك، فتأهب لتحملها إلى بغداد، فإذا غنت هناك فاصرفها، فقلت: سمعاً وطاعة. قال: ثم قمت فتأهبت، وأمرها بالتأهب، وأصحبها جارية سوداء له تعادلها وتخدمها، وأمر بناقة ةمحمل، فأدخلت فيه، وجعلتها معي، وصرت إلى مكة مع القافلة وقضينا حجنا، ثم دخلت في قافلة العراق وسرنا، فلما وردنا القادسية أتتني السوداء، وقالت لي: تقول لك سيدتي: أين نحن فقلت لها: نزول القادسية، فانصرفت إليها وأخبرتها، فلم أنشب أن سمعت صوتهاقد ارتفع بالغناء، وغنت الأبيات المذكورة، قال: فتصايح الناس من أقطار القافلة: وأعيدي بالله أعيدي قال: فما سمع لها كلمة. قال: ثم نزلنا الياسرية، وبينها وبين بغداد نحو خمسة أميال في بساتين متصلة، ينزل بها فيبيتون ليلتهم، ثم يبكرون لدخول بغداد. فلما كان وقت الصباح وإذا بالسوداء قد أتتني مذعورة، فقلت: مالك قالت: إن سيدني ليست بحاضرة، فقلت: ويلك، وأين هي قالت: والله ما أدري، قال: فلم أحس لها أثراً بعد ذلك، ودخلت بغداد وقضيت حوائجي منها، وانصرفت إلى الأمير تميم فأخبرته خبرها، فعظم ذلك عليه واغتم له غماً شديداً، ثم ما زال بعد ذلك ذاكراً لها واجماً عليها. والقادسية: بفتح القاف وبعد الألف دال مهملة مكسورة وسين مكسورة أيضاً وبعدها ياء مثناة من تحتها مشدودة ثم هاء ساكنة، وهي قرية فوق الكوفة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 339 وعندما كانت الوقعة المشهورة في زمن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه. والياسرية: بفتح الياء المثناة من تحتها وبعد الألف سين مهملة مكسورة وراء مكسورة أيضاً وبعدها ياء مثناة من تحتها مشددة ثم هاء مشدودة ساكنة وقد ذكرنا أين هي، فلا حاجة إلى الإعادة. وحكى إسحاق بن إبراهيم أخو زيد بن إبراهيم أنه كان يتقلد بلاد السيروان نيابة عن موسى بن عبد الملك المذكور، فاجتاز به إبراهيم بن العباس الصولي، - الشاعر المقدم ذكره - وهو يريد خراسان، والمأمون يوم ذاك بها، وقد بايع بالعهد علي بن موسى الرضا، وهي قضية مشهورة، وقد امتدحه إبراهيم المذكور بقصيدة ذكر فيها آل علي، وأنهم أحق بالخلافة من غيرهم. قال إسحاق بن إبراهيم المذكور: فاستحسنت القصيدة وسألت إبراهيم بن العباس أن ينسخها ففعل، ووهبته ألف درهم وحملته على دابة، وتوجه إلى خراسان. ثم تراخت الأيام إلى زمن المتوكل، فتولى إبراهيم المذكور موضع موسى بن عبد الملك المذكور، وكان يحب أن يكشف أسباب موسى، فعزلني وأمر أن تعمل مؤامرة (1) ، فعملت وحضرت للمناظرة عنها، فجعلت أحتج بما لايدفع فلا يقبله، ونحتكم إلى الكتاب فلا يلتفت إلى حكمهم، ويسمعني في خلال ذلك غليظ الكلام، إلى أن أوجب الكتاب اليمين على باب من الأبواب فحلفت، فقال: ليست يمين السلطان عندك يميناً لأنك رافضي، فقلت له: تأذن لي في الدنو منك فأذن لي، فقلت له: ليس مع تعريضك بمهبجتي للقتل صبر، وهذا المتوكل إن كتبت إليه بما أسمعه منك لم آمنه على نفسي، وقد احتملت كل ما جرى سوى الرفض. والرافضي من زعم أن علي بن أبي طالب أفضل من العباس، وأن ولده أحق من ولد العباس بالخلافة. قال: ومن هو ذاك قلت: أنت، وخطك عندي به. فأخبرته بالشعر الذي عنله في المأمون وذكر فيه علي بن موسى، فوالله ما هو إلا أن قلت له ذلك حتى سقط في يده ثم قال لي:   (1) قال الخوارزمي في مفاتيح العلوم: 38 " المؤامرة عمل تجمع فيه الأوامر الخارجة في مدة أيام الطمع، ويوقع السلطان في آخره بإجازة ذلك، وقد تعمل المؤامرة في كل ديوان تجمع جميع ما يحتاج إليه من استثمار واستدعاء توقيع ". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 340 أحضر الدفتر الذي بخطي، فقلت له: هيهات، لا والله أو توثق لي بما أسكن إليه أنك لا تطالبني بشيء مما جرى على يدي، وتخرق هذه المؤامرة ولا تنظر لي في حساب، فحلف لي على ذلك بما سكنت إليه وخرق العمل المعمول، فأحضرت له الدفتر فوضعه في خفه، وانصرفت وقد زالت عني المطالبة. ولموسى المذكور أخبار كثيرة أضربت عن ذكرها طلباً للاختصار. وتوفي في شوال سنة ست وأربعين ومائتين، رحمه الله تعالى. والسيروان: بكسر السين المهملة وسكون الياء المثناة من تحتها وفتح الراء والواو وبعد الألف نون، وهي كورة ماسبذان من أعمال الجبل. وماسبذان: بفتح الميم وبعد الألف سين مهملة وباء موحدة وذال معجمة والجميع مفتوح وبعد الألف نون، وهي قرية كان يسكنها المهدي بن المنصور أبي جعفر، والد هارون الرشيد، وبها توفي، وفي ذلك يقول مروان بن أبي حفصة الشاعر - المقدم ذكره: وأكرم قبر بعد قبر محمد ... نبي الهدى قبر بماسبذان عجبت لأيد هالت الترب فوقه ... ضحى كيف لم ترجع بغير بنان والسيروان: اسم لأربعة مواضع هذا أحدها. وبلاد الجبل عبارة عن عراق العجم الفاصل بين عراق العرب وخراسان، وبلاده المشهورة: أصبهان وهمذان والري وزنجان. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 341 751 - (1) أبو منصور الجواليقي أبو منصور موهوب بن أبي طاهر أحمد بن محمد بن الخضر، الجواليقي البغدادي الأديب اللغوي؛ كان إماماً في فنون الأدب، وهو من مفاخر بغداد قرأ الأدب على الخطيب أبي زكريا التبريزي - الآتي ذكره في حرف الياء إن شاء الله تعالى - ولازمه وتتلمذ له حتى برع في فنه. وهو متدين ثقة غزير الفضل وافر العقل مليح الخط كثير الضبط، صنف التصانيف المفيدة وانتشرت عنه، مثل شرح أدب الكاتب والمعرب ولم يعمل في جنسه أكبر منه وتتمة درة الغواص تأليف الحريري صاحب المقامات سماه التكملة فيما يلحن فيه العامة إلى غير ذلك، وكان يختار في بعض مسائل النحو مذاهب غريبة. وكان في اللغة أمثل منه في النحو، وخطه مرغوب فيه، يتنافس الناس في تحصيله والمغالاة فيه (2) . وكان إماماً للإمام المقتفي بالله يصلي به الصلوات الخمس، وألف له كتاباً لطيفاً في علم العروض، وجرت له مع الطبيب هبة الله بن صاعد المعروف بابن التلميذ النصراني - الآتي ذكره إن شاء الله تعالى - واقعة عنده، وهي أنه لما حضر إليه للصلاة به ودخل عليه أول دخلة فما زاده على أن قال: السلام على أمير المؤمنين ورحمة الله تعالى، فقال ابن التلميذ، وكان حاضراً قائماً بين يدي المقتفي، وله إدلال الخدمة والصحبة، ما هكذا يسلم (3) على أمير المؤمنين   (1) ترجمته في ذيل ابن رجب 1: 204 وعبر الذهبي 4: 110 وانباه الرواة 3: 335 (وفي الحاشية ذكر لمصادر أخرى) . (2) علق صاحب المختار هنا بقوله: " قلت، أعني كاتبها موسى بن أحمد لطف الله به: رأيت بخزانة كتب والدي قدس الله روحه، ملكاً له، عشرة كتب بخط المذكور منها بالكامل للمبرد في جزء واحد ومنها الحماسة والخطب النباتية وغير ذلك ". (3) المختار: ما هكذا السلام. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 342 يا شيخ فلم يلتفت ابن الجواليقي إليه، وقال للمقتفي: يا أمير المؤمنين، سلامي هو ما جاءت به السنة النبوية، وروى له خبراً في صورة السلام ثم قال: يا أمير المؤمنين لو حلف حالف أن نصرانباً أو يهودياً لم يصل إلى قلبه نوع من أنواع العلم على الوجه المرضي لما لزمته كفارة الحنث لأن الله تالى ختم على قلوبهم، ولن يفك ختم الله إلا الإيمان، فقال له: صدقت وأحسنت فيما فعلت، وكأنما ألجم ابن التلميذ بحجر مع فضله وغزارة أدبه. وسمع ابن الجواليقي من شيوخ زمانه وأكثر، أخذ الناس عنه علماً جماً، وينسب إليه من الشعر شيء قليل، فمن ذلك ما رأيته منسوباً إليه في بعض المجاميع ولم أتحققه له، وهو: ورد الورى سلسال جودك فارتووا ... ووقفت خلف الورد وقفة حائم حيران أطلب غفلة من وارد ... والورد لا يزداد غير تزاحم ثم وجدت هذين البيتين لابن الخشاب من جملة أبيات. وحكى ولده أبو محمد إسماعيل، وكان أنجب أولاده، قال: كنت في حلقة والدي يوم الجمعة بعد الصلاة بجامع القصر، والناس يقرؤون عليه، فوقف عليه شاب وقال: يا سيدي، قد سمعت بيتين من الشعر ولم أفهم معناهما، وأريد أن تسمعهما مني وتعرفني مهناهما، فقال: قل، فأنشده: وصل الحبيب جنان الخلد أسكنها ... وهجره النار يصليني به النارا فالشمس بالقوس أمست وهي نازلة ... إن لم يزرني، وبالجوزاء إن زارا قال إسماعيل: فلما سمعهما والدي قال: يا بني، هذا شيء من معرفة علم النجوم وتسييرها لا من صنعة أهل الأدب، فانصرف الشاب من غير حصول فائدة، واستحيا والدي من أن يسأل عن شيء ليس عنده منه علم، وقام، وآلى على نفسه أن لا يجلس في حلقته حتى ينظر في علم النجوم ويعرف تسيير الشمس والقمر، فنظر في ذلك وحصل معرفته، ثم جلس. ومعنى البيت المسئول عنه أن الشمس إذا كانت في آخر القوس كان الليل في غاية الطول، لأنه يكون آخر فصل الخريف، وإذا كانت في آخر الجوزاء الجزء: 5 ¦ الصفحة: 343 كان الليل في غاية القصر، لأنه آخر فصل الربيع، فكأنه يقول: إذا لم يزرني فالليل عندي في غاية الطول، وإن زارني كان الليل عندي في غاية القصر، والله أعلم. ولبعض شعراء عصره فيه وفي المغربي مفسر المنامات (1) ، وذكرها في الخريدة لحيص بيض، هكذا وجدتها في مختصر الخريدة للحافظ: كل الذنوب ببلدتي مغفورة ... إلا اللذين تعاظما أن يغفرا كون الجواليقي فيها ملقيا ... أدباً، وكون المغربي معبرا فأسير لكنته يمل (2) فصاحة ... وغفول يقظته يعبر عن كرى ونوادره كثيرة. وكانت ولادته سنة ست وستين وأربعمائة. وتوفي يوم الأحد منتصف المحرم سنة تسع وثلاثين وخمسمائة ببغداد، ودفن بباب حرب، رحمه اللله تعالى، بعد أن صلى عليه قاضي القضاة الزينبي بجامع القصر. والجواليقي: نسبة إلى عمل الجوالق وبيعها، وهي نسبة شاذة لأن الجموع لا ينسب إليها، بل ينسب إلى آحادها إلا ما جاء شاذاً مسموعاً في كلمات محفوظة مثل قولهم: رجل أنصاري، في النسبة إلى الأنصار، والجواليق في جمع جوالق شاذ لأن الياء لم تكن موجودة في مفرده، والمسموع فيه جوالق بضم الجيم وجمعه جوالق بفتح الجيم، وهو باب مطرد، قالوا: رجل حلاحل، إذا كان وقوراً، وجمعه حلاحل، وشجر عدامل، إذا كان قديماً، وجمعه عدامل، ورجل عراعر، وهو السيد، وجمعه عراعر، ورجل علاكد، إذا كان شديداً، وجمعه علاكد، وله نظائر كثير. وهو اسم أعجمي معرب، والجيم والقاف لا يجتمعان في كلمة واحدة عربية ألبيتة (3) .   (1) ن ق: المفسر للمقامات؛ وهو خطأ يدل عليه البيت الثاني. (2) ن ص ق: يمد. (3) علق ابن المؤلف هنا بقوله: قلت يعني موسى بن أحمد، وكذلك الجيم والكاف نحو كيلجه، واله أعلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 344 752 - (1) رضي الدين النيسابوري أبو الحسن المؤيد بن محمد بن علي الطوسي الأصل النيسابوري الدار المجدث الملقب رضي الدين؛ كان أعلى المتأخرين إسناداً، لقي جماعة من الأعيان وأخذ عنهم، وسمع صحيح مسلم من الفقيه أبي عبد الله محمد بن الفضل الفراوي - المقدم ذكره - وهو آخر من بقي من أصحابه، وسمع صحيح البخاري من أبي بكر وجيه بن طاهر بن محمد الشحامي وأبي الفتوح عبد الوهاب بن شاه ابن أحمد الشاذياخي، وسمع المؤطأ رواية أبي مصعب إلا ما استثني منه من أبي محمد هبة الله بن سهل بن عمر (2) البسطامي المعروف بالسندي (3) ، وسمع " تفسير القرآن الكريم " تصنيف أبي إسحاق الثعلبي من أبي العباس محمد الطوسي المعروف بعباسة، وسمع أيضاً من جماعة من سيوخ نيسابور منهم الفقيه أبو محمد عبد الجبار ابن محمد الخواري وأم الخير فاطمة بنت أبي الحسن علي بن المظفر بن زعبل (4) ، وحدث بالكثير، ورحل إليه من القطار، ولنا منه إجازة كتبها من خراسان باستدعاء الوالد رحمه الله تعالى في جمادى الآخرة سنةعشروستمائة، وإنماذكرته لشهرته تفرده في آخر عصره؛ وكانت ولادته سنة أربع وعشر وخمسمائة، ظنا. وتوفي ليلة العشرين من شوال سبع عشرة وستمائة بنيسابور، ودفن من الغد، رحمه الله تعالى. ثم بعد إثبات هذه الترجمة على هذه الصورة بسنين رأيت بخط الشيخ المؤيد   (1) انظر عبر الذهبي 5: 71 والشذرات 5: 78 وزاد في ن ق في نسبه بعد علي: ابن الحسن ابن محمد بن أبي صالح، وسيرد هذا في آخر الترجمة. (2) ن ص: عمرو. (3) ن ق: بالسيدي، وعند دي سلان: بالسدي. (4) ق: رغبل؛ ن: زغيل؛ وانظر الضبط في تبصير المنتبه: 607. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 345 المذكور في إجازة، وقد رفع نسبه فقال: كتبه المؤيد بن محمد بن علي بن الحسن ابن محمد بن أبي صالح الطوسي. 753 - (1) الألوسي أبو سعيد المؤيد بن محمد بن علي بن محمد (2) الألوسي، الشاعر المشهور؛ كان من أعيان شعراء عصره كثير الغزل والهجاء، ومدح جماعة من رؤساء العراق، وله ديوان شعر، وكان منقطعاً إلى الوزير عون الدين يحيى بن هبيرة، وله فيه مادئح جيدة. ذكره محب الدبن ابن النجار في تاريخ بغداد فقال: هو عطاف بن محمد ابن علي بن أبي سعيد الشاعر المعروف بالمؤيد، ولد بألوس، قرية بقرب الحديثة، ونشأ بدجيل ودخل بغداد، وصار جاووشاً (3) في أيام المسترشد بالله، وهجاه ابن الفضل الشاعر بأبيات؛ ثم إن المؤيد نظم الشعر فأكثر منه حتى عرف به ومدح وهجا، وكان قد لجأ إلى خدمة السلطان مسعود بن محمد بن ملكشاه - وقد تقد ذكره (4) - قال: وتفسح في ذكر الإمام المقتفي وأصحابه بما لا ينبغي، فقبض عليه وسجن. وذكره العماد الكاتب في كتاب الخريدة فقال: ترفع قدره وأثرى حاله، ونفق شعره، وكان له قبول حسن، واقتنى أملاكاً وعقاراً وكثر رياشه، وحسن معاشه، ثم عثر به الدهر عثرة صعب منها انتعاشه، وبفي في حبس الأمام المقتفي أكثر من عشر سنين إلى أن خرج في أول خلافة الإمام المستنجد   (1) انظر اللباب (الألوسي) . (2) ق ص ر: أحمد. (3) ر: جاويشاً. (4) انظر ج 5: 200. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 346 سنة خمس وخمسين وخمسمائة، ولقيته حينئذ وقد غشي بصره من ظلمة المطمورة (1) التي كان فيها محبوساً. وكان زيه زي الأجناد، وسافر إلى الموصل، وله شعر حسن غزل وأسلوب مطرب بنظم معجب، وقد يقع له في المعاني المبتكرة ما يندر، فمن ذلك قوله في صفة القلم: ومثقف يغني ويفني دائماً ... في طوري الميعاد والإيعاد قلم يفل الجيش وهو عرموم ... والبيض ما سلت من الأغماد وهبت له الآجام حين نشأ بها ... كرم السيول وهيبة الآساد قلت أنا: ولقد رأيت هذه الأبيات منسوبة إلى غيره، والله أعلم بالصواب. ولم يقل في القلم أحسن من هذا المعنى. ولبعضهم في القلم أيضاً وهو في هذا المعنى: وأرقش مرهوب الشباة مهفهف ... يشتت شمل الخطب وهو جميع تدين له الآفاق شرقاً ومغربا ... وتعنو له أفلاكها وتطيع حمى الملك مفطوماً كما كان يحتمي ... به الأسد في الآجام وهو رضيع ولبعضم أيضاً في هذا المعنى: له قلم كقضاء الإله ... بالسعد طوراً وبالنحس ماضي فما فارق الأسد في حالتيه ... يبيساً وذا ورقات غضاض ففي كف ليث الوغى في الندى ... وفي وجه ليث الشرى في الغياض ومعنى البيت الثالث مأخوذ من قول بعضهم في وصف طنبور: وطنبور مليح الشكل يحكي ... بنغمته الفصيحة عندليبا روى لما ذوى نغماً فصاحاً ... حواها في تقلبه قضيبا كذا من عاشر العلماء طفلاً ... يكون إذا نشأ شيخاً أديبا   (1) هنا ينتهي الخرم الذي أشرنا إليه سابقاً في النسخة لي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 347 وهذا معنى مطروق أكثرت الشعراء استعماله، فمن ذلك قول بعضهم وهو أبو محمد عبد الله بن قاضي ميلة: جاءت بعود يناغيها يسعدها ... انظر بدائع ما يأتي به الشجر غنت عليه ضروب الطير ساجعة ... حيناً فلما ذوى غنى به البشر فلا يزال عليه الدهر مصطخب ... يهيجه الأعجمان: الطير والوتر ولبعضهم في المعنى أيضاً (1) : وعود له نوعان من لذة المنى ... فبورك جان يجتنيه وغارس تغنت عليه وهو رطب طيروها ... وغنت عليه قينة وهو يابس ولولا خوف الإطالة والخروج عما نحن بصدده لذكرت عدة مقاطيع في هذا المعنى. ولبهاء الدين زهير المقدم ذكره من قصيدة يمدح بها اقسيس بن الملك الكامل: وتهتز أعواد المنابر باسمه ... فهل ذكرت أيامها وهي أغصان (279) ثم قال العماد في بقية الترجمة: وكان ولده محمد ذكياً، وله شعر حسن، هاجر إلى الملك العادل نور الدين بالشام سنة أربعة وستين وكان يومئذ بصرخد، فمرض فأنفذه إلى دمشق، فمات في الطريق بقرية يقال لها رشيدة (2) ؛ انتهى كلا العماد. ومن شعر المؤيد المذكور من جملة قصيدة له، رحمه الله تعالى: فيا بردها من نفحة حاجرية ... على حر صدر ليس تخبو سمائمه ويا حسنه طيفاً وشى نور وجهه ... بطيفي فغطاني من الشعر فاحمه يجول وشاحاه على غصن بانة ... سقاها الحيا فاخضر واهتز ناعمه   (1) سقط البيتان من لي. (2) لي: رسدة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 348 فلما رمى في شملنا الصبح بالنوى ... ولم يبق منها غير معنى ألازمه وقفت بجزوى وهي منها معالم ... قواء وجسمي قد تعفت معالمه وقوف بناني (1) في يميني ولم أقف ... وقوف شحيح ضاع في الترب خاتمه ولم يبق لي رسماً بجسمي صدوها ... فيشجى بدمعي كلما انهل طاسمه ولا مقلة أبقت فتغرم نظرة ... بثانية والمتلف الشيء غارمه فلله وجدي في الركاب كأنه ... دموعي وقد حنت بليل روازمه وقد مد من كف الثريا هلالها ... فقبلته حتى تهاوت مناظمه وهي قصيدة طويلة أجاد فيها، وقد وازن بها قصيدة المتنبي في سيف الدولة ابن حمدان التي أولها: وفاؤكما كالربع أشجاه طاسمه ... بأن تسعدا والدمع أشفاه ساجمه وقد استعمل في قصيدته أنصاف أبيات من قصيدة المتنبي على وجه التضمين وأكثر شعره جيد. وله أيضاً من جملة أبيات قالها وهو محبوس: رحلوا فأفنيت الدموع تشوقاً (2) ... من بعدهم وعجبت إذ أنا باقي وعلمت أن العود يقطر ماؤه ... عند الوقود لفرقة الأوراق وأبيت مأسوراً وفرحة ذكركم ... عندي تعادل فرحة الإطلاق لا تنكر البلوى سواد مفارقي ... فالحرق يحكم صنعة الحراق وكانت (3) ولادته سنة أربع وتسعين وأربعمائة بألوس، ونشأ بها. وتوفي الخميس الرابع والعشرين مم شهر رمضان سنة سبع وخمسين وخمسمائة بالموصل، وكان خروجه من بغداد سنة ست وخمسين وخمسمائة، رحمه الله تعالى.   (1) ق ص: نبالي. (2) كتب في المختار فوقها: تحرقاً، وفي ر: تحرقاً. (3) زاد قبل هذه اللفظة في ر: وكان أكثر شعره جيداً. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 349 ولما ذكرت تاريخ ولاية المستنجد ذكرت نكتة غربية أحببت ذكرها، وهو ما أخبرني به بعض مشايخ العراق الفضلاء أن المستنجد رأى في منامه في حياة والده المقتفي كأن ملكاً نزل من السماء فكتب في كفه أربع خاءات، فلما استيقظ طلب معبر الرؤيا، فقص عليه مارآه، فقال له: تلي الخلافة في سنة خمس وخمسين وخمسمائة، فكان الأمر كذلك، وكان ذلك قبل وفاة والده بمدة. والألوسي: بضم الهمزة واللام وبعدها واو ساكنة ثم سين مهملة، هذه النسبة إلى ألوس، وهي ناحية عند حديثة عانة على الفرات، هكذا ذكره عز الدين بن الأثير - المقدم ذكره - فيما استدركه على الحافظ ابن السمعاني، لأنه قال: ألوس موضع بالشام في الساحل عند طرسوس (1) ، وهو بغدادي الدار والمنشأ - لأنه دخل بغداد في صباه - وقيدها ابن النجار الآلسي ومد الهمزة وضم اللام، والله أعلم. 754 - (2) المهلب بن أبي صفرة أبو سعيد المهلب بن أبي صفرة - كانت له بنت اسمها صفرة وبها كان يكنى - واسمه ظالم بن سراق بن صبح بن كندي بن عمرو بن عدي بن وائل بن الارث بن العتيك بن الأزد، ويقال الأسد بالسين الساكنة، ابن عمران بن عمرو مزيقياء ابن عامر ماء السماء بن امرىء القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد، الازدي العتكي البصري؛ قال الواقدي: كان أهل دبا أسلموا في عهد رسول الله صلى   (1) اللباب 1: 66. (2) أخباره في كتب التاريخ التي تتحدث عن عصر بني أمية أو عن حروب الخوارج، كالطبري والمسعودي وابن الأثير وكامل المبرد ... الخ وانظر المعارف: 399 والإصابة 6: 216 وسرح العيون: 103 والمحبر: 216 والجرح والتعديل 1/4: 369 وعبر الذهبي 1: 95 والشذرات 1: 90. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 350 الله عليه وسلم، ثم ارتدوا بعده ومنعوا الصدقة، فوجه إليهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه عكرمة بن أبي جهل المخزومي رضي الله عنه، فقاتلهم فهزمهم وأثخن فيهم القتل، وتحصن فلهم في حصن لهم وحصرهم المسلمون، ثم نزلوا على حكم حذيفة بن اليمان، فقتل مائة من رؤسائهم (1) ، وسبى ذراريهم، وبعثهم إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وفيهم أبو صفرة غلام لم يبلغ، فأعتقهم أبو بكر رضي الله عنه وقال: اذهبوا حيث شئتم، فتفرقوا، فكان أبو صفرة ممن نزل البصرة. وقال ابن قتيبة في كتاب المعارف: هذا الحديث باطل، أخطأ فيه الواقدي لأن أبا صفرة لم يكن في هؤلاء ولا رآه أبو بكر قط، وإنما وفد على عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو شيخ أبيض الرأس واللحية، فأمره أن يخضب فخضب، وكيف يكون غلاماً في زمن أبي بكر، وقد ولد المهلب وهو من أصاغر ولده قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بسنتين (2) . وقد كان في ولده من قبل وفاةالنبي صلى الله عليه وسلم بثلاثين سنة أو أكثر. وكان المهلب المذكور من أشجع الناس، وحمى البصرة من الخوارج، وله معهم وقائع مشهورة بالأهواز استقضى أبو العباس المبرد في كتابه الكامل أكثرها، فهي تسمى بصرة المهلب لذلك، ولولا طولها وانتشار وقائعها لذكرت طرفاً منها. وكان سيداً جليلاً نبيلاً، روي أنه قدم على عبد الله بن الزبير أيام خلافته بالحجاز والعراق وتلك النواحي، وهو يومئذ بمكة، فخلا به عبد الله يشاوره، فدخل عليه عبد الله بن صفوان بن امية بن خلف بن وهب القرشي الجمحي فقال: من هذا الذي قد شغلك يا أمير المؤمنين يومك هذا قال: أو ماتعرفه قال: لا، قال: هذا سيد أهل العراق، قال: فهو المهلب بن أبي صفرة، قال: نعم، فقال المهلب: من هذا يا أمير المؤمنين قال: هذا سيد قريش، فقال: فهو عبد الله بن صفوان، قال: نعم.   (1) ر: فقتل أشرافهم؛ بر من: مائة من أشرافهم. (2) في بعض النسخ: بسنين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 351 قال ابن قتيبة في المعارف (1) : ولم يكن يعاب بشيء إلا بالكذب وفيه قيل: راح يكذب، ثم قال ابن قتيبة بعد هذا: وأنا أقول: كان المهلب أتقى الناس لله عزوجل، وأشرف وأنبل من أن يكذب، ولكنه كان محرباً، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: الحرب خدعة، وكان يعارض الخوارج بالكلمة فيوري بها من غيرها، يرهب بها الخوارج، وكانوا يسمونه الكذاب ويقولون: راح يكذب، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد حرباً ورى بغيرها. وقال أبو العباس المبرد في الكامل (2) في شرح أبيات رمي فيها المهلب بالكذب، ما صورته: وقوله الكذاب لأن المهلب كان فقيهاً، وكان يعلم ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله " كل كذب يكتب كذباً إلا ثلاثة: الكذب في الصلح بين الرجلين، وكذب الرجل لامرأته يعدها، وكذب الرجل في الحرب يتوعد ويتهدد ". وكان المهلب ربما صنع الحديث ليشد به أمر المسلمين ويضعف به من أمر الخوارج، وكان حي من الأزد بقال لهم الندب إذا رأوا المهلب رائحاً قالوا: قد راح المهلب يكذب، وفيه يقول رجل منهم: أنت الفتى كل الفتى ... لو كنت تصدق ما تقول وذكر المبرد في كتاب الكامل (3) في أواخره في فصل قتال الخوارج وما جرى بين المهلب والأزارقة: وكانت ركب الناس قديماً من الخشب، فكان الرجل يضرب بركانه فينقطع، فإذا أراد الضرب والطعن لم يكن له معين أو معتمد، فأمر المهلب فضربت الركب من الحديد، فهو أول من أمر بطبعها وأخبار المهلب كثيرة. وتقلبت به الأحوال، وآخر ما ولي خراسان من جهة الحجاج بن يوسف الثقفي - المقدم ذكره - فإنه كان أمير العراقين، وضم إليه عبد الملك بن مروان خراسان وسجستان، فاستعمل على خراسان المهلب المذكور، وعلى سجستان   (1) المعارف: 399. (2) الكامل 3: 318. (3) الكامل 3: 378. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 352 عبيد الله بن أبي بكرة، فورد المهلب خراسان والياً عليها سنة تسع وسبعين للهجرة. وكان قد أصيب بعينه على سمرقند لما فتحها سعيد بن عثمان بن عفان رضي الله عنه، في خلافة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه (1) ، فإنه كان معه في تلك الغزوة، وفي تلك الغزوة تلك قلعت عين سعيد أيضاً، وفيها قلعت أيضاً عين طلحة بن عبد الله بن خلف الخزاعي المعروف بطلحة الطلحات المشهور بالكرم والجود، وفي تلك يقول المهلب: لئن ذهبت عيني لقد بقين نفسي ... وفيها بحمد الله عن تلك ما ينسي إذا ماجاء أمر الله أعيا خيولنا (2) ... ولا بد أن تعمى العيون لدى الرمس وقيل إن المهلب قلعت عينه على الطالقان. ولم يزل المهلب والياً بخراسان حتى أدركته الوفاة هناك، ولما حضره أجله عهد إلى ولده يزيد - الآتي ذكره إن شاء الله تعالى - وأوصاه بقضايا وأسباب، ومن جملة ما قال له: يا بني، استعقل الحاجب، واستظرف الكاتب، فإن حاجب الرجل وجهه وكاتبه لسانه؛ ثم توفي في ذي الحجة سنة ثلاث وثمانين للهجرة، بقرية يقال لها زاغول من أعمال مرو الروذ من ولاية خراسان، رحمه الله تعالى. وله كلمات لطيفة وإشارات مليحة تدل على مكارمه ورغبته في حسن السمعة والثناء الجميل، فمن ذلك قوله: الحياة خير من الموت، والثناء الحسن خير من الحياة، ولو أعطيت مالم يعطه أحد لأحببت أن تكون لي أذن أسمع بها ما يقال في غداً إذا مت؛ وقد قيل إن هذا الكلام لولده يزيد، والله أعلم. وكان المهلب يقول لبنيه: يا بني، أحسن ثيابكم ما كان على غيركم، وقد أشار إلى هذا أبو تمام الطائي فيما كتبه إلى من يطلب كسوة (3) : فأنت العليم الطب أي وصية ... بها كان أوصى في الثياب المهلب   (1) رضي الله عنه: سقطت من جميع النسخ، ما عدا المختار. (2) ق: أعيا حيولنا؛ ر: تعيى خيولنا. (3) ديوان أبي تمام 1: 286. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 353 وقد ذكر الطبري في تاريخه أنه توفي سنة اثنتين وثمانين، والله أعلم، والكلام على وفاته مذكور في ترجمة ابنه يزيد، فلينظر هناك فإنه مستوفى. ولما حضرته الوفاة جمع من حضره من بنيه ودعا بسهام فحزمت، ثم قال: أترونكم كاسريها مجمعة قالوا لا، قال: أفترونكم كاسريها مفرقة قالوا: نعم، قال: هكذا الجماعة، ثم مات (1) . ولما مات رثاه الشعراء وأكثروا، وفي ذلك يقول نهار بن توسعة الشاعر المشهور: ألا ذهب الغزو المقرب للغنى ... ومات الندى والجود بعد المهلب أقاما بمرو الروذ لا يبرحانها ... وقد قعدا من كل شرق ومغرب وخلف المهلب عدة أولاد نجباء كرماء أجوادً أمجاداً، وقال ابن قتيبة في كتاب المعارف ويقال: إنه وقع إلى الأرض من صلب المهلب ثلثمائة ولد - وقد تقدم في حرف الراء ذكر حفيديه روح ويزيد ابني حاتم بن قبيصة بن المهلب، وسيأتي ذكر يزيد في حرف الياء إن شاء الله تعالى. (280) ومن سراة أولاده أبو فراس المغيرة، وكان أبوه يقدمه في قتال الخوارج، وله معهم وقائع مأثورة تضمنتها التواريخ أبلى فيها بلاء أبان عن نجدته وشهامته وصرامته، وتوجه صحبة أبيه إلى خراسان واستنابه عنه بمرو الشاهجان، وتوفي بها في حياة أبيه سنة اثنتين وثمانين في شهر رجب، ورثاه أبو أمامة زياد الأعجم، وهو زياد بن سليمان، ويقال ابن جابر، وهو ابن عبد القيس الشاعر المشهور، بقصيدته الحائية السائرة التي أولها: قل للقوافل والغزاة إذا غزو ... للباكرين وللمجد الرائح: إن السماحة والمروءة ضمنا ... قبراً بمرو على الطريق الواضح فإذا مررت بقبره فاعقر به ... كوم الهجان وكل طرف سابح وانضج جوانب قبره بدمائها ... فلقد يكون أخا دم وذبائح واظهر ببزته وعقد لوائه ... واهتف بدعوة مصلتين شرامح (2)   (1) بعد هذا في ر لي: بقرية يقال لها زغوال، ثم أورد ما تقدم من كلمات له .... (2) الشرمحي: الطويل القوي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 354 آب الجنود معاقباً أو قافلاً ... وأقام رهن حفيرة وضرائح وأرى المكارم يوم زيل بنعشه ... زالت بفضل فواضل ومدائح رجفت لمصرعه البلاد وأصبحت ... منا القلوب لذاك غير صحائح الآن لما كنت أكرم من مشى ... وافتر نابك عن شباة القارح وتكاملت فيك المروءة كلها ... وأعنت ذلك بالفعال الصالح وكفى بنا حزناً يبيت حله ... أخرى المنون فليس عنه بنازح فعفت منابره وحط سروجه ... عن كل طامحة وطرف طامح وإذا يناح على امرىء فلتعلمن ... أن المغيرة فوق نوح النائح تبكي المغيرة خلينا ورماحنا ... والباكيات برنة وتصايح مات المغيرة بعد طول تعرض ... للقتل بين أسنة وصفائح وإذا الأمور على الرجال تشابهت ... وتنوزعت (2) بمغالق ومفاتح قتل (2) السحيل بمبرم ذي مرة ... دون الرجال بفضل عقل راجح وأرى الصعالك للمغيرة أصبحت ... تبكي على طلق اليدين مسامح كان الربيع لهم إذا انتجعوا الندى ... وخبت لوامع كل برق لائح كان المهلب بالمغيرة كالذي ... ألقى الدلاء إلى قليب المائح فأصاب جمة ما استقى فسقى له ... في حوضه بنوازع وموانح أيام لو يحتل وسط مفازة ... فاضت معاطشها بشرب سائح إن المهلب لن يزال لها فتى ... يمري قوادم كل حرب لاقح بالمقربات لواحقاً آطالها ... تجتاب سهل سباسب وصحاصح متلبباً تهفو الكتائب حوله ... ملح المتون من النضيح الراشح ملك أغر متوج يسمو له ... طرف الصديق بغض طرف الكاشح رفاع ألوية الحروب إلى العدا ... بسعود طير سوانح وبوارح   (2) ق ص ن: فقد. (2) ق ص ن: فقد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 355 وهذه القصيدة من غرر القصائد ونخبها، ولولا خوف الإطالة لأثبتها كلها وهي طويلة تزيد على خمسين بيتاً، وقد ذكرها أبو القالي - المقدم ذكره في حرف الهمزة (1) - في كتابه الذي جعله ذيلاً على أماليه (2) ، وتكلم علي بعض أبياتها، وقال: إنها قد تنسب إلى الصلتان العبدي الشاعر المشهور، ولكن الأصح أنها لزياد الأعجم. والبيت الثاني منها تستشهد به النحاة في كتبهم على جواز تذكير المؤنث إذا لم يكن له فرج حقيقي، وهو أشهر بيت في هذه القصيدة لكثرة استعمالهم له، وقد أخذ بعض الشعراء معنى البيت الثالث والرابع فقال (3) : احملاني إن لم يكن لكما عق ... ر إلى جنب قبره فاعقراني وانضحا من دمي عليه فقد كا ... ن دمي من نداه لو تعلمان (281) وصاحب هذين البيتين هو الشريف أبو محمد الحسن بن محمد بن علي بن أبي الضوء العلوي الحسيني نقيب مشهد باب التبن ببغداد، وهما من جملة قصيدة يرثي بها النقيب الطاهر والد عبيد الله، ذكر ذلك العماد الكاتب في كتاب الخريدة وقال أيضاً: إن الشريف أبا محمد المذكور توفي سنة سبع وثلاثين وخمسمائة ببغداد، رحمه الله تعالى. ثم بعد وقوفي على ما ذكره العماد في الخريدة وجدت هذين البيتين في كتاب معجم الشعراء تأليف المرزباني لأحمد بن محمد الخثعمي، وكنيته أبو عبد الله، ويقال أبو العباس، ويقال إنه الحسن، وكان يتشيع ويهاجي البحتري. وكان المغيرة بن المهلب المذكور قد مزق قباء ديباجاً كان على زياد الأعجم فقال زياد في ذلك: لعمرك ما الديباج مزقت وحده ... ولكنما مزقت عرض المهلب   (1) انظر ج 1: 226. (2) ذيل الأمالي: 8 - 11. (3) انظر ترجمة خالد الكاتب ج 2: 236 حيث ورد البيتان؛ والترجمة المذكورة مما انفردت به النسختان ص ر، وبين ما قاله المؤلف هنا وما ثبت هنالك ما قد يشير إلى أن المؤلف لا علاقة له بترجمة خالد الكاتب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 356 فبلغ ذلك المهلب فأرضاه واستعطفه. وذكر أبو الحسين علي بن أحمد السلامي في كتاب تاريخ ولادة خراسان أن رجلاً سمع من زياد الأعجم هذه القصيدة قبل أن يسمعها المهلب فجاءإلى المهلب فأنشده إياها، فأعطاه مائة ألف درهم، ثم أتاه زياد الأعجم فأنشده إياها، فقال له: قد أنشدنيها رجل قبلك، فقال: إنما سمعها مني، فأعطاه مائة ألف درهم. وللمهلب عقب كثير بخراسان يقال لهم المهالبة وفيهم يقول بعض شعراء الحماسة وهو الأخنس الطائي يمدح المهلب (1) : نزلت على آل المهلب شاتياً ... بعيداً عن الأوطان في الزمن المحل فما زال بي معروفهم وافتقادهم ... وبرهم حتى حسبتهم أهلي والوزير أبو محمد المهلب - المقدم ذكره في حرف الحاء (2) - من نسله أيضاً، رحمهم الله أجمعين. وفي أوائل هذه الترجمة أسماء تحتاج إلى الضبط والكلام عليها. فأما العتيك والأزد فقد تقدم الكلام عليهما. وأما مزيقياء فهو بضم الميم وفتح الزاي وسكون الياء المثناة من تحتها وكسر القاف وفتح الياء الثانية وبعدها همزة ممدودة، وهو لقب عمرو المذكور وكان من ملوك اليمن، وإنما لقب بذلك لأنه كان يلبس كل يوم حلتين منسوجتين بالذهب، فإذا أمسى مرفهما وخلعهما، وكان يكره أن يعود فيهما، ويأنف أن يلبسهما أحد غيره، وهو الذي انتقل من اليمن إلى الشام لقصة يطول شرحها، والأنصار من ولده، وهم الأوس والخزرج، وحكى أبو عمر ابن عبد البر صاحب كتاب الاستيعاب في كتابه الذي سماه القصد الأمم في أنساب العرب والعجم (3) وهو كتاب لطيف الحجم أن الأكراد من نسل عمرو مزيقياء   (1) شرح الحماسة للمرزوقي، رقم: 276. (2) انظر ج 2: 124. (3) القصد والأمم: 31. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 357 المذكور، وأنهم وقعوا إلى أرض العجم فتناسلوا بها وكثر ولدهم، فسموا الكرد، وقال بعض الشعراء في ذلك وهو يعضد ما قاله أبو عمر ابن عبد البر: لعمرك ما الأكراد أبناء فارس ... ولكنه كرد بن عمرو بن عامر وأما أبوه عامر فإنما لقب بماء السما لجوده وكثرة نفعه، فشبه بالغيث. وأما المنذر بن ماء السماء اللخمي أحد ملوك الحيرة، فإن أباه امرؤ القيس ابن عمرو بن عدي، وماء السماء أمه، وهس بنت عوف بن جشم بن النمر بن قاسط، وإنما لها ماء السماء لحسنها وجمالها. وأما دبا بفتح الدال المهملة والباء الموحدة وبعدها ألف مقصورة، وهو اسم موضع بين عمان والبحرين أضيفت جماعة من الأزد إليه لما نزلوه، وكان الأزد عند تفرقهم - حسبما ذكرناه في أول هذه الترجمة - أضيفت كل طائفة إلى شيء يميزها عن غيرها، فقيل أزد دبا، وأزد شنوءة، وأزد عمان، وأزد السراة، ومرجع الكل إلى الأزد المذكور، فلا يظن ظان أن الأزد مختلف باختلاف المضافين إليه، وقد قال الشاعر - وهو النجاشي، واسمه قيس بن عمرو بن مالك ابن حزن بن الحارث بن كعب بن الحارث الحارثي (1) -: وكنت كذي رجلين رجل صحيحة ... ورجل بها ريب من الحدثان فأما التي صحت فأزد شنوءة ... وأما التي شلت فأزد عمان ولما هزم المهلب قطري بن الفجاءة - المقدم ذكره (2) - بعث إلى مالك بن بشير فقال: إني موفدك إلى الحجاج فسر فإنما هو رجل مثلك، وبعث إليه بجائزة فردها وقال: لإنما الجائزة بعد الاستحقاق، وتوجه فلما دخل على الحجاج قال: ماسمك قال: مالك من بشير، قال: ملك وبشارة، ثم قال: كيف تركت المهلب قال: أدرك ما أمل وأمن ما خاف، قال: فكيف هو بجنده   (1) ترجمة النجاشي في الاصابة 6: 263 والخزانة 4: 368 والسمط: 890 والشعر والشعراء: 246. (2) انظر ج 4: 93. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 358 قال: والد رءوف، قال: كيف رصاهم عنه قال: وسعهم بالفضل وأقنعهم بالعدل، قال: كيف تصنعون إذا لقيتم عدوكم قال: نلقاهم بجدنا فنقطع فيهم ويلقوننا بجدهم فيطمعون فينا، قال: فما حال قطري بن الفجاءة قال: كادنا بمثل ماكدناه به، قال: فما منعكم من اتباعه قال: رأينا المقام من ورائه خيراً من اتباعه قال: فأخبرني عن ولد المهلب قال: رعاة البيات حتى يؤمنوه وحماة السرح حتى يردوه، قال: أيهم أفضل قال: ذلك إلى أبيهم، قال: لتقولن، قال: هم كحلقة مفرغة لا يعلم طرفاها، قال: أقسمت عليك هل رويت في هذا الكلام قال: ما أطلع الله أحداً على غيبه. فقال الحجاج لجلسائه: هذا والله الكلام المصنوع، قلت: كان حق هذا الفضل أن يكون متقدماً، لكنه كذا وقع، والله تعالى أعلم بصوابه وصحته. 755 - (1) مهيار الديلمي أبو الحسن مهيار بن مروزيه الكاتب الفارسي الديلمي الشاعر المشهور؛ كان مجوسياً فأسلم، ويقال إن سلامه كان على يد الشريف الرضي أبي الحسن محمد الموسوي - المقدم ذكره - وهو شيخه، وعليه تخرج في نظم الشعر، وقد وازن كثيراً من قصائده. وذكر شيخنا ابن الأثير الدزري في تاريخه (2) أنه أسلم في سنة أربع وتسعين وثلثمائة، فقال له أبو القاسم ابن برهان: يا مهيار قد انتقلت بأسوبك في النار من زاوية إلى زاوية، فقال: وكيف ذاك قال: كنت مجوسياً فصرت تسب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في شعرك.   (1) ترجمته في تاريخ بغداد 13: 276 والمنتظم 7: 94 ودمية القصر: 76 والبداية والنهاية 12: 41 وعبر الذهبي 3: 167 والشذرات 3: 242. (2) تاريخ ابن الأثير 9: 456. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 359 وكان شاعراً جزل القول، مقدماً على أهل وقته، وله ديوان شعر كبير يدخل في أربع مجلدات، وهو رقيق الحاشية طويل النفس في قصائده. ذكره الحافظ أبو بكر الخطيب في تاريخ بغداد وأثنى عليه وقال: كنت أراه يحضر جامع المنصور في أيام الجمعات، يعني ببغداد، ويقرأ عليه ديوان شعره ولم يقدر لي أسمع منه شيئاً. وذكره أبو الحسن الباخرزي - المقدم ذكره - في كتاب دمية القصر فقال في حقه: هو شاعر، له مناسك الفضل مشاعر، وكاتب، تجلى تحت كل كلمة من كلماته كاعب، وما في قصيدة من قصائده بيت، يتحكم عليه لو وليت، وهي مصبوبة في قوالب القلوب، وبمثلها يعتذر الزمان المذنب عن الذنوب؛ ثم عقب هذا الكلام بذكر مقاطيع من شعره وأبيات من جملة قصائده. وذكره أبو الحسن علي بن بسام في كتاب الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة وبالغ في الثناء عليه وذكر شيئاً من شعره. ومن نظمه المشهور قصيدته التي أولها (1) : سقى دارها بالرقمتين وحياها ... ملث يحيل الترب في الدار أموالها ومنها: وكيف بوصل الحبل من أم مالك ... وبين بلادينا زرود وحبلاها يراها بعين الشوق قلبي على النوى ... فيحظى، ولكن من لعيني برؤياها فلله ما أصفى وأكدر حبها ... وأبعدها مني الغداة وأدناها إذا استوحشت عيني أنست بأن أرى ... نظائر تصبيني إليها وأشباها وأعتنق الغصن الرطيب لقدها ... وأرشف ثغر الكأس أحسبه فاها ويوم الكئيب استرشقت لي ظبية ... مولهة قد ضل بالقاع خشفاها يدله خوف الثكل حبة قلبها ... فتزداد حسناً مقلتاها وليتاها فما ارتاب طرفي فيك يا أم مالك ... على صحة التشبيه أنك إياها   (1) ديوانه 4: 183. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 360 فإن لم تكوني خدها وجبينها ... فإنك أنت الجيد أو أنت عيناها ألومه في حب دار عزيزة (1) ... يشق على رجم المطامع مرماها دعوه ونجداً إنها شأن قلبه ... فلو أن نجداً تلعة ما تعداها وهبكم منعتم أن يراها بعينه ... فهل تمنعون القلب أن يتمناها وليل بذات الأثل قصر طوله ... سرى طيفها، آها لذكرته آها تخطت إلي مشياً على الهوى ... وأخطاره، لا يصغر الله ممشاها وقد كاد أسداف الدجى أن تضلها ... فما دلها إلا وميض ثناياها وله من أبيات (2) : إن التي علقت قلبك حبها ... راحت بقلب منك غير علوق عقدت ضمان وفائها من خصرها ... فوهى، كلا العقدين غير وثيق ومن سائر شعره أيضاً قوله رحمه الله تعالى (3) : بكر العارض تحدوده النعامي ... فساقك الري يا دار أماما [وتمشت فيك أنفاس الصبا ... يتناجين بأنفاس الخزامى] (4) ومنها: وبجرعاء الحمى قلبي فعج ... بالحمى واقرأ على قلبي السلاما وترجل فتحدث عجبا ... أن قلباً سار عن جسم أقاما قل لجيران الغضى آها على ... طيب عيش بالغضى لو كان داما نصل العام ولا ننساكم ... وقصارى الوجد أن نسلخ عاما حملوا ريح الصبا نشركم ... قبل أن تحمل شيحاً وثماما   (1) الديوان: غريبة. (2) ديوانه 2: 297. (3) ديوانه 3: 327. (4) زيادة من المختار. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 361 وابعثوا أشباحكم في الكرى ... إن أذنتم لجفوني أن تناما وهي قصيدة طويلة نقتصر من أطايبها على هذا القدر طلباً للاختصار. ومن رقيق شعره قصيدته التي منها (1) : أرقت فهل لهاجعة بسلع ... على الأرقين أفئدة ترق نشتك بالمودة ياابن ودي ... فإنك بي من ابن أبي حق أسل بالجزع دمعك إن عيني ... إذا استبررتها (2) دمعا تعق وإن شق البكاء على المعافى ... فلم أسألك إلا ما يشق وله في القناعة، وقد أحسن (3) فيها كل الاحسان (4) : يلحى علىالبخل الشحيح بماله ... أفلا تكون بماء وجهك أنجلا أكرم يديك عن السؤال فإنما ... قدر الحياة أقل من أن تسألا ولقد أضم إلي فضل قناعتي ... وأبيت مشتملاُ بها متزملا وأري العدو على الخاصاصة شارة ... تصف الغنى فيخالني متمولا وإذا امرؤ أفنى االليالي حسرة ... وأمانيا أفنيتهن توكلا ومن بدبع مدائحه (5) قوله من جملة قصيدة: وإذا رأوك تفرقت أرواحهم ... فكأنما عرفتك قبل الأعين وإذا أردت بأن تفل كتيبة ... لاقيتها فتسم فيها واكتن وله من جملة قصيدة أبيات تتضمن العتب (6) :   (1) ديوانه 2: 357. (2) ق: استبريتها؛ لي: استنزرتها؛ ص: استبرزتها، ن: استبرزتها. (3) ديوانه 4: 32. (4) زيادة من ق، وانظر الديوان 3: 138. (5) ن ر: مديحه. (6) ديوانه 3: 346. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 362 إذا صور الإشفاق لي كيف أنتم ... وكيف إذا ما عن ذكري صرتم تنفست عن عتب، فؤادي مفصحٌ ... به، ولساني للحافظ يجمجم وفي فيّ ماءٌ من بقايا ودادكم ... كثيراً به من ماء وجهي أرقتم أضم فمي ضنا عليه وبينه ... وبين انسكاب ريثما أتكلم وديوانه مشهور فلا حاجة إلى الإطالة في إيراد محاسنه. ويعجبني كثيراً قوله من جملة قصيدة طويلة بيت واحد وهو (1) : بنا أنتم من ظاعنين وخلفوا ... قلوباً أبت أن تعرف الصبر عنهم وتوفي ليلة الأحد لخمس خلون من جمادى الآخرة سنة ثمان وعشرين وأربعمائة. وفي تلك السنة توفي الرئيس أبو علي ابن سينا الحكيم المشهور - حسبما تقدم ذكره في ترجمته (2) - رحمهما الله تعالى؛ رأيت في بعض التواريخ أنه توفي سنة ست عشرين، والأول أصح، والله أعلم. وذكر الباخرزي المذكور في كتابه " الدمية " أيضاً ولده الحسين بن المهيار، ونسب إليه القصيدة الحائية التي من جملتها: يا نسيم الريح من كاظمة ... شطر ثانيشد ما هجت البكا والبرحا وهي قصيدة طويلة، وهي من مشاهير قصائد مهيار، ولا أعلم من أين وقع له هذا الغلط. ومهيار: بكسر الميم وسكون الهاء وفتح الياء المثناة من تحتها وبعد الألف راء. ومرزويه: بفتح الميم وسكون الراء وفتح الزاي والواو وبعدها ياء مثناة من تحتها ثم هاء ساكنة، وهما اسمان فارسيان لا أعرف معناهما.   (1) ديوانه 3: 344 وهو من القصيدة السابقة. (2) انظر ج 2: 157. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 363 فراغ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 364 حرف النون الجزء: 5 ¦ الصفحة: 365 فراغ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 366 756 - (1) نافع مولى ابن عمر أبو عبد الله نافع مولى عبد الله بن عمر، رضي الله عنهم؛ كان ديلمياً، وأصابه مولاه عبد الله بن عمر في غزاته، وهو من كبار الصالحين (2) التابعين، سمع مولاه وأبا سعيد الخدري، وروى عنه الزهري وأيوب السختياني ومالك بن أنس، رضي الله عنهم. وهو من المشهورين بالحديث، ومن (3) الثقات الذين يؤخذ عنهم ويجمع حديثهم ويعمل به، ومعظم حديث ابن عمر عليه دار. وقال مالك: كنت إذا سمعت حديث نافع عن ابن عمر لا أبالي ألا أسمعه من أحد؛ وأهل الحديث يقولون: رواية الشافعي عن مالك عن نافع عن ابن عمر سلسلة الذهب لجلالة كل واحد من هؤلاء الرواة. وحكى الشيخ أبو إسحاق الشيرازي، رحمه الله تعالى، في كتاب " المهذب " في باب الوليمة والنثر عن نافع قال: كنت أسير مع عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما، فسمع زمارة راع، فوضع إصبعيه في أذنيه ثم عدل عن الطريق، فلم يزل يقول: يا نافع أتسمع حتى قلت: لا، فأخرج إصبعيه عن أذنيه ثم رجع إلى الطريق، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع. وفي هذا الأثر إشكال تسأل (4) عنه الفقهاء، وهو أن عمر كيف سد أذنيه   (1) ترجمته في تذكرة الحفاظ: 99 وعبر الذهبي 1: 147 ومرآة الجنان 1: والمعارف: 460 وتهذيب التهذيب 10: 412 والشذرات 1: 154، وأكثر المصادر لم تزد في نسبه عن ذكر اسمه ولكنه ورد في النسخ ر ن بر من: نافع بن عبد الله. (2) الصالحين: سقطت من ر بر من. (3) ن: وهو من. (4) ق ن: يسأل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 367 عن استماع صوت الزمارة، ولم يأمر مولاه نافعاً بفعل ذلك بل مكنه منه، وكان يسأله كل وقت: هل انقطع الصوت أم لا وقد أجابوا عن الإشكال بأن نافعاً حينئذ كان صبياً، فلم يكن مكلفاً حتى يمنعه من الاستماع، ويرد على هذا الجواب سؤال آخر، وهو أن الصحيح أن أخبار الصبي غير مقبول، فكيف ركن ابن عمر إلى إخباره في انقطاع الصوت وهذا الأثر يعضد حجة من قال: إن رواية الصبي مقبولة، وفي ذلك خلاف مشهور، وليس هذا موضع الكلام عليه. وأخبار نافع كثيرة؛ وتوفي سنة سبع عشرة، وقيل سنة عشرين ومائة، رضي الله عنه. 757 - (1) نافع المقرئ أبو رويم نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم، مولى جعونة بن شعوب الشجعي، المقرئ المدني أحد القراء السبعة؛ كان إمام أهل المدينة والذي صاروا إلى قراءته ورجعوا إلى اختياره، وهو من الطبقة الثالثة بعد الصحابة، رضوان الله عليهم، وكان محتسباً فيه دعابة، وكان أسود شديد السواد، قال ابن أبي أويس، قال لي مالك رضي الله عنه: قرأت على نافع، وقال الأصمعي، قال لي نافع: أصلي من أصبهان، هكذا قاله الحافظ أبو نعيم في " تاريخ أصبهان " وكان قرأ على أبي ميمونة مولى أم سلمة زوج رسول الله (2) صلى الله عليه وسلم، وكان له راويان: ورش، وقنبل، وقد سبق ذكرهما في حرف العين (3) . وتوفي   (1) ترجمته في المعارف: 582 وميزان الاعتدال 4: 242 وعبر الذهبي 1: 257 وغاية النهاية 2: 330 وتهذيب التهذيب 10: 407 ومرآة الجنان 1: 368 والشذرات 1: 270. (2) ق: زوج النبي؛ ر: زوجة النبي. (3) ذكر قنبل في حرف العين 3: 42. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 368 نافع المذكور سنة تسع وخمسين، وقيل غير ذلك، بالمدينة، والأول أصح. وقيل إن كنيته أبو الحسن، وقيل أبو عبد الله، وقيل أبو عبد الرحمن، وقيل أبو نعيم، والله أعلم بالصواب. وجعونة: بفتح الجيم وسكون العين المهملة وفتح الواو والنون وبعدها هاء ساكنة، وهو في الأصل اسم الرجل القصير، ثم سمي به الرجل وإن لم يكن قصيراً وجعل علماً عليه، وكان جعونة حليف حمزة بن عبد المطلب، وقيل حليف العباس بن عبد المطلب، رضي الله عنهما، وقيل حليف بني هاشم. وشعوب: بفتح الشين المعجمة وضم العين المهملة وسكون الواو وبعدها باء موحدة، وهو في الأصل اسم المنية. والشجعي: بكسر الشين المعجمة وسكون الجيم وبعدها عين المهملة، هذه النسبة إلى بني سجع، وهم من بني عامر بن ليث، ولم يتعرض السمعاني إلى ذكر هذه النسبة (1) . 758 - (2) المطرزي أبو الفتح ناصر بن أبي المكارم عبد السيد بن علي المطرزي الفقيه الحنفي النحوي (3) الأديب الخوارزمي؛ كانت له معرفة تامة بالنحو واللغة والشعر وأنواع الأدب، قرأ ببلده على أبيه وعلى أبي المؤيد الموفق بن أحمد بن محمد المكي خطيب خوارزم وغيرها، وسمع الحديث من أبي عبد الله بن محمد بن علي بن أبي سعد التاجر   (1) يزاد في ن عند آخر كل ترجمة " والله أعلم " أو " والله أعلم بالصواب " وإذا انفردت بذلك فإننا لا نثبته. (2) ترجمته في مرآة الجنان 4: 20 وانباه الرواة 3: 339 وفي الحاشية ذكر لعدة مصادر أخرى. (3) ر: النحوي الحنفي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 369 وغيره وكان تام المعرفة بفنه، رأساً في الاعتزال داعياً إليه، ينتحل مذهب الإمام أبي حنيفة، رضي الله عنه في الفروع، فصيحاً، وكان في الفقه فاضلاً وله عدة تصانيف نافعة منها: " شرح المقامات " للحريري، وهو على وجازته مفيد محصل للمقصود، وله كتاب " المغرب (1) " تكلم فيه الألفاظ التي يستعملها الفقهاء من الغريب، وهو للحنفية بمثابة كتاب الأزهري للشافعية، وما أقصر فيه، فإنه أتى جامعاً للمقاصد، وله " المعرب في شرح المغرب " وهو كبير وقليل الوجود، وله " الإقناع " في اللغة و " مختصر الإقناع " و " مختصر إصلاح المنطق " و " الصباح " في النحو و " المقدمة " المشهورة في النحو أيضاً، وله غير ذلك، وانتفع الناس به وبكتبه. ودخل بغداد حاجاً سنة إحدى وستمائة وكان معتزلي الاعتقاد، وجرى له هناك مباحث مع جماعة من الفقهاء، وأخذ أهل الأدب عنه. وكان سائر الذكر مشهور السمعة بعيد الصيت. وله شعر، فمن ذلك - وفيه صناعة: وزند ندى فواضله وري ... ورند ربا فضائله نضير ودر جلاله أبداً ثمين ... ودر نواله أبداً غزير وله أيضاً: وإني لأستحي من المجد أن أرى ... حليف غوانٍ أو أليف أغاني وله أيضاً: تعامى زماني عن حقوقي وإنه ... قبيح على الزرقاء تبدي تعاميا فإن تنكروا فضلي فأن رغاءه ... كفى لذوي الأسماع منكم مناديا وله أشعار كثيرة يستعمل فيها التجانيس. وكانت ولادته في رجب سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة بخوارزم، وهو كما يقال خليقة الزمخشري، فإنه توفي في تلك السنة بتلك البلدة كما سبق في ترجمته.   (1) ق ر ص: المعرب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 370 وتوفي المطرزي يوم الثلاثاء الحادي والعشرين من جمادى الأولى سنة عشر وستمائة بخوارزم أيضاً، رحمه الله تعالى، ورثي بأكثر من ثلثمائة قصيدة عربية وفارسية. والمطرزي: بضم الميم وفتح الطاء المهملة وتشديد الراء وكسرها ة بعدها زاي، هذه النسبة إلى من يطرز الثياب ويرقمها، ولا أعلم هل كان يتعاطى ذلك بنفسه، أم كان في آبائه من يتعاطى ذلك فنسب له، والله أعلم. (282) [وتوفي شيخه الموفق بن أحمد الخطيب المذكور في حادي عشر صفر الخير سنة ثمان وستين وخمسمائة بخوارزم، رحمه الله تعالى] (1) . (2) 759 نزار العبيدي أبو المنصور نزار، الملقب العزيز بالله، ابن المعز بن منصور بن القائم بن المهدي سيدي، صاحب مصر وبلاد الغرب؛ قد تقدم ذكر والده وأجداده وولده وأحفاده. ولي العهد بمصر يوم الخميس رابع شهر (3) ربيع الآخر سنة خمس وستين وثلثمائة واستقل بالأمر بعد (4) وفاة أبيه، وكان يوم الجمعة حادي عشر الشهر المذكور - وفيه الخلاف المذكور في ترجمته - وسترت وفاة أبيه وسلم عليه بالخلافة. وكان كريماً شجاعاً حسن العفو عند المقدرة، وقصته مع أفتكين (5) التركي غلام معز الدولة مشهورة، وعفا عنه لما ظفر به، وكان قد غرم في محاربته مالاً جزيلاً، ولم يؤاخذه بما صدر منه، - وقد سبق في ترجمة عضد الدولة بن بويه   (1) انفردت به ق ص ن. (2) ترجمته وأخباره في تاريخ ابن الأثير (ج 8، 9) والمنتظم 7: 190 وابن خلدون 4: 51 وخطط المقريزي 1: 354 والدرة المضية: 174 ومرآة الجنان 2: 430 وعبر الذهبي 3: 34 والشذرات 3: 121 وبلغة الظرفاء: 71. (3) ق ص ن: رابع عشر. (4) ر ص ن: يوم. (5) ن ص ق: الفتكين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 371 المقدم ذكره في حرف الفاء طرف من خبره فلا حاجة إلى إعادته (1) - وهي قضية تدل على حلمه (2) وحسن عفوه. وذكر الأمير المختار المعروف بالمسبحي أنه الذي اختلط أساس الجامع بالقاهرة مما يلي باب الفتوح، وحفر وبني، وبدئ بعمارته سنة ثمانين وثلثمائة في شهر رمضان. ثم قال المسبحي أيضاً: وفي أيامه بني قصر بالقاهرة الذي لم يبن مثله في شرق ولا غرب، وقصر الذهب وجامع القرافة والقصور بعين شمس. وكان أسمر أصهب الشعر أعين أشهل العين عريض المنكبين حسن الخلق قريباً من الناس لا يؤثر سفك الدماء، بصيراً بالخيل والجارح من الطير، محباً للصيد مغرى به وبصيد السباع (3) ويعرف الجوهر والبز، وكان أديباً فاضلاً. ذكره أبو منصور الثعالبي في كتاب " يتيمة الدهر " (4) وأورد له شعراً قال في بعض الأعياد وقد وافق موت بعض أولاده وعقد عليه المآتم، وهو: نحن بنو المصطفى ذوو محن ... يجرعها في الحياة كاظمنا عجيبة في الأنام محنتنا ... أولنا مبتلى وخاتمنا (5) يفرح هذا الورى بعيدهم ... طراً وأعيادنا مآتمنا ثم قال بعد فصل طويل: وسمعت الشيخ أبا الطيب يحكي أن المرواني صاحب الأندلس كتب إليه نزار صاحب مصر كتاباً يسبه فيه ويهجوه، فكتب إليه " أما بعد، فإنك قد عرفتنا فهجوتنا ولو عرفناك لأجبناك، والسلام " فاشتد على نزار وأفحمه عن الجواب. وذكر أبو الحسن الروحي في كتاب " تحفة الظرفاء في تاريخ الخلفاء " (6) أن هذه   (1) ص: الإعادة. (2) ق: جميله. (3) ن: الضباع؛ ق: الضباع والسباع. (4) اليتيمة 1: 309. (5) ر: وآخرنا، وأثبت الروايتين في ق؛ وفسي اليتيمة ((وآخرنا)) . (6) المطبوع من هذا الكتاب يحمل اسم ((بلغة الظرفاء في ذكرى تواريخ الخلفاء)) والقصة فيه ص: 35. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 372 الواقعة كانت بين الحكم المستنصر بالله بن عبد الرحمن الناصر لدين الله، وهو المرواني صاحب الأندلس وبين العزيز المذكور، وأن المستنصر كتب إلى العزيز يسبه ويهجوه، فكتب إليه العزيز هذه الكلمات (1) والله أعلم بالصواب. وقد تقدم في ترجمة جده المهدي (2) عبيد الله طرف من أخبار نسبهم والطعن فيه، وأكثر أهل العلم بالنسب لا يصححونه، وقد تقدم في ترجمة الشريف أبي محمد عبد الله بن طباطبا ما دار بينه وبين المعز والد هذا العزيز في أمر النسب وما أجاب به المعز، وصار هذا كالمستفيض بين الناس. وفي مبادي ولاية العزيز المذكور صعد المنبر يوم الجمعة فوجد هناك ورقة فيها مكتوب: إنا سمعنا نسباً منكراً ... يتلى على المنبر في الجامع إن كنت فيما تدعي صادقاً ... فاذكر أباً بعد الأب الرابع (3) وإن ترد تحقيق ما قلته ... فانسب لنا نفسك كالطائع أو لا دع الأنساب مستورةً ... وادخل بنا في النسب الواسع فإن انساب بني هاشم ... يقصر عنها طمع الطامع وإنما قال: " فانسب لنا نفسك كالطائع " لأن هذه القضية (4) جرت في خلافة الطائع لله خليفة بغداد. وصعد العزيز يوماً آخر المنبر (5) ، فرأى ورقة فيها مكتوب: بالظلم والجور قد رضينا ... وليس بالكفر والحماقه   (1) لخص هذه الحكاية في المختار بقوله ((وقيل إن هذه القضية بالعكس وأن العزيز نزاراً المجيب وأن المرواني الكاتب المبتديء)) وعلق معلق في الهامش بقوله: ((لا ينبغي أن تكون بالعكس إذ لا خلاف في أمر الخلفاء الأمويين بالأندلس ولم يقدح أحد في نسبهم بخلاف الفاطميين إذ نسبهم مطعون فيه جداً)) . (2) المختار: في ترجمة أبيه المعز. (3) ق ن ر: السابع. (4) المختار: القصة. (5) ق: وصعد المنبر يوماً آخر أعني العزيز. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 373 إن كنت أعطيت علم غيبٍ ... فقل لنا كاتب البطاقه وإنما كتب هذا لأنهم كانوا يدعون علم المغيبات، وأخبارهم في ذلك مشهورة. ولأبي الرقعمق أحمد بن محمد الأنطاكي - المقدم ذكره (1) - قصيدة رائية يمدح بها العزيز المذكور، وهي من أجود مدائحه فيه. وزادت مملكته على مملكة أبيه، وفتحت له حمص وحماة وشيزر وحلب، وخطب له أبو الدواد محمد بن المسيب وهو أخو المقلد بن المسيب العقيلي، صاحب الموصل بالموصل وأعمالها في المحرم سنة اثنتين وثمانين وثلثمائة، وضرب اسمه على السكة والبنود، وخطب له باليمن، ولم يزل في سلطانه وعظم شأنه إلى أن خرج إلى بلبيس متوجهاً إلى الشام، فابتدأت به العلة في العشر الأخير من رجب سنة ست وثمانين وثلثمائة، ولم يزل مرضه يزيد وينقص، حتى ركب يوم الأحد لخمس بقين من شهر رمضان من السنة المذكورة إلى الحمام بمدينة بلبيس، وخرج منها إلى منزل الأستاذ أبي الفتوح برجوان - المقدم ذكره - وكان صاحب خزائنه بالقصر، فأقام عنده، وأصبح يوم الاثنين، فاشتد به الوجع يومه ذلك وصبيحة نهاره الثلاثاء، وكان مرضه من حصاة وقولنج فاستدعى القاضي محمد بن النعمان وأبا محمد الحسن (2) بن عمارة الكتامي الملقب أمين الدولة، وهو أول من تلقب من المغاربة (3) ، وكان شيخ كتامة وسيدها، وخاطبهما بما خاطبهما به في أمر ولده الملقب الحاكم - المقدم ذكره - ثم استدعى ولده المذكور وخاطبه أيضاً بذلك، ولم يزل العزيز المذكور في الحمام والأمر يشتد به إلى بين الصلاتين من ذلك النهار، وهو الثلاثاء الثامن (4) والعشرون من شهر رمضان سنة ست وثمانين وثلثمائة، فتوفي في مسلخ الحمام، هكذا قال المسبحي. وقال صاحب " تاريخ القيروان ": إن الطبيب وصف له دواء يشربه في   (1) انظر ج 1: 131. (2) ق ن: وأبا الحسن محمد. (3) ق: لقب. (4) ص: الثالث. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 374 حوض الحمام، وغلط (1) فيه، فشربه فمات من ساعته، ولم ينكتم موته ساعة واحدة، وترتب موضعه ولده الحاكم أبو علي المنصور - المقدم ذكره - وبلغ الخبر أهل القاهرة، فخرج الناس غداة الأربعاء لتلقي الحاكم، فدخل البلد وبين يديه البنود والرايات وعلى رأسه المظلة، يحملها ريدان (2) الصقلبي - المذكور في ترجمة برجوان - فدخل القصر بالقاهرة عند اصفرار الشمس، ووالده العزيز بين يديه في عمارية، وقد خرجت قدماه (3) منها، وأدخلت العمارية القصر، وتولى غسله القاضي محمد بن النعمان، ودفن عند أبيه العز في حجرة من القصر، وكان دفنه عند العشاء الآخرة، وأصبح الناس يوم الخميس سلخ الشهر، والأحوال مستقيمة، وقد نودي في البلد: أن لا مؤنة ولا كلفة، وقد أمنكم الله تعالى على أموالكم وأرواحكم، فمن عارضكم أو نازعكم فقد حل ماله ودمه. وكانت ولادة العزيز المذكور يوم الخميس رابع عشر المحرم سنة أربع وأربعين وثلثمائة بالمهدية من أرض افريقية " وقال الفرغاني في تاريخه الصغير: كان مولد العزيز بالله يوم الأحد لإحدى عشرة ليلة خلت من المحرم من السنة المذكور " (4) . وقال المختار المسبحي صاحب التاريخ المشهور: قال لي الحاكم وقد جرى ذكر والده العزيز: يا مختار، استدعاني والدي قبل موته، وهو عاري الجسم، وعليه الخرق والضماد، فاستدناني وقبلني وضمني إليه وقال: وأغمي عليك يا حبيب قلبي، ودمعت عيناه. ثم قال: امض يا سيدي والعب فأنا في عافية، قال: فمضيت والتهيت بما يلتهي به الصبيان من اللعب إلى أن نقل الله سبحانه وتعالى العزيز إليه، قال: فبادر إلي برجوان وأنا على (5) جميزة كانت في الدار فقال: انزل ويحك، الله الله فينا وفيك، قال: فنزلت، فوضع العمامة بالجوهر على رأسي، وقبل لي الأرض وقال: السلام على أمير المؤمنين ورحمة الله تعالى   (1) ق: فغلط. (2) في أكثر النسخ: زيدان، وقد ضبطه المؤلف بالراء المهملة في ترجمة برجوان 1: 271. (3) ر: رجلاه. (4) زيادة من ن ص ق. (5) ر بر من: في أعلى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 375 وبركاته، قال: وأخرجني حينئذ إلى الناس على تلك الهيئة، فقبل جميعهم لي الأرض، وسلموا علي بالخلافة. وأخبار كثيرة، والاختصار أولى، رحمه الله تعالى. 760 - (1) نصر الخبزأرزي أبو القاسم نصر بن أحمد بن نصر (2) بن مأمون البصري، المعروف بالخبزأرزي (3) الشاعر المشهور؛ كان أمياً لا يتهجى ولا يكتب، وكان يخبز خبز الأرز بمربد البصرة في دكان، وكان ينشد أشعاره المقصورة على الغزل والناس يزدحمون عليه ويتطرفون باستماع شعره ويتعجبون من حاله وأمره، وكان أبو الحسين محمد بن محمد (4) المعروف بابن لنكك، البصري الشاعر المشهور - مع علو قدره عندهم - ينتاب دكانه ليسمع شعره، واعتنى به، وجمع له ديواناً، وكان نصر المذكور قد وصل إلى بغداد وأقام بها دهراً طويلاً. وذكره الخطيب في تاريخه وقال: قرأ عليه ديوانه، وروى عنه مقطعات من شعره المعافى بن زكريا الجريري، وأحمد بن منصور بن محمد بن حاتم (5) النوشري، وعد جماعة رووا عنه. وذكره الثعالبي في كتاب " اليتيمة " وأورد له مقاطيع، فمن ذلك قوله: خليلي هل أبصرتما أو سمعتما ... بأكرم من مولىً تمشى إلى عبد   (1) ترجمته في تاريخ بغداد 13: 296 والمنتظم 6: 329 ومعجم الأدباء 19: 218 واليتيمة 2: 366 والنجوم الزاهرة 3: 276 ومرآة الجنان 2: 275 والشذرات 2: 276. (2) ابن نصر: سقطت من ر والمختار. (3) بر: بابن الخبزأرزي. (4) زاد في ص: ابن جعفر. (5) ق ص: حاكم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 376 أتى زائراً من غير وعد وقال لي: ... أجلك عن تعليق قلبك بالوجد (1) فما زال نجم الوصل بيني وبينه ... يدور بأفلاك السعادة والسعد فطوراً على تقبيل نرجس ناظر ... وطوراً على تعضيض (2) تفاحة الخد وأورد له أيضاً: ألم يكفني ما نالني من هواكم ... إلى أن طففتم بين لاه وضاحك شماتتكم بي فوق ما قد أصابني ... وما بي دخول النار بي طنز (3) مالك وذكر له أيضاً (4) : كم أناس وفوا لنا حين غابوا ... وأناس جفوا وهم حضار عرضوا ثم أعرضوا، واستمالوا ... ثم مالوا، وجاوروا ثم جاروا لا تلمهم على التجني فلو لم ... يتجنوا لم يحسن الاعتذار ومن شعره أيضاً: وكان الصديق يزور الصديق ... لشرب المدام وعزف القيان فصار الصديق يزور الصديق ... لبث الهموم وشكوى الزمان ومن شعره أيضاً: كم أقاسي لديك قالاً وقيلا ... وعدات (5) ٍ تترى ومطلاً طويلا جمعةٌ تنقضي وشهر يولي ... وأمانيك بكرة وأصيلا إن يفتني منك الجميل من الفع ... ل تعاطيت عنك صبراً جميلا   (1) في أكثر النسخ: بالوعد. (2) ق ن ص والمختار: تقبيل، وفوق الكلمة في المختار ((تعضيض)) . (3) ق بر من: بل طنز. (4) يختلف ترتيب المفطعات في ق ن عن النسخ الأخرى؛ وسقط بعضها من: بر من. (5) المختار: وعذاباً. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 377 والهوى يستزيد حالاً فحالاً ... وكذا ينسلي قليلاً قليلا ويك لا تأمنن صروف الليالي ... إنها تترك العزيز ذليلا فكأني بحسن وجهك قد صاح ... ت به اللحية الرحيل الرحيلا فتبدلت حين بدلت بالنو ... ر ظلاماً، وساء ذاك بديلا فكأن لم تكن قضيباً رطيباً ... وكأن لم تكن كثيباً مهيلا عندها يشمت الذي لم تصله ... ويكون الذي وصلت خليلا وله أيضاً: رأيت الهلال ووجه الحبيب ... فكانا هلالين عند النظر فلم أدر من حيرتي فيهما ... هلال الدجى من (1) هلال البشر ولولا التورد في الوجنتين ... وما راعني من سواد الشعر لكنت أظن (2) الهلال الحبيب ... وكنت أظن الحبيب القمر وقال أحمد بن منصور بن محمد بن حاتم الموشري: أنشدنا أبو القاسم نصر ابن أحمد الخبرأرزي لنفسه: بات الحبيب منامي ... والسكر يصبغ وجنتيه ثم اغتدى وقد ابتداء ... صبغ (3) الخمار بمقلتيه وهبت له عيني الكرى ... وتعوضت نظراً إليه شكراً لإحسان الزما ... ن كما يساعدني عليه وذكر الخطيب في " تاريخ بغداد " (4) ما مثاله: حكى أبو محمد عبد الله بن محمد الأكفاني النصري، قال: خرجت مع عمي أبي عبد الله الأكفاني الشاعر   (1) ر: هلال السما أم. (2) ر: ظننت. (3) كذا في ص ر ق وهي غير معجمة في المختار. (4) تاريخ بغداد 13: 298 - 299. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 378 وأبي الحسين ابن لنكك (1) وأبي عبد الله المفجع وأبي الحسن (2) السباك، في بطالة عيد، وأنا يومئذ صبي أصحبهم، فمشوا حتى انتهوا إلى نصر بن أحمد الخبرأرزي، وهو جالس يخبر على طابقه، فجلست الجماعة عنده يهنونه بالعيد ويتعرفون خبره، وهو يوقد السعف تحت الطابق، فزاد في الوقود فدخنهم، فنهضت الجماعة عند تزايد الدخان، فقال نصر بن أحمد لأبي الحسن ابن لنكك: متى أراك يا أبا الحسين فقال له أبو الحسين: إذا اتسخت ثيابي، وكانت ثيابه يومئذ (3) جدداً على أنقى ما يكون من البياض للتجمل بها في العيد، فمشينا في سكة بني سمرة، حتى انتهينا إلى دار أبي أحمد ابن المثنى، فجلس أبو الحسين ابن لبكك، قال: يا أصحابنا إن نصراً لا يخلي هذا المجلس الذي مضى لنا معه من شيء يقوله فيه، ويجب أن نبدأه قبل أن يبدأنا، واستدعى دواة وكتب: لنصر في فؤادي فرط حبٍ ... أنيف به على كل الصحاب أتيناه فبخرنا بخوراً ... من السعف المدخن للثياب فقمت مبادراً وظننت نصراً ... أراد بذاك طردي أو ذهابي فقال: متى أراك أبا حسين ... فقلت له: إذا اتسخت ثيابي وأنفذ الأبيات إلى نصر، فأملى جوابها، فقرأناه فإذا هو قد أجاب: منحت أبا الحسين صميم ودي ... فداعبني بألفاظ عذاب أتى وثيابه كقتير شيب ... فعدن له كريعان الشباب ظننت جلوسه عندي لعرس ... فجدت له بتمسيك الثياب فقلت: متى أراك أبا حسين ... فجوابني: إذا اتسخت ثيابي فإن كان الترفه (4) فيه خير ... فلم يكنى الوصي أبا تراب   (1) المختار: كنكل، وتصفحت الكلمة حيث وقعت في المخطوطات، وأثبتنا الصورة المشهورة للأسم حسب الضبط الذي انفردت به بعض النسخ في آخر الترجمة. (2) ر ص ق: الحسين؛ ق: السبال؛ وفي تاريخ بغداد: السياك. (3) ق: في غاية. (4) ن: التقزز؛ وفي ق ر صورة للكلمة مشابهة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 379 وحكى أبو بكر محمد وأبو عثمان سعيد ابنا هاشم الخالديان الشاعران المشهوران في كتاب " الهدايا والتحف " (1) أن الخبرأرزي أهدى إلى ابن يزداد والي البصرة فصاً وكتب معه: أهديت ما لو أن أضعافه ... مطرحٌ عندك ما بانا كمثل بلقيس التي لم يبن ... إهداؤها عند سليمانا هذا امتحانٌ لك إن ترضه ... بان لنا أنك رضانا والشيء بالشيء يذكر - وجدت في هذا الكتاب نادرة طريقة فأحببت ذكرها، وهي (2) : كان بأصبهان رجل حسن النعمة واسع النفس كامل المروءة يقال له سماك بن النعمان، وكان يهوى مغنية من أهل أصبهان لها قدر ومعنى تعرف بأم عمرو. فلإفراط حبه إياها وصبابته بها (3) وهبها عدةً من ضياعه، وكتب عليه بذلك كتباً، وحمل الكتب إليها على بغل، فشاع الخبر بذلك، وتحث الناس به واستعظموه؛ وكان بأصبهان رجل متخلف بين الركاكة يهوى مغنية أخرى فلما اتصل به ذلك ظن بجهله وقلة عقله أن سماكاً أهدى إلى أم عمرو جلوداً بيضاً لا كتابة فيها، وأن هذا من الهدايا التي تستحسن ويجل موقعها عند من تهدى إليه، فاتباع جلوداً كثيرة، وحملها على بغلين لتكون هديته ضعف هدية سماك، وأنفذها إلى التي يحب، فلما وصلت الجلود إليها ووقفت على الخبر فيها تغظيت عليه، وكتبت إليه رقعة تشتمه وتحلف أنها لا تكلمه أبداً، وسألت بعض الشعراء أن يعمل أبياتاً في هذا المعنى لتودعها الرقعة، ففعل، وكانت الأبيات: لا عاد طوعك من عصاكا ... وحرمت من وصلٍ مناكا (4) فلقد فضحت العاشقي ... ن بقبح ما فعلت يداكا   (1) انظر الهدايا والتحف: 22 - 23؛ وفي ر: الهديات والتحف. (2) المصدر السابق: 176 - 177. (3) ر: فلما أفرط حبه فيها وكثرت صبابته بها. (4) ق: وعدمت ... رضاكا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 380 أرأيت من يهدي الجلو ... د إلى عشيقته سواكا وأظن أنك رمت أن ... تحكي بفعلك ذا سماكا ذاك الذي أهدى الضيا ... ع لأم عمرو والصكاكا فبعثت منتنةً كأن ... ك قد مسحت بهن فاكا من لي بقربك يا رقي ... ع ولست أهوى أن أراكا لكن لعلي أن أقط ... ع ما بعثت على قفاكا ونقلت من هذا الكتاب أيضاً (1) أن اللبادي الشاعر خرج من بعض مدن أذربيجان يريد أخرى، وتحته مهر له رائع، وكانت السنة مجدبة، فضمه الطريق وغلاماً حدثاً على حمار له، قال: فحادثته فرأيته أديباً راوية للشعر، خفيف الروح حاضر الجواب جيدة الحجة، فسرنا بقية يومنا، فأمسيا إلى خان على ظهر الطريق فطلبت من صاحبه شيئاً نأكله، فامتنع (2) أن يكون عنده شيء، فرفقت به إلى أن جاءني برغيفين، فأخذت واحداً ودفعت إلى ذلك الغلام الآخر، وكان غمي على المهر أن يبيت بغير علف أعظم من غمي على نفسي، فسألت صاحب الخان عن الشعير فقال: ما أقدر منه على حبة واحدة، فقلت: فاطلب لي، وجعلت له جعيلة على ذلك، فمضى وجاءني بعد طويل وقال: قد وجدت مكوكين عند رجل حلف بالطلاق أنه لا ينقصهما عن مائة درهم، فقلت: ما بعد يمين الطلاق كلام، فدفعت إليه خمسين درهم، فجاءني بمكوك، فعلقته على دابتي وجلست أحادث الفتى، وحماره واقف بغير علف، فأطرق ملياً ثم قال: تسمع، أيدك الله، أبياتاً حضرت الساعة فقلت: هاتها، فأنشد: يا سيد شعري نفياية شعركا ... فلذاك نظمي ما يقوم بنثركا وقد انبسطت إليك في إنشاد ما ... هو في الحقيقة قطرةمن بحركا   (1) الهدايا والتحف: 94. (2) المختار: فأبى؛ ص: فأنكر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 381 آنستني وسررتني وبررتني ... وجعلت أمري من مقدم أمركا وأريد أذكر حاجة إن تقضها ... أك عبد مدحك ما حييت وشكركا أنا في ضيافتك العيشة ها هنا ... فاجعل حماري في ضيافة مهركا فضحكت واعتذرت إليه من إغفالي أمر حماره، وابتعت المكوك الآخر بخمسين درهماً، ودفعته إليه. وبالجملة فقد خرجنا عن المقصود. وأخبار نصر المذكور ونوادره كثيرة. وتوفي سنة عشرة وثلثمائة، رحمه الله تعالى، وتاريخ وفاته فيه نظر، لأن الخطيب ذكر في تاريخه أن أحمد ابن منصور النوشري المذكور سمع منه سنة خمس وعشرين وثلثمائة [لكن نقلت تاريخ وفاته على هذه الصورة من تاريخ ابن أزرق الفارقي، والله أعلم] (1) . والخبرأرزي: بضم الخاء المعجمة وسكون الباء الموحدة وفتح الزاي وبعدها همزة ثم راء ثم زاي؛ وفتح الهمزة وضمها وتشديد الزاي وتخفيفها في الأرز يختلف باختلاف اللغات في هذه الكلمة، وفيها ست لغات: الواحدة بضم الهمزة والراء وتشديد الزاي، والأخرى بفتح الهمزة والباقي مثل الأولى، والثالثة أرز: بضم الهمزة وسكون الراء وتخفيف الزاي، والرابعة مثل الثالثة لكن الراء مضمومة، والخامسة رز، بضم الراء وتشديد الزاي، والسادسة رنز، بضم الراء وسكون النون وتخفيف الزاي؛ وإنما نسب نصر المذكور هذه النسبة لأنه كان يتعاطى هذه الحرفة كما تقدم ذكره في أول هذه الترجمة. ابن لنكك: بفتح اللام وسكون النون وكافين متواليين، وهو لفظ أعجمي، معناه بالعربي أعيرج، تصغير أعرج، لأن كلمة لنك معناها أعرج، وعادة العجم إذا صغروا اسماً ألحقوا في آخره كافاً. ومربد البصرة: بكسر الميم وسكون الراء وفتح الباء الموحدة وبعدها دال مهملة، وهو اسم موضع بالبصرة مشهور، وهو في الأصل اسم لكل مكان تحبس فيه الإبل وغيرها، ثم صار علماً على الموضع المذكور.   (1) زيادة من ق ر ص؛ وهنا تنتهي الترجمة في ق ص. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 382 (1) 761 أبو المرهف النميري أبو المرهف نصر بن منصور بن الحسن بن جوشن بن منصور بن حميد (2) بن أثال بن ورد (3) بن عطاف بن بشر بن جندل بن عبيد الراعي بن الحصين بن معاوية بن جندل بن قطن بن ربيعة بن عبد الله بن الحارث بن نمير بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، النميري، الضرير الشاعر المشهور؛ قدم بغداد في صباه، وسكنها إلى حين وفاته، وحفظ القرآن المجيد، وتفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، رضي الله عنه، وسمع الحديث من القاضي أبي بكر محمد بن عبد الباقي الأنصاري وأبي البركات عبد الوهاب بن المبارك الأنماط وأبي الفضل محمد بن ناصر وغيرهم. وقرأ الأدب على أبي منصور ابن الجواليقي، وقال الشعر، ومدح الخلفاء والوزراء والأكابر، وحدث، وكان زاهداً ورعاً، حسن المقاصد في الشعر، له ديوان شعر. وذكره العماد الأصبهاني في كتاب " الخريدة " وذكر شيئا (4) ً من شعره، وأورد نسبه على هذه الصورة وقال: هو الذي أملاه علي. وعبيد الراعي المذكور في عمود نسبه هو الشعر المشهور، صاحب الديوان الشعر، وكان بينه وبين جرير مهاجاة (5) .   (1) ترجمته في الروضتين 2: 211 ومرآة الزمان: 421 ومعجم الأدباء 19: 222 والبداية والنهاية 12: 353 ومرآة الجنان 3: 438 ونكت الهميان: 300 والنجوم الزاهرة 6: 118 والشذرات 4: 295 وقد جاء نسبه مختصراً في ق. (2) ق: حمدان. (3) ن: ورز، ق بر من: وزر؛ ص: وزرين. (4) ص ق: أشياء. (5) وعبيد ... مهاجاة: سقط من ق. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 383 وكان أبو المرهف المذكور قد كف بصره بالجدري وعمره أربه عشرة سنة، وذكر له العماد في " الخريدة " هذا المقطوع من شعره، وهو: ترى يتألف الشمل الصديع ... وآمن من زماني ما يروع وتأنس بعد وحشتنا بنجدٍ ... منازلنا القديمة والربوع ذكرت بأيمن العلمين عصراً ... مضى والشمل ملتئمٌ جميع فلم أملك لدمعي رد غربٍ ... وعند الشوق تعصيك الدموع ينازعني إلى خنساء قلبي ... ودون لقائها بلدٌ شسوع وأخوف ما أخاف على فؤادي ... إذا ما أنجد البرق اللموع لقد حملت من طول التنائي ... عن الأحباب ما لا أستطيع وشعره فيه رقة وجزالة، وكان ببغداد كثير الانقطاع إلى الوزير عون الدين ابن هبيرة - الآتي ذكره إن شاء الله تعالى - وله فيه مدائح. وكانت ولادته يوم الثلاثاء بعد العصر، ثالث عشر جمادى الآخرة سنة إحدى وخمسمائة بالرقة. وتوفي يوم الثلاثاء الثامن والعشرين من شهر ربيع الآخر سنة ثمان وثمانين وخمسمائة ببغداد، ودفن بباب حرب، رحمه الله تعالى (1) . والنميري: بضم النون وفتح الميم وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها راء، هذه النسبة إلى نمير بن عامر المذكور في عمود النسب في أول الترجمة، والباقي معروف.   (1) هنا تنتهي الترجمة في ق. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 384 (1) 762 ابن قلاقس أبو الفتح نصر الله بن عبد الله بن مخلوف بن علي بن عبد القوي بن قلاقس، اللخمي الأزهري الإسكندري، الملقب القاضي الأعز، الشاعر المشهور؛ كان شاعراً مجيداً وفاضلاً نبيلاً " ولم يكن له لحية بل كان سناطاً، وقيل أشعار بسب ذلك فأضربت عن ذكرها لفحشها " (2) . صحب الشيخ الحافظ أبا طاهر أحمد بن محمد السلفي - المقدم ذكره - وانتفع بصحبته، وله فيه غرر المدائح، وقد تضمنها ديوانه، وكان الحافظ المذكور كثيراً ما يثني عليه ويتقاضاه بمديحه (3) ، وقصد القاضي الفاضل عبد الرحيم - المقدم ذكره - بقصيدة موسومة أحسن فيها كل الإحسان، وأولها (4) : ما ضر ذاك الريم أن لا يريم ... لو كان يرثي لسليم سليم (5) وما على من وصله جنة ... ألا أرى من صه في جحيم أعندما همت به روضةً ... أعل جسمي لأكون النسيم رقيم خد نام عن ساهرٍ ... ما أجدر النوم بأهل الرقيم وكيف لا يصرم ظبيٌ وقد ... سمعت في النسبة ظبي الصريم وعاذلٍ دام ودوام الدجى ... بهيمة نادمتها في بهيم   (1) ترجمته في الخريدة (قسم مصر) 1: 145 والروضتين 1: 205 ومعجم الأدباء 19: 236 ومرآة الجنان 3: 383 وحسن المحاضرة 1: 242 والبداية والنهاية 2: 269 والشذرات 4: 224 والبدر السافر، الورقة: 211. (2) زيادة من ص ن ق. (3) ق ر: بمدحه. (4) ديوانه: 96. (5) ق: عاد وعاد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 385 يغظني وهو على رسله ... والمرء في غيظ سواه حليم قلت له لما عدا طوره ... والقلب مني في العذاب الأليم اعذر فؤادي إنه شاعرٌ ... من حبه في كل واد يهيم يا رب خمر فمه كاسها ... لم أقتنع من شربها بالشيم أتبعت رشفاً قبلاً عندها ... وقلت هذا زمزمٌ والحطيم فافتر إما عن أقاحي الربا ... يضحك أو در العقود النظيم أو كان قد قبل مستحسناً ... ما قبل الفاضل عبد الرحيم وكان كثير الحركات والأسفار، وفي ذلك يقول (1) : والناس كثرٌ ولكن لا يقدر لي ... إلا مرافقة الملاح والحادي وفي آخر وقته دخل بلاد اليمن، وامتدح بمدينة عدن أبا الفرج ياسر بن أبي الندى بلال بن جرير المحمدي وزير محمد وأبي السعود ولدي عمران بن محمد بن الداعي سبأ بن أبي السعود (2) بن زريع بن العباس اليامي، صاحب بلاد اليمن، فأحسن إليه وأجزل صلته، وفارقه وقد أثرى من جهته، فركب البحر، فانكسر المركب به، وغرق جميع ما كان معه بجزيرة الناموس بالقرب من دهلك، وذلك يوم الجمعة خامس ذي القعدة سنة ثلاث وستين وخمسمائة، فعاد إليه وهو عريان، فلما دخل عليه أنشده قصيدته التي أولها (3) : صدرنا وقد نادى السماح بنا ردوا ... فعدنا إلى مغناك والعود أحمد وهذه القصيدة من القصائد المختارة، ولو لم يكن فيها سوى هذا البيت لكفاه، ثم أنشده بعد ذلك قصيدة يصف فيها غرقه، وأولها (4) :   (1) ديوانه: 31. (2) بن: سقطت من: بر ر من. (3) ديوانه: 30. (4) ديوانه: 38. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 386 سافر إذا حاولت قدرا ... سار الهلال فصار بدرا والماء يكسب ما جرى ... طيباً ويخبث ما استقرا وبنقلة الدر النفي ... سة بدلت بالبحر نحرا ومنها: يا راوياً عن ياسر ... خبراً ولم يعرفه خبرا اقرأ بغرة وجهه ... صحف المنى إن كنت تقرا والثم بنان يمينه ... وقل السلام عليك بحرا وغلطت في تشبيه ... بالبحر، فاللهم غفرا أو ليس نلت بذا غنى ... جماً ونلت بذاك فقرا وعهدت هذا لم يزل ... مداً، وذاك يعود جزرا وهي قصيدة طويلة أحسن فيها كل الإحسان، ومعنى البيت الثاني منها مأخوذ من قول بديع الزمان صاحب المقامات - المقدم ذكره في حرف الهمزة - في أول رسالة قد ذكرتها في ترجمته، وهي " الماء إذا طال مكثه، ظهر خبثه "، والبيت الثالث من هذه القصيدة أيضاً مأخوذ من قول صردر الشاعر - المقدم ذكره في حرف العين - وهو (1) : قلقل ركابك في الفلا ... ودع الغواني للخدور فمحالفو أوطانهم ... أمثال سكان القبور لولا التنقل ما ارتقت ... درر البحور إلى النحور وله في جارية سوداء، وهو معنى غريب: رب سوداء وهي بيضاء معنى ... نافس (2) المسك عندها الكافور مثل حب العيون يحسبه النا ... س سواداً، وإنما هو نور   (1) ديوان صر در: 210. (2) بر: نافر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 387 ومحاسن ابن قلاقس نادرة (1) . وكانت ولادته بثغر الإسكندرية يوم الأربعاء رابع شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة. وتوفي ثالث شوال سنة سبع وستين وخمسمائة بعيذاب، رحمه الله تعالى. ودخل صقلية في شعبان سنة ثلاث وستين، وكان وصوله إلى اليمين سنة خمس وستين، وكان بصقلية بعض القواد، يقال له القائد أبو القاسم ابن الحجر فاتصل به وأحسن إليه، وصنف له كتاباً سماه " الزهر الباسم في أوصاف أبي القاسم " وأجاد فيه، ولما فارق صقلية راجعاً إلى الديار المصرية، وكان زمن الشتاء، ردته الريح إلى صقلية، فكتب إلى أبي القاسم المذكور (2) : منع الشتاء من الوصو ... ل مع الرسول إلى دياري فأعادني وعلى اختيا ... ري جاء من غير اختياري (3) ولربما وقع الحما ... ر وكان من غرض المكاري وقلاقس: بقافين، الأولى مفتوحة والثانية مكسورة وبينهما لام ألف وفي آخره سين مهملة، وهو جمع قلقاس بضم القاف وهو معروف. واللخمي: تقدم الكلام عليه وكذلك الأزهري. وعيذاب: بفتح العين المهملة وسكون الياء المثناة من تحتها وفتح الذال المعجمة وبعد الألف باء موحدة، وهي بليدة على شاطئ بحر جدة، يعدي منها الركب المصري المتوجه إلى الحجاز (4) ، على طريق قوص، في ليلة واحدة، في أغلب الأوقات، فيصل إلى جدة، ومنها إلى مكة - حرسها الله تعالى - مسافة   (1) ص بر من: كثيرة؛ ر: ونوادره كثيرة. (2) انظر دراسة عن ابن قلاقس في صقلية في كتاب ((العرب في صقلية)) 287 - 295 وقد نقل العماد في الخريدة كثيراً عن كتابه الزهر الباسم (مخطوطة نور عثمانية رقم 3774) . (3) سقط البيت والذي يليه من ص ن ق. (4) ص: تعدي منها المراكب إلى الحجاز؛ ق: يعني يعدي المركب منها إلى الحجاز أعني الركب المصري إذا توجه إلى الحجاز. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 388 يوم، وبجدة قبر أم البشر حواء، رضي الله عنها، على ما يقال، وقبرها هناك ظاهر يزار. وياسر المذكور قتله شمس الدولة توران شاه - المقدم ذكره - عند دخوله اليمن. 763 - (1) ضياء الدين ابن الأثير أبو الفتح نصر الله بن أبي بكر محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني، المعروف بابن الأثير الجزري، الملقب ضياء الدين؛ كان مولده بجزيرة ابني (2) عمر، ونشأ بها، وانتقل مع والده إلى الموصل " في رجب سنة تسع وسبعين وخمسمائة " (3) وبها اشتغل وحصل العلوم وحفظ كتاب الله الكريم وكثيراً من الأحاديث النبوية وطرفاً صالحاً من النحو واللغة وعلم البيان وشيئاً كثيراً من الأشعار حتى قال في أول كتابه الذي سماه " الوشي المرقوم " ما مثاله: " وكنت حفظت من الأشعار القديمة والمحدثة ما لا أحصيه كثيرة، ثم اقتصرت بعد ذلك على شعر الطائيين: حبيب بن أوس، يعني أبا تمام، وأبي عبادة البحتري، وشعر أبي الطيب المتنبي، فحفظت هذه الدواوين الثلاثة، وكنت أكرر عليها بالدرس مدة سنين، حتى تمكنت من صوغ المعاني، وصار الإدمان لي خلقاً وطبعاً " وإنما ذكر هذا الفضل في معرض أن المنشئ ينبغي أن يجعل   (1) ترجمته في ذيل الروضتين: 169 والحوادث الجامعة: 136 والبدر السافر، الورقة: 205 ومرآة الجنان 4: 97 وعبر الذهبي 5: 156 والشذرات 5: 187 وروضات الجنات: 658 وللدكتور زغلول سلام دراسة عنه (القاهرة: مطبعة نهضة مصر) وفيه إشارة إلى مصادر أخرى. (2) هذا هو الوجه الذي اختاره المؤلف دائماً في المسودة، ولكن النسخ ما عدا بر ظلت تكتبه " ابن عمر " وكذلك ورد في المختار. (3) زيادة من ر ص ق. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 389 دأبه في الترسل حل المنظوم، ويعتمد عليه في هذه الصناعة. ولما كملت لضياء الدين المذكور الأدوات قصد جناب الملك الناصر صلاح الدين، تغمده الله برحمته، في شهر ربيع الأول سنة سبع وثمانين وخمسمائة، فوصله القاضي الفاضل لخدمة صلاح الدين في جمادى الآخرة من السنة، وأقام عنده إلى شوال من السنة، ثم طلبه ولده الملك الأفضل نور الدين من والده، فخيره صلاح الدين بين الإقامة (1) في خدمته، والانتقال إلى ولده ويبقى المعلوم الذي قرره له باقياً عليه، فاختار ولده، فمضى إليه، وكان يومئذ شاباً، فاستوزره ولده الملك الأفضل نور الدين على - المقدم ذكره - رحمه الله تعالى، وحسنت حاله عنده. ولما توفي السلطان صلاح الدين، واستقل ولده الملك الأفضل بمملكة دمشق، استقل ضياء الدين المذكور بالوزارة وردت أمور الناس إليه، وصار الاعتماد في جميع الأحوال عليه، ولما أخذت دمشق من الملك الأفضل وانتقل إلى صرخد - حسبما شرحناه في ترجمته - وكان ضياء الدين قد أساء العشرة مع أهلها، وهموا بقتله، فأخرجه الحاجب محاسن بن عجم مستخفياً في صندوق مقفل عليه، ثم صار إليه (2) ، وصحبه إلى مصر لما استدعي لنيابة ابن أخيه الملك المنصور - قد تقدم ذكر ذلك كله في ترجمة الملك الأفضل فأغنى عن الإعادة. ولما قصد الملك العادل الديار المصرية، وأخذها من ابن أخيه - كما ذكرناه هناك - وتعوض الملك الأفضل البلاد الشرقية، وخرج من مصر، لم يخرج ضياء الدين في خدمته، لأنه خاف على نفسه من جماعة كانوا يقصدونه، فخرج منها   (1) ر: المقام؛ ق: بين خدمته والإقامة عنده. (2) علق ابن المؤلف هنا بقوله: " قلت أعني كاتبها موسى بن أحمد لطف الله به: سمعت والدي رحمه الله تعالى يحكي أن الملك العادل لما تسلم قلعة دمشق من ابن أخيه الأفضل تطلب ضياء الدين كثيراص فلم يظفر به، فلما حصل الشروع في نقل متاع الأفضل وماله من القلعة قال العادل: ما آمن أن يكون المذكور في بعض الصناديق مستخفياً، فخرج بنفسه وجلس بدركاه القلعة على صندوق من متاع الأفضل وأمر أن يفتح بين يديه كل صندوق يريدون إخراجه ففعل ذلك، واتفق جلوسه على الصندوق الذي فيه المذكور فلما تكامل نقلهم الصناديق قام العادل مغضباً لكونه ما ظفر به وغفل عن الصندوق الذي كان جالساً عليه وهذا من غريب الاتفاق ". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 390 مستتراً، وله في كيفية خروجه مستخفياً رسالة طويلة، شرح فيها حاله، وهي موجودة في ديوان رسائله، وغاب عن مخدومه الملك الأفضل مديدة، ولما استقر الأفضل في سميساط عاد إلى خدمته وأقام عنده مدة ثم فارقه في ذي القعدة من سنة سبع وستمائة، واتصل بخدمة أخيه الملك الظاهر صاحب حلب - المقدم ذكره - فلم يطل مقامه عنده ولا انتظم أمره، وخرج مغضباً وعاد إلى الموصل فلم يستقم حاله، فورد إربل فلم يستقم حاله، فسافر إلى سنجار ثم عاد إلى الموصل واتخذها دار إقامته واستقر، وكتب الإنشاء لصاحبها ناصر الدين محمود ابن الملك القاهر عز الدين مسعود بن نور الدين أرسلان شاه - المقدم ذكره في حرف الهمزة - وأتابكه يومئذ الأمير بدر الدين لؤلؤ أبو الفضائل النوري، وذلك في سنة ثماني عشرة وستمائة. ولقد ترددت إلى الموصل من إربل أكثر من عشر مرات، وهو مقيم بها، وكنت أود الاجتماع به لآخذ عنه شيئاً، ولما كان بينه وبين الوالد، رحمه الله تعالى، من المودة الأكيدة، فلم يتفق ذلك، ثم فارقت بلاد المشرق وانتقلت إلى الشام وأقمت به (1) مقدار عشر سنين، ثم انتقلت إلى الديار المصرية وهو في قيد الحياة، ثم بلغني بعد ذلك خبر وفاته وأنا بالقاهرة، وسيأتي تاريخه في أواخر الترجمة إن شاء الله تعالى. ولضياء الدين من التصانيف الدالة على غزارة فضله وتحقيق نبله، كتابه الذي سماه " المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر "، وهو في مجلدين، جمع فيه فأوعب، ولم يترك شيئاً يتعلق بفن الكتابة إلا ذكره، ولما فرغ من تصنيفه كتبه الناس عنه، فوصل إلى بغداد منه نسخة، فانتدب له الفقيه الأديب عز الدين أبو حامد عبد الحميد بن هبة الله بن محمد بن حسين بن أبي الحديد المدائني، وتصدى لمؤاخذته والرد عليه، وعنته (2) في ذلك، وجمع هذه المؤاخذات في كتاب سماه " الفلك الدائر على المثل السائر " فلما أكمله وقف عليه أخوه موفق الدين أبو المعالي أحمد، ويدعى القاسم أيضاً، فكتب إلى أخيه المذكور قوله:   (1) ص ر: بها. (2) ق: وعنفه؛ ر: وعتبه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 391 المثل السائر يا سيدي ... صنفت فيه الفلك الدائرا لكن هذا فلك دائر ... تصير فيه المثل السائرا (283) وكانت ولادة عز الدين المذكور بالمدائن يوم السبت مستهل ذي الحجة سنة ست وثمانين وخمسمائة. وتوفي في بغداد سنة خمس وخمسين وستمائة. (284) وتوفي أخوه موفق الدين المذكور ببغداد، في سنة ست وخمسين وستمائة، بعد أن أخذها التتر بقليل. وكانا فقيهين أدبيين فاضلين، لهما أشعار مليحة. ومولد الموفق المذكور في جمادى الآخرة، وقيل في شهر ربيع الأول، سنة تسعين وخمسمائة بالمدائن. وله كتاب " الوشي المرقوم في حل المنظوم " وهو مع وجازته في غاية الحسن والإفادة، وله كتاب " المعاني المخترعة في صناعة الإنشاء "، وهو أيضاً نهاية في بابه، وله مجموع اختار فيه أبي تمام والبحتري وديك الجن والمتنبي، وهو في مجلد واحد كبير، وحفظه مفيد، وقال أبو البركات ابن المستوفي في " تاريخ إربل ": نقلت من خطه، في آخر هذا الكتاب المختار ما مثاله: تمتع بع علقاً نفيساً فإنه اخ ... تيار بصير بالأمور حكيم أطاعته أنواع البلاغة فاهتدى ... إلى الشعر من نهجٍ إليه قويم وله أيضاً ديوان ترسل في عدة مجلدات والمختار منه في مجلد واحد. ومن جملة رسائله، وكتبه إلى مخدومه وقد سافر في زمن الشتاء والبرد الشديد: " وينهي أنه سار عن الخدمة، وقد ضرب الدجن فيه مضاربه، وأسبل عليه ذوائبه، وجعل كل قرارة حفيراً، وكل ربوة غديراً، وخط كل أرض خطاً، وغادر كل جانب شطاً، كأنه يوازي يد مولانا في شيمة كرمها، والتثاث صوب ديمها، والمملوك يستغفر الله من هذا التمثيل، العاري عن فائدة التحصيل، وفرق بين ما يملأ الوادي بمائه، ومن يملأ النادي بنعمائه، وليس ما ينبت زهراً يذهبه المصيف، أو تمراً يأكله الخريف، كمن ينبت ثروة تغوث الأعطاف، ويأكل المرتبع والمصطاف، ثم استمر على مسير يقاسي الأرض ووحلها، والسماء ووبلها، ولقد جاد حتى ضجر، وأسرف حتى اتصل بره بالعقوق، وما خاف الجزء: 5 ¦ الصفحة: 392 المملوك لمع البوارق كما خاف لمع البروق، ولم يزل من مواقع قطره في حرب، ومن شدة برده في كرب، والسلام ". ولما سمع صاحبنا الحسام عيسى بن سنجر بن بهرام، المعروف بالحاجري الإربلي - المقدم ذكره - هذا المعنى، وهو قوله " ومن شدة بردة في كرب " أعجبه ونظم أبياتاً، ونت جملتها بيت أودعه هذا المعنى، وهو: ويلاه من برد رضابٍ له ... أشكو إلى العذال منه الحريق ومن وقف على هذا البيت ربما يتشوق (1) على بقية أبيات، وهي قليلة فلا بأس بذكرها، وهي (2) : بين لوي الجزع ووادي العقيق ... من لا إلى السلوان عنه طريق جانٍ جنى الخلة من ريقه ... حلو التثني والثنايا رشيق لو لم تكن وجنته جنةً ... ما أنبتت ذاك العذار الأنيق ويلاه من برد رضابٍ له ... أشكو إلى العذال منه الحريق واعجبا يفعل بي في الهوى ... ما تفعل الأعداء وهو الصديق روحي فدى الظبي الذي قده ... يفعل فعل السمهري الدقيق وقد سبق في ترجمة النفيس القطرسي - في حرف الهمزة (3) - بيت من جملة أبياته الكافية يتضمن هذا المعنى، وهو قوله: أحرقت يا ثغر الحبي ... ب حشاي لما ذقت بردك وأصل هذا المعنى لابن التعاويذي - المقدم ذكره - في بيت من جملة قصيدته النونية المشهورة، وهو: يذكي الجوى بارد من ثغره شبمٌ ... ويوقظ الوجد طرف منه وسنان   (1) ر: تشوف؛ ق ن: تشوق. (2) ق: وهي مذكورة فنذكرها الآن. (3) انظر ج 1: 164. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 393 ومن رسائل ضياء الدين ما كتبه عن مخدومه إلى الديوان العزيز من جملة رسالة، وهي: " ودولته هي الضاحكة، وإن كان نسبها إلى العباس، فهي خير دولة أخرجت للزمن، كما أن رعاياها خير أمة أخرجت للناس، ولم يجعل شعارها من لون الشباب إلا تفاؤلاً بأنها لا تهرم، وأنها لا تزال محبوبة من أبكار السعادة بالحب الذي لا يسلى والوصل الذي لا يصرم، وهذا معنى اخترعه الخادم للدولة وشعارها، وهو مما لم تخطه الأقلام صحفها، ولا أجالته الخواطر في أفكارها ". ولعمري ما أنصف ضياء الدين في دعواه الاختراع لهذا المعنى، وقد سبقه إليه ابن التعاويذي في قصيدته السينية، التي مدح بها الإمام الناصر لدين الله أبا العباس أحمد أول يوم جلس في دست الخلافة، وهو يوم الأحد مستهل ذي القعدة سنة خمس وسبعين وخمسمائة، وأول القصيدة (1) : طاف يسعى بها على الجلاس ... كقضيب الأراكة المياس ومنها عند المخلص، وهو المقصود بالذكر هاهنا: يا نهار المشيب من لي هيها ... ت بليل الشبيبة الديماس حال بيني وبين لهوي وأطرا ... بي دهرٌ أحال صبغة راسي ورأى الغانيات شيبي فأعرض ... ن وقلن السواد خير لباس كيف لا يفضل السواد وقد أضح ... ى شعاراً على بني العباس ولا شك أن ضياء الدين زاد على هذا المعنى، لكن ابن التعاويذي هو الذي فتح الباب وأوضح السبيل، فسهل على ضياء الدين سلوكه. وله من جملة رسائله في ذكر العصا التي يتوكأ عليها الشيخ الكبير، وهو معنى غريب: " وهذا (2) لمبتدأ ضعفي خبر، ولقوس ظهري وتر، وإن كان إلقاؤها دليلاً على الإقامة فإن حملها دليل على السفر ". وله في وصف المسلوبين من جملة كتاب يتضمن البشرى بهزيمة الكفار وهو: " فسلبوا وعاضتهم الدماء   (1) ديوانه: 236. (2) ق ص ن: وهذه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 394 عن اللباس، فهم في صورة عار وزيهم زي كاس، وما أسرع ما خيط لهم لباسها المحمر، غير أنه لم يجب عليهم ولم يزر (1) ، وما لبسوه حتى لبس الإسلام شعار النصر، الباقي على الدهر، وهو شعار نسجه السنان الخارق، لا الصنع (2) الحاذق، ولم يغب عن لابسه إلا ريثما غابت البيض في الطلى والهام، وألف الطعن بين ألف الخط واللام. وأول هذا الفضل مأخوذ من قول البحتري: سلبوا وأشرقت الدماء عليهم ... محمرة فكأنهم لم يسلبوا وله رسالة يصف فيها الديار المصرية، وهي طويلة، ومن جملتها فصل صفة نيلها وقت زيادته، وهو معنى بديع غريب، ولم أقف لغيره على أسلوبه، وهو قوله: " وعذب رضابه فضاهى جنى النحل، واحمر صفيحة فعملت أنه قد قتل المحل ". وهذا المعنى نهاية في الحسن، ثم إني وجدت هذا المعنى لبعض العرب، وقد أخذ ضياء الدين منه، وهو قوله: لله قلب ما يزال يروعه ... برق الغمامة منجداً أو مغورا ما احمر في الليل البهيم صفيحه ... متجرداً إلا وقد قتل الكرى ولقد أحسن في أخذه وتلطف في نقله إلى هذا المعنى، ومثله قول عبد الله ابن المعتز المقدم ذكره في غلام أرمد: قالوا اشتكت عينه فقلت لهم: ... من كثرة القتل مسها الوصب حمرتها من دماء من قتلت ... والدم في النصل شاهد عجب (3)   (1) ق: يجيب ... يزرر. (2) ص: الصانع. (3) علق ابن المؤلف عند هذا بقوله: " قلت أعني كاتبها موسى بن أحمد لطف الله به: لما أعيد والدي رحمه الله تعالى إلى قضاء دمشق والشام في أول سنة سبع وسبعين وستمائة ورد عليه كتاب السلطان الملك السعيد ابن الملك الظاهر يخبره بوفاء النيل، وهو أول كتاب ورد عليه وكان من إنشاء تاج الدين أحمد بن الأثير الحلبي رحمه الله وفيه بعد الألقاب المعتادة: لا زالت أيامه مستفتحة بالهناء وسعادة الآناء وإشادة الثناء إذ كان أمل غيره من دهره إشادة البناء؛ نوضح لعلمكم الكريم أننا سطرناها والنيل المبارك بحمد الله قد وفى، وعفى من آمال القائظة ما عفى، ومرعى البلاد خصيب، والري قد قتل المحل وكفه من دمه خضيب، والديار المصرية قد تجمع بها اشتات المحاب وعنيت بمواقع نيلها عن تحمل منة السحاب؛ وقوله في الدعاء: " وإشادة الثناء إذ كان أمله من غيره إشادة البناء " فيه معنى قصده يحتاج إلى إبضاح وهو: أن الحاكم المباشر قبل الوالد كان يكثر في مجالسه القول: عمرت في الأوقات كذا وبنيت للأيتام كذا، والله أعلم؛ أهـ ". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 395 وله كل معنى مليح في الترسل، وكان يعارض القاضي الفاضل في رسائله، فإذا أنشأ رسالة أنشأ مثلها، وكان بينهما مكاتبات ومجاوبات، ولم يكن له في النظم شيء حسن، وسأذكر منه أنموذجاً: ثلاثة تعطي الفرح ... كأس وكوب وقدح ما ذبح الزق لها ... إلا وللهم ذبح وكان كثيراً ما بنشد: قلب كفاه من الصبابة أنه ... لبى دعاء الظاعنين وما دعي ومن الظنون الفاسدات توهم ... بعد اليقين بقاؤه في أضلعي وهذان البيتان من جملة أبيات للفقيه عمارة اليمني - المقدم ذكره. ومحاسنه كثيرة، وقد طال الشرح. وذكره أبو البركات ابن المستوفي في " تاريخ إربل " وبالغ في الثناء عليه وقال: ورد إربل في شهر ربيع الأول سنة إحدى عشرة وستمائة، وكانت ولادته بجزيرة ابن عمر في يوم الخميس العشرين من شعبان سنة ثمان وخمسين وخمسمائة؛ وتوفي في إحدى الجماديين سنة سبع وثلاثين وستمائة، ببغداد، وقد توجه إليها رسولاً من جهة صاحب الموصل، وصلي عليه من الغد بجامع القصر ودفن بمقابر قريش في الجانب الغربي بمشهد موسى بن جعفر، رضي الله عنهما. قال أبو عبد الله محمد بن النجار البغدادي في " تاريخ بغداد ": توفي يوم الاثنين التاسع والعشرين من شهر ربيع الآخر من السنة، وهو أخبر، لأنه صاحب هذا الفن، وقد مات عندهم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 396 وقد تقدم ذكر أخويه: مجد الدين أبي السعادات المبارك، وأبي الحسن علي الملقب عز الدين، وكان الأخوة الثلاثة فضلاء نجباء رؤساء، لكل واحد منهم تصانيف نافعة، رحمهم الله تعالى (1) . (285) وكان لضياء الدين المذكور ولد نبيه له النظم والنثر الحسن، وصنف عدة تصانيف نافعة من مجاميع وغيرها، ورأيت له مجموعاً جمعه للملك الأشرف ابن الملك العادل بن أيوب، وأحسن فيه وذكر فيه جملة من نظمه ونثره ورسائل أبيه، ومولده بالموصل في شهر رمضان سنة خمس وثمانين وخمسمائة، وتوفي بكرة نهار الاثنين ثاني جمادى الأولى سنة اثنين وعشرين وستمائة، واسمه محمد، ولقبه الشرف، رحمه الله تعالى. 764 - (2) النضر بن شميل أبو الحسن النضر بن شميل بن خرشة بن يزيد بن كلثوم بن عبدة بن زهير السكب، الشاعر، ابن عروة بن حليمة (3) بن حجر خزاعي بن مازن ابن مالك بن عمرو بن تميم، التميمي المازني النحوي البصري؛ كان عالماً بفنون من العلم صدوقاً ثقة، صاحب غريب وفقه وشعر ومعرفة بأيام العرب ورواية الحديث، وهو من أصحاب الخليل بن أحمد؛ ذكره أبو عبيدة في كتاب " مثالب أهل البصرة " (4) فقال: ضاقت المعيشة على النضر بن شميل البصري   (1) وقد تقدم ... تعالى: تأخرت هذه الفقرة في ر حتى آخر الترجمة، وبها تنتهي الترجمة في: بر من. (2) ترجمته في نور القبس: 99 - 104 ومعجم الأدباء 19: 138 وجمهرة ابن حزم: 211 ومصادر أخرى في الحاشية؛ وقد جاءت هذه الترجمة شديدة الإيجاز في المختار. (3) ق ص: حكيمة؛ وفي التاج (سكب) : حلمة؛ وفي شرح البكري على الأمالي: 441 جلهمة مع أنه في أصلي الكتاب " حليمة ". (4) ق: مثالب العرب من أهل البصرة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 397 بالبصرة فخرج يريد خراسان، فشيعه من أهل البصرة نحو من ثلاثة آلاف رجل، ما فيهم إلا محدث أو نحوي أو لغوي أو عروضي أو أخباري، فلما صار بالمربد جلس فقال: يا أهل البصرة، يعز علي فراقكم، ووالله لو وجدت كل يوم كيلجة باقلى ما فارقتكم، قال: فلم يكن أحداً فيهم يتكلف (1) له ذلك، فسار حتى وصل خراسان فأفاد بها مالاً عظيماً، وكانت إقامته بمرو. وقد سبق في أخبار القاضي عند الوهاب المالكي نظير هذه الحكاية لما خرج من بغداد (2) . وسمع بن هشام بن عروة وإسماعيل بن أبي خالد وحميد الطويل وعبد الله ابن عون وهشام بن حسان وغيرهم من التابعين، وروى عنه يحيى بن معين وعلي ابن المديني وكل من أدركه من أئمة عصره، ودخل نيسابور غير مرة وأقام بها رماناً وسمع منه أهلها. وله مع المأمون بن هارون الرشيد لما كان مقيماً بمرو حكايات ونوادر، لأنه كان يجالسه، فمن ذلك ما حكاه الحريري في كتاب " درة الغواص في أوهام الخواص " في قوله (3) : ويقولون هو سداد من عوز، فيلحنون في فتح السين (4) ، والصواب أن يقال بالكسر: وقد جاء في أخبار النحويين أن النضر بن شميل المازني استفاد بإفادة هذا الحرف ثمانين ألف درهم، وساق خبره، وذكر إسناداً انتهى فيه إلى محمد بن ناصح الأهوازي قال: حدثني النضر بن شميل قال: كنت أدخل على المأمون في سمره، فدخلت ذات ليلة وعلي ثوب (5) مرقوع، فقال: يا نضر، ما هذا التقشف حتى تدخل على أمير المؤمنين في هذه الخلقان قلت: يا أمير المؤمنين، أنا شيخ ضعيف وحر مرو شديد، فأتبرد بهذه الخلقان، قال: لا، ولكنك قشف، ثم أجرينا الحديث، فأجرى هو ذكر النساء فقال: حدثنا هشيم عن مجالد عن الشعبي عن ابن عباس رضي الله عنهما   (1) ر: يتكفل؛ بر من: فلم يكن فيهم من يتكلف. (2) انظر ج 3: 219 - 220. (3) درة الغواص: 105 - 107. (4) ق ص ن: في السين بفتحها. (5) الدرة: قميص. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 398 قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا تزوج الرجل المرأة لدينها وجمالها كان فيه سداد من عوز " فأورده بفتح السين، قال: فقلت " صدق يا أمير المؤمنين هشيم، حدثنا عوف بن أبي جميلة عن الحسن عن علي بن أبي طالب رضوان الله عليه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا تزوج الرجل المرأة لدينها وجمالها كان فيها (1) سداد من عوز " قال: وكان المأمون متكئاً فاستوى جالساً (2) ، وقال: يا نضر، كيف قلت سداد لأن السداد ها هنا لحن قال: أو تلحنني قلت: إنما لحن هشيم وكان لحانة فتبع أمير المؤمنين لفظه، قال فما الفرق بينهما قلت: السداد، بالفتح، القصد في الدين والسبيل، والسداد، بالكسر، البلغة، وكل ما سددت به شيئاً فهو سداد، قال: أو تعرف العرب ذلك قلت: نعم، هذا العرجي يقول: أضاعوني وأي فتىً أضاعوا ... ليوم كريهة وسداد ثغر فقال المأمون: قبح الله من لا أدب له، وأطرق ملياً ثم قال: ما مالك يا نضر قلت: أريضة لي بمرو أتصاببها وأتمززها (3) ، قال: أفلا نفيدك مالا معها قلت: إني إلى ذلك لمحتاج، قال: فأخذ القرطاس وأنا لا أدري ما يكتب. ثم قال: كيف يقول إذا أمرت أن يترب قلت: أتربه، فهو ماذا، قلت: مترب، قال: فمن الطين قلت: طنه، قال: فهو ماذا قلت: مطين، هذه أحسن من الأولى، ثم قال: يا غلام، أتربه وطنه، ثم صلى بنا العشاء وقال لخادمه: تبلغ معه إلى الفضل بن سهل؛ قال: فلما قرأ الفضل الكتاب (4) قال: يا نضر، إن أمير المؤمنين قد أمر لك بخمسين ألف درهم، فما كان السبب فيه فأخبرته ولم أكذبه، فقال: لحنت أمير المؤمنين فقلت: كلا إنما لحن هشيم وكان لحانة فتبع أمير المؤمنين لفظه، وقد تتبع ألفاظ   (1) ن ر: فيه. (2) ر: فجلس. (3) ق: وأتمورها؛ ص: وأتموزها. (4) بر من: القرطاس. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 399 الفقهاء ورواة الآثار، ثم أمر لي بثلاثين ألف درهم فأخذت ثمانين ألف درهم بحرف استفيد مني. والبيت الذي استشهد به هو لعبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان الأموي العرجي الشاعر المشهور، وهو من جملة أبيات له، وهي هذه الأبيات (1) : أضاعوني وأي فتىً أضاعوا ... ليوم كريهةٍ وسداد ثغر وصبر عنه معترك المنايا (2) ... وقد شرعت أسنتها لنحري أجرر في الجوامع كل يوم ... فيا الله مظلمتي وقسري (3) كأني لم أكن فيهم وسيطاً ... ولم تك نسبتي في آل عمرو عسى الملك المجيب لمن دعاه ... سينجيني فيعلم كيف شكري فأجزي بالكرامة أهل ودي ... وأجزي بالضغائن أهل وتري [والعرجي: بفتح العين وسكون الراء وفي آخرها جيم، هذه النسبة إلى العرج، وهو موضع بمكة سمي به؛ وقال ابن الأثير في كتاب " تهذيب النسب ": العرج بين مكة والمدينة، وليس بمكة، والله أعلم. وقال إسحاق بن إبراهيم الموصلي: لما حبس المنصور عبد الله بن علي كان يكثر التمثل بقول العرجي: أضاعوني وأي فتى أضاعوا ... فبلغ ذلك المنصور فقال: هو أضاع نفسه بسوء فعله، فكانت أنفسنا عندنا أبر من نفسه. قال إسحاق، وقال الأصمعي: مررت بكناس بالبصرة يكنس كنيفاً ويغني: أضاعوني وأي فتىً أضاعوا ... ليوم كريهةٍ وسداد ثغر   (1) ديوان العرجي: 34. (2) الديوان: وخلوني لمعترك المنايا؛ ق: فصبراً؛ ر: وصبري. (3) الجوامع: جمع جامعة وهي القيد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 400 فقلت: أما سداد الكنيف فأنت ملي به، وأما الثغر فلا لنا كيف أنت فيه، وكنت حديث السن وأردت العبث به، فأعرض عني ملياً، ثم أقبل علي متمثلاً يقول: وأكرم نفسي إنني إن أهنتها ... وحقك لم تكرم على أحد بعدي فقلت: والله ما يكون من الهوان شيء أكثر مما بذلتها له فقال لي: والله إن من الهوان لشراً مما أنا فيه، فقلت: وما هو قال: الحاجة إليك وإلى أمثالك] (1) . وكان سبب عمله هذه الأبيات أن محمد بن هشام بن إسماعيل المخزومي خال هشام بن عبد الملك لما كان والي مكة حبس العرجي المذكور لأنه كان يشبب بأمه جيداء، وهي من بني الحارث بن كعب، ولم يكن ذلك لمحبته إياها، بل يفضح ولدها المذكور، وأقام في حبسه تسع سنين، ثم مات فيه بعد أن ضربه بالسياط وسهره بالأسواق، فعمل هذه الأبيات في السجن (2) . [قال إسحاق: وكان الوليد بن يزيد مضغطاً على محمد بن هشام أشياء كانت تبلغه عنه في هشام، فلما ولي الخلافة قبض عليه وعلى أخيه إبراهيم بن هشام وأشخاص الشام، ثم دعا بالسياط، فقال له محمد: أسألك بالقرابة، فقال: وأي قرابة بيني وبينك، هل أنت من أشجع قال: فأسألك بصهر عند الملك، قال: فلم تحفظه؛ قال: يا أمير المؤمنين قد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تضرب قريش بالسياط إلا في حد، قال: ففي حد أضربك وقود، " أنت ممن سن " ذلك على العرجي وهو ابن عمي وابن أمير المؤمنين عثمان فما راعيت حق جده ولا نسبته إلى هشام، ولا ذكرت حينئذ هذا الخبر، وأنا ولي ثأره، اضرب يا غلام، فضربهما ضرباً مبرحاً وأثقلا بالحديد ووجهها إلى يوسف بن عمرو بالكوفة وأمر باستقصائهما وتعذيبهما حتى يتلفا،   (1) زيادة انفردت بها ر، وانظر الأغاني 1: 290. (2) وكان سبب ... السجن: هذه الفقرة وقعت في ر بعد الزيارة التالية، ولكنا قد مناها ليطرد السياق؛ وواضح من إيراد الزيادتين معاً أنهما نقل مباشر عن الأغاني. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 401 وكتب إليه: احتبسهما مع ابن النصرانية، يعني خالداً القسري، إن عاش أحد منهما؛ فعذبهما عذاباً شديداً وأخذ منهما مالاً عظيماً، حتى لم يبق فيهما موضع للضرب، وكان محمد بن هشام مطروحاً فإذا أرادوا أن يقيموه أخذوا بلحيته فجذبوها بها، ولما اشتد الحال بهما تحامل إبراهيم لينظر في وجه محمد فوقع عليه فماتا جميعاً ومات خالد القسري معهما في يومٍ واحد. قال إسحاق: غنيت الرشيد يوماً في عرض الغناء: أضاعوني وأي فتى أضاعوا ... ليوم كريهةٍ وسداد ثغر فقال لي: ما كان سبب العرجي حتى قال الشعر فأخبرته بخبره من أوله إلى آخره إلى أن مات فرأيته يتغير كلما مر به شيء، فأتبعه بحديث مقتل ابني هشام، فجعل وجهه يسفر وغضبه يسكن، فلما انقضى الحديث قال: يا إسحاق والله لولا ما حدثتني به من فعل الوليد لما تركت أحداً من بني مخزوم إلا قتلته بالعرجي] (1) . وقد خرجنا عن المقصود، ونرجع أن آن إلى تتمة أخبار النضر بن شميل. فمن ذلك ما حكاه الحريري " درة الغواص " (2) أيضاً في أوائل الكتاب في قوله: ويقولون للمريض (3) : مسح الله ما بك، بالسين، والصواب فيه مصح، بالصاد، فقال: ويحكى أن النضر بن شميل المزني مرض فدخل عليه قوم يعودونه، فقال: له رجل منهم يكنى أبا صالح: مسح الله ما بك، فقال: لا تقل مسح بالسين ولكن قل مصح بالصاد، أي أذهبه وفرقه، أما سمعت قول الأعشى: وإذا ما الخمر فيها أزبدت ... أفل الإزباد فيها ومصح فقال له الرجل: إن السين قد تبدل من الصاد، كما يقال الصراط والسراط،   (1) زيادة انفردت بها ر، وانظر الأغاني 1: 391 - 392. (2) درة الغواص 14 - 15. (3) للمريض: سقطت من: ق ن ر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 402 وسقر وصقر، فقال: له النضر: فإذا أنت أبو سالح؛ ويشبه هذه النادرة ما حكي أيضاً: أن بغض الأدباء جوز بحضرة الوزير أبي الحسن بن الفرات: أن تقام السين مقلم الصاد في كل موضع، فقال له الوزير: أتقرأ " جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم " " الرعد:23 " أم من سلح فخجل الرجل وانقطع؛ انتهى كلام الحريري. قلت أنا: والذي ذكره أرباب اللغة في جواز إبدال الصاد من السين: أن كل كلمة فيها سين، وجاء بعدها أحد الحروف الأربعة - وهي الطاء والخاء والغين والفاء - فيجوز إبدال السين بالصاد، فنقول في " السراط " الصراط، وفي " سخر لكم " صخر، وفي " مسغبة " مصغبة، وفي " سيقل " صيقل، وقس على هذا كله. ولم أر في شيء من كتب اللغة من ذكر هذا وحكى فيه خلافاً، سوى الجوهري في كتاب " الصحاح " في لفظة صدغ (1) ، فإنه قال: وربما قالوا السدغ بالسين، قال قطرب محمد بن المستنير: إن قوماً من بني تميم يقال لهم بلعنبر يقلبون السين صاداً عند أربعة أحرف، الطاء والقاف ولغين والخاء، إذا كن بعد السين، ولا يبالي أثانية كانت أم ثالثة أم رابعة، بعد أن تكون بعدها، يقولون: سراط وصراط، وبسطة وبصطة، سيقل صيقل، وسرقت وصرقت، ومسغبة مصغبة، ومسدغة ومصدغة، وسخر لكم، وصخر لكم، والسخب والصخب؛ انتهى كلامه في هذا الفصل. وأخبار النضر كثيرة، والاختصار أولى. وله تصانيف كثيرة، فمن ذلك (2) : كتاب في الأجناس على مثال " الغريب " وسماه: " كتاب الصفات ". قال علي بن الكوفي: الجزء الأول منه يحتوي على خلق الإنسان والجود والكرم وصفات النساء. والجزء الثاني يحتوي الأخبية والبيوت وصفة الجبال والشعاب. والجزء الثالث يحتوي على الإبل فقط والجزء الرابع يحتوي على الغنم والطير والشمس والقمر والليل والنهار والألبان والكمأة والآبار والحياض والأرشية والدلاء وصفة الخمر (3) . والجزء الخامس   (1) الصحاح 4: 1323. (2) انظر ابناه الرواة 3: 352. (3) ص ن: الحمر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 403 يحتوي على الزرع والكرم والعنب (1) وأسماء البقول والأشجار والرياح والسحاب والأمطار. وله كتاب " السلاح "، وكتاب " خلق الفرس " وكتب " الأنواء " وكتاب " المعاني " وكتاب " غريب الحديث " وكتاب " المصادر " وكتاب " المدخل إلى كتاب العين للخليل بن أحمد "، وغير من التصانيف. وتوفي في ساخ ذي الحجة سنة أربع ومائتين، وقيل في أولها، وقيل سنة ثلاث ومائتين بمدينة مرو من بلاد خراسان، وبها ولد، ونشأ بالبصرة فلذالك نسب إليها، رحمه الله تعالى. والنضر: بفتح النون وسكون الضاد المعجمة وبعدها راء. وشميل: بضم الشين المعجمة وفتح الميم وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها لام. وخرشة: بفتح الخاء المعجمة والراء والشين المعجمة. وكلثوم: بضم الكاف والثاء المثلثة وبينهما لام ساكنة. وعبدة: بفتح العين والدال المهملة وبينهما باء موحدة وهاء ساكنة. والسكب: بفتح السين المهملة وسكون الكاف وبعدها باء موحدة، وإنما قيل له " سكب " لقوله (2) : برقٌ يضيء خلال البيت أسكوب ... وحليمة: بفتح الحاء المهملة وكسر اللام وسكون الياء المثناة من تحتها وقال ابن الجوزي في كتاب " الألقاب " في ترجمة السكب: هو زهير بن عروة بن جلهمة، والله أعلم بالصواب. وجلهمة: بضم الجيم والهاء وبينهما لام ساكنة، وهو في أصل: اسم لجنب الوادي، يقال له: جلهمة، وجلهة: بفتح الجيم والهاء بغير ميم، وبه سمي الرجل. وحجر: بضم الحاء المهملة وبعدها جيم ساكنة ثم راء.   (1) والعنب: سقطت من ق: وفي الانباه: والغيث. (2) انظر التاج (سكب) والسمط: 441. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 404 وخزاعي: بضم الخاء المعجمة وفتح الزاي وبعد الألف عين مهملة مكسورة ثم ياء مشدودة تشبه ياء النسب. والباقي معروف فلا حاجة إلى ضبطه. (1) 765 الإمام أبو حنيفة أبو حنيفة النعمان بن ثابت بن زوطى بن ماه الفقيه الكوفي، مولى تيم الله ابن ثعلبة، وهو من رهط حمزة الزيات؛ كان خزازاً يبيع الخز، وجده زوطى من أهل كابل، وقيل بابل، وقيل من أهل الأنبار، وقيل من أهل نسا، وقيل من أهل ترمذ، وهو الذي مسه الرق فأعتق، وولد ثابت على الإسلام. وقال إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة: أنا إسماعيل بن حماد بن النعمان بن ثابت بن النعمان بن المرزبان، من أبناء فارس من الأحرار، والله ما وقع علينا رق قط. ولد جدي (2) سنة ثمانين، وذهب ثابت إلى علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، وهو صغير، فدعا له بالبركة فيه وفي ذريته، ونحن نرجو أن يكون الله تعالى قد استجاب ذلك لعلي فينا، والنعمان بن المرزبان أبو ثابت هو الذي أهدى لعلي بن أبي طالب، رضي الله عنه، الفالوذج في المهرجان النيروز (3) ،   (1) مصادر ترجمته أكثر من أن يحاط بها ولكنا نشير إلى تذكرة الحفاظ: 168 وتاريخ بغداد 13: 323 والجواهر المضية 1: 26 - 23 ومرآة الجنان 1: 309 وعبر الذهبي 1: 214 والشذرات 1: 227 والبداية والنهاية 10: 107 والنجوم الزاهرة 2: 12 وانظر بروكلمان (الترجمة العربية) 3: 236 - 245 وبهذه الترجمة تبدأ (ع) . (2) ر: جدي ثابت. (3) ق ن ع ص: مهرجان النيروزي؛ قلت والمهرجان غير النيروز، وسبب الاضطراب في النسخ وجود الروايتين في تاريخ بغداد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 405 فقال: مهرجونا (1) كل يوم، هكذا قال الخطيب في تاريخه، والله تعالى أعلم. وأدرك أبو حنيفة أربعة من الصحابة، رضوان الله عليهم وهم: أنس بن مالك وعبد الله بن أبي أوفى بالكوفة، وسهل بن سعد الساعدي بالمدينة، وأبو الطفيل عامر بن واثلة بكمة، ولم يلق أحداً منهم ولا أخذ عنه (2) ، وأصحابه يقولون: لقي جماعة من الصحابة وروى عنهم، ولم يثبت ذلك عند أهل النقل. وذكر الخطيب في " تاريخ بغداد " (3) أنه رأى أنس بن مالك، رضي الله عنه. وأخذ الفقه عن حماد بن أبي سليمان وسمع عطاء بن أبي رباح وأبا إسحاق السبيعي ومحارب بن دثار والهيثم بن حبيب الصواف ومحمد بن المنكدر ونافعاً مولى عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما، وهشام بن عروة وسماك بن حرب؛ وروى عنه عبيد الله بن المبارك ووكيع بن الجراح والقاضي أبو يوسف ومحمد بن الحسن الشيباني وغيرهم. وكان عاملاً زاهداً عابداً ورعاً تقياً كثير الخشوع دائم التضرع إلى الله تعالى، ونقله أبو جعفر المنصور من الكوفة إلى بغداد، فأراده على أن يوليه القضاء فأبى، فحلف أبو حنيفة أن لايفعل [فحلف المنصور ليفعلن، فحلف أبو حنيفة أن لا يفعل، وقال: إني لن أصلح إلى قضاء] (4) فقال الربيع بن يونس الحاجب: ألا ترى أمير المؤمنين يحلف فقال أبو حنيفة: أمير المؤمنين على كفارة أيمانه أقدر مني على كفارة أيماني، وأبى أن يلي، فأمر به إلى الحبس في الوقت، والعوام يدعون أنه تولى عدد اللبن أياماً ليكفر بذلك عن يمنه، ولم يصح هذا من جهة النقل. وقال الربيع: رأيت المنصور ينازل أبا حنيفة في أمر القضاء، وهو يقول: اتق الله، ولا ترعي (5)   (1) زاد في ع وهامش ص: نيرزونا، وفي بر من: مهرجونا أي نيرزونا، وتاريخ بغداد - في أحدى الروايتين: نورزونا. (2) ر ص: إلا وأخذ عنه. (3) 13: 324. (4) زيادة من المطبوعات المصرية لم ترد في المخطوطات المعتمدة، وهي واردة في تاريخ بغداد: 328. (5) هكذا في تاريخ بغداد والنسخ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 406 أمانتك إلا من يخاف الله، والله ما أنا مأمون الرضا فكيف أكون مأمون الغضب ولو اتجه الحكم عليك، ثم تهددتني أن تغرقني في الفرات أو تلي (1) الحكم لاخترت أن أغرق، ولك حاشية يحتاجون إلى من يكرمهم (2) لك، ولا أصلح لذلك، فقال له: كذبت أنت تصلح، فقال له: قد حكمت لي على نفسك، كيف يحل لك أن تولي قاضياً على أمانتك وهو كذاب وحكى الخطيب أيضاً في بعض الرويات (3) : أن المنصور لما بنى مدينته ونزلها، ونزل المهدي في الجانب الشرقي وبنى مسجد الرصافة، أرسل إلى أبي حنيفة فجيء به، فعرض عيله قضاء الرصافة فأبى، فقال له: إن لم تفعل ضربتك بالسياط، قال: أو تفعل قال: نعم، فقعد في القضاء يومين فلم يأته أحد، فلما كان في اليوم الثالث أتاه رجل صفار ومعه آخر، فقال الصفار: لي على هذا درهمان وأربعة دوانيق ثمن تور صفر (4) ، فقال أبو حنيفة: اتق الله وانظر فيما يقول الصفار، قال: ليس له علي شيء، فقال أبو حنيفة للصفار: ما تقول فقال: استحلفه لي، فقال أبو حنيفة للرجل: قل والله الذي لا إله إلا هو، فجعل يقول، فلما رآه أبو حنيفة معتمداً على أن يقول قطع عليه وضرب بيده إلى كمه، فحل صرة وأخرج درهمين ثقيلين للصفار: هذان الدرهمان عوض عن باقي تورك، فنظر الصفار إليهما وقال: نعم، فأخذ الدرهمين، فلما كان بعد يومين اشتكى أبو حنيفة فمرض ستة أيام ثم مات. وكان (5) يزيد بن عمر بن هبيرة الفزاري أمير العراقين أراده أن يلي القدر بالكوفة أيام مروان بن محمد، آخر ملوك بني أمية، فأبى عليه فضربه مائة سوط وعشرة أسواط، كل يوم عشرة أسواط، وهو على الامتناع، فلما رأى ذلك خلى سبيله. وكان أحمد بن حنبل، رضي الله عنه، إذا ذكر ذلك بكى وترحم على أبي حنيفة، وذلك بعد أن ضرب أحمد على القول بخلق القرآن.   (1) ن ر ص: ألي. (2) ق: إلى أن يكرموا. (3) تاريخ بغداد 13: 329. (4) تور صفر: وعاء نحاس. (5) تاريخ بغداد 13: 327. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 407 وقال إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة: مررت مع أبي بالكناسة فبكى، فقلت له: يا أبت ما يبكيك فقال: يا بني، في هذا الموضع ضرب ابن هبيرة أبي عشرة أيام، في كل يوم عشرة أسواط، على أن يلي القضاء، فلم يفعل. والكناسة، بضم الكاف، موضع بالكوفة. " قال الفضل بن غانم: كان أبو يوسف مريضاً شديد المرض فعاده أبو حنيفة مراراً، فصار إلى آخر مرة، فرآه ثقيلاً فاسترجع ثم قال: لقد كنت أؤملك بعدي للمسلمين ولئن أصيب الناس بك ليموتن معك علم كثير. ثم رزق العافية وخرج من الغد فأخبر أبو يوسف بقول أبي حنيفة فيه فاتفعت نفسه وانصرفت وجوه الناس إليه فعقد لنفسه مجلساً في الفقه، وقصر عن لزوم مجلس أبي حنيفة فسأل عنه فأخبر أنه عقد مجلساً وأنه يلقي كلامك فيه، فدعا رجلاً كان له عنده قدر فقال: سر إلى مجلس يعقوب فقل له: ما تقول في رجل دفع إلى قصار ثوباً ليقصره بدرهم إليه بعد أيام في طلب الثوب، فقال له القصار: ما لك عندي شيء وأنكره، ثم إن رب الثوب رجع إليه فدفع له الثوب مقصوراً، أله أجرة فإن قال لك: له أجرة فقل له أخطأت، وإن قال: لا أجرة له فقل: أخطأت؛ فسار إليه وسأله، فقال أبو يوسف: له أجرة، فقال: أخطأت، فنظر ساعة ثم قال: لا أجرة له، فقال له: أخطأت، فقام أبو يوسف من ساعته فأتى أبا حنيفة فقال: ما جاء بك إلى مسألة القصار، قال: أجل، قال: سبحان الله، من قعد بفتي الناس وعقد مجلساً يتكلم في دين الله وهذا قدره، لا يحسن أن يجيب في مسألة من الاجارات فقال: يا أبا حنيفة، علمني، فقال: إن كان قصره بعدما غصبه فلا أجرة لاأنه قسر لصاحبه؛ ثم قال: من ظن أنه يستغني عن التعلم فلبيك على نفسه " (1) . وكان أبو حنيفة حسن الوجه حسن المجلس، شديد الكرم حسن المواساة لإخوانه، وكان ربعة من الرجال، وقيل كان طوالا تعلوه سمرة، أحسن   (1) زيادة من ر، ويبدو أنها مقحمة، لأن سياق الترجمة حتى هذا الحد كان تلخيصاً مرتباً عن تاريخ بغداد، وهذه الحكاية تجيء في ص: 349 من تاريخ الخطيب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 408 الناس منطقاً وأحلامهم نغمة. وذكر الخطيب في تاريخه (1) أن أبا حنيفة رأى في المنام كأنه ينبش قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، فبعث من سأل ابن سيرين، فقال ابن سيرين: صاحب هذه الرؤيا يثور (2) علماُ، لم يسبقه أحد قبله. قال الشافعي (3) ، رضي الله عنه، قيل لمالك: هل رأيت أبا حنيفة فقال: نعم، رأيت رجلاً لو كلمك في هذه السارية أن يجعلها ذهباً لقام بحجته. وروى حرملة بن يحيى عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال (4) : الناس عيال على هؤلاء الخمسة، من أراد أن يتبحر في الفقه فهو عيال على أبي حنيفة، وكان أبو حنيفة ممن وفق له الفقه، ومن أراد أن يتبحر في الشعر فهو عيال على زهير بن أبي سلمى، ومن أراد أن يتبحر في المغازي فهو عيال على محمد بن إسحاق، ومن أراد أن يتبحر في النحو فهو عيال على الكسائي، ومن أراد أن يتبحر في التفسير فهو عيال على مقاتل بن سليمان، هكذا نقله الخطيب في تاريخه. وقال يحيى بن معين: القراءة عندي قراءة حمزة، والفقه فقه أبي حنيفة على هذا أدركت الناس. وقال جعفر بن الربيع: أقمت على أبي حنيفة خمس سنين، فما رأيت أطول صمتاً منه، فإذا سئل عن الفقه تفتح وساهل كالوادي، وسمعت له دوياً وجهارة في الكلام. وكان إماماً في القياس؛ قال علي بن عاصم (5) : دخلت على أبي حنيفة وعنده حجام يأخذه من شعره، فقال للحجام: تتبع مواضع البياض، فقال الحجام: لا تزد، فقال: ولم قال لأنه يكثر، قال فتتبع مواضع السواد لعله يكثر، وحكيت لشريك هذه الحكاية فضحك وقال: لو ترك أبو حنيفة قياسه لتركه مع الحجام.   (1) تاريخ بغداد 13: 335. (2) ق: يثير. (3) تاريخ بغداد 13: 337 - 338. (4) تاريخ بغداد 13: 346. (5) تاريخ بغداد 13: 747. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 409 وقال عبد الله بن رجاء (1) : كان لأبي حنيفة جار بالكوفة إسكاف، يعمل نهاره أجمع، حتى إذا جنه الليل رجع إلى منزله، وقد حمل لحماً فطبخه أو سمكة فيشويها ثم لا يزال يشرب، حتى إذا دب الشراب فيه غرد بصوت، وهو يقول: أضاعوني وأي فتى أضاعوا ... ليوم كريهة وسداد ثغر فلا يزال يشرب ويردد هذا البيت حتى يأخذه النوم، وكان أبو حنيفة يسمع جلبته كل ليلة، وأبو حنيفة كان يصلي الليل كله، ففقد أبو حنيفة صوته فسأل عنه، فقيل: أخذه العسس منذ ليال وهو محبوس، فصلى أبو حنيفة صلاة الفجر من غدٍ، وركب بغلته، واستأذن على الأمير، فقال الأمير: ايذنوا له وأقبلوا به راكباً ولا تدعوه ينزل حتى يطأ البساط ببغلته (2) ، ففعل، ولم يزل الأمير يوسع له في مجلسه، وقال: ما حاجتك فقال: لي جار إسكاف أخذه العسس منذ ليال، يأمر الأمير بتخليته، فقال: نعم، وكل من أخذ في تلك الليلة إلى يومنا هذا، فأمر بتخليتهم أجمعين، فركب أبو حنيفة والإسكاف يمشي وراءه، فلما نزل أبو حنيفة مضى إليه وقال: يا فتى أضعناك فقال: لا، بل حفظت ورعيت جزاك الله خيراً عن حرمة الجوار ورعاية الحق، وتاب الرجل ولم يعد إلى ما كان عليه. وقال ابن المبارك (3) : رأيت أبا حنيفة في طريق مكة، وشوي لهم فصيل سمين، فاشتهوا أن يأكلوه بخل فلم يجدوا شيئاً يصبون فيه الخل، فتحيروا، فرأيت أبا حنيفة وقد حفر في الرمل (4) حفرة وبسط عليها السفرة، وسكب الخل على ذلك الموضع، فأكلوا الشواء بالخل، فقالوا: تحسن كل شيء، فقال: عليكم بالشكر، فإن هذا شيء ألهمته لكم فضلاً من الله عليكم.   (1) انظر القصة في تاريخ بغداد 13: 362 والأغاني 1: 389. (2) ببغلته: سقطت من ع ر والمختار وتاريخ بغداد. (3) تاريخ بغداد 13: 365. (4) ع: الأرض. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 410 " وحكى الحسن بن زياد قال: دفن رجل مالاً في موضع، ثم نسي في أي موضع دفنه فلم يقع عليه، فجاء إلى أبي حنيفة فشكا إليه فقال له أبو حنيفة: ما هذا فقه فأحتال لك، ولكن اذهب فصل الليلة، ففعل الرجل، ولم يقم إلا أقل من ربع الليل حتى ذكر الموضع، فجاء إلى أبي حنيفة فأخبره، فقال له: قد علمت أن الشيطان لا يدعك تصلي حتى يذكرك، فهلا أتممت ليلتك شكراً لله عزوجل. وقال ابن شبرمة: كنت شديد الازراء على أبي حنيفة، فحضرالموسم وكنت حاجاً يومئذ، فاجتمع إليه قوم يسألونه، فوقفت من حيث لا يعلم من أنا، فجاءه رجل فقال: يا أبا حنيفة: قصدتك أسألك عن أمر أهمني وأزعجني قال: وما هو قال: لي ولد وليس لي غيره، فإن زوجته طلق، وإن سريته أعتق، وقد عجزت عن هذا فهل من حيلة قال له: نعم اشتر الجارية التي يرضاها لنفسه ثم زوجها منه، فإن طلق رجعت إليك مملوكتك وإن أعتق أعتق ما لايملك، وإن ولدت ثبت نسبه لك، فامت أن الرجل فقيه من يومئذ وكففت عن ذكره إلا بخير " (1) . وقال ابن المبارك أيضاً: قلت لسفيان الثوري: يا أبا عبد الله، ما أبعد أبا حنيفة عن الغيبة، ما سمعته يغتاب عدواً له قط، فقال: هو أعقل من أن يسلط على حسناته ما يذهبها (2) . وقال أبو يوسف (3) : دعا أبو جعفر المنصور أبا حنيفة، فقال الربيع صاحب المنصور، وكان يعادي أبا حنيفة: يا أمير المؤمنين، هذا أبو حنيفة يخالف جدك، كان عبد الله بن عباس رضي الله عنهما يقول: إذا حلف على اليمين ثم استثنى بعد ذلك بيوم أو بيومين جاز الإستثناء، وقال أبو حنيفة: لا يجوز الاستثناء إلا متصلاً باليمين، فقال أبو حنيفة: يا أميرالمؤمنين، إن الربيع يزعم أنه ليس لك في رقاب جندك بيعة، قال: وكيف قال: يحلفون لك   (1) زيادة انفردت بها ر. (2) وقال ابن المبارك ... يذهبها: سقط من ع. (3) تاريخ بغداد: 365. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 411 ثم يرجعون إلى منازلهم فيستثنون فتبطل أيمانهم، فضحك المنصور وقال: يا ربيع، لا تتعرض لأبي حنيفة، فلما خرج أبو حنيفة قال له الربيع: أردت أن تشيط بدمي، قال: لا، ولكنك أردت أن تشيط بدمي فخلصتك وخلصت نفسي. وكان أبو العباس (1) الطوسي سيء الرأي في أبي حنيفة، وكان أبو حنيفة يعرف ذلك، فدخل أبو حنيفة على المنصور، وكثر الناس، فقال الطوسي: اليوم أقتل أبا حنيفة، فأقبل عليه فقال: يا أبا حنيفة، إن أمير المؤمنين يدعو الرجل فيأمره بضرب عنق الرجل لا يدري ما هو، أيسعه أن يضرب عنقه فقال: يا أبا العباس أمير المؤمنين يأمر بالحق أم الباطل فقال: بالحق، قال: أنقذ الحق حيث كان ولا تسأل عنه؛ ثم قال أبو حنيفة لمن قرب منه: إن هذا أراد أن يوثقني (2) فربطته. وقال يزيد بن الكميت (3) : كان أبو حنيفة شديد الخوف من الله تعالى، فقرأ بنا علي بن الحسن (4) المؤذن ليلة العشاء الأخيرة سورة " إذا زلزلت " وأبو حنيفة خلفه، فلما قضى الصلاة وخرج الناس نظرت إلى أبي حنيفة وهو جالس يتفكر ويتنفس، فقلت: أقوم لا يشتغل قلبه بي، فلما خرجت تركت القنديل ولم يكن فيه إلا زيت قليل، فجئت وقد طلع الفجر وهو قائم وقد أخذ بلحية نفسه، وهو يقول: يا من يجزي بمثقال ذرة خيرً خيراً، ويا من يجزي بمثقال ذرة شر شراً، أجر النعمان عبدك من النار، ومما يقرب منها من السوء، وأدخله في سعة رحمتك، قال: فأذنت (5) وإذا القنديل يزهر وهو قائم، فلما دخلت قال لي: تريد أن تأخذ القنديل، قلت: قد أذنت لصلاة الغداة، فقال: اكتم علي ما رأيت، وركع ركعتين وجلس حتى أقمت الصلاة وصلى معنا الغداة على وضوء أول الليل.   (1) المصدر السابق نفسه. (2) ن ص: يوبقتي. (3) تاريخ بغداد: 357. (4) ع ر ن ق: الحسن. (5) ر: فدنوت. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 412 وقال أسد بن عمرو (1) : صلى أبو حنيفة فيما حفظ عليه صلاة الفجر بوضوء صلاة العشاء أربعين سنة، وكان عامة ليلة يقرأ جميع القرآن في ركعة واحدة وكان يسمع بكاؤه في الليل حتى يرحمه جيرانه، وحفظ عليه أنه ختم القرآن في الموضع الذي توفي فيه سبعة آلاف مرة. وقال إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة عن أبيه (2) : لما مات أبي سألنا الحسن ابن عمارة أن يتولى غسله ففعل، فلما غسله قال: رحمك الله وغفر لك! لم تفطر منذ ثلاثين سنة، ولم تتوسد يمينك في الليل منذ أربعين سنة، وقد أتعبت من بعدك، وفضحت القراء. ومناقبه وفضائله كثيرة، وقد ذكر الخطيب في تاريخه منها شيئاً كثيراً، ثم أعقب ذلك بذكر ما كان الأليق في تركه والإضراب عنه، فمثل هذا الإمام لا يشك في دينه، ولا في روعه وتحفظه (3) ، ولم يكن يعاب بشيء سوى قلة العربية، فمن ذلك ما روي أن أبا عمرو بن العلاء المقرىء النحوي - المقدم ذكره - سأله عن القتل بالمثل: هل يوجب القود أم لا قفال: لا، كما هو قاعدة مذهبه خلافاً للإمام الشافعي رضي الله عنه، فقال له أبو عمرو: ولو قتله بحجر المنجنيق، فقال: ولو قتله بأبا قبيس، يعني الجبل المطل على مكة حرسها الله تعالى. وقد اعتذروا عن أبي حنيفة بأنه قال ذلك على لغة من يقول: إن الكلمات الست المعربة بالحروف - وهي أبوه وأخوه وحموه وهنوه وفوه وذو مال - أن إعرابها يكون في الأحوال الثلاث بالألف، وأنشدوا في ذلك: إن أباها وأبا وأباها ... قد بلغنا في المجد غايتاها وهي لغة الكوفيين، وأبو حنيفة من أهل الكوفة، فهي لغته، والله أعلم. وهذا وإن كان خروجاً عن المقصود لكن الكلام ارتبط بعضه ببعض فانتشر. وكانت ولادة أبي حنيفة سنة ثمانين للهجرة (4) ، وقيل سنة إحدى وستين،   (1) تاريخ بغداد: 354. (2) المصدر نفسه. (3) ص ن: ولا في تحفظه. (4) زاد في ر: وقيل سنة سبعين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 413 والأول أصح، وتوفي في رجب، وقيل في شعبان سنة خمسين ومائة، وقيل لأحدى عشرة ليلة خلت من جمادى الأولى من السنة، وقيل إحدى وخمسين وقيل ثلاث وخمسين، والأول أصح؛ وكانت وفاته في السجن ليلي القضاء فلم يفعل، هذا هو الصحيح، وقيل إنه لم يمت في السجن، وقيل توفي في اليوم الذي ولد فيه الإمام الشافعي رضي الله عنهما، ودفن بمقبرة الخيرزان، وقبره هناك مشهور يزار. وزوطى: بضم الزاي وسكون الواو وفتح الطاء المهملة وبعدها ألف مقصورة، وهو اسم نبطي. وكابل: بفتح الكاف وضم الباء الموحدة بعد الألف وبعدها لام، وهي ناحية معروفة من بلاد الهند ينسب إليها جماعة من العلماء وغيرهم. وأما بابل والأنبار فهما معروفان فلا حاجة إلى الكلام عليهما. (286) وبنى شرف الملك أبو سعد (1) محمد بن منصور الخوارزمي مستوفي مملكة السلطان ملك شاه السلجوقي على قبر الإمام أبي حنيفة مشهداً وقبة، وبنى عنده مدرسة كبيرة للحنيفة، ولما فرغ من عمارة ذلك ركب إليها في جماعة من الأعين ليشاهدوها، فبينما هم هناك إذ دخل عليهم الشريف أبو جعفر سعود المعروف بالبياض الشاعر - المقدم ذكره - وأنشده: ألم تر أن العلم كان مبدداً ... فجمعه هذا المغيب في اللحد كذلك كانت هذه الأرض ميتة ... فأنشرها فعل العميد أبي سعد فأجازه أبو سعد جائزة سنية. ولهذا أبي سعد مدرسة بمدينة مرو، وله عدة ربط وخانات في المفاوز، وكان كثير الخير وعمل المعروف، وانقطع في آخر عمره عن الخدمة ولزم بيته، وكانوا يراجعونه في الأمور، وتوفي في المحرم سنة أربع وستين وأربعمائة بأصبهان، رحمه الله تعالى. وكان بناء المشهد والقبة في سنة تسع وخمسين وأربعمائة، وقد تقدم في ترجمة   (1) ر: أبو سعيد، وقد وقع كذلك أحياناً في ق؛ والشعر يضبطه ((أبو سعد)) أنظر البيتين التاليين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 414 ألب أرسلان محمد والد السلطان ملك شاه أنه بنى مشهداً على قبر الإمام أبي حنيفة، وكذلك وجدته في بعض التواريخ، وقد غاب عني الآن من أين نقلته، ثم وجدت بعد ذلك أن الذي بنى مشهداً والقبة أبو سعد المذكور، والظاهر أن أبا سعد بناهما نيابة عن ألب أرسلان المذكور، وهو كان المباشر كما جرت عادة النواب مع ملوكهم، فتسبت العمارة إليه بهذه الطريق، ويدل على ذلك أن تاريخ العمارة في أيام ألب أرسلان، أبو سعد كان مستوفياً في أيامه، ثم استمر على وظيفته في أيام ولده ملك شاه، وهذا إنما ذكرته لنجمع بين النقلين، والله أعلم. 766 - (1) القاضي النعمان أبو حنيفة النعمان بن أبي عبد الله محمد بن المنصور بن أحمد بن حيون (2) ، أحد الأئمة الفضلاء المشار إليهم، ذكره الأمير المختار المسبحي في تاريخه فقال: كان من أهل العلم والفقه والدين والنبل على ما لا مزيد عليه، وله عدة تصانيف: منها كتاب " اختلاف أصول المذاهب " وغيره، انتهى كلام المسبحي في هذا الموضع. وكان مالكي المذهب ثم انتقل إلى مذهبه الإمامية، وصنف (3) كتاب " ابتداء   (1) ترجمته وأخباره في اتعاظ الحنفا: 149 ولسان الميزان 6: 167 والنجوم الزاهرة 4: 106 والكندي: 286 ومرآة الجنان 2: 379 والشذرات 3: 47 وروضات الجنات: 727 ومقدمة الكتاب ((الهمة في آداب أتباع الأئمة)) وكتاب ((دعائم الإسلام)) وبروكلمان (الترجمة العربية) 3: 341 - 342 وIvanov: A Guide to Ismaili Literature وقد أوجز صاحب المختار فيما اختاره من هذه الترجمة كثيراً. (2) ق ر ن: حيوان. (3) اختلاف: سقطت من ق ن. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 415 الدعوة للعبيديين " (1) وكتاب " الأخبار " في الفقه، وكتاب " الاقتصار " (2) في الفقه أيضاً. وقال ابن زولاق في كتاب " أخبار قضاة مصر " في ترجمة أبي الحسن علي بن النعمان المذكور، ما مثاله: وكان أبوه النعمان بن محمد القاضي في غاية الفضل، من أهل القرآن والعلم بمعانيه، وعالماً بوجوه الفقه وعلم اختلاف الفقهاء واللغة والشعر الفحل والمعرفة بأيام الناس، مع عقل وإنصاف (3) ، وألف لأهل البيت من الكتب آلاف أوراق بأحسن تأليف وأملح سجع، وعمل في المناقب والمثالب كتاباً حسناً، وله ردود على المخالفين: له رد على أبي حنيفة وعلى مالك والشافعي وعلى ابن سريج، وكتاب " اختلاف الفقهاء " ينتصر فيه لأهل البيت رضي الله عنهم، وله القصيدة الفقيهة لقبها بالمنتخبة. زكان أبو حنيفة المذكور ملازماً صحبة المعز أبي تميم معد بن منصور - المقدم ذكره - ولما وصل من إفريقية إلى الديار المصرية كان معه، ولم تطل مدته، ومات فيمستهل رجب سنة ثلاث وستين وثلثمائة بمصر. وذكر أحمد بن محمد بن عبد الله الفرغاني في " سيرة القائد جوهر " أنه توفي في ليلة الجمعة سلخ جمادى الآخرة من السنة (4) ، وصلى عليه المعز، وذكر ابن زولاق في تاريخه بعد ذكر وفاة المعز وذكر أولاده وقضاة المعز فقال: قاضية الواصل معه من المغرب أبو حنيفة النعمان بن محمد الداعي، ولما وصل إلى مصر وجد جوهراً قد استخلف على القضاء أبا طاهر الذهلي النغدادي فأقره، انتهى كلام ابن زولاق. (287) وكان والده أبو عبد الله محمد قد عمر، ويكي أخباراً كثيرة نفيسة حفظها وعمره أربع سنين، وتوفي في رجب سنة إحدى وخمسين وثلثمائة، وصلى عليه ولده أبو حنيفة المذكور، ودفن في باب سلم، وهو أحد أبواب القيروان، وكان عمره مائة وأربع سنين.   (1) نشر باسم ((رسالة افتتاح الدعوة)) تحقيق الآنسة وداد القاضي (دار الثقافة، بيروت 1970) . (2) ع: الانتصار. (3) ر: مع العقل والإنصاف. (4) وذكر أحمد ... السنة: سقط من ع. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 416 (288) وكان لأبي حنيفة أولاد نجباء سروات، فمنهم أبو الحسن علي بن النعمان (1) ، أشرك المعز المذكور بينه وبين أبي طاهر محمد بن أحمد بن عبد الله بن نصر بن يجير بن صالح بن أسامة الذهلي قاضي مصر في الحكم، ولم يزل مشتركين فيه إلى أن توفي المعز، وقام بالأمر ولده العزيز نزار - وقد تقدم ذكره أيضاً - فرد إلى القاضي أبي الحسن المذكور أمر الجامعين ودار الضرب، وهما على الاشتراك في الحكم، واستمروا على ذلك إلى أن لحقت القاضي أبا طاهر المذكور رطوبة عطلت شقه ومنعته من الحركة والسعي إلا محمولاً، فركب العزيز المذكور إلى الجزيرة التي بين مصر والجيزة في مستهل صفر سنة ست وستين وثلثمائة، فحمل أبو طاهر إليه، فلقيه الشهود معه عند باب الصناعة، فرآه نحيلاً، وسأله استخلاف ولده أبي العلاء بسب ما يجده من الضعف، فحكى عن العزيز أنه قال: ما بقي إلا أن تقددوه. ثم قلد العزيز ثالث هذا اليوم القاضي أبا الحسن علي بن النعمان المذكور القضاء مستقلاً فركب إلى الجامع القاهرة، وقرىء سجله، ثم عاد إلى الجامع العتيق بمصر وقرىء سجله، وكان القارىء أخاه أبا عبد الله محمد ابن النعمان، وكان في سجله القضاء بالديار المصرية والشام والحرمين والمغرب وجميع مملكة العزيز والخطابة والإمامة والعيار في الذهب والفضة، والموازين والمكاييل، ثم انصرف إلى داره في جمع عظيم، ولم يتأخر عنه أحد، وأقام القاضي أبو طاهر المذكور منقطعاً في بيته عليلاً، وأصحاب الحديث يترددون إليه ويسمعون عليه، إلى أن توفي سلخ ذي القعدة سنة سبع وسيتن وثلثمائة، وسنة ثمان وثمانون سنة، ومدة ولايته ست عشرة سنة وسبعة عشر يوماً، وأذن له العزيز أيضاً أن ينظر في الأحكام في هذه المدة، فلم يكن فيه فضل، وكان قد حكم في الجانب الغربي ببغداد أيضاً مدة ثم انتقل إلى مصر. ثم إن القاضي أبا الحسن استخلف في الحكم أخاه أبا عبد الله محمداً، وفوض إليه الحكم بدمياط وتينس والفرما والجفار، فخرج إليها واستخلف بها ثم عاد، ثم سافر العزيز إلى الشام في سنة سبع وستين، وسافر معه القاضي أبو الحسن المذكور، وجلس أخوه محمد مكانه للحكم بين الناس.   (1) انظر ترجمته في رفع الأصر: 407. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 417 وكان القاضي أبو الحسن المذكور مفنناً في عدة فنون، منها علم القضاء والقيام به بوقار وسكينة، وعلم الفقه والعربية والأدب والشعر وأيام الناس، وكان شاعراً مجيداً في الطبقة العليا، ومن شعره ما رواه له أبو منصور الثعالبي في كتاب " يتيمة الدهر " (1) وهو قوله: ولي صديق ما مسني عدم ... مذ وقعت عينه على عدمي أغنى وأقنى وما يكلفني ... تقبيل كف له ولا قدم قام بأمري لما قعدت به ... ونمت عن حاجتي ولم ينم وأورد له الثعالبي أيضاً في المعنى (2) : صديقٌ لي له أدب ... صداقة مثله نسب رعى لي فوق ما يرعى ... وأوجب فوق ما يجب فلو نقدت خلائقه ... لبهرج عندها الذهب وأورد له أبو الحسن الباخزري - المقدم ذكره - في كتاب " دمية القصر " (3) وأوردها أيضاً أبو محمد ابن زولاق في كتاب " أخبار قضاة مصر " في ترجمة أبي الحسن المذكور، أبياتاً أحسن فيها كل الإحسان، وهي: رب خود عرفت في عرفات ... سلبتني بحسنها حسناتي حرمت حين أحرمت نوم عيني ... واستباحت حماي باللحظات وأفاضت مع الحجيج ففاضت ... من جفوني سوابق العبرات ولقد أضرمت على القلب جمراً ... محرقاً إذ مشت إلى الجمرات لم أنل من منى منى النفس حتى (4) ... خفت بالخيف أن تكون وفاتي   (1) اليتيمة 1: 400. (2) المصدر السابق: 401. (3) لم ترد في المطبوعة. (4) بر ص: لكن. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 418 ولم يزل أبو الحسن المذكور مستمراً على أحكامه، وافر الحرمة عند العزيز، حتى أصابته الحمى وهو بالجامع ينظر في الأحكام، فقام من وقته ومضى إلى داره، وأقام عليلاً أربعة عشر يوماً، وتوفي في الإثنين لست خلون من رجب (1) سنة أربع وسبعين وثلثمائة، وأخرج تابوته من الغد إلى العزيز وهو معسكر بسطح الجب عند الموضع المعروف الآن بالبركة، فوضع التابوت بالمسجد المعروف بالبئر والجميزة، وسار العزيز إليه من مخيمه حتى وصل عليه في المسجد، وردت الجنازة إلى داره بالحمراء فدفن فيها. والحمراء: محلة بمصر، وهي ثلاث حمراوات، وإنما قيل لها الحمراء لنزول الروم بها. وأرسل العزيز إلى أخيه أبي عبد الله محمد - المذكور في هذه الترجمة - وكان ينوب عن أخيه أبي الحسن كما ذكرنا، فقال له: إن القضاء لك من بعد أخيك، ولا تخرجه عن هذا البيت. وكانت مدة ولاية أبي الحسن تسع سنين وخمسة أشهر وأربعة أيام. وكانت ولادته بالمغرب، في شهر ربيع الأول سنة تسع وعشرين وثلثمائة، رحمه الله تعالى. (289) وأقامت مصر بغير قاض ينظر فيها ثمانية عشر يوماً لأن أبا عبد الله مان مريضاً، ثم أخف عنه المرض فركب في وقته إلى معسكر العزيز يوم الخميس لثمان بقين من رجب، ثم عاد من عنده إلى الجامع العتيق بمصر في يوم الجمعة وقد قلده العزيز القضاء وخلع عليه وقلده سفياً، فلم يقدر على النزول في الجامع لضعفه من العلة، فسار إلى داره، ونزل ولده وجماعة من أهل بيته إلى الجامع العتيق بمصر، وقرىء سجله بعد صلاة الجمعة، وكان مثل سجل أخيه أبي الحسن في جميع ولايته. وفي ذي القعدة سنة أربع وسبعين وثلثمائة استخلف ولده أبا القاسم عبد العزيز على القضاء بالإسكندرية بأمر العزيز، وخلع عليه العزيز. وفي يوم الجمعة مستهل جمادى الأولى سنة خمس وسبعين عقد القاضي محمد بن النعمان المذكور نكاح ولده أبي القاسم عبد العزيز المذكور على ابنة القائد أبي   (1) بر: سادس شهر رجب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 419 الحسن جوهر - المقدم ذكره في حرف الجيم - وكان العقد في مجلس العزيز ولم يحضره إلا خواصه، وكان الصداق ثلاثة آلاف دينار، والكتاب ثوباً مصمتاً. وكان المعز أبو تميم معد والد العزيز المذكور قد تقدم وهو بالمغرب إلى القاضي أبي حنيفة النعمان المذكور في أول الترجمة بعمل اسطرلاب فضة، وأن يجلس مع الصائغ أحد ثقاته، فأجلس أبو حنيفة ولده المذكور محمداً، فلما فرغ الاسطرلاب حمله أبو حنيفة إلى المعز، فقال له: من أجلست معه فقال: ولدي محمداً، فقال: هو قاضي مصر، فكان كما قال، لأن المعز كانت تحدثه نفسه أبداً بأخذ مصر، فلهذا تلفظ بهذا الكلام، ورافقته السعادة مع المقادير. وقال القاضي محمد المذكور: كان المعز إذا رآني وأنا صبي بالمغرب يقول لولده العزيز: هذا قاضيك. وكان محمد جيد المعرفة بالأحكام مفنناً في علوم كثيرة حسن الأدب والدراية بالأخبار والشعر وأيام الناس، وله شعر، فمن ذلك قوله: أيا مشبه البدر بدر السماء ... لسبع وخمسٍ مضت واثنتين ويا كامل الحسن في نعته ... شغلت فؤادي وأسهرت عيني فهل لي من مطمعٍ أرتجيه ... وإلا انصرفت بخفي حنين ويشمت بي شامت في هواك ... ويفصح لي ظلت صفر اليدين فإما مننت وإما قتلت ... فأنت القدير على الحالتين وكتب إليه عبد الله بن الحسن الجعفري السمرقندي: تعادلت القضاة علاً فأما ... أبو عبد الإله فلا عديل وحيدٌ في فضائله غريبٌ ... خطيرٌ في مفاخرة جليل تألق بهجةً ومضى اعتزاماً ... كما يتألق السيف الصقيل فيقضي والسداد له حليف ... ويعطي والغمام له رسيل لو اختبرت قضاياه لقالوا ... يؤيده عليها جبرئيل إذا رقي المنابر فهو قس ... وأن حضر المشاهد فالخليل فكتب إليه القاضي محمد المذكور: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 420 قرأنا من قريضك ما يروق ... بدائع حاكها طبعٌ رقيق كأن سطورها روضٌ أنيقٌ ... تضوع بينها مسكٌ فتيق إذا ما أنشدت أرجت وطابت ... منازلها بها حتى الطريق وإنا تائقون إليك فاعلم ... وأنت إلى زيارتنا تتوق فواصلنا بها في كل يومٍ ... فأنت بكل مكرمةٍ حقيق وقال ابن زولاق في " أخبار قضاة مصر ": ولم نشاهد بمصر لقاض من القضاة من الرياسة ما شاهدناه (1) لمحمد بن النعمان، ولا بلغنا ذلك عن قاض بالعراق، ووافق ذلك استحقاقاً، لما فيه من العلم والصيانة والتحفظ وإقامة الحق والهيبة. وفي المحرم سنة ثلاث وثمانين وثلثمائة استخلف ولده أبا القاسم عبد العزيز المذكور في الأحكام بالقاهرة ومصر على الدوام، بعد أن كان ينظر فيها يوم الإثنين والخميس لا غير، فصار يسمع البينات ويحكم ويسجل، وكان يخلفه أولاً ولد أخيه، وهو أبو عبد الله الحسين بن علي بن النعمان، فصرفه لعشر خلون من جمادى الأولى سنة سبع وسبعين، واستخلف ولده أبا القاسم عبد العزيز المذكور في الإثنين والخميس خاصة. وارتفعت رتبة القاضي محمد عند العزيز حتى أصعده معه إلى المنبر يوم عيد النحر سنة خمي وثمانين، ولما توفي العزيز في الناريخ المذكور في ترجمته تولى غسله القاضي محمد المذكور، وقام بالأمر من بعده ولده الحاكم - المقدم ذكره - فأقر القاضي محمداً على أشغاله، وزادت منزلته عنده رفعة وبسط يده. ولما حصلت له المنزلة والمكنة من الدولة كثرت علله ولازمه النقرس والقولنج، فكان أكثر أوقاته عليلاً، والأستاذ أبو الفتوح براجوان - المقدم ذكره - على جلالته وعظم شأنه يعوده كل وقت، ثم تزايدت علته وتوفي ليلة الثلاثاء بعد العشاء الآخرة رابع صفر سنة تسع وثمانين وثلثمائة؛ وركب الحاكم إلى داره بالقاهرة، وصلى عليه فيها ووقف على دفنه ثم انصرف إلى قصره.   (1) ق ر: ما شهدناه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 421 كانت ولادته يوم الأحد لثلاث خلون من صفر سنة أربعين وثلثمائة بالمغرب. ووهب الحاكم داره لبعض أصحابه، فنقل القاضي محمد المذكور إلى داره التي بمصر يوم الأربعاء لتسع خلون من شهر رمضان من هذه السنة، ثم نقل عيشة الجمعة لعشر خلون من شهر رمضان المذكور إلى مقبرة أخيه وأبيه بالقرافة، رحمهم الله تعالى. (290) ولما مات القاضي محمد أبو عبد الله المذكور أقامت مصر بغير قاض أكثر من شهر، ثم قلد الحاكم صاحب مصر القضاة أبا عبد الله الحسين بن علي بن النعمان (1) الذي كان ينوب عن عمه القاضي محمد أبي عبد الله المذكور وصرفه واستخلف ولده أبا القاسم عبد العزيز - وقد تدم ذكر ذلك في هذه الترجمة - وكانت ولاية الحسين المذكور لست خلون من شهر ربيع الأول سنة تسع وثمانين وثلثمائة، واستمر في الحكم إلى يوم الخميس سادس عشر شهر رمضان سنة أربع وتسعين، فصرف بابن عمه أبي القاسم عبد العزيز بن محمد - المقدم ذكره - ثم ضربت عنق الحسين بن علي النعمان المذكور يوم الأحد سادس المحرم سنة خمس وتسعين في حجرته، وأحرقت جثته، وذلك بأمر الحاكم، لقصة يطول شرحها (2) . (291) واستقل أبو القاسم (3) في الأحكام، وضم إليه الحاكم النظر في المظالم، ولم يجتمعا قبله لأحد من أهله، وعلت رتبته عند الحاكم وأصعده معه علة المنبر يوم عيد الفطر بعد قائد القواد، وكذلك في عيد النحر، وتصلب في الأحكام، وتشدده على من عانده (4) من روساء الدولة، ورسم على جماعة ممن وجب عليه حق فامتنع من الخروج منه. ولم يزل قاضياً في جميع ما فوضه إليه الحاكم، إلى أن صرفه عن ذلك جميعه يوم الجمعة سادس عشر رجب سنة ثمان وتسعين وثلثمائة. وفوض القضاء إلى أبي الحسن مالك بن سعيد بن مالك الفارقي، وأخرجه عن أهل بيت النعمان.   (1) انظر ترجمته الحسين بن علي في رفع الاصر: 207. (2) راجع أسباب مقتله في رفع الاصر: 211. (3) أنظر ترجمته عبد العزيز في رفع الاصر: 359. (4) ق ع: عازه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 422 ثم إن الحاكم أمر الأتراك بقتل القاضي أبي القاسم عبد العزيز المذكور والقائد أبي عبد الله الحسين بن جوهر وأبي علي إسماعيل أخي القائد فضل بن صالح، فقتلوهم ضرباً بالسيوف في ساعة واحدة، لأمر يطول شرحه، وذلك يوم الجمعة الثاني والعشرين منجمادى الآخرة سنة إحدى وأربعمائة، رحمهم الله تعالى؛ وكانت ولادة أبي القاسم عبد العزيز المذكور يوم الإثنين مستهل ربيع الأول سنة أربع وخمسين وثلثمائة. (292) وأما القاضي أبو طاهر المذكور، فقال أبو منصور أحمد عبد الله بن أحمد الفرغاني المصري في تتاريخه: إنه كان كثير الرواية حسن المجالسة، شيخ مع الشيوخ، كهل مع الكهول، شاب مع الشباب. وتوفي لليلة بقيت من ذي القعدة سنة سبع وستين وثلثمائة، رحمهم الله تعالى. 767 - (1) السيدة نفيسة السيدة نفيسة ابنة أبي محمد الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب، رضي الله عنهم أجمعين؛ دخلت مصر مع زوجها إسحاق بن جعفر الصادق رضي الله عنه، وقيل بل دخلت مصر مع أبيها الحسن وإن قبره بمصر لكنه غير مشهور، وإنه كان والياً على المدينة من قبل أبي جعفر المنصور، وأقام بالولاية مدة خمس سنين، ثم غضب عليه فغزله واستصفى كل شيء له وحبسه ببغداد، فلم يزل محبوساً حتى مات المنصور وولي المهدي فأخرجه من محبسه ورد عليه كل شيء ذهب له، ولم يزل معه. فلما حج المهدي كان في جملته، فلما انتهى إلى الحاجر مات هناك، وذلك   (1) ترجمتها في الفوات 2: 607 والنجوم الزاهرة 2: 185 ومرآة الجنان 2: 43 وعبر الذهبي 1: 355 والشذرات 2: 21 وخطط مبارك 5: 135 وحسن المحاضرة 1: 218. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 423 في سنة ثمان وستين ومائة، وهو ابن خمس وثمانين سنة، وصلى عليه علي بن المهدي. - والحاجر على خمسة أميال من المدينة - وقيل إنه توفي ببغداد ودفن بقبرة الخيرزان، والصحيح أنه مات بالحاجر، هكذا قال الخطيب في تاريخه، والله أعلم. وكانت نفيسة من النساء الصالحات التقيات، ويروى أن الإمام الشافعي، رضي الله عنه، لما دخل مصر في التاريخ المذكور في ترجته حضر إليها، وسمع عليها الحديث وكان للمصريين فيها اعتقا عظيم، وهو إلى الآن باق كما كان. ولما توفي الإمام الشافعي، رضي الله عنه، أدخلت جنازته إليها وصلت في دارها، وكانت [مقيمة] (1) في موضع مشهدها اليوم، ولم تزل به إلى أن توفيت في شهر رمضان سنة ثمان ومائتين. ولما ماتت عزم زوجها المؤتمن إسحاق بن جعفر الصادق على حملها إلى المدينة ليدفنها هناك، فسأله المصريون بقاءها عندهم، فدفنت في الموضع كان يعرف به الآن بين القاهرة ومصر عند المشاهد، وهذا الموضع كان يعرف يومذاك بدرب السباع، فخرج الدرب ولم يبق هناك سوى المشهد، وقبرها معروف بإجابة الدعاء عنده، وهو مجرب، رضي الله عنها (2) .   (1) زيادة من المختار. (2) هنا ينتهي الجزء الثالث من النسخة ن ويليه الرابع. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 424 تذييل استمر الاعتماد في هذا الجزء على المخطوطات التي ذكرت في مقدمة الجزء الرابع ولكنا زدنا عليها مخطوطتين وهما: (1) مخطوطة آيا صوفيا (رقم: 3533) وقد رمزت لها بالحرف (ص) على أن يتذكر القارئ أنها ليست هي (ص) المذكورة في الجزءين الأول والثاني، كما أنها ليست من أسرتها، وإنما الشركة بينهما انتماؤها إلى مكتبة واحدة وحسب؛ وتبدأ (ص) بترجمة أبي تميم معدّ (رقم 727، الصفحة: 224 من هذا الجزء) وتقع في 193 ورقة، وفي كل صفحة من صفحاتها 21 سطراً، ومعدل الكلمات في السطر الواحد 12 كلمة، وخطها نسخي واضح لا بأس بالضبط فيه، وميزتها الكبرى أنها تمثل الدور الأول من عمل المؤلف، وتنتهي بتلك الخاتمة التي يعلن فيها أنه توقف عن عمله دون أن يتم حرف الياء وأن لديه مسودات أخرى أعدها لكتاب مطول يكون في أكثر من عشرة أسفار، وهذا يعني أن آخر ترجمة فيها هي ترجمة يحيى بن خالد البرمكي؛ والنسخة ليست مؤرخة وعلى الورقة الأولى أنها الجزء الرابع من الوفيات، وقد كتب عليها تملك واحد " تملكه الفقير إلى الله تعالى محمد بن علي بن عمر الصفدي الحنفي عفا الله عنه بالشراء الشرعي من القاضي بهاء الدين بن أبي سالم الحموي ". (2) مخطوطة نور عثمانية (رقم: 3076) ورمزها (ع) وتبدأ بترجمة الإمام أبي حنيفة النعمان بن ثابت (رقم: 765، الصفحة: 405 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 425 من هذا الجزء) وهي في 308 ورقات، في كل صفحة من صفحاتها 25 سطراً، ومعدل الكلمات في السطر الواحد 11 كلمة؛ والخط أيضاً نسخي واضح، ونسبة الضبط حسنة؛ وهي تحوي تراجم الكتاب حتى آخره حسب الشكل الأخير الذي وضعه فيه مؤلفه، وقد نسخت سنة 725 على يد علي بن جمعة بن أبي الحسن بن حسان، ثم بخط مختلف أنها قوبلت بالنسخة التي في الخزانة العالية المولوية السلطانية الملكية المؤيدية في أوقات آخرها العشرين () من ذي القعدة سنة ثماني وعشرين وسبعمائة بحسب الطاقة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 426 حَرفُ الواو الجزء: 6 ¦ الصفحة: 5 فراغ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 6 768 - (1) واصل بن عطاء أبو حذيفة واصل بن عطاء المعتزلي، المعروف بالغزال، مولى بني ضبة، وقيل مولى بني مخزوم، كان أحد الأئمة البلغاء المتكلمين في علوم (2) الكلام وغيره، وكان يلثغ بالراء فيجعلها غيناً، قال أبو العباس المبرد في حقه في كتاب " الكامل " (3) : كان واصل بن عطاء أحد الأعاجيب، وذلك أنه كان ألثغ قبيح اللثغة في الراء، فكان يخلص كلامه من الراء ولا يفطن لذلك، لاقتداره على الكلام وسهولة ألفاظه ففي ذلك (4) يقول الشاعر من المعتزلة وهو أبو الطروق (5) الضبي يمدح بإطالة الخطب واجتنابه الراء على كثرة ترددها في الكلام، حتى كأنها ليست فيه: عليم بإبدال الحروف وقامع ... لكل خطيبٍ يغلب الحق باطله وقال آخر (6) :   (1) ترجمته وأخباره في أمالي المرتضى 1: 163 ومعجم الأدباء 19: 243 والانتصار: 206 والبيان 1: 32 والفرق بين الفرق: 117 ومختصر الفرق: 97 والفوات 2: 642 ومرآة الجنان 1: 274 والنجوم الزاهر 1: 313 ولسان الميزان 6: 213 ومقاتل الطالبيين: 293 وطبقات المعتزلة: 28 وشذرات الذهب 1: 182 وروضات الجنات: 738، وقد وقعت تراجم حرف الواو بعد تراجم حرف الهاء في النسخة بر، وهكذا وردت عند دي سلان. (2) ر: علم. (3) الكامل 3: 193. (4) ق ص: على ذلك. (5) ن ق: طروق؛ بر: الطروف. (6) ن: الآخر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 7 ويجعل البر قمحاً في تصرفه ... وخالف الراء حتى احتال للشعر ولم يطق مطراً، والقول يعجله ... فعاذ بالغيث إشفاقاً من المطر ومما يحكى عنه، وقد ذكر (1) بشار بن برد فقال: أما لهذا الأعمى المكتني (2) بأبي معاذ من يقتله أما والله لولا أن الغيلة خلق من أخلاق الغالية لبعثت إليه من يبعج بطنه على مضجعه، ثم لا يكون إلا سدوسياً أو عقيلياً، فقال: هذا الأعمى، ولم يقل بشار ولا ابن برد ولا الضرير، وقال: من أخلاق الغالية، ولم يقل المغيرية ولا المنصورية، وقال: لبعثت، ولم يقل لأرسلت، وقال: على مضجعه، ولم يقل على مرقده ولا على فراشه، وقال: يبعج، ولم يقل يبقر، وذكر بني سدوس لأنه كان نازلاً فيهم. وذكر السمعاني في كتاب " الأنساب " (3) في ترجمة المعتزلي أن واصل بن عطاء كان يجلس إلى الحسن البصري رضي الله عنه، فلما ظهر الاختلاف وقالت الخوارج بتكفير مرتكبي الكبائر وقالت الجماعة بأنهم مؤمنون وإن فسقوا بالكبائر، فخرج واصل بن عطاء عن الفريقين وقال: إن من هذه الأمة لا مؤمن ولا كافر، منزلة بين منزلتين، فطرده الحسن عن مجلسه فاعتزل عنه، وجلس إليه عمرو بن عبيد، فقيل لهما ولأتباعهما: معتزلون - وقد أحلت في ترجمة عمرو بن عبيد على هذا الموضع في تبين الاعتزال ولأي معنى سموا بهذا الاسم، وقد ذكرت في ترجمة قتادة بن دعامة السدوسي أنه الذي سماهم بذلك -. وكان واصل بن عطاء المذكور يضرب به المثل في إسقاطه حرف الراء من كلامه، واستعمل الشعراء ذلك في شعرهم كثيراً، فمنه قول أبي محمد الخازن من جملة قصيدة طنانة طويلة يمدح بها الصاحب أبا القاسم إسماعيل بن عباد - المقدم ذكره - وهو:   (1) ن ص ع ق بر من: وذكر، وكذلك في المبرد. (2) بر من: المكني. (3) انظر اللباب 3: 156. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 8 نعم تجنب لا يوم العطاء كما ... تجنب ابن عطاء لفظة الراء وقال آخر في محبوب له ألثغ: أعد لثغة لو أن واصل حاضر ... ليسمعها ما أسقط الراء واصل وقال آخر: أجعلت وصلي الراء لم تنطق به ... وقطعتني حتى كأنك واصل لله دره ما أحسن قوله: " وقطعتني حتى كأنك واصل " وقال آخر: فلا تجعلني مثل همزة واصل ... فيلحقني حذف ولا راء واصل وقال أبو عمر يوسف بن هارون الكندي الأندلسي القرطبي الرمادي الشاعر المشهور، إلا أنه لم يتعرض إلى ذكر واصل، وكانت وفاته سنة ثلاث وأربعمائة: لا الراء تطمع في الوصال ولا أنا ... الهجر يجمعنا فنحن سواء فإذا خلوت كتبتها في راحتي ... وقعدت منتحباً أنا والراء وهذا الباب متسع، فلا حاجة إلى الإطالة فيه، ويكفي هذا الأنموذج. وقد عمل الشعراء في اللثغة التي هي إبدال الثاء من السين شعراً كثيراً، فمن ذلك ما يعزى لأبي (1) نواس، ولم أجدها في ديوانه، والله أعلم، إلا أن تكون رواية علي بن حمزة الأصبهاني، فإنها أكثر (2) الروايات، ولم أكشف هذه الأبيات منها، وهي أبيات حلوة ظريفة: وشادنٍ ساءلت عن اسمه ... فقال لي إثمي مرداث بيات يعاطني سخاميةً ... وقال لي: قد هجع الناث أما ترى حثن أكاليلنا ... زينها النثرين والآث   (1) ع ق بر من: إلى أبي. (2) ع ن ص من بر: أكبر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 9 فعدت من لثغته ألثغا ... فقلت: أين الطاث والكاث ولو شرعت في ذكر ما قيل على هذا النمط لطال الشرح. ولم أجد في لثغة الراء إلا قليلاً، فمن ذلك قول بعضهم: أما وبياض الثغر ممن أحبه ... ونقطة خال الخد في عطفة الصدغ لقد فتنتني لثغة موصلية ... رمتني في تيار بحر هوى اللثغ ومستعجم الألفاظ عقرب حديثه ... مسلطة دون الأنام على لدغي يكاد أصم الصم عند حديثه ... إلى اللثغة الغناء من لفظه يصغي يقول وقد قبلت واضح ثغره ... وكان الذي أهوى ونلت الذي أبغي وقد نفضت كأس الحميا وأظهرت ... على خده من لونها أحسن الصبغ تغفق فغشف الخمع من كغم غيقتي ... يزيدك عند الشغب سكغاً على (1) سكغ ولقد أجاد هذا الشاعر وجمع في البيت الأخير راءات كثيرة وأبدلها بالغين، وللخبز أرزي الشاعر المقدم ذكره في غلام يلثغ بالراء أيضاً لكنه لم يستعمل اللثغة إلا في آخر البيت الأخير من الأربعة أبيات (2) : وشادن بالكرخ ذي لثغة ... وإنما شرطي في اللثغ ما أشبه الزنبور في خصره ... حتى حكى العقرب في الصدغ في فمه ترياق لدغٍ إذا ... أحرق قلبي شدة اللدغ إن قلت في ضمي له أين هو ... تفديك روحي قال لا أدغي وقد تسلسل الكلام وخرجنا عن المقصود من أخبار واصل بن عطاء. وكان طويل العنق جداً بحيث كان يعاب به، وفيه يقول بشار بن برد الشاعر المشهور المقدم ذكره (3) :   (1) ن ق: إلى. (2) بر من: لكنه لم يستعمل اللثغة إلا في البيت الاخير وهو قوله. (3) الكامل 3: 192. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 10 ماذا منيت بغزال له عنق ... كنقنق الدو إن ولى وإن مثلا عنق الزرافة، ما أبالي وبالكم ... تكفرون رجالاً كفروا رجلا وكانت بينهما منافسات وأحقاد، وقد تقدم كلام واصل في حق بشار. وقال المبرد في كتاب " الكامل " (1) : لم يكن واصل بن عطاء غزالاً، ولكنه كان يلقب بذلك لأنه كان يلازم (2) الغزالين ليغرف المتعففات من النساء فيجعل صدقته لهن، ثم قال: وكان طويل العنق، ويروى عن عمرو بن عبيد أنه نظر إليه من قبل أن يكلمه فقال: لا يصلح هذا ما دامت عليه هذه العنق. وله من التصانيف كتاب " أصناف المرجئة " وكتاب " التوبة "، وكتاب " المنزلة بين منزلتين " وكتاب خطبته التي أخرج منها الراء، وكتاب " معاني القرآن " وكتاب " الخطب في التوحيد والعدل " وكتاب ما جرى بينه وبين عمرو بن عبيد وكتاب " السبيل إلى معرفة الحق " وكتاب في " الدعوة " وكتاب " طبقات أهل العلم والجهل " وغير ذلك. وأخباره كثيرة. وكانت ولادته سنة ثمانين للهجرة بمدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، وتوفي سنة إحدى وثمانين ومائة، رحمه الله تعالى.   (1) المصدر السابق. (2) ع بر من: يلزم، وكذلك في الكامل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 11 769 - (1) وثيمة بن الفرات أبو يزيد وثيمة بن موسى بن الفرات الوشاء، الفارسي الفسوي، كان قد خرج من بلده إلى البصرة ثم سافر إلى مصر، وارتحل منها إلى الأندلس تاجراً وكان يتجر في الوشي. وصنف كتاباً في أخبار الردة (2) ، وذكر فيه القبائل التي ارتدت بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، والسرايا التي إليهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وصورة مقاتلتهم وما جرى بينهم وبين المسلمين في ذلك ومن عاد منهم إلى الإسلام، وقتال مانعي الزكاة، وما جرى لخالد بن الوليد المخزومي، رضي الله عنه مع مالك بن نويرة اليربوعي أخي متمم بن نويرة الشاعر المشهور صاحب المرائي المشهورة في أخيه مالك، وصورة قتله، وأم قاله متمم من الشعر في ذلك وما قاله غيره، وهو كتاب جيد يشتمل على فوائد كثيرة، وقد تقدم في ترجمة أبي عبد الله محمد الواقدي أنه صنف في الردة كتاباً أيضاً أجاد فيه، ولم أعرف لوثيمة المذكور من التصانيف سوى هذا الكتاب. وهو رجل مشهور ذكره أبو الوليد بن الفرضي صاحب " تاريخ الأندلس " (3) في كتابه، وذكره الحافظ أبو عبد الله الحميدي في كتاب " جذوة المقتبس " (4) وأبو سعيد بن يونس في تاريخ مصر، وأبو سعد السمعاني في كتاب " الأنساب " في ترجمة الوشاء (5) فقال: كان يتجر في الوشي، وهو نوع من الثياب المعمولة   (1) ترجمته في الفوات 2: 625 ومعجم الأدابء 19: 247 ومرآة الجنان 2: 118 والشذرات 2: 89. (2) ينقل ابن حجر في الإصابة نقولا كثيرة عن كتاب وثيمة هذا. (3) تاريخ بن الفرضي 2: 165. (4) الجذوة: 341. (5) انظر اللباب 3: 274. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 12 من الإبريسم، فعرف به جماعة منهم وثيمة المذكور. ثم إن وثيمة عاد من الأندلس إلى مصر ومات بها يوم الاثنين لعشر خلون من جمادى الآخرة سنة سبع وثلاثين ومائتين، رحمه الله تعالى. (293) وقال أبو سعيد بن يونس المصري في تاريخه: كان لوثيمة ولد يقال له أبو رفاعة عمارة بن وثيمة (1) ، حدث عن أبي صالح كاتب الليث بن سعد وعن أبيه وثيمة وغيرهما، وصنف تاريخاً على السنين وحدث به، ومولده بمصر، وتوفي ليلة الخميس لست بقين من جمادى الآخرة سنة تسع وثمانين ومائتين. ووثيمة بفتح الواو وكسر الثاء المثلثة وسكون الياء المثناة من تحتها وفتح الميم وبعدها هاء ساكنة، والوثيمة في الأصل الجماعة من الحشيش والطعام، والوثيمة الصخرة، وبها سمي الرجل، والله أعلم بالصواب، والوثيمة أيضاً الحجر الذي يقدح النار. تقول العرب في أيمانها: والذي أخرج العذق من الجريمة، والنار من الوثيمة: العذق - بفتح العين المهملة - النخلة، والجريمة النواة. وأم الفارسي والفسوي فقد تقدم الكلام عليهما في ترجمة الشيخ أبي علي الفارسي النحوي وأرسلان البساسيري فأغنى عن الإعادة. وإذ ذكرنا متمم بن نويرة وأخاه فلا بد من ذكر طرف من أخبارهما، فإنها مستملحة. (294) كان مالك بن نويرة المذكور رجلاً سرياً نبيلاً يردف الملوك، وللردافة موضعان أحدهما: أن يردفه الملك على دابته في صيد أو غيره من مواضع الأنس، والموضع الثاني أنبل، وهو أن يخلف الملك إذا قام عن مجلس الحكم فينظر بين الناس بعده. وهو الذي يضرب به المثل فيقال: مرعى ولا كالسعدان، وماء ولا كصداء، وفتى ولا كمالك. وكان فارساً شاعراً (2) مطاعاً في قومه، وكان فيه خيلاء وتقدم، وكان ذا لمة كبيرة، وكان يقال له الجفول، وقدم النبي صلى الله عليه وسلم فيمن قدم   (1) انظر بروكلمان (الترجمة العربية) 3: 45. (2) ق ص: فارساً شجاعاً شاعراً. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 13 من العرب فأسلم، فولاه النبي صلى الله عليه وسلم صدقه قومه. ولما ارتدت العرب بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم بمنع الزكاة كان مالك المذكور من جملتهم، ولما خرج خالد بن الوليد رضي الله عنه لقتالهم في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه نزل على مالك وهو مقدم قومه بني يربوع وقد أخذ زكاتهم وتصرف فيها، فكلمه خالد في معناها، فقال مالك: إني آتي الصلاة دون الزكاة، فقال له خالد: أما علمت أن الصلاة والزكاة معاً لا تقبل واحدة دون أخرى، فقال مالك: قد كان صاحبك يقول ذلك، قال خالد: وما تراه لك صاحباً والله لقد هممت أن أضرب عنقك، ثم تجاولا (1) في الكلام طويلاً فقال له خالد: إنني قاتلك، قال: أو بذلك أمرك صاحبك قال: وهذه بعد تلك والله لأقتلنك. وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وأبو قتادة الأنصاري رضي الله عنه حاضرين فكلما خالداً في أمره، فكره كلامهما، فقال مالك: يا خالد، ابعثنا إلى أبي بكر فيكون هو الذي يحكم فينا، فقد بعثت إليه غيرنا ممن جرمه أكبر من جرمنا، فقال خالد: لا أقالني الله إن أقلتك، وتقدم إلى ضرار بن الأزور الأسدي بضرب عنقه، فالتفت مالك إلى زوجته أم متمم وقال لخالد: هذه التي قتلتني، وكانت في غاية الجمال، فقال له خالد: بل الله قتلك برجوعك عن الإسلام، فقال مالك: أنا على الإسلام، فقال خالد: يا ضرار اضرب عنقه، فضرب عنقه وجعل رأسه أثفية لقدر، وكان من أكثر الناس شعراً - كما تقدم ذكره - فكانت القدر على رأسه حتى نضج الطعام، وما خلصت النار إلى شواه من كثرة شعره. قال ابن الكلبي في جمهرة النسب: قتل مالك يوم البطاح، وجاء (2) أخوه متمم فكان يرثيه. وقبض خالد امرأته، فقيل إنه اشتراها من الفيء وتزوج بها، وقيل إنها اعتدت بثلاثة حيض ثم خطبها إلى نفسه فأجابته، فقال لابن عمر وأبي قتادة رضي الله عنهما يحضران النكاح فأبيا، وقال له ابن عمر رضي الله عنه:   (1) ن: تجادلا. (2) ن: ونجا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 14 تكتب إلى أبي بكر رضي الله عنه وتذكر أمرها فأبى وتزوجها، فقال في ذلك أبو زهير السعدي: ألا قل لحي أوطئوا بالسنابك ... تطاول هذا الليل من بعد مالك قضى خالد بغياً عليه لعرسه ... وكان له فيها هوىً قبل ذلك فأمضى هواه خالد غير عاطف ... عنان الهوى عنها ولا متمالك وأصبح ذا أهل، وأصبح مالك ... إلى غير شيء هالكاً في الهوالك فمن لليتامى والأرامل بعده ... ومن للرجال المعدمين الصعالك أصيبت تميم غثها وسمينها ... بفارسها المرجو تحت الحوارك ولما بلغ الخبر أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، قال عمر لأبي بكر رضي الله عنه: إن خالداً قد زنى فارجمه، قال: ما كنت لأرجمه فإنه تأول فأخطأ، قال: فإنه قتل مسلماً فاقتله به، قال: ما كنت لأقتله به، إنه تأول فأخطأ، قال فاعزله، قال: ما كنت لأشيم سيفاً سله الله عليهم أبداً، هكذا سرد هذه الواقعة وثيمة المذكور والواقدي في كتابيهما، والعهدة عليهما. (295) وكان أخوه متمم بن نويرة، وكنيته أبو نهشل (1) الشاعر المشهور (2) ، كثير الانقطاع في بيته قليل التصرف في أمر نفسه اكتفاء بأخيه مالك، وكان أعور دميماً، فلما بلغه مقتل أخيه حضر إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصلى الصبح خلف أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فلما فرغ من صلاته واستند في (3) محرابه قام متمم فوقف بحذائه واتكأ على سية قوسه ثم أنشد: نعم القتيل إذا الرياح تناوحت ... خلف البيوت قتلت يا ابن الأزور أدعوته بالله ثم غدرته ... لو هو دعاك بذمة لم يغدر وأومأ إلى أبي بكر رضي الله عنه، فقال: والله ما دعوته ولا غدرته:   (1) ق: وكنيته نهشل؛ المختار: متمم بن نويرة نهشل الشاعر ... الخ. (2) ن: المذكور. (3) ع: وانفتل في؛ ن: وأسند في؛ وانظر التعازي: 6. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 15 ولنعم حشو الدرع كان وحاسراً ... ولنعم مأوى الطارق المتنور لا يمسك الفحشاء تحت ثيابه ... حلو شمائله عفيف المئزر ثم بكى وانحط على سية قوسه، فما زال يبكي حتى دمعت عينه العوراء، فقام إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: لوددت أنك رثيت زيداً أخي بمثل ما رثيت به مالكاً أخاك، فقال: يا أبا حفص، والله لو علمت أن أخي صار بحيث صار أخوك ما رثيته، فقال عمر رضي الله عنه: ما عزاني أحد عن أخي بمثل تعزيته. وكان زيد بن الخطاب رضي الله عنه قتل شهيداً يوم اليمامة، وكان عمر رضي الله عنه يقول: إني لأهش (1) للصبا أنها تأتيني من ناحية أخي زيد، ويروى عن عمر رضي الله عنه أنه قال: لو كنت أقول الشعر كما تقول لرثيت أخي كما رثيت أخاك. ويروى أن متمماً رثى زيداً فلم يجد، فقال له عمر رضي الله عنه: لم ترث زيداً كما رثيت مالكاً، فقال: إنه والله ليحركني (2) لمالك ما لا يحركني لزيد. وقال له عمر رضي الله عنه يوماً: إنك لجزل فأين كان أخوك منك، فقال: كان أخي في الليلة ذات الأزيز والصراد يركب الجمل الثفال، ويجنب الفرس الجرور، وفي يده الرمح الثقيل، وعليه الشملة الفلوت، وهو بين المزادتين، حتى يصبح وهو متبسم. والأزيز: بفتح الهمزة وزاءين الأولى منهما مكسورة وبينهما ياء مثناة من تحتها، صوت الرعد. والصراد: بضم الصاد المهملة وتشديد الراء وفتحها وبعد الألف دال مهملة، غيم رقيق لا ماء فيه. والثفال: بفتح الثاء المثلثة والفاء، وهو الجمل البطيء في سيره لا يكاد يمشي من ثقله. والجرور: بفتح الجيم على وزن فعول، الفرس الذي يمنع القياد. والشملة الفلوت: التي لا تكاد تثبت على لابسها.   (1) ن ص ق: أهش. (2) ر ن ع بر من ص: يحركني. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 16 والمزادة: الراوية، وهي معروفة. وقال له عمر رضي الله عنه يوماً: خبرنا عن أخيك، قال: يا أمير المؤمنين، لقد أسرت مرة في حي من أحياء العرب، فأخبر أخي، فأقبل، فلما طلع على الحاضر (1) ما كان أحد قاعداً إلا قام على رجليه، وما بقيت امرأة إلا وتطلعت من خلال البيوت، فما نزل عن جمله حتى لقوه بي برمتي فحلني هو، فقال عمر رضي الله عنه: إن هذا لهو الشرف. والرمة: بضم الراء المهملة، الحبل البالي، ومنه قولهم " دفع إليه الشيء برمته " أصله: أن رجلاً دفع إلى رجل بعيراً بحبل في عنقه، فقيل ذلك لكل من دفع شيئاً بجملته. وقال متمم أيضاً لعمر رضي الله عنه: أغار حي من أحياء العرب على حي أخي مالك وهو غائب، فجاءه الصريخ، فخرج في آثارهم على جمل يسوقه مرةً ويركبه أخرى، حتى أدركهم على مسيرة ثلاث وهم آمنون، فما هو إلا أن رأوه فأرسلوا ما في أيديهم من الأسرى والنعم وهربوا، فأدركهم أخي، فاستسلموا جميعاً حتى كتفهم، وصدر بهم إلى بلاده مكتوفين، فقال عمر رضي الله عنه: قد كنا نعلم سخاءه وشجاعته، ولم نعلم كل ما تذكره (2) . وله فيه المراثي النادرة، فمن ذلك أبياته الكافية، وهي في كتاب " الحماسة " (3) في باب المراثي: لقد لامني عند القبور على البكا ... رفيقي لتذراف الدموع السوافك فقال أتبكي كل قبر رأيته ... لقبر ثوى بين اللوى والدكادك فقلت له إن الشجا يبعث الشجا ... فدعني فهذا كله قبر مالك وله فيه قصيدته العينية (4) ، وهي طويلة بديعة، ومن جملتها قوله (5) :   (1) بر: الحاضرين. (2) ق: تذكر له؛ ع: يذكر. (3) شرح المرزوقي، الحماسية: 265. (4) ص: وله القصيدة العينية. (5) المفضلية رقم: 67. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 17 وكنا كندماني جذيمة حقبة ... من الدهر حتى قيل لن يتصدعا وعشنا بخير في الحياة، وقبلنا ... أصاب المنايارهط كسرى وتبعا فلما تفرقنا كأني ومالكا ... لطول اجتماع لم نبت ليلة معا (296) وقد يتشوف الواقف على هذا الكتاب إلى الوقوف على شيء من أخبار جذيمة المذكور ونديميه - وهو بفتح الجيم وكسر الذال المعجمة وسكون الياء المثناة من تحتها وفتح الميم وبعدها هاء ساكنة - وكنيته أبو مالك جذيمة بن مالك بن فهم بن دوس بن الأزد الأزدي، صاحب الحيرة وما والاها، وهو الأبرش والوضاح، وإنما قيل ذلك لأنه كان أبرص، فكانت العرب تهابه أن تنسبه إلى البرص فعرفته بأحد هذين الوصفين. وهو من ملوك الطوائف، وكان بعد عيسى عليه السلام بثلاثين سنة، وكان من تيهه لا ينادم إلا الفرقدين. وكان له ابن أخت يقال له عمرو بن عدي بن نصر بن ربيعة بن الحارث بن مالك اللخمي، ويقال له عمم لأنه أول من اعتم، ابن تمارة بن لخم، وبقية النسب معروف، واسم الأخت المذكورة رقاش، وكان جذيمة شديد المحبة له، فاستهوته الجن، وأقام زماناً يتطلبه فلم يجده، فأقبل رجلان من بني القين يقال لأحدهما مالك والآخر عقيل ابنا فارح [بن مالك بن كعب بن القين، واسمه النعمان، ابن جسر بن شيع بن أسد بن وبرة بن ثعلبة بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة، وسمي القين بعبد كان له فحضنه فاشتهر به] (1) فصادفا عمراً في البرية وهو أشعث الرأس طويل الأظفار سيء الحال، فعرفاه وحملاه إلى خاله جذيمة بعد أن لما شعثه وأصلحا حاله، فقال لهما جذيمة من فرط سروره به: احتكما علي، فقالا: منادمتك ما بقيت وبقينا، فقال: ذلك لكما، فهما نديماه اللذين يضرب بهما المثل، ويقال: إنهما نادماه أربعين سنة لم يعيدا عليه حديثاً حدثاه به، وإياهما عن أبو خراش الهذلي بقوله في مرثية أخيه عروة (2) : تقول أراه بعد عروة لاهياً ... وذلك رزء لو علمت جليل   (1) زيادة من ر. (2) ديوان الهذليين: 1189 ولم يرد منها إلا البيت الثالث في: ع بر من. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 18 فلا تحسبي أني تناسيت عهده ... ولكن صبري يا أميم جميل ألم تعلمي أن قد تفرق قبلنا ... نديماً صفاء: مالك وعقيل هذه خلاصة حديثهم، وإن كان فيه طول، وإنما قصدت الإيجاز. وذكر أبو علي القالي في كتابه الذي جعله ذيلاً على أماليه (1) أن متمماً المذكور قدم على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكان به معجباً، فقال: يا متمم، ما يمنعك من الزواج لعل الله تعالى أن ينشر منك ولداً، فإنكم أهل بيت قد درجتم فتزوج امرأة من أهل المدينة، فلم تحظ عنده ولم يحظ عندها، فطلقها ثم قال: أقول لهند حين لم أرض عقلها: ... أهذا دلال العشق، أم أنت فارك أم الصرم تهوين (2) فكل مفارقٍ ... علي يسير بعد ما بان مالك فقال له عمر رضي الله عنه: ما تنفك تذكر مالكاً على كل حال، فلم يمض على هذا الأمر إلا قليل حتى طعن عمر رضي الله عنه، ومتمم بالمدينة، فرثى عمر رضي الله عنه (3) . وبالجملة فإنه لم ينقل عن أحد من العرب ولا غيرهم أنه بكى على ميته ما بكى متمم على أخيه مالك. حكى الواقدي في كتاب " الردة " أن عمر رضي الله عنه قال لمتمم: ما بلغ من حزنك على أخيك فقال له: لقد مكثت سنة لا أنام بليل حتى أصبح، ولا رأيت ناراً رفعت بليل إلا ظننت نفسي ستخرج، أذكر بها نار أخي، كان يأمر بالنار فتوقد حتى يصبح مخافة أن يبيت ضيفه قريباً منه، فمتى يرى النار يأوي إلى الرحل، ولهو بالضيف يأتي مجتهداً أسر من القوم يقدم عليهم القادم لهم من السفر البعيد، فقال عمر رضي الله عنه: أكرم به. وحكى الواقدي أيضاً أنه قال له: ما لقيت على أخيك من الحزن والبكاء قال: كانت عيني هذه قد ذهبت، وأشار إليها، فبكيت بالصحيحة وأكثرت   (1) ذيل الأمالي: 178. (2) ذيل الأمالي: ما تهوى. (3) أورد القالي من رثائه لعمر ثلاثة أبيات. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 19 البكاء حت ى أسعدتها العين الذاهبة وجرت بالدموع، فقال عمر رضي الله عنه: إن هذا لحزن شديد، ما يحزن هكذا أحد على هالكه. وقد ضربت الشعراء الأمثال بمالك وأخيه متمم في أشعارهم، فمن ذلك قول ابن حيوس المقدم ذكره من جملة قصيدة: وفجعة بين مثل صرعة مالك ... ويقبح بي أن لا أكون متمما ومنه قول أبي بكر محمد بن عيسى الداني المعروف بابن اللبانة في قصيدته التي يرثي بها المعتمد بن عباد صاحب إشبيلية لما قبض عليه يوسف بن تاشفين - حسبما شرحناه في ترجمة المعتمد - وهو قوله: حكيت وقد فارقت ملكك مالكا ... ومن ولهي أحكي عليك متمما ومن ذلك أيضاً قول بعضهم، وأظنه ابن منير - المذكور في حرف الهمزة - وهو أيضاً من جملة أبيات، ثم حققت قاءله وهو نجم الدين أبو الفتح يوسف بن الحسين بن محمد، عرف بابن المجاور الدمشقي: أيا مالكي في القلب نويرة ... وإنسان عيني في هواك متمم ومنه قول أبي الغنائم ابن المعلم الشاعر - المقدم ذكره - من جملة أبيات يصف فيها منزلاً ويدعو له بالسقيا، فقال: سقاه الحيا قبلي وجئت متمما ... فلو مالك فيه دعيت متمما ومنه قول القاضي السعيد ابن سناء الملك: بكيت بكلتا مقلتي كأنني ... أتمم ما قد فات عين متمم وهذا باب يطول شرحه، وقد جاوزنا الحد بالخروج عما بالخروج نحن بصدده. ومتمم: بضم الميم وفتح التاء المثناة من فوقها، وبعدها ميمان الأولى منما مشددة مكسورة. وصداً في قولهم " ماء ولا كصدأ " فيه ثلاث لغات: صدا: بضم الصاد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 20 المهملة وتشديد الدال المهملة وألف مقصورة، وصداء مثل الأول لكن الصاد مفتوحة والألف ممدودة، فمن ضم قصر ومن فتح مد، واللغة الثالثة صدءاء: بتخفيف الدال وهمزتين متواليتين والصاد مفتوحة، وهي بئر معروفة مشهورة ماؤها عذب نمير، والله أعلم. 770 - (1) البحتري أبو عبادة الوليد بن عبيد بن يحيى بن عبيد بن شملال بن جابر بن سلمة بن مسهر بن الحارث بن خيثم بن أب حارثة بن جدي بن تدول بن بحتر بن عتود بن عنين بن سلامان بن ثعل بن عمرو بن الغوث بن جلهمة، وهو طيء بن ادد بن زيدان بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، الطائي البحتري الشاعر المشهور، ولد بمنبج، وقيل بزردفنة (2) وهي قرية من قراها، ونشأ وتخرج بها، ثم خرج إلى العراق ومدح جماعة من الخلفاء أولهم المتوكل على الله، وخلقاً كثيراً من الأكابر والرؤساء، وأقام ببغداد دهراً طويلاً ثم عاد إلى الشام، وله أشعار كثيرة ذكر قيها حلب وضواحيها، وكان يتغزل بها (3) ، وقد روى عنه أشياء من شعره أبو العباس المبرد ومحمد بن خلف بن المرزبان والقاضي أبو عبد الله المحاملي ومحمد بن أحمد الحكيمي وأبو بكر الصولي وغيرهم.   (1) ترجمته في معجم الأدباء 19: 248 وتاريخ بغداد 12: 446 ومعاهد التنصيص 1: 234 والشريشي 1: 36 والمنتظم 6: 11 ومرآة الجنان 2: 202 والأغاني 21: 29 والموشح: 330 والنجوم الزاهرة 3: 99 وعبر الذهبي 2: 73 والشذرات 2: 186 وأخبار البحتري للصولي (ط. دمشق 1958) وقد أخذت مخطوطة ق ابتداء من هذه الترجمة تعتمد التلخيص والإيجاز على غير ما كان عليه الحال في التراجم السابقة؛ وأول الترجمة متابع لما في تاريخ الخطيب. (2) ص ن: بجردفنة، وضبطت كذلك في ختام الترجمة في هاتين النسختين. (3) ق ن: وتغزل بها؛ بر من: وتغزل فيها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 21 قال صالح بن الأصبغ التنوخي المنبجي (1) : رأيت البحتري هاهنا عندنا قبل أن يخرج إلى العراق، يجتاز بنا الجامع من هذا الباب، وأومأ إلى جنبتي المسجد، يمدح أصحاب البصل والباذنجان، وينشد الشعر في ذهابه ومجيئه، ثم كان منه ما كان، وعلوة التي شبب بها في كثير من أشعاره هي بنت زريقة الحلبية، وزريقة أمها (2) . وحكى أبو بكر الصولي في كتابه الذي وضعه في " أخبار أبي تمام الطائي " (3) أن البحتري كان يقول: أول أمري في الشعر ونباهتي فيه أني صرت إلى أبي تمام وهو بحمص، فعرضت عليه شعري، وكان يجلس فلا يبقى شاعر إلا قصده وعرض عليه شعره، فلما سمع شعري أقبل علي وترك سائر الناس، فلما تفرقوا قال لي: أنت أشعر من أنشدني، فكيف حالك فشكوت خلة، فكتب إلى أهل معرة النعمان (4) ، وشهد لي بالحذق وشفع لي إليهم وقال لي: امتدحهم، فصرت إليهم فأكرموني بكتابه ووظفوا لي أربعة آلاف درهم، فكانت أول مال أصبته. وقال أبو عبادة المذكور (5) : أول ما رأيت أبا تمام، وما كنت رأيته قبلها، أني دخلت أبي سعيد محمد بن يوسف، فامتدحته بقصيدتي التي أولها: أأفاق صب من هوى فأفيقا ... أم خان عهداً أم اطاع شفيقا فأنشدته إياها، فلما أتممتها سر بها، وقال لي: أحسن الله إليك يا فتى، فقال له رجل في المجلس: هذا، أعزك الله، شعري علقه هذا الفتى، فسبقني به إليك، فتغير أبو سعيد وقال لي: يا فتى، قد كان في نسبك وقرابتك ما يكفيك أن تمت به إلينا، ولا تحمل نفسك على هذا، فقلت: هذا شعري أعزك   (1) تاريخ بغداد 13: 447. (2) ق: ثم شبب بعلوة بنت زريقة الحلبية؛ وسقط هذا من: بر من. (3) أخبار أبي تمام: 66 وأخبار البحتري: 55 - 56. (4) أورد الصولي نص الكتاب وهو: " يصل كتابي هذا على يد الوليد أبي عبادة الطائي وهو على بذاذته شاعر فأكرموه ". (أخبار أبي تمام: 66) . (5) أخبار أبي تمام: 105 - 106 وأخبار البحتري: 63. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 22 الله، فقال الرجل: سبحان الله يا فتى لا تقل هذا، ثم ابتدأ فأنشد من القصيدة أبياتاً، فقال لي أبو سعيد: نحن نبلغك ما تريد، ولا تحمل نفشك على هذا، فخرجت متحيراً لا أدري ما أقول، ونويت أن أسأل عن الرجل من هو، فما بعدت حتى ردني أبو سعيد ثم قال لي: جنيت عليك فاحتمل، أتدري من هذا فقلت: لا، قال: هذا ابن عمك، حبيب بن أوس الطائي لأبو تمام، فقم إليه، فقمت إليه فعانقته. ثم أقبل علي يقرظني ويصف شعري وقال: إنما مزحت معك، فلزمته بعد ذلك وكثر عجبي من سرعة حفظه. وروى الصولي أيضاً في كتابه المذكور أن أبا تمام راسل أم البحتري في التزوج بها، فأجابته وقالت له: اجمع الناس للإملاك، فقال: الله أجل من أن يذكر بيننا، ولكن نتصافح ونتسافح (1) . وقيل للبحتري (2) : أيما أشعر أنت أم أبو تمام فقال: جيده خير من جيدي ورديئي خير من رديئه. وكان يقال لشعر البحتري: سلاسل الذهب، وهو في الطبقة العليا. ويقال إنه قيل لأبي العلاء المعري: أي الثلاثة أشعر، أبو تمام أم البحتري أم المتنبي فقال: حكيمان والشاعر البحتري. ولعمري ما أنصفه ابن الرومي في قوله: والفتى البحتري يسرق ما قا ... ل ابن أوس في المدح والتشبيب كل بيت له يجود معنا ... هـ فمعناه لابن أوس حبيب وقال البحتري (3) : أنشدت أبا تمام شيئاً من شعري، فأنشدني بيت أوس بن حجر (4) : إذا مقرم منا ذرا حد نابه ... تخمط فينا ناب آخر مقرم   (1) أخبار البحتري: 144 وأخبار أبي تمام: 246 وفيه: نتماسح ونتسافح. (2) أخبار أبي تمام: 67. (3) تاريخ بغداد 13: 447 - 448. (4) ديوانه: 122. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 23 وقال: نعيت إلي نفسي، فقلت: أعيذك بالله من هذا، فقال: إن عمري ليس يطول وقد نشأ لطيءٍ مثلك، أما علمت أن خالد بن صفوان المنقري رأى شبيب بن شبيبة، وهو من رهطه وهو يتكلم فقال: يا بني، نعى نفسي إلي إحسانك في كلامك، لأنا أهل بيت ما نشأ فينا خطيب إلا مات من قبله، قال: فمات أبو تمام بعد سنة من هذا. وقال البحتري (1) : أنشدت أبا تمام شعراً لي في بعض بني حميد وصلت به إلى مال خطر (2) ، فقال لي: أحسنت، أنت أمير الشعر بعدي، فكان قوله هذا أحب إلى من جميع ما حويته. وقال ميمون بن هارون: رأيت أبا جعفر أحمد بن يحيى بن جابر بن داود البلاذري المؤرخ، وحاله متماسكة، فسألته، فقال: كنت من جلساء المستعين فقصده الشعراء، فقال: لست أقبل إلا ممن قال مثل قول (3) البحتري في المتوكل: ولو أن مشتاقاً تكلف فوق ما ... في وسعه لمشى إليك المنبر فرجعت إلى داري وأتيته وقلت: قد قلت فيك أحسن مما قاله البحتري فقال: هاته، فأنشدته: ولو أن برد المصطفى إذ لبسته ... يظن لظن البرد أنك صاحبه وقال - وقد أعطيته ولبسته -: ... نعم، هذه أعطافه ومناكبه فقال: ارجع إلى منزلك، وافعل ما آمرك به، فرجعت، فبعث إلي سبعة آلاف دينار، وقال: ادخر هذه للحوادث من بعدي، ولك علي الجراية والكفاية ما دمت حياً. وللمتنبي في هذا المعنى: لو تعقل الشجر التي قابلتها ... مدت مُحيية إليك الأغصنا   (1) المصدر نفسه. (2) ق: مال جزيل. (3) قول: سقطت من ق ن. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 24 وسبقهما أبو تمام بقوله: لو سعت بقعة لإعظام نعمى ... لسعى نحوها المكان الجديب والبيت الذي للبحتري من جملة قصيدة طويلة أحسن فيها كل الإحسان، يمدح بها أبا الفضل جعفراً المتوكل على الله، ويذكر خروجه لصلاة عيد الفطر، وأولها (1) : أخفي هوى لك في الضلوع وأظهر ... وألام من كمد عليك وأعذر والأبيات التي يرتبط بها البيت المقدم ذكره هي (2) : بالبر صمت وأنت أفضل صائم ... وبسنة الله الرضية تفطر فانعم بيوم الفطر عيناً إنه ... يوم أغر من الزمان مشهر أظهرت عز الملك فيه بجحفل ... لجبٍ يحاط الدين فيه وينصر خلنا الجبال تسير فيه وقد غدت ... عدداً يسير به العديد الأكثر فالخيل تصهل، والفوارس تدعي ... والبيض تلمع، والأسنة تزهر والأرض خاشعة تميد بثقلها ... والجو معتكر الجوانب أغبر والشمس طالعة توقد في الضحى ... طوراً ويطفيها العجاج الأكدر حتى طلعت بضوء وجهك فانجلى ... ذاك الدجى وانجاب ذاك العثير فافتن فيك الناظرون فإصبع ... يومى إليك بها وعين تنظر يجدون رؤيتك التي فازوا بها ... من أنعم الله التي لا تكفر ذكروا بطلعتك النبي فهللوا ... لما طلعت من الصفوف وكبروا حتى انتهيت إلى المصلى لابساً ... نور الهدى يبدو عليك ويظهر ومشيت مشياً خاشعٍ متواضعٍ ... لله لا يزهى ولا يتكبر فلو أن مشتاقاً تكلف غير ما ... في وسعه لمشى إليك المنبر   (1) ديوان البحتري: 1070. (2) ن: وهي طويلة ستة عشر بيتاً وأولها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 25 أيدت من فصل الخطاب بحكمةٍ ... تنبي عن الحق المبين وتخبر ووقفت في برد النبي مذكراً ... بالله تنذر تارةً وتبشر هذا القدر هو المقصود مما نحن فيه، وهذا الشعر هو السحر الحلال على الحقيقة، والسهل الممتنع، فلله دره! ما أسلس قياده وأعذب ألفاظه، وأحسن سبكه وألطف مقاصده، وليس من الحشو شيء، بل جميعه نخب. وديوانه موجود وشعره سائر، فلا حاجة إلى الإكثار منه هاهنا، لكن نذكر من وقائعه ما يستظرف: فمن ذلك أنه كان له غلام اسمه نسيم فباعه، فاشتراه أبو الفضل بن وهب الكاتب - وقد سبق ذكر أخيه سليمان في حرف السين - ثم إن البحتري ندم على بيعه وتتبعته نفسه، فكان يعمل فيه الشعر ويذكر أنه خدع وأن بيعه لم يكن من مراده، فمن ذلك قوله (1) : أنسيم هل للدهر وعد صادق ... فيما يؤمله المحب الوامق ما لي فقدت في المنام ولم تزل ... عون المشوق إذا جفاه الشائق أمنعت أنت من الزيارة رقبةً ... منهم فهل منع الخيال الطارق اليوم جاز بي الهوى مقداره ... في أهله وعلمت أني عاشق فليهنئ الحسن بن وهب أنه ... يلقى أحبته ونحن نفارق وله فيه أشعار كثيرة. ومن أخباره (2) أنه كان لحلب شخص يقال له طاهر بن محمد الهاشمي، مات أبوه وخلف له مقدار مائة ألف دينار، فأنفقها على الشعراء والزوار في سبيل الله، فقصده البحتري من العراق، فلما وصل إلى حلب قيل له: إنه قد قعد في بيته لديون ركبته، فاغتم البحتري لذلك غماً شديداً وبعث المدحة إليه مع بعض مواليه، فلما وصلته ووقف عليه بكى، ودعا بغلام له وقال له: بع داري، فقال له: أتبيع دارك وتبقى على رؤوس الناس فقال: لا بد من بيعها، فباعها   (1) ديوانه: 1513. (2) أخبار البحتري: 124 والديوان: 1666. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 26 بثلثمائة دينار فأخذ صرة وربط فيها مائة دينار، وأنفذها إلى البحتري، وكتب إليه معه رقعة فيها هذه الأبيات: لو يكون الحباء حسب الذي أن ... ت لدينا به محل وأهل لحبيب اللجين والدر واليا ... قوت حثواً وكان ذاك يقل والأديب والأريب بالعذ ... ر إذا قصر الصديق المقل فلما وصلت الرقعة إلى البحتري رد الدنانير، وكتب إليه: بأبي أنت والله للبر أهل ... والمساعي بعد وسعيك قبل والنوال القليل يكثر إن شا ... ء مرجيك والكثير يقل غير أني رددت برك إذ كا ... ن رباً منك، والربا لا يحل وإذا ما جزيت شعراً بشعر ... قضي الحق، والدنانير فضل فلما عادت الدنانير إليه حل الصرة، وضم خمسين ديناراً أخرى، وحلف أنه لا يردها عليه، وسيرها، فلما وصلت إلى البحتري أنشأ يقول: شكرتك إن الشكر للعبد نعمة ... ومن يشكر المعروف فالله زائده لكل زمانٍ واحد يقتدى به ... وهذا زمان أنت لا شك واحده وكان البحتري كثيراً ما ينشد لشاعر أنسي اسمه، ويعجبه قوله: حمام الأراك ألا فاخبرينا ... لمن تندبين ومن تعولينا فقد شقت بالنوح منا القلوب ... وأبكيت بالندب منا العيونا تعالي نقم مأتماً للهموم ... ونعول إخواننا الظاعنينا ونسعدكن وتسعدننا ... فإن الحزين يواسي الحزينا ثم إني وجدت هذه الأبيات لنبهان الفقعسي من العرب. وكان البحتري (1) قد اجتاز بالموصل، وقيل برأس عين، ومرض بها مرضاً   (1) أخبار البحتري: 122. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 27 شديداً، وكان الطبيب يختلف إليه ويداويه، فوصف له يوماً مزورة (1) ، ولم يكن عنده من يخدمه سوى غلامه، فقال للغلام: اصنع هذه المزورة، وكان رؤساء البلد عنده حاضراً، وقد جاء يعوده، فقال ذاك الرئيس: هذا الغلام ما يحسن طبخها، وعندي طباخ من صفته وصفته، وبالغ في حسن صنعته، فترك الغلام عملها اعتماداً على ذلك الرئيس وقعد البحتري ينتظرها، واشتعل الرئيس عنها ونسي أمرها، فلما أبطأت عنه وفات وقت وصولها إليه، كتب إلى الرئيس: وجدت وعدك زوراً في مزورة ... حلفت مجتهداً إحكام طاهيها فلا شفى الله من يرجو الشفاء بها ... ولا علت كف ملق كفه فيها فاحبس رسولك عني أن يجيء بها ... فقد حبست رسولي عن تقاضيها وأخباره ومحاسنه كثيرة فلا حاجة إلى الإطالة. ولم يزل شعره غير مرتب حتى جمعه أبو بكر الصولي ورتبه على الحروف، وجمعه أيضاً علي بن حمزة الأصبهاني، ولم يرتبه على الحروف بل على الأنواع كما صنع بشعر أبي تمام. وللبحتري أيضاً كتاب " حماسة " على مثال " حماسة أبي تمام " وله كتاب " معاني الشعر ": وكانت ولادته سنة ست وقيل خمس ومائتين، وتوفي سنة أربع وثمانين وقيل خمس وثمانين وقيل ثلاث وثمانين ومائتين، والأول أصح والله أعلم. وقال ابن الجوزي في كتاب " أعمار الأعيان ": توفي البحتري وهو ابن ثمانين سنة، والله أعلم بالصواب، وكان موته بمنبج، وقيل بحلب، والأول أصح. وقال الخطيب في " تاريخ بغداد " (2) : إنه كان يكنى أبا الحسن وأبا عبادة، فأشير عليه في أيام المتوكل أن يقتصر على أبي عبادة فإنها أشهر، ففعل.   (1) المزورة: نوع من الحساء يصنع للمريض. (2) تاريخ بغداد 13: 447. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 28 وأهل الأدب كثيراً ما يسألون عن قول أبي العلاء المعري (1) : وقال الوليد: النبع ليس بمثمر ... وأخطأ، سرب الوحش من تمر النبع فيقولون: من هو الوليد المذكور وأين قال النبع ليس بمثمر ولقد سألني عنه جماعة كثيرة، والمراد بالوليد هو البحتري المذكور، وله قصيدة طويلة يقول فيها (2) : وعيرتني سجال العدم جاهلة ... والنبع عريان ما في فرعه ثمر وهذا البيت هو المشار إليه في بيت المعري، وإنما ذكرت هذا لأنه فائدة تستفاد. وعبيد الله وأخوه أبو عبادة، ابنا يحيى بن الوليد البحتري، اللذان مدحهما المتنبي في قصائده، هما حفيدا البحتري الشاعر المذكور، وكانا رئيسين في زمانهما. والبحتري: بضم الباء الموحدة وسكون الحاء المهملة وضم التاء المثناة من فوقها وبعدها راء، هذه النسبة إلى بحتر، وهو أحد أجداده، كما تقدم ذكره في عمود نسبه. وزردفنة (3) : بفتح الزاي وسكون الراء وفتح الدال المهملة، وسكون الفاء وفتح النون وبعدها هاء ساكنة، وهي قرية من قرى منبج، بالقرب منها. ومنبج: بفتح الميم وسكون النون وكسر الباء الموحدة وبعدها جيم، وهي بلدة بالشام بين حلب والفرات بناها كسرى لما غلب على الشام، وسماها منبه، فعربت فقيل منبج، ولكونها وطن البحتري كان يذكرها في شعره كثيراً، فمن ذلك قوله في آخر قصيدة طويلة يخاطب بها الممدوح، وهو أبو جعفر محمد بن حميد بن عبد الحميد الطوسي (4) :   (1) من قصيدة له في وداع بغداد مطلعها: نبي من الغربان ليس على شرع ... يخبرنا أن الشعوب إلى صدع (انظر شروح السقط: 1348) ؛ يقول: زعم البحتري أن النبع غير مثمر وقد أخطأ، لأن القسي تعمل من النبع ويصطاد بها الحيوان، ذلك هو ثمره. (2) ديوان البحتري: 954. (3) ص ن: وجرد فنة، بفتح الجيم وسكون الراء ... ألخ. (4) ديوان البحتري: 405. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 29 لا أنسين زمناً لديك مهذباً ... وظلال عيش كان عندك سجسج في نعمة أوطنتها وأقمت في ... أفيائها فكأنني في منبج وكان البحتري مقيماً في العراق في خدمة المتوكل والفتح بن خاقان، وله الحرمة التامة، فلما قتلا، كما هو مشهور في أمرهما، رجع إلى منبج، وكان يحتاج للترداد إلى الوالي بسبب مصالح أملاكه، ويخاطبه بالأمير لحاجته إليه، ولا تطاوعه نفسه إلى ذلك، فقال منها (1) : مضى جعفر والفتح بين مرملٍ ... وبين صبيغ بالدماء مضرج أأطلب أنصاراً على الدهر بعدما ... ثوى منهما في الترب أوسي وخزرجي أولئك ساداتي الذين بفضلهم ... حلبت أفاويق الربيع المثجج مضوا أمماً وخلفت بعدهم ... أخاطب بالتأمير والي منبج وذكر المسعودي في " مروج الذهب " (2) أن هارون الرشيد اجتاز ببلاد منبج ومعه عبد الملك بن صالح وكان أفصح ولد العباس في عصره، فنظر إلى قصر مشيد وبستان معتمر بالأشجار كثير الثمار، فقال: لمن هذا فقال: هو لك ولي بك يا أمير المؤمنين، وقال: كيف بناء هذا القصر قال: دون منازل أهلي، وفوق منازل الناس. قال: فكيف مدينتك قال: عذبة الماء باردة الهواء، صلبة الموطأ قليلة الأدواء، قال: فكيف ليلها قال: سحر كله، انتهى كلام المسعودي. (297) وعبد الملك المذكور هو أبو عبد الرحمن عبد الملك بن صالح بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب، رضي الله عنه. وكانت منبج إقطاعاً له وكان مقيماً بها. وتوفي سنة تسع وتسعين ومائة بالرقة، رحمه الله تعالى. وله بلاغة وفصاحة أضربت عن ذكرها خوف الإطالة. وذكر ياقوت الحموي في كتابه " المشترك " (3) : باب السقيا خمسة مواضع،   (1) ديوانه: 418. (2) مروج الذهب 3: 405. (3) المشترك: 250. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 30 ثم قال في آخر هذا الباب: والخامس قرية على باب منبج ذات بساتين، وهي وقف على ولد البحتري الشاعر، وقد ذكرها أبو فراس بن حمدان في شعره. 771 - (1) الوليد بن طريف الشاري الوليد بن طريف بن الصلت بن طارق بن سيحان بن عمرو [بن فدوكس ابن عمرو] بن مالك الشيباني - هكذا ذكره أبو سعد السعماني في كتاب " الأنساب " في موضعين أحدهما في ترجمة الأراقم (2) ، والآخر في ترجمة السيحاني، بكسر السين المهملة - الشاري، أحد الشجعان الطغاة الأبطال، كان رأس الخوارج وكان مقيماً بنصيبين والخابور وتلك النواحي، وخرج في خلافة هارون الرشيد وبغى، وحشد جموعاً كثيرة فأرسل إليه هارون الرشيد جيشاً كثيفاً مقدمه أبو خالد يزيد بن مزيد بن زائدة الشيباني - وسيأتي ذكره في حرف الياء إن شاء الله تعالى - فجعل يخاتله ويماكره، وكانت البرامكة منحرفة (3) عن يزيد فأغروا به الرشيد وقالوا: إنه يراعيه لأجل الرحم، وإلا فشوكة الوليد يسيرة، وهو يواعده وينتظر ما يكون من أمره، فوجه إليه الرشيد كتاب مغضب وقال: لو وجهت أحد الخدم لقام بأكثر مما تقوم به ولكنك مداهن متعصب،   (1) أخباره في تاريخ الطبري وابن الأثير (ج: 6) والنجوم الزاهرة 2: 95 واليعقوبي ومروج الذهب والعيون والحدائق: 296 ومرآة الجنان 1: 370 والسمط: 913 ومعاهد التنصيص 3: 161 وعبر الذهبي 1: 272 والشذرات 1: 288؛ والزيادة في نسبه من النسختين ص ن ولم يرفع النسب: في بر من، وقال ابن حزم في الجمهرة: الوليد بن طريف بن عامر الخارجي وهو من بني صيفي بن حيي بن عمرو بن بكر بن حبيب بن عمرو بن غنم بن تغلب. (2) كذا قال، مع أن ابن الأثير يستدرك على السمعاني في هذه المادة " الأرقمي " ويقول إنه فاته النسبة غلى الأراقم. (3) ن: منحرفين. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 31 وأمير المؤمنين يقسم بالله لئن أخرت مناجزة الوليد ليبعثن إليك من يحمل رأسك إلى أمير المؤمنين، فلقي الوليد فظهر عليه فقتله، وذلك في سنة تسع وسبعين ومائة أول (1) خميس في شهر رمضان، وهي واقعة (2) مشهورة تضمنتها التواريخ. وكان للوليد المذكور أخت تسمى الفارعة، وقيل فاطمة (3) ، تجيد الشعر وتسلك سبيل الخنساء في مراثيها لأخيها صخر، فرثت أخاها الوليد بقصيدة أجادت فيها، وهي قليلة الجود، ولم أجد في مجاميع كتب إلا بعضها، حتى إن أبا علي القالي لم يذكر منها في أماليه سوى أربعة أبيات، فاتفق أني ظفرت بها كاملة فأثبتها لغرابتها مع حسنها، وهي هذه (4) : بتل نهاكى (5) رسم قبرٍ كأنه ... على جبلٍ فوق الجبال منيف فيا شجر الخابور مالك مورقاً ... كأنك لم تحزن على ابن طريف فتى لا يحب الزاد إلا من التقى ... ولا المال إلا من قناً وسيوف ولا الذخر إلا كل جرداء صلدم ... معاودةً للكر بين صفوف (6) كأنك لم تشهد هناك ولم تقم ... مقاماً على الأعداء غير خفيف ولم تستلم يوماً لورد كريهةٍ ... من السرد في خضراء ذات رفيف ولم تسع يوم الحرب، والحرب لاقح ... وسمر القنا ينكزنها (7) بأنوف حليف الندى ما عاش يرضى به الندى ... فإن مات لا يرضى الندى بحليف فقدناك فقدان الشباب وليتنا ... فديناك من فتياننا بألوف   (1) أول: سقطت من ن ع. (2) ن ع: وقعة. (3) سماها ان حزم في الجمهرة " ليلى " وكذلك ورد اسمها في حناسة البحتري. (4) هي أكثر أبياتاً مما جاء به المؤلف، في حماسة البحتري: 276 وانظر حماسة ابن الشجيري: 89. (5) ن ص: نباتي؛ حماسة البحتري: نباثاً. (6) ع: وكل رقيق الشفرتين حليف؛ حماسة البحتري: وأجرد عالي المنسجين غروف. (7) ن ص ع ق: ينهزنها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 32 وما زال حتى أزهق الموت نفسه ... شجىً لعدوٍ أو لجاً (1) لضعيف ألا يا لقومي للحمام وللبلى ... وللأرض همت بعده برجوف ألا يا لقومي للنوائب والردى ... ودهرٍ ملحٍ بالكرام عنيف وللبدر من بين الكواكب إذ هوى ... وللشمس لما أزمعت بكسوف (2) ولليث كل الليث إذ يحملونه ... إلى حفرةٍ ملحودةٍ وسقيف ألا قاتل الله الحشى حيث (3) أضمرت ... فتىً كان للمعروف غير عيوف فإن يك أراده يزيد بن مزيد ... فرب زحوف لفها بزحوف عليه سلام الله وقفاً فإنني ... أرى الموت وقاعاً بكل شريف ولها فيه مراثٍ كثيرة، فمن ذلك قولها فيه أيضاً: ذكرت الوليد وأيامه ... إذ الأرض من شخصه بلقع فأقبلت أطلبه في السماء ... كما يبتغي أنفه الأجدع أضاعك قومك فليطلبوا ... إفادة مثل الذي ضيعوا لو أن السيوف التي حدها ... يصيبك تعلم ما تصنع نبت عنك إذ جعلت هيبةً ... وخوفاً لصولك لا تقطع وكان الوليد يوم المصاف ينشد: أنا الوليد بن طريف الشاري ... قسورة لا يصطلى بناري جوركم أخرجني من داري ... ويقال إنه لما انكسر جيش الوليد وانهزم تبعه يزيد بنفسه حتى لحقه على مسافة بعيدة فقتله وأخذ رأسه، ولما قتله وعلمت بذلك أخته المذكورة لبست عدة حربها وحملت على جيش يزيد، فقال يزيد: دعوها، ثم خرج فضرب   (1) لجا: تخفيف لجأ، اي ملجأ. (2) سقط البيت من: ص ن ق. (3) ص: كيف. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 33 بالرمح فرسها وقال: اغربي غرب الله عينك (1) فقد فضحت العشيرة، فاستحيت وانصرفت. وطريف: بفتح الطاء المهملة وكسر الراء وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها فاء. وتل نهاكى - أظنه في بلد نصيبين - وهو موضع الواقعة المذكورة. والخابور: نهر معروف أوله من رأس عين وآخره عند قرقيسيا، يصب في الفرات، وعلى هذا النهر مدن صغار تشبه الكبار في عمارة بلادها وأسواقها وكثرة خيراتها، وهو مشهور فلا حاجة إلى ضبطه. والشاري: بفتح الشين المعجمة وبعد الألف راء وهو واحد الشراة، وهم الخوارج، وإنما سموا بذلك لقولهم: إنا شرينا أنفسنا في طاعة الله، أي بعناها بالجنة حين فارقنا الأئمة الجائرة. (297) والخنساء: اسمها تماضر، بضم التاء المثناة من فوقها وفتح الميم وبعد الألف ضاد مكسورة معجمة وبعدها راء، وهي ابنة عمرو بن الشريد السلمي. والخنس: تأخر الأنف عن الوجه مع ارتفاع الأرنبة، ولذلك قيل لها الخنساء.، لأنها كانت على هذه الصفة (2) ، وأخبارها مع أخيها مشهورة في مراثيها وغيرها، - وقد سبق طرف من أخبار أخيها صخر في ترجمة أبي أحمد العسكري في حرف الحاء - وقد اختلف في موضع قبره، فقيل إنه مدفون عند عسيب، وهو جبل مشهور ببلاد الروم، وإن القبر الذي هناك ينسب إلى امرئ القيس بن حجر الكندي المشهور ليس لامرئ القيس، وإنما هو لصخر المذكور، وقيل إن كل واحد من امرئ القيس وصخر مدفون هناك، وقال الحافظ أبو بكر الحازمي المقدم ذكره في كتاب " ما اتفق لفظه وافترق مسماه ": إن عسيباً جبل حجازي، ودفن عنده صخر أخو الخنساء، فعلى هذا يكون عسيب اسماً لجبلين: أحدهما بالروم وهو الأشهر، والآخر بالحجاز، وكان من لوازم ياقوت الحموي أن يذكره في كتابه الذي وضعه في البلاد المشتركة السماء، ولم أجد ذكره فيه، والله أعلم.   (1) ع ص ق بر من: عليك. (2) هنا تنتهي الترجمة موجزة في ق. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 34 772 - (1) وهب بن منبه أبو عبد الله بن منبه (2) اليماني، صاحب الأخبار والقصص، وكانت له معرفة بأخبار الأوائل وقيام الدنيا وأحوال الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه، وسير الملوك، وذكر عنه ابن قتيبة في كتاب " المعارف " (3) أنه كان يقول: قرأت من كتب الله تعالى اثنين وسبعين كتاباً. ورأيت له تصنيفاً ترجمه بذكر الملوك المتوجة من حمير وأخبارهم وقصصهم وقبورهم وأشعارهم، في مجلد واحد، وهو من الكتب المفيدة. وكان له إخوة منهم: همام بن منبه (4) ، كان أكبر من وهب، وروى عن أبي هريرة رضي الله عنه، وهو معدود من حملة الأبناء. ومعنى قولهم: " فلان من الأبناء " أن أبا مرة سيف بن ذي يزن الحميري صاحب اليمن، لما استولت الحبشة على مكة، توجه إلى كسرى أنوشروان ملك الفرس يستنجده عليهم، وقصته في ذلك مشهورة وخبره طويل، وخلاصة الأمر أنه سير معه سبعة آلاف وخمسمائة فارس من الفرس، جعل مقدمهم وهرز، هكذا قاله ابن قتيبة (5) . وقال محمد بن إسحاق: لم يسير معه   (1) ترجمته في معجم الأدباء 19: 259 وطبقات ابن سعد 5: 395 (ط: ليدن) وحلية الأولياء 4: 23 وتهذيب التهذيب 11: 166 ومرآة الجنان 1: 248 وميزان الاعتدال 4: 352 وتذكرة الحفاظ: 100 وأقواله منثورة في كتب التفسير ككتاب الطبري وكتب الأدب كعيون الأخبار والمعارف وغير ذلك؛ وانظر بروكلمان (الترجمة العربية) 1: 251 - 252، وكتابه التيجان طبع في الهند (1347هـ) . (2) زاد في ن: بن كامل بن سلخ بن ذي كبار. (3) المعارف: 459. (4) ذكر ابن قتيبة أيضاً بن منبه وعمر بن منبه. (5) المعارف: 638. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 35 سوى ثمانمائة فارس، فغرق منهم في البحر مائتان، وسلم ستمائة. قال أبو القاسم السهيلي: والقول الأول أشبه بالصواب، إذ يبعد مقاومة الحبشة بستمائة فارس. فلما وصل الجيش إلى اليمن جرت الواقعة بينهم وبين الحبشة، فاستظهرت الفرس عليهم وأخرجوهم من البلاد، وملك سيف بن ذي يزن ووهرز، وأقاموا أربع سنين، وكان سيف بن ذي يزن قد اتخذ من أولئك الحبشة خدماً، فخلوا به يوماً وهو متصيد له فزرقوه بحرابهم فقتلوه وهربوا في رؤوس الجبال، وطلبهم أصحابه فقتلوهم جميعاً، وانتشر الأمر باليمن، ولم يملكوا عليهم أحداً، غير أن أهل كل ناحية ملكوا عليهم رجلاً من حمير، فكانوا كملوك الطوائف، حتى أتى الله بالإسلام. ويقال إنها بقيت في أيدي الفرس ونواب كسرى فيها، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وباليمن من قواد أبرويز عاملان، أحدهما: فيروز الديلمي، والآخر داذويه، وأسلما، وهما اللذان دخلا على الأسود العنسي مع قيس بن المكشوح لما ادعى الأسود النبوة باليمن وقتلوه، والقصة في ذلك مشهورة، فلا حاجة إلى ذكرها. والمقصود من هذا كله أن جيش الفرس لما استوطن اليمن تأهلوا، ورزقوا الأولاد، فصار أولادهم وأولاد أولادهم يدعون الأبناء، لأنهم من أبناء أولئك الفرس. وكان طاوس العالم - المقدم ذكره - منهم أيضاً، وقد أومأت إلى ذلك في ترجمته، ولم أشرحه كما فعلت هاهنا. وأخبار وهب شهيرة فلا حاجة إلى ذكر شيء منها، ويكفي في هذا الموضع ذكر هذه الفائدة. وتوفي وهب المذكور في المحرم سنة عشر وقيل أربعة عشر وقيل ست عشرة ومائة بصنعاء في اليمن، وعمره تسعون (1) سنة، رضي الله عنه. وقد نقدم الكلام على صنعاء في ترجمة عبد الرزاق الصنعاني. وفي هذه الترجمة أسماء أعجمية، لو قيدتها لطال الشرح (2) ، وهي مشهورة فتركتها لذلك.   (1) ق: سبعون. (2) ن: شرحها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 36 773 - (1) أبو البختري أبو البختري وهب بن وهب بن وهب (2) بن كثير بن عبد الله بن زمعة بن الأسود بن عبد المطلب بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب، القرشي الأسدي المدني، حدث عن عبيد الله بن عمر العمري وهشام بن عروة بن الزبير وجعفر بن محمد الصادق وغيرهم، وروى عنه رجاء بن سهل الصاغاني وأبو القاسم بن سعيد بن المسيب وغيرهما. وكان متروك الحديث مشهوراً بوضعه، انتقل من المدينة إلى بغداد في خلافة هارون الرشيد، فولاه القضاء بعسكر المهدي في شرقي بغداد - وقد تقدم الكلام على هذا الموضع في ترجمة الواقدي في حرف الميم - ثم عزله وولاه القضاء بمدينة الرسول صلى الله عليه وسلم بعد بكار بن عبد الله الزبيري، وجعل إليه ولاية حربها مع القضاء، ثم عزله فقدم بغداد وأقام بها إلى أن توفي. وذكر الخطيب في " تاريخ بغداد " (3) في ترجمة القاضي أبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الحنفي أنه كان قاضي القضاة في بغداد، فلما مات ولي الرشيد مكانه أبا البختري وهب بن وهب القرشي. وكان فقيهاً أخبارياً ناسباً جواداً سرياً سخياً يحب المديح ويثيب عليه العطاء الجزيل، وكان إذا أعطى قليلاً أو كثيراً أتبعه عذراً إلى صاحبه، وكان يتهلل عند طلب الحاجة إليه حتى لو رآه من لا يعرفه لقال هذا الذي قضيت حاجته، وكان جعفر الصادق بن محمد الباقر - المقدم ذكره - قد تزوج بأمه بالمدينة، وله   (1) ترجمته في طبقات ابن سعد 7: 332 ومعجم الأدباء 19: 260 ونسب قريش: 222 ولسان الميزان 6: 231 وميزان الاعتدال 4: 353 ومرآة الجنان 1: 463 وعبر الذهبي 1: 334 والشذرات 1: 360 وهذه الترجمة موجزة في ق تشبه أن تكون تلخيصاً. (2) ابن وهب: تكررت مرتين فقط في: ن ق بر من. (3) تاريخ بغداد 14: 243. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 37 عنه روايات وأسانيد، واسم أمه عبدة بنت علي بن يزيد بن بركة بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف، وأمها بنت عقيل بن أبي طالب. وقد ذكره الخطيب في " تاريخ بغداد " (1) وبالغ في تقريظه والثناء عليه، وقال: دخل عليه شاعر فأنشده: إذا افتر وهب خلته برق عارض ... تبعق في الأرضين أسعده السكب وما ضر وهباً ذم من خالف الملا ... كما لا يضر البدر ينبحه الكلب لكل أناسٍ من أبيهم ذخيرة ... وذخر بني فهرٍ عقيد الندى وهب قال: فاستهل أبو البختري ضاحكاً وسر سروراً شديداً، ثم دعا عوناً له فأسر إليه شيئاً، فأتاه بصرة فيها خمسمائة دينار، فدفعها إليه. وحكى أبو الفرج الأصبهاني في كتاب " الأغاني " (2) في ترجمة أبي دلف العجلي، قال: أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار، قال: كنا عند أبي العباس المبرد يوماً وعنده فتى من ولد أبي البختري وهب بن وهب القاضي أمرد حسن الوجه، وفتى من ولد أبي دلف العجلي شبيه به في الجمال، فقال المبرد لابن أبي البختري: أعرف لجدك قصة طريفة (3) من الكرم حسنة لم يسبق إليها، فقال: وما هي قال: دعي رجل من أهل الأدب إلى بعض المواضع فسقوه نبيذاً غير الذي كانوا يشربون منه (4) ، فقال فيهم: نبيذان في مجلس واحد ... لإيثار مثر على مقتر فلو كان فعلك ذا في الطعام ... لزمت قياسك في المسكر ولو كنت تطلب شأو الكرام ... صنعت صنيعٍ أبي البختري تتبع إخوانه في البلاد ... فأغنى المقل عن المكثر   (1) تاريخ بغداد 13: 451. (2) الأغاني 8: 253. (3) ر: لطيفة؛ الأغاني: ظريفة. (4) ر ن: يشربونه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 38 فبلغت الأبيات أبا البختري فبعث إليه بثلثمائة دينار، قال ابن عمار: فقلت له: قد فعل جد هذا الفتى في مثل هذا المعنى ما هو أحسن من هذا، قال: وما فعل قلت: بلغه أن رجلاً افتقر بعد ثروة، فقالت له امرأته: افترض في الجند، فقال: إليك عني فقد كلفتني شططاً ... حمل السلاح وقول الدار عين قف أمن رجال المنايا خلتني رجلاً ... أمسي وأصبح مشتاقاً إلى التلف تمشي المنايا إلى غيري فأكرهها ... فكيف أمشي إليها بارز الكتف حسبت أن نزال القرن من خلقي ... أو أن قلبي في جنبي أبي دلف فأحضره أبو دلف ثم قال: كم أملت امرأتك أن يكون رزقك قال: مائة دينار، قال: وكم أملت أن تعيش قال: عشرين سنة، قال: فذلك على ما أملت امرأتك في مالنا دون مال السلطان، وأمر بإعطائه إياه، قال: فرأيت وجه ابن أبي دلف يتهلل، وانكسر ابن أبي البختري انكساراً شديداً، انتهى كلام صاحب الأغاني في هذا الفصل، وقد سبق في ترجمة أبي دلف القاسم بن عيسى العجلي ذكر هذه الأبيات وقائلها وصورة الحال (1) ، وبينها وبين هذه الرواية اختلاف يسير. (298) وأما الأبيات الأولى التي في أبي البختري، فهي لأبي عبد الرحمن محمد بن عبد الرحمن بن عطية العطوي الشاعر المشهور (2) ، ونسبته - بالعطوي - إلى جده عطية المذكور، وهو من البصرة من موالي بني ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، وكان معتزلياً، وله ديوان شعر. وروى الخطيب أيضاً في تاريخه (3) أن أبا البختري، قال: لأن أكون في قوم أعلم مني أحب إلي من أن أكون في قوم أنا أعلم منهم لأني إن كنت أعلمهم لم أستفد وإن كنت مع من هم أعلم مني استفدت. وروى أيضاً في تاريخه (4) أن هارون الرشيد لما قدم المدينة أعظم أن يرقى منبر   (1) انظر ج 4: 75. (2) معجم المرزباني: 377. (3) ص: 452. (4) المصدر نفسه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 39 رسول الله صلى الله عليه وسلم في قباء ومنطقة، فقال أبو البختري: حدثني جعفر بن محمد، يعني جعفر الصادق، عن أبيه قال: نزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم وعليه قباء ومنطقة مخنجراً (1) بخنجر، فقال المعافى التميمي (2) : ويل وغول لأبي البختري ... إذا توافى الناس للمحشر من قوله الزور وإعلانه ... بالكذب في الناس على جعفر والله ما جالسه ساعةً ... للفقه في بدوٍ ولا محضر ولا رآه الناس في دهره ... يمر بين القبر والمنبر يا قاتل الله ابن وهبٍ لقد ... أعلن بالزور وبالمنكر يزعم أن المصطفى أحمداً ... أتاه جبريل التقي البري عليه خف وقبا أسود ... مخنجراً في الحقو بالخنجر وحكى جعفر الطيالسي أن يحيى بن معين وقف على حلقته وهو يحدث بهذا الحديث عن جعفر الصادق، فقال له: كذبت يا عدو الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فأخذني الشرط، فقلت لهم: هذا يزعم أن رسول رب العالمين جبريل نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه قباء، قال: فقالوا لي: هذا والله قاضٍ كذاب، وأفرجوا عني. وقال ابن قتيبة في كتاب " المعارف " (3) : وكان أبو البختري ضعيفاً في الحديث، وقال الخطيب في تاريخه (4) : قال إبراهيم الحربي: قيل لأحمد بن حنبل تعلم أحداً روى " لا سبق إلا في خف أو حافر أو جناح " فقال: ما روى هذا إلا ذاك الكذاب أبو البختري. وله من التصانيف كتاب " الروايات " (5) . كتاب " طسم وجديس ". كتاب   (1) ن: محتجراً. (2) تاريخ بغداد: التيمي. (3) المعارف: 516. (4) تاريخ بغداد 13: 455. (5) ص ع ر: الرايات. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 40 " صفة النبي صلى الله عليه وسلم ". كتاب " فضائل الأنصار ". كتاب " الفضائل الكبير " ويحتوي على جميع الفضائل. كتاب " نسب ولد إسماعيل عليه السلام " ويحتوي على قطعة من الأحاديث والقصص. وأخباره ومحاسنه كثيرة، وتوفي سنة مائتين للهجرة ببغداد، في خلافة المأمون، رحمه الله تعالى. وقد ذكره ابن قتيبة في كتاب " المعارف " في موضعين، عقد له أولاً ترجمة وتكلم على حاله، ثم ذكره في ثلاثة أسماء في نسق (1) : أبو البختري وهب بن وهب بن وهب، وعد معه في ملوك الفرس بهرام بن بهرام بن بهرام، وفي الطالبين حسن بن حسن بن حسن، وفي غسان الحرث الأصغر بن الحرث الأعرج بن الحرث الأكبر، هؤلاء الذين ذكرهم ابن قتيبة، وقد جاء في المتأخرين أبو حامد الغزالي وهو محمد بن محمد بن محمد، وقد سبق ذكره في المحمدين. وأبو البختري: بفتح الباء الموحدة وسكون الخاء المعجمة وفتح التاء المثناة من فوقها وبعدها راء، وهو مأخوذ من البخترة التي هي الخيلاء، وهو يتصحف على كثير من الناس بالبحتري وهو الشاعر المقدم ذكره. وزمعة: بفتح الزاي والميم والعين المهملة وبعدها هاء ساكنة، وهي في الأصل اسم للهنة الزائدة من وراء الظلف، وبها سمي الرجل. وقد تقدم الكلام على الأسدي والمدني (2) . قلت: وبعد الفراغ من هذه الترجمة ظفرت بنكتة ينبغي إلحاقها بها، وهي أن أبا البختري المذكور قال: كنت أدخل على هارون الرشيد وابنه القاسم الملقب بالمؤتمن بين يديه، فكنت أدمن النظر إليه عند دخولي وخروجي، فقال له بعض ندمائه: ما أرى أبا البختري إلا يحب رؤوس الحملان، ففطن الرشيد، فلما دخلت عليه قال: أراك تدمن النظر إلى أبي القاسم (3) ، تريد أن تجعل انقطاعك إليه (4) ، قلت: أعيذك بالله يا أمير المؤمنين أن ترميني بما ليس في، وأما إدماني   (1) المعارف: 590. (2) هنا تنتهي الترجمة في: ع بر من. (3) كذا في المختار أيضاً وسماه أولاص " القاسم " ولعل الصواب في الموطن الثاني " ابني القاسم ". (4) ن ص ر: انقطاعه اليك. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 41 النظر إليه فلأن جعفراً الصادق رضي الله تعالى عنه روى بإسناده عن آبائه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) " ثلاث يزدن في قوة النظر (2) : النظر إلى الخضرة وإلى الماء الجاري، وإلى الوجه الحسن "، نقلتها من خط القاضي كمال الدين ابن العديم من مسودة تاريخه، والله تعالى أعلم بالصواب.   (1) ر: أخبر عن النبي (ص) أنه قال.. الخ. (2) ص ن ر: البصر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 42 حَرفُ الهَاء الجزء: 6 ¦ الصفحة: 43 فراغ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 44 774 - (1) ابن الشجري الشريف أبو السعادات هبة الله بن علي بن محمد بن حمزة الحسني، المعروف بابن الشجري البغدادي، كان إماماً في النحو واللغة وأشعار العرب وأيامها وأحوالها كامل الفضائل، متضلعاً من الآداب صنف فيها عدة تصانيف، فمن ذلك كتاب " الأمالي "، وهو أكبر تواليفه وأكثرها إفادة، أملاه في أربعة وثمانين مجلساً، وهو يشتمل على فوائد جمةمن فنون (2) الأدب، وختمه بمجلس قصره على أبيات من شعر أبي الطيب المتنبي تكلم عليها وذكر ما قاله الشراح فيها وزاد من عنده ما سنح له، وهو من الكتب الممتعة، ولما فرغ من إملائه حضر إليه أبو محمد بن عبد الله المعروف بابن الخشاب - المقدم ذكره - والتمس منه سماعه عليه فلم يجبه إلى ذلك، فعاداه ورد عليه في مواضع من الكتاب ونسبه فيها إلى الخطأ، فوقف أبو السعادات المذكور على ذلك الرد، فرد عليه في رده وبين وجوه غلطه، وجمعه كتاباً سماه " الانتصار " وهو على صغر حجمه مفيد جداً، وسمعه عليه الناس، وجمع أيضاً كتاباً سماه " الحماسة " ضاهى به حماسة أبي تمام الطائي، وهو كتاب غريب مليح (3) أحسن فيه، وله في النحو عدة تصانيف وله " ما اتفق لفظه واختلف معناه " وشرح " اللمع " لابن جني، وشرح " التصريف الملوكي ".   (1) ترجمته في عبر الذهبي 4: 116 والبدر السافر، الورقة: 219 وانباه الرواة 3: 356 وفي الحاشية ذكر لمصادر أخرى، وهذه الترجمة موجزة في ق، ولكن على طريقة مختلفة عن الإيجاز المعتمد في المختار. (2) بر: وفنون. (3) ص: مليح غريب. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 45 وكان حسن الكلام حلو الألفاظ فصيحاً جيد البيان والتفهيم (1) ، وقرأ الحديث بنفسه على جماعة من الشيوخ المتأخرين مثل أبي الحسن (2) المبارك بن عبد الجبار بن أحمد بن القاسم الصيرفي، وأبي علي محمد بن سعيد بن نبهان (3) الكاتب وغيرهما. وذكره الحافظ أبو سعج بن السمعاني في كتاب " الذيل "، وقال: اجتمعنا في دار الوزير أبي القاسم علي بن طراد الزينبي وقت قراءتي عليه الحديث، وعلقت عنه شيئاً من الشعر في المدرسة، ثم مضيت إليه وقرأت عليه جزءاً من أمالي أبي العباس ثعلب النحوي. وحكى أبو البركات عبد الرحمن بن الأنباري النحوي - المقدم ذكره - في كتابه الذي سماه " مناقب الأدباء " (4) أن العلامة أبا القاسم محمود الزمخشري - المقدم ذكره - لما قدم بغداد قاصداً الحج في بعض أسفاره مضى إلى زيارة شيخنا أبي السعادات ابن الشجري ومضينا معه إليه، فلما اجتمع به أنشده قول المتنبي: واستكبر الأخبار قبل لقائه ... فلما التقينا صغر (5) الخبرَ الخبرُ ثم أنشده بعد ذلك: كانت مساءلة الركبان تخبرنا (6) ... عن جعفر بن فلاح أحسن الخبرِ ثم التقينا فلا والله ما سمعت ... أذني بأحسن مما قد رأى بصري وهذان البيتان قد تقدم ذكرهما في ترجمة جعفر بن فلاح (7) ، وهما منسوبان   (1) بر: والتفهم. (2) ع ن: الحسين. (3) ر ن: بيان؛ وسقطت من: بر من. (4) طبقات الأدباء: 274 - 275. (5) المختار: أصدق. (6) ع بر من: تخبرني. (7) انظر ج 1: 361. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 46 إلى أبي القاسم محمد ابن هانئ الأندلسي - وقد تقدم ذكره أيضاً - وينسبان إلى غيره أيضاً، والله أعلم. قال ابن الأنباري، فقال العلامة الزمخشري: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما قدم عليه زيد الخيل قال له: " يا زيد، ما وصف لي أحد في الجاهلية فرأيته في الإسلام إلا دون ما وصف لي، غيرك ". قال ابن الأنباري، فخرجنا من عنده ونحن نعجب، كيف يستشهد الشريف بالشعر والزمخشري بالحديث وهو رجل عجمي (1) وهذا الكلام، وإن لم يكن عين كلام ابن الأنباري، فهو في معناه، لأني لم أنقله من الكتاب، بل وقفت عليه منذ زمان وعلق بخاطري، وإنما ذكرت هذا لأن الناظر قد يقف على كتاب ابن الأنباري فيجد بين الكلامين اختلافاً فيظن أني تسامحت في النقل. وكان أبو السعادات المذكور نقيب الطالبيين بالكرخ نيابة عن والده الطاهر، وله شعر حسن فمن ذلك قصيدة يمدح بها الوزير نظام الدين أبا نصر المظفر بن علي بن محمد بن جهير، أولها: هذي السديرة والغدير الطافح ... فاحفظ فؤادك إنني لك ناصح يا سدرة الوادي الذي إن ضله ال ... ساري هداه نشره المتفاوح هل عائد قبل الممات لمغرمٍ ... عيش تقضى في ظلالك صالح ما أنصف الرشأ الضنين بنظرة ... لما دعا مصغي الصبابة طامح شط المزار به وبوئ منزلاً ... بصميم قلبك فهو دانٍ نازح غصن يعطفه النسيم وفوقه ... قمر يحف به ظلام جانح وإذا العيون تساهمته لحاظها ... لم يرو منه الناظر المتراوح ولقد مررنا بالعقيق فشاقنا ... فيه مراتع للمها ومسارح   (1) نص كلامه: فتعجب الحاضرون من كلامهما، لأن الخبر كان أليق بالشريف والشغر أليق بالزمخشري. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 47 ظلنا به نبكي فكم من مضمرٍ ... وجداً أذاع هواه دمع سافح مرت الشؤون رسومها فكأنما ... تلك العراص المقفرات نواضح يا صاحبي تأملا حييتما ... وسقى دياركما الملث الرائح أدمى بدت لعيوننا أم ربرب ... أم خرد أكفالهن رواجح أم هذه مقل الصوار رنت لنا (1) ... خلل البراقع أم قنا وصفائح لم يبق جارحة وقد واجهتنا ... إلا وهن لها بهن جوارح كيف ارتجاع القلب من أسر الهوى ... ومن الشقاوة أن يراض القارح لو بله من ماء ضارج شربة ... ما أثرت للوجد فيه لواقح ومن هاهنا يخرج إلى المديح فأضربت عنه خوف الإطالة، ولم يكن المقصود إلا إثبات شيء من نظمه ليستدل به على طريقه فيه (2) . ومن شعره أيضاً: هل الوجد خافٍ والدموع شهود ... وهل مكذب قول الوشاة جحود وحتى متى تفي شؤونك بالبكا ... وقد حد حداً للبكاء لبيد وإني وإن جفت (3) قناتي كبرة ... لذو مرة في النائبات جليد وفيه إشارة إلى أبيات لبيد بن ربيعة العامري (4) : تمنى ابنتاي أن يعيش أبوهما ... وهل أنا إلا من ربيعة أو مضر فقوما فنوحا بالذي تعلمانه ... ولا تخمشا وجهاً ولا تحلقا شعر وقولا: هو المرء الذي لا صديقه ... أضاع، ولا خان العهود ولا غدر   (1) بر: لقد رنت. (2) ن ص ر: على المراد من طريقه فيه. (3) ق: خفت؛ ع بر من: حنت. (4) ديوان لبيد: 213؛ وفي ع بر من: فتذكر بعدها إن شاء الله تعالى؛ ولم يورد الأبيات. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 48 إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ... ومن يبك حولاً كاملاً فقد اعتذر وإلى هذا أشار أبو تمام الطائي بقوله (1) : ظعنوا فكان بكاي حولاً بعدهم ... ثم ارعويت وذاك حكم لبيد وقال الشريف (2) أبو السعادات المذكور: أنشدني أبو إسماعيل الحسين الطغرائي - قلت: قد تقدم ذكره - لنفسه (3) : وإذا لم تكن ملكاً مطاعاً ... فكن عبداً لمالكه مطيعاً وإن لم تملك الدنيا جميعاً ... كما تهواه فاتركها جميعا هما سببان (4) من ملك ونسكٍ ... ينيلان الفتى الشريف الرفيعا فمن يقنع من الدنيا بشيء ... سوى هذين عاش (5) بها وضيعا وكان بين أبي السعادات المذكور وبين أبي محمد الحسن بن أحمد بن محمد بن جكينا البغدادي الحريمي الشاعر المشهور - وهو المذكور في ترجمة أبي محمد القاسم بن علي الحريري صاحب المقامات - تنافس جرت (6) العادة بمثله بين أهل الفضائل، فلما وقف على شعره عمل فيه قوله: يا سيدي والذي يعيذك من ... نظم قريض يصدا به الفكر مالك من جدك النبي سوى ... أنك ما ينبغي لك الشعر وشعره وماجراياته كثيرة، والاختصار أولى.   (1) ديوان أبي تمام 1: 392. (2) هذا النص حتى آخر الأبيات سقط من: ع بر من. (3) ديوان الطغراني: 67. (4) ص ر: سيان، وكذلك في الديوان. (5) ن ص ر: يحي. (6) ص ر: كما جرت. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 49 وكانت ولادته في شهر رمضان سنة خمسين وأربعمائة. وتوفي في يوم الخميس السادس والعشرين من شهر رمضان سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة، ودفن من الغد في داره بالكرخ من بغداد، رحمه الله تعالى. والشجري: بفتح الشين المعجمة والجيم وبعدها راء، هذه النسبة إلى شجرة، وهي قرية من أعمال المدينة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، وشجرة أيضاً اسم رجل، وقد سمت به العرب ومن بعدها، وقد انتسب إليه خلق كثير من العلماء وغيرهم ولا أدري إلى من ينتسب الشريف المذكور منهما هل نسبته إلى القرية، أم إلى أحد أجداده كان اسمه شجرة، والله أعلم. وقد تقدم الكلام على الكرخ في ترجمة معروف الكرخي، رضي الله عنه (1) ، فأغنى عن إعادته. 775 - (2) البديع الاسطرلابي أبو القاسم هبة الله بن الحسين بن يوسف، وقيل أحمد، المنعوت بالبديع الاسطرلابي الشاعر المشهور، وأحد الأدباء الفضلاء، كان وحيد زمانه في عمل الآلات الفلكية، متقناً لهذه الصناعة، وحصل له من جهة عملها مال جزيل في خلافة الإمام المسترشد، ولما مات لم يخلفه في شغله مثله. وقد ذكره أبو المعالي الحظيري في كتابه الذي سماه " زينة الدهر " وذكره العماد الأصبهاني في كتاب   (1) ر: رحمه الله تعالى. (2) ترجمته في معجم الأدباء 19: 273 والفوات 2: ومرآة الجنان 3: 261 وابن العبري: 363 ومرآة الزمان: 184 وأخبار الحكماء: 222 وابن ابي أصيبعة 1: 280 والنجوم الزاهرة 5: 275، ولا تزيد هذه الترجمة عن تسعة سطور في ق. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 50 " الخريدة " وكل منهما أثنى عليه، وأورد عدة مقاطيع من شعره، فمن ذلك قوله: أهدي لمجلسه الكريم، وإنما ... أهدي له ما حزت من نعمائه كالبحر يمطره السحاب وما له ... فضل عليه لأنه من مائه وهذان البيتان من أسير (1) شعره، وقد قيل إنهما لغيره. وله أيضاً: أذاقني حمرة المنايا ... لما اكتسى خضرة العذار وقد تبدى السواد فيه ... وكارتي بعد في العيار هكذا وجدت هذين البيتين في " زينة الدهر " تأليف أبي المعالي الحظيري منسوبين إلى البديع المذكور، ورأيت في موضع آخر أنهما لأبي محمد بن جكينا - في ترجمة الشريف أبي السعادات ابن الشجري - والله أعلم. وهذه العبارة من اصطلاح البغاددة يقولون: " كارتي في العيار " بمعنى أنه ناشب معه لم يتخلص (2) منه، والكارة عندهم في الدقيق بمثابة الجملة في ديار مصر. ومن شعره: قال قوم عشقته أمرد الخ ... د وقد قيل: إنه نكريش قلت فرخ الطاووس أحسن ما كا ... ن إذا ما عملا عليه الريش قوله " نكريش " لفظة عجمية، والأصل فيها نيك ريش، معناها لحية جيدة، وهو على ما تقرر من اصطلاح العجم أنهم يقدمون ويؤخرون في ألفاظهم المركبة، فنيك: جيد، وريش: لحية. وكان كثير الخلاعة يستعمل المجون في أشعاره حتى يفضي به إلى الفحش في اللفظ، فلهذا اقتصرت على هذه النبذة مع كثرة شعره، وكان قد جمعه   (1) ر: أشهر. (2) ع ن: يخلص. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 51 ودونه، واختار ابن حجاج ورتبه على مائة وأحد وأربعين باباً، وجعل كل بابا في فن من فنون شعره، وقفاه وسماه " درة التاج من شعر ابن حجاج " وكان ظريفاً في جميع حركاته، وتوفي سنة أربع وثلاثين وخمسمائة، بعلة الفالج، ودفن بمقبرة الوردية بالجانب الشرقي من بغداد، رحمه الله تعالى. والأسطرلابي (1) : بفتح الهمزة وسكون السين المهملة وضم الطاء المهملة وبعدها راء ثم لام ألف ثم باء موحدة، هذه النسبة إلى الأسطرلاب، وهو الآلة المعروفة، قال كوشيار (2) بن لبابة بن باشهري الجيلي صاحب كتاب " الزيج " في رسالته التي وضعها في علم الأسطرلاب: إن الأسطرلاب كلمة يونانية معناها ميزان الشمس، وسمعت بعض المشايخ يقول: إن لاب اسم الشمس بلسان اليونان فكأنه قال: أسطر الشمس، إشارة إلى الخطوط التي فيه، وقيل إن أول من وضعه بطليموس صاحب المجسطي، وكان سبب وضعه له أنه كان معه كرة فلكية وهو راكب، فسقطت منه، فداستها دابته فخسفتها (3) ، فبقيت على هيئة الأسطرلاب، وكان أرباب علم الرياضة يعتقدون أن هذه الصورة لا ترسم إلا في جسم كري على هيئة الأفلاك، فلما رآه بطليموس على تلك الصورة علم أنه يرتسم في السطح ويكون نصف دائرة ويحصل منه ما يحصل من الكرة، فوضع الأسطرلاب، ولم يسبق إليه، وما اهتدى أحد من المتقدمين إلى أن هذا القدر يتأتى في الخط. ولم يزل الأمر مستمراً على استعمال الكرة والأسطرلاب إلى أن استنبط الشيخ شرف الدين الطوسي - المذكور في ترجمة الشيخ كمال الدين بن يونس رحمهما الله تعالى، وهو شيخه في فن الرياضة (4) - أن يضع المقصود من الكرة والأسطرلاب في خط فوضعه وسماه " العصا " وعمل له رسالة بديعة. وكان قد أخطأ في بعض هذا الوضع، فأصلحه الشيخ كمال الدين المذكور،   (1) ص: والاصطرلابي. (2) كوشياد. وكوشيار (442 - 494) انظر كشف الظنون تحت مادة " زيج كوشيار ". (3) ر: فسحقتها. (4) ترجمة كمال الدين ابن يونس ج 5: 311 وذكر شرف الدين الطوسي ص: 314 من الجزء المذكور. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 52 وهذبه، والطوسي أول من أظهر هذا في الوجود، ولم يكن أحد من القدماء يعرفه. فصارت الهيئة توجد في الكرة التي هي جسم لأنها تشتمل على الطول والعرض والعمق، وتوجد في السطح الذي هو مركب من الطول والعرض بغير عمق، وتوجد في الخط الذي هو عبارة عن الطول فقط بغير عرض ولا عمق، ولم يبق سوى النقطة، ولا يتصور أن يعمل فيها شيء لأنها ليست جسماً ولا سطحاً، ولا خطاً بل هي طرف السطح، والسطح طرف الجسم، والنقطة لا تتجزأ، فلا يتصور أن يرتسم فيها شيء، وهذا وإن كان خروجاً عما نحن بصدده لكنه أيضاً فائدة، والاطلاع عليه أولى من إهماله، وسياق الكلام جره والله تعالى أعلم (1) . 776 - (2) ابن قطان البغدادي أبو القاسم هبة الله بن الفضل بن القطان بن عبد العزيز بن محمد بن الحسين بن علي بن أحمد ابن الفضل بن يعقوب بن يوسف بن سالم (3) ، المعروف بابن قطان الشاعر المشهور البغدادي، وقد سبق شيء من شعره وطرف من خبره في ترجمة حيص بيص في حرف السين، وفي ترجمة ابن السوادي في أواخر حرف العين (4) . وكان أبو القاسم المذكور قد سمع الحديث من جماعة من المشايخ، وسمع   (1) علق بعضهم في هامش المختار بخط مختلف عن خط الأصل عند هذا الموضع بقوله: تأمل ما في هذا الكلام من الخطأ والخبط وسبب ذلك تكلم المصنف وغير المصنف فيما لا علم له به، فيستغرب كلامه من لا يعرف ذلك العلم ويستعظمه، ولم يعلم ما تحته من التخليط ... الخ. (2) انظر أخبار الدولة السلجوقية: 120 ولسان الميزان 6: 189 ومرآة الزمان: 187 ومرآة الجنان 3: 315 والمنتظم 10: 207 وابن أبي أصيبعة 1: 283 - 290. (3) ص ر ن: ابن غانم المتوثي. (4) انظر 2: 363، 3: 481. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 53 عليه وكان غاية في الخلاعة والمجون، كثير المزاح والمداعبات (1) ، مغرى بالولوع بالمتعجرفين والهجاء لهم، وله في ذلك نوادر ووقائع وحكايات ظريفة، وله ديوان شعر. وقد ذكره أبو سعد السمعاني في كتاب " الذيل " فقال: شاعر مجود (2) ، مليح الشعر رقيق الطبع، إلا أن الغالب عليه الهجاء، وهو ممن يتقى لسانه، ثلاب، ثم قال: كتبت عنه حديثين لا غير، وعلقت عنه مقطعات من شعره. (299) وذكر الحافظ السلفي أباه أبا عبد اله الفضل بن عبد العزيز، وقال: إن بعض أولاد المحدثين سأله عن مولده فقال: سنة ثماني عشرة وأربعمائة ليلة الجمعة رابع عشر رجب. وقال أبو غالب شجاع بن فارس الذهلي: مات يوم الأربعاء، ودفن من الغد لست بقين من شهر ربيع الآخر سنة ثمان وتسعين وأربعمائة، بمقبرة معروف الكرخي، رضي الله عنه. وذكر العماد الكاتب الأصبهاني في كتاب " الخريدة " (3) أبا القاسم المذكور فقال: وكان مجمعاً على ظرفه ولطفه، وله ديوان شعر أكثره جيد، وعبث فيه بجماعة من الأعيان وثلبهم، ولم يسلم منه أحد لا الخليفة ولا غيره، وأخبرني بعض المشايخ أنه رآه وقال: كنت يومئذٍ صبياً فلم آخذ عنه شيئاً لكنني رأيته قاعداً على طرف دكان عطار ببغداد، والناس يقولون: هذا ابن الفضل الهجاء. وسمع الحديث من جماعة منهم أبوه وأبو طاهر محمد بن الحسن (4) الباقلاني وأبو الفضل أحمد بن الحسن بن خيرون الأمين وأبو عبد الله الحسين بن أحمد بن محمد بن طلحة بن محمد بن عثمان الكرخي (5) وغيرهم. وله مع حيص بيص ماجرايات، فمن ذلك أن حيص بيص خرج ليلة من دار الوزير شرف الدين أبي الحسن علي بن طراد الزينبي، فنبح عليه جرو كلب   (1) ص ن ر: والمداعبة. (2) من بر ر: مجيد. (3) ترجمته في الخريدة (قسم العراق) 2: 270 والنص المشار اليه غير موجود في الخريدة على هذا النحو. (4) ص ن: الحسين. (5) ع: النعالي الكرخي. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 54 وكان متقلداً سيفاً، فوكزه بعقب السيف فمات، فبلغ ذلك ابن الفضل المذكور، فنظم أبياتاً وضمنها بيتين لبعض العرب قتل أخوه ابناً له، فقدم إليه ليقتاد منه فألقى السيف من يده وأنشدهما، والبيتان المذكوران يوجدان في الباب الأول من كتاب " الحماسة "، ثم إن ابن الفضل المذكور عمل الأبيات في ورقة وعلقها في عنق كلبة لها أجر (1) ورتب معها من طردها وأولادها إلى باب دار الوزير كالمستغيثة، فأخذت الورقة من عنقها وعرضت على الوزير فإذا فيها: يا أهل بغداد إن الحيص بيص أتى ... بفعلة أكسبته الخزي في البلد هو الجبان (2) الذي أبدى تشاجعه ... على جري ضعيف البطش والجلد وليس في يده مال يديه به ... ولم يكن ببواء عنه في القود فأنشدت جعدة (3) من بعدما احتسبت ... دم الأبيلق عند الواحد الصمد " أقول للنفس تأساء وتعزية ... إحدى يدي أصابتني ولم ترد " (4) " كلاهما خلف من فقد صاحبه ... هذا أخي حين أدعوه وذا ولدي " والبيت الثالث مأخوذ من قول بعضهم: قوم إذا ما جنى جانيهم أمنوا ... من لؤم أحسابهم أن يقتلوا قودا [وهو من جملة أبيات في الكراس الذي أوله لقي بشار، وينظر في الحماسة] (5) وهذا التضمين في غاية (6) الحسن، ولم أسمع مثله مع كثرة ما يستعمل الشعراء   (1) ن: جراء؛ بر من: جرو. (2) ص: الجريء. (3) ق ن والمختار: فأنشدت أمه، وهذا لا يستدعي ضبط لفظة " جعدة " كما في سائر النسخ، في آخر الترجمة. (4) الحماسية رقم: 46 في شرح المرزوقي. (5) ما بين معقفين سقط من ع ق والمختار؛ ويبدو أنه من تحويلات المؤلف في المسودة على كراريس كانت لديه؛ في ر: الذي أوله إشارة؛ وفي ص: لقي غشارة تنظر في الحارة؛ والبيت من الحماسية رقم 66 في شرح المرزوقي. (6) بر: نهاية. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 55 التضمين في أشعارهم، إلا ما أنشدني الشيخ مهذب الدين أبو طالب محمد المعروف بابن الخيمي - المذكور في ترجمة الشيخ تاج الدين الكندي في حرف الزاي (1) - لنفسه وأخبرني أنه كان بدمشق وقد رسم السلطان بحلق لحية شخص له وجاهة بين الناس، فحلق نصفها، وحصلت فيه شفاعة، فعفا عنه في الباقي، فعمل فيه ولم يصرح باسمه، بل رمزه وستر، وهو: زرت ابن آدم لما قيل قد حلقوا ... جميع لحيته من بعد ما ضربا فلم أر النصف محلوقاً فعدت له ... مهنئاً بالذي منها له وهبا فقام ينشدني والدمع يخنقه ... بيتين ما نظما ميناً ولا كذبا إذا أتتك لحلق الذقون طائفة ... " فاخلع ثيابك منها ممعناً هربا " " وإن أتوك وقالوا: إنها نصف ... فإن أطيب نصفيها الذي ذهبا " والبيتان الأخيران منها في كتاب " الحماسة " (2) أيضاً في باب مذمة النساء، لكن الأول منهما فيه تغيير، فإن بيت الحماسة: لا تنكحن عجوزاً إن أتيت بها ... واخلع ثيابك منها ممعناُ هربا وحضر ليلة الحيص بيص وابن الفضل المذكور على السماط عند الوزير في شهر رمضان، فأخذ ابن الفضل قطاة مشوية، وقدمها إلى الحيص بيص، فقال الحيص بيص للوزير: يا مولانا هذا الرجل يؤذيني، فقال الوزير كيف ذلك قال: لأنه يشير إلى قول الشاعر: تميم بطرق اللؤم أهدى من القطا ... ولو سلكت سبل المكارم ضلت وكان الحيص بيص تميمياً - كما تقدم في ترجمته - وهذا البيت للطرماح بن حكيم الشاعر (3) ، وهو من جملة أبيات، وبعد هذا البيت:   (1) انظر ج 2: 340. (2) الحماسية رقم: 870 في شرح المرزوقي. (3) ديوان الطرماح: 59. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 56 أرى الليل يجلوه النهار، ولا أرى ... خلال المخازي عن تميم تجلت ولو أن برغوثاً على ظهر قملة (1) ... يكر على صفي تميم لولت ودخل ابن الفضل المذكور يوماً على الوزير المذكور الزينبي، وعنده الحيص فقال: قد عملت بيتين ولا يمكن أن يعمل لهما ثالث، لأنني قد استوفيت المعنى فيهما، فقال الوزير: هاتهما، فأنشده: زار الخيال نحيلاً مثل مرسله ... فما شفاني منه الضم والقبل ما زارني قط إلا لكي يوقظني ... على الرقاد فينفيه ويرتحل فالتفت الوزير إلى الحيص وقال له: ما تقول في دعواه فقال: إن أعادهما سمع الوزير لهما ثالثاً، فقال له الوزير: أعدهما، فأعادهما، فوقف الحيص بيص لحظ ثم أنشد: وما درى أن نومي حيلة نصبت ... لطيفه حين أعيا اليقظة الحيل فاستحسن الوزير ذلك منه. وسمعت لبعض المعاصرين (2) ، ولم أتحقق أنها له حتى أعينه، وقد أخذ هذا المعنى ونظمه وأحسن فيه، وهو: يا ضرة القمرين من لمتيمٍ ... أرديته وأحلت ذاك على القضا وحياة حبك لم ينم عن سلوة ... بل كان ذلك للخيال تعرضا لا تأسفي إن زار طيفك في الكرى ... ما كان إلا مثل شخصك معرضا ثم وجدت هذه الأبيات لأبي العلاء بن أبي الندى المعروف (3) . ولما هجا قاضي القضاة جلال الدين الزينبي بالقصيدة الكافية - المقدم ذكرها   (1) ق ص ر: فارة. (2) ع: العيارين. (3) ن: الشاعر المعروف. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 57 في ترجمة ابن السوادي (1) - ولولا طولها لذكرتها، سير إليه أحد الغلمان فأحضره وصفعه وحبسه، فلما طال حبسه كتب إلى مجد الدين ابن صاحب أستاذ الدار: إليك أظل مجد الدين أشكو ... بلاء حل لست له طليقا وقوموا بلغو عني محالا ... إلى قاضي القضاة الندب سيقا فأحضرني بباب الحكم خصم ... غليظ جرني كما وزيقا وأخفق نعله بالصفع رأسي ... إلى أن أوجس القلب الخفوقا على الخصم الأداء وقد صفعنا ... إلى أن ما تهدينا الطريقا فيا مولاي هب ذا الإفك حقا ... أيحبس بعد ما استوفى الحقوقا ولما خرج من الحبس أنشد: عند الذي طرف بي أنه ... قد غض من قدري وآذاني فالحبس ما غير لي خاطراً ... والصفع ما لين آذاني وقد سبق في ترجمة الحيص أبياته الميمية في هجوه، وجواب الحيص عنها. ولما ولي الزينبي المذكور الوزارة دخل عليه ابن الفضل المذكور والمجلس محتفل بأعيان الرؤساء، وقد اجتمعوا للهناء، فوقف بين يديه ودعا له وأظهر الفرح والسرور (2) ورقص، فقال الوزير لبعض من يفضي إليه بسره: قبح الله هذا الشيخ، فإنه يشير إلى ما تقول العامة في أمثالها " ارقص للقرد في زمانه ". وقد نظم هذا المعنى في أبيات وكتبها إلى بعض الرؤساء، وهي: يا كمال الدين الذي ... هو شخص مشخص والرئيس الذي به ... ذنب دهري يمحص خذ حديثي فإنه ... نبأ سوف يرخص   (1) انظر ج 3: 482. (2) ع ن ر بر من: السرور والفرح. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 58 كلما قلت قد تبغ ... دد قومي تحمصصوا ليس إلا ستر يشا ... ل وباب مجصص وغواش على الرؤو ... س عليها المقرنص والرواشين والمنا ... ظر والخيل ترقص وأنا القرد كل يو ... م لكلب أبصبص (1) كل من صفق الزما ... ن له قمت أرقص محن لا يفيد ذا النو ... ن منها التبرصص (2) فمتى أسمع الندا ... ء وقد جا مخلص ومثل هذا قول بعضهم (3) : إذا رأيت امرءاً وضيعاً ... قد رفع الدهر من مكانه فكن له سامعاً مطيعاً ... معظماً من عظيم شانه فقد سمعنا بأن كسرى ... قد قال يوماً لترجمانه إذا زمان السباع ولى ... فارقص (4) للقرد في زمانه وحكي أنه دخل على بعض بغداد وقد تولى ولاية كبيرة لم يكن من أهلها، فسلم عليه ودعا له وهنأه بالولاية، وأطهر الفرح والسرور، ثم خرج، فقال بعض الحاضرين: هذا يشير إلى قول الناس في أمثالهم: " ارقص للقرد في زمانه ". وله القصيدة الرائية المشهورة التي جمع فيها خلقاً من الأكابر ونبز كل واحد منهم بشيء، وفيها يقول (5) :   (1) ق ص: أحفص؛ ن: أحنبص؛ بر: لقرد أبصبص. (2) التبرصص: لعله سلوك طريق برصيصا أحد عباد بني إسرائيل. (3) سقط الشعر من ع وكذلك بر من، الحكاية التي بعده. (4) ن ق: أرقص. (5) أورد ابن أبي أصيبعة عدداً من أبياتها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 59 تكريت تعجزنا ونحن بجهلنا ... نمضي لنأخذ ترمذاً من سنجر ومنها البيت السائر وهو: نسب إلى العباس ليس شبيهه ... في الضعف غير الباقلاء الأخضر وأنشدني له بعض أصحابنا المتأدبين قوله: سعى إحسانه بيني ... وبين الدهر بالصلح أياد ملأت بيتي ... على بيت من المدح ودخل يوماً على الوزير ابن هبيرة وعنده نقيب الأشراف، وكان ينسب إلى البخل، وكان في شهر رمضان والحر شديد، فقال له الوزير: أين كنت فقال: في مطبخ سيدي النقيب، فقال له: ويحك! أيش عملت في شهر رمضان في المطبخ فقال: وحياة مولانا كسرت الحر، فتبسم الوزير وضحك الحاضرون وخجل النقيب. وهذا الكلام على اصطلاح أهل تلك البلاد، فإنهم يقولون: كسرت الحر في الموضع الفلاني، إذا اختار موضعاً بارداً يقيل فيه (1) . وقصد دار بعض الأكابر في بعض الأيام فلم يؤذن له في الدخول، فعز عليه فأخرجوا من الدار طعاماً وأطعموه كلاب الصيد وهو يبصره، فقال: مولانا يعمل بقول الناس: لعن الله شجرة لا تظل أهلها. وقعد يوماً مع زوجته يأكل طعاماً، فقال لها: اكشفي رأسك، ففعلت، وقرأ (قل هو الله أحد) الإخلاص، فقالت له: ما الخبر فقال: إن المرأة إذا كشفت رأسها لم تحضر الملائكة عليهم السلام، وإذا قرئ (قل هو الله أحد) هربت الشياطين، وأنا أكره الزحمة على المائدة. وأخباره كثيرة (2) ، وكانت ولادته سنة سبع وسبعين وأربعمائة، وقال السمعاني: سألته عن مولده فقال: ولدت ضاحي نهار يوم الجمعة السابع من ذي الحجة سنة ثمان وسبعين. وتوفي يوم السبت الثامن والعشرين من رمضان سنة ثمان وخمسين   (1) زاد في المختار: قصد أنه لبخله لا يطبخ شيئاً فيه، فهو بارد لذلك. (2) المختار: وأخباره ونوادره، وهنا تنتهي الترجمة في المختار. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 60 وخمسمائة ببغداد، ودفن بمقبرة معروف الكرخي، رحمه الله تعالى، وقال السمعاني: توفي يوم عيد الفطر، والله أعلم. ولولا إيثار الاختصار لذكرت من أحواله ومضحكاته شيئاً كثيراً، فإنه كان آية في هذا الباب. وقوله في الأبيات الدالية " ولم يكن ببواء عنه في القود " فالبواء - بفتح الباء الموحدة وبعدها الواو والهمزة ممدودة - ومعناها السواء، ويقال: دم فلان بواء لدم فلان، إذا كان مكافئاً له. وجعدة المذكورة في هذه الأبيات أيضاً - بفتح الجيم والدال المهملة وبينهما عين مهملة ساكنة وفي الأخير هاء ساكنة - وهو اسم من أسماء الكلبة، هكذا سمعته ولم أره في شيء من كتب اللغة، بل الذي قالاه أرباب اللغة إن " أبا جعدة " كنية الذئب، " وجعدة " اسم النعجة، كني الذئب بها لمحبته إياها، والله أعلم. [والمتوثي: بفتح الميم وتشديد التاء المثناة من فوقها وسكون الواو وبعدها ثاء مثلثة، هذه النسبة إلى متوث، وهي بلدة بين قرقوب وكورة الأهواز] (1) . 777 - (2) ابن سناء الملك القاضي السعيد أبو القاسم هبة الله بن القاضي الرشيد أبي الفضل جعفر بن المعتمد سناء الملك أبي عبد الله محمد بن هبة الله بن محمد السعدي، الشاعر المشهور، المصري صاحب الديوان الشعر البديع والنظم الرائق، أحد الفضلاء الرؤساء النبلاء، وكان كثير التخصص والتنعم وافر السعادة محظوظاً من الدنيا، أخذ الحديث عن الحافظ أبي الطاهر أحمد بن محمد ابن أحمد السلفي الأصبهاني رحمه الله تعالى،   (1) زيادة من ص ن ر، لأنه ولاد ذكر: ابن غانم المتوثي، في نسبه. (2) ترجمته في معجم الأدباء 19: 265 والخريدة (قسم مصر) 1: 64 وعبر الذهبي 5: 29 والشذرات 5: 35 والبدر السافر، الورقة: 217 وعقود الجمان 9: 209. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 61 واختصر كتاب " الحيوان " للجاحظ، وسمى المختصر " روح الحيوان " وهي تسمية لطيفة [وله كتاب مصايد الشوارد] (1) ، وله ديوان جميعه موشحات سماه " دار الطراز " (2) وجمع شيئاً من الرسائل الدائرة بينه وبين القاضي الفاضل وفيه كل معنى مليح (3) . واتفق في عصره بمصر جماعة من الشعراء المجيدين، وكان لهم مجالس يجري بينهم فيها مفاكهات ومحاورات يروق سماعها. ودخل في ذلك الوقت إلى مصر شرف الدين بن عنين - المقدم ذكره في المحمدين - فاحتفلوا به وعملوا له وكانوا يجتمعون على أرغد عيش، وكانوا يقولون: هذا شاعر الشام، وجرت لهم محافل سطرت عنهم، ولولا خشية التطويل لذكرت بعضها. ومن محاسن شعره بيتان من جملة قصيدة يمدح بها القاضي الفاضل رحمه الله تعالى، وهما (4) : ولو أبصر النظام جوهر ثغرها ... لما شك فيه أنه الجوهر الفرد ومن قال إن الخيزرانة قدها ... فقولوا له إياك أن يسمع القد ومن شعره أيضاً (5) : لا الغصن يحكيك ولا الجؤذر ... حسنك مما كثروا أكثر يا باسماً أبدى لنا ثغره ... عقداً ولكن كله جوهر قال لي اللاحي: أما تسمع (6) ... فقلت: يا لاحي أما تبصر وله يتغزل بجارية عمياء (7) :   (1) زيادة من ر. (2) ليس هذا القول بدقيق، لأن دار الطراز يحتوي مقدمة في الموشحات، ونماذج من موشحات الأندلسيين وبعض موشحات ابن سناء الملك. (3) ر: بديع مليح؛ والكتاب المشار إليه هو " فصوص الفصول " ومنه نسخة بباريس رقم: 3333. (4) ديوانه: 225 - 226. (5) ديوانه: 344. (6) ن ق والمختار: أما تستمع؛ بر من: ألا تستمع، وما أثبتناه ورد في الديوان. (7) ديوانه: 484 - 485. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 62 شمس بغير الشعر لم تحتجب ... وفي سوى العينين لم تكسف مغمدة المرهف لكنها ... تجرح بالجفن (1) بلا مرهف رأيت منها الخلد في جؤذر ... ومقلتي يعقوب في يوسف وله في غلام ضرب ثم حبس (2) : بنفسي من لم يضربوه لريبة ... ولكن ليبدو الورد في سائر الأغصان ولم يودعوه السجن إلا مخافة ... من العين أن تعدو على ذلك الحسن وقالوا له شاركت في الحسن يوسفا ... فشاركه أيضاً في الدخول إلى السجن [وله في غلام جميل الصورة حفر حومة التلاق فأصابه حجر فانكسرت أسنانه فقال (3) : نثر الجهر عقد ثغر حبيبي ... فدموعي عليه تحكي انتثاره كل سن كالأقحوانة كانت ... فغدت بالدماء كالجلناره كان في حومة التلاق وما كا ... ن بعيداً في جملة النظاره فأتته الحجارة شوقاً وزارت ... هـ فلا مرحباً بتلك الزياره كيف ينسى الفؤاد ثغر حبيب ... حسدتني عليه تلك الحجارة] وله من جملة أبيات (4) : وما كان تركي حبه عن ملالة ... ولكن لأمر يوجب القول بالترك أراد شريكاً في الذي كان بيننا ... وإيمان قلبي قد نهاني عن (5) الشرك   (1) الديوان: تقتل بالغمد. (2) ديوانه: 783. (3) ديوانه: 361، وهذه زيادة من ر. (4) ديوانه: 528. (5) ر: لا يميل إلى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 63 وله أيضاً (1) : يا عاطل الجيد إلا من محاسنه ... عطلت فيك الحشا إلا من الحزن في سلك جسمي در الدمع منتظم ... فهل لجيدك في عقد بلا ثمن لا تخش مني فإنني ضنى ... وما النسيم بمخشيٍ على الغصن وهذا البيت مأخوذ من قول ابن قلاقس - وقد تقدم ذكره في ترجمته - وهو: أعندما همت به روضة ... أعل جسمي لأكون النسيم ومن نثره في وصف النيل في سنة كان ناقصاً، ولم يوف الزيادة التي جرت بها العادة، يقال إنه كتبه من جملة رسالة إلى القاضي الفاضل، وهو: " وأما أمر الماء فإنه نضبت مشارعه، وتقطعت أصابعه، وتيمم العمود لصلاة الاستسقاء، وهم المقياس من الضعف بالاستلقاء " وهذا من أحسن ما يوصف به نقصان النيل. وكان بمصر شاعر يقال له أبو المكارم هبة الله بن وزير بن مقلد الكاتب (2) ، فبلغ القاضي السعيد المذكور عنه أنه هجاه، فأحضره إليه وأدبه وشتمه، وكتب (3) إليه نشو الملك أبو الحسن علي بن مفرج المعري الأصل، المصري الدار والوفاة، المعروف بابن المنجم، الشاعر المعروف: قل للسعيد أدام الله نعمته ... صديقنا ابن وزير كيف تظلمه صفعته إذ غدا يهجوك منتقماً ... فكيف من بعد هذا ظللت تشتمه (4) هجو بهجو، وهذا الصفع فيه رباً ... والشرع ما يقتضيه، بل يحرمه   (1) ديوانه: 855. (2) ترجمته في الخريدة (قسم مصر) 2: 143 وانظر الحاشية. (3) ص: فكتب. (4) ر: من بعد هذا اذن قط ظلت تشتمه؛ بر من: وأنت من بعد هذا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 64 فإن تقل ما لهجو عنده ألم ... فالصفع والله أيضاً ليس يؤلمه ولما مدح السعيد المذكور شمس الدولة توران شاه أخا السلطان صلاح الدين - المقدم ذكره في حرف التاء - بقصيدته التي أولها (1) : تقنعت لكن بالحبيب المعمم ... وفارقت لكن كل عيش مذمم تعصب عليه جماعة من شعراء مصر، وعابوا هذا الاستفتاح وهجنوه (2) ، فكتب إليه ابن الذروي (3) الشاعر المذكور في ترجمة سيف الدولة المبارك بن منفذ: قل للسعيد مقال من هو معجب ... منه بكل بديعةٍ ما أعجبا لقصيدك الفضل المبين، وإنما ... شعراؤنا جهلوا به المستغربا عابوا التقنع بالحبيب ولو رأى ... الطائي ما قد حكته لتعصبا ونوادر القاضي السعيد كثيرة. وتوفي في العشر الأول من شهر رمضان، سنة ثمان وستمائة بالقاهرة، وذكر صاحبنا الكمال ابن الشعار في " عقود الجمال " أنه توفي يوم الأربعاء، رابع الشهر المذكور، رحمه الله تعالى. وذكره العماد الكاتب، في كتاب " الخريدة " فقال (4) : كنت عند القاضي الفاضل في حيمته بمرج الدلهمية، ثامن عشر ذي القعدة، سنة سبعين يعني وخمسمائة، فأطلعني على قصيدة له كتبها إليه من مصر، وذكر أن سنه لم يبلغ إلى عشرين سنة فأعجبت بنظمه، ثم ذكر القصيدة العينية، التي أولها: فراق قضى للهم والقلب بالجمع ... وهجر تولى صلح عيني مع الدمع وعلى هذا التقدير يكون مولده في حدود سنة خمسين وخمسمائة، وقيل إنه   (1) ديوانه: 696. (2) ر بر من والمختار: وهجوه. (3) هو الوجيه أبو الحسن علي بن يحيى (الخريدة - قسم مصر - 1: 187 والحاشية) . (4) الخريدة 1: 64 - 65. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 65 ولد سنة ثمان وأربعين، والله أعلم. ثم قال العماد بعد الفراغ من ذكر هذه القصيدة: ثم وصل - يعني القاضي السعيد المذكور - إلى الشام، في شهر رمضان سنة إحدى وسبعين وخمسمائة في الخدمة الفاضلية، فوجدته في الذكاء آية، قد أحرز في صناعة النظم والنثر غاية تلقى عرابة العربية له باليمين راية، وقد أحلفه الإقبال الفاضلي في الفضل قبولا، وجعل طين خاطره على الفطنة مجبولاً، وانا أرجو أن ترقى في الصناعة رتبته، وتغزر عند تمادي أيامه في العلم نغبته، وتصفو من الصبا منقبته، وتروى بماء الدربة رويته، وتستكثر (1) فوائده وتؤثر قلائده (2) . (300) وتوفي والده جعفر في منتصف شهر رمضان سنة ثمانين وخمسمائة ثم رأيت بخط بعض أصحابنا ممن له عناية بهذا الفن أنه توفي يوم الثلاثاء خامس ذي الحجة سنة اثنتين وتسعين، ومولده منتصف شوال سنة خمس وعشرين وخمسمائة والله أعلم. (301) وأما أبو المكارم هبة الله بن وزير بن مقل، الشاعر المصر يالمذكور في هذه الترجمة، فإن عماد الدين الأصبهاني ذكره في كتاب " الخريدة " وقال: عدت إلى مصر في سنة ست وتسعين (3) وخمسمائة فسألت عنه فأخبرت بوفاته، رحمه الله تعالى.   (1) ص: وستكثر. (2) هنا تنتهي الترجمة في: ع بر من. (3) ص ر: ست وسبعين. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 66 778 - (1) هبة الله البوصيري أبو القاسم وابو الكرم، هبة الله بن علي بن مسعود (2) بن ثابت بن هاشم بن غالب بن ثابت، الأنصاري الخزرجي، المنستيري الأصل، المصري المولد والدار، المعروف بالبوصيري، كان أديباً كاتباً له سماعات عالية وروايات تفرد بها وألحق الأصاغر بالأكابر في علو الإسناد، ولم يكن في آخر عصره في درجته مثله، وسمع بقراءة الحافظ أبي الطاهر السلفي وإبراهيم بن حاتم الأسدي على أبي صادق مرشد بن يحيى بن القاسم المديني إمام الجامع العتيق بمصر، رحمهم الله تعالى أجمعين - والبوصيري المذكور آخر من روى في الدنيا كلها عن أبي صادق مرشد بن يحيى بن القاسم المديني المذكور - وأبي الحسين علي بن الحسين بن عمر الفراء الموصلي وأبي عبد الله محمد بن بركات هلال السعيدي النحوي سماعاً، وروى أيضاً عن أبي الفتح سلطان بن إبراهيم بن المسلم المقدسي، وهو آخر من روى عنه سماعاً في الأرض كلها، وسمع عليه الناس وأكثروا، ورحلوا إليه من البلاد. وكان جده مسعود (3) قدم من المنستير إلى بوصير، فأقام بها إلى أن عرف فضله في دولة المصريين، فطلب إلى مصر، وكتب في ديوان الإنشاء وولد له علي والد أبي القاسم المذكور بمصر، واستقروا بها وشهروا. وكان أبو القاسم يسمى " سيد الأهل " أيضاً، لكن هبة الله أشهر، وكانت ولادته سنة ست وخمسمائة بمصر، وقيل بل ولد يوم الخميس خامس ذي القعدة سنة خمسمائة. وتوفي في الليلة الثانية من صفر سنة ثمان وتسعين وخمسمائة،   (1) انظر حسن المحاضرة 1: 158 والنجوم الزاهرة 6: 182 ومرآة الجنان 3: 409 والمشترك: (بوصير) وعبر الذهبي 4: 306 والشذرات 4: 338؛ ولا تزيد هذه الترجمة في ق عن أربعة اسطر. (2) ق ن ص: سعود. (3) ق ن ص: سعود؛ ع: سعيد؛ وسقطت اللفظة من: بر من. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 67 ودفن بسفح المقطم، رحمه الله تعالى، وقال ياقوت الحموي في كتاب البلدان المشتركة الأسماء (1) : إنه مات في شوال رحمه الله تعالى. والخزرجي (2) : بفتح الخاء المعجمة وسكون الزاي وفتح الراء (3) وبعدها جيم، هذه نسبة إلى الخزرج، وهو أخو الأوس - بفتح الهمزة وسكون الواو وبعدها سين مهملة - وهما ابنا حارثة بن ثعلبة بن عمرو مزيقياء بن عامر ماء السماء، وتمام النسب معروف، وهما ابنا قيلة - بفتح القاف وسكون الياء المثناة من تحتها وفتح اللام وبعدها هاء ساكنة - ومن ذريتهما أنصار النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة. والمنستير: بضم الميم وفتح النون وسكون السين المهملة وكسر التاء المثناة من فوقها وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها راء، وهي بليدة بإفريقية، بناها هرثمة بن أعين الهاشمي في سنة ثمانين ومائة. وكان هارون الرشيد قد ولاه إفريقية، وقدم إليها (4) يوم الخميس لثلاث خلون من شهر ربيع الآخر سنة تسع وسبعين ومائة، وقد تقدمت الحوالة على هذا الموضع في ترجمة الأمير تميم بن المعز بن باديس. وبوصير: بضم الباء الموحدة وسكون الواو وكسر الصاد المهملة وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها راء، وتعرف ببوصير قوريدس، يقال كوريدس وهي بليدة بأعمال البهنسا من صعيد مصر، وقد تقدم الكلام في ترجمة عبد الحميد الكاتب على بوصير الفيوم، وبالجيزة أيضاً بليدة يقال لها بوصير (5) السدر، وبكورة السمنودية أيضاً بليدة يقال لها بوصير، فهذا الاسم يشترك فيه أربعة بلاد، والكل بالديار المصرية. والمنستير معبد بين المهدية وسوسة يأوي إليه الصالحون المنقطعون للعبادة،   (1) انظر المشترك: 70 وفيه أنه مات في ثاني صفر. (2) بر: والخزرجي قد تقدم الكلام عليه. (3) ر: وبعدها راء مفتوحة. (4) ر ع: عليها. (5) ن: أبو صير. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 68 وفيه قصور شبيهة بالخانقاهات وعلى تلك القصور سور واحد، ذكره ياقوت في كتابه، والله أعلم. 779 - (1) أمين الدولة ابن التلميذ أبو الحسن هبة الله بن أبي الغنائم صاعد بن هبة الله بن إبراهيم بن علي، المعروف بابن التلميذ النصراني الطبيب، الملقب أمين الدولة البغدادي، ذكره العماد الأصبهاني في كتاب " الخريدة " فقال: سلطان الحكماء، وبالغ في الثناء عليه وقال: هو مقصد العالم في علم الطب، بقراط عصره وجالينوس زمانه، ختم به هذا العلم، ولم يكن في الماضين من بلغ مداه في الطب، عمر طويلاً وعاش نبيلاً جليلاً، ورأيته وهو شيخ بهي المنظر، حسن الرواء، عذب المجتلى والمجتنى، لطيف الروح ظريف الشخص، بعيد الهم عالي الهمة، ذكي الخاطر مصيب الفكر حازم الرأي، شيخ النصارى وقسيسهم ورأسهم ورئيسهم، وله في النظم كلمات رائقة، وحلاوة جنية، وغزارة بهية، ومن شعره في الميزان لغزاً: ما واحد مختلف الأسماء ... يعدل في الأرض وفي السماء يحكم بالقسط بلا رياء ... أعمى يري الإرشاد كل راء أخرس لا من علةٍ ودواء ... يغني عن التصريح بالإيماء يجيب إن ناداه ذو امتراء ... بالرفع والخفض عن النداء يفصح إن علق في الهواء ...   (1) ترجمته في كعجم الأدباء 19: 276 وعبر الذهبي 4: 172 وابن أبي أصيبعة 1: 259 وفيه قسط وافر من شعره، وتاريخ الحكماء: 340. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 69 فقوله " مختلف الأسماء " يعني ميزان الشمس، وهو الاسطرلاب، وسائر آلات الرصد، وهو معنى قوله " يحكم في الأرض وفي السماء "، وميزان الكلام النحو، وميزان الشعر العروض، وميزان المعاني المنطق، وهذه الميزان والمكيال والذراع وغير ذلك، ثم بعد ذلك جملة من مقاطيع شعره نأتي بذكر بعضها إن شاء الله تعالى. وذكر في ترجمة الحكيم معتمد الملك أبي الفرج يحيى بن التلميذ النصراني الطبيب (1) ما مثاله: وكان ابن صاعد حين توفي معتمد الملك أبو الفرج قام مقامه، وهو ابن بنته، فنسب إليه وعرف به. وذكر في كتاب " أنموذج الأعيان من شعراء الزمان، فيمن أدرك بالسماع أو بالعيان (2) " أن ابن التلميذ المذكور كان متفنناً في العلوم ذا رأي رصين وعقل متين، وطالت خدمته للخلفاء والملوك، وكانت منادمته أحسن من التبر المسبوك والدر في السلوك، اجتمعت به مراراً في آخر عمره، وكنت أعجب في (3) أكره، كيف حرم الإسلام مع كمال فهمه، وغزارة عقله وعلمه، والله يهدي من يشاء بفضله، ويضل من يريد بحكمه. وكان إذا ترسل استطال وسطا، وإذا نظم وقع بين أرباب النظم وسطا، وأورد شيئاً من شعره أيضاً. وذكره أبو المعالي الحظيري - المقدم ذكره في حرف السين (4) - في كتابه " زينة الدهر " وأورد له مقاطيع، فمن ذلك قوله: يا من رماني عن قوس فرقته ... بسهم هجر على تلافيه ارض لمن غاب عنك غيبته ... فذاك ذنب عقابه فيه وذكر العماد في " الخريدة " البيت الثاني منسوباً إلى أبي محمد بن جكينا البغدادي، وضم إليه بعده: لو لم ينله من العقاب سوى ... بعدك عنه لكان يكفيه   (1) ترجمة معتمد الملك في أخبار الحكماء: 364. (2) ص ر: والعيان. (3) ص: من. (4) ج 2: 366. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 70 وذكر له الحظيري أيضاً: عاتبت إذ لم يزر خيالك وال ... نوم بشوقي إليك مسلوب فزارني منعماً وعاتبني ... كما يقال المنام مقلوب ومما ذكر له العماد في " الخريدة " قال: وأنشدني أبو المعالي هبة الله بن الحسن بن محمد بن المطلب قال: أنشدني أبو الحسن ابن التلميذ لنفسه: كانت بلهنية الشبيبة سكرة ... فصحوت واستأنفت سيرة مجمل وقعدت أرتقب الفناء كراكبٍ ... عرف المحل فبات دون منزل والثاني منهما ذكره ابن المنجم في كتاب " البارع " لمسلم بن الوليد الأنصاري (1) . وذكره أن أبا محمد ابن جكينا المذكور مرض فقصده ليعالجه فعالجه، فلما عوفي أعطاه دراهم، فعمل فيه: لما تيممته وبي مرض ... إلى التداوي والبرء محتاج آسى وواسى فعدت أشكره ... فعل امرئ للهموم فراج فقلت إذ برني وأبرأني ... هذا طبيب عليه زرباج (2) وعمل فيه أيضاً في المعنى: جاد واستنقذ المريض وقد كا ... د أن يلف ساقاً بساق والذي يدفع المنون عن النف ... س جدير بقسمة الأرزاق وقصد مرة أن يعبر إليه ليداويه، فكتب إليه:   (1) زاد في ص: وقد استعمله ابن التلميذ هاهنا تضميناً، ر: وقد استعمله هاهنا ابن التلميذ مضمناً. (2) هكذا وردت اللفظة في المختار والنسخ ن ص ق ع؛ بالباء الموحدة، وفي بعض أصول دي سلان زرباج أو ذرياج، وقدر أن تكون صورة من ترياق؛ ولعلها من الفارسية " زورباز " اي قوو الساعد. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 71 إن امرأ القيس الذي ... هام بذات المحمل كان شفاه عبرة ... وعبرة تصلح لي وكان ابن جكينا المذكور قد عمي في آخر عمره، وجرت بينهما منافرة في أمر واشتهى مصالحته (1) ، فكتب إليه: وإذا شئت أن تصالح بشا ... ر بن برد فاطرح عليه أباه فسير إليه ما طلب واسترضاه، وكانت له معه وقائع كثيرة، وإنما كتب إليه هذا البيت لأن بشار بن برد كان أعمى، - كما تقدم ذكره في ترجمته - فلما عمي شبه نفسه به، وكان مطلوبه برداً. ومعنى قوله " فاطرح عليه أباه " لأن عادة أهل بغداد إذا أراد الإنسان أن يصالح من خاصمه، والخصم ممتنع، يقال له: اطرح عليه فلاناً، بمعنى ادخل عليه به، ليشفع له، وقد حصلت له التورية في هذا البيت. ومن الشعر المنسوب إليه وهو مشهور قوله، ثم وجدتهما للناصح ابن الدهان النحوي الموصلي: تعس القياس فللغرام قضية ... ليست على نهج الحجى تنقاد منها بقاء الشوق وهو بزعمهم ... عرض وتفنى دونه الأجساد وقوله أيضاً، وذكر العماد في " الخريدة " أن هذين البيتين لأبي علي المهندس المصري، وهما: تقسم قلبي في محبة معشرٍ ... بكل فتى منهم هواي منوط كأن فؤادي مركز وهم له ... محيط وأهوائي إليه خطوط وقوله أيضاً: جوده كالطبيب فينا يداوي ... سوء أحوالنا بحسن الصنيع   (1) ر: أن يصالحه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 72 فهو كالموميا إذا انكسر العظ ... م، ومثل الترياق للملسوع ثم وجدت هذين البيتين في ديوان ابن حجاج الشاعر. وقوله في ولده سعيد: حبي سعيداً جوهر ثابت ... وحبه لي عرض زائل به جهاتي الست مشغولة ... وهو إلى غيري بها ماثل وكان أبو القاسم علي بن أفلح الشاعر - المقدم ذكره (1) - قد نقه من المرض وهو يعالجه، فكتب إليه يشكو جوعه، وقد نهاه عن استعمال الغذاء إلا بأمره، والذي كتبه (2) : أنا جوعان فأنقذ ... ني من هذي المجاعه فرجي في الكسرة الخب ... ز ولو كانت قطاعه لا تقل لي ساعة تص ... بر، مالي صبر ساعه فخواي اليوم لا يق ... بل في الخبز شفاعه فوقف ابن التلميذ على هذه الأبيات وكتب إليه جوابها: هكذا أضياف مثلي ... يتشاكون المجاعه غير أني لست أعطي ... ك مضراً بشفاعه فتعلل بسويقٍ ... فهو خير من قطاعه بحياتي قل كما نر ... سمه سمعاً وطاعه فلما وصلت الأبيات إلى ابن أفلح كتب (3) : إن مرسومك عندي ... قد توخيت استماعه   (1) انظر ج 3: 389 (الترجمة: 476) . (2) انظر بعض هذه المحاورة الشعرية في ابن أبي أصيبعة. (3) ن: كتب جوابه؛ ر: جوابها؛ بر من ص: الجواب. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 73 غير أني لم أقل من ... نيتي سمعاً وطاعه ودفعت الجوع والل ... هـ فلم أسطع دفاعه فاكفني كلفته الآ ... ن وأربحني (1) صداعه فكتب إليه ابن التلميذ: أنا في الشعر ضعيف الط ... بع منزور البضاعه ولك الخاطر قد أو ... تي طبعاً وصناعه ومتى لم تكف شر ال ... جوع لم أكف صداعه فعلى اسم الله قدم ... أخذه من بعد ساعه (302) وكان بين ابن التلميذ المذكور وبين أوحد الزمان أبي البركات هبة الله بن علي بن ملكان (2) الحكيم المشهور صاحب كتاب " المعتبر " (3) في الحكمة تنافر وتنافس كما جرت العادة بمثله بين أهل كل فضيلة وصنعة، ولهما في ذلك أمور ومجالس مشهورة، وكان يهودياً ثم أسلم في آخر عمره، وأصابه الجذام فعالج نفسه بتسليط الأفاعي على جسده بعد أن جوعها، فبالغت في نهشه، فبرئ من الجذام وعمي، وقصته في ذلك مشهورة، فعمل فيه ابن التلميذ المذكور: لنا صديق يهودي حماقته ... إذا تكلم تبدو فيه من فيه يتيه والكلب أعلى منه منزلةً ... كأنه بعد لم يخرج من التيه   (1) ق ر: وارحني من. (2) ترجمة أوحد الزمان الحكماء: 343 وابن أبي أصيبعة 1: 259 وفي كليهما " ابن ملكا " - دون نون - وكذلك في هذا الموضع من النسخ ص ع والمختار، إلا أن المؤلف حين ضبطه في آخر الترجمة ذكر فيه النون، وكذلك ورد الضبط في ع ص اللتين سقطت النون فيها في هذا الموضع. (3) يعد هذا الكتاب من أجل كتب الزمان، قال القفطي " أخلاء من النوع الرياضي وأتى فيه بالمنطق والطبيعي والإلهي فجاءت عبارته فصيحة ومقاصده في ذلك الطريق صحيحة وهو أحسن كتاب صنف في هذا الشأن في هذا الزمان ". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 74 وكان ابن التلميذ كثير التواضع، وأوحد الزمان متكبراً، فعمل فيهما البديع الأسطرلابي المقدم ذكره (1) : أبو الحسن الطبيب ومقتفيه ... أبو البركات في طرفي نقي فهذا التواضع في الثريا ... وهذا بالتكبر في الحضيض ولابن التلميذ في الطب تصانيف مليحة، فمن ذلك كتاب " أقراباذين " وهو نافع في بابه، وبه عمل أطباء هذا الزمان، وله كناش وحواش على كليات ابن سينا، وغير ذلك. (303) وكان شيخه في الطب أبا الحسن هبة الله بن سعيد (2) صاحب التصانيف المشهورة، منها كتاب " التلخيص " و " المغني " في الطب وهو جزء واحد، وكتاب " الإقناع " وهو اربعة أجزاء، وقد انتقدوا عليه هذه التسمية وقالوا: كان أن يكون الأمر بالعكس، لأن المغني هو الذي يغني عن غيره، فكان الكتاب الأكبر أولى بهذا الاسم، والإقناع هو الذي تقع القناعة به، فالمختصر أولى بهذا الاسم. وله كل شيء مليح من تصنيف في طب وأدب. وكان حسن السمت كثير الوقار (3) ، حتى قيل أنه لم يسمع منه بدار الخلافة مدة تردده إليها من المجون سوى مرة واحدة بحضرة المقتفي الخليفة، وذلك أنه كان له راتب بدار القوارير ببغداد، فقطع ولم يعلم به الخليفة، فاتفق أنه كان عنده يوماً، فلما عزم على القيام لم يقدر عليه إلا بكلفة ومشقة من الكبر، فقال له المقتفي: كبرت يا حكيم، فقال: نعم يا مولانا، وتكسرت قواريري، وهذا في اصطلاح أهل بغداد أن الإنسان إذا كبر يقال " تكسرت قواريره " فلما قال الحكيم هذه اللفظة، قال الخليفة: هذا الحكيم لم أسمع منه   (1) انظر تاريخ الحكماء: 346. (2) كذا في النسخ؛ وترجم له ابن أصيبعة باسم أبي الحسن سعيد بن هبة الحسين، وقد توفي سنة 495، وقصة تسميته للمغني والاقناع مذكورة في ابن أبي أصيبعة. (3) هنا عاد الحديث إلى ابن التلميذ (انظر أخبار الحكاء: 341) والجملة السابقة " وله كل شيء مليح من تصنيف في طب أو أدب " لا يدري لى من تنصرف من الرجلين، فإن المؤلف هنا وصل الكلام دون فصل موضح. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 75 هزلاً منذ خدمنا، فاكشفوا قضيته، فكشفوها راتبه بدار القوارير قد انقطع، فطالعو الخليفة بذلك (1) ، فتقدم بردها عليه، وكان الذي قد قطعه الوزير عون الدين بن هبيرة، وزاده إقطاعاً آخر (2) ، وأخباره كثيرة (3) . وتوفي في صفر سنة ستين وخمسمائة ببغداد، وقد ناهز المائة من عمره، وقال ابن الأزرق الفارقي في تاريخه: مات ابن التلميذ في عيد النصارى. وكان قد جمع من سائر العلوم ما لم يجتمع في غيره، ولم يبق ببغداد من الجانبين من لم يحضر البيعة وشهد جنازته. وليس في هذه الترجمة ما يحتاج إلى التقييد سوى ملكان جد أوحد الزمان - وهو بفتح الميم والكاف وبينهما لام ساكنة وبعد الألف نون. وقد تقدم في الترجمة ابن الجواليقي ما دار بينهما بحضرة الإمام المقتفي (4) . قلت وبعد فراغي من ترجمة أمين الدولة ابن التلميذ المذكور وقفت على كتاب جمعه شيخنا موفق الدين أبو محمد عبد اللطيف بن يوسف البغدادي، وجعله سيرة لنفسه، وجميعه بخطه، وذكر في اوائله ابن التلميذ، ووصفه بالعلم في صناعة الطب وإصابته، ثم قال: ومنها أنه أحضرت إليه امرأة محمولة لا يعرف أهلها في الحياة هي أم في الممات، وكان الزمان شتاء، فأمر بتجريدها، وصب عليها الماء المبرد صباً متتابعاً كثيراً، ثم أمر بنقلها إلى مجلس دفيئ قد   (1) ر: فطالبوا الخليفة بردها. (2) علق ابن المؤلف في المختار عند هذا الموضع بإيراد حكاية مشابهة، وهي جكاية أحد الخلفاء، وكيف زار المدينة وسأل عن فتى بمعالمها وأحوالها وما فيها من مياه ومنازل وقبائل.. الخ وأن الخليفة وعده عطاء وكان الفتى معسراً، ثم نسي الأمر، فلما وقف الفتى على أحد البيوت قال للخليفة، يا أمير المؤمنين: هذا بيت عاتكة الذي يقول فيه الأحوص " يا بيت عاتكة الذي تعزل "، فاستغرب الخليفة ذلك لأن الفتى لم يكن يبدأه القول حتى يسأله، فسرد الخليفة القصيدة وفي نفسه فوقف عند قول الشاعر فيها: وأراك تصدق ما تقول وبعضهم ... مذق الكلام يقول ما لا يفعل ففطن لوعده؛ وإنما لخصنا الحكاية لأنها مبتورة في المختار بسبب ضياع أوراق في هذا الموضع. (3) ر: وأخباره ونوادره كثيرة. (4) هنا تنتهي الترجمة في: ع بر من. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 76 بخر بالعود والند، ودفئت (1) بأصناف الفراء ساعة، فعطست وتحركت وقعدت وخرجت ماشية مع اهلها إلى منزلها. ومنها: أنه أتي مرة بمريض (2) يعرق دماً في زمن الصيف، فسأل تلاميذه قدر خمسين نفساً، فلم يعرفوا المرض، فأمره بأكل خبز شعير مع باذنجان مشوي، ففعل ذلك ثلاثة أيام، فبرئ، وسأله أصحابه عن العلة، فقال: إن دمه قد رق ومسامه قد انفتحت، وهذا الغذاء من شأنه تغليط الدم وتكثيف المسام. ومن مروءته أن ظهر داره كان يلي المدرسة النظامية، فإذا مرض فقيه نقله إليه وقام في مرضه عليه، فإذا أبل وهب له دينارين وصرفه. (304) وذكر شيخنا موفق الدين قبل هذا أن ولد أمين الدولة المذكور كان شيخه وانتفع به، وكان شيخاً قد ناهز ثمانين سنة، ولديه تجربة فاضلة وغوص على أسرار الطبيعة، يرى الأمراض كأنها من وراء زجاج، لا يعتريه فيها ولا في مداواتها شك، وكان أكثر ما يصف المفردات أو ما يقل تركيبه، ولم أر من يستحق اسم الطب غيره. وكن يقول: ينبغي للعاقل أن يختار من اللباس ما لا تحسده عليه العامة، ولا تحتقره فيه الخاصة، وكذا كان لباسه البيض الرفيع. ثم قال: وخنق في دهليز داره اللث الأول من الليل، وكان قد أسلم قبل موته، وفي نفسي عليه (3) حسرات، رحمه الله تعالى، نقلته ملخصاً.   (1) ر ن: ودثرت. (2) ص ر ن: ودخل اليه رجل مترف. (3) ن ص ر: منه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 77 780 - (1) هارون ابن المنجم أبو عبد الله هارون بن علي بن يحيى بن أبي منصور، المنجم البغدادي الأديب الفاضل، - وقد تقدم ذكر ولده علي في حرف العين (2) - وكان هارون المذكور حافظاً راوية الأشعار، حسن المنادمة لطيف المجالسة. صنف كتاب " البارع " في أخبار الشعراء المولدين، وجمع فيه مائة وواحداً وستين شاعراً، وافتتحه بذكر بشار بن برد العقيلي، وختمه بمحمد بن عبد الملك بن صالح، واختار فيه من شعر كل واحد عيونه، وقال في أوله: إني لما عملت كتابي في أخبار الشعراء المولدين ذكرت ما اخترته من أشعارهم، وتحريت في ذلك الاختيار أقصى ما بلغته وانتهى إليه علمي، والعلماء تقول: دل على عاقل (3) اختياره، وقالوا: اختيار الرجل من وفور عقله، وقال بعضهم: شعر الرجل قطعة من كلامه، وظنه قطعة من عقله، واختياره قطعة من علمه. وطول الكلام في هذا، وذكر أن هذا الكتاب مختصر من كتاب ألفه قبل هذا في هذا الفن، وأنه كان طويلاً فحذف منه أشياء واقتصر على هذا القدر، وبالجملة فإنه من الكتب النفيسة، فإنه يغني عن دواوين الجماعة الذين ذكرهم، فإنه مخض أشعارهم وأثبت منها زبدتها وترك زبدها، وهذا الكتاب هو الذي ذكرته في ترجمة العماد الكاتب الأصبهاني وقلت: إن كتاب " الخريدة " وكتاب الحظيري والثعالبي فروع عليه، وهو الصل الذي نسجوا على منواله. وله كتاب " النساء وما جاء من الخبر ومحاسن ما قيل فيهن من الشعر   (1) ترجمته في الفهرست: 144 ومعجم المرزباني: 485 ومعجم الأدباء 19: 262 ومرآة الجنان 2: 41 وحماسة ابن الشجري: 242، وزاد في نسبه في ص ر: واسم أبي منصور أبان جشنس. (2) انظر ج 3: 375. (3) ر: كل عاقل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 78 والكلام الحسن " ولم أظفر له بشيء من الشعر حتى أورده. وذكر هو في كتابه " البارع " المذكور أباه أبا الحسن علي بن يحيى بن أبي منصور، وسرد له مقاطيع - وقد ذكرته في حرف العين فلينظر هناك (1) - ثم أردفه بذكر أخيه يحيى بن علي بن يحيى، وعد له جملة مقاطيع أوردها، ولا حاجة بنا إلى ذكرها في هذا الموضع، بل نذكرها في ترجمته، إن شاء الله تعالى. وتوفي أبو عبد الله المذكور سنةثمان وثمانين ومائتين، وهو حدث السن، رحمه الله تعالى، وسيأتي ذكر أخيه يحيى بن علي في حرف الياء إن شاء الله تعالى. وكان أبو منصور جد أبيه منجم أبي جعفر المنصور أمير المؤمنين، وكان مجوسياً. (305) وكان ابنه يحيى متصلاً بذي الرياستين الفضل بن سهل - المقدم ذكره - وكان الفضل يعمل برأيه في أحكام النجوم، فلما حدثت الكائنة على الفضل - حسبما ذكرناها في ترجمته - صار يحيى المذكور منجم المأمون ونديمه، فاجتباه واختص به، في الإسلام فأسلم على يده، فصار بذلك مولاه. وهم اهل بيت منهم (2) جماعة من الفضلاء والأدباء والشعراء، وجالسوا الخلفاء ونادموهم، وقد عقد لهم الثعالبي في كتاب " اليتيمة " (3) باباً مستقلاً، وذكر فيه جماعة منهم، رحمهم الله تعالى. وتوفي يحيى المذكور بحلب عند خروج المأمون إلى طرسوس، ودفن بها في مقابر قريش، فقبره هناك مكتوب عليه اسمه (4) .   (1) انظر ج 3: 373. (2) ع ر ن: فيهم. (3) انظر اليتيمة 3: 392 - 395. (4) اسمه: سقطت من ر بر من ص ع؛ ن: فقبره هناك مشهور، والله أعلم بالصواب. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 79 781 - (1) هشام بن عروة أبو المنذر هشام بن عروة بن الزبير بن العوام، القرشي الأسدي، - قد تقدم ذكر أبيه في حرف العين (2) -، وكان هشام أحد تابعي المدينة المشهورين المكثرين في الحديث، المعدودين من أكابر العلماء وجلة التابعين، وهو معدود في الطبقة الرابعة من أهل المدينة، رضي الله عنهم. وسمع عمه عبد الله بن الزبير وابن عمر، رضي الله عنهما، ورأى جابر بن عبد الله الأنصاري وأنس بن مالك وسهل بن سعد، وقيل أنه رأى ابن عمر ولم يسمع منه، وروى عنه يحيى بن سعيد الأنصاري وسفيان الثوري ومالك بن أنس وأيوب السختياني وابن جريح وعبيد الله بن عبد الله بن عمر (3) والليث ابن سعد وسفيان بن عيينة ويحيى بن سعيد القطان ووكيع وغيرهم. وقدم الكوفة أيام أبي جعفر المنصور فسمع منه الكوفيون. وكانت ولادته سنة إحدى وستين للهجرة، وقال أبو إسحاق إبراهيم بن علي بن محمد الذهلي: ولد عمر بن عمر بن عبد العزيز وهشام بن عروة والزهري وقتادة والأعمش ليالي قتل الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، وكان قتله يوم عاشوراء سنة إحدى وستين للهجرة. وقدم بغداد على المنصور، وتوفي بها سنة ست وأربعين ومائة، وقيل سنة خمس وأربعين، وقيل سنة سبع، رضي الله عنه، وصلى عليه المنصور، ودفن بمقبرة الخيزران بالجانب الشرقي، وقيل   (1) ترجمته في نسب قريش: 248 وتاريخ بغداد 14: 47 ومرآة الجنان 1: 302 وتهذيب التهذيب 11: 48 ورجال ابن حبان: 80 وتذكرة الحفاظ: 144 وعبر الذهبي 1: 206 وميزان الاعتدال 4: 301. (2) انظر ج 3: 255. (3) بن عبد الله: سقطت من ن ع؛ بن عمر: سقطت من ص؛ بر: وعبد الله بن عمر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 80 بل قبره بالجانب الغربي خارج السوق نحو باب قطربل وراء الخندق على (1) مقابر باب حرب، وهو ظاهر هناك معروف، وعليه لوح منقوش أنه قبر هشام بن عروة، ومن قال إنه بالجانب الشرقي قال: إن القبر الذي بالجانب الغربي هو قبر هشام بن عروة المروزي (2) صاحب عبد الله بن المبارك. والله أعلم. وله عقب بالمدينة وبالبصرة (3) . وذكر الخطيب في " تاريخ بغداد " (4) أن المنصور قال له يوماً: يا أبا المنذر، تذكر يوم دخلت عليك أنا وإخوتي الخلائف وأنت تشرب سويقاً بقصبة يراع، فلما خرجنا من عندك قال لنا أبونا: اعرفوا لهذا الشيخ حقه، فإنه لا يزال في قومكم بقية ما بقي، فقال: لا أذكر ذلك يا أمير المؤمنين. فلما خرج هشام قيل له: يذكرك أمير المؤمنين ما تمت به إليه فتقول لا أذكره! فقال: لم أكن أذكر ذلك، ولم يعودني الله في الصدق إلا خيراً. وروي عنه (5) أنه دخل على المنصور فقال: يا أمير المؤمنين، اقض عني ديني، قال: وكم دينك قال: مائة ألف، قال: وأنت في فقهك وفضلك تأخذ ديناً مائة ألف ليس عندك قضاؤها فقال: يا أمير المؤمنين شب فتيان من فتياننا، فأحببت أن أبوئهم، وخشيت أن ينتشر (6) علي من أمرهم ما أكره، فبوأتهم واتخذت لهم وأولمت عنهم ثقة بالله وبأمير المؤمنين، قال: فردد عليه مائة ألف!! استعظاماً لها، ثم قال: قد أمرنا لك بعشرة آلاف (7) ، فقال: يا أمير المؤمنين، أعطني ما أعطيت وأنت طيب النفس، فإنني سمعت أبي يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " من أعطى عطية وهو بها طيب النفس بورك للمعطي وللمعطى " قال: فإني طيب النفس بها، وأهوى إلى يد المنصور   (1) ع ن ص بر من: أعلى. (2) ن: المزني المروزي. (3) انظر صفحات متفرقة من كتاب نسب جمهرة قريش. (4) تاريخ بغداد 14: 39. (5) المصدر السابق. (6) ق والمختار: ينشر. (7) ص: بعشرة ألف درهم، المختار: بعشرة ألف. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 81 يريد أن يقبلها فمنعه وقال: يا بن عروة، إنا نكرمك عنها ونكرمها عن غيرك. وأخباره كثيرة. رضي الله عنه. 782 - (1) هشام ابن الكلبي أبو المنذر هشام بن أبي النضر محمد بن السائب بن بشر بن عمرو، الكلبي النسابة الكوفي، - قد تقدم ذكر أبيه في المحمدين وما جرى له مع الفرزدق الشاعر - وحدث هشام عن أبيه وروى عن ابنه العباس، وخليفة بن خياط، ومحمد بن سعد كاتب الواقدي، ومحمد بن أبي (2) السري البغدادي، وأبو الأشعث أحمد بن المقدام وغيرهم. وكان من أعلم الناس علم الأنساب، وله كتاب " الجمهرة " في النسب وهو من محاسن الكتب في هذا الفن، وكان من الحفاظ المشاهير. ذكر الخطيب في " تاريخ بغداد " عنه أنه دخل بغداد وحدث بها، وأنه قال: حفظت ما لم يحفظه أحد ونسيت ما لم ينسه أحد، كان لي عم يعاتبني على حفظ القرآن، فدخلت بيتاً وحلفت أن لا أخرج منه حتى أحفظ القرآن، فحفظته في ثلاثة أيام، ونظرت يوماً في المرآة فقبضت على لحيتي لآخذ ما دون القبضة فأخذت ما فوق القبضة. وله من التصانيف شيء كثير، فمن ذلك كتاب " حلف عبد المطلب وخزاعة " وكتاب " حلف الفضول " وكتاب " حلف تميم وكلب " وكتاب   (1) ترجمته في الفهرست: 95 وتاريخ بغداد 14: 45 ومعجم الأدباء 19: 287 ولسان الميزان 6: 196 وعبر الذهبي 1: 746 ومرآة الجنان 2: 29 وتاريخ ابن خلدون 2: 262 ونزهة الألباء: 59 ونور القبس: 291 وميزان الاعتدال 4: 304. (2) أبي: سقطت من المختار. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 82 " المنافرات " وكتاب " بيوتات قريش " وكتاب " فضائل قيس عيلان " وكتاب " الموءودات " (1) وكتاب " بيوتات ربيعة " وكتاب " الكنى " وكتاب " شرف قصي وولده الجاهلية والإسلام "، وكتاب " ألقاب قريش " وكتاب " ألقاب اليمن " وكتاب " المثالب " وكتاب " النوافل " (2) وكتاب " ادعاء زياد معاوية "، وكتاب " أخبار زياد بن أبيه "، وكتاب " صنائع قريش "، وكتاب " المشاجرات "، وكتاب " المعاتبات " (3) ، وكتاب " ملوك الطوائف "، وكتاب " ملوك كندة "، وكتاب " افتراق ولد نزار "، وكتاب " تفريق (4) الأزد "، وكتاب " طسم وجديس " وتصانيفه تزيد على مائة وخمسين تصنيفاً، وأحسنها وأنفعها كتابه المعروف بالجمهرة في معرفة الأنساب، ولم يصنف في بابه مثله، وكتابه الذي سماه " المنزل " في النسب أيضاً، وهو أكبر من الجمهرة، وكتاب " الموجز " في النسب، وكتاب (5) " الفريد " صنفه للمأمون في الأنساب، وكتابه " الملوكي " صنفه لجعفر بن يحيى البرمكي في النسب أيضاً. وكان واسع الرواية لأيام الناس وأخبارهم، فمن روايته أنه قال: اجتمعت بنو أمية عند معاوية بن أبي سفيان، فعاتبوه في تفضيل عمرو بن العاص وادعاء، زياد بن أبيه، فتكلم معاوية، ثم حرك عمراً الكلام، فقال في بعض كلامه: أنا الذي أقول في يوم صفين (6) : إذا تخازرت وما بي من خزر ... ثم كسرت العين من غير عور ألفيتني ألوى بعيد المستمر ... ما حملت من خير وشر كالحية الصماء في أصل الشجر ...   (1) ص: الموددات. (2) وكتاب النوافل: سقط من ص ن؛ ع: النواقل. (3) ص: المعاينات. (4) الفهرست: تفرق. (5) ص ن: وكتابه. (6) انظر الرجز وتخريجه في فصل المقال: 117. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 83 أما والله ما أنا بالواني ولا الفاني، وإني أنا الحية الصماء التي لا يسلم سليمها، ولا ينام كليمها، وإني أنا المرء إن همزت كسرت، وإن كويت أنضجت، فمن شاء فليشاور، ومن شاء فليؤامر، مع أنهم والله لو عاينوا من يوم الهربر ما عاينت أو لو ولوا ما وليت لضاق عليهم المخرج، ولتفاقم بهم (1) المنهج، إذ شد علينا أبو الحسن وعن يمينه وشماله المباشرون من أهل البصائر وكرام العشائر، فهناك والله شخصت الأبصار، وارتفع الشرار، وتقلصت الخصى إلى مواضع الكلى، قارعت الأمهات عن ثكلها، وذهلت عن حملها، واحمرت الحدق واغبرت الأفق، وألجم العرق، وسال العلق، وثار القتام، وصبر الكرام، وخام اللثام، وذهب الكلام وأزبدت الأشداق، وكثر العناق، وقامت الحرب على ساق، وحضر الفراق، وتضاربت الرجال بأغماد سيوفها بعد فناء من نبلها وتقصفٍ من رماحها، فلا يسمع يومئذ إلا التغمغم من الرجال، والتحمحم من الخيل، ووقع السيوف على الهام كأنه دق غاسل بخشبته على منصبه، ندأب ذلك يوماً حتى ظعن الليل بغسقه، وأقبل الصبح بفلقه، ثم لم يبق من القتال إلا الهرير والزئير، لعلمتم أني أحسن بلاء، وأعظم غناء، وأصبر على اللأواء منكم، وإني وإياكم كما قال الشاعر: وأغضي على أشياء لو شئت قلتها ... ولو قلتها لم أبق للصلح موضعا وإن كان عودي من نضار فإنني ... لأكرمه من أن أخاطر خروعا والمأثور عنه كثير. وتوفي سنة أربع ومائتين، وقيل سنة ست، والأول أصح، والله أعلم بالصواب، رحمه الله تعالى.   (1) ر: عليهم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 84 783 - (1) هشام صاحب الكسائي أبو عبد الله هشام بن معاوية الضرير، النحوي الكوفي، صاحب أبي الحسن علي بن حمزة الكسائي، أخذ عنه كثيراً من النحو، وله فيه مقالة تعزى إليه، وله فيه تصانيف عديدة، فمن ذلك كتاب " الحدود " وهو صغير، وكتاب " المختصر "، وكتاب " القياس " وغير ذلك. وكان إسحاق بن إبراهيم بن مصعب قد كلم المأمون يوماً، فنحن في بعض كلامه، فنظر إليه المأمون ففطن لما أراد، فخرج من عنده، وجاء إلى هشام المذكور فتعلم عليه النحو. قال أبو مالك الكندي: توفي هشام بن معاوية الضرير النجوي سنة تسع ومائتين، رحمه الله تعالى.   (1) ترجمته في إنباه الرواة 3: 364 وانظر الحاشية، ونور القبس: 302 وأهمل صاحب المختار هذه الترجمة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 85 784 - (1) الفرزدق أبو فراس همام - وقال ابن قتيبة في " طبقات الشعراء ": هميم بالتصغير (2) - ابن غالب، وكنيته أبو الأخطل، ابن صعصعة بن ناجية بن عقال بن محمد بن سفيان بن مجاشع بن دارم، واسمه بحر، بن مالك، واسمه عوف سمي بذلك لجوده، ابن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم بن مر، التميمي، المعروف بالفرزدق، الشاعر المشهور صاحب جرير. (306) كان أبوه غالب من جلة قومه وسرواتهم، وأمه ليلى بنت حابس أخت الأقرع بن حابس. ولأبيه مناقب مشهورة ومحامد مأثورة، فمن ذلك أنه أصاب أهل الكوفة مجاعة وهو بها فخرج أكثر الناس إلى البوادي، فكان هو رئيس قومه، وكان سحيم بن وثيل الرياحي رئيس قومه، واجتمعوا بمكان يقال له صوأر في أطراف السماوة من بلاد كلب على مسيرة يوم الكوفة - وهو بفتح الصاد المهملة وسكون الواو وفتح الهمزة وبعدها راء - فعقر غالب لأهله ناقة وصنع (3) منها طعاماً، وأهدى إلى قوم من بني تميم لهم جلالة جفاناً من ثريد، ووجه إلى سحيم جفنة، فكفأها وضرب الذي أتاه بها وقال: أنا مفتقر إلى طعام غالب إذا نحر هو ناقة نحرت أنا أخرى، فوقعت المنافرة بينهما، وعقر (4) سحيم لأهله ناقة، فلما كان من الغد عقر لهم غالب ناقتين، فعقر سحيم لأهله (5) ناقتين،   (1) ترجمته في الشعر والشعراء: 381 والأغاني (الساسي) 8: 180، 19: 2 والموشح: 99 وطبقات ابن سلام: 75 والشريشي 1: 142 والخزانة 1: 105 وشرح شواهد المغني: 4 وأمالي المرتضى 1: 43 ومعجم الأدباء 19: 297 ومرآة الجنان 1: 234 وعبر الذهبي 1: 236 والشذرات 1: 141 ومعاهد التنصيص 1: 45 وراجع بروكلمان (الترجمة العربية) 1: 209 - 214. (2) لم يرد هذا في الشعر والشعراء المطبوع وإنما جاء اسمه " همام ". (3) ر: فصنع. (4) بر: ونحر. (5) لأهله: سقطت من ص. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 86 فلما كان اليوم الثالث عقر غالب ثلاثاً، فعقر سحيم ثلاثاً، فلما كان اليوم الرابع عقر غالب مائة ناقة، فلم يكن عند سحيم هذا القدر، فلم يعقر شيئاً وأسرها (1) في نفسه. فلما انقضت المجاعة ودخل الناس الكوفة قال بنو رياح لسحيم: جررت علينا عار الدهر، هلا نحرت مثل ما نحر، وكنا نعطيك مكان كل ناقة ناقتين فاعتذر بأن إبله كانت غائبة، وعقر ثلثمائة ناقة، وقال للناس: شأنكم والأكل، وكان ذلك في خلافة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فاستفتي في حل الأكل منها فقضى بحرمتها وقال: هذه ذبحت لغير مأكلة، ولك يكن المقصود منها إلا المفاخرة والمباهاة، فألقيت لحومها على كناسة الكوفة فأكلتها الكلاب والعقبان والرخم، وهي قصة مشهورة (2) ، وعمل فيها الشعراء أشعاراً كثيرة. فمن ذلك قول جرير يهجو الفرزدق، وهو بيت (3) تستشهد به النحاة في كتبهم، وهو من جملة قصيدة: تعدون عقر النيب أفضل مجدكم ... بني ضوطرى لولا الكمي المقنعا ومن ذلك قول المحل، أخي بني قطن بن نهشل (4) : وقد سرني أن لا تعد مجاشع ... من المجد إلا عقر نابٍ بصوأر وكان غالب المذكور أعور. (307) وسحيم المذكور، وهو ابن وثيل بن عمرو بن جوين بن وهيب (5) بن حميري الشاعر الذي يقول (6) : أنا ابن جلا وطلاع الثنايا ... متى أضع العمامة تعرفوني   (1) المختار: فأسرها. (2) انظر النقائض: 414 والأمالي 3: 52 والخزانة 1: 461 ومعجم البلدان: (صوأر) . (3) ن: والمختار: وهذا البيت. (4) ر بر من: المجن بن نهشل أخي بني قطن؛ وهو المحل بن كعب النهشلي (انظر معجم المرزباني: 450 والنقائض: 942، 955، 957) . (5) المختار: وهب؛ وفي هامش الأصمعيات: أهيب. (6) مطلع الأصمعية الأولى، الأصمعيات: 3. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 87 وهذا البيت من جملة أبيات، وله ديوان شعر صغير. والوثيل الرشاء الضعيف، وقيل الليف. وكان الفرزدق كثير التعظيم لقبر أبيه، فما جاءه أحد واستجار به إلا نهض معه وساعده على بلوغ غرضه. فمن ذلك ما حكاه المبرد في كتاب " الكامل " (1) أن الحجاج بن يوسف الثقفي لما ولى تميم بن زيد القيني بلاد السند دخل البصرة، فجعل يخرج من أهلها من شاء، فجاءت عجوز إلى الفرزدق فقالت: إني استجرت بقبر أبيك، وأتت منه بحصيات، فقال: ما شأنك قالت: إن تميم بن زيد خرج بابن لي معه، ولا قرة لعيني ولا كاسب علي غيره، فقال لها: وما اسم ابنك فقالت: خنيس، فكتب إلى تميم مع بعض من شخص: تميم بن زيد لا تكونن حاجتي ... بظهرٍ فلا يعيا علي جوابها وهب لي خنيساً واحتسب فيه منة ... لعبرة أم ما يسوغ شرابها أتتني فعاذت يا تميم بغالبٍ ... وبالحفرة السافي عليها تربها وقد علم الأقوام أنك ماجد ... وليث إذا ما الحرب شب شهابها فلما ورد الكتاب على تميم تشكك في الاسم فلم يعرف أخنيس أم حبيش. ثم قال: انظروا من له مثل هذا الاسم في عسكرنا، فأصيب ستة ما بين خنيس وحبيش، فوجه بهم إليه. وحضر يوما (2) ً الفرزدق ونصيب الشاعر المشهور، عند سليمان بن عبد الملك الأموي وهو يومئذ خليفة، فقال سليمان للفرزدق: أنشدني شيئاً، وإنما أراد سليمان أن ينشده مدحاً له، فأنشده في مدح أبيه: وركب كأن الريح تطلب عندهم ... لها ترةً من جذبها بالعصائب سروا يخبطون الريح وهي تلفهم ... إلى شعب الأكوار ذات الحقائب إذا آنسوا ناراً يقولون إنها (3) ... وقد حضرت أيديهم نار غالب   (1) الكامل 2: 86 - 88. (2) الكامل 1: 183. (3) ر من بر: ليتها، وكذلك الكامل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 88 فأعرض سليمان عنه كالمغضب، فقال نصيب: يا أمير المؤمنين، ألا أنشدك في رويها ما لعلها لا يتضع عنها، قال: هات، فأنشده: أقول لركبٍ صادرين لقيتهم ... قفا ذات أوشالٍ ومولاك قارب (1) قفوا خبروني عن سليمان إنني (2) ... لمعروفه من أهل ودان طالب فعاجوا فأثنوا بالذي أنت أهله ... ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب فقال سليمان للفرزدق: كيف تراه فقال: هو أشعر أهل جلدته، ثم قام وهو يقول: وخير الشعر أشرفه رجالاً ... وشر الشعر ما قال العبيد (308) وكان نصيب عبداً أسود لرجل من أهل وادي القرى، فكاتب على نفسه ومدح عبد العزيز بن مروان، فاشترى ولاءه، وكنيته أبو الحجناء، وقيل أبو محجن. وللفرزدق في مفاخر أبيه أشياء كثيرة. (309) وأما جده صعصعة بن ناجية فإنه كان عظيم القدر في الجاهلية، واشترى ثلاثين موءودة، منهن بنت لقيس بن عاصم المنقري، وفي ذلك يقول الفرزدق يفتخر به: وجدي الذي منع الوائدات ... وأحيا الوئيد فلم يوأد وهو أول من أسلم من أجداد الفرزدق، وقد ذكره في كتاب " الاستيعاب " (3) في جملة الصحابة، رضوان الله عليهم اجمعين (4) . وقد اختلف العلماء أهل المعرفة بالشعر في الفرزدق وجرير والمفاضلة بينهما، والأكثرون على أن جريراً أشعر منه، وكان بينهما من المهاجاة والمعاداة ما هو   (1) قارب: وارد إلى الماء. (2) ص ر ن بر من: إنه. (3) الاستيعاب: 718. (4) ص ر ق: رضي الله عنهم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 89 مشهور، وقد جمع لهما كتاب يسمى " النقائض " وهو من الكتب المشهورة. وكان جرير قد هجاه بقصيدته الرائية، التي من جملتها: وكنت إذا حللت بدار قوم ... ظعنت بخزية وتركت عارا فاتفق بعد ذلك أن الفرزدق نزل بامرأة من أهل المدينة، وجرى له معها قضية يطول شرحها. وخلاصة الأمر أنه راودها عن نفسها بعد أن كانت قد أضافته وأحسنت إليه فامتنعت عليه، فبلغ الخبر عمر بن عبد العزيز، رضي الله عنه وهو يومئذ والي المدينة، فأمر بإخراجه من المدينة، فلما أخرج وأركبوه ناقته ليسفروه (1) قال: قاتل الله ابن المراغة - يعني جريراً - كأنه شاهد هذا الحال، حيث قال: وكنت إذا حللت بدار قوم ... وأنشد البيت المذكور. وشهد الفرزدق عند بعض القضاة شهادة فقال له: قد أجزنا شهادتك، ثم لأصحاب القضية: زيدونا في الشهود، فقيل للفرزدق حين انفصل عن مجلس القاضي: إنه لم يجز شهادتك، فقال: وما يمنعه من ذلك، وقد قذفت ألف محصنة (2) ومن شعره المشهور قوله، وهو مقيم بالمدينة: هما دلتاني من ثمانين قامة ... كما انقض بازٍ أقتم الريش كاسره فلما استوت رجلاي في الأرض قالتا ... أحي فيرجى أم قتيل نحاذره فقلت: ارفعا الأسباب لا يشعروا بنا ... وأقبلت في أعجاز ليل أبادره أحاذر بوابين قد وكلا بنا ... وأسود من ساجٍ تصر مسامره فلما بلغت جريراً الأبيات عمل من جملة قصيدة طويلة (3) : لقد ولدت أم الفرزدق فاجراً ... فجاءت بوزوازٍ قصير القوادم   (1) ص: ليسفره؛ بر من ن: لينفوه. (2) وشهد الفرزدق ... محصنة: سقط من: ع بر من. (3) النقائض: 395؛ وهذه القصيدة حسبما جاء في النقائض جواب على قصيدة للفرزدق مطلعها: تحن بزوراء المدينة ناقتي ... حنين عجول تبتغي البو رائم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 90 يوصل حبليه إذا جن ليله ... ليرقى إلى جاراته بالسلالم تدليت تزني من ثمانين قامة ... وقصرت عن باع العلا والمكارم هو الرجس يا أهل المدينة فاحذروا ... مداخل رجسٍ بالخبيثات عالم لقد كان إخراج الفرزدق عنكم ... طهوراً لما بين المصلى وواقم فلما وقف الفرزدق على هذه القصيدة جاوبه بقصيدة طويلة يقول في جملتها: وإن حراماً أن أسب مقاعساً (1) ... بآبائي الشم الكرام الخضارم ولكن نصفاً لو سببت وسبني ... بنو عبد شمس من مناف وهاشم أولئك أمثالي فجئني بمثلهم ... وأعبد أن أهجو كليباً بدارم (2) ولما سمع أهل المدينة أبيات الفرزدق المذكورة أولاً، اجتمعوا وجاءوا إلى مروان بن الحكم الأموي، واكن يومئذ والي المدينة من قبل معاوية بن أبي سفيان الأموي، فقالوا له: ما يصلح أن يقال مثل هذا الشعر بين أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أوجب على نفسه الحد، فقال مروان: لست أحده أنا، ولكن أكتب إلى من يحده، ثم أمره بالخروج من المدينة وأجله ثلاثة أيام، وفي ذلك يقول الفرزدق: توعدني وأجلني ثلاثاً ... كما وعدت لمهلكها ثمود ثم كتب مروان إلى عامله يأمره فيه أن يحده ويسجنه، وأوهمه أنه قد كتب له بجائزة، ثم ندم مروان على ما فعل، فوجه عنه سفيراً، وقال: إني قلت شعراً فاسمعه، ثم أنشده (3) : قل للفرزدق والسفاهة كاسمها ... إن كنت تارك ما أمرتك فاجلس   (1) ر: مقاصعاً؛ ق ن ص والمختار: مقاعصاً؛ ومقاعس: هو الحارث بن عمر بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم. (2) أعبد: آنف. (3) انظر معجم البلدان: (الجلس) وديوان الفرزدق 1: 384. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 91 ودع المدينة إنها مرهوبة ... واقصد لمكة أو لبيت مقدس وإذا اجتنيت ممن الأمور عظيمة ... فخذن لنفسك بالزماع الأكيس - قوله " فاجلس " أي اقصد الجلساء، وهي نجد، وسميت بذلك لارتفاعها، لأن الجلوس في اللغة هو الارتفاع، ولما وقف الفرزدق على الأبيات فطن لما أراد مروان، فرمى الصحيفة وقال: يا مرو (1) إن مطية محبوسة ... ترجو الحباء وربها لم يأس وحبوتني بصحيفة محتومة ... يخشى علي بها حباء النقرس ألق الصحيفة يا فرزدق لا تكن ... نكداً كمثل (2) صحيفة المتلمس وإذ ذكرنا صحيفة المتلمس فقد يتشوف الواقف على هذا الكتاب أن يعلم قصتها (3) : (310) ومن خبرها أن المتلمس، واسمه جرير بن عبد المسيح بن عبد الله بن زيد بن دوفن (4) بن حرب بن وهب بن جلى (5) بن احمس بن ضبيعة الأضجم بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان، وإنما لقب لقوله من جملة قصيدة: فهذا أوان العرض حي ذبابه ... زنابير والأزر المتلمس - وهو بضم الميم وفتح التاء المثناة من فوقها واللام وكسر الميم الثانية وتشديدها وبعدها سين مهملة - كان قد هجا عمرو بن هند اللخمي ملك الحيرة، وهجاه أيضاً (6) طرفة بن العبد البكري الشاعر المشهور، وهو ابن أخت المتلمس المذكور، فاتصل   (1) ن ر: مروان. (2) ع بر من: نكداء مثل؛ ر: نكراء مثل. (3) انظر ترجمة المتلمس وخبر الصحيفة في الأغاني 23: 524 وما بعدها. (4) ع: دوقن. (5) ن ر ع بر من: حلى. (6) أيضاً: سقطت من: ص ن. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 92 هجوهما (1) بعمرو بن هند، فلم يظهر لهما شيئاً من التغير، ثم مدحاه بعد ذلك فكتب لكل واحدٍ منهما كتاباً إلى عامله بالحيرة (2) ، وأمره بقتلهما إذا وصلا إليه، وأوهمهما أنه قد كيت لهما بصلة، فلما وصلا إلى الحيرة قال المتلمس لطرفة: كل منا قد هجا الملك، ولو أراد أن يعطينا لأعطاناولم يكتب لنا إلى الحيرة، فهلم ندفع كتبنا إلى من يقرؤها، فإن كان فيها خير دخلنا الحيرة (3) ، وإن كان فيها شر فررنا قبل أن يعلم بمكاننا، فقال طرفة بن العبد: ما كنت لأفتح كتاب الملك، فقال المتلمس: والله لأفتحن كتابي ولأعلمن ما فيه ولا أكون كمن يحمل حتفه بيده، فنظر المتلمس فإذا غلام قد خرج من الحيرة، فقال له: أتقرأ يا غلام (4) فقال: نعم، فقال: هلم فاقرأ هذا الكتاب. فلما نظر إليه الغلام قال: ثكلت المتلمس أمه، فقال لطرفة: افتح كتابك فما فيه إلا مثل ما في كتابي، فقال: إن كان اجترأ عليك فلم يكن ليجترئ علي ويوغر صدور قومي بقتلي. فألقى المتلمس صحيفته في نهر الحيرة وفر إلى الشام، ودخل طرفة الحيرة فقتل، وقصته في ذلك مشهورة، فصار يضرب المثل بصحيفة المتلمس لكل من قرأ صحيفة فيها قتله، وإلى هذا أشار الحريري في المقامة العاشرة بقوله: " ففضضتها فعل المتلمس من مثل صحيفة المتلمس ". وللأبله الشاعر، - المقدم ذكره في المحمدين - قصيدة يقول فيها: يقرا المتيم من صحيفة خده ... في الهجر مثل صحيفة المتلمس رجعنا إلى تتمة خبر الفرزدق: ثم (5) خرج هارباً حتى أتى سعيد بن العاص الأموي، وعنده الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر رضي الله عنهم، فأخبرهم الخبر، فأمر له كل واحد منهم   (1) ر: خبر هجوهما. (2) كذا ورد، ولعل صوابه " بهجر ". (3) ر: المدينة. (4) يا غلام: سقطت من ر. (5) ع ن: ثم إنه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 93 بمائة دينار وراحلة، وتوجه إلى البصرة، وقيل لمروان: أخطأت فيما فعلت فإنك عرضت عرضك اشاعر مضر، فوجه وراءه رسولاً ومعه مائة دينار وراحلة، خوفاً من هجائه. ومن أخبار الفرزدق أنه حكى أن نزل في بعض أسفاره في بادية وأوقد ناراً فرآها ذئب فأتاه فأطعمه من زاده وأنشد (1) : وأطلس عسال وما كان صاحباً ... دعوت بناري موهناً فأتاني فلما أتى قلت ادن دونك إنني ... وإياك في زادي لمشتركان فبت أقد الزاد بين وبينه ... على ضوء نارٍ مرةً ودخاني وقلت له لما تكشر (2) ضاحكاً ... وقائم سيفي في يدي بمكان تعش، فإن عاهدتني لا تخونني ... نكن مثل من، يا ذئب، يصطحبان وأنت امرؤ يا ذئب والغدر كنتما ... اخيين كانا أرضعا بلبان ولو غيرنا بنهت تلتمس القرى ... رماك بسهم أو شباة سنان وكان قد أنشد سليمان بن عبد الملك الأموي قصيدة ميمية، فلما انتهى منها إلى قوله (3) : ثلاث واثنتان فهن خمس ... وسادسة تميل إلى شمام فبتن بجانبي مصرعاتٍ ... وبت أفض أغلاق الختام كأن مفالق الرمان فيه ... وجمر غضاً قعدن عليه حام فقال له سليمان: قد أقررت عندي بالزنا وأنا إمام، ولا بد من إقامة الحد عليك، فقال الفرزدق: ومن أين أوجبت علي يا أمير المؤمنين فقال: بقول الله تعالى: (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحدٍ منهما مائة جلدة) (النور:2)   (1) ديوانه 2: 329. (2) ر: تبسم. (3) الشعر والشعراء: 389. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 94 فقال الفرزدق: إن كتاب الله يدرؤه عني بقوله تعالى: (والشعراء يتبعهم الغاوون. ألم تر أنهم في كل واد يهيمون. وأنهم يقولون ما لا يفعلون) الشعراء: فأنا قلت ما لم أفعل، فتبسم سليمان، وقال: أولى ذلك. وتنسب إليه مكرمة يرجى له بها الجنة، وهي أنه لما حج هشام بن عبد الملك في أيام أبيه، فطاف وجهد أن يصل إلى الحجر ليستلمه، فلم يقدر عليه لكثرة الزحام، فنصب له منبر وجلس عليه ينظر إلى الناس، ومعه جماعة من أعيان أهل الشام، فبينما هو كذلك إذ أقبل زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، وقد تقدم ذكره - وكان من أحسن الناس وجهاً وأطيبهم أرجاً، فطاف بالبيت، فلما انتهى إلى الحجر تنحى له الناس حتى استلم، فقال رجل من أهل الشام: من هذا الذي قد هابه الناس هذه الهيبة فقال هشام: لا أعرفه، مخافة أن يرغب فيه أهل الشام، وكان الفرزدق حاضراً فقال: أنا أعرفه، فقال الشامي: من هذا يا أبا فراس فقال (1) : هذا الذي تعرف البطحاء وطأته ... والبيت يعرفه والحل والحرم هذا ابن خير عباد الله كلهم ... هذا التقي النقي الطاهر العلم إذا رأته قريش قال قائلها: ... إلى مكارم هذا ينتهي الكرم ينمي إلى ذروة العز التي قصرت ... عن نيلها عرب الإسلام والعجم يكاد يمسكه عرفان راحته ... ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم في كفه خيزران ريحه عبق ... من كف أروع في عرنينه شمم يغضي حياء ويغضى من مهابته ... فما يكلم إلا حين يبتسم   (1) نسب الآمدي أبياتاً منها في المؤتلف: 122 للحزين الكناني؛ وقال ابن قتيبة - وأورد منها بيتين - إنهما في مدح بعض بني أمية (الشعر والشعراء: 12) وذكر ابو الفرج (الأغاني 15: 257) أنهما للحزين بن سليمان الديلي وقال: والناس يروون هذين البيتين للفرزدق في أبياته التي يمدح بها علي بن الحسين عليه السلام وأولها " هذا الذي تعرف البطحاء وطأته " فالقصيدة صحيحة النسبة إلى الفرزدق في رأي أبي الفرج إلا أن البيتين السادس والسابع ليس منها؛ وإيراد القصة على أن القصيدة جاءت عفو الخاطر، أو كأن الفرزدق كان متوقعاً ذلك السؤال، فيه قدر من السذاجة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 95 ينشق نور الهدى عن نور غرته ... كالشمس ينجاب عن إشراقها الظلم مشتقة من رسول الله نبعته ... طابت عناصره والخيم والشيم هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله ... بجده أنبياء الله قد ختموا الله شرفه قدماً وعظمه ... جرى بذاك له في لوحه القلم فليس قولك من هذا بضائره ... العرب تعرف من أنكرت والعجم كلتا يديه غياث عم نفعها ... تستوكفان ولا يعروهما عدم سهل الخليقة لا تخشى بوادره ... يزينه اثنان حسن الخلق والشيم حمال أثقال أقوام إذا فدحوا (1) ... حلو الشمائل تحلو عنده نعم ما قال لا قط إلا في تشهده ... لولا التشهد كانت لاءه نعم (2) لا يخلف الوعد مأمون نقيبته ... رحب الفناء أريب حين يعتزم عم البرية بالإحسان فانقشعت ... عنها الغياية والإملاق والعدم من معشر حبهم دين وبغضهم ... كفر وقربهم منجى ومعتصم إن عد أهل التقى كانوا أئمتهم ... أوقيل من خير أهل الأرض قيل هم لا يستطيع جواد بعد غايتهم ... ولا يدانيهم قوم وإن كرُموا هم الغيوث إذا ما أزمة أزمت ... والأسد أسد الشرى والبأس محتدم لا ينقص العسر بسطاً من أكفهم ... سيان ذلك إن ثروا وإن عدموا مقدم بعد ذكر الله ذكرهم ... في كل بدء ومختوم به الكلم يأبى أن يحل الذم ساحتهم ... خيم كريم وأيدٍ بالندى هضم أي الخلائق (3) ليست في رقابهم ... لأولية هذا أو له نعم من يعرف الله يعرف أولية ذا ... والدين من بيت هذا ناله الأمم   (1) في جميع النسخ: قدحوا. (2) سقط البيت من ق ع ر بر من والمختار، ووقع بخط مختلف في هامش ن، وفيها: لولا التشهد لم ينطق بتلك فم. (3) ر والمختار: الخليقة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 96 فلما سمع هشام هذه القصيدة غضب وحبس الفرزدق، وأنفذ (1) له زين العابدين اثني عشر ألف درهم، فردها وقال: مدحته لله تعالى لا للعطاء، فقال: إنا أهل بيت إذا وهبنا شيئاً لا نستعيده (2) ، فقبلها. وقال محمد بن حبيب المقدم ذكره: صعد الوليد بن عبد الملك المنبر، فسمع صوت ناقوس فقال: ما هذا قيل البيعة، فأمر بهدمها، وتولى بعض ذلك بيده، فتتابع الناس يهدمون (3) ، فكتب إليه الأخرم (4) ملك الروم: إن هذه البيعة قد أقرها من قبلك، فإن يكونوا أصابوا فقد أخطأت وإن تكن أصبت فقد أخطأوا، فقال: من يجيبه فقال الفرزدق: تكتب إليه: (وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيهم غنم القوم، وكنا لحكمهم شاهدين، ففهمناها سليمان، وكلا آتينا حكماً وعلماً - الآية) . وأخبار الفرزدق مثيرة والاختصار أولى. وتوفي بالبصرة سنة عشر ومائة قبل جرير بأربعين يوماً، وقيل بثمانين يوماً، وقال أبو الفرج ابن الجوزي في كتاب " شذوذ العقود ": إنهما توفيا سنة إحدى عشرة ومائة. وقال السكري: إن الفرزدق لقي علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، وتوفي سنة عشر، وقيل اثنتي عشرة، قيل أربعة عشر وومائة. وقال ابن قتيبة في " طبقات الشعراء " (5) : إن الفرزدق أصابته الدبيلة، فقدم به البصرة، وأتى الطبيب فسقاه قاراً أبيض، فجعل يقول: أتعجلون لي القار وأنا في الدنيا، ومات وقد قارب المائة، والله أعلم. وقد سبق في ترجمة جرير ما قاله لما بلغه وفاة الفرزدق، فأغنى عن الإعادة، رحمهما الله تعالى. وذكر المبرد في كتاب " الكامل " (6) قال: التقى الحسن البصري والفرزدق   (1) ص: فأنفذ. (2) بر: لا نسترده. (3) ر: يهدمونها. (4) الأخرم: هو جستنيان الثاني، الذي ملك حتى سنة 711، وكان معاصراً للوليد. (5) الشعر والشعراء: 385. (6) الكامل 1: 119. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 97 في جنازة، فقال الفرزدق للحسن: أتدري ما يقول الناس يا أبا سعيد يقولون: اجتمع في هذه الجنازة خير الناس وشر الناس، قال الحسن: ملا، لست بخيرهم ولست بشرهم، ولكن ما أعددت لهذا اليوم قال: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدأ رسول الله مذ ستون سنة. فيزعم بعض التميمية أن الفرزدق رؤي في المنام فقيل له: ما صنع بك ربك فقال: غفر لي، فقيل: بأي شيء فقال: بالكلمة التي نازعتها الحسن. وهمام: بفتح الهاء وتشديد الميم الأولى. وناجية: بالنون والجيم المكسورة وبعدها ياء مثناة من تحتها. وعقال: بكسر العين المهملة وفتح القاف. ومحمد بن سفيان: هو أحد الثلاثة الذين سموا بمحمد في الجاهلية، وذكرهم ابن قتيبة في كتاب " المعارف " (1) . وقال السهيلي في كتاب " الروض الأنف " (2) : لا يعرف في العرب من تسمى بهذا الاسم قبله صلى الله عليه وسلم، إلا ثلاثة طمع آباؤهم حين سمعوا بذكر محمد صلى الله عليه وسلم، وبقرب زمانه وأنه يبعث في الحجاز، أن يكون ولداً لهم، ذكرهم ابن فوزك في كتاب " الفصول " وهم: محمد بن سفيان بن مجاشع جد جد الفرزدق الشاعر، والآخر محمد بن أحيحة بن الجلاح، وهو أخو عبد المطلب جد رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمه، والآخر محمد بن حمران من ربيعة، وكان آباؤهم هؤلاء الثلاثة قد وفدوا على بعض الملوك، وكان عنده علم الكتاب الأول، فأخبرهم بمبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وباسمه، وكان كل واحد منهم قد خلف امرأته حاملاً، فنذر كل واحد منهم إن ولد له ذكر يسميه محمداً، ففعلوا ذلك. وأما مجاشع: فهو بضم الميم وفتح الجيم وبعد الألف شين معجمة مكسورة ثم عين مهملة.   (1) المعارف: 556؛ وانظر ابن رسته: 201. (2) الروض الأنف 2: 150 (تحقيق عبد الرحمن الوكيل) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 98 ودارم: بفتح الدال المهملة وبعد الألف راء مكسورة وبعدها ميم. وبقية النسب معروف. والفرزدق: بفتح الفاء والراء وسكون الزاي وفتح الدال المهملة وبعدها قاف، وهو لقب عليه. واختلف كلام ابن قتيبة في تلقيبه به، فقال في " أدب الكاتب " (1) : الفرزدق: قطع العجين، واحدتها فرزدقة، وإنما لقب به لأنه كان جهم الوجه، وقال في كتاب " طبقات الشعراء " (2) : إنما لقب بالفرزدق لغلظه وقصره، شبه بالفتيتة التي تشربها النساء، وهي الفرزدقة. والقول الأول أصح، لأنه كان أصابه الجدري في وجهه ثم برأ منه، فبقي وجهه جهماً متغضناً، ويروى أن رجلاً قال له: يا أبا فراس، كأن وجهك أحراح مجموعة، فقال له: تأمل، هل فيها حر أمك،. والأحراح - بحاءين مهملتين - جمع حرح، وهو الفرج، فحذفت في المفرد حاؤه الثانية، فبقي حراً، ومتى عادت الحاء الثانية، فقالوا: أحراح لأن الجموع ترد (3) الأشياء إلى أصولها. وكانت زوجة الفرزدق ابنة عمه، وهي النوار - بفتح النون - ابنة أعين بن ضبيعة بن عقال المجاشعي، وجدها ضبيعة الذي عقر الجمل الذي كانت عليه عائشة أم المؤمنين يوم وقعة الحمل، رضي الله عنها، وكان قد خطبها - يعني النوار - رجل من قريش، فبعثت إلى الفرزدق تسأله أن يكون وليها إذ كان ابن عمها، فقال: إن بالشام من هو أقرب من إليك، وما أنا آمن أن يقدم قادم منهم فينكر ذلك علي، فأشهدي أنك قد جعلت أمرك إلي، ففعلت، فخرج بالشهود، وقال لهم: قد أشهدتكم أنها جعلت أمرها لي، وأنا أشهدكم أني قد تزوجتها على مائة ناقة حمراء سود الحدق، فغضبت من ذلك واستعدت عليه، وخجي إلى عبد الله ابن الزبير، وأمر الحجاز والعراق يومئذ إليه، وخرج الفزردق أيضاً، فأما النوار فنزلت على خولة بنت منظور بن زبان (4) ،   (1) أدب الكاتب: 80. (2) الشعر والشعراء: 382. (3) ص: لأن الجمع يرد. (4) زيان: بالياء المثناة من تحتها في النسخ؛ والصواب بالباء الموحدة، وكذلك هو في الموضع التالي في النسخة ص. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 99 الفزاري، امرأة عبد الله بن الزبير فرققتها وسألتها الشفاعة لها، وأما الفرزدق فنزل على حمزة بن عبد الله بن الزبير، وهو ابن خولة المذكورة، ومدحه فوعده، الشفاعة، فتكلمت خولة في النوار وتكلم حمزة في الفرزدق، فأنجحت خولة، وأمر عبد الله بن الزبير أن لا يقربها، حتى يصيرا إلى البصرة، فيحتكما (1) إلى عامله عليها، فخرجا، وقال الفرزدق في ذلك: أما بنوه فلم تنجح شفاعتهم ... وشفعت بنت منظور بن زبانا ليس الشفيع الذي يأتيك متزراً (2) ... مثل الشفيع الذي يأتيك عريانا ثم إن الفرزدق اتفق معها، وبقي زماناً لا يواد له ولد، ثم ولد له بعد ذلك عدة أولاد وهم: لبطة وسبطة وحبطة وركضة وزمعة وكلهم من النوار، وليس لواحد من ولده عقب إلا من النساء. وقال ابن خالويه: ومن أولاد الفرزدق: كلطة وجلطة، والله أعلم. ثم إن الفرزدق طلق النوار لأمر يطول شرحه فندم على ذلك. وله فيها أشعار، فمنها قوله: ندمت ندامة الكسعي لما ... غدت مني مطلقة نوار وكانت جنتي فخرجت منها ... كآدم حين أخرجه الضرار وله في ذلك أخبار ونوادر يطول شرحها، وليس هذا موضع استيفائه (3) ومات للفرزدق ابن صغير، فصلى عليه، ثم التفت إلى الناس وقال: وما نحن إلا مثلهم غير أننا ... أقمنا قليلاً بعدهم وترحلوا فمات بعد ذلك بأيام قلائل (4) .   (1) ن: فيحتكمان. (2) ع: مؤتزراً؛ ر: مكتسياً. (3) ص ن ر من بر: وليس هذا موضعه. (4) ن: قليلة، وسقطت اللفظة من: بر من. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 100 785 - (1) هلال بن المحسن الصابئ أبو الحسن (2) هلال بن المحسن بن أبي إسحاق إبراهيم بن هلال بن إبراهيم بن زهرون بن حيون، الصابئ الحراني الكاتب، هو حفيد أبي إسحاق الصابئ صاحب الرسائل المشهورة - وقد سبق ذكر جده في حرف الهمزة، سمع هلال المذكور أبا علي الفارسي النحوي - المقدم ذكره - وعلي بن عيسى الرماني - المقدم ذكره أيضاً - وابا بكر أحمد بن محمد بن الجراح الخراز (3) وغيرهم. وذكره الخطيب في " تاريخ بغداد " وقال: كتبنا عنه وكان صدوقاً، وكان أبوه المحسن صابئياً (4) على دين جده إبراهيم، فأسلم هلال المذكور في آخر عمره (5) ، وسمع من العلماء في حال كفره، لأنه كان يطلب الأدب. ورأيت له تصنيفاً جمع فيه حكايات مستملحة وأخباراً نادرة، وسماه كتاب " الأماثل والأعيان ومنتدى العواطف والإحسان " وهو مجلد واحد، ولا أعلم هل صنفوه سواه أم لا. (311) وكان ولده غرس النعمة أبو الحسن محمد بن هلال المذكور ذا فضائل جمة وتآليف نافعة، منها التاريخ الكبير المشهور، ومنها الكتاب الذي سماه: الهفوات النادرة من المغفلين (6) الملحوظين، والسقطات الباردة من المغفلين المحظوظين " جمع فيه كثيراً من الحكايات التي تتعلق بهذا الباب، فمما نقلته منه (7) أن عبد الله بن علي بن عبد الله بن العباس رضي الله عنه - وهو عم السفاح   (1) ترجمته في تاريخ بغداد 14: 76 والمنتظم 8: 176 ومعجم الأدباء 19: 294. (2) ص: أبو الحسين، وكذلك في تاريخ بغداد. (3) تاريخ بغداد: الخزاز. (4) في بعض النسخ: وكان أبو الحسن صابئياً، ليتفق مع قوله " جده "، وعند دي سلان: " أبيه " وهو لم يرد في النسخ المعتمدة. (5) بر من: بأخرة. (6) كذا في النسخ، ولعل الصواب " المعقلين " كما قال محقق الكتاب (المقدمة: 31) . (7) الهفوات النادرة: 371. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 101 وأبي جعفر المنصور - أنفذ إلى ابن أخيه السفاح في أول ولايتهم مشيخةً من اهل الشام يطرفه بعقولهم واعتقادهم، وأنهم حلفوا أنهم ما علموا لرسول الله صلى الله عليه وسلم قرابة يرثونه غير بني أمية حتى وليتم أنتم. ونقلت أيضاً حكاية وإن كانت سخيفة لكنها ظريفة، ولا بد في المجاميع من الأحماض، ومزج الهزل بالجد، والحكاية المذكورة هي (1) : أن أبا سعيد ماهك بن بندار المجوسي الرازي كان من كبار كتاب الديلم المشهور تجفلهم (2) ، الشائعة فيه أخبارهم، وكان يكتب لعلي بن سامان أحد فواد الديلم، فأراد الوزير أبو محمد المهلبي أن ينفذ ماهك في بعض الخدم فقال له: وقد أراد الخروج من عنده: يا أبا سعيد، لا تبرح من الدار حتى أوقفك على شيء أريده معك، فقال: السمع والطاعة لأمر سيدنا الوزير، ونهض من بين يديه، فقال الوزير: هذا رجل مجنون، وربما طال بي الشغل وضاق صدره فانصرف، فتقدموا إلى البواب أن لا يدعه يخرج من الباب، فجلس ماهك طويلاً، وأراد دخول الخلاء، فقام يطلب ذلك فرأى الأخلية مقفلة، وكان قد تقدم الوزير بذلك، وقال: كانت دار أبي جعفر الصيمري، منتنة الرائحة لأجل خلاء كان بها لعامة الناس. فوجد ماهك الخلاء الخلاص غير مقفل، وعليه سر مسبل، فرفع الستر ليدخل، فجاء الفراش فمنعه ودفعه (3) ، فقال: يا هذا أليس هذا خلاء فقال: بلى، فقال: أريد أن أعمل فيه حاجتي فلم تمنعني قال: هذا خلاء خاص لا يدخله غير الوزير، قال: فبقية الأخلية مقفلة، فكيف أعمل وقد جئت أخرج فمنعني البواب فأخرى في ثيابي فقال الفراش: استأذن في دخول الخلاء (4) ليتقدم لك بذلك ويفتح لك أحد الأخلية فتقضي حاجتك، فاشتد به الأمر، فكتب إلى الوزير رقعة وقال فيها: قد احتاج عبد سيدنا الوزير ماهك إلى بعض ما يحتاج إليه الناس   (1) المصدر السابق: 322. (2) هذه القراءة غير قاطعة لأن النسخ أوردت اللفظة غير كاملة الإعجام. (3) ر: فدفعه ومنعه. (4) ع ن بر من: خلاء. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 102 ولا يحسن ذكره، والفراش يقول لا تدخل، والبواب يقول لا تخرج (1) ، وقد تحير العبد في البين، والأمر في الشدة، فإن رأى سيدنا الوزير أن يفسح لعبده بان يعمل ما يحتاج إليه في خلائه فعل إن شاء الله تعالى، والسلام. ودفع الرقعة إلى بعض الحجاب، فأوصلها إلى الوزير، فلم يعلن ما أراد بالرقعة، فاستعلم ما الصورة فعرف (2) بها، فضحك واستلقى على ظهره (3) ، ووقع على ظهر الرقعن: يخرى أبو سعيد أعزه الله بحيث يختار، إن شاء الله تعالى، فجاءه الحاجب بها فأخذه ودفعه إلى الفراش، وقال: هذا ما طلبت، وهو توقيع سيدنا الوزير، فقال الفراش: التوقيعات يقرؤها أبو العلاء ابن أبرونا كاتب ديوان الدار، وأنا لا أحسن أن أكتب ولا أقرأ، فصاح ماهك في الدار: هات من يقرأ (4) في الدار صك الخرا!! فضحك فراش آخر وأخذ بيده، وحمله إلى بعض الحجر حتى قضى حاجته. ونقلت من هذا الكتاب أيضاً (5) : أن أرطأة بن سهية دخل على عبد الملك بن مروان، وكان قد أدرك الجاهلية والإسلام، فرآه عبد الملك شيخاً كبيراً، فاستنشده ما قاله في طول عمره فأنشده: رأيت المرء تأكله الليالي ... كأكل الأرض ساقطة الحديد وما تبغي المنية حين تأتي ... على نفس ابن آدم من مزيد واعلم أنها ستكر حتى ... توفي نذرها بأبي الوليد فارتاع عبد الملك وظن أنه عناه لأنه يكنى أبا الوليد، وعلم أرطأة بسهوه وزلته، فقال: يا أمير المؤمنين إني أكنى بأبي الوليد، وصدقه الحاضرون، فسري عن عبد الملك قليلاً.   (1) ع: لا تدخل. (2) ع ص ن: فعرفه. (3) واستلقى على ظهره: سقط من: بر من ر ع ن. (4) ع ن بر من: يعمل. (5) الهفوات النادرة: 39. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 103 ونقلت منه أيضاً (1) أن أبا المعري صاعد بن مخلد كاتب الموفق قرأ على الموفق فلم يفهم معناه، وقرأه الموفق ففهمه، فقال فيه عيسى بن القاشي (2) : أرى الدهر يمنع من جانبه ... ويهدي الحظوظ على عائبه وكم طالبٍ سبباً مجلباً ... فأعيا عناه (3) على طالبه ومن عجيب الدهر أن الأمي ... ر أصبح أكتب من كاتبه والموفق المذكور هو ابن أحمد طلحة بن المتوكل، وهو والد المعتضد الخليفة العباسي. ونقلت منه (4) أيضاً أن إعرابياً شهد الموقف مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال الأعرابي: فصاح به صائح من خلفه: يا خليفة رسول الله ثم قال: يا أمير المؤمنين، فقال رجل من خلفي: دعاه باسم ميت، مات والله أمير المؤمنين، فالتفت إليه فإذا هو رجل من بني لهب - بكسر اللام - وهم من بني النضر (5) بن الأزد، وهم أزجر قوم، وقد أشار كثير عزة إلى ذلك في قوله: سألت أخا لهبٍ ليزجر زجره ... وقد صار زجر العالمين إلى لهب قال الأعرابي: فلما وقفنا لرمي الجمار (6) إذا حصاة قد صكت صلعة عمر رضي الله عنه فأدمته، فقال قائل: أشعر والله أمير المؤمنين، والله لا يقف هذا الموقف بعدها، فالتفت إليه فإذا هو اللهبي بعينه، فقتل عمر رضي الله عنه قبل الحول (7) .   (1) المصدر السابق: 277. (2) المختار: القاشاني. (3) ق ر: عياه، ولعل الصواب " عياء ". (4) الهفوات النادرة: 361. (5) ع والمختار: نصر. (6) ر: للرمي. (7) علق ابن المؤلف هنا بقوله: " قلت أعني كاتبها موسى بن أحمد لطف الله به: زاد المبرد في كتابه المسمى بالكامل في هذه الحكاية أن اللهبي لما قال: أشعر والله، قال له الأعرابي السامع له ولم ذلك قال: العرب تقول إذا ماتت الدابة نفق وإذا مات الكافر هلك وإذا مات المسلم مات وإذا مات الملك أشعر، من إشعار البدن المهدية للكعبة والذبح إجلالا لهم وإعظاماً عن ذكر الموت، والله أعلم ". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 104 وهذه الحكاية في كتاب " الكامل " (1) أيضاً. وقوله " دعاه باسم ميت " إنما ذلك لأن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان يقال له " خليفة رسول الله " فلما توفي وتولى عمر رضي الله عنه قيل له: " خليفة خليفة رسول الله " فقال للصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين: هذا أمر يطول شرحه، فإن كل من يتولى يقال له خليفة من كان قبله حتى يتصل برسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما أنتم المؤمنون وأنا أميركم، فقيل له: يا أمير المؤمنين، فهو أول من دعي بهذا الاسم، وكان لفظ الخليفة مختصاً بابي بكر الصديق رضي الله عنه، فلهذا قال " دعاه باسم ميت ". وذكر عمر بن شبة - المقدم ذكره (2) - في " أخبار البصرة " عن الشعبي أن أول من دعا لعمر رضي الله عنه على المنبر أبو موسى الأشعري بالبصرة، وهو أول من كتب " لعبد الله أمير المؤمنين " فقال عمر: إني لعبد الله، وإني لعمر، وإني لأمير المؤمنين. وقال عوانة: أول من سماه أمير المؤمنين عدي بن حاتم الطائي وأول من سلم عليه بها المغيرة بن شعبة. وقال غيره: جلس عمر يوماً فقال: والله ما ندري كيف نقول: أبو بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا خليفة أبي بكر، فأنا خليفة خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن جاء بعدي يقال له: خليفة خليفة خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل اسم قالوا: الأمير، قال: كلكم أمير، قال المغيرة: نحن المؤمنون، وأنت أميرنا، فأنت أمير المؤمنين، قال: أنا أمير المؤمنين، والله أعلم، وخرجنا عن المقصود. وكانت ولادة هلال المذكور في شوال سنة تسع وخمسين وثلثمائة. وتوفي ليلة الخميس (3) سابع عشر شهر رمضان سنة ثمان وأربعين وأربعمائة، رحمه الله تعالى.   (1) الكامل: 1: 145. (2) انظر ج 3: 440. (3) ر: الجمعة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 105 786 - (1) الهيثم بن عدي أبو عبد الرحمن الهيثم بن عدي بن عبد الرحمن بن زيد بن أسيد بن جابر بن عدي بن خالد بن خيثم بن أبي حارثة بن جدي بن تدول بن بحتر بن عتود بن عنين بن سلامان بن ثعل بن عمرو بن الغوث بن جلهمة، وهو طيء، الطائي الثعلي البحتري الكوفي، كان راوية أخبارياً، نقل من كلام العرب وعلومها وأشعارها ولغاتها المثير، وكان أبوه نازلاً بواسط، وكان خيراً. وكان الهيثم يتعرض لمعرفة أصول الناس ونقل أخبارهم، فأورد معايبهم وأطهرها وكانت مستورة فكره لذلك، ونقل عنه أنه ذكر العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه بشيء، فحبس لذلك عدة سنين، ويقال إنه نقل زوراً، ولبسوا عليه ما لم يقل، وكان قد صاهر قوماً فلم يرضوه، فأذاعوا ذلك عنه، وحرفوا الكلام. وكان يرى رأي الخوارج. وله من الكتب المصنفة كتاب " المثالب " (2) ، وكتاب " المعمرين "، وكتاب " بيوتات العرب "، وكتاب " هبوط آدم عليه السلام "، و " افتراق العرب ونزول منازلها، وكتاب " نزول العرب بخراسان (3) والسواد "، وكتاب " نسب طي "، وكتاب " مديح (4) أهل الشام "، وكتاب " تاريخ العجم وبني أمية "، وكتاب " الوفود "، وكتاب   (1) ترجمته في البيان 1: 347، 361 والفهرست: 99 وتاريخ بغداد 14: 50 ونور القبس: 293 وإنباه الرواة 3: 365 ولسان الميزان 5: 209 ومعجم الأدباء 19: 304 وميزان الاعتدال 4: 324 وانظر بروكلمان (الترجمة العربية) 3: 34 ويتفق نسبه المذكور هنا مع ما ذكره ابن الكلبي حتى " أسيد " وبعده: ابن ترعل بن خثيم (بتقديم الثاء) (مختصر الجمهرة 2: 264) . وابتداء من هذه الترجمة ينتهي الإيجاز في النسخة ق. (2) كتاب المثالب: سقط من ص، ووردت أسماء الكتب في ع دون واو عطف. (3) ن ص: خراسان. (4) ص ر: مستفتح. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 106 " خطط (1) الكوفة "، وكتاب " ولاة الكوفة "، وكتاب " تاريخ الأشراف الكبير "، وكتاب " تاريخ الأشراف الصغير "، وكتاب " طبقات الفقهاء والمحدثين "، وكتاب " كنى الأشراف "، وكتاب " خواتيم الخلفاء "، وكتاب " قضاة الكوفة والبصرة "، وكتاب " المواسم "، وكتاب " الخوارج "، وكتاب " النوادر "، وكتاب " التاريخ على السنين "، وكتاب " أخبار الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما ووفاته " وكتاب " أخبار الفرس "، وكتاب " عمال الشرط لأمراء العراق " وغير ذلك من التصانيف. واختص بمجالسة المنصور والمهدي والهادي والرشيد وروى عنهم. قال الهيثم: قال لي المهدي: ويحك يا هيثم، إن الناس يخبرون عن الأعراب شحاً ولؤماً وكرماً وسماحاً، وقد اختلفوا في ذلك، فما عندك فقلت: على الخبير سقطت، خرجت من عند أهلي أريد ديار فرائد (2) لي، ومعي ناقة أركبها، إذ ندت فذهبت، فجعلت أتبعها حتى أمسيت فأدركتها، ونظرت فإذا خيمة أعرابي فأتيتها، فقالت ربة الخباء: من أنت فقلت: ضيف، فقالت: وما يصنع الضيف عندنا إن الصحراء لواسعة، ثم قامت إلى بر فطحنته، ثم عجنته وخبزته وقعدت فأكلت، ولم ألبث أن أقبل زوجها ومعه لبن، فسلم ثم قال: من الرجل فقلت: صيف، فقال: مرحباً حياك الله، فدخل الخباء وملأ قعباً من لبن، ثم أتاني به وقال: اشرب، فشربت شراباً هنيئاً، فقال: ما أراك أكلت شيئاً، وما أراها أطعمتك، فقلت: لا والله، فدخل إليها مغضباً وقال: ويلك أكلت وتركت ضيفك، فقالت: وما أصنع به أطعمه طعامي وجاراها في الكلام حتى شجها، ثم أخذ شفرة وخرج إلى ناقتي فنحرها فقلت: ما صنعت عافاك الله لا والله لا يبيت ضيفي جائعاً، ثم جمع حطباً وأجج ناراً، وأقبل يكبب ويطعمني ويأكل ويلقي إليها ويقول: كلي لا أطعمك الله، حتى إذا أصبح تركني ومضى، فقعدت مغموماً، فلما تعالى النهار أقبل ومعه بعير ما يسأم الناظر أن ينظر إليه، فقال: هذا مكان ناقتك، ثم زودني من ذلك اللحم   (1) ص ر ق: رهط. (2) ر: قرائب. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 107 ومما حضره، وخرجت من عنده، فضمني الليل إلى خباء، فسلمت، فردت صاحبة الخباء السلام وقالت: من الرجل فقلت: ضيف، فقالت: مرحباً بك وحياك الله وعافاك، فنزلت، ثم عمدت إلى بر فطحنته وعجنته، ثم خبزته خبزة روتها بالزبد واللبن، ثم وضعته بين يدي فقالت: كل واعذر، فلم ألبث أن أقبل أعرابي كريه الوجه، فسلم فرددت عليه السلام، فقال: من الرجل قلت: ضيف، قال: وما يفعل الضيف عندنا، ثم دخل إلى أهله، فقال: أين طعامي فقالت: أطعمته للضيف، فقال: أتطعمين الضيف طعامي فتجاريا الكلام (1) ، فرفع عصاه وضرب بها رأسها فشجها، فجعلت أضحك، فخرج إلي فقال: ما يضحكك قلت: خير، فقال: والله لتخبرني، فأخبرته بقضية (2) المرأة والرجل اللذين نزلت عندهما قبله، فأقبل علي وقال: إن هذه التي عندي هي أخت ذلك الرجل، وتلك التي عنده أختي. فبت ليلتي متعجباً وانصرفت. ويقرب من هذه الحكاية ما روي أن رجلاً من الأولين كان يأكل وبين يديه دجاجة مشوية، فجاءه سائل فرده خائباً، وكان الرجل مترفاً فوقع بينه وبين امرأته فرقة، وذهب ماله، وتزوجت امرأته، فبينما الزوج الثاني يأكل وبين يديه دجاجة مشوية جاءه سائل فقال لامرأته: ناوليه الدجاجة، فناولته، ونظرت إليه فإذا هو زوجها الأول، فأخبرته بالقصة، فقال الزوج الثاني: أنا والله ذلك المسكين الأول الذي خيبني، فحول الله نعمته وأهله إلي لقلة شكره (3) . وحكى الهيثم أيضاً قال: صار سيف عمرو بن معديكرب الزبيدي الذي يسمى بالصمصامة إلى موسى الهادي بن المهدي، وكان عمرو قد وهبه لسعيد بن العاص الأموي، فتوارثه ولده، إلى أن مات المهدي واشتراه موسى الهادي منهم بمال جليل، وكان من أوسع بني العباس كفا وأكثرهم عطاء، فجرد الصمصامة وجعلها بين يديه وأذن للشعراء فدخلوا عليه، ودعا بمكتل فيه بدرة، وقال: قولوا في هذا السيف، فبدر ابن يامين البصري وأنشد:   (1) ص ن: بالكلام. (2) ص ر: بقصة. (3) هذه القصة لم ترد في: ع بر من. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 108 حاز صمصامة الزبيدي من بي ... ن جميع الأنام موسى الأمين سيف عمرو وكان فيما سمعنا ... خير ما أغمدت عليه الجفون أخضر اللون بين حديه برد ... من ذباح تبين فيه المنون أوقدت فوقه الصواعق ناراً ... ثم شابت فيه الزعاف القيون فإذا ما سللته بهر الشم ... س ضياء فلم تكد تستبين ما يبالي من انتضاه لضرب ... أشمال به أم يمين يستطير الأبصار كالقبس المش ... عل ما تستقر فيه العيون وكأن الفرند والجوهر الجا ... ري في صفحتيه ماء معين نعم مخراق ذي الحفيظة في الهي ... جاء بعصى به ونعم القرين فقال الهادي: أصبت والله ما في نفسي، واستخفه السرور، فأمر له بالمكتل والسيف، فلما خرج من عنده قال للشعراء: إنما حرمتم من أجلي، فشأنكم والمكتل، ففي السيف غنائي، فاشترى منه السيف بمال جزيل، وقال المسعودي في كتاب " مروج الذهب " (1) : اشتراه منه بخمسين ألفاً، ولم يذكر هذه الأبيات إلا بعضها. والذباح: بضم الذال المعجمة وفتح الباء الموحدة وبعد الألف حاء مهملة، وهو نبت قتال لسميته، وقد جاء كثيراً في الشعر. ويعصى - بفتح الصاد - يقال: عصي بكسر الصاد يعصى إذا ضرب بالسيف، وهو خلاف عصى يعصي إذا ارتكب الذنب. وحكى المسعود في " مروج الذهب " (2) في ولاية هشام بن عبد الملك أن الهيثم بن عدي المذكور روى عن عمر (3) بن هانئ الطائي قال: خرجت مع عبد الله بن علي، وهو عم السفاح والمنصور، فانتهينا إلى قبر هشام بن عبد الملك، فاستخرجناه صحيحاً ما فقد منه إلا خرمة أنفه، فضربه عبد الله ثمانين سوطاً،   (1) مروج الذهب 3: 345. (2) مروج الذهب 3: 219. (3) ق: عمرو. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 109 ثم أحرقه، واستخرجنا (1) سليمان بن عبد الملك من أرض دابق، فلم نجد منه شيئاً إلا صلبه وأضلاعه ورأسه، فأحرقناه، وفعلنا ذلك بغيرهما من بني أمية، وكانت قبورهم بقنسرين. ثم انتهينا إلى دمشق فأخرجنا الوليد بن عبد الملك فما وجدنا في قبره لا قليلاً ولا كثيراً، وأحتفرنا عن عبد الملك فما وجدنا إلا رأسه، ثم احتفرنا عن يزيد بن معاوية فما وجدنا منه إلا عظماً واحداً، ووجدنا مع لحده خطاً أسود كأنما خط بالرماد بالطول في لحده، ثم تتبعنا قبورهم في جميع البلدان فأحرقنا ما وجدنا فيها منهم (2) . (312) وكان سبب فعل عبد الله ببني أمية هذا الفعل أن زيد بن زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم - وقد سبق ذكره في ترجمة الوزير محمد بن بقية - خرج على هشام بن عبد الملك وسمت نفسه إلى طلب الخلافة، وتبعه خلق من الأشراف والقراء، فحاربه يوسف بن عمر الثقفي أمير العراقين - وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى - فانهزم أصحاب زيد وبقي في جماعة يسيرة، فقاتلهم أشد قتال وهو يقول متمثلاً: ذل الحياة وعز الممات ... وكلا أراه طعاماً وبيلا فإن كان لا بد من واحد ... فسيري إلى الموت سيراً جميلا وحال المساء بين الفريقين، فانصرف زيد مثخناً بالجراح، وقد أصابه سهم في جبهته، فطلبوا من ينزع النصل، فأتي بحجام من بعض القرى، فاستكتموه أمره فاستخرج النصل، فمات من ساعته، فدفنوه في ساقية ماء وجعلوا على قبره (3) التراب والحشيش وأجروا الماء على ذلك، وحضر الحجام مواراته فعرف الموضع، فلما أصبح مضى إلى يوسف منتصحاً له، فدله على موضع قبره، فاستخرجه يوسف وبعث رأسه إلى هشام، فكتب إليه هشام: أن اصلبه عرياناً،   (1) ق: ثم استخرجنا. (2) عند هذا الموضع تعليق على هامش المختار بخط مخالف فيه تنديد بفعل الأمويين والعباسيين بل سب للعرب جميعاً. (3) ر: فوق قبره. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 110 فصلبه يوسف كذلك، ففي ذلك يقول بعض شعراء بني أمية يخاطب آل أبي طالب وشيعتهم من جملة أبيات: صلبنا لكم زيداً على جذع نخلة ولم أر مهدياً على الجذع يصلب وبنى تحت خشبته عموداً، ثم كتب هشام إلى يوسف يأمره بإحراقه وتذريته في الرياح، وكان ذلك في سنة إحدى وعشرين، وقيل اثنتين وعشرين ومائة. وذكر أبو بكر ابن عياش وجماعة من الأخباريين أن زيداً أقام مصلوباً خمس سنين فلم ير له عورة ستراً من الله سبحانه وتعالى له، وقال بعضهم: إن العنكبوت نسج على عورته (1) ، وذلك بالكناسة بالكوفة. فلما كان في أيام الوليد بن يزيد وظهر ولده يحيى بن زيد بخراسان، وهي واقعة مشهورة، كتب الوليد إلى عامله بالكوفة: أن أحرق زيداً بخشبته، ففعل ذلك، وأذرى رماده في الرياح على شاطئ الفرات، والله تعالى أعلم أي ذلك كان. فهذا الذي حمل عبد الله ابن علي على ما فعله ببني أمية، انتصاراً لبني عمه وانتقاماً لهم بنظير ما فعل بهم. وقال الهيثم أيضاً: استعلمت على صدقات بني فزارة، فجاءني رجل منهم فقال: أريك عجباً فقلت: بلى، فانطلق إلى جبل شاهق فإذا فيه صدع، فقال لي: ادخل، فقلت: إنما يدخل الدليل، قال: فدخل فاتبعته، ودخل معنا أناس، فكان ربما ضاق الجبل واتسع، فإذا نحن بضوء، فدنونا منه، وإذا خرق ذاهب في الأرض، وإذا عكاكيز في الجبل، فجذبناها فإذا هي سهام عاد، وإذا كتاب منقور في الجبل مقدار إصبعين أو أكثر، وإذا هو كتاب بالعربية، وهو: ألا هل أبيات سفح بذي اللوى ... لوى الرمل فاصدقن النفوس معاد بلاد لنا كانت وكنا نحبها ... إذ للناس ناس، والبلاد بلاد وروي أن أبا نواس الحسن بن هانئ الحكمي الشاعر - المقدم ذكره (2) - حضر   (1) وقال بعضهم ... عورته: سقط من أكثر النسخ. (2) انظر ج 2: 95. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 111 مجلس الهيثم بن عدي في حداثته، والهيثم لا يعرفه، فلم يستدنه ولا قرب مجلسه، فقام مغضباً، فسأل الهيثم عنه، فخبر باسمه، فقال: إنا لله! هذه والله بلية لم أجنها على نفسي، قوموا بنا إليه لنعتذر، فصاروا إليه، ودق الباب عليه وتسمى له، فقال: ادخل، فدخل هو قاعد يصفي نبيذاً له، وقد أصلح بيته بما يصلح به مثله، فقال: المعذرة إلى الله تعالى وإليك، والله ما عرفتك وما الذنب إلا لك حيث لم تعرفنا نفسك فنقضي حقك ونبلغ الواجب من برك، فأظهر له قبول العذر، فقال الهيثم: أستعهدك من قول يسبق منك في، فقال: ما قد مضى فلا حيلة فيه، ولك الأمان فيما استأنف، فقال: وما الذي مضى جعلت فداك قال: بيت مر وأنا فيما ترى [يعني من الغضب] (1) قال: فتنشدنيه، فدافعه، فألح عليه فأنشده: يا هيثم بن عدي لست للعرب ... ولست من طيئ إلا على شغب إذا نسبت عدياً في بني ثعل ... فقدم الدال قبل العين في النسب فقام من عنده، ثم بلغه بعد ذلك بقية الأبيات وهي: للهيثم بن عدي في تلونه ... في كل يوم له رجل على خشب فما زال أخا حل ومرتحل ... إلى الموالي وأحيانا إلى العرب له لسان يزجيه بجوهره ... كأنه لم يزل يغدى (2) على قتب كأنني بك فوق الجسر منتصباً ... على جواد قريب منك في الحسب حتى نراك وقد درعته قمصاً ... من الصديد مكان الليف والكرب لله أنت فما قربى تهم بها ... إلا اجتلبت لها النساب من كثب فعاد الهيثم إلى أبي نواس، وقال له: يا سبحان الله! أليس قد أمنتني وجعلت لي عهداً أن لا تهجوني! فقال: إنهم يقولون ما لا يفعلون.   (1) لم يرد في النسخ الخطية. (2) ع ن: يغدي؛ ص ر: يعدي. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 112 وأخبار الهيثم كثيرة وقد أطلنا الشرح. وكانت ولادته قبل سنة ثلاثين ومائة. وتوفي غرة المحرم سنة ست، وقيل سبع ومائتين، وقال ابن قتيبة في كتاب " المعارف " (1) : سنة تسع ومائتين، والله تعالى أعلم بالصواب، رحمه الله تعالى. وله عقب ببغداد. وقال السمعاني في كتاب " الأنساب " (2) في ترجمة البحتري: إنه توفي سنة تسع (3) ومائتين بفم الصلح، وله ثلاث وتسعون سنة، وزاد غيره أن وفاته كانت عند الحسن بن سهل، وقد تقدم في ترجمة بوران أن زواجها بالمأمون كان في هذا التاريخ بهذا الموضع، والظاهر أنه كان في جملة من حضر فتوفي هناك. وقد تقدم الكلام على الطائي والبحتري. والثعلي: بضم الثاء المثلثة وفتح العين المهملة وبعدها لام، هذه النسبة إلى ثعل بن عمرو بن الغوث بن طيء - وقد تقدم تتمة هذه النسبة في ترجمة البحتري في حرف الواو فلتنظر هناك - وتنسب إلى ثعل المذكور عدة بطون: منها بحتر وسلامان وغيرهما. (313) ومن هذه القبيلة عمرو بن المسبح الثعلي (4) الذي قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفود العرب، فأسلم بالمدينة وهو ابن مائة وخمسين سنة، وكان أرمى العرب وفيه يقول امرؤ القيس حندج (5) بن حجر الكندي الشاعر المشهور (6) : رب رامٍ من بني ثعلٍ ... مخرج كفيه من ستره   (1) المعارف: 539. (2) الأنساب 2: 103. (3) الأنساب: سبع. (4) عمرو بن المسبح: ذكره أبو حاتم في المعمرين: 86 وابن حجر في الإصابة 5: 16 وابن عبد البر في الاستيعاب: 1201 وابن دريد في الاشتقاق: 388، وفي ق ع والمختار: المسيح. (5) ص ع ر: جندح. (6) ديوان امرئ القيس. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 113 وهذا من جملة ما استشهد به ابن قتيبة في كتاب " طبقات الشعراء " (1) على قرب زمن امرئ القيس من زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه كان قبله بمقدار أربعين سنة. هذا خلاصة ما قاله، والله أعلم (2) .   (1) طبقات الشعراء: 66 - 67. (2) جاء في نسخة ق: تم حرف الهاء وبتمامه تم الجزء الثالث من كتاب وفيات الأعيان. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 114 حَرفُ اليَاء الجزء: 6 ¦ الصفحة: 115 فراغ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 116 787 - (1) ياروق التركماني ياروق بن أرسلان التركماني، كان مقدماً جليل القدر في قومه، وإليه تنسب الطائفية الياروقية من التركمان، وكان عظيم الخلقة هائل المنظر، سكن بظاهر حلب في جهتها القبلية، وبنى على شاطئ قويق فوق تل مرتفع هو وأهله وأتباعه أبنية كثيرة مرتفعة وعمائر متسعة وتعرف الآن بالياروقية، وهي شبه القرية، وسكنها هو ومن معه، وهي إلى اليوم معمورة مسكونة آهلة يتردد (2) إليها أهل حلب في أيام الربيع ويتنزهون هناك في الخضرة وعلى قويق وهو موضع كثير الانشراح والأنس. وتوفي ياروق المذكور في المحرم سنة أربع وستين وخمسمائة، رحمه الله تعالى - هكذا ذكره بهاء الدين المعروف بابن شداد في " سيرة السلطان (3) صلاح الدين " رحمهما الله تعالى. وياروق: بفتح الياء المثناة من تحتها وبعد الألف راء مضمومة ثم واو ساكنة وفي الآخر قاف. وقويق: بضم القاف وفتح الواو وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها قاف، وهو نهر صغير بظاهر حلب يجري في الشتاء والربيع وينقطع في الصيف، وقد ذكرته الشعراء في أشعارهم كثيراً، خصوصاً أبا عبادة البحتري (4) فإنه كرر   (1) سقطت " بن " في نسبه من المختار ونسخة ق. (2) ر: يترددون. (3) ن: السلطان الملك الناصر؛ وانظر السيرة: 39. (4) أكثر الصنوبري أيضاً من ذكر قويق في شعره، انظر ديوانه (دار الثقافة 1970) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 117 ذكره في عدة قصائد، فمن ذلك قوله في جملة قصيدة (1) : يا برق عن قويق فطرتى ... حلب فأعلى القصر بطياس عن منبت الورد المعصفر صبغه ... في كل ناحيةٍ ومجرى (2) الآس أرض إذا استوحشت ثم أتيتها ... حشدت علي فأكثرت إيناسي (3) وبطياس: بفتح الباء الموحدة وسكون الطاء المهملة وفتح الياء المثناة من تحتها وبعد الألف سين مهملة، وهي قرية بظاهر حلب ودثرت، ولم يبق لها اليوم أثر. وكان صالح بن علي بن عبد الله بن عباس (4) بن عبد المطلب، رضي الله عنهم، قد بنى بها قصر وسكنه هو وبنوه، وهو بين النيرب والصالحية، وهماقريتان في شرقي حلب، وكان القصر على الرابية المشرفة على النيرب، ولم يبق منه في هذا الزمان سوى آثار دارسة، هكذا وجدته مضبوطاً بخط بعض الفضلاء من أهل حلب، والله أعلم (5) .   (1) ديوان البحتري: 1134 من قصيدة في مدح عبد الملك بن صالح الهاشمي. (2) الديوان: ومجنى. (3) ص ق ر: حشدت على ما كثرت. (4) ق ر: العباس. (5) انفردت النسخة (بر) بإيراد التالية، وأخلت بها سائر النسخ، ومن الواضح أنها إضافة متأخرة لأنها منقولة عن تاريخ الإسلام للذهبي ووفاة المترجم بعد وفاة المؤلف ابن خلكان، ولهذا لم نضعها في المتن ولم نفردها برقم، وهذه هي: ياقوت المستعصمي الخطاط المشهور: يكاد يوجد خطه الآن بأيدي الناس مع العزة، وهو ممن يضرب به المثل في حسن الخط، ويقال كان إذا وقف عليه الفقير وسأله، كتب له حرفاً واحداً ودفعه إليه فيبيعه بما يريد، وهو غير ياقوت الملكي المذكور هنا، وغير ياقوت الحموي، ترجمه في تاريخ الإسلام وقال: كان رومي الجنس نشأ بدار الخلافة وأحب الكتابة والأدب، فلما أخذت بغداد سلم وحصل خطوطاً لابن البواب وغيره، وكان يعرفها بخزانة الخلفاء، فجود عليها وقويت يده، وكتب أسلوباً غريباً في غاية الوة، وصار إماماً يقتدى به، وكان رئيساً وافر الحرمة كثير التجمل والحشمة، كتب عليه أولاد الأكابر، وله شعر جيد فمنه: صدقتم في الوشاة وقد مضى ... في حبكم عمري وفي تكذيبها وزعمتم أني مللت حديثكم ... من ذا يمل من الحياة وطيبها وله أيضاً: تجدد الشمس شوقي كلما طلعت ... إلى محياك يا سمعي ويا بصري وأسهر الليل ذا أنس بوحشته ... إذ طيب ذكرك في ظلمائه سمري وكل يوم مضى لي لا أراك به ... فلست محتسباً باقيه من عمري ليلي نهار إذا ما درت في خلدي ... لأن ذكرك نور القلب والبصر ذكره الذهبي في حوادث سنة ثمان وتسعين وستمائة، وترجمه في الوفيات من تلك السنة، وقال: توفي الشيخ أبو الدر جمال الدين ياقوت ببغداد، هذه السنة (انظر الحوادث الجامعة: 500 والنجوم الزاهرة 8: 187 والشذرات 5: 443 وابن كثير 14: 6 والسلامي: 233) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 118 788 - (1) ياقوت الموصلي أبو الدر ياقوت بن عبد الله الموصلي الكاتب، الملقب أمين الدين، المعروف بالملكي، نسبة إلى السلطان أبي الفتح ملكشاه بن سلجوق بن محمد بن ملكشاه الأكبر، نزل بالموصل، وأخذ النحو عن أبي محمد سعيد بن المبارك المعروف بابن الدهان النحوي، وقرأ عليه ديوان المتنبي والمقامات الحريرية وغير ذلك. وكتب الكثير وانتشر خطه في الآفاق وكان في نهاية الحسن، ولم يكن في آخر زمانه من يقاربه في حسن الخط ولا يؤدي طريقة ابن البواب في النسخ مثله، مع فضل غزير ونباهة تامة، وكان مغرىً بنقل " الصحاح " للجوهري، فكتب منها نسخاً كثيرة، كل نسخة في مجلد واحد، رأيت (2) منها عدة نسخ، وكل نسخة تباع بمائة دينار، وكتب عليه خلق كثير وانتفعوا به، وكانت له سمعة كبيرة   (1) ترجمته في معجم الأدباء 19: 313 والنجوم الزاهرة 5: 283. (2) ع: ورأيت. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 119 في زمانه، وقصده الناس من البلاد، وسير إليه من بغداد النجيب أبو عبد الله الحسين بن علي بن أبي بكر الواسطي قصيدة مدحه بها ولم يكن رآه، بل على السماع به، وهي قصيدة جيدة في بابها، ووصف حسن خطه فأبلغ (1) ، وهي: أين الغزلان عالج والمصلى ... من ظباء سكن نهر المعلى أبتلك الكثبان أغصان بانٍ ... وبدور من أفقها (2) تتجلى أم لتلك الغزلان حسن وجوهٍ ... لو تراءت للحزن أصبح سهلا أين حوذانها من النرجس الغ ... ض إذا ناجز (3) النسيم استقلا أين ذلك العرار من صبغة الور ... د إذا جاده الغمام وطلا (4) أبجرعائها كواكب نارن ... ج دنا في غصونه فتدلى أنقيب (5) لماء دجلة كفؤ ... كذب القاسطون حاشا وكلا ألدار السلام في الأرض شبه ... معجز أن ترى لبغداد مثلا كل يومٍ تبدي وجوهاً خلاف ال ... أمس حسناً كأنما هي حبلى وصبايا يصبو الحليم إليه ... ن إذا ما خطرن (6) شكلاً ودلا يعتصبن العصائب الناصريا ... ت فيحللن منك عقداً وحلا ليس يرقبن فيك إلا ولا يع ... رفن شيئاً غير " الصحاح " وإلا مربع للقلوب فيه (7) ربيع ... متوالٍ إذا الربيع تولى بلدة يستفاد فيها المعالي ... والمعاني علماً وجداً وهزلا لم يفتها من الكمال سوى يا ... قوت لو أنها به تتحلى   (1) ن: فأبدع؛ ر: فقال. (2) ن: أهلها. (3) ع ص ق: ناحر؛ ن: فاخر. (4) ق ن ص: وهلا. (5) النقيب: اسم ماء. (6) ق ن: خطون. (7) ر: فيه للقلوب. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 120 من لها أن يضوع النشر أمين الد ... ين فيها وحسبها ذاك فضلا لو رجت أن يزورها لانبرى الصا ... مت فيها يقول: أهلا وسهلا ولئن وافت الرواة بريا ... هـ إليها فإن رؤياه (1) أحلى بحر جود له الأكارم تتلو ... وجواد عنه المكارم تتلى جامع شارد العلوم ولولا ... هـ لكانت أم الفضائل ثكلى ذو يراع تخاف صولته (2) الأس ... د وتعنو له الكتائب ذلا وإذا افتر ثغره عن سوادٍ ... في بياضٍ فالبيض والسمر خجلى (3) يقظ في حراسة الملك لا يع ... مل سهماً ولا يجرد نصلا إنما يبعث البلاغة أرسا ... لاً إذا كانت الصحائف رسلا فيعيد الجبار ممتلئاً خو ... فاً لما قد أمل فيها وأملى وتراه طوراً يجيل يديه ... بقداح العلوم فصلاً ففصلا مثل وشي الرياض أو كنظيم ال ... در (4) يزهى خطاً ولفظاً ونقلا فاتئد يا مريد مثل أمين ... الدين مهلاً أتعبت نفسك مهلا سيدي يا أخا السماح وظئر ال ... مجد وابن العلى ورب المعلى أنت بدر والكاتب ابن هلال ... كأبيه لا خير فيمن تولى إن يكن أولاً فإنكط بالتف ... ضيل أولى، لقد سبقت وصلى يا أمين الدين الذي جمع الل ... هـ به السماح والفضل شملا أنا من قادة الثناء إلى حب ... ك حتى يظل لا يتسلى وإذا أسجل الثناء بقاضٍ ... صار فيه أخو الشهادة عدلا فارض بكراً ما راض قط أبوها ... فكره بابنة ليخطب بعلا   (1) ص: رياه. (2) ص: يخاف ريقته. (3) ص ق: تجلى. (4) بر من ن: أو مثل نظم الدر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 121 لا جزاء يريد عنها ولا أج ... راً ولكن رآك للمدح أهلا ودعاه إليك داعي وداد ... جاء يبغي من حسن رأيك وصلا وإذا ما تعذر القرب فالقل ... ب كفيل به ورأيك أعلى فابق واسلم ما جرد الأفق جيشاً (1) ... من ظلام وجرد الصبح نصلا وتوفي أمين الدولة المذكور بالموصل سنة ثماني عشرة وستمائة، وقد أسن وتغير خطه من الكبر، رحمه الله تعالى. 789 - (2) ياقوت الرومي أبو الدر أبو الدر ياقوت بن عبد الله الرومي، الملقب مهذب الدين، الشاعر المشهور، مولى أبي منصور الجيلي (3) التاجر، اشتغل بالعلم وأكثر من الأدب، واستعمل قريحته في النظم فأجاد فيه، ولما تميز ومهر سمى نفسه عبد الرحمن، وكان مقيماً بالمدرسة النظامية ببغداد، وعده ابن الدبيثي في كتاب " الذيل " (4) في جملة من اسمه عبد الرحمن، وذكر أنه نشأ ببغداد، وحفظ القرآن العزيز وقرأ شيئاً من الأدب وكتب خطاً حسناً وقال الشعر وأكثر النظم منه في الغزل والتصابي وذكر المحبة، وراق شعره وتحفظه الناس، وأورد له مقطوعاً من الشعر وذكر أنه أنشده إياه، وهو:   (1) ن ر: جر في الأفق جيش. (2) ترجمته في معجم الأدباء 19: 311 والنجوم الزاهرة 5: 283 ومرآة الجنان 4: 49 وعقود الجمان ج 9، الورقة: 347 والبدر السافر 2، الورقة 221. (3) ص: الجبلي؛ ع: الجلبي، وفي الهامش: الجبلي. (4) تاريخ ابن الدبيثي ج 2، الورقة: 36 (مخطوطة جامعة كيمبردج) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 122 خليلي لا والله ما جن غاسق ... وأظلم إلا حن أو جن عاشق [وبقيته في المجموع الصغير] (1) وأشعاره سائرة يتغنى بها، وهي رقيقة لطيفة فمن ذلك قوله: إن غاض دمعك والأحباب قد بانوا ... فكل ما تدعي زور وبهتان وكيف تأنس أو تنسى خيالهم ... وقد خلا منهم ربع وأوطان لا أوحش الله من قومٍ نأوا فنأى ... عن النواظر أقمار وأغصان ساروا فسار فؤادي إثر ظعنهم ... وبان جيش اصطباري ساعة بانوا لا افتر ثغر الثرى من بعد بعدهم ... ولا ترنح أيك لا ولا بان أجرى دموعي وأذكى النار في كبدي ... غداة بينهم هم وأحزان طوفان (2) نوحٍ ثوى في مقلتي وفي ... طي الحشا لخليل الله نيران لو كابد الصخر ما كابدت من كمدٍ ... فيكم لجاد له أحد ولبنان وذاب يذبل من وجدي ورض على ... رضوى ولان لما ألقاه ثهلان يا من تملك رقي حسن بهجته ... سلطان حسنك مالي منه إحسان كن كيف شئت فمالي بدلاً عنك من بدلٍ ... أنت الزلال لقلبي وهو ظمآن ومن شعره أيضاً: ألا مبلغ وجدي بها وغرامي ... ومهدٍ إلى دار السلام سلامي نسيم الصبا بلغ تحية مشئم ... إلى معرق لم يرع عهد ذمامي وصف بعض أشواقي إليه لعله ... يرق لذلي في الهوى وهيامي أيا رحبة الزوراء لي فيك شادن ... نفى بعده من مقلتي منامي بديع جمالٍ بان صبري لبينه ... وعرضني إعراضه لحمامي   (1) سقط من: ق ص ن ع بر من؛ ولعله من بعض التحويلات في المسودة. (2) ن ص ر بر من: فماء. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 123 يصد إذا ما صد عن عيني الكرى ... ويمزج دمعي هجره بمدامي حياتي وموتي في يديه وجنتي ... وناري وريي في الهوى وأوامي ففي بعده عني وفاتي، وقربه ... حياتي وإسعادي ونيل مرامي ومن وجنتيه نار وجدي، وخصره ... نحولي، ومن سقم الجفون سقامي فكن عاذلي فدلاله ... دليل على وجدي به وغرامي (1) ورأيت كثيراً من الفقهاء بالشام وبلاد الشرق يحفظون له قصيدة أولها: جسدي لبعدك يا مثير بلابلي ... دنف بحبك ما أبل، بلى بلي يا من إذا ما لام فيه لوائمي ... أوضحت عذري بالعذار السائل أأجيز قتلي في " الوجيز " لقاتلي ... أم حل في " التهذيب " أم في " الشامل " أم في " المهذب " أن يعذب عاشق ... ذو مقلة عبرى ودمع هاطل أم طرفك الفتاك قد أفتاك في ... تلف النفوس بسحر طرف بابلي وهي أكثر من هذا، لكن هذا هو الذي أستحضره في هذا الوقت منها. وأنشدني له بعض الأدباء بمدينة حلب أبياتاً، منها قوله: ألست من الولدان أحلى شمائلا ... فكيف سكنت القلب وهو جهنم ثم قال: وقد انتقدوا عليه في (2) بغداد في هذا البيت، فأفكر فيه ثم قلت له: لعل الانتقاد من جهة أنه يلزم من كونه أحلى شمائل من الولدان أنه لا يكون في جهنم، فإنه قد يكون أحلى شمائل منهم، وليس الممتنع إلا لأن يكون الولدان في جهنم، فقال: نعم هذا هو الذي أخذ عليه. وأخبرني بعض الأفاضل بمدينة أربل في سنة خمس وعشرين وستمائة، قال: كنت ببغداد ف سنة عشرين وستمائة بالمدرسة النظامية، فقعدت يوماً   (1) ر: وهيامي. (2) ص: أهل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 124 على بابها إلى جانب أبي الدر المذكور ونحن نتذاكر الأدب، إذ جاء شيخ ضعيف القوى والحال يتوكأ على عصا، فجلس قريباً منا، فقال لي أبو الدر: أتعرف هذا فقلت: لا، فقال: هذا مملوك الحيص بيص، الذي يقول (1) فيه: تشرب أو تقمص أو تقبى ... فلن تزداد عندي قط حبا تملك بعض حبك كل قلبي ... فإن ترد الزيادة هات قلبا قال: فجعلت أنظر إليه، وأفكر فيما كان عليه، وما آل حاله إليه، ولقد طلبت أنا هذين البيتين في ديوان الحيص بيص فلم أجدهما فيه، والله أعلم. ولأبي الدر المذكور ديوان شعر سمعت أنه صغير ولم أقف عليه، بل على مقاطيع كثيرة منه، وشعره متداول بالعراق وبلاد الشرق والشام، ويكفي منه هذا القدر - وقد تقدم في حرف الخاء في ترجمة الشيخ الخضر بن عقيل الإربلي له ثلاثة أبيات دالية (2) - ثم إني ملكت من ديوانه (3) نسختين في سنة سبع وستين بدمشق المحروسة، وهو صغير الحجم يدخل في عشر كراريس (4) . ورأيت في بعض التواريخ المتأخرة أن أبا الدر المذكور وجد ميتاً بمنزله ببغداد في الثاني عشر من جمادى الأولى سنة اثنتين وعشرين وستمائة، وقال الناس: إنه توفي قبل ذلك بأيام، رحمه الله تعالى. وقال ابن النجار في " تاريخ بغداد " وجد أبو الدر في داره ميتاً، يوم الأربعاء خامس عشر جمادى الأولى من السنة، وكان قد أخرج من النظامية فسكن في دار بدرب دينار الصغير، ولم يعلم متى مات، وأظنه ناطح (5) الستين، والله أعلم.   (1) ر: قال. (2) انظر ج 2: 238. (3) ق ع: بديوانه. (4) ر: عشرين كراساً. (5) ن: قارب. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 125 والرومي: بضم الراء وسكون الواو وبعدها ميم، هذه النسبة إلى بلاد الروم، وهو إقليم مشهور متسع كثير البلاد. وها هنا نكتة غريبة يحتاج إليها ويكثر السؤال عنها، وهي: أن أهل الروم يقال لهم " بنو الأصفر "، واستعملته الشعراء في أشعارهم، فمن ذلك قول عدي بن زيد العبادي من جملة قصيدته المشهورة: وبنو الأصفر الكرام ملوك الرو ... م لم يبق منهم مذكور ولقد تتبعت ذلك كثيراً فلم أجد ما يشفي الغليل (1) ، حتى ظفرت بكتاب قديم اسمه " اللفيف " ولم يكتب عليه اسم مؤلفه، فنقلت من ما صورته: عن العباس عن أبيه قال: انخرم ملك الروم في الزمان الأول (2) ، فبقيت منه امرأة، فتنافسوا في الملك حتى وقع بينهم شر، فاصطلحوا على أن يملكوا أول من يشرف عليهم، فجلسوا مجلساً لذلك، وأقبل رجل من اليمن معه عبد له حبشي يريد الروم، فأبق العبد منه، فأشرف عليهم فقالوا: انظروا في أي شيء وقعتم فزوجوه تلك المرأة، فولدت غلاماً فسموه " الأصفر "، فخاصمهم المولى، فقال الغلام: صدق أنا عبده فارضوه، فأعطوه حتى رضي، فبسبب ذلك قيل للروم بنو الأصفر، لصفرة لون الولد، لكونه مولداً بين الحبشي والمرأة البيضاء، والله أعلم.   (1) ن بر من والمختار: أحداً فيه الغليل؛ ص ر ع ق: من أشفى فيه الغليل. (2) المختار: الزمن الأول؛ ر: الزمان المتقدم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 126 790 - (1) ياقوت الحموي أو عبد الله ياقوت بن عبد الله، الرومي الجنس والمولد الحموي المولى البغدادي الدار، الملقب شهاب الدين، أسر من بلاده صغيراً، وابتاعه ببغداد رجل تاجر يعرف بعسكر بن أبي نصر إبراهيم (2) الحموي، وجعله في الكتاب، لينتفع به في ضبط تجائره، وكان مولاه عسكر لا يحسن الخط ولا يعلم شيئاً سوى التجارة، وكان ساكناً ببغداد، وتزوج بها وأولد (3) عدة أولاد، ولما كبر ياقوت المذكور قرأ شيئاً من النحو واللغة (4) ، وشغله مولاه بالأسفار في متاجره فكان يتردد إلى كيش (3) وعمان وتلك النواحي ويعود إلى الشام. ثم جرت بينه وبين مولاه نبوة أوجبت عتقه فأبعده عنه، وذلك في سنة ست وتسعين وخمسمائة، فاشتغل بالنسخ بالأجرة، وحصلت له بالمطالعة فوائد، ثم إن مولاه بعد مديدة (6) ألوى وأعطاه شيئاً وسفره إلى كيش، ولما عاد كان مولاه قد مات، فحصل شيئاً مما كان في يده وأعطى أولاد مولاه وزوجته ما أرضاهم به، وبقيت بيده بقية جعلها رأس ماله، وسافر بها وجعل بعض تجارته كتباً. وكان متعصباً على علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، وكان قد طالع   (1) ترجمته في مرآة الجنان 4: 59 وعبر الذهبي 5: 106 وتاريخ ربل، الورقة: 312 وقد ترجم له الذهبي أيضاً في تاريخ الإسلام والمنذري في وفيات النقلة والصفدي في الوافي؛ وللمستشرقين بحوث كثيرة عنه، انظر مقدمة الجزء الخامس من معجم البلدان (طبعة وستنفيلد) وتاريخ الأدب الجغرافي في لكراتشكوفسكي 1: 335 وقد تحدث عنه الدكتور صلاح المنجد في أعلام التاريخ والجغرافيا عند العرب 1: 61 وما بعدها، وانظر تكلمة بروكلمان 1: 880. (2) ق: ابن إبراهيم؛ وسقطت " إبراهيم " من المختار؛ بر من: يعرف بعسكر الحموي. (3) ر: وولد له. (4) ر: ومن اللغة. (3) ر: وولد له. (6) ق ع بر من: مدة مديدة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 127 شيئاً من كتب الخوارج، فاشتبك (1) في ذهنه منه طرف قوي، وتوجه إلى دمشق في سنة ثلاث عشرة وستمائة وقعد في بعض أسواقها، وناظر بعض من يتعصب لعلي رضي الله عنه، وجرى بينهما كلام أدى إلى ذكره علياً، رضي الله عنه، بما لا يسوغ، فثار الناس عليه ثورة كادوا يقتلونه، فسلم منهم، وخرج من دمشق منهزماً بعد أن بلغت القضية إلى والي البلد، فطلبه فلم يقدر عليه، ووصل إلى حلب خائفاً يترقب، وخرج عنها في العشر الأول أو الثاني من جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة وستمائة، وتوصل إلى الموصل. ثم انتقل إلى إربل وسلك منها إلى خراسان وتحامى دخول بغداد، لأن المناظر له بدمش كان بغدادياً، وخشي أن ينقل قوله فيقتل فلما انتهى أمره إلى خراسان أقام بها يتجر في بلادها، واستوطن مدينة مرو مدة، وخرج عنها إلى أن نسا ومضى إلى خوارزم، وصادفه وهو بخوارزم خروج التتر، وذلك في سنة ست عشرة وستمائة، فانهزم بنفسه كبعثه يوم الحشر من رمسه، وقاسى في طريقه من المضايقة (2) والتعب ما كان يكل عن شرحه إذا ذكره، ووصل إلى الموصل وقد تقطعت به الأسباب، وأعوزه دنيء المأكل وخشن الثياب، أقام بالموصل مدة مديدة (3) ، ثم انتقل إلى سنجار وارتحل منها إلى حلب، وأقام بظاهرها في الخان، إلى أن مات في التاريخ الآتي ذكره إن شاء الله تعالى. ونقلت من " تاريخ إربل " الذي عني بجمعه أبو البركات ابن المستوفي - المقدم ذكره - أن ياقوتاً المذكور قدم إربل في رجب سنة سبع عشرة وستمائة، وكان مقيماً بخوارزم، وفارقها للواقعة التي جري فيها بين التتر والسلطان محمد بن تكش خوارزم شاه. وكان قد تتبع التواريخ، وصنف كتاباً سماه " إرشاد الألباء إلى معرفة الأدباء " يدخل في أربعة جلود (4) كبار، ذكر في أوله قال (5) : " وجمعت في هذا   (1) ق: فتشكل؛ ع: فاستبد. (2) ع بر من: الضائقة. (3) بر: بالموصل مديدة. (4) ق ن ر بر من: أربع مجلدات. (5) انظر معجم الأدباء 1: 48. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 128 الكتاب ما وقع إلي من أخبار النحويين واللغويين والنسابين والقراء المشهورين، والأخباريين والمؤرخين والوراقين العروفين والكتاب المشهورين وأصحاب الرسائل المدونة، وأرباب الخطوط المنسوبة المعينة، وكل من صنف في الأدب تصنيفاً أو جمع فيه تأليفاً، مع إيثار الاختصار والإعجاز في نهاية الإيجاز، ولم آل جهداً في إثبات الوفيات، وتبيين المواليد والأوقات، وذكر تصانيفهم ومستحسن أخبارهم، والإخبار بأنسابهم وشيء من أشعارهم (1) ، في تردادي إلى البلاد ومخالطتي للعباد، وحفت الأسانيد إلا ما قل رجاله وقرب مناله، مع الاستطاعة إثباتها سماعاً وإجازة، إلا أنني قصدت صغر الحجم وكبر النفع، وأثبت مواضع نقلي ومواطن أخذي من كتب العلماء المعول في هذا الشأن عليهم، والرجوع في صحة النقل إليهم ". ثم ذكر أنه جمع كتاباً في أخبار الشعراء المتأخرين والقدماء. ومن تصانيفه أيضاً كتاب " معجم البلدان "، وكتاب " معجم الشعراء "، وكتاب " معجم الأدباء " (2) ، وكتاب " المشترك وضعاً المختلف صقعاً " وهو من الكتب النافعة، وكتاب " المبدأ والمآل " في التاريخ، وكتاب " الدول " و " مجموع كلام أبي علي الفارسي " و " عنوان كتاب الأغاني "، و " المقتضب في النسب " يذكر فيه أنساب العرب، وكتاب " أخبار المتنبي ". وكانت له همة عالية في تحصيل المعارف. وذكر القاضي الأكرم جمال الدين أبو الحسن علي بن يوسف بن إبراهيم بن عبد الواحد الشيباني القفطي، وزير صاحب حلب كان رحمه الله تعالى، في كتابه (3) الذي سماه " إنباه الرواة على أنباه النحاة " أن ياقوتاً المذكور كتب إليه رسالة من الموصل إليها هارباً من التتر، يصف فيها حاله وما جرى له معهم، وهي بعد البسملة والحمدلة: " كان المملوك ياقوت بن عبد الله الحموي قد كتب هذه الرسالة من الموصل في سنة سبع عشرة وستمائة، حين   (1) أسقط المؤلف هنا بعض العبارات. (2) هذا يوهم أنه كتاب آخر غير " إرشاد الألباء " الذي نقل المؤلف جانباً من مقدمته، أعلاه. (3) ر: الكتاب. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 129 وصوله من خوارزم طريد التتر، أبادهم الله تعالى، إلى حضرة مالك رقه الوزير جمال الدين القاضي الأكرم أبي الحسن علي بن يوسف بن إبراهيم بن عبد الواحد الشيباني، ثم التيمي تيم بني شيبان بن ثعلبة بن عكابة، أسبغ الله عليه ظله، وأعلى في درج السيادة محله، وهو يومئذ وزير صاحب (1) حلب والعواصم، شرحاً لأحوال خراسان وأحواله، وإيماء إلى بدء أمره بعد ما فارقه ومآله، وأحجم عن عرضها على رأيه الشريف إعظاماً وتهيباً، وفراراً من قصورها عن طوله وتجنباً، إلى أن وقف عليها جماعة من منتحلي النظم (2) والنثر، فوجدهم مسارعين إلى كتبها، متهافتين على نقلها، وما يشك أن محاسن مالك الرق حلتها، وفي أعلى درج الإحسان أحلتها، فشجعه ذلك على عرضها على مولاه، وللآراء علوها في تصفحها، والصفح عن زللها، فليس كل من لمس درهماً صيرفياً، ولا كل من اقتنى داراً جوهرياً. وها هي ذه: " بسم الله الرحمن الرحيم، أدام الله على العلم وأهليه، والإسلام وبني، ما سوغهم وحباهم، ومنحهم وأعطاهم، من سبوغ ظل المولى الوزير، أعز الله أنصاره، وضاعف مجده واقتداره، ونصر ألويته وأعلامه، وأجرى بإجراء الأرزاق في الآفاق أقلامه، وأطال بقاه، ورفع إلى عليين علاه، في نعمة لا يبلى جديدها، ولا يحصى عددها ولا عديدها، ولا ينتهي إلى غاية مديدها، ولا يفل حدها ولا حديدها، ولا يقل وادها ولا وديدها، وأدام دولته للدنيا والدين يلم (3) شعثه، ويهزم كرثه، ويرفع مناره، ويحسن بحسن أثره آثاره، ويفتق نوره وأزهاره، وينير نواره، ويضاعف أنواره، وأسبغ (4) ظله للعلوم وأهليها، والآداب ومنتحليها، والفضائل وحامليها، يشيد بمشيد فضله بنيانها، ويرصع بناصع مجده تيجانها، ويروض بيانع علأئه زمانها، ويعظم بعلو همته الشريفة بين البرية (5) شأنها، ويمكن في أعلى درج الاستحقاق إمكانها ومكانها،   (1) صاحب: سقطت من ص؛ بر: لصاحب. (2) بر من: صناعة النظم. (3) ع ق بر من: يرم. (4) ر: ويسبغ. (5) بين البرية: سقطت من ر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 130 ويرفع (1) بنفاذ الأمر قدره للدول الإسلامية والقواعد الدينية، يسوس قواعدها، ويعز مساعدها، ويهين معاندها، ويعضد بحسن الإيالة معاضدها، وينهج (2) بجميل المقاصد مقاصدها، حتى تعود بحسن تدبيره غرة في جبهة الزمان، وسنة يقتدي بها من طبع على العدل والإحسان، يكون له أجرها ما دام الملوان وكر الجديدان، وما أشرقت من الشرق شمس، وارتاحت إلى مناجاة حضرته الباهرة نفس ". " وبعد، فالمملوك ينهي إلى المقر العالي المولوي، والمحل الأكرم العلي - أدام الله سعادته مشرقة النور مبلغة السول، واضحة الغرر بادية الحجول - ما هو مكتف بالأريحية المولوية عن تبيانه، مستغن بما منحتها من صفاء الآراء عن إمضاء (3) قلمه لإيضاحه وبيانه، قد أحسبه ما وصف به عليه الصلاة والسلام المؤمنين، وإن من أمتي لمكلمين، وهو شرح ما يعتقده من الولاء، ويفتخر به من التعبد للحضرة الشريفة والاعتزاء، قد كفته الألمعية، عن إظهار المشتبه بالملق مما تجنه الطوية، لأن دلائل غلو المملوك في دين ولائه في الآفاق واضحة، وطبعة سكة (4) إخلاص الوداد باسمه الكريم على صفحات الدهر لائحة، وإيمانه بشرائع الفضل الذي طبق الآفاق حتى أصبح بها بناء المكارم متين، وتلاوته لأحاديث المجد القريبة الأسانيد بالمشاهدة لديه مبين، ودعاء أهل الآفاق إلى المغالاة في الإيمان بإمامة فضله الذي تلقاه باليمين، وتصديقه بملة سؤدده الذي تفرد بالتوخي لنظم شارده وضم متبدده بعرق الجبين، حتى لقد أصبح للفضل كعبة لم يفترض حجها على من استطاع إليها السبيل، ويقتصر بقصدها على ذوي القدرة دون المعتر وابن السبيل، فإن لكل منهم حظاً يستمده، ونصيباً يستعد به ويعتده، فللعظماء الشرف الضخم من معينه، وللعلماء اقتناء الفضائل من قطينه، وللفقراء توقيع الأمان من نوائب الدهر وغض جفونه،   (1) ع ق بر من: ورفع. (2) ن بر من: ويبهج. (3) ع ق: إنضاء. (4) ص ن ر ع ق: وطبعه في سكة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 131 وفرضوا من مناسكه للجبهة (1) الشريفة السلام والتبجيل، وللكف البسيطة الاستلام والتقبيل، وقد شهد الله تعالى للمملوك أنه في سفره وحضره، وسره وعلنه (2) وخبره ومخبره، شعاره تعطير مجالس الفضلاء، ومحافل العلماء بفوائد حضرته، والفضائل المستفادة من فضلته، افتخاراً بذلك بين الأنام، وتطريزاً لما يأتي به في أثناء الكلام: إذا أنا شرفت الورى بقصائدي ... على طمعٍ شرفت شعري بذكره (يمنون عليك أن أسلموا، قل لا تمنوا علي إسلامكم، بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين) (الحجرات: 17) لا حرمنا الله معاشر أوليائه مواد فضائله المتتالية، ولا أخلانا كافة عبيده من أياديه المتوالية، اللهم رب الأرض المدحية، والسموات العلية، والبحار المسجرة، والرياح المسخرة (3) ، اسمع ندائي، واستجب دعائي، وبلغنا في معاليه، ما نؤمله ونرتجيه، بمحمد النبي وصحبه وذويه. وقد كان المملوك لما فارق الجناب الشريف، وانفصل عن مقر العز اللباب والفضل المنيف، أراد استعتاب الدهر الكالح، واستدرار خلف الزمن الغشوم الجامح، اغتراراً بأن الحركة بركة، والاغتراب داعية الاكتساب، والمقام على الإقتار ذل وإسقام (4) ، وجلس البيت، في المحافل سكيت: وقفت وقوف الشك ثم استمر بي ... يقيني بأن الموت خير من الفقر فودعت من أهلي وبالقلب (5) ما به ... وسرت عن الأوطان في طلب اليسر وباكية للبين قلت لها اصبري ... فللموت خير من حياة على عسر (6)   (1) للجبهة: سقطت من ص. (2) ص ر: وعلنه وسره. (3) بر: والبحار المسخرة والرياح المبشرة. (4) في أكثر النسخ: وانتقام. (5) ق ن: وفي القلب. (6) ر: العسر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 132 سأكسب مالاً أو أموت ببلدةٍ ... يقل بها فيض الدموع على قبري فامتطى غارب الأمل إلى الغربة، وركب مركب التطواف مع كل صحبة، قاطعاً الأغوار والأنجاد، حتى بلغ السد أو كاد، فلم يصحب له دهره الحرون، ولا رق له زمانه المفتون: إن الليالي والأيام لو سئلت ... عن عيب أنفسها لم تكتم الخبرا فكأنه في جفن الدهر قذى، أو في حلقه شجاً، يدافعه نيل الأمنية، حتى أسلمه إلى ربقة المنية: لا يستقر بأرضٍ أو يسير إلى ... أخرى بشخصٍ (1) قريب عزمه نائي يوماً بحزوى ويوماً بالعقيق ويو ... ماً بالعذيب ويوماً بالخليصاء وتارة ينتحي نجداً وآونة ... شعب الحزون قصر تيماء وهيهات مع حرفة الأدب، بلوغ وطر أو إدراك أرب، ومع عبوس الحظ، ابتسام الدهر الفظ ولم أزل مع الزمان في تفنيد وعتاب، حتى رضيت من الغنيمة بالإياب، والمملوك مع ذلك يدافع الأيام ويزجيها، ويعلل المعيشة ويرجيها، متقنعا (2) بالقناعة والعفاف، مشتملاً بالنزاهة والكفاف، غير راض بذلك السمل، ولكن مكره أخاك (3) لا بطل، متسلياً بإخوان قد ارتضى خلائقهم، وأمن بوائقهم، عاشرهم بالألطاف، ورضي منهم بالكفاف، لا خيرهم يرتجى، ولا شرهم يتقى: إن كان لابد من أهل ومن وطن ... فحيث آمن من ألقى ويأمنني قد زم نفسه أن يستعمل طرفاً طماحاً، وأن يركب طرفاً جماحاً (4) ، وأن   (1) ر ص: لشخص. (2) ع: متلفعاً؛ ق: ملففاً. (3) ن: أخوك. (4) ق ع ص: سحاحاً. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 133 يلحف بيض طمع جناحاً، وأن يستقدح زنداً وارياً أو شحاحاً: وأدبني الزمان فلا أبالي ... هجرت فلا أزار ولا أزور ولست بقائل ما عشت يوماً ... أسار الجند أم رحل الأمير وكان المقام بمرو الشاهجان، المفسر عندهم بنفس السلطان، فوجد بها من كتب العلوم والآداب، وصحائف أولى الأفهام والألباب، ما شغله عن الأهل والوطن، وأذهله عن كل خل صفي وسكن، فظفر منها بضالته المنشودة، وبغية نفسه المفقودة، فأقبل عليها إقبال النهم الحريص، وقابلها بمقام لا مزمع عنها ولا محيص (1) ، فجعل يرتع في حدائقها، ويستمتع بحسن خلقها وخلائقها، ويسرح طرفه في طرفها، ويتلذذ بمبسوطها ونتفها، واعتقد المقام بذاك الجناب، إلى أن يجاور التراب: إذا ما الدهر بيتني بجيشٍ ... طليعته اغتمام واغتراب شننت عليه من جهتي كميناً ... أميراه الذبالة والكتاب وبت أنص من شيم الليالي ... عجائب من حقائقها ارتياب بها أجلو همومي مستريحاً ... كما جلى همومهم الشراب إلى أن حدث بخراسان ما حدث من الخراب، والويل المبير والتباب، وكانت لعمر الله بلاداً مونقة الرجاء، رائقة الأنحاء، ذات رياض أريضة، وأهوية صحيحة مريضة، قد تغنت أطيارها، فتمايلت طرباً أشجارها، وبكت أنهارها، فتضاحكت أزهارها، وطاب روح نسيمها، فصح مزاج إقليمها، ولعهدي بتلك الرياض الأنيقة، والأشجار المتهدلة الوريقة، وقد ساقت إليها أرواح الجنائب، زقاق خمر السحائب، فسقت مروجها مدام الطل، فنشأ على أزهارها حباب كاللؤلؤ المنحل، فلما رويت من تلك (2) الصهباء أشجاره، رنحها من النسيم خماره، فتدانت ولا تداني المحبين، وتعانقت ولا عناق   (1) ن ق ع ص بر من: لا يزمع عنها معه محيص. (2) تلك: سقطت من ص ن. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 134 العاشقين، يلوح من خلالها شقائق قد شابه اشتقاق الهوى بالعليل (1) ، فشابه شفتى غادتين دنتا للتقبيل، وربما اشتبه على التحرير بائتلاف الخمر (2) ، وقد انتابه رشاش القطر، ويريه (3) بهاراً يبهر ناضره، فيرتاح إليه ناظره، كأنه صنوج من العسجد، أو دنانير من الإبريز تنقد (4) ، ويتخلل ذلك أقحوان تخاله ثغر المعشوق إذا عض خد عاشق، فلله درها من نزهة رامق ولون وامق، وجملة أمرها أنها كانت أنوذج الجنة بلا مين، فيها ما تشتهي النفس وتلذ العين قد اشتملت عليها المكارم، وارجحنت في أرجائها الخيرات الفائضة للعالم، فكم فيها من حبرٍ راقت حبره، ومن إمام توجت حياة الإسلام سيره، آثار علومهم على صفحات الدهر مكتوبة، وفضائلهم في محاسن الدنيا والدين محسوبة، وإلى كل قطرة مجلوبة، فما من متين (5) علم وقويم رأي إلا ومن شرقهم مطلعه، ولا من مغربة فضل إلا وعندهم مغربه وإليهم منزعه، وما نشأ من كرم أخلاق بلا اختلاق إلا وجدته فيهم، ولا أعراق (6) في طيب أعراق إلا اجتليته من معانيهم، أطفالهم رجال، وشبابهم أبطال، مشايخهم أبدال، شواهد مناقبهم باهرة، ودلائل مجدهم ظاهرة، ومن العجب العجاب (7) أن سلطانهم المالك، هان عليه ترك تلك الممالك، وقال لتفسه الهوى لك، وإلا فأنت في الهوالك، وأجفل إجفال الرال، وطفق إذا رأى غير شيء ظنه رجلاً بل رجال (كم تركوا من جناتٍ وعيون وزروعٍ ومقامٍ كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين) لكنه عز وجل لم يورثها قوماً آخرين، تنزيهاً لأولئك الأبرار عن مقام المجرمين، بل ابتلاهم فوجدهم شاكرين، وبلاهم فألفاهم صابرين، فألحقهم بالشهداء الأبرار، ورفعهم إلى درجات   (1) ر: العليل. (2) ع ق: بائتلاق الجمر. (3) ق ع ن: ويريك. (4) ع ن ق ص: تبرق. (5) ن بر من: مبين. (6) ن ر: إغراق. (7) ن: ومن العجائب. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 135 المصطفين الأخبار (وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم، وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم، والله يعلم وأنتم لا تعلمون) البقرة: فجاس خلال تلك الديار أهل الكفر والإلحاد، وتحكم في تلك الأبشار أولو الزيغ والعناد (1) ، فأصبحت تلك القصور، كالممحو من السطور، وأمست (2) تلك الأوطان مأوى الأصداء والغربان، تتجاوب في نواحيها البوم، وتتناوح في أراجيها (3) الريح السموم، ويستوحش فيها الأنيس، ويرثي لمصابها إبليس: كأن لم يكن فيها أوانس كالدمى ... وأقيال ملك في بسالتهم أسد فمن حاتم في وجوده وابن مامة ... ومن أحنف إن عد حلم ومن سعد تداعى بهم صرف الزمان فأصبحوا ... لنا عبرة تدم الحشا ولمن بعد فإنا لله وإنا إليه راجعون من حادثة تقصم الظهر، وتهدم العمر، وتفت في العضد، وتوهي الجلد، وتضاعف الكمد، وتشيب الوليد، وتنخب لب الجليد، وتسود القلب، وتذهل اللب، فحينئذ تقهقر المملوك على عقبه (4) ، ناكساً، ومن الأوبة إلى حيث تستقر في النفس بالأمن آيساً، بقلب واجب، ودمع ساكب، ولب عازب، وحلم غائب، وتوصل وما كاد حتى استقر بالموصل بعد مقاساة أخطار، وابتلاء واصطبار، وتمحيص الأوزار، وإشراف غير مرة على البوار والتبار، لأنه مر بين سيوف مسلولة، وعساكر مفلولة، ونظام عقود محلولة، ودماء مسكوبة مطلولة، وكان شعاره كلما علا قتبا، أو قطع سبسباً (لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا) الكهف: فالحمد لله الذي أقدرنا على الحمد، وأولانا نعماً تفوت الحصر والعد، وجملة الأمر أنه لولا فسحة في الأجل، لعز أن يقال سلم البائس أو وصل، ولصفق عليه أهل الوداد صفقة المغبون، وألحق بألف ألف ألف ألف ألف هالك بأيدي الكفار   (1) ن: والأفك والعناد. (2) ق ع ن بر من: وآضت. (3) ع بر من: أرجائها. (4) ن ق: عقبيه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 136 أو يزيدون، وخلف خلفه جل ذخيرته، ومستمد معيشته: تنكر لي دهري ولم يدر أنني ... أعز وأحداث الزمان تهون وبات يريني الخطب كيف اعتداؤه ... وبت أريه الصبر كيف يكون وبعد، فليس للملوك ما يسلي به خاطره، ويعزي به قلبه وناظره، إلا التعلل بإزاحة العلل، إذا هو بالحضرة الشريفة مثل (1) : فاسلم ودم وتمل العيش في دعة ... ففي بقائك ما يسلي عن السلف فأنت للمجد روح والورى جسد ... وأنت در فلا تأسى على الصدف والمملوك الآن بالموصل مقيم، يعالج لما حزبه من هذا الأمر المقعد المقيم، يزجي وقته، ويمارس حرفته، وبخته يكاد يقول له باللسان القويم (تالله إنك لفي ضلالك القديم) (يوسف:95) يذيب نفسه في تحصيل أغراض، هي لعمر الله أعراض، من صحف يكتبها، وأوراق يستصحبها، نصبه فيها طويل، واستمتاعه بها قليل، ثم الرحيل، وقد عزم بعد قضاء نهمته، وبلوغ بعض وطر قرونته، أن يستمد التوفيق، ويركب سنن الطريق، عساه أن يبلغ أمنيته، من المثول بالحضرة، وإتحاف بصره من خلالها ولو بنظرة، ويلقى عصا الترحال بفنائها الفسيح، ويقيم تحت ظل كنفها إلى أن يصادفه (2) الأجل المريح، وينظم نفسه في سلك مماليكها بحضرتها، كما ينتمي إليها في غيبتها، إن مدت السعادة بضبعه، وسمح له (3) الدهر بعد الخفض برفعه، فقد ضعفت قواه عن درك الآمال، وعجز عن معاركة الزمان والنزال، إذ ضمت البسيطة إخوانه، وحجب الجديدان أقرانه، ونزل المشيب بعذاره، وضعفت منة أوطاره، وانقض باز على غراب شبابه فقنصه، وأكب نهار الحلم على ليل الجهل فوقصه، وتبدلت محاسنه عند أحبابه مساوي وخصصه، واستعاض   (1) ر: مثل وقال. (2) ر: يصادف. (3) ع: لين. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 137 من حلة الشباب القشيب، خلق الكبر والمشيب: وشباب بان مني وانقضى ... قبل أن أقضي منه أربي ما أرجى بعده إلا الفن ... ضيق الشيب علي مطلبي ولقد ندب المملوك أيام الشباب بهذه الأبيات، وما أقل غناء الباكي على من عد في الرفات: تنكر لي مذ شبت دهري وأصبحت ... معارفه عندي من النكرات إذا ذكرتها النفس حنت صبابةً ... وجادت شؤون العين بالعبرات إلى أن أتى دهر يحسن ما مضى ... ويوسعني تذكاره حسرات فكيف ولم يبق من كاس مشربي ... سوى جرع في قعره كدرات وكل إناء صفوه في ابتدائه ... وفي القعر مزجاً حمأةٍ وقذاة والمملوك يتيقن أنه لا ينفق هذا الهذر الذي مضى، إلا النظر إليه بعين الرضا، ولرأي المولى الوزير الصاحب، كهف الورى في المشارق (1) والمغارب، فيما يلاحظه منه بعادة مجده، مزيد مناقب ومراتب، والسلام. ولقد طالت هذه الترجمة بسبب طول الرسالة، ولم يمكن قطعها. وقال صاحبنا الكمال بن الشعار الموصلي في كتاب " عقود الجمان " (2) : أنشدني أبو عبد الله محمد بن محمود المعروف بابن النجار البغدادي صاحب " تاريخ بغداد " قال: أنشدني ياقوت المذكور لنفسه في غلامٍ تركي قد رمدت عينه وعليها وقاية سوداء: ومولدٍ للترك تحسب وجهه ... بدراً يضيء سناه بالإشراق أرخى على عينيه فضل وقاية ... ليرد فتنتها عن العشاق   (1) ع ق بر من: بالمشارق. (2) ترجمته ياقوت في الجزء التاسع من عقود الجمان، الورقة: 337؛ وقد سقط النقل عن ابن الشعار من: بر من. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 138 تالله لو أن السوابغ دونها ... نفذت فهل لوقايةٍ من واق وكانت ولادة ياقوت المذكور في سنة أربع أو خمس وسبعين وخمسمائة، ببلاد الروم، هكذا قاله. وتوفي يوم الأحد العشرين من شهر رمضان سنة ست وعشرين وستمائة، في الخان بظاهر مدينة حلب، حسبما قدمنا ذكره في أول الترجمة، رحمه الله تعالى. وكان قد وقف كتبه على مسجد الزيدي الذي بدرب دينار ببغداد، وسلمها إلى الشيخ عز الدين أبي الحسن علي بن الأثير صاحب التاريخ الكبير، فحملها إلى هناك. ولما تميز ياقوت المذكور واشتهر سمى نفسه " يعقوب ". وقدمت حلب للاشتغال بها في مستهل ذي القعدة سنة وفاته، ذلك عقيب موته والناس يثنون عليه ويذكرون فضله وأدبه. ولم يقد لي الاجتماع به. 791 - (1) الحافظ بن معين أبو زكريا يحيى بن معين بن عون بن زياد بن بسطام بن عبد الرحمن المري البغدادي، الحافظ المشهور، كان إماماً عالماً حافظاً متقناً، قيل إنه من قرية نحو النبار تسمى نقياي (2) . وكان أبوه كاتباً لعبد الله بن مالك، وقيل إنه كان على خراج الري فمات، فخلف لابنه يحيى المذكور ألف ألف درهم وخمسين ألف درهم، فأنفق جميع المال على الحديث حتى لم يبق له نعل يلبسه. وسئل يحيى المذكور: كم كتبت من الحديث فقال: كتبت بيدي   (1) ترجمته في تاريخ بغداد 14: 177 وتذكرة الحفاظ: 429 وتهذيب التهذيب 11: 280 وطبقات الحنابلة: 268 وعبر الذهبي 1: 415 وميزان الاعتدال 4: 410 ومرآة الجنان 2: 108 والشذرات 2: 79 وقد وردت هذه الترجمة في ع متأخرة عن موضعها. (2) في الأصول: نقيا، ولكن الضبط يثبت فيها الياء في آخر الترجمة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 139 هذه ستمائة ألف حديث، وقال راوي هذا الخبر، وهو أحمد بن عقبة: وإني أظن أن المحدثين قد كتبوا بأيديهم ستمائة ألف وستمائة ألف. وخلف م الكتب مائة قمطر وثلاثين قمطراً وأربعة حباب شرابية مملوءة كتباً، وهو صاحب الجرح والتعديل. وروى عنه الحديث كبار الأئمة منهم: أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري وأبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري وأبو داود السجستاني، وغيرهم من الحفاظ، وكان بينه وبين الإمام أحمد بن حنبل، رضي الله عنه، من الصحبة والألفة والاشتراك في الاشتغال بعلوم الحديث ما هو مشهور (1) ، ولا حاجة إلى الإطالة فيه، وروى عنه هو وأبو خيثمة وكانا من أقرانه. وقال علي بن المديني: انتهى العلم بالبصرة إلى يحيى بن أبي كثير وقتادة، وعلم الكوفة إلى أبي إسحاق والأعمش، وانتهى علم الحجاز إلى ابن شهاب وعمرو بن دينار، وصار علم هؤلاء الستة بالبصرة إلى سعيد بن أبي عروبة وشعبة ومعمر وحماد بن سلمة وأبي عوانة، ومن أهل الكوفة إلى سفيان الثوري وسفيان بن عيينة، ومن أهل الحجاز إلى مالك بن أنس، ومن أهل الشام إلى الوزاعي، وانتهى علو هؤلاء إلى محمد بن إسحاق وهشيم ويحيى بن سعيد وابن أبي زائدة ووكيع وابن المبارك وهو أوسع هؤلاء علماً، وابن مهدي ويحيى ابن آدم، وصار علم هؤلاء جميعاً إلى يحيى بن معين (2) . وقال أحمد بن حنبل: كل حديث لا يعرفه يحيى بن معين فليس هو بحديث. وكان يقول: صاحبنا رجل (3) خلقه الله لها الشأن، ويظهر كذب الكذابين، يعني يحيى بن معين. وقال ابن الرومي: ما سمعت أحداً قط يقول الحق في المشايخ، غير يحيى بن معين، وغيره كان يتحامل بالقول.   (1) علق بهامش المختار عند هذا الموضع: " ثم هجره لما ظهر له أنه أرضى القائلين بخلق القرآن، ثم اعتذر إليه ... الخ " وهو بخط غير خط المؤلف. (2) ترجم المؤلف لأكثر هؤلاء، وهم من مشاهير أهل الحديث، فتطلب تراجمهم في مظانها. (3) رجل: سقطت من ص ن. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 140 وقال يحيى: ما رأيت على رجل قط خطأ إلا سترته عليه وأحببت أن أبين أمره، وما استقبلت رحلاً في وجهه بأمر يكرهه، ولكن أبين له خطأه (1) فيما بيني وبينه، فإن قبل ذلك وإلا تركته. وكان يقول: كتبنا عن الكذابين، وسجرنا به التنور، وأخرجنا به خبزاً نضيجاً، وكان ينشد: المال يذهب حله وحرامه ... طراً وتبقى في غدٍ آثامه ليس التقي بمتق لأهله ... حتى يطيب شرابه وطعامه ويطيب ما يحوي وتكسب كفه ... ويكون في حسن الحديث كلامه نطق النبي لنا به عن ربه ... فعلى النبي صلاته وسلامه وقد ذكره الدارقطني فيمن روى عن الإمام الشافعي، رضي الله عنه، وقد سبق في ترجمة الشافعي خبره معه، وما جرى بينه وبين الإمام أحمد بن حنبل في ذلك، وسمع أيضاً من عبد الله بن المبارك وسفيان بن عيينة. وكان يحج فيذهب إلى مكة على المدينة ويرجع إلى المدينة، فلما كان آخر حجة حجها خرج على المدينة، ورجع على المدينة فأقام بها ثلاثة أيام، ثم خرج حتى نزل المنزل مع رفقائه، فباتوا فرأى في النوم هاتفاً يهتف به: يا أبا زكريا، أترغب في جواري فلما أصبح قال لرفقائه: امضوا فإني راجع إلى المدينة، فمضوا ورجع، فأقام بها ثلاثاً، ثم مات فحمل على أعواد النبي صلى الله عليه وسلم. وكانت وفاته لسبع ليال بقين من ذي القعدة سنة ثلاث وثلاثين ومائتين، هكذا قاله الخطيب في " تاريخ بغداد " وهو غلط قطعاً، لما تقدم ذكره، وهو أنه خرج إلى مكة للحج (2) ، ثم رجع إلى المدينة ومات بها، ومن يكون قد حجج كيف يتصور أن يموت بذي القعدة من تلك السنة فلو ذكر أنه توفي في ذي الحجة لأمكن، وكان يحتمل أن يكون هذا غلطاً من الناسخ، لكني وجدته في   (1) وما استقبلت ... خطأه: سقط من المختار وع ق. (2) للحج: سقطت من ق ع. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 141 نسختين على هذا الصورة، فيبعد أن يكون من الناسخ، والله أعلم. ثم ذكر بعد ذلك أن الصحيح أنه مات قبل أن يحج، وعلى هذا يستقيم ما قاله من تاريخ الوفاة. ثم نظرت في كتاب " الإرشاد (1) في معرفة علماء الحديث " - تأليف أبي يعلى الخليل بن عبد الله ابن أحمد بن إبراهيم بن الخليل الخليلي الحافظ - أن يحيى بن معين المذكور توفي لسبع ليالٍ بقين من ذي الحجة من السنة المذكورة فعلى هذا يكون قد حج، وذكر الخطيب أيضاً أن مولده كان آخر سنة ثمان وخمسين ومائة، ثم قال بعد ذكر وفاته: إنه بلغ سبعاً وسبعين سنة إلا عشرة أيام، وهذا أيضاً لا يصح من جهة الحساب فتأمله. ورأيت في بعض التواريخ أنه عاش خمساً وسبعين سنة، والله أعلم بالصواب، وصلى عليه والي المدينة. ثم صلي عليه مراراً ودفن بالبقيع، وكان بين يدي جنازته رجلاً ينادي: هذا الذي كان ينفي الكذب عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. ورثاه بعض المحدثين فقال: ذهب العليم بعيب كل محدثٍ ... وبكل مختلفٍ من الإسناد وبكل وهمٍ في الحديث ومشكلٍ ... يعيا به علماء كل بلاد رضي الله عنه. ومعين: بفتح الميم وكسر العين المهملة وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها نون. وبسطام: بكسر الباء الموحدة وسكون السين المهملة وفتح الطاء المهملة وبعد الألف ميم، والباقي معروف فلا حاجة إلى ضبطه. ورأيت في بعض التواريخ أنه يحيى بن معين بن غياث بن زياد بن عون بن بسطام مولى الجنيد بن عبد الرحمن الغطفامي المري أمير خراسان من قبل هشام بن عبد الملك الأموي، والأول أشهر وأصح، أعني النسب. والمري: بضم الميم وتشديد الراء، هذه النسبة إلى مرة غطفان، وهو مرة   (1) ص ر ن ق ع: الإشارة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 142 ابن عوف بن سعد بن بغيض بن ريث بن غطفان، وهي قبيلة كبيرة مشهورة، وفي العرب عدة قبائل تنسب إليها يقال لكل واحدة منها مرة. وأما نقياي (1) : فقال ابن السمعاني في كتاب " الأنساب " إنها بفتح النون وكسر القاف أو فتحها وبعدها ياء مفتوحة تحتها نقطتان وبعد الألف ياء ثانية، وهي من قرى الأنبار منها يحيى بن معين النقيايي، قال الخطيب: ويقال إن فرعون كان من أهل هذه القرية. والله أعلم. 792 - (2) يحيى بن يحيى الليثي أبو محمد يحيى بن يحيى بن كثير بن وسلاس - وقيل وسلاسن - ابن شمال بن منغايا الليثي، أصله من البربر من قبيلة يقال لها مصمودة، تولى بني ليث فنسب إليهم، وجده كثير يكنى أبا عيسى، وهو الداخل إلى الأندلس، وسكن قرطبة، وسمع بها من زياد بن عبد الرحمن بن زياد اللخمي المعروف بشبطون (3) القرطبي " موطأ " مالك بن أنس رضي الله عنه، وسمع من يحيى بن مضر القيسي الأندلسي. ثم رحل إلى المشرق وهو ابن ثمان وعشرين سنة، فسمع من مالك بن أنس " الموطأ " غير أبواب في كتاب الاعتكاف، شك في   (1) ع ق: نقيا. (2) ترجمته في تاريخ ابن الفرضي: 44 والجذوة: 359 والمغرب 1: 163 والديباج المذهب: 350 ونفح الطيب 2: 9 (وانظر 1: 339 والحاشية) وعبر الذهبي 1: 419 وتهذيب التهذيب 11: 300 ومرآة الجنان 2: 113 والانتقاء: 58 وترتيب المدارك 1: 534 وطبقات الشيرازي: 152. (3) هو بالشين في أكثر المصادر مثل النفح 2: 45 وقضاة الخشني: 14 والمرقبة العليا: 12 وابن الفرضي 1: 182 والجذوة: 203 لكنه ورد بالسين في معظم الأصول الخطية من كتاب ابن خلكان. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 143 سماعه فيها فأثبت فيها عن زياد، وسمع بمكة من سفيان بن عيينة، وبمصر من الليث بن سعد وعبد الله بن وهب وعبد الرحمن بن القاسم، وتفقه بالمدنيين والمصريين من أكابر أصحاب مالك بعد انتفاعه بمالك وملازمته له، وكان مال يسميه عاقل الأندلس، وسبب ذلك فيما يروى (1) أنه كان في مجلس مالك مع جماعة من أصحابه، فقال قائل قد حضر الفيل، فخرج أصحاب مالك كلهم لينظروا إليه، ولم يخرج يحيى، فقال له مالك: مالك لا تخرج فتراه لأنه لا يكون بالأندلس فقال: إنما جئت من بلدي لنظر إليك وأتعلم من هديك وعلمك، ولم أجئ لأنظر إلى الفيل، فأعجب به مالك وسماه عاقل أهل (2) الأندلس. ثم إن يحيى عاد إلى الأندلس وانتهت إليه الرياسة بها، وبه انتشر مذهب مالك في تلك البلاد، وتفقه به جماعة لا يحصون عدداً وروى عنه خلق كثير، وأشهر روايات " الموطأ " وأحسنها رواية يحيى المذكور، وكان مع إمامته ودينه معظماً عند المراء مكيناً، عفيفاً عن الولايات متنزهاً، جلت رتبته عن القضاء، فكان أعلى قدراً من القضاة عند ولاة الأمر هناك لزهده في القضاء وامتناعه منه. قال أبو محمد علي بن أحمد المعروف بابن حزم الأندلسي - المقدم ذكره (3) -: مذهبان انتشرا في مبدأ أمرهما بالرياسة والسلطان: مذهب أبي حنيفة، فإنه لما ولي قضاء القضاة أبو يوسف يعقوب صاحب أبي حنتفة - وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى - كانت القضاة من قبله، فكان لا يولي قضاء البلدان من أقصى المشرق إلى أقصى إفريقية إلا أصحابه والمنتمين إليه وإلى مذهبه، ومذهب مالك بن أنس عندنا في بلاد الأندلس، فإن يحيى بن يحيى كان مكيناً عند السلطان مقبول القول في القضاة، فكان لا يلي قاض في أقطار بلاد الأندلس إلا بمشورته واختياره، ولا يشير إلا بأصحابه ومن كان على مذهبه، والناس سراع إلى   (1) ع ق بر من: روي. (2) هل: سقطت من ر. (3) انظر ج 2: 325 وقد نقل صاحب النفح هذا النص، كما نقل كثيراً من هذه الترجمة عن ابن خلكان. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 144 الدنيا فأقبلوا على ما يرجون بلوغ أغراضهم به، على أن يحيى بن يحيى لم يل قضاء قط ولا أجاب إليه، وكان ذلك زائداً في جلالته عندهم وداعياً إلى قبول رأيه لديهم. وحكى أحمد بن أبي الفياض في كتابه قال: كتب الأمير عبد الرحمن بن الحكم الأموي المعروف بالربضي صاحب الأندلس إلى الفقهاء يستدعيهم إليه، فاتوا (1) إلى القصر، وكان عبد الرحمن المذكور قد نظر في شهر رمضان إلى جارية له كان يحبها حباً شديداً، فعبث بها، ولم يملك نفسه أن وقع عليها، ثم ندم ندماً شديداً، فسأل الفقهاء عن توبته من ذلك وكفارته، فقال يحيى بن يحيى: يكفر (2) ذلك بصوم شهرين متتابعين، فلما بدر يحيى بهذه الفتيا سكت بقية الفقهاء حتى خرجوا من عنده، فقال بعضهم لبعض وقالوا ليحيى: ما لك لم تفته بمذهب مالك، فعنده أنه مخير بين العتق والطعام والصيام فقال: لو فتحنا له (3) هذا الباب سهل عليه أن يطأ كل ويعتق رقبة، ولكن حملته على أصعب الأمور (4) لئلا يعود. ولما انفصل يحيى عن مالك ليعود إلى بلاده ووصل إلى مصر، رأى عبد الرحمن بن القاسم يدون سماعه عن مالك، فنشط للرجوع (5) إلى مالك ليسمع منه المسائل التي كان ابن القاسم دونها عنه، فرحل رحلة ثانية، فألفى مالكاً عليلاً، فأقام عنده إلى أن مات وحضر جنازته، فعاد إلى ابن القاسم، وسمع منه سماعه من مالك، ذكر ذلك أبو الوليد ابن الفرضي في تاريخه، وذكر أيضاً فيه ما مثاله: وانصرف يحيى بن يحيى إلى الأندلس، فكان إمام وقته، وواحد بلاده، وكان رجلاً عاقلاً. قال محمد بن عمر بن لبابة (6) : فقيه الأندلس عيسى بن دينار، وعالمها عبد الملك بن حبيب، وعاقلها يحيى بن يحيى؛   (1) ن بر من: فأتوه. (2) ن: تكفر. (3) ر: فتحت. (4) ن: على الأصعب. (5) ن: على الرجوع. (6) بر من ر والمختار: لبانة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 145 وكان يحيى ممن اتهم ببعض الأمر في الهيج (1) ، فخرج إلى طليطلة، ثم استأمن، فكتب الأمير الحكم أماناً، وانصرف إلى قرطبة. وكان أحمد بن خالد يقول: لم يعط أحد من أهل العلم بالأندلس، منذ دخلها الإسلام، من الحظوة وعظم القدر وجلالة الذكر ما أعطيه يحيى بن يحيى. وقال ابن بشكوال في تاريخه: كان يحيى بن يحيى مجاب الدعوة، وكان قد أخذ في نفسه وهيئته ومقعده هيئة مالك. وحكي عنه أنه قال: أخذت ركاب الليث بن سعد، فأراد غلامه أن يمنعني فقال: دعه، ثم قال لي الليث: خدمك أهل العلم، فلم تزل بي الأيام حتى رأيت ذلك. ثم قال: وتوفي يحيى بن يحيى في رجب سنة أربع وثلاثين ومائتين، وقبره بمقبرة ابن عياش (2) يستسقى به، وهذه المقبرة بظاهر قرطبة، وزاد أبو عبد الله الحميدي في كتاب " جذوة المقتبس " أن وفاته كانت لثمان بقين من الشهر المذكور، وقال أبو الوليد ابن الفرضي في تاريخه: إنه سنة ثلاث وثلاثين، وقيل سنة أربع وثلاثين في رجب، والله أعلم بالصواب. وأما وسلاس: فه بكسر الواو وسينين مهملتين الأولى منهما ساكنة وبينهما لام ألف، ويزاد فيه نون فيقال وسلاسن، ومعناه بالبربرية: يسمعهم. وشمّال: بفتح الشين المعجمة وتشديد الميم وبعد الألف لام. ومنغايا: بفتح الميم وسكون النون وفتح الغين المعجمة وبعد الألف ياء معجمة باثنتين من تحتها وبعدها ألف مقصورة ومعناه عندهم: قاتل (3) هذا، والله أعلم. وقد تقدم الكلام على الليثي والبربري ومصمودة، والله أعلم.   (1) يعني حادثة الربض التي ثار فيها أهل قرطبة على الحكم بن هشام سنة 198. (2) كذا في ع ق ن، ولم تعجم في المختار، وفي بر: ابن عباس. (3) ن: قابل؛ بر: قابل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 146 793 - (1) يحيى بن أكثم أبو محمد يحيى بن أكثم بن محمد بن قطن بن سمعان بن مشنج، التميمي الأسيدي المروزي، من ولد أكثم بن صيفي التميمي حكيم العرب، وكان عالماً بالفقه بصيراً بالأحكام، ذكره الدارقطني في أصحاب الشافعي، رضي الله عنه. وقال الخطيب في " تاريخ بغداد " (2) : كان يحيى بن أكثم سليماً من البدعة، ينتحل مذهب أهل السنة، سمع عبد الله بن المبارك وسفيان بن عيينة وغيرهما - وقد مر ذكره في ترجمة سفيان وما دار بينهما (3) - وروى عنه أبو عيسى الترمذي وغيره. وقال طلحة بن محمد بن جعفر في حقه (4) : يحي بن أكثم أحد أعلام الدنيا ومن قد اشتهر أمره وعرف خبره، ولم يستتر عن الكبير والصغير (5) من الناس فضله وعلمه ورياسته لأمره وأمر أهل زمانه من الخلفاء والملوك، واسع العلم بالفقه كثير الأدب حسن العارضة قائم بكل معضلة، وغلب على المأمون حتى لم يتقدمه أحد عنده من الناس جميعاً. وكان المأمون ممن برع في العلوم، فعرف من حال يحيى بن أكثم وما هو عليه من العلم والعقل ما أخذ بمجامع قلبه،   (1) ترجمته في أخبار القضاة لوكيع 2: 161 وطبقات الحنابلة 1: 140 والجواهر المضية 2: 210 والنجوم الزاهرة 2: 217، 308 وعبر الذهبي 1: 439 ومرآة الجنان 2: 135 وميزان الاعتدال 4: 361 وصفحات متفرقة من تاريخ الطبري وابن الأثير (ج 6، 7) والعيون والحدائق وثمار القلوب، والشذرات 2: 101. (2) تاريخ بغداد 14: 191. (3) انظر ج 2: 392. (4) تاريخ بغداد 14: 197. (5) ق ع ن: الصغير والكبير. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 147 حتى قلده قضاء القضاة وتدبير أهل مملكته فكانت الوزراء لا تعمل في تدبير الملك شيئاً إلا بعد مطالعة يحيى بن أكثم، ولا نعلم أحداً (1) غلب على سلطانه في زمانه، إلا يحيى بن أكثم، وأحمد بن أبي داود. وسئل رجل من البلغاء عن يحيى بن أكثم وابن أبي داود (2) : أيهما أنبل فقال: كان أحمد يجد مع جاريته وابنته، ويحيى يهزل مع خصمه وعدوه. [وكان يحيى سليماً من البدعة ينتحل مذهب أهل السنة، بخلاف أحمد بن أبي داود، وقد تقدم في ترجمته طرف من اعتقاده وتعصبه للمعتزلة، وكان يحيى يقول: القرآن كلام الله، فمن قال إنه مخلوق يستتاب فإن تاب ولإلا ضربت عنقه] (3) . وذكر الفقيه أبو الفضل عبد العزيز بن علي بن عبد الرحمن الأشنهي (4) ، الملقب زين الدين، في كتاب " الفرائض " في آخر المسائل الملقبات وهي الرابعة عشرة المعروفة بالمأمونية، وهي: أبوان وابنتان لم تقسم التركة حتى ماتت إحدى البنتين وخلفت من في المسألة، سميت (5) مأمونية لأن المأمون أراد أن يولي رجلاً على القضاء فوصف له يحيى بن أكثم فاستحضره، فلما حضر دخل عليه، وكان دميم الخلق، فاستحقره المأمون لذلك، فعلم ذلك يحيى فقال: يا أمير المؤمنين، سلني إن كان القصد علمي لا خلقي، فسأله عن هذه المسألة فقال: يا أمير المؤمنين الميت الأول رجل أم امرأة، فعرف المأمون أنه قد عرف المسألة، فقلده القضاء. وهذه المسألة إن كان الميت الأول رجلاً تصح المسألتان من أربعة وخمسين، وإن كانت امرأة لم يرث الجد في المسألة الثانية شيئاً لأنه أبو أم، فتصح المسألتان من ثمانية عشر سهماً.   (1) المختار: ولم يعلم أحد. (2) يتابع النقل عن تاريخ بغداد: 198. (3) انفردت به ر بر، وهو متابع لما في تاريخ الخطيب، وقد تكرر بعضه. (4) ترجمة الأشنهي في طبقات الشافعية 4: 255. (5) المختار: وقال سميث. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 148 وذكر الخطيب في " تاريخ بغداد " (1) أن يحيى بن أكثم ولي قضاء البصرة وسنه عشرون سنة ونحوها، فاستصغره أهل البصرة، فقالوا: كم سن القاضي فعلم أنه استصغر، فقال: أنا أكبر من عتاب بن أسيد الذي وجه به النبي صلى الله عليه وسلم قاضياً على مكة يوم الفتح، وأنا أكبر من معاذ بن جبل الذي وجه به النبي صلى الله عليه وسلم قاضياً على أهل اليمن، وأنا أكبر من كعب بن سور الذي وجه به عمر بن الخطاب رضي الله عنه قاضياً على أهل البصرة، فجعل جوابه احتجاجاً. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ولى عتاب بن أسيد مكة بعد فتحها وله إحدى وعشرون سنة، وقيل ثلاث وعشرون، وكان إسلامه يوم فتح مكة، وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أصحبك وأكون معك، فقال: أو ما ترضى أن أستعملك على آل الله تعالى فلم يزل عليهم حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال (2) : وبقي يحيى سنة لا يقبل شاهداً، فتقدم إليه أحد الأمناء فقال: أيها القاضي، قد وقفت الأمور وتريثت الأحوال، فقال: وما السبب قال: في ترك القاضي قبول الشهود، فأجاز في ذلك اليوم منها سبعين شاهداً. وقال غير الخطيب: كانت ولاية القاضي يحيى بن أكثم القضاء بالبصرة سنة اثنتين ومائتين. وقد سبق في ترجمة حماد بن أبي حنيفة أن يحيى المذكور ولي البصرة بعد إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة (3) ، وذكر عمر بن شبة في كتاب " أخبار البصرة " أن يحيى عزل عن قضاء البصرة في سنة عشرين ومائتين، وتولى إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة. وحدث محمد بن منصور قال (4) : كنا مع المأمون في طريق الشام فأمر فنودي بتحليل المتعة، فقال يحي بن أكثم لي ولأبي العيناء: بكرا غداً إليه، فإن رأيتما للقول وجهاً فقولا، وإلا فاسكتا   (1) انظر ص: 199. (2) يريد الخطيب، انظر المصدر السابق. (3) انظر ج: 205. (4) تاريخ بغداد: 199. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 149 إلى أن أدخل، قال: فدخلنا عليه (1) وهو يستاك ويقول وهو مغتاظ: متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى عهد أبي بكر رضي الله عنه وأنا أنهي عنهما، ومن أنت يا جعل (2) حتى تنهي عما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه فأومأ أبو العيناء إلى محمد بن منصور وقال: رجل يقول في عمر بن الخطاب (3) ما يقول نكلمه نحن فأمسكنا، فجاء يحيى بن أكثم فجلس وجلسنا، فقال المأمون ليحيى: ما لي أراك متغيراً فقال: هو غم يا أمير المؤمنين لما حدث في الإسلام، قال: وما حدث فيه قال: النداء بتحليل الزنا، قال: الزنا قال: نعم، المتعة زنا، قال: ومن أين قلت هذا قال: من كتاب الله عز وجل، وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: (قد أفلح المؤمنون) إلى قوله (والذين هم لفروجهم حافظون، إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين، فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون) المؤمنون: يا أمير المؤمنين زوجة المتعة ملك يمين قال: لا، قال: فهي الزوجة التي عند الله ترث (4) وتورث وتلحق الولد ولها شرائطها قال: لا، قال: فقد صار متجاوز هذين من العادين، وهذا الزهري يا أمير المؤمنين روى عن عبد الله والحسن ابني محمد بن الحنيفة عن أبيهما عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أنادي بالنهي عن المتعة وتحريمها بعد أن كان أمر بها، فالتفت إلينا المأمون فقال: أمحفوظ هذا من حديث الزهري، فقلنا: نعم يا أمير المؤمنين، رواه جماعة منهم مالك رضي الله عنه، فقال: أستغفر الله، نادوا بتحريم المتعة، فنادوا بها (5) . قال أبو إسحاق إسماعيل بن إسحاق بن إسماعيل بن حماد بن زيد بن درهم الزدي القاضي الفقيه المالكي   (1) المختار، ن: إليه، وكذلك عند الخطيب. (2) تاريخ بغداد: أحول. (3) زاد في المختار: رضي الله عنه، ولم ترد عند الخطيب. (4) تاريخ بغداد: عنى الله، وسقط من ر. (5) ن: بادروا ... فبادروا؛ ق ع: فبادروا ... فبادروا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 150 البصري، وقد ذكر يحيى بن أكثم فعظم أمره وقال: كان له يوم في الإسلام لم يكن لأحد مثله، وذكر هذا اليوم. وكانت كتب يحيى في الفقه أجل كتب، فتركها الناس لطولها، وله كتب في الأصول، وله كتاب أورده على العراقيين سماه " التنبيه " وبينه، وبين داود بن علي مناظرات كثيرة. ولقيه رجل وهو يومئذ على القضاء فقال (1) : أصلح الله القاضي كم آكل قال فوق الجوع ودون الشبع، فقال: فكم أضحك قال: حتى يسفر وجهك ولا يعلو صوتك، قال: فكم أبكي قال: لا تمل من البكاء من خشية الله تعالى، قال فكم أخفي عملي قال: ما استطعت، قال: فكم أظهر منه قال: مقدار ما يقتدي بك البر الخير ويؤمن عليك قول الناس، قال الرجل: سبحان الله قول قاطن وعمل ظاعن. وكان يحيى من أدهى الناس وأخبرهم بالأمور، رأيت في بعض المجاميع أن أحمد بن أبي خالد الأحول وزير المأمون وقف بين يدي المأمون وخرج يحيى بن أكثم من بعض المستراحات، فوقف، فقال له المأمون اصعد، فصعد وجلس على طرف السرير معه، فقال أحمد: يا أمير المؤمنين إن القاضي يحيى صديقي، وممن أثق به في جميع أموري، وقد تغير عما عهدته منه، فقال المأمون: يا يحيى إن فساد أمر الملوك بفساد خاصتهم، وما يعدلكما عندي أحد، فما هذه الوحشة بينكما فقال له يحيى: يا أمير المؤمنين والله إنه ليعلم أني له على أكثر مما وصف (2) ، ولكنه لما رأى منزلتي منك هذه المنزلة خشي أن أتغير له (3) يوماً فأقدح فيه عندك، فأحب أن يقول لك هذا ليأمن مني، وإنه والله لو بلغ نهاية ماءتي ما ذكرته بسوء عندك أبداً، فقال المأمون: أكذلك هو يا أحمد قال: نعم يا أمير المؤمنين، قال: أستعين بالله عليكما، فما رأيت أتم دهاء ولا أعظم فطنة منكما.   (1) تاريخ بغداد: 200. (2) ع ص ق: يصف. (3) ر: أعتزله. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 151 ولم يكن فيه ما يعاب به سوى ما كان يتهم به من الهنات المنسوبة إليه الشائعة عنه، والله أعلم بحاله فيها، وذكر الخطيب في تاريخه (1) أنه ذكر لأحمد بن حنبل رضي الله عنه ما يرميه الناس به، فقال: سبحان الله، من يقول هذا وأنكر ذلك إنكاراً شديداً. وذكر عنه (2) أيضاً أنه كان يحسد حسداً شديداً، وكان مفنناً (3) . فكان إذا نظر إلى رجل يحفظ الفقه سأله عن الحديث، وإذا رآه يحفظ الحديث سأله عن النحو، وإذا رآه يعلم النحو سأله عن الكلام، ليقطعه ويخجله، فدخل إليه رجل من خراسان ذكي حافظ، فناظره، فرآه مفنناً (4) ، فقال له: نظرت في الحديث قال: نعم، قال: ما تحفظ من الأصول قال: أحفظ عن شريك عن أبي إسحاق عن الحارث أن علياً رضي الله عنه رجم لوطياً، فأمسك ولم يكلمه. ثم قال الخطيب أيضاً: ودخل على يحيى بن أكثم ابنا مسعدة، وكانا على نهاية الجمال، فلما رآهما يمشيان في الصحن أنشأ يقول: يا زائرينا من الخيام ... حياكم الله بالسلام لم تأتياني وبي نهوض ... إلى حلالٍ ولا حرام يحزنني أن وقفتما بي ... وليس عندي سوى الكلام ثم أجلسهما بين يديه وجعل يمازحهما حتى انصرفا. ويقال إنه عزل عن الحكم بسبب هذه الأبيات. ورأيت في بعض المجاميع أن يحيى بن أكثم مازح الحسن بن وهب المذكور في ترجمة أخيه سليمان بن وهب، وهو يومئذ صبي، فلاعبه ثم جمشه، فغضب الحسن، فأنشد يحيى: أيا قمراً جمشته فتغضبا ... وأصبح لي من تيهه متجنبا   (1) تاريخ بغداد: 198. (2) تاريخ بغداد: 195. (3) تاريخ بغداد: مفتناً. (4) المصدر نفسه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 152 إذا كنت للتجميش والعض كارهاً ... فكن أبداً يا سيدي متنقباً ولا تظهر (1) الأصداغ للناس فتنةً ... وتجعل منها فوق خديك عقربا فتقتل مسكيناً وتفتن ناسكاً ... وتترك قاضي المسلمين معذبا وقال أحمد بن يونس الضبي: كان زيدان الكاتب يكتب بين يدي يحيى بن أكثم القاضي، وكان غلاماً جميلاً متناهي الجمال، فقرص القاضي خده، فخجل الغلام واستحيا وطرح القلم من يده، فقال له يحيى: خذ القلم واكتب ما أملي عليك، ثم أملى الأبيات المذكورة، والله أعلم. وقال إسماعيل بن محمد بن إسماعيل الصفار (2) : سمعت أبا العيناء في مجلس أبي العباس المبرد يقول: كنت في مجلس أبي عاصم النبيل، وكان أبو بكر بن يحيى بن أكثم حاضراً، فنازع غلاماً فارتفع الصوت، فقال أبو عاصم: مهيم فقالوا: هذا أبو بكر بن يحيى بن أكثم ينازع غلاماً، فقال: إن يسرق فقد سرق أب له من قبل، هكذا ذكره الخطيب في تاريخه. وذكر الخطيب أيضاً (3) في تاريخه أن المأمون قال ليحيى المذكور من الذي يقول: قاضٍ يرى الحد في الزناء ولا ... يرى على من يلوط من باس قال: أو ما يعرف أمير المؤمنين من القائل قال: لا، قال: يقوله الفاجر أحمد بن أبي نعيم الذي يقول: لا أحسب الجور ينقضي وعلى ال ... أمة والٍ من آل عباس قال: فأفحم المأمون خجلاً، وقال ينبغي أن ينفى أحمد بن أبي نعيم إلى السند، وهذان البيتان من جملة أبيات أولها:   (1) ر: ولا ترسل. (2) تاريخ بغداد: 197. (3) المصدر السابق: 196. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 153 أنطقني الدهر بعد إخراس ... لنائبات أطلن وسواسي يا بؤس للدهر لا يزال كما ... يرفع ناساً يحط من ناس لا أفلحت أمة وحق لها ... بطول نكسٍ وطول إتعاس ترضى بيحيى يكون سائسها ... وليس يحيى لها بسواس قاضٍ يرى الحد في الزناء ولا ... يرى على من يلوط من باس يحكم للأمرد الغرير على ... مثل جرير (1) ومثل عباس فالحمد لله كيف قد ذهب ال ... عدل وقل الوفاء في الناس أميرنا يرتشي وحاكمنا ... يلوط والرأس شر ما راس لو صلح الدين فاستقام لقد ... قام على الناس كل مقياس لا أحسب الجور ينقضي وعلى ال ... أمة والٍ من آل عباس وظني أنها أكثر من هذا، ولكن الخطيب لم يذكر إلا هذا القدر. ونقلت من أمالي أبي بكر محمد بن القاسم الأنباري - المقدم ذكره - أن القاضي يحيى بن أكثم قال لرجل يأنس به ويمازحه: ما تسمع الناس يقولون في قال: ما أسمع إلا خيراً، قال: ما أسألك (2) لتزكيني، قال: أسمعهم يرمون القاضي بالأبنة، قال: فضحك وقال: اللهم غفراً! المشهور عنا (3) غير هذا (4) . وحكى أبو الفرج الأصبهاني في كتاب " الأغاني " (5) ليحيى المذكور وقائع في هذا الباب، وأن المأمون لما تواتر النقل عن يحيى بهذا أراد امتحانه، فأخلى له مجلساً واستدعاه، وأوصى مملوكاً خزرياً يقف عندهما وحده، فإذا خرج المأمون يقف المملوك ولا ينصرف، وكان المملوك في غاية الحسن، فلما اجتمعنا بالمجلس وتحادثا قام المأمون كأنه يقضي حاجة فوقف المملوك، فتجسس المأمون عليهما،   (1) بهامش المختار بخط مختلف: صوابه مثل علي. (2) ن والمختار: لم أسألك. (3) ص: ع ق: هنا. (4) هذه الحكاية امنقولة عن ابن الأنباري لم ترد في: بر من. (5) الأغاني 20: 224. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 154 وكان قرر معه أن يعبث بيحيى علماً منه أن يحيى لا يتجاسر عليه خوفاً من المأمون، فلما عبث به المملوك سمعه المأمون وهو يقول: لولا أنتم لكنا مؤمنين، فدخل المأمون وهو ينشد: وكنا نرجي أن نرى العدل ظاهراً ... فأعقبنا بعد الرجاء قنوط متى تصلح الدنيا ويصلح أهلها ... وقاضي قضاة المسلمين يلوط وهذان البيتان لأبي حكيمة راشد بن إسحاق الكاتب (1) ، وراشد له فيه مقاطيع كثيرة. وذكر المسعودي في " مروج الذهب " (2) في ترجمة المأمون جملة من أخبار يحيى في هذا الباب أضربنا عن ذكرها. ومما يناسب حكاية المأمون مع يحيى بسؤاله عن البيت لمن هو وإجابة يحيى ببيت آخر من القصيدة ما يروى أن معاوية بن أبي سفيان الأموي (3) لما مرض مرض موته واشتدت علته وحصل اليأس منه، دخل عليه بعض أولاد علي بن أبي طالب رضي الله عنه يعوده، ولا أستحضر الآن من هو، فوجده قد استند يتجلد له لئلا يشتفي به، فضعف عن القعود فاضطجع وأنشد: وتجلدي للشامتين أريهم ... أني لريب الدهر لا أتضعضع فقام العلوي من عنده وهو ينشد: وإذا المنية أنشبت أظفارها ... ألفيت كل تميمةٍ لا تنفع فعجب الحاضرون من جوابه. وهذا البيتان من جملة قصيدة طويلة لأبي ذؤيب خويلد بن خالد الهذلي يرثي بها بنيه (4) ، وكان قد هلك له خمس بنين في عام واحد، أصابهم الطاعون.   (1) نسبهما في الأغاني لإبراهيم بن أبي محمد اليزيدي، وهما عند المسعودي لراشد بن إسحاق. (2) مروج الذهب 4: 21 وما بعدها. (3) زاد في المختار: رضي الله عنه، وهذا لم يجر من المؤلف عند ذكر معاوية. (4) ديوان الهذليين 1: 4. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 155 وكانوا هاجروا معه إلى مصر، وهلك أبو ذؤيب المذكور في طريق مصر، وقيل في طريق إفريقية مع عبد الله بن الزبير. ثم وجدت في كتاب " فلك المعاني " لابن الهبارية في الباب التاسع من الكتاب المذكور أن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما دخل على معاوية في علته فقال: اسندوني، ثم تمثل ببيت أبي ذؤيب، وأنشد البيت المذكور، فسلم الحسين ثم أنشد البيت الثاني، والله أعلم. وذكرها أبو بكر ابن داود الظاهري في كتاب " الزهرة " منسوبة إلى الحسين بن علي ابن أبي طالب رضي الله عنهما، والله أعلم. قلت: ولم يذكر ابن الهبارية ولا الظاهري أنه كان في علة الموت، ولا يمكن ذلك، لأن الحسن توفي قبل معاوية، والحسين لم يحضر وفاة معاوية، لأنه كان بالحجاز ومعاوية توفي بدمشق. ثم وجدت في أول كتاب " التعازي " (1) تأليف أبي العباس المبرد هذه القصة جرت للحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ومعاوية بن أبي سفيان، والظاهر أن ابن الهبارية منه نقلها. ومثل ذلك أيضاً ما يحكى أن عقيل بن أبي طالب هاجر أخاه علياً رضي الله عنه والتحق بمعاوية، فبالغ معاوية في بره؛ وزاد في إكرامه (2) إرغاماً لعلي رضي الله عنه، فلما قتل علي واستقل (3) معاوية بالأمر ثقل عليه أمر عقيل، فكان يسمعه ما يكره لينصرف عنه فبينما هو يوماً في مجلس حفل بأهل الشام إذ قال معاوية: أتعرفون أبا لهب الذي نزل في حقه قوله تعالى (تبت يدا أبي لهب) المسد: من هو فقال أهل الشام: لا، فقال معاوية: هو عم هذا، وأشار إلى عقيل، فقال عقيل في الحال: أتعرفون امرأته التي قال الله في حقها (وامرأته حمالة الحطب في جيدها حبل من مسد) المسد: من هي فقالوا: لا،   (1) التعازي، الورقة: 2. (2) ر والمختار: في إكرامه وزاد في بره. (3) ع ق والمختار: واستقر، وعلق أحدهم بخط مخالف على هامش المختار: " إنما هي استقل باللام والمؤلف تغلب عليه عاميته رحمة الله وعفا عنه ". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 156 قال: هي عمة هذا، وأشار إلى معاوية، وكانت عمته أم جميل بنت حرب بن أمية بن عبد مناف زوجة أبي لهب بن عبد العزى، وهي المشار إليها في هذه السورة، فكان ذلك من الأجوبة المسكتة (1) . ويقرب من هذا أيضاً أن بعض الملوك حاصر بعض البلاد، وكان معه عساكر عظيمة بكثرة الرجال والخيل والعدد، فكتب الملك المحاصر إلى صاحب البلد كتاباً يشير إليه بأنه يسلم البلد إليه ولا يقاتله، وذكر ما جاء به من الرجال والأموال والآلات، ومن جملة الكتاب قوله تعالى: (حتى إذا أتوا على وادي النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون) (النمل:18) فلما وصل الكياب إلى صاحب البلد وتأمله وقرأه على خواصه قال: من يجاوب عن هذا فقال بعض الكتاب: تكتب إليه (فتبسم ضاحكاً من قولها) (النمل:19) فاستحسن الحاضرون جوابه. ومثل هذا أيضاً ما حكاه ابن رشيق القيرواني في كتاب " الأنموذج " (2) وهو أن عبد الله بن إبراهيم ابن المثنى الطوسي المعروف بابن المؤدب المهدوي الأصل القيرواني البلد الشاعر المشهور، كان مغرى بالسياحة وطلب الكيمياء والأحجار، وكان محروماً مقتراً عليه متلافاً إذا أفاد شيئاً، فخرج مرة يريد جزيرة صقلية، فأسره الروم في البحر، وأقام مدة طويلة إلى أن هادن ثقة الدولة يوسف بن عبد الله بن محمد بن أبي الحسين القضاعي صاحب صقلية الروم وبعث إليه بالأسرى، فكان عبد الله فيمن بعث، فامتدح عبد الله المذكور ثقة   (1) علق صاحب المختار في هذا الموضع بقوله: " قلت، أعني كاتبها موسى بن أحمد لطف الله به: ومثل هذا ما روي أن الوليد بن عبد الملك استعمل أخاه مسلمة بن عبد الملك على مصر فتوجه إليهما ثم عزله عنها بعد حول، فلما رجع إلى دمشق خرج الوليد في موكبه لتلقيه فرأى رحل مسلمة وقد تقدمه على ألف بعير، ولم يكن كذلك عند توجهه إلى مصر، فقال الوليد لبعض خواصه وأشار إلى الجمال (أيتها العير إنكم لسارقون) فلما التقى بمسلمة بلغ مسلمة ما قاله الوليد فالتفت إليه وقال (إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل) والله أعلم ". (2) ق ع: النموذج؛ وانظر مسالك ابصار 11 الورقة 347 وما بعدها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 157 الدولة بقصيدة شكره فيها على صنعه، ورجا صلته، فلم يصله بشيء أرضاه، وكانت فيه رغبة، فتكلم وطلب طلباَ شديداً، وهو مستخف عند بعض م يعرف من أهل صناعته، وطالت المدة، فخرج سكران يشتري نقلاً (1) ، فما شعر إلا وقد أخذ (2) ، وحمله صاحب الشرطة حتى أدخله على ثقة الدولة، فقال له: ما الذي بلغني يا بائس قال: المحال أيد الله سيدنا الأمير، قال: ومن هو الذي يقول في شعره: فالحر ممتحن بأولاد الزنا ... قال: هو الذي يقول: وعداوة الشعراء بئس المقتنى ... فتنمر ساعة ثم أمر له بمائة رباعي (3) وأخرجه من المدينة كراهية أن تقوم عليه نفسه فيعاقبه بعد أن عفا عنه، فخرج منها. وهذا المستشهد به عجزا بيتين من شعر المتنبي في قصيدته النونية التي يمدح بها بدر بن عمار، وأولها (4) : الحب ما منع الكلام الألسنا ... وألذ شكوى عاشقٍ ما أعلنا وهي من مشاهير قصائده، وأول العجز الأول: وأنه المشير عليك في بضلةٍ ... فالحر ممتحن بأولاد الزنا وأول العجز الثاني: ومكايد السفهاء واقعة بهم ... وعداوة الشعراء بئس المقتنى   (1) ع ن بر من: بقلا. (2) ن ر ص: كتف. (3) الرباعي: وحدة تساوي ربع دينار، وأحياناً كانت تزيد على ذلك، وفي بر: بمائة دينار. (4) ديوان المتنبي: 138. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 158 وإذا قد ذكرنا ثقة الدولة (1) المذكور فنذكر قصيدة أبي محمد عبد الله بن محمد (2) التنوخي المعروف بابن قاضي ميلة (3) التي مدحه بها في عيد النحر، وهي قصيدة بديعة لا توجد بكمالها في أيدي الناس، ولقد ظفرت بها في ظهر كتاب، ولم يكن عندي منها سوى البعض، ولا سمعت أحداً يروي منها إلا ذلك القدر، فأحببت إثباتها لحسنها وغرابتها وهي هذه: يذيل الهوى دمعي وقلبي المعنف ... وتجني جفوني الوجد وهو المكلف وإني ليدعوني إلى ما شنفته ... وفارقت مغناه الأغن المشنف وأحور ساجي الطرف أما وشاحه ... فصفر وأما وقفه فموقف يطيب أجاج الماء من نحو أرضه ... يحيي ويندى ريحه وهو حرجف وأيأسني من وصله أن دونه ... متالف تسري الريح فيها فتتلف وغير أن يجفو النوم كي لا يرى لنا ... إذا نام شملاً في الكرى يتألف يظل على ما كان من قرب دارنا ... وغفلته عما مضى يتأسف وجون بمزن الرعد يستن ودقه ... يرى برقه كالحية الصل تطرف كأني إذا ما لاح والرعد معول ... وجفن السحاب الجون بالماء يذرف سليم وصوت الرعد راقٍ وودقه ... كنفث الرقى من سوء ما أتكلف ذكرت به ريا وما كنت ناسياً ... فأذكر لكن لوعة تتضعف ولما التقينا محرمين وسيرنا ... بلبيك رباً والركائب تعسف نظرت إليها والمطي كأنما ... غواربها منها معاطس رعف (4) فقالت أما منكن من يعرف الفتى ... فقد رابني من طول منا يتشوف أراه إذا سرنا يسير حذاءنا ... ونوقف أخفاف المطي فيوقف   (1) انظر نبذة عنه في كتابنا " العرب في صقلية ": 46 وفيه تحويل إلى المصادر. (2) بر: أبي عبد الله محمد بن محمد. (3) ميلة: مدينة بالجزائر إلى الشمال الغربي من قسطنطينية (البكري: 64 والاستبصار: 166) . (4) ر: ترعف. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 159 فقلت لتربيها أبلغاها بأنني ... بها مستهام قالتا نتلطف وقولا لها يا أم عمرو أليس ذا ... منىً والمنى في خيفه ليس يخلف تفاءلت في أن تبذلي طارف الوفا ... بأن عنّ لي منك البنان المطرف وفي عرفات ما يخبر أنني ... بعارفةٍ من عطف قلبك أسعف وأما دماء الهدي فهي هدىً لنا ... يدوم ورأي في الهوى يتألف وتقبيل أركان البيت إقبال دولة ... لنا وزمان بالمودة يعطف فأوصلتا ما قلته فتبسمت ... وقالت أحاديث العيافة زخرف بعيشي ألم أخبركما أنه فتىً ... على لفظه برد الكلام المفوف فلا تأمنا ما استطعتما كيد نطقه ... وقولا ستدري أينا اليوم أعيف إذا كنت ترجو في منى الفوز بالمنى ... ففي الخيف من إعراضنا نتخوف وقد أنذر الإحرام أن وصالنا ... حرام وأنا عن مزارك نصدف وهذا وقذفي بالحصى لك مخبر ... بأن النوى بي عن ديارك تقذف وحاذر نفارى ليلة النفر إنه ... سريع فقلل من بالعيافة أعرف فلم أر مثيلنا خليلي مودةٍ ... لكلٍ لسان ذو غرارين مرهف أما إنه لولا أغن مهفهف (1) ... وأشنف براق وأحور أوطف لراجع مشتاق ونام مسهد ... وأيقن مرتاب وأقصر مدنف وعاذلةٍ في بذل ما ملكت يدي ... لراجٍ رجاني دون صحبي تعنف تقول إذا أفنيت مالك كله ... وأحوجت (2) من يعطيكه قلت: يوسف أغر قضاعي يكاد نواله ... لكثرة ما يدعو إلى الشكر يجحف إذا نحن أخلفنا مخايل ديمة ... وجدنا حيا معروفه ليس يخلف سعى وسعى الملاك في طلب العلا ... ففاز وأكدوا إذ أخف وأقطفوا   (1) ق ع: الأغن المهفهف. (2) ق ن ع: وحوجت. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 160 ويقظان شاب البطش باللين والتقى ... بكفيه ما يرجى وما يتخوف حسام على من ناصب الدين مصلت ... وستر على من راقب الله مغدف يسايره جيشان: رأي وفيلق ... ويصحبه سيفان: عزم ومرهف مطل على من شاءه فكأنما ... على حكمه صرف الردى يتصرف يرى رأيه ما لا ترى عين غيره ... ويفري به ما ليس يفري المثقف رعى الله من ترعى حمى الدين عينه ... ويحمي حمى الإسلام والليل أغضف ومن وعده في مسرح الحمد مطلق ... وإيعاده في ذمة الحلم موقف ومن يضرب الأعداء هبراً فينثني ... صناديدهم والبيض بالهام تقذف رماهم بمجرٍ ضعضع الأرض رزة ... كأن الروابي منه بالنبل تدلف كأن الردينيات في رونق الضحى ... أراقم في طامٍ من الآل تزحف (1) يعود الدجى من بيضه وهو أبيض ... ويبدو الضحى من نفعه وهو أكلف ويحجب نور الشمس بالنقع عنهم ... ففعل الظبا في هامهم لا يكيف لهم كل عام منك جاءوك فيلق ... يسائل عنهم بالعوالي فيلحف إذا ما طووا كشحاً على قرح عامهم ... وبلوا من الآلام أنشأت تقرف فكم من أغم الوجه غاوٍ تركته ... وهاديه من عثنون لحييه أكثف هوى المقضب الماضي بمهواه فانثنى ... صريعاً تراه حبتراً وهو أسقف لعمري لقد عاديت في الله طالباً ... رضاه وقد أبليت ما الله يعرف أطالبتهم في الأهل حتى تركتهم ... فرادى وفي الأديان حتى تحنفوا فيا ثقة الملك الذي الملك سهمه ... يراش لأكباد العادي ويرصف هنيئاً لك العيد الذي منك حسنه ... يروق ومن أوصافك الغر يوصف بدا معلم الرجاء يزهى كأنما ... على عطفه وشي العراق المشفف أتى بعد حول زائراً عن تشوق (2) ... وقد كان ذا طرف للقياك يطرف   (1) ع ص والمختار: ترجف. (2) ع ق: تشوف. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 161 فطوقته عزاً وشنفته به ... فلاح لنا وهو المحلى المشنف وقابله بالسعد نجلك جعفر ... فيا لك من عيد بملكين تتحف فلا زلت تستجدى فتولي، وترتجى ... فتكفي، وتستدعى لخطب فتكشف نجزت القصيدة. (314) وكان لثقة الدولة المذكور ولد يدعى تاج الدولة جعفر بن ثقة الدولة (1) ، وكان أديباً شاعراً، وله من الأبيات السائرة في غلامين، على أحدهما ثوب ديباج أحمر، وعلى الآخر ثوب ديباج أسود، وهي: أرى بدرين قد طلعا ... على غصنين في نسق وفي ثوبين قد صبغا ... صباغ الخد والحدق فهذا الشمس في شفق ... وهذا البدر في غسق وكان عمله لهذه الأبيات في سنة سبع وعشرين وخمسمائة. ولما توجه المأمون إلى مصر، وذلك في سنة سبع عشرة ومائتين، دخلها لعشر خلون من المحرم، وخرج منها سلخ صفر من السنة (2) ، كان معه القاضي يحيى بن أكثم، فولاه قضاء مصر، وحكم بها ثلاثة أيام، ثم خرج مع المأمون، وعده ابن زولاق في جملة قضاة مصر لذلك. وروي عن يحيى بن أكثم أنه قال: اختصم إلي في الرصافة الجد الخامس يطلب ميراث ابن ابن ابن ابنه. وكان عبد الصمد بن أبي مروة (3) بن المعذل بن غيلان بن المحارب (4) بن البحتري   (1) انظر العرب في صقلية: 47، وهو من شعراء الدرة الخطيرة، وقد تعرض لذكره العماد في الخريدة وصاحب المغرب وصاحب المنتخل، وكلهم يعتمد على الدرة الخطيرة. (2) علق صاحب المختار: " قلت أعني كاتبها موسى بن أحمد: وفي هذا التاريخ فتح باباً في الهرم الواحد من الثلاثة الذين بأرض الجيزية من مصر ". (3) بر: ابن أبي عمر. (4) ع ق: النجار؛ الأغاني والقواعد: المختار. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 162 العبدي البصري الشاعر المشهور (1) ، يلازم الترداد إلى القاضي يحيى المذكور ويغشى مجلسه، وكان بعض الأحيان لا يقدر على الوصول إليه إلا بعد مشقة ومذلة يقاسيها، فانقطع عنه، فلامته زوجته في ذلك مراراً، فأنشدها: تكلفني إذلال نفسي لعزها ... وهان عليها أن أهان لتكرما تقول سل المعروف يحيى بن أكثم ... فقلت سليه رب يحيى بن أكثما ولم تزل الأحوال تختلف عليه وتتقلب به إلى أيام المتوكل على الله (2) ، فلما عزل القاضي محمد بن القاضي أحمد بن أبي داود عن القضاء، فوض إليه الولاية إلى القاضي يحيى وخلع عليه خمس خلع، ثم عزله في سنة أربعين ومائتين وأخذ أمواله، وولى في رتبته جعفر بن عبد الواحد بن جعفر بن سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس الهاشمي. فجاء كاتبه إلى القاضي يحيى فقال له: سلم الديوان، فأبى، فقال: شاهدان عدلان على أمير المؤمنين أنه أمرني بذلك، فأخذ منه الديوان قهراً، وغضب عليه المتوكل فأمر بقبض أملاكه وألزم منزله، ثم حج وحمل أخته معه وعزم على أن يجاور، فلما اتصل به رجوع المتوكل له بدا له في المجاورة، ورجع يريد العراق، فلما وصل إلى الربذة توفي بها يوم الجمعة منتصف ذي الحجة سنة اثنتين وأربعين ومائتين، وقيل غرة سنة ثلاث وأربعين، ودفن هناك، رحمه الله تعالى، وعمره ثلاث وثمانون سنة. وأكثم: بفتح الهمزة وسكون الكاف وفتح الثاء المثلثة وبعدها ميم، وهو العظيم البطن، والشبعان أيضاً، يقال بالثاء المثلثة والتاء المثناة من فوقها، ومعناهما واد، ذكره في كتاب " المحكم " (3) . وحكى أبو عبد الله الحسين بن عبد الله بن سعيد قال: كان يحيى بن أكثم القاضي صديقاً لي، وكان يودني وأوده، فمات يحيى، فكنت أشتهي أن أراه في المنام فأقول: ما فعل الله بك، فرأيته ليلة المنام فقلت: ما فعل الله بك   (1) ترجمة عبد الصمد في الأغاني 13: 228 والفوات 1: 575 وفي نسبه اختلاف عما ورد هنا. (2) انظر تاريخ بغداد: 200 - 201، 202. (3) ق ص ع: المحتكم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 163 قال: غفر لي إلا أنه وبخني ثم قال لي: يا يحيى خلطت علي في الدنيا، فقلت: يا رب اتكلت على حديث حدثني به أبو معاوية الضرير عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنك قلت " إني لأستحيي أن أعذب ذا شيبة بالنار " فقال: قد عفوت عنك يا يحيى، وصدق نبيي، إلا أنك خلطت علي في الدنيا، هكذا ذكره أبو القاسم القشيري في " الرسالة " (1) . وقطن: بفتح القاف والطاء المهملة وبعدها نون. وسمعان: بفتح السين المهملة. ومشنج: كشفت عنه كثيراً من الكتب وأرباب (2) هذه الصناعة فلم أقف منه على حقيقة، ثم وجدت في نسخة من " تاريخ بغداد " للخطيب وهي صحيحة مسموعة، وقد قيد هذا الاسم بضم الميم وفتح الشين المعجمة (3) وفتح النون المشددة وفي آخره جيم، هذا أقصى ما قدرت عليه، والله أعلم بالصواب. ثم وجدته في " المختلف والمؤتلف " لعبد الغني بن سعيد كما قيل هاهنا. الأسيدي: بضم الهمزة وفتح السين المهملة وكسر الياء المثناة من تحتها وتشديدها وبعدها دال مهملة، هذه النسبة إلى أسيد، وهو بطن من تميم يقال له أسيد بن عمرو بن تميم. وقد تقدم الكلام على التميمي والمروزي. والربذة: بفتح الراء والباء الموحدة والذال المعجمة وبعدها هاء ساكنة، وهي قرية من قرى المدينة على طريق الحاج ينزلونها عند عبورهم عليها، وهي التي نفى عثمان بن عفان أبا ذر الغفاري رضي الله عنهما إليها، وأقام بها حتى   (1) الرسالة القشيرية: 327؛ وفي المختار في هذا الموضع: " قلت: ولوالدي قدس اله روحه بيتان نظمهما في معنى الحديث المذكور في هذا المقام وأوصى أن يكتبا على قبره، وهما: يا رب إن العبد يخفي ذنبه ... فاستر بحلمك ما بدا من عيبه ولقد أتاك وما له من شافع ... لذنوبه فاقبل شفاعة شيبه " (2) ر: كتب أرباب. (3) وفتح الشين المعجمة: لم يرد في: ق ن ع. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 164 مات، وقبره ظاهر هناك يزار. وميلة: بكسر الميم وسكون الياء المثناة من تحتها وفتح اللام وبعدها هاء ساكنة، وهي بليدة من أعمال إفريقية. (315) وتوفي جعفر بن عبد الواحد القاضي المذكور، ويكنى أبا عبد الله، سنة ثمان وخمسين ومائتين، وقيل سنة ثمان وستين، وقيل سنة تسع وستين، بطرسوس رحمه الله تعالى. 794 - (1) يحيى بن معاذ الواعظ أبو زكريا يحيى بن معاذ الواعظ، أحد رجال الطريقة، ذكره أبو القاسم القشيري في " الرسالة " (2) وعده من جملة المشايخ وقال في حقه: " نسيج وحده في وقته، له لسان في الرجاء خصوصاً وكلام في المعرفة، خرج إلى بلخ وأقام بها مدة، ورجع إلى نيسابور ومات بها ". ومن كلامه: كيف يكون زاهداً من لا ورع له تورع عما ليس لك ثم ازهد فيما لك. وكان يقول: الجوع للمريدين رياضة، وللتائبين تجربة، وللزهاد سياسة، وللعارفين مكرمة، والوحدة جليس الصديقين، والفوت أشد من الموت، لأن الفوت انقطاع عن الحق، والموت انقطاع عن الخلق. والزهد ثلاثة أشياء: القلة، والخلوة، والجوع. ومن خان الله في السر هتك ستره (3) في العلانية.   (1) ترجمته في طبقات السلمي: 107 وطبقات الشعراني 1: 94 وحلية الأولياء 1: 51 وصفة الصفوة 4: 71 وعبر الذهبي 2: 17 وشذرات الذهب 2: 138. (2) الرسالة القشيرية: 91 حيث ترجم له، وله ذكر كثير في صفحات متفرقة من الرسالة. (3) ع ن ق: سره. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 165 وسمع إسحاق بن سليمان الرازي ومكي بن إبراهيم البلخي وعلي بن محمد الطنافسي، وروى عنه الغرباء من أهل الري وهمذان وخراسان أحاديث مسندة قليلة. وذكره الخطيب في " تاريخ بغداد " (1) فقال " قدم بغداد واجتمع إليه بها مشايخ الصوفية والنساك، ونصبوا له منصة وأقعدوه عليها وقعدوا بين يديه يتحاورون، فتكلم الجنيد فقال له يحيى: اسكت يا خروف، ما لك والكلام إذا تكلم الناس ". وكان له إشارات وعبارات حسنة، فمن كلامه (2) : الكلام الحسن حسن، وأحسن من الكلام معناه، وأحسن من معناه استعماله، وأحسن من استعماله ثوابه، وأحسن من ثوابه رضا من يعمل له. ومن كلامه: حقيقة المحبة أن لا تزيد بالبر ولا تنقص بالجفاء. وكان يقول: من لم يكن ظاهره مع العوام فضة، ومع المريدين ذهباً، ومع العارفين المقربين دراً وياقوتاً، فليس من حكماء الله المريدين (3) . وكان يقول: أحسن شيء كلام صحيح، من لسان فصيح، في وجه صبيح، كلام دقق، يستخرج من بحر عميق، على لسان رجل رفيق. وكان يقول: إلهي كيف أنساك وليس لي رب سواك إلهي لا أقول لا أعود، لأنني أعرف من نفسي نقض العهود، ولكني أقول لا أعود لا أعود (4) ، لعلي أموت قبل أن أعود. ومن دعائه: اللهم إن كان ذنبي قد أخافني، فإن حسن ظني بك قد أجارني، اللهم سترت علي في الدنيا ذنوباً إلى سترها في القيامة (5) أحوج، وقد أحسنت بي إذا لم تظهرها لعصابة من المسلمين، فلا تفضحني في ذلك اليوم على رؤوس العالمين، يا أرحم الراحمين.   (1) تاريخ بغداد 14: 208 - 209. (2) تاريخ بغداد: 209. (3) ص والمختار: المؤيدين. (4) لا أعود: مكررة في ق فقط، وكذلك هي في تاريخ الخطيب. (5) ر: الآخرة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 166 ودخل على علوي ببلخ زائراً له ومسلماً عليه فقال له العلوي (1) : أيد الله الأستاذ، ما تقول فينا أهل البيت قال: ما أقول في طين عجن بماء الوحي، وغرس (2) بماء الرسالة، فهل يفوح منهما إلا مسك الهدى وعنبر التقى فحشى العلوي فاه بالدر، ثم زاره من الغد، فقال يحيى بن معاذ: إن زرتنا فبفضلك وإن زرناك فلفضلك، فلك الفضل زائراً ومزوراً (3) . ومن كلامه: ما بعد طريق إلى صديق، ولا استوحش في طريق من سلك فيه إلى حبيب. ومن كلامه: مسكين ابن آدم، لو خاف النار كما يخاف الفقر دخل الجنة. وقال: ما صحت إرادة أحد قط فمات حتى حن إلى الموت واشتهاه اشتهاء الجائع إلى الطعام، لارتداف الآفات واستيحاشه من الأهل والإخوان، ووقوعه فيما يتحير فيه صريح عقله. وقال: من لم ينظر في الدقيق من الورع لم يتصل إلى الجليل من العطاء. وقال: ليكن حظ المؤمن منك ثلاث خصال: إن لم تنفعه فلا تضره، وإن لم تسره فلا تغمه، وإن لم تمدحه فلا تذمه. وقال: عمل كالسراب، وقلب من التقوى خراب، وذنوب بعدد الرمل والتراب، ثم تطمع في الكواعب الأتراب، هيهات! أنت سكران بغير شراب ما أكملك لو بادرت أملك، ما أجلك لو بادرت أجلك، ما أقواك لو خالفت هواك (4) . وله في هذا الباب كل كلام مليح. وتوفي سنة ثمان وخمسين ومائتين بنيسابور، رحمه الله تعالى؛ وقال   (1) تاريخ بغداد: 211. (2) ق ص والمختار: وغرس غرس. (3) علق المختار هنا: قلت أعني كاتبها موسى بن أحمد لطف الله به: وقد نظم هذا المعنى: إن زارني فبضله أو زرته ... فلفضله، فالفضل في الحالين له وبخط مخالف قبل البيت: وقيل إنهما للشافعي في أحمد: قالوا يزورك أحمد وتزوره ... قلت: الفضائل ما تعدت منزله (4) زاد هنا في ر ق ن ع: وسئل عن حقيقة المحبة ... الخ، وقد تقدم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 167 محمد بن عبد الله: قرأت على اللوح في قبر يحيى بن معاذ الرازي: مات حكيم الزمان يحيى (1) بن معاذ الرازي، رحمه الله تعالى وبيض وجهه وألحقه بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، يوم الاثنين لست عشرة ليلة (2) خلت من جمادى الأولى سنة ثمان وخمسين ومائتين. 795 - (3) يحيى بن منده أبو زكريا يحيى بن عبد الوهاب ابن الإمام أبي عبد الله محمد بن إسحاق بن محمد بن يحيى ابن منده بن الوليد بن منده بن بطه بن استندار بن جهار بخت بن فيرزان (4) - واسم منده ابراهيم، ومنده لقب، وقيل إن اسم الفيرزان استندار (5) ، والله أعلم، العبدي (6) ؛ كان من من الحفاظ المشهورين وأحد أصحاب الحديث المبرزين - وقد سبق ذكر جده أبي عبد الله محمد في حرف الميم (7) . وهو أبو زكريا بن أبي عمرو بن أبي عبد الله بن أبي محمد بن أبي يعقوب من أهل أصبهان، وهو محدث ابن محدث ابن محدث ابن محدث. وكان جليل القدر وافر الفضل واسع الرواية، ثقة حافظاً فاضلاً مكثراً صدوقاً،   (1) ن: يعني يحيى. (2) ليلة: سقطت من ق ع، وهي كذلك ساقطة في تاريخ الخطيب. (3) ترجمته في تذكرة الحفاظ: 1250 وذيل ابن رجب 1: 127 ومرآة الجنان 3: 202 وعبر الذهبي 4: 25 والشذرات 4: 32 Histories (المختصر الثاني) : 143 والبدر السافر، الورقة: 229. (4) اضطربت أسماء الأعلام الأعجمية في النسخ؛ ن: استيدار؛ ص ق ع: استبدار. (5) ع ص: اسفندار؛ ن ق: استيدار. (6) ق ص ع: العبيدي؛ ن: العبدوي. (7) انظر ج 4: 289. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 168 كثير التصانيف، حسن السيرة بعيد التكلف، أوحد بيته في عصره. خرج التخاريج لنفسه ولجماعة من الشيوخ الأصبهانيين. وسمع أبا بكر محمد بن عبد الله بن زيد (1) الضبي وأبا طاهر محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الرحيم (2) الكاتب وأبا منصور محمد بن عبد الله بن فضلويه الأصبهاني وأباه أبا عمرو وعميه أبا الحسن عبيد الله وأبا القاسم عبد الرحمن وأبا العباس أحمد بن محمد بن أحمد بن النعمان القضاعي (3) وأبا عبد الله محمد بن علي بن محمد الجصاص وأبا بكر محمد بن علي بن الحسين الجوزداني (4) وأبا طاهر أحمد بن محمود الثقفي، ورحل إلى نيسابور وسمع بها أبا بكر أحمد بن منصور بن خلف المقرئ وأبا بكر بن الحسين البيهقي، وبهمذان أبا بكر محمد بن عبد الرحمن بن محمد النهاوندي، وبالبصرة أبا القاسم إبراهيم بن محمد بن أحمد الشاهد وعبد الله بن الحسين السعداني وجماعة كثيرة سواهم، وصنف " تاريخ أصبهان " وغيره من الجموع. ودخل بغداد حاجاً وحدث بها، وأملى بجامع المنصور، وكتب عنه الشيوخ منهم أبو الفضل محمد بن ناصر وعبد القادر بن أبي الجيلي وأبو محمد عبد الله بن أحمد بن أحمد بن أحمد بن الخشاب النحوي، في خلق كثير لشهرته وبيته، وروى عنه أبو البركات عبد الوهاب بن المبارك النماطي الحافظ وأبو الحسن علي بن آبي تراب الزيكوني (5) الخياط البغدادي وأبو طاهر يحيى بن عبد الغفار بن الصباغ وأبو الفضل محمد بن هبة بن العلاء الحافظ وجماعة كثيرة. وذكره الحافظ ابن السمعاني في كتاب " الذيل " وقال: كتب الإجازة بجميع مسموعاته، ثم قال: سألت عنه أبا القاسم إسماعيل بن محمد الحافظ، فأثنى عليه ووصفه بالحفظ والمعرفة والدراية، ثم قال: سمعت أبا بكر محمد   (1) ص ن ق: ريده. (2) ق ع: عبد الرحمن. (3) ق ن ص ع: القصاص؛ بر: القصاصي. (4) لا تتفق النسخ على صورة لهذه اللفظة، وقد أثبتنا ما في اللباب. (5) ر: الزنكوي؛ ق ص ن ع: الزنكوني: وأثبت أقرب الصور إليها في اللباب. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 169 بن أبي النصر بن محمد اللفتواني (1) الحافظ يقول: بيت ابن منده بدئ بيحيى وختم بيحيى، يريد في معرفة الحديث والعلم (2) والفضل. وذكره الحافظ عبد الغافر بن إسماعيل بن عبد الغافر الفارسي - المقدم ذكره - في " مساق (3) تاريخ نيسابور " فقال: أبو زكريا يحيى بن عبد الوهاب بن منده رجل فاضل من بيت العلم والحديث المشهور في الدنيا، سافر وأدرك المشايخ وسمع منهم، وصنف على الصحيحين، وكان يروي بإسناده المتصل إلى بعض العلماء أنه قال: كثرة الضحك أمارة الحمق، والعجلة من ضعف العقل، وضعف العقل من قلة الرأي وقلة الرأي من سوء الأدب، وسوء الأدب يورث المهانة، والمجون طرف من الجنون، والحسد داء لا دواء له، والنمائم تورث الضغائن. وكان يروي بالإسناد المتصل إلى الأصمعي أنه قال: دخلت في البادية إلى مسجد، فقام الإمام يصلي فقرأ: (إنا أرسلنا نوحاً إلى قومه) نوح: وأرتج عليه، فجعل يرددها ويقول: (إنا أرسلنا نوحاً إلى قومه) فقال إعرابي من ورائه، وهو قائم يصلي: يا هذا، إن لم يذهب نوح فأرسل غيره. وكان يحيى المذكور كثيراً ما ينشد لبعضهم: عجبت لمبتاع الضلالة بالهدى ... وللمشتري دنياه بالدين أعجب وأعجب من هذين من باع دينه ... بدنيا سواه فهو من ذين أخيب (4) وكانت ولادته في غداة يوم الثلاثاء تاسع عشر شوال سنة أربع وثلاثين وأربعمائة وتوفي يوم عيد النحر سنة اثنتي عشرة وخمسمائة بأصبهان، ومولده بها أيضاً، رحمه الله تعالى؛ ولم يخلف في بيت ابن منده بعده مثله. وقال ابن نقطة في كتابه " إكمال الأكمال " توفي يوم السبت ثاني عشر ذي الحجة من سنة إحدى عشرة وخمسمائة، وذكر أن مولد أبيه عبد الوهاب   (1) في أكثر النسخ: الكفتواني، وأثبت ما في ن. (2) ن: والحفظ والعلم. (3) ن: سياق، وكذلك ورد من قبل في عدة مواضع. (4) في النسخ جميعاً: أعجب، وهو تكرار دون فرق في المعنى، فأبقينا ما في المطبوعة المصرية. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 170 سنة ست وثمانين وثلثمائة، وتوفي في جمادى الآخرة من سنة خمس وسبعين وأربعمائة رحمه الله تعالى. وقد سبق الكلام على ضبط أسماء أجداده في ترجمة جده أبي عبد الله محمد (1) ، رحمه الله تعالى. 796 - (2) ابن سعدون القرطبي أبو بكر يحيى بن سعدون بن تمام بن محمد الأزدي القرطبي، الملقب سابق الدين (3) ؛ أحد الأئمة المتأخرين في القراءات وعلوم القرآن الكريم والحديث والنحو واللغة وغير ذلك. خرج من الأندلس في عنفوان شبابه وقدم ديار مصر، فسمع بالإسكندرية أبا عبد الله محمد بن أحمد بن إبراهيم الرازي، وبمصر أبا صادق مرشد بن يحيى بن القاسم المدني المصري وأبا طاهر أحمد بن محمد الأصبهاني المعروف بالسلفي وغيرهم. ودخل بغداد سنة سبع عشرة وخمسمائة، وقرأ به القرآن الكريم على الشيخ أبي محمد عبد الله بن علي المقرئ المعروف بابن بنت الشيخ أبي منصور الخياط، وسمع عليه كتباً كثيرة منها كتاب سيبويه، وقرأ الحديث على أبي بكر (4) محمد بن عبد الباقي البزار المعروف بقاضي المارستان وأبي القاسم ابن الحصين وأبي العز ابن كادش وغيرهم. وكان ديناً ورعاً عليه وقار وهيبة وسكينة، وكان ثقة صدوقاً ثبتاً نبيلاً   (1) قلت: لم يرد شيء من ذلك، ولهذا لم نستطع أن نضبطها لاضطراب النسخ في إيرادها. (2) ترجمته في معجم الأدباء 20: 14 وغاية النهاية 2: 372 والمغرب 1: 135 وعبر الذهبي 4: 200 ومرآة الجنان 3: 380، 383 وبغية الوعاة: 412 ونفح الطيب 2: 116 وهو ينقل عن ابن خلكان. (3) النفح: بضياء الدين؛ ن: ضياء الدين؛ بر من: صائن الدين. (4) ق ع: ابن أبي بكر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 171 قليل الكلام كثير الخير مفيداً، أقام بدمشق مدة، واستوطن الموصل ورحل عنها إلى أصبهان، ثم عاد إلى الموصل، وأخذ عنه شيوخ ذلك العصر؛ وذكره الحافظ ابن السمعاني في كتاب " الذيل " وقال: إنه اجتمع به بدمشق (1) ، وسمع منه مشيخة أبي عبد الله الرازي، وانتخب عليه أجزاء، وسأله عن مولده، فقال: ولدت في سنة ست وثمانين وأربعمائة بمدينة قرطبة من ديار الأندلس، ورأيت في بعض الكتب أن مولده سنة سبع وثمانين، والأول أصح. وكان شيخنا القاضي بهاء الدين أبو المحاسن يوسف بن رافع بن تميم المعروف بابن شداد قاضي حلب رحمه الله تعالى يفتخر برؤيته (2) وقراءته عليه - وسيأتي ذلك في ترجمته إن شاء الله تعالى - وقال: كنا نقرأ عليه بالموصل ونأخذ عنه. وكنا نرى رجلاً يأتي إليه كل يوم فيسلم عليه وهو قائم، ثم يمد يده إلى الشيخ بشيء ملفوف، فيأخذه الشيخ من يده، ولا نعلم ما هو، ويتركه ذلك الرجل ويذهب، ثم تقفينا ذلك فعلمنا أنها دجاجة مسموطة، كانت برسم الشيخ في كل يوم يبتاعها له ذلك الرجل ويسمطها ويحضرها، وإذا دخل الشيخ إلى منزله تولى طبخها بيده. وذكر في كتابه الذي سماه " دلائل الأحكام " أنه لازم القراءة عليه إحدى عشرة سنة آخرها سنة سبع وستين وخمسمائة. وكان الشيخ أبو بكر القرطبي المذكور كثيراً ما ينشد مسنداً إلى أبي الخير الكاتب الواسطي رواهما بالإسناد المتصل إليه أنهما له (3) : جرى قلم القضاء بما يكون ... فسيان التحرك والسكون جنون منك أن تسعى لرزقٍ ... ويرزق في غشاوته الجنين وقال: أنشدنا أبو الوفاء عبد الباقي بن وهب بن حسان قال: أنشدنا أبو عبد الله محمد بن منيع بمصر لنفسه: لي حيلة فيمن ينم ... وليس في الكذاب حيله   (1) ص ر بر من: في دمشق. (2) ر: بروايته. (3) أنهما له: سقط من: ن ر بر من. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 172 من كان يخلق ما يقو ... ل فحيلتي فيه قليله وتوفي الشيخ أبو بكر المذكور بالموصل (1) في يوم عيد الفطر من سنة سبع وستين وخمسمائة، رحمه الله تعالى. 797 - (2) يحيى بن يعمر النحوي أبو سليمان، وقيل أبو سعيد، يحيى بن يعمر العدواني الوشقي النحوي البصري؛ كان تابعياً، لقي عبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس، رضي الله عنهم، ولقي غيرهما، وروى عنه قتادة بن دعامة السدوسي وإسحاق بن سويد العدوي. وهو أحد قراء البصرة، وعنه أخذ عبد الله بن أبي إسحاق القراءة، وانتقل إلى خراسان، وتولى القضاء بمرو، وكان عالماً بالقرآن الكريم والنحو ولغات العرب وأخذ النحو عن أبي الأسود الدؤلي - المقدم ذكره (3) - يقال إن أبا الأسود لما وضع باب الفاعل والمفعول به زاد فيه رجل من بني ليث أبواباً ثم نظر فإذا كلام العرب ما لا يدخل فيه فأقصر عنه، فيمكن أن يكون هو يحيى بن يعمر المذكور إذ كان عداده في بني ليث لأنه حليف لهم. وكان شيعياً من الشيعة الأولى القائلين بتفضيل أهل البيت من غير تنقيص (4) لذي فضل من غيرهم.   (1) بالموصل: سقطت من ر. (2) ترجمته في معجم الأدباء 20: 42 وغاية النهاية 2: 318 ومرآة الجنان 1: 271 وتهذيب التهذيب 11: 305 وأخبار النحويين البصريين: 22 وطبقات الزبيدي: 22 ونور القبس: 21 وبغية الوعاة: 17؛ والنجوم الزاهرة 1: 217 والجهشياري: 41 - 42. (3) ج 2: 535. (4) ن ص ق: تنقص. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 173 حكى عاصم بن أبي النجود المقرئ - المقدم ذكره (1) - أن الحجاج بن يوسف الثقفي بلغه أن يحيى بن يعمر يقول: إن الحسن والحسين رضي الله عنهما من ذرية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يحيى يومئذ بخراسان، فكتب الحجاج إلى قتيبة بن مسلم والي خراسان - وقد تقدم ذكره أيضاً (2) - أن ابعث إلي بيحيى بن يعمر، فبعث إليه، فقام بين يديه، فقال: أنت الذي تزعم أن الحسن والحسين من ذرية رسول الله صلى الله عليه وسلم والله لألقين الأكثر منك شعراً أو لتخرجن من ذلك، قال: فهو أماني إن خرجت قال: نعم، فإن الله جل ثناؤه يقول: (ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا، ونوحاً هديناً من قبل، ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون، وكذلك نجزي المحسنين، وزكريا ويحيى وعيسى) الآية (الأنعام: قال: وما بين عيسى وإبراهيم أكثر مما بين الحسن والحسين ومحمد صلوات الله عليه وسلامه، فقال له الحجاج: ما أراك إلا قد خرجت، والله لقد قرأتها وما علمت بها قط، وهذا من الاستنباطات البديعة الغريبة العجيبة، فلله دره، ما أحسن ما استخرج وأدق ما استنبط! قال عاصم: ثم إن الحجاج قال له: أين ولدت فقال: بالبصرة، قال: أين نشأت قال: بخراسان، قال: فهذه العربية أنى هي لك قال: رزق، قال: خبرني عني هل ألحن فسكت، فقال: أقسمت عليك، فقال: أما إذ سألتني أيها الأمير فإنك ترفع ما يوضع وتضع ما يرفع، فقال: ذلك والله اللحن السيئ؛ قال: ثم كتب إلى قتيبة: إذا جاءك كتابي هذا فاجعل يحيى بن يعمر على قضائك والسلام. وروى ابن سلام عن يونس بن حبيب قال: قال الحجاج ليحيى بن يعمر أتسمعني ألحن قال: في حرف واحد، قال: في أي قال: في القرآن، قال: ذلك أشنع، ثم قال: ما هو قال تقول (قل إن كان آباؤكُم وأبناؤكُم - إلى قوله إليكُم) (التوبة:24) فتقرؤها بالرفع،   (1) ج 3: 9. (2) ج 4: 86. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 174 قال ابن سلام: كأنه لما طال الكلام نسي ما ابتدأ به، فقال الحجاج: لا جرم لا تسمع لي لحناً، قال يونس: فألحقه بخراسان وعليها يزيد بن المهلب بن أبي صفرة، والله أعلم أي ذلك كان. قال ابن الجوزي في كتاب " شذور العقود ": في سنة أربع وثمانين للهجرة نفى الحجاج يحيى ابن يعمر لأنه قال له: هل ألحن فقال: تلحن لحناً خفياً، فقال: أجلتك ثلاثاً، فإن وجدتك بعد بأرض العراق قتلتك، فخرج. وحكى أبو عمرو نصر بن علي بن نوح بن قيس قال: حدثنا عثمان بن محصن قال: خطب أمير البصرة (1) فقال: اتقوا الله فإنه من يتق الله فلا هورات عليه، فلم يدروا ما قال الأمير، فسألوا يحيى بن يعمر فقال: الهورات الضياع، يقول: من اتقى الله فليس عليه ضياع، قال القزاز في كتاب " الجامع " الهورات المهالك، واحدها هورة، قال الراوي: فحدثت بهذا الحديث الأصمعي فقال: هذا شيء لم أسمع به قط حتى كان الساعة منك، ثم قال: إن كلام العرب (2) لواسع، لم أسمع بذا قط. وحكى الأصمعي قال: حدثنا أبي قال: كتب يزيد بن المهلب بن أبي صفرة وهو بخراسان إلى الحجاج بن يوسف كتاباً يقول فيه: إنا لقينا العدو فاضطررناهم إلى عرعرة الجبل، ونحن بالحضيض، فقال الحجاج: ما لابن المهلب ولهذا الكلام فقيل له: إن ابن يعمر عنده، فقال: فذاك إذا. وكان يحيى بن يعمر يعمل الشعر وهو القائل: أبى الأقوام إلا بغض قومي ... قديماً أبغض الناس السمينا وقال خالد الحذاء: كان لابن سيرين منقوط نقطه يحيى بن يعمر، وكان ينطق بالعربية المحضة واللغة الفصحى طبيعة فيه غير متكلف؛ وأخباره ونوادره كثيرة؛ وتوفي سنة تسع وعشرين ومائة، رحمه الله تعالى. ويعمر: بفتح الياء المثناة من تحتها والميم وبينهما عين مهملة وفي الأخير   (1) ص ع: أمير البصرة. (2) ق ن ص ع بر من: إن الغريب. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 175 راء، وقيل بضم الميم، والأول أصح وأشهر، ويعمر - بفتح الميم - مضارع قولهم عمر الرجل، بفتح العين وكسر الميم، إذا عاش زمناً طويلاً، وإنما سمي بذلك تفاؤلاً بطول العمر، كما سمي يحيى بذلك أيضاً. والعدواني: بفتح العين المهملة والواو وبينهما دال مهملة ساكنة وبعد الألف نون، هذه النسبة إلى عدوان، واسمه الحارث بن عمرو بن قيس عيلان وإنما قيل له " عدوان " لأنه عدا على أخيه فهم فقتله. والوشقي: بفتح الواو وسكون الشين المعجمة وبعدها قاف، هذه النسبة إلى وشقة بن عوف بن بكر بن يشكر بن عدوان المذكور. 798 - (1) أبو زكريا الفراء أبو زكريا يحيى بن زياد بن عبد الله بن منظور الأسلمي، المعروف بالفراء، الديلمي الكوفي مولى بن أسد، وقيل مولى بني منقر، كان أبرع الكوفيين وأعلمهم بالنحو واللغة وفنون الأدب؛ حكي عن أبي العباس ثعلب أنه قال: لولا الفراء لما كانت عربية، لأنه خلصها وضبطها، ولولا الفراء لسقطت العربية لأنها كانت تتنازع ويدعيها كل من أراد ويتكلم الناس فيها على مقادير عقولهم وقرائحهم فتذهب. وأخذ النحو عن أبي الحسن الكسائي، وهو الأحمر - المقدم ذكره - من   (1) ترجمته في نور القبس: 301 ومراتب النحويين: 86 وطبقات الزبيدي: 143 وتاريخ بغداد 14: 149 ومعجم الأدباء 20: 9 ونزهة الألباء: 65 وعبر الذهبي 1: 354 والشذرات 2: 19 وبغية الوعاة: 411 ومرآة الجنان 2: 38 وغاية النهاية 2: 371 وتهذيب التهذيب 11: 212 وللدكتور أحمد مكي الأنصاري كتاب بعنوان " أبو زكريا الفراء ومذهبه في النحو واللغة " (القاهرة: 1964) ، ومن هذه الترجمة تعود النسخة " س " إلى الاشتراك مع النسخ الأخرى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 176 أشهر أصحابه وأخصهم به. ولما عزم الفراء على الاتصال بالمأمون، كان يتردد إلى الباب (1) ، فبينما هو ذات يوم على الباب إذ جاء أبو بشر ثمامة بن الأشرس النميري المعتزلي، وكان خصيصاً بالمأمون، قال ثمامة: فرأيت أبهة أديب، فجلست إليه، ففاتشته عن اللغة فوجدته بحراً وفاتشته عن (2) النحو فشاهدته (3) نسيج وحده وعن الفقه فوجدته رجلاً فقيهاً عارفاً باختلاف القوم، وبالنجوم ماهراً، وبالطب (4) خبيراً، وبأيام العرب أشعارها حاذقاً، فقلت له: من تكون وما أظنك إلا الفراء، فقال أنا هو، فدخلت فأعلمت أمير المؤمنين المأمون، فأمر بإحضاره لوقته، وكان سبب اتصاله به. وقال قطرب: دخل الفراء على الرشيد فتكلم بكلام لحن فيه مرات، فقال جعفر بن يحيى البرمكي: إنه قد لحن يا أمير المؤمنين، فقال الرشيد للفراء: أتلحن فقال الفراء: يا أمير المؤمنين إن طباع أهل البدو الإعراب (5) ، وطباع أهل الحضر اللحن، فإذا تحفظت لم ألحن، وإذا رجعت إلى الطبع لحنت، فاستحسن الرشيد قوله. وقال الخطيب في " تاريخ بغداد ": إن الفراء لما اتصل بالمأمون أمره أن يؤلف ما يجمع به أصول النحو (6) وما سمع من العربية، وأمر أن يفرد في حجرة من حجر الدار، ووكل به جواري وخدماً يقمن بما يحتاج إليه، حتى لا يتعلق قلبه ولا تتشوف نفسه إلى شيء، حتى إنهم كانوا يؤذنونه بأوقات الصلوات، وصير له الوراقين، وألزمه الأمناء والمنفقين، فكان يملي والوراقون يكتبون، حتى صنف " الحدود " في سنتين (7) وأمر المأمون بكتبه (8) في الخزائن، فبعد أن   (1) بر من: وكان قد ورد بغداد في أيام المأمون فبقي يتردد على بابه مدة ى يصل إليه فبينما هو ... الخ. (2) ر: فناقشته في ... وناقشته في. (3) س بر: فشاهدت. (4) س: وبالنحو ... وبالطب. (5) إن.. الأعراب: سقطت من ق ص ع. (6) ر: أمور النحو وأصوله. (7) ق ن ص س: في سنين، وكذلك هو في تاريخ بغداد. (8) ر: أن يكتبه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 177 فرغ من ذلك إلى الناس، وابتدأ بكتاب " المعاني " قال الراوي: وأردنا أن نعد الناس الذين اجتمعوا لإملاء كتاب " المعاني "، فلم نضبطهم، فعددنا القضاة فكانوا ثمانين قاضياً، فلم يزل يمليه حتى أتمه. ولما فرغ من كتاب " المعاني " خزنه الوراقون عن الناس ليكسبوا به وقالوا: لا نخرجه إلا لمن أراد أن ننسخه له على خمس أوراق بدرهم، فشكا الناس إلى الفراء، فدعا الوراقين فقال لهم في ذلك، فقالوا: إنما صحبناك لننتفع بك، وكل ما صنفته فليس بالناس إليه من الحاجة ما بهم إلى هذا الكتاب، فدعنا نعيش به فقال: قاربوهم تنتفعوا وتنفعوا (1) ، فأبوا عليه فقال: سأريكم، وقال للناس: إنني ممل كتاب معانٍ أتم شرحاً وأبسط قولاً من الذي أمليت، فجلس يملي، فأملى (2) الحمد في مائة ورقة، فجاء الوراقون إليه وقالوا: نحن نبلغ الناس ما يحبون، فنسخوا كل عشرة أوراق بدرهم. وكان سبب إملائه كتاب " المعاني " أن أحد أصحابه، وهو عمر (3) بن بكير، كان يصحب الحسن بن سهل - المقدم ذكره - فكتب إلى الفراء إن الأمير الحسن لا يزال يسألني عن أشياء من القرآن لا يحضرني عنها جواب، فإن رأيت أن تجمع لي أصولاً وتجعل ذلك كتاباً يرجع إليه فعلت، فلما قرأ الكتاب قال لأصحابه: اجتمعوا حتى أملي عليكم كتاباً في القرآن، وجعل لهم يوماً، فلما حضروا خرج إليهم، وكان في المسجد رجل يؤذن فيه وكان من القراء، فقال له: فقرأ فاتحة الكتاب، ففسرها، حتى مر في القرآن كله على ذلك، يقرأ الرجل والفراء يفسره. وكتابه هذا نحو ألف ورقة، وهو كتاب لم يعمل مثله، ولا يمكن أحداً (4) أن يزيد عليه. وكان المأمون قد وكل الفراء يلقن (5) ابنيه النحو، فلما كان يوماً أراد الفراء   (1) ن ر س: وينتفعوا، وكذلك في تاريخ بغداد. (2) ق ن ع س: يمل فأمل، وهي رواية الخطيب. (3) ع بر من: عمرو. (4) ن ع: أحد. (5) بر: بتلقين. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 178 أن ينهض إلى بعض حوائجه، فابتدرا إلى نعل الفراء يقدمانه له، فتنازعا أيهما يقدمه، فاصطلحا على أن يقدم كل واحد منهما فرداً فقدماها، وكان المأمون له على كل شيء صاحب خبر، فرفع ذلك الخبر إليه، فوجه إلى الفراء فاستدعاه، فلما دخل عليه قال: من أعز الناس قال: ما أعرف أعز من أمير المؤمنين، قال: بلى من إذا نهض تقاتل على تقديم نعليه وليا عهد المسلمين حتى رضي كل واحد أن يقدم له فرداً، قال: يا أمير المؤمنين، لقد أردت منعهما عن ذلك، ولكن خشيت أن أدفعهما عن مكرمة سبقا إليها أو أكسر نفوسهما عن شريعةٍ حرصا عليها، وقد روي عن ابن عباس أنه أمسك للحسن والحسين رضي الله عنهم أجمعين ركابيهما، حين خرجا من عنده، فقال له بعض من حضر: أتمسك لهذين الحدثين ركابيهما وأنت أسن منهما فقال له: اسكت يا جاهل، لا يعرف الفضل لأهل الفضل إلا ذوو الفضل، فقال له المأمون: لو منعتهما عن ذلك لأوجعتك لوماً وعتباً وألزمتك ذنباً، وما وضع ما فعلاه من شرفهما، بل رفع من قدرهما وبين عن جوهرهما، ولقد ظهرت لي مخيلة الفراسة بفعلهما، فليس يكبر الرجل وإن كان كبيراً عن ثلاث: عن تواضعه لسلطانه ووالده ومعلمه العلم، وقد عوضتهما بما (1) فعلاه عشرين ألف دينار، ولك عشرة آلاف درهم على حسن أدبك لهما. وقال الخطيب أيضاً (2) : كان محمد بن الحسن الفقيه ابن خالة الفراء، وكان الفراء يوماً جالساً عنده، فقال الفراء: قل رجل أنعم النظر في باب من العلم فأراد غيره إلا سهل عليه، فقال له محمد: يا أبا زكريا قد أنعمت النظر في العربية، فنسألك عن باب من الفقه فقال: هات على بركة الله تعالى، قال: ما تقول في رجل صلى فسها فسجد سجدتين فسها فيهما ففكر الفراء ساعة ثم قال: لا شيء عليه، فقال له محمد: ولم قال: لأن التصغير عندنا لا تصغير له، وإنما السجدتان تمام الصلاة، فليس للتمام تمام، فقال محمد: ما ظننت آدمياً يلد مثلك.   (1) ع ق س بر من: مما. (2) تاريخ بغداد 14: 152. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 179 وقد سبقت هذه الحكاية في ترجمة الكسائي ونبهت عليها ثم بما ذكرته هاهنا. وكان الفراء لا (1) يميل إلى الاعتزال؛ وحكى سلمة بن عاصم عن الفراء قال: كنت أنا وبشر المريسي - المقدم ذكره - في بيت واحد عشرين سنة، ما تعلم مني شيئاً ولا تعلمت منه شيئاً؛ وقال الجاحظ: دخلت بغداد حين قدمها المأمون في سنة أربع ومائتين، وكان الفراء يحبني، وأشتهي أن يتعلم شيئاً من علم الكلام، فلم يكن له فيه طبع. وقال أبو العباس ثعلب: كان الفراء يجلس الناس في مسجده إلى جانب منزله، وكان يتفلسف في تصانيفه حتى يسلك في ألفاظه كلام الفلاسفة. وقال سلمة بن عاصم: إني لأعجب من الفراء كيف كان يعظم الكسائي وهو أعلم بالنحو منه. وقال الفراء: أموت وفي نفسي شيء (2) من " حتى "، لأنها تخفض وترفع وتنصب. ولم ينقل من شعره غير هذه الأبيات وقد رواها أبو حنيفة الدينوري عن أبي بكر الطوال وهي: يا أميراً على جريبٍ من الأر ... ض له تسعة من الحجاب جالساً في الخراب يحجب فيه ... ما سمعنا بحاجب في خراب لن تراني لك العيون ببابٍ ... ليس مثلي يطيق رد الحجاب (3) ثم وجدت هذه الأبيات لابن (4) موسى المكفوف، والله أعلم بالصواب. ومولد الفراء بالكوفة، وانتقل إلى بغداد وجعل أكثر مقامه بها، وكان شديد طلب المعاش لا يستريح في بيته، وكان يجمع طوال السنة، فإذا كان في   (1) سقطت " لا " من بعض النسخ. (2) شيء: سقطت من أكثر النسخ. (3) ص ق ر: الجواب. (4) ن: لأبي، وسقط التعليق كله من س. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 180 آخرها خرج إلى الكوفة فأقام بها أربعين يوماً في أهله يفرق (1) عليهم ما جمعه ويبرهم. وله من التصانيف الكتابان المقدم ذكرهما، وهما " الحدود " و " المعاني " وكتابان في المشكل أحدهما أكبر من الآخر، وكتاب " البهي " وهو صغير الحجم ووقفت عليه بعد أن كتبت هذه الترجمة، ورأيت فيه أكثر الألفاظ التي استعملها أبو العباس في كتاب " الفصيح " وهو في حجم " الفصيح " غير أنه غيره ورتبه على صورة أخرى، وعلى الحقيقة ليس لثعلب في " الفصيح " سوى الترتيب وزيادة يسيرة، وفي كتاب " البهي " أيضاً ألفاظ ليست في الفصيح قليلة، وليس في الكتابين اختلاف إلا في شيء قليل لا غير (2) . وله كتاب " اللغات "، وكتاب " المصادر في القرآن "، وكتاب " الجمع والتثنية في القرآن "، وكتاب " الوقف والابتداء "، وكتاب " المفاخر " (3) وكتاب " آلة الكاتب "، وكتاب " النوادر "، وكتاب " الواو " وغير ذلك من الكتب. وقال سلمة بن عاصم: أملى الفراء كتبه كلها حفظاً، لم يأخذ بيده نسخة إلا في كتابين: كتاب " ملازم "، وكتاب " يافع ويفعة "، قال أبو بكر الأنباري: ومقدار الكتابين خمسون ورقة، ومقدار كتب الفراء ثلاثة آلاف ورقة. وقد مدحه محمد بن الجهم على روي الواو الموصولة بالهاء المكسورة أضربت عن ذكرها خوف الإطالة. وتوفي الفراء سنة سبع ومائتين في طريق مكة، وعمره ثلاث وستون سنة، رحمه الله تعالى. والفراء: بفتح الفاء وتشديد الراء وبعدها ألف ممدودة، وإنما قيل له فراء ولم يكن يعمل الفراء ولا يبيعها، لأنه كان يفري الكلام، ذكر ذلك الحافظ السمعاني في كتاب " الأنساب " (4) ، وعزاه إلى كتاب " الألقاب " (5) .   (1) ع: وفرق؛ ص: ففرق. (2) وهو صغير ... لا غير: سقط من: س بر من. (3) س ق ع: الفاخر. (4) س: الذيل. (5) ق ع: الألباب. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 181 وذكر أبو عبيد الله المرزباني في كتابه أن زياداً والد الفراء كان أقطع، لأنه حضر وقعة الحسين بن علي رضي الله عنهما فقطعت يده في تلك الحرب، وهذا عندي فيه نظر لأن الفراء عاش ثلاثاً وستين سنة فتكون ولادته سنة أربع وأربعين ومائة، وحرب الحسين كانت سنة إحدى وستين للهجرة، فبين حرب الحسين وولادة الفراء أربع وثمانون سنة، فكم قد عاش أبوه فإن كان الأقطع جده فيمكن، والله أعلم. ومنظور: بفتح الميم وسكون النون وضم الظاء المعجمة وسكون الواو وبعدها راء. وقد تقدم الكلام عن الديلمي وبني أسد. وأما بنو منقر: فهو بكسر الميم وسكون النون وفتح القاف وبعدها راء، وهو منقر بن عبيد بن مقاعس، واسمه الحارث بن عمرو بن كعب بن سعد بن زيد بن مناة بن تميم بن مر، وهي قبيلة كبيرة ينسب إليها خلق كثير من الصحابة رضوان الله عليهم وغيرهم، ومنها خالد بن صفوان وشبيب بن شيبة، وصفوان وشيبة ابنا عبد الله بن عمرو بن الأهتم المنقري، وهما - أعني خالداً وشبيباً - المشهوران بالفصاحة والبلاغة والخطابة، ولخالد مجالس مشهورة مع أمير المؤمنين السفاح، ولشبيب مع المنصور والمهدي وغيرهما - وقد تقدم ذكر خالد وشبيب (1) في ترجمة البحتري في حرف الواو.   (1) لم يشر المؤلف هنا إلى أنه ترجم لشبيب، وهذا يرجح أن ترجمة شبيب (ج 3: 458) التي انفردت بها النسخة ص ليست من عمل المؤلف. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 182 799 - (1) أبو محمد اليزيدي أبو محمد يحيى بن المبارك بن المغيرة العدوي، المعروف باليزيدي، المقرئ النحوي اللغوي صاحب أبي عمرو بن العلاء المقرئ البصري، وهو الذي خلقه في القيام بالقراءة بعده، سكن بغداد وحدث بها عن أبي عمرو بن العلاء وابن جريح وغيرهما. وروى عنه ابنه محمد وأبو عبيد القاسم بن سلام وإسحاق بن إبراهيم الموصلي وجماعة من أولاده وحفدته وأبو عمرو الدوري وأبو حمدون الطيب بن إسماعيل (2) وأبو شعيب السوسي (3) وعامر بن عمر الموصلي وأبو خلاد سليمان بن خلاد وغيرهم، وخالف أبا عمرو في حروف يسيرة (4) من القراءة اختارها لنفسه. وكان يؤدب أولاد يزيد بن منصور بن عبد الله بن يزيد الحميري خال المهدي، وإليه كان ينتسب، ثم اتصل بهارون الرشيد فجعل ولده المأمون في حجره فكان يؤدبه. وكان ثقة، وهو أحد القراء الفصحاء العالمين بلغات العرب والنحو، وكان صدوقاً، وله التصانيف الحسنة والنظم الجيد، وشعره مدون، وصنف كتاب " النوادر " في اللغة على مثال كتاب " نوادر " الأصمعي الذي صنفه لجعفر البرمكي، وفي مثل عدد ورقه، وأخذ علم العربية وأخبار الناس عن أبي عمرو   (1) ترجمته في نور القبس: 80 - 87 والورقة 27 وطبقات ابن المعتز: 273 والأغاني 21: 92 وتاريخ بغداد 14: 146 ومعجم المرزباني: 487 وشرح المرزوقي للحماسة: 1549 ومعجم الأدباء 20: 3 ونزهة الألباء: 53 وعبر الذهبي 1: 338 والشذرات 2: 4 وغاية النهاية 2: 375 ومرآة الجنان 2: 3 وبغية الوعاة: 414 والخزانة 4: 426. (2) ترجمة الطيب في غاية النهاية 1: 343. (3) اسمه صالح بن زياد (غاية النهاية 1: 333) . (4) ص ن ع ق: كثيرة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 183 والخليل بن أحمد، من ومن كان معاصرهما. وحكى عن أبي حمدون الطيب بن إسماعيل قال: شهدت ابن أبي العتاهية وقد كتب عن أبي محمد اليزيدي قريباً من ألف جلد، عن أبي عمرو بن العلاء خاصة، ويكون ذلك عشرة آلاف ورقة، لأن تقدير الجلد عشر ورقات، وأخذ عن الخليل من اللغة أمراً (1) عظيماً، وكتب عنه العروض في ابتداء وضعه له، إلا أن اعتماده على أبي عمرو لسعة علم أبي عمرو باللغة (2) . وكان أبو محمد المذكور يعلم الصبيان بحذاء دار أبي عمرو بن العلاء، وكان أبو عمرو يدنيه ويميل إليه لذكائه، وكان أبو محمد المذكور صحيح الرواية، وله من التصانيف كتاب " النوادر " - المقدم ذكره - وكتاب " المقصور والممدود " ومختصر في النحو، وكتاب " النقط والشكل ". وقال ابن المنادي (3) : أكثرت من (4) السؤال عن أبي محمد اليزيدي ومحله من الصدق ومنزلته من الثقة، لعدة من شيوخنا بعضهم أهل عربية وبعضهم أهل قرآن وحديث، فقالوا: هو ثقة صدوق لا يدفع عن سماع ولا يرغب عنه في شيء، غير ما يتوهم عليه من الميل إلى المعتزلة (5) ، وقد روى عنه الغريب أبو عبيد القاسم بن سلام وكفى به، وما ذاك إلا عن معرفة منه به، وكان يجلس في أيام الرشيد مع الكسائي في مجلس واحد ويقرئان الناس، وكان الكسائي يؤدب الأمين وهو يؤدب المأمون، فأما الأمين فإن أباه أمر الكسائي أن يأخذ عليه بحرف حمزة، وأما المأمون فإن أباه أمر أبا محمد أن يأخذ عليه بحرف أبي عمرو. وقال الأثرم: دخل اليزيدي يوماً على الخليل بن أحمد وهو جالس على وسادة، فأوسع له وأجلسه معه، فقال له اليزيدي: أحسبني ضيقت عليك، فقال الخليل: ما ضاق موضع على اثنين متحابين، والدنيا لا تسع متباغضين.   (1) ع ق: شيئاً. (2) ق ع: لسعة علمه باللغة. (3) بر: ابن المبارك؛ وابن المنادي هو أحمد بن جعفر (غاية النهاية 1: 44) . (4) من: سقطت من: ق ر ع. (5) ن: الاعتزال. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 184 وسأل المأمون اليزيدي عن شيء فقال: لا وجعلني الله فداك يا أمير المؤمنين، فقال: لله درك! ما وضعت الواو قط في موضع أحسن من موضعها في لفظك هذا، ووصله وحمله. وقال اليزيدي: دخلت على المأمون يوماً والدنيا غضة، وعنده نعم تغنيه، وكانت أجمل أهل دهرها (1) ، فأنشدت: وزعمت أني ظالم فهجرتني ... ورميت في قلبي بسهم نافذ فنعم هجرتك فاغفري وتجاوزي ... هذا مقام المستجير العائد هذا مقام فتىً أضر به الهوى ... قرح الجفون بحسن وجهك لائذ (2) ولقد أخذتم العلم من فؤادي أنسه ... لا شل ربي كف ذاك الآخذ (3) فاستعادها الصوت ثلاث مرات، ثم قال: يا يزيدي، أيكون شيء أحسن مما نحن فيه قلت: نعم يا أمير المؤمنين، قال وما هو قلت: الشكر لمن خولك هذا الإنعام العظيم الجليل، قال: أحسنت وصدقت، ووصلني وأمر بمائة ألف درهم يتصدق بها، فكأني أنظر إلى البِدَر وقد أخرجت والمال يفرق. وشكا اليزيدي إلى المأمون حاجة أصابته وديناً لحقه، فقال: ما عندنا في هذه الأيام ما إن أعطيناكه (4) بلغت به ما تريد، فقال: يا أمير المؤمنين، إن الأمر قد ضاق علي، وإن غرمائي (5) قد أرهقوني، فاحتل لي، فأفكر المأمون، واستقر الأمر على أن يحضر اليزيدي إلى الباب إذ جلس المأمون في مجلس الأنس وعنده ندماؤه، ويكتب رقعة يطلب فيها الدخول أو إخراج بعض الندماء إليه، فلما جلس المأمون حضر اليزيدي إلى الباب ودفع للخادم رقعة مختومة فأدخلها إلى   (1) المختار: وكانت من أجمل النساء. (2) سقط الشطر الثاني من س. (3) جاء أول الأبيات في ر. (4) ق ن ع س بر من: أعطيناك. (5) ق ع: الغرماء. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 185 المأمون ففضها فإذا فيها مكتوب (1) : يا خير إخوان وأصحاب ... هذا الطفيلي على الباب فصيروني واحداً منكم ... أو أخرجوني لي بعض أصحابي فقرأها المأمون على من حضر وقال: ما ينبغي أن يدخل مثل هذا الطفيلي على مثل هذا الحال، فأرسل إليه المأمون يقول له: دخولك في مثل هذا الوقت متعذر، فاختر لنفسك من أحببت أن تنادمه، فلما وقف على الرسالة قال: ما أرى لنفسي اختياراً سوى عبد الله بن طاهر، فقال له المأمون: قد وقع الاختيار عليك فصر إليه، فقال: يا أمير المؤمنين، فأكون شريك الطفيلي فقال: ما يمكنني (2) رد أبي محمد عن أمره، فإن أحببت أن تخرج إليه وإلا فافتد (3) نفسك منه، فقال: على عشرة آلاف درهم، فقال: لا أحسب ذلك يقنعه منك ومن مجالستك، فلم يزل يزيده عشرة آلاف على عشرة آلاف والمأمون يقول: لا أرضى له بذلك، حتى بلغ مائة ألف درهم فقال له المأمون: فعجلها له، فكتب له بها إلى وكيله ووجه رسولاً، وأرسل إليه المأمون وهو يقول: قبض هذا المبلغ في مثل هذا الحال أصلح لك من منادمته على مثل حاله، فقبل ذلك منه، وكان ظريفاً في جميع أحواله. وحكى أبو أحمد بن جعفر البلخي في كتابه (4) أن اليزيدي المذكور سأل الكسائي عن قول الشاعر: ما رأينا خرباً نق ... ر عنه البيض صفر لا يكون العير مهراً ... لا يكون، المهر مهر - الخرب: بفتح الخاء المعجمة والراء وفي آخرها الباء الموحدة، الذكر من   (1) زاد في ن: بما تحرر الأمر عليه. (2) ر: ما يمكن، وكذلك في نور القبس. (3) ر: فافكك، ن ص بر من: فافتك. (4) انظر القصة في مجالس الأدباء: 255 والتصحيف والتحريف: 124 وغيرهما من المصادر التي مر ذكرها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 186 الحبارى، والعير: بفتح العين المهملة وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها راء، وهو الذكر من حمر الوحش (1) - فقال الكسائي: يجب أن يكون " مهر " منصوباً على أنه خبر كان، ففي البيت على هذا التقدير إقواء، فقال اليزيدي: الشعر صواب لأن الكلام قد تم عند قوله " لا يكون " الثانية وهي مؤكدة للأولى، ثم استأنف الكلام، فقال " المهر مهر " وضرب بقلنسوته الأرض، وقال: أنا أبو محمد، فقال له يحيى بن خالد البرمكي: أتكتني بحضرة أمير المؤمنين والله إن خطأ الكسائي مع حسن أدبه من صوابك مع سوء أدبك، فقال اليزيدي: إن حلاوة الظفر أذهبت عني التحفظ. قلت أنا: قول الكسائي في البيت إقواء ليس بجيد، فإن إصلاح أرباب علم القوافي أن الأقواء يختص باختلاف الإعراب في حرف الروي بالرفع والجر لا غير بأن يكون أحد البيتين مرفوعاً والآخر مجروراً، فأما إذا كان الاختلاف بالنصب مع الرفع والجر فإن ذلك يسمى إصرافاً لا أقواء، وإلى هذا أشار أبو العلاء المعري في قوله من جملة قصيد طويلة يرثي بها الشريف الطاهر والد الرضي والمرتضى - المقدم ذكرهما - وهو من صفة بعيب الغراب: بنيت على الإيطاء سالمةً من ال ... إقواء والإكفاء والإصراف وهذا البيت متعلق بما قبله ولا يظهر معناه إلا بذكر ما تقدم، ولا حاجة بنا إلى ذكره هاهنا بل ذكرنا موضع الاستشهاد لا غير (2) . وقد قيل إن الإصراف من جملة أنواع الإقواء، فعلى هذا يستقيم ما قاله الكسائي. وهذا الفصل وإن كان دخيلاً لكنه ما خلا من فائدة. وغالب شعر اليزيدي جيد، وقد ذكره هارون بن المنجم - المقدم ذكره -   (1) سقط شرح اللفظتين من س. (2) سذكر أبو العلاء أن الغراب رثى الشريف العلوي بقصيدة مبنية على الإيطاء لأنها " غاق غاق " مكررة ولكنها سالمة من عيوب الإقواء والإكفاء والإصراف، وقيل البيت: عقرت ركائبك ابن دأية غادياً ... أي امرئ نطق وأي قواف بنيت على الإيطاء ...... ... ............................. (البيت) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 187 في كتاب " البارع " وأورد له عدة مقاطيع، فمن ذلك قوله يهجو الأصمعي الباهلي المقدم ذكره: أبِن لي دعي بني أصمعٍ ... متى كنت في الأسرة الفاضله ومن أنت هل أنت إلا امرؤ ... إذا صح أصلك من باهله ثم قال ابن المنجم: وهذا البيت من نادر أبيات المحدثين في الهجاء. قلت أنا: وهذا مأخوذ من قول حماد عجرد في بشار بن برد يهجوه: نسبت إلى برد وأنت لغيره ... وهب أن برداً ناك أمك، من برد وله في الهجاء أيضاً: استبق ود أبي المقا ... تل حين تدنو من طعامه سيان كسر رغيفه ... أو كسر عظمٍ من عظامه ويصوم كرهاً ضيفه ... لم ينو أجراً في صيامه وقد سبق في ترجمة أبي العباس المبرد مقطوع من شعره في شيبة بن الوليد. وكان له أخبار ونوادر، فمن ذلك ما رواه أنه أخذ رجل ادعى النبوة فأتي به إلى المهدي فقال له: أنت نبي فقال: نعم، فقال: وإلى من بعثت فقال: وهل تركتموني أذهب إلى أحد ساعة بعثت وضعتموني في الحبس، فضحك المهدي واستتابه. وكان لليزيدي خمسة بنين وكلهم علماء أدباء شعراء رواة لأخبار الناس، وهم: أبو عبد الله محمد وإبراهيم وأبو القاسم إسماعيل وأبو عبد الرحمن عبد الله (1) وأبو يعقوب إسحاق، وكلهم ألف في اللغة والعربية. (316) وكان محمد (2) أسنهم وأشعرهم، وهو القائل فيما رواه دعبل بن علي الخزاعي - المقدم ذكره - من جملة أبيات: أتظعن والذي تهوى مقيم ... لعمرك إن ذا خطر عظيم   (1) س ر ص: عبيد الله. (2) تاريخ بغداد 3: 412، والأغاني 20: 205. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 188 إذا ما كنت للحدثان عوناً ... علي مع الزمان فمن ألوم شقيت به فما أنا عنه سالٍ ... ولا هو إذ شقيت به رحيم وهو القائل: يا بعيد الدار موصو ... لاً بقلبي ولساني ربما باعدك الده ... ر فأدنتك الأماني وله أشعار كثيرة جيدة، وكان يؤدب المأمون مع أبيه، وثقل سمعه في آخر عمره [انقطع، فاستحضره المأمون فقال: لم أرك منذ أيام فقال: وجدت في سمعي ثقلاً وأنا أكره أن أتعبك استفهاماً إذا سمعت عن غير فهم، فقال: أنت الآن أطيب ما تكون، فما شئت أن نسمعك أسمعناك، وما احتشمناك فيه أسررناه عنك، فأنت غائب شاهد] (1) وكان قد خرج مع المأمون إلى خراسان وأقام بخدمته في مدينة مرو، ثم بقي إلى أيام المعتصم وخرج معه إلى مصر فتوفي بها، رحمه الله تعالى. واما والده أبو محمد المذكور فإنه توفي سنة اثنتين ومائتين، رحمه الله تعالى، بخراسان، والظاهر أنه كان بمرو فإنه كان خرج في صحبة المأمون في بغداد، وكانت إقامة المأمون بمرو، ثم وجدت في " طبقات القراء " لأبي عمرو الداني أنه توفي في التاريخ المذكور بمرو، ثم قال بعد ذلك، وقال ابن المنادي: وقيل إنه لما بلغ من السن دون المائة بأعوام يسيرة، ومات بالبصرة ودفن بها، والأول أصح، والله أعلم. وقد تقم في حرف الميم ذكر حفيده أبي عبد الله محمد بن العباس بن أبي محمد اليزيدي المذكور، وشرح طرف من أخباره وفضله وتاريخ وفاته (2) . والعدوي: بفتح العين والدال المهملتين والواو، هذه النسبة إلى عدي بن عبد مناة بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، وهي قبيلة كبيرة مشهورة، ولم يكن أبو محمد المذكور منهم، وإنما كان من   (1) انفردت به ر. (2) ج 4: 337. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 189 مواليهم، كان جده المغيرة مولى لامرأة من بني عدي فنسب إليهم. وقد سبق في أول هذه الترجمة ذكر سبب نسبته إلى يزيد فأغنى عن الإعادة. وفي ذريته جماعة كثيرة أفاضل مشاهير أصحاب تصانيف. وأشعاره رائقة مشهورة، ولولا خوف الإطالة لذكرت شيئاً منها. (317) واليزيديون يفتخرون بالكتاب الذي وضعه إبراهيم بن أبي محمد المذكور في اللغة وسماه كتاب " ما اتفق لفظه وافترق معناه " جمع فيه كل الألفاظ المشتركة في الاسم المختلفة في المسمى، ورأيته في أربع مجلدات، وهو من الكتب النفيسة، يدل على غزارة علم مؤلفه وسعة اطلاعه، وله غير كذلك تواليف حسنة نافعة، وكذلك بقية اليزيديين صنفوا كتباً مشهورة مشكورة (1) . (318) وكان يزيد الحميري خال المهدي مقدماً في دولة بني العباس، ولي للمنصور البصرة واليمن، ومات في سنة خمس وستين ومائة بالبصرة، وفيه قال بشار بن برد - المقدم ذكره (2) -: أبا خالد قد كنت سباح غمرةٍ ... صغيراً فلما شبت خيمت بالشاطي وكنت جواداً سابقاً ثم لم تزل ... تأخر حتى جئت تخطو مع الخاطي فأنت بما تزداد من طول رفعةٍ ... وتنقص من مجدٍ كذاك بإفراط كسنور عبد الله بيع بدرهمٍ ... صغيراً، فلما شب بيع بقيراط قلت: لقد كشفت عن سنور عبد الله المظان، وسألت أهل المعرفة بهذا الشأن، فما عرفت الخبر عن ذلك، ولا عثرت له على أثر، والله أعلم، ثم ظفرت بقول الفرزدق، وهو: رأيت الناس يزدادون يوماً ... ويوماً في الجميل وأنت تنقص   (1) إلى هنا تنتهي الترجمة في س. (2) أنظر شعر بشار، جمع العلوي: 149؛ وقال الجاحظ وروى البيت الأخير مع بيت قبله مختلف في روايته (الحيوان 7: 315 - 316) ، وقد يضاف هذا الشعر إلى بشار وهو باطل؛ وقد حمل الجاحظ بشدة على هذه الأبيات وزعم أن صاحبها لو غبر مع الشعراء المشهورين ألف سنة لما قال بيتاً مرضياً، والشعر عنده منسوب لمن اسمه " العمي "، وانظر ثمار القلوب: 411. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 190 كمثل الهر في صغرٍ يغالى ... به حتى إذا ما شب يرخص ومن هاهنا أخذ بشار بقوله، وليس المراد هراً بعينه، بل كل هر تكون قيمته في صغره، وينقص منها في كبره، والله أعلم. 800 - (1) الخطيب التبريزي اللغوي أبو زكريا يحيى بن علي بن محمد بن الحسن بن بسطام الشيباني التبريزي المعروف بالخطيب؛ أحد أئمة اللغة، كانت له معرفة تامة بالأدب من النحو واللغة وغيرهما، قرأ على الشيخ أبي العلاء المعري وأبي القاسم عبيد الله بن علي الرقي وأبي محمد الدهان اللغوي وغيرهم من أهل الدب. وسمع الحديث بمدينة صور من الفقيه أبي الفتح سليم بن أيوب الرازي ومن أبي القاسم عبد الكريم بن محمد بن عبد الله بن يوسف الدلال السياري (2) البغدادي وأبي القاسم عبيد الله بن ثابت علي (3) ، وغيرهم. وروى عنه الخطيب الحافظ أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت صاحب " تاريخ بغداد "، والحافظ أبو الفضل محمد بن ناصر وأبو منصور موهوب بن أحمد الجواليقي وأبو الحسن سعد الخير بن محمد بن سهل الأندلسي، وغيرهم من الأعيان، وتخرج عليه خلق كثير وتتلمذوا له. وذكره الحافظ أبو سعد السمعاني في كتاب " الذيل "، وكتاب " الأنساب " (4) ،   (1) ترجمته في المنتظم 9: 161 ومعجم الأدباء 20: 25 ودمية القصر: 68 ومرآة الجنان 3: 172 ونزهة الألباء: 254 وعبر الذهبي 4: 5 والشذرات 4: 5 وبغية الوعاة: 413 والبدر السافر، الورقة: 230. (2) بر ر: السادي؛ س: السباري، ص ن ق: الساري. (3) زاد في ص ن ر: بن عبيد الرقي؛ س ق: بن عبيد الله الرقي. (4) الأنساب 3: 16. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 191 وعدد فضائله، ثم قال: سمعت أبا منصور محمد بن عبد الملك بن الحسن بن خيرون المقرئ يقول: أبو زكريا يحيى بن علي التبريزي ما كان بمرضي الطريقة، وذكر عنه أشياء ثم قال: وذاكرت أنا مع أبي الفضل محمد بن ناصر الحافظ بما ذكره ابن خيرون، فسكت وكأنه ما أنكر ما قال، ثم قال: ولكن كان ثقة في اللغة وما كان ينقله. وصنف في الأدب كتباً مفيدة، منها " شرح الحماسة " وكتاب " شرح ديوان المتنبي "، وكتاب " شرح سقط الزند " وهو ديوان أبي العلاء المعري (1) ، و " شرح المعلقات السبع " و " شرح المفضليات " وله " تهذيب غريب الحديث " و " تهذيب إصلاح المنطق "، وله في النحو مقدمة حسنة، والمقصود منها أسرار الصنعة وهي عزيزة الوجود، وله كتاب " الكافي في علم العروض والقوافي " وكتاب في إعراب القرآن سماه " الملخص " رأيته في أربع مجلدات، وشروحه لكتاب الحماسة ثلاثة: أكبر وأوسط وأصغر، وله غير ذلك من التواليف، وقد سبق في ترجمة الخطيب أب بكر أحمد بن علي بن ثابت الحافظ ذكره وما دار بينهما عند قراءته عليه بدمشق، فلينظر هناك (2) ودرس الأدب بالمدرسة النظامية ببغداد (3) . وكان سبب توجهه إلى أبي العلاء المعري أنه حصلت له نسخة من كتاب " التهذيب " في اللغة، تأليف أبي منصور الأزهري في عدة مجلدات لطاف، وأراد تحقيق ما فيها وأخذها عن رجل عالم باللغة، فدل على المعري، فجعل الكتاب في مخلاة وحملها على كتفه من تبريز إلى المعرة، ولم يكن له ما يستأجر به مركوباً، فنفذ العرق من ظهره إليها فأثر فيها البلل، وهي ببعض الوقوف ببغداد، وإذ رآها من لا يعرف صورة الحال فيها ظن أنها غريقة، وليس بها سوى عرق الخطيب المذكور، هكذا وجدت هذه الحكاية مسطورة في كتاب   (1) زاد في ر: وشرح اللمع لابن جني وشرح المقصورة لابن دريد. (2) انظر ج 1: 92 - 93 ولم يرد في تلك الترجمة شيء مما يشير إليه المؤلف، وقد عدت إلى المسودة فلم أجد للتبريزي فيها ذكراص في ترجمة الخطيب. (3) ودرس ... ببغداد: سقط من: ص ن ق ع. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 192 " أخبار النحاة " الذي ألفه القاضي الأكرم ابن القفطي الوزير بمدينة حلب، كان، رحمه الله تعالى، والله أعلم بصحة ذلك. وكان الخطيب المذكور قد دخل مصر في عنفوانه شبابه، فقرأ عليه بها الشيخ أبو الحسن طاهر بن بابشاذ النحوي - المقدم ذكره (1) - شيئاً من اللغة، ثم عاد إلى بغداد واستوطنها إلى الممات، وكان يروي عن أبي الحسن محمد بن المظفر بن نحرير (2) البغدادي جملة من شعره، فمن ذلك قوله على ما حكاه السمعاني في كتاب " الذيل " في ترجمة الخطيب، وهي من أشهر أشعاره: خليلي ما أحلى صبوحي بدجلةٍ ... وأطيب منه بالصراة (3) غبوقي شربت على الماءين من ماء كرمةٍ ... فكانا كدر ذائب وعقيق على قمري أفقٍ وأرض تقابلا ... فمن شائق حلو الهوى ومشوق فما زلت أسقيه وأشرب ريقه ... وما زال يسقيني ويشرب ريقي وقلت لبدر التم: تعرف ذا الفتى ... فقال: نعم، هذا أخي وشقيقي وهذه الأبيات من أملح الشعر وأطرفه، والبيت الأخير منها يستمد (4) من معنى قول أبي بكر محمد بن عيسى الداني المعروف بابن اللبانة الأندلسي في مدح المعتمد بن عباد صاحب إشبيلية - المقدم ذكره (5) - من جملة قصيدة طويلة: سألت أخاه البحر عنه فقال لي: ... شقيقي إلا أنه الساكن العذب ما كفاه أنه جعله شقيق البحر حتى رجحه عليه، فقال " الساكن العذب " والبحر مضطرب ملح (6) ، وهذا من خالص المدح وأبدعه، وأول هذه القصيدة:   (1) انظر ج 2: 515. (2) بر: محيريز. (3) بر: في الصباح. (4) بر من: مستمد. (5) انظر ج 5: 39. (6) كذا في ن والمختار، وفي سائر النسخ: مالح. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 193 بكت عند توديعي فما علم الركب ... أذاك سقيط الطل أم لؤلؤ رطب وتابعها سرب، وإني لمخطئ ... نجوم الدياجي لا يقال لها سرب وهي قصيدة طويلة ولولا خوف الإطالة والخروج عما نحن بصدده لذكرتها كلها، ولكن يكفي منها هذا الأنموذج. وكان الخطيب أيضاً يروي عن ابن نحرير المذكور من شعره قوله: يا نساء الحي من مضر ... إن سلمى ضرة القمر إن سلمى لا فجعت بها ... أسلمت طرفي إلى السهر فهي إن صدت وإن وصلت ... مهجتي منها على خطر وبياض الشعر أسكنها ... من سواد القلب والبصر وللخطيب المذكور شعر فمن ذلك قوله (1) : فمن يسأم من الأسفار يوماً ... فإني قد سئمت من المقام أقمنا بالعراق على رجالٍ ... لئامٍ ينتمون إلى لئام وقال الخطيب المذكور: كتب إلي العميد الفياض: قل ليحيى بن عليٍ ... والأقاويل فنون غير أني لست من يك ... ذب فيها ويخون أنت عين الفضل إن م ... د إلى الفضل عيون أنت من عز به الفض ... ل وقد كاد يهون فقت من كان واتعب ... ت لعمري من يكون قد مضى فيك قران ... ومضت فيه (2) قرون وإذا قيس بك الك ... ل فصحو ودجون   (1) ص: ومن شعر الخطيب المذكور قوله. (2) ق ع: ومضت فيك. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 194 وإذا فتش عنهم ... فالأحاديث شجون قد سمعنا ورأينا ... فسهول وحزون ووزنا بك من كا ... ن فقيل وقيون أين شيبان وأزد ... كل ما زال (1) ظنون إنك الأصل ومن دو ... نك في العلم غصون إنك البحر وأعيا ... ن ذوي الفضل عيون ليس كالسيف وإن حل ... ي في الحكم الجفون ليس كالفذ (2) المعلى ... ليس كالبيت الحجون ليس كالجد وإن آ ... نس هزل ومجون ليس في الحسن سواءً ... أبداً بيض وجون ليس كالأبكار في اللط ... ف وإن راقتك عون قلت للحساد كونوا ... كيف شئتم أن تكونوا سبق الزائد بالفض ... ل (3) فعزوا أو فهونوا دمت ما خالف في الح ... د حراك وسكون وتلقاك المنى ما ... قر بالطير الوكون إن ودي لك عما ... يصم الود مصون ليس لي فيه ظهور ... تتنافى أو بطون (4) بل لقلبي فيك صب ... بالمصافاة يكون غلق الرهن وقد تغل ... ق في الحب رهون ومن الناس أمين ... في هواه وخؤون   (1) في النسخ: ذاك. (2) في بعض النسخ: كالقدح. (3) ق ع س بر من: بالخصل. (4) ق ع س: وبطون. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 195 وقال ابن الجواليقي: قال لنا شيخنا الخطيب أبو زكريا: فكتبت أنا إلى العميد الفياض المذكور هذه الأبيات (1) : قل للعميد أخي العلا الفياض ... أنا قطرة من يحرك الفياض شرفتني ورفعت ذكرى بالذي ... ألبستنيه من الثنا الفضفاض ألبستني حلل القريض تفضلاً ... فرفلت منها في علا ورياض إني أتيتك بالحصى عن لؤلؤ ... أبرزته من خاطر مرتاض وبخاطري عن مثل ذاك توقف ... ما إن يكاد يجود بالأبعاض أيعارض البحر الغطامط جدول ... أو درة تنقاس (2) بالرضراض يا فارس النظم المرصع جوهراً ... والنثر يكشف غنة الأمراض يرمي به الغرض البعيد وقد غدا ... فكري يقصر عن مدى الأغراض لا تلزمني من ثنائك موجباً ... حقاً فلست لحقه بالقاضي فلقد عجزت عن القريض وربما ... أعرضت عنه أيما إعراض أنعم علي ببسط عذري إنني ... أقررت عند نداك بالإنفاض (3) وكانت ولادته سنة إحدى وعشرين وأربعمائة، وتوفي فجأة يوم الثلاثاء لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة سنة اثنتين وخمسمائة ببغداد، ودفن في مقبرة باب أبرز، رحمه الله تعالى. وبسطام: بكسر الباء الموحدة وسكون السين المهملة وفتح الطاء المهملة وبعد الألف ميم. وقد تقدم الكلام على الشيباني (4) والتبريزي فأغنى عن الإعادة.   (1) هذه الأبيات: سقطت من ق ن ص ع ر؛ ووقع موضعها في ر: أقول، وفي ن: في رد جواب له. (2) ن: دره ينقاسن. (3) الإنقاض: الإعدام والإفلاس. (4) الشيباني: سقطت من ق ع. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 196 (1) 801 الزواوي أبو الحسين يحيى بن عبد المعطي بن عبد النور الوزواوي، الملقب زين الدين، النحوي الحنفي؛ كان أحد أئمة عصره في النحو واللغة، وسكن دمشق زماناً طويلاً، واشتغل عليه خلق كثير وانتفعوا به، وصنف تصانيف مفيدة [منها الألفية في النحو ومنها " الفصول " وفي النحو أيضاً] (2) ثم إن الملك الكامل أرغبه في الانتقال إلى مصر فسافر إليها، وتصدر بالجامع العتيق بمصر لإقراء الأدب، وقرر له على ذلك جارٍ. ولم يزل إلى أن توفي سلخ ذي القعدة سنة ثمان وعشرين وستمائة (3) ، بالقاهرة، ودفن من الغد على شفير الخندق بقرب تربة الإمام الشافعي رضي الله عنه، وقبره هناك ظاهر، ومولده سنة أربع وستين وخمسمائة، رحمه الله تعالى. والزواوي: بفتح الزاي وبين الواوين ألف، هذه النسبة إلى زواوة، وهي قبيلة كبيرة بظاهر بجاية من أعمال إفريقية ذات بطون وأفخاذ، والله أعلم.   (1) ترجمته في معجم الأدباء 20: 35 والجواهر المضية 2: 214 ومرآة الجنان 4: 66 والبداية والنهاية 3: 129 وذيل الروضتين: 160 وعقود الجمان لابن الشعار 10، الورقة 86 وعبر الذهبي 5: 112 والشذرات 5: 129 وبغية الوعاة: 416. (2) زيادة من المختار. (3) ابن الشعار: سنة 629. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 197 802 - (1) يحيى بن المنجم النديم أبو أحمد يحيى بن علي بن أبي منصور، المعروف بالمنجم واسمه أبان حسيس بن وريد (2) بن كاد (3) بن مهابنداد (4) حسيس بن فروخ داد بن أساد (5) بن مهرحسيس بن يزدجرد؛ وكان في أول أمره نديم الموفق أبي أحمد طلحة ابن المتوكل على الله، والموفق المذكور هو والد المعتضد بالله، ولم يل الموفق الخلافة بل كان نائباً عن أخيه المعتمد على الله، ولم يزل في محاربة القرامطة، وأمره في ذلك مشهور وقصته طويلة وليس هذا موضع ذكرها. ثم إن يحيى المذكور نادم الخلفاء بعد الموفق واختص بمنادمة المكتفي بالله ابن المعتضد، وعلت رتبته على خواصه وجلسائه، وكان متكلماً معتزلي الاعتقاد وله في ذلك كتب كثيرة، وكان له مجلس يحضره جماعة من المتكلمين بحضرة المكتفي، وصنف كتباً كثيرة، فمن ذلك كتاب " الباهر " في أخبار شعراء مخضرمي الدولتين، ابتدأ فيه ببشار بن برد، وآخر من أثبت فيه مروان بن أبي حفصة، ولم يتمه، وتممه ولده أبو الحسن أحمد بن يحيى، وعزم على أن يضيف إلى كتاب أبيه سائر الشعراء المحدثين فذكر منهم أبا دلامة ووالبة بن الحباب ويحيى بن زياد ومطيع بن إياس وأبا علي البصير. (318) وكان أبو الحسن أحمد المذكور متكلماً فقيهاً على مذهب أبي جعفر   (1) ترجمته في معجم المرزباني: 493 (وانظر أيضاً 423، 424، 500) والفهرست: 143 ومعجم الأدباء 20: 28 وتاريخ بغداد 14: 230 ونزهة الألباء: 162 ومرآة الجنان 2: 237. (2) ص: دريد؛ بر: رويد. (3) ن: مكاد. (4) ر: مهاجنده؛ بر: مها خسيس. (5) س ق ن: استاد؛ ع: استداد. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 198 الطبري، وله كتب صنفها منها كتب أخبار أهله ونسبهم في الفرس، وكتاب " الإجماع في الفقه " على مذهب أبي جعفر الطبري، وكتاب " المدخل إلى مذهب الطبري ونصرة مذهبه " وكتاب " الأوقات " وغير ذلك. وليحيى المذكور مع المعتضد وقائع ونوادر، فمن ذلك ما حكاه أبو الحسن علي بن الحسين بن علي المسعودي في كتاب " مروج الذهب " (1) عن يحيى المذكور أنه قال: كنت يوماً بين يدي المعتضد وهو مغضب، فأقبل بدر مولاه، وكان شديد الغرام به، فلما رآه من بعيد ضحك وقال: يا يحيى، من الذي يقول من الشعراء: في وجهه شافع يمحو إساءته ... من القلوب وجيه حيثما شفعا فقلت: يقوله الحكم بن عمرو الشاري، فقال: لله دره! أنشدني هذا الشعر، فأنشدته: ويلي على من أطار النوم فامتنعا ... وزاد قلبي على أوجاعه وجعا كأنما الشمس من أعطافه لمعت ... حسناً أو البدر من أزراره طلعا مستقبل بالذي يهوى وإن كثرت ... منه الذنوب ومعذور بما صنعا (2) في وجهه شافع يمحو إساءته ... من القلوب وجيه حيثما شفعا وذكر أبو الفتح كشاجم الشاعر المشهور في كتابه الذي سماه " المصايد والمطارد " (3) في الفصل الذي يذكر فيه صيد الأسد بالنشاب، ما مثاله: حدث أبو أحمد يحيى بن علي بن يحيى المنجم النديم نديم المكتفي بالله قال: وجد علي أمير المؤمنين المكتفي بالله منصرفه (4) من الرقة لركوبي الماء منها إلى المرحلة الأولى قبل أن يركبه هو، وذلك أن أبا العباس أحمد بن عبد الصمد حملني على ذلك،   (1) انظر المروج 4: 279. (2) ق ع: متى طمعاً؛ س بر من: متى صنعاً. (3) المصايد: 174. (4) ر: منصرفنا؛ ع: عند منصرفه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 199 وسألني أن أكون معه في سفينة، ففعلت، ولم أظن أن المكتفي ينكر ذلك، ولا يحتمل تأخيري عنه وإخلالي به، فلما صرنا إلى الدالية أمر بأن أرد منها إلى قرقيسيا وأقيم بها حتى أصيد سبعاً وأحدره إليه، فردني ورد معي عدة من المغنين (1) كانوا قد ركبوا الماء، فكتب إليه بأبيات فلم تعطفه، فرجعت إلى الرحبة، وأقمت عند أبي محمد عبد الله بن الحسين بن سعد القطربلي في قصف وشرب وصبوح وغبوق، وهو على (2) غاية السرور بمقامي عنده، وكان معنا أبو جعفر محمد بن سليمان بن محمد بن عبد الملك الزيات، فكتبت من الرحبة كتاباً إلى الوزير أبي الحسين القاسم بن عبيد الله، وأنفذت فيه شعراً أسأله أن يقرأه على المكتفي، وهو: نفس الدهر أن نسر وأن يس ... عدنا، بالأحبة الاجتماع فرماني وإخوةً لي بسهم ... نفر (3) النفس فهي منه شعاع فرددنا إلى وراءٍ ومر ال ... ناس قدماً فاشتدت الأوجاع لو سمعنا بمثل ما نالنا أف ... زعنا منه في سوانا السماع كلفونا صيد السباع وإنا ... لبخيرٍ إن لم تصدنا السباع إن عصينا فواجب، أي قومٍ ... كلفوا فوق طوقهم (4) فأطاعوا كل شيء يجوز تكليفه الإن ... سان إلا ما كان لا يستطاع لم تزل تمزح الملوك ولكن ... مع ذاك المزاح جود وساع وتوانى الوزير عنا فضعنا ... في سبيل الإله حق مضاع قد مددنا الأيدي إليه وأضحت ... عائذاتٍ بفضله الأطماع شافع لا يخاف رداً إذا ما ... رد عما تريده الشفاع عبثات الملوك ينبعها الأن ... س وأثمارها عطايا تباع   (1) ص: المعنيين، س: المغنيين. (2) ر ص: في. (3) س: نقز. (4) ر: جهدهم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 200 أولنا يا ولي دولته خي ... راً لديه فالخير النفاع وأنفذ الكتاب مع محمد بن سليمان الخرائطي في الخرائط، فلم يضعه (1) القاسم من يده حتى دخل على المكتفي، فقرأه عليه وأنشده الأبيات، فاستحسنها وقال: يكتب الساعة بتخلية سبيله وحمله إلينا، فلم يكن أسرع من أن وافاني الرسول، فوافيت وأنشدت المكتفي ببغداد: عاد ليلي القصير في كرخ بغدا ... د بقرقيسيا علي طويلا أجميلاً أن تتركوني وتمضو ... ن رهيناً بها غريباً ذليلاً مفرداً بالعقاب مشترك الذن ... ب فصبراً حسبي بربي وكيلا (2) إن قضى الله لي رجوعاً إلى بغ ... داد لا هالكاً بغمي قتيلا وأراني الخليفة المكتفي بالله ... وابن الخلائف المأمولا كالذي قد عهدت لا معرضاً عن ... ي ولا واجداً ولا مستحيلا كل شيء أسامه هين عن ... دي إذا الرأي منه كان جميلا فاستحسنها ورق لشكواي بها حتى تبينت ذلك في وجهه وكلامه. وأخبار يحيى ومحاسنه كثيرة. وكانت ولادته سنة إحدى وأربعين ومائتين؛ وتوفي ليلة الاثنين لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول سنة ثلثمائة رحمه الله تعالى. وقد تقدم ذكر والده علي وأخيه هارون وابن أخيه علي، ولم أرفع في نسبهم إلا في هذه الترجمة لأني لم أظفر بالنسب على هذه الصورة إلا لما وصلت إلى هذا الموضع فنقلته كما وجدته من كتاب " الفهرست " لأبي الفرج محمد بن إسحاق النديم، ولم أضبط شيئاً من أسماء أجداده، لأني لم أتحقق فيها شيئاً فنقلتها كما وجدتها.   (1) ص: يدعه. (2) ر: كفيلا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 201 803 - (1) أبو بكر ابن بقي الشاعر أبو بكر يحيى بن محمد بن عبد الرحمن بن بقي الأندلسي القرطبي الشاعر المشهور صاحب الموشحات البديعة؛ قال الفتح بن محمد بن عبيد الله القيسي في كتاب " مطمح الأنفس " (2) في حق أبي بكر المذكور: أنه كان نبيل النثر والنظام، كثير الارتباط في سلكه والانتظام، وأحرز خصالاً، وطرز محاسنه بكراً وآصالاً، وجرى في ميدان الإحسان إلى أبعد أمد، وبنى من المعارف على أثبت عمد، إلا أن الأيام حرمته، وقطعت حبل رعايته وصرمته، ولم تتم له وطراً، ولم تسجم عليه من الحظوة مطراً، ولا نولته (3) من الحرمة (4) نصيباً، ولا أنزلته مرعى خصيباً، فصار راكب صهوات، وقاطع فلوات، لا يستقر يوماً ولا يستحسن قوماً (5) ، مع توهم لا يظفره بأمان، وتقلب ذهن كواهي الجمان، إلا أن يحيى بن علي بن القاسم (6) نزعه عن ذلك الطيش، وأقطعه جانباً من العيش، وأرقاه إلى سمائه، وسقاه صوب نعمائه، وفيأه ظلاله، وبوأه أثر النعمة يجوس خلاله، فصرف فيه أقواله، وشرف بقوافيه نواله، وأفرده منها بأنفس در، وقلد لبته منها بقصائد غر. وذكر الفتح بن مدح بن عبيد الله القيسي المذكور في حقه أيضاً في كتاب   (1) ترجمته في الذخيرة (القسم الثاني) 244 والقلائد: 279 ومعجم الأدباء 19: 21 والتكملة، رقم: 2042 ومسالك الأبصار 11، الورقة: 280 والمغرب 2: 19 وأزهار الرياض 2: 208 وصفحات متفرقة من نفح الطيب، وله موشحات في دار الطراز وجيش التوشيح. (2) لم ترد ترجمته في المطمح المطبوع؛ والمعروف أن المطمح منه كبير وأوسط وصغير. (3) ق ن س ص ع بر من: سولته. (4) ص ر: الحرفة. (5) ر: نوما. (6) هو نت بني عشرة زعماء مدينة سلا في عصر المرابطين. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 202 " قلائد العقيان ": هو رافع راية القريض، وصاحب آية التصريح فيه والتعريض، أقام شرائعه، وأظهر روائعه، وصار عصيه طائعاً، إذا نظم أزرى بنظم العقود، وأتى بأحسن من رقم البرود، ضفا عليه حرمانه، وما صفا له زمانه، انتهى كلام الفتح. وقد أثبت لأبي بكر المذكور هذا المقطوع من الشعر، ولم أر الفتح ذكره في واحد من كتابيه المذكورين مع أنه من أحسن شعره وأشهره، وهو: بأبي غزال غازلته مقلتي ... بين العذيب وبين شطي بارق وسألت منه زيارة تشفي الجوى ... فأجابني منها بوعد صادق بتنا ونحن من الدجى في خيمةٍ (1) ... ومن النجوم الزهر تحت سرادق عاطيته والليل يسحب ذيله ... صهباء كالمسك الفتيق لناشق وضممته ضم الكمي لسيفه ... وذؤابتاه حمائل في عاتقي حتى إذا مالت به سنة الكرى ... زحزحته عني وكان معانقي أبعدته عن أضلع تشتاقه ... كي لا ينام على وساد خافق لما رأيت الليل آخر عمره ... قد شاب في لمم له ومفارق ودعت من أهوى وقلت تأسفاً ... أعزز علي بأن أراك مفارقي وقد ذكر بعض هذه الأبيات الحافظ أبو الخطاب ابن دحية في كتابه الذي سماه " المطرب من أشعار أهل المغرب " (2) . ومن شعره قصيدة يمدح بها يحيى بن علي بن القاسم المذكور في هذه الترجمة، وهي طويلة، ومن مديحها قوله: نوران ليسا يحجبان عن الورى ... كرم الطباع ولا جمال المنظر وكلاهما جمعا ليحيى فليدع ... كتمان نور علائه المتشهر   (1) س بر: لجة. (2) المطرب: 198. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 203 في كل أفق من جميل ثنائه ... عرف يزيد على دخان المجمر رد في شمائله ورد في جوده ... بين الحديقة والغمام الممطر ندب عليه من الوقار سكينة ... فيها حفيظة كل ليثٍ مخدر مثل الحسام إذا انطوى في غمده ... ألقى المهابة في نفوس الحضر أربى على الغيث الملث لأنه ... أعطى كما أعطى ولم يستعبر أزرى على البحر الخضم لأنه ... في كل كف منه خمسة أبحر أقبلت مرتاداً لجودك إنه ... صوب الغمامة بل زلال الكوثر ورأيت وجه النجح عندك أبيضاً ... فركبت نحوك كل لج أخضر يجري إليك بنا سفين أتلع ... مثل البعير مخزم في المنخر وبنات أعوج قد برمن بصحبتي ... مما قطعن من اليباب المقفر (1) وأورد له صاحب " قلائد العقيان " مقطوعاً وهو (2) : يا أقتل الناس ألحاظاً وأطيبهم ... ريقاً متى كان فيك الصاب والعسل في صحن خدك وهو الشمس طالعة ... ورد يزيدك فيه الراح والخجل إيمان حبك في قلبي يجدده ... من خدك الكتب أو من لحظك الرسل (3) إن كنت تجهل أني عبد مملكةٍ ... مرني بما شئت آتيه وامتثل لو اطلعت على قلبي وجدت فيه ... من فعل عينيك جرحاً ليس يندمل وذكره العماد الكاتب في " الخريدة " وأورد له عدة مقاطيع، ثم أعاد ذكره في آخر الكتاب وأورد له: ومشمولةٍ في الكأس تحسب أنها ... سماء عقيقٍ رصعت بالكواكب   (1) المختار: الأقفر. (2) القلائد: 281. (3) المختار: الأسل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 204 بنت كعبة اللذات في حرم الصبا ... فحج إليها اللهو (1) من كل جانب (2) محاسنه في الشعر كثيرة. وتوفي سنة أربعين وخمسمائة، رحمه الله تعالى. وبقي: بفتح الباء الموحدة وكسر القاف وتشديد الياء. 804 - (3) الخطيب الحصكفي أبو الفضل يحيى بن سلامة بن الحسين بن محمد، الملقب معين الدين، المعروف بالخطيب الحصكفي؛ صاحب الديوان الشعر والخطب والرسائل، ولد بطنزة ونشأ بحصن كيفا، وقدم بغداد فاشتغل بالأدب على الخطيب أبي زكريا التبريزي - المقدم ذكره - وأتقنه حتى مهر فيه، وقرأ الفقه على مذهب الإمام الشافعي، رضي الله عنه، وأجاد فيه، ثم رحل عن بغداد راجعاً إلى بلاده ونزل ميافارقين واستوطنها (4) ، وتولى بها الخطابة، وكان إليه أمر الفتوى بها، واشتغل عليه الناس وانتفعوا بصحبته. وذكره العماد الأصبهاني في كتاب " الخريدة " فقال في حقه (5) : " كان علامة الزمان في علمه، ومعري العصر في نثره ونظمه، له الترصيع البديع والتجنيس النفيس، والتطبيق والتحقيق، واللفظ الجزل الرقيق، والمعنى السهل   (1) ق: الناس. (2) ثم أعاد ... جانب: سقط من: س بر من. (3) ترجمته في المنتظم 10: 183 واللباب (الحصكفي، الطنزي) والبدر السافر، الورقة 222 ومعجم الأدباء 20: 18 والخريدة (قسم الشام) 2: 471 وطبقات السبكي 4: 322 والشذرات 4: 169 والنجوم الزاهرة 5: 328. (4) المختار: واستوطن ميافارقين. (5) الخريدة 2: 472. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 205 العميق، والتقسيم المستقيم، والفضل السائر المقيم ". ثم قال العماد بعد كثرة الثناء عليه وتعداد محاسنه: " وكنت أحب لقاءه، وأحدث نفسي عند وصولي إلى الموصل به، وأنا شغف بالاستفادة، كلف بمجالسة الفضلاء للاستزادة، فعاق دون لقائه بعد الشقة، وضعفي عن تحمل المشقة " ثم ذكر له عدة مقاطيع، فمن ذلك قوله: وخليعٍ بت أعذله ... ويرى عذلي من العبث قلت: إن الخمر مخبئة ... قال: حاشاها من الخبث قلت: فالأرفاث تتبعها ... قال: طيب العيش في الرفث قلت: منها القيء، قال: أجل ... شرفت عن مخرج الحدث وسأجفوها، فقلت: متى ... قال: عند الكون في الجدث قلت أنا: ولقد أخذ الخطيب المذكور قوله: شرفت عن مخرج الحدث ... من قول بعضهم ولا أعرفه، لكنها أبيات سائرة، وهي: ولائم لامني في الخمر، قلت له ... إني سأشربها حياً وفي جدثي فأسقني (1) قهوةً حمراء صافيةً ... صرفاً حراماً فإنني غير مكترث فإن يكن حللوها بالطبيخ ففي ... حشاي نار تبقيها على الثلث قالوا: فلم تتقاياها فقلت لهم ... إني أنزهها عن مخرج الحدث ثم قال العماد الأصبهاني: وأنشدني له بعض الفضلاء ببغداد خمسة أبيات كالخمسة السيارات (2) مستحسنات مطبوعات مصنوعات، وهي: أشكو الله من نارين: واحدة ... في وجنتيه وأخرى منه في كبدي   (1) س بر من: قم فاسقني. (2) ق ص ع: السائرات؛ ر: السيارة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 206 ومن سقامين: سقم قد أحل دمي ... من الجفون وسقم حل في جسدي ومن نمومين: دمعي حين أذكره ... يذيع سرى، وواشٍ منه بالرصد ومن ضعيفين: صبري حين أذكره (1) ... ووده (2) ويراه الناس طوع يدي مهفهف رق حتى قلت من عجبٍ ... أخصره خنصري أم جلده جلدي ومن مليح شعره أبيات في هجو مغن وهي: ومسمع غناؤه ... يبدل بالفقر الغنى شهدته في عصبةٍ ... رضيتهم لي قرنا أبصرته فلم تخب ... فراستي لما دنا وقلت من ذا وجهه ... كيف يكون محسنا ورمت أن أروح لل ... ظن به ممتحنا فقلت من بينهم ... هات أخي غن لنا ويوم سلعٍ لم يكن ... يومي بسلعٍ هينا فانشال منه حاجب ... وحلجب منه انحنى وامتلأ المجلس من ... فيه نسيماً منتنا أوقع إذ وقع في الأن ... فس أسباب العنا وقال لما قال من ... يسمع في ظل الفنا وما اكتفى باللحن وال ... تخليط حتى لحنا هذا وكم تكشخن ال ... وغد وكم تقرنننا (3) يوهم زمراً (4) أنه ... قطعه ودندنا   (1) المختار: أبصره. (2) بر: ووصله. (3) المختار: تقودنا. (4) ن المختار: رمزاً. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 207 وصاح صوتاً نافراً ... يخرج عن حد البنا وما درى محضره ... ماذا على القوم جنى فذا يسد أنفه ... وذا يسد الأذنا ومنهم جماعة ... تستر عنه الأعينا فاغتظت حتى كدت من ... غيظٍ أبث الشجنا وقلت يا قوم اسمعوا ... إما المغني أو أنا أقسمت لا أجلس أو ... يخرج هذا من هنا جروا برجل الكلب إن السقم هذا والضنا ... قالوا لقد رحمتنا ... وذدت عنا المحنا فحزت في إخراجه ... راحة نفسي والثنا (1) وحين ولى شخصه ... قرأت فيهم معلنا الحمد لله الذي ... أذهب عنا الحزنا ولم أسمع، مع كثرة ما قيل في هذا الباب مثل هذا المقطوع في هذا المعنى. وللخطيب المذكور أيضاً في هذا المعنى (2) : ومسمعٍ قوله بالكره مسموع ... محجب عن بيوت الناس ممنوع غنى فبرق عينيه وحرك لح ... ييه فقلنا الفتى لا شك مصروع وقطع الشعر حتى ود أكثرنا ... أن اللسان الذي في فيه مقطوع لم يأت دعوة أقوامٍ بأمرهم ... ولا مضى قط إلا وهو مصفوع وقد سبق له في ترجمة الشيخ الشاطبي في حرف القاف مقطوع لغز في نعش وهو معنى مليح، وأكثر شعره على هذا الأسلوب في اللطافة وجودة المقاصد،   (1) بر: راحة قلبي والمنى. (2) زاد في ن: أربعة أبيات ملاح. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 208 وكان يتشيع (1) وهو في شعره ظاهر. وكان (2) بمدينة آمد شابان بينهما مودة أكيدة ومعاشر كثيرة، فركب أحدهما ظاهر البلد وطرد فرسه فتقنطر فمات، وقعد الآخر يستعمل الشراب، فشرق فمات في ذلك النهار، فعمل فيهما بعض الأدباء: تقاسما العيش صفواً والردى كدراً ... وما عهدنا المنايا قط تقتسم وحافظا الود حتى في حمامهما ... وقلما في المنايا تحفظ الذمم فلما وقف الخطيب المذكور على البيتين قال: هذا الشاعر قصر إذ لم يذكر سبب موتهما، وقد قلت فيهما: بنفسي أخيان من أمدٍ ... أصيبا بيوم مشوم عبوس دهى ذا كميت من الصافنات ... وهذا كميت من الخندريس قلت: ولو قال: دهى ذا كميت من الصافنات ... وهذا كميت من الصافيات لكان أحسن لأجل المجانسة، وكان يجعل البيت الأول: بنفسي أخيان من آمدٍ ... أصيبا بيوم شديد الأذاة أو ما يناسب هذا، ثم وجدت البيتين الأولين في كتاب " الجنان " تأليف القاضي الرشيد ابن الزبير - المقدم ذكره في حرف الهمزة (3) - وقد نسبهما إلى الفقيه أبي علي الحسن بن أحمد المعلم المعري، لكن هذا وجدت الحكاية بخط   (1) زاد في المطبوعة هنا: قلت: هذا من الزيادات التي أدخلها الكتاب الداخلون في عموم الحديث من مجوس هذه الأمة والله أعلم؛ ولم يرد في النسخ الخطية، وواضح أنه رد من أحد المعلقين على ما جاء في النص. (2) هذه القصة لم ترد في س بر من. (3) انظر ج 1: 160. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 209 بعض المتأدبين (1) ، والله أعلم. وللخطيب المذكور الخطب المليحة والرسائل المنتقاة. ولم يزل على رياسته وجلالته وإفادته إلى أن توفي سنة إحدى، وقيل ثلاث، وخمسين وخمسمائة. وكانت ولادته في حدود سنة ستين وأربعمائة، رحمه الله تعالى. والحصكفي: بفتح الحاء وسكون الصاد المهملة وفتح الكاف وفي آخرها فاء، هذه النسبة إلى حصن كيفا، وهي قلعة حصينة شاهقة بين جزيرة ابني عمر وميافارقين، وكان القياس أن ينسبوا إليه الحصني، وقد نسبوا إليه أيضاً كذلك، لكن إذا نسبوا إلى اسمين أضيف أحدهما إلى الآخر ركبوا من مجموع الاسمين اسماً واحداً ونسبوا إليه كما فعلوا هاهنا، وكذلك نسبوا إلى رأس عين " رسعني " وإلى عبد الله وعبد شمس وعبد الدار: عبدلي وعبشمي وعبدري، وكذلك كل ما هو نظيره. وأما طنزة: بفتح الطاء المهملة وسكون النون وفتح الزاي في آخرها هاء ساكنة، فهي بليدة صغيرة بديار بكر فوق الجزيرة العمرية، خرج منها جماعة من المحدثين وغيرهم، ونسبوا إليها (2) . (319) قال عماد الدين الأصبهاني الكاتب في كتاب " الخريدة " (3) : منها إبراهيم بن عبد الله إبراهيم الطنزي، وهو القائل: وإني لمشتاق إلى أرض طنزة ... وإن خانني بعد التفرق إخواني سقى الله أرضاً لو ظفرت بتربتها ... كحلت به من شدة الشوق أجفاني ثم قال عماد الدين المذكور بعد هذا: كان الشاعر حياً في شهر رمضان (4) سنة ثمان وستين وخمسمائة.   (1) ن ص: المقارنين؛ ع: الماربين. (2) هنا تنتهي الترجمة في س. (3) الخريدة (قسم الشام) 2: 469 وياقوت (طنزة) . (4) زاد في ن: المعظم قدره. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 210 805 - (1) يحيى بن تميم الصنهاجي أبو طاهر (2) يحيى بن تميم بن المعز بن باديس الحميري الصنهاجي صاحب إفريقية وما والاها - قد تقدم ذكر والده ورفعت نسبه هناك، وتقدم ذكر جماعة من أجداده في هذا الكتاب. وكانت ولاية الأمير يحيى المذكور بالمهدية خلافةً عن أبيه تميم يوم الجمعة لأربع بقين من شهر ذي الحجة سنة سبع وتسعين وأربعمائة والطالع الدرجة السابعة من الجدي، ثم استقل بالأمر يوم وفاة والده، وقد سبق ذلك في ترجمته. وكان عمر الأمير يحيى يوم الاستقلال ثلاثاً وأربعين سنة وستة أشهر وعشرين يوماً، وركب على العادة، وأهل دولته محتفون به، ورجع إلى قصره فغير لباس أهل الدولة من الخواص والجند بخلع سنية، وكانوا قد غيروا لباسهم لموت أبيه، ووهب للأجناد والعبيد أموالاً كثيرة، ووعدهم مواعد سارة. ورأيت في كتاب " الجمع والبيان في أخبار القيروان " الذي ألفه ولد أخيه عز الدين أبو محمد عبد العزيز بن شداد بن تميم بن المعز بن بادي، أن الأمير تميماً قبل وفاته بمدة يسيرة ودعا ولده يحيى المذكور، وكان في دار الإمارة مع خاصته وجلسائه، فمضى يحيى ومن معه إليه، فوجدوا تميماً في بيت المال، فأمرهم بالجلوس ثم قال لأحدهم: قم فادخل ذلك البيت وخذ منه الكتاب الذي صفته كذا في مكان كذا (3) ، فقام وأتى به، فإذا هو كتاب ملحمة، فقال له:   (1) أخباره في الكتب التاريخية مثل ابن الأثير وأعمال الأعلام (ج: 3) وابن أبي دينار وابن خلدون 6: 160 والبيان والمغرب 1: 304 ومرآة الجنان 3: 198 وفي المكتبة الصقلية تقول من هذه الكتب وغيرها تتصل بأخباره. (2) ع ر بر من: أبو زكريا؛ وفي أعمال الأعلام أن كنيته أبو علي. (3) زاد في ر: فأت به. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 211 عد من أوله كذا وكذا ورقة، واقرأ الصفحة التي تنتهي إليها، فقرأها (1) وإذا فيها " الملك المغدور، وهو الطويل القامة الذي على ورطه الأيمن خال وفي جنبه الأيسر شامة " فقال الأمير تميم: أطبق الكتاب واردده إلى موضعه، ففعل، ثم قال تميم: أما العلامتان فقد رأيتهما، وبقيت علي الثالثة، قم أنت يا شريف وأنت يا فلان حتى تحققا عندي خبر العلامة الثالثة، فقاموا وقام يحيى معهم إلى موضع مستور عن تميم، فكشف لهم عن جسمه، فرأوا شامة على جنبه الأيسر هلالية الشكل، فأتوا تميماً فعرفوه، فقال: لم أعطه أنا شيئاً، الله تعالى الذي أعطاه، ثم قال: إني أخبركم بحديث عجيب، وذلك أنه عرض علي النخاس والدته، فاستحسنتها ومالت نفس إليها فاشتريتها، وسلمتها إلى خدام القصر، وأمرت النخاس أن يرجع إلى قبض الثمن، ثم دبرت في مال طيب حلال أخرج ثمنها منه، فبينما أنا مفكر في ذلك إذ سمعت السائل (2) يصيح ويرفع صوته في الإذن على مطالعتي، فأخرجت رأسي من الطاق وقلت له: ما شأنك فقال: كنت الساعة أحفر في قصر المهدي إذ وجدت صندوقاً عليه قفل، فتركته على حاله وجئت مطالعاً بأمره، فأنفذت معه من أثق به، فإذا فيه أثواب مذهبات الأعلام قد أفناها الدهر، فأمرت بسبك أعلامها، فلم تزد ولم تنقص عن ثمن الجارية، فتعجب الحاضرون من ذلك ودعوا له، ثم أمر لهم بدنانير وكساء وانصرفوا. قال عبد العزيز المذكور: وقد أدركت هذا الكتاب المشار إليه عند السلطان الحسن، رحمه الله تعالى، يعني الحسن بن علي بن يحيى المذكور، وحكى عن الكتاب أموراً وقضايا ذكر أنها ستكون، وكانت كما ذكر. رجعنا إلى حديث يحيى: ولما جلس الملك قام بالأمر وعدل في الرعية وفتح قلاعاً لم يتمكن أبوه من فتحها، قال عبد العزيز المذكور في تاريخه: وفي أيامه - يعني يحيى (3) -   (1) فقرأها: سقطت من ن ق ع س. (2) ق ع س بر: البنامكي. (3) ق ع س بر من: يعني أيام يحيى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 212 وصل إلى المهدية محمد بن تومرت - المقدم ذكره (1) - قادماً من الحج، فنزل بمسجد قبلي مسجد السبت، فاجتمع إليه جماعة من أهل المهدية وقرأوا عليه كتباً في علم أصول الدين، وشرع في تغيير المنكر، فرفع أمره إلى يحيى فأحضره وجماعة من الفقهاء، فرأى ما هو عليه من الخشوع والتقشف والعلم، فسأله الدعاء فقال له: أصلحك الله لرعيتك، ونفع بها ذريتك، وأقام مدة يسيرة بالمهدية ثم انتقل إلى المنستير فأقام بها مدة، ثم انتقل إلى بجاية - وقد تقدم في ترجمة والده الأمير تميم أن محمد بن تومرت المذكور اجتاز بتلك البلاد في أيامه، والله تعالى أعلم أي ذلك كان. ثم قال عبد العزيز: وفي سنة سبع وخمسمائة أتى إلى المهدية قوم غرباء، فقصدوا يحيى بمطالعة زعموا فيها أنهم من أهل الصناعة الكبيرة من الواصلين إلى نهايتها، فأذن لهم بالدخول عليه، فلما مثلوا بين يديه طالبهم بأن يظهروا له من الصناعة ما يقف عليه فقالوا: نحن نزيل من القصدير التدخين والصرير حتى يرجع لا فرق بينه وبين الفضة، لمولانا من السروج والقصب والبنود والأواني قناطير من الفضة يجعل عوضاً منها ما يريده ويستعمل جميع ذلك في مهماته، وسألوه أن يكون ذلك في خلوة، فأجابهم وأحضرهم للعمل، ولم يكن عند الأمير يحيى سوى الشريف أبي الحسن علي والقائد إبراهيم قائد الأعنة، وكانوا هم ثلاثة، وكانت بينهم أمارة، فأمكنتهم الفرصة، فقال أحدهم: دارت البوتقة، فتواثبوا وقصد كل واحد منهم واحداً بسكاكينهم، فأما الذي قصد الأمير يحيى فقال: أنا سراج، وكان يحيى جالساً على مصطبة، فضربه فجاءت على أم رأسه، فقطعت طاقات في العمامة، ولم تؤثر في رأسه، واسترخت يده بالسكين على صدره فخدشته، وضربه يحيى برجله، فألقاه على ظهره، فسمع الخدم الجلبة ففتحوا باب القصر من عندهم، فدخل يحيى وأغلق الباب دونهم، وأما الشريف فلم يزل به الذي قصده حتى قتله، وأما القائد إبراهيم فإنه شهر سيفه، ولم يزل يقاتل الثلاثة، وكسر الجند الباب الذي كان بينهم، ودخلوا فقتلوهم، وكان زيهم زي أهل الأندلس، فقتل في البلد جماعة ممن   (1) انظر ج 5: 45. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 213 يلبس ذلك الزي، وخرج (1) الأمير يحيى في الحال ومشى في البلد وسكن الفتنة. وكان يحيى عادلاً في دولته ضابطاً لأمور رعيته عارفاً بخرجه ودخله، مدبراً في جميع ذلك على ما يوجبه النظر العقلي ويقتضيه الرأي الحكمي، ونعته في الملاحم " الملك المغدور " وتحقق له هذا النعت بهذه الواقعة التي ذكرناها. وكان كثير المطالعة لكتب الأخبار والسير عارفاً بها، رحيماً للضعفاء شفيقاً على الفقراء، يطعمهم في الشدائد فيرفق بهم، ويقرب أهل العلم والفضل من نفسه، وساس العرب في بلاده فهابوه وانكفت أطماعهم، وكان له نظر حسن في صناعة النجوم والأحكام، وكان حسن الوجه على حاجبه شامة، أشهل العينين مائلاً في قده إلى الطول دقيق الساقين، وكان عنده جماعة من الشعراء قصدوه ومدحوه، وخلدوا مديحه في دواوينهم، ومن جملة شعرائه أبو الصلت أمية بن عبد العزيز بن أبي الصلت الشاعر - المقدم ذكره - أقام تحت كنفه بعد أن جاب الأرض، وتقاذفت به البلدان، وله صنف الرسالة المشهورة التي وصف فيها مصر وعجائبها وشعراءها وغير ذلك (2) ، وله فيه مدائح كثيرة أجاد فيها وأحسن، وله أيضاً مدائح في ولده أبي الحسن علي وولد ولده الحسن بن علي، ومن جملة قوله من مديحه قصيدة: وارغب بنفسك إلا عن ندىً وغنىً ... فالمجد أجمع بين البأس والجود كدأب يحيى الذي أحيت مواهبه ... ميت الرجاء بإنجاز المواعيد معطي الصوارم والهيف النواعم وال ... جرد الصلادم والبزل الجلاعيد (3) أشم أشوس مضروب سرادقه ... على أشم بفرع النجم معقود إذا بدا بسرير الملك محتبياً ... رأيت يوسف في محراب داوود من أسرةٍ تخذوا الماذي لبسهم ... واستوطنوا صهوات الضمر القود محسدون على أن لا نظير لهم ... وهل رأيت عظيماً غير محسود   (1) ع: فخرج. (2) هي المسماة بالرسالة المصرية وقد نشرت بتحقيق الأستاذ عبد السلام هارون في نوادر المخطوطات رقم: 1. (3) الجلاعد - بضم الجيم - الجمل الشديد. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 214 وإن تكن جمعتكم أسرة كرمت ... فليس في كل عود نفحة العود أقول للراكب المزجي مطيته ... يطوي به الأرض من بيد إلى بيد لا تترك الماء عداً (1) في مشارعه ... وتطلب الري من صم الجلاميد هذي موارد يحيى غير ناضبة ... وذا الطريق إليها غير مسدود حكم سيوفك فيما أنت طالبه ... فللسيوف قضاء غير مردود وله فيه غير ذلك. ولما كان يوم الأربعاء (2) ، وهو عيد النحر سنة تسع وخمسمائة، توفي يحيى فجأة، وذلك أن منجمه قال يوماً له: إن تسيير مولدك في هذا النهار عليك عكساً فلا تركب، فامتنع عن الركوب، وخرج أولاده ورجال دولته إلى المصلى، فلما انقضت الصلاة حضر رجال الدولة على ما جرت به العادة للسلام، وقرأ القرآن وأنشد الشعراء، وانصرفوا إلى الإيوان فأكل الناس، وقام يحيى إلى مجلس الطعام، فلما وصل إلى باب المجلس أشار إلى جارية من حظاياه فاتكأ عليها، فما خطا من باب البيت سوى ثلاث خطوات حتى وقع ميتاً. وكان ولده علي نائبه على سفاقس، وهي بلدة من أعمال إفريقية، [وللشعراء فيها شعر فمن ذلك قول بعضهم وهو علي بن حبيب يصف بحرها في مده وجزره: سقياً لأرض سفاقس ... ذات المصانع والمصلى بلد يكاد يقول حي ... ن وروده أهلاً وسهلا وكأن ماء البئر حي ... ن تراه ينضب ثم يملا صب يريد زيارة ... فإذا رأى الرقباء ولى] (3) فأحضر وعقدت له الولاية، ودفن يحيى في القصر على ما جرت به العادة، ثم نقل بعد سنة إلى قصر السيدة بالمنستير - وهي بلدة إفريقية أيضاً - وخلف ثلاثين ولداً ذكوراً.   (1) ق بر: عذباً. (2) ر: الاثنين. (3) زيادة من ر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 215 (320) وأما علي المذكور القائم مقام أبيه يحيى فإن مولده بمدينة المهدية صبيحة يوم الأحد لخمس عشرة ليلة خلت من صفر سنة تسع وتسعين وأربعمائة، وكان أبوه قد ولاه سفاقس، فلما مات أبوه اجتمع أعيان دولته على كتاب كتبوه عن أبيه يأمره بالوصول إليه مسرعاً، فوصله الكتاب ليلاً فخرج لوقته ومعه طائفة من أمراء العرب، وجد في السير فوصل الظهر من يوم الخميس الثاني من العيد، ودخل القصر ولم يقدم شيئاً على تجهيز أبيه والصلاة عليه ودفنه، وفي صبيحة يوم الجمعة ثالث عشر ذي الحجة جلس للناس، فدخلوا عليه وسلموا بالإمارة، ثم ركب في جيوشه وجموعه ثم عاد إلى قصره. وفي أيامه توجه أخوه أبو الفتوح ابن يحيى إلى الديار المصرية ومعه زوجته بلارة (1) بنت القاسم وولده العباس الصغير على الثدي، فوصل إلى الإسكندرية، فأنزل وأكرم بأمر الآمر صاحب مصر يومئذ، فأقام بها مدة يسيرة وتوفي، فتزوجت بعده زوجته بلارة بالعادل بن السلار واسمه علي - المقدم ذكره في هذا الكتاب في حرف العين (2) - وشب العباس وقدمه الحافظ صاحب مصر، وولي الوزارة بعد العادل المذكور. وذكر شيخنا ابن الأثير في تاريخه في حوادث سنة اثنتين وخمسمائة حديث الثلاثة الذين جاؤوا إلى يحيى في معنى الكيمياء، فقال (3) : كان مجيئهم في هذه السنة، وأنهم لما وثبوا على يحيى وجرى ما ذكرته قبل هذا صادف ذلك مجيء أبي الفتوح المذكور وأصحابه إلى القصر وعليهم السلاح، فمنعوا من الدخول، وثبت عند يحيى أن ذلك كان باتفاق بينهم، فأخرج أبو الفتوح وزوجته وهي ابنة عمه إلى قصر زياد، ووكل بهما إلى أن مات يحيى وملك ابنه علي فسيرهما في البحر إلى الديار المصرية، فوصلا إلى الإسكندرية. انتهى كلامه. ولم تزل أمور علي بن يحيى جارية على السداد، إلى أن توفي يوم الثلاثاء لسبع بقين من شهر ربيع الآخر سنة خمس عشرة وخمسمائة، ودفن في القصر   (1) س: بلادة. (2) انظر ج 3: 416. (3) تاريخ ابن الأثير 10: 472، ولم ترد هذه الفقرة في س بر من. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 216 بعد أن فوض الأمر من بعده إلى ولده أبي يحيى الحسن بن علي بن يحيى. (321) ومولد الحسن المذكور بمدينة سوسة في رجب سنة اثنتين وخمسمائة، فكان عمره يوم ولايته اثنتي عشرة سنة وتسعة أشهر، ولما كان ثاني يوم وفاة أبيه خرج للناس فسلموا عليه وهنئوه بما صار إليه، ثم ركب والجيوش محتفة به. وجرت في أيامه وقائع وأمور يطول شرحها، فمن ذلك أن رجار (1) الفرنجي صاحب صقلية أخذ طرابلس الغرب عنوة بالسيف في يوم الثلاثاء سادس المحرم سنة إحدى وأربعين وخمسمائة، وقتل أهلها وسبى الحريم والأطفال وأخذ الأموال، ثم شرع في عمارتها وتحصينها بالرجال والعدد، ثم أخذ المهدية يوم الاثنين ثاني عشر صفر سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة، وذلك أن الحسن بن علي لما علم عجزه عن مقاومته خرج من المهدية هارباً، وقد استصحب ما خف عليه حمله من النفائس، وخرج أهل البلد أيضاً هاربين، إلا من أقعده العجز عن الهرب، فدخل إليه الفرج وملكوه، وصادفوا فيه من الأموال والذخائر ما لا يعد ولا يحصى. وكان عدة من ملك من أهل بيتهم، وأولهم زيري - المقدم ذكره في حرف الزاي (2) - إلى هذا الحسن بن علي تسعة ملوك، ومدة ولايتهم مائتا سنة وثمان سنين، وانقرضت دولة بني باديس. ثم إن الحسن بن علي توجه نحو المعلقة - وهي قلعة حصينة بإفريقية تجاور تونس، وكان صاحبها أبا محفوظ (3) محرز بن زياد أحد أمراء العرب، فأقام عنده قليلاً ثم ظهر له منه الضجر والسآمة، فعزم على قصد الديار المصرية ليكون عند الحافظ العبيدي صاحبها يومئذ، فنمي خبره إلى نائب رجار بالمهدية، فجعل عليه العيون وعمل عشرين شينياً ليمسكه في البحر، فبلغ الحسن ذلك، فرجع عن هذا الرأي ثم قصد أن يتوجه إلى جهة عبد المؤمن بن علي بمراكش، وأنفذ ثلاثة من أولاده إلى صاحب بجاية، وهي آخر أعمال إفريقية، ليستأذنه في الوصول إليه، وبعد ذلك يتوجه إلى عبد المؤمن، فأضمر له الغدر وخاف من اجتماعه بعبد المؤمن أن يتفقا على ما فيه ضرره، فكتب إليه كتاباً على يد أولاده يقول له: لا حاجة لك في الرواح إلى   (1) ورد هذا الاسم في أكثر النسخ: رجاز، حتى في المختار، وهو: Roger. (2) انظر ج 2: 343. (3) ابا محفوظ: سقط من: ص ن ق ع. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 217 بعبد المؤمن، ونحن نفعل معك ونصنع، وأجزل له من المواعيد الحسنة، فتوجه إليه، فلما قرب من بجاية لم يخرج للقائه وعدل به إلى الجزائر، وهي بلدة فوق بجاية من جهة الغرب، وأنزلوه بها في مكان لا يليق بمثله، ورتبوا له من الإقامة ما لا يصلح لبعض أتباعه، ومنعوه من التصرف، وكان وصوله إلى الجزائر في المحرم سنة أربع وأربعين وخمسمائة. ثم إن عبد المؤمن فتح بجاية في سنة سبع وأربعين وهرب صاحبها إلى القسطنطينية (1) . (322) ثم إن رجار صاحب صقلية هلك في العشر الأخير من ذي الحجة سنة ثمان وأربعين وخمسمائة. (323) ولما هلك رجار ملك بعده ابنه غنيم (2) بن رجار، وعليه قدم أبو الفتوح نصر الله بن قلاقس الشاعر - المقدم ذكره - ومدحه وأجازه، وذلك في سنة ثلاث وستين وخمسمائة (3) . (324) ولما هلك غنيم ملكت ابنته، وهي أم الأنبرور ملك ألمانية في زماننا، ثم هلكت أم الأنبرور وخلفته صغيراً فملك واستمر ملكه، وكان عاقلاً فاضلاً، وبينه وبين الملك الكامل صاحب مصر مراسلات وغيرها (4) .   (1) كذا في أكثر النسخ؛ ع بر من: القسطنطينية. (2) ن: عليم؛ وصواب الاسم " غليلم " تعريب " Gulielmo " وقد يكتب غليالم. (3) انظر فصلاً في كتابنا " العرب في صقلية " عن ابن قلاقس والفترة التي أقامها هنالك.. (4) علق هنا صاحب المختار بقوله: " قلت، أعني كاتبها موسى بن أحمد لطف الله به: وهو الذي استعاد البيت المقدس من الملك الكامل المذكور في () وستمائة والقصة مشهورة، ولما وصل الخبر بذلك إلى دمشق أنشد شمس الدين المظفر سبط ابن الجوزي الواعظ المقدم ذكره على منبر وعظه بالجامع بدمشق: إن يكن بالشام قل نصيري ... ثم هدمت واستمر هلوكي فلقد صبح الغداة خرابي ... سبة العار في جباه الملوك وقوله: ولما هلك رجار .... وغيرها: سقط من النسخ س بر من. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 218 ثم إن عبد المؤمن وصل إلى المهدية وملكها بعد جهد جهيد، وكان دخوله إليها بكرة يوم عاشوراء سنة خمس وخمسين وخمسمائة، فولى بها نائباً، وكان الحسن بن علي قد وصل صحبته، فرتبه مع النائب لتدبير أمورها لكونه عارفاً بأحواله وأقطعه بها ضيعتين وأعطاه دوراً سكنها هو وأولاده وأتباعه. ولم أقف على تاريخ وفاة الحسن بن علي المذكور. (325) ثم قتل محرز بن زياد في وقعة سطيف يوم الخميس في العشر الأوسط من ربيع الآخر سنة خمس وخمسين وخمسمائة. وهذا الحسن بن علي هو الذي صنف له أبو الصلت أمية بن عبد العزيز بن أبي الصلت كتاب " الحديقة ". 806 - (1) يحيى بن خالد البرمكي أبو الفضل (2) يحيى بن خالد بن برمك وزير هارون الرشيد - وقد تقدم ذكر ولديه جعفر والفضل كل واحد منهما في بابه؛ وكان جدهم برمك من مجوس بلخ، وكان يخدم النوبهار وهو معبد كان للمجوس بمدينة بلخ توقد فيه النيران، واشتهر برمك المذكور وبنوه بسدانته، وكان برمك عظيم المقدار عندهم، ولم أعلم هل أسلم أم لا. (326) وساد ابنه خالد وتقدم في الدولة العباسية، وتولى الوزارة لأبي   (1) أخباره في كتب التاريخ التي تتحدث عن نكبة البرامكة كالطبري وابن الأثير ومروج الذهب والأغاني، وكتب الأدب العامة كالعقد، وانظر معجم الأدباء 20: 5 والبداية والنهاية 10: 204 وتاريخ بغداد 14: 128 ومعجم المرزباني: 488 ومرآة الجنان 1: 424 وعبر الذهبي 1: 306 وصفحات متفرقة من الوزراء والكتاب للجهشياري وشرح البسامة: 222. (2) ق ن ص س: أبو علي، وموضعه بياض في ر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 219 العباس بعد أبي سلمة حفص الخلال - المقدم ذكره - وقد ذكرته في ترجمة جعفر وذكرت هناك تاريخ وفاته، وقال أبو الحسن المسعودي في كتاب " مروج الذهب " (1) : لم يبلغ مبلغ خالد بن برمك أحد من ولده في جوده ورأيه وبأسه وعلمه وجميع خلاله، لا يحيى في رأيه ووفور عقله، ولا الفضل بن يحيى في جوده ونزاهته، ولا جعفر بن يحيى في كتابته وفصاحة لسانه، ولا محمد بن يحيى في سروه وبعد همته، ولا موسى بن يحيى في شجاعته وبأسه. ولما بعث أبو مسلم الخراساني قحطبة بن شبيب الطائي لمحاربة يزيد بن عمر بن هبيرة الفزاري عامل مروان بن محمد (2) على العراقين، وكان خالد بن برمك في جملة من كان معه، فنزلوا في طريقهم بقرية، فبينما هم على سطح بعض دورها يتغدون إذ نظروا إلى الصحراء وقد أقبلت منها أقاطيع الوحش من الظباء وغيرها، حتى كادت تخالط العسكر، فقال خالد لقحطبة: أيها الأمير، ناد في الناس ومرهم أن يسرجوا ويلجموا قبل أن تهجم عليهم الخيل، فقام قحطبة مذعوراً، فلم ير شيئاً يروعه، فقال: يا خالد ما هذا الرأي فقال: قد نهد (3) إليك العدو، أما ترى أقاطيع الوحش قد أقبلت إن وراءها لجمعاً كثيفاً، فما ركبوا حتى رأوا الغبار، ولولا خالد لهلكوا (4) .   (1) مروج الذهب 3: 377. (2) زاد في المختار: آخر ملوك بني أمية. (3) ق ع والمختار: نهز؛ س: نهد عليك. (4) علق صاحب المختار بقوله: " قلت أعني كاتبها موسى أحمد لطف الله به: ومثل هذه الحكاية ما يكى عن الملك المجاهد أسد الدين شيركوه الأصغر صاحب حمص أنه كان نائماً في الصيف بسطح دار بقلعة حمص ليلاً، فأمر بضرب بوق الفزع نصف الليل وركب للوقت وهو شاكي السلاح، واجتمع إليه العسكر وجميع أصحابه، وسار بهم إلى طريق حصن الأكراد، فوافى سرية كبيرة من الفرنج وقد عدوا المخاضة التي بين حمص وحصن الأكراد وهم عازمون على الغارة على بلاد حمص، فأوقع بهم واستأصل شأفتهم قتلاً واسراً واستولى على ما معهم وعاد من ليلته، فسئل كيف علم بذلك فقال: كنت قد استيقظت من منامي واستلقيت على ظهري مفكراً، فسقط على وجهي قطرات عديدة من الماء، فقلت في نفسي: هذا زمن الصيف ولا مطر فيه والسماء صاحية، ولا شك في أن سرية من الفرنج من حصن الأكراد قد قصدوا الغارة علينا، ولما عبروا المخاضة نفر ما بها من الطيور وطاروا في ضوء القمر، وإن هذه النقط من رشاش أجنحتها، فكان حديثاً صحيحاً، والله أعلم ". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 220 وأما يحيى فإنه كان من النبل والعقل وجميع الخلال على أكمل حال، وكان المهدي بن أبي جعفر المنصور قد ضم إليه ولده هارون الرشيد، وجعله في حجره، فلما استخلف هارون عرف له حقه، وقال له: يا أبت، أنت أجلستني في هذا المجلس ببركتك ويمنك وحسن تدبيرك، وقد قلدتك الأمر، ودفع له خاتمه، وفي ذلك يقول الموصلي، وأظنه إبراهيم النديم أو ابنه إسحاق: ألم تر أن الشمس كانت سقيمةً ... فلما ولي هارون أشرق نورها بيمن أمين الله هارون ذي الندى ... فهارون واليها ويحيى وزيرها وكان يعظمه، وإذا ذكره قال " أبي " وجعل إصدار الأمور وإيرادها إليه، إلى أن نكب البرامكة فغضب عليه، وخلده في الحبس إلى أن مات فيه، وقتل ابنه جعفراً - حسبما تقدم شرحه في ترجمته. وكان من العقلاء الكرماء البلغاء، ومن كلامه: ثلاثة أشياء تدل على عقول أربابها: الهدية والكتاب والرسول. وكان يقول لولده: اكتبوا أحسن ما تسمعون، واحفظوا أحسن ما تكتبون، وتحدثوا بأحسن ما تحفظون. وكان يقول: الدنيا دول والمال عارية، ولنا بمن قبلنا أسوة، وبمن بعدنا عبرة. وقال الفضل بن مروان - المقدم ذكره: سمعت يحيى بن خالد يقول: من لم أحسن إليه فأنا مخير فيه، ومن أحسنت إليه فأنا مرتهن به. وقال القاضي يحيى بن أكثم، سمعت المأمون يقول: لم يكن كيحيى بن خالد وكولده أحد في الكفاية والبلاغة والجود (1) والشجاعة، ولقد صدق القائل حيث يقول: أولاد يحيى أربع ... كأربع الطبائع فهم إذا اختبرتهم ... طبائع الصنائع قال القاضي: فقلت له يا أمير المؤمنين، أما الكفاية والبلاغة والسماحة   (1) ن: والجودة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 221 فنعرفها فيهم، ففي من الشجاعة فقال: في موسى بن يحيى، وقد رأيت أن أوليه ثغر السند. وقال إسحاق بن إبراهيم النديم الموصلي - المقدم ذكره (1) : حدثني أبي قال: أتيت يحيى بن خالد بن برمك فشكوت إليه ضيقة فقال: ويحك، ما أصنع بك ليس عندنا في هذا الوقت شيء، ولكن هاهنا أمر أدلك عليه فكن فيه رجلاً، قد جاءني خليفة صاحب مصر يسألني أن أستهدي صاحبه شيئاً، وقد أبيت ذلك عليه، فألح علي، وقد بلغني أنك قد أعطيت بجاريتك فلانة ثلاثة آلاف دينار، فهو ذا أستهديه إياها وأخبره أنها قد أعجبتني فإياك أن تنقصها من ثلاثين ألف دينار وانظر كيف تكون، قال: فوالله ما شعرت إلا بالرجل وافاني فساومني بالجارية، فقلت له: لا أنقصها من ثلاثين ألف دينار، فلم يزل يساومني حتى بذل لي عشرين ألف دينار، فلما سمعتها ضعف قلبي عن ردها، فبعتها وقبضت العشرين ألفاً، ثم صرت إلى يحيى بن خالد فقال لي: كيف صنعت في بيعك الجارية فأخبرته وقلت: والله ما ملكت نفسي أن أجبت إلى العرين ألفاً حين سمعتها، فقال: إنك لخسيس فخذ جاريتك بارك الله لك فيها، وهذا خليفة صاحب فارس قد جاءني في مثل هذا، فإذا ساومك بها فلا تنقصها من خمسين ألف دينار، فإنه لا بد أن يشتريها منك بذلك، فجاءني الرجل فاستمت عليه خمسين ألف دينار، فلم يزل يساومني حتى أعطاني ثلاثين ألف دينار، فضعف قلبي عن ردها ولم أصدق بها، فأوجبتها ثم صرت إلى يحيى بن خالد فقال لي: بكم بعت الجارية فأخبرته، فقال: ويحك! ألم تؤدبك الأولى عن الثانية، قال: فقلت: والله ضعفت عن رد شيء لم أطمع فيه، قال فقال: هذه جاريتك فخذها إليك، قال: فقلت: جارية أفدت بها خمسين ألف دينار، ثم أملكها، أشهدك أنها حرة، أني قد تزوجتها. هكذا رأيت هذه الحكاية، ثم نظرت في كتاب " أخبار الوزراء " تأليف الجهشياري فقال: إن يحيى قال لإبراهيم الموصلي: لا تقبل أقل من مائة ألف دينار، وأنه باعها بخمسين ألف دينار، وقال له في المرة الثانية   (1) أنظر ج 1: 202. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 222 لا تقبل أقل من خمسين ألف دينار فباعها بثلاثين ألف دينار (1) . وقال الأصمعي (2) : دخلت على يحيى يوماً فقال: يا أصمعي، هل لك زوجة فقلت: لا، فقال: فجارية فقلت: لكم منة، فأمر بإخراج جارية غاية في الحسن والجمال والظروف، فقال لها قد وهبتك لهذا، وقال: يا أصمعي، خذها فشكرته ودعوت له، فلما رأت الجارية ذلك بكت وقالت: يا سيدي، تدفعني إلى هذا، فما ترى سماجته وقبحه فقال لي: هل لك أن أعوضك عنها ألفي دينار قلت: ما أكره ذلك، ودخلت الجارية إلى داره فقال لي: أنكرت على هذه الجارية أمراً فأردت أن أعاقبها بك ثم رحمتها، فقلت له: هلا أعلمتني حتى كنت لحق بالباب على صورتي الأصلية من غير أن أسرح لحيتي وأصلح عمتي وأتطيب وأتجمل، فضحك، وأمر لي بألف دينار أخرى. وحكى إسحاق النديم أيضاً قال: كانت صلات يحيى بن خالد إذا ركب لمن تعرض له مائتي درهم، فركب ذات يوم فتعرض لد أديب شاعر وأنشده: يا سمي الحصور (3) يحيى أتيحت ... لك من فضل ربنا جنتان كل من مر في الطريق عليكم ... فله من نوالكم مائتان مائتا درهم لمثلي قليل ... هي منكم للقابس العجلان قال له يحيى: صدقت، وأمر بحمله إلى داره، فلما رجع من دار الخلافة سأله عن حاله، فذكر أنه تزوج وقد أخذ بواحدة من ثلاث: إما أن يؤدي المهر وهو أربعة آلاف، وإما أن يطلق، وإما أن يقيم جارياً للمرأة يكفيها إلى أن يتهيأ له نقلها، فأمر يحيى بأربعة آلاف للمهر، وبأربعة آلاف لثمن منزل، وبأربعة آلاف لما يحتاج إليه المنزل، وبأربعة آلاف للبنية، وبأربعة آلاف يستظهر بها، فأخذ عشرين ألفاً وانصرف.   (1) هكذا رايت ... بثلاثين ألف دينار: لم يرد في س بر من. (2) لم ترد هذه القصة في س. (3) ق ص ع: المحصور؛ ويحيى المشار إليه هو يحيى بن زكريا والحصور: الذي لم يتزوج. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 223 وقال محمد بن مناذر الشاعر: حج هارون الرشيد ومعه ابناه الأمين محمد والمأمون عبد الله، وحج معه يحيى بن خالد وابناه الفضل وجعفر، فلما صاروا بالمدينة جلس الرشيد ومعه يحيى بن خالد، فأعطى الناس عطاءهم، ثم جلس الأمين ومعه الفضل فأعطاهم العطاء، ثم جلس المأمون ومعه جعفر بن يحيى فأعطاهم عطاياهم، ثم جلس المأمون ومعه جعفر بن يحيى فأعطاهم عطاياهم، وكان أهل المدينة يسمون ذاك العام عام الأعطية الثلاثة، ولم يروا مثل ذلك قط، فقلت في ذلك: أتانا بنو الأملاك من آل برمكٍ ... فيا طيب أخبارٍ ويا حسن منظر لهم رحلة في كل عام إلى العدى ... وأخرى إلى البيت العتيق المطهر إذا نزلوا بطحاء مكة أشرقت ... بيحيى وبالفضل بن يحيى وجعفر فتظلم بغداد وتجلو لنا الدجى ... بمكة ما حجوا ثلاثة أقمر فما خلقت إلا لجود أكفهم ... وأقدامهم إلا لأعواد منير إذا راض يحيى ذلت صعابه ... فناهيك من راعٍ له ومدبر ترى الناس إجلالاً له وكأنهم ... غرانيق ماء تحت باز مصرصر (1) وذكر الخطيب في " تاريخ بغداد " (2) ، في ترجمة أبي عبد الله محمد بن عمر الواقدي أنه قال: كنت حناطاً (3) بالمدينة في يدي مائة ألف درهم للناس أضارب بها، فتلفت الدراهم، فشخصت إلى العراق فقصدت يحيى بن خالد، فجلست في دهليزه وأنست بالخدم والحجاب وسألتهم أن يوصلوني إليه، فقالوا: إذا قدم الطعام إليه لم يحجب عنه أحد، ونحن ندخلك عليه ذلك الوقت، فلما حضر طعامه أدخلوني فأجلسوني على المائدة، فسألني: من أنت؛ وما قصتك فأخبرته، فلما رفع الطعام وغسلنا أيدينا دنوت منه لأقبل رأسه، فاشمأز من ذلك، فلما صرت إلى الموضع الذي يركب منه لحقني خادم معه كيس فيه ألف دينار، فقال: الوزير يقرأ عليك السلام ويقول لك: استعن بهذا على أمرك   (1) هذا البيت والذي قبله زيادة من: ر ن، وسقطت القصة كلها من س بر من. (2) تاريخ بغداد 3: 4. (3) في بعض النسخ: خياطاً؛ والحناط: هو بائع الحنطة، وهذا مناسب للمضاربة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 224 وعد إلينا في اليوم الثاني، فأخذته وانصرفت، وعدت في اليوم الثاني فجلست معه على المائدة، فأنشأ يسألني كما يسألني في اليوم الأول، فلما رفع الطعام دنوت منه لأقبل رأسه فاشمأز مني، فلما صرت إلى الموضع الذي يركب منه لحقني خادم معه كيس فيه ألف دينار، فقال لي: الوزير يقرأ عليك السلام، ويقول لك: استعن بهذا على أمرك وعد إلينا في غد، فأخذته وانصرفت وعدت في اليوم الثالث كما أمر، فأعطيت مثل الذي أعطيت في اليوم الأول والثاني، فلما كان في اليوم الرابع أعطيت الكيس كما أعطيت قبل ذلك، وتركني بعد ذلك أقبل رأسه، وقال: إنما منعتك ذلك لأنه لم يكن وصل إليك من معروفي ما يوجب هذا، فالآن قد لحقك بعض النفع مني، يا غلام أعطه الدار الفلانية، يا غلام افرش له الفرش الفلاني، يا غلام أعطه مائتي ألف درهم يقضي دينه بمائة ألف ويصلح شأنه بمائة ألف، ثم قال لي: الزمني وكن في داري، فقلت: أعز الله الوزير، لو أذنت لي بالشخوص (1) إلى المدينة لأقضي الناس أموالهم ثم أعود إلى حضرتك كان ذلك أرفق بي، قال: قد فعلت، وأمر بتجهيزي، فشخصت إلى المدينة، فقضيت ديني ثم رجعت إليه فلم أزل في ناحيته (2) . ودخل عليه يوماً أبو قابوس الحميري فأنشده: رأيت يحيى أتم (3) الله نعمته ... عليه يأتي الذي لم يأته أحد ينسى الذي كان من معروفه أبداً ... إلى الرجال ولا ينسى الذي بعد فقضى حوائجه ووصله بجملة من المال. قلت: قد حل هذا البيت الثاني شرف الدولة مسلم بن قريش، وقد قال له رجل: لا تنس أيها الأمير حاجتي، فقال: إذا قضيتها أنسيتها (4) .   (1) ر: بالنهوض والشخوص. (2) قال صاحب المختار عند هذا الموضع: وذكر والدي أحمد قدس الله روحه من مكارم يحيى وكرمه حكايات عديدة أضربت عن ذكرها طلباص للإيجاز. (3) ر ن: أدام. (4) زاد في ر: وهذا من الأجوبة الدالة على شرف القدر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 225 ولمسلم بن الوليد الأنصاري في يحيى بن خالد (1) : أجدك هل تدرين إن رب ليلة ... كأن دجاها من قرونك ينشر صبرت لها حتى تجلت بغرةٍ ... كفرة يحيى حين يذكر جعفر وكان يحيى يقول: إذا أقبلت الدنيا فأنفق فغنها لا تفنى، وإذا أدبرت فأنفق فإنها لا تبقى، وقال: ذكر النعمة من المنعم تكدير، ونسيان المنعم عليه كفر وتقصير؛ وقال: النية الحسنة مع العذر الصادق يقومان مقام النجح؛ وقال: إذا أدبر الأمر كان العطب في الحيلة. وقال الحسن بن سهل - المقدم ذكره: ومن غيرته الولاية لإخوانه علمنا أن الولاية أكبر منه، أخذنا ذلك عن صاحب ديوان المكارم أبي علي يحيى بن خالد بن برمك. [ولما عزم جعفر على بناء قصره شاور أباه يحيى بن خالد فيه فقال: هو قميصك إن شئت فوسعه وإن شئت فضيقه؛ وأتاه وهو يبني داره فإذا الصناع يبيضون حيطانها فقال: إنك تعطي بالفضة، فقال جعفر: ليس كل أوان يكون ظهور الذهب أصلح، ولكن هل ترى عيباً قال: نعم، فخالطتها لدور السفل والسوقة] (2) . وكان ليحيى كاتب يختص بخدمته ويقرب من حضرته، فعزم على ختان ولده، فاحتفل له الناس على طبقاتهم، وهاداه أعيان الدولة ووجوه الكتاب والرؤساء على اختلاف منازلهم، وكان له صديق قد اختلت أحواله وضاقت يده عما يريده مما دخل فيه غيره، فعمد إلى كيسين كبيرين نظيفين، فجعل في أحدهما ملحاً وفي الآخر أشناناً مكفراً، وكتب معهما رقعة نسختها: لو تمت الإرادة لأسعفت بالعادة، ولو ساعدت المكنة على بلوغ الهمة لاتبعت السابقين إلى برك وتقدمت المجتهدين في كرامتك، لكن قعدت القدرة عن البغية وقصرت الجدة عن مباراة أهل النعمة، وخفت أن تطوى صحائف البر   (1) ديوان مسلم: 316. (2) زيادة من ر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 226 وليس لي فيها ذكر، فأنفذت المبتدأ بيمنه وبركته والمختتم بطيبه ونظافته، صابراً على ألم التقصير، ومتجرعاً غصص الاقتصار على اليسير، فأما ما لم أجد إليه السبيل في قضاء حقك فالقائم فيه بعذري قول الله عز وجل " ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج " " التوبة: " والسلام. فلما حضر يحيى بن خالد الوليمة عرض عليه كاتبه الخدايا جميعها، حتى الكيسين والرقعة فاستظرفها، وأمر أن يملأ الكيسان مالاً ويردا عليه، فكان ذلك أربعة آلاف دينار. وقال رجل ليحيى: والله لأنت أحلم من الأحنف بن قيس، فقال له: لا تقرب (1) إلي من أعطاني فوق حقي. ونادى إسحاق بن إبراهيم الموصلي أحد غلمانه فلم يجبه، فقال: سمعت يحيى بن خالد يقول: يدل على حلم الرجل سوء أدب غلمانه. وكان يحيى يساير الرشيد يوماً فوقف له رجل فقال: يا أمير المؤمنين عطبت دابتي، فقال الرشيد: يعطى خمسمائة درهم، فغمزه يحيى، فلما نزلوا قال له الرشيد: يا أبت أومأت إلي بشيء ولو أعرفه، فقال: مثلك لا يجري هذا القدر على لسانه، إنما يذكر مثلك خمسة آلاف ألف، عشرة آلاف ألف، فقال: إذا سئلت مثل هذا كيف أقول فقال: تقول: يشترى له دابة. وبالجملة فإن أخبارهم كثيرة، ولا يحتمل هذا المختصر الإطالة أكثر من هذا. ولما قتل هارون الرشيد جعفر بن يحيى البرمكي - كما ذكرناه في حرف الجيم من هذا الكتاب - نكب البرامكة وحبس يحيى وابنه الفضل - كما ذكرناه في حرف الفاء من هذا الكتاب - وكان حبسهما في الرافقة، وهي الرقة القديمة تجاور الرقة الجديدة، وهي البلد المشهور الآن على شاطئ الفرات، ويقال لهما الرقتان، تغليباً لأحد الاسمين على الآخر، كما قيل العمران والقمران وغير ذلك.   (1) س ص: ما تقرب. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 227 وحكى الجهشياري في كتاب " أخبار الوزراء " (1) أن يحيى بن خالد اشتهى في وقت من الأوقات في محبسه وهو مضيق عليه سكباجة، فلم يطلق له اتخاذها إلا بمشقة، فلما فرغ من يد المتخذ لها فانكسرت، فأنشد يحيى أبياتاً يخاطب بها الدنيا، ومضمونها اليأس وقطع الأطماع (2) . ولم يزل يحيى في حبس الرافقة (3) إلى أن مات في الثالث من المحرم سنة تسعين ومائة فجأة من غير علة، وهو ابن سبعين سنة، وقيل أربع وسبعين (4) ، وصلى عليه ابنه الفضل، ودفن في شاطئ الفرات في ربض هرثمة، ووجد في جيبه رقعة مكتوب فيها بخطه: قد تقدم الخصم، والمدعي عليه في الأثر، والقاضي هو الحكم العدل الذي لا يجور ولا يحتاج إلى بينة. فحملت الرقعة إلى الرشيد، فلم يزل يبكي يومه وبقي أياماً يتبين الأسى في وجهه، رحمهم الله تعالى (5) . وكان يحيى يجري على سفيان الثوري، رضي الله عنه، في كل شهر ألف درهم، وكان سفيان يقول في سجوده: اللهم إن يحيى كفاني أمر دنياي، فاكفه أمر آخرته، فلما مات يحيى رآه بعض إخوانه في النوم فقال له: ما صنع الله بك قال: غفر لي بدعاء سفيان، وقيل إن صاحب هذه القضية هو سفيان بن عيينة لا سفيان الثوري، والله تعالى أعلم. قال الجهشياري (6) : ندم الرشيد على ما كان منه في أمر البرامكة وتحسر على ما فرط منه في أمرهم، وخاطب جماعة من إخوانه بأنه لو وثق منهم بصفاء النية منهم لأعادهم إلى حالهم. وكان الرشيد كثيراً ما يقول: حملونا على نصحائنا وكفاتنا، وأوهمونا أنهم يقومون مقامهم، فلما صرنا إلى ما أرادوا لم يغنوا عنا، وأنشد:   (1) أخبار الوزراء: 245، ولم يرد هذا النص في س بر من. (2) مطلعها: قطعت منك حبائل الآمال ... وأرحت من حل ومن ترحال (3) المختار: في الحبس بالرافقة. (4) ن: وستين. (5) هنا تنتهي الترجمة في س بر من. (6) الوزراء والكتاب: 258. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 228 أقلوا علينا لا أبا لأبيكم ... من اللوم أو سدوا المكان الذي سدوا قلت: هذا البيت للحطيئة الشاعر، وبعده: أولئك قوم إن بنوا أحسنوا البنا ... وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدوا (1) قلت: وذكر الزمخشري في كتاب " ربيع الأبرار " ما مثاله: إنه وجد تحت فراش يحيى بن خالد البرمكي رقعة فيها مكتوب: وحق الله إن الظلم لوم ... وإن الظلم مرتعه وخيم إلى ديان يوم الدين نمضي ... وعند الله تجتمع الخصوم (2)   (1) جاء في المختار عند هذا الموضع: هذا آخر ما نقلته من الجزء الرابع من كتاب " وفيات الأعيان " ويتلوه ما أنقله من الجزء الخامس، إن شاء الله، وأوله ترجمة عون الدين بن هبيرة. (2) هنا تنتهي النسختان: ص ن: وفي آخرهما الخاتمة التي تمثل آخر ما خطه المؤلف قبل أن يعين قاضياً في الشام ويتوقف عن التأليف، وهذه الخاتمة قد ثبتت في ر، رغم استمرار التاجم فيها غلى نهاية الكتاب، وقد طبعها وستنفيلد، في نهاية الترجمة، ونصها: " قلت: وقد أتيت في هذا المختصر بالقدر الممكن من ضيق الأوقات، وتركت في هذا الباب الذي هو حرف الياء تراجم كثيرة كان عزمي أن أذكرها فما اتسع الوقت لإثباتها، فأخرتها مع مسودات أخر كثيرة أعددتها لكتاب آخر مطول، أجمعه على هذا الأسلوب - إن فسح الله في الأجل ووفق للعمل - يكون محتوياً على فوائد جمة يحتاج إليها من يعتني بهذا الفن ويستغني من يطالعه عن مراجعة كتب كثيرة، فإني انتقيت هذه المسودات من أمهات التواريخ وأخبار الناس المتقدمين والمتأخرين، وفيما يغلب على ظني لم أترك شيئاً من الكتب التي في أيدي الناس، المشهورة والخاملة، المبسوطة والوجيزة، إلا اخترت منه ما يدخل في هذا الكتاب، وفي عزمي بعونه عز وجل ومشيئته أن يكون أكثر من عشرة أسفار، والله عز وجل المسؤول في الإعانة عليه والإرشاد إليه، بحوله وقوته، إن شاء الله تعالى، والله عز وجل أعلم بالصواب وإليه المرجع المآب، وكان آخر تحرير هذا المجلد في سنة تسع وخمسين وستمائة ". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 229 807 - (1) الوزير ابن هبيرة أبو المظفر الوزير عون الدين يحيى بن هبيرة بن محمد بن هبيرة بن سعد (2) بن الحسين بن أحمد بن الحسن بن جهم بن عمرو (3) بن هبيرة بن علوان بن الحوفزان - وهو الحارث - بن شريك بن عمرو بن قيس بن شرحبيل بن مرة بن همام بن ذهل بن شيبان بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان، الشيباني، الملقب عون الدين، هكذا ساق نسبه جماهة منهم ابن الدبيبي في تاريخه وابن القادسي في كتاب " الوزراء " وغيرهما، وإنما أخرج له هذا النسب بعد سنين من وزارته، وذكره الشعراء في مدائحهم. وهو من قرية من بلاد العراق تعرف بقرية بني أوقر، بالقاف، من أعمال دجيل، وهي دور عرمانيا (4) ، بالعين المهملة والياء المثناة من تحت، وتعرف الآن بدور (5) الوزير نسبة إليه، وكان والده من أجنادها (6) .   (1) ترجمته في الخريدة (قسم العراق) 1: 96 وتاريخ ابن الأثير 11: 321 والمنتظم 10: 214 وذيل ابن رجب 1: 251 وتاريخ ابن خلدون 3: 524 والروضتين 1: 141 ومطالع البدور 2: 114 ومفرج الكروب 1: 147 ومرآة الزمان: 255 ومرآة الجنان 3: 344 والفخري: 276 والبداية والنهاية 12: 251 وعبر الذهبي 4: 172 والشذرات 4: 191 ووقعت هذه الترجمة في ع بعد ترجمة ياقون الحموي؛ وابتداء من هذه الترجمة تعود مسودة المؤلف إلا أن ورقات من أولها قد فقدت وأعاد بعض النساخ كتابتها. وسوف يكون اعتمادنا كبيراً عليها حيث يبدأ خط المؤلف نفسه. (2) ع ق ر س: سعيد. (3) ق ر: عمر. (4) المختار: دوز عرمايا. (5) ر: بدار. (6) ق ع س: آحادها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 230 ودخل بغداد في صباه، واشتغل بالعلم، وجالس الفقهاء والأدباء وكان على مذهب الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه، وسمع الحديث، وحصل من كل فن طرفاً، وقرأ الكتاب العزيز وختمه بالقراءات والروايات، وقرأ النحو، واطلع على أيام العرب وأحوال الناس، ولازم الكتابة، وحفظ ألفاظ البلغاء وتعلم على أيام صناعة الإنشاء، وكانت قراءته الأدب على أبي منصور ابن الجواليقي، وتفقه على أبي الحسين محمد بن محمد الفراء، وصحب الشيخ أبا عبد الله محمد بن يحيى بن علي بن مسلم بن موسى بن عمران الزبيدي الواعظ، وسمع الحديث النبوي من أبي عثمان إسماعيل بن محمد بن قيلة الأصبهاني ومن أبي القاسم هبة الله بن محمد بن الحسين الكاتب ومن بعدهما، وحدث عن الإمام المقتفي لأمر الله أمير المؤمنين (1) وعن غيره، وسمع منه خلق كثير منهم الحافظ أبو الفرج ابن الجوزي. وأول ولايته الإشراف بالأقرحة الغربية، ثم نقل إلى الأشراف على الإقامات المخزنية، ثم قلد الإشراف بالمخزن، ولم يطل في ذلك مكثه حتى قلد في سنة اثنتين وأربعين كتابة ديوان الزمام، ثم ترقى إلى الوزارة، وكان سبب توليته الوزارة ما حكاه الذي جمع سيرته أنه قال: من جملة ما رفع قدر الوزير ونقله إلى الوزارة ما جرى من مسعود البلالي شحنة بغداد نيابة عن السلطان مسعود بن محمد بن ملكشاه السلجوقي - وكان مسعود أحد الخدم الخصيان الحبشيين الكبار من أمراء دولته - من سوء أدبه في الحضرة وخروجه عن معتاد الواجب وانتشار مفسدي أصحابه، وكان وزير الخليفة إذ ذاك قوام الدين أبو القاسم علي بن صدقة بن علي بن صدقة قد كتب عن الخليفة إلى السلطان مسعود عدة كتب يعتمد الإنكار على مسعود البلالي على ما صدر منه، فلم يرجع بجواب، فلما قلد عون الدين ابن هبيرة كتابة ديوان الزمام خاطب الخليفة في مكاتبة السلطان مسعود بالقضية فوقع إليه: قد كان الوزير كتب في ذلك عدة كتب فلم يجيبوه، فراجع عون الدين في ذلك سؤاله إلى أن أجيب، فكتب من إنشائه رسالة، وهي طويلة فأضربت عن ذكرها، وحاصل الأمر فيها أنه دعا له، وأذكره ما كان أسلافه   (1) زاد في المختار: العباسي. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 231 يعاملون الخلفاء به من حسن الطاعة والتأدب معهم والذب عنهم ممن يفتات عليهم، وشكا من مسعود البلالي، وأنه كاتب في ذلك عدة دفعات وما جاءه جواب، وأطال القول في ذلك، وكان هذا في سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة في شهر ربيع الآخر، فما مضى على هذا إلا قليل حتى عاد الجواب بالاعتذار والذم لمسعود البلاني والإنكار لما اعتمده، فاستبشر المقتفي بإشارة عون الدين وعظم سروره بذلك وحسن موقع عون الدين من قلبه، ولم يزل عنده مكيناً حتى استوزره. قال مصنف السيرة: وكان أيضاً من جملة أسباب وزارته أنه في سنة ثلاث وأربعين وصل إلى بغداد الأمير ابن ألقش (1) المسعودي صاحب اللحف، وهو صقع بالعراق، ويلدكز السلطاني، وقصداها في جموع كثيرة، وصدر منهم فتن عظيمة تضمنتها التواريخ، فشرع الوزير قوام الدين بن صدقة في تدبير الحال، فأخفق مسعاه، فحينئذ استأذن عون الدين في أمرهم فأذن له في ذلك، فخاطب هؤلاء الخارجين على الخليفة، وأحسن التدبير في ذلك حتى كف شرهم، ثم قوي عليهم حتى نهبت العامة أموالهم، وجرت المقادير بهذه الأحوال لرفع ابن هبيرة ووضع الوزير ابن صدقة، فإنه عند انقضاء هذا المهم استدعى الخليفة المقتفي عون الدين بمطالعة على يد أميرين من أمراء الدولة فتبين بقراءته لها التباشير في أسرته، فركب إلى دار الخليفة في جماعته، وتسامع الناس بوزارته، ولما وصل إلى باب الحجرة استدعي فدخل وقد جلس له المقتفي بميمنة التاج، فقبل الأرض وسلم، وتحدثا ساعة بما لم يحط به غيرهما علماً، ثم خرج وقد جهزوا له التشريف على عادة الوزراء، فلبسه، ثم استدعي ثانياً فقبل الأرض، ودعا بدعاء أعجب الخليفة، ثم أنشده: سأشكر عمراً ما تراخت منيتي ... أيادي لم تمنن وإن هي جلت رأى خلتي من حيث يخفى مكانها ... فكانت بمرأىً منه حتى تجلت قلت: وهذان البيتان لإبراهيم بن العباس الصولي - المقدم ذكره - وهي   (1) كذا في س؛ وفي ق ع: ابن البقسق؛ بر: ابو البقش. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 232 ثلاثة أبيات، والثاني منهما بعد الأول: فتى غير محجوب الغنى عن صديقه ... ولا مظهر الشكوى إذا النعل زلت ولما أنشد عون الدين هذين البيتين غير نصف البيت الثاني منهما فإن الشاعر قال: فكانت قذى عينيه حتى تجلت ... فلما رأى أنه يخاطب الخليفة بهذه العبارة فغيره تأدباً. ثم إن عون الدين خرج فقدم له حصان أدهم سائل الغرة محجل، وعليه من الحلي ما جرت به عادتهم مع الوزراء، والشرح ذلك يطول فاختصرته، وخرج بين يديه أرباب المناصب وأعيان الدولة وأمراء الحضرة وجميع خدام الخلافة وسائر حجاب الديوان، والطبول تضرب أمامه، والمسند وراءه محمول على عادتهم في ذلك، حتى دخل الديوان ونزل على طرف الديوان وجلس في الدست، وقام لقراءة عهده الشيخ سديد الدولة أبو عبد الله محمد بن عبد الكريم بن الأنباري، ولولا خوف الإطالة لذكرت العهد فإنه بديع في بابه، لكن قصدي الاقتصار فأعرضت عن ذكره، وهو مشهور في أيدي الناس، فلما فرغ من قراءته قرأ القراء وأنشد الشعراء، وتولى الوزارة يوم الأربعاء ثالث عشر ربيع الآخر من سنة أربع وأربعين وخمسمائة، وكان لقبه جلال الدين، فلما ولي الوزارة لقبوه عون الدين. وكان عالماً فاضلاً ذا رأي صائب وسريرة صالحة، وظهر منه في أيام ولايته ما شهد له بكفايته وحصن مناصحته، فشكر له ذلك ولحظه بعين الرعاية وتوفرت له أسباب السعادة، وكان مكرماً لأهل العلم يحضر مجلسه الفضلاء على اختلاف فنونهم، ويقرأ عنده الحديث عليه وعلى الشيوخ بحضوره، ويجري من البحث والفوائد ما يكثر ذكره. وصنف كتباً، فمن ذلك كتاب " الإفصاح عن شرح معاني الصحاح " وهو يشتمل على تسعة عشر كتاباً، شرح الجمع بين الصحيحين وكشف عما فيه من الحكم النبوية، وكتاب " المقتصد " بكسر الصاد المهملة، وشرحه أبو الجزء: 6 ¦ الصفحة: 233 محمد ابن الخشاب النحوي المشهور في أربع (1) مجلدات شرحاً مستوفىً، واختصر كتاب " إصلاح المنطق " لابن السكيت، وله كتاب " العبادات في الفقه على مذهب الإمام أحمد " وأرجوزة في المقصور والممدود، وأرجوزة في علم الخط، وغير ذلك. وذكر شيخنا عز الدين أبو الحسن علي بن محمد المعروف بابن الأثير الجزري في تاريخه الصغير الأتابكي (2) في فصل حصار الملك محمد وزين الدين بغداد، وذلك في ذي القعدة من سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة، أن المقتفي لأمر الله جد في حفظ بغداد، وقام وزيره عون الدين بن هبيرة في هذا الأمر المقام الذي يعجز عنه غيره قال: وأمر المقتفي فنودي ببغداد: من جرح وقت القتال (3) فله خمسة دنانير، فكان كل من جرح يوصل ذلك إليه، فحضر بعض العامة عند الوزير مجروحاً فقال الوزير: هذا جرح صغير لا تستحق عليه شيئاً، فعاد إلى القتال فضرب في جوفه فخرجت أمعاؤه، فعاد إلى الوزير فقال: يا مولانا الوزير يرضيك هذا فضحك منه وأمر له بصلة، وأحضر من يعالجه، انتهى كلام ابن الأثير. قلت: وهذا محمد هو ابن محمود بن محمد بن ملكشاه السلجوقي، وزين الدين هو أبو الحسن علي بن بكتكين المعروف بكجك والد مظفر الدين صاحب إربل. وقال غير ابن الأثير: إن الملك اسمه محمد شاه وإن هذه القضية كانت في سنة اثنتين وخمسين، والله أعلم، ذكر ذلك ابن الجوزي في كتاب " شذور العقود " وهو أخبر، لأنها بلده وهو بها، وقد ذكرت محمد شاه في ترجمة أبيه. وتوفي الإمام المقتفي لأمر الله أبو عبد الله محمد بن المستظهر ليلة الأحد ثاني (4) ربيع الأول سنة خمس وخمسين وخمسمائة، وبويع ولده المستنجد بالله أبو   (1) س: أربعة. (2) انظر الباهر: 113. (3) وقت القتال: سقطت من ق ر والباهر. (4) المختار: ثاني عشر؛ ر س بر من: ثاني شهر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 234 المظفر يوسف، فدخل عليه وبايعه وأقره على وزارته وأكرمه، وكان خائفاً منه أن يعزله فلم يعزله (1) ولم يتعرض له، ولم يزل مستمراً في وزارته إلى حين وفاته. ومدحه جماعة من أماثل شعراء عصره: منهم أبو الفوارس سعد بن محمد المعروف بابن صيفي الملقب حيص بيص - المقدم ذكره (2) - وله فيه مدائح منتخبة، فمن ذلك قوله: يهز حديث الجود ساكن عطفه ... كما هز شرب الحي صهباء قرقف ويرسو إذا طاشت حبا القوم واغتدت ... صعاب الذرا من زعزع الخطب ترجف صروم الدنايا هاجر كل سنة ... ولكنه بالمجد صب مكلف يضيق بأدنى العار ذرعاً وصدره ... بأهوال ما يدني من الحمد نفنف إذا قيل عون الدين يحيى تألق ال ... غمام وماس السمهري المثقف وكانت عوائدهم في بغداد في شهر رمضان أن الأعيان يحضرون سماط الخليفة عند الوزير، وهم يسمون السماط " الطبق " وكان حيص بيص في جملة من يحضر الطبق، وكانت نفسه أبية وهمته عربية، وإذا أحضروا الطبق تخطاه وقعد فوقه من أرباب المراتب جماعة ليس فيهم فضل، فيجد في نفسه لذلك مشقة عظيمة فكتب إلى الوزير عون الدين يستعفيه عن الحضور (3) : يا باذل المال في عدمٍ وفي سعةٍ ... ومطعم الزاد في صبحٍ وفي غسق وحاشر الناس أغنتهم فواضله ... إلى مزيدٍ من النعماء مندفق في كل بيت خوان من مكارمه ... يميرهم وهو يدعمهم إلى الطبق فاض النوال فلولا خوف منعمةٍ ... من بأس عدلك نادى الناس بالغرق وكل أرض بها صوب وساكبة ... حتى الوغى من نجيع الخيل والعرق   (1) فلم يعزله: سقطت من ر ق ع س بر من: وورد بعدها: فلم يعرض له. (2) انظر ج 2: 362. (3) انظر الخريدة (قسم العراق) 1: 284. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 235 صن منكبي عن زحامٍ إن غضبت له ... تمكن الطعن من عرضي (1) ومن خلقي وإن رضيت به فالذل منقصة ... فكم تكلفته حملاً فلم أطق أنا المريض بأحداث وسورتها ... وليس غير إبائي حافظ رمقي وهبه لي كعطاياك التي كثرت ... فالجود بالعز فوق الجود بالورق إن اصفرار مجن الشمس من حزنٍ ... على علاها لمرماها إلى الأفق وإن توهم قوم أنه حمق ... فربما اشتبه التوقير بالحمق وأهدي الوزير عون الدين دواة بلور مرصعة بمرجان، وفي مجلسه جماعة منهم حيص بيص، فقال الوزير: يحسن أن يقال في هذه الدواة شيء من الشعر، فقال بعض الحاضرين، وكان ضريراً، ولم أقف على اسمه: ألين لداود الحديد كرامةً ... يقدره في السرد كيف يريد ولان لك البلور وهي حجارة ... ومعطفه صعب المرام شديد فقال حيص بيص: إنما وصفت صانع الدواة ولم تصفها، فقال الوزير: من عير غير (2) ، فقال الحيص بيص: صيغت دواتك من يوميك فاشتبها ... على الأنام ببلور ومرجان فيوم سلمك مبيض بفيض ندى ... ويوم حربك قانٍ بالدم القاني ثم وجدت البيتين الأولين في كتاب " الجنان " تأليف القاضي الرشيد أحمد بن الزبير - المذكور في أوائل هذا الكتاب (3) - ونسبهما إلى القاضي الرشيد أحمد بن قاسم الصقلي قاضي مصر، وذكر أنه دخل على الأفضل شاهان شاه أمير الجيوش بمصر - وقد تقدم ذكره أيضاً (4) - فرأى بين يديه دواة من   (1) الخريدة: من عقلي، وكذلك هو في ق ع بر من. (2) بر من والمختار: من غير غير؛ س: من غبر غبر. (3) انظر ج 1: 160. (4) انظر ج 2: 448. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 236 عاج محلاة بمرجان، فقال بديهاً: ألين لداود الحديد كرامةً ... يقدره في السرد كيف يريد ولان لك البلور وهي حجارة ... ومعطفه صعب المرام شديد (1) ومدحه أبو عبد الله محمد بن بختيار المعروف بالأبله الشاعر - المقدم ذكره - بقصائد عديدة: منها وهي أحسنها فلهذا ذكرتها: ولع النسيم وبانة (2) الجرعا ... وصفاك إلا الحلي والودعا يا دمية ضاقت خلاخلها ... عنها وضقت بحبها ذرعا قد كنت ذا دمعٍ وذا جلد ... فبقيت لا جلدا ولا دمعا صيرت جسمي للضنى سكنا ... وسكنت بعد تبالة الجزعا يا من رأى أدماء سانحةً ... قلبي لها لا المنحنى مرعى لاثت بمثل الغصن (3) مئزرها ... وجلت بعود أراكةٍ طلعا وإذا تراجعك الكلام فلا ... تعدد لأيام الصبا رجعى ولقد سمعت بالكأس تصبحني (4) ... سكرى اللواحظ وعثة المسعى في مستنير الزهر ما صنعت ... أبراده عدن ولا صنعا باكرت مفترعاً ثراه وما ... ركب الحمام لبانةٍ فرعا سلت عليه البارقات ظباً ... لبس الغدير لخوفها درعا يا عاذلي إن شئت تسمعني ... عذلاً فشق لصخرة سمعا طبعاً جبلت على الغرام كما ... جبل الوزير على الندى طبعا   (1) كذلك ذكر العماد في الخريدة 1: 326 (قسم العراق) ، وقد سقط هذا النص كله من النسخ ر س بر من. (2) س: ببانة. (3) س من بر ق: الدعص. (4) س: تصحبني. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 237 وخرج بعد هذا إلى المديح فأضربت عنه، ولولا خوف الإطالة لذكرته. ومدحه أبو الفتح بن عبد الله سبط ابن التعاويذي - المقدم ذكره - بقصيدة واحدة وهي (1) : سقاها الحيا من أربعٍ وطلول ... حكت دنفي من بعدهم ونجولي ضمنت لها أجفان عينٍ قريحةٍ ... من الدمع مدرار الشؤون همول لئن حال رسم الدار عما عهدته ... فعهد الهوى في القلب غير محيل خليلي قد هاج الغرام وشاقني ... سنا بارقٍ بالأجرعين (2) كليل ووكل طرفي بالسهاد تنظري ... قضاء مليٍ بالديون مطول إذا قلت أنحلت جسمي صبابة ... تقول وهل حب بغير نحول وإن قلت دمعي بالأسى فيك شاهدي ... تقول شهود الدمع غير عدول فلا تعذلاني إن بكيت صبابةً ... على ناقضٍ عهد الوفاء ملول فأبرح ما يمنى به الصب في الهوى ... ملال حبيب أو ملام عذول ودون الكثيب بيض عقائل ... لعبن بألباب لنا وعقول غداة التقت ألحاظها وقلوبنا ... فلم تجل إلا عن دمٍ وقتيل ألا حبذا وادي الأراك وقد وشت ... برياك ريحاً شمألٍ وقبول وفي أبرديه كلما اعتلت الصبا ... شفاء فؤاد بالغرام عليل دعوت سلواً فيك غير مساعدي (3) ... وحاولت صبرا عنك غير جميل تعرفت أسباب الهوى وحملته ... على كاهلٍ للنائبات حمول فلم ألحظ في حب الغواني بطائلٍ ... سوى رعي ليلٍ بالغرام طويل ومنها: إلى كم تمنيني الليالي بماجدٍ ... رزين وقار الحلم غير عجول   (1) ديوان ابن التعاويذي: 344. (2) في بعض النسخ: بالأبرقين. (3) ق ع والمختار: غير مساعد. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 238 أهز اختيالاً في هواه معاطفي ... وأسحب تيهاً في ثراه ذيولي لقد طال عهدي بالنوال وإنني ... لصب إلى تقبيل كف منيل وإن ندى يحيى الوزير لكافل ... بها لي، وعون الدين خير كفيل وكان عون الدين كثيراً ما ينشد: ما ناصحتك خبايا الود من أحد ... ما لم ينلك بمكروهٍ من العذل مودتي لك تأبى أن تسامحني ... بأن أراك على شيءٍ من الزلل وذكر الشيخ شمس الدين أبو المظفر يوسف بن قزغلي بن عبد الله سبط الشيخ جمال الدين أبي الفرج ابن الجوزي في تاريخه الذي سماه " مرآة الزمان " ورأيته في أربعين مجلداً وجميعه بخطه - وكان أبوه قزغلي مملوك عون الدين بن هبيرة المذكور، وزوجه (1) بنت الشيخ جمال الدين أبي الفرج المذكور، فأولدها شمس الدين فولاؤه له - إنه سمع مشايخه ببغداد يحكون أن عون الدين قال: كان سبب ولايتي المخزن أنني ضاق ما بيدي حتى فقدت القوت أياماً، فأشار علي بعض أهلي أن أمضي إلى قبر معروف الكرخي رضي الله عنه، فأسأل الله تعالى عنده، فإن الدعاء عنده مستجاب، قال: فأتيت قبر معروف فصليت عنده ودعوت، ثم خرجت لأقصد البلد، يعني بغداد، فاجتزت بقطفتا (2) - قلت: وهي محلة من محال بغداد - قال: فرأيت مسجداً مهجوراً فدخلت لأصلي فيه ركعتين، وإذا بمريض ملقى على بارية، فقعدت عند رأسه وقلت: ما تشتهي فقال: سفرجلة، قال: فخرجت إلى بقال هناك فرهنت عنده مئزري على سفرجلتين وتفاحة وأتيته بذلك، فأكل من السفرجلة، ثم قال: أغلق باب المسجد، فأغلقته، فتنحى عن البارية وقال: احفر هاهنا، فحفرت وإذا بكوز، فقال خذ هذا فأنت أحق به، فقلت: أما لك وارث فقال: لا، وإنما كان لي أخ وعهدي بعيد وبلغني أنه مات، ونحن من الرصافة،   (1) س: زوجته. (2) انظر التعريف بها في ياقوت. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 239 قال: وبينما هو يحدثني إذ قضى نحبه، فغسلته وكفنته ودفنته، ثم أخذت الكوز وفيه مقدار خمسمائة دينار وأتيت إلى دجلة لأعبرها، وإذا بملاح في سفينة عتيقة وعليه ثياب رثة، فقال: معي معي، فنزلت معه، وإذا به من أكثر الناس شبهاً بذلك الرجل، فقلت: من أين أنت فقال: من الرصافة، ولي بنات، وأنا صعلوك، قلت: فما لك أحد قال: لا، كان لي أخ ولي عنه زمان ما أدري ما فعل الله به، فقلت: ابسط حجرك، فبسطه فصببت المال فيه، فبهت، فحدثته الحديث، فسألني أن آخذ نصفه فقلت: لا والله ولا حبة، ثم صعدت إلى دار الخليفة وكتبت رقعة فخرج عليها إشراف المخزن، ثم تدرجت إلى الوزارة. وقال جدي الشيخ أبو الفرج في كتاب " المنتظم " (1) : وكان الوزير يسأل الله تعالى الشهادة ويتعرض لأسبابها، وكان صحيحاً يوم السبت ثاني عشر جمادى الأولى من سنة ستين وخمسمائة، فنام ليلة الأحد في عافية، فلما كان في وقت السحر قاء، فأحضر طبيباً (2) كان يخدمه فسقاه شيئاً، فيقال إنه سمه فمات، وسقي الطبيب بعده بنحو ستة أشهرٍ سماً فكان يقول: سقيت كما سقيت، ومات الطبيب. وقال في " المنتظم " أيضاً: وكنت ليلة مات الوزير نائماً على سطح مع أصحابي، فرأيت في المنام كأني في دار الوزير وهو جالس، فدخل رجل بيده حربة قصيرة (3) فضربه بها بين أنثييه فخرج الدم كالفوارة فضرب الحائط، فالتفت فإذا بخاتم من ذهب ملقى، فأخذته وقلت: لمن أعطيه أنتظر خادماً يخرج فأعطيه إياه، وانتبهت وحدثت أصحابي بالرؤيا، فلم أستتم الحديث حتى جاء رجل فقال: مات الوزير، فقال بعض الحاضرين: هذا محال، أنا فارقته أمس العصر وهو في كل عافية، وجاء آخر وصح الحديث، وقال لي ولده: لا بد أن تغسله، فأخذت في غسله ورفعت يده لأغسل مغابنه - قلت:   (1) المنتظم 10: 216. (2) ق ع س بر من: فحضر طبيب، وكذلك في المنتظم. (3) قصيرة: سقطت من: ع ق س بر من، والمنتظم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 240 المغابن: مطاوي البدن مثل الإبط وغيره، واحدها مغبن، بفتح الميم وكسر الباء الموحدة وسكون الغين المعجمة - قال: فسقط الخاتم من يده، فحين رأيت الخاتم تعجبت من المنام، قال: ورأيت في وقت غسله آثاراً في وجهه وجسده تدل على أنه مسموم، فلما خرجت جنازته غلقت أسواق بغداد (1) ، ولم يتخلف عن جنازته أحد، وصلى عليه في جامع القصر (2) ، وحمل إلى باب البصرة، فدفن في مدرسته التي أنشأها، وقد دثرت الآن، ورثاه جماعة من الشعراء؛ انتهى كلام أبي الفرج ابن الجوزي. وقال مؤلف سيرة الوزير المذكور: إن سبب موته كان بلغماً ثار بمزاجه وقد خرج مع المستنجد للصيد، فسقي مسهلاً فقصر عن استفراغه، فدخل إلى بغداد يوم الجمعة سادس جمادى الأولى راكباً متحاملاً إلى المقصورة لصلاة الجمعة فصلى بها وعاد إلى داره، فلما كان وقت صلاة الصبح عاوده الصبح عاوده البلغم، فوقع مغشياً عليه، فصرخ الجواري فأفاق فسكتهن، وبلغ الخبر ولده عز الدين أبا عبد الله محمداً، واكن ينوب عنه في الوزارة، فبادر إليه، فلما دخل عليه قال له: قد بث (3) أستاذ الدار عضد الدين (4) أبو الفرج محمد بن عبد الله بن هبة الله بن المظفر بن رئيس الرؤساء المعروف بابن سلمة جماعة ليستعلم (5) ما هذا الصياح، فتبسم الوزير على ما هو عليه من تلك الحال وأنشد: وكم شامتٍ بي عند موتي جهالةً ... بظلمٍ يسل السيف بعد وفاتي ولو علم المسكين ماذا يناله ... من الضر بعدي مات قبل مماتي ثم تناول مشروباً فاستفرغ به، ثم استدعى بماء فتوضأ للصلاة وصلى قاعداً فسجد فأبطأ عن القعود من السجود فحركوه فإذا هو ميت، فطولع به الإمام المستنجد فأمر بدفنه.   (1) ق ع س بر من: الأسواق ببغداد. (2) ق ع: جامع المنصور. (3) ر: بعث. (4) المختار: عضد الدولة. (5) س بر من: لتستعلم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 241 وخلف ولدين: أحدهما عز الدين المذكور والآخر شرف الدين أبو الوليد مظفر (1) . وأما مولده فقد ذكر أبو عبد الله محمد بن القادسي في " تاريخ الوزراء " (2) أنه ولد في سنة وتسعين وأربعمائة على ما ذكره من لفظه، رحمه الله تعالى. قال بعضهم: رأيته في المنام بعد موته، فسألته عن حاله، فقال: قد سئلنا عن حالنا فأجبنا ... بعد ما حال حالنا وحجبنا فوجدنا مضاعفاً ما كسبنا ... ووجدنا ممحصاً ما اكتسبنا ولما بلغ خبر موته عضد الدين ابن المظفر أستاذ الدار المذكور كان بحضرته سبط ابن التعاويذي - المذكور قبل هذا - وهو من موالي بني المظفر فإن أباه كان مملوكاً لبعض بني المظفر، واسمه نشتكين فسماه ابنه عبد الله، فأراد سبط بن التعاويذي أن يتقرب إلى عضد الدولة لعلمه ما بينه وبين الوزير، فأنشد مرتجلاً: قال لي، والوزير قد مات، قوم ... قم لنبكي أبا المظفر يحيى قلت أهون عندي بذلك رزأً ... ومصاباً وابن المظفر يحيا وقال آخر، ولا أذكر اسمه الآن، لكنه من الشعراء المشاهير: أيا رب مثل الماجد ابن هبيرة ... يموت ويحيا مثل يحيى بن جعفر يموت بيحيى كل فضلٍ وسؤدد ... ويحيا بيحيى كل جهل ومنكر والمقصود أن محاسنه كانت كثيرة، وقد أطلت هذه الترجمة حتى استوفيت مقاصدها. ورأيت في كتاب " النبراس في تاريخ خلفاء بني العباس " تأليف أبي الخطاب ابن دحية غلطة أحببت التنبيه عليها في هذا الكتاب كي لا يقف عليها   (1) ق ع س: أبو البدر ظفر. (2) س بر: تاريخ الوزارة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 242 أحد فيظنه مصيباً فيما ذكره، وهو أنه قال في خلافة المقتفي لأمر الله ما مثاله: وسعد بوزيره أبي المظفر عون الدين يحيى بن محمد بن هبيرة من ولد الأمير الكبير أبي حفص عمر بن هبيرة، وقد ذكر المؤرخون فصائل جده، التي حازها عون الدين من بعده، ثم ذكرت مكرمة لعمر بن هبيرة الفزاري أمير العراقين في دولة بني أمية، وظن ابن دحية أن الوزير المذكور من ذرية ذلك المتقدم، وعجبت منه من ذلك، فإن الوزير شيباني - كما شرحناه في أول الترجمة - وذاك فزاري النسب - كما يأتي في ترجمة ولده يزيد بن عمر بن هبيرة إن شاء الله تعالى - وأين شيبان من فزارة ولا شك أنه ما أوقعه في هذا الأمر إلا ما أراه في نسب الوزير، فقد جاء فيه عمر بن هبيرة، فتوهم أن هذا هو ذاك، وليس الأمر كما توهمه، ومثل ابن دحية لا يعذر فقد كان حافظاً ومطلعاً على أمور الناس، وهذا الأمر واضح لكن الخطأ موكل بالإنسان. (327) قلت: وأكثر من جرى ذكره في هذه الترجمة قد تقدم ذكره في هذا التاريخ، وأفردت لكل واحد منهم بترجمة مستقلة، سوى الشيخ الزبيدي، فإنه كان كبير القدر يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وما انتفع الوزير إلا بصحبته، وما ذكرته في هذا التاريخ، فينبغي التنبيه عليه، إذ مثله لا يهمل، وكان دخوله بغداد في سنة تسع وخمسمائة، وتوفي في شهر ربيع الأول سنة خمس وخمسين وخمسمائة، رحمه الله تعالى. وقال أبو عبد الله بن النجار في " تاريخ بغداد ": كان مولده بزبيد في ليلة الأربعاء الثاني والعشرين من المحرم سنة ستين وأربعمائة، وتوفي ليلة الاثنين مستهل شهر ربيع الآخر سنة خمس وخمسين وخمسمائة، ودفن بمقبرة جامع المنصور ببغداد، رحمه الله تعالى. وقول الآخر: أيا رب مثل الماجد ابن هبيرة ... يموت ويحيا مثل يحيى بن جعفر! (328) فالمراد به أبو الفضل يحيى بن أبي القاسم عبد الله بن محمد بن المعمر بن جعفر الملقب زعيم الدين، تولى النظر بالمخزن في جمادى الآخرة سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة إلى سنة سبع وستين، ففيها ناب في الوزارة بعد عزل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 243 أبي الفرج ابن المظفر، ولم يزل على ذلك إلى أن توفي، وكان على ذلك إلى أن توفي، وكان مشكوراً محمود الطريقة محباً لأهل العلم، وكانت ولادته ليلة الجمعة بعد العشاء الأخير التاسع والعشرين من صفر سنة إحدى عشر وخمسمائة، وتوفي ليلة العشرين من شهر ربيع الأول سنة سبعين وخمسمائة ببغداد، ودفن من الغد في الحربية بتربة له، رحمه الله تعالى (1) . 808 - (2) ابن زبادة أبو طالب يحيى بن أبي الفرج سعيد بن أبي القاسم هبة الله بن علي بن فرغلي (3) بن زبادة الشيباني، الكاتب المنشيء الواسطي الأصل، البغدادي المولد والدار والوفاة، الملقب قوام الدين، وقيل عميد الدين، كان من الأعيان الماثل والصدور الأفاضل، انتهت إليه المعرفة بأمور الكتابة والإنشاء والحساب مع مشاركته في الفقه وعلم الكلام والأصول وغير ذلك، وله النظم الجيد. جالس أبا منصور ابن الجواليقي وقرأ عليه من بعده، وسمع الحديث من جماعة، وخدم الديوان من صباه إلى أن توفي عدة خدمات، وكان مليح العبارة في الإنشاء، جيد الفكرة حلو الترصيع لطيف الإشارة، وكان الغالب عليه في رسائله العناية بالمعاني أكثر من طلب التسجيع، وله رسائل بليغة (4) وشعر رائق، وفضله أشهر من أن يذكر.   (1) كتب في ع أثر ذلك: آخر هذه الترجمة والحمد لله وحده؛ قلت وبعدها بحسب ترتيب ع تجيء ترجمة ابن الجراح. (2) ترجمته في معجم الأدباء 20: 16 ومرآة الجنان 3: 477 وعبر الذهبي 4: 284 والشذرات 4: 318 والبداية والنهاية 13: 17. (3) ابن فرغلي: سقطت من س ق ع والمختار. (4) علق صاحب المختار هنا بقوله: " قلت أعني كاتبها موسى بن أحمد، لطف الله به: ومن رسائله الفائقة ما كتبه عن الإمام الناصر إلى السلطان صلاح الدين ينكر عليه أموراً منها كونه تسمى بالملك الناصر وشارك الخليفة في هذا الاسم، وقفت عليها وعلى جوانب القاضي الفاضل عنها، وبينهما بون كبير، فما لحق فيها غباره، والله أعلم ". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 244 وتولى النظر بديوان البصرة وواسط والحلة، ولم يزل على ذلك إلى أن طلب من واسط والحلة، ولم يزل على ذلك إلى المحرم سنة خمس وسبعين وخمسمائة، ورتب حاجباً بباب النوبي، وقلد النظر في المظالم، ثم عزل عن ذلك في شهر ربيع الأول سنة سبع وسبعين، ثم أعيد إليه في جمادى الأولى سنة اثنتين وثمانين، فلما قتل أستاذ الدار - وهو مجد الدين أبو الفضل هبة الله بن علي بن هبة الله بن محمد بن محمد بن الحسن المعروف بابن الصاحب، وكان قتله يوم السبت تاسع عشر ربيع الأول سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة، ترتب ابن زبادة المذكور مكانه، ثم عزل في سنة خمس وثمانين، وعاد إلى واسط فأقام بها إلى أن استدعي في شهر رمضان سنة اثنتين وتسعين، وقلد ديوان الإنشاء في يوم الاثنين والعشرين من شهر رمضان، ثم رد إليه النظر في ديوان المقاطعات، فكان على ذلك إلى حين وفاته. وكان حسن السيرة محمود الطريقة متدنياً، حدث بشيء يسير وكتب الناس عنه كثيراً من نظمه ونثره، فمن ذلك قوله: باضطراب الزمان ترتفع (1) الأنذال فيه حتى يعم البلاء ... وكذا الماء ساكناً (2) فإذا حرك ثارت من قعره الأقذاء ... وله أيضاً: إني لأعظم ما تلقونني جلدا ... إذا توسطت هول الحادث النكد كذلك الشمس لا تزداد قوتها ... إلا إذا حصلت في زبرة الأسد وكتب إلى الإمام المستنجد يهنيه بالعيد: يا ماجداً قدراً أن نهنيه ... لنا الهناء بظلٍ منك ممدود   (1) س: يرتفع. (2) س: ساجياً. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 245 الدهر أنت ويوم العيد منك وما ... في العرف أنا نهني الدهر (1) بالعيد وله أيضاً: إن كنت تسعى للسعادة فاستقم ... تنل المراد ولو سموت إلى السما ألف الكتابة وهو بعض حروفها ... لما استقام على الجميع تقدما وله أيضاً: لا تغبطن وزيراً للملوك وإن ... أناله الدهر منهم فوق همته واعلم بأن له يوماً تمور به ال ... أرض الوقور كما مرت لهيبته هرون وهو أخو موسى الشقيق له ... لولا الوزارة لم يأخذ بلحيته وله كل معنى مليح، وله ديوان رسائل وقفت عليه في بلادنا، ولم يحضرني شيء منه كي أثبته هاهنا. وقال أبو عبد الله محمد بن سعيد الدبيثي في تاريخه، أنشدنا أبو طالب يحيى بن سعيد ابن هبة الله، يعني ابن زبادة المذكور، من حفظه، قال: أنشدني أبو بكر أحمد بن محمد الأرجاني لما قدم بغداد علينا في سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة لنفسه - قلت: وهو ناصح الدين أبو بكر أحمد الأرجاني المقدم ذكره (2) - قوله: ومقسومة العينين من دهش النوى ... وقد راعها بالعيس رجع حداء تجيب بإحدى مقلتيها تحيتي ... وأخرى تراعي أعين الرقباء رأت حولها الواشين طافوا فغيضت ... لهم دمعها واستعصمت بحياء فلما بكت عيني غداة وداعهم ... وقد روعتني فرقة القرناء بدت في محياها خيالات أدمعي ... فغاروا وظنوا أن بكت لبكائي   (1) ق بر: العيد. (2) ج 1: 151. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 246 وكتب إليه أبو الغنائم محمد بن علي المعروف بابن المعلم الهرثي الشاعر - المقدم ذكره (1) - وقد عزل عن نظر واسط: ولأنت إن لم يبلل الغيث الثرى ... تروي الورى بسماحك الهتان لم يعزلوك عن البلاد لحالةٍ ... تدعو إلى النقصان والشنآن بل مذ رأوا آثار جودك زاخراً ... حفظوا بلادهم من الطوفان قلت: وحكى لي الوجيه أبو عبد الله محمد بن علي بن أبي طالب المعروف بابن سويد التاجر التكريتي قال: كان الشيخ محيي الدين أبو المظفر يوسف بن الحافظ جمال الدين أبي الفرج بن الجوزي الواعظ المشهور قد توجه رسولاً من بغداد إلى الملك العادل ابن الملك الكامل ابن الملك العادل بن أيوب سلطان (2) مصر في ذلك الوقت، وكان أخوه الملك الصالح نجم الدين أيوب ابن الملك الكامل محبوساً في قلعة الكرك يومئذ - وقد شرحت ذلك في ترجمة الكامل في هذا التاريخ - قال الوجيه: فلما عاد محيي الدين راجعاً إلى بغداد وقدم دمشق، كنت بها، فدخلت عليه أنا والشيخ أصيل الدين أبو الفضل عباس بن عثمان بن نبهان الإربلي، وكان رئيس التجار في عصره، وجلسنا نتحدث معه فقال: قد حلفت الملك الناصر داود صاحب الكرك أن لا يخرج الملك الصالح من الحبس إلا بأمر أخيه الملك العادل، قال: فقال له الأصيل: مولانا، هذا بأمر الديوان العزيز فقال محيي الدين: وهل هذا يحتاج (3) إلى إذن هذا اقتضته المصلحة، ولكن أنت تاريخ يا أصيل، فقال: يعني مولانا أني قد كبرت وما أدري ما أقول، وأنا أحكي لمولانا حكاية في هذا المعنى أعرفها من غرائب الحكايات، قال: هات، فقال: كان ابن رئيس الرؤساء ناظر واسط يحمل في كل شهر حمل واسط وهو ثلاثون ألف دينار لا يمكن أن يتأخر يوماً واحداً عن العادة، فتعذر في بعض الأشهر كمال الحمل، فضاق صدره لذلك وذكره   (1) انظر ج 5: 5. (2) المختار: صاحب. (3) ع: محتاج. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 247 لنوابه، فقالوا له: يا مولانا هذا ابن زبادة عليه من الحقوق أضعاف ذلك، ومتى حاسبته قام بما يتم الحمل وزيادة، فاستدعاه وقال له: لم لا تؤدي كما يؤدي الناس فقال: أنا معي خط الإمام المستنجد بالمسامحة، قال: هل معك خط مولانا الإمام الناصر قال: لا، قال: قم واحمل ما يجب عليك، قال: ما ألتفت إلى أحد ولا أحمل شيئاً. ونهض من المجلس، فقال النواب لابن رئيس الرؤساء: أنت صاحب الوسادتين وناظر النظار، وما على يدك يد، ومن هو هذا حتى يقابلك بمثل هذا القول ولو كبست داره وأخذت ما فيها ما قال لك أحد شيئاً، وحملوه عليه حتى ركب بنفسه وأجناده، وكان ابن زبادة يسكن قبالة واسط، وقدموا إلى ابن رؤساء السفن حتى يعبر إليه، وإذا بزبزب قد قدم من بغداد، فقال: ما قدم هذا إلا في مهم، ننظر ما هو ثم نعود إلى ما نحن بسببه، فلما دنا من الزبزب فإذا فيه خدم من خدام الخليفة، فصاحوا به: الأرض الأرض، فقبل الأرض وناولوه مطالعة، وفيها: قد بعثنا خلعة ودواة لابن زبادة، فتحمل الخلعة على رأسك والدواة على صدرك، وتمشي راجلاً إليه وتلبسه الخلعة وتجهزه إلينا وزيراً، فحمل الخلعة على رأسه والدواة على صدره ومشى إليه راجلاً، فلما رآه ابن زبادة أنشده ابن رئيس الرؤساء: إذا المرء حي فهو يرجي ويتقي ... وما يعلم الإنسان ما في المغيب وأخذ يعتذر إليه، فقال له ابن زبادة، فقال له ابن زبادة: لا تثريب عليكم اليوم، وركب في الزيزب إلى بغداد، وما علموا أن أحداً أرسلت إليه الوزارة غيره، فلما وصل إلى بغداد كان أول ما نظر فيه أن عزل ابن رئيس الرؤساء عن نظر واسط قال: هذا ما يصلح لهذا المنصب، ثم قال الأصيل: ولا يأمن مولانا أن يخرج الملك الصالح ويملك ويعود إليه رسولاً ويقع وجهك في وجهه وتستحيي منه، فأنشده محيي الدين قوله: وحتى يؤوب القارظان كلاهما ... وينشر في الموتى كليب لوائل فما كان إلا مديدة حتى خرج الملك الصالح من حبس الكرك وملك مصر وكان ما كان. وقلت: وكنت بمصر ومحيي الدين بها رسول إلى الملك الجزء: 6 ¦ الصفحة: 248 العادل، وقبض العادل، وجاء الصالح فخرج محيي الدين التقاه، وشاهدت ذلك. هكذا ذكر لي الوجيه هذه الحكاية، وفيها غلط إما في الوجيه أو من الأصيل، فإن ابن ما ولي الوزارة ولا تولى إلا ما ذكرته في أوائل ترجمته، فإن كان هذا صحيحاً فيكون ذلك لما طلب للإنشاء كما شرحته، والله أعلم بالصواب. قال ابن الدبيثي المذكور: سألت أبا طالب ابن زبادة عن مولده فقال: ولدت يوم الثلاثاء الخامس والعشرين من صفر سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة، وتوفي ليلة الجمعة السابع والعشرين من ذي الحجة سنة أربع وتسعين وخمسمائة وصلي عليه بجامع القصر، ودفن بالجانب الغربي بمشهد الإمام موسى بن جعفر رضي الله عنهما، يعني ببغداد. وزبادة: بفتح الزاي، هو القطعة من الزباد الذي يتطيب النسوان به، والله أعلم. 809 - (1) يحيى بن نزار المنبجي أبو الفضل يحيى بن نزار بن سعيد المنبجي، ذكره الحافظ أبو سعد عبد الكريم السمعاني في كتاب " الذيل على تاريخ الخطيب " المختص ببغداد، فقال: له شعر مطبوع غير متكلف، وكتب لي أبياتاً من شعره، وسمعت منه، وسألته عن مولده فقال: ولدت في المحرم من سنة ست وثمانين وأربعمائة بمنبج. وأورد له مقاطيع أنشده إياها، فمكن ذلك قوله:   (1) ترجمته في الخريدة (قسم الشام) 2: 234 ومرآة الزمان: 233. والمنتظم 10: 191 ومعجم الأدباء 20: 36. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 249 وأغيد غضٍ زاد خط عذاره ... لعاشقه في همه والبلابل تموج بحار الحسن في وجناته ... فتقذف منها عنبراً في السواحل وتجري بخديه الشبيبة ماءها ... فتنبت ريحاناً جنوب الجداول قلت: وقد خطر لي على هذا مأخذ وهو أنه جعل البيت الثاني بحار الحسن تموج في وجناته، فكيف يقول في البيت الثالث " وتجري بخديه الشبيبة ماءها " وما مقدار ماء الشبيبة بالنسبة إلى بحار الحسن وما كفى هذا حتى جعلها جداول، والجداول والنهار، وأين النهار من البحار ثم إنه في البيت الثاني قد شبه العذار بالعنبر، فكيف يجعله في البيت الثالث ريحاناً وأين العنبر من الريحان وإن كان كل واحد من العنبر والريحان قد جرت عادة الشعراء أن يشبهوا به العذار، ولكن في مقطوع واحد من الشعر ما لهم عادة يجمعون بينهما. وكنت قد سمعت في زمن الاشتغال بالأدب بيتين استحسنتهما ولم أعرف قائلهما، وهما: يا عاذلي في حب ذي عارضٍ ... ما البلد المخصب كالماحل يموج بحر الحسن في خده ... فيقذف العنبر في الساحل فلما كان في أوائل سنة اثنتين وسبعين وستمائة وقفت بالقاهرة المحروسة على مجلد من كتاب " السيل والذيل " تأليف عماد الدين الكاتب الأصبهاني، وقد جعله ذيلاً على كتابه " خريدة القصر "، فرأيت فيه ترجمة يحيى بن نزار المنبجي المذكور، وقد ذكر له مقدار عشرة أبيات يمدح فيها السلطان نور الدين محمود بن الزنكي رحمه الله تعالى، وفي جملة الأبيات البيت الثاني من هذين البيتين، فعلمت أن الذي نظم ذلك المعنى في البيت الثاني من الثلاثة هو الذي نظم هذين البيتين في هذه الأبيات التي ذكرها في كتاب " السيل ". ثم بعد ذلك بقليل جاءني صاحبنا جمال الدين أبو المحاسن يوسف بن أحمد المعروف بالحافظ اليغموري (1)   (1) ترجمة الحافظ اليغموري في الزركشي 3 الورقة: 365 والبدر السافر، الورقة 237؛ سمي اليغموري لأنه صحب الأمير ابن يغمور ولازمه، كان فاضلاً أديباً جمع مجاميع كثيرة مفيدة وعمل تاريخاً، ولد بدمشق سنة ستمائة تقريباً وتوفي بالمحلة سنة 673. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 250 فتذاكرنا وجرى ذكر البيتين وقال: إنهما لعماد الدين أبي المناقب حسام بن عوى بن يونس المحلي نزيل دمشق. وذكر أنه سمعهما منه نزار المنبجي ويكون العماد المحلي قد نظم البيت الأول وجعله توطئة للثاني، واستعمله على وجه التضمين كما جرت العادة في مثله، لكنه كان ينبغي أن ينبه على أنه تضمين كي لا يعتقد من يقف عليهما أنهما له، فأن البيت الأول ليس في جملة أبيات يحيى المنبجي التي مدح بها نور الدين رحمه الله تعالى. ثم من بعد ذلك خطرت لي مؤاخذة على العماد المحلي فإنه قال في بيته الذي جعله توطئة للثاني: ما البلد المخصب كالماحل ... والخصب والمحل إنما يكون بسبب النبات وعدمه، والبيت الثاني الذي هو التضمين شبه العذار بالعنبر، وأين النبات من العنبر فالتوطئة بين البيتين ليست بملائمة، وهذه المؤاخذة مثل المؤاخذة المتقدمة على الأبيات الثلاثة. وكنت وقفت على بيتين للعماد المحلي المذكور أيضاً أنشدنيهما عنه جماعة وهما: قيل لي من هويت قد عبث الشع ... ر بخديه قلت ما ذاك عاره جمرة الخد أحرقت عنبر الخ ... ل فمن ذلك الدخان عذاره وسنح لي عليهما مؤاخذة مثل المؤاخذة المذكورة، وهي أنه لما قيل له إن الشعر عبث بخديه ما أنكر ذلك بل قال " ما ذاك عذاره " فقد وافق على أنه شعر، غاية ما في الباب أنه قال هذا الشعر ما هو عاره، فكيف يقول بعد هذا " جمرة الخد أحرقت عنبر الخال " إلى آخره، فجعل العذار دخان العنبر، وأين دخان العنبر من الشعر بل كان ينبغي أن يقول لهم: هذا ما هو شعر، بل هو دخان العنبر حتى يتم له المعنى. وقد نظم صاحبنا ورفيقنا في الاشتغال بحلب عون الدين أبو الربيع سليمان بن بهاء الدين عبد المجيد بن العجمي الحلبي (1) بيتين ألم فيهما بهذا المعنى وهما:   (1) ترجمته في الفوات 1: 358 وفيه البيتان؛ ولد سنة ست وستمائة وتوفي سنة ست وخمسين وستمائة بدمشق، وكان متأهلاً للوزارة كامل الرياسة لطيف الشمائل؛ وانظر عقود الجمان لابن الشعار ج 3، الورقة: 111 والزركشي: 2، الورقة: 127. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 251 لهيب الخد حين بدا لعيني ... هوى قلبي عليه كالفراش فأحرقه فصار عليه خالاً ... وها أثر الدخان على الحواشي وقد أحسن في هذا المعنى وخلص من تلك المؤاخذة، لكن وقع في مؤاخذة أخرى، وهي أنه جعل العذار احتراق قلبه، والعماد جعله دخان عنبر الخال، وبين الدخانين بون كبير، فهذا طيب الرائحة وذاك كريه الرائحة. وقد سبق ترجمة عبد الله بن صارة الشنتريني (1) بيتان أبدع فيهما، وهما: ومهفهف رقت حواشي حسنه ... فقلوبنا وجداً عليه رقاق لم يكس سالفه العذار وإنما ... نفضت عليه صباغها الأحداق والأصل في هذا الباب (2) كله قوله أبي إسحاق إبراهيم الصابي الكاتب في غلامه الأسود واسمه يمن - وقد سبق ذكر الأبيات في ترجمته من هذا الكتاب (3) ، والمقصود منها هاهنا قوله في أولها: لك وجه كأن يمناي خطت ... هـ بلفظ تمله آمالي فيه معنى من البدور ولكن ... نفضت صبغها عليه الليالي وبيتا عون الدين فيهما إلمام بقول أبي الحسين أحمد بن منير الطرابلسي - المقدم ذكره: لا تخالوا الخال يعلو خده ... قطرةً من دم جفني نطفت ذاك من نار فؤادي جذوة ... فيه ساخت وانطفت ثم طفت قلت: وقد خرجنا عن المقصود وانتشر الكلام، لكن ما خلا ما خلا من فائدة.   (1) انظر ج 3: 94. (2) المختار: المعنى. (3) ج 1: 53. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 252 وقال أبو سعد السمعاني أيضاً: أنشدني يحيى بن نزار المنبجي لنفسه: لو صد عني دلالاً أو معاتبة ... لكنت أرجو تلافيه وأعتذر لكن ملالاً فلا أرجو تعطفه ... جبر الزجاج عسير حين ينكسر وله غير هذا نظم مليح ومعان لطيفة. وقال أبو الفرج صدقة بن الحسين بن الحداد (1) في تاريخه المرتب على السنين ما مثاله: سنة أربع وخمسين وخمسمائة، في ليلة الجمعة سادس ذي الحجة مات يحيى بن نزار المنبجي ببغداد، ودفن بالوردية، قيل إنه وجد في أذنه ثقلاً فاستدعى إنساناً من الطرقية، فامتص أذنه فخرج شيء من مخه، فكان سبب موته، رحمه الله تعالى. وقال السمعاني: هو أخو أبي الغنائم التاجر المعروف، وذكر أبا الغنائم ووصفه وأثنى عليه في ترجمة مستقلة في كتاب " الذيل " أيضاً، رحمه الله تعالى. (329) وأما العماد المحلي (2) فإنه كان أديباً لطيفاً على ما يحكى عنه من النوادر وله نظم مليح في المقطعات دون القصائد، وكان يحفظ المقامات وشرحها، وتوفي ليلة الأربعاء عاشر شهر ربيع الأول سنة تسع وستمائة بدمشق، ودفن بمقابر الصوفية، وعرف بابن الجمال (3) ، وولد في سنة ستين وخمسمائة تقديراً بقوص، ونشأ بالمحلة، فنسب إليها. ثم وجدت في مسوداتي بخطي بيتاً منسوباً إلى الوجيه أبي الحسن علي بن يحيى بن الحسين بن أحمد المعروف بابن الذروي الأديب الشاعر وهو. عذاره دخان ندٍ خاله ... وريقه من ماء ورد خده ثم وجدت منسوباً إلى ابن سناء الملك - المقدم ذكره - والصحيح أنها لأسعد   (1) بغدادي مؤرخ أديب توفي سنة 573هـ، وقد ابتدأ تاريخه بعام 527؛ انظر ترجمته في المنتظم 10: 276 وشذرات الذهب 4: 245 ولسان الميزان 3: 184 وتاريخ ابن الأثير 11: 449. (2) انظر ذيل الروضتين: 160 قال: وله ترجمة حسنة في معجم القوصي. (3) س: بابن الحمال. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 253 ابن مماتي - المقدم ذكره أيضاً: سمراء قد أزرت بكل أسمرٍ ... بلونها ولينها وقدها (1) أنفاسها دخان ند خالها ... وريقها من ماء ورد خدها لو كتب البدر إلى خدمتها ... ملطفاً ترجمه بعبدها ورأيت للمهذب أبي نصر محمد بن إبراهيم بن الخضر الحلبي المعروف بابن البرهان الحاسب المنجم الطبري (2) : ومهفهفٍ راقت نضارة وجهه ... فالعين تنظر منه أحسن منظر أصلى بنار الخد عنبر خاله ... فبدا العذار دخان ذاك العنبر فعلمت أن العماد المحلى إنما أخذ ذلك المعنى من أحد هؤلاء، والله سبحانه وتعالى أعلم. 810 - (3) تاج الدين ابن الجراح أبو الحسين يحيى بن أبي علي منصور بن الجراح بن الحسين بن محمد بن داود بن الجراح المصري، وهذه الزيادة في نسبه وجدتها بخط بعض الأدباء ولا أتحققها، والأول أصح (4) ، الكاتب المنعوت (5) تاج الدين؛ كتب في ديوان   (1) سقط البيت من س. (2) أبو نصر الحلبي الحاسب يعرف بالسطيل، وكان والده يعرف بالبرهان المنجم الطبري، ولد المهذب بحلب سنة 580 وكان فاضلاً ديباً له تواليف مفيدة، وصنف زيجاً ومقدمة في الحساب، وشعره في مجلدين، استوطن صرخد وتوفي بها سنة 655 (الوافي 1: 178) . (3) ترجم له ابن الشعار في عقود الجمان: 10 الورقة: 98 ونسبه كما ورد هنا: ولا أدري الزيادة التي يعينها المؤلف. (4) س بر من: صحيح. (5) بر من: الملقب. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 254 الإنشاء بالديار المصرية مدة طويلة. وكتب الكثير، وكان خطه في غاية الجودة، وكان فاضلاً أديباً متقناً، له فطرة حسنة وشعر فائق ورسائل أنيقة، وسنع الحديث بثغر الإسكندرية المحروسة على الحافظ أبي طاهر السلفي وأبي الثناء حماد بن هبة الله الحراني، وحدث وسمع الناس عليه. وله لغز في الدملج الذي تلبسه النساء، وهو بديع في بابه فأحببت ذكره، وهو نثر: ما شيء قلبه حجر، ووجهه قمر، إن نبذته صبر، واعتزل البشر وإن أجعته رضي بالنوى، وانطوى على الخوى، وإن أشبعته قبل قدمك، وصحب خدمك، وإن غلفته ضاع، وإن أدخلته السوق أبى أن يباع، وإن أظهرته جمل المتاع، وأحسن الإمتاع، وإن شددت ثانيه، وحذفت منه القافية، كدر الحياة وأوجب التخفيف في الصلاة، وأحدث في (1) وقت العصر الضجر، ووقت الفجر الخدر، وجمع بين حسن العقبى وقبح الأثر، هذا وإن فصلته دعا لك، وأبقى ما إن ركبته هالك، وربما بلغك آمالك، وكثر مالك، وأحسن بعون المساكين مآلك، والسلام. قلت: وهذا اللغز قد يقف عليه من لا يعرف طريق حله، فيعسر عليه تفسيره، فيحتاج إلى الإيضاح، فأقول: أما قوله " ما شيء قلبه حجر " فمراده قلب حروف دملج، فإنا إذا قلبنا هذه الحروف يخرج منها " جلمد " وهو الحجر، وقوله " ووجهه قمر " يريد أنه مستدير كالقمر، وقوله " إن نبذته صبر واعتزل البشر " فالبشر جمع بشرة، فالإنسان إذا ألقى الدملج عنه صبر واعتزل بشرته إذ ليس فيه أهلية المنع فهو يصبر ويعتزل المكان الذي كان فيه. وقوله " وإن أجعته رضي بالنوى " فالنوى لفظ مشترك يقع على البعد وعلى نوى التمر، وعادتهم في بلاد العراق أن يطحنوا نوى التمر والرطب والبسر ويعلفوا به البقر، وقصد هاهنا هذه التورية، فإن الدملج إذ أخرج من العضد أو من الساق فقد جاع، لأنه يكون فارغ الجوف، ويرضى بالنوى الذي هو البعد عن عضو صاحبه، ويقولون: فلان يرضى بالنوى، إذا كان فقيراً لا يجد ما يتبلغ به، فهو يجتزئ بمص النوى، وهذا يفعله أهل   (1) في: زيادة من س والمختار. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 255 الحجاز والبلاد المجدية، لقلة الأقوات عندهم، فقد استعمل صاحب هذا اللغز لفظة النوى في هذين المعنيين، وهذه هي التورية، وقوله " وانطوى على الخوى " فالخوى هو الخلو، وإذا كان فارغ الجوف فهو خاوٍ، وقوله " وإن أشبعته قبل قدمك " مراده بالإشباع هنا لبس الدملج، فإن صاحبه إذا لبسه فقد ملأ جوفه، ويكون فوق القدم فكأنه يقبله. وقوله " وصحب خدمك " فيه تورية أيضاً فإن الخدم جمع خادم، وهذا الجمع قليل الاستعمال لهذا الواحد فإنه لا يقال فاعل وجمعه فعل إلا في ألفاظ مسموعة مثل خادم وخدم وغائب وغيب، وحارس وحرس، وجامد وجمد، وغير ذلك، فهو موقوف على السماع، وخدم جمع خدمة أيضاً، وهو سير يشد في رسغ البعير تشد إليه سريحة النعل وبه سمي الخلخال خدمة لأنه ربما كان من سيور يركب فيه الذهب والفضة ويجمع على خدام أيضاً. وقوله " وإن غلفته ضاع " هذا فيه تورية أيضاً، فإن التغليف أن يجعل للشيء غلافاً، والتغليف استعمال الطيب أيضاً. وقوله " ضاع " فيه تورية أيضاً، فإنه يقال ضاع الشيء من الضياع، وضاع الطيب إذا عبقت رائحته. وقوله " وإن أدخلته السوق أبى أن يباع " فالسوق جمع ساق، وفيه التورية أيضاً لأن السوق موضع البيع والشراء، والسوق كما ذكرناه. وقوله " أبى أن يباع " لأن العادة أنه لا يباع إلا إذا أخرج من العضو الذي هو فيه، ولا يباع قبل إخراجه، فكأنه قبل الإخراج أبى البيع، وقوله " وإن أظهرته جمل المتاع، وأحسن الإمتاع " فهذا ظاهر لا حاجة له إلى تفسير. وقوله " وإن شددت ثانيه " وهو الميم، و " حذفت منه القافية " وهي الجيم، فيبقى الدمل، وهو يكدر الحياة بألمه، ويوجب التخفيف في الصلاة للألم أيضاً. وقوله " وأحدث في وقت العصر الضجر " فالعصر فيه التورية أيضاً، لأنه اسم الصلاة، وهو مصدر لفعل عصر، وكذلك الفجر، لأنه اسم للصبح وهو مصدر لفعل فجر، فالإنسان في وقت عصر الدمل يحصل له الضجر والقلق وإذا فجره وخلص منه حصل له الخدر والراحة. وقوله " وجمع بين حسن العقبى وقبح الأثر " فقصد المقابلة بين الحسن والقبح، ولا شك أن عقبى انفجار الدمل حسنة، وإن كان الأثر الذي يبقى في المكان قبيحاً. وقوله الجزء: 6 ¦ الصفحة: 256 " وإن فصلته دعا لك " معناه أنك إذا فصلت أحد النصفين من لفظ الدملج من النصف الآخر، فالنصف منه " دُم " وهو الدعاء للإنسان بالدوام، وقوله " وأبقى ما إن ركبته هالك " فالباقي منه " لج " واللج هو لج البحر، وإن كان النصف من الدملج مخففاً، ولج البحر مشدداً، لكنهم يغتفرون مثل هذا في الألغاز والتصاحيف والأحاجي، ولا يبالون به، ولا شك أن ركوب البحر أمر هائل، فلهذا قال " هالك وربما بلغك آمالك " لأنه يوصل الإنسان إلى الموضع الذي يقصده. وقوله " وكثر مالك " معناه إذا ركبه الإنسان للتجارة، وقوله " وأحسن بعون المساكين مآلك "، فعون المساكين هو السفينة، كما قال الله تعالى " أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر " " الكهف ": فهي عون لهم على حاجتهم وسد خلتهم، ومآل الشيء عاقبة أمره، والله تعالى أعلم. قلت: وفي اللغز ثماني لغات، لغز بضم اللام وسكون الغين، ولغز بضمهما، ولغز بضم اللام وفتح الغين، ولغز بفتح اللام وسكون الغين، ولغز بفتحهما، وألغوزة الهمزة وسكون اللام وضم الغين، ولغيزي بضم اللام وتشديد الغين مع القصر، ولغيزاء مثل الأول إلا أن الغين مخففة ومفتوحة والألف ممدودة، والله أعلم. وقد طال الكلام لكن الحاجة دعت إليه كي لا يبقى فيه التباس على سامعه، ورأيت في مجموع بخط بعض الفضلاء بيتين منسوبين إليه، وهما هذان: أمد كفي إلى البيضاء أقلعها ... من لحيتي فتفديها بسوداء هذي يدي وهي مني لا تطاوعني ... على مرادي فما ظني بأعدائي وكانت ولادة المذكور في ليلة السبت خامس عشر شعبان سنة إحدى وأربعين وخمسمائة. وتوفي في خامس شعبان سنة ست عشرة وستمائة بدمياط، والعدو المخذول محاصرها، رحمه الله تعالى. وجراح: بفتح الجيم وتشديد الراء وبعد الألف حاء مهملة. ثم إن العدو ملك دمياط يوم الثلاثاء السابع والعشرين من الشهر المذكور، والله أعلم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 257 ونقلت من خط الشيخ مهذب الدين أبي طالب محمد بن علي اللغوي (1) المعروف بابن الخيمي الحلي نزيل مصر أن العدو نزل قبالة دمياط يوم الثلاثاء ثاني عشر ربيع الأول سنة خمس عشرة وستمائة، ونزل البر الشرقي يوم الثلاثاء سادس عشر ذي القعدة من السنة، وأخذ الثغر يوم الثلاثاء السادس والعشرين (2) من شعبان سنة ست عشرة وستمائة، واستعيدت منهم يوم الأربعاء تاسع عشر رجب سنة ثماني عشرة وستمائة، ومدة نزولهم عليها إلى أن انفصلوا عنها ثلاث سنين وثلاثة أشهر وسبعة عشر يوماً، ومن الاتفاق العجيب نزولهم عليها يوم الثلاثاء وإحاطتهم بها يوم الثلاثاء وملكهم لها يوم الثلاثاء، وقد جاء في الخبر أن الله تعالى خلق المكروه يوم الثلاثاء. ولفظة دمياط سريانية، وأصلها بالذال المعجمة، ويقولونه (3) ذمط، وتفسيره القدرة الربانية، وكأنه إشارة إلى مجمع البحرين العذب والملح، والله تعالى أعلم. 811 - (4) جمال الدين ابن مطروح أبو الحسن يحيى بن عيسى بن إبراهيم بن الحسين بن علي بن حمزة بن إبراهيم بن الحسين بن مطروح، الملقب جمال الدين، من أهل الصعيد مصر، ونشأ هناك وأقام بقوص مدة، وتنقلت به الأحوال في الخدم والولايات، ثم اتصل بخدمة السلطان الملك الصالح أبي الفتح أيوب الملقب نجم الدين ابن السلطان   (1) اللغوي: سقطت من ق. (2) ابن الشعار: الخامس والعشرين. (3) س: ويقولون. (4) ترجمته في البدر السافر، الورقة 232 وابن الشعار: 10 الورقة: 8 وذيل الروضتين 187 ومرآة الزمان: 788 ومرآة الجنان 4: 119 والنجوم الزاهرة 7: 27 وحسن المحاضرة 1: 143 والشذرات 5: 247. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 258 الملك الكامل ابن السلطان الملك العادل بن أيوب وكان إذ ذاك نائباً عن أبيه الملك الكامل بالديار المصرية، ولما اتسعت مملكة الكامل بالبلاد المصرية بل بالبلاد الشرقية، فصار له آمد وحصن كيفا وحران والرها والرقة ورأس عين وسروج وما انضم إلى ذلك، سير إليها ولده الملك الصالح المذكور نائباً عنه، وذلك في سنة تسع وعشرين وستمائة، فكان ابن مطروح المذكور في خدمته، ولم يزل يتنقل في تلك البلاد إلى أن وصل الملك الصالح إلى مصر مالكاً لها، وكان دخوله القاهرة يوم الأحد السابع والعشرين من ذي القعدة سنة سبع وثلاثين وستمائة، ثم وصل ابن مطروح بعد ذلك إلى الديار المصرية في أوائل سنة تسع وثلاثين وستمائة، فرتبه ناظراً في الخزانة، ولم يزل يقرب منه ويحظى عنده إلى أن ملك الملك الصالح دمشق في الدفعة الثانية، وكان ذلك في جمادى الأولى من سنة ثلاث وأربعين وستمائة. ثم إن السلطان بعد ذلك رتب لدمشق نواباً (1) ، فكان ابن مطروح في صورة وزير لها، ومضى إليها وحسنت حالته وارتفعت منزلته. ثم إن الملك الصالح توجه إلى دمشق فوصلها في شعبان سنة ست وأربعين، وجهز عسكراً إلى حمص لاستنقاذها من يدي نواب الملك الناصر أبي المظفر يوسف الملقب صلاح الدين بن الملك العزيز بن الملك الظاهر ابن السلطان صلاح الدين صاحب حلب، فإنه قد انتزعها من صاحبها الملك الأشرف مظفر الدين أبي الفتح موسى ابن الملك المنصور إبراهيم ابن الملك المجاهد أسد الدين شيركوه عنوة، وكان منتمياً إلى الملك الصالح، فخرج من مصر لاسترداد حمص له، فعزل ابن مطروح عن ولايته بدمشق (2) ، وسيره مع العسكر المتوجه إلى حمص، وأقام الملك الصالح بدمشق إلى أن ينكشف له ما يكون من أمر حمص، فبلغه أن الفرنج قد اجتمعوا بجزيرة قبرص على عزم قصد الديار المصرية، فسير إلى عسكره المحاصرين بحمص وأمرهم أن يتركوا ذلك المقصد ويعودوا إلى لحفظ الديار المصرية، فعاد بالعسكر وابن مطروح في الخدمة، والملك   (1) ق: نائباً. (2) ر: ولاية دمشق. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 259 الصالح متغير عليه متنكر له لأمور نقمها عليه، وطرق الفرنج البلاد في أوائل سنة سبع وأربعين، وملكوا دمياط يوم الأحد الثاني والعشرين من صفر من السنة، وخيم الملك الصالح بعسكره على المنصورة، وابن مطروح مواظب على الخدمة مع الإعراض عنه، ولما مات الملك الصالح ليلة النصف من شعبان سنة سبع وأربعين بالمنصورة وصل ابن مطروح إلى مصر وأقام في داره إلى أن مات. هذه جملة حاله على الإجمال. وكانت أدواته جميلة وخلاله حميدة، جمع بين الفضل والمروءة والأخلاق الرضية، وكان بيني وبينه مودة أكيدة ومكاتبات في الغيبة، ومجالس في الحضرة تجري فيها مذاكرات أدبية لطيفة، وله ديوان شعر أنشدني أكثره، فمن ذلك قوله في أول قصيدة طويلة (1) : هي رامة فخذوا يمين الوادي ... وذروا السيوف تقر في الأغماد وحذار من لحظات أعين عينها ... فلكم صرعن بها من الآساد من كان منكم واثقاً بفؤاده ... فهناك ما أنا واثق بفؤادي يا صاحبي ولي بجرعاء الحمى ... قل أسير ما له من فادي سلبته مني يوم بانوا مقلة ... مكحولة أجفانها بسواد وبحي من أنا في هواه ميت ... عين على العشاق بالمرصاد وأغن مسكي اللمى معسوله ... لولا الرقيب بلغت منه مرادي كيف السبيل إلى وصال محجبٍ ... ما بين بيض ظباً وسمر صعاد في بيت شعرٍ نازل من شعره ... فالحسن منه عاكف في بادي حرسوا مهفهف قده بمثقف ... فتشابه المياس بالمياد قالت لنا ألف العار بخده ... في ميم مبسمه شفاء الصادي وهي طويلة اقتصرت منها على هذا القدر للاختصار.   (1) ر: لطيفة طويلة، وانظر ابن الشعار 10: 32. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 260 ومن ذلك قوله: علقته من آل يعرب لحظه ... أمضى وأفتك من سيوف عريبه أسكنته في المنحنى من أضلعي ... شوقاً لبارق ثغره وعذيبه يا عائبي ذاك الفتور بطرفه ... خلوه لي أنا قد رضيت بعيبه لدن وما مر النسيم بعطفه ... أرج وما نفح العبير بجيبه وكان في بعض أسفاره قد نزل في طريقه بمسجد وهو مريض فقال: يا رب إن عجز الطبيب فداوني ... بلطيف صنعك واشفني يا شافي أنا من ضيوفك قد حسبت وإن من ... شيم الكرام البر بالأضياف ووجدت بعد موته رقعة فيها مكتوب هذان البيتان (1) . وأخبرني أنه جرى بينه وبين أبي الفضل جعفر بن شمس الخلافة الشاعر - المقدم ذكره (2) - منازعة في بيت هو من جملة قصيدته التي أولها: من لي بغصنٍ باللحاظ ممنطق ... حلو الشمائل واللمى والمنطق مثري الروادف مملق من خصره ... أسمعت في الدنيا بمثر مملق والبيت الذي قد وقع فيه النزاع قوله: وأقول يا أخت الغزال ملاحةً ... فتقول لا عاش الغزال ولا بقي فزعم ابن شمس الخلافة أن هذا البيت له من جملة قصيدة هي في ديوانه، وعمل كل واحد منهما محضراً شهد فيه جماعة بأن البيت له، وحلف لي ابن مطروح أن البيت له، وكان محترزاً في أقواله، ولم تعرف منه الدعوى بما ليس له، والله المطلع على السرائر. وأنشدني له بعض أصحابنا قال: أنشدني لنفسه:   (1) ووجدت ... البيتان: سقط من ق ع؛ وسقط من س مع البيتين قبله. (2) انظر ج 1: 362. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 261 يا من لبست عليه أثواب الضنى ... صفراً موشعةً بحمر الأدمع أدرك بقية مهجة لو لم تذب ... أسفاً عليك نفيتها عن أضلعي (1) وكان في مدة انقطاعه في داره وضيق صدره بسبب عطلته وكثرة كلفه قد حدث في عينيه ألم انتهى به إلى مقاربة العمى، وكنت أجتمع به في كل وقت، فتأخرت عنه مديدة لعذر أوجب ذلك، وكنت في ذلك الوقت أنوب في الحكم بالقاهرة المحروسة عن قاضي القضاة بدر الدين أبي المحاسن يوسف بن الحسن بن علي الحاكم بالديار المصرية المعروف بقاضي سنجار، فكتب إلي ابن مطروح يقول: يا من إذا استوحش طرفي له ... لم يخل قلبي منه من أنس والطرف والقلب، على ما هما ... عليه، مأوى البدر والشمس وله من جملة قصيدة طويلة (2) : ملك الملاح ترى العيو ... ن عليه دائره يطق ومخيم بين الضلو ... ع وفي الفؤاد له سبق والبيت الأول مأخوذ من قول المتنبي: وخصر تثبت الأبصار فيه ... كأن عليه من حدقٍ نطاقا واليطق: بفتح الياء المثناة من تحتها والطاء المهملة وبعدها قاف، وهو عبارة عن جماعة من الجند يبيتون كل ليلة حول خيمة الملك محيطين به يحرسونه إذا كان مسافراً، وهو لفظ تركي. والسبق: بفتح السين المهملة والباء الموحدة وبعدها قاف، وهي خيمة الملك إذا كان مسافراً، فإنه تقدم له خيمة إلى المنزلة التي يتوجه إليها، حتى إذا جاءها له ينزل فيها، ولا يتوقف على انتظار وصول الخيمة التي   (1) وأنشدني له ... أضلعي: لم يرد في س. (2) هذا وما بعده سقط من س أيضاً حتى قوله " ومجرى السوابق "؛ وانظر ابن الشعار: 11. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 262 كان بها [في تلك المنزلة التي رحل منها] (1) . وله بيتان ضمنهما بيت المتنبي وأحسن فيهما، وهما: إذا ما سقاني ريقه وهو باسم ... " تذكرت ما بين العذيب وبارق " ويذكرني من قده ومدامعي ... " مجر عوالينا ومجرى السوابق " وهذا المعنى للمتنبي في أول قصيدة بديعة طويلة، وهي: تذكرت ما بين العذيب وبارق ... مجر عوالينا ومجرى السوابق وكانت بينه وبين بهاء الدين زهير - المقدم ذكره في حرف الزاي - صحبة قديمة من زمن الصبا، وإقامتهما ببلاد الصعيد، حتى كانا كالأخوين، وليس بينهما فرق في أمور الدنيا، ثم اتصلا بخدمة الملك الصالح وهما على تلك المودة، وبينهما مكاتبات بالأشعار فيما يجري لهما، فأخبرني بهاء الدين زهير أن جمال الدين ابن مطروح كتب إليه بعض الأيام يطلب منه درج ورق، وكان قد ضاق به الوقت، وأظنهما كانا ببلاد الشرق معاً (2) : أفلست يا سيدي من الورق ... فجد بدرج كعرضك اليقق وإن أتى بالمداد مقترناً ... فمرحباً بالخدود والحدق قال بهاء الدين زهير، وقد فتح الراء من " الورق " وكسرها تنبيهاً على حاله، فكتبت إليه: مولاي سيرت ما رسمت به ... وهو يسير المداد والورق وعز عندي تسيير ذاك وقد ... شبهته بالخدود والحدق (3)   (1) سقط من ر ع ق. (2) قد مر هذا في ترجمة البهازهير 1: 336 - 337 وهو مما انفردت به ر د ولم يرد في المسودة وهاهو المؤلف يورده هنا. (3) علق صاحب المختار بعد هذا بقوله: " قلت، أعني كاتبها موسى بن أحمد، لطف الله به: لو اقتصر ابن مطروح في بيته الثاني منهما على التشبيه بالحدق فقط لكان كافياً محصلاً للمقصود؛ وقد ألم بهذا المعنى الجمال ابن عبد الشاعر - المقدم ذكره - في بيتين كتبهما إلى والدي، قدس الله روحه، وهما بالديار المصرية، وهما: إذا ما اشتقت يوماً أن اراكم ... وحال البعد بينكم وبيني بعثت لكم سواداً في بياض ... لأنظركم بشيء مثل عيني والله أعلم ". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 263 وقد سبق في ترجمة بهاء الدين ذكر بيتين كتبهما ابن مطروح إلى بهاء الدين وذكرت السبب في نظم ذينك البيتين على ما حكاه لي بهاء الدين، ثم بعد ذلك وصل إلى الديار المصرية من الموصل بعض الأدباء وجرى حديث ما ذكره لي بهاء الدين زهير وأنه أنشدني بيت ابن الحلاوي وهو قوله: تجيزها وتجيز المادحين (1) بها ... فقل لنا أزهير أنت أم هرم فقال ذلك الأديب: هذه القصيدة أنشدنيها ناظمها ابن الحلاوي ونحن بالموصل، وأروي عنه هذا البيت على خلاف هذه الرواية فإنه أنشدني: تجيدها ثم تجدو من أتاك بها ... فقل لنا أزهير أنت أم هرم فما أدري: هل ابن الحلاوي أنشدها أولاً كما رواه بهاء الدين زهير ثم غير البيت كما رواه هذا الأديب أم حصل الغلط لأحدهما والله تعالى أعلم، مع أن كل واحد من الطريقين حسن. وقصة زهير بن أبي سلمى المزني الشاعر الجاهلي المشهور معلومة فلا حاجة إلى شرحها والخروج عما نحن بصدده، فإنه كان يمدح هرم بن سنان المري أحد أمراء العرب في الجاهلية، وكان هرم كثير العطاء له، حتى آلى على نفسه أنه لا يسلم عليه زهير إلا أعطاه غرة من ماله فرساً أو بعيراً أو عبداً أو أمة، فأجحف ذلك بهرم، فجعل زهير يمر بالجماعة فيهم هرم فيقول: عموا صباحاً خلا هرماً، وخيركم تركت.   (1) ق بر من: المادحيك. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 264 ونعود إلى ما كنا فيه من حديث ابن مطروح: بلغني أنه كتب قبل ارتفاع درجته رقعة تتضمن شفاعة في قضاء شغل بعض أصحابه، أرسلها إلى بعض الرؤساء، فكتب ذلك الرئيس في جوابه " هذا الأمر فيه علي مشقة " فكتب جوابه ثانية " لولا المشقة " فلما وقف عليها ذلك الرئيس قضى شغله وفهم قصده، وهو قول المتنبي: لولا المشقة ساد الناس كلهم ... الجود يفقر والإقدام قتال وهذا من لطيف الإشارات. وأنشدني الأديب الفاضل جمال الدين أبو الحسين يحيى بن عبد العظيم بن يحيى بن محمد بن علي المعروف بالجزار المصري (1) قصيدة بديعة مدح بها جمال الدين ابن مطروح المذكور، وهي بديعة فاقتصرت منها على ذكر غزلها، وهو هذا: هو ذا الربيع ولي نفس مشوقه ... فاحبس الركب عسى أقضي حقوقه فقبيح بي في شرع الهوى ... بعد ذلك البر أن أرضى عقوقه لست أنسى فيه ليلاتٍ مضت ... مع من أهوى وساعاتٍ أنيقه ولئن أضحى مجازاً بعدهم ... فغرامي فيه ما زال حقيقه يا صديقي والكريم الحر في ... مثل هذا الوقت لا ينسى صديقه ضع يداً منك على قلبي عسى ... أن تهدي بين جنبي خفوقه فاض دمعي مذ رأى ربع الهوى ... ولكم فاض وقد شام بروقه نفد اللؤلؤ من أدمعه ... فغدا ينثر في الترب عقيقه قف معي واستوقف الركب فإن ... لم يقف فاتركه يمضي وطريقه   (1) راجع ترجمة الجزار في المغرب (قسم مصر) 1: 296 وحسن المحاضرة 1: 327 والشذرات 5: 364 والنجوم الزاهرة 7: 345 والفوات 2: 630 والبدر السافر، الورقة: 225 والزركشي 3 الورقة: 365؛ وفي المسالك قطعة كبيرة من شعره، وكانت وفاته سنة 679. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 265 فهي أرض قلما يلحقها ... آمل والركب لم أعدم لحوقه طالما استجليت في أرجائها ... من يتيه البدر إذ يدعى شقيقه يفضح الورد احمراراً خده ... وتود الخمر لو تشبه ريقه فبه الحسن خليق لم يزل ... والمعالي بابن مطروح خليقه وكانت ولادته يوم الاثنين ثامن رجب سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة بأسيوط، وتوفي ليلة الأربعاء مستهل شعبان سنة تسع وأربعين وستمائة بمصر، ودفن بسفح الجبل المقطم، وحضرت الصلاة عليه ودفنه، وأوصى أن يكتب عند رأسه دوبيت نظمه في مرضه، وهو: أصبحت بقعر حفرةٍ مرتهناً ... لا أملك من دنياي إلا كفنا يا من وسعت عبادة رحمته ... من بعض عبادك المسيئين أنا ومما ذكر أنه وجد في رقعة مكتوبة تحت رأسه بعد موته: أتجزع مِ الموت (1) هذا الجزع ... ورحمة ربك فيها الطمع ولو بذنوب الورى جئته ... فرحمته كل شيء تسع رحمه الله تعالى. (330) وتوفي قاضي القضاة بدر الدين يوسف (2) المذكور يوم السبت رابع عشر رجب سنة ثلاث وستين وستمائة بالقاهرة، ودفن في تربته المجاورة لمدرسته بالقرافة الصغرى. وأخبرني مراراً عديدة أنه ولد في شهر ربيع الأول سنة ثمان وخمسمائة في جبال إربل، وهو زرزاري النسب، رحمه الله تعالى (3) . وأسيوط: بضم الهمزة وسكون السين المهملة وضم الياء المثناة من تحتها وبعدها واو ساكنة ثم طاء مهملة، وهي بليدة بالصعيد الأعلى من ديار مصر ومنهم من يسقط الهمزة ويضم السين فيقول: سيوط، والله تعالى أعلم.   (1) س من بر: للموت. (2) انظر شذرات الذهب 5: 313 وعبر الذهبي 5: 274، وفي كليهما (زراري) . (3) هنا تنتهي الترجمة في ع. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 266 812 - (1) ابن جزلة صاحب المنهاج أبو علي يحيى بن جزلة الطبيب، صاحب كتاب " المنهاج " الذي رتبه على الحروف، وجمع فيه أسماء الحشائش والعقاقير والأدوية وغير ذلك شيئاً كثيراً، كان نصرانياً ثم أسلم وصنف رسالة في الرد على النصارى وبيان عوار مذاهبهم، ومدح فيها الإسلام وأقام الحجة على أنه الدين الحق، وذكر فيها ما قرأه في التوراة والإنجيل من ظهور النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه نبي مبعوث وأن اليهود والنصارى أخفوا ذلك ولم يظهروه، ثم ذكروا فيها معايب اليهود والنصارى. وهي رسالة حسنة أجاد فيها وقرئت عليه في ذي الحجة سنة خمس وثمانين وأربعمائة. وكان سبب إسلامه أنه كان يقرأ على أبي علي ابن الوليد المعتزلي ويلازمه، فلم يزل يدعوه إلى الإسلام ويذكر له الدلائل الواضحة حتى هداه الله تعالى، وحسن إسلامه، وهو تلميذ أبي الحسن سعيد بن هبة الله بن الحسن، وبه انتفع في الطب، وكان له نظر في علم الأدب، وكتب الخط الجيد. وصنف للإمام المقتدي بأمر الله كثيراً من الكتب، فمن ذلك كتاب " تقويم الأبدان " وكتاب " منهاج البيان فيما يستعمله الإنسان "، وكتاب " الإشارة في تلخيص العبارة " ورسالة في مدح الطب وموافقته للشرع والرد على من طعن عليه، ورسالة كتبها إلى إليا القس لما أسلم، وغير ذلك من التصانيف. وهو من المشاهير في علم الطب وعمله، وذكره أبو المظفر يوسف سبط أبي الفرج ابن الجوزي في تاريخه الذي سماه " مرآة الزمان " فقال: إنه لما أسلم استخلفه أبو الحسن القاضي ببغداد (2) في كتب السجلات، وكان يطبب   (1) ترجمته في المنتظم 9: 119 وابن الأثير 10: 302 وتاريخ الحكماء: 365 وابن أبي أصيبعة 1: 255 وابن العبري 339. (2) في تاريخ الحكماء أن الذي استخدمه في كتابة السجلات هو القاضي أبو عبد الله الدامغاني. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 267 أهل محلته ومعارفه بغير أجرة، ويحمل إليهم الأشربة والأدوية بغير عوض، ويتفقد الفقراء ويحسن إليهم. ووقف كتبه قبل وفاته، وجعلها في مشهد أبي حنيفة رضي الله عنه، ذكر هذا كله في سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة، وعادته أن يذكر الإنسان ويشرح أحواله في سنة وفاته، فإن كتابه مرتب على السنين. وذكر صاحب كتاب " البستان الجامع لتواريخ الزمان " أن ابن جزلة مات سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة، وزاد أبو الحسن الهمذاني: في أواخر شعبان، نقله عنه ابن النجار في " تاريخ بغداد "، وذكره غيره أن إسلامه كان في سنة ست وستين وأربعمائة، زاد ابن النجار في تاريخ: يوم الثلاثاء حادي عشر جمادى الآخر، رحمه الله تعالى. وجزلة: بفتح الجيم وسكون الزاي وفتح اللام وبعدها هاء ساكنة، والله تعالى أعلم. 813 - (1) السهروردي المقتول أبو الفتوح يحيى بن حبش بن أميرك، الملقب شهاب الدين، السهروردي الحكيم المقتول بحلب، وقيل اسمه أحمد، وقيل كنيته اسمه وهو أبو الفتوح، وذكر أبو العباس أحمد بن أبي أصيبعة الحزرجي الحكيم في كتاب " طبقات الأطباء " أن اسم السهروردي المذكور عمر، ولم يذكر اسم أبيه (2) ، والصحيح الذي ذكرته أولاً، فلهذا بنيت الترجمة عليه، فإني وجدته بخط جماعة من أهل المعرفة بهذا الفن وأخبرني به جماعة أخرى لا أشك في معرفتهم،   (1) ترجمته في مرآة الجنان 3: 434 ولسان الميزان 3: 156 ومعجم الأدباء 19: 314 وابن أبي اصيبعة 2: 167 والنجوم الزاهرة 6: 114 وعبر الذهبي 4: 263. (2) هناك بياض في موضع اسم الأب في المطبوعة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 268 فقوي عندي ذلك، فترجمت عليه، والله أعلم. كان المذكور من علماء عصره، قرأ الحكمة وأصول الفقه على الشيخ مجد الدين الجيلي بمدينة المراغة من أعمال أذربيجان، إلى أن برع فيهما وهذا مجد الدين الجيلي هو شيخ فخر الدين الرازي (1) ، وعليه تخرج وبصحبته انتفع، وكان إماماً في فنونه. وقال في " طبقات الأطباء ": كان السهروردي المذكور أوحد أهل زمانه في (2) العلوم الحكمية، جامعاً للفنون الفلسفية بارعاً في الأصول الفقهية، مفرط الذكاء فصيح العبارة، وكان علمه أكثر من عقله، ثم ذكر أنه قتل في أواخر سنة ست وثمانين وخمسمائة، والصحيح ما سنذكره في أواخر هذه الترجمة إن شاء الله تعالى، وعمره نحو ست وثلاثين سنة، ثم قال: ويقال إنه كان يعرف علم السيمياء. وحكى بعض فقهاء العجم: أنه كان في صحبته، وقد خرجوا من دمشق، قال: فلما وصلنا إلى القابون، القرية التي على باب دمشق في طريق من يتوجه إلى حلب، لقينا قطيع غنم مع تركماني، فقلنا للشيخ: يا مولانا نريد من هذه الغنم رأساً نأكله، فقال: معي عشرة دراهم، خذوها واشتروا بها رأس غنم، وكان هناك تركماني فاشترينا منه رأساً بها، ومشينا قليلاً فلحقنا رفيق له وقال: ردوا هذا الرأس، خذوا أصغر منه، فإن هذا ما عرف يبيعكم، يساوي هذا الرأس أكثر من ذلك، وتقاولنا نحن وإياه، فلما عرف الشيخ ذلك قال لنا: خذوا الرأس وامشوا وأنا أقف معه وأرضيه، فتقدمنا نحن، وبقي الشيخ يتحدث معه ويطيب قلبه، فلما أبعدنا قليلاً تركه وتبعنا، وبقي التركماني يمشي خلفه ويصيح به، وهو لا يلتفت إليه، فلما لم يكلمه لحقه بغيظ وجذب يده اليسرى، وقال: أين تروح وتخليني وإذا بيد الشيخ قد انخلعت من عند كتفه وبقيت في يد التركماني ودمها يجري، فبهت التركماني وتحير في أمره، فرمى اليد وخاف، فرجع الشيخ وأخذ تلك اليد بيده اليمنى ولحقنا، وبقي التركماني راجعاً وهو يتلفت   (1) المختار: فخر الدين ابن الخطيب الرازي. (2) طبقات الأطباء: أوحداً في. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 269 إليه حتى غاب عنه، ولما وصل الشيخ إلينا رأينا في يده اليمنى منديلاً لا غير. قلت: ويحكى عنه مثل هذا أشياء كثيرة، والله أعلم بصحتها. وله تصانيف، فمن ذلك كتاب " التنقيحات " (1) في أصول الفقه، وكتاب " التلويحات "، وكتاب " الهياكل "، وكتاب " حكمة الإشراق "، وله الرسالة المعروفة " بالغربة الغريبة " على مثال " رسالة الطير " لأبي علي ابن سينا، ورسالة " حي بن يقظان " لابن سينا أيضاً، وفيها بلاغة تامة أشار فيها إلى حديث النفس وما يتعلق بها اصطلاح الحكماء. ومن كلامه: الفكر في صورة قدسية، يتلطف بها طالب الأريحية، ونواحي القدس دار لا يطؤها القوم الجاهلون، وحرام على الأجساد المظلمة أن تلج ملكوت السموات، فوجد الله وأنت بتعظيمه (2) ملآن، واذكره وأنت من ملابس الأكوان عريان، ولو كان في الوجود شمسان لانطمست الأركان، فأبى النظام أن يكون غير ما كان: فخفيت حتى قلت لست بظاهر ... وظهرت من سعتي على الأكوان [آخر] (3) : لو علمنا أننا ما نلتقي ... لقضينا من سليمى وطرا اللهم خلص لطيفي من هذا العالم الكثيف. وتنسب إليه أشعار: فمن ذلك ما قاله في النفس على مثال أبيات ابن سينا العينية، وهي مذكورة في ترجمته في حرف الحاء، واسمه الحسين (4) ، فقال هذا الحكيم: خلعت هياكلها بجرعاء الحمى ... وصبت لمغناها القديم تشوقا   (1) بر: التحقيقات. (2) بر: بتوحيده. (3) زيادة من: س ر بر من. (4) انظر ج 2: 160. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 270 وتلفتت نحو الديار فشاقها ... ربع عفت أطلاله فتمزقا وقفت تسائله فرد جوابها ... رجع الصدى أن لا سبيل إلى اللقا فكأنما (1) برق تألق بالحمى ... ثم انطوى فكأنه ما أبرقا ومن شعره المشهور: أبداً تحن إليكم الأرواح ... ووصالكم ريحانها والراح وقلوب أهل ودادكم تشتاقكم ... وإلى لذيذ لقائكم ترتاح (2) وارحمة (3) للعاشقين تكلفوا ... ستر المحبة والهوى فضاح بالسر إن باحوا تباح دماؤهم ... وكذا دماء البائحين تباح وإذا هم كتموا تحدث عنهم ... عند الوشاة المدمع السفاح (4) وبدت شواهد للسقام عليهم ... فيها لمشكل أمرهم إيضاح خفض الجناح لكم وليس عليكم ... للصب في خفض الجناح جناح فإلى لقاكم نفسه مرتاحة ... وإلى رضاكم طرفه طماح عودوا بنور الوصل من غسق الجفا ... فالهجر ليل والوصال صباح صافاهم فصفوا له فقلوبهم ... في نورها المشكاة والمصباح وتمتعوا فالوقت طاب بقربكم ... راق الشراب ورقت الأقداح (5) يا صاح ليس على المحب ملامة ... إن لاح في أفقٍ الوصال صباح لا ذنب للعشاق إن غلب الهوى ... كتمانهم فنما الغرام وباحوا سمحوا بأنفسهم وما بخلوا بها ... لما دروا أن السماح رباح   (1) ر: فكأنها. (2) هامش س: خ: وإلى جلال جمالكم ترتاح. (3) بر: وارحمتا. (4) ر س: السحاح. (5) هذا البيت أول ما بقي من خط المؤلف في نسخة المسودة، وقد كتب فيه " راق الشباب " وفوقها " لعله الشراب "، وكذلك فعل في س. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 271 ودعاهم داعي الحقائق دعوة ... فغدوا بها مستأنسين وراحوا ركبوا على سنن الوفا فدموعهم ... بحر وشدة شوقهم ملاح والله ما طلبوا الوقوف ببابه ... حتى دعوا وأتاهم المفتاح لا يطربون بغير ذكر حبيبهم ... أبداً فكل زمانهم أفراح حضروا وقد غابت شواهد ذاتهم ... فتهتكوا لما رأوه وصاحوا أفناهم عنهم وقد كشفت لهم ... حجب البقا فتلاشت الأرواح فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم ... إن التشبه بالكرام فلاح قم يا نديم إلى المدام فهاتها ... في كاسها قد دارت الأقداح من كرم إكرام بِدنّ ديانة ... لا خمرة قد داسها الفلاح وله في النظم والنثر أشياء لطيفة لا حاجة إلى الإطالة بذكرها. وكان شافعي المذهب، ويلقب بالمؤيد بالملكوت، وكان يتهم بانحلال العقيدة والتعطيل ويعتقد مذهب الحكماء المتقدمين، واشتهر ذلك عنه، فلما وصل إلى حلب أفتى علماؤها بإباحة قتله بسبب اعتقاده وما ظهر لهم من سوء مذهبه، وكان أشد الجماعة عليه الشيخين: زين الدين ومجد الدين ابني جهبل. وقال الشيخ سيف الدين الآمدي - المقدم ذكره في حرف العين (1) -: اجتمعت بالسهروردي في حلب، فقال لي: لا بد أن أملك الأرض، فقلت له: من أين لك هذا قال: رأيت في المنام كأني شربت ماء البحر، فقلت: لعل هذا يكون اشتهار العلم وما يناسب هذا، فرأيته لا يرجع عنا وقع في نفسه، ورأيته كثير العلم قليل العقل، ويقال: إنه لما تحقق القتل كان كثيراً ما ينشد: أرى قدمي أراق دمي ... وهان دمي فها ندمي والأول مأخوذ من قول أبي الفتح علي بن محمد السبتي - المقدم ذكره (2) -: إلى حتفي مشى قدمي ... أرى قدمي أراق دمي   (1) ج 3: 293. (2) ج 3: 376. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 272 فلم أنفك من ندم ... وليس بنافعي ندمي وكان ذلك في دولة الملك الظاهر ابن السلطان صلاح الدين رحمه الله، فحبسه ثم خنقه بإشارة والده السلطان صلاح الدين، وكان ذلك في خامس رجب سنة سبع وثمانين وخمسمائة بقلعة حلب، وعمره ثمان وثلاثون سنة. وذكره القاضي بهاء الدين المعروف بابن شداد قاضي حلب في أوائل سيرة صلاح الدين (1) ، وقد ذكر حسن عقيدته (2) فقال: كان كثير التعظيم لشعائر الدين، وأطال الكلام في ذلك، ثم قال: ولقد أمر ولده صاحب حلب بقتل شاب نشأ يقال له " السهروردي " قيل عنه: إنه معاند (3) للشرائع، وكان قد قبض عليه ولده المذكور لما بلغه خبره، وعرف السلطان به فأمر بقتله، فقتله وصلبه أياماً. ونقل سبط ابن الجوزي في تاريخه عن ابن شداد المذكور أنه قال: لما كان يوم الجمعة بعد الصلاة سلخ ذي الحجة سنة سبع وثمانين وخمسمائة أخرج الشهاب السهروردي ميتاً من الحبس بحلب فتفرق عنه أصحابه. قلت: وأقمت بحلب سنين للاشتغال بالعلم الشريف، ورأيت أهلها مختلفين في أمره، وكل واحد يتكلم على قدر هواه: فمنهم من ينسبه إلى الزندقة والإلحاد، ومنهم من يعتقد فيه الصلاح وأنه من أهل الكرامات، ويقولون: ظهر لهم بعد قتله ما يشهد له بذلك، وأكثر الناس على أنه كان ملحداً لا يعتقد شيئاً، نسأل الله تعالى العفو والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة، وأن يتوفانا على مذهب أهل الحق والرشاد، وهذا الذي ذكرته في تاريخ قتله هو الصحيح، وهو خلاف ما نقلته في أول هذه الترجمة، وقد قيل إن ذلك كان في سنة ثمان وثمانين، وليس بشيء أيضاً. وحبش: بفتح الحاء المهملة والباء الموحدة وبالشين المعجمة. وأميرك: بفتح الهمزة وبعدها ميم مكسورة ثم ياء مثناة من تحتها ساكنة   (1) سيرة صلاح الدين: 10. (2) أي حسن عقيدة السلطان. (3) ق: كان معانداً، وكذلك في سيرة ابن شداد. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 273 وبعدها راء مفتوحة ثم كاف، وهو اسم أعجمي معناه أمير تصغير أمير، وهم يلحقون الكاف في آخر الاسم للتصغير. وقد تقدم الكلام على سهرورد في ترجمة الشيخ أبي النجيب عبد القاهر السهروردي فليطلب منه، إن شاء الله تعالى. 814 - (1) يزيد بن القعقاع القارئ أبو جعفر يزيد بن القعقاع القارئ، مولى عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة المخزومي عتاقة، ويعرف أبو جعفر المذكور بالمدني؛ أخذ القراءة عرضاً عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وعن مولاه عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة، وعن أبي هريرة رضي الله عنه؛ وسمع عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، ومروان بن الحكم، ويقال قرأ على زيد بن ثابت رضي الله عنه، وروى القراءة عنه عرضاً نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم وسليمان بن مسلم بن جماز وعيسى بن وردان الحذاء وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وله قراءة. قال أبو عبد الرحمن النائي: يزيد بن القعقاع ثقة، وكان يقرئ الناس بالمدينة قبل وقعة الحرة، وقال محمد بن القاسم المالكي: أبو جعفر يزيد بن القعقاع مولى أم سلمة رضي الله عنها، زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: ويقال إنه جندب بن فيروز مولى عبد الله بن عياش المخزومي، وكان من أفضل الناس، وقال سليمان بن مسلم: أخبرني أبو جعفر يزيد بن القعقاع أنه كان يقرئ في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الحرة، وكانت الحرة على   (1) ترجمته في المعارف: 582 ورجال ابن حبان: 76 وابن الأثير 5: 394 وتهذيب التهذيب 12: 58 وميزان الاعتدال 4: 511 وغاية النهاية 2: 382 والشذرات 1: 176. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 274 رأس ثلاث وستين سنة من مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وأخبرني أنه كان يمسك المصحف على مولاه عبد الله بن عياش، وكان من أقرأ الناس وكنت أرى كل يومٍ ما يقرأ وأخذت عنه قراءته، وأخبرني أنه أتى به إلى أم سلمة رضي الله عنها وهو صغير، فمسحت على رأسه ودعت له بالبركة، قال سليمان المذكور: وسألته متى أقرأت القرآن فقال: أقرأت أو أقرأت فقلت: لا بل أقرأت، فقال: هيهات قبل الحرة في زمان يزيد بن معاوية، وكانت الحرة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاث وخمسين سنة. وقال نافع بن أبي نعيم: لما غسل أبو جعفر يزيد بن القعقاع القارئ بعد وفاته نظروا ما بين نحره إلى فؤاده مثل ورقة المصحف، فما شك أحد ممن حضره أنه نور القرآن. وقال سليمان بن مسلم: أخبرني أبو جعفر يزيد بن القعقاع حين كان نافع يمر به فيقول: أترى هذا كان يأتيني وهو غلام له ذؤابة فيقرأ علي ثم كفرني، وهو يضحك. قال سليمان، وقالت أم ولد أبي جعفر: إن ذلك البياض الذي كان بين نحره وفؤاده صار غرة بين عينيه. وقال سليمان: رأيت أبا جعفر بعد موته في المنام وهو على الكعبة فقلت له: أبا جعفر قال: نعم اقرئ إخواني عني السلام، وأخبرهم أن الله تعالى جعلني من الشهداء الأحياء المرزوقين، واقرئ أبا حازم السلام وقل له: يقول لك أبو جعفر: الكيس الكيس، فإن الله عز وجل وملائكته يتراءون مجلسك بالعشيات. وقال مالك بن أنس رحمه الله تعالى: كان أبو جعفر القارئ رجلاً صالحاً يفتي (1) الناس بالمدينة. وقال خليفة بن خياط (2) : مات أبو جعفر يزيد بن القعقاع سنة اثنتين وثلاثين ومائة بالمدينة، وقال غيره: مات سنة ثمان وعشرين ومائة، وقال أبو علي الأهوازي في أول كتاب " الإقناع " في القراءات، قال ابن جماز: ولم يزل أبو جعفر إمام الناس في القراءة إلى أن توفي سنة ثلاث وثلاثين ومائة بالمدينة،   (1) الجزري: يقرئ. (2) تاريخ خليفة: 614. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 275 وقيل إنه توفي في سنة ثلاثين ومائة، والله أعلم. قلت: وقد تكرر ذكر الحرة في هذه الترجمة في مواضع، وقد يتشوف إلى الوقوف على معرفة ذلك من لا علم له به. والحرة في الأصل اسم لكل أرض ذات حجارة سود، فمتى كانت بهذه الصفة قيل لها حرة، والحرار كثيرة، والمراد بهذه الحرة حرة واقم، بالقاف المكسورة، وهي بالقرب من المدينة في جهتها - كان يزيد بن معاوية بن أبي سفيان في مدة ولايته قد سير إلى المدينة جيشاً مقدمه مسلم بن عقبة المري فنهبها، وخرج أهلها إلى هذه الحرة، فكانت الواقعة بها، وجرى فيها ما يطول شرحه وهو مسطور في التواريخ، حتى قيل إنه بعد وقعة الحرة ولدت أكثر من ألف بكر من أهل المدينة، ممن ليس لهن أزواج، بسبب ما جرى فيها من الفجور. ثم إن مسلم بن عقبة المري لما قتل أهل المدينة وتوجه إلى مكة، نزل به الموت بموضع يقال له: ثنية هرشى، فدعا حصين بن نمير السكوني وقال له: يا برذعة الحمار، إن أمير المؤمنين عهد إلي إن نزل بي الموت أن أوليك، وأكره خلافه عند الموت. ثم إنه أوصى إليه بأمور يعتمدها ثم قال: لئن دخلت النار بعد قتلي أهل الحرة إني إذاً لشقي. وأما واقم فإنه اسم أطم من آطام المدينة، والأطم: بضم الهمزة والطاء المهملة، شبيه بالقصر، وكان مبنياً عند هذه الحرة فأضيفت الحرة إليه، فقيل حرة واقم، والله أعلم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 276 815 - (1) يزيد بن رومان أبو روح يزيد بن رومان القارئ مولى آل الزبير بن العوام المدني، أخذ القراءة عوضاً عن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة المخزومي، وسمع ابن عباس وعروة بن الزبير رضي الله عنهم، وروى القراءة عنه نافع ابن أبي نعيم، قال يحيى بن معين: يزيد بن رومان ثقة، وقال وهب بن جرير: حدثنا أبي قال: رأيت محمد بن سيرين ويزيد بن رومان يعقدان الآي في الصلاة. وقال يزيد بن رومان: كنت أصلي إلى جانب نافع بن جبير بن مطعم، فيغمزني فأفتح عليه ونحن نصلي. وروى يزيد أنه كان الناس يقومون في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بثلاث وعشرين ركعة في شهر رمضان. وتوفي يزيد في سنة ثلاثين ومائة، رحمه الله تعالى (2) . ورومان: بضم الراء وسكون الواو وبعدها ميم ثم ألف ونون.   (1) ترجمته في غاية النهاية 2: 381 وتهذيب التهذيب 11: 325. (2) هنا تنتهي الترجمة في ق. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 277 816 - (1) يزيد بن المهلب أبو خالد يزيد بن المهلب بن أبي صفرة الأزدي - قد تقدم ذكر أبيه في حرف الميم (2) ورفعت نسبه وتكلمت عليه فأغنى عن الإعادة هاهنا؛ ذكر ابن قتيبة في كتاب " المعارف " (3) وجماعة من المؤرخين: أنه لما مات أبوه - في التاريخ المذكور في ترجمته - كان قد استخلف ولده يزيد مكانه، ويزيد ابن ثلاثين سنة يومئذ (4) ، فعزله عبد الملك بن مروان برأي الحجاج بن يوسف الثقفي، وولى مكانه في خراسان قتيبة بن مسلم الباهلي - قلت: وقد تقدم ذكره في حرف القاف (5) - وصار يزيد في يد الحجاج - قلت: وكان الحجاج زوج أخته هند بنت المهلب - وكان الحجاج يكره يزيد لما يرى فيه من النجابة فيخشى منه لا يترتب مكانه، فكان يقصده بالمكروه في كل وقت كي لا يثب عليه، وكان الحجاج في كل وقت يسأل المنجمين ومن يعاني هذه الصناعة عمن يكون مكانه، فيقولون: رجل اسمه يزيد، فلا يرى من هو أهل لذلك سوى يزيد المذكور، والحجاج يومئذ أمير العراقين، وكذا وقع، فإنه لما مات الحجاج ولي يزيد مكانه، هذا قول المؤرخين. نعود إلى تتمة ما ذكره في " المعارف " - قال: فعذبه الحجاج، وهرب يزيد من حبسه إلى الشام يريد سليمان بن عبد الملك، فأتاه فشفع له إلى أخيه   (1) ترجمته وأخباره في المصادر التاريخية التي تتحدث عن العصر الأموي كالطبري وابن الأثير والمسعودي واليعقوبي وابن خلدون والعيون والحدائق، وفي الكتب الأدبية العامة كالكامل والعقد ... الخ. وسنشير إلى المصادر التي اعتمد عليها المؤلف في مواضعها، حيث يتيسر ذلك. (2) انظر ج 5: 350. (3) المعارف: 400. (4) زاد في المطبوعة المصرية: فمكث نحواً من ست سنين من يومئذ؛ ولم يرد في المسودة والنسخ الأخرى. (5) انظر ج 4: 86. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 278 الوليد بن عبد الملك، فأمنه وكف عنه، ثم ولاه سليمان خراسان حين أفضت إليه الخلافة، فافتتح جرجان ودهستان وأقبل يريد العراق، فتلقاه موت سليمان بن عبد الملك، فصار إلى البصرة، فأخذ عدي بن أرطأة، فأوثقه وبعث به إلى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، فحبسه عمر، فهرب من حبسه وأتى البصرة، ومات عمر، فخالف يزيد [وخلع يزيد] (1) بن عبد الملك، فوجه إليه أخاه مسلمة فقتله. وقال الحافظ أبو القاسم المعروف بابن عساكر في تاريخه الكبير: يزيد بن المهلب ولي إمرة البصرة لسليمان بن عبد الملك، ثم نزعه عمر بن عبد العزيز وولى عدي بن أرطأة، وقدم به إلى عمر مسخوطاً عليه، حكى عن أنس بن مالك وعمر بن عبد العزيز وأبيه المهلب، وروى عنه ابنه عبد الرحمن وأبو عيينة ابن المهلب وأبو إسحاق السبيعي وغيرهم، وقال الأصمعي: إن الحجاج قبض على يزيد وأخذه بسوء العذاب، فسأله أن يخفف العذاب عنه على أن يعطيه كل يوم مائة ألف درهم ليشتري بها عذابه، فإن أداها وإلا عذبه إلى الليل، قال: فجمع يوماً مائة ألف درهم ليشتري بها عذابه، فدخل عليه الأخطل الشاعر فقال (2) : أبا خالد بادت خراسان بعدكم ... وصاح ذوو الحاجات أين يزيد فلا مطر المروان بعدك مطرةً ... ولا اخضر بالمروين بعدك عود فما لسرير الملك بعدك بهجة ... ولا لجواد بعد جودك جود - قوله في البيت الثاني " فلا مطر لمروان، ولا اخضر بالمروين " هما تثنية مرو، إحداهما مرو الشاهجان، وهي العظمى، والأخرى مرو الروذ، وهي الصغرى، وكلتاهما مدينتان مشهورتان بخراسان، وقد تكرر ذكرهما في هذا الكتاب - قال: فأعطاه مائة الألف، فبلغ ذلك الحجاج، فدعا به وقال: يا مروزي، أكل هذا الكرم وأنت بهذه الحالة قد وهبت لك عذاب اليوم وما بعده.   (1) زيادة من ر بر. (2) وردت في ديوان الفرزدق 1: 137. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 279 قلت: هكذا ذكر ابن عساكر، والمشهور أن صاحب هذه الواقعة والأبيات هو الفرزدق، ثم إني رأيت هذه الأبيات في ديوان زياد الأعجم، والله أعلم بالصواب. وذكر الحافظ أيضاً أن يزيد لما هرب من الحجاج قاصداً سليمان بن عبد الملك، وهو يومئذ بالرملة، فاجتاز في طريقه بالشام على أبيات عرب، فقال لغلامه: استقنا (1) هؤلاء لبناً، فأتاه بلبن فشربه، فقال: أعطهم ألف درهم، فأعطاهم. وقال الحافظ أيضاً: حج يزيد بن المهلب فطلب حلاقاً، فجاء فحلق رأسه، فأمر له بألف درهم، فتحير ودهش، وقال: هذا الألف أمضي إلى أمي فلانة وأشتريها، فقال: أعطوه ألفاً آخر، فقال: امرأتي طالق إن حلقت رأس أحد بعدك، فقال: أعطوه ألفين آخرين. وقال المدائني: وكان سعيد بن عمر بن العاص مؤاخياً ليزيد بن المهلب، فلما حبس عمر بن عبد العزيز يزيد منع الناس من الدخول إليه، فأتاه سعيد فقال: يا أمير المؤمنين، لي على يزيد خمسون ألف درهم، وقد حلت بيني وبينه، فإن رأيت أن تأذن لي فأقتضيه، فأذن له، فدخل عليه، فسر به يزيد وقال: كيف دخلت إلي فأخبره سعيد، فقال: والله لا تخرج إلا وهي معك، فامتنع سعيد، فحلف يزيد ليقبضها، فوجه إلى منزله، حتى حمل إلى سعيد خمسون ألف درهم. وزاد ابن عساكر فقال: وفي ذلك قال بعضهم: فلم أر محبوساً من الناس ماجداً ... حبا زائراً في السجن غير يزيد سعيد بن عمرو إذ أتاه أجازه ... بخمسين ألفاً عجلت لسعيد [وذكر أبو الفرج المعافى بن زكريا النهرواني في كتاب " الجليس والأنيس " عن عبد الله الكوفي قال: أغرم سليمان بن عبد الملك عمر بن هبيرة عن غزاة   (1) كذا في المسودة؛ وفي أكثر النسخ: استسقنا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 280 في البحر ألف ألف درهم، فمشى إلى يزيد بن المهلب، وقد ولي العراق، عثمان بن حيان المري والقعقاع بن خالد العبسي والهذيل بن زفر بن الحارث الكلابي وغيرهم من قيس، فلما انتهوا إلى باب سرادق يزيد أذن لهم الحاجب في دخولهم وأعلمهم أنه يغسل رأسه، فلما فرغ خرج في مستقة (1) فألقى نفسه على فراشه ثم قال: ما ألف بينكم فقال عثمان: هذا ابن هبيرة شيخنا وسيدنا، كان الوليد حمل معه مالاً حيث وجهه إلى البحر فأعطاه جنده فخرج عليه من غرمه ألف ألف درهم، فقلنا يزيد سيد أهل اليمن ووزير لسليمان وصاحب العراق ومن قد يحمل أمثالها عمن ليس بأمثالنا، ووالله لو وسعتها أموال قيس لاحتملناها. ثم تكلم القعقاع فقال: [يا] ابن المهلب، هذا خير ساقه إليك وليس أحد أولى به منك، فافعل به كبعض فعلاتك الأولى، فلن يصدك عن قضاء هذا الحق ضيق، ولا تبخل وقد أتيناك مع ابن هبيرة فيما حمل، فهب لنا أموالنا واستر في العرب عورتنا، ثم تكلم الهذيل بن زفر فقال: يا ابن المهلب، إني لو وجدت من الممشى إليك بداً لما مشيت إليك، لأن أموالك بالعراق، وإنما اتيتنا خائفاً ثم أقمت فينا ضعيفاً، ثم تخرج من عندنا محروساً، وايم الله لئن تركناك بالشام لنأتينك بالعراق، وما هاهنا أقرب في الحظوة واوجب للذمام؛ ثم تكلم ابن خيثمة فقال: إني لأقول (2) لك يا ابن المهلب ما قال هؤلاء، أخبرني إن أنت عجزت عن احتمال ما على ابن هبيرة فعلى من المعول لا والله ما عند قيس له مكيال، ولا في أموالهم متسع، ولا عند الخليفة له فرج، ثم تكلم ابن الهبيرة فقال: أما أنا فقد قضيت حاجتي، رددت أم نجحت، لأنه ليس لي أمامك متقدم ولا خلفك متأخر، وهذه حاجة كانت في نفسي فقضيتها،. فضحك يزيد بن المهلب وقال: إن التعذر أخو البخل، ولا اعتذار فاحتكموا، فقال القعقاع: نصف المال، فقال يزيد: قد فعلت، يا غلام: يا غلام غداءك (3) ، قال: فجيء بالطعام   (1) المستقة: فروة طويلة الكم؛ وهذه القراءة تقديرية فإن اللفظة غير واضحة في النسخ الثلاث والأقرب إليها في بر: سبيبة، وفي من: مسنية. (2) بر: لا أقول. (3) بر: أرنا يا غلام غداءك. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 281 فأبقينا أكثر مما أفرغنا (1) ، فلما فرغنا أمر بتطييبنا وأجاد الكسوة لنا، وقال: ثم خرجنا حتى إذا مررنا، قال ابن هبيرة، فأخبروني عما بقي، من يحمله بعد ابن المهلب، لقد صغر الله قدركم وأخطاركم، والله ما يدري يزيد ما بين النصف والتمام، وما هما عنده سواء، ارجعوا إليه فكلموه في الباقي، قال: وقد كان يزيد ظن بهم أن سيرجعون (2) إليه في التمام، فقال للحاجب: إذا عادوا أدخلهم، فقال لهم يزيد، إن ندمتم أقلناكم وإن استقللتم زدناكم، فقال له ابن هبيرة: يا ابن المهلب، إن البعير إذا أوقر أثقلته أذناه، وأنا بما بقي مثقل، فقال: قد حملتها عنك، ثم ركب إلى سليمان فقال: يا أمير المؤمنين، إنك إنما رشحتني لتبلغ بي، وإني لا أضيق عن شيء اتسع له مالك، وما في أيدينا فواضلك يصطنع بها الناس وتبنى بها المكارم، ولولا مكانك قلقنا بالصغير، ثم قال له إنه أتاني ابن هبيرة بوجوه أصحابه، فقال له سليمان: أمسك اياك في مال الله عنده، خب ضب، جموع منوع، جزوع هلوع، هيه، فصنعت ماذا قال: حملتها عنه، قال: احملها إذن إلى بيت مال المسلمين، قال: والله ما حملتها خدعة وأنا حاملها بالغداة، ثم حملها، فلما خبر سليمان بذلك دعا يزيد فلما رآه ضحك وقال: ذكت بك ناري، ووريت بك زنادي، غرمها علي وحمدها لك، قد وفت لي يميني، فأرجع المال إليك، ففعل] (3) . وقال يزيد يوماً: والله للحياة أحب من الموت، ولثناء حسن أحب إلي من الحياة، ولو أنني أعطيت ما لم يعطه أحد لأحببت أن يكون لي أذن أسمع غداً ما يقال في إذا أنا مت كريماً، وقد سبق ذكر هذا الكلام في ترجمة أبيه المهلب وأنه من كلامه، لا من كلام ابنه يزيد، والله أعلم. وقال أبو الحسن المدائني: باع وكيل ليزيد بن المهلب بطيخاً جاءه من مغل بعض أملاكه بأربعين ألف درهم، فبلغ ذلك يزيد فقال له: تركتنا بقالين،   (1) بر: وأنكرنا منه أكثر مما عرفنا. (2) بر: ظن أنهم سيرجعون. (3) زيادة من: ر بر دون سائر النسخ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 282 أما كان في عجائز الأزد من تقسمه فيهن (1) ومدحه عمر بن لجأ بشعر يقول فيه: آل المهلب قوم إن نسبتهم ... كانوا الأكارم آباء وأجدادا كم حاسدٍ لهم يعيا بفضلهم ... وما دنا من مساعيهم ولا كادا إن العرانين تلقاها محسدةً ... ولا ترى للئام الناس حسادا لو قيل للمجد حد عنهم وخلهم ... بما احتكمت من الدنيا لما حادا إن المكارم أرواح يكون لها ... آل المهلب دون الناس أجسادا وقال الأصمعي: قدم على يزيد بن المهلب قوم من قضاعة، فقال رجل منهم: والله ما ندري إذا ما فاتنا ... طلب لديك من الذي نتطلب ولقد ضربنا في البلاد فلم نجد ... أحداً سواك إلى المكارم ينسب فاصبر لعادتك التي عودتنا ... أو لا فأرشدنا إلى من نذهب فأمر له بألف دينار، فلما كان في العام المقبل وفد عليه فأنشده: ما لي أرى أبوابهم مهجورةً ... وكأن بابك مجمع الأسواق حابوك أم هابوك أم شاموا الندى ... بيديك فانتجعوا من الآفاق إني رأيتك للمكارم عاشقاً ... والمكرمات قليلة العشاق فأمر له بعشرة آلاف درهم. وأجمع علماء التاريخ على أنه لم يكن في دولة بني أمية أكرم من بني المهلب، كما لم يكن في دولة بني العباس أكرم من البرامكة، والله أعلم، وكان لهم في الشجاعة أيضاً مواقف مشهورة. وحكى ابن الجوزي في كتاب " الأذكياء " أن يزيد بن المهلب وقعت   (1) زاد بعده في المطبوعة المصرية: وغضب غضباً شديداً، ولم يرد في المسودة والنسخ ق ع بر من، أما س فإن رواية المدائني كلها سقطت منها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 283 عليه حية فلم يدفعها عن نفسه، فقال له أبوه: ضيعت العقل من حيث حفظت الشجاعة. ولما خرج عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بن قيس الكندي على الحجاج، وقصته المشهورة، أتى تستر فاجتمع إليه جماعة، فذكروا يوماً آل المهلب ووقعوا فيهم، فقال عبد الرحمن لحريش بن هلال القريعي، وكان في القوم: ما لك يا أبا قدامة لا تتكلم فقال: والله ما أعلم أحداً أصون لنفسه في الرخاء ولا أبذل لها في الشدة منهم. وقدم عبد الرحمن بن سليم الكلبي على المهلب، فرأى بنيه قد ركبوا عن آخرهم، فقال: أنس الله الإسلام بتلاحقكم، أما والله لئن لم تكونوا أسباط نبوة إنكم أسباط ملحمة. ومات ابن لحبيب بن المهلب بن أبي صفرة، فقدم أخاه يزيد ليصلي عليه، فقيل له: أتقدمه وأنت أسن منه والميت ابنك فقال: إن أخي قد شرفه الناس وشاع فيهم له الصيت، ورمته العرب بأبصارها، فكرهت أن أضع منه ما رفعه الله تعالى. ونظر مطرف بن عبد الله بن الشخير إلى يزيد بن المهلب وهو يمشي وعليه حلة يسحبها، فقال له: ما هذه المشية التي يبغضها الله ورسوله فقال يزيد: أما تعرفني فقال: بلى، أولك نطفة مذرة، وآخرك جيفة قذرة، وأنت بين ذلك حامل عذرة، قلت: وقد نظم هذا المعنى أبو محمد عبد الله بن محمد البسامي الخوارزمي فقال: عجبت من معجبٍ بصورته ... وكان من قبل نطفة مذره وفي غدٍ بعد حسن صورته ... يصير في الأرض جيفة قذره وهو على عجبه ونخوته ... ما بين ثوبيه (1) يحمل العذره (331) وذكر الحافظ المعروف بابن عساكر في تاريخه الكبير في ترجمة أبي خداش مخلد بن يزيد بن المهلب أن مخلداً أحد الأسخياء الممدوحين، وفد على   (1) ر بر من: جنبيه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 284 عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه يكلمه في أمر أبيه يزيد، وقد حبسه عمر، وكان أبوه قد ولاه جرجان، فاجتاز في طريقه بالكوفة، فأتاه حمزة بن بيض الحنفي الشاعر المشهور في جماعة من أهل الكوفة فقام بين يديه وأنشده: أتيناك في حاجة فاقضها ... وقل مرحباً يجب المرحب ولا لا تكلنا (1) إلى معشرٍ ... متى يعدوا عدة يكذبوا فإنك في الفرع من أسرةٍ ... لهم خضع الشرق والغرب وفي أدبٍ فيهم ما (2) نشأت ... فنعم لعمرك ما أدبوا بلغت لعشرٍ مضت من سنيك ... ما بلغ السيد الأشيب فهمك فيها جسا الأمور ... وهم لداتك أن يلعبوا وجدت فقلت ألا سائل ... فيسأل أو راغب يرغب فمنك العطية للسائلين ... وممن ببابك أن يطلبوا فقال له: هات حاجتك، فقضاها، وقيل أمر له بمائة ألف درهم. وقدم على مخلد رجل كان قد زاره قبل ذلك فأجازه وقضى حقه، فلما عاد إليه قال له مخلد: ألم تكن أتيتنا فأجزناك قال: بلى، قال: فماذا ردك قال: قول الكميت فيك: [سألناه الجزيل فما تلكا ... وأعطى فوق منيتنا وزادا] (3) فأعطى ثم أعطى ثم عدنا ... فأعطى ثم عدت له فعادا مراراً ما أعود إليه إلا ... تبسم ضاحكاً وثنى الوسادا فأضعف له ما كان أعطاه. وقال قبيصة بن عمر المهلبي: كان يزيد بن المهلب قد فتح جرجان وطبرستان وأخذ صول، وهو رئيس من رؤسائهم - قلت: كان صاحب جرجان،   (1) ق بر من والمختار: ولا تكلنا - بتشديد النون -. (2) بر: قد. (3) زيادة من س. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 285 وهو جد إبراهيم بن العباس الصولي وأبي بكر محمد بن يحيى الصولي الأديبين الشاعرين المشهورين - قال: فأصاب يزيد أموالاً كثيرة وعروضاً كثيرة، فكتب إلى سليمان بن عبد الملك: إني قد فتحت طبرستان وجرجان، ولم يفتحهما أحد من الأكاسرة ولا أحد ممن كان بعدهم غيري، وإني باعث إليك بقطران عليها الأموال والهدايا يكون أولها عنك وآخرها عني. فلما مات سليمان وأفضت الخلافة إلى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه بعده، أخذه عمر بهذه العدة لسليمان فحبسه، فقدم ابنه مخلد على عمر - قال قبيضة المهلبي: وهب مخلد من لدن خروجه من مرو الشاهجان إلى أن ورد دمشق ألف ألف درهم - فلما أراد مخلد الدخول على عمر لبس ثياباً مستنكرة وقلنسوة لاطية، فقال له عمر: لقد شمرت، فقال له: إذا شمرتم شمرنا وإذا أسبلتم أسبلنا، ثم قال له: ما بالك قد وسع الناس عفوك حبست هذا الشيخ، فإن تكن عليه بينة عادلة فاحكم عليه وإلا فيمينه، أو فصالحه على ضياعه، فقال يزيد: أما اليمين فلا تتحدث العرب أن يزيد صبر عليها، ولكن ضياعي فيها وفاء لما يطلب. ومات مخلد وهو ابن سبع وعشرين سنة، فقال عمر: لو أراد الله بهذا الشيخ خيراً لأبقى هذا الفتى. ويقال إن مخلد بن يزيد أصابه الطاعون فمات، وصلى عليه عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، ثم قال: اليوم مات فتى العرب، وأنشد متمثلاً: على مثل عمرو تذهب النفس حسرةً ... وتضحي وجوه القوم مغبرةً سودا ورثاه حمزة بن بيض الحنفي - المقدم ذكره - بأبيات منها: وعطلت الأسرة منك إلا ... سريرك يوم تحجب بالثياب وآخر عهدنا بك يوم يحثى ... عليك بدابقٍ سهل التراب وقال الفرزدق يرثيه (1) : وما حملت أيديهم من جنازةٍ ... ولا ألبست أثوابها مثل مخلد   (1) المختار: وقال الفرزدق الشاعر يرثيه أيضاً؛ وانظر ديوانه 1: 163. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 286 أبوك الذي تستهزم الخيل باسمه ... وإن كان فيها قيد شهر مطرد وقد علموا إذ شهد حقويه أنه ... هو الليث ليث الغاب لا بالمعرد قلت: وهذا يدل على أن مخلد بن يزيد مات في حدود سنة مائة للهجرة لأن عمر بن عبد العزيز ولي الخلافة في صفر سنة تسع وتسعين وتوفي في رجب سنة إحدى ومائة، وقد مات عنده وصلى عليه، ويدل على أن موت مخلد كان بدابق ما تقدم من مرثية حمزة بن بيض، ودابق: قرية من أعمال حلب من جانبها الشمالي، وإليها ينسب المرج الذي يقال له " مرج دابق " وبه كانت وفاة سليمان بن عبد الملك، وقبره هناك مشهور. ونعود إلى ذكر يزيد: قال أبو جعفر الطبري في تاريخ الكبير (1) : إن المغيرة بن المهلب كان نائباً عن أبيه وعمله كله، ومات في رجب سنة اثنتين وثمانين - كما ذكرناه في ترجمة المهلب - فأتى الخبر يزيد، وعلم (2) أهل المعسكر ولم يعلموا المهلب، وأحب يزيد أن يعلمه من (3) النساء فصرخن، فقال المهلب: ما هذا فقيل: مات المغيرة، فاسترجع وجزع حتى ظهر عليه، فلامه بعض خاصته، فدعا يزيد فوجهه إلى مرو وجعل يوصيه بما يعمل ودموعه تنحدر على لحيته، وكتب الحجاج إلى المهلب يعزيه عن المغيرة، وكان سيداً. (332) قلت: وكان للمغيرة ابن اسمه بشر ذكره أبو تمام الطائي في كتاب " الحماسة " (4) في الباب الأول، وأورد من شعره قوله في يزيد: جفاني يزيد والمغيرة قد جفا ... وأمسى يزيد لي قد أزور جانبه   (1) تاريخ الطبري (حوادث سنة: 82) 2: 1077 (الطبعة الأوروبية) . (2) الطبري: وعلمه. (3) الطبري: فأمر؛ وفي بر من: أن يبلغه من. (4) انظر شرح المرزوقي، الحماسية: 73. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 287 وكلهم قد نال شبعاً لبطنه ... وشبع الفتى لؤم إذا جاع صاحبه فيا عمِّ مهلاً واتخذني لنوبة ... تنوب فإن الدهر جمٌّ نوائبه أنا السيف إلا أن للسيف نبوةً ... ومثلي لا تنبو عليك مضاربه على أي بابٍ الإذن بعد ما ... حجبت عن الباب الذي أنا حاجبه رجعنا إلى تتمة كلام الطبري: وكان المهلب يوم مات المغيرة مقيماً بكش وراء النهر لحرب أهلها، فسار يزيد في ستين فارساً، فلقيهم خمسمائة من الترك في المفازة، وحاصل الأمر أنه بينهم قتال شديد، ورمي يزيد في ساقه، ثم إن المهلب صالح أهل كش على فدية وانصرف عنهم متوجهاً إلى مرو، فلما وصل إلى زاغول، قرية من أعمال مرو الروذ، أصابته الشوصة، فدعا ولده حبيباً ومن حضر من ولده، ودعا بسهام فحزمت، وقال: أفترونكم كاسريها مجتمعة فقالوا: لا، قال: أفترونكم كاسريها مفترقة (1) قالوا: نعم، قال: هكذا الجماعة، ثم أوصاهم وصية طويلة لا حاجة إلى ذكرها (2) ، ثم قال في آخرها: وقد استخلفت يزيد، وجعلت حبيباً على الجند حتى يقدم بهم على يزيد، فلا تخالفوا يزيد، فقال له ولده المفضل: لو لم تقدمه لقدمناه، ومات المهلب - حسبما شرحناه في ترجمته - وأوصى إلى حبيب، فصلى عليه حبيب ثم ساروا إلى مرو، فكتب يزيد إلى عبد الملك بوفاة المهلب واستخلافه إياه، فأقره الحجاج، ثم إنه عزله في سنة خمس وثمانين واستعمل أخاه المفضل. وكان سبب (3) ذلك أن الحجاج وفد على عبد الملك فمر في منصرفه بدير فنزله، فقيل له: إن بهذا الدير شيخاً من أهل الكتب عالماً فدعا به وقال: يا شيخ، هل تجدون في كتبكم ما أنتم فيه ونحن فقال: نعم، نجد ما مضى   (1) ق ر س: متفرقة. (2) الوصية في الطبري 2: 1082. (3) انظر الطبري 2: 1138. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 288 من أمركم وما أنتم فيه وما هو كائن، قال: أفمسمى أم موصوفاً قال: كل ذلك موصوف بغير اسم واسم بغير صفة، قال: فما تجدون صفة أمير المؤمنين قال: نجده في زماننا الذي نحن فيه أنه ملك أقرع، من يقم لسبيله يصرع، قال: ثم من قال: رجل يقال له الوليد (1) ، قال: ثم ماذا قال: رجل اسمه نبي يفتح به على الناس - قلت: وهو سليمان بن عبد الملك - قال: أفتعلم ما ألي قال: نعم، قال: فمن يليه بعدي قال: رجل يقال له يزيد، قال: في حياتي أم بعد موتي قال: لا أدري، قال: أفتعرف صفته قال: يغدر غدرة، لا أعرف غير هذا. قال: فوقع في نفسه أنه يزيد بن المهلب، وارتحل فسار سبعاً وهو وجل من قول الشيخ، وقدم فكتب إلى عبد الملك يستعفيه من العراق، فكتب إليه: قد علمت الذي تغزو، وأنك تريد أن تعلم رأيي فيك. ثم إن الحجاج أجمع على عزل يزيد فلم يجد لذلك سبباً، حتى قدم الخيار ابن سبرة، وكان من فرسان المهلب، وكان مع يزيد، فقال له الحجاج: أخبرني عن يزيد، فقال: حسن الطاعة لين السيرة، قال: كذبت، اصدقني عنه، فقال: الله أجل وأعظم، قد أسرج ولم يلجم، قال: صدقت، واستعمل الخيار على عمان بعد ذلك. ثم كتب إلى عبد الملك يذم يزيد وآل المهلب، وخلاصة الأمر أنه كرر القول مع عبد الملك في ذلك إلى أن كتب إليه عبد الملك: قد أكثرت في يزيد وآل المهلب، فسم لي رجلاً يصلح خراسان، فسمى له مجاعة بن سعد السعدي، فكتب إليه عبد الملك: إن رأيك الذي دعاك إلى استفساد آل المهلب هو الذي دعاك إلى مجاعة بن سعد (2) السعدي، فانظر لي رجلاً حازماً ماضياً لأمرك، فسمى قتيبة بن مسلم الباهلي، فكتب إليه وله، فبلغ يزيد أن الحجاج عزله فقال لأهل بيته: من ترون الحجاج يولي خراسان قالوا: رجلاً من ثقيف، قال:   (1) بر: رجل اسمه الوليد. (2) في متن الطبري: مجاعة بن سعر، وفي سرح العيون: ابن مسعر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 289 كلا والله، ولكنه يكتب إلى رجل منكم بعهده، فإذا قدمت عليه ولى غيره، وأخلق بقتيبة بن مسلم. قال: فلما أذن عبد الملك للحجاج في عزل يزيد كره أن يكتب بعزله فكتب إليه أن استخلف أخاك المفضل وأقبل، فاستشار يزيد حصين (1) بن المنذر، فقال له: أقم واعتل فإن أمير المؤمنين حسن الرأي فيك، وإنما أتيت من الحجاج، فإن أقمت ولم تعجل رجوت إليه أن يقر يزيد، فقال: إنا أهل بيت بورك لنا في الطاعة، وأنا أكره المعصية والخلاف، وأخذ في الجهاز فأبطأ ذلك على الحجاج، فكتب إلى أخيه المفضل: إني قد وليتك خراسان، فجعل المفضل يستحث يزيد، فقال له يزيد: إن الحجاج لا يقرك بعدي، وإنما دعاه إلى ما صنع مخافة أن أمتنع عليه، قال: بل حسدتني، قال يزيد: أنا لا أحسدك ولكن ستعلم. وخرج يزيد في شهر ربيع الآخر سنة خمس وثمانين، فعزل الحجاج المفضل وولى قتيبة بن مسلم الباهلي، وقيل فيروز بن حصين، وقال حصين بن المنذر ليزيد المذكور: أمرتك أمراً حازماً فعصيتني ... فأصبحت مسلوب الإمارة نادما فما أنا بالباكي عليك صبابة ... وما أنا بالداعي لترجع سالما فلما قدم قتيبة خراسان قال لحصين: كيف قلت ليزيد قال قلت: أمرتك أمراً حازماً فعصيتني ... فنفسك ولِّ اللوم إن كنت لائما فإن يبلغ الحجاج أن قد عصيته ... فإنك تلقى أمره متفاقما قال: فماذا أمرته به فعصاك قال: أمرته أن لا يدع صفراء ولا بيضاء إلا حملها إلى الأمير. وفي تولية قتيبة وعزل يزيد قال عبد الله بن همام السلولي: أقتيب قد قلنا غداة أتيتنا ... بدل لعمرك من يزيد أعور إن المهلب لم يكن كأبيكم ... هيهات شأنكم أدق وأحقر   (1) في متن الطبري: حضين. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 290 شتان من بالصنج أدرك والذي ... بالسيف شمر والحروب تسعر حولان باهلة الألى في ملكهم ... مات الندى فيهم وعاش المنكر قوله " بدل أعور " هذا مثل يضرب للمذموم يتولى بعد الرجل المحمود، يقال بدل أعور، وخلف أعور، وقوله " من بالصنج أدرك " يقال: إن قتيبة كان يضرب بالصنج في بدء أمره؛ وقوله " حولان باهلة " جمع أحول، وكان قتيبة أحول، وهذا بالجمع مثل قولهم: أسود وسودان، وأحمر وحمران، وغير ذلك. وقد قيل: إن هذه الأبيات ليست لعبد الله بن همام، وإنها لنهار بن توسعة اليشكري، والله أعلم. ثم ذكر الطبري في سنة تسعين (1) أن الحجاج خرج إلى الأكراد الذين غلبوا على عامة أرض فارس، فخرج بيزيد معه وأخويه المفضل وعبد الملك، وجعل عليهم في العسكر كهيئة الخندق وجعلهم في فسطاط قريباً منه (2) ، وجعل عليهم حرساً من أهل الشام، وأغرمهم ستة آلاف ألف، وأخذ يعذبهم، وكان يزيد يصبر صبراً حسناً، وكان الحجاج يغيظه ذلك، فقيل له أنه رمي بنشابة فثبت أصلها في ساقه، فهو لا يمسها شيء إلا صاح، فإن حركت أدنى شيء سمعت صوته، فأمر أن يعذب به ويرهق ساقه، فلما فعل به ذلك صاح، وأخته هند عند الحجاج، فلما سمعت صياح يزيد صاحت وناحت فطلقها. ثم إنه كف عنهم وأقبل يستأديهم، فأخذوا يؤدون وهم يعملون في المخلص من مكانهم، فبعثوا إلى مروان بن المهلب وهو بالبصرة يأمرونه أن يضمر لهم الخيل ويري الناس أنه إنما يريد بيعها ويعرضها على البيع ويغلي بها كي لا تشترى، فتكون لنا عدةً إن نحن قدرنا أن ننجو من هاهنا، ففعل ذلك مروان بن المهلب، وحبيب بالبصرة يعذب أيضاً، فأمر يزيد بالحرس فصنع لهم طعام كثير فأكلوا، وأمر لهم بشراب فسقوا، وكانوا متشاغلين به، ولبس   (1) تاريخ الطبري 2: 1208. (2) بر: قريباص من حجرته. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 291 يزيد ثياب طباخه، ووضع (1) على لحيته لحية بيضاء وخرج، فرآه بعض الحرس فقال: كأن هذه مشية يزيد، فجاء حتى استعرض وجهه ليلاً فرأى بياض اللحية فانصرف عنه، وقال: هذا شيخ. وخرج المفضل على أثره ولم يفطن له، فجاؤوا إلى سفينة (2) وقد هيؤوها في البطائح وبينهم وبين البصرة ثمانية عشر فرسخاً، فلم انتهوا إلى السفينة أبطأ عليهم عبد الملك وشغل عنهم، فقال يزيد للمفضل: اركب، فإنه لاحق، فقال المفضل، وكان عبد الملك أخاه لأمه: لا والله لا أبرح حتى يجيء عبد الملك ولو رجعت إلى السجن، فأقام يزيد حتى جاءهم عبد الملك، وركبوا في السفينة، وساروا ليلتهم حتى أصبحوا. ولما أصبح الحرس علموا بذهابهم، فرفع ذلك إلى الحجاج، ففزع لذلك الحجاج وذهب وهمه أنهم ذهبوا قبل خراسان، وبعث البريد إلى قتيبة بن مسلم يحذره قدومهم ويأمره أن يستعد لهم، وبعث إلى أمراء الثغور والكور أن يرصدهم ويستعدوا، وبعث إلى الوليد بن عبد الملك يخبره بهم، وأنه لا يراهم أرادوا إلا خراسان. ولم يزل الحجاج يظن بيزيد ما صنع، كان يقول: إني لأظنه يحدث نفسه بمثل الذي صنع ابن الأشعث - قلت: ابن الأشعث هو عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بن قيس الكندي، وكان قد خرج على عبد الملك بن مروان، وقصته مشهورة مذكورة في التواريخ - قال الطبري (3) : ولما دنا يزيد من البطائح استقبلته الخيل، وقد هيئت لهم، فخرجوا عليهم ومعهم دليل، فأخذ بهم على السماوة، وأتي الحجاج بعد يومين فقيل له: إنما أخذ الرجل طريق الشام، وهذه الخيل حسرى في الطريق، وقد أتى من رآهم متوجهين في البر، فبعث إلى الوليد يعلمه بذلك، ومضى يزيد حتى قدم فلسطين، فنزل على وهيب بن عبد الرحمن الأزدي، وكان كريماً على سليمان بن عبد الملك، وجاء وهيب حتى دخل على سليمان فقال: إن يزيد واخوته عندي، وقد أتوا هراباً من الحجاج متعوذين بك، فقال: آتني بهم فهم آمنون لا يوصل   (1) بر: وجعل. (2) الطبري: سفنهم؛ وهي بصيغة الجمع في بقية النص. (3) متابع لنص الطبري: 1211. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 292 إليهم أبداً وأنا حي، فجاء بهم حتى دخلوا عليه، فكانوا في مكان أمنٍ. وكتب الحجاج إلى الوليد بن عبد الملك: إن آل المهلب خانوا مال الله، وهربوا مني ولحقوا بسليمان، فلما بلغ الوليد مكانه عند سليمان أخيه هون عليه بعض ما كان في نفسه، وطار غضباً للمال الذي ذهبوا به، وكتب سليمان إلى أخيه الوليد: إن يزيد بن المهلب عندي وقد آمنته، وإنما عليه ثلاثة آلاف ألف، كان الحجاج أغرمهم ستة آلاف ألف، فأدى ثلاثة آلاف ألف، وبقيت ثلاثة آلاف ألف، فهن علي، فكتب إليه: لا والله لا أؤمنه حتى تبعث به إلي، فكتب إليه: لئن أنا بعثت به لأجيئن معه، فانشدك الله أن لا تفضحني ولا أن تخفرني، فكتب إليه الوليد: والله لئن جئتني به لا أؤمنه، فقال يزيد: ابعثني إليه، فوالله ما أحب أن أوقع بينك وبينه عداوةً وحرباً، ولا أن يتشاءم بي لكما الناس، ابعث إليه بي وأرسل معي ابنك، واكتب إليه بألطف ما قدرت عليه، فأرسل ابنه أيوب معه، وكان الوليد أمره أن يبعث به إليه في وثاق، فبعثه إليه وقال لابنه: إذا أردت أن تدخل عليه فادخل أنت ويزيد في سلسلة على الوليد، ففعل ذلك حتى انتهيا إلى الوليد فدخلا عليه، فلما رأى الوليد ابن أخيه مع يزيد في سلسلة قال: والله لقد بلغنا من سليمان. ثم إن الغلام دفع كتاب أبيه إلى عمه وقال: يا أمير المؤمنين، نفسي فداؤك، لا تخفر ذمة أبي وأنت أحق من منعها، ولا تقطع منا رجاء من رجا السلامة في جوارنا لمكاننا منك، ولا تذل من رجا العز في الانقطاع إلينا لعزنا بك، وقرأ الكتاب: " لعبد الله الوليد أمير المؤمنين من سليمان بن عبد الملك، أما بعد يا أمير المؤمنين فوالله إني لأظن لو استجار بي عدو قد نابذك وجاهدك فأنزلته وأجرته، فإنك لا تذل جاري ولا تخفر جواري، بل إني لم أجر إلا سامعاً مطيعاً حسن البلاء والأثر في الإسلام هو وأبوه وأهل بيته، وبعد فقد بعثت به إليك، فإن كنت إنما تعزو قطيعتي والإخفار لذمتي والإبلاغ في مساءتي، فقد قدرت إن أنت فعلت ذلك، وأنا أعيذك بالله من اجترار (1) قطيعتي وانتهاك حرمتي وترك يدي وصلتي، فوالله يا أمير المؤمنين ما تدري مل بقائي وبقاؤك، ولا متى يفرق   (1) ر: احتراز، واثبتنا ما في المسودة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 293 الموت بيني وبينك، فإن استطاع أمير المؤمنين، أدام الله سروره أن لا يأتي علينا أجل الوفاة إلا وهو لي واصل ولحقي مؤد وعن مساءتي نازع، فليفعل؛ والله يا أمير المؤمنين ما أصبحت لشيء من أمور الدنيا بعد تقوى الله تعالى فيها بأسر مني برضاك وسرورك، ولرضاك مما ألتمس به رضوان الله، فإن كنت يا أمير المؤمنين تريد يوماً من الدهر مسرتي وصلتي وكرامتي وإعظام حقي فتجاوز لي عن يزيد، وكل ما طلبته به فهو علي "، فلما قرأ كتابه قال: لقد شققنا على سليمان، ثم دعا ابن أخيه فأدناه منه، ثم تكلم يزيد فحمد الله تعالى وأثنى عليه وصلى على نبيه صلى الله عليه وسلم، ثم قال: يا أمير المؤمنين، إن بلاءكم عندنا أحسن البلاء، فمن ذلك فلسنا ناسيه، ومن يكفر فلسنا كافريه، وقد كان من بلائنا، أهل البيت، في طاعتكم والطعن في أعين أعدائكم في المواطن العظام في المشارق والمغارب ما إن المنة فيه عظيمة، فقال له: اجلس، فجلس فآمنه وكف عنه، ورجع إلى سليمان، وسعى إخوته في المال الذي عليه، وكتب إلى الحجاج: إني لم أصل إلى يزيد وأهل بيته مع سليمان، فاكفف عنهم، واله عن الكتاب إلي فيهم، فلما رأى ذلك الحجاج كف عنهم،. وكان أبو عيينة عند الحجاج عليه ألف ألف درهم فتركها له، وكف عن حبيب بن المهلب، وأقام يزيد عند سليمان تسعة أشهر في أرغد عيش وأنعم بال لا تأتي سليمان هدية إلا أرسل نصفها إليه (1) . وقال بعض جلساء يزيد له: لم لا تتخذ لك داراً فقال: وما أصنع بها ولي دار حاصلة مجهزة على الدوام فقال له: وأين هي قال: إن كنت متولياً فدار الإمارة، وإن كنت معزولاً فالسجن. ومن كلام يزيد: ما يسرني أن أكفى أمور دنياي كلها ولي الدنيا بحذافيرها، فقيل له: ولم ذاك فقال: لأني أكره عادة العجز. ثم إن الحجاج مات في شوال سنة خمس وتسعين للهجرة (2) ، وقيل كانت وفاته لخمس ليال بقين من شهر رمضان من السنة، وعمره ثلاث وخمسون سنة،   (1) هنا يتوقف النقل مؤقتاً عن الطبري. (2) انظر الطبري 2: 1268. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 294 وقيل أربع وخمسون. ولما حضرته الوفاة استخلف يزيد بن أبي كبشة على الحرب والصلاة بالمصرين: البصرة والكوفة، وولى خراجهما يزيد بن أبي مسلم، فأقرهما الوليد، وكذلك فعل بكل من استخلف الحجاج، وقيل بل الوليد هو الذي ولاهما، وكانت ولاية الحجاج بالعراقين عشرين سنة. ثم توفي الوليد بن عبد الملك يوم السبت النصف من جمادى الآخرة سنة ست وتسعين للهجرة، بدير مران - قلت: وهو بسفح جبل قاسيون ظاهر دمشق - ودفن في مقابر باب الصغير ظاهر دمشق، وبويع سليمان بن عبد الملك في اليوم الذي مات فيه أخوه الوليد. وفي هذه السنة (1) أعني سنة ست وتسعين، عزل سليمان بن عبد الملك يزيد بن أبي مسلم عن العراق، وأمر عليه يزيد بن المهلب، وقال خليفة بن خياط (2) : جمع ليزيد المصران، يعني الكوفة والبصرة، سنة سبع وتسعين، والله أعلم. وجعل صالح بن عبد الرحمن على الخراج، وأمره أن يعذب (3) آل أبي عقيل - قلت: هم رهط الحجاج - قال: ويبسط عليهم العذاب، فأخذ صالح آل أبي عقيل فكان يعذبهم، وكان يلي عذابهم عبد الملك بن المهلب. وكان الوليد قد عزم على خلع أخيه سليمان عن ولاية العهد، ويجعل ولي عهده ولده عبد العزيز [بن الوليد] وتابعه على ذلك الحجاج وقتيبة بن مسلم الباهلي والي خراسان الذي تولى بعد يزيد بن المهلب - كما سبق ذكره قبل هذا - فلما ولي سليمان الخلافة خافه قتيبة بن مسلم، وتوهم أن يعزله ويولي خراسان يزيد بن المهلب، فكتب إلى سليمان كتاباً يهنئه بالخلافة ويعزيه عن الوليد، ويعلمه بلاءه وطاعته لعبد الملك والوليد، وأنه على مثل ما كان لهما عليه من الطاعة والنصيحة إن لم يعزله عن خراسان، وكتب إليه كتاباً آخر يعلمه فيه فتوحه ومكانه وعظم قدره عند ملوك العجم وهيبته في صدورهم، ويذم المهلب وآل المهلب، ويحلف بالله لئن استعمل يزيد على خراسان ليخلعنه، وكتب كتاباً ثالثاٍ فيه   (1) المصدر السابق: 1282. (2) تاريخ خليفة: 427 وفيه سنة ست وتسعين. (3) صورة الكلمة في المسودة " يقذل " وفي بعض النسخ " يقتل ". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 295 خلعه، وبعث بالكتب الثلاثة مع رجل من باهلة وقال له: ادفع إليه هذا الكتاب، فإن كان يزيد بن المهلب حاضراً فقرأه ثم ألقاه إليه فادفع إليه هذا الكتاب، وإن قرأ الأول فاحتبسه ولم يدفعه إلى يزيد فاحتبس الكتابين الآخرين، قال: فقدم رسول قتيبة بن مسلم على سليمان وعنده يزيد بن المهلب، فدفع إليه الكتاب فقرأه ثم ألقاه إلى يزيد، فدفع إليه الكتاب الآخر، فقرأه ثم رماه إلى يزيد، فأعطاه الكتاب الثالث، فقرأه، فتعمر (1) لونه، ثم دعا بطين فختمه ثم أمسكه بيده. وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى: كان في الكتاب الأول وقيعة في يزيد بن المهلب وذكر غدره وكفره وقلة شكره، وفي الكتاب الثاني ثناء على يزيد، وفي الكتاب الثالث: لئن لم تقرني على ما كنت عليه وتؤمنني لأخلعنك خلع النعل، ولأملأنها عليك خيلاً ورجلاً. ثم إن سليمان (2) أمر برسول قتيبة أن ينزل بدار الضيافة، فلما أمسى دعا به سليمان وأعطاه صرة فيها دنانير وقال: هذه جائزتك وهذا عهد صاحبك على خراسان فسر وهذا رسول معك بعهده. فخرج الباهلي ومعه رسول سليمان، فلما كان بحلوان تلقاهم الناس بخلع قتيبة، فرجع رسول سليمان ودفع العهد إلى رسول قتيبة، فوصل به إليه، فاستشار اخوته فقالوا: لا يثق بك سليمان بعد هذا. ثم إن قتيبة قتل - كما ذكرته في ترجمته في حرف القاف مع الاختصار لأن الشرح في ذلك يطول. ثم إن يزيد بن المهلب نظر في نفسه لما تولى العراق فقال (3) : إن العراق قد أخربها الحجاج، وأنا اليوم رحا (4) أهل العراق، ومتى قدمتها وأخذت الناس   (1) ر س من بر: فتغير؛ وأثبتنا ما في المسودة. (2) متابع للنقل عن الطبري: 1285. (3) المصدر السابق: 1306. (4) كذا في المسودة: بالحاء المهملة، وتحتها رسم المؤلف صورة الحاء، وفي ر س بر من والطبري: رجاء، وفي ق ع: رجل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 296 بالخراج وعذبتهم عليه صرت مثل الحجاج أدخل على الناس الحرب وأعيد عليهم تلك الشجون (1) التي قد عافاهم الله منها، ومتى لم آت سليمان بمثل ما جاء به الحجاج لم يقبل مني. فأتى يزيد سليمان فقال: أدلك على رجل بصير بالخراج توليه إياه وهو صالح بن عبد الرحمن مولى بني تميم. فقال: قد قبلنا رأيك، فأقبل يزيد إلى العراق، وكان صالح قدم العراق قبل قدوم يزيد ونزل واسطاً، ولما قدم يزيد خرج الناس يتلقونه، فلم يخرج صالح حتى قرب يزيد من المدينة، ثم خرج إليه وبين يديه أربعمائة من أهل الشام، فلقي يزيد وسايره، فلما دخل المدينة قال له صالح: قد فرغت لك هذه الدار، فنزل يزيد، ومضى صالح حتى أتى منزله، وضيق صالح على يزيد فلم يملكه شيئاً، واتخذ يزيد ألف خوان يطعم الناس عليها فأخذها صالح، فقال له يزيد: اكتب ثمنها علي؛ واشترى متاعاً كثيرة وصك صكاكاً إلى صالح لباعتها منه، فلم ينفذه (2) ، فرجعوا إلى يزيد فغضب وقال: هذا عملي بنفسي، فلم يلبث أن جاء صالح فأوسع له يزيد فجلس وقال ليزيد: ما هذه الصكاك إن الخراج لا يقوم لها، ولقد أنفذت لك منذ أيام صكاكاً بمائة ألف وعجلت لك أرزاقك وسألت مالاً فأعطيتك، فهذا لا يقوم له شيء، ولا يرضي أمير المؤمنين، وتؤخذ به، فقال له يزيد: يا أبا الوليد أجز هذه الصكاك هذه المرة، وضاحكه فقال: إني أجيزه فلا تكثرن علي، قال: لا. ولما ولى سليمان يزيد العراق لم يوله خراسان، فقال سليمان لعبد الملك بن المهلب: كيف أنت يا عبد الملك إن وليتك خراسان قال: يجدني أمير المؤمنين حيث يحب، ثم أعرض سليمان عن ذلك، وكتب عبد الملك إلى رجال من خاصته بخراسان: إن أمير المؤمنين عرض علي ولاية خراسان، فبلغ الخبر إلى أخيه يزيد وقد ضجر بالعراق، وقد ضيق عليه صالح بن عبد الرحمن، فليس يصل معه إلى شيء، فدعا يزيد عبد الله بن الأهتم فقال: غني أريدك لأمر قد أهمني، وقد أحببت أن تكفينيه، قال: مرني بما أحببت، قال: أنا فيما   (1) كذا في المسودة؛ وفي ر ع س بر من والطبري: السجون. (2) ر: فلم ينفذها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 297 ترى من الضيق وقد أضجرني ذلك، وخراسان شاغرة، وقد بلغني أن أمير المؤمنين ذكرها لعبد الملك بن المهلب، فهل من حيلة قال: نعم سرحني إلى أمير المؤمنين فإني أرجو أن آتيك بعهده عليها، قال: فاكتم ما أخبرتك به، وكتب إلى سليمان كتابين: أحدهما يذكر له فيه أمر العراق، وأثنى فيه على ابن الأهتم، وذكر له علمه بها، ووجه ابن الأهتم وحمله على البريد، وأعطاه ثلاثين ألفاً وسار سبعاً فقدم بكتاب يزيد على سليمان، فدخل عليه وهو يتغدى، فجلس ناحية فأتي له بدجاجتين فاكلهما، ثم قال له سليمان: لك مجلس بعد هذا تعود إليه، ثم دعا به بعد ثالثة، فقال له سليمان: إن يزيد بن المهلب كتب إلي يذكر علمك بالعراق وبخراسان ويثني عليك، فكيف علمك بها قال: أنا أعلم الناس بها، بها ولدت، وبها نشأت، قال: ما أحوج أمير المؤمنين إلى مثلك يشاوره في أمرها، فأشر علي برجل أوليه خراسان، قال: أمير المؤمنين أعلم بمن يريد يولي، فإن ذكر منهم أحداً أخبرته برأيي فيه هل يصلح أم لا فسمى سليمان رجلاً من قريش، فقال: ليس من رجال خراسان، فسمى عبد الملك بن المهلب، فقال: لا، حتى عدد رجالاً، فكان آخر من ذكر وكيع بن أبي سود، فقال: يا أمير المؤمنين وكيع رجل شجاع صارم مقدان وليس بصاحبها، ومع هذا إنه لم يقد ثلثمائة قط فرأى لأحد عليه طاعة، قال: صدقت ويحك! فمن لها قال: رجل أعلمه لم تسمه، قال: فمن هو قال: لا أبوح باسمه إلا أن يضمن لي أمير المؤمنين ستر ذلك وأن يجيرني منه إن علم، قال: نعم، سمه لي، قال: يزيد بن المهلب، قال: ذلك بالعراق والمقام بها أحب إليه من المقام بخراسان، قال: قد علمت يا أمير المؤمنين، ولكن تكرهه فيستخلف على العراق رجلاً ويسير، قال: أصبت الرأي، فكتب عهد يزيد بن المهلب على خراسان، وكتب إليه إن ابن الأهتم كما ذكرت من عقله ودينه وفضله ورايه، ودفع الكتاب وعهد يزيد إليه، فسار سبعاً فقدم على يزيد فقال له: ما وراءك فأعطاه الكتاب فقال: ويحك! خبر، فأعطاه العهد، فأمر يزيد بالجهاز للمسير من ساعته ودعا ابنه مخلداً فقدمه إلى خراسان فسار من يومه. ثم سار يزيد إلى خراسان فأقام بها ثلاثة أشهر أو أربعة، ثم غزا جرجان الجزء: 6 ¦ الصفحة: 298 وطبرستان ودهستان وفتحها، وذلك في سنة ثمان وتسعين. وقتل من أصحاب يزيد على حصار بعض قلاع جرجان خمسة آلاف رجل، فحلف يزيد يميناً مغلظة أنه ليقتلهم حتى تطحن الرحى بدمائهم، فأكثر من قتلهم، وكانت الدماء لا تجري حتى صب عليها الماء فجرت فطحنت، وأكل مما طحنت بدمائهم. ثم مات سليمان بن عبد الملك يوم الجمعة لشعر ليال بقين من صفر سنة تسع وتسعين للهجرة، وقيل لعشر ليال مضين من صفر، والله أعلم بالصواب، بدابق، قرية شمالي حلب، وعهد إلى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، فعزل عمر في هذه السنة يزيد بن المهلب عن العراق (1) ، وجعل مكانه عدي بن أرطاة الفزاري، فأخذ يزيد وأوثقه، وبعث به إلى عمر بن عبد العزيز، وقد كان عمر يبغض يزيد وأهل بيته، ويقول: هؤلاء جبابرة ولا أحب أمثالهم، وكان يزيد يبغض عمر ويقول: إني لأظنه مرائياً. ولما وصل يزيد سأله عمر عن الموال التي كتب بها إلى سليمان فقال: كنت من سليمان بالمكان الذي قد رأيت، وإنما كتبت إلى سليمان لأسمع الناس به، وقد علمت أن سليمان لم يكن ليأخذني بشيء مما سمعت، ولا بأمر أكرهه، فقال عمر: ما أجد في أمرك إلا حبسك، فاتق الله وأد ما قبلك فإنها حقوق المسلمين ولا يسعني تركها، فرده إلى محبسه. وذكر البلاذري في كتاب " فتوح البلدان " (2) في الفصل المتضمن حديث جرجان وطبرستان، أن يزيد بن المهلب لما فرغ من أمر جرجان سار إلى خراسان فتلقته الهدايا، ثم ولى ابنه مخلداً خراسان، وانصرف إلى سليمان، فكتب إليه إن معه خمسة وعشرين ألف ألف درهم، فوقع الكتاب في يد عمر بن عبد العزيز، فأخذ يزيد به وحبسه، والله أعلم. وبعث (3) عمر إلى الجراح بن عبد الملك الحكمي فسرحه إلى خراسان، ثم قدم   (1) انظر الطبري 2: 1350. (2) فتوح البلدان: 414. (3) عاد إلى النقل عن الطبري: 1350. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 299 مخلد بن يزيد على عمر، وجرى بينهما ما سبق ذكره، فلما خرج مخلد بن يزيد على قال عمر: هذا عندي خير من أبيه، فلم يلبث مخلد إلا قليلاً حتى مات. ولما أبى يزيد أن يؤدي المال إلى عمر ألبسه جبة صوف وحمله على جمل، ثم قال: سيروا به إلى دهلك - قلت: وهي جزيرة في بحر عيذاب بالقرب من سواكن كان الخلفاء يحبسون بها من نقموا عليه - قال: فلما أخرج يزيد مروا به على الناس، فجعل يزيد يقول: ما لي عشيرة يذهب بي إلى دهلك إنما يذهب إلى دهلك بالفاسق المريب، سبحان الله، أما لي عشيرة فدخل على عمر سلامة بن نعيم الخولاني، وقال يا أمير المؤمنين، أردد يزيد إلى محبسه، فإني أخاف إن أمضيته أن ينتزعه قومه، فإني رأيت قومه قد غضبوا له، فرده إلى محبسه ولم يزل في محبسه حتى بلغه مرض عمر. وقيل (1) إن عدي بن أرطأة سلمه إلى وكيع بن حسان بن أبي حسان بن أبي سود التميمي مغلولاً مقيداً في سفينة ليوصله إلى عين التمر حتى يحمل إلى عمر، فعرض لوكيع ناس من الأزد لينتزعوه منه، فوثب وكيع وانتضى سيفه وقطع قلس السفينة، وأخذ سيف يزيد بن المهلب، وحلف بطلاق امرأته ليضربن عنقه إن لم يتفرقوا عنه، فناداهم يزيد وأعلمهم بيمين وكيع، فتفرقوا، ومضى به حتى سلمه إلى الجند بعي التمر، وحمله الجند إلى عمر فحبسه. ولما كان يزيد في حبس عمر دخل عليه الفرزدق، فرآه مقيداً فأنشده: أصبح في قيدك السماحة وال ... جود وحمل الدايات والحسب لا بطر إن ترادفت نعم ... وصابر في البلاء محتسب فقال له يزيد: ويحك ماذا صنعت أسأت إلي، قال: ولم ذاك قال: تمدحني وأنا على هذه الحالة فقال له الفرزدق: رأيتك رخيصاً فأحببت أن أسلف فيك بضاعتي، فرمى يزيد إليه بخاتمه وقال: شراؤه ألف دينار، وهو ربحك إلى أن يأتيك رأس المال. واستمر في حبسه (2) إلى أن مرض عمر في سنة إحدى ومائة، فخاف   (1) الطبري 2: 1352. (2) الطبري: محبسه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 300 يزيد بن المهلب من يزيد بن عبد الملك بن مروان أن يلي الخلافة بعد عمر بن عبد العزيز، وكان يزيد بن المهلب لما ولي العراق قد عذب آل أبي عقيل، - وهم رهط الحجاج كما سبق ذكره - وكانت أم الحجاج بنت محمد بن يوسف بن الحكم بن أبي عقيل عند يزيد بن عبد الملك، وهي أم الوليد بن يزيد فاسق بني أمية، وهي بنت أخي الحجاج، وكان يزيد بن عبد الملك قد عاهدها لئن أمكنه الله من يزيد بن المهلب ليقطعن منه طابقاً (1) ، فكان يخشى ذلك، فأخذ يعمل في المهرب (2) ، فبعث إلى مواليه فأعدوا له إبلاً، وكان مرض عمر في دير سمعان، فلما اشتد مرض عمر نزل يزيد من محبسه وخرج حتى أتى المكان الذي فيه إبله، وقد واعدهم إليه، فاحتمل وخرج، فلما جاز كتب إلى عمر: إني والله لو علمت أنك تبقى ما خرجت من محبسي، ولكني لم آمن يزيد بن عبد الملك، فقال عمر: اللهم إن كان يريد بهذه الأمة شراً فاكفهم شره واردد كيده في نحره. ومضى يزيد بن المهلب، وزعم الواقدي أن يزيد بن المهلب: إنما هرب من سجن عمر بعد موت عمر - قلت: وجدت في مسودة تاريخ القاضي كمال الدين بن العديم الحلبي، أن عمر حبس يزيد بن المهلب وابنه معاوية بحلب وهربا منها، والله أعلم. (333) ثم توفي عمر بن عبد العزيز (3) يوم الجمعة، وقيل الأربعاء، لخمس بقين من رجب سنة إحدى ومائة، رحمه الله تعالى، بدير سمعان، وقل أنه مات لعشر بقين من رجب من السنة، وهو ابن تسع وثلاثين سنة وأشهر، وقيل أنه مات بخناصرة (4) . وأمه أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، وكان يقال له " أشج بني أمية "، وذلك أن دابة   (1) ر: طائفاً. (2) فأخذ ... المهرب: لم ترد في الطبري. (3) متابع للطبري: 1362. (4) ورد في ر بر من هنا تعريق بخناصرة، وذلك سيرد في الترجمة التالية، ولم يرد في هذا الموضع في المسودة وسائر النسخ، وكان المؤلف قد كتب التعريف في مسودته هنا ثم أضرب عن ذلك. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 301 من دواب أبيه كانت شجته. قال نافع مولى ابن عمر: كنت أسمع ابن عمر كثيراً يقول: ليت شعري من هذا الذي من ولد عمر في وجهه علامة يملأ الأرض عدلاً، قال سال الأفطس: إن عمر بن عبد العزيز رمحته دابة وهو غلام بدمشق، فأتى أمه أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، فضمته إليها وجعلت تمسح الدم عن وجهه، ودخل أبوه عليها على تلك الحال، فأقبلت عليه تعذله وتلومه وتقول: ضيعت ابني، ولم تضم إليه خادماً ولا حاضناً يحفظه من مثل هذا، فقال لها: اسكتي يا أم عاصم، فطوبى لك إن كان أشج بني أمية. وقال حماد بن زيد: إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مر بعجوز تبيع لبناً معها في سوق اللبن، فقال لها: يا عجوز لا تغشي المسلمين وزوار بيت الله تعالى ولا تشوبي اللبن بالماء، فقالت: نعم يا أمير المؤمنين، ثم مر بها بعد ذلك، فقال لها: يا عجوز، ألم أتقدم إليك أن لا تشوبي اللبن بالماء فقالت: والله ما فعلت، فقالت ابنة لها من داخل الخباء: أغشاً وكذباً جمعت على نفسك فسمعها عمر رضي الله عنه فهم بمعاقبة العجوز، فتركها لكلام ابنتها، ثم التفت إلى بنيه فقال: أيكم يتزوج هذه، فلعل الله عز وجل يخرج منها نسمة طيبة مثلها فقال عاصم بن عمر: أنا أتزوجها، فزوجها إياه، فولدت له أم عاصم، فتزوج أم عاصم عبد العزيز بن مروان، فولدت، فولدت له عمر بن عبد العزيز. ثم تزوج بعدها حفصة وفيها قيل: ليست حفصة من نساء أم عاصم. [وذكر الشيخ شمس الدين أبو المظفر بن قزغلي بن عبد الله، سبط الشيخ جمال الدين أبي الفرج ابن الجوزي في كتاب " جوهرة الزمان في تذكرة السلطان " عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: بينما أبي يعس بالمدينة إذ سمع امرأة وهي تقول لابنتها: يا بنية، قومي فشوبي اللبن بالماء، فقالت: يا أماه أما سمعت منادي أمير المؤمنين أنه نادى: أن لا يشاب اللبن بالماء فقالت: وأين أنت من مناديه الساعة فقالت: إذا لم يرني مناديه ألم يرني رب مناديه - وفي رواية أخرى، قالت: والله ما كنت لأطيعه في الملا وأعصيه في الخلا، قال: فبكى عمر رضي الله عنه. فلما أصبح دعا بالمرأة وبابنتها وسأل: هل لها زوج فقالت: ليس لها زوج، فقال: يا عبد الله، تزوج هذه، فلو كانت الجزء: 6 ¦ الصفحة: 302 بي حاجة إلى النساء لتزوجتها، فقلت: أنا في غنى عنها، فقال: يا عاصم تزوجها فتزوجها، فجاءت بابنة فحملت بعمر بن عبد العزيز] (1) . ولما مات عمر بن عبد العزيز، رضي الله عنه، ولي مكانه يزيد بن عبد الملك بن مروان. ثم إن يزيد بن المهلب لحق بالبصرة فغلب عليها، وأخذ عامل يزيد بن عبد الملك وهو عدي بن أرطأة الفزاري فحبسه، وخلع يزيد بن عبد الملك ورام الخلافة لنفسه، فجاءته إحدى حظاياه وقبلت الأرض بين يديه وقالت: السلام عليك يا أمير المؤمنين، فأنشدها: رويدك حتى تنظري عم تنجلي ... عماية هذا العارض المتألق قلت: وهذا البيت من جملة أبيات لبشر بن قطية الأسدي. قلت: ولا حاجة إلى تفصيل الحال فيه فإن شرحه يطول، وهذه خلاصته، ثم إن يزيد بن عبد الملك جهز لقتاله أخاه مسلمة بن عبد الملك، وابن أخيه العباس بن الوليد بن عبد الملك، ومعهما الجيش، وخرج يزيد بن المهلب للقائهم، واستخلف على البصرة ولده معاوية بن يزيد وعنده الرجال والأموال والأسرى، وقدم بين يديه أخاه عبد الملك بن المهلب وسار حتى نزل العقر - قلت: هي عقر بابل، وهي عند الكوفة بالقرب من كربلاء، الموضع الذي قتل فيه الحسين، رضي الله عنه، والعقر: بفتح العين المهملة وسكون القاف وبعدها راء، وهو في الأصل اسم القصر، والمواضع المسماة بالعقر أربعة: أحدها هذا ولا حاجة إلى ذكر الباقي، وقد ذكرها ياقوت الحموي في كتابه الذي سماه " المشترك وضعاً " -. قال الطبري (2) : ثم أقبل مسلمة بن عبد الملك حتى نزل على يزيد بن المهلب فاصطفوا، ثم اقتتل القوم، فشد أهل البصرة على أهل الشام فكشفوهم، ثم إن أهل الشام كروا عليهم فكشفوهم، وكان على مقدمة جيش بن يزيد أخوه   (1) انفردت به ر بر من، ولم يرد في المسودة. (2) الطبري 2: 1395. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 303 عبد الملك، فلما انكشف حاء إلى أخيه يزيد، وكان الناس يبايعون يزيد بن المهلب، وكانت مبايعته على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وأن لا تطأ الجنود بلادهم ولا بيضتهم، ولا تعاد عليهم سيرة الفاسق الحجاج، وكان مروان بن الملهب بالبصرة يحرض الناس على حرب أهل الشام ويسرح الناس إلى أخيه يزيد. وكان الحسن البصري (1) ، رضي الله عنه يثبط الناس عن يزيد بن المهلب، فقال يوماً في مجلسه: يا عجباً لفاسق من الفاسقين ومارق من المارقين غير برهة من دهره، يهتك الله في هؤلاء القوم كل حرمة، ويركب له فيهم كل معصية ويأكل ما أكلوا ويقتل ما قتلوا، حتى إذا منعوه لماظةً كان يتلمظها قال: أنا لله غضبان فاغضبوا، ونصب قصباً عليها خرق، وتبعه رجراجة رعاع هباء ما لهم أفئدة وقال: أدعوكم إلى سنة عمر بن عبد العزيز، ألا وإن من سنة عمر أن توضع رجلاه في قيد ثم يوضع حيث وضعه عمر، فقال له رجل: أتعذر أهل الشام يا أبا سعيد يعني بني أمية، فقال: أنا أعذرهم لا عذرهم الله! والله لقد حدث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " اللهم إني حرمت المدينة بما حرمت به بلدك مكة " فدخلها أهل الشام ثلاثاً لا يغلق لها باب إلا أحرق بما فيه، حتى إن الأقباط والأنباط ليدخلون على نساء قريش فينتزعون خمرهن من رؤوسهن وخلاخلهن من أرجلهن، سيوفهم على عواتقهم، وكتاب الله تحت أرجلهم، أنا أقتل نفسي لفاسقين تنازعا هذا الأمر والله لوددت أن الأرض أخذتهما خسفاً جميعاً. فبلغ ذلك يزيد بن المهلب فأتى الحسن، هو وبعض بني عمه إلى حلقته في المسجد متنكرين، فسلما عليه ثم خلوا به، فاشرأب الناس ينظرون إليهم، فلاحاه يزيد، فدخل في ملاحاتهما ابن عم يزيد، فقال له الحسن: وما أنت وذاك يا ابن اللخناء فاخترط سيفه ليضربه به، فقال يزيد: ما تصنع قال: أقتله، فقال له يزيد: اغمد سيفك فوالله لو فعلت لانقلب من معنا علينا. قلت: ويزيد بن المهلب المذكور، هو الذي عناه بن دريد في مقصورته   (1) المصدر السابق: 1392 مع بعض اختلاف. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 304 المعروفة بالدريدية بقوله: وقد سما قبلي يزيد طالباً ... شأو العلا فما وهى ولا وّنى وكل من شرح الدريدية تكلم على هذا البيت وشرح قصته. وكانت إقامة يزيد بن المهلب منذ اجتمع هو ومسلمة بن عبد الملك ثمانية أيام، حتى إذا كان يوم الجمعة لأربع عشرة مضت من صفر سنة اثنتين ومائة (1) أمر مسلمة أن تحرق السف فأحرقت، والتقى الجمعان وشبت الحرب، فلما رأى الناس الدخان قيل لهم: أحرق الجسر، انهزموا، فقيل ليزيد: قد انهزم الناس، فقال: مم انهزموا فقيل له: أحرق الجسر فلم يلبث أحد، فقال: قبحهم الله بقٌّ دخِّن عليه فطار. وكان يزيد لا يحدث نفسه بالفرار، وجاءه من أخبره أن أخيه حبيباً قد قتل فقال: لا خير في العيش بعد حبيب، قد كنت والله أبغض الحياة بعد الهزيمة فوالله ما ازددت لها إلا بغضاً، امضوا قدماً، قال: أصحابه: فعلمنا أن الرجل قد استقتل. وأخذ من يكره القتال ينكص، وأخذوا يتسالون (2) ، وبقيت معه جماعة حسنة، وهو يزدلف، فكلما مر بخيل كشفها أو جماعة من أهل الشام عدلوا عنه وعن سنن أصحابه، فجاء أبو رؤبة المرجئ وقال: ذهب الناس، فهل لك أن تنصرف إلى واسط فإنها حصن تنزلها ويأتيك أهل البصرة ويأتيك أهل عمان والبحرين في السفن وتضرب خندقاً فقال له: قبح الله رأيك، ألي تقول ذا الموت أيسر علي من ذلك، فقال له: فغني أتخوف عليك، أما ترى ما حولك من جبال الحديد فقال له: فأنا أباليها أجبال حديد كانت أم جبال نار اذهب عنا إن كنت لا تريد قتالاً معنا. وأقبل على مسلمة لا يريد غيره، حتى إذا دنا منه دعا مسلمة بفرسه ليركبه، فعطفت عليه خيول أهل الشام وعلى أصحابه، فقتل يزيد بن المهلب، وقتل معه أخوه محمد وجماعة من أصحابه، وقال القحل - بفتح القاف وسكون الحاء   (1) متابع للطبري 2: 1402 وما بعدها. (2) كذا في المسودة؛ وفي النسخ: يتسللون. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 305 المهملة وآخره لام - ابن عياش الكلبي، لما نظر إلى يزيد: يا أهل الشام هذا والله يزيد، لأقتلنه أو ليقتلني، إن دونه ناساً، فمن يحمل معي يكفيني أصحابه حتى أصل إليه فقال له ناس من أصحابه: نحن نكمل معط، فحملوا بأجمعهم، فاضطربوا ساعة وسطع الغبار وانفرج الفريقان عن يزيد قتيلاً، وعن القحل بن عياش بآخر رمق، فأومأ إلى أصحابه يريهم مكان يزيد، وجاء برأس يزيد مولى لبني مرة، فقيل له: أنت قتلته فقال: لا. وفي أثناء الوقعة نظر الحواري بن زياد إلى برذون عائر فقال: الله أكبر، هذا برذون الفاسق ابن المهلب، قد قتله الله إن شاء الله، فطلبوه، فأتي مسلمة برأسه، فلم يعرف الرأس، فقال حسان النبطي: مهما ظننتم فلا تظنوا أن الرجل هرب، ولقد قتل، فقال مسلمة وما علامة ذلك فقال: إني سمعته أيام ابن الأشعث يقول: قبح الله ابن الأشعث، هبوه غلب على أمره أكان يغلب على الموت ألا مات كريماً (334) قلت: ذكر الأمير أبو نصر ابن ماكولا في باب " الفحل والقحل والعجل " ما مثاله: وأما القحل فمثل الفحل إلا أن أوله قاف فهو القحل بن عياش بن حسان بن عثمير بن شراحيل بن عزيز (1) ، قتل يزيد بن المهلب وقتله يزيد، ضرب كل واحدٍ منهما صاحبه فقتله. فلما أتي به إلى مسلمة لم يعرف ولم ينكر، فقيل له: مر برأسه فليغسل ثم ليعمم، ففعل ذلك به فعرفه، فبعث به إلى أخيه يزيد بن عبد الملك مع خالد بن الوليد بن عقبة بن أبي معيط. وقال خليفة بن خياط (2) : ولد يزيد بن المهلب سنة ثلاث وخمسين وتوفي مقتولاً يوم الجمعة لاثنتي عشرة ليلة خلت من صفر سنة اثنتين ومائة، والله أعلم بالصواب. ولما جاءت هزيمة يزيد واسط (3) أخرج معاوية بن يزيد بن المهلب اثنين وثلاثين أسيراً كانوا في يديه فضربوا أعناقهم، منهم عدي بن أرطأة، ثم خرج   (1) س: عزين. (2) تاريخ خليفة: 471. (3) ر: واسطاً؛ ولم ينونها المؤلف في المسودة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 306 وقد قال له القوم (1) : ويحك، إنا لا نراك تقتلنا إلا أن أباك قد قتل، ثم أقبل حتى أتى البصرة معه المال والخزائن، وجاء المفضل بن المهلب، واجتمع جميع أهل المهلب بالبصرة وقد كانوا يتخوفون الذي كان، فأعدوا السفن البحرية وتجهزوا بكل الجهاز. وأراد معاوية بن يزيد أن يتأمر على آل المهلب، فاجتمعوا وأمروا عليهم المفضل بن المهلب. وقالوا: المفضل أكبرنا سناً، وإنما أنت غلام حدث (2) السن كبعض فتيان أهلك، فلم يزل المفضل عليهم حتى خرجوا إلى كرمان، وبكرمان فلول كثيرة، فاجتمعوا إلى المفضل، وبعث مسلمة بن عبد الملك في طلب آل المهلب وطلب الفلول، فأدركوهم في عقبة بفارس، فاشتد قتالهم، فقتل المفضل وجماعة من خواصه، ثم قتل آل المهلب من عند (3) آخرهم، إلا أبا عيينة وعثمان بن المفضل فإنهما نجوا ولحقا بخاقان ورتبيل، وبعث مسلمة برؤوسهم إلى أخيه يزيد وهو على حلب، فلما نصبوا خرج لينظر إليهم، فقال لأصحابه: هذا رأس عبد الملك، هذا رأس المفضل، والله لكأنه جالس معي يحدثني. وقال غير الطبري: لما حمل رأس يزيد بن المهلب إلى يزيد بن عبد الملك نال منه بعض جلسائه، فقال له: مه إن يزيد طلب جسيماً، وركب عظيماً، ومات كريماً. ولما فرغ مسلمة من حرب آل المهلب جمع له أخوه يزيد ولاية الكوفة والبصرة وخراسان في هذه السنة. ولما قتل يزيد بن المهلب رثاه شاعره ثابت قطنة بمراثٍ كثيرة حسنة، منها قوله: كل القبائل بايعوك على الذي ... تدعو إليه وتابعوك وساروا حتى إذا اشتجر القنا وتركتهم ... وهن الأسنة أسلموك وطاروا   (1) الطبري 2: 1409. (2) ر والطبري: حديث. (3) كذا في المسودة؛ وفي النسخ: عن آخرهم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 307 إن يقتلوك فإن قتلك لم يكن ... عاراً عليك، ورب قتلٍ عار (335) قلت: وهذا ثابت قطنة من شعراء خراسان وفرسانهم، وذهبت عينه فكان يحشوها قطنة، وقد كان يزيد بن المهلب استعمله على بعض كور خراسان فلما علا المنبر أرتج عليه، فلم ينطق حتى نزل فدخل عليه الناس فقال: فإن لا أقم فيكم خطيباً فإنني ... بسيفي إذا جد الوغى لخطيب فقالوا: لو كنت قلت هذا على المنبر لكنت أخطب الناس، ذكره ابن قتيبة في كتاب " طبقات الشعراء " (1) وقال ابن الكلبي في " جمهرة النسب ": هو ثابت بن كعب بن جابر بن كعب بن كزمان بن طرفة بن وهب بن مازن بن يم بن الأسد بن الحارث بن العتيك بن الأسد بن عمران بن عمرو مزيقياء بن عامر ماء السماء [وفيه يقول صاحب الفيل الحنفي، وكانا يتهاجيان: أبا العلاء لقد لاقيت معضلةً ... يوم العروبة من كرب وتخنيق تلوي اللسان إذا رمت الكلام به ... كما هوى زلق من شاهق النيق لما رمتك عيون الناس ضاحيةً ... أنشأت تجرض لما قمت بالريق] (2) وقال غير الطبري: إن الذي قتل يزيد بن المهلب هو الهذيل بن زفر بن الحارث الكلابي. وقال الكلبي: نشأت والناس يقولون: ضحى بنو أمية بالدين يوم كربلاء وبالكرم يوم العقر (3) ، وقال محمد بن واسع لما جاء نعي يزيد: أشتهي باكية عمانية تندب لي قتلى آل المهلب، وقال عباد بن عباد: مكثنا نيفاً وعشرين سنة بعد قتلى آل المهلب لا تولد فينا جارية ولا يموت منا غلام. وقال خليفة بن خياط، سنة اثنتين ومائة: فيها قتل يزيد بن المهلب يوم   (1) الشعر والشعراء: 526 وانظر في ترجمته أيضاً كتاب الأغاني 14: 247 والخزانة 4: 184. (2) انفردت به: ر بر من. (3) مر مثل هذا في ترجمة كثير عزة 4: 109. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 308 الجمعة لاثنّتي عشرة ليلة خلت من صفر، وهو ابن تسع وأربعين سنة، رحمه الله تعالى، فلقد كان من النجباء الكرماء العظماء الفرسان. وروي أن مسلمة بن عبد الملك دخل على أخيه يزيد بن عبد الملك حين خلعه يزيد، فرآه في ثوب مصبوغ فقال له: أتلبس مثل هذا وأنت ممن قال فيه: قوم إذا حاربوا شدوا مآزرهم ... دون النساء ولو باتت بأطهار فقال مسلمة: ذاك ونحن نحارب أكفاءنا من قريش، فأما إن نعق ناعق فلا ولا كرامة. قلت: وهذا البيت للأخطل التغلبي النصراني الشاعر المشهور (1) . 817 - (2) يزيد بن أبي مسلم الثقفي مولاهم أبو العلاء يزيد بن مسلم دينار الثقفي، مولاهم، كان مولى الحجاج بن يوسف الثقفي وكاتبه، وكان فيه كفاية ونهضة، قدمه الحجاج بسببهما - وقد تقدم في ترجمة يزيد بن المهلب أن الحجاج لما حضرته الوفاة استخلفه على الخراج بالعراق - فلما مات الحجاج أقره الوليد بن عبد الملك على حاله ولم يغير عليه شيئاً. وقيل إن الوليد هو الذي ولاه بعد موت الحجاج، وقال الوليد يوماً: مثلي ومثل الحجاج وابن أبي مسلم كرجل ضاع منه درهم فوجد ديناراً. ولما مات الوليد وتولى أخوه سليمان عزل يزيد بن أبي مسلم وبعث مكانه   (1) ديوان الأخطل: 120. (2) أخباره في تاريخ الطبري وابن الأثير وابن خلدون، وانظر البيان الغرب 1: 48 وتاريخ الرقيق: 99 وابن أبي دينار: 39. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 309 يزيد بن المهلب بن أبي صفرة الأزدي المذكور قبله، وأحضر إليه يزيد بن أبي مسلم في جامعة، وكان رجلاً قصيراً دميماً قبيح الوجه عظيم البطن تحتقره العين، فلما نظر إليه سليمان قال: أنت يزيد بن أبي مسلم قال: نعم أصلح الله أمير المؤمنين قال: لهن الله من أشركك في أمانته وحكمك في دينه، قال: لا تفعل يا أمير المؤمنين، فإنك رأيتني والأمور مدبرة عني، ولو رأيتني والأمور مقبلة علي لاستعظمت ما استصغرت ولاستجللت ما احتقرت، فقال سليمان: قاتله الله، فما أسد عقله وأعضب لسانه! ثم قال سليمان: يا يزيد، أترى صاحبك الحجاج يهوي بعد في نار جهنم أم قد استقر في قعرها فقال يزيد: لا تقل ذلك يا أمير المؤمنين، فإن الحجاج عادى عدوكم ووالى وليكم، وبذل مهجته لكم، فهو يوم القيامة عن يمين عبد الملك وعن يسار الوليد، فاجعله حيث أحببت. وفي رواية أخرى: إنه يحشر غداً بين أبيك وأخيك، فضعهما حيث شئت، قال سليمان: قاتله الله، فما أوفاه لصاحبه! إذا اصطنعت الرجال فلتصطنع مثل هذا، فقال رجل من جلساء سليمان: يا أمير المؤمنين، اقتل يزيد ولا تستبقه، فقال يزيد: من هذا فقالوا: فلان بن فلان، قال يزيد: والله لقد بلغني أن أمه ما كان شعرها يوازي (1) أذنيها، فما تمالك سليمان أن ضحك وأمر بتخليته. ثم كشف عنه سليمان فلم يجد عليه خيانة ديناراً ولا درهماً، فهم باستكتابه، فقال له عمر بن عبد العزيز: أنشدك الله يا أمير المؤمنين أن تحيي (2) ذكر الحجاج باستكتابك كاتبه، فقال: يا أبا حفص، إني كشفت عنه فلم أجد عليه خيانة، فقال عمر: أنا أوجدك من هو أعف عن الدينار والدرهم منه، فقال سليمان: من هذا فقال: إبليس، ما مس ديناراً ولا درهماً بيده وقد أهلك هذا الخلق. فتركه سليمان. وحدث جورية بن أسماء أن عمر بن عبد العزيز بلغه أن يزيد بن أبي مسلم في جيش (3) من جيوش المسلمين، فكتب إلى عامل الجيش أن يرده وقال: إني   (1) في ق ر ع س: يواري، وما أثبتناه موافق للمسودة وبر؛ وفي بر: ما كان لها شعر يوازي.. الخ. (2) س: لا تحيي؛ ع: لأن. (3) ع: خرج في جيش. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 310 لأكره أن أستنصر بجيش هو فيهم. ونقل الحافظ أبو القاسم المعروف بابن عساكر في " تاريخ دمشق " في ترجمة يزيد المذكور عن يعقوب أنه قال: في سنة إحدى ومائة أمر يزيد بن أبي مسلم على إفريقية، ونزع إسماعيل بن عبيد بن أبي المهاجر مولى بني مخزوم، فسار أحسن سيرة، وفي سنة اثنتين ومائة قتل يزيد. وقال الطبري في تاريخه الكبير: وكان سبب ذلك أنه كان فيما ذكر عزم أن يسير فيهم بسيرة الحجاج بن يوسف في أهل الإسلام الذين سكنوا الأمصار ممن كان أصله من السواد من أهل الذمة فأسلم بالعراق، ممن ردهم إلى قرارهم ورساتيقهم، ووضع على رقابهم على نحو ما كانت تؤخذ منهم وهم على كفرهم، فلما عزم على ذلك توامروا، فأجمع رأيهم على قتله (1) فقتلوه، وولوا على أنفسهم الوالي الذي كان قبل يزيد بن أبي مسلم، وكتبوا إلى يزيد بن عبد الملك: إنا لم نخلع أيدينا عن الطاعة، ولكن يزيد بن أبي مسلم سامنا ما لا يرضى به الله والمسلمون فقتلناه وأعدنا عاملك، فكتب إليهم يزيد بن عبد الملك: إنني لم أرض ما صنع يزيد بن أبي مسلم. وأقر محمد بن يزيد على إفريقية، وكان ذلك في سنة اثنتين ومائة. قال الوضاح بن خيثمة: أمرني عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى بإخراج قوم من السجن، وفيهم يزيد بن أبي مسلم، فأخرجتهم وتركته فحقد علي، وإني بإفريقية إذ قيل قدم يزيد والياً، فهربت منه، وعلم بمكاني وأمر بطلبي، فظفر بي وحملت إليه، فلما رآني قال: طالما سألت الله تعالى أن يمكنني منك، فقلت: وأنا والله لطالما سألت الله أن يعيذني منك، فقال: ما أعاذك الله، والله لأقتلنك والله لأقتلنك ولو سابقني فيك ملك الموت لسبقته. ثم دعا بالسيف والنطع فأتي بهما، وأمر بالوضاح فأقيم على النطع وكتف، وقام وراءه رجل بالسيف؛ وأقيمت الصلاة فخرج يزيد إليها، فلما سجد أخذته السيوف. ودخل إلى الوضاح من قطع كتافه وأطلقه، وأعيد إلى الولاية محمد بن يزيد مولى الأنصار، والله أعلم.   (1) فاجمع ... قتله: سقط من ع. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 311 قلت: كان الوضاح حاجب عمر بن عبد العزيز، فلما مرض أمر الوضاح بإخراج المحابيس، فأخرجهم سوى يزيد المذكور، فلما مات عمر هرب الوضاح إلى إفريقية خوفاً من يزيد، وجرى ما جرى، وكان مرض عمر بخناصرة (1) . هكذا قاله الطبري: محمد بن يزيد، وابن عساكر قال: إسماعيل بن عبيد الله، والله أعلم بالصواب؛ وقوله " وأحضر إليه يزيد بن أبي مسلم في جامعة " فالجامعة: الغل، لأنها تجمع اليدين إلى العنق، وقوله " وكان رجلاً قصيراً دميماً " الدميم: بالدال المهملة، القبيح المنظر، ومنه قول عمر رضي الله عنه " لا تزوجوا بناتكم من الرجل الدميم فإنه يعجبهن منهم ما يعجبهم منهن " وأما الذميم بالذال المعجمة فإنه المذموم، وكذا قول ابن الرومي الشاعر المشهور: كضرائر الحسناء قلن لوجهها ... حسداً وبغياً إنه لدميم - بالدال المهملة أيضاً - وإنما قيدته بالضبط لأنه يتصحف على الناس كثيراً (2) . وخناصرة: بضم الخاء المعجمة ثم نون وبعد الألف صاد مهملة مكسورة ثم راء بعدها هاء، وهي بلدة قديمة من أعمال الأحص من ولاية حلب من جهتها القبلية بشرق، بالقرب من قنسرين، كان عمر بن عبد العزيز أميراً بها من جهة عبد الملك بن مروان ثم من جهة سليمان بن عبد الملك، وهي التي عناها المتنبي بقوله: أحب حمصاً إلى خناصرة ... وكل نفس تحب محياها وذكرها عدي بن الرقاع العاملي الشاعر المشهور في قصيدته الدالية المشهورة فقال: وإذا الربيع تتابعت أنواؤه ... فسقى خناصرة الأحص وجادها   (1) قلت ... بخناصرة: لم يرد في س ر، وهو ثابت في المسودة؛ وقد أورد في ع ضبط خناصرة في هذا الموضع. (2) نهاية الترجمة في ر س. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 312 818 - (1) يزيد بن عمر بن هبيرة أبو خالد يزيد بن أبي المثنى عمر بن هبيرة بن معية بن سكين بن خديج بن بغيض بن مالك بن سعد بن عدي بن فزارة؛ ونسب فزارة معروف فلا حاجة إلى الإطالة بذكره. قال ابن دريد: معية تصغير معىً، وهو الواحد من أمعاء البطن، وقد ردوا على ابن دريد هذا القول فقالوا: بل صوابه أنه تصغير معاوية. وسكين: بضم السين المهملة وفتح الكاف؛ وخديج: بفتح الخاء المعجمة؛ وبغيض: بفتح الباء الموحدة؛ والباقي معلوم لا حاجة إلى ضبطه. ذكر الحافظ أبو القاسم ابن عساكر في تاريخ الكبير أن أصله من الشام، وأنه ولي قنسرين للوليد بن يزيد بن عبد الملك، وكان مع مروان بن محمد آخر ملوك بني أمية يوم غلب على دمشق وجمع له ولاية العراق. مولده سنة سبع وثمانين. وذكره ابن عياش في تسمية من ولي العراق وجمع له المصران، وهما البصرة والكوفة، وكذلك ذكره ابن قتيبة في كتاب " المعارف " (2) في تسمية من ولي العراقين، وعد الولاة الذين جمع لهم العراقان فكان أولهم زياد بن أبيه الذي استلحقه معاوية بن أبي سفيان، وآخرهم يزيد بن عمر بن هبيرة صاحب هذه الترجمة؛ ثم قال: ولم يجمع العراقان لأحد بعد هؤلاء، وذكره أيضاً قبل هذا في ترجمة أبيه عمر، فقال (3) : وكان أبو جعفر المنصور حصر يزيد بواسط شهوراً ثم آمنه، وافتتح البلد صلحاً، وركب إليه يزيد في أهل بيته، وكان جعفر يقول: لا يعز ملك هذا فيه، ثم قتله.   (1) أخباره في تاريخ الطبري وابن الأثير وابن خلدون وخليفة بن خياط والمسعودي واليعقوبي وينقل المؤلف من ترجمته في تاريخ دمشق لابن عساكر، وانظر العيون والحدائق: 208 وما بعدها. (2) المعارف: 571. (3) المعارف: 409. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 313 وقال خليفة بن خياط (1) : وفي سنة ثمان وعشرين ومائة وجه مروان بن محمد يزيد بن عمر بن هبيرة والياً على العراق، وذلك قبل قتل الضحاك - يعني ابن قيس الشيباني الخارجي - فسار حتى نزل هيت. وكان سخياً جسيماً طويلاً خطيباً أكولاً شجاعاً وكان فيه حسد؛ وذكره أبو جعفر الطبري في تاريخه في سنة ثمان وعشرين ومائة، فقال (2) : وفي هذه السنة وجه مروان بن محمد يزيد بن عمر بن هبيرة إلى العراق لحرب من بها من الخوارج، ثم ذكر في سنة اثنتين وثلاثين ومائة (3) خروج قحطبة بن شبيب أحد دعاة بني العباس لما ظهروا أمرهم بخراسان وتلك النواحي، وكان أبو مسلم الخراساني - المقدم ذكره في حرف العين (4) - أعظم الأعوان وأصل تلك القضية حتى انتظمت أمورها كما هو مشهور، وقد سبق في ترجمة أبي مسلم طرف من هذا الحديث، ولا حاجة إلى التطويل فيه. وكان خروج قحطبة بأرض العراق وقصد محاربة يزيد بن عمر بن هبيرة، وجرت وقائع يطول شرحها، وحاصل الأمر أن قحطبة خاض الفرات عند الفلوجة القرية المشهورة بالعراق، ليقاتل ابن هبيرة، وكان في قبالته، فغرق قحطبة في عشية الأربعاء عند غروب الشمس لثمان خلون من المحرم من هذه السنة، وقام ولده الحسن بن قحطبة مقامه في تقدمة الجيش، وهي واقعة مشهورة طويلة وليس هذا موضع ذكرها. وكان معن بن زائدة الشيباني - المقدم ذكره (5) - من أتباع يزيد بن هبيرة المذكور ومن أكبر أعوانه في الحروب وغيرها، فيقال إنه في تلك الليلة ضرب قحطبة بن شبيب بالسيف على رأسه، وقيل على عاتقه، فوقع في الماء، فأخرجوه حياً فقال: إن مت فادفنوني في الماء لئلا يقف أحد على خبري وقيل في غرقه غير ذلك، والله أعلم.   (1) تاريخ خليفة: 578. (2) تاريخ الطبري 2: 1941. (3) الأصح في السنة التي قبلها، وانظر في مهلك قحطبة ص 13 من القسم الثالث من تاريخ الطبري. (4) انظر ج 3: 145. (5) انظر ج 5: 244. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 314 عدنا إلى حديث ابن هبيرة: وكان من خبره أن جيوش خراسان التي كان مقدمها قحطبة ثم ولده الحسن من بعد استظهرت عليه فهزمت عسكره، ولحق ابن هبيرة بمدينة واسط فتحصن فيها ثم وصل أبو العباس عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه الملقب بالسفاح وأخوه أبو جعفر عبد الله بن محمد الملقب بالمنصور من الحميمة، بضم الحاء المهملة، القرية التي كانت مسكن بني العباس في أطراف الشام من أرض البلقاء إلى الكوفة، وبها جماعة من أشياعهم ونوابهم ومن قام معهم بإقامة دولتهم وإزالة دولة بني أمية التي أميرها إذ ذاك مروان بن محمد بن الحكم الأموي المعروف بالجعدي والمنبوز بالحمار آخر ملوكهم، فلما وصلوا إلى الكوفة بويع أبو العباس السفاح بها يوم الجمعة لثلاث عشرة ليلة مضت من شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وثلاثين ومائة، وقيل إن المبايعة كانت في شهر ربيع الأول، والأول أصح. وظهر أمر بني العباس وقويت شوكتهم، وأدبرت دولة بني مروان، فعند ذلك وجه السفاح أخاه أبا جعفر إلى واسط لحرب يزيد بن عمر بن هبيرة، فجاء المنصور إلى المعسكر الذي مقدمه الحسن بن قحطبة، وهو مقابل يزيد بن هبيرة (1) بواسط، فنزل فيه. قال أبو جعفر الطبري في تاريخ الكبير (2) : وجرت السفراء بين أبي جعفر المنصور وبين ابن هبيرة، حتى جعل له أماناً وكتب به كتاباً، فمكث يشاور فيه العلماء أربعين ليلة حتى رضيه ابن هبيرة، ثم أخذه إلى أبي جعفر، فأنفذه أبو جعفر إلى أبي العباس السفاح فأمر بإمضائه له، وكان رأى أبي جعفر الوفاء له بما أعطاه. وكان أبو العباس السفاح لا يقطع أمراً دون أبي مسلم الخراساني صاحب الدعوة، وكان لأبي مسلم عين على السفاح يكتب إليه بأخباره كلها،   (1) س: يزيد بن عمر بن هبيرة. (2) تاريخ الطبري 3: 66. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 315 فكتب أبو مسلم إلى السفاح: إن الطريق السهل إذا ألقيت فيه الحجارة فسد، لا والله لا صلح (1) طريق فيه ابن هبيرة. ولما تم الكتاب خرج ابن هبيرة إلى أبي جعفر في ألف وثلثمائة من البخارية، فأرارد أن يدخل الحجرة على دابته، فقام إليه الحاجب فقال: مرحباً با أبا خالد، انزل راشداً، وقد أطاف بالحجرة عشرة آلاف من أهل خراسان، فنزل ودعا له بوسادة ليجلس عليها، ثم دعا له بالقواد فدخلوا، ثم قال له الحاجب: ادخل أبا خالد، فقال: أنا ومن معي فقال: إنما استأذنت لك وحدك، فقام فدخل، ووضعت له وسادة وحادثه ساعة، ثم قام وأتبعه أبو جعفر بصره حتى غاب عنه، ثم مكث يقيم عنه (2) يوماً ويأتيه يوماً في خمسمائة فارس وثلثمائة راجل، فقال يزيد بن حاتم لأبي جعفر: أيها المير، إن ابن هبيرة ليأتي فيتضعضع له العسكر وما نقص من سلطانه شيء، فقال أبو جعفر للحاجب: قل لابن هبيرة يدع الجماعة ويأتينا في حاشيته، فقال له الحاجب ذلك، فتغير وجهه، وجاء في حاشيته نحواً من ثلاثين، فقال له الحاجب: كأنك تأتي متأهباً (3) فقال: إن أمرتم أن نمشي إليكم مشينا، فقال: ما أردنا بك استخفافاً ولا أمر الأمير بما أمر به إلا نظراً لك، فكان بعد ذلك يأتي في ثلاثة. وقال محمد بن كثير: كلم ابن هبيرة يوماً أبا جعفر فقال: يا هياه (4) ، أو يا أيها المرء، ثم رجع فقال: أيها الأمير إن عهدي بكلام الناس بمثل ما خاطبتك به حديث فسبقني لساني بما لم أرده. وألح أبو العباس السفاح على أبي جعفر يأمره بقتله، وهو يراجعه، فكتب إليه: والله لتقتلنه أو لأرسلن إليه من يخرجنه من حجرتك ثم يقتله، فأزمع على قتله، فبعث أبو جعفر من ختم بيوت المال، ثم بعث إلى وجوه من مع ابن هبيرة فحضروا، وخرج الحاجب من عند أبي جعفر وطلب ابن الحوثرة ومحمد بن نباتة وهما من العيان، فقاما فدخلا، وقد أجلس أبو جعفر ثلاثة من خواصه في مائة من خواصه من جماعته في حجرة، فنزعت   (1) الطبري: يصلح. (2) س: يقيم عنده. (3) الطبري: مباهياً. (4) كذا في المسودة؛ وصوابه: يا هناه كما في س ع ق والطبري. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 316 سيوفهما وكتفا، ثم أدخلوا بعدهما اثنين ففعل بهما كذلك، وبعدهم جماعة أخرى فعل بهم كذلك، فقال موسى بن عقيل: أعطيتمونا عهد الله ثم خستم به، إنا لنرجوا أن يدرككم الله، وجعل ابن نباتة يضرط في لحية نفسه، فقال له: [ابن] (1) الحوثرة: إن هذا لا يغني عنك شيئاً، فقال: كأني كنت أنظر إلى هذا، فقتلوا وأخذت خواتيمهم. وانطلق حازم والهيثم بن شعبة والأغلب بن سالم في نحو من مائة، فأرسلوا إلى ابن هبيرة: إنا نريد هذا المال، فقال ابن هبيرة لحاجبه: انطلق فدلهم عليه، فأقاموا عند كل بيت نفراً ثم جعلوا ينظرون من نواحي الدار، ومع ابن هبيرة ابنه داود وكاتبه عمرو بن أيوب وحاجبه وعدة من مواليه وبني صغير له في حجره، فجعل ينكر نظرهم، فقال: أقسم بالله إن في وجوه القوم لشراً، فأقبلوا نحوه، فقام حاجبه في وجوههم فقال: وراءكم، فضربه الهيثم بن شعبة على حبل عاتقه فصرعه، وقاتل ابنه داود فقتل، وقتل مواليه، ونحى الصبي من حجره، وقال: دونكم هذا الصبي، وخر ساجداً فقتل وهو ساجد، ومضوا برؤوسهم إلى أبي جعفر فنادى بالأمان للناس. وقال أبو العطاء السندي، واسمه مرزوق، وقيل أفلح، مولى بني أسد يرثي ابن هبيرة (2) : ألا إن عيناً لم تجد يوم واسطٍ ... عليك بجاري دمعها لجمود عشية قام النائحات وشققت ... جيوب بأيدي مأتم وخدود فإن تمس مهجور الفناء فربما ... أقام به بعد الوفود وفود وإنك لم تبعد على متعهدٍ ... بل كلٌّ من تحت التراب بعيد قلت: وهذه المرثية ذكرها أبو تمام الطائي في كتاب " الحماسة " (3) في باب المراثي. قلت: إلى هنا انتهى ما نقلته من تاريخ الطبري مقتضباً فإنني جمعته من   (1) سقطت من المسودة في هذا الموضع، مع أنها وردت من قبل. (2) الطبري 3: 70. (3) شرح المرزوقي، الحماسية رقم: 266. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 317 عدة مواضع حتى انتظم على هذه الصورة. وأما غير الطبري فإنه قال: لما قدم أبو جعفر على الحسن بن قحطبة تحول له الحسن من سرادقه فأنزله فيه، وأقاموا يقتتلون أياماً، وثبت معن بن زائدة مع ابن هبيرة، وطال الحصار عليهم، وكان أبو جعفر المنصور يقول: ابن هبيرة يخندق على نفسه مثل النساء، وبلغ ابن هبيرة ذلك، فأرسل إليه: أنت القائل كذا ابرز إلي لترى، فأرسل إليه المنصور: ما أجد لك ولي مثلاً إلا كأسد لقي خنزيراً، فقال له الخنزير: بارزني، فقال الأسد: ما أنت لي بكفؤ فإن بارزتك فنالني منك سوء كان عاراً، وإن قتلتك قتلت خنزيراً، فلم أحصل على حمد، ولا في قتلك فخر، فقال له الخنزير: لئن لم تبارزني لأعرفن السباع أنك جبنت عني، فقال الأسد: احتمال عار كذبك أيسر من تلطيخ براثني بدمك. ثم إن المنصور كاتب القواد، وفهم ابن هبيرة فطلب الصلح، فأجابه المنصور، وكتبوا كتاب الصلح والأمان، وبعثه المنصور إلى أخيه السفاح فأمضاه، وكتب فيه: فإن غدر ابن هبيرة أو نكث فلا عهد له ولا أمان، وكان من رأي المنصور الوفاء له. وقال أبو الحسن المدائني: لما كتب المنصور بينه وبين ابن هبيرة كتاب الصلح خرج إلى المنصور وبينه وبينه ستر، فقال ابن هبيرة: أيها الأمير إن دولتكم بكر فأذيقوا الناس حلاوتها وجنبوهم مرارتها، تصل محبتكم إلى قلوبهم ويعذب ذكركم على ألسنتهم، وما زلنا منتظرين لدعوتكم، قال: فرفع المنصور الستر بينه وبينه وقال في نفسه: عجباً لمن يأمرني بقتل مثل هذا. وصار ابن هبيرة يخرج إلى المنصور في آخر أمره في ثلاثة من أصحابه يتغدى ويتعشى عنده وكان يثني له وساده. فيقال إنه كان يكاتب عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ويدعو إليهم وإلى خلع السفاح، وجاءه كتاب أبي مسلم يحثه على قتل ابن هبيرة، فكتب السفاح إلى المنصور يأمره بقتله، فقال: لا أفعل وله في عنقي بيعة وأيمان فلا أضيعها بقول أبي مسلم، فكتب السفاح: ما أقتله بقول أبي مسلم بل بنكثه وغدره ودسيسه إلى آل أبي طالب، وقد أبيح لنا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 318 دمه، فلم يجبه المنصور وقال: هذا فساد الملك، فكتب إليه السفاح: لست مني ولست منك إن لم تقتله، فقال المنصور للحسن بن قحطبة: اقتله أنت، فامتنع، فقال خازم بن خزيمة (1) : أنا أقتله، فدخل عليه في جماعة من قواد خراسان، وهو في القصر وعنده ابنه داود وكاتبه ومواليه، وعليه قميص مصري وملاءة موردة، وعنده الحجام وهو يريد أن يحجمه، فلما رآهم سجد، فقتلوه وقتلوا ابنه وكاتبه ومن كان معه، وحملوا رأسه إلى المنصور. وكان معن بن زائدة غائباً عند السفاح فسلم. وبعث المنصور برأسه إلى السفاح، وكان ذلك في سنة اثنتين وثلاثين ومائة. قال الهيثم بن عدي: لما قتل ابن هبيرة قال بعض الخراسانيين لبعض أصحاب ابن هبيرة: ما كان أكبر رأس صاحبكم، فقال له الرجل: أمانكم له كان أكبر. وذكر الخطيب أبو زكريا التبريزي، في كتاب " شرح الحماسة " (2) في باب المراثي، عند ذكره أبيات أبي عطاء السندي الدالية - المقدم ذكرها - التي رثى بها يزيد المذكور، فقال: وكان المنصور قد حلف له وأكد الأيمان، فلما قتله وحمل رأسه إليه قال المنصور للحرسي: أترى طينة رأسه ما أعظمها! فقال الحرسي: طينة أيمانه من طينة رأسه. وهدم المنصور قصر واسط. وقال الحافظ ابن عساكر في تاريخه الكبير: كان ابن هبيرة إذا أصبح أتي بعس - قلت: العس، بضم العين المهملة وبعدها سين مهملة مشددة، هو القدح الكبير - قال: وفيه لبن قد حلب على عسل وأحياناً سكر فيشربه، فإذا صلى الغداة جلس في مصلاه حتى تحل الصلاة فيصلي، ثم يدخل، فيحركه اللبن فيدعو بالغداء فيأكل دجاجتين وناهضتين ونصف جدي وألواناً من اللحم - والناهض، بالنون وبعد الهاء المكسورة ضاد معجمة، وهو الفرخ من الحمام - قال: ثم يخرج فينظر في أمور الناس إلى نصف النهار،   (1) ر س ع ق بر من: حازم بن خزيمة. (2) شرح التبريزي 2: 151. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 319 ثم يدخل فيدعم جماعة من خواصه وأعيان الناس، ويدعو بالغداء فيتغدى ويضع منديلاً على صدره، ويعظم اللقم ويتابع، فإذا فرغ من الغداء تفرق من كان عنده، ودخل إلى نسائه، حتى يخرج إلى صلاة الظهر، ثم ينظر بعد الظهر في أمور الناس، فإذا صلى العصر وضع له سرير ووضعت الكراسي للناس، فإذا أخذ الناس مجالسهم أتوهم بعساس اللبن والعسل وألوان الأشربة - قلت: والعساس، بكسر العين، جمع عس، وقد تقدم الكلام عليه - ثم توضع السفرة والطعام للعامة ويوضع له ولأصحابه خوان مرتفع، فيأكل معه الوجوه إلى المغرب، ثم يفرقون للصلاة، ثم تأتيه سماره فيحضرون مجلساً يجلسون فيه حتى يدعوهم فيسامروه حتى يذهب عامة الليل. وكان يسأل في كل ليلة عشر حوائج، فإذا أصبحوا قضيت، وكان رزقه ستمائة ألف درهم، فكان يقسم كل شهر في أصحابه من قومه ومن الفقهاء والوجوه وأهل البيوتات، فقال عبد الله بن شبرمة الضبي القاضي الفقيه الكوفي وكان من سماره: إذا نحن أعتمنا ومال بنا الكرى ... أتانا بإحدى الراحتين عياض وعياض بوابه، وإحدى الراحتين: الدخول أو الانصراف، ولم يكن له منديل، فكان إذا دعا بالمنديل قام الناس. وقال شيخ من قريش: أذن يزيد بن عمر بن هبيرة في يوم صائف شديد الحر للناس، فدخل (1) عليه وعليه قميص خلق مرقوع الجيب، فجعلوا ينظرون إليه ويعجبون منه، ففطن لهم، فتمثل بقول إبراهيم بن هرمة (2) : قد يدرك الشرف الفتى ورداؤه ... خلق وجيب قميصه مرقوع [وحكي أن شريك بن عبد الله النميري سايره يوماً فبدرت دابة شريك فقال له يزيد: غض من لجامها، فقال شريك: إنها مكتوبة أصلح الله الأمير، فقال   (1) ر والمختار: فدخلوا. (2) زاد في المختار الشاعر المشهور. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 320 له يزيد: ذهبت حيث أردت؛ قول يزيد " غض من لجامها " يشير إلى قول جرير: فغض الطرف إنك من نمير ... فلا كعباً بلغت ولا كلابا فعرض له شريك بقول ابن دارة: لا تأمنن فزارياً خلوت به ... على قلوصك واكتبها بأسيار وكان بنو فزارة في العرب يرمون بإتيان الإبل] (1) . وأخباره ومحاسنه كثيرة مشهورة. وقال خليفة بن خياط (2) : قتل ابن هبيرة بواسط يوم الاثنين لثلاث عشرة ليلة بقيت من ذي القعدة سنة اثنتين وثلاثين ومائة، رحمه الله تعالى. وقال أبو جعفر الطبري في تاريخه: توفي الحسن بن قحطبة في سنة إحدى وثمانين ومائة. 819 - (3) يزيد بن حاتم المهلبي أبو خالد يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلب بن أبي صفرة الآزدي. قد سبق ذكر بقية نسبه في ترجمة جده المهلب بن أب صفرة، قد ذكرت أخاه روح بن حاتم في حرف الراء (4) ، وعم أبيه يزيد بن المهلب، ومن ولده الوزير أبو   (1) زيادة من ق والمختار لم ترد في المسودة وسائر النسخ. (2) تاريخ خليفة: 609. (3) أخباره في تاريخ الطبري وابن الأثير والرقيق وابن خلدون وأعمال الأعلام والنجوم الزاهرة 2: 1 والبيان والمغرب 1: 78 والحزانة 3: 51 ومرآة الجنان 1: 361، 396 والكندي: 111 وابن أبي دينار: 46. (4) ج 2: 305. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 321 محمد الحسن بن محمد المهلبي - المقدم ذكره (1) - وهم أهل بيت كبير، اجتمع فيه خلق كثير من الأعيان الأمجاد النجباء. ذكر ابن جرير الطبري في تاريخه أن الخليفة أبا جعفر المنصور عزل حميد بن قحطبة عن ولاية مصر، فولاها نوفل بن الفرات، ثم عزله وولى يزيد بن حاتم، وذلك في سنة ثلاث وأربعين ومائة، ثم إن المنصور عزله عن مصر في سنة اثنتين وخمسين ومائة، وجعل مكانه محمد بن سعيد؛ وقال أبو سعيد بن يونس في تاريخه: ولي يزيد بن حاتم مصر في سنة أربع وأربعين ومائة، وزاد غيره: في منتصف ذي القعدة. ثم إن المنصور خرج إلى الشام وزيارة بيت المقدس في سنة أربع وخمسين ومن هناك سير يزيد بن حاتم إلى إفريقية لحرب الخوارج الذين قتلوا عامله عمر بن حفص، وجهز معه خمسين ألف مقاتل، واستقر يزيد المذكور والياً بإفريقية من يومئذ، وكان وصوله إليها واستظهاره على الخوارج في سنة خمس وخمسين، ودخل مدينة القيروان في هذا التاريخ. وكان جوادا سرياً مقصوداً ممدحاً، قصده جماعة من الشعراء فأحسن جوائزهم، وكان أبو أسامة ربيعة بن ثابت الأسدي الرقي (2) ، وقيل أنه إنه من موالي سليم (3) ، قد قصد يزيد بن أسيد، بضم الهمزة وفتح السين المهملة، ابن زافر ابن أسماء بن أسيد بن قنفذ بن جابر بن مالك بن عوف بن امرئ القيس بن بهثة بن سليم بن منصور عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، وهو يومئذ والٍ على أرمينية، وكان قد وليها زماناً طويلاً لأبي جعفر المنصور، ثم من بعده لولده المهدي، وكان يزيد المذكور من أشراف قيس وشجعانهم، ومن ذوي الآراء الصائبة، ومدحه ربيعة المذكور بشعر أجاد فيه، فقصر في حقه، ومدح يزيد بن حاتم المذكور، فبالغ في الإحسان إليه، فقال ربيعة قصيدة يفضل فيها يزيد بن حاتم على يزيد بن أسيد، وكان   (1) ج 2: 124. (2) ترجمة ربيعة في الأغاني 16: 189 وطبقات ابن المعتز: 157 ونكت الهميان: 151. (3) المختار: موالي آل سليم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 322 في لسان يزيد بن أسيد تمتعة، فعوض بذكرها في هذه الأبيات، فقال: حلفت يميناً غير ذي مثنوية ... يمين امرئ آل بها غير آثم لشتان ما بين اليزيدين في الندى ... يزيد بن سليم والأغر ابن حاتم يزيد سليم سالم المال، والفتى ... أخو الأزد للأموال غير مسالم فهم الفتى الأزدي إتلاف ماله ... وهم الفتى القيسي جمع الدراهم فلا يحسب التمتام أني هجوته ... ولكنني فضلت أهل المكارم فيا أيها الساعي الذي ليس مدركاً ... بمسعاته سعي البحور الخضارم سعيت ولم تدرك نوال ابن حاتم ... لفكِّ أسير واحتمال العظائم كفاك بناء المكرمات ابن حاتم ... ونمت وما الأزدي بنائم فيا ابن أسيد لا تساهم ابن حاتم ... فتقرع إن ساميته سنَّ نادم هو البحر إن كلفت نفسك خوضه ... تهالكت في آذيّه المتلاطم تمنيت مجداً في سليمٍ سفاهة ... أماني خالٍ أو أماني حالم ألا إنما آل المهلب غرة ... وفي الحرب قادات لكم بالخزائم هم الأنف في الخرطوم والناس بعدهم ... مناسم. والخرطوم فوق المناسم قضيت لكم آل المهلب بالعلا ... وتفضيلكم حتى على كل حالم لكم شيم ليست لخلقٍ سواكم ... سماح وصدق البأس عن الملاحم مهينون للأموال فيما بينكم ... مناعيش دفاعون عن كل جارم قال دعبل بن علي الخزاعي - المقدم ذكره (1) -: قلت لمروان بن أبي حفصة الشاعر - وقد تقدم ذكره أيضاً (2) -: يا أبا السمط، من أشعركم جماعة المحدثين قال: أسيرنا بيتاً، قلت: ومن هو قال: الذي يقول: لشتان ما بين اليزيدين في الندى ... يزيد بن سليمٍ والأغر ابن حاتم   (1) انظر 2: 266؛ وفي ر: دعبل الخزاعي بن علي الشاعر. (2) ج 5: 189. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 323 وكنت قد ذكرت بعض هذه الأبيات في ترجمة أخيه روح بن حاتم (1) ، ثم إني ظفرت بها أكمل من تلك فأحببت أن أفرد له ترجمة وأذكر ما جرى له، أن مثله لا يصلح لأن يكون ضميمة في ترجمة أخيه. وكان ربيعة بن ثابت الرقي قد قصده قبل هذه المرة، فلم ير منه من الإحسان ما كان يرجوه، فنظم أبياتاً من جملتها: أراني ولا كفران لله راجعاً ... بخفي حنينٍ من نوال ابن حاتم ولما عقد أبو جعفر المنصور ليزيد المهلبي المذكور على بلاد إفريقية وليزيد السلمي المذكور على ديار مصر خرجا معاً، فكان يزيد المهلبي يقوم بكفاية الجيشين فقال ربيعة الرقي المذكور: يزيد الخير، إن يزيد قومي ... سميك لا يجود كما تجود تقود كتيبةً ويقود أخرى ... فترزق من تقود ومن يقود قلت: وهذا يدل على أن ربيعة المذكور مولى بني سليم لقوله: " يزيد قومي "، والله أعلم. وقدم أشعب المشهور بالطمع على يزيد وهو بمصر، فجلس في مجلسه، ودعا بغلامه فساره، فقام أشعب فقبل يده، فقال له يزيد: لم فعلت هذا فقال: إني رأيتك تسار غلامك فظننت أنك أمرت لي بشيء، فضحك منه وقال: ما فعلت هذا ولكنني أفعل، ووصله وأحسن إليه. وقال الطرطوشي في كتاب " سراج الملوك " (2) قال سحنون بن سعيد: كان يزيد بن حاتم حكيماً يقول: والله ما هبت شيئاً قط هيبتي لرجل ظلمته وأنا أعلم أنه لا ناصر له إلا الله تعالى، فيقول: حسبك الله، الله بيني وبينك. وذكر أبو سعد السمعاني في كتاب " الأنساب " أن المشهر التميمي الشاعر وفد على يزيد بن حاتم بإفريقية فأنشده:   (1) انظر 2: 306، وكنا أفردنا يزيد هنالك برقم من أرقام التراجم العارضة، ولكن هاهو المؤلف قد عاد عن خطته وأفرد له هذه الترجمة أصالة. (2) سراج الملوك: 258. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 324 إليك قصرنا النصف من صلواتنا ... مسيرة شهر ثم شهرٍ نواصله فلا نحن نخشى أن يخيب رجاؤنا ... لديك، ولكن أهنأ البرِّ عاجله فأمر يزيد بوضع العطاء في جنده وكان معه خمسون ألف مرتزق، فقال: من أحب أن يسرني فليضع هذا من عطائه درهمين، فاجتمع له مائة ألف درهم، وضم يزيد إلى ذلك مائة ألف درهم أخرى ودفعها إليه. قلت: ثم وجدت البيتين المذكورين لمروان بن أبي حفصة، والله أعلم. وقد ذكره الحافظ أبو القاسم المعروف بابن عساكر في " تاريخ دمشق " فقال بعد ذكر أحواله وولاياته: إن يزيد بن حاتم قال لجلسائه: استنقوا لي ثلاثة أبيات، فقال صفوان بن صفوان من بني الحارث بن الخزرج: أفيك فقال: فيمن شئتم، فكأنها كانت في كمه: لم أدر ما الجود إلا ما سمعت به ... حتى لقيت يزيداً عصمة الناس لقيت أجود من يمشي على قدمٍ ... مفضلاً برداء الجود والباس لو نيل بالجود مجد (1) كنت صاحبه ... وكنت أولى به: ثم كففت، فقال: أتمم، من آل عباس، فقلت: لا يصلح، فقال: لا يسمعن هذا منك أحد. وقال يموت بن المزرع: قال لي الأصمعي (2) يوماً، وقد جئته مسلماً إلى أن ذكر الشعراء المحسنين المداحين (3) من المولدين، فقال لي: يا أبا عثمان، ابن المولى من المحسنين المداحين، ولقد أسهرني في ليلتي هذه حسن مديحه يزيد بن حاتم حيث يقول: وإذا تباع كريمة أو تشترى ... فسواك بائعها وأنت المشتري وإذا تخيل من سحابك لامع ... سبقت مخيلته يد المستمطر   (1) في ق والمسودة: لو نيل بالمجد جود؛ ولعله سهو. (2) هذا مستبعد لبعد ما بين وفاة الأصمعي (حوالي 210) ووفاة يموت (304) . (3) ر: من المادحين. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 325 وإذا صنعت صنيعةً اتممتها ... بيدين ليس نداهما بمكدر وإذا الفوارس عددت أبطالها ... عدوك في أبطالهم بالخنصر ولما قدم عليه ابن المولى المذكور أنشده وهو أمير مصر (1) : يا واحد العرب الذي ... أضحى وليس له نظير لو كان مثلك آخر ... ما كان في الدنيا فقير فدعا يزيد بخازنه وقال: كم في بيت مالي قال: فيه من العين والورق ما مبلغه عشرون ألف دينار، فقال: ادفعها إليه، ثم قال: يا أخي، المعذرة إلى الله تعالى وإليك، والله لو أن في ملكي غيرها لما ادخرتها عنك، وهذا ابن المولى هو أبو عبد الله محمد بن مسلم، وعرف بابن المولى (2) . وروى الأصمعي أيضاً أن يزيد لما كان بإفريقية جاءه البشير يخبره أنه ولد له مولود بالبصرة، فقال: قد سميته المغيرة، وكان عنده المشهر التميمي فقال: بارك الله لك أيها الأمير فيه وبارك له في بنيه كما بارك لجده في أبيه. ولم يزل والياً بإفريقية إلى أن توفي بها يوم الثلاثاء لاثنتي عشرة ليلة بقيت من شهر رمضان سنة سبعين ومائة بالقيروان، ودفن بباب سلم، واستخلف على إفريقية ولده داود بن يزيد فعزله هارون الرشيد في سنة اثنتين وسبعين ومائة، وولاها عمه روح بن حاتم - المقدم ذكره -.   (1) وهو أمير مصر: سقطت من س؛ وفي ع: ولما قدم عليه أمير مصر ابن المولى ... الخ: وهذا مضطرب. (2) هو محمد بن عبد الله بن مسلم، شاعر أنصاري عفيف، عاش في عهد الدولة الأموية وأسن وأدرك الدولة العباسية (انظر المرزباني: 342 والأغاني 3: 280 والمرزوقي: 1761) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 326 820 - (1) يزيد بن مزيد الشيباني أبو خالد وأبو الزبير، يزيد بن مزيد بن زائدة، وهو ابن أخي معن بن زائدة الشيباني - المقدم ذكره -، وقد استوفيت ذكر نسبه هناك فلا حاجة إلى إعادته هاهنا. كان يزيد المذكور من المراء المشهورين والشجعان المعروفين، كان والياً بأرمينية فعزله عنها هارون الرشيد سنة اثنتين وسبعين ومائة، ثم ولاه إياها وضم إليها أذربيجان في سنة ثلاث وثمانين. وقد سبق طرف من خبره في ترجمة الوليد بن طريف الشيباني الخارجي فإنه الذي تولى محاربته وقتله: ذكر أرباب التاريخ أن الوليد بن طريف الشيباني لما خرج على هارون الرشيد ببلاد الجزيرة، وهي فيما بين الفرات وشط الموصل، وذلك في سنة ثمان وسبعين ومائة، وكثر جمعه من الشراة حتى انتشروا في تلك البلاد، ونهض إليهم عامل ديار ربيعة فقتلوه، وصاروا إلى ديار مصر، فحصروا عبد الملك بن صالح بن علي العباسي بالرقة، فاستشار هارون الرشيد يحيى بن خالد البرمكي فيمن يوجهه لحرب الوليد بن طريف، فقال له يحيى بن خالد البرمكي: وجه موسى بن حازم التميمي، فإن فرعون كان اسمه الوليد فغرقه موسى عليه السلام، فوجهه إليه الرشيد في جيش كثيف، فلاقاه الوليد في أصحابه فهزمه الوليد وقتله، فلما بلغ الرشيد ذلك وجه إليه معمر بن عيسى العبدي، فكانت بينهما عدة وقائع بناحية دارا من ديار ربيعة، فلما اتصل ذلك وكثرت جموع الوليد وظهر هذا الظهور العظيم، قال الرشيد: ليس لها إلا الأعرابي يزيد بن مزيد الشيباني، فقال بكر بن النطاح الشاعر (2) :   (1) ألف عبد الجبار الجومرد في سيرته وأخباره كتاباً، وفيه ذكر للمصادر الهامة. (2) ترجمة بكر بن النطاح في الأغاني 19: 35 وطبقات ان المعتز: 217 وتاريخ بغداد 7: 90. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 327 لا تبعثن إلى ربيعة غيرها ... إن الحديد بغيره لا يفلح فوجه الرشيد إليه يزيد المذكور في عسكر ضخم وأمره بمناجزته، فقصده يزيد وجعل الوليد يراوغه ويزيد يتبعه، وكان الوليد ذا مكر ودهاء. ثم كانت بينهما حرب صعبة، وبلغ الرشيد مماطلة يزيد بن مزيد له، فوجه إليه خيلاً بعد خيل، ثم بعث إليه من يعنفه، فسار يزيد في طلبه، ثم نزل يصلي الصبح، فلم يستتم صلاته حتى طلع الوليد عليه في عسكره، واصطفت الخيلان وتزاحف الناس؛ فلما شبت الحرب ناداه يزيد: يا وليد، ما حاجتك إلى التستر بالرجال ابرز إلي، قال: نعم والله، فبرز الوليد وبرز إليه يزيد، ووقف العسكران فلم يتحرك منهما أحد، فتطاردا ساعة، وكل واحد منهما لا يقدر على صاحبه، حتى مضت ساعات من النهار، فأمكنت يزيد فيه الفرصة فضرب رجله فسقط، وصاح (1) بخيله فسقطوا عليه واحتزوا رأسه. ذكر أبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم المعروف بابن القراب (2) الهروي في تاريخه أن الوليد بن طريف قتله يزيد بن مزيد بالحديثة من أرض الجزيرة، قلت: وهذه الجزيرة هي الجزيرة الفراتية، والحديثة بالقرب من عانة، وتعرف بحديثة النورة، وهي على فراسخ من الأنبار، وهي غير حديثة الموصل. ووجه يزيد برأس الوليد إلى الرشيد، وبكتاب الفتح مع ابنه أسد بن يزيد، وفي ذلك يقول أبو الوليد مسلم بن الوليد الأنصاري الشاعر المشهور، وكان منقطعاً إلى يزيد ومختصاً به (3) : سل الخليفة سيفاً من بني مطرٍ ... يمضي فيخترق الأجسام والهاما لولا يزيد ومقدار له سبب ... عاش الوليد مع العامين أعواما أكرم به وبآباءٍ له سلفوا ... أبقوا من المجد أياماً وأياما   (1) ع: فصاح. (2) ق ع ر: الفرات، وأثبتنا ما في المسودة؛ وسقط النص من س؛ وكتابه المشار إليه هو " تاريخ وفيات العلماء " (انظر الأعلام للزركلي 1: 285) . (3) ديوان مسلم: 63. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 328 ولما انصرف يزيد إلى باب الرشيد قدمه ورفع مرتبته وقال له: يا يزيد، ما أكثر أمراء المؤمنين (1) في قومك قال: نعم، إلا أن منابرهم الجذوع، يعني الجذوع التي يصلبون عليها إذا قتلوا. وكان قتل الوليد في سنة تسع وسبعين ومائة - كما سبق ذكره في ترجمته - ورثته أخته بتلك البيات الفائية المذكورة هناك، وقال أخته الفارعة فيه أيضاً: يا بني وائلٍ لقد فجعتكم ... من يزيدٍ سيوفه بالوليد لو سيوف سوى سيوف يزيد ... قاتلته لاقت خلاف السعود وائل بعضها يقتل بعضاً ... لا يفل الحديد غير الحديد وقد روي أن هارون الرشيد لما جهز يزيد بن مزيد إلى حرب الوليد بن طريف أعطاه ذا الفقار (2) سيف النبي (3) صلى الله عليه وسلم، وقال له: خذه يا يزيد فإنك ستنصر به، فأخذه ومضى، وكان من هزيمة الوليد وقتله ما قد شرحناه، وفي ذلك يقول مسلم بن الوليد الأنصاري من جملة قصيدة يمدح بها يزيد بن مزيد المذكور: أذكرت سيف رسول الله سنته ... وبأس أوَّل من صلى وصاما يعني بأس علي بن أبي طالب رضي الله عنه إذ كان هو الضارب به. وقد ذكر هشام بن الكلبي في كتاب " جمهرة النسب " شيئاً يتعلق بذي الفقار، وهي فائدة يحسن ذكرها هاهنا، فإنه قال في نسب قريش: منبه ونبيه ابنا الحجاج بن عامر بن حذيفة بن سعد بن سهم القرشي، كانا سيدي بني سهم في الجاهلية قتلا يوم بدر كافرين، وكانا من المطعمين، والعاص ابن نبيه قتل مع أبيه، وكان له ذو الفقار، قتله علي بن أبي طالب رضي الله   (1) ر: المسلمين. (2) وضع في المسودة كسرة وفتحة فوق الفاء وكتب فوقها: " معاً ". (3) المختار: رسول الله. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 329 عنه يوم بدر وأخذه منه، وقال غير [ابن] الكلبي: إن ذا الفقار أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه. والفقار: بفتح الفاء، جمع فقارة الظهر، يقال في جمعها فقار، وفقارات، ويقال ذو الفقار، بكسر الفاء أيضاً، والفقار: جمع فقرة، بكسر الفاء وسكون القاف، ولم يات مثله في الجموع إلا قولهم إبرة وإبار. رجعنا إلى حديث ذي الفقار: وكان سبب وصوله إلى هارون الرشيد فيما ذكره أبو جعفر الطبري (1) بإسناد متصل إلى عمر (2) بن المتوكل [عن أمه] وكانت أمه تخدم فاطمة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، قالت: كان ذو الفقار مع محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه يوم قتل في محاربته لجيش أبي جعفر المنصور العباسي، والواقعة مشهورة، فلما أحس محمد بالموت دفع ذا الفقار إلى رجل من التجار كان معه، وكان عليه أربعمائة دينار، وقال له: خذ هذا السيف فإنك لا تلقى أحداً من آل أبي طالب إلا أخذه منك وأعطاك حقك، فكان السيف عند ذلك التاجر حتى ولي جعفر بن سليمان بن علي بن عبد الله ابن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه اليمن والمدينة، فأخبر عنه، فدعا بالرجل فأخذ منه السيف وأعطاه أربعمائة دينار، فلم يزل عنده حتى قام المهدي بن منصور، واتصل خبره به فأخذه، ثم صار إلى موسى الهادي ثم إلى أخيه هارون الرشيد. وقال الأصمعي: رأيت الرشيد بطوس متقلداً سيفاً، فقال: يا أصمعي، ألا أريك ذا الفقار قلت: بلى جعلني الله فداك، فقال: استل (3) سيفي هذا، فاستللته، فرأيت فيه ثماني عشرة فقارة.   (1) تاريخ الطبري 10: 247. (2) الطبري: عمرو، وفي بعض أصوله: عمر. (3) ر: سل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 330 قلت: خرجنا عن المقصود، فلنرجع إلى تتمة حديث يزيد بن مزيد: ذكر الخطيب أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت البغدادي في " تاريخ بغداد " (1) أن يزيد المذكور دخل على الرشيد، فقال له الرشيد: يا يزيد، من الذي يقول فيك: لا يعبق الطيب كفيه ومفرقه ... ولا يمسح عينيه من الكحل قد عوّد الطير عادات وثقن بها ... فهن يتبعنه في كل مرتحل فقال: لا أدري يا أمير المؤمنين، قال: أفيقال فيك مثل هذا الشعر ولا تعرف قائله فانصرف خجلاً، فقال لحاجبه من بالباب من الشعراء فقال: مسلم بن الوليد الأنصاري، قال: ومنذ كم هو مقيم بالباب قال: منذ زمان طويل منعته من الوصول إليك لما عرفته من إضاقتك، قال: أدخله (2) فأدخله، فأنشده هذه القصيدة حتى ختمها، فقال للوكيل: بع ضيعتي الفلانية وأعطه نصف ثمنها واحتبس نصفاً لنفقتنا، فباعها بمائة ألف درهم، فأعطى مسلماً خمسين ألفاً، ورفع الخبر إلى الرشيد فاستحضر يزيد وسأله عن الخبر فأعلمه الحديث، فقال: قد أمرت لك بمائتي ألف درهم لتسترجع الضيعة بمائة ألف درهم وتزيد الشاعر خمسين ألفاً وخمسين ألفاً لنفسك. قال أبو بكر ابن الأنباري، قال أبي: سرق مسلم بن الوليد هذا المعنى من قول النابغة الذبياني حيث يقول (3) : إذا غزوا بالجيش حلق فوقهم ... عصائب طير تهتدي بعصائب يصاحبنهم حتى يغرن مغارهم ... من الضاريات بالدماء الدوارب جوانح قد أيقن أن قبيله ... إذا ما التقى الجمعان أول غالب لهن عليهم عادة قد عرفنها ... إذا عرض الخطي فوق الكواثب   (1) تاريخ بغداد 14: 334. (2) المختار: فأدخله. (3) ديوان النابغة: 57 وما بعدها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 331 الكواثب: بالثاء المثلثة وبعدها الباء الموحدة، جمع كاثبة، وهي ما يقرب من منسج الفرس أمام قربوس السرج. قلت: وأول قصيدة مسلم بن الوليد الأنصاري (1) : أجررت حبل خليعٍ في الصبا غزل ... وقصرت همم العذال عن عذلي ومن مديحها (2) : حاط الخلافة سيف من بني مطر ... أقام قائمه من كان ذا ميل كم صائلٍ في ذرا علياء مملكةٍ ... لولا يزيد بني شيبان لم يصل ناب الإمام الذي يفتر عنه إذا ... ما افترت الحرب عن أنيابها العصل يفتر عند افترار الحرب مبتسماً ... إذا تغير وجه الفارس البطل ينال بالرفق ما يعيا الرجال به ... كالموت مستعجلاً يأتي على مهل لا يرحل الناس إلا عند حجرته ... كالبيت يضحي إليه ملتقى السبل يكسو نفوس الناكثين به ... ويجعل الهام تيجان القنا الذبل يغدو فتغدو المنايا في أسنته ... شوارعاً تتحدى الناس بالأجل إذا طغت فئة عن عبّ طاعته ... عبّا لها الموت بين البيض والأسل تراه في الأمن في درعٍ مضاعفةٍ ... لا يأمن الدهر أن يدعى على عجل وذكر أبو الفرج الأصبهاني في كتاب " الأغاني " (3) في ترجمة مسلم بن الوليد الأنصاري، قال يزيد بن مزيد: أرسل إلي الرشيد يوماً في وقت لا يرسل فيه إلى مثلي، فأتيته لابساً سلاحي مستعداً لأمرٍ (4) إن أراده، فلما رآني ضحك إلي وقال: من الذي يقول فيك:   (1) ديوان مسلم: (القصيدة الأولى) . (2) ومن مديحها: سقطت من س ع ق؛ ر: ومن مدائحها. (3) الأغاني 18: 318. (4) ر: لأمره. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 332 تراه في الأمن في درع مضاعفة ... لا يأمن الدهر أن يدعى على عجل لله من هاشم في أرضه جبل ... وأنت وابنك ركنا ذلك الجبل فقلت: لا أعرفه يا أمير المؤمنين، فقال: سوأةً لك من سيد قوم يمدح بمثل هذا الشعر ولا يعرف قائله، وقد بلغ أمير المؤمنين فرواه ووصل قائله، هو مسلم بن الوليد، فانصرفت ودعوت به ووصلته ووليته. قلت: وهذان البيتان من جملة القصيدة التي ذكرت منها الأبيات قبلها. وقد روي أن عمه معن بن زائدة كان يقدمه على أولاده، فعاتبته امرأته في ذلك وقالت له: كم تقدم يزيد ابن أخيك وتؤخر بنيك، ولو قدمتهم لتقدموا ولو رفعتهم لارتفعوا، فقال لها: إن يزيد قريب مني وله علي حق الولد إذ كنت عمه، وبعد فإن بني ألوط بقلبي وأدنى من نفسي، ولكني لا أجد عندهم من الغناء ما عنده، ولو كان ما يضطلع به يزيد في بعيد لصار قريباً أو عدم لصار حبيباً، وسأريك في هذه الليلة ما تبسطين به عذري، يا غلام اذهب فادع جساساً وزائدة وعبد الله وفلاناً وفلاناً، حتى أتى على جميع أولاده، فلم يلبثوا أن جاؤوا في الغلائل المطيبة والنعال السندية، وذلك بعد هدأة من الليل، فسلموا وجلسوا، ثم قال معن: يا غلام ادع يزيد، فلم يلبث أن دخل عجلاً وعليه سلاحه، فوضع رمحه بباب المجلس ثم دخل، فقال له معن: ما هذه الهيئة يا أبا الزبير فقال: جاءني رسول الأمير فيبق وهمي إلى أنه يريدني لمهم، فلبست سلاحي وقلت: إن كان الأمر كذلك مضيت ولم أعرج، وإن كان على غير ذلك فنزع هذه الآلة عني من أيسر شيء، فقال معن: انصرفوا في حفظ الله، فلما خرجوا قالت زوجته: قد تبين لي عذرك، فأنشد متمثلاً: نفس عصامٍ سودت عصاما ... وعلمته الكر والأقداما وصيرته ملكاً هماماً ... وإلى هذه الحالة أشار مسلم بن الوليد بقوله: تراه في الأمن في درع مضاعفة (1) ... .........   (1) أكمل البيت في ر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 333 وقد روي أن مسلم بن الوليد لما انتهى في إنشاء هذه القصيدة إلى هذا البيت قال له يزيد بن مزيد الممدوح: هلا قلت كما قال أعشى بكر بن وائل في مديح قيس بن معدي كرب: وإذا تجيء كتيبة ملمومة ... شهباء تجتنب الكماة نزالها كنت المقدم غير لابس جنّة ... بالسيف تضرب معلماً أبطالها فقال مسلم: قولي أحسن من قوله، لأنه وصفه بالخرق وأنا وصفتك بالحزم (1) . الخرق: بضم الخاء المعجمة وسكون الراء وبعدها قاف، وهو الاسم من عدم معرفة العمل. قلت: وقيس الذي مدحه الأعشى هو والد الأشعث بن قيس الكندي أحد الصحابة رضوان الله عليهم. قلت: وقد تقدم الكلام على قوله: قد عود الطير عادات وثقن بها ... وأنه أخذ هذا المعنى من أبيات النابغة البائية التي تقدم ذكرها، وقد وافقه في أخذ هذا المعنى جماعة منهم أبو فراس، قال عمر الوراق: سمعت أبا نواس ينشد قصيدته الرائية التي أولها (2) : أيها المنتاب من عفره ... لست من ليلي ولا سمره لا أذود الطير عن شجرٍ ... قد بلوت المر من ثمره فحسدته عليها، فلما بلغ إلى قوله: وإذا مج القنا علقاً ... وتراءى الموت في صوره راح في ثنيي مفاضته ... أسد يدمى شبا ظفره   (1) تروى حكاية مشابهة جرت بين كثير وعبد الملك بن مروان. (2) ديوان أبي نواس: 66. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 334 تتأي الطير غدوته ... ثقة بالشبع من جزره قلت له: ما تركت للنابغة شيئاً حيث يقول: إذا ما غزوا بالجيش حلق فوقهم ... عصائب طيرٍ تهتدي بعصائب فقال: اسكت، فلئن أحسن الاختراع لما أسأت الاتباع. وأخذ هذا المعنى أبو تمام حبيب بن أوس الطائي فقال (1) : وقد ظللت عقبان أعلامه ضحىً ... بعقبان طيرٍ في الدماء نواهل أقامت على الرايات حتى كأنها ... من الجيش إلا أنها لم تقاتل وقال المتنبي أيضاً (2) : يطمع الطير فيهم طول أكلهم ... حتى تكاد على أحيائهم تقع وللمتنبي أيضاً في صفة جيش وقد ألم بهذا المعنى (3) : وذي لجب لا ذو الجناح أمامه ... بناجٍ ولا الوحش المثار بسالم تمر عليه الشمس وهي ضعيفة ... تطالعه من بين ريش القشاعم إذا ضوءها لاقى من الطير فرجة ... تدور فوق البيض مثل الدراهم ولما كان يزيد والياً على اليمن قصده أبو الشمقمق مروان بن محمد - مولى مروان بن محمد الجعدي آخر ملوك بني أمية - الشاعر المشهور الكوفي، وكنيته أبو محمد، وكان مشهوراً بأبي الشمقمق، وهو في حال رثة، وكان راجلاً، فمدحه وشرح حاله بقوله (4) : رحل المطي إليك طلاب الندى ... ورحلت نحوك ناقةً نعليه   (1) ديوان أبي تمام 3: 82. (2) ديوانه: 303. (3) ديوانه: 197. (4) تاريخ بغداد 14: 336. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 335 إذا لم تكن لي يا يزيد مطية ... فجعلتها لي في السفار مطيه تخدي أمام اليعملات وتغتلي ... في السير تترك خلفها المهريه من كل طاوية الصوى مزورةٍ ... قطعاً لكل تنوفةٍ دويه ومنها: تنتاب أكرم وائل في بيتها ... حسباً وقبة مجدها مبنيه أعني يزيداً سيف آل محمد ... فرّاج كل شديدة مخشيه يوماه يوم للمواهب والجدا ... خضل ويوم دمٍ وخطف منيه ولقد أتيتك واثقاً بك عالماً ... أن لست تسمع مدحة بنسيه فقال: صدقت يا شمقمقي ولست أقبل مدحة بسيئة، أعطوه ألف دينار ومدحه أبو الفضل منصور بن سلمة النمري الشاعر المشهور (1) بقصيدة طويلةٍ بائية أحسن فيها كل الإحسان منها قوله: لو لم يكن لبني شيبان من حسبٍ ... سوى يزيد لفاتوا الناس بالحسب ما أعرف الناس أن الجود مدفعة ... للذم لكنه يأتي على النشب وذكر أبو العباس المبرد في كتاب " الكامل " (2) أن يزيد بن مزيد المذكور نظر إلى رجل ذي لحية عظيمة وقد تلففت على صدره، وإذا هو خاضب، فقال له: إنك من لحيتك في مؤنة، فقال: أجل ولذلك أقول: لها درهم للدهن في كل ليلةٍ (3) ... وآخر للحناء يبتدران ولولا نوال من يزيد بن مزيد ... لصوّت في حافاتها الجلمان قلت، الجلمان: بفتح الجيم واللام، تثنية جلم، وهو المقص.   (1) ترجمته في طبقات ابن المعتز: 242 والشعر والشعراء: 736 والأغاني 13: 140 وتاريخ بغداد 13: 65. (2) الكامل 2: 128. (3) الكامل: في كل جمعة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 336 وقال له هارون الرشيد يوماً: يا يزيد، إني قد أعددتك لأمر كبير، فقال: يا أمير المؤمنين، إن الله تعالى قد أعد لك مني قلباً معقوداً بنصيحتك، ويداً مبسوطة لطاعتك (1) ، وسيفاً مشحوذاً على عدوك، فإذا شئت فقل. وذكر المسعودي في كتاب " مروج الذهب ومعادن الجوهر " (2) أن هذه المقالة دارت بين هارون الرشيد ومعن بن زائدة عم يزيد المذكور، ثم قال بعد هذا: وقيل إن هذا الكلام من كلام يزيد بن مزيد. قلت أنا: وهذا لا يمكن أن يكون بين الرشيد ومعن أصلاً، لأن معناً قتل في خلافة أبي جعفر المنصور - حسبما تقدم ذكره في ترجمته - على الاختلاف في السنة، وهو بعد الخمسين ومائة، فكيف يمكن أن يقول له الرشيد ذلك والرشيد ولي الخلافة في سنة سبعين ومائة وذكر ابن أبي عون (3) في كتاب " الأجوبة المسكتة " أن الرشيد قال ليزيد المذكور في لعب الصوالجة: كن مع عيسى بن جعفر، فأبى يزيد فغضب الرشيد وقال: تأنف أن تكون معه فقال: قد حلفت لأمير المؤمنين أن لا أكون عليه في جد ولا هزل. ورأيت في بعض المجاميع حكاية عن بعضهم أنه قال: كنت مع يزيد بن مزيد، فإذا صائح في الليل: يا يزيد بن مزيد، فقال يزيد: علي بهذا الصائح، فلما جيء به قال له: ما حملك على أن (4) ناديت بهذا الاسم فقال: نفقت دابتي ونفدت نفقتي، وسمعت قول الشاعر فتيمنت به، فقال: وما قال الشاعر فأنشد: إذا قيل من للمجد والجود والندى ... فناد بصوتٍ يا يزيد بن مزيد فلما سمع يزيد مقالته هش له وقال له: أتعرف يزيد بن مزيد قال: لا والله، قال: أنا هو، وأمر له بفرسٍ أبلق (5) كان معجباً به وبمائة دينار.   (1) المختار: بطاعتك. (2) المروج 3: 360. (3) في المسودة: ابن عون. (4) أن: سقطت من المسودة. (5) أبلق: سقطت من المختار. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 337 وقد أطلنا القول في هذه الترجمة، لكن الكلام شجون يتعلق بعضه ببعض، ومحاسن يزيد كثيرة، وتوفي في سنة خمس وثمانين ومائة، ورثاه أبو محمد عبد الله بن أيوب التيمي الشاعر المشهور، وقيل بل هذه المرثية لأبي الوليد مسلم بن الوليد الأنصاري الشاعر المذكور، والصحيح أنها للتيمي المذكور، وهي (1) : أحقاً أنه أودى يزيد ... تبيّن أيها الناعي المشيد أتدري من نعيت وكيف فاهت ... به شفتاك كان بها الصعيد أحامي المجد والإسلام أودى ... فما للأرض ويحك لا تميد تأمل هل ترى الإسلام مالت ... دعائمه وهل شاب الوليد وهل شيحت سيوف بني نزار ... وهل وضعت عن الخيل اللبود وهل تسقي البلاد ثقال مزن ... بدرتها وهل يخضر عود أما هدُّت لمصرعه نزار ... بلى، وتقوض المجد المشيد وحل ضريحه إذا حل فيه ... طريف المجد والحسب التليد أما والله ما تنفك عيني ... عليك بدمعها أبداً تجود وإن تجمد دموع لئيم قوم ... فليس لدمع ذي حسب جمود أبعد يزيد تحزن البواكي ... دموعاً أو يصان لها حدود لتبكك قبة الإسلام لما ... وهت أطنابها ووهى العمود ويبكي شاعر لم يبق دهر ... له نشباً وقد كسد القصيد فإن يهلك يزيد فكل حي ... فريس للمنية أو طريد لقد عزى ربيعة أن يوماً ... عليها مثل يومك لا يعود قلت: وهذا البيت الأخير قد استعمله الشعراء كثيراً، فمن ذلك قول مطيع بن إياس يرثي يحيى بن زياد الحارثي من جملة أبيات: فاذهب بمن شئت إذ ذهبت به ... ما بعد يحيى في الرزء من ألم   (1) ترجمته والقصيدة في الأغاني 18: 323. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 338 وقول أبي النواس يرثي الأمين (1) : وكنت عليه أحذر الموت وحده ... فلم يبق لي شيء عليه أحاذر وقول إبراهيم بن العباس الصولي يرثي ابنه: أنت السواد لمقلة ... تبكي عليك وناظر من شاء بعدك فليمت ... فعليك كنت أحاذر وذكر أبو الفرج الأصبهاني في كتاب " الأغاني " (2) في ترجمة مسلم بن الوليد بإسناد متصل إلى أحمد بن أبي سعد (3) قال: أهديت إلى يزيد بن مزيد جارية وهو يأكل، فلما رفع يده من الكعام وطئها فلم ينزل عنها إلا ميتاً، وهو ببردعة، فدفن في مقابر بردعة، وكان مسلم بن الوليد معه في جملة أصحاب فقال يرثيه: قبر ببردعة استمر ضريحه ... خطراً تقاصر دونه الخطار أبقى الزمان على ربيعة بعده ... حزناً لعمر الله ليس يعار سلكت بك العرب السبيل إلى العلا ... حتى إذا سبق الردى بك حاروا نفضت بك الأحلام آمال الغنى ... واسترجعت زوارها المصار فاذهب كما ذهبت غوادي مزنةٍ ... أثني عليها السهل والأوعار قد قيل إن هذا البيت الأخير أبلغ شيء في المراثي، وهذه الأبيات في كتاب " الحماسة " (4) في باب المراثي. وبردعة: بفتح الباء الموحدة وسكون الراء وبعدها دال مهملة ثم عين مهملة، وهي مدينة من أقصى بلاد أذربيجان. قلت: هكذا رأيته في التواريخ،   (1) زاد في المختار: ابن هارون الرشيد. (2) الأغاني 18: 325 - 326. (3) ع ق: سعيد. (4) زاد في المختار: لأبي تمام الطائي؛ وانظر شرح المرزوقي: 324. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 339 وأهل تلك البلاد يقولون بردعة من إقليم إران، والله أعلم؛ ويقال برذعة أيضاً، بالذال المعجمة، وكذلك بردعة الدابة يقال بالدال والذال (1) . وقد قيل إن مسلم بن الوليد إنما رثى بهذه الأبيات يزيد بن أحمد السلمي، وقيل بل رثى بها مالك بن علي الخزاعي، وإن أول الأبيات: قبر بحلوان استسر ضريحه ... لأن الذي قيلت فيه مات بحلوان، بضم الحاء المهملة، وهي آخر مدينة بأرض السواد من أعمال العراق، والله أعلم بالصواب في ذلك كله. وذكر أبو عبيد الله المرزباني في كتاب " معجم الشعراء " أن أبا البلهاء (2) عمير بن عامر مولى يزيد بن مزيد الشيباني هو القائل: نعم الفتى فجمعت به إخوانه ... يوم البقيع حوادث الأيام سهل الفناء إذا حللت ببابه ... طلق اليدين مؤدب الخدام وإذا رأيت صديقه وشقيقه ... لم تدر أيهما ذوو الأرحام وذكر أبو تمام الطائي هذه الأبيات في كتاب " الحماسة " في باب المراثي لمحمد بن بشير الخارجي، وقيل ابن يسير بالسين المهملة وهو فعل من اليسر، وبشير (3) من البشارة، وهو من خارجة عدوان، قبيلة، وليس من الخوارج، والله أعلم بالصواب في ذلك كله. ورثاه منصور النمري، وهي في كتاب " الحماسة " (4) بقوله: أبا خالد، ما كان أدهى مصيبةً ... أصابت معداً يوم أصبحت ثاويا لعمري لئن سر الأعادي فأظهروا ... شماتاً لقد مروا بربعك خاليا فإن يك أفتنه الليالي وأوشكت ... فإن له ذكر سيفني اللياليا   (1) المختار: بالدال المهملة والذاك المعجمة. (2) المختار: البكاء؛ ق: البكهاء؛ وانظر معجم المرزباني: 75 وشرح المرزوقي ص: 808. (3) ر والمختار: وبشر. (4) شرح المرزوقي رقم: 337 وهي منسوبة لشبيب بن عوانة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 340 وكان ليزيد (1) ولدان نجيبان جليلان سيدان: (336) أحدهما خالد بن يزيد وهو ممدوح أبي تمام الطائي، وله فيه أحسن المدائح، وقد تضمنها ديوانه، فلا حاجة إلى ذكر شيء منها لشهرة ديوانه. (337) والآخر محمد بن يزيد، كان موصوفاً بالكرم وأنه لا يرد طالباً، فإن لم يحضره مال لم يقل لا، بل يعد ثم يعجل العدة، ومدحه أحمد بن أبي فنن صالح بن سعيد (2) بقوله، ثم وجدت هذه الأبيات لأبي الشيص الخزاعي في كتاب " البارع " (3) : عشق المكارم فهو مشتغل بها ... والمكرمات قليلة العشاق وأقام سوقاً للثناء ولم تكن ... سوق الثناء تعد في الأسواق بث الصنائع في البلاد فأصبحت ... تجنى إليه محامد الآفاق وكان خالد بن يزيد قد تولى الموصل من جهة المأمون، فوصل إليها وفي صحبته أبو الشمقمق الشاعر الذي ذكرته في هذه الترجمة، فلما دخل خالد إلى الموصل نشب اللواء الذي لخالد في سقف باب المدينة فاندق، فتطير خالد من ذلك، فأنشده أبو الشمقمق ارتجالاً (4) : ما كان مندق اللواء لريبةٍ ... تخشى ولا سوءٍ يكون معجلا لكن هذا الرمح أضعف متنه ... صغر الولاية فاستقل الموصلا فبلغ الخليفة ما جرى، فكتب إلى خالد بن يزيد: قد زدنا في ولايتك ديار ربيعة كلها لكون رمحك استقل الموصل، ففرح بذلك وأجزل جائزة أبي الشمقمق. ولما انتفض أمر أرمينية في أيام الواثق جهز إليها خالد بن يزيد المذكور في   (1) المختار: ليزيد المذكور، رحمه الله تعالى. (2) المختار: سعد. (3) قلت: انظر ما تقدم ص 283. (4) انظر شعراء عباسيون: 147. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 341 جيش عظيم فاعتل في الطريق ومات في سنة ثلاثين ومائتين، ودفن بمدينة دبيل أرمينية، رحمهم الله أجمعين. 821 - (1) يزيد بن مفرغ الحميري أبو عثمان يزيد بن زياد بن ربيعة بن مفرغ بن ذي العشيرة بن الحارث بن دلال بن عوف بن عمرو بن يزيد بن مرة بن مرثد بن مسروق بن يزيد بن يحصب الحميري - وبقية النسب من يحصب معروفة فلا حاجة إلى ذكرها - هكذا ساق هذا النسب ابن الكلبي في كتاب " جمهرة النسب " غير أنه لم يذكر كنية يزيد، بل ذكرها صاحب " الأغاني "، وأكثر العلماء يقولون: هو يزيد بن ربيعة بن مفرغ ويسقطون زياداً. (338) وقال صاحب " الأغاني ": إنما لقب جده مفرغاً لأنه راهن على سقاء من لبن يشربه كله، فشربه حتى فرغه فسمي مفرغاً. وذكر في ترجمة حفيده السيد الحميري في كتاب " الأغاني " (2) أيضاً أن ابن عائشة قال: مفرغ هو ربيعة، ومفرغ لقبه، ومن قال ربيعة بن مفرغ فقد أخطأ، والله أعلم. وقال الفضل بن عبد الرحمن النوفلي: كان مفرغ المذكور حداداً باليمن، فعمل لامرأة قفلاً وشرط عليها عند فراغه منه أن تجيئه بلبن كرش (3) ، ففعلت، فشرب منه ووضعه، فقالت له: رد علي الكرش، فقال: ما عندي شيء أفرغه فيه، قالت: لا بد منه، ففرغه في جوفه فقالت: إنك لمفرغ، فعرف به، وهو   (1) ترجمته في الشعر والشعراء: 276 وابن سلام: 554 والأغاني 18: 180 والإكليل 2: 266 وأمالي الزجاجي: 229 والخزانة 2: 210، 514 وتاريخ الطبري 7: 191 وقد جمع شعره الدكتور داود سلوم (بغداد: 1968) . (2) ترجمة السيد الحميري في الأغاني 7: 224. (3) ر: بكرش لبن. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 342 من حمير فيما يزعم أهله. وذكر ابن الكلبي وأبو عبيدة أن مفرغاً كان شعاباً بتبالة. قلت، تبالة: بفتح التاء المثناة من فوقها وبعدها باء موحدة ثم ألف ولام وفي آخرها هاء، وهي بليدة على طريق اليمن للخارج من مكة، وهذا المكان كثير الخصب، له ذكر في الأخبار والأمثال والأشعار، وهي أول ولاية وليها الحجاج بن يوسف الثقفي، ولم يكن رآها قبل ذلك، فخرج إليها، فلما قرب منها سأله عنها، فقيل له إنها وراء تلك الأكمة، فقال: لا خير في ولاية تسترها أكمة، ورجع عنها محتقراً لها وتركها، فضربت العرب بها المثل وقالت للشيء الحقير: أهون من تبالة على الحجاج. قال الراوي: فادعى يزيد أنه من حمير، وهو حليف آل خالد بن أسيد بن أبي العيص الأموي، وقيل إنه كان عبداً للضحاك بن عوف الهلالي، فأنعم عليه. وكان يزيد شاعراً غزلاً محسناً. (339) والسيد الحميري الشاعر المشهور من ولده، وهو إسماعيل بن محمد بن بكار بن يزيد المذكور، كذا ذكره ابن ماكولا في كتاب " الإكمال " ولقبه السيد وكنيته أبو هاشم، وهو من كبار الشيعة، وله في ذلك أخبار وأشعار مشهورة. ومن محاسن شعر يزيد المذكور قوله من جملة قصيدة يمدح بها مروان بن الحكم الأموي، وكان قد أحسن مروان إليه: وأقمتم سوق الثناء ولم تكن ... سوق الثناء تقام في الأسواق فكأنما جعل الإله إليكم ... قيض النفوس وقسمة الأرزاق والبيت الأول من هذين البيتين تقدم ذكره في ترجمة يزيد بن مزيد بن زائدة الشيباني منسوباً إلى أحمد بن أبي فنن يمدح به خالد بن يزيد بن مزيد المذكور من جملة أبيات (1) ، والله أعلم بالصواب في ذلك. ولما ولي (2) سعيد بن عثمان بن عفان، رضي الله عنه، خراسان عرض على   (1) انظر ص: 341. (2) انظر الأغاني: 183 وما بعدها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 343 يزيد بن مفرغ أن يصحبه فأبى ذلك، وصحب عباد بن زياد بن أبيه، فقال له سعيد: أما إذ أبيت أن تصحبني وآثرت صحبة عباد فاحفظ ما أوصيتك (1) به: إن عباداً رجل لئيم فإياك والدالة عليه وإن دعاك إليها من نفسه، فإنها خدعة منه لك عن نفسك، وأقلل زيارته فإنه ملول، ولا تفاخره وإن فاخرك فإنه لا يحتمل لك ما كنت أحتمله. ثم دعا سعيد بمال فدفعه له وقال له: استعن به على سفرك فإن صح لك مكانك من عباد، وإلا فمكانك عندي ممهد فائتني. ثم سار إلى خراسان وخرج ابن مفرغ مع عباد، فلما بلغ عبيد الله بن زياد العراقين أمير العراقين صحبة يزيد أخاه عباداً شق عليه، فلما سار عباد شيعه أخوه عبيد الله وشيعه الناس وجعلوا يودعونه، فلما أراد عبد الله أن يودع أخاه دعا ابن مفرغ فقال له: إنك سألت عباداً أن يصحبك فأجابك، وقد شق علي، فقال له: ولم أصلحك الله قال: لأن الشاعر لا يقنعه من الناس ما يقنع بعضهم من بعض، لأنه يظن فيجعل الظن يقيناً ولا يعذر في موضع العذر، وإن عباداً يقدم على أرض حرب فيشتغل بحروبه وخراجه عنك، فلا تعذره أنت وتكسونا شراً وعاراً، فقال له: لست كما ظن المير، وإن لمعروفه عندي لشكراً كثيراً، وإن عندي إن أغفل أمري عذراً ممهداً، فقال: لا، ولكن تضمن لي إن أبطأ عنك ما تحبه أن لا تعجل عليه حتى تكتب إلي، قال: نعم، قال: امض إذاً على الطائر الميمون. قال: فقدم عباد خراسان، وقيل سجستان، فاشتغل بحروبه وخراجه، فاستبطأه ابن مفرغ ولم يكتب لأخيه عبيد الله بن زياد يشكوه كما ضمن له، ولكنه بسط لسانه فذمه وهجاه. وكان عباد كبير اللحية كأنها جوالق، فسار ابن مفرغ مع عباد فدخلت الريح فيها فنفشتها، فضحك ابن مفرغ وقال لرجل من لخم كان إلى جانبه: ألا ليت اللحى كانت حشيشا ... فنعلفها خيول المسلمينا فسعى به اللخمي إلى عباد، فغضب من ذلك غضباً شديداً، وقال: لا تجمل بي عقوبته في هذه الساعة مع صحبته لي، وما أؤخرها إلا لأشفي نفسي   (1) ر: أوصيتك. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 344 منه، فإنه كان يقوم فيشتم أبي في عدة مواضع. وبلغ الخبر ابن مفرغ فقال: إني لأجد ريح الموت من عباد، ثم دخل عليه فقال: أيها الأمير، إني قد كنت مع سعيد بن عثمان، وقد بلغك رأيه في وجميل أثره علي، وقد اخترتك عليه فلم أحظ منك بطائل، وأريد أن تأذن لي بالرجوع فلا حاجة لي في صحبتك، فقال له: أما اختيارك إياي فقد اخترتك كما اخترتني، واستصحبتك حين سألتني، وقد أعجلتني عن بلوغ حجتي فيك، وطلبت الإذن لترجع إلى قومك فتفضحني فيهم وأنت على الإذن قادر بعد أن أقضي حقك. وبلغ عباداً أنه يسبه ويذكره وينال من عرضه، فدس إلى قوم كان لهم عليه دين أن يقدموه إليه، ففعلوا فحبسه وأضر به، ثم بعث إليه بعني الراكة وبرداً، وكانت الراكة قينة لابن مفرغ، وبرد غلامه، رباهما وكان شديد الضن بهما، فبعث إليه ابن مفرغ مع الرسول: أيبيع المرء نفسه وولده فأخذهما عباد منه، وقيل أنه باعهما عليه، فاشتراهما رجل من أهل خراسان. فلما دخلا منزله قال له برد، وكانت داهية أديباً (1) : أتدري ما اشتريت قال: نعم اشتريتك وهذه الجارية، قال: لا والله، ما اشتريت إلا العار والدمار والفضيحة أبداً ما حييت، فجزع الرجل وقال له: كيف ذاك ويلك قال: نحن ليزيد بن مفرغ، ووالله ما أصاره إلى هذه الحال إلا لسانه وشره، أفتراه يهجو عباداً وهو أمير خراسان، وأخوه عبيد الله أمير العراقين، وعمه الخليفة معاوية بن أبي سفيان في أن استبطأوه، ويمسك عنك وقد ابتعتني وابتعت هذه الجارية وهي نفسه التي بين جنبيه ووالله ما أرى أحداً أدخل بيته أشأم على نفسه وأهله ما أدخلته منزلك، فقال: أشهدك أنك وإياها له، فإن شئتما أن تمضيا إليه فامضيا، وعلى أني أخاف على نفسي إن بلف ذلك ابن زياد، وإن شئتما أن تكونا له عندي فافعلا، قال: فاكتب إليه بذلك، فكتب الرجل إلى ابن مفرغ إلى الحبس بما فعله، فكتب إليه يشكر فعله، وسأله أن يكونا عنده حتى يفرج الله عنه. وقال عباد لحاجبه: ما أرى هذا، يعني ابن مفرغ، يبالي بالمقام في الحبس،   (1) كذا في المسودة، ولعل الأنسب: " أريباً ". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 345 فبع فرسه وسلاحه وأثاثه واقسم ثمنها بين غرمائه، ففعل ذلك وبقيت عليه بقية حبسه بها، فقال ابن مفرغ في بيعهما: شريت برداً ولو ملكت صفقته ... لما تطلبت في بيعٍ له رشدا لولا الدعي ولولا ما تعرض لي ... من الحوادث ما فارقته أبدا يا برد ما مسنا دهر أضر بنا ... من قبل هذا ولا بعنا له ولدا معنى شريت: بعت، وهو من الأضداد يقع على الشراء والبيع. والأبيات أكثر من هذا فتركت الباقي. وعلم ابن مفرغ أنه إن أقام على ذم عباد وهجائه وهو في حبسه زاد في نفسه شراً، فكان يقول للناس إذا سألوه عن حبسه ما سببه: رجل أدبه أميره ليقوم من أوده ويكف من غربه، وهذا لعمري خير من جر الأمير ذيله على مداهنة صاحبه. فلما بلغ ذلك عباد رق له وأخرجه من السجن، فهرب حتى أتى البصرة ثم خرج منها إلى الشام، وجعل يتنقل في مدنها هارباً ويهجو زياداً وولده، فمن ذلك قوله في ترك سعيد بن عثمان بن عفان، رضي الله عنه، وأتباعه عباد بن زياد ويذكر بيع برد عليه: أصرمت حبلك من أمامه ... من بعد أيامٍ برامه فالريح تبكي شجوها ... والبرق يضحك في الغمامه لهفي على الأمر الذي ... كانت عواقبه ندامه تركي سعيداً ذا الندى ... والبيت ترفعه الدعامه ليثاً إذا شهد الوغى ... ترك الهوى ومضى أمامه فتحت سمرقند له ... وبنى بعرصتها خيامه وتبعت عبد بني علا ... جٍ، تلك أشراط القيامه جاءت به حبشية ... سكاء تحسبها نعامه من نسوةٍ سود الوجو ... هـ ترى عليهن الدمامه وشريت برداً ليتني ... من بعد بردٍ كنت هامه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 346 هامة إذ (1) تدعو صدى ... بين المشقر واليمامه فالهول يركبه الفتى ... حذر المخازي والمآمه والعبد يقرع بالعصا ... والحر تكفيه الملامه قلت، قوله: وتبعت عبد بني علاج، بنو علاج بطن من ثقيف - وسيأتي ذكره عند ذكر الحارث بن كلدة في هذه الترجمة إن شاء الله - قاله أبو بكر بن دريد في كتاب " الاشتقاق " (2) وأنشد عليه: آل أب بكارة استفيقوا ... هل تعدل الشمس بالسراج إن ولاء النبي أعلى ... من دعوةٍ في بني علاج وهذا القول له سبب يذكر عند أبي بكرة نفيع بن الحارث في هذه الترجمة، إن شاء الله تعالى. وقوله في البيت الآخر: سكاء تحسبها نعامة، يقال أذن سكاء، إذا كانت صغيرة، والسكاء أيضاً التي لا أذن لها، والعرب تقول: كل سكاء تبيض، وكل شرفاء تلد، والشرفاء: التي لها أذن طويلة، والسكاء، بفتح السين المهملة وتشديد الكاف، والشرفاء، بفتح الشين المعجمة وسكون الراء وبعدها فاء، والضابط عندهم فيه أن كل حيوان له أذن ظاهرة فإنه يلد، وكل حيوان ليست له أذن ظاهرة فإنه يبيض. قال الراوي: ثم إن ابن مفرغ في هجاء بني زياد، حتى تغنى أهل البصرة في أشعاره، فطلبه عبيد الله طلباً شديداً حتى كاد يؤخذ، فلحق بالشام واختلف الرواة فيمن رده إلى ابن زياد، فقال بعضهم: رده معاوية بن أبي سفيان، وقال بعضهم: بل رده زيد بن معاوية، والصحيح أنه يزيد لأن عباداً إنما ولي سجستان في أيام يزيد.   (1) ر: أو هامة، وبهامش المسودة: خ ويروى: هامة تدعو، وهي ما ورد في بر من؛ وفي ع: هاماه إذ: وفي الأغاني: أو بومة. (2) الاشتقاق: 305 - 306. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 347 قلت: ثم ذكر صاحب " الأغاني " عقيب هذا الفصل (1) أن سعيد بن عثمان بن عفان، رضي الله عنه، دخل على معاوية بن أبي سفيان فقال له: علام جعلت ولدك يزيد ولي عهدك دوني فوالله لأبي خير من أبيه وأمي خير من أمه وأنا خير منه، وقد وليناك فما عزلناك وبنا نلت ما نلت، فقال له معاوية: أما قولك إن أباك خير من أبيه فقد صدقت، لعمر الله إن عثمان لخير مني، وأما قولك إن أمك خير من أمه فحسب المرأة أن تكون في بيت قومها وأن يرضاها بعلها وينجب ولدها، وأما قولك إنك خر من يزيد، فوالله يا بني ما يسرني أن لي بيزيد ملء الغوطة مثلك، وأما قولك: إنكم وليتموني فما عزلتموني، فما وليتموني وإنما ولاني من هو خير منكم عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، فأقررتموني، وما كنت بئس الوالي لكم، لقد قمت بثأركم وقتلت قتلة أبيكم وجعلت الأمر فيكم، وأغنيت فقيركم ورفعت الوضيع منكم، فكلمه يزيد في أمره فولاه خراسان. رجعنا إلى حديث ابن مفرغ: قال الراوي (2) : ولم يزل يتنقل في قرى الشام ويهجو بني زياد، وأشعاره تنقل إلى البصرة. فكتب عبيد الله بن زياد أمير العراقين إلى معاوية - وقيل يزيد وهو الأصح - يقول: إن ابن مفرغ هجا زياداً وبني زياد بما هتكه في قبره وفضح بنية طول الدهر، وتعدى إلى أبي سفيان فقذفه بالزنا وسب ولده، وهرب من سجستان وطلبته حتى لفظته الأرض، وهرب من الشام يتمضغ لحومنا ويهتك أعراضنا، وقد بعثت إليك بما هجانا به لتنتصف لنا منه. ثم بعث بجميع ما قاله ابن مفرغ فيهم، فأمر يزيد بطلبه، فجعل يتنقل في البلاد حتى لفظته الشام، فأتى البصرة ونزل على الأحنف بن قيس - قلت: وهو الذي يضرب به المثل في الحلم، وقد سبق ذكره واسمه الضحاك (3) - قال: فاستجار   (1) الأغاني: 187. (2) النقل مستمر عن الأغاني: 188. (3) انظر ج 2: 499. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 348 به، فقال له الأحنف: إني لا أجير على ابن سمية فأغرك، وإنما يجير الرجل على عشيرته وأما على سلطانه فلا. ثم إنه مشى على غيره فلم يجره أحد، فأجاره المنذر بن الجارود العبدي، وكانت ابنته تحت عبيد الله بن زياد، وكان المنذر من أكرم الناس عليه، فاغتر بذلك وأدل بموضعه منه، وطلبه عبيد الله وقد بلغه وروده من البصرة، فقيل له: أجاره المنذر بن الجارود، فبعث عبيد الله إلى المنذر فأتاه، فلما دخل عليه بعث عبيد الله بالشرط فكبسوا داره وأتوه بابن مفرغ، فلم يشعر ابن الجارود إلا بابن مفرغ قد أقيم على رأسه، فقام ابن الجارودي إلى عبيد الله فكلمه فيه، فقال: أذكرك الله أيها الأمير أن تخفر جواري فإني قد أجرته، فقال عبيد الله: يا منذر، الله، ليمدحن أباك ويمدحنك وقد هجاني وهجا آبي ثم تجيره علي!! لاها الله، لا يكون ذلك أبداً ولا أغفرها له، فغضب المنذر، فقال له: لعلك تدلي بكريمتك عندي، إن شئت والله لأبيتها (1) بتطليق البتة؛ فخرج المنذر من عنده. وأقبل عبيد الله على ابن مفرغ فقال له: بئس ما صحبت به عباداً، فقال: بل بئس ما صحبني عباد، اخترته على سعيد بن عثمان وأنفقت على صحبته جميع ما أملكه، وظننت أنه لا يخلو من عقل زياد وحلم معاوية وسماحة قريش، فعدل عن ظني كله، ثم عاملني بكل قبيح وتناولتني بكل مكروه من حبس وغرم وشتم وضرب، فكنت كمن شام برقاً خلباً في سحاب جهام فأراق ماءه طمعاً فيه فمات عطشاً، وما هربت من أخيك إلا لما خفت أن يجري في ما يندم عليه، وقد صرت الآن في يديك فشأنك فاصنع بي ما شئت. فأمر بحبسه وكتب إلى يزيد بن معاوية يسأله أن يأذن له في قتله، فكتب إليه يزيد: إياك وقتله، ولكن تناوله بما ينكله ويشد سلطانك ولا يبلغ نفسه، فإن له عشيرة هي جندي وبطانتي ولا ترضى بقتله مني ولا تقنع إلا بالقود منك، فاحذر ذلك واعلم أنه الجد منهم ومني وأنك مرتهن بنفسه، ولك في دون تلفها مندوحة تشفي من الغيظ. فورد الكتاب على عبيد الله، فأمر بابن مفرغ فسقي نبيذاً حلواً قد خلط معه الشبرم، وقيل التربذ (2) فأسهل بطنه فطيف به وهو على   (1) ر: لأبنتها، وفي الأغاني: لابينها. (2) التربذ: راسب زئبقي أصفر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 349 تلك الحال، وقرن بهرة وخنزيرة، فجعل يسلح والصبيان يتبعونه ويصيحون، وألح عليه ما يخرج منه حتى أضعفه فسقط، فقيل لعبيد الله: لا نأمن أن يموت، فأمر به أن يغسل، ففعلوا، فلما اغتسل قال: يغسل الماء ما فعلت وقولي ... راسخ منك في العظام البوالي فرده عبيد الله إلى الحبس، وقيل لعبيد الله: كيف اخترت له هذه العقوبة فقال: لأنه سلح علينا، فأحببت أن تسلح الخنزيرة عليه. وكان مما قال ابن مفرغ في عباد بن زياد من جملة أبيات عديدة: إذا أودى معاوية بن حرب ... فبشر شعب تغبك بالصداع فأشهد أن أمك لم تباشر ... أبا سفيان واضعة القناع ولكن كان أمراً (1) فيه لبس ... على وجلس شديدٍ وارتياع وقال أيضاً: ألا أبلغ معاوية بن صخر ... مغلغلة عن الرجل اليماني أتغضب أن يقال أبوك عف ... وترضى أن يقال أبوك زاني فأشهد أن رحمك من زياد ... كرحم الفيل من ولد الأتان وأشهد أنها ولدت زياداً ... وصخر من سمية غير دان قلت، قوله: فأشهد أن رحمك من زياد، البيت الثالث، أخذه من قول أبي الوليد، وقيل أبي عبد الرحمن، حسان بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه، في بيت من جملة أبيات وهي قوله (2) : لعمرك إن إلك من قريشٍ ... كإل السقب من رأل النعام الإل: بكسر الهمزة وتشديد اللام، وهو الرحم، والسقب: بفتح السين   (1) بهامش المسودة: خ: امر. (2) ديوان حسان: 216. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 350 المهملة وسكون القاف وبعدها باء موحدة، وهو الذكر من ولد الناقة، والرأل: بفتح الراء وبعدها همزة وفي آخره لام، وهو ولد النعام. (340) وهذه الأبيات قالها حسان في أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب بن الهاشم، وهو ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أخاه من الرضاعة، أرضعتهما حليمة ابنة أبي ذؤيب السعدية، وكان من أكثر الناس شبهاً برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان له فيه هجاء، وكان حسان يجاوب عنه، فمن ذلك الأبيات الميمية - المقدم ذكرها - ومنها قوله (1) : ألا أبلغ أبا سفيان عني ... مغلغلةً فقد برح الخفاء هجوت محمداً فأجبت عنه ... وعند الله في ذاك الجزاء أتهجوه ولست له بكفءٍ ... فشركما لخيركما الفداء فإن أبي ووالده وعرضي ... لعرض محمدٍ منكم وقاء وقوله: فشركما لخيركما الفداء، فيه كلام لأهل العلم لأجل شر وخير لأنهما من أداة التفضيل، وتقتضي المشاركة. وإنما أجابه حسان بأمر النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك. قلت: والجماعة الذين كانوا يشبهون رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهله خمسة: أبو سفيان المذكور والحسن بن علي بن أبي طالب وجعفر بن أبي طالب وقثم بن العباس بن عبد المطلب والسائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف، وهو جد الإمام الشافعي، رضي الله عنهم أجمعين. ثم إن أبا سفيان أسلم عام الفتح، وكان ذلك في السنة الثامنة من الهجرة، وحسن إسلامه، وخرج مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف وحنين. ولما انهزم المسلمون يوم حنين كان أبو سفيان أحد السبعة الذين ثبتوا مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى رجع إليهم المسلمون وكانت النصرة لهم وكسبوا من الغنائم ستة آلاف رأس من الرقيق. ثم منّ النبي صلى الله عليه وسلم عليهم فأطلقهم، والشرح في ذلك يطول وليس هذا موضعه. وكان أبو سفيان   (1) ديوان حسان: 9. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 351 المذكور يومئذ ممسكاً لجام بغلة النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يفارقها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إني لأرجو أن يكون فيه خلف من حمزة بن عبد المطلب، وشهد له بالجنة فقال: أبو سفيان بن الحارث من شباب أهل الجنة، أو سيد فتيان أهل الجنة، والله أعلم. وأكثر العلماء يقولون: اسمه كنيته ليس له اسم سواها، وقيل إن اسمه المغيرة، وقيل المغيرة أخوه، وهو أبو سفيان لا غير. ويقال إنه ما رفع رأسه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلم حياء منه لما تقدم من هجائه. رجعنا إلى حديث ابن مفرغ: وهو من شعراء الحماسة، وهو القائل (1) : ألا طرقتنا آخر الليل زينب ... عليك سلام هل لما فات مطلب قيل أراد بالليل الشباب. وقالت تجنبنا ولا تقربننا ... فكيف وأنتم حاجتي أتجنب يقولون: هل بعد الثلاثين ملعب ... فقلت: وهل قبل الثلاثين ملعب لقد جل خطب الشيب إن كان كلما ... بدت شيبة يعرى من اللهو مركب وذكر المظفري (2) الأندلسي في تاريخه الكبير في جملة هذه الأبيات: فلو أن لحمي إذ وهى لعبت به ... كرام ملوكٍ أو أسود وأذؤب لهون من وجدي وسلى مصيبتي ... ولكنما أودى بلحمي أكلب   (1) لم يرد منها في س بر من إلا البيتان الأولان وبقيتها مزيدة في هامش المسودة بخط المؤلف في تاريخ متأخر، وانظر ديوانه: 44. (2) ق: المظفر، والمظفري بخط المؤلف، والمظفر أصوب، وهو محمد بن عبد الله، أحد بني الأفطس حكام بطليوس في عهد ملوك الطوائف بالأندلس، وله تأليف كبير اسمه " المظفري " قيل أنه في نحو خمسين مجلداً. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 352 (341) ولما بلغ الحسين بن علي بن أبي طالب، رضي الله عنهما، وفاة معاوية بن أبي سفيان وبيعة ولده يزيد بن معاوية عزم على قصد الكوفة بمكاتبة جماعة من أهلها كما هو مشهور في هذه الواقعة التي قتل فيها الحسين رضي الله عنه، فكان في تلك المدة يتمثل كثيراً بقول يزيد بن مفرغ المذكور من جملة أبيات (1) : لا ذعرت السوام في غلس الصب ... ح مغيراً ولا دعيت (2) يزيدا يوم أعطي على مخافة ضيماً ... والمنايا يرصدنني أن أحيدا فعلم من سمع ذلك منه أنه سينازع (3) يزيد بن معاوية في الأمر. فخرج الحسين إلى الكوفة وأميرها يومئذ عبيد الله بن زياد، فلما قرب منها سير إليه جيشاً مقدمه عمر بن سعد بن أبي وقاص، رضي الله عنه (4) فقتل الحسين رضي الله عنه بالطف، وجرى ما جرى. وروي أن معاوية بن أبي سفيان كتب إلى الحسين رضي الله عنه: إني لأظن في رأسك نزوة، ولا بد لك من إظهارها، وددت لو أدركتها فأغتفرها لك (5) . وروي عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أنه قال: لو كنت من قتلة الحسين وغفر الله لي وأدخلني الجنة لما دخلتها حياء من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال عبيد الله بن زياد لحارثة بن بدر الغداني: ما تقول فيّ وفي الحسين يوم القيامة، قال: يشفع له أبوه وجده صلى الله عليه وسلم، ويشفع لك أبوك وجدك، فاعرف من هاهنا ما تريد. نقلت من كتاب تاريخ شمس الدين أبي المظفر يوسف بن قزعلي المعروف بسبط الحافظ جمال الدين أبي الفرج ابن الجوزي الواعظ الذي سماه " مرآة الزمان " ورأيته بخطه في أربعين مجلداً بدمشق، وقد رتبه على السنين فقال، في السنة التاسعة والخمسين للهجرة، بعد أن قص حديث يزيد بن مفرغ مع بني   (1) ديوانه: 72. (2) ق ع والمختار: دعوت. (3) المختار: ينازع. (4) المختار: عن أبيه؛ ولم يرد الدعاء في س بر من. (5) هنا تعليق لابن المؤلف سقط لضياع أوراق. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 353 زياد، فقال في آخر الحديث: ومات يزيد بن مفرغ في سنة تسع وستين يعني للهجرة، والله أعلم. وقال أبو اليقظان في كتاب " النسب ": مات عباد بن زياد في سنة مائة للهجرة بجرود. قلت، وجرود (1) : بفتح الجيم وضم الراء وسكون الواو وبعدها دال مهملة، وهي قرية من أعمال دمشق من جهة حمص، ويكون في أرضها من حمير الوحش شيء كثير يجاوز الحصر، ولما وصل بعض عسكر الديار المصرية إلى الشام في أثناء سنة ستين وستمائة وتوجهوا بعسكر الشام إلى أنطاكية، وكنت يومئذ بدمشق، أقاموا عليها قليلاً، ثم عادوا فدخلوا دمشق في سلخ شعبان من السنة، وأخبرني بعضهم بقضية غريبة يصلح أن تذكر هاهنا لغرابتها، وهي أنهم نزلوا على جرود المذكورة، واصطادوا من الحمر الوحشية شيئاً كثيراً على ما قالوا، فذبح واحد من الجماعة حماراً وطبخ لحمه الطبخ المعتاد، فلم ينضج ولا قارب النضج، فزاد في الحطب والإيقاد فلم يؤثر فيه شيئاً، ومكث يوماً كاملاً يفعل ذلك وهو لا يفيد، فقام شخص من الجند واخذ الرأس يقلبه فوجد على أذنه وسماً فقرأه، فإذا هو " بهرام جور " فلما وصلوا إلى دمشق أحضروا تلك الأذن عندي، فوجدت الوسم ظاهراً، وقد رق شعر الأذن إلى أن بقي كالهباء (2) وبقي موضع الوسم أسود، وهو بالقلم الكوفي. (342) وهذا بهرام جور من ملوك الفرس، وكان قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بزمان طويل، وكان من عاداته أنه إذا كثر عليه ما يصطاده وسمه وأطلقه، والله أعلم كم كان عمر ذلك الحمار لما وسمه، والله يعلم لو تركوه ولم يذبحوه كم كان يعيش. وعلى الجملة فإن حمار الوحش من الحيوانات المعمرة، وهذا الحمار لعله عاش ثمانمائة سنة أو أكثر. وهذه جرود في أرضها جبا المدخن المشهور، وقد ذكره أبو نواس في قصيدته التي ذكر فيها المنازل لما قصد الخصيب بمصر فقال (3) :   (1) سقط هذا الضبط من س، وكذلك قصة حمار الوحش وبهرام جور. (2) ر: مثل الهباء. (3) ديوان أبي نواس: 100. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 354 ووافين إشراقاً كنائس تدمرٍ ... وهن إل رعن المدخن صور والمدخن: بضم الميم وبالدال المهملة وفتح الخاء المعجمة المشددة وبعدها نون، وسمي المدخن لأنه لا يزال عليه مثل الدخان من الضباب. ثم بعد هذا وجدت في كتاب " مفاتيح العلوم " (1) تأليف محمد بن أحمد بن محمد بن يوسف الخوارزمي بن بهرام بن سابور الجنود بن سابور ذو الأكتاف، سمي بهرام حور لأنه كان مولعاً بصيد العير، وهو الحمار الوحشي والأهلي أيضاً، انتهى كلامه، ثم إني حسبت مدة ملكهم بعد هذا فكانت إلى سنة الهجرة النبوية مقدار مائتين وست عشرة سنة، فقد عاش هذا الحمار منذ وسمه بهرام جور إلى أن ذبح في سنة ستين وستمائة مقدار ثمانمائة وأكثر، والله أعلم (2) . قلت: وقد تكرر في هذه الترجمة حديث زياد وبنيه وسمية وأبي سفيان ومعاوية، وهذه الأشعار التي قالها يزيد بن مفرغ فيهم، ومن لا يعرف هذه الأسباب قد يتشوف إلى الاطلاع عليها، فنورد منها شيئاً مختصراً، فأقول: (343) إن أبا الجبر (3) الملك الذي ذكره أبو بكر ابن دريد في المقصورة المشهورة في البيت الذي يقوله فيها، وهو (4) : وخامرت نفس أبي الجبر الجوى ... حتى حواه الحتف فيمن قد حوى كان أحد ملوك اليمن واسمه كنيته، وقيل هو أبو الجبر يزيد بن شرحيبل الكندي، وقيل أبو الجبر بن عمرو، وتغلب عليه قومه فخرج إلى بلاد فارس يستجيش كسرى عليهم فبعث معهم جيشاً من الساورة، فلما صاروا إلى كاظمة ونظروا إلى وحشة بلاد العرب وقلة خيرها قالوا: إلى أين نمضي مع هذا   (1) مفاتيح العلوم: 65. (2) ثم بعد هذا وجدت ... أعلم: سقط من ر س. (3) أبا الخير في س. (4) انظر شرح التبريزي للمقصورة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 355 فعمدوا إلى سم فدفعوه إلى طباخه، ووعدوه بالإحسان إليه إن ألقى ذلك السم في طعام الملك ففعل ذلك، فما استقر الطعام في جوفه حتى اشتد وجعه، فلما علم الأساورة ذلك دخلوا عليه فقالوا له: إنك قد بلغت إلى هذه الحالة، فاكتب لنا إلى الملك كسرى أنك قد أذنت لنا في الرجوع، فكتب لهم بذلك. ثم إن أبا الجبر خف ما به، فخرج إلى الطائف، البليدة التي بالقرب من مكة، وكان بها الحارث بن كلدة طبيب العرب الثقفي، فعالجه فأبرأه، فأعطاه سمية - بضم السين المهملة وفتح الميم وتشديد الياء المثناة من تحتها وفي آخره هاء - وعبيداً - بضم العين المهملة تصغير عبد - وكان كسرى قد أعطاهما أبا الجبر في جملة ما أعطاه، ثم ارتحل أبو الجبر يريد اليمن، فانتفضت عليه العلة فمات في الطريق. (344) ثم إن الحارث بن كلدة الثقفي زوج عبيداً المذكور سمية المذكورة فولدت سمية زياداً على فراش عبيد، وكان يقال له زياد بن عبيد، وزياد بن سمية، وزياد بن أبيه، وزياد بن أمه، وذلك قبل أن يستلحقه معاوية - كما سيأتي إن شاء الله تعالى - وولدت سمية أيضاً أبا بكرة نفيع بن الحارث بن كلدة المذكور، ويقال نفيع بن مسروح، وهو الصحابي المشهور بكنيته رضي الله عنه، وولدت أيضاً شبل بن معبد ونافع بن الحارث، وهؤلاء الإخوة الأربعة هم الذين شهدوا على المغيرة بن شعبة بالزنا - وسيأتي خبر ذلك بعد الفراغ من حديث زياد إن شاء الله تعالى، وكان أبو سفيان صخر بن حرب الأموي والد معاوية بن أبي سفيان يتهم في الجاهلية بالترداد إلى سمية المذكورة، فولدت سمية زياداً في تلك المدة، لكنها ولدته على فراش زوجها عبيد. ثم إن زياداً كبر وظهرت منه النجابة والبلاغة، وهو أحد الخطباء المشهورين في العرب بالفصاحة والدهاء والعقل الكثير حتى إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان قد استعمل أبا موسى الأشعري رضي الله عنه على البصرة، فاستكتب زياد ابن أبيه. ثم إن زياداً قدم على عمر رضي الله عنه من عند أبي موسى، فأعجب به عمر رضي الله عنه، فأمر له بألف درهم، ثم تذكرها بعدما مضى فقال: لقد ضاع ألف أخذها زياد، فلما الجزء: 6 ¦ الصفحة: 356 قدم عليه بعد ذلك قال له: ما فعل ألفك يا زياد قال: اشتريت بها عبيداً فأعتقته، يعني أباه، قال: ما ضاع ألفك يا زياد، هل أنت حامل كتابي إلى أبي موسى في عزلك عن كتابته قال: نعم يا أمير المؤمنين، إن لم يكن ذلك عن سخطة، قال: ليس عن سخطة، قال: فلم تأمره بذلك قال: كرهت أن أحمل على الناس فضل عقلك. واستكتب أبو موسى بعد زياد أبا الحصين ابن أبي الحر العنبري، فكتب إلى عمر رضي الله عنه كتاباً فلحن في حرف منه، فكتب إليه أن قنع كاتبك سوطاً. وكان عمر رضي الله عنه إذا وفد إليه من البصرة رجل أحب أن يكون زياداً ليشفيه من الخبر. وكان عمر رضي الله عنه قد بعثه في إصلاح فساد وقع باليمن، فرجع من وجهه، وخطب خطبة لم يسمع الناس مثلها، فقال عمرو بن العاص: أما والله لو كان هذا الغلام من قريش لساق العرب بعصاه، فقال أبو سفيان: والله إني لأعرف الذي وضعه في رحم أمه، فقال له علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ومن هو يا أبا سفيان قال: أنا، قال: مهلاً أبا سفيان، فقال أبو سفيان: أما والله لولا خوف شخصٍ ... يراني يا علي من الأعادي لأظهر سره صخر بن حربٍ ... ولم يكن المقالة عن زياد وقد طالت مجاملتي ثقيفاً ... وتركي فيهم ثمر الفؤاد فلما صار الأمر إلى علي رضي الله عنه وجه زياداً إلى فارس، فضبط البلاد وحمى وجبى وأصلح الفساد، فكاتبه معاوية يروم إفساده على علي، رضي الله عنه، فلم يفعل ووجه بكتابه إلى علي وفيه شعر تركته، فكتب إليه علي: إنما وليتك ما وليتك وأنت أهل لذلك عندي، ولن تدرك ما تريده مما أنت فيه إلا بالصبر واليقين، وإنما كانت من أبي سفيان فلتة زمن عمر رضي الله عنه لا تستحق بها نسباً ولا ميراثاً، وإن معاوية يأتي المرء من بين يديه ومن خلفه فاحذره ثم احذره، والسلام. فلما قرأ زياد الكتاب قال: شهد لي أبو الحسن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 357 ورب الكعبة، فذلك الذي جرأ زياداً ومعاوية على ما صنعا (1) . فلما قتل علي رضي الله عنه، وتولى ولده الحسن رضي الله عنه، ثم فوض الأمر إلى معاوية كما هو مشهور، أراد معاوية استمالة زياد إليه وقصد تأليف قلبه ليكون معه كما كان مع علي، رضي الله عنه، فتعلق بذلك القول الذي صدر من أبيه بحضرة علي وعمرو بن العاص، فاستلحق زياداً في سنة أربع وأربعين للهجرة، فصار يقال له زياد بن أبي سفيان. فلما بلغ أخاه أبا بكرة أن معاوية استلحقه وأنه رضي ذلك حلف يميناً أن لا يكلمه أبداً، وقال: هذا زنى أمه وانتفى أبيه، والله ما علمت سمية رأت أبا سفيان قط، ويله ما يصنع بأم حبيبة بنت أبي سفيان زوج النبي صلى الله عليه وسلم، أيريد أن يراها، فإن حجبته فضحته وإن رآها فيا لها مصيبة، يهتك من رسول الله صلى الله عليه وسلم حرمةً عظيمة. وحج زياد في زمن معاوية ودخل المدينة، فأراد الدخول على أم حبيبة لأنها أخته على زعمه وزعم معاوية، ثم ذكر قول أخيه أبي بكرة، فانصرف عن ذلك. وقيل إن أم حبيبة حجبته ولم تأذن له في الدخول عليها، وقيل إنه حج ولم يزر من أجل قول أبي بكرة، وقال: جزى الله أبا بكرة خيراً، فما يدع النصيحة على حال (2) . وقدم زياد على معاوية وهو نائب عنه   (1) ر: فعلاٍ. (2) علق هنا صاحب المختار بقوله: " قلت، أعني كاتبها موسى بن أحمد لطف الله به: نقلت خط والدي رضي الله عنه ما صورته: وفد على معاوية بن أبي سفيان وفد من بني مخزوم وفيهم رجل أعمى معروف بين العرب، فوقفوا ببابه ينتظرون الإذن لهم في الدخول عليه، فجاء زياد ابن أبيه يوماً ليدخل إلى معاوية فسلم فارتج له الباب، فقال أعمى بني مخزوم: من الرجل فقيل له زياد بن أبي سفيان، فقال: كذب والله، إن أبا سفيان كان صديقي وأغشاه في كل وقت وأنا أعرف الناس به وببنيه وحاشاه من الزنا، فمضى زياد إلى معاوية فقال له صد عني أعمى بني مخزوم فقال معاوية ولم ذلك؛ قال: طعن في نسبي منك وأفسد في عقائد أهل الشام، فقال له معاوية: أعجزت عن قطع لسانه، فانصرف إلى منزله، وأرسل إلى أعمى بني مخزوم بألف دينار، فلما كان من الغد جاء ليدخل على معاوية، فسلم على من بالباب، وفيهم وفد بني مخزوم والأعمى فارتج له الباب، فقال الأعمى: من المسلم فقيل زياد، فبكى الأعمى، فقيل له مم بكاؤك فقال: قد علمتم ما كن بيني وبين أبي سفيان رحمه الله من المودة والألفة وكنت أعرف منه بحة في حلقه وقد سمعتها من نغمة ولده زياد، فذكرت عهده فبكيت. انتهى ما نقلته والله أعلم ". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 358 وحمل معه هدايا جليلة، من جملتها عقد نفيس، فأعجب به معاوية، فقال زياد: يا أمير المؤمنين، دوخت لك العراق، وجبيت لك برها وبحرها وحملت إليك لبها وسرها، وكان يزيد بن معاوية جالساً فقال له: أما إنك إذ فعلت فإنا نقلناك من ثقيف إلى قريش، ومن عبيد إلى أبي سفيان، ومن القلم إلى المنابر، فقال له معاوية: وريت بك زنادي. وقال أبو الحسن المدائني: أخبرنا أبو الزبير الكاتب عن ابن إسحاق قال: اشترى زياد أباه عبيداً، فقدم زياد على عمر رضي الله عنه، فقال له: ما صنعت بأول شيء أخذت من عطائك قال: اشتريت به أبي، قال: فأعجب ذلك عمر رضي الله عنه، وهذا ينافي استلحاق معاوية إياه، والله أعلم. ولما ادعى معاوية زياداً دخل عليه بنو أمية، وفيهم عبد الرحمن بن الحكم أخو مروان بن الحكم الأموي، فقال: يا معاوية، لو لم تجد إلا الزنج لاستكثرت بهم علينا قلةً وذلة، فأقبل معاوية على أخيه مروان بن الحكم وقال: أخرج عنا هذا الخليع، فقال مروان: والله إنه لخليع ما يطاق، قال معاوية: والله لولا حلمي وتجاوزي لعلمت أنه يطاق، ألم يبلغني شعره فيّ وفي زياد ثم قال لمروان: أسمعنيه، فقال: ألا أبلغ معاوية بن صخر ... لقد ضاقت بما تأتي اليدان أتغضب أن يقال أبوك عف ... وترضى أن يقال أبوك زان وقد تقدم ذكر بقية هذه الأبيات منسوبةً إلى يزيد بن مفرغ، وفيها خلاف هل هي ليزيد بن مفرغ أم لعبد الرحمن بن الحكم، فمن رواها لابن مفرغ روى البيت الأول على تلك الصورة، ومن رواها لعبد الرحمن بن الحكم رواها على هذه الصورة. ولما استلحق معاوية زياداً وقربه وأحسن إليه وولاه، صار من أكبر الأعوان على بني علي ابن أبي طالب، رضي الله عنه، حتى قيل إنه لما كان أمير العراقين طلب رجلاً من أصحاب الحسن بن علي رضي الله عنهما يعرف بابن سرح وكان في الأمان الذي كتب لأصحاب الحسن رضي الله عنه لما نزل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 359 عن الخلافة لمعاوية، فكتب الحسن إلى زياد: من الحسن إلى زياد، أما بعد، فقد علمت ما كنا أخذنا لأصحابنا من الأمان، وقد ذكر لي ابن سرح أنك عرضت له فأحب أن لا تعرض له إلا بخير، والسلام. فلما أتاه الكتاب وقد بدأ فيه بنفسه، ولم ينسبه إلى أبي سفيان غضب وكتب إليه: من زياد بن أبي سفيان إلى الحسن، أما بعد، فإنه أتاني كتابك في فاسق تؤويه الفساق من شيعتك وشيعة أبيك، وايم الله لأطلبنه ولو كان بين جلدك ولحمك، وإن أحب الناس إلي لحماً أن آكله للحم أنت منه. فلما قرأه الحسن رضي الله عنه بعث به إلى معاوية، فلما قرأه غضب وكتب إلى زياد: من معاوية بن أبي سفيان إلى زياد، أما بعد، فإن الحسن بن علي بعث إلي كتابك إليه، جواب كتابه إليك في ابن سرح، فأكثرت التعجب منه، وقد علمت أن لك رأيين: رأي من أبي سفيان، ورأي من سمية، فأما رأيك من أبي سفيان فحلم وحزم، وأما رأيك من سمية فكما يكون رأي مثلها، ومن ذلك كتابك إلى الحسن تسميه وتعرض له بالفسق، ولعمري لأنت أولى بذلك منه، فإن كان الحسن بدأ بنفسه ارتفاعاً عنك فإن ذلك لن يضعك، وأما تركك تشفيعه فيما شفع فيه إليك فحظ دفعته عن نفسك إلى من هو أولى به منك، فإذا أتاك كتابي فخل ما بيدك لابن سرح ولا تعرض له فيه، فقد كتبت إلى الحسن يخيره: إن شاء أقام عنده وإن شاء رجع إلى بلده، وإنه ليس لك عليه سبيل بيد ولا لسان. وأما كتابك إلى الحسن باسمه ولا تنسبه إلى أبيه، فإن الحسن ويحك ممن لا يرمى به الرجوان، أفاستصغرت أباه، وهو علي بن أبي طالب أم إلى أمه وكلته وهي فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذلك أفخر له إن كنت (1) عقلت، والسلام. قوله: لا يرمى به الرجوان، بفتح الراء والجيم، وهو لفظ مثنى، ومعناه المهالك. قلت: وقد رويت هذه الحكاية على صورة أخرى وهي (2) : كان سعيد   (1) ر: فالآن حين فخرت له لو. (2) كان المؤلف قد زاد هذه الرواية في ورقة منفصلة وكتب عندها " تكتب هذه الورقة بعد الملحق في الحاشية " ولكن النسخة س لم توردها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 360 ابن سرح مولى كريز بن حبيب بن عبد شمس من شيعة علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، فلما قدم زياد بن أبيه الكوفة والياً عليها أخافه وطلبه، فأتى المدينة ونزل على الحسين بن علي، رضي الله عنه، فقال له الحسين: ما السبب الذي أشخصك وأزعجك فذكر له قضيته وصنيع زياد به، فكتب إليه الحسين: أما بعد فإنك عمدت إلى رجل من المسلمين، له ما لهم وعليه ما عليهم، فهدمت داره وأخذت ماله وعياله، فإذا أتاك كتابي هذا فابن له داره واردد عليه ماله وعياله، فإني قد أجرته فشفعني فيه، فكتب إليه زياد: من زياد بن أبي سفيان إلى الحسين بن فاطمة، أما بعد، فقد أتاني كتابك تبدأ فيه باسمك قبل اسمي وأنت طالب حاجة، وأنا سلطان وأنت سوقة، وكتابك إلي في فاسق لا يؤويه إلا فاسق مثله، وشر من ذلك توليه أباك، وقد آويته إقامةً منك على سوء الرأي ورضىً بذلك، وايم الله لا تسبقني إليه ولو كان بين جلدك ولحمك، فإن أحب لحم إلي أن آكله للحم أنت منه، فأسلمه بجريرته إلى من هو أولى به منك، فإن عفوت عنه لم أكن في شفعتك، وإن قتلته لم أقتله إلا بحبه أباك. فلما قرأ الحسين، رضي الله عنه الكتاب كتب إلى معاوية يذكر له حال ابن سرح وكتابه إلى زياد فيه وإجابة زياد إياه، ولف كتابه في كتابه وبعث به إليه، وكتب الحسين إلى زياد: من الحسين بن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى زياد بن سمية عبد بني ثقيف " الولد للفراش وللعاهر الحجر ". فلما قرأ معاوية كتاب الحسين، رضي الله عنه، ضاقت به الشام، وكتب إلى زياد: أما بعد، فإن الحسين بن علي بعث إلي بكتابك جواب كتابه إليك في ابن سرح، فأكثرت التعجب، وعلمت أن لك رأيين: أحدهما من أبي سفيان، وآخر من سمية، فأما الذي من أبي سفيان فحلم وحزم، وأما الذي من سمية فكما يكون رأي مثلها، ومن ذلك كتابك إلى الحسين تشتم أباه وتعرض له بالفسق، ولعمري لأنت أولى بالفسق من الحسين، ولأبوك إذا كنت تنسب إلى عبيد أولى بالفسق من أبيه، وإن كان الحسن بدأ بنفسه ارتفاعاً عنك فإن ذلك لم يضعك، وأما تشفيعه فيما شفع إليك فيه فحظ دفعته عن نفسك إلى من هو أولى به منك، فإذا قدم عليك كتابي هذا فخل ما في يدك لسعيد بن سرح وابن له الجزء: 6 ¦ الصفحة: 361 داره ولا تعذر له واردد عليه ماله، فقد كتبت إلى الحسين أن يخبر صاحبه بذلك، فإن شاء أقام عنده وإن شاء رجع إلى بلده، فليس لك عليه سلطان بيد ولا لسان. وأما كتابك إلى الحسين باسمه واسم أمه، لا تنسبه إلى أبيه، فإن الحسين ويلك ممن لا يرمى به الرجوان (1) ، إلى أمه وكلته لا أم لك فهي فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلك أفخر له إن كنت تعقل، والسلام. وقال عبيد الله بن زياد: ما هجيت بشيء أشد علي من قول ابن مفرغ (2) : فكر ففي ذاك إن فكرت معتبر ... هل نلت مكرمةً إلا بتأمير عاشت سمية ما عاشت وما علمت ... أن ابنها من قريشٍ في الجماهير وقال قتادة، قال زياد لبنيه وقد احتضر: ليت أباكم كان راعياً في أدناها وأقصاها ولم يقع بالذي وقع به. قلت: فبهذا الطريق كان ينظم ابن مفرغ هذه الأشعار في زياد وبينه ويقول إنهم أدعياء، حتى قال في زياد وأبي بكرة ونافع أولاد سمية (3) : إن زياداً ونافعاً وأبا ... بكرة عندي من اعجب العجب هم رجال ثلاثة خلقوا ... في رحم أنثى وكلهم لأب ذا قرشي كما يقول، وذا ... مولى، وهذا بزعمه عربي (345) وهذه الأبيات تحتاج إلى زيادة إيضاح فأقول، قال أهل العلم بالأخبار: إن الحارث بن كلدة بن عمرو بن علاج بن أبي سلمة بن عبد العزى بن غيرة بن عوف بن قسي، وهو ثقيف - هكذا النسب ابن الكلبي في كتاب " الجمهرة " - وهو طبيب العرب المشهور، ومات في أول الإسلام، وليس يصح إسلامه؛ وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر سعد بن أبي وقاص   (1) بعده في المختار: أفاستصغرت أبا وهو علي بن أبي طالب أم إلى أمه ... الخ. (2) ديوان ابن مفرغ: 85. (3) قد سها جامع الديوان عن إدراج هذه ابيات فيه، وانظر الشعر والشعراء: 280. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 362 أن يأتي الحارث يستوصفه في مرض نزل به، فدل ذلك على أنه جائز أن يشاور أهل الكفر في الطب إذا كانوا من أهله. وكان ولده الحارث بن الحارث من المؤلفة قلوبهم، وهو معدود في جملة الصحابة، رضي الله عنهم؛ ويقال، الحارث بن كلدة كان رجلاً عقيماً لا يولد له، وإنه مات في خلافة عمر رضي الله عنه. (346) ولما حاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم الطائف، قال: أيما عبد تدلى إلي فهو حر، فنزل أبو بكرة رضي الله عنه من الحصن في بكرة. قلت: وهي بفتح الباء الموحدة وسكون الكاف وبعدها راء ثم هاء، وهي التي تكون على البئر، وفيها الحبل يستقى به، والناس يسمون بكرة، بفتح الكاف، وهو غلط، إلا أن صاحب كتاب " مختصر العين " حكاها بالفتح أيضاً، وهي لغة ضعيفة لم يحكها غيره؛ قال: فكناه رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكرة لذلك، وكان يقول: أنا مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأراد أخوه نافع أن يدلي نفسه في البكرة أيضاً، فقال له الحارث بن كلدة: أنت ابني فأقم، فأقام ونسب إلى الحارث، وكان أبو بكرة قبل أن يحسن إسلامه ينسب إلى الحارث أيضاً. فلما حسن إسلامه ترك الانتساب إليه. ولما هلك الحارث بن كلدة لم يقبض أبو بكرة من ميراثه شيئاً تورعاً، هذا عند من يقول: إن الحارث أسلم، وإلا فهو محروم من الميراث لاختلاف الدين (1) . فلهذا قال ابن مفرغ الأبيات الثلاثة البائية، لأن زياداً ادعى أنه قرشي باستلحاق معاوية له، وأبو بكرة اعترف بولاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونافع كان يقول إنه ابن الحارث بن كلدة الثقفي، وأمهم واحدة، وهي سمية المذكورة. وهذا سبب نظم البيتين في آل أبي بكرة - كما تقدم ذكره - وعلاج جد الحارث بن كلدة كما ذكرته.   (1) علق هنا صاحب المختار بقوله: " قلت، اعني كاتبها موسى بن أحمد لطف الله به، وهذا عند من يقول إنه مات متأخراص في خلافة عمر، ولا يصح على رواية من يقول إنه مات في أول الإسلام، فإن غزوة الطائف كانت متأخرة في أواخر مدة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله أعلم ". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 363 هذه قصة زياد وأولاده ذكرتها مختصرة. قلت: إلا أن قول ابن مفرغ في البيت الثاني " وكلهم لأب "، ليس بجيد، فإن زياداً ما نسبه أحد إلى الحارث بن كلدة، بل هو ولد عبيد، لأنه ولد على فراشه. وأما أبو بكرة ونافع فقد نسبا إلى الحارث، فكيف يقول: " وكلهم لأب " فتأمله. وذكر ابن النديم في كتابه الذي سماه " الفهرست " (1) : أن أول من ألف كتاباً في المثالب زياد ابن أبيه، فإنه لما طعن عليه وعلى نسبه عمل ذلك لولده، وقال لهم: استظهروا به على العرب فإنهم يكفون عنكم. وأما حديث المغيرة بن شعبة الثقفي والشهادة عليه، فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان قد رتب المغيرة أميراً على البصرة، وكان يخرج من دار الإمارة نصف النهار، وكان أبو بكرة المذكور يلقاه فيقول: أين يذهب الأمير فيقول: في حاجة، فيقول: إن الأمير يزار ولا يزور. قالوا: وكان يذهب إلى امرأة يقال لها أم جميل بنت عمرو، وزوجها الحجاج بن عتيك بن الحارث بن وهب الجشمي. وقال ابن الكلبي في كتاب " جمهرة النسب ": هي أم جميل بنت الأفقم بن محجن بن أبي عمرو بن شعيثة (2) بن الهزم، وعدادهم في الأنصار. وزاد غير اببن الكلبي فقال: الهزم بن رؤيبة بن عبد الله بن هلال بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن، والله أعلم. قال الراوي: فبينما أبو بكرة في غرفة مع إخوته، وهم نافع وزياد المذكوران وشبل بن معبد، والجميع أولاد سمية المذكورة فهم إخوة لأم، وكانت أم جميل المذكورة في غرفة أخرى قبالة هذه الغرفة، فضربت الريح باب غرفة أم جميل ففتحته، ونظر القوم فإذا هم بالمغيرة مع المرأة على هيئة الجماع، فقال أبو بكرة: هذه بلية قد ابتليتم بها فانظروا، فنظروا حتى أثبتوا، فنزل أبو بكرة فجلس حتى خرج عليه المغيرة من بيت المرأة فقال له: إنه قد كان أمرك ما قد علمت فاعتزلنا، قال: وذهب المغيرة ليصلي بالناس الظهر،   (1) الفهرست: 89. (2) ع ق س: شعبة، وأثبتنا ما في المسودة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 364 ومضى أبو بكرة فقال: لا والله لا تصلي بنا وقد فعلت ما فعلت، فقال الناس: دعوه فليصل فإنه الأمير، واكتبوا بذلك إلى عمر رضي الله عنه، فكتبوا إليه، فأمرهم أن يقدموا عليه جميعاً المغيرة والشهود، فلما قدموا عليه جلس عمر رضي الله عنه، فدعا بالشهود والمغيرة فتقدم أبو بكرة فقال له: رأيته بين فخذيها قال: نعم والله لكأني أنظر إلى تشريم جدري فخذيها، فقال له المغيرة: لقد ألطفت في النظر، فقال له أبو بكرة: لم آل أن أثبت ما يخزيك الله به، فقال عمر رضي الله عنه: لا والله حتى تشهد لقد رأيته يلج فيها ولوج المرود في المكحلة، فقال: نعم أشهد على ذلك، فقال: فاذهب عنك مغيرة ذهب ربعك، ثم دعا نافعاً فقال له: علام تشهد قال: على مثل شهادة أبي بكرة، قال: لا، حتى تشهد أنه ولج فيها ولوج الميل في المكحلة، قال: نعم حتى بلغ قذذه - قلت، القذذ بالقاف المضمومة وبعدها ذالان معجمتان وهي ريش السهم - قال الراوي: فقال له عمر رضي الله عنه: اذهب مغيرة ذهب نصفك، ثم دعا الثالث فقال له: على ما تشهد فقال: على مثل شهادة صاحبي، فقال له عمر رضي الله عنه: اذهب عنك مغيرة ذهب ثلاث أرباعك. ثم كتب إلى زياد، وكان غائباً فقدم، فلما رآه جلس له في المسجد واجتمع عنده رؤوس المهاجرين والأنصار، فلما رآه مقبلاً قال: إني أرى رجلاً لا يخزي الله على لسانه رجلاً من المهاجرين. ثم إن عمر رضي الله عنه رفع رأسه إليه فقال: ما عندك يا سلح الحبارى فقيل إن المغيرة قام إلى زياد فقال: لا مخبأ لعطر بعد عروس (1) - قلت: وهذا مثل للعرب لا حاجة إلى الكلام عليه، فقد طالت هذه الترجمة كثيراً، قال الراوي: فقال له المغيرة: يا زياد، اذكر الله تعالى واذكر موقف يوم القيامة، فإن الله تعالى وكتابه ورسوله وأمير المؤمنين قد حقنوا دمي، إلا أن تتجاوز إلى ما لم تر مما رأيت، فلا يحملنك سوء منظر رأيته على أن تتجاوز إلى ما لم تر، فوالله لو كنت بين بطني وبطنها ما رأيت أن (2) يسلك ذكري فيها، قال فدمعت عينا زياد واحمر وجهه وقال: يا أمير   (1) انظر في هذا المثل فصل المقال: 426 (ط. بيروت) . (2) س ق ع والمختار: أين؛ ر: أن سلك. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 365 المؤمنين أما إن أحق ما حق القوم فليس عندي، وكن رأيت مجلساً وسمعت نفساً حثيثاً وانتهازاً ورأيته مستبطنها، فقال عمر رضي الله عنه: رأيته يدخل كالميل في المكحلة فقال: لا، وقيل قال زياد: رأيته رافعاً رجليها فرأيت رجليها خصييه تتردد إلى بين فخذيها ورأيت حفزاً شديداً وسمعت نفساً عالياً (1) ، فقال عمر رضي الله عنه رأيت يدخله ويخرجه كالميل في المكحلة فقال: لا، فقال عمر رضي الله عنه: الله أكبر قم إليهم فاضربهم، فقام إلى أبي بكرة فضربه ثمانين وضرب الباقين، وأعجبه قول زياد، ودرأ الحد عن المغيرة. فقال أبو بكرة بعد أن ضرب: أشهد أن المغيرة فعل كذا وكذا، فهم عمر رضي الله عنه أن يضربه حداً ثانياً، فقال له علي بن أبي طالب رضي الله عنه: إن ضربته فارجم صاحبك، فتركه. واستتاب عمر أبا بكرة فقال: إنما تستتيبني لتقبل شهادتي، فقال: أجل، فقال: لا أشهد بين اثنين ما بقيت في الدنيا. فلما ضربوا الحد قال المغيرة: الله أكبر، الحمد لله الذي أخزاكم، فقال عمر رضي الله عنه: بل أخزى الله مكاناً رأوك فيه. وذكر عمر بن شبة في كتاب " أخبار البصرة " أن أبا بكرة لما جلد أمرت أمه بشاة فذبحت وجعلت جلدها على ظهره، فكان يقال ما ذاك إلا من ضرب شديد. وحكى عبد الرحمن بن أبي بكرة أن أباه حلف لا يكلم زياداً ما عاش، فلما مات أبو بكرة كان قد أوصى أن لا يصلي عليه زياد وان يصلي عليه أبو برزة الأسلمي، وكان النبي صلى الله عليه وسلم آخى بينهما، وبلغ ذلك زياداً فخرج إلى الكوفة. وحفظ المغيرة بن شعبة ذلك لزياد وشكره. ثم إن أم جميل وافقت عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالموسم، والمغيرة هناك فقال له عمر: أتعرف هذه المرأة يا مغيرة قال: نعم هذه أم كلثوم بنت علي، فقال له عمر: أتتجاهل علي والله ما أظن أبا بكرة كذب عليك، وما رأيتك إلا خفت أن أرمى بحجارة من السماء. قلت: ذكر الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في أول باب عدد الشهود في كتاب " المهذب ": وشهد على المغيرة ثلاثة: أبو بكرة ونافع وشبل بن معبد،   (1) زاد في المختار هنا قولاً سيجيء من بعد، على طريقته في جمع الأشباه في موضع واحد. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 366 وقال زياد: رأيت استاً تنبو ونفساً يعلو ورجلين كأنهما أذنا حمار، ولا أدري ما وراء ذلك، فجلد عمر الثلاثة ولم يحد المغيرة. قلت: وقد تكلم الفقهاء على قول علي رضي الله عنه لعمر رضي الله عنه إن ضربته فارجم صاحبك، فقال أبو نصر ابن الصباغ - المقدم ذكره (1) - وهو صاحب كتاب " الشامل " في المذهب: يريد أن هذا القول إن كان شهادة أخرى فقد تم العدد، وإن كان هو الأول فقد جلدته عليه، والله أعلم. وذكر عمر بن شبة في " أخبار البصرة " أن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقطعني البحرين، فقال: ومن يشهد لك بذلك قال: المغيرة بن شعبة، فأبى أن يجيز شهادته (2) . قلت وقد طالت هذه الترجمة، وسببه أنها اشتملت على عدة وقائع، فدعت الحاجة إلى الكلام على كل واحدة منها فانتشر القول لأجل ذلك، ما خلا عن فوائد. 822 - (3) يزيد بن الطثرية الشاعر المشهور أبو المكشوح يزيد بن سلمة بن سمرة بن سلمة الخير بن قشير بن كعب بن ربيعة بن عامر، المعروف بابن الطثرية، الشاعر المشهور؛ هكذا ساق نسبه أبو عمرو الشيباني، وإنما قيل لجده " سلمة الخير " لأنه كان لقشير ولد آخر يقال له سلمة الشر، قال: وقد قيل إنه يزيد بن المنتشر بن   (1) انظر ج 3: 217. (2) وذكر عمر ... شهادته: سقط من ر س. (3) ترجمته في ابن سلام: 586 والشعر والشعراء: 340 والأغاني 8: 157 والسمط: 103 ومعجم الأدباء 7: 299 وشرح التبريزي 3: 46 وأسماء المغتالين: 247. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 367 سلمة. وذكر ابن الكلبي أنه يزيد بن الصمة أحد بني سلمة الخير بن قشير. وذكر البصريون أنه من ولد الأعور بن قشير. ذكر أبو الحسن علي بن عبد الله الطوسي في أول ديوان يزيد بن الطثرية المذكور، وكان الطوسي قد اعتنى به وجمعه، فقال: كان ابن الطثرية شاعراً مطبوعاً عاقلاً فصيحاً كامل الأدب وافر المروءة لا يعاب ولا يطعن عليه، وكان سخياً شجاعاً له أصل ومحل في قومه من قشير، وكان من شعراء بني أمية مقدماً عندهم. وقال غير الطوسي: كان يزيد بن الطثرية يسمى مودقا، سمي بذلك لحسن وجهه وحسن شعره وحلاوة حديثه، فكانوا يقولون إنه إذا جلس بين النساء ودقهن - يقال استودقت المرأة وودقت إذا مالت إلى الفحل لأجل الجماع - والأصل في هذه اللفظة أن تكون لذوات الحافر، ثم نقلت إلى بني آدم، وهي بالدال المهملة والقاف، والمودق: هو الذي يجعل النساء يملن عليه - وكان يزيد كثيراً ما يجلس عند النساء ويتحدث معهن، ويقال إنه كان عنيناً لا يأتي النساء. وليس له عقب، وهو من أعيان الشعراء، ذكره أبو تمام الطائي في كتاب " الحماسة " (1) في عدة مواضع، فمن ذلك قوله في باب النسيب: عقيلية أما ملاث إزارها ... فدعص وأما خصرها فبتيل تقيظ أكناف الحمى ويظلها ... بنعمان من وادي الأراك مقيل أليس قليلاً نظرة إن نظرتها ... إليك وكل ليس منك قليل فيا خلة النفس التي ليس دونها ... لنا من أخلاء الصفاء خليل ويا من كتمنا حبه لم يطع به ... عدو ولم يؤمن عليه دخيل أما من مقام أشتكي غربة النوى ... وخوف العدا فيه إليك سبيل فديتك أعدائي كثير، وشقتي ... بعيد، وأشياعي لديك قليل فلا تحمل ذنبي وأنت ضعيفة ... فحمل دمي يوم الحساب ثقيل   (1) انظر شرح المرزوقي، رقم: 541، وقد ألحقت القصيدة التالية بديون ابن الدمينة: 186 وانظر تخريجها والقول في نسبتها ص 256. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 368 وكنت إذا ما جئت جئت بعلة ... فأفنيت علاتي فكيف أقول فما كل يوم لي بأرضك حاجة ... ولا كل يوم لي إليك رسول (1) وكان أبو الفرج الأصبهاني صاحب كتاب " الأغاني " قد جمع شعر يزيد بن الطثرية أيضاً في ديوان، وأورد له قوله (2) . ألا بأبي قد برى الجسم حبه ... ومن هو موموق (3) إلى حبيب ومن هو لا يزداد إلا تشوقاً ... وليس يرى عليه رقيب وإني وإن أحموا علي كلامها ... وحالت أعادٍ دوننا وحروب لمثنٍ على ليلى ثناءً يزينها ... قوافٍ بأفواه الرجال تطيب أليلى أحذري نقض القوى لا يزل لنا ... على النأي والهجران منك نصيب وكوني على الواشين لداء شغبةً ... كما أنا للواشي ألد شغوب فإن خفت ألا تحكمي مرة الهوى ... فردي فؤادي والمزار قريب وأورد له أيضاً (4) : بنفسي من لو مر برد بنانه ... على كبدي كانت شفاءً أنامله ومن هابني في كل شيء وهبته ... فلا هو يعطيني ولا أنا سائله أما أبو الحسن الطوسي فإنه أورد له: وإني لأستحيي من الله أن أرى ... رديفاً لوصل أو علي رديف وأن أرد الماء الموطا حنيه ... وأتبع وصلاً منك وهو ضعيف قلت: ورأيت في موضع آخر بعد البيت الأول:   (1) في هامش س: في الحماسة ليس مرتباً هكذا؛ بعده في الحماسة: صحائف عندي للعتاب طويتها ... ستنشر يوماً والعتاب يطول (2) الأغاني 8: 179. (3) ق والمختار: موقوف. (4) الأغاني 8: 164. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 369 وإني للماء المخالطه القذى ... وإن كثرت وراده لعيوف وأورد له الطوسي أيضاً: ألا رب راج حاجةً لا ينالها ... وآخر قد تقضى له وهو جالس يجول لها هذا وتقضى لغيره ... وتأتي الذي تقضى له وهو آيس وأورد له أيضاً من جملة أبيات: برغمي أطيل الصد عنها إذا نأت ... أحاذر أسماعاً عليها وأعينا أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى ... فصادف قلباً خالياً فتمكنا وأورد له أيضاً أبياتاً منها قوله: وقولا إذا عدت ذنوباً كثيرة ... علينا تجناها ذري ما تغيبا هبيني امرأ إما بريئاً ظلمته ... وإما مسيئاً تاب بعد وأعتبا فلما أبت لا تقبل العذر وارتمى ... بها كذب الواشين شأوا مغربا (1) تعزيت عنها بالسلو ولم أكن ... لمن ضن عني بالمودة أقربا وكنت كذي داء تبغى لدائه ... طبيباً فلما لم يجده تطببا وأورد له أبو عبد الله المرزباني في كتاب " معجم الشعراء " وهي في " الحماسة " أيضاً، وقد رويت أيضاً لعبد الله بن الدمينة الخثعمي، والله أعلم (2) : بنفسي وأهلي من إذا عرضوا له ... ببعض الأذى لم يدر كيف يجيب ولم يعتذر عذر البرئ ولم تزل ... به رعدة حتى يقال مريب وأورد له المرزباني في " المعجم " أيضاً: حننت إلى ريا ونفسك باعدت ... مزارك من ريا وشعباكما معا   (1) ر والمختار: شرقاً ومغرباً. (2) الحماسية رقم: 530 ولم ترد في معجم المرزباني المطبوع، وانظر ديوان ابن الدمينة: 113 (البيتين 87، 88) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 370 [فما حسن أن تأتي الأمر طائعا ... وتجزع أن داعى الصبابة أسمعا قفا ودعا نجداً ومن حل بالحمى ... وقل لنجد عندنا أن يودعا ولما رأيت البشر أعرض دوننا ... وجالت بنات الشوق يحنن نزعا بكت عيني اليمنى فلما زجرتها ... عن الجهل بعد الحلم أسبلتا معا تلفت نحو الحي حتى وجدتني ... وجعت من الإصغاء ليتا وأخدعا وأذكر أيام الحمى ثم أنثني ... على كبدي من خشية أن تقطعا وليست عشيات الحمى برواجع ... عليك ولكن خل عينيك تدمعا] (1) قلت: وهي أبيات في غاية الرقة واللطافة، وذكرها أبو تمام الطائي في كتاب " الحماسة " (2) في أول باب النسيب وقال إنها للصمة بن عبد الله القشيري، والله أعلم بالصواب في ذلك. وقال أبو عمر يوسف بن عبد البر - صاحب كتاب " الاستيعاب " في أخبار الصحابة رضي الله عنهم، وقد تقدم ذكره - في كتاب " بهجة المجالس " ما مثاله: للصمة بن عبد الله القشيري: أما وجلال الله لو تذكرينني ... كذكريك ما كفكفت للعين مدمعا فقالت بلى والله ذكراً لو أنه ... يصب على الصخر الأصم تصدعا ثم قال بعد ذلك: وأكثرهم ينسبون إليه في هذا الشعر: حننت إلى ريا ونفسك باعدت ... مزارك من ريا وشعباكما معا وذكر الأبيات بكمالها كما ذكرها في " الحماسة " وبعد الفراغ منها قال: ومنهم من ينسبها إلى قيس بن ذريح وإلى المجنون أيضاً، والأكثر أنها للصمة، والله أعلم.   (1) لم ترد هذه الأبيات في المسودة ونسخة س ق ع ولكنها ثابتة في المختار؛ وقد سقطت هي وما بعدها من ر حتى لفظة " معاً ". (2) الحماسية رقم: 454 ونسبها للصمة بن عبد الله. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 371 قلت: فقد وقع الاختلاف في أن هذه الأبيات العينية هل هي ليزيد بن الطثرية أم للصمة بن عبد الله القشيري أم لقيس بن ذريح أم للمجنون، والله أعلم. قلت: وذكره المرزباني أيضاً في كتاب " المونق " فقال: أنشدني أبو الخنبش لابن الطثرية: وحنت قلوصي بعد هذا صبابةً ... فيا روعةً ما راع قلبي حنينها فقلت لها صبراً فكل قرينة ... مفارقها، لا بد يوماً، قرينها وأورد له أيضاً: كيف العزاء وأنت أومق من مشى ... والنفس معولة ودارك نائيه بيديك قتلي إن أردت منيتي ... وشفاء نفسي إن أردت شفائيه ولقد عرفت فما أويت لمدنفٍ ... ما النفس عنك وإن نأيت بساليه وأورد له أيضاً: إذا نحن جئنا لم تجمل بزينة ... حذار العادي وهي بادٍ جمالها ولا نبتديها بالسلام ولم نقل ... لهم من توقي شرهم: كيف حالها وأورد له أشياء كثيرة غير هذا فنقتصر على هذا القدر. وقال (1) أبو بكر أحمد بن يحيى بن جابر البلاذري في كتاب " أنساب الأشراف " بعد ما ذكر مقتل الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان الأموي الحكمي ووقائع جرت في سنة ست وعشرين ومائة: فكان في أثناء ذلك وقعة قتل فيها المندلث بن إدريس الحنفي، وقتل معه يزيد بن الطثرية المذكور على قرية يقال لها الفلج - بفتح الفاء واللام وفي آخره - وأظنها من قرى اليمامة. ثم وجدت في كتاب أبي بكر الحازمي الذي صنفه في أسماء المواضع أن فلج بفتح الفاء واللام وآخره جيم قرية عظيمة لبني جعدة بها منبر يقال لها فلج الأفلاج   (1) ر: وذكر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 372 من ناحية اليمامة، وقال غيره: فلج بينها وبين هجر التي هي قصبة البحرين ستة أيام وبينها وبين مكة تسعة أيام، والله أعلم (1) . وذكر أبو إسحاق الزجاج في كتاب " معاني القرآن الكريم " في سورة الفرقان أن الرس قرية باليمامة يقال لها فلج، فتكون وهي هذه القرية على ما قال، وأما الذي جاء في قول الشاعر (2) : وإن الذي حانت بفلج دماؤهم ... هم القوم كل القوم يا أم خالد فإنه بفتح الفاء وسكون اللام، وهو واد بين البصرة وحمى ضرية، وضرية قرية على القرب من مكة شرفها الله تعالى. وأما فلجة الذي جاء في شعر بعض العرب: ألا حبذا أعلام فلجة بالضحى ... وخيم روابي جلهتيها المنصب يقولون ملح ماء قلجة آجن ... أجل هو مملوح إلى القلب طيب فهذا الاسم يقع على موضعين، أحدهما منزل بين مكة والبصرة، والثاني موضع بالعقيق، وكانت به الواقعة في السنة التي قتل فيها الوليد بن يزيد الأموي المذكور. رجعنا إلى ما كنا فيه: وكان قتل الوليد في جمادى الآخرة يوم الخميس لليلتين بقيتا منها من سنة ست وعشرين ومائة بالبخراء - بفتح الباء الموحدة وسكون الخاء المعجمة وبعد الراء ألف ممدودة (3) -. وذكر أبو الحسن الطوسي المذكور في هذه الواقعة أن الراية كانت مع يزيد بن الطثرية، فلما قتل المندلث وهر بأصحابه ثبت يزيد بن الطثرية بالراية، وكانت عليه جبة خز فتشبثت في عشرة - قلت:   (1) انظر المشترك: 334 في با " فلج ". (2) أورده البكري وياقوت (فلج) ونسباه للأشهب. (3) زاد في هامش المسودة بعدها: " وهي " ثم طمس النص. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 373 وهي بضم العين المهملة وفتح الشين وبعدها راء مفتوحة ثم هاء، وهي الشجرة لها صمغ من شجر العضاه - قال: فعثر فضربه بنو حنيفة حتى قتلوه. قلت: وذكر هذه الواقعة بعد قتل الوليد في التاريخ المذكور، فيكون قتل يزيد بن الطثرية بين تاريخ قتل الوليد بن يزيد وبين آخر سنة ست وعشرين ومائة والله أعلم. وذكر أبو الفرج الأصبهاني في أول الديوان الذي جمعه من شعر يزيد بن الطثرية أن بني حنيفة قتلته في خلافة بني العباس، والأول أصح. ولما قتل ابن الطثرية رثاه القحيف بن حمير بن سليم الندى بن عبد الله العقيلي بقوله: ألا تبكي سراة بني قشيرٍ ... على صنديدها وعلى فتاها أبا المكشوح بعدك من يحامي ... ومن يرجي المطي على وجاها ورثى القحيف أيضاً الوليد بن زياد. ورثاه أخوه ثور بن سلمة بقوله: أرى الأثل من بطن العقيق مجاوري ... مقيماً وقد غالت يزيد غوائله وهي من الشعر المختار. وذكر أبو تمام الطائي في " الحماسة " (1) أن هذه الأبيات لأخته زينب بنت الطثرية وقيل إنها لأمه، والله أعلم. وذكر الطوسي المذكور أن هذه الواقعة كانت بالعقيق، وقال ياقوت الحموي في كتاب " المشترك وضعاً " (2) : إن العقيق عشرة مواضع، قال الأصمعي: الأعقة الأودية التي تشقها السيول، ثم عد المواضع فقال: الثالث " عقيق عارض " بأرض اليمامة، وهو واد واسع مما يلي العرمة تندفق فيه شعاب العارض، وفيه عيون وقرى، ثم قال: والعقيق من قرى اليمامة لبني عقيل، وهو عقيق نمرة (3) في طريق اليمن من اليمامة.   (1) الحماسية رقم: 367. (2) المشترك: 314 وفيه أن الأعقة أحد عشر موضعاً. (3) معجم البلدان: تمرة، والاسم ند طمس في حاشية. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 374 قلت: فيحتمل أن يكون المراد بقوله " بطن العقيق " في هذا البيت العقيق الأول، ويحتمل العقيق الثاني، والله أعلم. وإنما كني ابن الطثرية بأبي المكشوح لأنه كان على كشحه كي نار، والكشح - بفتح الكاف وسكون الشين المعجمة وبعدها الحاء المهملة - وهي الخاصرية. والطثرية: بفتح الطاء المهملة وسكون الثاء المثلثة وبعدها راء ثم ياء النسب وهاء التأنيث، وهي أمه، ينسب يزيد المذكور إليها، وهي من بني طثر بن عنز بن وائل (1) ، والطثر: الخصب وكثرة اللبن يقال إن أمه ولدت في عام هذا وصفه، وقيل بل ولدته في عام هذا شأنه، ويقال إن أمه كانت مولعة بإخراج زبد اللبن، فسميت الطثرية، وطثرة اللبن زبدته، والله أعلم. قلت: وهذا الكلام في النفس منه شيء، فإنهم قالوا: إن أمه من بني طثر بن عنز بن وائل، فعلى هذا تكون أمه منسوبة إلى هذه القبيلة، في معنى حينئذ لقولهم: إن أمه ولدت في عام هذا وصفه، أو ولد هو في عام هذا شأنه، أو كانت أمه تخرج الزبد من اللبن، فتأمله، إلا أن يكون عندهم فيه خلاف: هل هو منسوب إلى القبيلة أم إلى هذا المعنى الثاني، والله أعلم بالصواب في ذلك (2) . ويروى لزينب بنت الطثرية أخت يزيد المذكور شيء كثير من الشعر، فمن ذلك قولها في المديح: أشم إذا ما جئت للعرف طالباً ... حباك بما تحنو عليه أنامله ولو لم يكن في كفه غير روحه ... لجاد بها فليتق الله سائله وينسب هذان البيتان إلى زياد الأعجم أيضاً، والبيت الثاني منهما يوجد في ديوان أبي تمام الطائي أيضاً في قصيدته التي أولها (3) : أجل أيها الربع الذي خف آهله ... لقد أدركت فيك النوى ما تحاوله والله أعلم بالصواب.   (1) كذا ذكر ابن قتيبة في الشعر والشعراء. (2) هنا تنتهي الترجمة في ر س ق ع. (3) ديوان أبي تمام 3: 21 والبيت المشار إليه هو رقم: 37 فيها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 375 823 - (1) الماجشون أبو يوسف يعقوب بن أبي سلمة دينار، وقيل ميمون، الملقب بالماجشون القرشي التيمي، من موالي آل المكندر من أهل المدينة، سمع ابن عمر رضي الله عنهما، وعمر بن عبد العزيز ومحمد بن المنكدر وعبد الرحمن بن هرمز الأعرج؛ روى عنه أباه: يوسف وعبد العزيز، وابن أخيه عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة. وقال يعقوب بن شيبة: الماجشون يعقوب بن أبي سلمة مولى آل الهدير (2) . وكان يعقوب مع عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه في ولاية عمر المدينة يحدثه ويأنس به، فلما استخلف عمر رضي الله عنه قدم عليه الماجشون فقال له عمر: إنا تركناك حيث تركنا لبس الخز، فانصرف عنه. وذكره محمد بن سعد في كتاب " الطبقات ". وقال يعقوب بن شيبة، قال مصعب: وكان الماجشون يعين ربيعة الرأي على أبي الزناد، لأن أبا الزناد كان معادياً لربيعة الرأي، فكان أبو الزناد يقول: مثلي ومثل الماجشون مثل ذئب كان يلح على أهل قرية فيأكل صبيانهم، فاجتمعوا له وخرجوا في طلبه، فهرب منهم فانقطعوا عنه، إلا صاحب فخار، فإنه ألح في طلبه، فوقف له الذئب فقال: هؤلاء أعذرهم، فأنت ما لي ولك ما كسرت لك فخارة قط، والماجشون ما كسرت له كبراً ولا بربطاً قط (3) . وقال ابن الماجشون: عرج بروح الماجشون، فوضعناه على سرير الغسل   (1) ترجمته في طبقات الشيرازي: 67 وتهذيب التهذيب 11: 388 ورجال ابن حبان: 80 وانظر ترجمة ابنه يوسف في طبقات ابن سعد 5: 415 (ويبدو أن ترجمة يعقوب في الطبقات مما ضاع من الكتاب) وتاريخ الإسلام للذهبي 5: 19 والتاج (مجش الماجشون) واللباب (الماجشون) . (2) آل الهدير هم أيضاً آل المنكدر. (3) يشير إلى أن الماجشون كان يعلم الغناء ويتخذ القيان. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 376 وقلنا للناس: نروح به، فدخل غاسل إليه يغسله، فرأى عرقاً يتحرك في أسفل قدمه فأقبل علينا وقال: أرى عرقاً يتحرك ولا أرى أن أعجل عليه، فاعتللنا على الناس بالمر الذي رأيناه، وفي الغد جاء الناس وغدا الغاسل عليه فرأى العرق على حاله، فاعتذرنا إلى الناس، فمكث ثلاثاً على حاله، ثم إنه استوى جالساً فقال: آتوني بسويق، فأتي به فشربه، فقلنا له: خبرنا ما رأيت، قال: نعم عرج بروحي، فصعد بي الملك حتى أتى سماء الدنيا فاستفتح ففتح له، ثم هكذا في السموات حتى انتهى بي إلى السماء السابعة، فقيل له: من معك قال: الماجشون، فقيل له: لم يأن له بعد، بقي من عمره كذا كذا سنة وكذا كذا شهراً وكذا كذا يوماً وكذا كذا ساعة، ثم هبط فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر على يمينه وعمر عن يساره وعمر بن عبد العزيز بين يديه، فقلت للملك الذي معي: من هذا قال: هذا عمر بن عبد العزيز، قلت: إنه لقريب المقعد من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنه عمل بالحق في زمن الجور، وإنهما عملا بالحق في زمن الحق، ذكر هذا يعقوب بن شيبة في ترجمة الماجشون. وذكر أبو الحسن محمد بن القواس الوراق أن يعقوب الماجشون مات سنة أربع وستين ومائة (1) ، رحمه الله تعالى؛ هذا كله نقلته من تاريخ الحافظ أبي القاسم المعروف بابن عساكر الذي جعله تاريخاً لدمشق. وذكر ابن قتيبة في كتاب " المعارف " في ترجمة محمد بن المنكدر (2) أن الماجشون من مواليه، واسمه يعقوب، وكان فقيهاً؛ ثم قال بعد ذلك: وكان للماجشون أخ يقال له عبد الله بن أبي سلمة. (347) وابنه عبد العزيز بن عبد الله يكنى أبا عبد الله، توفي ببغداد وصلى عليه المهدي، ودفنه في مقابر قريش، وذلك في سنة أربع وستين ومائة - قلت: وقد تقدم في هذا الكتاب ترجمة ولده عبد الملك بن عبد العزيز بن   (1) هذه هي سنة وفاة ابنه عبد العزيز كما سيرد بعد أسطر، وتعقب ابن حجر الحافظ ابن عساكر في هذا فقال: كذا قال وهو خطأ لم ينبه عليه أبو القاسم والصواب إن شاء الله تعالى في سنة أربع وعشرين ومائة. (2) المعارف: 461 - 462. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 377 عبد الله، وذكرت ما قاله العلماء في معنى الماجشون، فأغنى عن الإعادة هاهنا والله أعلم. قوله ما كسرت له كبراً ولا بربطاً، الكبر بفتح الكاف والباء الموحدة، وبعدها راء، وهو طبل ذو وجه واحد، والبربط: بفتح الباءين الموحدتين بينهما راء ساكنة، وفي آخره طاء مهملة، وهو نوع من العود الذي للغناء، وأصله بر، وهو الصدر بالفارسي، وبط، الطائر المعروف، فلما كان هذا الملهى يشبه صدر البط سمي به، واسمه بالعربي العود. والمزهر أيضاً: بكسر الميم وسكون الزاي وفتح الهاء وبعدها راء، وبالعجمي البربط كما ذكرناه. 824 - (1) القاضي أبو يوسف صاحب أبي حنيفة القاضي أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم بن حبيب بن خنيس بن سعد بن حبتة الأنصاري - وسعد بن حبتة أحد الصحابة رضي الله عنهم، وهو مشهور في الأنصار بأمه، وهي حبتة بنت مالك من بني عمرو بن عوف. وأما أبو سعد ابن حبتة: فهو عوف بن بحير بن معاوية بن سلمى بن بجيلة، حليف بني عمرو بن عوف الأنصاري، هكذا ساق نسب سعد بن حبتة في " الاستيعاب " (2) ؛ وأما الخطيب أبو بكر البغدادي فإنه قال في تاريخه (3) : هو سعد بن بجير بن معاوية بن قحافة بن بليل بن سدوس بن عبد مناف بن أبي   (1) ترجمته في الفهرست: 203 وأخبار القضاة 3: 254 وطبقات الشيرازي: 134 والجواهر المضية 2: 220 ومرآة الجنان 1: 382 والبداية والنهاية 10: 180 والنجوم الزاهرة 2: 107 وتذكرة الحفاظ: 292 والشذرات 1: 298 وعبر الذهبي 1:284 وبروكلمان 3: 245 (الترجمة العربية) . (2) الاستيعاب: 584. (3) تاريخ بغداد 14: 242 - 243. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 378 أسامة بن سحمة بن سعد بن عبد اله بن قداد (1) بن ثعلبة بن معاوية بن زيد بن الغوث (2) بن بجيلة. كان القاضي أبو يوسف المذكور من أهل الكوفة، وهو صاحب أبي حنيفة رضي الله عنه، كان فقيهاً عالماً حافظاً، سمع أبا إسحاق الشيباني وسليمان التيمي ويحيى بن سعيد الأنصاري والأعمش وهشام بن عروة وعطاء بن السائب ومحمد بن إسحاق بن يسار، وتلك الطبقة. وجالس محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ثم جالس أبا حنيفة النعمان بن ثابت، وكان الغالب عليه مذهب أبي حنيفة وخالفه في موضع كثيرة. روى عنه محمد بن الحسن الشيباني الحنفي وبشر بن الوليد الكندي وعلي بن الجعد وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين في آخرين. وكان قد سكن بغداد وتولى القضاء بها لثلاثة من الخلفاء: المهدي وابنه الهادي ثم هارون الرشيد، وكان الرشيد يكرمه ويجله، وكان عنده حظياً مكيناً، وهو أول من دعي بقاضي القضاة، ويقال إنه أول من غير لباس العلماء إلى هذه الهيئة التي هم عليها في هذا الزمان، وكان ملبوس الناس قبل ذلك شيئاً واحداً، لا يتميز أحد عن أحد بلباسه. ولم يختلف يحيى بن معين وأحمد بن حنبل وعلي بن المديني في ثقته في النقل. وذكر أبو عمر ابن عبد البر صاحب كتاب " الاستيعاب " في كتابه الذي سماه كتاب " الانتقاء في فضائل الثلاثة الفقهاء " (3) أن أبا يوسف المذكور كان حافظاً وأنه كان يحضر المحدث ويحفظ خمسين ستين حديثاً، ثم يقوم فيمليها على الناس، وكان كثير الحديث. وقال محمد بن جرير الطبري: وتحامى حديثه قوم من أهل الحديث من أجل غلبة الرأي عليه وتفريعه الفروع والأحكام، مع صحبة السلطان وتقلده القضاء. وحكى أبو بكر الخطيب البغدادي في " تاريخ بغداد " (4) أن أبا يوسف قال:   (1) تاريخ بغداد: قدار. (2) تاريخ بغداد: العوذ. (3) الانتقاء: 172. (4) تاريخ بغداد 14: 244. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 379 كنت أطلب الحديث والفقه وأنا مقل رث الحال، فجاء أبي يوماً وأنا عند أبي حنيفة، فانصرفت معه، فقال: يا بني، لا تمد رجلك مع أبي حنيفة، فإن أبا حنيفة خبزه مشوي، وأنت تحتاج إلى المعاش، فقصرت عن كثير من الطلب وآثرت طاعة أبي، فتفقدني أبو حنيفة وسأل عني، فجعلت أتعاهد مجلسه، فلما كان أول يوم أتيته بعد تأخري عنه قال لي: ما شغلك عنا قلت: الشغل بالمعاش وطاعة والدي، فجلست، فلما انصرف الناس دفع إلي صرة وقال: استمتع بها، فنظرت فغذا فيها مائة درهم، فقال لي: الزم الحلقة وإذا فرغت هذه فأعلمني، فلزمت الحلقة، فلما مضت مدة يسيرة دفع إلي مائة أخرى، ثم كان يتعاهدني، وما أعلمته بخلة قط ولا أخبرته بنفاد شيء، وكأنه كان يخبر بنفادها، حتى استغنيت وتمولت. ثم قال الخطيب (1) : وحكي أن والد أبي يوسف مات وخلف أبا يوسف طفلاً صغيراً، وأن أمه هي التي أنكرت عليه حضور حلقة أبي حنيفة، ثم روى الخطيب أيضاً بإسناد متصل إلى علي بن الجعد قال: أخبرني أبو يوسف القاضي قال: توفي أبي وخلفني صغيراً في حجر أمي، فأسلمتني إلى قصار أخدمه، فكنت أدع القصار وأمر إلى حلقة حلقة أبي حنيفة فأجلس أستمع، فكانت أمي تجيء خلفي فتأخذ بيدي فتذهب [بي] إلى القصار، وكان أبو حنيفة يعنى بي، لما يرى من حضوري وحرصي على التعلم، فلما كثر ذلك على أمي وكطال عليها هربي قالت لأبي حنيفة: ما لهذا الصبي فساد غيرك، هذا صبي يتيم لا شيء له وإنما أطعمه من مغزلي، وآمل أن يكسب دانقاً يعود به على نفسه، فقال لها أبو حنيفة: مري يا رعناء، ها هو ذا يتعلم أكل الفالوذج بدهن الفستق، فانصرفت عنه وقالت له: أنت شيخ قد خرفت وذهب عقلك. ثم لزمته فنفعني الله تعالى بالعلم، ورفعني حتى تقلدت القضاء، وكنت أجالس الرشيد وآكل معه على مائدته، فلما كان في بعض الأيام قدم إلى هارون فالوذجة، فقال لي: يا يعقوب كل منها فليس في كل يوم يعمل لنا مثلها، فقلت: وما هذه يا أمير المؤمنين فقال: هذه فالوذجة بدهن الفستق،   (1) المصدر نفسه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 380 فضحكت، فقال لي: مم ضحكك (1) ! فقلت: خيراً، أبقى الله أمير المؤمنين، قال: لتخبرني، وألح علي، فأخبرته بالقصة من أولها إلى آخرها، فعجب من ذلك وقال: لعمري إن العلم لينفع دنيا وديناً، وترحم على أبي حنيفة وقال: كان ينظر بعين عقله ما لا يراه بعين رأسه. وحكى علي بن المحسن التنوخي عن أبي عن جده قال: كان سبب اتصال أبي يوسف بالرشيد أنه كان قدم بغداد بعد موت أبي حنيفة رحمه الله تعالى فحنث بعض القواد في يمين، فطلب فقيهاً يستفتيه، فجيء بأبي يوسف فأفتاه أنه لم يحنث، فوهب له دنانير وأخذ له داراً بالقرب منه. ودخل القائد يوماً على الرشيد فوجده مغموماً، فسأله عن سبب غمه فقال: شيء من أمر الدين قد حزنني فاطلب فقيهاً كي أستفتيه، فجاءه بأبي يوسف. قال أبو يوسف: فلما دخلت إلى ممر بين الدور رأيت فتى حسناً عليه أثر الملك، وهو في حجرة محبوس، فأومأ إلي بأصبعه مستغيثاً فلم أفهم منه إرادته، وأدخلت إلى الرشيد، فلما مثلت بين يديه سلمت ووقفت فقال لي: ما اسمك فقلت: يعقوب أصلح الله أمير المؤمنين، قال: ما تقول في إمام شاهد رجلاً يزني هل يحده قلت: لا، فحين قلتها سجد الرشيد، فوقع لي أنه قد رأى بعض أهله على ذلك وأن الذي أشار إلي بالاستغاثة هو الزاني. ثم قال الرشيد: من أين قلت هذا قلت: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ادرأوا نهالحدود بالشبهات " وهذه شبهة يسقط الحد معها، قال: وأي شبهة في المعاينة قلت: ليس توجب المعاينة لذلك أكثر من العلم بما جرى، والحدود لا تكون إلا بالعلم، وليس لأحد أخذ حقه بعلمه، فسجد مرة أخرى، وأمر لي بمال جزيل وأن ألزم الدار، فما خرجت حتى جاءتني هدية الفتى وهدية أمه وجماعته، وصار ذلك أصلاً للنعمة، ولزمت الدار، فكان هذا الخادم يستفتيني وهذا يشاورني، ولم يزل حالي يقوى عند الرشيد حتى قلدني القضاء. قلت: وهذا يخالف ما نقلته قبل هذا من أنه ولي القضاء لثلاثة من الخلفاء، والله أعلم بالصواب.   (1) تاريخ بغداد: مم ضحكت. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 381 وقال طلحة بن محمد بن جعفر: أبو يوسف مشهور الأمر ظاهر الفضل، وهو صاحب أبي حنيفة، وأفقه أهل عصره، ولم يتقدمه أحد في زمانه، وكان النهاية في العلم والحكم والرياسة والقدر، وأول من وضع الكتب في أصول الفقه على مذهب أبي حنيفة، وأملى المسائل ونشرها، وبث على أبي حنيفة في أقطار الأرض. وقال عمار بن أبي مالك: ما كان في أصحاب أبي حنيفة مثل أبي يوسف، لولا أبو يوسف ما ذكر أبو حنيفة ولا محمد بن أبي ليلى، ولكنه هو نشر قولهما وبث علمهما. وقال محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة (1) : مرض أبو يوسف في زمن أبي حنيفة مرضاً خيف عليه منه، فعاده أبو حنيفة ونحن معه، فلما خرج من عنده وضع يده على عتبة بابه وقال: إن يمت هذا الفتى فإنه أعلم من عليها، وأومأ إلى الأرض. وقال أبو يوسف: سألني الأعمش عن مسألة، فأجبته فيها فقال لي: من أين لك هذا فقللت: من حديثك (2) الذي حدثتنا أنت، ثم ذكرت له الحديث، فقال لي: يا يعقوب إني لأحفظ هذا الحديث قبل أن يجتمع أبواك وما عرفت تأويله حتى الآن. وقال هلال بن يحيى: كان أبو يوسف يحفظ التفسير والمغازي وأيام العرب، وكان أقل علومه الفقه، ولم يكن في أصحاب أبي حنيفة مثل أبي يوسف (3) . وذكر أبو الفرج المعافى بن زكريا النهرواني في كتاب " الجليس والأنيس " عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال: مضى أبو يوسف ليسمع المغازي من محمد بن إسحاق أو من غيره، وأخل بمجلس أبي حنيفة أياماً، فلما أتاه قال له أبو حنيفة: يا أبا يوسف، من كان صاحب راية جالوت فقال له أبو يوسف: إنك إمام وإن لم تمسك عن هذا سألتك والله على رؤوس الملأ أيما   (1) تاريخ بغداد 14: 246. (2) تاريخ بغداد: لحديثك. (3) ولم يكن ... يوسف: لم ترد هذه الجملة ضمن ما قاله هلال بن يحيى في تاريخ الخطيب. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 382 كان أولاً وقعة بدر أو أحد فإنك لا تدري أيهما كان قبل الآخر، فأمسك عنه. وذكر في الكتاب المذكور أيضاً عن علي بن الجعد أن القاضي أبا يوسف كتب يوماً كتاباً، وعن يمينه إنسان يلاحظ ما يكتبه، ففطن له أبو يوسف، فلما فرغ من الكتابة التفت إليه وقال له: هل وقفت على شيء من خطأ فقال: لا والله ولا حرف واحد، فقال له أبو يوسف: جزيت خيراً حيث كفيتنا مؤونة قراءته، ثم أنشد: كأنه من سوء تأديبه ... أسلم في كتاب سوء الأدب وقال حماد بن أبي حنيفة (1) : رأيت أبا حنيفة يوماً وعن يمينه أبو يوسف وعن يساره زفر، وهما يتجادلان في مسألة، فلا يقول أبو يوسف قولاً إلا أفسده زفر، ولا يقول زفر قولاً إلا أفسده أبو يوسف، إلى وقت الظهر، فلما أذن المؤذن رفع أبو حنيفة يده فضرب بها فخذ زفر، وقال: لا تطمع في رياسة ببلدة فيها أبو يوسف، وقضى لأبي يوسف على زفر، ولم يكن بعد أبي يوسف في أصحاب أبي حنيفة مثل زفر. وقال طاهر بن أحمد الزبيري (2) : كان يجلس إلى أبي يوسف رجل فيطيل الصمت، فقال له أبو يوسف: ألا تتكلم، فقال: بلى، متى يفطر الصائم فقال: إذا غابت الشمس، فقال: فإن لم تغب إلى نصف الليل، فضحك أبو يوسف وقال: أصبت في صميك وأخطأت أنا في استدعاء نطقك، ثم تمثل: عجبت إزراء الغبي بنفسه ... وصمت الذي قد كان بالقول أعلما وفي الصمت ستر للغبي وإنما ... صحيفة لب المرء أن يتكلما ومن كلام أبي يوسف (3) : صحبة من لا يخشى العار عار يوم القيامة. وكان يقول: رؤوس النعم ثلاثة: فأولها نعمة الإسلام التي لا تتم نعمة إلا بها،   (1) تاريخ بغداد: 247. (2) المصدر السابق: 248. (3) متابع للنقل عن المصدر السابق. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 383 والثانية: نعمة العافية التي لا تطيب الحياة إلا بها، والثالثة نعمة الغنى التي لا يتم العيش إلا بها. وقال علي بن الجعد: سمعت أبا يوسف يقول: العلم شيء لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كذلك، وأنت إذا أعطيته كذلك من إعطائه البعض كنت على غرر. وكان أبو يوسف (1) راكباً وغلامه يعدو وراءه، فقال له رجل: أتستحل أن تعدي غلامك وراءك لم لا تركبه فقال له: أيجوز عندك أن أسلم غلامي مكارباً قال: نعم، قال أبو يوسف: فيعدو معي كما كان يعدو لو كان مكارباً. وقال يحيى بن عبد الصمد (2) : خوصم أمير المؤمنين الهادي إلى القاضي أبي يوسف في بستانه (3) ، وكان الحكم في الظاهر للهادي وفي الباطن خلاف ذلك، فقال الهادي للقاضي أبي يوسف: ما صنعت في الأمر الذي نتنازع إليك فيه فقال: خصم أمير المؤمنين يسألني أن أحلف أمير المؤمنين أن شهوده شهدوا على حق، فقال له الهادي: وترى ذلك قال: فقد كان ابن أبي ليلى يراه، فقال: اردد البستان عليه، وإنما احتال عليه أبو يوسف لعلمه أن الهادي لا يحلف (4) . وقال بشر بن الوليد الكندي، قال لي القاضي أبو يوسف (5) : بينا أنا البارحة قد أويت إلى فراشي فإذا داق يدق الباب دقاً شديداً، فأخذت علي إزاري وخرجت، فإذا هرثمة بن أعين، فسلمت عليه، فقال: أجب أمير المؤمنين، فقلت: يا أبا حاتم، لي بك رحمة، وهذا وقت كما ترى، ولست آمن أن يكون أمير المؤمنين قد دعاني لأمر من الأمور، فإن أمكنك أن تدفع بذلك إلى غد فلعله أن يحدث له رأي، فقال: ما لي إلى ذلك سبيل، قلت: كيف كان السبب   (1) تاريخ بغداد: 249. (2) المصدر نفسه. (3) ر والمختار: بستان. (4) علق ابن المؤلف هنا بقوله: " قلت، أعني كاتبها موسى بن أحمد لطف الله به؛ وهذا يقوي نقل من روى أنه تولى القضاء لثلاثة من الخلفاء منهم اهادي، كما تقدم ذكره، والله أعلم ". (5) تاريخ بغداد: 250. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 384 قال: خرج إلي مسرور فامرني أن آتي بك أمير المؤمنين، فقلت: تأذن لي أن أصب علي ماء وأتحنط فإن كان أمر من الأمور كنت قد أحكمت شأني وإن رزق (1) الله العافية فلن يضرني، فأذن لي، فدخلت فلبست ثياباً جدداً، وتطيبت بما أمكن من الطيب، ثم خرجنا فمضينا حتى أتينا دار أمير المؤمنين هارون الرشيد فإذا مسرور واقف، فقال له هرثمة: قد جئت به، فقلت لمسرور: يا أبا هاشم خدمتي وحرمتي وميلي، وهذا وقت ضيق، فتدري لم طلبني أمير المؤمنين قال: لا، فقلت: فمن عنده قال: عيسى بن جعفر، قلت: ومن قال: ما عندهما ثالث، ثم قال لي: مر، فإذا صرت في الصحن فإنه في الرواق، وهو ذاك جالس فحرك رجلك بالأرض، فإنه سيسألك فقل: أنا. قال أبو يوسف: فجئت ففعلت ذلك فقال: من هذا، فقلت: يعقوب، فقال: ادخل، فدخلت فإذا هو جال وعن يمينه عيسى بن جعفر، فسلمت فرد السلام علي وقال: أظننا روعناك فقلت: إي والله وكذلك من خلفي، فقال: اجلس، فجلست حتى سكن روعي، ثم التفت إلي وقال: يا يعقوب، تدري لم دعوتك قلت: لا، قال: دعوتك لأشهدك على هذا إن عنده جارية سألته أن يهبها لي فامتنع، وسألته أن يبيعها فأبى، والله لئن لم يفعل لأقتلنه، قال أبو يوسف: فالتفت إلى عيسى فقلت له: وما بلغ الله بجارية تمنعها أمير المؤمنين وتنزل نفسك هذه المنزلة قال فقال لي: عجلت علي في القول قبل أن تعرف ما عندي، قلت: وما في هذا من الجواب قال: إن علي يميناً بالطلاق والعتاق وصدقة ما أملك أن لا أبيع في هذه الجارية ولا أهبها، فالتفت إلي الرشيد فقال: هل له في ذلك من مخرج (2) قلت: نعم، قال: وما هو قلت: يهب لك نصفها ويبيعك نصفها، فيكون لم يهب ولم يبع، فقال عيسى: ويجوز ذلك قلت: نعم، قال: فأشهدك أني قد وهبت له نصفها وبعته نصفها الباقي بمائة ألف دينار، فقال له الرشيد: قبلت الهبة واشتريت نصفها بمائة ألف دينار، ثم طلب منه الجارية (3) ، فأتى بالجارية وبالمال، فقال: خذها يا أمير المؤمنين بارك الله لك فيها، فقال الرشيد: يا يعقوب   (1) ر: وإن يكن رزق. (2) المختار: فرج. (3) فقال له الرشيد ... الجارية، سقط من المسودة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 385 بقيت واحدة، فقلت: وما هي فقال: هي مملوكة ولا بد أن تستبرأ، ووالله لئن لم أبت معها ليلتي هذه إني لأظن أن نفسي ستخرج، فقلت: يا أمير المؤمنين تعتقها وتتزوجها، فإن الحرة لا تستبرأ، قال: فإني قد أعتقتها فمن يزوجنيها فقلت: أنا. فدعا بمسرور وحسين، فخطبت وحمدت الله تعالى ثم زوجته إياها على عشرين ألف دينار، ودعا بالمال فدفعه إليها، ثم قال لي: يا يعقوب انصرف، ورفع رأسه إلى مسرور فقال: يا مسرور، فقال: لبيك، فقال: احمل إلى يعقوب مائتي ألف درهم وعشرين تختاً ثياباً، فحمل ذلك معي. قال بشر بن الوليد: فالتفت إلي أبو يوسف وقال: هل رأيت بأساً فيما فعلت فقلت: لا، فقال: خذ حقك منها، قلت: وما حقي فقال: العشر، قال بشر: فشكرته ودعوت له وذهبت لأقوم، فإذا بعجوز قد دخلت فقالت: يا أبا يوسف إن بنتك تقرئك السلام وتقول لك: والله ما وصل إلي في ليلتي هذه من أمير المؤمنين إلا المهر الذي قد عرفته، وقد حملت إليك النصف منه وخلفت الباق لما أحتاج إليه، فقال: رديه فوالله لا قبلتها؛ أخرجتها من الرق وزوجتها أمير المؤمنين وترضى لي بهذا! قال بشر: فلم نزل نطلب إليه أنا وعمومتي حتى قبلها، وأمر لي منها بألف دينار. وقال أبو عبد الله اليوسفي (1) : إن أم جعفر زبيدة ابنة جعفر زوجة الرشيد كتبت إلى أبي يوسف: ما ترى في كذا، وأحب الأشياء إلي أن يكون الحق فيع كذا، فأفتاها بما أحبت، فبعثت إليه بحق فضة فيه حقاق فضة مطبقات، في كل واحد لون من الطيب، وفي جام دراهم وسطها جام فيه دنانير، فقال له جليس له: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أهديت له هدية فجلساؤه شركاؤه فيها، فقال أبو يوسف: ذاك حين كانت الهدايا اللبن والتمر. وقال يحيى بن معين (2) : كنت عند أبي يوسف القاضي وعنده جماعة من أصحاب الحديث وغيرهم، فوافته هدية أم جعفر احتوت على تخوت دبيقي ومصمتٍ وشرب وطيب وتماثيل ند وغير ذلك، فذاكرني رجل بحديث   (1) تاريخ بغداد: 252. (2) المصدر نفسه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 386 رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أتته هدية وعنده قوم جلوس فهم شركاؤه فيها، فسمعه أبو يوسف فقال: أبي تعرّض ذاك إنما قاله النبي صلى الله عليه وسلم والهدايا يومئذ القط والتمر والزبيب، ولم تكن الهدايا ما ترون، يا غلام أشل إلى الخزاين. ونقلت من كتاب اسمه " اللفيف " ولم يذكر فيه من هو منصفه قال: كان عبد الرحمن بن مسهر أخو علي بن مسهر قاضياً على المبارك - قلت: وهي بضم الميم وبعدها باء موحدة وبعد الألف راء مفتوحة وبعدها كاف، وهي بليدة بين بغداد وواسط على شاطئ دجلة - قال: فبلغ القاضي خروج الرشيد إلى البصرة ومعه أبو يوسف القاضي في الحراقة، فقال عبد الرحمن القاضي لأهل ذلك، فلبس ثيابه وقلنسوة طويلة وطيلساناً أسود، وجاء إلى الشريعة، فلما صدق، ثم مضى إلى شريعة أخرى فقال مثل مقالته الأولى، فالتفت هارون إلى أبي يوسف وقال: يا يعقوب هذا شر قاض في الأرض، قاض في موضع لا يثني عليه إلا رجل واحد! فقال له أبو يوسف: وأعجب من هذا يا أمير المؤمنين هو القاضي يثني على نفسه، قال: فضحك هارون وقال: هذا أظرف الناس، هذا لا يعزل أبداً، وكان الرشيد إذا ذكره يقول: هذا لا يعزل أبداً. وقيل لأبي يوسف: أتولي مثل هذا القضاء فقال: إنه أقام ببابي مدة وشكا إلي الحاجة فوليته. وقال أبو العباس أحمد بن يحيى المعروف بثعلب، صاحب كتاب " الفصاحة ": أخبرني بعض أصحابنا قال، قال الرشيد لأبي يوسف: بلغني أنك تقول: إن هؤلاء الذين يشهدون عندك وتقبل أقوالهم متصنعة، فقال: نعم يا أمير المؤمنين، قال: وكيف ذاك قال: لأن من صح ستره وخلصت أمانته لم يعرفنا ولم نعرفه، ومن ظهر أمره وانكشف خبره لم يأتنا ولم نقبله، وبقيت هذه الطبقة وهم هؤلاء المتصنعة الذين أظهروا الستر وأبطنوا غيره، فتبسم الرشيد وقال: صدقت. وقال محمد بن سماعة: سمعت أبا يوسف في اليوم الذي مات فيه يقول: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 387 اللهم إنك تعلم أني لم أجر في حكم حكمت فيه بين اثنين من عبادك تعمداً، ولقد اجتهدت في الحكم بما وافق كتابك وسنة نبيك صلى الله عليه وسلم، وكل ما أشكل علي جعلت أبا حنيفة بيني وبينك، وكان عندي والله ممن يعرف أمرك ولا يخرج عن الحق وهو يعلمه. قلت: وهذا الكلام مأخوذ من قول أبي محمد عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقد رؤي يمسح على خفيه، فقيل له: تمسح قال: نعم، قد مسح عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ومن جعل عمر بينه وبين الله فقد استوثق، ذكر هذا ابن قيبة في كتاب " المعارف " في ترجمة علي رضي الله عنه (1) . وأخبار أبي يوسف كثيرة، وأكثر الناس من العلماء على تفضيله وتعظيمه. وقد نقل الخطيب البغدادي في تاريخه الكبير ألفاظاً عن عبد الله بن المبارك ووكيع بن الجراح ويزيد بن هارون ومحمد بن إسماعيل البخاري وأبي الحسن الدارقطني وغيرهم، ينبو السمع عنها، فتركت ذكرها، والله أعلم بحاله. وكانت ولادة القاضي أبي يوسف سنة ثلاث عشرة ومائة. وتوفي يوم الخميس أو لوقت الظهر لخمس خلون من شهر ربيع الأول سنة اثنتين وثمانين ومائة ببغداد. وقيل إنه توفي سنة اثنتين وسبعين ومائة، والأول أصح. وولي القضاء سنة ست وستين ومائة، ومات وهو على القضاء، رحمه الله تعالى. (348) وأما ولده يوسف (2) ، فإنه كان قد نظر في الرأي وفقه وسمع الحديث من يونس بن أبي إسحاق السبيعي والسري بن يحيى وغيرهما. وولي القضاء بالجانب الغربي من بغداد في حياة أبيه، وصلى بالناس الجمعة في مدينة المنصور بأمر هارون الرشيد، ولم يزل على القضاء إلى أن مات في رجب سنة اثنتين وتسعين ومائة ببغداد. وذكر الخطيب أن أبا يوسف القاضي لما مات ولى الرشيد مكانه   (1) قلت وهذا الكلام ... عنه: سقط من ر س وهو ثابت في المسودة والمختار ونسختي ق ع. (2) انظر ترجمة يوسف في تاريخ بغداد 14: 296. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 388 أبا البختري وهب بن وهب القرشي، قلت: وقد تقدم ذكره في حرف الواو (1) . وكان أبو يعقوب الخريمي الشاعر المشهور صديقاً لأبي يوسف ولابنه يوسف، فلما توفي أبو يوسف سمع الخريمي رجلاً يقول: اليوم مات الفقه، فانشد الخريمي (2) : يا ناعي الفقه إلى أهله ... أن مات يعقوب ولا يدري لم يمت الفقه ولكنه ... حول من صدر إلى صدر ألقاه يعقوب إلى يوسفٍ ... فزال من طيبٍ إلى طهر فهو مقيم فإذا ما ثوى ... حل وحل الفقه في قبر رحمهما الله تعالى. وخنيس: بضم الخاء المعجمة، تصغير أخنس، وهو الذي تأخر أنفه عن وجهه مع ارتفاع قليل في الأرنبة، فالرجل أخنس والمرأة خنساء، وهذا التصغير يسمى تصغير ترخيم، وحقيقته أن تحذف منه الحروف الزوائد، ويصغر الباقي، كما قالوا أزهر وزهير، وأسود وسويد، وأحمد وحميد، وغير ذلك. وحبتة: بفتح الحاء المهملة وسكون الباء الموحدة وبعدها تاء مثناة من فوقها ثم هاء ساكنة، واكتشفت عن معنى هذا الاسم في عدة مواضع من كتب اللغة وغيرها فلم أجده. وبحير: بفتح الباء الموحدة وكسر الحاء المهملة وقيل هو بضم الباء وبالجيم المفتوحة، والأول أصح؛ والباقي معروف لا حاجة إلى ضبطه. (349) وسعد بن حبتة من جملة من استصغر يوم أحد هو والبراء بن عازب وأبو سعيد الخدري رضي الله عنهم، فردهم النبي صلى الله عليه وسلم، ورآه النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق وهو يقاتل قتالاً شديداً مع حداثة   (1) انظر هذا الجزء ص: 37. (2) تاريخ بغداد 14: 297. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 389 سنه، فدعاه وقال له: من أنت فقال: سعد بن حبتة، فقال: أسعد الله جدك، ومسح على رأسه، رضي الله عنه. وخنيس هو صاحب جهار سوج خنيس بالكوفة، وهو لفظ أعجمي تفسيره بالعربي أربع طرق، لن هذا المكان رحبة مربعة تفترق إلى أربع جهات، والله تعالى أعلم. 825 - (1) يعقوب الحضرمي أبو محمد يعقوب بن إسحاق بن يزيد بن عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي بالولاء، البصري المقرئ المشهور، وهو أحد القراء العشرة، وهو المقرئ الثامن وله في القراءات رواية مشهورة منقولة عنه، وهو من أهل بيت العلم بالقراءات والعربية وكلام العرب والروايات الكثيرة للحروف والفقه، وكان من أقرأ القراء، وأخذ عنه عامة حروف القرآن مسنداً وغير مسند من قراة الحرميين والعراقيين وأهل الشام وغيرهم، وأخذ هو القراءة عرضاً عن سلام بن سليمان الطويل ومهدي بن ميمون وأبي الأشهب العطاردي وغيرهم. وروى عن حمزة حروفاً، وسمع الحروف من أبي الحسن الكسائي، وسمع من جده زيد بن عبد الله وشعبة. وأما إسناده في القراءة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه قرأ على سلام المذكور، وقرأ سلام على عاصم بن أبي النجود، وقرأ عاصم على أبي عبد الرحمن السلمي، وقرأ أبو عبد الرحمن على علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقرأ علي على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروى القراءة عن   (1) ترجمته في غاية النهاية 2: 386 وطبقات الزبيدي: 51 ومعجم الأدباء 20: 52 والنجوم الزاهرة 2: 179 وبغية الوعاة: 418 ونور القبس: 178 وطبقات ابن سعد 7: 304 وعبر الذهبي 1: 348 والشذرات 2: 14 وتهذيب التهذيب 11: 382. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 390 يعقوب المذكور عرضاً جماعة: منهم روح بن عبد المؤمن ومحمد بن المتوكل وأوب حاتم السجستاني وغيرهم، ومع منه الزعفراني، واقتدى به في اختياره عامة البصريين بعد أبي عمرو بن العلاء، فهم أو أكثرهم على مذهبه، وكان طاهر بن عبد المنعم بن غلبون إمام الجامع بالبصرة لا يقرأ إلا بقراءة يعقوب. وقال أبو الحسين ابن المنادي: قرأ يعقوب على أبي عمرو، وغلط في ذلك، وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: سئل أحمد بن حنبل رضي الله عنه عن يعقوب الحضرمي فقال: صدوق؛ وسئل أبو حاتم الرازي عنه فقال: صدوق. وقال أبو حاتم السجستاني: كان يعقوب الحضرمي أعلم من أدركنا ورأينا بالحروف والاختلاف في القرآن الكريم وتعليله ومذاهبه ومذاهب النحو في القرآن الكري. وله كتاب سماه " الجامع " جمع فيه عامة اختلاف وجوه القراءات، ونسب كل حرف إلى من قرأ به. وبالجملة فإنه كان إمام أهل البصرة في عصره في القراءات، وكان يأخذ أصحابه بعدد آي القرآن العزيز، فإذا أخطأ أحدهم في العدد أقامه. وتوفي يعقوب المذكور في ذي الحجة، وقيل في جمادى الأولى، سنة خمس مائتين، وهو الأصح. وعاش هو وأبوه إسحاق وجده زيد، كل واحد منهم ثمانياً وثمانين سنة رحمهم الله أجمعين. (350) وأما جد أبيه عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي (1) فإنه كان من الأئمة العلام المشار إليه في علومهم. قال أبو عبيدة معمر بن المثنى: أو ل من وضع العربية أبو الأسود الدؤلي ثم ميمون الأقرن ثم عنبسة الفيل ثم عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي. وقد جاء في رواية أخرى أن عنبسة قبل ميمون، والله أعلم بالصواب. وكان في زمان عبد الله بن أبي إسحاق بن عمر الثقفي وأبو عمرو بن العلاء، ومات عبد الله قبلهما.   (1) ترجمة عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي في انباه الرواة 2: 104 وفي الحاشية ذكر لعدد وافر من مصادر ترجمته. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 391 وذكر أبو عبيد الله المرزباني في كتاب " المقتبس في أخبار النحويين " أن المبرد قال: أجمعت العلماء باللغة أن أول من وضع العربية أبو الأسود الدؤلي وأنه لقن ذلك عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ثم أخذ النحو عن أبي الأسود عنبسة بن معدان المهري (1) ، وأخذه عنه ميمون الأقرن، وأخذه عنه عبد الله الحضرمي، وأخذه عنه عيسى بن عمر، وأخذه عنه الخليل بن أحمد، وأخذه عنه سيبويه، وأخذه عنه الأخفش. وكان بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قد جمع بين عبد الله وأبي عمرو بن العلاء، وبلال يومئذ متولي البصرة، قال أبو عمرو: فغلبني ابن أبي إسحاق بالهمز، فنظرت فيه بعد ذلك وبالغت فيه. وكان عبد الله كثيراً ما يأخذ على الفرزدق الغلط في شعره، فقال الفرزدق: والله لأهجونه ببيت يسير بين أهل الدب ويتمثلون به، فعمل: فلو كان عبد الله مولى هجوته ... ولكن عبد الله مولى مواليا (2) وإنما قال الفرزدق ذلك أن عبد الله مولى الحضرميين، وهم حلفاء بني عبد شمس بن عبد مناف، والحليف عند العرب مولى، ولهم على ذلك شواهد، ولولا خوف الإطالة لذكرت طرفاً من ذلك، لكن ليس هذا موضع ذكره.   (1) في نور القبس: 23 أنه ادعى إلى مهرة بن حيدان؛ وفي المختار: المهرمي. (2) المختار: المواليا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 392 826 - (1) أبو عوانة الحافظ أبو عوانة يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم يزيد النيسابوري ثم الإسفرايني، الحافظ، صاحب المسند الصحيح المخرج على كتاب مسلم ين الحجاج، كان أبو عوانة أحد الحفاظ الحوالين والمحدثين المكثرين، طاف الشام ومصر والبصرة والكوفة وواسط والحجاز والجزيرة واليمن وأصبهان والري وفارس. قال الحافظ أبو القاسم المعروف بابن عساكر في " تاريخ دمشق ": سمع أبو عوانة بدمشق يزيد بن محمد بن عبد الصمد وإسماعيل بن محمد بن قيراط وشعيب بن شعيب بن إسحاق وغيرهم، وبمصر يونس بن عبد الأعلى وابن أخي بن وهب والمزني والربيع، ومحمداً وسعداً ابني عبد الحكم، وبالعراق سعدان بن نصر والحسن الزعفراني وعمر بن شبة وغيرهم، وبخراسان محمد بن يحيى الذهلي ومسلم بن الحجاج ومحمد بن رجاء السندي وغيرهم؛ وبالجزيرة علي بن حرب وغيره. روى عنه أبو بكر الإسماعيلي وأحمد بن علي الرازي وأبو علي الحسين بن علي وأبو أحمد ابن علي وسليمان الطبراني ومحمد بن يعقوب بن إسماعيل الحفاظ وأبو الوليد الفقيه وابنه أبو مصعب محمد بن أبي عوانة. وحج خمس مرات. وقال: كنت بالمصيصة، فكتب إلي أخي محمد بن إسحاق، فكان في كتابه: فإن نحن التقينا قبل موتٍ ... شفينا النفس من مضض العتاب وإن سبقت بنا أيدي المنايا ... فكم من عاتبٍ تحت التراب وقال أبو عبد الله الحاكم: أبو عوانة من علماء الحديث وأثباتهم، ومن   (1) ترجمته في تذكرة الحفاظ: 779 ومرآة الجنان 2: 269 وطبقات السبكي 2: 321 وعبر الذهبي 2: 165 والشذرات 2: 274. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 393 الرحالة في أقطار الأرض لطلب الحديث. توفي سنة ست عشرة وثلثمائة. وقال حمزة بن يوسف السهمي: روى بجرجان سنة اثنتين وتسعين ومائتين. قال الحافظ أبو القاسم ابن عساكر: حدثني الشيخ الصالح الأصيل أبو عبد الله محمد بن محمد بن عمر بن الصفار الإسفرايني قال: قبر أبي عوانة بإسفرايين مزار العالم، ومتبرك الخلق، وبجنب قبره قبر الراوية عنه أبي نعيم عبد الملك بن الحسن الأزهري الإسفرايني في مشهد واحد داخل المدينة، على يسار الداخل من باب نيسابور من إسفرايين، وقريب من مشهده الإمام الأستاذ أبي إسحاق الإسفرايني على اليمين الداخل من باب نيسابور، وبجنب قبره قبر الأستاذ أبي منصور البغدادي الإمام الفقيه المتكلم صاحبه، الصاحب بالجنب حياً وميتاً، المتظاهرين لنصرة الدين بالحجج والبراهين. سمعت جدي الإمام عمر بن الصفار رحمه الله تعالى، ونظر إلى القبور حول قبر الإمام الأستاذ أبي إسحاق، وأشار إلى المشهد وخارج المشهد وقال: قد قيل هاهنا من الأئمة والفقهاء على مذهب الإمام الشافعي، رضي الله عنه، أربعون إماماً، كل واحد منهم لو تصرف في المذهب وافتى برأيه واجتهاده - يعني على مذهب الشافعي - لكان حقيقاً بذلك، والعوام يتقربون إلى مشهد الإستاذ أبي إسحاق أكثر مما يتقربون إلى أبي عوانة، وهم لا يعرفون قدر هذا الإمام الكبير المحدث أبي عوانة لبعد العهد بوفاته، وقرب العهد بوفاة الأستاذ أبي إسحاق، وأبو عوانة هو الذي أظهر لهم الإمام الشافعي رضي الله عنه بإسفرايين (1) بعد ما رجع عن مصر وأخذ العلم عن أبي إبراهيم المزني رحمه الله تعالى، وكان جدي إذا وصل إلى مشهد الأستاذ رأيته لا يدخله احتراماً، بل كان يقبل عتبة المشهد وهي مرتفعة بدرجات، ويقف ساعة على هيئة التعظيم والتوقير ثم يعبر عنه كالمودع لعظيم عظيم الهيبة، وإذا وصل إلى مشهد أبي عوانة كان أشد تعظيماً له وإجلالاً وتوقيراً ويقف أكثر من ذلك، رحمهم الله تعالى أجمعين. وعوانة: بفتح العين المهملة وبعد الألف نون. وقد تقدم الكلام على النيسابوري والإسفرايني فلا حاجة إلى الإعادة.   (1) أثبت الياءين في هذا الموضع في المسودة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 394 827 - (1) ابن السكيت أبو يوسف يعقوب بن إسحاق، المعروف بابن السكيت، صاحب كتاب " إصلاح المنطق " وغيره، ذكره الحافظ ابن عساكر في " تاريخ دمشق " فقال: حكى عن ابي عمرو إسحاق بن مرار الشيباني ومحمد بن مهنا ومحمد بن صبح (2) بن السماك الواعظ، حكى عنه أحمد بن فرح المقرئ ومحمد بن عجلان الأخباري وأبو عكرمة الضبي وأبو سعيد السكري وميمون بن هارون الكاتب وغيرهم. وكان يؤدب أولاد المتوكل. وقال، قال محمد بن السماك: من عرف الناس داراهم ومن جهلهم ماراهم ورأس المداراة ترك المماراة. وروى ابن السكيت أيضاً عن الأصمعي وأبي عبيدة والفراء وجماعة غيرهم. وكتبه جيدة صحيحة منها: " إصلاح المنطق " وكتاب " الألفاظ " وكتاب في " معاني الشعر " وكتاب " القلب والإبدال " ولم يكن له نفاذ في علم النحو، وكان يميل في رأيه واعتقاده إلى مذهب من يرى تقديم علي بن أبي طالب رضي الله عنه. قال أحمد بن عبيد (3) : شاورني ابن السكيت في منادمة المتوكل فنهيته، فحمل قولي على الحسد، واجاب إلى ما دعي إليه من المنادمة، فبنا هو مع المتوكل يوماً جاء المعتز والمؤيد، فقال المتوكل: يا يعقوب أيما أحب إليك،   (1) ترجمته في تاريخ بغداد 14: 273 والفهرست: 72 ونزهة الألبا: 122 ومراتب النحويين: 95 وطبقات الزبيدي: 221 وبغية الوعاة: 418 ونور القبس: 319 وقد نشرت عنه دراسة لمحيي الدين توفيق إبراهيم (بغداد: 1969) . (2) قد أثبتناه في ترجمته " محمد بن صبيح " اعتماداً على النسخ والمصادر المختلفة، وهو هنا بخط المؤلف " صبح " إلا أن صورة الياء مرسومة دون إعجام؛ ولذلك اضطربت فيه النسخ بين صبح وصبيح. (3) انظر الزبيدي: 221. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 395 ابناي هذا أم الحسن والحسين فغض ابن السكيت من ابنيه وذكر الحسن والحسين رضي الله عنهما ما هما أهله، فأمر التراك فداسوا بطنه، فحمل إلى داره، فمات بعد غد ذلك اليوم، وكان ذلك في سنة أربع وأربعين ومائتين. وقال عبد اللع بن عبد العزيز، وكان نهى يعقوب عن اتصاله بالمتوكل: نهيتك يا يعقوب عن قرب شادن ... إذا ما سطا أربى على كل ضيغم (1) فذق واحس ما استحسيته لا أقول إذ ... عثرت: لعاً، بل: لليدين وللفم وحكي أن الفراء سأل ابن السكيت عن نسبه فقال: خوزي أصلجك الله من دورق - قلت: بفتح الدال المهملة وبعد الواو الساكنة راء ثم قاف، وهي بليدة من أعمال خوزستان، قال: من كور الأهواز - قلت: والأهواز من خوزستان أيضاً - قال: فبقي الفراء أربعين يوماً في بيته لا يظهر لأحد من أصحابه، فسئل عن ذلك، فقال: سبحان الله، أستحي أن أرى السكيت، لأنني سألته عن نسبه فصدقني، وفيه بعض القبح. قال أبو الحسن الطوسي: كنا في مجلس أبي الحسن علي اللحياني، وكان عازماً على أن يملي نوادره ضعف ما أملى، فقال يوماً: تقول العرب " مثقل استعان بذقنه " فقام إليه ابن السكيت وهو حدث فقال: يا أبا الحسن إنما هو " مثقل استعان بدفيه " يريدون الجمل إذا نهض بحمله استعان بجنبيه، فقطعا الإملاء. فلما كان المجلس الثاني أملى فقال: تقول العرب " وهو جاري مكاشري " فقام له ابن السكيت فقال: أعزك الله وما معنى مكاشري إنما هو " هو مكاسري، كسر بيتي إلى كسر بيته " قال: فقطع اللحياني الإملاء فما أملى بعد ذلك شيئاً. وقال أبو العباس المبرد: ما رأيت للبغداديين كتاباً أحسن من كتاب ابن السكيت في المنطق. وقال أحمد بن محمد بن أبي شداد: شكوت إلى ابن السكيت ضائقة مالية فقال: هل قلت شيئاً قلت: لا، قال: فأقول أنا، ثم انشدني:   (1) بهامش المسودة: خ: أم قشعم؛ وكذلك كتب في س وفي طبقات الزبيدي. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 396 نفسي تروم أموراً لست مدركها ... ما دمت أحذر ما يأتي به القدر ليس ارتحالك في كسب الغنى سفراً ... لكن مقامك في ضر هو السفر وقال ابن السكيت: كتب رجل إلى صديق له: قد عرضت لي قبلك حاجة، فإن نجحت فالفاني منها حظي والباقي حطك، وإن تعذرت فالخير مظنون بك، والعذر مقدم لك (1) ، والسلام. ونقل من خطه ما مثاله: عرض سلمان بن ربيعة الباهلي الخيل، فمر عمرو بن معدي كرب الزبيدي على فرس له، فقال سلمان: هذا الفرس هجين، فقال: بل هو عتيق، فقال سليمان: هو هجين، فقال عمرو: هو عتيق، فأمر سلمان فعطش، ثم دعا بطست فيه ماء، ودعا بخيل عتاق فشربت، وجاء فرس عمرو فثنى يده وشرب، وهذا صنيع الهجين، فقال له سلمان: أترى (2) فقال عمرو: أجل، الهجين يعرف الهجين، فبلغ عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فكتب إلى عمرو: قد بلغني ما قلت لأميرك، وبلغني أن لك سيفاً تسميه الصمصامة، وعندي سيف أسميه مصمماً، وايم الله لئن وضعته على هامتك لا أقلع حتى أبلغ به رهابتك، فإن سرك أن تعلم أحق ما أقول حتى أبلغ به رهابتك، فإن سرك أن تعلم أحق ما أقول فعد، والسلام. الرهابة: على وزن السحابة، عظم في الصدر مشرف على البطن مثل اللسان، والله أعلم. وقال أبوعثمان المازني (3) : اجتمعت بابن السكيت عند محمد بن عبد الملك الزيات الوزير، فقال محمد بن عبد الملك: سل أبا يوسف عن مسألة، فكرهت ذلك وجعلت أتباطأ وأدافع مخافة أن أوحشه لأنه كان لي صديقاً، فألح علي محمد بن عبد الملك وقال: لم لا تسأله فاجتهدت في اختيار مسألة سهلة لأقارب يعقوب، فقالت له: ما وزن نكتل من الفعل من قول الله تعالى: (فأرسل   (1) المختار: ممهد لك. (2) المختار: أما ترى. (3) طبقات الزبيدي: 222. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 397 معنا أخانا نكتل) (يوسف: 63) فقال لي: نفعل، قلت: ينبغي أن يكون ماضيه كتل، فقال: لا، ليس هذا وزنه إنما هو نفتعل، فقلت له: نفتعل كم حرف هو قال: خمسة أحرف، قلت: فنكتل كم حرفاً هو قال: أربعة أحرف، فقلت: أيكون أربعة أحرف بوزن خمسة أحرف فانقطع وخجل وسكت، فقال محمد بن عبد الملك: فإنما تأخذ كل شهر ألفي درهم على أنك لا تحسن وزن نكتل! قال: فلما خرجنا قال لي يعقوب: يا أبا عثمان هل تدري ما صنعت فقلت له: والله لقد قاربتك جهدي، وما لي في هذا ذنب. قلت: وذكر أبو الحسن ابن سيده هذه الحكاية في أول خطبة كتابه " المحكم في اللغة " لكنه قال: إن ذلك كان بين يدي المتوكل، والله أعلم. وقال غير ابن عساكر: كان يعقوب بن السكيت يؤدب مع أبيه بمدينة السلام في دار القنطرة صبيان العامة، حتى احتاج إلى الكسب، فجعل يتعلم النحو. وحكى عن أبيه قد حج فطاف بالبيت وسعى وسأل الله تعالى أن يعلم ابنه النحو فتعلم بالنحو واللغة، وجعل يختلف إلى قوم من أهل القنطرة فأجروا له كل دفعة عشرة دراهم وأكثر حتى اختلف إلى بشر وهارون ابني هارون، أخوين كانا يكتبان لمحمد بن عبد الله بن طاهر الخزاعي (1) ، فما زال يختلف إليهما وإلى أولادهما دهراً، فاحتاج ابن طاهر إلى رجل يعلم أولاده، وجعل ولده في حجر إبراهيم بن إسحاق المصعبي، فرتب يعقوب وجعل له رزقاً خمسمائة درهم، ثم جعلها ألف درهم. وقال أبو العباس ثعلب: كان ابن السكيت يتصرف في أنواع العلوم، وكان أبوه رجلاً صالحاً، وكان من أصحاب الكسائي حسن المعرفة بالعربية. وكان سبب (2) قعود يعقوب للناس وقصدهم إياه أنه عمل شعر أبي النجم العجلي وجرده فقال: ادفعه لي لأنسخه فقال: يا أبا العباس، حلفت بالطلاق   (1) من عادة المؤلف أن يحيل على التراجم، وقد وردت ترجمة محمد بن عبد الله بن طاهر في النسخة مج (انظر ج 5: 92) ولم يشر إليها، أتراها من الزيادات الموضوعة عليه (2) قارن بما عند الزبيدي: 223. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 398 أنه لا يخرج من يدي، ولكنه بين يديك فانسخه، واحضر يوم الخميس، فلما وصلت إليه عرف بي، فحضر بحضوري (1) قوم، ثم انتشر ذلك فحضر الناس. وقال ثعلب أيضاً: أجمع أصحابنا أنه لم يكن بعد ابن الأعرابي أعلم باللغة من ابن السكيت، وكان المتوكل قد ألزمه تأديب ولده المعتز بالله، فلما جلس عنده قال له: بأي شيء يحب الأمير أن نبدأ - يريد من العلوم - فقال المعتز: بالانصراف، قال يعقوب: فأقوم، قال المعتز: فأنا أخف نهوضاً منك، وقام فاستعجل فعثر بسراويله فسقط، والتفت إلى يعقوب خجلاً وقد احمر وجهه، فانشد يعقوب: يصاب الفتى من عثرةٍ بلسانه ... وليس يصاب المرء من عثرة الرجل فعثرته في القول تذهب رأسه ... وعثرته بالرجل تبرأ في (2) مهل فلما كان من الغد دخل يعقوب على المتوكل فأخبره بما جرى، فأمر له بخمسين ألف درهم وقال: قد بلغني البيتان. وكان يعقوب يقول: أنا أعلم من أبي بالنحو، وأني أعلم مني بالشعر واللغة. وقال الحسين بن عبد المجيب الموصلي: سمعت ابن السكيت يقول في مجلس أبي بكر بن أبي شيبة: ومن الناس من يحبك حباً ... ظاهر الحب ليس بالتقصير فإذا ما سألته عشر فلس ... ألحق الحب باللطيف الخبير وكان لابن السكيت شعر وهو مما تثق النفس به، فمن ذلك قوله: إذا اشتملت على اليأس القلوب ... وضاق لما به الصدر الحبيب وأوطنت المكاره واستقرت ... وأرست في أماكنها الخطوب ولم تر لانكشاف الضر وجهاً ... ولا أغنى بحيلته الأريب   (1) ر: لحضوري. (2) ق: تبرأ على. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 399 أتاك على قنوطٍ منك غوث ... يمن به اللطيف المستجيب وكل الحادثات إذا تناهت ... فموصول بها فرج قريب وكان العلماء يقولون: " إصلاح المنطق " كتاب بلا خطبة، " أدب الكاتب " تأليف ابن قتيبة خطبة بلا كتاب، لأنه طول الخطبة وأودعها فوائد. وقال بعض العلماء: ما عر على جسر بغداد كتاب في اللغة مثل " إصلاح المنطق "، ولا شك أنه من الكتب النافعة الممتعة الجامعة لكثير من اللغة، ولا نعرف في حجمه مثله في بابه، وقد عني به جماعة، فاختصره الوزير أبو القاسم الحسين المعروف بابن المغربي - المقدم ذكره (1) - وهذبه الخطيب أبو زكريا التبريزي، وتكلم على الأبيات المودعة فيه ابن السيرافي، وهو كتاب مفيد. ولابن السكيت من التصانيف أيضاً كتاب " الزبرج "، وكتاب " الألفاظ "، وكتاب " المثال " وكتاب " المقصور والممدود "، وكتاب " المذكر والمؤنث "، وكتاب " الأجناس "، وهو كبير وكتاب " الفرق "، وكتاب " السرج واللجام "، وكتاب " فعل وأفعل "، وكتاب " الحشرات " وكتاب " الأصوات "، وكتاب " الأضداد "، وكتاب " الشجر والنبات "، وكتاب " الوحوش " وكتاب " الإبل "، وكتاب " النوادر "، وكتاب " معاني الشعر الكبير "، وكتاب " معاني الشعر الصغير "، وكتاب " سرقات الشعراء (2) وما اتفقوا عليه " وغير ذلك من الكتب، ومع شهرته لا حاجة إلى الإطالة في ذكر فضله. وقد روي في قتله غير ما ذكرته أولاً، فقيل إن المتوكل كان كثير التحامل على علي بن أبي طالب وأبيه الحسن والحسين رضي الله عنهم أجمعين - وقد تقدم في ترجمة أبي الحسن علي بن معروف بابن بسام أبيات تدل على هذا أيضاً (3) - وكان ابن السكيت من المغالين في محبتهم والتوالي لهم، فلما قال له المتوكل تلك المقالة قال ابن السكيت: والله إن قنبر خادم علي رضي الله عنه خير   (1) انظر ج 2: 172. (2) في ق والمسودة: سرقات الشعر. (3) انظر ج 3: 365. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 400 منك ومن ابنيك، فقال المتوكل: سلوا لسانه من قفاه، ففعلوا ذلك به فمات، وذلك في ليلة الاثنين لخمس خلون من رجب سنة أربع وأربعين ومائتين، وقيل سنة ست وأربعين، وقيل سنة ثلاث وأربعين، والله أعلم بالصواب. وبلغ عمره ثمانياً وخمسين سنة، ولما مات سير المتوكل لولده يوسف عشرة آلاف درهم وقال: هذه دية والدك، رحمه الله تعالى. وقال أبو جعفر أحمد بن محمد المعروف بابن النحاس النحوي: كان أول أمره كلام المتوكل مع ابن السكيت مزاحاً ثم صار جداً؛ وقيل إن المتوكل أمره أن يشتم رجلاً من قريش وأن ينال منه فلم يفعل، فأمر القرشي أن ينال منه، فأجابه ابن السكيت، فقال له المتوكل: أمرتك فلم تفعل، فلما شتمك فعلت، وأمر به فضرب وحمل من عنده قيذاً صريعاً، والله أعلم أي ذلك كان. - وقد تقدم في ترجمة عبد الله بن المبارك مثل هذه القضية لما سئل عن معاوية وعمر بن عبد العزيز وأيهما أفضل (1) . والسكيت: بكسر السين المهملة والكاف المشددة وبعدها ياء مثناة من تحتها ثم تاء من فوقها، وعرف بذلك لأنه كان كثير السكوت طويل الصمت. وكل ما كان على وزن فعيل أو فعليل فإنه مكسور الأول. وقوله: خوزي بضم الخاء المعجمة وبعد الواو زاي، هذه النسبة إلى خوزستان، وهو إقليم بين البصرة وبلاد فارس.   (1) أنظر 3: 33. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 401 828 - (1) يعقوب الصفار أبو يوسف يعقوب بن الليث الصفار الخارجي؛ وقد أكثر أهل التاريخ من ذكر هذا الرجل وذكر أخيه عمرو وما ملكا من البلاد وقتلا من العباد، وما جرى للخلفاء معهما من الوقائع، وقد اخترت من ذلك ما أودعته في هذه الأوراق فأقول: قال أبو عبد الله بن محمد الأزهر الأخباري: حدثني علي بن محمد، وكان عالماً بأمور يعقوب بن الليث الصفار ومحاربته، وأول أمره أنه وأخاه عمراً كانا صفارين في حداثتهما، وكانا يظهران الزهد، وأن رجلاً من أهل سجستان كان مشهوراً بالتطوع (2) في قتال الخوارج، يقال له صالح بن النضر الكناني المطوعي (3) من أهل بست، فصحباه وحظيا به، فقتلت الخوارج الذين يقال لهم الشراة أخا يعقوب المذكور، وأقام صالح المذكور يعقوب المذكور مقام الخليفة، ثم هلك صالح فتولى مكانه درهم بن الحسين (4) من المطوعة أيضاً، فصار يعقوب مع درهم كما كان مع صالح. ثم إن صاحب خراسان احتال لدرهم حتى ظفر به، فحمل إلى بغداد فحبس بها ثم أطلق وخدم السلطان، ثم لزم بيته يظهر النسك والحج والاقتصاد، حتى غلظ أمر يعقوب. وذكر شيخنا عز الدين أبو الحسن علي بن محمد المعروف بابن الأثير في   (1) هذه الترجمة لم ترد في القسم الموجود من المسودة ولم ترد في النسخ س بر من. ووردت في ر بعد ترجمة يعقوب بن داود، وهي كاملة في ق ع. ومنها في المختار مقتطفات؛ وأخبار يعقوب الصفار في الكتب التاريخية أمثال الطبري وابن الأثير والمسعودي وابن خلدون والنجوم الزاهرة 3: 40 ومرآة الجنان 2: 180 وصورة الأرض: 353. (2) زاد في ع: والزهد. (3) ع: المتطوعي، وكذلك ترد " المتطوعة " أيضاً في النسخ، وأحياناً " المطوعة " في ر. (4) وردت " الحسن " في ابن الأثير والنسخة ر ومواضع من ق ع. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 402 تاريخه (1) في سنة سبع وثلاثين ومائتين ابتداء أمر يعقوب المذكور، فقال: في هذه السنة تغلب إنسان من أهل بست اسمه صالح بن النضر الكناني على سجستان ومعه يعقوب بن الليث، فعاد طاهر بن عبد الله بن طاهر بن الحسين، أمير خراسان، واستنقذها منه، ثم ظهر بها إنسان اسمه درهم بن الحسين من المطوعة فغلب عليها، وكان غير ضابط لأمور عسكره، وكان يعقوب بن الليث قائد عسكره، فلما رأى أصحاب درهم ضعفه وعجزه اجتمعوا على يعقوب بن الليث، وملكوه أمرهم، لما رأوا من تدبيره وحسن سياسته وقيامه بأمرهم، فلما تبين ذلك له لم ينازعه في الأمر وسلمه إليه، واعتزل عنه، فاستبد يعقوب بالمر وضبط البلاد وقويت شوكته، وقصدته العساكر من كل ناحية، فصار من أمره ما سنذكره. رجعنا إلى تمام ما ذكره علي بن محمد بن أحمد (2) : قال: فلما دخل درهم بن الحسين بغداد تولى يعقوب أمر المطوعة، وحارب الخوارج الشراة فرزق الظفر بهم حتى أفناهم وأخرب ضياعهم، وأطاعه أصحابه بمكره ودهائه طاعة لم يطيعوها أحدها كان قبله. ثم اشتدت شوكته وزادت صولته (3) ، فغلب على سجستان وهراة وبوشنج وما والاها. وكان الترك بتخوم سجستان وملكهم رتبيل، ويسمى هذا القبيل من الترك الدراري، فحرضه أهل سجستان على قتالهم، وأعلموه أنهم أضر من الشراة الخوارج وأوجب محاربة، فغزا الترك فقتل رتبيل ملكهم، وقتل ثلاثة من ملوكهم بعد رتبيل، ويسمى كل ملك لهم رتبيل، وانصرف يعقوب إلى سجستان، وقد حمل رؤوسهم مع رؤوس ألوف منهم، فرهبته الملوك الذين حوله، منهم ملك المولتان وملك   (1) ابن الأثير 7: 64. (2) ابن أحمد: سقطت من ق. (3) ع ق: ثم اشتدت صوله الجزء: 6 ¦ الصفحة: 403 الرخج وملك الطبسين وملك زابلستان، وملك (1) السند ومكران وغيرهم، وأذعنوا له. وكان قصده هراة وبوشنج في سنة ثلاث وخمسين ومائتين، وأمير خراسان يومئذ محمد بن طاهر بن عبد الله بن طاهر بن الحسين الخزاعي، وعامله عليها محمد بن أوس الأنباري، فخرج لمحاربته في تعبئة وبأس شديد وزي جميل، فحاربه مقاومته حتى احتال له يعقوب، فحال بينه وبين دخول المدينة، وهي بوشنج، وانحاز ابن أوس منهزماً، فقيل إنه لم يقاتله أحد أحسن موافقته (2) كما أحسنها ابن أوس، ودخل يعقوب بوشنج وهراة، وصارت المدينتان في يده، وظفر بجماعة من الطاهرية، وهم المنسوبون إلى طاهر بن الحسين الخزاعي، فحملهم إلى سجستان، حتى وجه المعتز بالله الخليفة إليه المعروف بابن بلعم، وهو رجل من الشيعة، برسالة وكتاب، فأطلقهم. قال ابن الأزهر الأخباري المذكور: حدثني محمد بن عبد الله بن مروان، قال: حدثني ابن بلعم المذكور قال: صرت إليه بكتاب أمير المؤمنين المعتز بالله زرنج - قلت: بفتح الزاي والراء وسكون النون وبعدها جيم، وهي كرسي بلاد سجستان - قال ابن بلعم: فاستأذنت عليه فأذن لي، فدخلت (3) ولم أسلم عليه، وجلست بين يديه من غير أمره، ودفعت الكتاب إليه فلما أخذه قلت له: قبل كتاب أمير المؤمنين فلم يقبله، وفضه، فتراجعت القهقرى إلى باب مجلسه الذي كان فيه ثم قلت: السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله، فأعجبه ذلك، وأحسن مثواي ووصلني، وأطلق الطاهرية (4) . وقال ابن بلعم المذكور أيضاً: دخلت على يعقوب الصفار يوماً فقال لي: ينبغي أن يجيئنا رجل من ناحية فارس مستأمن، ومعه ثلاثة أنفس أو أربعة، بل هو تمام الخمسة، قال: فأنكرت هذا منه، وأمسك، فما علمت إلا وحاجبه قد دخل فسلم، وقال: أيها الأمير، بالباب رجل مستأمن ومعه أربعة أنفس،   (1) ع ق: وملوك. (2) ر ق: موافقته. (3) المختار: فدخلت عليه. (4) المختار: وأطلق الذي جئت بسببهم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 404 فقال: أدخله، فدخل وسلم وقال: أيها الأمير، معي أربعة أنفس، فأذن لهم فدخلوا عليه، فالتفت إلى الحاجب وقلت: قد أخذتم في المخازيق، فحلف لي أيماناً مغلظة أنهم جاءوا بغتة ما علم بهم أحد من الناس، وسألت يعقوب بعد ذلك، وقلت له: أيها الأمير، لقد رأيت منك عجباً في أمر المستأمنة فكيف علمت بهم فقال: أخبرك أني فكرت في أمر فارس، ورأيت غراباً واقفاً بإزاء طريقها (1) ، واختلجت إحدى أصابع رجلي، ثم تبع بعضها بعضاً، فعلمت أنه عضو غير شريف، وأنه سيأتينا من ذلك الصقع قوم مستأمنة، أو رسل ليسوا بأجلة، فكانوا هؤلاء. وقال علي بن الحكم: سألت يعقوب بن الليث الصفار عن الضربة التي على وجهه، وهي منكرة على قصبة أنفه ووجنته، فذكر أن ذلك أصابه في بعض وقائع الشراة، وأنه طعن رجلاً منهم، فرجع عليه فضربه هذه الضربة، فسقط نصف وجهه حتى رد وخيط، قال: فمكثت عشرين يوماً في فمي أنبوبة قصب، وفمي مفتوح لئلا يتقرح رأسي، وكان يصب في حلقي الشيء بعد الشيء من الغذاء، قال حاجبه: وقد كان مع هذه الضربة يخرج ويعبي أصحابه للحرب ويقاتل. وأرسل يعقوب إلى المعتز بالله هدية سنية، من جملتها مسجد فضة مخلع يصلي فيه خمسة عشر إنساناً، وسأل أن يعطى بلاد فارس، ويقرر عليه خمسة عشر ألف ألف درهم، على أن يتولى إخراج علي بن الحسين بن قريش، وكان على فارس، ثم شخص يعقوب من سجستان في أثر كتابه إلى المعتز، يريد كرمان، ثم نزل بم - قلت: وهي بالباء الموحدة المفتوحة وبعدها ميم مخففة، وهي الحد الفاصل بين سجستان وكرمان - قال: وكان بكرمان العباس بن الحسين بن قريش، أخو علي بن الحسين المذكور، ومعه أحمد بن الليث الكردي، فخرجا عن كرمان يريدان شيراز، وقدم يعقوب أخاه علي بن إلى السيرجان - قلت: وهي بكسر السين المهملة وسكون الياء المثناة من تحتها ثم راء وجيم وبعد الألف نون، وهي مدينة كرمان - قال: وضم إليه جماعة،   (1) المختار: الطريق التي لها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 405 فأقام هو على بم، فرد أحمد بن الليث الكردي إليه من الطريق في جمع كثير من الأكراد وغيرهم، فصاروا إلى درابجرد - قلت: وهي بفتح الدال المهملة ثم راء وألف وبعدها دال مهملة، وهذا الاسم يقع بالاشتراك على ثلاثة مواضع: الأول: كورة عظيمة مشهورة بفارس، قصبتها درابجرد، والثاني قرية بفارس أيضاً من أعمال اصطخر فيها معدن الزئبق، فيحتمل أن يكون مصيرهم إلى الأولى أو إلى الثانية، وأما الثالثة: فهو موضع بنيسابور، ولا يحتمل مصيرهم إليه، لأنه بخراسان فلا تعلق له بفارس. قال الراوي: فظفر أحمد بن الليث بجماعة من أصحاب يعقوب يطلبون العلف، فقتل بعضهم (1) وهرب منهم جماعة، ووجه أحمد بن الليث برؤوس (2) من قتل من أصحاب يعقوب إلى فارس، فنصب علي بن الحسين رؤوسهم، فبلغ الخبر يعقوب، فدخل كرمان، فندب علي بن الحسين لمحاربته طوق بن المغلس في خمسة آلاف من الأكراد، سوى من تقدم مع أحمد بن الليث الكردي، وسار طوق حتى نزل على مدينة إياس من عمل كرمان، فورد عليه كتاب يعقوب يعلمه أنه أخطأ إذ دخل عملاً ليس إليه، فرد عليه طوق: أنت بعمل الصفر أعلم منك بعمل الحروب، فعظم ذلك على يعقوب، وكان في عسكر طوق ثلثمائة رجل من الأبناء، فوافى يعقوب مدينة إياس فأوقع بطوق وقتل أصحابه وهزم من بقي منهم، وصبر الأبناء الثلثمائة حتى أشجوا يعقوب فأعطاهم الأمان، فلم يقبلوا (3) حتى قتلوا عن آخرهم، وقتل يعقوب في هذه الوقعة ألفي رجل وأسر ألفاً، وأسر طوق بن المغلس وقيده بقيد خفيف، ووسع عليه في مطعمه وغيره، واستخرج منه الأموال، ورحل يعقوب عن إياس ودخل عمل فارس، فخندق علي بن الحسين على نفسه بشيراز، وذلك   (1) ق ع ر: فقتلهم. (2) ق ع: رؤوس. (3) ع: يفعلوا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 406 في يوم الثلاثاء لاثنتي عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الآخر سنة خمس وخمسين ومائتين. وكتب علي بن الحسين إلى يعقوب بعلمه أن طوق بن المغلس فعل ما فعل من غير أمره، وانه لم يأمره بمحاربته وقال له: إن كنت تطلب كرمان فقد خلفها وراءك، وإن كنت من أمير المؤمنين بتسليم العمل لأنصرف. فرد عليه يعقوب: إن كتاباً من السلطان معه لا يتهيأ أن يوصله حتى يدخل البلد فقد ودع (1) وأزاح علته، وإلا فالسيف بيننا والموعد مرج سنكان، وهو مرج واسع بينه وبين شيراز ثلاثة فراسخ، وكتب صاحب البريد ووجوه البلد إلى يعقوب يعلمونه أنه ما ينبغي له. مع ما وهب له الله تعالى من التطوع والديانة وقتل الخوارج ونفيهم عن بلاد خراسان وسجستان، التسرع إلى سفك الدماء، لأن علي بن الحسين لن يسلم البلد إلا بكتاب الخليفة، واعتد أهل شيراز للحصار، وقد كانت المنهزمة من أصحاب طوق ثلاثة أنفس من أصحاب يعقوب، فحبسهم علي بن الحسين. وقد كان طوق خروجه إلى يعقوب اشترى داراً بشيراز بسبعين ألف درهم، وقد للنفقة عليها مالاً، فكتب طوق إلى ابنه: لا تقطع البناء عن الدار، فإن الأمير يعقوب قد أكرمني وأحسن إلي، وسأل في إطلاق الثلاثة المأسورين من أصحاب يعقوب، وكان يعقوب سأله ذلك ليطلقه إذا وافوا إليه، فقال علي بن الحسين: اكتبوا إلى يعقوب ليصلب طوق بن المغلس، وإن أقل عبد من عبيده أكبر عنده منه، وسأل يعقوب طوق بن المغلس عن أمور علي بن الحسين، فضعف أمره عنده، فتقرب طوق إلى يعقوب بمال عنده بشيراز، وأنه كتب إلى أهله إليه ليقوى به على حربه، فأمره يعقوب أن يفعل ذلك، فكتب إلى ابنه فوقع الكتاب في يد علي بن الحسين، فأخذ المال وغيره من دار طوق، وحمله إلى داره، وزحف يعقوب، واحتشد علي بن الحسين. قال أحمد بن الحكم، قال لي يعقوب: أخبرني عن علي بن الحسين أمسلم   (1) ع ق: ورع. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 407 هو قلت: نعم، قال: أفرأيت مسلماً يوجه بالأكراد الكفار إلى بلاد المسلمين فيقتلونهم ويحملون نساءهم ويأخذون أموالهم ألم تعلم أن أحمد بن الليث الكردي قتل بكرمان سبعمائة إنسان على دم واحد، وافتض الأكراد مائتي بكر من أهل البيوتات، وحملوا معهم نحو ألفي امرأة إلى بلادهم أفرأيت مسلماً يرضى بهذا قال:، قلت: فعل أحمد هذا من غير أمره. ثم قال له يعقوب في بعض مناظراته: قل لعلي بن الحسين: إن معي قوماً أحراراً جئت بهم ليس (1) يتأتى لي درهم إلا بما يحبون، فوجه إلي بما يرضيهم ووجه لي في نفسي ما يشبه مثلي من البر، فإذا فعلت فأنا أخوك وعونك على من حاربك وأدفع لك كرمان تأكلها، وأنصرف إلى عملي. وارتحل يعقوب، فنزل قرية يقال لها خوزاستان (2) ، ووافى أحمد بن الحكم إلى علي بن أبي الحسين يوم الثلاثاء لثمان خلون من جمادى الأولى من السنة، وعلى يده كتاب يعقوب. قال ابن الحكم: فلم يفهم علي بن الحسين شيئاً مما جئت (3) به من الدهش، وحاصل الكتاب بعد الدعاء له: فهمت كتابك، وذكرك ورودي هذا البلد العظيم خطره بغير (4) إذن أمير المؤمنين، فإني لست ممن تطمع نفسه في محاولة ظلم، ولا ممن يمكنه ذلك، وقد أسقطت عنك مؤونة الاهتمام في هذا الباب، فإن البلد لأمير المؤمنين، ونحن عبيده بأمره في أرضه وسلطانه، وفي طاعة الله وطاعته، وقد استمعت من رسولك، ورجعت إليه في جواب ما عملته وأدائه ما يورده عليك لنا ولك فيه صلاحاً، فإن استعملته ففيه السلامة إن شاء الله تعالى، وإن أبيت فإن قدر الله تعالى نافذ لا محيص عنه، ونحن نعتصم بالله من الهلكة، ونعوذ به من دواعي البغي ومصارع الخذلان، ونرغب إليه في السلامة ديناً ودنيا بلطفه، مد الله في عمرك؛ وكتب يوم الاثنين، لليلة خلت من جمادى الأولى، سنة خمس وخمسين ومائتين.   (1) ع: ولن. (2) ع: حور أستان. (3) ع ق: جئته. (4) ر: بدون. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 408 ثم تزاحف الفريقان، وقد اجتمع في عسكر علي بن الحسين خمسة عشر ألف إنسان، ووجه أحمد بن الليث الطلائع، وذلك في غداة الأربعاء لأربع خلون من الشهر المذكور. ولما كان يوم الخميس وافت طلائع يعقوب، ثم التقى (1) الجيشان، فحملوا حملة، وفي الثانية أزالوا أصحاب علي بن الحسين عن مواضعهم، وصدقت المجالدة، فانهزموا ومروا على وجوههم لا يلوي أحد على أحد، وعلي بن الحسين يتبع أصحابه ويصيح فيهم: أن ارجعوا وقفوا، يناشدهم (2) الله تعالى، فلم يلتفتوا إليه، وبقي في عدة من أصحابه، فوافت المنهزمة أبواب شيراز مع العصر يوم الخميس المذكور، وكانت الوقعة بعد الظهر، فضاقت عليهم الأبواب، فمروا على وجوههم في نواحي شيراز، وبلغت هزيمتهم الأهواز، وكانت القتلى معهم منهم مقدار خمسة آلاف. وأصابت علي بن الحسين ثلاث ضربات، واعتورته أسياف أصحاب يعقوب، وسقط عن دابته فأرادوا قتله، فاعلمهم أنه علي بن الحسين، فأخذوا عمامته ووضعوها في وسطه، وقادره إلى يعقوب، وطلب الذي أسره الثواب من يعقوب، فأمر له بعشرة آلاف درهم، فأبى أن يأخذها، فقال: إنما جئتيني، بكلب أسرته، مالك عندي غيرها، فانصرف الرجل. وقنع يعقوب علياً عشرة أسواط بيده، وأخذ حاجبه بلحيته فنتف أكثرها، وأمر يعقوب أن يقيد بقيد فيه عشرون رطلاً، وصيره مع طوق بن المغلس في الخيمة، وكان قد أنفذ إلى ابن المغلس وقيده أيضاً؛ وصار يعقوب من فوره إلى شيراز، وتفرق أصحاب علي بن الحسين في النواحي. ثم دخل يعقوب إلى شيراز والطبول تضرب بين يديه، وظن أهل شيراز يؤديهم ويستحل دماءهم وأموالهم بحربهم. فلم ينطق (3) أحد لأنه كان وعد أصحابه إن هو ظفر أن يطلقهم وينهب شيراز، وبلغ القوم ذلك فلزموا بيوتهم، ورجع يعقوب من ليلته إلى عسكره بعد أن طاف شيراز، فلما أصبح نادى بالأمان ليخرجوا إلى الأسواق، فخرج الناس، ونادى في كتاب   (1) ع: ووافت ... يعقوب التقي. (2) ع: ويناشدهم. (3) ع: يطلق؛ وسقطت " أحد " من ر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 409 علي بن الحسين: أن برئت الذمة ممن آواهم، وحضرت الجمعة فأمر الخطيب، فدعا للإمام المعتز بالله ولم يدع لنفسه، فقيل في ذلك فقال: الأمير لم يقدم بعد، وقال: إنما مقامي عندكم عشرة أيام، ثم أرجع إلى عمل سجستان؛ وبعث أخاه إلى منزل علي بن الحسين فأحضر الفرش والأثاث، وفتش على الموال فلم يقف عليها، فأحضر علياً فتهدده (1) وتوعده، فذكر أنه يدلهم على المال، فحمل إلى منزله فاستخرج أربعمائة بدرة، وقيل إنه أخذ منه ألف بدرة، وعوض يعقوب أصحابه من نهب (2) شيراز كل رجل ثلثمائة درهم. ثم عذب يعقوب علياً بأنواع (3) العذاب، وعصر أنثييه وشد الجوزتين على صدغيه، فقال علي: قد أخذت ما أخذت، أخذت مني فرشي (4) وقيمته أربعون ألف دينار، وألح عليه بالعذاب وأعلمه أنه لا يقنعه (5) منه دون ثلاثين ألف ألف دينار، وخلط ووسوس من شدة العذاب وقيده بأربعين رطلاً، فدلهم على موضع في داره، فاستخرجوا أربعة آلاف ألف درهم، وجوهراً كثيراً، ثم ألح عليه بالعذاب وسلمه إلى الحسن بن درهم فضربه وعذبه وشتمه، وعذب طوق بن المغلس أيضاً، وحبسهما في بيت واحد. وارتحل يعقوب من شيراز يوم السبت لليلتين بقيتا من جمادى الأولى من السنة إلى بلاده، وحمل علي بن الحسين وطوق بن المغلس معه، فلما أتى كرمان ألبسهما المصبغ من الثياب، وقنعهما بمقانع، ونادى عليهما وحبسهما، ومضى إلى سجستان. وخلع الخليفة المعتز بالله لثلاث خلون من رجب من هذه السنة وتولى الخلافة الإمام المهتدي بالله في ذلك اليوم وخلع المهتدي بالله مع صلاة الظهر من يوم الثلاثاء لأربع عشرة بقيت من رجب سنة ست وخمسين ومائتين، وبويع المعتمد على الله. ولم يكن ليعقوب الصفار في خلافة المهتدي كبير أمر، بل كان   (1) ر: فهدده. (2) ع: من بيت مال. (3) ع ق: أنواع. (4) ع ق: فرسي. (5) ع ق: ينفعه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 410 يغزو ويحارب من يليه من الملوك بسجستان وأعمالها، ويتطرف كور خراسان وما قرب من قوهستان ونواحي هراة وبوشنج وما اتصل بسجستان. ثم عاد يعقوب إلى بلاد فارس وجبى غلاتها ورجع بثلاثين ألف ألف درهم، وصار إلى سجستان وأقام محمد بن واصل بفارس يتولى الحرب والخراج، ويكاتب الخليفة، ويحمل ما يجبى من الأموال، فكان مقدار ما يحمل في السنة خمسة آلاف ألف درهم من الخراج ببلاد فارس، وكان مقيماً بها غلبة عليها، ولو أمكن الخليفة صرفه عنها ببعض أوليائه لما أقره. ثم ورد الخبر في جمادى الآخرة من سنة ثمان وخمسين ومائتين بدخول يعقوب مدينة بلخ، ثم خرج منه ودخل نيسابور في ذي القعدة من سنة تسع وخمسين ومائتين، واحتاط على محمد بن طاهر الخزاعي أمير خراسان وجميع الطاهرية، ثم خرج عنها في المحرم من سنة ستين ومائتين ومعه محمد بن طاهر مقيداً ونيف وستون من أهله. وتوجه نحو جرجان للقاء الحسن بن زيد العلوي أمير طبرستان وجرجان، ولما بلغ الحسن بن زيد أن يعقوب يقصده أخذ من أموال الخراج ثلاثة عشر ألف ألف درهم بقايا وسلفاً، وتخلص من جرجان إلى طبرستان، ودخل يعقوب جرجان، ووجه من أصحابه من أخذ سارية طبرستان، وكان بجرجان يعلق على دوابه كل يوم ألف قفيز شعيراً، ثم خرج يعقوب إلى طبرستان وخرج إليه الحسن بن زيد في خلق كثير، وأعلم يعقوب أصحابه أنه يقتل من انهزم منهم، وتقدم بنفسه للحرب، فتبعه خمسمائة من عبيده، فحمل على الحسن وأصحابه حملة واحدة فكانت الهزيمة على القوم، وكان الحسن بن زيد قد أعد في كل قرية في طريقه لانهزامه برذوناً (1) وبغلاً لأنه كان رجلاً ثقيلاً كثير اللحم، وتلاحق أصحاب يعقوب به فتبع الحسن بن زيد في خمسة آلاف خيل (2) جريدة، وأخذ يعقوب مما كان مع الحسن بن زيد ثلثمائة وقر مالاً أكثرها عين، وظفر بجماعة من آل أبي طالب فأساء إليهم وأسرهم، وكانت الوقعة يوم الاثنين لأربع بقين من رجب سنة ستين ومائتين.   (1) في طريقه: سقطت من ق ر. (2) ع: من الخيل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 411 ثم تقدم يعقوب فدخل آمل - قلت: وهي بالهمزة الممدودة والميم المضمومة وبعدها لام، وهي كرسي بلاد طبرستان - قال: وهرب الحسن بن زيد إلى مدينة يقال لها سالوس، فلم يجد من أهلها ما كان يعرفه منهم، فتنحى عنهم، ثم خرج يعقوب من آمل فطلب الحسن بن زيد، فرحل مرحلة واحدة، وبلغه الخبر أن الحسين بن طاهر بن عبد الله قد دخل مرو الروذ ومعه صاحب خوارزم في ألفي تركي، فانزعج يعقوب لذلك، وقصر من الإيغال في طلب الحسن بن زيد، فرجه وكتب إلى أمير الري في ذي الحجة من سنة ستين يأمره أن يخرج من الري، ويعلمه أن أمير المؤمنين قد ولاه إياه، فبلغ ذلك الخليفة فأنكره وعاقب غلمانه الذين كانوا ببغداد بالحبس وأخذ الأموال. ثم دخلت سنة إحدى وستين ومائتين ويعقوب ببلاد طبرستان، فخرج في المحرم يريد جرجان، فلحقه الحسن بن زيد من ناحية البحر فيمن اجتمع إليه من الديلم وأهل الجبال وطبرستان فشعث من يعقوب وقتل من لحق من أصحابه، فانهزم يعقوب إلى جرجان، فجاءت بها زلزلة عظيمة قتلت من أصحابه ألفي إنسان ورجعت طبرستان إلى الحسن بن زيد، وهي آمل وسارية وما يتصل بهما، وأقام يعقوب بجرجان يعسف أهلها بالخراج، ويأخذ أموال الناس، ودامت الزلزلة ثلاثة أيام، وأتى جماعة من أهل جرجان إلى بغداد فسئلوا عن يعقوب الصفار، فذكروه بالجبروت والعسف، فعزم الخليفة على النهوض إليه واستعد لذلك، ولما رجع الصفار إلى جوار (1) الري ورجع عن الموسم كتب الخليفة المعتم على الله إلى عبيد الله بن عبد الله بن طاهر بن الحسين وهو يومئذ متولي (2) العراق بأن يجمع الحاج من أهل خراسان وطبرستان وجرجان والري يقرأ عليهم كتاباً منه إليه، فجمع الحاج القادمين من أقاصي البلاد، وقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين بالوقوع في الصفار، وعمل ثلاثين نسخة، ودفع إلى أهل كل كورة نسخة لتذيع الأخبار بهذه النسخ في الآفاق. ونمي الخبر إلى يعقوب الصفار بما كان من حنس غلمانه، وما كان من جمع الحاج في دار عبيد الله، وما دفع   (1) ق: خوارى. (2) ر: يتولى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 412 إليه من النسخ، وانكشف له رأي الخليفة في قصده، فرجع إلى نيسابور، وإنما رجع لأنه لم يجد عدة تصلح للقاء الخليفة، ولما دخل إلى نيسابور أساء إلى أهلها بأخذ الأموال ورجع يريد جهة سجستان في جمادى الأولى من سنة إحدى وستين ومائتين. ولمنا رجع إلى سجستان خرجت كتب الخليفة إلى أصحاب الممالك بخراسان وذوي الجاه بتولية كل رجل ناحية، فوردت الكتب وأصحاب الصفار متفرقون في كور خراسان. ثم إن الصفار وصل إلى عسكر مكرم من أعمال خوزستان وكاتب الخليفة، وسأله ولاية خراسان وبلاد فارس وما كان مضموماً إلى آل طاهر بن الحسين الخزاعي من الكور وشرطتي بغداد وسر من رأى، وأن يعقد له على طبرستان وجرجان والري وأذربيجان وقزوين، وأن يعقد له على كرمان وسجستان والسند، وأن يحضر من قرئت عليهم الكتب التي نسخت في دار عبيد الله بن عبد الله بن طاهر ويقرأ عليهم خلاف ما قرئ عليهم أولاً من ذكره، ليبطل ذلك الكتاب بهذا الكتاب، ففعل ذلك الموفق بالله أبو أحمد طلحة بن المتوكل على الله، وهو أخو الخليفة المعتمد على الله والد المهتضد بالله الخليفة القائم بعد عمه المعتمد على الله، وكان الموفق مستولياً على الأمور كلها وليس للمعتمد معه سوى اسم الخلافة لا غير، وأجابه إلى ما طلب، وجمع الناس وقرأ عليهم ما أحبه الصفار، وأجيب إلى الولاية التي طلبها، واضطربت الموالي بسر من رأى من إجابة الخليفة إلى ما طلبه الصفار، وتحركوا. ثم إن الصفار لم يلتفت إلى ما أجيب إليه من ذلك، ودخل السوس وهي أيضاً مدينة من أعمال خوزستان بالقرب من عسكر مكرم، ولما دخلها عزم على محاربة الخليفة المعتمد وتأهب له الخليفة لينحدر إليه في دجلة، ثم تقدم الصفار وتقدم إليه عسكر الخليفة، وقد كانت الموالي ارتابت واتهمت المير الموفق، وتوهمت أن إقبال الصفار بسبب ما أنفذ إليه من الكتب، وإلا فأي عجيب أعجب من خارج قصد من زرنج كرسي سجستان، وهي الحد الفاصل بين السند والترك وخراسان، والوصول إلى بلاد العراق لمحاربة الخليفة، وهو في جيوشه وعدده وتقادم مملكته في شرق الأرض وغربها، والصفار منفرد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 413 بجيشه (1) ليس معه من يعضده ولا يشاركه في هذا الأمر! ولما بلغ الخليفة ذلك دعا ببرد النبي صلى الله عليه وسلم وقضيبه، وأخذ القوس ليكون أول من رمى، ولعن الصفار، فطابت أنفس الموالي. ولما كان صبيحة الأحد لتسع خلون من رجب وردت عساكر الصفار في التعبية إلى موضع يقال له اصطربند (2) ، وهي قرية بين السيب ودير العاقول من النهروان الأوسط، وجمع أصحابه ليحمل بهم، وتقدم بنفسه كما كان يفعل قبل ذلك، وأقبل وعليه دراعة ديباج سوداء، ولما تواقف الصفان خرج من الموالي خشتج القائد فقام بين الصفين وقال لأصحاب الصفار: يا أهل خراسان وسجستان، ما عرفناكم إلا بطاعة السلطان وتلاوة القرآن وحج البيت وطلب الإنكار (3) ، وإن دينكم لا يتك إلا باتباع الإمام (4) ، وما نشك أن هذا الملعون قدموه عليكم، وقال لكم: إن السلطان قد كتب إليه بالحضور، وهذا السلطان قد خرج لمحاربته، فمن آثر منكم الحق بدينه وشرائع الإسلام فلينفرد عنه إذ كان شاقاً للعصا محارباً للسلطان، فلم يجيبوه عن كلامه، وكان هذا خشتج شجاعاً مقداماً. ولما تخلص محمد بن طاهر بن عبد الله بن طاهر بن الحسين أمير خراسان من أسر الصفار - وقد تقدم ذكر أسره وحمله مقيداً - قال له خشتج: يا آل طاهر، اشتريتمونا بأموالكم وأهديتمونا إلى ولد العباس، فاستخلفونا وملكونا الضياع والأموال، حتى قدنا الجيوش وحاربنا عن بيضة الإسلام، فلم نخرج من الدنيا حتى حاربنا الصفار عنك يا والي خراسان مع مولانا أمير المؤمنين، وخلصناك بعد الأسر والقيد الثقيل من مدينة إلى مدينة على بغل إكاف ورددناك من العراق إلى خراسان، فالحمد لله على ما تفضل به مولانا من خلاصك، وأولانا هذا الفعل الجميل فيك.   (1) ر: متفرد في جيشه. (2) ع: اصطربيد؛ ق: اصطرنبد. (3) ر: الأذكار. (4) ع: بطاعة السلطان. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 414 رجعنا إلى تتمة خبر الصفار: قال الراوي: وحزر عسكر الصفار فكانت مساحة معسكره ميلاً في ميل وكانت دوابهم في غاية الفراهة، وقيل إن جمعهم كان يزيد على عشرة آلاف إنسان، ووضع الخليفة العطاء في الجند وقطع ما في الطريق من الشجر والدغل، واستعدوا للحرب وجدوا فيها وشمروا، وقيل ما هو إلا أن تنصروا أو تنهزموا فلا ترجع دولتكم إليكم، ووقف الخليفة المعتمد بنفسه وإلى جانب ركابه محمد بن يزيد بن مزيد بن زائدة الشيباني - وقد تقدم ذكر جده يزيد بن مزيد - ووقف معه جماعة واكتنفوا من أهل البأس والنجدة، وتقدم بين يديه الرماة بالنشاب، وكشف الموفق أخو الخليفة رأسه وقال: أنا الغلام الهاشمي، وحمل على أصحاب الصفار، وقتل بين الطائفتين خلق كثير، فلما رأى الصفار تلك الحال ولى راجعاً تاركاً أمواله وخزائنه وذخائره، ومر على وجهه فلم تتبعه العساكر، وما أفلت من أصحابه رجل إلا بسهم أصابه، وأدركهم الليل فتساقطوا في النهار لازدحامهم وثقل الجراح بهم، قال أبو الساج داود ابن دوست الذي (1) تنسب إليه الأجناد الساجية ببغداد للصفار لما انهزم: ما رأيت معك شيئاً من تدبير الحروب، وكيف كنت تغلب الناس، فإنك جعلت ثقلك وأموالك وأسراك أمامك وقصدت بلداً على قلة المعرفة منك به وبمغايصه وأنهاره بغير دليل، وقاتلت يوم الأحد والريح عليك، وسرت من السوس إلى واسط في أربعين يوماً، وأحوال العساكر مختلة، فلما توافت عددهم، وجاءتهم أموالهم واستحكم أمرهم عليك أقبلت من واسط إلى دير العاقول في يومين، وتأخرت عند إمكان الفرصة وأقبلت تعدو في موضع التثبت، فقال الصفار: لم اعلم أني أحار ولم أشك في الظفر، وتوهمت أن الرسل ترد علي، فبدروا الأمر فأتيت بما قدرت عليه. قلت: هذا آخر ما نقلته من كلام ابن الزهر مع الاختصار.   (1) ع: هو الذي. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 415 ونقلت من تاريخ أبي الحسين عبيد الله بن أحمد بن أبي (1) طاهر الذي جعله ذيلاً على تاريخ أبيه في " أخبار بغداد " وقد أطال القول فيه فاختصرته وحذفت ما تكرر منه، فقال: كان وثوب يعقوب بن الليث على درهم وغلبته على سجستان يوم السبت لخمس خلون من المحرم سنة سبع وأربعين ومائتين، وكانت ولاية درهم بن نضر (كذا) (2) ثلاث سنين بعد إخراجه صالح بن النضر، وهو رجل من بني كنانة، من سجستان في ذي الحجة سنة سبع وثلاثين ومائتين، ولم يزل يعقوب الصفار مقيماً بسجستان يحارب الشراة والتراك ويظهر أنه متطوعي، حتى كانت سنة ثلاث وخمسين ومائتين، فخرج إلى هراة ثم قصد بوشنج وحاصرها وأخذها عنوة، وكان ذلك في خلافة المعتز ومات المعتز ويعقوب على حاله، ولم يزل على ذلك إلى أيام المعتمد على الله، ثم دخل بلخ وخرج منها، ثم وصل إلى رامهرمز وهو يظهر الطاعة للخليفة المعتمد، وذلك في المحرم من سنة اثنتين وستين ومائتين، ثم أرسل رسله إلى المعتمد فدخلوا بغداد لأربع عشرة ليلة خلت من جمادى الآخرة من السنة المذكورة، ثم صار إلى واسط، وأقام بها نائباً عنه ثم صار إلى دير العاقول يوم السبت لثمان خلون من رجب، ثم صار إلى اصطربند فنزل بها، ولما اتصل خبره بالمعتمد وأنه يقصد بغداد جمع أصحابه من الأطراف، وخرج من سر من رأى قاصداً لمحاربته، ودخل بغداد يوم الأحد لخمس بقين من ذي الحجة من السنة. قال أبو الفرج كاتب القاضي أبي عمر: لما نهض الخليفة لمحاربة الصفار لم تزل كتبه تسير إليه من الطريق يؤمر بالانصراف، ويحذر سوء عاقبة فعله، وأن أمير المؤمنين قد نهض إليه في العدد والعدد، وكتب الصفار واردة بأني قد علمت نهوض أمير المؤمنين ليشرفني وينبه على موقعي منه، ثم عبر الخليفة جيشه للقتال على القرية المذكورة، وأرسلوا الماء على طريق الصفار، فكان سبب هزيمته، فإنهم أخذوا عليه الطريق وهو لا يدري، واصطف الفريقان، ولم   (1) أبي: سقطت من ق. (2) وردت " كذا " في الأصل، لأن اسمه من قبل ورد " درهم بن الحسن ". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 416 يزل القوم يحمل بعضهم على بعض حتى انهزم الصفار، فغنم الناس من أثقاله غنيمة عظيمة، وتوهموا أن ذلك حيلة منه مكر، ولولا ذلك لاتبعوه، ولقد حدثني من حضر ذلك أن رشق الجند الموالي كان في ذلك الوقت عشرين ألف سهم، وانصرف الخليفة مسروراً بما فتح الله عليه. وكان ممن تخلص من أسره ذلك اليوم أبو عبد الله محمد بن طاهر أمير خراسان وجاء إلى الخليفة وهو في قيده، ففك الخليفة عنه القيد، وخلع عليه خلعة سلطانية. وذكر المعتمد ذلك النهار أنه رأى تلك الليلة في المنام كأن إنساناً كتب على صدره (إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً) (الفتح: 1) وقص الرؤيا على خواصه، وقال لهم: قد وثقت بنصر الله تعالى. وقبل الواقعة وردت كتب الصفار إلى الخليفة وفيها خضوع وتضرع (1) ، ويخبر بأنه لم يجئ إلا لخدمة أمير المؤمنين، والتشرف بالمثول بين يديه، والنظر إليه، وأن يموت تحت ركابه، فقال المعتمد: نحن في مخاريق الصفار بعد، أعلموه أنه ما له عندي إلا السيف. وأمر الخليفة بالكتاب إلى أبي أحمد عبيد الله بن عبد الله بن طاهر، وهو عم محمد بن طاهر بن عبد الله بن طاهر، يخبره بالفتح وخلاص ابن أخيه محمد بن طاهر، فكتب إليه وهو يومئذٍ يتولى الشرطة ببغداد نيابة عن ابن أخيه المذكور، فإنه يتولى خراسان وشرطتي بغداد وسر من رأى وفي الكتاب فصول طويلة، وحاصله أنه عدد ذنوب الصفار، وما قابله به الخليفة من الإحسان والإنعام، وأنه قلده خراسان والبلاد التي تقدم ذكرها قبل هذا، وأنه رفع مرتبته وأمر بتكنيته في كتبه وأقطعه الضياع السنية، ولم يبق شيء مما يقدر فيه استصلاحه إلا فعله، فما زاده ذلك إلا البغي والطغيان، والتمس أشياء إن رد عنها قصد أبواب أمير المؤمنين لإثارة الفتنة وابتغاء الغلبة، فلم ير أمير المؤمنين إجابته إلى ما التمسه، وتابع الكتب بالرجوع إلى أعماله الجليلة التي ولاه إياها، وحذره التعرض لزوال النعم التي أنعم الله عليه بها، فقد خالفه وعصاه وخرج عن طاعته، وعرفه أنه إن أقام على المصير إلى الباب فقد عصاه وخرج عن طاعته، ثم وجه إليه في ذلك مرة بعد أخرى مع جماعة   (1) ر: تضرع وخضوع. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 417 من القضاة والفقهاء والقواد، وقدر بتوجههم إليه أنه يرجع إلى ما هو ألزم به وأوجب عليه، فأقام على سبيل واحد في البغي والعناد والعصيان، ولم يثنه الإرشاد، ولم يزل استحواذ الشيطان عليه يقوده إلى الحين ويصده عن سبيل النجاة إلى مهاوي الهلكة، فلما تبين أيمر المؤمنين ذلك منه رأى أن يقضي عليه في أمر مثله، فنهض متوكلاً على الله تعالى معتمداً على كفايته لدفع الملعون عما يحاوله، وهو يغذ السير إلى المصرع الذي سبق به قضاء الله تعالى فيه، حتى توسط الطريق بين مدينة السلام وواسط، وأظهر أعلاماً على بعضها الصلبان، واستنجد أهل الشرك على أهل الإيمان، وبارز الله بسريرته ليسلمه بجريرته، وفارق شرائع الإسلام وأحكامه، نقضاً للعهود ونكثاً وخفراً للذمة وإعلاناً للمشاقة، فقدم أمير المؤمنين أخاه الموفق بالله أحمد ولي عهد المسلمين ومعه جماعة من موالي أمير المؤمنين الذين أخلصوا لله طاعتهم وثبت في المحاماة عن دولته بصائرهم، وأتبعهم أمير المؤمنين الرغبة إلى الله تعالى في تأييدهم ونصرهم على عدوهم، ولعنه أمير المؤمنين في الأوقات والمواقف التي علم الله صدق نيته فيها، وألحقه وبالها، ووقف أمير المؤمنين يتأمل ما يكون من أخيه ومواليه وأوليائه، ويواصل الإمداد والجيوش إليهم، وكان الموفق بالله في قلب العسكر، وظهر الملعون عدو الله في أشياع ضلالته قد ادرع العصيان، وتسربل البغي واعتمد على وفور حشده وكثرة أتباعه، فلما تراءى الجمعان شهر عدو الله وأشياع ضلالته السلاح، وأسرعوا إلى موالي أمير المؤمنين وأوليائه، وشرعت في الملعون وضلاله سيوف الحق باترة ورماحه طاعنة وسهامه نافذة، حتى أثخن الملعون بالجراح، ورأى أتباع ضلالته ما حل به، فبادروا بالويل والثبور، وأكب عليهم موالي أمير المؤمنين وأوليائه، يقتلون فيهم ويأسرون منهم، وعجل الله إلى النار من جماعته من لا يحصى عدده، ولم يزل الأمر كذلك حتى انتزع أبو عبد الله محمد بن طاهر مولى أمير المؤمنين سالماً من أيديهم، وحسروا عن مستقرهم، فولى الباقون منهزمين مفلولين، لا يلوون على شيء، وأسلم الله تعالى الملعون، وهم وما كانوا حووه وملكوه في سالف الأيام التي أملى الله تعالى لهم فيها أقطار الأرض من الأموال والأمتعة والأثاث والإبل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 418 والدواب والبغال والحمير، فأفاءه الله على الموالي وسائر الأولياء وملكهم إياه، وصاروا به إلى رحالهم. وعلى الجملة فإن هذا الكاتب أطال القول في ذلك فاختصرته، ثم كتب في آخره: وكتبه عبيد الله بن يحيى يوم الأربعاء لاثنتي عشرة ليلة خلت من رجب سنة اثنتين وستين ومائتين. ثم قال هذا المؤرخ بعد هذا: ومضى الصفار منهزماً إلى واسط يتخطف أهل القرى، وتؤخذ أسلحتهم وأسلابهم، ولم تتبعه الموالي مخافة رجعته ولاشتغالهم بالكسب (1) والنهب، فأمسكوا عنه، ورجع الخليفة إلى معسكره، ثم رجع الصفار إلى السوس وجبى الأموال، ثم قصد تستر وحاصرها وأخذها ورتب فيها نائباً، وكثر جمعه، ثم رحل إلى فارس في شوال، وكان الخليفة قد رجع إلى المدائن وأقام بها يومين، ثم رحل إلى بغداد ومنها إلى سر من رأى، ودخلها يوم الجمعة لثلاث عشرة ليلة خلت من شعبان. ثم ذكر المؤرخ هذا: وورد (2) الخبر على الخليفة بوفاة يعقوب بن الليث الصفار يوم الثلاثاء لأربع عشرة ليلة خلت من شوال، والذي أصيب في بيوت أمواله من العين أربعة آلاف ألف دينار، ومن الورق خمسون ألف ألف درهم، ووافى أحمد بن أبي الأصبغ يوم الخميس لسبع بقين من شوال، وقد كان الخليفة أنفذه ليصلح أمر يعقوب، فانصرف من عند يعقوب، فلما قرب من واسط اتصل به وفاة يعقوب، وقد كان قلد خراسان وفارس وكرمان والري وقم وأصبهان، وصيرت إليه الشرطتان ببغداد وسر من رأى، على أن يوليها من أحب، وعلى أن يوجه ثلثي ما يجبى من خراج البلاد التي يتولاها من جميع الأعمال. وتولى أخوه عمرو بن الليث مكانه باجتماع عسكر يعقوب عليه، ووردت كتب عمرو إلى الموفق أخي الخليفة المعتمد على الله بالسمع والطاعة، وأن يتولى ما كان أخوه يتولاه، فاجيب إلى سؤاله، وولاه في ذي القعدة من السنة.   (1) بالكسب، سقطت من ع. (2) ع: ورود. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 419 قلت: سياقة هذا التاريخ يدل على أن يعقوب الصفار توفي في بقية سنة اثنتين وستين ومائتين، لأنه حكى الوقعة في هذه السنة، وأن يعقوب انهزم. ثم قال عقيب هذا: وورد الخبر بوفاة يعقوب في شوال، ولم يذكر السنة، فيدل على موته في تلك السنة. والذي أعرفه من عدة تواريخ خلاف هذا، فإن أبا الحسين السلامي ذكر في كتاب " تاريخ أخبار ولاة خراسان "، في أول الفصل المختص بعمرو بن الليث الصفار فقال: كان سبب وفاة يعقوب بن الليث أنه أصابه القولنج، فأشير عليه بالعلاج فامتنع منه واختار الموت عليه، فمات بجنديسابور من خوزستان يوم الثلاثاء لأربع عشرة ليلة خلت من شوال من سنة خمس وستين ومائتين. قال أبو الوفاء الفارسي: رأيت على قبر يعقوب بن الليث صحيفة، وقد كتبوا عليها: ملكت خراسانا وأكناف فارس ... وما كنت من ملك العراق بآيس سلام على الدنيا وطيب نسيمها ... إذا لم يكن يعقوب فيها بجالس ورأيت بخطي في جملة (1) مسوداتي: أن يعقوب بن الليث الصفار توفي سنة خمس وستين ومائتين بالأهواز، وحمل تابوته إلى جنديسابور فدفن بها، وكتب على قبره: هذا قبر يعقوب المسكين، وكتب بعده: أحسنت الأيام إذ حسنت ... ولم تخف سوء ما يأتي به القدر وسالمتك الليالي فاغتررت بها ... وعند صفو الليالي يحدث الكدر ورأيت بخطي أيضاً في موضع آخر أنه توفي بجنديسابور ودفن بميدانه، واله أعلم، وهو قاصد العراق في التاريخ المذكور. وكانت وفاته بعلة القولنج، وأخبره طبيبه أن لا دواء له إلا الحقنة، فامتنع منها واختار الموت عليها، وكانت مدة علته بالقولنج والفواق ستة عشر يوماً. ومدة تغلبه على سجستان وتلك النواحي أربع عشرة سنة وشهوراً.   (1) جملة: سقطت من ع. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 420 وذكر شيخنا ابن الأثير في تاريخه في سنة خمس وستين ومائتين أنه مات فيها يعقوب بن الليث في تاسع عشر شوال من السنة، وذكر حديث القولنج وامتناعه من الحقنة، وأنه مات بجنديسابور من كور الأهواز - قلت: وهي من أعمال خوزستان بين العراق وبلاد فارس - وقال شيخنا أيضاً: وكان الخليفة المعتمد قد أنفذ إليه رسولاً يترضاه ويستميله ويقلده أعمال فارس، فوصل الرسول إليه ويعقوب مريض، فجلس له، وجعل عنده سيفاً ورغيفاً من خبز الخشكار ومعه بصل. وأحضر الرسول، فأدى الرسالة، وقال له: قل للخليفة إني عليل، فإن مت فقد استرحت منك واسترحت مني، وإن عوفيت فليس بيني وبينك إلا هذا السيف حتى آخذ بثأري أو تكسرني وتفقرني، فأعود إلى هذا الخبز والبصل، وعاد الرسول، فلم يلبث يعقوب أن مات. وقال ابن حوقل في كتاب " المسالك والممالك " إن جنديسابور مدينة حصينة واسعة الخير، وبها نخل وزروع كثيرة ومياه، وقطنها يعقوب بن الليث الصفار لخصبها واتصالها بالمير الكثيرة. وكان الحسن بن يزيد العلوي يسمى يعقوب " السندان " لثباته، وكان قل أن يرى متبسماً، وكان عاقلاً حازماً، وكان يقول: كل من عاشرته أربعين يوماً ولا تعرف أخلاقه لا تعرفها في أربعين سنة. (351) ولما تولى عمرو أحسن في التدابير والسياسة غاية الإحسان، حتى يقال ما أدرك في حسن السياسة للجنود والهداية إلى قوانين المملكة منذ زمن طويل مثل عمرو بن الليث. وذكر السلامي في كتاب " أخبار خراسان " شيئاً كثيراً من كفايته ونهضته، وقيامه بقواعد الولاية، فتركته طلباً للاختصار. وذكر أنه كان ينفق في الجند في كل ثلاثة أشهر مرة، ويحضر بنفسه على ذلك، وأن عارض الجيش يقعد والأموال بين يديه، والجند بأسرهم حاضرون وينادي المنادي أولاً باسم عمرو بن الليث، فتقدم دابته إلى العارض بجميع آلة الفارس، فيفتقدها ويأمر بوزن ثلثمائة درهم باسم عمرو، فتحمل إليه في صرة فيأخذ الصرة ويأمر بوزن ثلثمائة درهم باسم عمرو، فتحمل إليه في صرة فيأخذ الصرة فيقبلها ويقول: الحمد لله الذي وفقني لطاعة أمير المؤمنين حتى استوجبت منه الرزق، ثم يضعها في خفه، فتكون لمن ينزع خفه، ثم يدعى بعد ذلك الجزء: 6 ¦ الصفحة: 421 بأصحاب الرسوم على مراتبهم، فيستعرضون بآلاتهم التامة وبدوابهم الفره، ويطالبون بجميع ما يحتاج إليه الفارس والراجل من صغير آلة وكبيرها، فمن أخل بإحضار شيء منها حرموه رزقه، فاعترض يوماً فارساً كانت دابته غاية الهزال، فقال له عمرو: يا هذا تأخذ مالنا تنفقه على امرأتك فتسمنها، وتهزل دابتك التي عليها تحارب وبها تجد الأرزاق امض فليس لك عندي شيء، فقال له الجندي: جعلت لك الفداء، لو اعترضت امرأتي لاستسمنت دابتي، فضحك عمرو وأمر بإعطائه وقال: استبدل بدابتك. قلت: ذكر القاضي كمال الدين، المعروف بابن العديم الحلبي رحمه الله تعالى، في " تاريخ حلب " حكاية يليق أن أذمرها هاهنا، لأنها مثل هذه الحكاية، وهي: كان كسرى أنوشروان بن قباذ قد ولى رجلاً من الكتاب نبيهاً، معروفاً بالعقل والكفاية، يقال له بابك بن البهروان، ديوان الجند، فقال لكسرى: أيها الملك إنك قد قلدتني آمراً من صلاحه أن تحتمل لي بعض الغلظة في الأمور وهي عرض الجنود في كل أربعة أشهر، وآخ كل طبقة بكمال آلتها ومحاسبة المؤدبين على ما يأخذون على تأديب الرجال بالفروسية والرمي والنظر في مبالغتهم في ذلك وتقصيرهم، فإن ذلك ذريعة إلى إجراء السياسة مجاريها، فقال كسرى: ما المجاب بما سأل بأحظى من المجيب، لاشتراكهما في فضله، وانفراد المجيب بعد الراحة، حق مقالتك، فأمر فبنيت له موضع العرض مصطبة، وبسط له عليها الفرش الفاخرة، ثم جلس ونادى مناديه: لا يبقين أحد من المقاتلة إلا حضر للعرض، فاجتمعوا ولم ير كسرى، فأمرهم فانصرفوا، وفعل ذلك في اليوم الثاني، ولم ير كسرى فيهم فأمرهم فأمرهم فانصرفوا، فنادى في اليوم الثالث: أيها الناس لا يتخلفن من المقاتلة أحد، ولا من أكرم بالتاج والسرير، فإنه عرض لا رخصة فيه ولا محاباة، وبلغ كسرى ذلك، فتسلح بسلاحه ثم ركب فاعترض على بابك، وكان الذي يؤخذ به الفارس تجفافاً ودرعاً وجوشناً وبيضة ومغفراً وساعدين وساقين ورمحاً وترساً وجرزاً تلزمه منطقة وطبرزيناً وعموداً، وجعبة فيها قوسان بوتريهما وثلاثين نشابة، ووترين الجزء: 6 ¦ الصفحة: 422 ملفوفين يعلقهما الفارس في مغفره ظهرياً، فاعترض كسرى على بابك بسلاح تام، خلا الوترين اللذين يستظهر بهما، فلم يجز بابك على اسمه، فذكر كسرى الوترين فعلقهما في مغفره، واعترض على بابك، فاجاز على اسمه، وقال: لسيد الكماة أربعة آلاف درهم ودرهم، وكان أكثر ماله من الرزق (1) أربعة آلاف درهم، ففضل كسرى بدرهم. فلما قام بابك من مجلسه دخل على كسرى فقال: أيها الملك، لا تلمني على ما كان من إغلاظي، فما أردت به إلا الدربة للمعدلة والإنصاف، وحسم مادة المحاباة، قال كسرى: ما أغلظ علينا أحد فيما يريد به إقامة أودنا وصلاح ملكنا إلا احتملنا له غلطته، كاحتمال الرجل شرب الدواء الكريه، لما يرجوه من منفعته. رجعنا إلى تتمة أخبار عمرو بن الليث الصفار: قال السلامي أيضاً: كان رافع بن هرثمة تبعاً لأبي ثور، وكان أبو ثور أحد قواد محمد بن طاهر الخزاعي، فلما وافى يعقوب الصفار نيسابور كان أبو ثور من جملة من مايل يعقوب على محمد بن طاهر، فلما انصرف يعقوب إلى سجستان صحبه أبو ثور، ومعه رافع بن هرثمة، وكان رجلاً طويل اللحية كريه الوجه قليل الطلاقة، فدخل يوماً إلى يعقوب، فما خرج من عنده قال يعقوب: إني لا أميل إلى هذا الرجل فليلحق بحيث يشاء، فباع رافع جميع آلاته ثم انصرف إلى منزله بيامين، وهي من قرى كنج رستاق، وأقام هناك إلى أن استقدمه أحمد بن عبد الله الخجستاني - وخجستان: من جبل هراة، من قرى بادغيس؛ وكان الحجستاني من أتباع يعقوب الصفار، ثم خلع طاعته وتغلب على نيسابور وبسطام في سنة إحدى وستين ومائتين، وكان يظهر الميل إلى الطاهرية مستميلاً بذلك قلوب أهل نيسابور إليه، حتى إنه كان يكتب في كتبه: أحمد بن عبد الله الطاهري.   (1) ر: الورق. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 423 ثم كتب الخجستاني إلى رافع بن هرثمة، وهو في يلده، يستقدمه، فقدم عليه، فجعله صاحب جيشه، وللخجستاني حروب ومواقف مشهورة، وليس الغرض ذكر شيء منها هاهنا. ثم إن غلامين من غلمانه اتفقا عليه وقتلاه، وقد سكر ونام، وذلك في ليلة الأربعاء لست بقين من شوال سنة ثمان وستين ومائتين. وكان رافع بن هرثمة غائباً، فقدم بعد ذلك على جيش الخجستاني، فقدموه عليهم وبايعوه بمدينة هراة، وقيل بنيسابور. ثم عزل الموفق بالله عمرو بن الليث الصفار عن ولاية خراسان، وجعلها لأبي عبد الله محمد بن طاهر الخزاعي في سنة إحدى وسبعين ومائتين، وهو مقيم ببغداد، فاستخلف محمد بن طاهر عليها رافع بن هرثمة، ما خلا أعمال ما وراء النهر فإن الموفق بالله أقر عليها نصر بن أحمد بن أسد الساماني خليفة لمحمد بن طاهر. ثم وردت كتب الموفق على رافع بقصد جرجان وطبرستان، وكانتا للحسن بن زيد العلوي (1) ، وتوفي سنة سبعين ومائتين، واستولى عليهما أخوه محمد بن زيد، فجاءه رافع في سنة أربع وسبعين، ففارقها محمد بن زيد إلى استراباذ فحاصره بها رافع مدة سنتين، ثم فارقها ليلاً في نفر يسير إلى بلاد الديلم. واستولى رافع على طبرستان في سنة سبع وسبعين ومائتين. ثم توفي الخليفة المعتم على الله في رجب سنة تسع وسبعين ومائتين وتولى الخلافة بعده المعتضد بالله أبو العباس أحمد بن الموفق المذكور، وولى المعتضد أبا إبراهيم إسماعيل بن أحمد الساماني (2) ما وراء النهر بعد وفاة أخيه نصر بن أحمد المذكور - قلت: وكانت وفاة نصر لسبع بقين من جمادى الآخرة، سنة تسع وسبعين بسمرقند - قال: وعزل رافع بن هرثمة عن خراسان وولاها عمرو بن الليث، وبقي رافع بالري، ثم إنه هادن الملوك المجاورين له ليستعين بهم على عمرو بن الليث، فلكا تم له ذلك خرج إلى نيسابور، فواقعه عمرو بن الليث في شهر ربيع الآخر من سنة ثلاث وثمانين، وهزمه عمرو وتبعه إلى   (1) العلوي: سقطت من ر. (2) ر والمختار: السلماني. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 424 أبيورد، وقصد رافع أن يخرج منها إلى هراة أو مرو، فعلم عمرو أن مقصده سرخس، فقصدها عمرو ليأخذ عليه الطريق، فعلم رافع ذلك، فخرج من أبيورد ومعه دليل، فأخذ به على جبال طوس حتى أورده باب نيسابور فدخلها، فعاد عمرو إليها، وحاصره بها فانهزم رافع وأصحابه ووصل إلى نواحي خوارزم على الجمازات، وحمل ما كان معه من آلة ومال في شرذمة قليلة، وذلك يوم السبت لخمس بقين من شهر رمضان سنة ثلاث وثمانين ومائتين، فوجه إليه أمير خوارزم نائباً يقوم بخدمته وما يحتاج إليه إلى أن يصل خوارزم، فوجده النائب في خف من أصحابه، فقتله لسبع خلون من شوال يوم الجمعة سنة ثلاث وثمانين، وحز رأسه، وحمله إلى عمرو بن الليث وهو بنيسابور، فأنفذ عمرو رأسه إلى المعتضد بالله، ولم يكن رافع ابن هرثمة، وإنما هرثمة زوج أمه، فانتسب رافع إليه لأنه أشهر، ورافع ابن تومرد (1) . وقال ابن جرير الطبري في تاريخه في سنة ثلاث وثمانين (2) : وفي يوم الجمعة لثمان بقين من ذي القعدة قرئت الكتب على المنابر بقتل رافع بن هرثمة، وقدم رسول عمرو بن الليث برأس رافع إلى بغداد يوم الخميس لأربع خلون من المحرم سنة أربع وثمانين ومائتين على المعتضد، فأمر بنصبه في الجانب الشرقي إلى الظهر، ثم تحويله إلى الجانب الغربي بقية النهار إلى الليل، ثم ردوه إلى دار السلطان، قال السلامي: وصفت خراسان إلى شط جيحون لعمرو بن الليث. قلت: وقد مدح البحتري الشاعر المشهور رافع بن هرثمة، وكناه أبا يوسف في مديحه، وأرسلها إليه، فأرسل إليه عشرين ألف درهم وهو بالعراق. قال السلامي: ولما وجه عمرو بن الليث برأس رافع بن هرثمة إلى المعتضد سأل أن يولوه عمل ما وراء النهر مثل ما كان برسم عبد الله بن طاهر، فوعدوه بذلك ثم أرسل إليه المعتضد فوصلته وهو في نيسابور، فأبى أن يقبلها دون الوفاء بما وعدوه من تولية أعمال ما وراء النهر، فكتب الرسول إلى المكتفي بالله بن المعتضد، وكان بالري وعنده جماعة من خواص أبيه، بما سأله عمرو، فأنفذوا إليه العهد بها، فحمل إليه العهد والهدايا التي سيرها له المعتضد بالله   (1) ق: نومرد. (2) تاريخ الطبري 3: 2159 - 2160. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 425 وامتنع من أخذها، وكان في الهدايا سبع دسوت (1) خلع، فوضعت بين يديه، وأفاض عليه الرسول الخلع واحدة بعد أخرى، وكلما لبس خلعة صلى ركعتين، ثم وضع العهد قدامه، فقال: ما هذا قال: الذي سألته، فقال عمرو: ما أصنع به فإن إسماعيل بن أحمد لا يسلم إلي ذلك إلا بمائة ألف سيف، فقال: أنت سألته فشمر الآن لتتولى العمل في ناحيته، فاخذ العهد وقبله ووضعه بين يديه، ثم أنفذ عمرو إلى الرسول ومن معه سبعمائة ألف درهم وصرفهم، ثم جهز عمرو جيشاً إلى إسماعيل بن أحمد، فعبر إسماعيل إليهم نهر جيحون وقاتلهم، فقتل بعضهم وهزم الباقين، وعمرو بن الليث الصفار في نيسابور، وكانت الوقعة يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة بقيت من شوال سنة ست وثمانين ومائتين، وعاد إسماعيل إلى بخارا، وهي من أعمال ما وراء النهر. قال السلامي: انتدب عمرو بن الليث لمحاربة إسماعيل، محمد بن بشر، فلما عبر إسماعيل جيحون دخل موسى السجزي على محمد بن بشر وهو يحلق رأسه فقال له: هل استأذنت إسماعيل في حلق رأسك يعني أن رأسه لإسماعيل لأنه انتصب لمحاربته، فقال له محمد: اغرب عني لعنك الله، ثم تحاربوا من الغد، فانكشف أصحاب بشر وقبضوا عليه وحز رأسه في جملة من سائر الرؤوس وحملوها إلى إسماعيل، وأدخلوا جماعة من أصحابه ليميزوا الرؤوس عن رأس ابن بشر، فأعلم بعضهم إسماعيل بما قال موسى السجزي لابن بشر، فتعجب مما جرى الفأل به. وذكر الطبري في تاريخه في سنة سبع وثمانين ومائتين ما مثاله: وفي يوم الأربعاء لخمس بقين من جمادى الأولى ورد كتاب فيما ذكر على السلطان أنه كانت بين إسماعيل بن أحمد وبين عمرو بن الليث وقعة، فأسر عمراً واستباح عسكره. وكان من خبر عمرو وإسماعيل (2) أن عمراً سأل السلطان أن يوليه ما وراء النهر فولاه ذلك، ووجه إليه وهو مقيم بنيسابور بالخلع واللواء على ما وراء النهر، لمحاربة إسماعيل بن أحمد، فكتب إليه إسماعيل: إنك قد وليت   (1) دسوت: سقطت من ر. (2) ع: إسماعيل بن أحمد وعمرو. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 426 دنيا عريضة، وأنا في يدي ما وراء النهر، وأنا في ثغر، فاقنع بما في يدك، واتركني مقيماً بهذا الثغر، فأبى إجابته إلى ذلك، وذكر له من أمر نهر بلخ وشدة عبوره، فقال عمرو: لو أشاء أن أسكره ببدر الأموال وأعبر لفعلت. فلما يئس إسماعيل من انصرافه عنه جمع من معه من التناء والدهاقين وعبر النهر إلى الجانب الغربي، وجاء عمرو بن الليث فنزل بلخ، وأخذ إسماعيل عليه النواحي، فصار كالمحاصر، وندم على ما فعل، وطلب المحاجزة فيما ذكر، فأبى إسماعيل عليه ذلك، ولم يكن بينهم قتال كثير حتى هزم عمرو، فولى هارباً، ومر بأجمة في طريقه قيل إنها أقرب، فقال لعامة من معه: امضوا في الطريق الواضح، ومضى في نفر يسير، فدخل الأجمة، ووحلت به دابته فوقعت، ولم يكن له في نفسه حيلة، ومضى من معه ولم يلووا عليه، وجاء أصحاب إسماعيل فأخذوه أسيراً، فلما بلغ المعتضد ما جرى مدح إسماعيل وذم عمراً، وقال: يقلد أبو إبراهيم إسماعيل كل ما في يد عمرو، ويوجه إليه بالخلع. ثم ذكر الطبري أيضاً في سنة ثمان وثمانين ما مثاله (1) : وفي أول جمادى الأولى يوم الخميس أدخل عمرو بن الليث بغداد، وذكر لي أن إسماعيل بن أحمد خيره بين المقام عنده أسيراً (2) وبين توجيهه إلى أمير المؤمنين، فاختار توجيهه إلى أمير المؤمنين، فوجهه. وقال السلامي في " أخبار خراسان ": ثم خرج عمرو إلى بلخ فلاقاه بها إسماعيل فهزمه وقبض عليه، وذلك يوم الثلاثاء النصف من ربيع الأول سنة سبع وثمانين ومائتين، وأنفذه مقيداً إلى سمرقند - قلت: وهي من بلاد ما وراء النهر أيضاً، وهذا النهر هو جيحون - قال: وضم إليه أخاه أبا يوسف ليخدمه، إلى أن ورد عليه من عند المعتضد عبد الله بن الفتح بعهد خراسان واللواء والتاج والخلع في سنة ثمان وثمانين، وقدم معه إنسان (3) ليتولى حمل عمرو بن   (1) الطبري 3: 2203. (2) ع ر ق: أميراً. (3) ر: اسناس؛ ق: استاسن. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 427 الليث إلى بغداد فسلمه إسماعيل إليه، فحمله. وقال ابن طاهر المذكور قبل هذا في تاريخه: إن عمرو بن الليث الصفار انهزم وقتل خلق كثير من أصحابه. وكانت الوقعة على باب بلخ يوم الأربعاء لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ربيع الآخر سنة سبع وثمانين ومائتين، وقبل ذلك هرب ابن أبي ربيعة كاتب عمرو بن الليث إلى إسماعيل بن أحمد، ومعه قائد من قواده في خلق كثير، فأصبح عمرو في يوم الوقعة وقد عرف الخبر، ثم كثر هرب (1) أصحابه إلى إسماعيل، فضعف قلب عمرو وهرب، واشتغل بالعسكر، وبعث في طلب عمرو جيشاً، فوجدوه واقفاً على فرس، فقبضوا عليه، وسره إسماعيل إلى المعتضد، وأخبره بما جرى، وانه سيره إلى سمرقند، حتى يرد عليه أمر أمير المؤمنين، فاشتد سرور الخليفة بذلك، وقلد الخليفة إسماعيل ما كان مقلده مضافاً إلى عمله. وتوجه عبد الله بن الفتح إلى إسماعيل في طلب عمرو، فلما وصل إلى إسماعيل وجه إليه، فقيده وأرسله، وإلى جانبه رجل من أصحاب إسماعيل بيده سيف مشهور، وقيل لعمرو: إن تحرك في أمرك أحد رمينا رأسك إليهم، فلم يتحرك أحد، ووصلوا إلى النهروان يوم الثلاثاء لثلاث بقين من شهر ربيع الآخر سنة ثمان وثمانين، وحل قيد عمرو، فلما كان يوم الخميس مستهل جمادى الأولى ركب الجند للقائه وعمرو في القبة قد أرخى جلالها (2) عليه، فلما بلغ باب السلامة أنزل عمرو من القبة، وألبس دراعة ديباج وبرنس السخط، وحمل على جمل له سنامان، يقال له إذا كان ضخماً على هذه الصورة " الفالج "، في غاية الارتفاع، وكان عمرو قد أهداه فيما أهدى للخليفة، وقد ألبس الجمل الديباج وحلي بذوائب وأرسان مفضضة، وأدخل بغداد فاشتقها في الشارع العظم إلى دار الخليفة بقصر الحسني، وعمرو رافع يديه يدعو ويتضرع دهاء منه، فرقت له العامة، وأمسكت عن الدعاء عليه، ثم أدخل على الخليفة وقد جلس له واحتفل به، فوقف بين يديه ساعة، وبينهما قدر خمسين ذراعاً، وقال له: هذا ببغيك يا عمرو، ثم أخرج من   (1) ر: هرب أكثر. (2) ر: جلاجلها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 428 بين يديه إلى حجرة قد أعدت له، وكان أخوه يعقوب الصفار قد تزوج امرأة من العرب من بلد سجستان، فلما توفي يعقوب تزوجها أخوه عمرو، ثم توفيت ولم تخلف ولداً، وكان لها ألف وسبعمائة جارية. قال بعضهم: كنت عند أبي علي الحسين بن محمد بن الفهم المحدث، فدخل رجل من أصحاب الحديث فقال له: يا أبا علي، رأيت عمرو بن الصفار أمس على جمل فالج من الجمال التي كان أهداها عمرو منذ ثلاث سنين للخليفة فأنشد أبو علي: وحسبك بالصفار نبلاً وعزة ... بروح ويغدو في الجيوش أميرا حباهم بأجمالٍ ولم يدر أنه ... على جملٍ منها يقاد أسيرا وعمل في ذلك علي بن محمد بن نصر بن بسام الشاعر - المقدم ذكره: أيها المغتر بالدن ... يا أما أبصرت عمرا أركب الفالج بعد ال ... ملك والعزة القسرا وعليه برنس للسخ ... ط إذلالاً وقهرا رافعاً كفيه يدعو ... الله إسراراً وجهرا أن ينجيه من القت ... ل وأن يعمل صفرا قال الطبري (1) : وتوفي المعتضد بالله ليلة الاثنين لثمان بقين من شهر ربيع الآخر تسع وثمانين ومائتين. وتولى الخلافة ولده المكتفي بالله أبو محمد علي، وكان غائباً في الرقة عند موت أبيه، فقدم بغداد، وأمر يوم الثلاثاء لثمان خلون من جمادى الآخرة من السنة المذكورة بهدم المطامير التي كان أبوه احتفرها لأهل الجرائم. ومات عمرو بن الليث الصفار في غد هذا اليوم ودفن بالقرب من القصر الحسني، وقد كان المعتضد عند موته لما امتنع من الكلام أمر بقتل عمرو بالإيماء والإشارة ووضع يده على رقبته وعلى عينيه: أي اذبحوا (2) الأعور،   (1) تاريخ الطبري 13: 2207 - 2208. (2) ع: اقتل، الطبري: اراد ذبح. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 429 وكان عمرو أعور فلم يفعل صافي الحرمي ذلك، وهو الذي أمره المعتضد بقتله، وإنما امتنع من قتله لعلمه بحال المعتضد وقرب وفاته، وكره قتل عمرو. ولما دخل المكتفي بغداد سأل، فيما قيل، القاسم بن عبيد الله عن عمرو: أحي هو فقال: نعم، فسر بحياته وقال: أريد أن أحسن إليه. وكان عمرو يهدي إلى المكتفي ويبره براً كثيراً أيام مقامه بالري في حياة أبيه المعتضد، فذكر أن القاسم كره سؤاله عنه، ودس إليه من قتله. وكانت مدة مملكته اثنتين وعشرين سنة تقريباً. قلت: وإنما قيل ليعقوب: الصفار، لأنه كان يعمل الصفر، وهو النحاس وهو بضم الصاد المهملة وسكون الفاء وبعدها راء. وكان أخوه عمرو بكري الحمير. حكى شيخ من الصفارين قال: كان يعقوب وهو غلام في دكانه يتعلم عمل الصفر، ولم أزل أتأمل بين عينيه وهو صغير ما آل أمره إليه، قيل له: وكيف ذلك قال: ما تأملته قط من حيث لا يعلم بتأملي إياه وجدته مطرقاً إطراق ذي همة وروية، فكان من أمره ما كان. وقال علي بن المرزبان الأصفهاني الكاتب: سألت بعض أصحاب بني الصفار عن عمرو بن الليث أخي يعقوب بن الليث الصفار وصناعته، وعمر يومئذ محبوس بمدينة السلام، فسكت عني، فلما توفي عمرو قال لي: كنت سألتني عن عمرو وصناعته، ولم يكن من الحزم إخبارك وهو يرجى ويخشى، فاعلم الآن أنه لم يزل مكارياً إلى أن عظم شأن أخيه يعقوب وتمكن من خراسان، فلحق به وترك إكراء الحمير. قلت: ذكر جماعة من أرباب التواريخ في كتبهم أن أبا أحمد عبيد الله بن عبد الله بن طاهر (1) بن الحسين الخزاعي - المقدم ذكره في هذا الكتاب - كان يقول: عجائب الدنيا ثلاث: جيش العباس بن عمرو الغنوي يؤسر العباس وحده وينجو من القتل ثم يطلق ويقتل جميع جيشه، وكانوا عشرة آلاف. وجيش عمرو بن الليث يؤسر عمرو وحده ويموت في السجن ويسلم جميع جيشه وكانوا   (1) ع: أبا أحمد عبد الله بن طاهر؛ ق: عبيد الله بن طاهر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 430 خمسين ألفاً، وأنا أترك في بيتي بطالاً ويتولى ابني أبو العباس الجسرين ببغداد. (352) قلت: وكان من حديث العباس بن عمرو الغنوي (1) أن القرامطة لما اشتد أمرهم وانتشروا في البلاد وبالغوا في الفتك أرسل إليهم المعتضد بالله في سنة سبع وثمانين ومائتين جيشاً مقدمه العباس المذكور، فاسره أبو سعيد القرمطي رئيس القرامطة في الوقعة، وأسر جميع من معه من الجيش. وفي اليوم الثاني من الوقعة أحضر أبو سعيد القرمطي الأسرى فقتلهم بأسرهم وأحرقهم، وأطلق العباس، فجاء إلى المعتضد وحده، وكان ذلك في آخر شعبان من السنة، وكانت الوقعة بين البصرة والبحرين. وهي قصة طويلة مشهورة، وهذا خلاصتها إذ ليس هذا موضع التطويل في شرحها - وسيأتي ذكرها مع الاستقصاء ف التاريخ الكبير إن شاء الله تعالى. قلت: والبيتان المذكوران قبل هذا، وأنهما مكتوبان على قبر يعقوب الصفار، وآخر البيت الأول منهما: وما كنت من ملك العراق بآيس ... هذا نصف بيت من جملة أبيات ترنم بها معاوية بن أبي سفيان الأموي لما تغلب على الشام، وجاءه جرير بن عبد الله البجلي برسالة من علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، وكان علي إذ ذاك مقيماً بالكوفة، فلما أدى جرير الرسالة إلى معاوية وانفض المجلس أمر معاوية بنزول جرير في مكان قريب منه، وجعل يترنم بهذه الأبيات تلك الليلة ليسمع جرير، فيعيد ذلك على علي رضي الله عنه، والأبيات المشار إليها هي: تطاول ليلي واعتراني وساوسي ... لآتٍ أتى بالترّهات البسابس أتاني جرير والحوادث جمة ... بتلك التي فيها اجتداع المعاطس أكايده والسيف (2) بيني وبينه ... ولست لأثواب الدني بلابس إن الشام أعطت طاعةً يمنيةً ... تواصفها أشياخها في المجالس   (1) انظر الطبري 3: 2196. (2) ر: والبيض. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 431 فإن يفعلوا أصدم علياً بجبهةٍ ... تفت عليه كل رطبٍ ويآبس وإني لأرجو خير ما نال نائل ... وما أنا من ملك العراق بآيس قلت: " الترهات " بضم التاء المثناة من فوقها وتشديد الراء وبعد الهاء والألفتاء ثانية. والبسابس: بفتح الباء الموحدة وبعدها سين مهملة وبعد الألف باء ثانية مكسورة ثم سين، وهي الباطل. وأصل الترهات: الطرقات الصغار غير الجادة تتشعب عنها، الواحدة: ترهة فارسي معرب، ثم استعير في الباطل، فقيل: الترهات البسابس، والجبهة: الجماعة من الناس أيضاً، فكأنه قال: أصدره بالخيل والرجال، والباقي معروف لا حاجة إلى تفسيره. (353) ورأيت بخط بعض أهل هذا الفن أن عمرو بن الليث لما أسر ملك بعده بلاد فارس حفيده طاهر بن محمد بن عمرو بن الليث المذكور لاثنتي عشرة ليلة بقيت من صفر ثمان وثمانين ومائتين، ثم قبض عليه غلام جده شبك السبكري في سنة ست وتسعين ومائتين ومعه أخوه يعقوب بن محمد، وبعث بهما إلى مدينة السلام. (354) ثم ولي بعده الليث بن علي بن الليث، وهو ابن أخي يعقوب وعمرو بن الليث المذكورين، كان تغلب على بلاد سجستان في سنة ست وتسعين ومائتين، وجرى بين سبك السبكري وطاهر بن محمد المذكور ما جرى، واستقرت البلاد بيد السبكري، فاستخلف الليث المذكور على سجستان أخاه المعدل بن الليث، وسار إلى بلاد فارس، فهرب السبكري منه يطلب من الخليفة النجدة، فجرد المقتدر بالله الجيوش في شهر رمضان سنة ست وتسعين، وقدم عليها مؤنساً المظفر وبدراً الكبير والحسين بن حمدان، والتقوا مع الليث بن علي، فانهزم جيشه وأسر هو وأخوه محمد وابنه إسماعيل، وعاد مؤنس إلى بغداد ومعه الأسرى في المحرم سنة سبع وتسعين، وشهر بن علي على الفيل، وولي المعدل بن علي بن الليث على سجستان، فسار إليه أحمد بن إسماعيل الساماني في خلق كثير من الفارس والراجل، فأخذ منه البلاد. ثم ملك سبك السبكري الصفار مدة، ثم حمل معه محمد بن علي بن الليث إلى بغداد، وانقضى أمر الصفارية، والله أعلم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 432 حَرفُ اليَاء (تتمة) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 1 فراغ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 2 829 - (1) المنصور الموحدي أبو يوسف يعقوب بن أبي يوسف بن أبي محمد عبد المؤمن بن علي، القيسي الكومي صاحب بلاد المغرب قد تقدم ذكر جده عبد المؤمن، وسيأتي ذكر أبيه يوسف إن شاء الله تعالى. كان (2) صافي السمرة جداً، إلى الطول ما هو، جميل الوجه أفوه أعين شديد الكحل ضخم الأعضاء جهوري الصوت جزل الألفاظ، من أصدق الناس لهجة وأحسنهم حديثاً وأكثرهم إصابة بالظن، مجرباً للأمور، ولي وزارة أبيه، فبحث عن الأحوال بحثاً شافياً وطالع مقاصد العمال والولاة وغيرهم مطالعة أفادته معرفة جزئيات الأمور (3) . ولما مات أبوه في التاريخ الآتي في ترجمته إن شاء الله تعالى اجتمع رأي أشياخ الموحدين وبني عبد المؤمن على تقديمه فبايعوه وعقدوا له الولاية ودعوه أمير المؤمنين كأبيه وجده ولقبوه بالمنصور، فقام الأمر أحسن قيام، وهو الذي أظهر أبهة ملكهم ورفع راية الجهاد ونصب ميزان العدل وبسط أحكام الناس على حقيقة الشرع ونظر في   (1) أخباره في الحلل الموشية: 121 وروض القرطاس: 160 وأعمال الأعلام: 269 والبيان المغرب 3: 140 - 211 والاستقصا 2: 158 وتاريخ الدولتين: 10 والمعجب: 336 وجذوة الاقتباس: 348 والأنيس المطرب: 153 ونفح الطيب (انظر الفهرست: المنصور يعقوب بن يوسف) وابن الأثير (انظر فهرسته أيضاً) . (2) قارن بما في المعجب: 336. (3) قوله: كان صافي ... الأمور لم يرد في ر بر س من والترميم في المسودة، وهو وارد في موضعين متفاوتين في المختار. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3 أمور الدين والورع والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأقام الحدود حتى في أهله وعشيرته الأقربين (1) كما أقامها في سائر الناس أجمعين، فاستقامت الأحوال في أيامه وعظمت الفتوحات. ولما مات أبوه كان معه في الصحبة (2) ، فباشر تدبير المملكة من هناك، وأول ما رتب قواعد بلاد الأندلس، فأصلح شأنها وقرر المقاتلين في مراكزها ومهد مصالحها في مدة شهرين. وأمر بقراءة البسملة في أول الفاتحة في الصلوات وأرسل بذلك إلى سائر بلاد الشام التي في مملكته. فأجاب قوم وامتنع آخرون. ثم عاد إلى مراكش التي هي كرسي ملكهم (3) ، فخرج عليه علي بن إسحاق بن محمد بن علي بن غانية الملثم من جزيرة ميورقة في شعبان سنة ثمانين (4) وملك بجاية وما حولها، فجهز إليه الأمير يعقوب عشرين ألف فارس وأسطولاً في البحر ثم خرج بنفسه في أول سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة، فاستعاد ما أخذ من البلاد ثم عاد إلى مراكش. وفي سنة ست وثمانين بلغه أن الفرنج ملكوا مدينة شلب وهي في غرب جزيرة الأندلس، فتجهز إليها بنفسه وحاصرها وأخذها، وأنفذ في الوقت جيشاً من الموحدين ومعه جماعة من العرب، ففتحوا أربع مدن من بلاد الفرنج كانوا قد أخذوها من المسلمين قبل ذلك بأربعين سنة، وخافه صاحب طليطلة وسأله الصلح، فصالحه خمس سنين وعاد إلى مراكش. فلما انقضت مدة الهدنة ولم يبق منها سوى القليل خرجت طائفة من الفرنج في جيش كثيف إلى بلاد المسلمين فنهبوا وسبوا وعاثوا عيثاً فظيعاً، فانتهى الخبر إلى الأمير يعقوب وهو بمراكش، فتجهز لقصدهم في جحفل عرمرم من قبائل الموحدين والعرب، واحتفل وجاز إلى الأندلس، وذلك في سنة   (1) بر من: وعثرته والأقربين؛ س: وعشيرته والأقربين. (2) توفي أبوه بالأندلس على مراحل من مدينة شنترين. (3) س: مملكتهم. (4) زاد في ر: وخمسمائة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4 إحدى وتسعين وخمسمائة. فعلم الفرنج به، فجمعوا خلقاً كثيراً من أقاصي بلادهم وأدانيها (1) . وأقبلوا نحوه. قلت: ورأيت بدمشق في أواخر سنة ثمان وستين وستمائة جزءاً بخط الشيخ تاج الدين عبد الله بن حمويه شيخ الشيوخ (2) كان بها، وكان قد سافر إلى مراكش وأقام بها مدة، وكتب فصولاً تتعلق بتلك الدولة فمن ذلك فصل يتعلق بهذه الوقعة فينبغي ذكره (3) ها هنا، فقال (4) : لما انقضت الهدنة بين الأمير أبي يوسف يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن صاحب المملكة الغربية وبين الأذفونش الفرنجي صاحب غرب جزيرة الأندلس، وقاعدة مملكته يومئذ طليطلة، وذلك في أواخر سنة تسعين وخمسمائة، عزم الأمير يعقوب وهو حينئذ بمراكش على التوجه إلى جزيرة الأندلس لمحاربة الفرنج وكتب إلى ولاة الأطراف، وقواد الجيوش بالحضور، وخرج إلى مدينة سلا ليكون اجتماع العساكر بظاهرها،. فاتفق أنه مرض مرضاً شديداً حتى أيس منه أطباؤه، فتوقف الحال عن (5) تدبير ذلك الجيش. فحمل الأمير يعقوب إلى مراكش، فطمع المجاورون له من العرب وغيرهم في البلاد وعاثوا فيها وأغاروا على النواحي والأطراف. وكذلك فعل الأذفونش فيما يليه من بلاد المسلمين بالأندلس، واقتضى الحال تفرقه جيوش الأمير يعقوب شرقاً وغرباً، واشتغلوا بالمدافعة والممانعة، فكثر طمع الأذفونش في البلاد، وبعث رسولاً إلى الأمير يعقوب يتهدد ويتوعد، ويطلب بعض الحصون   (1) ر: أقصى بلادهم وأدناهم. (2) كان مفتناً في العلوم عارفاً بالأصلين والفروع والترسل والتواريخ والهندسة والطب، عاد من رحلته إلى الشام سنة 600 وكانت وفاته سنة 624 (انظر مرآة الزمان: 748 وذيل أبي شامة: 174 والشذرات 5: 214 والنفح 3: 99) . (3) ع ر س: ذكرها. (4) انظر المصادر السابقة في وصف معركة الأرك (Alarcos) . (5) س بر: على. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 5 المتاخمة له من بلاد الأندلس، وكتب إليه رسالة من إنشاء وزير له يعرف بابن الفخار، وهي: باسمك اللهم فاطر السموات والأرض، وصلى الله على السيد (1) المسيح روح الله وكلمته الرسول الفصيح، أما بعد فإنه لا يخفى على ذي ذهن ثاقب ولا ذي عقل (2) لازب، أنك أمير الملة الحنيفية كما أني أمير الملة النصرانية، وقد علمت الآن ما عليه رؤساء أهل الأندلس من التخاذل والتواكل وإهمال الرعية، وإخلادهم إلى الراحة (3) ، وأنا أسومهم بحكم القهر وجلاء الديار وأسبي الذراري وأمثل بالرجال، ولا عذر لك في التخلف عن نصرهم إذا أمكنتك (4) يد القدرة، وأنتم تزعمون أن الله تعالى فرض عليكم قتال عشرة منا بواحد منكم، فالآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً، ونحن الآن نقاتل عشرة منكم بواحد منا لا تستطيعون دفاعاً ولا تملكون امتناعاً، وقد حكي لي عنك أنك أخذت في الاحتفال وأشرفت على ربوة القتال، وتماطل نفسك عاماً بعد عام، تقدم رجلاً وتؤخر أخرى، فلا أدري أكان الجبن أبطأ بك أم التكذيب بما وعد ربك، ثم قيل لي إنك لا تجد إلى جواز البحر سبيلاً لعلةٍ لا يسوغ لك التقحم معها، وها أنا أقول لك ما فيه الراحة لك وأعتذر لك وعنك، على أن تفي بالعهود والمواثيق والاستكثار من الرهان، وترسل إليّ جملة من عبيدك بالمراكب والشواني والطرائد والمسطحات، وأجوز بجملتي إليك، وأقاتلك في أعز الأماكن لديك، فإن كانت (5) لك فغنيمة كبيرة جلبت إليك وهدية عظيمة مثلت بين يديك، وإن كانت لي كانت يدي العليا عليك، واستحقيت (6) إمارة   (1) ع: سيدنا؛ س بر: سيدنا السيد. (2) المختار: وعقل. (3) زاد في ر: والأريحية. (4) ر: أمكنتكم. (5) ر: كانت الدائرة. (6) كذا في النسخ جميعاً. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 6 الملتين والحكم على البرين، والله تعالى يوفق للسعادة ويسهل الإدراة، لارب غيره ولا خير إلا خيره، إن شاء الله تعالى. فلما وصل كتابه إلى الأمير يعقوب مزقه وكتب على ظهر قطعة منه: (ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها، ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون) . (النمل: 37) ، الجواب ما ترى لا ما تسمع: ولا كتب إلا المشرفية عنده ... ولا رسل إلا الخميس العرمرم قلت: وهذا البيت للمتنبي. ثم أمر بكتب الاستنفار واستدعى الجيوش من الأمصار، وضرب السرادقات بظاهر البلد من يومه وجمع العساكر، وسار إلى البحر المعروف بزقاق سبتة فعبر فيه إلى الأندلس، وسار إلى أن دخل بلاد الفرنج، وقد أعتدوا واحتشدوا وتأهبوا، فكسرهم كسرة شنيعة، وذلك في سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة، انتهى ما نقلته من الجزء المذكور. قلت: ثم وجدت في كتاب تذكير العاقل وتنبيه الغافل تأليف أبي الحجاج يوسف بن محمد بن إبراهيم الأنصاري البياسي (1) هذه المكاتبة وجوابها، قد كتبها الأذفونش بن فرذلند إلى أمير المسلمين يوسف بن تاشفين الآتي ذكره بعد هذا إن شاء الله تعالى - وجواب يوسف على هذه الصورة أيضاً، والله أعلم. قلت: وذكر البياسي بعد هذا ما يدل على أنه نقلها من خط ابن الصيرفي الكاتب المصري، فإن كان كذلك فما يمكن أن تكون هذه الرسالة إلى يعقوب ابن يوسف، لأن ابن الصيرفي متقدم التاريخ على زمان يعقوب بكثير، والله أعلم.   (1) س: التيفاشي، وهو تصحيف. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 7 ورأيت جماعة من فضلاء المغاربة ينكرون هذا التاريخ ويذكرون ما نشرحه إن شاء الله تعالى: وهو أن الفرنج جمعوا جمعاً عظيماً وقصدوه، وبلغ الأمير يعقوب خبر مسيرهم وكثرة جموعهم، فما هاله ذلك، وجدّ في السير نحوهم حتى التقوا في شمال قرطبة على قرب قلعة رباح في مرج الحديد (1) ، وفيه نهر يشقه، فعبر إلى منزلة الفرنج وصافهم، وذلك يوم الخميس التاسع من شعبان سنة إحدى وتسعين وخمسمائة، واقتفى في ذلك طريقة أبيه وجده فإنهما أكثر ما كانوا يصافون يوم الخميس، ومعظم حركاتهم (2) في صفر، ووقع القتال وبرزت الأبطال وصبرت الرجال، فأمر الأمير يعقوب فرسان الموحدين وأمراء العرب أن يحملوا ففعلوا، وانهزم الفرنج وعمل فيهم السيف فاستأصلهم قتلاً، وما نجا ملكهم إلا في نفر يسير، ولولا دخول الليل لم يبق منهم أحد، وغنم المسلمون أموالهم، حتى قيل إن الذي حصل لبيت المال من دروعهم ستون ألف درع، وأما الدواب على اختلاف أنواعها فلم يحصرها لها عدد، ولم يسمع في بلاد الأندلس بكسرة مثلها. ومن عادة الموحدين أنهم لا يأسرون مشركاً محارباً إن ظفروا به ولو كان ملكاً عظيماً، بل تضرب رقابهم كثروا أو قلوا، فلما أصبح جيش المسلمين اتبعوهم فألفوهم قد أخلوا قلعة رباح لما داخلهم من الرعب، فملكها الأمير يعقوب وجعل فيها والياً وجيشاً. ولكثرة ما حصل له من الغنائم لم يمكنه الدخول إلى بلاد الفرنج في ذلك الوقت، فعاد إلى مدينة طليطلة وحاصرها وقاتلها أشد قتال وقطع أشجارها وشن الغارات على بلادها، وأخذ من أعمالها حصوناً كثيرة وقتل رجالها وسبى حريمها وخرب مبانيها (3) وهدم أسوارها، وترك الفرنج في أسوأ حال، ولم يبرز إليه أحد من المقاتلة.   (1) سماه المراكشي " فحص الحديد ". (2) من هنا يبدأ النص بخط المؤلف. (3) ر: مغانيها. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 8 ثم رجع إلى إشبيلية وأقام إلى أثناء سنة ثلاث وتسعين، فعاد إلى بلاد الفرنج مرة ثالثة (1) وفعل فيها كفعله المتقدم، فلم يبق للفرنج قدرة على لقائه وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، فأرسلوا إليه يلتمسون منه الصلح، فأجابهم إلى ذلك لما اتصل به من أخبار علي بن إسحاق الميورقي المقدم ذكره في هذه الترجمة فإنه كان قد خرج على بلاد إفريقية وخرب أكثر بلادها وتوجه نحو الغرب، وسولت له نفسه النزول على بجاية لما علمه من اشتغال الأمير يعقوب بجزيرة الأندلس والجهاد فيها وتأخره عن بلاد المغرب مدة ثلاث سنين. فأوقع الصلح بينه وبين ملوك الأندلس جميعاً على ما اختاره لمدة خمس سنين، ثم عاد إلى مراكش في أواخر سنة ثلاث وتسعين ولما وصل إليها أمر باتخاذ الأحواض والروايا وآلات السفر للتوجه إلى بلاد إفريفية، فاجتمع إليه مشايخ الموحدين وقالوا له: يا سيدنا قد طالت غيبتنا بالأندلس، فمنا من له خمس سنين ومنا من له ثلاث سنين وغير ذلك، فتنعم علينا بالمهلة هذا العام وتكون الحركة في أول سنة خمس وتسعين، فأجابهم إلى سؤالهم وانتقل إلى مدينة سلا وشاهد ما فيها من المتنزهات المعدة له، وكان قد بنى بالقرب من المدينة المذكورة مدينة عظيمة، سماها رباط الفتح على هيئة الإسكندرية في اتساع الشوارع وحسن التقسيم وإتقان البناء وتحسينه وتحصينه، وبناها على البحر المحيط الذي هناك، وهي على نهر سلا مقابلة لها من البر القبلي، وطاف تلك البلاد وتنزه فيها ثم رجع إلى مراكش. قلت: وبعد هذا اختلفت الروايات في أمره، فمن الناس من يقول: إنه ترك ما كان فيه وتجرد وساح في الأرض حتى انتهى إلى بلاد الشرق (2) وهو مستخفٍ لا يعرف، ومات خاملاً، ومنهم من يقول: إنه لما رجع   (1) ر: مرة أخرى ثالثة. (2) المختار: المشرق. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 9 إلى مراكش كما ذكرناه توفي في غرة جمادى الأولى، وقيل في شهر ربيع الآخر في سابع عشره، وقيل في غرة صفر، سنة خمس وتسعين وخمسمائة بمراكش، وقيل إنه مات بمدينة سلا، والله أعلم. وكانت ولادته على ما ذكر هو ليلة الأربعاء رابع شهر ربيع الأول سنة أربع وخمسين وخمسمائة، رحمه الله تعالى، ولم ينقل شيء من أحواله بعد ذلك إلى حين وفاته. قلت: ثم حكى لي جمع كثير بدمشق في شهر شوال سنة ثمانين وستمائة أن بالقرب من المجدل، البليدة التي من أعمال البقاع العزيزي، قرية يقال لها حمّارة، وإلى جانبها مشهد يعرف بقبر الأمير يعقوب ملك المغرب، وكل أهل تلك النواحي متفقون على ذلك وليس عندهم فيه خلاف، وهذا القبر بينه وبين المجدل مقدار فرسخين من جهتها القبلية بغرب، والله أعلم (1) . وكان ملكاً جواداً عادلاً متمسكاً بالشرع المطهر، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر كما ينبغي من غير محاباة ويصلي بالناس الصلوات الخمس، ويلبس الصوف (2) ، ويقف للمرأة وللضعيف ويأخذ لهم بالحق. وأوصى أن يدفن على قارعة الطريق ليترحم عليه من يمر به. وسمعت عنه حكاية يليق أن نذكرها ها هنا وهي: أن الأمير الشيخ أبا محمد عبد الواحد بن الشيخ أبي حفص عمر والد الأمير أبي زكريا يحيى بن عبد الواحد صاحب إفريقية كان قد تزوج أخت الأمير يعقوب المذكور وأقامت عنده، ثم جرت (3) بينهما منافرة فجاءت إلى بيت أخيها الأمير يعقوب، فسير الأمير عبد الواحد طلبها فامتنعت عليه، فشكا الأمير عبد الواحد ذلك إلى قاضي الجماعة بمراكش، وهو القاضي أبو عبد الله محمد بن علي بن مروان، فاجتمع القاضي المذكور بالأمير يعقوب وقال له:   (1) قلت ... أعلم: سقط من ر س بر من، وهو بهامش المسودة، وثابت في المختار وع ق. (2) هنا سقط في المسودة، وقد أكمل النص بخط مخالف. (3) ع: حتى جرت. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 10 إن الشيخ أبا محمد عبد الواحد يطلب أهله، فسكت الأمير يعقوب، ومضى على ذلك أيام، ثم إن الشيخ عبد الواحد اجتمع بالقاضي المذكور في قصر الأمير يعقوب بمراكش، وقال له: أنت قاضي المسلمين، وقد طلبت أهلي فما جاءوني، فاجتمع القاضي بالأمير يعقوب وقال له: يا أمير المؤمنين، الشيخ عبد الواحد قد طلب أهله مرة وهذه الثانية، فسكت الأمير يعقوب؛ ثم بعد ذلك بمدة لقي الشيخ عبد الواحد القاضي بالقصر المذكور وقد جاء إلى خدمة الأمير يعقوب فقال له: يا قاضي المسلمين، قد قلت لك مرتين وهذه الثالثة: أنا أطلب أهلي وقد منعوني عنهم، فاجتمع القاضي بالأمير يعقوب وقال له: يا مولانا إن الشيخ عبد الواحد قد تكرر طلبه لأهله، فأما أن تسير إليه أهله وإلا فاعزلني عن القضاء، فسكت الأمير يعقوب، وقيل إنه قال له: يا أبا عبد الله ما هذا إلا جد كبير. ثم استدعى خادماً وقال له في السر: تحمل أهل الشيخ عبد الواحد إليه، فحملت إليه في ذلك النهار، ولم يتغير على القاضي ولا قال له شيئاً يكرهه، وتبع في ذلك حكم الشرع المطهر وانقاد لأوامره، وهذه حسنة تعد له وللقاضي أيضاً، فإنه بالغ في إقامة منار العدل (1) . وكان الأمير أبو يوسف يعقوب المذكور يشدد في إلزام الرعية بإقامة الصلوات الخمس، وقتل في بعض الأحيان على شرب الخمر، وقتل العمال الذين تشكو الرعايا منهم، وأمر برفض فروع الفقه، وأن العلماء لا يفتون إلا بالكتاب العزيز والسنة النبوية، ولا يقلدون أحداً من الأئمة المجتهدين المتقدمين، بل تكون أحكامهم بما يؤدي إليه اجتهادهم من استنباطهم القضايا من الكتاب والحديث والإجماع والقياس. ولقد أدركنا جماعة من مشايخ المغرب وصلوا إلينا إلى البلاد وهم على ذلك الطريق: مثل أبي الخطاب بن دحية وأخيه أبي عمر ومحيي الدين ابن العربي نزيل دمشق وغيرهم.   (1) علق بعضهم في هامش المختار متهكماً من المؤلف زاعماً أن الحكاية لا تدل على شيء وليست ذات مغزى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 11 وكان يعاقب على ترك الصلاة ويأمر بالنداء في الأسواق بالمبادرة إليها، فمن غفل عنها أو اشتغل بمعيشته عزره تعزيراً بليغاً. وكان قد عظم ملكه واتسعت دائرة سلطنته حتى إنه لم يبق بجميع أقطار بلاد المغرب من البحر المحيط إلى برقة إلا من هو في طاعته وداخلٌ في ولايته، إلى غير ذلك من جزيرة الأندلس. وكان محسناً محباً للعلماء مقرباً للأدباء مصغياً إلى المدح مثيباً عليه، وله ألف أبو العباس أحمد بن عبد السلام الجراوي (1) كتابه الذي سماه صفوة الأدب وديوان العرب في مختار الشعر، وهو مجموع مليح أحسن في اختياره كل الإحسان. وإلى الأمير يعقوب تنسب الدنانير اليعقوبية المغربية. وكان قد أرسل إليه السلطان صلاح الدين أبو المظفر يوسف بن أيوب الآتي ذكره إن شاء الله تعالى رسولاً من بني منقذ في سنة سبع وثمانين وخمسمائة ليستنجده على الفرنج الواصلين من بلاد المغرب إلى الديار المصرية وساحل الشام، ولم يخاطبه بأمير المؤمنين (2) بل خاطبه بأمير المسلمين، فعز ذلك عليه، ولم يجبه إلى ما طلبه منه. (355) والرسول المذكور هو شمس الدولة أبو الحارث عبد الرحمن بن نجم الدولة أبي عبد الله محمد بن مرشد وقد سبق في ترجمة عمه أسامة بن منقذ تتمة نسبه هكذا ذكره الحافظ زكي الدين عبد العظيم المنذري في كتاب الوفات وقال: توفى في سنة ستمائة بالقاهرة، ومولده في شيزر سنة ثلاث وعشرين وخمسمائة، وله نظم ونثر.   (1) انظر ترجمة الجرازي في التكملة: 128 والغصون اليانعة: 98. (2) هنا يعود خط المؤلف في المسودة؛ وانظر رسائل صلاح الدين إليه في مفرج الكروب 2: 496 وما بعدها؛ وراجع النفح 1: 444 والروضتين 2: 170. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 12 رجعنا إلى حديث يعقوب. (356) وكان من شعراء دولته أبو بكر يحيى بن عبد الجليل بن عبد الرحمن بن مجبر الأندلسي المرسي (1) . ولقد نظرت في ديوانه فوجدت أكثر مدائحه في الأمير يعقوب، فمن ذلك قوله: أتراه يترك الغزلا ... وعليه شب واكتهلا كلفٌ بالغيد ما عقلت ... نفسه السلوان مذ عقلا غير راض عن سجية من ... ذاق طعم الحب ثم سلا أيها اللوام ويحكم ... إن لي عن لومكم شغلا ثقلت عن لومكم أذن ... لم يجد فيها الهوى ثقلا تسمع النجوى وإن خفيت ... وهي ليست تسمع العذلا نظرت عيني لشقوتها ... نظرات وافقت أجلا غادةً لما مثلت لها ... تركتني في الهوى مثلا هي بزّتني الشباب فقد ... صار في أجفانها كحلا أبطل الحق الذي بيدي ... سحر عينيها وما بطلا عرضت دلاً فإذ (2) فطنت ... بولوعي أعرضت خجلا وبدا لي أنها وجلت ... من هناتٍ تبعث الوجلا حسبت أني سأحرقها ... إذ رأت رأسي قد اشتعلا يا سراة الحي مثلكم ... يتلافى الحادث الجللا قد نزلنا في جواركم ... فشكرنا ذلك النزلا ثم واجهنا ظباءكم ... فلقينا الهول والوهلا (3)   (1) توفي ابن مجبر سنة 588، راجع ترجمته في زاد المسافر: 9 وبغية الملتمي رقم 93 والنفح 3: 237 وله شعر في النفح وشرح مقصورة حازم والبيان المغرب (ج 3 ط. تطوان) والحلل الموشية. (2) بر: فمذ؛ س: وإذ. (3) ر من بر: والوجلا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 13 أضمنتم أمن جيرتكم ... ثم ما آمنتم السبلا وأردتم غصب أنفسهم ... فبثثتم بينها المقلا ليتنا خضنا السيوف ولم ... نلق تلك الأعين النجلا عارضتنا منكم فئة ... أحدثت في عهدنا دخلا ثُعَليّاتٌ جفونهم ... وهم لم يعرفوا ثُعلا أشرعوا الأعطاف ناعمة ... حين أشرعنا القنا الذبلا واستفزتنا عيونهم ... فخلعنا البيض والأسلا ورمتنا بالسهام فلم ... نر إلا الحلي والحللا نصروا بالحسن فانتبهوا ... كل قلب بالهوى جذلا عطلتني الغيد من جلدي ... وأنا حليتها الغزلا حملت نفسي على فتن ... سمتها صبراً فما احتملا ثم قالت سوف نتركها ... سلباً للحب أو نفلا قلت أما وهي قد علقت ... بأمير المؤمنين فلا ما عدا تأميلها ملكاً ... من رأه أدرك الأملا أودع الإحسان صفحته ... ماء بشر ينقع الغللا فإذا ما الجود حركه ... فاض من يمناه فانهملا قلت: وهي قصيدة طويلة عدد أبياتها مائة وسبعة أبيات، فنقتصر منها على هذا المقدار. وكانت وفاة الشاعر في سنة سبع وثمانين وخمسمائة بمراكش. وهو ابن ثلاث وخمسين سنة. ودخل الأديب أبو إسحاق إبراهيم بن يعقوب الكانمي الأسود الشاعر (1) على الأمير يعقوب فأنشده:   (1) انظر النفح 4: 380 وعقود الجمان لابن الشعار 1: 37 والنقل فيه عن شيخ الشيوخ ابن حمويه. وقد ترجم ابن الأبار (التكملة: 177) لكانمي اسمه إبراهيم بن محمد وكان شاعراً فلا أدري أهو هذا المذكور هنا أم غيره. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 14 أزال حجابه عني وعيني ... تراه من المهابة في حجاب وقربني تفضله ولكن ... بعدت مهابةً عند اقترابي وكانم: بكسر النون، جنس من السودان وهم بنو عم تكرور، وكل واحدة من هاتين القبيلتين لا تنسب إلى أب ولا أم، وإنما كانم اسم بلدة بنواحي غانة، وهي دار ملك السودان الذين بجنوب الغرب، فسمي هذا الجنس باسم هذه البلدة، وتكرور اسم للأرض التي هم فيها، وسمي جنسهم باسم أرضهم، والجميع من بني كوش بن حام بن نوح عليه السلام، والله أعلم (1) . (356) ولما حضرت الوفاة الأمير يعقوب المذكور وقضى نحبه بايع الناس ولده أبا عبد الله محمد بن يعقوب وتلقب بالناصر، ونهض إلى إفريقية فهزم الميورقي المذكور وارتجع المهدية من نوابه، وقد كان استولى عليها في مدة اشتغال الأمير يعقوب بالأعداء، ثم تحرك محمد بن يعقوب إلى جزيرة الأندلس، فكانت وقعة العقاب في سنة تسع وستمائة. وتوفي محمد سنة ست عشرة وستمائة [لعشر خلون من شعبان] (2) ومولده في سنة ست وسبعين وخمسمائة والمغاربة يقولون: إن محمد بن يعقوب المذكور أوصى عبيده المشتغلين بحراسة بستانه بمراكش أن كل من ظهر لهم بالليل فهو مباح الدم لهم. ثم أراد أن يختبر قدر أمره لهم، فتنكر وجعل يمشي في البستان ليلاً، فعندما رأوه جعلوه غرضاً لرماحهم، فجعل يقول: أنا الخليفة، أنا الخليفة، فما تحققوه حتى هلك، والله أعلم بصحة ذلك. (358) ثم ولي بعده ولده أبو يعقوب يوسف بن محمد بن الأمير يعقوب، وتلقب   (1) ودخل الأديب ... أعلم: سقط من بر من ر س وهو ثابت في المختار وهامش المسودة. (2) لم يرد في النسخ الخطية. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 15 المستنصر بالله، ومولده أول شوال سنة أربع وتسعين، ولم يكن في بني عبد المؤمن أحسن وجهاً منه ولا أبلغ في المخاطبة، إلا أنه كان مشغوفاً براحته، فلم يبرح عن حضرته، فضعفت الدولة في أيامه. ومات في شوال أو ذي القعدة سنة عشرين وستمائة، ولم يخلف ولداً. (359) فاتفق أراب الدولة على تولية أبي محمد عبد الواحد بن يوسف بن عبد المؤمن لكبر سنه ووفور عقله، فلم يحسن التدبير، ولا دارى أهل دولته فخلعوه وخنقوه بعد تسعة أشهر من ولايته. ولما تولى عبد الواحد بمراكش كان بالأندلس أبو محمد عبد الله بن الأمير يعقوب المذكور، فامتنع بمرسية، ورأى أنه أحق بالأمر من عبد الواحد، وخرج إلى ما في جهته من بلاد الأندلس فاستولى عليها بغير كلفة وتلقب بالعادل، فلما خنق عبد الواحد بمراكش، ثارت الفرنج بالأندلس على عبد الله المذكور وتواقعوا، وانهزم أصحابه هزيمة شنيعة وهرب هو وركب البحر يريد مراكش، وترك بإشبيلية أخاه أبا العلا إدريس بن الأمير يعقوب، وقاسى عبد الله شدائد في طريقه إلى مراكش من العربان، فلما وصلها اضطربت أحواله وقبض عليه أهل مراكش. (360) وتفاوضوا فيمن يقدمونه، فوقع اختيارهم على أبي زكريا يحيى بن الناصر محمد بن يعقوب، وهو إذ ذاك كما بقل وجهه غرّ لم يجرب الأمور، فلم يلبث إلا أياماً قلائل حتى ورد الخبر من الأندلس أن أبا العلا إدريس بن الأمير يعقوب ادعى الخلافة باشبيلية وبايعه أهل الأندلس، ثم آل أمره إلى أن حصره العرب بمراكش وهزموا عسكره مرة بعد أخرى، حتى ضجر منه أهل مراكش وتشاءموا به وأخرجوه عنهم، فهرب إلى جبل درن، ثم راسل في الباطن جماعة من أهل مراكش ليعود إليها ويقتل من بها من أعوان أبي العلا إدريس، فحضر إليها وقتل المذكورين. (361) وجاء أبو العلا من الأندلس، وقد خرج عليه بها الأمير محمد بن يوسف الجزء: 7 ¦ الصفحة: 16 ابن هود الجذامي، ودعا إلى بني العباس فمال إليه الناس ورجعوا عن أبي العلا إدريس، فانتهى إلى مراكش، ويحيى بها، فتواقعوا وانهزم يحيى من أبي العلاء إلى الجبل، واستولى أبو العلا على مراكش. وجمع يحيى رجالاً وقصد أبا العلا بمراكش فهزمه أبو العلا مراراً وأضعف جماعته، فألجأته الضرورة إلى الاستجارة بقوم في حصن بجهة تلمسان، وكان لغلام منهم عنده ثأر بأبيه، فرصده يوماً وهو راكب فطعنه فقتله، واستبد أبو العلا بالأمر وتلقب بالمأمون وكان شجاعاً جازماً صارماً فتاكاً. ثم إن أبا العلا مات في الغزة حتف أنفه، ولم أتحقق تاريخ وفاته ثم أخبرني بعض أهل بلادهم أنه توفى سنة ثلاثين وستمائة، والله أعلم. (362) وأخفى ولده موته حتى دبر أمره وبلغ مأمنه، وهو أبو محمد عبد الواحد بن أبي العلا إدريس، وتلقب بالرشيد، وتقدم بعد موت أبيه وغلب على أخيه الأكبر واستبد بالأمر. وكان أبوه أبو العلاء قد أزال اسم المهدي أبي عبد الله محمد بن تومرت المقدم ذكره من الخطبة يوم الجمعة، فأعاده ولده الرشيد المذكور، واستمال به قلوب جماعته وتحبب إليهم. وكان إلى سنة إحدى وأربعين وستمائة ملك المغرب الأقصى وبعض الأندلس، ولم أعلم ما وراء ذلك حتى أذكره (1) . وبعد تسطير هذه الترجمة كتب لي بعض أهل مراكش ممن عنده فضيلة ومعرفة، وكان قريب عهدٍ ببلاده، فأخبرني أن الرشيد المذكور توفي غريقاً في صهريج بستان له بحضرة مراكش في سنة أربعين وستمائة، وكتم حاجبه أمره مدة فجعل لذلك شهر وفاته. (363) وولي بعده أخوه لأبيه المعتضد ويعرف بالسعيد، وهو أبو الحسن علي ابن إدريس. ثم خرج إلى ناحية تلمسان، وحاصر قلعة بينها وبين تلمسان   (1) هنا تنتهي الترجمة في النسخة س، سوى ضبط كلمة " الأذفونش ". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 17 مسافة يوم واحد، وقتل هناك على ظهر فرسه في صفر سنة ست وأربعين وستمائة. (364) وولي بعده المرتضى أبو حفص عمر بن أبي إبراهيم بن يوسف في شهر ربيع الآخر من السنة. وفي الحادي والعشرين من المحرم سنة خمس وستين وستمائة دخل الواثق أبو العلا إدريس بن أبي عبد الله يوسف بن عبد المؤمن المعروف بأبي دبوس، مراكش وهرب المرتضى إلى آزمور، وهي من نواحي مراكش، فقبض عليه عامله بها وبعث إلى الواثق بذلك، فأمره الواثق بقتله، فقتله في العشر الأخير من شهر ربيع الآخر سنة خمس وستين وستمائة بموضع يقال له كتامة، بُعده عن مراكش ثلاثة أيام. (365) وأقام الواثق ثلاث سنين وقتل في الحرب التي كانت بينه وبين نبي مرين ملوك تلمسان، وانقرضت دولة بني عبد المؤمن، وكان قتل الواثق في المحرم سنة ثمان وستين، بموضع بينه وبين مراكش مسيرة ثلاثة أيام في جهتها الشمالية. واستولى بنو مرين على ملكهم، وملكهم الآن أبو يوسف يعقوب بن عبد الحق بن حمامة، والله تعالى أعلم. (366) وأما علي بن إسحاق الميورقي فقد تكرر ذكره في هذه الترجمة، وكان أبوه أبو إبراهيم إسحاق بن حمو، بفتح الحاء المهملة وبعدها ميم مشددة مضمومة ثم واو، ابن علي، ويعرف بابن غانية الصنهاجي صاحب ميورقة ومنورقة ويابسة، وهي ثلاث جزائر متجاورة في البحر الغربي، فتوفي في سنة ثمانين وخمسمائة، وخلف أربعة بنين، وهم: أبو عبد الله محمد، توجه بعد موت أبيه إلى الموحدين بالأندلس فأعطوه مدينة دانية وأحسنوا إليه غاية الإحسان، وأبو الحسن علي وأبو زكريا يحيى، خرجا إلى بلاد إفريقية وفعلا الأفاعيل العجيبة المشهورة بين الناس من الحروب والعيث في البلاد، فمات عليّ ولا أعلم تاريخ وفاته، لكنه كان حياً في سنة إحدى وتسعين. واستمر يحيى علي فطالت مدته، وذكره الحافظ زكي الدين عبد العظيم المنذري في كتاب الوفيات فقال: خرج من ميورقة في شعبان الجزء: 7 ¦ الصفحة: 18 سنة ثمانين وخمسمائة واستولى على بلاد كثيرة، وكان مشهوراً بالشجاعة والإقدام وتوفي في أواخر شوال سنة ثلاث وثلاثين وستمائة في البرية من قطر تلمسان، وكان خروجه على بني عبد المؤمن. (367) وبقي أصغر الاخوة، وهو أبو محمد عبد الله ملك ميورقة إلى سنة تسع وتسعين وخمسمائة، فجهز إليه الناصر محمد بن يعقوب المذكور أسطولاً نزل بساحل ميورقة، فبرز إليهم وكان شجاعاً كريماً، فعثر به فرسه فسقط إلى الأرض فقتلوه، وحملوا رأسه إلى مراكش، وعلقوا جثته على السور، وأخذوا ميورقة وبقيت بأيديهم إلى أن تغلب الفرنج عليها في سنة سبع وعشرين وستمائة، وفعلوا فيها العظائم من القتل والأسر، وغير ذلك. والأذفونش: بضم الهمزة وسكون الذال المعجمة وضم الفاء وسكون الواو وبعدها نون ثم شين معجمة، وهو اسم لأكبر ملوك الفرنج، وهو صاحب طليطلة. 830 - (1) يعقوب بن داود أبو عبد الله يعقوب بن داود بن عمر (2) بن طهمان، السلمي بالولاء، مولى أبي صالح عبد الله بن خازم السلمي والي خراسان؛ كان يعقوب   (1) أخباره في الطبري والجهشياري وابن خلدون وابن الأثير وانظر تاريخ بغداد 14: 262 والبداية والنهاية 10: 147 ومرآة الجنان 1: 417 ومعجم المرزباني: 495 ونكت الهميان: 309. (2) فوق لفظة عمر في المسودة: عثمان؛ وقد جعلت في النسخ: بن عمر بن عثمان ... الخ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 19 المذكور كاتب إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه الذي خرج هو وأخوه محمد على أبي جعفر المنصور بالبصرة ونواحيها وقتلا في سنة خمس وأربعين ومائة، وقصتهما مشهورة في التواريخ وليس هذا موضع ذكرها. وكان أبوه داود بن طهمان وإخوته كتاباً لنصر بن سيار عامل خراسان من جهة بني أمية، ولما مات داود نشأ ولداه علي ويعقوب المذكور أهل أدب وفضل وافتنان في صنوف العلوم. ولما ظهر المنصور على إبراهيم بن عبد الله المذكور ظفر بيعقوب بن داود فحبسه في المطبق في سنة أربع وأربعين ومائة، وقيل في سنة ست وأربعين ومائة. قلت: ولعله الأصح، لن إبراهيم قتل في سنة خمس وأربعين كما ذكرناه، إلا أن يكون قد ظفر بيعقوب قبل قتل إبراهيم، وذلك في أول خروجه، والله أعلم. وكان يعقوب سمحاً جواداً كثير البر والصدقة واصطناع المعروف، وذكره دعبل بن علي الخزاعي الشاعر المشهور في كتابه الذي جمع فيه أسماء الشعراء، وكان مقصوداً ممدحاً، مدحه أعيان شعراء عصره، مثل أبي الشيص الخزاعي وسلم الخاسر وأبي حنش، وغيرهم ولما مات المنصور وقام بالأمر ولده المهدي جعل يعقوب يتقرب إليه حتى أدناه، واعتمد عليه وعلت منزلته عنده وعظم شأنه، حتى خرج كتابه إلى الدواوين أن أمير المؤمنين المهدي قد آخى يعقوب بن داود، فقال في ذلك سلم (1) بن عمرو المعروف بالخاسر: قل للإمام الذي جاءت خلافته ... تهدى إليه بحقٍّ غير مردود نعم القرين على التقوى أعنت به ... أخوك في الله يعقوب بن داود   (1) ر بر من: سالم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 20 وحج المهدي في سنة ستين ومائة ويعقوب معه، وفي سنة إحدى وستين تقدم إليه بتوجيه الأمناء إلى العمال في جميع الآفاق ففعل ذلك، فلم يكن ينفذ شيء من الكتب للمهدي حتى يرد كتاب من يعقوب إلى أمينه بإنفاذه، وكان (1) وزير المهدي أبا عبيد الله معاوية بن عبد الله بن يسار الأشعري الطبراني صاحب مربعة عبيد الله ببغداد، وكان جده يسار مولى عبد الله بن عضاه الأشعري، فلم يزل الربيع بن يونس - المقدم ذكره في حرف الراء (2) - يسعى به إلى المهدي وصحح على ابنه الزندقة فقتله المهدي، وكان الربيع بعد ذلك يقبح أمره عنده ويقول له: لا تثق به بعد قتلك ابنه، ويذكر كفاية يعقوب ابن داود، حتى عزله عن الوزارة وأفرده في ديوان الرسائل. واستوزر يعقوب في سنة ثلاث وستين. ثم إن المهدي عزل أبا عبيد الله عن ديوان الرسائل في سنة سبع وستين، ورتب فيه الربيع بن يونس المذكور، وكان أبو عبيد الله يصل إلى المهدي على عادته رعايةً منه لخدمته، فقال في ذلك علي بن الخليل الكوفي (3) من جملة أبيات: قل للوزير أبي عبيد الله هل من باقية ... يعقوب يلعب بالأمو ... ر وأنت تنظر ناحيه أدخلته فعلا عليك كذاك شؤم الناصية ... وأخذت حتفك جاهداً ... بيمينك المتراخية وغلب يعقوب على أمور المهدي كلها، وكان المنصور قد خلف في بيوت المال تسعمائة ألف ألف درهم وستين ألف درهم، وكان الوزير أبو عبيد الله يشير على المهدي بالاقتصاد في الإنفاق وحفظ الأموال، فلما عزل   (1) هنا ضاعت ورقة فيها خط المؤلف، وكمل النقص بخط حديث. (2) ج 2: 294. (3) ترجمته في الأغاني 14: 166 والأبيات في ص: 169. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 21 وولي يعقوب زين له هواه، فأنفق الأموال وأكبّ على اللذات والشرب وسماع الغناء، واشتغل يعقوب بالتدبير، ففي ذلك يقول بشر بن برد الشاعر المشهور - المقدم ذكره في حرف الباء (1) -: بني أمية هبّطوا طال نومكم ... إن الخليفة يعقوب بن داود ضاءت خلافتكم يا قوم فالتمسوا ... خليفة الله بين الزق (2) والعود وكان أبو حارثة النهدي يتقلد خزن بيوت الأموال، فلما خلت من المال دخل إلى المهدي ومعه المفاتيح وقال له: إذا كنت قد أنفقت جميع الأموال فما معنى هذه المفاتيح معي مر من يقبضها مني، فقال له المهدي: دعها معك فإن الأموال تأتيك. ثم سير في استحثاث الأموال فوردت عليه في مدة يسيرة، وقصر في النفقات قليلاً فتوفرت الأموال، وتشاغل أبو حارثة في قبض ما ورد عليه وتصحيحه، فلم يدخل إلى المهدي ثلاثة أيام، فقال المهدي: ما فعل هذا الأعرابي الأحمق فخبر بالسبب في تأخره، فدعا به وقال له: ما أخرك عنا فقال: ورود الأموال، فقال: يا أحمق توهمت أن الأموال لا تأتينا. فقال: يا أمير المؤمنين، إن الحادث لو حدث واحتيج إلى المال ولم يصلح إلا به لم ينتظر حتى يوجه في حمل الأموال. وروي أن المهدي حج في بعض السنين فمر بميلٍ وعليه كتابة، فوقف وقرأه فإذا هو: لله درك يا مهدي من رجلٍ ... لولا اتخاذك يعقوب بن داود فقال لمن معه: اكتب تحته على رغم أنف الكاتب لهذا وتعساً لجده! فلما انصرف وقف على الميل فقلنا: لم يقف عليه إلا لشيء قد علق بقلبه من ذلك الشعر، فكان كذلك لأنه أوقع بيعقوب بعد قليل.   (1) انظر ج 1: 271. (2) المختار: الدف؛ بر من: الدن. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 22 وكثرت الأقوال في يعقوب ووجد أعداؤه مقالاً فيه وذكروا خروجه على المنصور مع إبراهيم بن عبد الله العلوي، وعرفه بعض خدمه أنه سمعه يقول: بنى هذا الرجل مستنزهاً أنفق عليه خمسين ألف ألف درهم من أموال المسلمين، وكان المهدي قد بنى عيسى باد. وأراد المهدي أمراً فقال له يعقوب: هذا يا أمير المؤمنين من السرف (1) ، فقال له: ويلك، وهل يحسن السرف إلا بأهل الشرف وكان يعقوب قد ضجر مما كان فيه وسأل المهدي الإقالة وهو يمتنع. ثم إن المهدي (2) أراد أن يمتحنه (3) في ميله إلى العلوية. فدعا به يوماً وهو في مجلسٍ فرشه موردة وعليه ثياب موردة وعلى رأسه جارية على رأسها ثياب موردة وهو مشرف على بستان فيه شجر فيه صنوف الأوراد. فقال له: يا يعقوب، كيف ترى مجلسنا هذا قال: على غاية الحسن، فمتع الله أمير المؤمنين به، فقال له: جميع ما فيه لك وهذه الجارية لك ليتم سرورك، وقد أمرت لك بمائة ألف درهم، فدعا له، فقال له المهدي: ولي إليك حاجة، فقام يعقوب قائماً وقال: يا أمير المؤمنين ما هذا القول إلا لموجدة وأنا أستعيذ بالله من سخطك، فقال: أحب أن تضمن لي قضاءها، فقال: السمع والطاعة، فقال له: الله، فقال: والله، ثلاثاً، فقال له: ضع يدك على رأسي واحلف به، ففعل ذلك، فلما استوثق منه قال له: هذا فلان بن فلان، رجل من العلوية، أحب أن تكفيني مؤونته، وتريحني منه فخذه إليك، فحوله إليه وحول إليه الجارية ما كان في المجلس والمال، فلشدة سروره بالجارية جعلها في مجلس تقرب منه ليصل إليها، ووجه فأحضر العلوي فوجده لبيباً فهماً فقال له: ويحك يا يعقوب تلقى الله تعالى بدمي،   (1) ر: فيه سرف. (2) انظر الجهشياري: 160. (3) هنا تعود النسخة بخط المؤلف. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 23 وأنا رجل من ولد فاطمة رضي الله عنها بنت محمد صلى الله عليه وسلم، فقال له يعقوب: يا هذا أفيك خير فقال: إن فعلت خيراً معي شكرت ودعوت لك، فقال له: خذ هذا المال وخذ أي طريق شئت، فقال: طريق كذا وكذا آمن لي، فقال له امض مصاحباً. وسمعت الجارية الكلام كله، فوجهت مع بعض خدمها به وقالت: قل له: هذا فعل الذي آثرته على نفسك بي، وهذا جزاؤك منه؛ فوجه المهدي فشحن الطريق حتى ظفر بالعلوي وبالمال، ثم وجه إلى يعقوب فأحضره، فلما رآه قال: ما حال الرجل قال: قد أراحك الله منه، قال: مات قال: نعم، قال: والله قال: والله، قال: فضع يدك على رأسي، فوضع يده على رأسه وحلف له به، فقال: يا غلام أخرج إلينا من في ذها البيت، ففتح بابه عن العلوي والمال بعينه، فبقي يعقوب متحيراً وامتنع الكلام عليه فما درى ما يقول، فقال له المهدي: لقد حل دمك، ولو آثرت إراقته لأرقته، ولكن احبسوه في المطبق، فحبسوه وأمر بأن يطوى عنه خبره وعن كل أحد. فأقام فيه سنتين وشهوراً في أيام المهدي وجميع أيام الهادي موسى بن المهدي وخمس سنين وشهوراً من أيام هارون الرشيد، ثم ذكر يحيى بن خالد البرمكي أمره وشفع فيه فأمر بإخراجه، فأخرج وقد ذهب بصره. فأحسن إليه الرشيد، وردّ ماله، وخيره المقام حيث يريد فاختار مكة، فأذن له في ذلك، فأقام بها حتى مات في سنة سبع وثمانين ومائة. ولما أطلق يعقوب سأل عن جماعة من إخوانه فأخبر بموتهم فقال: لكل أناس مقبرٌ بفنائهم ... فهم ينقصون والقبور تزيد هم جيرة الأحياء أما محلهم ... فدانٍ، وأما الملتقى فبعيد قلت: هذان البيتان في باب المرائي في كتاب " الحماسة " (1) .   (1) شرح المرزوقي رقم: 297، وانظر الجهشياري: 163. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 24 قلت: هكذا ذكر تاريخ وفاته بن عبدوس الكوفي المعروف بالجهشياري في كتابه تاريخ الوزراء وذكر غيره أن يعقوب بن داود مات في سنة اثنتين وثمانين ومائة، والله أعلم بالصواب. وقال عبد الله بن يعقوب بن داود: أخبرني أبي أن المهدي حبسه في بئر وبنى عليها قبة، قال: فمكثت فيها خمس عشرة سنة، وكان يدلى لي فيها كل يوم رغيف خبز وكوز ماء وأوذن بأوقات الصلوات، فلما كان في رأس ثلاث عشرة سنة أتاني آت في منامي فقال (1) : حنا على يوسف رب فأخرجه ... من قعر جبٍ وبيتٍ حوله غمم (2) قال: فحمدت الله تعالى وقلت: أتاني الفرج، ثم مكثت حولاً لا أرى شيئاً، فلما كان رأس الحول الثاني أتاني ذلك الآتي فأنشدني: عسى فرج يأتي به الله إنه ... له كل يوم في خليقته أمر قال: ثم أقمت حولاً آخر لا أرى شيئاً، ثم أتاني ذلك الآتي بعد الحول فقال: عسى الكرب الذي أمسيت فيه ... يكون وراءه فرجٌ قريب فيأمن خائفٌ ويفك عانٍ ... ويأتي أهله النائي الغريب فلما أصبحت نوديت، فظننت أني أوذن بالصلاة، فدلي لي حبل أسود وقيل لي: اشدد به وسطك، ففعلت وأخرجت، فلما قابلت الضوء عشي بصري، فانطلقوا بي، فأدخلت على الرشيد فقيل لي: سلم على أمير المؤمنين فقلت: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، المهدي، فقال الرشيد: لست به، فقلت: السلام على أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، الهادي، فقال: لست به فقلت: السلام على أمير المؤمنين ورحمة الله   (1) ينقطع هنا خط المؤلف، ويستكمل النص بخط آخر، وانظر تاريخ بغداد: 264. (2) ر س بر: عمم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 25 وبركاته، فقال: الرشيد، فقلت: الرشيد (1) ، فقال: يا يعقوب بن داود، إنه والله ما شفع (2) فيك أليّ أحد، غير أني حملت الليلة صبية لي على عنقي فذكرت حملك إياي على عنقك، فرثيت لك من المحل الذي كنت به فأخرجتك، وكان يعقوب يحمل الرشيد وهو صغير يلاعبه. (368) ولما حبس المهدي يعقوب وتب في الوزارة أبا جعفر الفيض بن أبي صالح (3) ، وكان من غلمان عبد الله بن المقفع، وكان شديد الكبر، وكان أبوه نصرانياً، وفيه يقول الشاعر: يا حابسي عن حاجتي ظالماً ... أحوجك الله إلى الفيض ذاك الذي يأتيك معروفه ... كأنما يمشي على البيض وطهمان: بفتح الطاء المهملة وسكون الهاء وبعدها ميم وبعد الألف نون. (369) وكانت ولادة أبي عبيد الله معاوية الأشعري في سنة مائة، وتوفي سنة سبعين ومائة، وقيل في سنة تسع وستين، وقيل مات في الوقت الذي مات فيه موسى الهادي، وكانت وفاته ببغداد، ودفن في مقابر قريش، وتوفي الفيض في سنة ثلاث وسبعين ومائة. وتولى الوزارة بعده الربيع بن يونس - وقد سبق ذكره في ترجمة بشار بن برد الشاعر (4) - وذكر أن يعقوب بن داود أعان على قتله. (370) ولما مات يعقوب رثاه أبو حنش الهلالي، وقيل النميري، واسمه حضير ابن قيس البصري وعاش مائة سنة، بأبيات هي في كتاب الحماسة أولها (5) : يعقوب لا تبعد وجنّبت الردى ... فليبكين زمانك الرطب الثرى   (1) س: فقلت السلام عليك ورحمة الله وبركاته، فقال: الرشيد ... الخ. (2) ر: تشفع. (3) انظر الجهشياري: 164. (4) انظر ج 1: 273. (5) الحماسة رقم: 325 والجهشياري: 163 وسماه " حصين بن قيس ". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 26 831 - (1) يعقوب بن كلّس أبو الفرج يعقوب بن يوسف بن إبراهيم بن هارون بن داود بن كلس، وزير العزيز نزار بن المعز العبيدي صاحب مصر المقدم ذكرهما، كان يعقوب أولاً يهودياً يزعم أنه من ولد هارون بن عمران أخي موسى بن عمران، عليهما السلام، وقيل إنه كان يزعم (2) أنه من ولد السموأل بن عاديا اليهودي صاحب الحصن المعروف بالأبلق، وهو المشهور بالوفاء، وقصته مع امرئ القيس الكندي الشاعر المشهور مشهورة مستفيضة بين العلماء في الوفاء له في ودائعه. وكان يعقوب المذكور قد ولد ببغداد ونشأ بها عند باب القز، وتعلم الكتابة والحساب، وسافر به أبوه من بغداد إلى الشام، وأنقذه إلى مصر سنة إحدى وثلاثين وثلثمائة فانقطع إلى بعض خواص الأستاذ كافور الإخشيدي - المقدم ذكره (3) - فجعله كافور على عمارة داره، ثم صار ملازماً لباب داره، فرأى كافور من نجابته وشهامته وصيانته ونزاهته وحسن إدراكه ما نفق عليه، فاستحضره وأجلسه في ديوانه الخاص، وكان يقف بين يديه ويخدم ويستوفي الأعمال والحسابات (4) ، ويدخل يده في كل شيء، ثم   (1) ترجمته في ابن الصيرفي: 19 والنجوم الزاهرة 4: 21 وابن ميسر: 45، 51 ومرآة الجنان 2: 250 وابن الأثير (ج: 9) والمواعظ والاعتبار 2: 5 - 8 وابن القلانسي: 32 واتعاظ الحنفا (صفحات متفرقة) والدرة المضية (في مواطن مختلفة) . (2) أنه كان يزعم: سقطت من ع. (3) ج 4: 99. (4) ع: والحسبانات. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 27 لم تزل أحواله تتزايد مع كافور حتى صار الحجاب والأشراف يقومون له ويكرمونه، ولم تتطلع نفسه إلى اكتساب مال، وأرسل له كافور شيئاً فرده عليه وأخذ منه القوت خاصة، وتقدم كافور إلى سائر الدواوين أن لا يمضي دينار ولا درهم إلا بتوقيعه، فوقع في كل شيء. وكان يبر ويصل من اليسير الذي أخذه، هذا كله وهو على دينه. ثم إنه أسلم يوم الاثنين لثماني عشرة ليلة خلت من شعبان سنة ست وخمسين وثلثمائة، ولزم الصلاة ودراسة القرآن الكريم، ورتب لنفسه رجلاً من أهل العلم شيخاً عارفاً بالقرآن المجيد والنحو حافظاً لكتاب السيرافي، فكان يبيت عنده ويصلي به ويقرأ عليه، ولم تزل حاله تزيد وتنمي مع كافور إلى أن توفي كافور في التاريخ المذكور في ترجمته. وكان أبو الفضل جعفر بن الفرات - المقدم ذكره في حرف الجيم (1) - وزير كافور يحسده ويعاديه، فلما مات كافور قبض ابن الفرات على جميع الكتاب وأصحاب الدواوين، وقبض على يعقوب بن كلّس في جملتهم، فلم يزل يتوصل ويبذل الأموال حتى أفرج عنه، فلما خرج من الاعتقال اقترض من أخيه ومن غيره مالاً وتجمل به وسار مستخفياً قاصداً بلاد المغرب فلقي القائد جوهر بن عبد الله الرومي مولى المعز العبيدي - المقدم ذكره (2) - في الطريق، وهو متوجه بالعساكر والخزائن إلى الديار المصرية ليملكها، فرجع في الصحبة، وقيل إنه استمر على قصده وانتهى إلى إفريقية وتعلق بخدمة المعز العبيدي - المقدم ذكره (3) - ثم رجع إلى الديار المصرية، ولم يزل يترقى إلى أن ولي الوزارة للعزيز نزار بن المعز معد، وعظمت منزلته عنده وأقبلت عليه الدنيا، وانثال الناس عليه ولازموا بابه، ومهّد قواعد الدوله وساس أمورها أحسن سياسة، ولم يبق لأحد معه كلام. وكان في أيام المعز   (1) انظر ج 1: 346. (2) ج 1: 375. (3) ج 5: 224. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 28 يتصرف في الخدم الديوانية، ثم انتقل إلى العزيز من بعده وتولى وزارة العزيز يوم الجمعة ثامن عشر رمضان سنة ثمان وستين ثلثمائة. وقال ابن زولاق في تاريخه، بعد ذكر المعز وتاريخ وفاته، ما مثاله: وممن وزر للمعز الوزير يعقوب بن كلّس، وهو أول من وزر للدولة الفاطمية في الديار المصرية، وكان من جملة كتاب كافور، فلما وصل المعز أحسن في خدمته وبالغ في طاعته إلى أن استوزره؛ هذا آخر كلام ابن زولاق. وقال غيره: كان يعقوب يحب أهل العلم ويجمع عنده العلماء، ورتب لنفسه مجلساً في كل ليلة جمعة يقرأ فيه لنفسه مصنفاته على الناس، وتحضره القضاة والفقهاء والقراء والنحاة وجميع أرباب الفضائل وأعيان العدول وغيرهم من وجوه الدولة وأصحاب الحديث، فإذا فرغ من مجلسه قام الشعراء ينشدونه المدائح. وكان في داره قوم يكتبون القرآن الكريم وآخرون يكتبون كتب الحديث والفقه والأدب، حتى الطب، ويعارضون ويشكلون المصاحف وينقطونها. وكان من جملة جلسائه الحسين بن عبد الرحيم المعروف بالزلازلي مصنف كتاب الأسجاع. ورتب في داره القراء والأئمة يصلون في مسجد اتخذه في داره؛ وأقام في داره مطابخ لنفسه ولجلسائه، ومطابخ لغلمانه وحاشيته وأتباعه، وكان ينصب كل يوم خواناً لخاصته من أهل العلم والكتاب وخواص أتباعه ومن يستدعيه، وينصب موائد عديدة يأكل عليها الحجاب وبقية الكتاب والحاشية. وصنع في داره ميضأة للطهور بثمانية بيوت تختص بمن يدخل داره من الغرباء. وكان يجلس كل يوم عقب صلاة الصبح ويدخل عليه الناس للسلام. وتعرض عليه رقاع الناس في الحوائج والظلامات. وقرر عند مخدومه العزيز جماعة جعلهم قواداً يركبون بالمواكب والعبيد، ولا يخاطب واحد منهم إلا بالقائد، وكان من جملة هؤلاء القواد القائد أبو الفتوح فضل بن صالح الذي تنسب إليه منية القائد فضل، وهي بليدة بالأعمال الجيزية من الديار المصرية. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 29 ثم إن الوزير المذكور شرع في تحصين داره ودور غلمانه بالدروب والحرس والسلاح والعدد، وعمرت ناحيته بالأسواق وأصناف ما يباع من الأمتعة ومن المطعوم والمشروب والملبوس. ويقال إن داره كانت بالقاهرة في موضع مدرسة الوزير صفي الدين أبي محمد عبد الله بن علي المعروف بابن شكر المختصة بالطائفة المالكية، وإن (1) الحارة المعروفة بالوزيرية التي بالقاهرة داخل باب سعادة منسوبة إلى أصحابه، لأنهم كانوا يسكنونها. وكان الوزير أبو الفضل ابن الفرات المقدم ذكره يغدو إليه ويروح ويعرض عليه محاسبات القوم الذين يريد محاسبتهم ويعول عليه فيها ويجلس معه في مجلسه وربما حبسه لمؤاكلته فيأكل معه بعد أن جرى عليه منه ما سبق ذكره. وكانت هيبته عظيمة وجوده وافراً، وأكثر الشعراء من مدائحه. ولقد نظرت في ديوان أبي حامد أحمد بن محمد الأنطاكي المنبوز بأبي الرقعمق الشاعر - المقدم ذكره (2) - فوجدت أكثر مديحه في الوزير المذكور، والقصيدة التي نقلت بعضها في ترجمته مدح بها الوزير المذكور. ورأيت في تاريخ الأمير المختار عز الملك محمد بن أبي القاسم المعروف بالمسبحي - المقدم ذكره (3) - فضلاً طويلاً يتعلق بشرح حال الوزير المذكور، معظم ما ذكرته ها هنا نقلته منه. وصنف الوزير المذكور كتاباً في الفقه مما سمعه من المعز وولده العزيز، وجلس في شهر رمضان سنة تسعة وستين وثلثمائة مجلساً حضره العام والخاص وقرأ فيه الكتاب بنفسه على الناس، وحضر هذا المجلس الوزير أبو الفضل ابن الفرات المذكور، وجلس في الجامع العتيق جماعة يفتون الناس من هذا الكتاب. وسمعت من جماعة من المصريين يقولون: إن الوزير المذكور كانت   (1) عودة إلى خط المؤلف. (2) ج 1: 131. (3) ج 4: 377. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 30 له طيور فائقة أصيلة مختارة تسبق كل طائر يسابقها، وكان لمخدومه العزيز طيور أيضاً سابقة فاخرة، فسابقه العزيز يوماً ببعض الطيور فسبق طائر الوزير، فعز ذلك على العزيز، ووجد أعداؤه سبيلاً إلى الطعن فيه، فقالوا للعزيز: إنه قد اختار من كل صنف أجوده وأعلاه ولم يبق منه إلا أدناه، حتى الحمام، وقصدوا بذلك الإغراء به حسداً منهم لعله يتغير عليه، فاتصل ذلك بالوزير فكتب إلى العزيز (1) : قل لأمير المؤمنين الذي ... له العلا والنسب الثاقب طائرك السابق لكنه ... جاء وفي خدمته حاجب فأعجبه ذلك منه وسرّي عنه ما كان وجده عليه؛ هكذا ذكره القاضي الرشيد ابن الزبير - المقدم ذكره (2) - في كتاب الجنان وذكر غيره أن هذين البيتين لولي الدولة أبي محمد أحمد بن علي المعروف بابن خيران الكاتب الشاعر المصري، - وقد سبق ذكره في ترجمة أبي الحسن علي بن أحمد بن نوبخت الشاعر (3) - وإنما لم أفرده بترجمة لأني لم أظفر بتاريخ وفاته، وقد التزمت في هذا الكتاب أني لا أذكر إلا من وقفت على تاريخ وفاته. وذكر أبو القاسم علي بن منجب بن سليمان الكاتب المعروف بابن الصيرفي المصري في جزء سماه الإشارة إلى من نال الوزارة ذكر فيه وزراء المصريين إلى عصره، وابتدأ بذكر يعقوب المذكور فقال: كان كاتباً يهودياً صائناً لنفسه محافظاً على دينه، جميل المعاملة مع التجار فيما تولاه، واتصل بخدمة كافور الإخشيدي فحمد خدمته، وردّ إليه زمام ديوانه بمصر والشام فضبطه له على حساب إرادته. وكان سبب حظوته عنده أن يهودياً قال   (1) المواعظ والاعتبار: 7. (2) انظر ج 2: 339. (3) انظر ج 3: 149. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 31 له: إن في دار ابن البلدي بالرملة ثلاثين ألف دينار مدفونة، وقد توفي، فكتب يعقوب إلى كافور رقعة يقول فيها: إن في دار ابن البلدي بالرملة عشرين ألف دينار مدفونة في موضع أعرفه وأنا أخرج أحملها، فأجابه إلى ذلك، وأنفذ معه البغال لحملها، وورد الخبر بموت بكير بن هرواز التاجر، فجعل إليه النظر في تركته. واتفق موت يهودي بالفرما ومعه أحمال كتان، فأخذها وفتحها فوجد فيها عشرين ألف دينار، فكتب إلى كافور بذلك، فتبرك به وكتب إليه بحملها، فباع الكتان وحمل الجميع وسار إلى الرملة، فحفر الدار التي لابن البلدي (1) وأخرج المال، وهو ثلاثون ألف دينار، فكتب إلى كافور: عرفت الأستاذ أنها عشرون ألف دينار ووجدت ثلاثين ألف دينار، فازداد محله من قلبه، وتصوره بالثقة، ونظر في تركة ابن هرواز (2) واستقصى وحمل منها مالاً كثيراً، فأرسل إليه كافور صلةً كثيرة، فأخذ منها ألف درهم ورد الباقي وقال: هذه كفايتي، فزاد أمره عنده، حتى إنه كان يشاوره في أكثر أموره. وقال عبد الله أخو مسلم العلوي: " رأيت يعقوب قائماً يسار كافور، فلما مضى قال لي: أيّ وزير بين جنبيه! ". وسار إلى المغرب وخدم المعز، وتولى أمور العزيز في مستهل شهر رمضان سنة ثمان وستين وثلثمائة، ولقبه بالوزارة وأمر أن لا يخاطبه أحد إلا بها، ولا يكاتب إلا بذلك. ثم اعتقله في سنة ثلاث وسبعين وثلثمائة في القصر، فأقام معتقلاً شهوراً ثم أطلقه في سنة أربع وسبعين ورده إلى ما كان عليه. ووجدت رقعة في دار الوزير المذكور في سنة ثمانين وثلثمائة، وهي السنة التي توفي فيها، ونسختها: احذروا من حوادث الأزمان ... وتوقوا طوارق الحدثان   (1) س: ابن البكري؛ وما في المتن ثابت في المسودة وابن الصيرفي. (2) س: هزوان؛ ع بر: هروان؛ وأثبتنا ما في المسودة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 32 قد أمنتم من الزمان ونمتم ... رب خوف مكمن في أمان فلما قرأها قال: لا حول ولا قوة إلا بالله العظيم، واجتهد أن يعرف كاتبها فلم يقدر على ذلك. ولما اعتل علة الوفاة آخر السنة المذكورة ركب إليه العزيز عائداً وقال له: وددت أنك تباع فأبتاعك بملكي أو تفدي فأفديك بولدي، فهل من حاجة توصي بها يا يعقوب فبكى وقبل يده وقال: أما فيما يخصني فأنت أرعى لحقي من أن أسترعيك إياه، وأرأف على من أخلفه من أن أوصيك به، ولكني أنصح لك فيما يتعلق بدولتك: سالم الروم ما سالموك، واقنع من الحمدانية بالدعوة والسكة، ولا تُ بق على مفرج بن دغفل بن جراح إن عرضت لك فيه فرصة. ومات فأمر العزيز أن يدفن في داره، وهي المعروفة بدار الوزارة بالقاهرة داخل باب النصر، في قبة كان بناها، وصلى عليه وألحده بيده في قبره، وانصرف حزيناً لفقده، وأمر بغلق الدوايين أيامأً بعده. وكان إقطاعه من العزيز في كل سنة مائة ألف دينار، ووجد له من العبيد والمماليك أربعة آلاف غلام، ووجد له جوهر بأربعمائة ألف دينار، وبزّ من كل صنف بخمسمائة ألف دينار. وكان عليه للتجار ستة عشر ألف دينار فقضاها عنه العزيز من بيت المال وفرقت على قبره. وذكره الحافظ ابن عساكر في تاريخ دمشق فقال: كان يهودياً من أهل بغداد خبيثاً ذا مكر، وله حيل ودهاء وفيه فطنة وذكاء. وكان في قديم أمره خرج إلى الشام فنزل الرملة، وصار بها وكيلاً، فكسر أموال التجار وهرب إلى مصر، فتاجر كافوراً الإخشيدي، فرأى منه فطنة وسياسة ومعرفة بأمر الضياع فقال: لو كان مسلماً لصلح أن يكون وزيراً، فطمع في الوزارة، فأسلم يوم جمعة في جامع مصر، فلما عرف الوزير أبو الفضل جعفر بن الفرات أمره قصده فهرب إلى المغرب، واتصل بيهود كانوا مع الملقب بالمعز، وخرج معه إلى مصر، فلما مات الملقب بالمعز وقام ولده الملقب بالعزيز استوزر ابن كلّس في سنة خمس وستين وثلثمائة، فلم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 33 يزل مدبر أمره إلى أن هلك في ذي الحجة سنة ثمانين وثلثمائة. وقال غيره: ابتدأ المرض بالوزير المذكور يوم الأحد الحادي والعشرين من ذي القعدة سنة ثمانين وثلثمائة، وأخذته سكتة، ثم تزايد به المرض واشتد، وانطلق لسانه، ثم توفي ليلة الأحد على صباح الاثنين لخمس خلون من ذي الحجة من السنة المذكورة، وكفن في خمسين ثوباً، واجتمع الناس كلهم من القصر إلى داره. وخرج العزيز وعليه الحزن ظاهر، وركب بغلته بغير مظلة، وكانت عادته أنه لا يركب إلا بها، وصلى عليه وبكى، وحضر مواراته. ويقال إنه كفن وحنط بما مبلغه عشرة آلاف دينار، وذكر من سمع العزيز وهو يقول: واطول أسفي عليك يا وزير، وبكى عليه القائد جوهر بكاء شديداً، وإنما كان بكاؤه على نفسه لأنه عاش بعده سنة واحدة، وغدا الشعراء إلى قبره، ويقال إنه رثاه مائة شاعر، وأخذت قصائدهم وأجيزوا. وقيل إنه مات على دينه، وكان يظهر الإسلام والصحيح أنه أسلم وحسن إسلامه. وقال يوماً - وقد ذكر اليهود في مجلسه - كلاماً يسوء اليهود سماعه، ثم بين عوراتهم وفساد مذهبهم، وأنهم على غير شيء، وأن اسم النبي صلى الله عليه وسلم في التوراة وهم يجحدونه. وكانت ولادته في سنة ثماني عشرة وثلثمائة ببغداد، عند باب القز، رحمه الله تعالى. وكلس: بكسر الكاف واللام المشددة وبعدها سين مهملة. والسموأل بن عادياء: بفتح السين المهملة والميم وسكون الواو وبعدها همزة مفتوحة ثم لام. وعادياء: بعين مهملة وبعد الألف دال مهملة مكسورة ثم ياء مثناة من تحتها وبعدها همزة ممدودة. وأما القائد جوهر فقد تقدم ذكره في ترجمته (371) وأما القائد فضل فإنه كان رجلاً نبيلاً كريماً ممدحاً وإليه تنسب الجزء: 7 ¦ الصفحة: 34 " منية القائد فضل " البليدة التي في أعمال الجيزة التي قبالة مصر، وفيه يقول أبو القاسم عبيد الغفار شاعر دولة الحاكم بن العزيز المذكور: إنما الفضل غُرّةٌ ... في وجوه المدائح أريحي رياحه ... عبقات الروائح كعبة الجود كفه ... بين غادٍ ورائح إنما تصلح الأمو ... ر برأي ابن صالح وكان مكيناً في دولة الحاكم المذكور، ثم نقم عليه وحبسه وضربت عنقه في محبسه يوم السبت عشية لإحدى وعشرين ليلة خلت من ذي القعدة سنة تسع وتسعين وثلثمائة، ولم يظهر منه جزع، ولفّ في حصير، وأُخرج من الحجرة التي كان محبوساً بها، رحمه الله تعالى. (372) وأما أبو القاسم الشاعر المذكور، فإن الحاكم قتله مع جماعة من الأعيان في يوم الأحد السادس والعشرين من المحرم سنة خمس وتسعين وثلثمائة، وأحرقهم بالنار وكان قتل الجميع في حجرة واحدة، والله أعلم. 832 - (1) يعقوب بن صابر المنجنيقي أبو يوسف يعقوب بن صابر بن بركات بن عمار بن علي بن الحسين بن علي بن حوثرة، الحراني الأصل البغدادي المولد والدار المنجنيقي، الملقب نجم الدين، الشاعر المشهور، ذكره أبو عبد الله محمد بن سعيد المعروف بابن الدبيثي في تاريخه الذي جعله ذيلاً لتاريخ الحافظ أبي سعد عبد الكريم بن   (1) ترجمته في ابن الشعار 10: 144 والحوادث الجامعة: 8 - 11 والبداية والنهاية 13: 125 والشذرات 5: 120 وأضاف الأستاذ الزركلي في الأعلام أن له ترجمة في التكملة في وفيات النقلة للمنذري، وانظر البدر السافر الورقة: 237 والزركشي 3: 364. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 35 السمعاني الذي ذيله على تاريخ بغداد تأليف الحافظ أبي بكر أحمد بن علي بن ثابت البغدادي - وقد سبق ذكر كل واحد من هؤلاء الثلاثة في هذا التاريخ - فقال ابن الدبيثي: " كان يعقوب المذكور متقدماً على أهل صناعته، يعني في صنعة المنجنيق وما يتعلق به، وكان فيه فضل ويقول الشعر، سمع شيئاً من الحديث من أبي المظفر ابن السمرقندي وأبي منصور ابن الشطرنجي، علقت عنه شيئاً من شعره، أنشدني أبو يوسف يعقوب بن صابر لنفسه (1) : قبلت وجنته فألفت جيده ... خجلاً ومال بعطفه المياس فانهل من خديه فوق عذاره ... عرق يحاكي الطل فوق الآس فكأنني استقطرت ورد خدوده ... بتصاعد الزفرات من أنفاسي سألته عن مولده فقال: في ضحى نهار الاثنين رابع محرم سنة أربع وخمسين وخمسمائة ". وقال غير ابن الدبيثي (2) : " كان صابر المنجنيقي جندياً في ابتداء أمره مقدماً على المنجنيقيين بمدينة السلام ببغداد، ولم يزل مغرى بآداب السيف والقلم وصناعة السلاح والرياضة، واشتهر بذلك، ولم يلحقه - أحد من أبناء زمانه في درايته وفهمه لذلك، وصنف فيه كتاباً سماه عمدة السالك (3) في سياسة الممالك ولم يتممه وهو مليح في معناه، يتضمن أحوال الحروب وتعبيتها وفتح الثغور، وبناء المعاقل وأحوال الفروسية والهندسة والمصابرة على القلاع والحصار (4) والرياضة الميدانية والحيل الحربية، وفنون العلاج بالسلاح وعمل أداة الحرب والكفاح، وصنوف الخيل وصفتها، وقد قسم هذا الكتاب ورتبه أبواباً، كل باب منه يشتمل على فصول ". وكان شيخاً هشاً مليحاً لطيفاً فكهاً طيب المحاورة، شريف النفس متواضعاً، فيه تودد وبشر وسكون، وهو مع ذلك شاعر مكثر مجيد ذو   (1) الأبيات في ابن الشعار 10: 148. (2) لم يصرح المؤلف هنا بالمصدر، والنص منفق مع ما جاء عند ابن الشعار 10: 144. (3) ابن الشعار: عمدة المالك. (4) ابن الشعار: والمصابرة والحصار والمعاقل والأمصار. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 36 معان مبتكرة، يقصد الشعر ويعمل المقاطيع، وجمع من شعره كتاباً مختصراً سماه مغاني المعاني ومدح الخلفاء، وكانت له منزلة لطيفة عند الإمام الناصر لدين الله أبي العباس أحمد خليفة العصر ذلك الوقت " (1) . قلت: وكانت أخباره في حياته متواصلة إلينا وأشعاره تنقلها الرواة عنه، ويحكون وقائعه وما جراياته وما ينظم في ذلك من الأشعار الرائقة والمعاني البديعة، ولم تتفق لي رؤيته مع المجاورة وقرب الدار من الدار، لأنه كان ببغداد ونحن بمدينة إربل، وهما متجاورتان، لكن لكثرة اطلاعي على أخباره وما يتفق له من النظم المنقول عنه في وقته كأني كنت معاشره، وما زلت مشغوفاً بشعره مستعذباً أسلوبه فيه. واجتمعت بخلق كثير من أصحابه والناقلين عنه، منهم صاحبنا الشيخ عفيف الدين أبو الحسن علي بن عدلان المعروف بالمترجم الموصلي، فإنه أنشدني له شيئاً كثيراً، فمن ذلك قوله (2) : كلفت بعلم المنجنيق ورميه ... لهدم الصياصي وافتتاح المرابط وعدت إلى نظم القريض لشقوتي ... فلم أخل في الحالين من قصد حائط وأنشدني عنه أيضاً وذكر أنه لم يسبق إليه (3) : لا تكن واثقاً بمن كظم الغي ... ظ اغتيالاً وخف غرار الغرور فالظبا المرهفات أقتل (4) ما كا ... نت إذا غاض ماؤها في الصدور وأنشدني له أيضاً في جارية سوداء كان يهواها، وهي حبشية: وجارية من بنات الحبوش ... بذات (5) جفون صحاح مراض تعشقتها للتصابي فشبت ... غراماً ولم أك بالشيب راض وكنت أعيّرها بالسواد ... فصارت تعيرني بالبياض   (1) هنا ينتهي النقل مؤقتاً عن ابن الشعار. (2) ابن الشعار 10: 149 ورواية البيت الأول: كلفت بعلم المنجنيق فلم أزل ... أحث ركابي بين ناء وشاحط (3) ابن الشعار 10: 149. (4) ابن الشعار: أقطع. (5) كذا في المسودة والمختار. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 37 وأنشدني عنه أيضاً: وجارية عبرت للطواف ... وعبرتها حذراً تدمع فقلت ادخلي البيت لا تجزعي ... ففيه الأمان لمن يجزع سدانته لبني شيبة ... فقالت: ومن شيبة أفزع وأنشدني عنه في غلامٍ يتعلم السباحة في دجلة بغداد، وقد لبس تبان (1) أزرق وشد على ظهره شكوة منفوخة كما جرت عادة من يتعلم العوم (2) ، فقال في ذلك: يا للرجال شكايتي من شكوة ... أضحت تعانق من أحب وأعشق جمعت هوىً كهواي إلا أنها ... تطفو ويثقلني الغرام فأغرق ويغيرني التبان عند عناق ... أردافه فهو العدو الأزرق وقال صاحبنا الكمال ابن الشعار الموصلي صاحب كتاب " عقود الجمان " (3) : أنشدني ابن صابر لنفسه هذه الأبيات، لكنه روى البيت الثاني منها على صورة أخرى فقال: حملت هوى كهواي فهي بوصله ... تطفو (4) ويبكيني الغرام فأغرق وهذا من المعاني النادرة، فإن العرب إذا وصفت العدو بشدة العداوة قالت: هو عدو أزرق، وقد جاء هذا في كلامهم وأشعارهم كثيراً، واستعمله الحريري في المقامة الرابعة عشرة (5) فقال: " فمذ اغبرّ العيش الأخضر، وازور المحبوب الأصفر، اسودَّ يومي الأبيض، وابيضَّ فودي الأسود، حتى رثى لي العدو الأزرق، فحبذا الموت الأحمر ". ورأيت في بعض الرسائل، ولا أتحقق الآن صاحبها: قد أوردنا ظبا الحديد الأخضر، في ماء الوريد   (1) المختار: نباتاً، واثبتنا ما جاء في المسودة. (2) المختار: السباحة. (3) ابن الشعار 10: 146. (4) كتبها في المسودة " تقفو ". (5) كذا في المسودة، وهي الثالثة عشرة في المطبوعة، انظر المقامات ص: 125. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 38 الأحمر، من عدو الله الأزرق، من بني الأصفر، وهو باب متسع فلا حاجة إلى الإطالة في ذكر شواهده. وأنشدني عنه أيضاً في جماعة من الصوفية أضافهم فأكلوا جميع ما قدمه لهم فكتب إلى شيخهم يذكر حاله معهم (1) : مولاي يا شيخ الرباط الذي ... أبان عن فضل وعلياء إليك أشكو جور صوفية ... باتوا ضيوفي وأودائي (2) أتيتهم بالزاد مستأثراً ... وبت تشكو الجوع أحشائي مشوا على الخبز ومن عادة ... الزهاد أن يمشوا على الماء وهم إلى الآن ضيوفي فجد ... لهم بخبز وبحلواء أولا فخذهم واكفنيهم فما ... يحسن في مثلهم رائي وأنشدني عنه في الصوفية أيضاً (3) : قد لبس االصوف لترك الصفا ... مشايخ العصر لشرب العصير الرقص والشاهد من شأنهم ... شر طويل تحت ذيل قصير وأنشدني عنه أيضاً، وهو من المعاني المستطرفة: قالوا نراه يسل شعر عذاره ... وسباله مستهتراً بزواله فتسل عنه وخذ حبيباً غيره ... فأجبتهم لازلت عبد وصاله هل يحسن السلوان عن حب يرى ... أن لا يفارقني بنتف سباله وأنشدني له غير ابن عدلان وقال: لما كبر ابن صابر وضعفت حركته صار إذا مشى يتوكأ على عصا، فقال في ذلك:   (1) من هذه القطعة بيتان في البدر السافر. (2) روايته في البدر السافر: أشكو إلى عدلك صوفية ... قد أضرموا بالنار أحشائي (3) ابن الشعار 10: 150. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 39 ألقيت عن يدي العصا ... زمن الشبيبة للنزول وحملتها لما دعا ... داعي المشيب إلى الرحيل وكان ببغداد شخص يقال له ابن بثران، وكان كثير الأراجيف، فمنع من ذلك، فقعد على الطريق ينجم، فقال فيه ابن صابر: إن ابن بشران ولست ألومه (1) ... من خيفة السلطان صار منجماً طبع المشوم على الفضول فلم يطق ... في الأرض إرجافاً فأرجف في السما قلت (2) : وأنشدني الأديب شهاب الدين أبو عبد الله محمد بن يوسف بن سالم المعروف بابن التلعفري لنفسه في بعض ليالي شهر رمضان سنة ثمان وثلاثين وستمائة بالقاهرة المحروسة، وهو من شعراء العصر المجيدين: يا شيب كيف وما انقضى زمن الصبا ... عاجلت مني اللمة السوداء لا تعجلن فوالذي جعل الدجى ... من ليل طرّتي البهيم ضياء لو أنها يوم الحساب صحيفتي ... ما سرّ قلبي كونها بيضاء فقلت له: قد أغرت على بيت نجم الدين ابن صابر، حتى إنك قد أخذت معظم لفظه وجميع معناه والوزن والروي، وهو قوله: لو أن لحية من يشيب صحيفة ... لمعاده ما اختارها بيضاء فحلف أنه لم يسمع هذا البيت إلا بعد عمله للأبيات المذكورة، والله أعلم بذلك. وهذا البيت لابن صابر من جملة أبيات وهي: قالوا بياض الشيب نور ساطع ... يكسو الوجوه مهابة وضياء حتى سرت وخطاته في مفرقي ... فوددت أن لا أفقد الظلماء وعدلت أستبقي الشباب تعللا ... بخضابها فصبغتها سوداء لو أن لحية من يشيب صحيفة ... لمعاده ما اختارها بيضاء   (1) المختار وهامش المسودة: على علاته. (2) انظر الغيث 2: 104. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 40 وأخبرني بعض الأدباء أن ابن صابر كتب إلى بعض الرؤساء ببغداد: ما جئت أسألك المواهب مادحاً ... إني لما أوليتني لشكور لكن أتيت عن المعالي مخبراً ... لك أن سعيك عندها مشكور ووقفت بالقاهرة على كراريس فيها شعره، وقد أجاد في كل ما نظمه، ورأيت فيها البيتين المشهورين المنسوبين إلى جماعة من الشعراء، ولا يعرف قائلهما على الحقيقة (1) ، وهما: ألقني في لظىً فإن أحرقتني ... فتيقن أن لست بالياقوت جمع (2) النسج كل من حاك لكن ... ليس داود فيه كالعنكبوت فعمل ابن صابر جوابهما: أيها المدعي الفخار دع الفخر لذي الكبرياء والجبروت ... نسج داود لم يفسد ليلة الغا ... ر وكان الفخار للعنكبوت وبقاء السمند في لهب النا ... ر مزيل فضيلة الياقوت وكذاك النعام يلتقم (3) الجمر وما الجمر للنعام بقوت ... قلت: وعلى البيتين الأولين نظم جماعة من الشعراء المعاصرين لنا أبياتاً، فمن ذلك قول الكمال أبي محمد القاسم بن القاسم بن عمرو بن منصور الواسطي نزيل حلب صاحب شرح " المقامات " (4) : حق دود القز يبني ... فوقه ثم يموت بعد ما سدى وقد صا ... ر يسدي العنكبوت وقول المهذب أبي عبد الله محمد بن أبي الحسن بن يمن الأنصاري المعروف بابن الأردخل الموصلي نزيل ميافارقين:   (1) أوردها ابن الشعار 10: 152 ثم قال: ذكرو أنهما للقاضي الفاضل. (2) ابن الشعار: شمل. (3) ابن الشعار: يبتلع. (4) ترجمته في الانباه 3: 31 وانظر الحاشية. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 41 أقول وقد قالوا نراك مقطباً ... إذا ما ادّعى دين الهوى غير أهله يحق لدود القز يقتل نفسه ... إذا جاء بيت العنكبوت بمثله وهذا ينظر إلى قول بعضهم: إذا شوركت في أمر بدون ... فلا يلحقك عار أو نفور ففي الحيوان يشترك اضطراراً ... أرسطاليس والكلب العقور وقول الآخر: وللزنبور والبازي جميعاً ... لدى الطيران أجنحة وخفق ولكن بين ما يصطاد باز ... وما يصطاده الزنبور فرق قلت: وعلى ذكر دود القز ينبغي أن يذكر ما يقال عن السرفة، بضم السين المهملة وبعدها راء ساكنة ثم فاء، قال الجوهري في كتاب " الصحاح " هي دويبة لنفسها بيتاً مربعاً من دقاق العيدان تضم بعضها إلى بعض بلعابها على مثال الناووس، ثم تدخل فيه وتموت، يقال في المثل: هو أصنع من سرفة، وذكر لي بعض الفضلاء أن السرفة هي الأرضة، والله أعلم. ومما ينبغي أن يلحق بالأبيات المقدم ذكرها قول بعضهم: إن أعوز الحاذق فاستبدلوا ... مكانه أخرق لم يحذق فلاعب الشطرنج من دأبه ... وضع حصاة موضع البيدق والأصل في هذا كله قول المتنبي: وشر ما قنصته راحتي قنص ... شهب البزاة سواء فيه والرخم ويقرب منه قول أبي العلاء المعري أيضاً: وهل يدخر الضرغام قوتاً ليومه ... إذا ادخر النمل الطعام لعامه (1) قلت: وفي هذه الأبيات الأوائل ما يحتاج إلى زيادة إيضاح، فليس   (1) قلت وعلى البيتين ... لعامه: لم يرد في س. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 42 كل من يقف عليها يفهم معناها: أما البيت الأول وما ذكره من أمر الياقوت فإن الياقوت من خاصيته أن النار لا تؤثر فيه، وإلى هذا أشار الحريري في المقامة السابعة والأربعين بقوله من جملة ثلاثة أبيات (1) : وطالما أصلي الياقوت جمر غضاً ... ثم انطفا الجمر والياقوت ياقوت وقال آخر في غلام له اسمه ياقوت: ياقوت ياقوت قلبي المستهام به ... من المروءة أن لا يمنع القوت سكنت قلبي وما تخشى تلهبه ... وكيف يخشى لهيب النار ياقوت وقد جاء هذا كثيراً في الشعر، لكن الاختصار أولى. وأما قول ابن صابر في الجواب في البيت الثاني: نسج داود لم يفد ليلة الغار إلى آخره، فهذا إشارة إلى مهاجرة النبي صلى الله عليه وسلم، معه أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فإنهما خافا من مشركي مكة أن يتبعوهما فدخلا غار ثور، بالثاء المثلثة وثور جبل بين مكة والمدينة وبالقرب من مكة ونسج العنكبوت في الحال على باب الغار، فلما وصل المشركون إليه ورأوا أثر العنكبوت على الباب قالوا: ليس ها هنا أحد؛ فإنه لو دخله أحد ما كان العنكبوت نسج عليه في الحال؛ لأن المشركين بادروا إليهما ليلحقوهما، فأخفى الله سبحانه وتعالى أمرهما، وهي من جملة معجزات النبي صلى الله عليه وسلم. وقوله في البيت الثالث: وبقاء السمند في لهب النار إلى آخره: السمند، بفتح السين المهملة والميم وبعد النون الساكنة دال مهملة، ويقال السمندل أيضاً بزيادة اللام، ذكروا أنه طائر يقع في النار فلا تؤثر فيه، ويعمل من ريشه مناديل وتحمل إلى هذه البلاد، فإذا اتسخت المنديل طرحت في النار فتأكل النار الوسخ الذي عليها، ولا تحترق المنديل ولا تؤثر النار فيها، ولقد رأيت منه قطعة ثخينة منسوجة على هيئة حزام الدابة، وهي في طول الحزام وعرضه، فجعلوها على النار فما عملت فيه، فغمسوا أحد جوانبه في الزيت   (1) مقامات الحريري: 514. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 43 ثم تركوه على فتيلة السراج فاشتعل وبقي زماناً طويلاً يشتعل ثم اطفأوه وهو على حاله ما تغير فيه شيء (1) ، ويقولون إنه يجلب من بلاد الهند، وإن هذا الطائر يكون هناك، وفيه نكتة ينبغي أن تذكر ها هنا، وهي أن طرف تلك القطعة لما وضعوه على السراج تركوه زماناً طويلاً والنار لا تعلق فيه، فقال بعض الحاضرين: هذا ما تعمل فيه النار، ولكن اغمسوا هذا الطرف في الزيت ثم اجعلوه على النار، ففعلوا ذلك فاشتعل؛ فظهر من هذا أن النار لا تؤثر فيه على تجرده بل لابد من غمسه في شيء من الأدهان. ثم رأيت بخط شيخنا موفق الدين عبد اللطيف بن يوسف البغدادي في كتابه الذي جعله لنفسه سيرة أنه قدم للملك الظاهر بن صلاح الدين صاحب حلب قطعة سمندل، عرض ذراع في طول ذراعين، فصاروا يغمسونها في الزيت ويوقدونها حتى يتقد الزيت وترجع بيضاء كما كانت، والله أعلم. ومثله السرفوت: دويدة تعشش في كور الزجاج في حال توقده واضطرامه وتبيض فيه وتفرخ، ولا تعمل بيتها إلا في موضع النار المستمرة الدائمة، فسبحان خالق كل شيء وهي بفتح السين المهملة والراء وضم الفاء وسكون الواو وبعدها تاء مثناة من فوقها. وأما البيت الرابع الذي ذكر فيه النعام وأنه يلتقم الجمر، فهذا شيء شاهدناه كثيراً، وهو معروف بين الناس وليس بغريب. وبالجملة فقد خرجنا عن المقصود، لكن الكلام اتصل بعضه ببعض فانتشر. وتوفي ابن صابر المذكور في ليلة الثامن والعشرين من صفر من سنة ست وعشرين وستمائة ببغداد (2) ، ودفن يوم الجمعة غربيها بالمقبرة الجديدة، بباب المشهد المعروف بموسى بن جعفر، رضي الله عنهما.   (1) علق هنا صاحب المختار بقوله: " قلت، أعني كاتبها موسى بن أحمد لطف الله به: ورأيت أنا أيضاً منه قطعة من منشفة قد كانت نسجت منه وجربتها على النار فكانت على ما شرح، والله أعلم ". (2) ذكر في البدر السافر نقلاً عن ابن سعيد أنه توفي سنة 623. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 44 وأخبرني الشهاب ابن التلعفري المذكور أن مولده في الخامس والعشرين من جمادى الآخرة بالموصل سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة، وتوفي في عاشر شوال سنة خمس وسبعين وستمائة بمدينة حماة، وأنشد قبيل موته لنفسه وهو آخر شعره: إذا ما بات من ترب فراشي ... وبتُّ مجاور الرب الكريم فهنوني أصيحابي وقولوا ... لك البشرى قدمت على رحيم وحوثرة: بفتح الحاء المهملة وسكون الواو وفتح الثاء المثلثة وبعدها راء ثم هاء، وهي في الأصل اسم لحشفة الذكر، وبها سمي الإنسان. قال ابن الكلبي في كتاب جمهرة النسب: سمي ربيعة بن عمرو بن عوف بن بكر بن وائل حوثرة لأنه حج فمر بامرأة معها قعب لها، فاستامها فأكثرت فقال: والله لو أدخلت حوثرتي فيه، يعني كمرته، لملأته، فسمي حوثرة. والمنجنيقي: بفتح الميم وسكون النون وفتح الجيم وكسر النون الثانية وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها قاف، هذه النسبة إلى المنجنيق، وهو معروف. وإذ قد جرى ذكره ينبغي الكلام عليه ففيه أشياء غريبة: منها: انه من جملة الآلات المنقولة المستعملة، والقاعدة في هذا الباب: أن تكون ميمه مكسورة، إلا ما شذَّ عن ذلك في ألفاظٍ قليلة مثل منخل ومدهن ومسعط، وغير ذلك، مع أن ابن الجواليقي في كتاب " المعرب " (1) حكى فيه أربع لغات: فتح الميم، وكسرها على القاعدة، ومنجنوق بالواو بدل الياء، ومنجليق باللام عوض النون الثانية، وحكى في الميم والنون الأولى ثلاثة أقوال، قيل إنهما أصليتان، وقيل زائدتان، وقيل الميم أصلية والنون زائدة، والله أعلم. وهو اسم أعجمي، فإن الجيم والقاف لا يجتمعان في كلمة عربية، مثل الجرموق والجردق والجوسق والجلاهق والقبج وغير ذلك، وهذا باب مطرد، وكذلك الجيم والصاد لا يجتمعان في كلمة عربية   (1) المعرب: 305 - 307. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 45 مثل الصهريج والجص والصاج والجصطل وغير ذلك (1) ، وهو أيضاً باب مطرد. وإذا جمعناه حذفنا إحدى النونين، فإن حذفنا النون الأولى قلنا: مجانيق، وإن حذفنا النون الثانية قلنا مناجيق، وقال الجوهري في كتاب الصحاح الأصل في المنجنيق: من جي نيك تفسيره بالعربي: ما أجودني؛ قلت: فتفسير " من " أنا، وتفسير " جي " أيش، وتفسير " نيك " جيد، أي أنا أيش جيد. قال الجوهري: ثم عرب فقيل منجنيق. وذكر ابن قتيبة في كتاب " المعارف " (2) وأبو هلال العسكري في كتاب الأوائل أن أول من وضع المنجنيق جذيمة الأبرش ملك العرب وبلد الحيرة في ذلك الزمان. وقال الواحدي في تفسيره الوسيط في سورة الأنبياء: إن المشركين لما عزموا على إحراق إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام وأضرموا النار، لم يدروا كيف يلقونه فيها، فجاءهم إبليس لعنه الله تعالى، فدلهم على المنجنيق، وهو أول منجنيق وضع، فوضعوه فيه ثم رموه، والله أعلم. وهذا الفصل كله وإن كان خارجاً عن المقصود لكنه ما يخلو عن فائدة، فلذلك بسطت القول فيه. 833 - (3) موفق الدين ابن يعيش أبو البقاء يعيش بن علي بن يعيش بن أبي السرايا بن محمد بن محمد بن علي بن المفضل بن عبد الكريم بن محمد بن يحيى بن حيّان القاضي بن بشر بن حيان   (1) علق ابن المؤلف هنا بقوله: " قلت، أعني كاتبها موسى بن أحمد لطف الله به: وكذلك الجيم والكاف لا يجتمعان في كلمة عربية كالكليجة والكماج وغير ذلك، والله أعلم ". (2) المعارف: 554. (3) ترجمته في ابن الشعار 10: 215 والشذرات 5: 228 وابن الوردي 2: 176 وبغية الوعاة: 419. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 46 الأسدي، الموصلي الأصل، الحلبي المولد والمنشأ، الملقب موفق الدين النحوي ويعرف بابن الصائغ؛ قرأ النحو على أبي السخاء فتيان الحلبي، وأبي العباس المغربي النيروزي (1) وسمع الحديث على أبي الفضل عبد الله بن أحمد الخطيب الطوسي بالموصل، وعلى أبي محمد بن عبد الله بن عمر بن سويدة التكريتي، وبحلب من أبي الفرج يحيى بن محمود (2) الثقفي والقاضي أبي الحسن أحمد بن محمد بن الطرسوسي وخالد بن محمد بن نصر بن صغير القيسراني، وبدمشق على تاج الدين (3) الكندي، وغيرهم، وحدث بحلب وكان فاضلاً ماهراً في النحو والتصريف. رحل من حلب في صدر عمره قاصداً بغداد ليدرك أبا البركات عبد الرحمن بن محمد المعروف بابن الأنباري - المقدم ذكره (4) - وتلك الطبقة بالعراق وبلاد الجزيرة، فلما وصل إلى الموصل بلغه خبر وفاته، وقد ذكرت تاريخ موته في ترجمته، فأقام بالموصل مديدة وسمع الحديث بها، ثم رجع إلى حلب. ولما عزم على التصدر للإقراء سافر إلى دمشق واجتمع بالشيخ تاج الدين أبي اليمن زيد بن الحسن الكندي الإمام المشهور - وقد تقدم ذكره في حرف الزاي (5) - وسأله عن مواضع مشكلة في العربية، وعن إعراب ما ذكره أبو محمد الحريري في المقامة العاشرة المعروفة بالرحيبة، وهو قوله في أواخرها - حتى إذا لألأ الأفق ذنب السرحان، وآن انبلاج الفجر وحان - فاستبهم جواب هذا المكان على الكندي: هل الأفق وذنب السرحان مرفوعان أو منصوبان، أو الأفق مرفوع وذنب السرحان منصوب، أو على العكس وقال له: قد علمت قصدك، وأنك أردت إعلامي بمكانتك من هذا العلم، وكتب له خطه بمدحه والثناء عليه، ووصف تقدمه في الفن (6) الأدبي. قلت: وهذه المسألة يجوز فيها الأمور الأربعة، والمختار منها نصب   (1) س: التبريزي؛ ابن الشعار: البيزوزي. (2) س: محمد. (3) زاد في المختار: أبي اليمن زيد بن الحسن. (4) انظر ج 3: 139. (5) انظر ج 2: 339. (6) المختار: في هذا الفن. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 47 الأفق ورفع ذنب السرحان، وقد ذكر ذلك تاج الدين أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن - المقدم ذكره (1) - المعروف بالبندهي في كتاب " شرح المقامات " ولولا خوف الإطالة لبينت ذلك. ولما وصلت إلى حلب لأجل الاشتغال بالعلم الشريف، وكان دخولي إليها يوم الثلاثاء مستهل ذي القعدة سنة ست وعشرين وستمائة، وهي إذ ذاك أم البلاد مشحونة (2) بالعلماء والمشتغلين، وكان الشيخ موفق الدين المذكور شيخ الجماعة في الأدب، لم يكن فيهم مثله، فشرعت في القراءة عليه، وكان يقرئ بجامعها في المقصورة الشمالية بعد العصر، وبين الصلاتين بالمدرسة الرواحية، وكان عنده جماعة قد تنبهوا وتميزوا به، وهم ملازمون مجلسه لا يفارقونه في وقت الإقراء وابتدأت بكتاب " اللمع " لابن جني، فقرأت عليه معظمها مع سماعي لدروس الجماعة الحاضرين، وذلك في أواخر سنة سبع وعشرين، وما أتممتها إلا على غيره لعذر اقتضى ذلك. وكان حسن التفهيم لطيف الكلام طويل الروح على المبتدئ والمنتهي، وكان خفيف الروح ظريف الشمائل كثير المجون، مع سكينة ووقار، ولقد حضرت يوماً حلقته، وبعض الفقهاء يقرأ عليه " اللمع " لابن جني، فقرأ بيت ذي الرمة في باب النداء: أيا ظبية الوعساء بين جلاجل ... وبين النقا آأنت أم أمّ سالم فقال له الشيخ: إن هذا الشاعر لشدة ولهه في المحبة وعظم وجده بهذه المحبوبة أم سالم وكثرة مشابهتها للغزال كما جرت عادة الشعراء في تشبيههم النساء الصباح الوجوه بالغزلان والمها، اشتبه عليه الحال، فلم يدر هل هي امرأة أم ظبية، فقال: آأنت أم أمّ سالم؛ وأطال الشيخ موفق الدين القول في ذلك وبسطه بأحسن عبارة، بحيث يفهمه البليد البعيد الذهن، وذلك الفقيه منصت مقبل على كلامه بكليته، حتى يتوهم من يراه على تلك الصورة أنه قد تعقل جميع ما قاله، فلما فرغ الشيخ من شرحه قال له الفقيه: يا مولانا أيش في المرأة الحسناء يشبه الظبية فقال له الشيخ قول منبسط: تشبهها في   (1) انظر ج 4: 390. (2) بر: محشوة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 48 ذنبها وقرونها، فضحك الحاضرون، وخجل الفقيه، وما عدت رأيته حضر مجليه. قلت: وجلاجل، بفتح الجيم وضمها، اسم مكان والثانية جيم أيضاً. وكنا يوماً نقرأ عليه بالمدرسة الرواحية، فجاءه رجل من الأجناد وبيده مسطور بدين، وكان الشيخ له عادة بالشهادة في المكاتيب الشرعية، فقال له: يا مولانا اشهد عليّ في هذا المسطور، فأخذه الشيخ من يده وقرأ أوله: أقرت فاطمة، فقال له الشيخ: أنت فاطمة فقال له الجندي: لا يا مولانا، الساعة تحضر، وخرج إلى باب المدرسة، فأحضرها وهو يتبسم من كلام الشيخ. ويقرب من هذا ما تقدم ذكره في ترجمة عامر الشعبي (1) أن شخصاً دخل عليه وعنده امرأة، فقال: أيكما الشعبي فقال له هذه. وكنا يوماً نقرأ عليه في داره، فعطش بعض الحاضرين وطلب من الغلام ماء فأحضره له، فلما شرب قال: ما هذا إلا ماء بارد، فقال له الشيخ: لو كان خبزاً حاراً كان أحب إليك. وكنا يوماً عنده بالمدرسة الرواحية، فجاء المؤذن وأذن قبل العصر بساعة جيدة، فقال له الحاضرون: أيش هذا يا شيخ وأين وقت العصر فقال الشيخ موفق الدين: دعوه عسى أن يكون له شغل فهو مستعجل. وكان يوماً عند القاضي بهاء الدين المعروف بابن شداد قاضي حلب الآتي ذكره إن شاء الله تعالى فجرى ذكر زرقاء اليمامة، وأنها كانت ترى الشيء من المسافة البعيدة، حتى قيل تراه من مسيرة ثلاثة أيام، فجعل الحاضرون يقولون ما علموه من ذلك، فقال الشيخ موفق الدين: أنا أرى الشيء من مسافة شهرين، فتعجب الكل من قوله وما أمكنهم أن يقولوا شيئاً، فقال له القاضي: كيف هذا يا موفق الدين فقال: لأني أرى الهلال، فقال   (1) انظر ج 3: 15. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 49 له: كان قلت (1) مسافة كذا كذا سنة، قال: لو قلت هذا عرف الجماعة الحاضرون غرضي، وكان قصدي الإبهام عليهم. وله نوادر كثيرة يطول ذكرها. وكنت يوماً عنده وقد قدم من الموصل رجل من فضلاء المغاربة في علم الأدب، فحضر حلقته وبحث في دروسه بحث رجل فاضل، وجرى ذكر مباحث جرت له في الموصل مع جماعة من أدبائها وقال: كنت عند ضياء الدين نصر الله بن الأثير الجزري - قلت: وقد سبق ذكره (2) - قال فتحاورنا وتناشدنا، فأنشدته قول بعض المغاربة قلت: هذه الأبيات ذكر أبو اسحاق الحصري أنها لبعض مشايخ القيروان، رواها عنه ولم يعينه (3) ؛ وهي: ومعذرين كأن نبت خدودهم ... أقلام مسك تستمد خلوقا قرنوا البنفسج بالشقيق ونضدوا ... تحت الزبرجد لؤلؤاً وعقيقا فهم الذين إذا الخليّ رآهم ... وجد الهوى بهم إليه طريقا قلت: ونصف البيت الثاني مثل قول ابن الذروي المصري في أبياته التي سبق ذكرها في ترجمة المبارك بن منقذ وهو قوله: جلا تحت ياقوت اللمى ثغر لؤلؤ ... رطيبا (4) وأبدى شارباً من زمرذ ومن المنسوب إلى أبي محمد الحسن بن علي المعروف بابن وكيع التنيسي - المقدم ذكره في حرف الحاء (5) -: جوهري الأوصاف يقصر عنه ... كلّ فهم وكل ذهن دقيق   (1) بر: كنت تقول. (2) انظر ج 5: 389. (3) ثبت في المطبوعة المصرية بعد هذا: " قلت: وغالب ظني أنه أبو الحسن علي بن عبد الغني الحصري، (ر والمسودة: المقدم ذكره) والأبيات التي أنشدها (والمسودة: هي، ثم وجدت أن الحصري المذكور أنشدها) ولم يذكر أنها له رأيتها في بعض المجاميع منسوبة إلى أبي الحجاج الشاعر المشهور " (ر والمسودة: والله أعلم) وقد رمج المؤلف عليه في مسودته، ووضع بدله ما أثبتناه في المتن. وقد مر بيتان منها في زيادات نسختي ص د في الجزء الأول الصفحة: 394، وهو مما يدل على أن تلك الزيادة دخيلة. (4) خ بهامش المسودة: عقد لؤلؤ نضيد. (5) انظر ج 3: 104. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 50 شارب من زمرذ وثنايا ... لؤلؤ فوقها فم من عقيق وذكرت بهذه الأبيات بيتين كنت أحفظهما، ويحسن ذكرهما بعد هذا وهما: لما وقفنا للوداع وصار ما ... كنا نظنّ من النوى تحقيقا نثروا على ورق الشقائق لؤلؤاً ... ونثرت من فوق البهار عقيقا وكذلك بيت الوأواء الدمشقي: فأمطرت لؤلؤاً من نرجس فسقت ... ورداً وعضت على العناب بالبرد وكذا قول محمد بن سعيد العامري الدمشقي (1) ، وقيل إنها لابن كيغلغ: لما اعتنقنا للوداع وأعربت ... عبراتنا عنا بدمع ناطق فرّقن بين معاجر ومحاجر ... وجمعن بين بنفسج وشقائق وأنا الفداء لظبية أحداقنا ... موصولة من وجهها بحدائق وينسب (2) إلى أبي الفتح الحسن بن أبي حصينة الحلبي الشاعر المشهور من هذا أيضاً (3) : ولما وقفنا للوداع وقلبها ... وقلبي يفيضان الصبابة والوجدا بكت لؤلؤاً رطباً وفاضت مدامعي ... عقيقاً فصار الكل في نحرها عقدا وأنشدني صاحبنا الحسام عيسى بن سنجر بن بهرام الحاجري الإربلي - المقدم ذكره (4) - لنفسه: ولما التقينا ومنّ الزمان ... رأى دمع عيني دماً في المآقي   (1) ترجم له المرزباني في المعجم: 414 والقفطي في المحمدون: 349 وفيهما الأبيات التي أوردها ابن خلكان. (2) من هنا حتى قوله " قلت وقد قيل في هذا الباب ... الخ " لم يرد في س بر. (3) ديوانه 1: 227. (4) انظر ج 3: 501. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 51 فقال وعهدي به لؤلؤاً ... أيجري عقيقاً وهذا التلاقي فقلت حبيبي لا تعجبن ... جعلت فدى لك ميتاً وباقي فتلك أوائل دمع الوداع ... وهذي أواخر دمع الفراق وكان (1) الشيخ موفق الدين المذكور كثيراً ما ينشد منسوباً إلى أبي علي الحسن ابن رشيق - المقدم ذكره (2) - ثم كشفت ديوانه، فلم أجد هذه الأبيات فيه، والله أعلم وهي: وقد كنت لا آتي إليك مخاتلاً ... لديك ولا أثني عليك تصنعا ولكن رأيت المدح فيك فريضة ... عليّ إذا كان المديح تطوعا فقمت بما لم يخف عنك مكانه ... من القول حتى ضاق مما توسعا فلا تتخالجك الظنون فإنها ... مآثم واترك فيّ للصلح موضعا فلو غيرك الموسوم عندي بريبة ... لأعطيت فيه مدعي للقول ما ادعى فوالله ما طولت بالقول فيكم ... لساناً ولا عرضت للذم مسمعا ولكنني أكرمت نفسي فلم تهن ... وأجللتها من أن تذلّ وتخضعا فباينت لا أن العداوة باينت ... وقاطعت لا أن الوفاء تقطعا قلت: وقد قيل في هذا الباب (3) شيء كثير ولا حاجة إلى الإطالة. وشرح الشيخ موفق الدين كتاب " المفصل " لأبي القاسم الزمخشري شرحاً مستوفىً، وليس في جملة الشروح مثله، وشرح " تصريف الملوكي " لابن جني شرحاً مليحاً، وانتفع به خلق كثير من أهل حلب وغيرها، حتى إن الرؤساء الذين كانوا بحلب ذلك الزمان كانوا تلامذته. وكانت ولادته لثلاث خلون من شهر رمضان سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة   (1) ثابت بهامش المسودة ولكن أرجح أنه ليس بخط المؤلف، وهو ثابت في المختار أيضاً. (2) انظر ج 2: 85. (3) يعني باب البكاء وتشبيه الدموع باللؤلؤ والعقيق، وهو يدل على أن النص السابق قد باعد هذا التعليق عن موضعه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 52 بحلب؛ وتوفي بها في سحر الخامس والعشرين (1) من جمادى الأولى سنة ثلاث وأربعين وستمائة، ودفن من يومه بتربته بالمقام المنسوب إلى إبراهيم الخليل، صلوات الله عليه وسلامه، ورحمه الله تعالى 834 - (2) يموت بن المزرّع أبو بكر يموت بن المزرع بن يموت بن عيسى (3) بن موسى بن سيّار بن حكيم (4) بن جبلة بن حصن بن أسود بن كعب بن عامر بن عدي بن الحارث بن الديل بن عمرو بن غنم بن وديعة بن لكيز بن أفصى بن عبد القيس بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان، العبدي البصري. قلت: وجدت في كتاب " جمهرة النسب " تأليف ابن الكلبي عند ذكره حكيم بن جبلة المذكور، وقد ساق نسبه على هذه الصورة، وفي الحاشية مكتوب ما مثاله: من ولد حكيم بن جبلة المذكور يموت بن المزرع ابن يموت، وقد ساق نسبه على هذه الصورة حتى ألحقه بحكيم بن جبلة المذكور، والعهدة عليه في ذلك. ورأيت بخطي في مسوداتي: يموت بن المزرع بن يموت بن عدس بن سيار بن المزرع (5) بن الحارث بن ثعلبة بن   (1) ابن الشعار: ثالث وعشرين جمادى الأولى. (2) ترجمته في تاريخ بغداد 14: 358 ومعجم الأدباء 20: 57 وطبقات الزبيدي: 235 والنجوم الزاهرة 3: 191 وعبر الذهبي 2: 128 والشذرات 2: 243 ومعجم المرزباني: 505 وبغية الوعاة: 420 ومروج الذهب 4: 196 ونزهة الألباء: 163. (3) فوقها في المسودة: خ: المزرع؛ وفي تاريخ بغداد: عبدوس، وفي نسبه اختلاف كثير عما ورد هنا. (4) فوق الحاء " معاً " في المسودة أي إنها تفتح وتضم. (5) كذا في المسودة بتقديم الراء المهملة هنا وهو مخالف للضبط في آخر الترجمة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 53 عمرو بن ضمرة بن دلهاث بن وديعة بن بكر بن وديعة بن لكيز بن أفصى المذكور، والله أعلم بالصواب في ذلك وكان يموت قد سمى نفسه محمداً، وذكره الخطيب البغدادي في تاريخه الكبير في المحمدين، ثم ذكره في حرف الياء وقال، هو يموت وهو ابن أخت أبي عثمان الجاحظ، وقد وتقدم ذكره (1) . قدم يموت بن المزرع بغداد في سنة إحدى وثلثمائة وهو شيخ كبير، وحدث بها عن أبي عثمان المازني وأبي حاتم السجستاني وأبي الفضل الرياشي ونصر بن علي الجهضمي، وعبد الرحمن ابن أخي الأصمعي، ومحمد بن يحيى الأزدي وأبي إسحاق إبراهيم بن سفيان الزيادي وغيرهم؛ روى عنه أبو بكر الخرائطي وأبو الميمون ابن راشد، وأبو الفضل العباس بن محمد الرقي، وأبو بكر ابن مجاهد المقرئ وأبو بكر ابن الأنباري وغيرهم. وكان أديباً أخبارياً، وله ملح ونوادر، وكان لا يعود مريضاً خوفاً أن يتطير من اسمه، وكان يقول: بليت بالاسم الذي سماني أبي به، فإني إذا عدت مريضاً فاستأذنت عليه، فقيل من هذا قلت أنا ابن المزرع (2) ، وأسقطت اسمي. ومدحه منصور الفقيه الضرير الشاعر المشهور بقوله: أنت تحيا والذي يكره أن تحيا يموت ... أنت صنو النفس أنت لروح النفس قوت ... أنت للحكمة بيت ... لا خلت منك البيوت فمن أخباره أنه قال، أخبرني أبو الفضل الرياشي قال، سمعت الأصمعي يقول: كان سخط هارون الرشيد على عبد الملك بن صالح بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب، رضي الله عنه، في سنة ثمان وثمانين ومائة،   (1) انظر ج 3: 470. (2) في المختار هنا: المرزع، بتقديم الراء المهملة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 54 ولقد كنت عند الرشيد وقد أتي بعبد الملك يرفل في قيوده، فلما نظر الرشيد إليه قال له: هيه يا عبد الملك، كأني والله أنظر إلى شؤبوبها قد همع، وإلى عارضها قد لمع، وكأني بالوعيد قد أقلع عن براجم بلا معاصم، ورؤوس بلا غلاصم، مهلا مهلا بني هاشم، فبي والله سهل لكم الوعر وصفا لكم الكدر، وألقت إليكم الأمور أثناء أزمتها، فخذوا حذاركم مني قبل حلول داهية خبوطٍ باليد والرجل، فقال له عبد الملك: أفذاً أتكلم أم وتوأما، فقال: بل توأما، فقال: اتق الله يا أمير المؤمنين فيما ولاك، وراقبه في رعاياك التي استرعاك، فقد سهلت والله لك الوعور، وجمعت على خوفك ورجائك الصدور، وكنت كما قال أخو بني جعفر بن كلاب (1) : ومقامٍ ضيقٍ فرجته ... بلسانٍ وبيانٍ وجدل لو يقوم الفيل أو فيّاله ... زلّ عن مثل مقامي وزحل قال: فأراد يحيى بن خالد البرمكي أن يضع من مقدار عبد الملك عند الرشيد، فقال له: يا عبد الملك بلغني أنك حقود، فقال له: أصلح الله الوزير، إن يكن الحقد هو بقاء الخير والشر عندي فإنهما لباقيان في قلبي. قال الأصمعي: فالتفت الرشيد إليّ وقال: يا أصمعي حررها، فوالله ما احتج أحد للحقد بمثل ما احتج به عبد الملك، ثم أمر به فرد إلى محبسه. قال الأصمعي: ثم التفت الرشيد إلي وقال: يا أصمعي والله لقد نظرت إلى موضع السيف من عنقه مراراً، ويمنعني من ذلك إبقائي على قومي في مثله. قلت: وعبد الله بن صالح قد ذكرته في ترجمة أبي عبادة الوليد البحتري الشاعر المشهور ونبهت على تاريخ وفاته (2) . وروى يموت بن المزرع (3) أيضاً أن أحمد بن محمد بن عبيد الله أبا الحسن   (1) هو لبيد بن ربيعة، انظر ديوانه: 193 - 194. (2) انظر ج 6: 30. (3) المختار: المرزع. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 55 الكاتب المعروف بابن المدبرّ الضبي الرستيساني، كان إذا مدحه شاعر فلم يرض شعره قال لغلامه: امض به إلى المسجد الجامع ولا تفارقه حتى يصلي مائة ركعة ثم أطلقه، فتحاماه الشعراء إلا الأفراد المجيدين (1) ، فجاءه أبو عبد الله الحسين بن عبد السلام المصري المعروف بالجمل، فاستأذنه في النشيد فقال له: قد عرفت الشرط قال: نعم، ثم أنشده (2) : أردنا في أبي حسنٍ مديحاً ... كما بالمدح تنتجع الولاة وقلنا أكرم الثقلين طرا ... ومن كفاه دجلة والفرات فقالوا يقبل المدحات لكن ... جوائزه عليهن الصلاة فقلت لهم وما تغني صلاتي ... عيالي، إنما الشأن الزكاة فيأمر لي بكسر الصاد منها ... فتصبح لي الصلاة هي الصلات فضحك ابن المدير واستظرفه، وقال: من أين أخذت هذا فقال: من قول أبي تمام الطائي: هن الحمام فإن كسرت عيافةً ... من حائهن فإنهن حمام فاستحسن ذلك وأحسن صلته. (373) وكان أحمد بن المدبر (3) يتولى الخراج بمصر، فحبسه أحمد بن طولون في سنة خمس وستين ومائتين، ومات في حبسه في صفر سنة سبعين ومائتين، وقيل بل قتله ابن طولون، والله أعلم، والمدبر: بكسر الباء الموحدة المشدة. وحدث ابن المزرع أيضاً عن خاله أبي عثمان الجاحظ أنه قال: طلب المعتصم جاريةً كانت لمحمود بن الحسن الشاعر المشهور المعروف بالوراق، وكانت تسمى نشوى وكان شديد الغرام بها، وبذل في ثمنها سبعة آلاف   (1) المختار: المجيدون. (2) انظر تهذيب ابن عساكر 3: 306 - 307 وللجمل أيضاً ترجمة في المغرب (قسم مصر) 1: 270 وهذا هو الجمل الأكبر، وهناك الأصغر، وللجمل الأكبر أشعار في كتاب الكندي ومعجم الأدباء 10: 121؛ ووردت الحكاية في 2: 19 من زيادات در. (3) أخباره في الخطط 1: 314 والمغرب (قسم مصر) : 123 وصفحات أخرى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 56 دينار، فامتنع محمود من بيعها لأنه كان يهواها أيضاً، فلما مات محمود اشتريت الجارية للمعتصم من تركته بسبعمائة دينار، فلما دخلت عليه قال لها: كيف رأيت تركتك حتى اشتريتك من سبعة آلاف بسبعمائة، قالت: أجل إذا كان الخليفة ينتظر لشهواته (1) المواريث، فإن سبعين ديناراً لكثيرة في ثمني فضلاً عن سبعمائة، فخجل المعتصم من كلامها. وقال ابن المزرع: حدثني من رأى قبراً بالشام عليه مكتوب: لا يغترن أحد بالدنيا فإني ابن من كان يطلق الريح إذا شاء ويحبسها إذا شاء، وبحذائه قبر عليه مكتوب: كذب الماص بظر أمه، لا يظن أحد أنه ابن سليمان بن داود عليهما السلام، إنما هو ابن حداد يجمع الريح في الزق ثم ينفخ بها الجمر، قال: فما رأيت قبلها قبرين يتشاتمان، والله أعلم. لابن المزروع أخبار وحكايات ونوادر، ولسنا نقصد الإطالة بل الإيجاز حسب الإمكان إلا أن ينتشر الكلام. (374) وكان له ولد، يدعى أبا نضلة مهلهل بن يموت بن المزرع (2) ، وكان شاعراً مجيداً، ذكره المسعودي في كتاب - مروج الذهب ومعادن الجوهر - فقال في حقه (3) : هو من شعراء هذا الزمان، وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة، وفيه يقول أبوه مخاطباً له: مهلهل قد حلبت شطور دهري ... وكافحني بها الزمن العنوت وحاربت الرجال بكل ريع ... فأذعن لي الحثالة والرتوت فأوجع ما أُجنّ عليه فلبي ... كريمٌ غنته زمن غتوت كفى حزناً بضيعة ذي قديم ... وأبناء العبيد لها البخوت   (1) المختار: بشهواته. (2) ترجمته في تاريخ بغداد 13: 273 وله شعر في الديارات، وانظر مقدمة رسالته في سرقات أبي نواس (القاهرة - دار الفكر العربي) . (3) مروج الذهب 4: 197. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 57 وقد أسهرت عيني بعد غمض ... مخافة أن تضيع إذا فنيت وفي لطف المهيمن لي عزاء ... بمثلك إن فنيت وإن بقيت فجب في الأرض وابغ بها علوماً ... ولا تقطعك جائحة سبوت وإن بخل العليم عليك يوماً ... فذل له وديدنك السكوت وقل بالعلم كان أبي جواداً ... يقال ومن أبوك فقل يموت يقرّ لك الأباعد والأداني ... بعلمٍ ليس يجحده البهوت وكان يموت قد قدم مصر مراراً، وآخر قدومه إليها في سنة ثلاث وثلثمائة، وخرج في سنة أربع وثلثمائة. قال أبو سعيد ابن يونس الصدفي المصري في تاريخه المختص بالغرباء: مات يموت بن المزرع سنة أربع وثلثمائة بدمشق؛ وقال أبو سليمان بن زبر في تاريخه: إنه مات في سنة ثلاث وثلثمائة بطبرية الشام، والله أعلم. وأما ولده مهلهل فإن الخطيب ذكره في " تاريخ بغداد " وقال: هو شاعر مليح الشعر في الغزل وغيره، وسكن بغداد وسمع منه، وكتب عنه شعره أبو بعضة (1) إبراهيم بن محمد المعروف بتوزون. ثم قال الخطيب: أخبرني التنوخي قال، قتا لنا أبو الحسين أحمد بن محمد بن العباس الأخباري: حضرت في سنة ست وعشرين وثلثمائة مجلس تحفة القوّالة جارية أبي عبد الله ابن عمر البازيار، وإلى جانبي عن يسرتي أبو نضلة مهلهل بن يموت بن المزرع (2) ، وعن يميني أبو القاسم بن أبي الحسن البغدادي، فغنت تحفة من وراء الستارة بهذه الأبيات: بي شغلٌ به عن الشغل عنه ... بهواه وإن تشاغل عني ظن بي جفوةً فأعرض عني ... وبدا منه ما تخوف مني سره أن أكون فيه حزيناً ... فسروري إذا تضاعف حزني فقال لي أبو نضلة: هذا الشعر لي، فسمعه أبو القاسم، وكان ينحرف   (1) س: أبو بعضبه. (2) وضع في المسودة كسرة تحت الشدة على الراء في هذا الموضع. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 58 عن أبي نضلة فقال: قل له: إن كان هذا الشعر له يزيد فيه بيتاً، فقلت له ذلك على وجه جميل فقال: هو في الحسن فتنةٌ قد أصارت ... فتنتي في هواه من كل فن ومن المنسوب إلى مهلهل أيضاً: جلت محاسنه عن كل تشبيه ... وجل عن واصفٍ في الناس يحكيه انظر إلى حسنه واستغن عن صفتي ... سبحان خالقه، سبحان باريه النرجس الغض والورد الجني له ... والأقحوان النضير النضر في فيه دعا بألحاظه قلبي إلى عطبي ... فجاءه مسرعاً طوعاً يلبيه مثل الفراشة تأتي إذ ترى لهبا ... إلى السراج فتلقي نفسها فيه وذكر له الخطيب شعراً غير هذا فأضربت عن ذكره. والمزرع: بضم الميم وفتح الزاي وبعدها راء مشددة مفتوحة ثم عين مهملة، هكذا قاله (1) لي الشيخ الحافظ زكي الدين أبو محمد عبد العظيم بن عبد القوي بن عبد الله المنذري، رحمه الله تعالى. (375) وأما حكيم بن جبلة المذكور في عمود هذا النسب فإنه بفتح الحاء المهملة وكسر الكاف، ويقال أيضاً بضم الحاء وفتح الكاف، ويقال جبلة وجبل، وكان من أعوان علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ولما بويع علي الخلافة بايعه طلحة بن عبيد الله التيمي والزبير بن العوام الأسدي رضي الله عنهما، فعزم علي رضي الله عنه على تولية الزبير البصرة وتولية طلحة اليمن، فخرجت مولاة لعلي فسمعتهما يقولان: ما بايعناه إلا بألسنتنا وما بايعناه بقلوبنا، فأخبرت مولاها بذلك، فقال: أبعدهما الله تعالى، ومن نكث فإنما ينكث على نفسه، وبعث إلى البصرة عثمان بن حنيف الأنصاري، وإلى اليمن   (1) ع ر: قال. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 59 عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه، فاستعمل ابن حنيف حكيم بن جبلة المذكور على شرطة البصرة. ثم إن طلحة والزبير لحقا بمكة وفيها عائشة رضي الله تعالى عنها، فاتفقوا وقصدوا البصرة، وفيها ابن حنيف المذكور، فأتى حكيم بن جبلة إلى ابن حنيف، وأشار عليه بمنعهم من دخول البصرة، فأبى وقال: ما أدري ما رأي أمير المؤمنين في ذلك، فدخلوها وتلقاهم الناس، فوقفوا في مربد البصرة وتكلموا في قتل عثمان بن عفان رضي الله عنه وبيعة علي رضي الله تعالى عنه، فرد عليهم رجل من عبد القيس، فنالوا منه ونتفوا لحيته، وترامى الناس بالحجارة واضطربوا، فجاء حكيم بن جبلة إلى ابن حنيف ودعاه إلى قتالهم فأبى، ثم أتى عبد الله بن الزبير إلى مدينة الرزق ليرزق أصحابه من الطعام الذي فيها، وغدا حكيم بن جبلة في سبعمائة من عبد القيس فقاتله فقتل حكيم وسبعون رجلاً من أصحابه. وروي أن ابن جبلة قال لامرأته وكانت من الأزد: لأعملنّ بقومك اليوم عملاً يكونون به حديثاً للناس، فقالت له: أظن قومي سيضربونك اليوم ضربة تكون حديثاً للناس، فلقيه رجل يقال له سُحيم فضرب عنقه، فبقي معلقاً بجلدةٍ، فاستدار رأسه، فبقي مقبلاً بوجهه على دبره، وكان ذلك قبل وصول علي رضي الله عنه بجيوشه إليهم، ثم قدم عليهم وتقابل الجيشان يوم الخميس النصف من جمادى الآخرة سنة ست وثلاثين للهجرة عند موضع قصر عبيد الله بن زياد، ثم كانت الوقعة العظمى المشهورة بوقعة الجمل يوم الخميس لعشر بقين من الشهر المذكور، وكان أول قدومهم، وقتل حكيم بن جبلة قبل ذلك بأيام في هذا الشهر أيضاً، وقتل بين الفريقين مقدار عشرة آلاف، وقتل طلحة والزبير رضي الله عنهما في ذلك اليوم، لكنه بغير قتال، ولولا خوف الإطالة لشرحته. وقال المأموني في تاريخه: وقيل إن أهل المدينة علموا بيوم الجمل يوم الخميس قبل أن تغرب الشمس، وفيه كان القتال، وذلك أن نسراً مر بما الجزء: 7 ¦ الصفحة: 60 حول المدينة ومعه شيء معلق، فتأمله الناس فوقع فإذا كف فيها خاتم نقشه: عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد. ثم إن كل من بين مكة والمدينة ممن قرب من البصرة أو بعد علموا بالوقعة مما نقلت النسور إليهم من الأيدي والأقدام. قلت: وذكر كشاجم في كتاب " المصايد والمطارد " (1) أن العقاب ألقت كف عبد الرحمن بمكة، وكذلك ذكره في كتاب " المهذب " في الفقه في باب الصلاة على الميت، وذكر ابن الكلبي وأبو اليقظان في كتابيهما أن العُقاب ألقتها باليمامة، والله أعلم بالصواب. 835 - (2) أبو يعقوب البويطي أبو يعقوب يوسف بن يحيى المصري البويطي، صاحب الشافعي رضي الله عنه؛ كان واسطة عقد جماعته وأظهرهم نجابةً، اختص به في حياته، وقام مقامه في الدرس والفتوى بعد وفاته، سمع الأحاديث النبوية من عبد الله بن وهب الفقيه المالكي - المقدم ذكره (3) - ومن الإمام الشافعي، وروى عنه أبو إسماعيل الترمذي (4) وإبراهيم بن إسحاق الحربي والقاسم بن المغيرة الجوهري وأحمد بن منصور الرمادي وغيرهم. وكان قد حمل في أيام الواثق بالله من مصر إلى بغداد في مدة المحنة وأريد على القول بخلق القرآن   (1) المصايد والمطارد: 98. (2) ترجمته في تاريخ بغداد 14: 299 والفهرست: 298 وتهذيب التهذيب 11: 427 وطبقات السبكي 1: 275 وعبر الذهبي 1: 411 والشذرات 2: 71 وحسن المحاضرة 1: 123 وطبقات العبادي: 7 والاسنوي 1: 20 والنجوم الزاهرة 2: 231 والحسيبي: 4 ومعجم البلدان (بويط) وابن قاضي شهبة: 45. (3) ج 3: 36. (4) هو محمد بن اسماعيل الترمذي المحدث الحافظ الثقة (انظر تذكرة الحفاظ: 604) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 61 الكريم فامتنع من الإجابة إلى ذلك، فحبس ببغداد، ولم يزل في السجن والقيد حتى مات، وكان صالحاً متنسكاً عابداً زاهداً. قال الربيع بن سليمان: رأيت البويطي على بغل، في عنقه غل وفي رجليه قيد، وبين الغل والقيد سلسلة من حديد فيها طوبة وزنها أربعون رطلاً، وهو يقول: إنما خلق الله سبحانه الخلق بِكُنْ، فإذا كانت كن مخلوقة فكأن مخلوقاً خلق مخلوقاً، فوالله لأموتن في حديدي حتى يأتي من بعدي قوم يعلمون أنه مات في هذا الشأن قوم في حديدهم، ولئن أدخلت عليه لأصدقنه يعني الواثق. وقال أبو عمر ابن عبد البر الحافظ في كتاب " الانتقاء في فضائل الثلاثة الفقهاء (1) ": إن ابن أبي الليث الحنيفي قاضي مصر كان يحسده ويعاديه، فأخرجه في وقت المحنة في القرآن العظيم فيمن أخرج من مصر إلى بغداد، ولم يُخرج من أصحاب الشافعي غيره، وحمل إلى بغداد وحبس، فلم يجب إلى ما دعي إليه في القرآن، وقال: هو كلام الله غير مخلوق، وحبس ومات في السجن. وقال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في كتاب " طبقات الفقهاء " (2) : كان أبو يعقوب البويطي إذا سمع المؤذن وهو في السجن يوم الجمعة اغتسل ولبس ثيابه ومشى حتى يبلغ باب السجن، فيقول له السجان: أين تريد فيقول: أجيب داعي الله، فيقول: ارجع عافاك الله، فيقول أبو يعقوب: اللهم إنك تعلم أني قد أجبت داعيك فمنعوني. وقال أبو الوليد ابن أبي الجارود (3) : كان البويطي جاري فما كنت أنتبه ساعة من الليل إلا سمعته يقرأ ويصلي. وقال الربيع: كان أبو يعقوب أبداً يحرك شفتيه بذكر الله تعالى، وما   (1) الانتقاء: 109. (2) طبقات الفقهاء: 98. (3) تاريخ بغداد: 300. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 62 رأيت أحداً أنزع بحجة من كتاب الله تعالى من أبي يعقوب البويطي. وقال الربيع أيضاً: كان لأبي يعقوب منزلة من الشافعي، وكان الرجل ربما يسأله عن المسألة فيقول له: سل أبا يعقوب، فإذا أجابه أخبره فيقول: هو كما قال. وقال أيضاً: ربما جاء رسول صاحب الشرطة إلى الشافعي فيوجه أبا يعقوب البويطي ويقول: هذا لساني. وقال الخطيب البغدادي في تاريخه (1) : لما مرض الشافعي مرضه الذي مات فيه جاء محمد بن عبد الحكم ينازع البويطي في مجلس الشافعي، فقال البويطي: أنا أحق به منك، وقال ابن عبد الحكم: أنا أحق بمجلسه منك، فجاء أبو بكر الحميدي، وكان في تلك الأيام بمصر، فقال: قال الشافعي: ليس أحد أحق بمجلسي من يوسف بن يحيى وليس أحد من أصحابي أعلم منه، فقال له ابن عبد الحكم: كذبت، فقال الحميدي: كذبت أنت وكذب أبوك وكذبت أمك، وغضب ابن عبد الحكم، فترك مجلس الشافعي وتقدم فجلس في الطاق، وترك طاقاً بين مجلس الشافعي ومجلسه، وجلس البويطي في مجلس الشافعي في الطاق الذي كان يجلس فيه. وقال أبو العباس محمد بن يعقوب الأصم (2) : رأيت أبي في المنام فقال لي: يا بني عليك بكتاب البويطي فليس في الكتب أقل خطأ منه. وقال الربيع بن سليمان (3) : كنت عند الشافعي أنا والمزني وأبو يعقوب البويطي، فنظر إلينا فقال لي: أنت تموت في الحديث، وقال للمزني: هذا لو ناظره الشيطان قطعه أو جدّله، وقال للبويطي: أنت تموت في الحديد، قال الربيع: فدخلت على البويطي أيم المحنة فرأيته مقيداً إلى أنصاف ساقيه مغلولة يداه إلى عنقه. وقال الربيع أيضاً: كتب إليّ أبو يعقوب من السجن: إنه ليأتي علي أوقات لا أحس بالحديد أنه على بدني حتى تمسه يدي، فإذا قرأت كتابي   (1) تاريخ بغداد: 301. (2) متابع للنقل عن تاريخ بغداد؛ وانظر ترجمة الأصم في تذكرة الحفاظ للذهبي: 860. (3) ورد في ج 2: 291. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 63 هذا فأحسن خلقك مع أهل حلقتك، واستوص بالغرباء خاصة خيراً، فكثيراً ما كنت أسمع الشافعي رضي الله عنه يتمثل بهذا البيت: أهين لهم نفسي لأكرمها بهم ... ولن تكرم النفس التي لا تهينها وأخباره كثيرة؛ وتوفي يوم الجمعة قبل الصلاة في رجب سنة إحدى وثلاثين ومائتين، في القيد والسجن ببغداد، وقيل إنه توفي سنة اثنتين وثلاثين، والأول أصح، رحمه الله تعالى؛ وقال ابن القرّاب في تاريخه: توفي يوم الثلاثاء في رجب، والله أعلم. والبويطي، بضم الباء الموحدة وفتح الواو وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها طاء مهملة، هذه النسبة إلى بويط، وهي قرية من أعمال الصعيد الأدنى من ديار مصر. ويوسف: فيه ست لغات، ضمّ السين وفتحها وكسرها مع الواو وضم السين وفتحها وكسرها مع الهمزة عوض الواو، فالمجموع ست لغات، والياء أوله مضمومة في اللغات الست، وسيأتي نظيره في يونس. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 64 836 - (1) أبو القاسم ابن كجّ القاضي أبو القاسم يوسف بن أحمد بن يوسف بن كج الكجي الدينوري؛ كان أحد أئمة الشافعية، صحب أبا الحسين ابن القطان، وحضر مجلس أبي القاسم عبد العزيز الداركي، وجمع بين رياسة العلم والدنيا، وارتحل الناس إليه من الآفاق للاشتغال عليه بالدينور رغبة في علمه وجودة نظره، وله وجه في مذهب الشافعي رضي الله عنه، وصنف كتباً كثيرة انتفع بها الفقهاء. قال أبو سعد ابن السمعاني: لما انصرف أبو علي الحسين بن شعيب السنجي من عند الشيخ أبي حامد الإسفرايني اجتاز به فرأى علمه وفضله، فقال له: يا أستاذ، الاسم لأبي حامد والعلم لك، فقال: ذاك رفعته بغداد وحطتني الدينور. وتولى القضاء ببلده، وكانت له نعمة كثيرة. وقتله العيارون بالدينور في ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان سنة خمس وأربعمائة، رحمه الله تعالى. وكج: بكاف مفتوحه وجيم مشددة. وقد تقدم الكلام على الدينور فأغنى عن الإعادة، والكجي: نسبة إلى جده المذكور.   (1) ترجمته في طبقات السبكي 4: 29 ومرآة الجنان 3: 12 وعبر الذهبي 3: 92 والشذرات 3: 177 وطبقات الشيرازي: 118 - 119 والأنساب واللباب (الكجي) وطبقات العبادي: 107 والبداية والنهاية 11: 355 والأسنوي 2: 340 والحسيبي: 24 وابن قاضي شهبة: 90. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 65 837 - (1) ابن عبد البر ّ أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر بن عاصم النمري القرطبي؛ إمام عصره في الحديث والأثر وما يتعلق بهما، روى بقرطبة عن أبي القاسم خلف بن القاسم الحافظ وعبد الوارث بن سفيان وسعيد نصر وأبي محمد ابن عبد المؤمن وأبي عمر الباجي وأبي عمر الكلمنكي وأبي الوليد ابن الفرضي وغيرهم. وكتب إليه من أهل المشرق أبو القاسم السقطي المكي وعبد الغني بن سعيد الحافظ وأبو ذر الهروي وأبو محمد ابن النحاس المصري وغيرهم. قال القاضي أبو علي ابن سكرة (2) : سمعت شيخنا القاضي أبا الوليد الباجي يقول: لم يكن بالأندلس مثل أبي عمر ابن عبد البر في الحديث؛ وقال الباجي أيضاً: أبو عمر أحفظ أهل المغرب. وقال أبو علي الحسين بن أحمد بن محمد الغساني الأندلسي الجياني - المقدم ذكره (3) -: ابن عبد البر شيخنا من أهل قرطبة، بها طلب الفقه ولزم أبا عمر أحمد بن عبد الملك بن هاشم الفقيه الإشبيلي وكتب بين يديه، ولزم أبا الوليد ابن الفرضي الحافظ وعنه أخذ كثيراً من علم الحديث، ودأب في   (1) ترجمته في الصلة: 640 وبغية الملتمس رقم: 1442 والجذوة: 344 والمغرب 2: 407 والمطمح: 61 والديباج المذهب: 357 وترتيب المدارك 4: 808 وتذكرة الحفاظ: 1128 وعبر الذهبي 3: 255 والشذرات 3: 314. (2) هو أبو علي الحسين بن محمد الصدفي، انظر ترجمته في النفح 2: 90 وفي الحاشية ذكر لمراجع أخرى. (3) ج 2: 180. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 66 طلب العلم وافتنّ فيه، وبرع براعة فاق فيها من تقدمه من رجال الأندلس. وألف في " الموطأ " كتباً مفيدة. منها كتاب " التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد " ورتبه على أسماء شيوخ مالك على حروف المعجم، وهو كتاب لم يتقدمه أحد إلى مثله، وهو سبعون جزءاً؛ قال أبو محمد ابن حزم: لا أعلم في الكلام على فقه الحديث مثله، فكيف أحسن منه ثم صنع كتاب " الاستذكار لمذاهب علماء الأمصار فيما تضمنه الموطأ من معاني الرأي والآثار " شرح فيه الموطأ على وجهه ونسق أبوابه، وجمع في أسماء الصحابة رضي الله عنهم كتاباً جليلاً مفيداً سماه " الاستيعاب " وله كتاب " جامع بيان العلم وفضله وما ينبغي في روايته وحمله " وكتاب " الدرر في اختصار المغازي والسير " (1) وكتاب " العقل والعقلاء وما جاء في أوصافهم " وله كتاب صغير في قبائل العرب وأنسابهم (2) وغير ذلك من تواليفه. وكان موفقاً في التأليف معاناً عليه، ونفع الله به. وكان مع تقدمه في علم الأثر وبصره بالفقه ومعاني الحديث، له بسطة كبيرة في علم النسب. وفارق قرطبة وجال في غرب الأندلس مدةً، ثم تحول إلى شرق الأندلس وسكن دانية من بلادها، وبلنسية وشاطبة، في أوقات مختلفة. وتولى قضاء الأشبونة وشنترين في أيام ملكها المظفر بن الأفطس؛ وصنف كتاب " بهجة المجالس وأنس المجالس " (3) في ثلاثة أسفار، جمع فيه أشياء مستحسنة تصلح للمذاكرة والمحاضرة: من ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في منامه أنه دخل الجنة ورأى فيها عذقاً مدلى فأعجبه وقال: لمن هذا فقيل: لأبي جهل، فشقّ ذلك عليه وقال: ما لأبي جهل والجنة والله لا يدخلها أبداً، فإنها لا تدخلها   (1) طبع هذا الكتاب بتحقيق الدكتور شوقي ضيف (القاهرة: 1966) . (2) مطبوع باسم " القصد والأمم في التعريف بأصول أنساب العرب والعجم " ومعه كتيب آخر هو " الانباه على قبائل الرواة " (القاهرة: 1350) . (3) صدر من هذا الكتاب جزء واحد بتحقيق الأستاذ محمد مرسي الخولي (القاهرة 1962) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 67 إلا نفس مؤمنة، فلما أتاه عكرمة بن أبي جهل مسلماً فرح به وقام إليه، وتأول ذلك العذق عكرمة ابنه. ومنه أيضاً أنه قيل لجعفر بن محمد، يعني الصادق: كم تتأخر الرؤيا قال: رأى النبي صلى الله عليه وسلم كأن كلباً أبقع يلغ في دمه، فكان شمر ابن ذي الجوشن قاتل الحسين بن علي رضي الله عنه إنه، وكان أبرص، فكان تأخير الرؤيا بعد خمسين سنة. ومن ذلك أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رؤيا فقصها على أبي بكر الصديق رضي الله عنه فقال: أبا بكر، رأيت كأني أنا وأنت نرقى درجةً، فسبقتك بمرقاتين ونصف، فقال: يا رسول الله، يقبضك الله تعالى إلى رحمته ومغفرته وأعيش بعدك سنتين ونصفا. ومن ذلك أن بعض أهل الشام قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: رأيت كأن الشمس والقمر اقتتلا، ومع كل واحد منهما فريق من النجوم، قال: مع أيهما كنت قال: مع القمر، قال: مع الآية الممحوة، لا عملت لي عملاً أبداً، فعزله، وقتل مع معاوية بن أبي سفيان بصفين. وقالت عائشة رضي الله عنها: رأيت كأن ثلاثة أقمار سقطن في حجري، فقال لها أبوها أبو بكر الصديق رضي الله عنه: إن صدقت رؤياك دفن في بيتك ثلاثة من خير أهل الأرض، فلما دفن النبي صلى الله عليه وسلم في بيتها قال لها أبو بكر: هذا أحد أقمارك، وهو خيرها. ومنه أيضاً أن أعرابياً - وقيل هو الحطيئة الشاعر - أراد سفراً، فقال لامرأته: عدي السنين لغيبتي وتصبري ... وذري الشهور فإنهن قصار فأجابته: اذكر صبابتنا إليك وشوقنا ... وارحم بناتك إنهن صغار فأقام وترك سفره. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 68 وقال الهيثم بن عدي قال لي صالح بن حيان: مَنْ أفقه الشعراء فقلت: اختلف في ذلك، فقال: أفقه الشعراء وضاح اليمن حيث يقول: إذا قلت هاتي نوليني تبسمت ... وقالت: معاذ الله من فعل ما حرم فما نولت حتى تضرعت عندها ... وأعلمتها ما أرخص الله في اللمم ومنه أيضاً: قيل لأسلم بن زرعة: إن انهزمت من أصحاب مرداس (1) غضب عليك الأمير عبيد الله بن زياد، فقال: لأن يغضب علي وأنا حي خير من أن يرضى عني وأنا ميت. ومنه أيضاً: سبّ أعرابي أعرابياً فسكت، فقيل له لم سكت عنه فقال: ليس لي علم بمساويه، وكرهت أن أبهته بما ليس فيه. ثالبني عمرو وثالبته ... قد أثم المثلوب والثالب قلت له خيراً وقال الخنا ... كلّ على صاحبه وقال علي بن الحسين رضي الله عنهما: إذا قال فيك رجل ما لا يعلم من الخير أوشك أن يقول فيك ما لا يعلم من الشر. ومنه أيضاً: ذكر المغيرة بن شعبة عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: كان والله أفضل من أن يخدع، وأعقل من أن يخدع. ومنه أيضاً: روي أنه لما أهبط الله تعالى آدم عليه السلام إلى الأرض أتاه جبريل عليه السلام فقال: يا آدم إن الله عز وجل قد أحضرك ثلاث خصال لتختار منهن واحدة وتتخلى عن ثنتين، قال: وما هن قال: الحياء والدين والعقل، قال آدم: إني اخترت العقل، فقال جبريل للحياء والدين: ارتفعا فقد اختار العقل، قالا: لا، لا نرتفع، قال: ولمَ أعصيتما قالا: لا ولكن أمرنا أن لا نفارق العقل حيث كان.   (1) يعني مرداس بن أدية شيخ الخوارج. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 69 وقال عبد الملك بن عبد الحميد من أبيات (1) : الماء في دار عثمان له ثمن ... والخبز فيها له شأن من الشان عثمان يعلم أن الحمد ذو ثمن ... لكنه يشتهي حمداً بمجان والناس أكيس من أن يحمدوا أحداً ... حتى يروا عنده آثار إحسان ومن كتاب " بهجة المجالس " أيضاً قال الرياشي: خرج الناس بالبصرة ينظرون هلال شهر رمضان، فرآه رجلٌ واحد منهم، ولم يزل يومئ إليه حتى رآه معه غيره وعاينوه، فلما كان هلال الفطر جاز الجماز صاحب النوادر إلى ذلك الرجل، فدّق عليه الباب فقال: قم أخرجنا مما أدخلتنا فيه. قلت: وهذا الجماز هو أبو عبد الله محمد بن عمرو بن حماد بن عطاء ابن ريان، مولى أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وهو ابن أخت سلم الخاسر؛ قال السمعاني في حقه: كان خبيث اللسان حسن النادرة، وكان أكبر من أبي نواس، وقيل في نسبه غير ذلك، والجماز لقبه، وهو بفتح الجيم وتشديد الميم وبعد الألف زاي. فمن نوادره أنه قال: أصبحت في يوم مطير، فقالت لي امرأتي: أي شيء يطيب في هذا اليوم فقلت لها: الطلاق، فسكتت عني. ودخل يوماً بعض إخوانه وقد طبخ وغرف الطعام، فقال الداخل: سبحان الله ما أعجب أسباب الرزق! فقال الجماز؛ الحرمان والله أعجب منه، امرأته طالق إن ذقته. وقال له السروي الشاعر: ولدت امرأتي البارحة ولداً كأنه دينار منقوش، فقال له الجماز: لاعن أمه. وللجماز شعر أيضاً ذكره في كتاب " الورقة "، فمن ذلك ما كتبه إلى صاحب له، وكان يلازم الجامع ثم انقطع عنه: هجرت المسجد الجامع والهجر له ريبه ...   (1) ورد منها في النفح (3: 580) بيتان نسبهما إلى الأمير القاسم الأموي يقولهما في أخيه عثمان، وكذلك قال ابن حيان في المقتبس: 201 (تحقيق مكي) وقال ابن الأيار: وهو غلط لا خفاء به وإنما البيتان من قطعة لعبد الملك بن عبد الرحيم الحارثي أنشدهما ابن عبد البر في كتاب بهجة المجالس. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 70 فلا نافلةً تأتي ... ولا تشهد مكتوبه وأخبارك تأتينا ... على الأعلام منصوبه فإن زدت من الغيبة زدناك من الغيبه ... ومنه أيضاً: قال أردشير: احذروا صولة الكريم إذا جاع، واللئيم إذا شبع، واعلموا أن الكرام أصبر نفوساً، واللئام أصبر أجساماً. قلت: هذا كله نقلته من " بهجة المجالس " وفيه كفاية فلا حاجة إلى الإطالة. وتوفي الحافظ أبو عمر المذكور يوم الجمعة آخر يوم من شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وستين وأربعمائة، بمدينة شاطبة من شرق الأندلس. وقال صاحبه أبو الحسن طاهر بن مفوّز المعافري، وهو الذي صلى عليه: سمعت أبا عمر ابن عبد البر يقول: ولدت يوم الجمعة والإمام يخطب لخمس بقين من شهر ربيع الآخر سنة ثمان وستين وثلثمائة رحمه الله تعالى؛ وقد تقدم في ترجمة الخطيب أبي بكر أحمد بن علي بن ثابت البغدادي الحافظ أنه كان حافظ الشرق، وابن عبد البر حافظ الغرب، وماتا في سنة واحدة، وهما إمامان في هذا الفن. والنمري: بفتح النون والميم بعدها راء، هذه النسبة إلى النمر بن قاسط، بفتح النون وكسر الميم، وإنما تفتح الميم في النسبة خاصة، وهي قبيلة كبيرة مشهورة، وقد تقدم الكلام على القرطبي وشاطبة، فأغنى عن الإعادة. وذكر أبو عمر المذكور أن والده أبا محمد عبد الله بن محمد بن عبد البر توفي في شهر ربيع الآخر سنة ثمانين وثلثمائة ومولده سنة ثلاثين وثلثمائة، رحمه الله تعالى. (377) وكان ولده أبو محمد عبد الله بن يوسف (1) من أهل الأدب البارع   (1) ترجمة أبي محمد ابن عبد البر الكاتب في الذخيرة (القسم الثالث: 39) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 71 والبلاغة، وله رسائل وشعر، فمن شعره قوله: لا تكثرن تأملا ... واحبس عليك عنان طرفك فلربما أرسلته ... فرماك في ميدان حتفك قيل إنه مات سنة ثمان وخمسين وأربعمائة. 838 - (1) أبو محمد يوسف بن الحسن السيرافي أبو محمد يوسف بن أبي سعيد الحسن بن عبد الله بن المرزبان السيرافي، النحوي اللغوي الأخباري، الفاضل ابن الفاضل، قد تقدم ذكر أبيه الحسن في حرف الحاء (2) ؛ كان أبو محمد المذكور عالماً بالنحو، وتصدر في مجلس أبيه بعد موته في التاريخ المذكور في ترجمته وخلفه على ما كان عليه، وقد كان يفيد الطلبة في حياة أبيه، وأكمل كتاب أبيه الذي سماه " الإقناع " وهو كتاب جليل نافع في بابه، فإن أباه كان قد شرح كتاب سيبويه كما تقدم في ترجمته وظهر له بالإطلاع والبحث في حال التصنيف ما لم يظهر لغيره ممن يعاني هذا الشأن، وصنف بعد ذلك " الإقناع " فكأنه ثمرة استفادته حال البحث والتصنيف، ومات قبل إتمامه فكمله ولده يوسف المذكور (3) ، وإذا تأمله المنصف لم يجد بين اللفظين والقصدين تفاوتاً كثيراً. ثم صنف يوسف المذكور عدة كتب في شرح أبيات استشهادات كتب مشهورة، مثل " شرح أبيات كتاب سيبويه " وهو الغاية في بابه وبسطه و " شرح   (1) ترجمته في الجواهر المضية 2: 226 ومرآة الجنان 2: 429 وبغية الوعاة: 421 ومعجم الأدباء 20: 60. (2) انظر ج 2: 78. (3) قال المعري: والبغداديون يحكون أن أبا سعيد السيرافي عمل من كتابه المعروف بالمقنع أو الاقناع غلى باب التصغير، ثم توفي وأتمه بعده ولده أبو محمد (رسالة الغفران: 416) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 72 أبيات إصلاح المنطق " وأجاد فيه، و " شرح أبيات المجاز لأبي عبيدة وأبيات معاني الزجاج "، وشرح أبيات غريب المصنف لأبي عبيد القاسم بن سلام، إلى غير ذلك. وكانت كتب اللغة تقرأ عليه مرة رواية ومرة دراية، وقرئ عليه كتاب " البارع " للمفضل بن سلمة، وهو كتاب كبير في عدة مجلدات هذب به كتاب " العين " في اللغة المنسوب إلى الخليل بن أحمد - المقدم ذكره (1) - وأضاف إليه من اللغة طرفاً صالحاً. ونقل من ظهر نسخة بكتاب " إصلاح المنطق "، قال أبو العلاء المعري: حدثني عبد السلام البصري خازن دار العلم ببغداد وكان لي صديقاً صدوقاً، قال: كنت في مجلس أبي سعيد السيرافي وبعض أصحابه يقرأ عليه " إصلاح المنطق " لابن السكيت، فمضى بيت حميد بن ثور (2) : ومطوية الأقراب، أما نهارها ... فسبت، وأما ليلها فذميل فقال أبو سعيد " ومطوية " أصلحه بالخفض، ثم التفت إلينا فقال: هذه واو رب، فقلت: أطال الله بقاء القاضي، إن قبله ما يدل على الرفع، فقال: ما هو فقلت: أتاك بي الله أنزل الهدى ... ونورُ وإسلامٌ عليك دليل ومطوية الأقراب ... فعاد وأصلحه، وكان ابنه أبو محمد حاضراً فتغير وجهه لذلك فنهض لساعته ووقته والغضب يستطير في شمائله إلى دكانه، وكان سماناً، فباعها واشتغل بالعلم إلى أن برع فيه وبلغ الغاية، فعمل " شرح إصلاح المنطق ". قال أبو العلاء: وحدثني من رآه وبين يديه أربعمائة ديوان، وهو يعمل هذا الكتاب. ولم يزل أمره على سداد واشتغال وإفادة إلى أن توفي ليلة الأربعاء لثلاث   (1) انظر ج 2: 244. (2) ديوان حميد: 116. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 73 بقين من شهر ربيع الأول سنة خمس وثمانين وثلثمائة، وعمره خمس وخمسون سنة وشهور، ودفن من الغد، وصلى عليه أبو بكر محمد بن موسى الخوارزمي، ذكر ذلك هلال بن المحسن ابن الصابي الكاتب في تاريخه، وقال غيره: مولده في سنة ثلاثين وثلثمائة، وتوفي يوم الاثنين لثلاث بقين من الشهر المذكور، والله أعلم، رحمه الله تعالى. وكان ديناً صالحاً ورعاً متقشفاً، وكان بينه وبين أبي طالب أحمد بن بكر العبدي النحوي - المقدم ذكره (1) - مباحث ومناظرات منقولة بين الناس، وليس هذا موضع ذكرها. وقد تقدم الكلام في ترجمة أبيه علي السيرافي فلا حاجة إلى إعادته ها هنا، وقال ابن حوقل في كتاب " المسالك والممالك " (2) : سيراف فرضة عظيمة لفارس، وهي مدينة جليلة، وأبنيتها ساج متصل إلى جبل يطل على البحر، وليس بها ماء ولا زرع ولا ضرع، وهي من أغنى بلاد فارس، بالقرب من جنابة ونجيرم، والله أعلم. ومن سيراف ينتهي الإنسان على ساحل البحر إلى حصن ابن عمارة، وهو حصن منيع على نحر البحر، وليس بجميع فارس حصن أمنع منه. ويقال إن صاحبه هو الذي قال الله تعالى في حقه (وكان وراءهم ملكٌ يأخذ كل سفينة غصبا) (الكهف: 79) . وقال غير ابن حوقل: كان اسم هذا الملك الجلندى، بضم الجيم واللام وسكون النون وفتح الدال المهملة وبعدها ألف، وإليه أشار بعضهم يخاطب بعض الظلمة: كان الجلندي ظالماً ... وأنت منه أظلم وقيل غير ذلك، والله أعلم.   (1) ج 1: 101. (2) صورة الأرض: 248 وفي النقل اختلاف. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 74 839 - (1) يوسف النجيرمي أبو يعقوب يوسف بن يعقوب بن إسماعيل بن خرزاذ النّجيرمي، اللغوي البصري نزيل مصر؛ هو من أهل بيت فيه جماعة من الفضلاء الأدباء ما منهم إلا من هو ماهر في اللغة كامل الأدوات متقن لها. روى أبو يعقوب المذكور عن أبي يحيى زكريا بن يحيى بن خلاّد الساجي وطبقته، وروى عنه أبو الفضل محمد بن جعفر الخزاعي وغيره. وكان يوسف أمثل أهل بيته، وله خط ليس بالجيد في الصورة، وهو في غاية الصحة، وكذلك خطوط جماعته قريبة منه، ولأهل مصر رغبة وتنافس كثير في خطه، حتى بلغت نسخة من " ديوان جرير " بخطه عشرة دنانير، وأكثر ما تروى الكتب القديمة في اللغة والأشعار العربية وأيام العرب في الديار المصرية من طريقه، فإنه كان راوية لها عارفاً بها. وكان أهل بيته يرتزقون بمصر من التجارة في الخشب. وكان أبو عبد الله محمد بن بركات بن هلال السعيدي النحوي المصري (2) قد أخذ اللغة من أصحاب أبي يعقوب المذكور، وأدرك أبا يعقوب ولم يأخذ عنه شيئاً لأنه رآه وهو صبي، قال الموفق أبو الحجاج يوسف بن الخلال المصري كاتب الإنشاء - الآتي ذكره إن شاء الله تعالى - قال لي ابن بركات:   (1) ترجمته في بغية الوعاة: 425 والأنساب واللباب (النجيرمي) ، وعبر الذهبي 2: 358 والشذرات 3: 75 (وفي المصدرين الأخيرين أدرج في وفيات 370 وهو بعيد عما أثبته المؤلف) . (2) انباه الرواة 3: 78 والخريدة (قسم مصر) 2: 156 ومعجم الأدباء 18: 39 والوافي 2: 247 والمحمدون: 167. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 75 رأيت أبا يعقوب وهو ماش في طريق القرافة، وهو شيخ أسمر اللون كث اللحية مدور العمامة بيده كتاب وهو يطالع فيه في مشيته. وهذا الذي ذكره ابن بركات فيه نظر، فإن الحافظ أبا إسحاق إبراهيم بن سعيد بن عبد الله المعروف بالحبال ذكره في كتاب " الوفيات " الذيجمعه فقال: توفي أبو يعقوب بن خرزاذ النجيرمي يوم الثلاثاء رابع المحرم سنة ثلاث وعشرين وأربعمائة. وقال غيره: ولد أبو يعقوب يوسف النجيرمي يوم عرفة من سنة خمس وأربعين وثلثمائة، رحمه الله تعالى؛ وابن بركات المذكور (1) ولد بمصر في سنة عشرين وأربعمائة وتوفي بها في سنة عشرين وخمسمائة وكان نحوي مصر، هكذا قاله الموفق ابن الخلال المذكور، فكيف يمكن أن يرى أبا يعقوب، وقد كان ابن بركات في تاريخ وفاة النجيرمي في السنة الثالثة من عمره (2) ، لكن لعله رأى ولده، والله أعلم. وقال القاضي الفاضل: ليس في شعر ابن بركات المذكور أحسن من هذين البيتين، وعملهما في مسافر العطار: يا عنق الإبريق من فضةٍ ... ويا قوام الغصن الرطب هبك تجافيت فأقصيتني ... تقدر أن تخرج من قلبي وكان ابن بركات قد أخذ النحو عن ابن بابشاذ النحوي - المقدم ذكره في حرف الطاء (3) - وذكره القاضي الرشيد بن الزبير في كتاب " الجنان " وأثنى عليه. وخرّزاذ: بضم الخاء المعجمة والراء المشددة وبعدها زاي وبعد الألف ذال معجمة. قلت: هكذا يضبط أهل الحديث هذا الاسم، وهو لفظ أعجمي، وتفسير زاذ بالعربي ابن، وأما خرّ بتشديد الراء فليس له معنى،   (1) انظر الانباه 3: 79. (2) قال القفطي نقلا عن ابن الخلال: وأدرك ابن خرزاذ ورآه وهو صبي فلم يهتد للأخذ عنه لصبوته. (3) ج 2: 515. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 76 إلا أن يكون أهل العربية قد غيروه كما جرت عادتهم في ذلك، فيكون أصله خار بالألف وهو الشوك فيكون خارزاذ معناه ابن الشوك، وخرشيذ أيضاً الشمس، فإن كانوا أرادوا هذا وحذفوا " شيذ " فيحتمل، وعلى الجملة فإنهم يتلاعبون بالأسماء العجمية، والله أعلم بالصواب. ثم وجدت في كتاب " البلدان " (1) تأليف البلاذري في الفصل المتضمن حديث بلاد فارس وأعمالها أرض أردشير خره ثم قال: ومعنى أردشير خره ولد أردشير بها. قلت: وأردشير بن بابك بن ساسان أول ملوك الفرس كما هو مشهور بين الناس وعلى هذا يكون معنى خرزاذ: بها ولد، كما هو عادتهم في التقديم والتأخير، وتقدير الكلام ولد بها أي بالناحية أو غير ذلك، والله أعلم. والنجيرمي: بفتح النون وكسر الجيم وسكون الياء المثناة من تحتها وفتح الراء وفي آخرها ميم، هذه النسبة إلى نجيرم، ويقال نجارم، قال أبو سعد السمعاني في كتاب " الأنساب " هي محلة بالبصرة؛ وقال غيره: هي قرية في برّ البصرة في طريق فارس عند سيراف، والله أعلم بالصواب، وكذا هي في كتب " المسالك والممالك " وهي على بحر فارس، وظاهر الحال أن جماعة من أهلها دخلوا البصرة وسكنوا هذا المحلة، فسميت باسم بلدهم، والله أعلم.   (1) فتوح البلدان: 476 وفي المطبوعة: ومعنى اردشير خره بهاء أردشير. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 77 840 - (1) يوسف بن وهرة الهمذاني يوسف بن أيوب بن يوسف بن الحسين بن وهرة، أبو يعقوب الهمذاني الفقيه العالم الزاهد الجليل (2) الرباني صاحب المقامات والكرامات؛ قدم بغداد في صباه بعد الستين وأربعمائة، ولازم الشيخ أبا إسحاق الشيرازي - المقدم ذكره (3) - وتفقه عليه حتى برع في أصول الفقه والمذهب والخلاف، وسمع الحديث من القاضي أبي الحسين محمد بن علي ابن المهتدي بالله وأبي الغنائم عبد الصمد بن علي بن المأمون، وأبي جعفر محمد بن أحمد بن المسلمة وطبقتهم، وسمع بأصبهان وسمرقند، وكتب أكثر ما سمعه ثم زهد في ذلك ورفضه، واشتغل بالزهد والعبادة والرياضة والمجاهدة حتى صار علماً من أعلام الدين يهتدي به الخلق إلى الله تعالى. وقدم بغداد في سنة خمس عشرة وخمسمائة وحدث بها، وعقد بها مجلس الوعظ بالمدرسة النظامية وصادف بها قبولاً عظيماً من الناس، قال أبو الفضل صافي بن عبد الله الصوفي الشيخ الصالح: حضرت مجلس شيخنا يوسف الهمذاني في النظامية، وكان قد اجتمع العالم فقام فقيه يعرف بابن السقاء وآذاه وسأله عن مسألة، فقال له الإمام يوسف: اجلس فإني أجد من كلامك رائحة الكفر، ولعلك تموت على غير دين الإسلام؛ قال أبو الفضل:   (1) ترجمته في المنتظم 10: 94 ومرآة الزمان: 180 ومرآة الجنان 3: 264 وعبر الذهبي 4: 97 والشذرات 3: 110 وطبقات الشعراني 1: 159 والأنساب واللباب (البوزنجردي) والبدر السافر، الورقة: 239 والأسنوي 2: 531. (2) الجليل: سقطت من: س ق ع ر. (3) ج 1: 29. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 78 فاتفق أنه بعد هذا القول بمدة قدم رسول نصراني من ملك الروم إلى الخليفة، فمضى إليه ابن السقاء وسأله أن يستصحبه وقال له: يقع لي أن أترك دين الإسلام وأدخل في دينكم، فقبله النصراني، وخرج معه إلى القسطنطينية والتحق بملك الروم، وتنصر ومات على النصرانية. قال الحافظ أبو عبد الله محمد بن محمود المعروف بابن النجار البغدادي في - تاريخ بغداد - في ترجمة يوسف الهمذاني المذكور: سمعت أبا الكرم عبد السلام بن أحمد المقرئ يقول: كان ابن السقاء قارئاً للقرآن الكريم مجوداً في تلاوته، حدثني من رآه بالقسطنطينية ملقىً على دكة مريضاً، وبيده خلق مروحة يدفع بها الذباب عن وجهه، قال فسألته: هل القرآن باق على حفظك فقال: ما أذكر منه إلا آية واحدة (ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين) (الحجر: 2) والباقي أنسيته، نعوذ بالله من سوء القضاء وزوال نعمته وحلول نقمته، ونسأله الثبات على دين الإسلام، آمين آمين آمين. قال أبو سعد ابن السمعاني (1) : يوسف بن أيوب الهمذاني من أهل بوزنجرد، قرية من قرى همذان مما يلي الري، الإمام الورع التقي المتنسك العامل بعلمه والقائم بحقه، صاحب الأحوال والمقامات الجليلة، وإليه انتهت تريية المريدين الصادقين، واجتمع برباطه بمدينة مرو جماعة من المنقطعين إلى الله تعالى ما لا يتصور أن يكون في غيره من الربط مثلهم، وكان من صغره إلى كبره على طريقة مرضية وسداد واستقامة، خرج من قريته إلى بغداد وقصد الإمام أبا إسحاق الشيرازي وتفقه عليه ولازمه مدة مقامه ببغداد حتى برع في الفقه وفاق أقرانه خصوصاً في علم النظر، وكان الشيرازي يقدمه على جماعة كثيرة من أصحابه مع صغر سنه، لعلمه بزهده وحسن سيرته واشتغاله بما يعينه. ثم ترك كل ما كان فيه من المناظرة وخلا بنفسه، واشتغل بما هو الأهم من عبادة الله تعالى ودعوة الخلق إليها وإرشاد الأصحاب   (1) بينه وبين ما ورد في الأنساب بعض اختلاف. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 79 إلى الطريق المستقيم، نزل مرو وسكنها، وخرج إلى هراة وأقام بها مدة، ثم سئل الرجوع إلى مرو في آخر عمره فأجاب ورجع إليها، وخرج إلى هراة ثانياً، وعزم على الرجوع إلى مرو في آخر عمره وخرج منها متوجهاً إلى مرو، فأدركته منيته بباميين بين هراة وبغشور في شهر ربيع الأول سنة خمس وثلاثين وخمسمائة ودفن، ثم نقل بعد ذلك إلى مرو؛ وكان مولده تقديراً لا تحقيقاً في سنة أربعين أو إحدى وأربعين وأربعمائة ببوزنجرد، رحمه الله تعالى. قلت: هذا كله نقلته من تاريخ ابن النجار المذكور مقتضباً، وفيه ألفاظ تحتاج إلى إيضاح. أما وهرة: فهو بفتح الواو والهاء والراء وفي آخره هاء ثانية، وهو اسم جده المذكور ولا أعرف معناه العربي. والقسطنطينية (1) : بضم القاف وسكون السين المهملة وفتح الطاء المهملة وسكون النون وكسر الطاء الثانية وسكون الياء المثناة من تحتها وكسر النون وفتح الياء الثانية وفي آخرها هاء ساكنة، وهي أعظم مدائن الروم، بناها قسطنطين ملك الروم، وهو أول من تنصر من ملوك الروم، فنسبت المدينة إليه. وأما بوزنجرد: فهو بضم الباء الموحدة وسكون الواو وفتح الزاي والنون وكسر الجيم وسكون الراء وبعدها دال مهملة، وهي قرية من قرى همذان على مرحلة منها مما يلي ساوة، كذا قال أبو سعد السمعاني في كتاب " الأنساب " (2) . وأما مرو فقد تقدم الكلام عليها. وأما باميين: بالباء الموحدة وبعد الألف ميم مفتوحة ثم ياء مثناة من تحتها مكسورة وبعدها ياء ثانية ساكنة ثم نون، فهي بليدة بخراسان كما ذكرها.   (1) ورد ضبطها ج 2: 64. (2) انظر الأنساب 2: 356. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 80 وهراة قد تقدم الكلام عليها وأنها إحدى كراسي خراسان فإنها أربعة: نيسابور وهراة ومرو وبلخ. وبغشور: بفتح الباء الموحدة وسكون الغين المعجمة وضم الشين المعجمة وبعد الواو الساكنة راء، وهي بليدة بخراسان أيضاً بين مرو وهراة، وقد تقدم في ترجمة الحسين بن مسعود الفراء الفقيه البغوي أنه منسوب إليها. 841 - (1) الأعلم الشنتمري أبو الحجاج يوسف بن سليمان بن عيسى النحوي، المعروف بالأعلم من أهل ششنتمرية الغرب؛ رحل إلى قرطبة في سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة وأقام بها مدة، وأخذ عن أبي القاسم إبراهيم بن محمد بن زكريا الإفليلي وأبي سهل الحراني وأبي بكر مسلم بن أحمد الأديب. وكان عالماً بالعربية واللغة ومعاني الأشعار، حافظاً لجميعها، كثير العناية بها حسن الضبط لها مشهوراً بمعرفتها وإتقانها، أخذ الناس عنه كثيراً، وكانت الرحلة في وقته إليه؛ وقد أخذ عنه أبو علي الحسين بن محمد بن أحمد الغساني الجياني - المقدم ذكره (2) - وغيره. وكُفّ بصره في آخر عمره؛ وشرح كتاب " الجمل " في النحو لأبي القاسم الزجاجي، وشرح أبيات الجمل في كتاب مفرد، وساعد شيخه ابن الإفليلي المذكور على شرح ديوان المتنبي، وغالب ظني أنه شرح " الحماسة " فقد   (1) ترجمته في الصلة: 643 ومعجم الأدباء 20: 60 وبغية الوعاة 422 وفهرست ابن خير، ونكت الهميان: 313 ومرآة الجنان 3: 159. (2) ج 2: 180. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 81 كان عندي - شرح الحماسة - للشنتمري في خمس مجلدات، وقد غاب عني الآن من كان مصنفه، وأظنه هو، والله أعلم، وقد أجاد فيه. وتوفي سنة ست وسبعين وأربعمائة بمدينة إشبيلية من جزيرة الأندلس، وكانت ولادته في سنة عشر وأربعمائة، رحمه الله تعالى. وذكر أبو الحسن شريح بن محمد بن شريح الرعيني الإشبيلي خطيب جامعها، قال: مات أبي أبو عبد الله محمد بن شريح يوم الجمعة منتصف شوال سنة ست وسبعين وأربعمائة، فسرت إلى الشيخ الأستاذ أبي الحجاج الأعلم، فأعلمته بوفاته فإنهما كانا كالأخوين محبة ووداداً، فلما أعلمته انتحب وبكى كثيراً واسترجع ثم قال: لا أعيش بعده إلا شهراً، فكان كذلك. ورأيت بخط الرجل الصالح العالم محمد بن خير المقرئ الأندلسي، رحمه الله تعالى، أن أبا الحجاج المذكور إنما قيل له " الأعلم " لأنه كان مشقوق الشفة العليا شقاً فاحشاً. قلت: ومن كان مشقوق الشفة العليا يقال له أعلم، والفعل الماضي منه علم بكسر اللام يعلم بفتحها علماً أيضاً والمرأة علماء إذا كانت كذلك، فإن كان مشقوق الشفة السفلى يقال له أفلح، بالفاء والحاء المهملة والفعل منه كما تقدم في الأعلم يقال: فلح بكسر اللام يفلح فلحاً بفتحها فيهما، وهذه القاعدة مطردة في العيوب والعاهات كلها أن تكون عين الفعل الماضي مكسورة وفي المضارع والمصدر مفتوحة تقول خرس يخرس خرساً، وبرص يبرص برصاً، وعمي يعمى عمى، وكذلك جميعه، واسم الفاعل منه على أفعل مثل أخرس وأبرص وأعمى، وكذلك أعلم وأفلح. (378) وكان أبو يزيد سهيل بن عمرو القرشي العامري رضي الله عنه أعلم، فلما أسر يوم بدر قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم: دعني أنزع ثنيته فلا يقوم عليك خطيباً أبداً، قال صلى الله عليه وسلم: دعه فعسى أن يقوم مقاماً تحمده، وكان سهيل من الخطباء الفصحاء الجزء: 7 ¦ الصفحة: 82 البلغاء، وهو الذي جاء في صلح الحديبية وعلى يده انبرم الصلح، ثم إنه أسلم وحسن إسلامه. والمقام الذي وعد به صلى الله عليه وسلم لسهيل هو أنه لما قبض صلى الله عليه وسلم كان سهيل بمكة فارتدت جماعة من العرب وحصل عندهم اختلاف، فقام سهيل خطيباً وسكّن الناس ومنعهم من الاختلاف فكان هذا هو المقام المحمود. وقول عمر رضي الله عنه: " دعني أنزع ثنيته فلا يقوم عليك خطيباً أبداً " فإنما قال ذلك لأنه كان مشقوق الشفة العليا ونزعت ثنيته تعذر عليه الكلام إلا بمشقة وكلفة، فهذا الذي قصده عمر رضي الله عنه. وكان عنترة بن شداد العبسي الفارس المشهور أفلح، فكان يقال له الفلحاء لفلحة كانت به، وإنما ذهبوا به إلى تأنيث الشفة والله أعلم. وشنتمرية (1) : بفتح الشين المعجمة وسكون النون وفتح التاء المثناة من فوقها والميم وكسر الراء وبعدها ياء مشددة مثناة من تحتها وبعدها هاء ساكنة، وهي مدينة بالأندلس في غربها. والحديبية: بضم الحاء المهملة وفتح الدال المهملة وبعدها ياء ساكنة مثناة من تحتها ثم باء موحدة مكسورة ثم ياء مكسورة ثم ياء ثانية مفتوحة وفي آخرها هاء ساكنة، وهو موضع بين مكة والمدينة كانت به بيعة الرضوان، ويروى بتشديد الياء الأخيرة أيضاً.   (1) شنتمرية الغرب (Santa Maria de Algarve) تسمى اليوم فارو (Faro) وتقع في المنطقة الجنوبية من البرتغال. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 83 842 - (1) بهاء الدين عرف بابن شداد أبو المحاسن يوسف بن رافع بن تميم بن عتبة بن محمد بن عتاب الأسدي، قاضي حلب، المعروف بابن شداد، الملقب بهاء الدين، الفقيه الشافعي، توفي أبوه وهو صغير السن، فنشأ عند أخواله بني شداد فنسب إليهم، وكان شداد جده لأمه، وكان يكنى أولاً أبا العز، ثم غير كنيته وجعلها أبا المحاسن كما ذكرته. ولد بالموصل ليلة العاشر من شهر رمضان سنة تسع وثلاثين وخمسمائة وحفظ بها القرآن الكريم في صغره، ثم قدم الشيخ أبو بكر يحيى بن سعدون القرطبي - المقدم ذكره (2) - إلى الموصل فلازمه وقرأ عليه بالطرق السبع، وأتقن عليه فن القراءات. وقال أبو المحاسن المذكور في بعض تواليفه: أول من أخذت عنه شيخي الحافظ صائن الدين أبو بكر يحيى بن سعدون بن تمام بن محمد الأزدي القرطبي، رحمه الله تعالى، فإني لازمت القراءة عليه إحدى عشرة سنة، فقرأت عليه معظم ما رواه من كتب القراءات، وقراءة القرآن العظيم، ورواية الحديث وشروحه، والتفسير، حتى كتب لي خطه، شهد لي بأنه ما قرأ عليه أحد أكثر مما قرأت، وعندي خطه بجميع ما قرأت عليه في قريب من كراسين، وفهرست ما رواه جميعه عندي وأنا أرويه عنه. ومما يشتمل عليه فهرست البخاري ومسلم من عدة طرق، وغالب كتب   (1) ترجمته في غاية النهاية 2: 395 وذيل الروضتين: 163 وابن الوردي 2: 160 ومرآة الجنان 4: 82 وعبر الذهبي 5: 132 والشذرات 5: 158 والبدر السافر، الورقة 241 والزركشي 3: 377 وابن الشعار 10: 349 والأسنوي 2: 115 والأنس الجليل 2: 447 وطبقات السبكي 5: 151 وابن قاضي شهبة: 179. (2) انظر ج 6: 171. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 84 الحديث، وغالب كتب الأدب وغيره، وآخر روايتي عنه " شرح الغريب " لأبي عبيد القاسم بن سلام، قرأته عليه في مجالس، آخرها في العشر الأخير من شعبان سنة سبع وستين وخمسمائة قلت: وهي السنة التي مات فيها الشيخ القرطبي، حسبما ذكرته في ترجمته. (379) ثم قال: ومنهم الشيخ أبو البركات عبد الله بن الخضر بن الحسين بن المعروف بابن الشيرجي (1) ، سمعت عليه بعض تفسير الثعلبي، وأجازني أن أروي عنه جميع ما رواه على اختلاف أنواع الروايات، وكتب لي خطه بذلك في فهرست سماعي مؤرخاً بخامس جمادى الأولى سنة ست وستين وخمسمائة، وكان مشهوراًً بعلمي الحديث والفقه، ولي قضاء البصرة ودرس بالأتابكية القديمة، يعني بالموصل. (380) ومنهم الشيخ مجد الدين أبو الفضل عبد الله بن أحمد بن محمد بن عبد القاهر الطوسي الخطيب بالموصل، وهو مشهور بالرواية حتى يقصد لها من الآفاق، وعاش نيفاً وتسعين سنة قلت: وكانت ولادة أبي الفضل ابن الطوسي الخطيب المذكور في منتصف صفر سنة سبع وثمانين وأربعمائة ببغداد بباب المراتب، وتوفي ليلة الثلاثاء رابع عشر شهر رمضان سنة ثمان وسبعين وخمسمائة بالموصل، ودفن بمقبرة باب الميدان، رحمه الله تعالى. رجعنا إلى تتمة كلام أبي المحاسن ابن شداد: وسمعت عليه - يعني على الخطيب المذكور - كثيراً من مسموعاته، وأجاز لي جميع ما رواه في السادس والعشرين من رجب، سنة ثمان وخمسين وخمسمائة. ومنهم القاضي فخر الدين أبو الرضا سعيد بن عبد الله بن القاسم الشهرزوري، سمعت عليه مسند الشافعي رضي الله عنه، ومسند أبي عوانة، ومسند أبي يعلى الموصلي، وسنن أبي داود، وكتب لي خطه بذلك، وهو في فهرستي،   (1) ترجمة ابن الشيرجي في الاسنوي 2: 110 والسبكي 4: 234. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 85 وسمعت عليه " الجامع " لأبي عيسى الترمذي، وأجاز لي رواية ما رواه، وكتب لي خطه بذلك في شوال سنة سبع وستين وخمسمائة. ومنهم الحافظ مجد الدين أبو محمد عبد الله بن محمد بن عبد الله بن علي الأشيري الصنهاجي، أجاز لي جميع ما يرويه على اختلاف أنواعه، وفي فهرستي خطه بذلك مؤرخاً بشهر رمضان سنة تسع وخمسين وخمسمائة، وفهرسته عندي بذلك قلت: توفي أبو محمد عبد الله الأشيري المذكور في شوال سنة إحدى وستين وخمسمائة بالشام، ودفن ببعلبك رحمه الله تعالى ظاهر باب حمص شمالي البلد. ومنهم الحافظ سراج الدين أبو بكر محمد بن علي الجياني (1) ، قرأت عليه " صحيح مسلم " من أوله إلى آخره بالموصل، و " الوسيط " للواحدي، وأجاز لي رواية ما يرويه في تاريخ سنة تسع وخمسين وخمسمائة. فهذه أسماء من حضر في خاطري، وقد سمعت من جماعة لم يحضرني روايتهم عند جمع هذا الكتاب، كشهدة الكاتبة في بغداد وأبي المغيث في الحربية، والشيخ رضي الدين القزويني المدرس بالنظامية وجماعة شذت عني طرقهم، فلم أذكرهم، إذ كان في هؤلاء غنية؛ هذا آخر ما ذكره عن نفسه. وقال غيره: إنه قرأ الفقه على أبي البركات عبد الله ابن الشيرجي المذكور فقيه الموصل، وكان عالماً زاهداً متقشفاً، وتوفي في جمادى الأولى سنة أربع وسبعين وخمسمائة بالموصل ودفن بظاهرها. ثم اشتغل بالخلاف على الضياء ابن أبي حازم صاحب محمد بن يحيى الشهيد النيسابوري. ثم باحث في الخلاف متفنني أصحابه، كالفخر النوقاني والبروي والعماد النوقاني والسيف الخواري والعماد الميانجي. ثم انحدر إلى بغداد بعد التأهل التام ونزل بالمدرسة النظامية وترتب فيها   (1) ترجمة الجياني في اتكملة: 500 والنفح 2: 58. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 86 معيداً بعد وصوله إليها بقليل، وأقام معيداً نحو أربع سنين، والمدرس بها يوم ذاك أبو نصر أحمد بن عبد الله بن محمد الشاشي. وكانت ولاية ابن الشاشي المذكور التدريس بالنظامية في شهر ربيع الآخر من سنة ست وستين وخمسمائة، وعزل عنها في سلخ شهر رجب سنة تسع وستين، وتولاها بعده رضي الدين أبو الخير أحمد بن إسماعيل القزويني في التاريخ المذكور، وأبو المحاسن المذكور مستمر بها على الإعادة. وكان رفيقه في الإعادة السديد محمد السلماسي - وقد تقدم ذكره (1) - ثم أصعد إلى الموصل في سنة تسع وستين فترتب مدرساً في المدرسة التي أنشأها القاضي كمال الدين أبو الفضل محمد بن الشهرزوري - المقدم ذكره (2) - ولازم الاشتغال، وانتفع به جماعة. وله كتاب في الأقضية سماه " ملجأ الحكام عند التباس الأحكام " ذكر في أوائله أنه حج في سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة وزار البيت المقدس والخليل عليه أفضل الصلاة والسلام، بعد الحج والزيارة للرسول صلى الله عليه وسلم. ثم دخل دمشق والسلطان صلاح الدين محاصر قلعة كوكب، فذكر أنه سمع بوصوله فاستدعاه إليه، فظن أنه يسأله عن كيفية قتل الأمير شمس الدين ابن المقدم (3) ، فإنه كان أمير الحاج في تلك السنة من جهة صلاح الدين، وقتل على جبل عرفات لأمر يطول شرحه، وليس هذا موضع ذكره. فلما دخل عليه ذكر أنه قابله بالإكرام التام، وما زاد على السؤال عن الطريق، ومن كان فيه من مشايخ العلم والعمل، وسأله عن جزء من الحديث ليسمعه عليه، فأخرج له جزءاً جمع فيه أذكار البخاري، وأنه قرأه عليه بنفسه، فلما خرج من عنده تبعه عماد الدين الكاتب الأصفهاني وقال له: السلطان   (1) ج 4: 237. (2) ج 4: 241. (3) هو محمد بن عبد الملك المعروف بابن المقدم، اختلف مع طاش تكين أمير الحاج العراقي عام 583 حول الإفاضة من عرفات قبله، فلم يستجب ابن المقدم له فهجم العراقيون على الحجاج الشاميين وفتكوا فيهم، وجرح ابن المقدم وهو يكف الناس عن القتال (انظر ابن الأثير 11: 559 - 561) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 87 يقول لك: إذا عدت من الزيارة وعزمت على العود تعرفنا بذلك فلنا إليك مهم، فأجابه بالسمع والطاعة، فلما عاد عرفه بوصوله فاستدعاه، وجمع له في تلك المدة كتاباً يشتمل على فضائل الجهاد وما أعد الله سبحانه وتعالى للمجاهدين، يحتوي على مقدار ثلاثين كراسة، فخرج إليه واجتمع به على بقيعة حصن الأكراد، وقدم له الكتاب الذي جمعه، وقال إنه كان عزم على الانقطاع في مشهد بظاهر الموصل إذا وصل إليها. ثم إنه اتصل بخدمة صلاح الدين في مستهل جمادى الأولى سنة أربع وثمانين وخمسمائة، ثم ولاه قضاء العسكر والحكم بالقدس الشريف. ولما كنت متولي الحكم بدمشق المحروسة جاءني في بعض شهور سنة ست وستين وستمائة إسجال قد ثبت مضمونه عند القاضي أبي المحاسن المذكور، وهو يومئذ قاضي العسكر الصلاحي، وقد انقطع ثبوته بموت شهوده، فتعذر إثباته عندي لذلك، وتأملته إلى آخره، لأنني استغربته، فقد كان شيخنا وأخذنا عنه كثيراً وحصل الانتفاع بصحبته. عدنا إلى بقية ما ذكره أبو المحاسن المذكور - فقال: إنه كان قد حضر إلى خدمة صلاح الدين في صحبة شيخ الشيوخ صدر الدين عبد الرحيم بن إسماعيل والقاضي محيي الدين ابن الشهرزوري لما وصلا إليه في رسالة، واتفق في تلك الدفعة وفاة البهاء الدمشقي المدرس - كان - بمصر في مدرسة منازل العز وخطيب مصر، وأن صلاح الدين عرض عليه تدريس المدرسة المذكورة فلم يفعل، وأنه حضر عند السلطان دفعة ثانية في رسالة من الموصل وهو على حران، وكان صلاح الدين مريضاً يومئذ. وذكر أنه لما توفي صلاح الدين كان حاضراً، وتوجه إلى حلب لجمع كلمة الإخوة أولاد صلاح الدين وتحليف بعضهم لبعض، وأن الملك الظاهر غياث الدين بن صلاح صاحب حلب كتب إلى أخيه الملك الأفضل نور الدين علي بن صلاح الدين صاحب دمشق، يطلبه منه، فأجابه إلى ذلك، فأرسله الظاهر إلى مصر لاستحلاف أخيه الملك العزيز عماد الدين عثمان بن صلاح الجزء: 7 ¦ الصفحة: 88 الدين، وعرض عليه الظاهر الحكم بحلب فلم يوافق على ذلك، فلما عاد من هذه الرسالة كان القاضي بحلب قد مات، فعرض عليه فأجاب، هكذا ذكره في كتابه " ملجأ الحكام ". وذكر القاضي كمال الدين أبو القاسم عمر بن أحمد المعروف بابن العديم في تاريخه الصغير الذي سماه - زبدة الحلب في تاريخ حلب - ما مثاله: وفي سنة إحدى وتسعين، يعني وخمسمائة، اتصل القاضي بهاء الدين أبو المحاسن يوسف بن رافع بن تميم بخدمة الملك الظاهر، وقدم إليه إلى حلب وولاه قضاءها ووقوفها، وعزل عن قضائها زين الدين أبا البيان نبا ابن البانياسي، نائب محيي الدين ابن الزكي، وحل عنده بهاء الدين في رتبة الوزارة والمشاورة؛ انتهى كلامه. قلت: وهذا القاضي نبا هو ابن الفضل بن سليمان الحميري، ويعرف بيتهم بدمشق ببيت البانياسي، وكان السلطان صلاح الدين قد ولى القاضي محيي الدين أبا المعالي محمد بن الزكي الدمشقي - المقدم ذكره (1) - القضاء بحلب فاستناب فيها زين الدين نبا ابن البانياسي المذكور، واستمر بها إلى التاريخ المذكور. وكانت حلب في ذلك الزمان قليلة المدارس، وليس بها من العلماء إلا نفر يسير، فاعتنى أبو المحاسن المذكور بترتيب أمورها وجمع الفقهاء بها، وعمرت في أيامه المدارس الكثيرة. وكان الملك الظاهر قد قرر له إقطاعاً جيداً يحصل منه جملة مستكثرة، ولم يكن له خرجٌ كثير، فإنه لم يولد له ولا كان له أقارب، فتوفر له شيء كثير، فعمر مدرسة بالقرب من باب العراق قبالة مدرسة نور الدين محمود بن زنكي، رحمه الله تعالى، الشافعية. ورأيت تاريخ عمارتها مكتوباً على سقف مسجدها، وهو الموضع المعد لإلقاء الدروس، وذلك في سنة إحدى وستمائة. ثم عمر في جوارها داراً للحديث النبوي، وجعل بين المكانين تربة برسم دفنه فيها، ولها بابان: باب إلى المدرسة   (1) ج 4: 229. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 89 وباب إلى دار الحديث،، وشباكان إلى الجهتين، وهما متقابلان بحيث إن الذي يقف في أحد المكانين يرى من يكون في المكان الآخر. ولما صارت حلب على هذه الصورة قصدها الفقهاء من البلاد وحصل بها الاشتغال والاستفادة، وكثر الجمع بها. وكان بين والدي، رحمه الله تعالى، وبين القاضي أبي المحاسن المذكور مؤانسة كثيرة وصحبة صحيحة المودة من زمن الاشتغال بالموصل، فجئت إليه، وكان أخي قد سبقني بمدة قليلة، وكتب سلطان بلدنا الملك المعظم مظفر الدين أبو سعيد كوكبوري بن علي بن بكتكين، رحمه الله تعالى - المقدم ذكره في حرف الكاف (1) - كتاباً بليغاً في حقنا يقول فيه: أنت تعلم ما يلزم من أمر هذين الولدين، وأنهما ولدا أخي وولدا أخيك، ولا حاجة مع هذا إلى تأكيد وصية، وأطال القول في ذلك، فتفضل القاضي أبو المحاسن وتلقانا بالقبول والإكرام وأحسن حسب الإمكان وعمل ما يليق بمثله، وأنزلنا في مدرسته ورتب لنا أعلى الوظائف، وألحقنا بالكبار، مع الشبيبة في السن والابتداء في الاشتغال - وقد تقدم في ترجمة الشيخ موفق الدين ابن يعيش النحوي تاريخ دخولي إلى حلب فأغنى عن الإعادة (2) - ولم نزل عنده إلى أن توفي في التاريخ الآتي ذكره، ولم يكن بمدرسته في ذلك الزمان درس عام، لأنه كان المدرس بنفسه، وكان قد طعن في السن وضعف عن الحركة وحفظ الدروس وإلقائها، فرتب أربعة من الفقهاء الفضلاء برسم الإعادة، والجماعة يشتغلون عليهم. وكنت أنا وأخي نقرأ على الشيخ جمال الدين أبي بكر الماهاني، لأنه كان من بلدنا، ورفيق والدنا في الاشتغال عند الشيخ عماد الدين أبي حامد محمد بن يونس - المقدم ذكره (3) - فمات في ثالث شوال سنة سبع وعشرين وستمائة، وقد نيف على ثمانين سنة، فترددت إلى الشيخ نجم الدين أبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن علي المعروف بابن الخباز الموصلي الفقيه   (1) ج 4: 113. (2) انظر هذا الجزء: 52. (3) ج 4: 253. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 90 الإمام، وهو إذ ذاك مدرس المدرسة السيفية، فقرأت عليه من أول كتاب " الوجيز " للغزالي إلى الإقرار. وعلى الجملة فقد خرجنا عما نحن بصدده بسبب اتصال الكلام. وكان القاضي أبو المحاسن المذكور بيده حل الأمور وعقدها، لم يكن لأحد معه في الدولة كلام، وكان سلطانها الملك العزيز أبا المظفر محمد بن الملك الظاهر بن السلطان صلاح الدين، وهو صغر السن، تحت حجر الطواشي شهاب الدين أبي سعيد طغرل، وهو أتابكه ومتولي تدبير الدولة بإشارة القاضي أبي المحاسن لا يخرج عنهما شيء من الأمور. وكان للفقهاء في أيامه حرمة تامة ورعاية كبيرة خصوصاً جماعة مدرسته فإنهم كانوا يحضرون مجالس السلطان ويفطرون في شهر رمضان على سماطه، وكنا نسمع عليه الحديث ونتردد إليه في داره فقد كانت له قبة تختص به، وهي شتوية لا يجلس في الصيف والشتاء إلا فيها، لأن الهرم كان قد أثر فيه حتى صار كفرخ الطائر من الضعف، لا يقدر على الحركة للصلاة وغيرها إلا بمشقة عظيمة؛ وكانت النزلات تعتريه في دماغه فلا يفارق تلك القبة، وفي الشتاء يكون عنده منقلٌ كبير عليه من الفحم والنار شيء كثير، ومع هذا كله فلا يزال مزكوماً وعليه الفرجية البرطاسي (1) والثياب الكثيرة، وتحته الطراحة الوثيرة فوق البسط ذوات الخمائل الثخينة، بحيث إنا كنا نجد عنده الحر والكرب، وهو لا يشعر به لكثرة استيلاء البرودة عليه من الضعف. وكان لا يخرج لصلاة الجمعة إلا في شدة القيظ، وإذا قام إلى الصلاة بعد الجهد يكاد يسقط، ولقد كنت أنظر إلى ساقيه إذا وقف للصلاة وكأنهما عودان رقيقان لا لحم عليهما. وكان عقيب صلاة الجمعة يسمع المصلون عنده الحديث عليه، وكان يعجبه ذلك. وكان حسن المحاضرة جميل المذاكرة، والأدب غالب عليه، وكان كثيراً ما ينشد في مجالسه: إن السلامة من ليلى وجارتها ... أن لا تمر على حال بناديها   (1) نسبة إلى برطاس شمالي بحر قزوين. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 91 وكان يتمثل أيضاً كثيراً بقول صردر الشاعر - المقدم ذكره في حرف العين (1) - وهذا البيت من جملة قصيدة طويلة وهو: وعهودهم بالرمل قد نقضت ... وكذاك ما يبنى على الرمل فأنشده في بعض الأيام، فقال له بعض أصحابنا الحاضرين: يا مولانا قد استعمل ابن المعلم العراقي هذا المعنى استعمالاً مليحاً، فقال: ابن المعلم هو أبو الغنائم فقال: نعم، فقال: صاحبنا كان، كيف قال فأنشده: نقضوا العهود، وحق ما يبنى على ... رمل اللوى بيد الهوى أن ينقضا فقال: ما أقصر، ولقد تلطف في قوله " بيد الهوى "، فقال له: يا مولانا وقد استعمله في قصيدة أخرى، فقال: هات، فأنشده: ولم يبن على الرمل ... فكيف انتقض العهد فاستحسنه وكان كثيراً ما ينشد أبيات أبي الفوارس سعد بن محمد المعروف بحيص بيص - المقدم ذكره (2) - وكان يقول إنه سمعها منه ويرويها عنه، وقد تقدم ذكرها في ترجمة الحيص بيص، فأغنى عن الإعادة، وأولها: لا تضع من عظيم قدر وإن كنت مشاراً إليه بالتعظيم ... وكان يقول: أنشدني القاضي الفاضل لبعضهم، ونحن نزول على قلعة صفد: قلت للنزلة لما ... أن ألمت بلهاتي بحياتي خلّ حلقي ... فهو دهليز حياتي قلت: هذان البيتان منسوبان إلى ابن الهبارية - المقدم ذكره (3) - والله أعلم (4) .   (1) ج 3: 385، وانظر ديوان صردر: 155. (2) ج 2: 362. (3) ج 4: 453. (4) وكان يقول أنشدني ... أعلم: سقط من س. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 92 وكان كلما نظر إلى نفسه على تلك الحال من الضعف والعجز عن القيام والقعود والصلاة وسائر الحركات، ينشد: من يتمن العمر فليدرع ... صبراً على فقد أحبائه ومن يعمر يسر في نفسه ... ما يتمناه لأعدائه ثم وجدت هذين البيتين للظهير أبي إسحاق إبراهيم بن نصر بن عسكر، قاضي السلامية المقدم ذكره في هذا الكتاب (1) ، والله أعلم؛ ذكر ذلك صاحبنا الكمال ابن الشعار الموصلي في كتابه " عقود الجمان " في ترجمة الظهير المذكور (2) . وهذا ينظر إلى قول أبي العلاء المعري (3) : تدعو بطول العمر أفواهنا ... لما تناهى القلب في وده يسر إن مدّ بقاء له ... وكلّ ما يُكره في مده والأصل في هذا قول لبيد بن ربيعة العامري (4) : كانت قناتي لا تلين لغامزٍ ... فألانها الإصباح والإمساء ودعوت ربي بالسلامة جاهداً ... ليصحّني فإذا السلامة داء (5) ودخل عليه يوماً رجل من أهل الغرب يقال له أبو الحجاج يوسف، ووكان قريب العهد ببلاده، ورد حلب في تلك الأيام، وكان فاضلاً في الأدب والحكمة، فلما رآه على تلك الهيئة من الهزال والنحافة أنشده: لو يعلم الناس ما في أن تعيش لهم ... بكوا لانك من ثوب الصبا عاري ولو أطاقوا انتقاصاً من حياتهم ... لما فدوك بشيء غير أعمار   (1) ج 1: 37. (2) انظر ابن الشعار 1: 28. (3) شروح السقط: 1008. (4) هو من المنسوب له، انظر ديوانه: 360 - 361؛ وفي المختار: قول الآخر. (5) ثم وجدت ... داء: سقط من س. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 93 فأعجبه ذلك ودمعت عيناه وشكر له. وقال لي بعض أصحابنا: سمعته يوماً وهو يحكي للجماعة الحاضرين عنده، قال: لما كنا في المدرسة النظامية ببغداد اتفق أربعة خمسة من الفقهاء المشتغلين على استعمال (1) حب البلاذر (2) ، لأجل سرعة الحفظ والفهم، فاجتمعوا ببعض الأطباء، وسألوه عن مقدار ما يستعمل الإنسان منه وكيف يستعمله ثم اشتروا القدر الذي قال لهم الطبيب وشربوه في موضع خارج عن المدرسة، فحصل لهم الجنون، وتفرقوا وتشتتوا ولم يعلم ما جرى عليهم، وبعد أيام جاء إلى المدرسة واحد منهم، وكان طويلاً، وهو عريان ليس عليه شيء يستر عورته، وعلى رأسه بقيار كبير له عذبة طويلة خارجة عن العادة، وقد ألقاها وراءه فوصلت إلى كعبه، وهو ساكت عليه السكينة والوقار لا يتكلم ولا يعبث، فقام إليه من كان حاضراً من الفقهاء وسألوه عن الحال، فقال لهم: كنا قد اجتمعنا وشربنا حبّ البلاذر، فأما أصحابي فإنهم جنوا وما سلم منهم إلا أنا وحدي، وصار يظهر العقل العظيم والسكون، وهو يضحكون منه وهو لا يشعر بهم، ويعتقد أنه سالم مما أصاب أصحابه، وهو على تلك الحالة لا يفكر فيهم ولا يلتفت إليهم. وأخبرني جماعة مما كانوا عنده قبل وصولنا إليه أنه قدم عليه الأديب نظام الدين أبو الحسن علي بن محمد بن يوسف بن مسعود القيسي القرطبي المعروف بابن خروف الشاعر المعروف، فكتب إليه رسالة، وفي أولها أبيات يستجديه فروة قرظ، وهي: بهاء الدين والدنيا ... ونور المجد والحسب طلبت مخافة الأنوا ... ء من نعماك جلد أبي وفضلك عالمٌ أني ... خروفٌ بارع الأدب حلبت الدهر أشطره ... وفي حلبٍ صفا حلبي   (1) المختار: شرب. (2) اسمه العلمي: Semecapus anacardium. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 94 " ذو الحسب الباهر، والنسب الزاهر، يسحب ذيول سيراء السراء، ويحب النحاة من أجل الفراء، ويمن على الخروف النبيه، بجلد أبيه، قانىء الصباغ، قريب عهدٍ بالدباغ، ما ضل طالب قرظه ولا ضاع، بل ذاع ثناء صانعه وضاع، أثيث خمائل الصوف، يهزأ من الرياح بكل هو جاء عصوف، إذا طهر إهابه، يخافه البرد ويهابه، ما في الثياب له ضريب، إذا نزل الجليد والضريب، ولا في اللباس له نظير، إذا عري من ورقه الغصن النضير، لا كطيلسان ابن حرب، ولا جلد عمرو الممزق بالضرب، كأنه من جلد حمل الجرباء، الذي يراعي البدر والنجم، لا من جلد السخلة الجرباء التي ترعى الشجر والنجم، فرجيّ النوع، أرجي الضوع، ليكون تارة لحافاً وتارة برداً، وهو في الحالين يحيى حراً ويميت برداً، لازال مهديه سعيداً، ينجز للأولياء وعداً وللأعداء عيداً، إن شاء الله تعالى، والسلام ". قلت: وقد ذكرت في ترجمة أبي الفتح محمد سبط ابن التعاويذي (1) رسالة كتبها إلى عماد الدين الكاتب الأصفهاني - المقدم ذكره (2) - يطلب منه فروة قرظ (3) أيضاً، وكل واحدةٍ من الرسالتين بديعة في بابها. وفي هذه الرسالة كلام يحتاج إلى إيضاح، وهو قوله " لا كطيلسان ابن حرب " وهو مثل مشهور بين الأدباء، فإذا كان الشيء بالياً شبهوه بطيلسان ابن حرب، ولذلك سبب لابد من ذكره، وهو أن أحمد بن حرب ابن أخي يزيد المهلبي أعطى أبا علي إسماعيل بن إبراهيم بن حمدويه البصري الحمدوي (4) ، الشاعر الأديب، طيلساناً خليعاً، فعمل فيه الحمدوي مقاطيع عديدة ظريفة سارت عنه وتناقلتها الرواة، فمن ذلك قوله من أبيات (5) :   (1) انظر ج 4: 472. (2) ترجمة العماد في ج 5: 147. (3) س: قرض. (4) له ترجمة في الجزء التاسع من الوافي وطبقات ابن المعتز: 371 والأغاني 12: 61 (ط. دار الكتب) . (5) أكثر هذه القطع وردت عند الصفدي، وبعضها في طبقات ابن المعتز. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 95 يا ابن حرب كسوتني طيلساناً ... ملّ من صحبة الزمان فصدّا طال ترداده إلى الرفو حتى ... لو بعثناه وحده لتهدى وقوله أيضاً من أبيات: لقد حالف الرفاء حتى كأنه ... يحاول منه أن يعلمه الرفوا وقوله أيضاً: يا ابن حرب كسوتني طيلساناً ... أنحلته الأزمان فهو سقيم فإذا ما رفوته قال سبحا ... نك محيي العظام وهي رميم وقوله أيضاً: يا ابن حرب أطلت وتري (1) برفوى ... طيلساناً قد كنت عنه غنيا فهو في الرفو آل فرعون في العر ... ض على النار بكرة وعشيا وله فيه أيضاً: رأينا طيلسانك يا ابن حرب ... يزيد المرء ذا الضعة اتضاعا إذا الرفاء أصلح منه بعضاً ... تداعى بعضه الباقي انصداعا يسلّم صاحبي فيقدّ شبراً ... به وأقدّ في ردّي ذراعا أجيل الطرف في طرفيه طولاً ... وعرضاً ما أرى إلا رقاعا فلست أشك أن قد كان دهراً ... لنوحٍ في سفينته شراعا وقد غنيت إذ أبصرت منه ... بقاياه على كتفي تداعى قفي قبل التفرق يا ضباعا ... ولا يك موقف منك الوداعا وقال فيه أيضاً، وكتبها إلى بعض الرؤساء: دعني أبكي كسوتي إذا ودّعت ... فلأزمعن على البكا إذ أزمعت يا ابن الحسين أما ترى دراعتي ... سملاً تردّت بالبلى وتدرعت   (1) الصفدي وابن المعتز: فقري. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 96 فيها من التمزق ما لو أنه ... مرت بها ريح الصبا لتقشعت تحكي تخرق طيلساني إنها ... منه تعلمت البلى فتضعضعت لا فرّج الرحمن عنه إنه ... أعدى ثيابي كلها فتقطعت فلتحمد الله الجبال فإنها ... لو قارنته تخشعت وتصدعت وله فيه أيضاً: يا ابن حرب كسوتني طيلسانا ... يُزرع الرفو فيه وهو سباخ مات رفاؤه ومات بنوه ... وبدا الشيب في بنيهم وشاخوا وقال فيه أيضاً: طيلسانٌ لو كان لفظاً إذن ما ... شك خلقٌ في أنه بهتان فهو كالطور إذا تجلى له الله فدكت قواه والأركان ... كم رفوناه إذ تمزق حتى ... بقي الرفو وانقضى الطيلسان وله فيه أيضاً: يا ابن حرب إني أرى في زوايا ... بيتنا مثل من كسوت جماعه طيلسانٌ رفوته ورفوت الرفو منه وقد رقعت رقاعه ... فأطاع البلى فصار خليعاً ... ليس يعطي الرفاء في الرفو طاعه فإذا سائلٌ رآني فيه ... ظن أني فتىً من أهل الصناعه وله فيه أيضاً: قل لابن حربٍ طيلسا ... نك قوم نوح منه أحدث هو طيلسانٌ لم يزل ... عمن مضى من قبل يورث فإذا العيون لحظته ... فكأنه باللحظ يحرث يودي إذا لم أرفه ... فإذا رفوت فليس يلبث كالكلب إن تحمل عليه الدهر أو تتركه يلهث ... الجزء: 7 ¦ الصفحة: 97 ويقال إنه عمل في هذا الطيلسان مائتي مقطوع، في كل مقطوعة معنى بديع. وكان الأصل الذي حمل الحمدوي المذكور على عمل هذه المقاطيع، أنه وقف على أبيات عملها أبو حمران السلمي، بضم الحاء المهملة، في طيلسانه، وكان قد أخلق حتى بلي، فقال فيه: يا طيلسان أبي حمران قد برمت ... منك الحياة فما تلتذ بالعمر في كل يومين رفاء يجدده ... هيهات ينفع تجديدٌ مع الكبر إذا ارتداه لعيدٍ أو لجمعته ... تنكب الناس لا يبلى من النظر وهذا البيت الثالث أخذه من قول النظام، بفتح النون وتشديد الظاء المعجمة، أبي إسحاق إبراهيم بن سيار البلخي المتكلم المعتزلي في وصف غلام رقيق البشرة: رقّ فلو بُزت سرابيله ... علقه الجو من اللطف يجرحه الناس بألحاظهم ... ويشتكي الإيماء بالكف وأنشدني بعض الأدباء بمدينة الموصل في شهر رمضان سنة ست وعشرين وستمائة في هذا المعنى لبعض الشعراء: توهمها طرفي فأصبح خدها ... وفيه مكان الوهم من نظري أثر وصافحها قلبي فأدمى بنانها ... فمن لمس قلبي في أناملها عقر وأنشدني الشيخ أيدمر الصوفي المسمّى إبراهيم لنفسه دوبيت في هذا المعنى: كلفت صبا العراق لما خطرت ... أن تحمل لي تحيةً ما قدرت قالت لي خيفتي على وجنتيه ... إن جزت بها جرحتها فاعتذرت ولبعض الأدباء الفقراء من جملة أبيات شكا فيها رقة حاله ورثاثة ثيابه، ما يقرب من هذا المعنى، وهو قوله: ولي ثيابٌ رثاثٌ لست أغسلها ... أخاف أعصرها تجري مع الماء الجزء: 7 ¦ الصفحة: 98 وقد قيل في هذا المعنى شيء كبير، والاختصار أولى والله أعلم. وأما قوله: ولا جلد عمرو الممزق بالضرب، فيريد قول النحاة: ضرب زيداً عمراً، فإنهم أبداً يستعملون هذا المثال ولا يمثلون بغيره، فكأنهم يمزقون جلده بكثرة الضرب. عدنا إلى ما كنا عليه: وكان القاضي أبو المحاسن المذكور يسلك طريق البغاددة في ترتيبهم وأوضاعهم وحتى إنه كان يلبس ملبوسهم، والرؤساء الذين يترددون إليه كانوا ينزلون عن دوابهم على قدر أقدارهم، لكل واحد منهم مكان معين لا يتعداه. ثم إنه تجهز إلى الديار المصرية لإحضار ابنة الملك الكامل ابن الملك العادل للملك العزيز صاحب حلب، وكان قد عقد نكاحه عليها، فسافر في أول سنة تسع وعشرين أواخر سنة ثمان وعشرين وستمائة، وعاد وقد جاء بها في شهر رمضان من السنة. ولما وصل كان قد استقل الملك العزيز بنفسه ورفعوا عنه الحجر، ونزل الأتابك طغرل من القلعة إلى داره تحت القلعة، واستولى على الملك العزيز جماعة من الشباب الذين كانوا يعاشرونه ويجالسونه، فاشتغل بهم، ولم ير القاضي أبو المحاسن وجهاً يرتضيه، فلازم داره إلى حين وفاته، وهو باقٍ على الحكم وإقطاعه جارٍ عليه، غاية ما في الباب أنه لم يبق له حديث في الدولة، ولا كانوا يراجعونه في الأمور، فصار يفتح بابه لإسماع الحديث كل يوم بين الصلاتين، وظهر عليه الخرف بحيث إنه صار إذا جاءه الإنسان لا يعرفه، وإذا عاد قام يسأل عنه ولا يعرفه، واستمر على هذه الحال مديدة، ثم مرض أياماً قلائل وتوفي يوم الأربعاء رابع عشر صفر سنة اثنتين وثلاثين وستمائة، رحمه الله تعالى، بحلب، ودفن في التربة المقدم ذكرها، وحضرت الصلاة عليه ودفنه وما جرى بعد ذلك. وصنف كتاب " ملجأ الحكام عند التباس الأحكام " يتعلق بالأقضية في مجلدين، وكتاب " دلائل الأحكام " تكلم فيه على الأحاديث المستنبط الجزء: 7 ¦ الصفحة: 99 منها الأحكام في مجلدين، وكتاب " الموجز الباهر " في الفقه، وغير ذلك، وكتاب " سيرة صلاح الدين ابن أيوب "، رحمه الله تعالى. وجعل داره خانقاه للصوفية، لأنه لم يكن له وارث، ولازم الفقهاء والقراء تربته مدة طويلة، يقرأون عند قبره. وكان قد قرر قدام كلّ واحدٍ من الشباكين المذكورين اللذين للتربة سبة قراء، وكان غرضه أن يقرأ عنده كل ليلة ختمة كاملة، فكان كل واحد من القراء الأربعة عشر يقرأ نصف سبع بعد صلاة العشاء الآخرة. وفارقت حلب متوجهاً إلى الديار المصرية في الثالث والعشرين من جمادى الآخرة سنة خمس وثلاثين وستمائة، والأمور جارية على هذه الأوضاع، ثم بعد ذلك تغيرت تلك الأمور وانتفضت قواعدها وزال جميع ذلك على ما بلغني. (382) وتوفي الشيخ نجم الدين ابن الخباز المذكور في السابع من ذي الحجة سنة إحدى وثلاثين وستمائة بحلب، ودفن ظاهرها خارج باب أربعين، وحضرت الصلاة عليه ودفنه، رحمه الله تعالى. وكان مولده في التاسع والعشرين من شهر ربيع الأول سنة سبع وخمسين وخمسمائة بالموصل. (383) وتوفي الأتابك شهاب الدين طغرل المذكور ليلة الاثنين الحادية عشرة من محرم سنة إحدى وثلاثين وستمائة بحلب، ودفن بمدرسته الحنفية خارج باب أربعين، وكان خادماً أرمني الجنس أبيض، حسن السيرة محمود الطريقة، وحضرت الصلاة عليه ودفنه. رحمه الله تعالى. (384) وتوفي أبو الحسن ابن خروف (1) الأديب المذكور بحلب في سنة أربع وستمائة متردياً في جبٍّ (2) .   (1) أبو الحسن ابن خروف شاعر قرطبي روى عن مشيخة بلده ثم رحل وحج وجاور بالقدس ثم قفل من رحلته الأولى إلى الأندلس ثم عاد إلى المشرق فاستوطن حلب وتوفي فيها (راجع ترجمته في صلة الصلة 114 والتكملة رقم: 1894 وزاد المسافر (رقم: 6) والذيل والتكملة 5: 396 وصفحات متفرقة من نفح الطيب، وهو غير ابن خروف النحوي؛ وقال ابن عبد الملك إنه توفي في نحو العشرين وستمائة؛ وانظر الغصون اليانعة: 139. (2) عند نهاية هذه الترجمة انتهى ما اختاره ابن المؤلف وهو ببعلبك، يوم الاثنين سابع صفر سنة 702 وما بعده نقله بدمشق. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 100 843 - (1) يوسف بن عمر الثقفي أبو عبد الله يوسف بن عمر بن محمد بن الحكم بن أبي عقيل بن مسعود الثقفي وقد تقدم ذكر بقية نسبه في ترجمة الحجاج بن يوسف الثقفي، فإنه ابن ابن عم الحجاج، يجتمعان في الحكم بن أبي عقيل؛ قال خليفة بن خياط: ولى هشام بن عبد الملك يوسف بن عمر اليمن، فقدمها لثلاث بقين من شهر رمضان سنة ست ومائة، فلم يزل والياً بها حتى كتب إليه هشام في سنة عشرين ومائة بولايته على العراق، فاستخلف على اليمن ابنه الصلت ابن يوسف. وقال البخاري: كانت ولاية يوسف بن عمر العراق سنة إحدى وعشرين ومائة إلى سنة أربع وعشرين. وقال غيره: لما أراد هشام بن عبد الملك صرف خالد بن عبد الله القسري عن العراق، وكان قد جاءه رسول يوسف ابن عمر الثقفي من اليمن، فدعا هشام بالرسول وقال له: إن صاحبك قد تعدى طوره وسأل فوق قدره. وأمر بتخريق ثيابه وضربه أسواطاً، وقال له: امض إلى صاحبك، فعل الله به وصنع، ودعا بسالم اليمامي مولى سالم بن عنبسة بن عبد الملك، وكان على ديوان الرسائل وقال له: اكتب إلى يوسف ابن عمر، بشيء أمره به، واعرض الكتاب علي، فمضى سالم ليكتب ما أمره به، وخلا هشام بنفسه، وكتب كتاباً صغيراً بخطه إلى يوسف بن عمر   (1) أخباره في المصادر التاريخية المتصلة بخلافة هشام بن عبد الملك، مثل الطبري والمسعودي (المروج والتنبيه والأشراف) والأخبار الطوال للدينوري واليعون والحدائق وأنساب الأشراف للبلاذري ... الخ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 101 وفيه: " سر إلى العراق فقد وليتك إياه، وإياك أن يعلم بك أحد، واشفني من ابن النصرانية، يعني خالداً، ومن عماله " وأمسك الكتاب بيده، وحضر سالم بالكتاب الذي كتبه وعرضه عليه، فغافله وجعل الكتاب الصغير في طيه، وختمه ودفعه إلى سالم وقال له: ادفعه إلى رسول يوسف، ففعل ذلك، وانفصل الرسول. فلما وصل إلى يوسف قال له: ما وراءك قال: الشر، أمير المؤمنين ساخط عليك، وقد أمر بتخريق ثيابي وضربي، ولم يكتب جواب كتبك، وهذا كتاب بخط صاحب الديوان، ففض الكتاب وقرأه، فلما بلغ إلى آخره وقف على الكتاب الصغير، فاستخلف ابنه الصلت وسار إلى العراق. وقد كان يخلف سالماً الكاتب على ديوان الرسائل بشير بن أبي طلحة من أهل الأردن، وكان فطناً، فلما وقف على ما كان من هشام قال: هذه حيلة، وقد ولى يوسف بن عمر العراق، فكتب إلى عياض عامل أجمة سالم، وكان واداً له: إن أهلك قد بعثوا إليك بالثوب اليماني، فإذا أتاك فالبسه واحمد الله تعالى، وأعلم طارقاً بذلك، وكان عامل خالد بن عبد الله القسري على الكوفة وما يليها، ثم ندم بشير على ما كان منه فكتب إلى عياض: إن القوم قد بدا لهم في البعثة إليك بالثوب اليماني، فعرّف عياض أيضاً طارقاً بذلك، فقال طارق: الخبر في الكتاب الأول، ولكن صاحبك ندم وخاف أن يظهر أمره، وركب من ساعته إلى خالد فخبره الخبر، فقال له: فما ترى قال: أرى أن تركب من ساعتك هذه إلى أمير المؤمنين، فإنه إذا رآك استحيا منك وزال شيء إن كان في نفسه عليك، فلم يقبل ذلك، فقال له: فتأذن لي أن أصير إلى حضرته وأضمن له مال جميع هذه السنة قال: وما مبلغ ذلك قال: مائة ألف ألف درهم، وآتيك بعهدك قال: ومن أين هذه الأموال والله ما أملك عشرة آلاف درهم، فقال: أتحمل أنا وسعيد بن راشد أربعين ألف ألف درهم - وكان سعيد يتقلد سقي الفرات - والزنيبي وأبان بن الوليد عشرين ألف ألف درهم ونفرق الباقي على باقي العمال، فقال له: إني إذاً للئيم أن أسوغ قوماً شيئاً ثم أرجع عليهم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 102 به، فقال له: إنما نقيك ونقي أنفسنا ببعض أموالنا، وتبقى النعمة عليك وعلينا بك ونستأنف طلب الدنيا، خيرٌ من أن نطالب بالأموال، وقد حصلت عند تجار أهل الكوفة فيتقاعسوا عنا ويتربصوا بنا فنقتل وتذهب أنفسنا، وتحصل الأموال لهم يأكلونها، فأبى خالد ذلك عليه، فودعه وقال: هذا آخر العهد بك. ووافاهم يوسف بن عمر، فمات طارق في العذاب، ولقي خالد وجميع عماله كل شر، ومات منهم في العذاب بشرٌ كثير، وكان ما استخرج يوسف من خالد وأسبابه تسعين ألف ألف درهم. قلت: وقد تقدم طرف من خبر خالد بن عبد الله القسري في ترجمته (1) ، فتطلب منه، وقد تقدم في ترجمة عيسى بن عمر الثقفي النحوي ذكر يوسف ابن عمر المذكور، وما جرى له معه في الوديعة (2) . وقال أبو بكر أحمد بن يحيى بن جابر البلاذري في كتاب " أنساب الأشراف وأخبارهم ": إن هشام بن عبد الملك كان قد تغير على خالد بن عبد الله القسري أمير العراق لأمور نقلت عنه، فحقد عليه، منها: كثرة أمواله وأملاكه؛ ومنها: أنه كان يطلق لسانه في حق هشام بما يكرهه، وغير ذلك من الأسباب، فعزم على عزله وأخفى ذلك. وكان يوسف بن عمر الثقفي عامله على اليمن، فكتب هشام إليه بخطه يأمره أن يقبل في ثلاثين من أصحابه إلى الكوفة، وكتب مع الكتاب بعهده على العراق، فخرج يوسف حتى صار إلى الكوفة في سبعة عشر يوماً، فعرس قريباً منها، وقد ختن طارقٌ خليفة خالد القسري على الخراج ولده، فأهدي إليه ألف عتيق وألف وصيف وألف وصيفة سوى المال والثياب وغير ذلك، فجاء رجل إلى طارق فقال له: إني رأيت قوماً أنكرتهم وزعموا أنهم سُفّار. وصار يوسف بن عمر إلى دور بني ثقيف، فأمر بعض الثقفيين، فجمع له من قدر عليه من مضر، ففعل، فدخل يوسف المسجد مع الفجر فأمر المؤذن بالإقامة فقال: حتى يأتي الإمام،   (1) انظر ج 2: 226. (2) انظر ج 3: 488. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 103 فانتهره، فأقام، وتقدم يوسف فصلى، وقرأ (إذا وقعت الواقعة) (الواقعة:1) و (سأل سائل) (المعارج:1) ثم أرسل إلى خالد وطارق وأصحابهما فأخذوا وإن القدور لتغلي. وقال أبو عبيدة: حبس يوسف خالداً، فصالحه أبان بن الوليد عنه وعن أصحابه على تسعة آلاف ألف درهم، ثم ندم يوسف، وقيل له لو لم تقبل هذا المال لأخذت منه مائة ألف ألف درهم، فقال: ما كنت لأرجع عن شيء رهنت به لساني وأخبر أصحاب خالد خالداً فقال: أسأتم حين أعطيتموه هذا المال في أول وهلة، ما يؤمنني أن يأخذها ثم يرجع عليكم فارجعوا إليه، فأتوه فقالوا: إنا أخبرنا خالداً بما فارقناك عليه من المال، فذكر أنه ليس عنده، فقال: أنتم أعلم وصاحبكم، فأما أنا فلا أرجع عليكم وإن رجعتم لم أمنعكم، قالوا: فإنا قد رجعنا، قال: فوا لله لا أرضى بتسعة آلاف [ألف] ولا بمثلها ومثلها، فذكر ثلاثين ألف ألف، ويقال مائة ألف ألف. وقال أشرس مولى بني أسد، وكان تاجراً ليوسف بن عمر: أتانا كتاب هشام، فقرأه يوسف، فكتمنا ما فيه وقال: أريد العمرة، فخرج وأنا معه، واستخلف ابنه الصلت على اليمن، فما كلم أحداً منا بكلمة واحدة حتى انتهى إلى العذيب فأناخ وقال: يا أشرس أين دليلك فقلت: هوذا، فسأله عن الطريق، فقال: هذه طريق المدينة وهذه طريق العراق، فقلت: والله ما هي بأيام عمرة، فلم يتكلم حتى أناخ بين الحيرة والكوفة في بعض الليل، ثم استلقى على ظهره ورفع إحدى رجليه على الأخرى وقال: فما لبثتنا العيس أن قذفت بنا ... نوى غربةٍ والعهد غير قديم ثم قال: يا أشرس: ابغني إنساناً أسائله، فأتيته برجل فقال: سله عن ابن النصرانية، يعني خالداً القسري، فقلت: ما فعل خالد قال: في الحمة، اشتكى فخرج إليها، فقال: سله عن طارق، فقال: ختن بنيه فهو يطعم الناس بالحيرة، وخليفته عطية بن مقلاص يطعم الناس بالكوفة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 104 قال: خل عن الرجل، ثم ركب فأناخ بالرحبة، ودخل المسجد فصلى يوسف ثم استلقى على ظهره، فمكثنا ليلاً طويلاً، ثم جاء المؤذنون وزياد بن عبيد الله الحارثي يومئذ على الكوفة خليفة لخالد، فأذنوا ثم سلموا، وخرج زياد فأقيمت الصلاة، فذهب زياد ليتقدم فقال يوسف، يا أشرس نحه، فقلت: يا زياد تأخر، الأمير، فتأخر زياد وتقدم يوسف، وكان حسن القراءة فصيحاً، فقرأ (إذا وقعت الواقعة) و (سال سائل بعذاب واقع) فصلى الفجر، وتقدم القاضي فحمد الله وأثنى عليه ودعا للخليفة وقال: ما اسم أميركم فأخبر، فدعا له بالصلاح، فما تفرق أهل الصلاة حتى جاء الناس، ولم يبرح يوسف حتى بعث إلى خالد وإلى أبان ابن الوليد بفارس، وإلى بلال بن أبي بردة بالبصرة، وإلى عبد الله بن أبي بردة بسجستان، وأمر هشام أن تعزل عمال خالد جميعهم، إلا الحكم بن عوانة، وكان على السند، فأقره حتى قتل هو وزيد بن علي في يوم واحد، فقتله ناكهر. ولما أتى خالد قيل له: الأمير يوسف، قال: دعوني من أميركم، أحي هو أمير المؤمنين قيل نعم، فقال: لا بأس علي. فلما قدم بخالد على يوسف حبسه، وضرب يزيد بن خالد ثلاثين سوطاً، فكتب هشام إلى يوسف: أعطي الله عهداً لئن شاكت خالداً شوكة لأضربن عنقك، فخلّ سبيله بثقله وعياله، فأتى الشام فلم يزل مقيماً به يغزو الصوائف حتى مات هشام. وقيل إن يوسف استأذن هشاماً في بسط العذاب على خالد فلم يأذن له، حتى ألح عليه بالرسل واعتل بانكسار الخراج لما صار إليه وإلى عماله منه، فأذن له فيه مرةً واحدة وبعث حرسياً يشهد ذلك، وحلف لئن أتى على خالد أجله ليقتلنه به، فدعا به يوسف وجلس على دكان بالحيرة وحضر الناس، وبسط عليه العذاب، فلم يكلمه خالد حتى شتمه يوسف وقال: يا ابن الكاهن، يعني شقاً أحد أجداد خالد وهو الكاهن المشهور - قلت: كما تقدم في ترجمة خالد - قال فقال له خالد: إنك لأحمق، تعيرني بشرفي، لكنك ابن السباء، إنما كان أبوك يسبأ الخمر - قلت: معناه يبيع الخمر - قال: ثم رد خالداً إلى محبسه فأقام ثنانية عشر شهراً، ثم كتب إليه هشام الجزء: 7 ¦ الصفحة: 105 يأمره بتخلية سبيله في شوال سنة إحدى وعشرين ومائة، وخرج خالد ومعه جماعة من أهله وغيرهم حتى أتى القرية، وهي من أرض الرصافة، فأقام بها بقية شوال وذا القعدة وذا الحجة والمحرم وصفر، لا يأذن له هشام في القدوم عليه. قال الهيثم بن عدي: وخرج زيد بن زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه على يوسف بن عمر، فكتب يوسف إلى هشام: إن أهل هذا البيت من بني هاشم قد كانوا هلكوا جوعاً، حتى كانت همة أحدهم قوت يومه، فلما ولي خالد العراق قواهم بالأموال حتى تاقت أنفسهم إلى طلب الخلافة، وما خرج زيد إلا بإذن خالد، وما مقامه بالقُرية إلا لأنها مدرجة الطريق، فهو يسأل عن أخباره، فقال هشام للرسول: كذبت وكذب صاحبك، ومهما اتهمنا به خالداً فإنا لا نتهمه في طاعته، وأمر بالرسول فوجئت عنقه، وبلغ الخبر خالداً فصار إلى دمشق. وقال أبو الحسن المدائني: أمر يوسف بن عمر ببلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، وكان بلال عامل خالد القسري على البصرة، فعذب، فضمن ثلاثمائة ألف درهم، وأخذ منه كفلاء، فأخفرهم وهرب إلى الشام، فيقال إن غلامه أراد أن يشتري له دراجاً فعرف، ويقال بل شوى له غلامه دراجاً فأحرقه، فضربه فسعى به، فأتي به يوسف بن عمر، فأمر به فأقيم في الشمس فقال: أدنوني من أمير المؤمنين فله عليّ ما طلب، فأبى ورده إلى يوسف فعذبه حتى قتله، وقال أخوه عبد الله بن أبي بردة للسجان: ارفع اسمي في الموتى فرفعه، فقال يوسف: أرنيه ميتاً، فغمه السجان حتى مات؛ ويقال بل كان بلال الذي سأل السجان رفع اسمه في الموتى (1) ، والمقتول في العذاب عبد الله، والله أعلم بذلك. وقال يونس النحوي: وما قتل بلالاً إلا دهاؤه، سأل السجان أن يرفع اسمه في الموتى   (1) زاد في المختار: ويعطيه مالا فرع اسمه في الموتى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 106 ويعطيه مالاً، فقال يوسف: اعرض الموتى علي، فغمه حتى مات وعرضه عليه ميتاً. وقال المدائني: ولي يوسف بن عمر صالح بن كريز ولاية، فخرجت عليه ثلاثون ألفاً فحبس بها، وبلال بن أبي بردة يومئذ محبوس، فقال له بلال: إنّ على العذاب سالماً، ويلقب رتبيل، فإياك أن تقول له رتبيل فإنه يكره ذلك، وجعل بلال يردد عليه القول في ذلك، فعذبه سالم، فنسي اسمه وكنيته وجعل يقول له: يا رتبيل اتق الله، وكرر عليه القول في ذلك من ألم العذاب، وهو يقول اقتل، من غيظه عليه، فلما خلي عنه قال له بلال: ألم أنهك عن رتبيل فقال: وهل أوقعني في رتبيل غيرك!! أنا ما كنت أعرف رتبيل لولا أنت، وما تدع شرك في سراء ولا ضراء. وقال المدائني أيضاً: كان على شرط يوسف بن عمر العباس بن سعد المري، وكان كاتبه قحذم بن سليمان بن ذكوان وزياد بن عبد الرحمن مولى ثقيف، وعلى حرسه وحجابته جندب، وفيه يقول الشاعر: أتانا أمير شديد النكال ... لحاجب حاجبه حاجب وقال الحافظ أبو القاسم ابن عساكر في " تاريخ دمشق ": بلغني أن يوسف بن عمر كان قد أخذ مع آل الحجاج بن يوسف الثقفي ليعذب، ويطلب منه المال، فقال: أخرجوني لأسأل، فدفع إلى الحارث بن مالك الجهضمي يطوف به، وكان مغفلاً، فانتهى به إلى دار لها بابان، فقال يوسف: دعني أدخل هذه الدار فإن فيها عمة لي أساءلها، فأذن له، فدخل وخرج من الباب الآخر وهرب، وذلك في خلافة سليمان بن عبد الملك. وكان يوسف يسلك طرائق ابن عم أبيه الحجاج بن يوسف في الصرامة والشدة في الأمور وأخذ الناس بالمشاق، ولم يزل على ذلك إلى حين عزله. وذكر عمر بن شبة النميري في كتاب " أخبار البصرة " أن يوسف بن عمر وزن درهماً فنقص حبة، فكتب إلى دور الضرب بالعراق فضرب الجزء: 7 ¦ الصفحة: 107 أهلها، فأحصي في تلك الحبة مائة ألف سوط ضربها الناس. وكان يوسف مذموماً في عمله أخرق سيء السيرة، وكان جواداً، فكان يطعم الناس على خمسمائة خوان، أقصاها وأدناها سواء، يأكل منها الشامي والعراقي، وعلى كل خوان مزينة عليها السكر، فنفد السكر من فرنية، فتكلم أهلها، فضرب الخباز ثلثمائة سوط والناس يأكلون، فكان الخباز يتخذ الخرائط فيها السكر، فكلما نفد زادوا. وروى الحكم بن عوانة الكلبي عن أبيه قال: لم يؤيد الملك بمثل كلب، ولم تعل المنابر بمثل قريش، ولم تطلب الترات بمثل تميم، ولم ترع الرعايا بمثل ثقيف، ولم تسد الثغور بمثل قيس، ولم تهج الفتن بمثل ربيعة، ولم يجب الخراج بمثل اليمن. وقال الأصمعي: قال يوسف بن عمر لرجل ولاه عملاً: يا عدو الله، أكلت مال الله، فقال له: فمال من آكل منذ خلقت وإلى الساعة والله لو سألت الشيطان درهماً واحداً ما أعطانيه. وكان يوسف بن عمر قد استعمل على خراسان نصر بن سيار الليثي، وبقي إلى آخر أيام بني أمية، وقضاياه ووقائعه مع أبي مسلم الخراساني مشهورة في مواضعها، وفيه وفي يوسف يقول سوار بن الأشعر: أضحت خراسان بعد الخوف آمنة ... من ظلم كل غشوم الحكم جبار لما أتى يوسفاً أخبار ما لقيت ... اختار نصراً لها، نصر بن سيار وقال سماك بن حرب: بعث إليّ يوسف بن عمر وهو أمير العراق، أن عاملاً لي كتب إليّ: إني قد زرعت لك كل خُق ولُق، فما هما فقلت: إن الخق: ما اطمأن من الأرض، واللق: ما ارتفع منها، انتهى كلامه؛ قلت: وذكر الجوهري في كتاب " الصحاح ": أن الخق الغدير، إذا جف وتقلع، واللق: الشق المستطيل، وقيل: الخق حفرة غامضة في الأرض، والخق: بضم الخاء المعجمة وتشديد القاف، واللق: بضم اللام وتشديد القاف، والله أعلم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 108 وكان يوسف بن عمر من أعظم الناس لحية، وأصغرهم قامة، كانت لحيته تجوز سرته. وكان يُضرب به المثل في التيه والحمق، ذكر ذلك حمزة الأصبهاني في كتاب " الأمثال "، فقال: قولهم " أتيه من أحمق ثقيف " هو يوسف ابن عمر، كان أتيه وأحمق عربي أمر ونهى في دولة الإسلام، فمن حمقه أن حجاماً أراد أن يحجمه فارتعدت يده، فقال لحاجبه: قل لهذا البائس، لا تخف، وما رضي أن يقول له بنفسه. وكان الخياط إذا أراد أن يفصل ثيابه فإن قال: يحتاج إلى زيادة ثوب آخر، أكرمه وحباه، وإن فضل شيء أهانه وأقصاه، لأنه يكون قد نبه على قصره ودمامته. واستمر يوسف على ولاية العراق بقية مدة هشام بن عبد الملك، فلما توفي في يوم الأربعاء لست خلون من ربيع الآخر سنة خمس وعشرين ومائة بالرصافة من أرض قنسرين وبها قبره، وكان عمره خمساً وخمسين سنة، وقيل أربعاً وخمسين، وقيل اثنتين وخمسين سنه، والله أعلم، وكنيته أبو الوليد، تولى ابن أخيه الوليد بن يزيد بن عبد الملك بعده فأقر يوسف ابن عمر على ولايته بالعراق. وقتل الوليد المذكور يوم الخميس لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة سنة ست وعشرين ومائة، وكان قد عزم على عزل يوسف ابن عمر وتولية عبد الملك بن محمد بن الحجاج بن يوسف الثقفي. وكانت أم الوليد بن يزيد المذكور أم الحجاج بنت محمد بن يوسف، فالحجاج عمها، فكتب الوليد إلى يوسف بن عمر: إنك قد كنت كتبت إليّ تذكر أن خالد بن عبد الله القسري أخرب العراق، وكنت مع ذلك تحمل إلى هشام ما تحمل، وينبغي أن تكون قد عمرت البلاد حتى ردتها إلى ما كانت عليه، فاشخص إلينا وصدق ظننا بك فيما تحمله إلينا بعمارتك البلاد حتى نعرف فضلك على غيرك لما بينا وبينك من القرابة، فإنك خالنا وأحق الناس بالتوفير علينا، وقد علمت ما زدنا لأهل الشام في العطاء، وما وصلنا أهل بيتنا به لجفوة هشام إياهم، حتى أضر ذلك ببيوت الأموال؛ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 109 فخرج يوسف بن عمر بنفسه إلى الوليد بن يزيد وحمل من الأموال والأمتعة والآنية ما لم يحمل من العراق مثله، فقدم وخالد بن عبد الله القسري محبوس، فلقيه حسان النبطي ليلاً وأخبره أن الوليد قد عزم على تولية عبد الملك بن محمد بن الحجاج، وأنه لابد له من إصلاح أمر وزرائه، فقال يوسف ليس عندي شيء، فقال له حسان: عندي خمسمائة ألف درهم فإن شئت فهي لك، وإن شئت فارددها إذا تيسرت، فقال له يوسف: أنت أعلم بالقوم ومنازلهم من الوليد، ففرقها على قدر علمك فيهم، ففعل، فقدم يوسف والقوم يعظمونه، وقرر يوسف بن عمر مع أبان بن عبد الرحمن النميري أن يشتري خالد بن عبد الله القسري بأربعين ألف ألف درهم، فقال الوليد ليوسف، ارجع إلى عملك، فقال أبان له: ادفع إليّ خالداً وادفع إليك أربعين ألف ألف درهم، فقال الوليد، ومن يضمن عنك هذا المال فقال: يوسف، فقال ليوسف: أتضمن عنه فقال يوسف: ادفعه إلي فأنا أستأديه خمسين ألف ألف درهم، فدفعه إليه، فحمله في محمل بغير وطاء، وقدم به إلى العراق فقتله، كما شرحته في ترجمته. ولما قتل الوليد بن يزيد وتولى بعده ابن عمه يزيد بن الوليد بن عبد الملك وأطاعه أهل الشام وانبرم له الأمر، ندب لولاية العراق عبد العزيز بن هارون ابن عبد الملك بن دحية بن خليفة الكلبي، فقال له عبد العزيز: لو كان معي جند لقبلت، فتركه وولاها منصور بن جمهور. وأما أبو مخنف فإنه قال: قتل الوليد بن يزيد بالبخراء في التاريخ المذكور، وبويع يزيد بن الوليد بدمشق، وسار منصور بن جمهور من البخراء في اليوم الذي قتل فيه الوليد إلى العراق، وهو سابع سبعة، فبلغ خبره يوسف بن عمر فهرب، وقدم منصور بن جمهور الحيرة في أيام خلت من رجب، فأخذ بيوت الأموال وأخرج العطاء لأهل العطاء والأرزاق، وولى العمال بالعراق، وأقام بقية أيام رجب وشعبان ورمضان، وانصرف لأيام بقيت منه. ولما هرب يوسف بن عمر سلك طريق السماوة حتى أتى إلى البلقاء فاستخفى بها، وكان أهله مقيمين فيها، فلبس زي النساء وجلس بينهن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 110 وبلغ يزيد بن الوليد خبره فأرسل إليه من يحضره، فوصلوا إليه فوجدوه بعد أن فتشوا عليه كثيراً جالساً على تلك الهيئة بين نسائه وبناته، فجاء به في وثاق، فحبسه يزيد عند الحكم وعثمان ابني الوليد بن يزيد، وكان يزيد ابن الوليد قد حبسهما عند قتله أباهما في الخضراء، وهي دار بدمشق مشهورة قبلي جامعها وقد خربت الآن ومكانها معروف عندهم. ثم إن يزيد بن الوليد عزل منصور بن جمهور عن ولاية العراق وولاها عبد الله بن عمر بن عبد العزيز، فأقام يوسف بن عمر في السجن بقية مدة يزيد بن الوليد إلى أن مات في ذي الحجة على الخلاف الكثير فيه: هل مات في أول الشهر أو في عاشره أو بعد العاشر أو في سلخ ذي القعدة سنة ست وعشرين ومائة، وجعل ولي عهده أخاه إبراهيم بن الوليد، ومن بعده عبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك. واستمر يوسف بن عمر في سجنه مدة ولاية إبراهيم بن الوليد، فجاء مروان بن محمد آخر ملوك بني آمية بأهل الجزيرة الفراتية وقنسرين وغلب على الأمر وخلع إبراهيم بن الوليد وتولى مكانه، وقتل عبد العزيز بن الحجاج ابن عبد الملك، وكانت ولاية إبراهيم أربعة أشهر، وخلع في شهر ربيع الآخر سنة سبع وعشرين ومائة، وقيل كانت ولايته سبعين يوماً لا غير، وكان يزيد بن خالد بن عبد الله القسري مع إبراهيم بن الوليد. فلما ظهر أمر مروان بن محمد والتقى عسكره وعسكر إبراهيم، وهرب عسكر إبراهيم ودخلوا دمشق، ومروان وراءهم، خافت جماعة إبراهيم أن يدخل مروان فيخرج الحكم وعثمان ابني الوليد من السجن ويجعل لهما الأمر فلا يستبقيا أحداً ممن أعان على قتل أبيهما، فأجمع رأيهم على قتلهما، فأرسلوا يزيد بن خالد القسري ليتولى ذلك فانتدب يزيد المذكور مولى أبيه، وهو أبو الأسد، في جماعة من أصحابه، فدخلوا السجن وشدخوا الغلامين بالعمد وأخرجوا يوسف بن عمر فضربوا عنقه، لكونه قتل خالد ابن عبد الله القسري والد يزيد المذكور كما شرحناه في ترجمة خالد وذلك في سنة سبع وعشرين ومائة، وهو ابن نيف وستين سنة. ولما قتل أخذوا رأسه عن جسده وشدوا في رجليه حبلاً، فجعل الصبيان يجرونه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 111 في شوارع دمشق، فتمر المرأة به فترة جسداً صغيراً فتقول: في أي شيء قتل هذا الصبي المسكين لما ترى من صغر جثته. قال بعضهم: رأيت يوسف بن عمر وفي مذاكيره حبل وهو يجر بدمشق، ثم رأيت بعد ذلك يزيد بن خالد القسري قاتله وفي مذاكيره حبل وهو يجر في ذلك الموضع. وقد قيل إنه قتل في العشر الوسط من ذي الحجة سنة ست وعشرين ومائة، والله أعلم. 844 - (1) يوسف بن تاشفين أبو يعقوب بن تاشفين اللمتوني أمير المسلمين وملك الملثمين، وهو الذي اختط مدينة مراكش وقد تقدم في ترجمة المعتمد محمد بن عباد والمعتصم محمد بن صمادح (2) الملكين ببلاد الأندلس طرف من أخباره وما جرى لهما معه وكيف أخذ بلادهما، واستأسر ابن عباد وحبسه في أغمات، وقد استوفيت الكلام عليه هناك، ونبهت عليه الآن ليعلم الواقف عليه أن هذا الملك هو ذلك، وأنه عظيم الشان كبير السلطان. ذكر أرباب التواريخ شيئاً من أحواله فاخترت في هذا الكتاب ما وجدته في كتاب " المعرب عن سيرة ملك المغرب " لأنه (3) أوعب في حديثه من غيره لكنه لم يذكر مؤلفه حتى أذكره، غير أنه قال في أول النسخة التي   (1) أخباره في الحلل الموشية والبيان المغرب (ج: 4) وروض القرطاس وأعمال الأعلام والروض المعطار (الزلاقة) وتاريخ ابن خلدون وابن الأثير والمعجب للمراكشي والأنيس المطرب ومذكرات الأمير عبد الله والاستقصا وجذوة الاتقباس ... الخ. (2) انظر ج 5: 21، 39. (3) س: في أنه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 112 نقلت منها هذا الفصل: إنه كتبها في سنة تسع وسبعين وخمسمائة وفرغ منها في غرة ذي القعدة من السنة بالموصل، وهو في مجلد واحد لطيف، فاخترت منه مقتضباً ما مثاله: كان بر المغاربة الجنوبي لقبيلة تسمى زناتة برابر فخرج عليهم من جنوبي المغرب من البلاد المتاخمة لبلاد السودان الملثمون يقدمهم أبو بكر ابن عمر منهم، وكان رجلاً ساذجاً خير الطباع مؤثراً لبلاده على بلاد المغرب غير ميال إلى الرفاهية، وكانت ولاة المغرب من زناتة ضعفاء لم يقاوموا الملثمين، فأخذوا البلاد من أيديهم من باب تلمسان إلى ساحل البحر المحيط. فلما حصلت البلاد لأبي بكر ابن عمر المذكور سمع أن عجوزاً في بلاده ذهبت لها ناقة في غارة فبكت وقالت: ضيعنا أبو بكر ابن عمر بدخوله إلى بلاد المغرب، فحمله ذلك على أن استخلف على بلاد المغرب رجلاً من أصحابه اسمه يوسف بن تاشفين ورجع إلى بلاده الجنوبية. وكان يوسف هذا رجلاً شجاعاً عادلاً مقداماً، اختط بالمغرب مدينة مراكش، وكان موضعها مكمناً للصوص، وكان ملكاً لعجوز مصمودية تمدنه منها؛ فلما تمهدت له البلاد تاق إلى العبور إلى جزيرة الأندلس، وكانت محصنة بالبحر، فأنشأ شواني ومراكب وأراد العبور إليها، فلما علم ملوك الأندلس بما يروم من ذلك أعدوا له عدة من المراكب والمقاتلة وكرهوا إلمامه بجزيرتهم، إلا أنهم استهولوا جمعه واستصعبوا مدافعته وكرهوا أن يصبحوا بين عدوين: الفرنج من شماليهم والملثمون من جنوبيهم. وكانت الفرنج تشد وطأتها عليهم، إلا أن ملوك الأندلس كانت ترهب الفرنج بإظهار موالاتهم لملك المغرب يوسف بن تاشفين، وكان له اسم كبير لنقله دولة زناتة وملك الغرب إليه في أسرع وقت، وكان قد ظهر لأبطال الملثمين في المعارك ضربات بالسيوف تقد الفارس وطعنات تنظم الكلى، فكان لهم بذلك ناموس ورعب في قلوب المنتدبين لقتالهم. وكان ملوك الأندلس يفيئون إلى ظل يوسف بن تاشفين ويحذرونه على الجزء: 7 ¦ الصفحة: 113 ملكهم مهما عبر إليهم وعاين بلادهم، فلما رأوا عزيمته متقدمة على العبور أرسل بعضهم إلى بعض، وكاتبوهم يستنجدون آراءهم في أمره، وكان مفزعهم في ذلك إلى المعتمد بن عباد لأنه كان أشجع القوم وأكبرهم مملكة، فوقع اتفاقهم على مكاتبته، وقد تحققوا أنه يقصدهم، يسألونه الإعراض عنهم وأنهم تحت طاعته، فكتب عنهم كاتب من أهل الأندلس كتاباً هو: " أما بعد، فإنك إن أعرضت عنا نُسبت إلى كرم ولم تنسب إلى عجز، وإن أجبنا داعيك نسبنا إلى عقل ولم ننسب إلى وهن، وقد اخترنا لأنفسنا أجمل نسبتينا، فاختر لنفسك أكرم نسبتيك، فإنك بالمحل الذي لا يجب أن تسبق فيه إلى مكرمة، وإن في إستبقائك ذوي البيوت ما شئت من دوام لأمرك وثبوت، والسلام ". فلما جاءه الكتاب مع تحف وهدايا - وكان يوسف بن تاشفين لا يعرف اللسان العربي لكنه كان يجيد فهم المقاصد، وكان له كاتب يعرف اللغتين العربية والمرابطية - فقال له: أيها الملك، هذا الكتاب من ملوك الأندلس يعظمونك فيه ويعرفونك أنهم أهل دعوتك وتحت طاعتك، ويلتمسون منك ألا تجعلهم في منزلة الأعادي، فإنهم مسلمون، وهم من ذوي البيوتات؛ فلا تغير بهم، وكفى بهم من وراءهم من الأعداء الكفار، وبلدهم ضيق لا يحتمل العساكر، فأعرض عنهم إعراضك عمن أطاعك من أهل المغرب؛ فقال يوسف بن تاشفين لكاتبه: فما ترى أنت فقال: أيها الملك، اعلم أن تاج الملك وبهجته وشاهده الذي لا يرد بابه خليق بما حصل في يده من الملك أن يعفو إذا استعفى وأن يهب إذا استوهب، وكلما وهب جزيلاً كان أعظم لقدره فإذا عظم قدره تأصل ملكه، وإذا تأصل ملكه تشرف الناس بطاعته، وإذا كانت طاعته شرفاً جاءه الناس ولم يتجشم المشقة إليهم، وكان وارث الملك من غير إهلاك لآخرته؛ واعلم أن بعض الملوك الأكابر والحكماء البصراء بطريق تحصيل الملك قال: من جاد ساد ومن ساد قاد ومن قاد ملك البلاد. فلما ألقى الكاتب هذا الكلام إلى يوسف بن تاشفين بلغته فهمه وعلم أنه صحيح، فقال للكاتب: أجب القوم، واكتب بما يجب في ذلك، واقرأ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 114 علي كتابك، فكتب الكاتب: " بسم الله الرحمن الرحيم من يوسف بن تاشفين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، تحية من سالمكم، وسلم إليكم، وحكّمه التأييد والنصر فيما حكم عليكم، وإنكم مما بأيدكم من الملك في أوسع إباحة، مخصوصون منا بأكرم إيثار وسماحة، فاستديموا وفاءنا بوفائكم، واستصلحوا إخاءنا بإصلاح إخائكم، والله ولي التوفيق لنا ولكم، والسلام ". فلما فرغ من كتابه قرأه على يوسف بن تاشفين بلسانه فاستحسنه، وقرن به يوسف بن تاشفين درقاً لمطية مما لايكون إلا في بلاده. - قلت: اللمطية، بفتح اللام وسكون الميم وبعدها طاء مهملة ثم ياء مشددة مثناة من تحتها وبعدها هاء ساكنة، هذه النسبة إلى لمطة، وهي بليدة عند السوس الأقصى، بينها وبين سجلماسة عشرون يوماً، قاله ابن حوقل في كتاب " المسالك والممالك " وهي معدن الدرق اللمطية، ولا يوجد مثلها في الدنيا على ما يقال، والله أعلم - قال: وأنفذ ذلك إليهم. فلما وصلهم كتابه أحبوه وعظموه وفرحوا بولايته ملك المغرب، وتقوت نفوسهم على دفع الفرنج، وأزمعوا إن رأوا من ملك الفرنج ما يريبهم أن يجيزوا إليه يوسف بن تاشفين ويكونوا من أعوانه على ملك الفرنج، فتحصل ليوسف بن تاشفين برأي وزيره ما أراد من محبة أهل الأندلس له، وكفاه الحرب لهم. وإن الأذفونش بن فرذلند صاحب طليطلة قاعدة ملك الفرنج أخذ يجوس خلال الديار ويفتتح بلاد الأندلس ويشتط على ملوكهم بطلب البلاد منهم، وخصوصاً المعتمد بن عباد، فإنه كان مقصوداً فيه - وقد تقدم في ترجمة المعتمد ذكر تاريخ أخذه طليطلة والأبيات التي قيلت في ذلك - فنظر المعتمد في أمره فرأى أن الأذفونش قد داخله طمع فيما يلي بلاده، فأجمع أمره على استدعاء يوسف بن تاشفين على العبور، على ما فيه من الخطر، وعلم أن مجاورة غير الجنس مؤذنة بالبوار، وأن الفرنج والملثمين ضدان له، إلا أنه قال: إن دهينا من مداخلة الأضداد لنا فأهون الأمرين أمر الملثمين، ولأن يرعى أولادنا جمالهم أحب إليهم من أن يرعوا خنازير الفرنج، ولم يزل هذا الرأي نصب عينيه مهما اضطر إليه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 115 وإن الأذفونش خرج في بعض السنين يتخلل بلاد الأندلس في جمع كبير من الفرنج، فخافه ملوك الأندلس على البلاد، وأجفل أهل القرى والرساتيق من بين يديه ولجؤوا إلى المعاقل، فكتب المعتمد بن عباد إلى يوسف بن تاشفين يقول له: إن كنت مؤثراً للجهاد فهذا أوانه، فقد خرج الأذفونش إلى البلاد، فأسرع في العبور إليه، ونحن معاشر أهل الجزيرة بين يديك؛ وكان يوسف بن تاشفين على أتم أهبة، فشرع في عبور عساكره، فلما أبصر ملوك الأندلس عبور أهل المغرب يطلبون الجهاد، وكانوا قد وعدوا من أنفسهم بالمساعدة، أعدوا أيضاً للخروج، فلما رأى الاذفونش اجتماع العزائم على مناجزته علم أنه عام نطاح، فاستنفر الفرنجية للخروج فخرجوا في عدد لا يحصيه إلا الله تعالى. ولم تزل الجموع تتألف وتتدارك إلى أن امتلأت جزيرة الأندلس خيلاً ورجلاً من الفريقين، كل أناس قد التفوا على ملكهم. فلما عبرت جيوش يوسف بن تاشفين عبر في آخرها وأمر بعبور الجمال، فعبر منها ما أغص الجزيرة وارتفع رغاؤها إلى عنان السماء، ولم يكن أهل الجزيرة رأوا قط جملاً ولا كانت خيلهم قد رأت صورها ولا سمعت أصواتها، وكانت تذعر منها وتقلق، وكان ليوسف بن تاشفين في عبورها رأيٌ مصيب، كان يحدق بها معسكره، وكان يحضرها الحرب، فكانت خيل الفرنج تحجم عنها. فلما تكاملت العساكر بالجزيرة قصدت الأذفونش، وكان نازلاً بمكان أفيح من الأرض يسمى الزلاّقة بالقرب من بطليوس قال البياسي: بين المكانين أربعة فراسخ؛ وقال أيضاً: إن يوسف بن تاشفين قدم بين يدي حربه كتاباً على مقتضى السنة يعرض عليه الدخول في الإسلام أو الحرب أو الجزية، ومن فصول كتابه: وبلغنا يا أذفونش أنك دعوت في الاجتماع بك، وتمنيت أن يكون لك فلكٌ تعبر البحر عليها إلينا، فقد أجزناه إليك، وجمع الله في هذه العرصة بيننا وبينك، وسترى عاقبة دعائك (وما دعاء الكافرين إلا في ضلال) (غافر: 50) فلما سمع الأذفونش ما كتب إليه جاش بحر غيظه وزاد في ظغيانه وأقسم أنه لا يبرح من موضعه حتى يلقاه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 116 ثم إن ابن تاشفين ومن معه قصدوا الزلاقة، فلما وافاها المسلمون نزلوا تجاه الفرنج بها، فاختار المعتمد بن عباد أن يكون هو المصادم لهم أولاً، وأن يكون يوسف بن تاشفين إذا انهزم المعتمد بعسكره بين أيديهم وتبعوه، يميل عليهم بعساكره، وتتألف معه عساكر الأندلس، فلما عزموا على ذلك وفعلوه خذل الفرنج وخالطتهم عساكر المسلمين واستحر القتل فيهم، فلم يفلت منهم غير الأذفونش في دون الثلاثين من أصحابه، فلحق ببلده على أسوأ حال، فغنم المسلمون من أسلحته وخيله وأثاثه ما ملأ أيديهم خيراً. قلت: وكانت الوقعة في يوم الجمعة الخامس عشر من رجب سنة تسع وسبعين وأربعمائة، وقيل في شهر رمضان في العشر الأواخر من السنة، والله أعلم. وقال البياسي: كان حلول العساكر الإسلامية بالجزيرة الخضراء في المحرم سنة تسع وسبعين وأربعمائة. فحكي أن موضع المعترك على اتساعه ما كان فيه موضع قدم إلا على جسد أو دم، وأقامت العساكر بالموضع أربعة أيام حتى جمعت الغنائم، فلما حصلت عف عنها يوسف بن تاشفين وآثر بها ملوك الأندلس، وعرفهم أن مقصوده إنما كان الغزو لا النهب، فلما رأت ملوك الأندلس إيثار يوسف ابن تاشفين لهم بالمغانم استكرموه وأحبوه وشكروا له. ثم إن يوسف بن تاشفين أزمع الرجوع إلى بلاده، وكان عند قصده ملاقاة الأذفونش تحرى المسير بالعراء من غير أن يمر بمدينة أو رستاق حتى نزل الزلاقة تجاه الأذفونش وهناك اجتمع بعساكر الأندلس؛ وذكر أبو الحجاج يوسف بن محمد البياسي في كتاب - تذكير العاقل وتنبيه الغافل - أن ابن تاشفين نزل على أقل من فرسخ من عسكر العدو في يوم الأربعاء، وكان الموعد في المناجزة يوم السبت الأدنى فغدر الأذفونش ومكر، فلما كان سحر يوم الجمعة منتصف رجب من العام أقبلت طلائع ابن عباد والروم في أثرها والناس على طمأنينة، فبادر ابن عباد للركوب، وانبث الخبر في العساكر فماجت بأهلها، ووقع البهت ورجفت الأرض، وصارت الناس الجزء: 7 ¦ الصفحة: 117 فوضى على غير تعبية ولا أهبة، ودهمتهم خيل العدو، فقمرت ابن عباد وحطمت ما تعرض لها، وتركت الأرض حصيداً خلفها، وصرع ابن عباد وأصابه جرح أشواه؛ وفر رؤساء الأندلس وأسلموا محلاتهم، وظنوا أنها وهية لا ترقع ونازلة لا تدفع، وظن الأذفونش أن أمير المسلمين في المنهزمين ولم يعلم أن العاقبة للمتقين، فركب أمير المسلمين أحدق به أنجاد خيله ورجاله من صنهاجة ورؤساء القبائل، فعمدوا إلى محلة الأذفونش فاقتحموها ودخلوها وقتلوا حاميتها، وضربت الطبول فاهتزت الأرض وتجاوبت الآفاق، وتراجع الروم إلى محلتهم بعد أن علموا أن أمير المسلمين فيها، فصدموا أمير المسلمين فأفرج لهم عنها، ثم كر فأخرجهم منها، ثم كروا عليه فأفرج لهم عنها، ولم تزل الكرات بينهم تتوالى إلى أن أمر أمير المسلمين حشمه السودان فترجل منهم زهاء أربعة آلاف ودخلوا المعترك بدرق اللمط وسيوف الهند ومزاريق الزان، فطعنوا الخيل فرمحت بفرسانها وأحجمت عن أقرانها، وتلاحق الأذفونش بأسود نفدت مزاريقه بالقذف، فأهوى ليضربه بالسيف، فلصق به الأسود وقبض على أعنته وانتضى خنجراً كان منتطقاً به، فأثبته في فخذه فهتك حلق درعه وشك فخذه مع بداد سرجه، وكان وقت الزوال من ذلك اليوم، فهبت ريح النصر وأنزل الله سكينته على المسلمين ونصر دينه، وصدقوا الحملة على الأذفونش وأصحابه، فأخرجوهم عن محلتهم، فولوا ظهورهم وأعطوا أعناقهم، والسيوف تصفعهم إلى أن لحقوا بربوة لجأوا إليها واعتصموا بها، وأحدقت بهم الخيل؛ فلما أظلم الليل انساب الأذفونش وأصحابه من الربوة، وأفلتوا بعدما نشبت فيهم أظفارهم، واستولى المسلمون على ما كان في محلتهم من الأثاث والآنية والمضارب والأسلحة، وأمر ابن عباد بضم رءوس قتلى الروم، فنشر منها أمامه كالتل العظيم، ثم كتب ابن عباد إلى ولده الرشيد كتاباً وأطار به الحمام يوم السبت سادس عشر المحرم يخبره بالنصر. وقد روي أيضاً أن أمير المسلمين طلب من أهل البلاد المعونة على ما هو بصدده، فوصل كتابه إلى المرية في هذا المعنى، وذكر فيه أن جماعة أفتوه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 118 بجواز طلب ذلك اقتداء بعمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال أهل المرية لقاضي بلدهم وهو أبو عبد الله ابن الفراء أن يكتب جوابه، وكان هذا القاضي من الدين والورع على ما ينبغي، فكتب إليه: أما بعد ما ذكره أمير المسلمين من اقتضاء المعونة وتأخري عن ذلك، وأن أبا الوليد الباجي وجميع القضاة والفقهاء بالعدوة والأندلس أفتوا بأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه اقتضاها، وكان صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وضجيعه في قبره ولا يشك في عدله، فليس أمير المسلمين بصاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا بضجيعه في قبره، ولا من لا يشك في عدله، فإن كان الفقهاء والقضاة أنزلوك بمنزلته في العدل فالله سائلهم عن تقلدهم فيك، وما اقتضاها عمر حتى دخل مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وحلف أن ليس عنده درهم واحد من بيت مال المسلمين ينفقه عليهم، فلتدخل المسجد الجامع هنالك بحضرة أهل العلم، وتحلف أن ليس عندك درهم واحد، ولا في بيت مال المسلمين، وحينئذ تستوجب ذلك، والسلام. ولما قضى أمير المسلمين من هذه الوقعة ما قضى، أمر عساكره بالمقام وأن تشن الغارات على بلاد الفرنج، وأمرّ عليهم سير ابن أبي بكر، وطلب الرجوع في طريقه، فتكرم له المعتمد بن عباد، فعرج به إلى بلاده وسأله أن ينزل عنده، فأجابه يوسف إلى ذلك. فلما انتهى إلى إشبيلية مدينة المعتمد، وكانت من أجمل المدن منظراً ونظر إلى موضوعها على نهر عظيم مستبحر تجري فيه السفن بالبضائع جالبة من بر المغرب وحاملة إليه، في غربيه رستاق عظيم مسيره عشرين فرسخاً يشتمل على آلاف من الضياع كلها تين وعنب وزيتون، وهذا الموضع هو المسمى شرف إشبيلية، وتمير بلاد المغرب كلها من هذه الأصناف، وفي جانب المدينة قصور المعتمد وأبيه المعتضد في غاية الحسن والبهاء، وفيها أنواع ما يحتاج إليه من المطعوم والمشروب والملبوس والمفروش وغير ذلك، فأنزل المعتمد يوسف بن تاشفين في أحدها، وتولى من إكرامه وخدمته ما أوسع شكر ابن تاشفين له، وكان مع ابن تاشفين أصحاب له ينبهونه على تأمل تلك الحال وما هي عليه من النعمة والإتراف الجزء: 7 ¦ الصفحة: 119 ويغرونه باتخاذ مثلها لنفسه ويقولون له: إن فائدة الملك قطع العيش فيه بالتنعم واللذة كما هو المعتمد وأصحابه؛ وكان يوسف بن تاشفين مقتصداً في أموره غير متطاول ولا مبذر متنوق في صنوف الملاذ بالأطعمة وغيرها، وكان قد ذهب صدر عمره في بلاده في شظف العيش، فأنكر على مغريه بذلك الإسراف وقال: الذي يلوح من أمر هذا الرجل، يعني المعتمد، أنه مضيع لما في يده من الملك، لأن هذه الأموال التي تعينه على هذه الأحوال لابد أن يكون لها أرباب لا يمكن أخذ هذا القدر منهم على وجه العدل أبداً، فأخذه بالظلم وأخرجه في هذه الترهات، وهذا من أفحش الاستهتار، ومن كانت همته في هذا الحد من التصرف فيما لا يعدو الاجوفين متى يستجد همة في حفظ بلاده وضبطها وحفظ رعيته والتوفر على مصالحها!! ثم إن يوسف بن تاشفين سأل عن أحوال المعتمد في لذاته: هل تختلف فتنقص عما هي عليه في بعض الأوقات فقيل له: بل كان زمانه على هذا، قال: أفكل أصحابه وأنصاره على عدوه ومنجديه على الملك ينال حظاً من ذلك قالوا: لا، قال: فكيف ترون رضاهم عنه قالوا: لا رضا لهم عنه، فأطرق يوسف وسكت. فأقام يوسف عند المعتمد على تلك الحال أياماً. وفي بعض تلك الأيام استأذن رجل على المعتمد، فدخل وهو ذو هيئة رثة، وكان من أهل البصائر، فلما دخل عليه قال: أصلحك الله أيها الملك، إن من أوجب الواجبات شكر النعمة، وإن من شكر النعمة إهداء النصائح، وإني رجل من رعيتك، حالي في دولتك إلى الاختلال أقرب منها إلى الاعتدال، لكنني ملتزم لك من النصيحة ما يستوجبه الملك على رعيته، فمن ذلك خبر وقع في أذني من بعض أصحاب ضيفك هذا يوسف بن تاشفين يدل على أنهم يرون أنفسهم وملكهم أحق بهذه النعمة منك، وقد رأيت رأيا فإن آثرت الإصغاء إليه قلته، قال له المعتمد: قله، قال: رأيت أن هذا الرجل الذي أطلعته على ملكك رجل مستأسد على الملوك، قد حطم ببر العدوة زناتة وأخذ الملك من أيديهم ولم يبق على أحد منهم، ولا يؤمن أن يطمح إلى الطماعية في ملكك، بل في ملك جزيرة الأندلس كلها بما قد عاينه من بلهنية الجزء: 7 ¦ الصفحة: 120 عيشك، وإنه لمتخيل في مثل حالك سائر ملوك الأندلس، وإن له من الولد والأقارب ممن يؤثر مسراتهم من يودّ له الحلول بما أنت فيه من خصب الجناب، وقد أودى الأذفونش وجيشه واستأصل شأفتهم وأعدمك منه أقوى ناصر عليه لو احتجت إليه، فقد كان لك منه أقوى عضد وأوقى مجن، وبعد أن فات الأمر في الأذفونش لا يفتك الحزم فيما هو ممكن اليوم، قال له المعتمد: وما هو الحزم اليوم قال: إن تجمع أمرك على قبض ضيفك هذا واعتقاله في قصرك، وتجزم أنك لا تطلقه حتى يأمر كل من بجزيرة الأندلس من عسكره أن يرجع من حيث جاء حتى لا يبقى منهم بالجزيرة طفل، ثم تتفق أنت وملوك الجزيرة على حراسة هذا البحر من سفينة تجري فيه بغزاة له، ثم بعد ذلك تستعطفه بأغلظ الإيمان ألا يضمر في نفسه عوداً إلى هذه الجزيرة إلا باتفاق منكم ومنه، وتأخذ منه على ذلك، هائن، فإنه يعطيك من ذلك ما تشاء، فنفسه أعز عليه من جميع ما تلتمس منه، فعند ذلك يقنع هذا الرجل ببلاده التي لا تصلح إلا له، وتكون قد استرحت منه بعدما استرحت من الأذفونش، وتقيم في موضعك على خير حال، ويرتفع ذكرك عند ملوك الأندلس وأهل الجزيرة، ويتسع ملكك وتنسب بهذا الاتفاق لك إلى سعادة وحزم، وتهابك الملوك، ثم اعمل بعد هذا ما يقتضيه حزمك في محاورة من عاملته هذه المعاملة واعلم أنه قد تهيأ لك من هذا أمر سماوي تتفانى الأمم وتجري بحار الدم دون حصول مثله. فلما سمع المعتمد كلام الرجل استصوبه وجعل يفكر في انتهاز هذه الفرصة. وكان للمعتمد ندماء قد انهمكوا معه في اللذات، فقال أحدهم لهذا الرجل الناصح: ما كان المعتمد على الله، وهو إمام أهل المكرمات، ممن يعامل بالحيف ويغدر بالضيف، فقال له الرجل، إنما الغدر أخذ الحق من يد صاحبه لا دفع الرجل عن نفسه المحذور إذا ضاق به؛ قال ذلك النديم: لضيمٌ مع وفاء خير من حزم مع جفاء. ثم إن ذلك الناصح استدرك الأمر وتلافاه، فشكر له المعتمد ووصله بصلة، وانصرف. واتصل هذا الخبر بيوسف بن تاشفين فأصبح غادياً، فقدم له المعتمد الهدايا السنية والتحف الفاخرة فقبلها الجزء: 7 ¦ الصفحة: 121 ثم رحل فعبر من الجزيرة الخضراء إلى سبتة قلت: وهو المكان المعروف بزقاق سبتة يعدي الناس فيه من أحد البرين إلى الآخر، أعني بر الأندلس وبر العدوة، وقد تقدم الكلام على هذا المكان. قال: ولما عبر يوسف إلى بر العدوة أقام عسكره بجزيرة الأندلس ريثما استراح ثم تبع آثار الأذفونش فتوغل في بلاده. ولما رجع الأذفونش إلى موضعه سأل عن أصحابه وشجعانه وأبطال عسكره فوجد أكثرهم قد قتلوا، ولم يسمع إلا نياح الثكالى عليهم، فلم يأكل ولم يشرب حتى مات هماً وغماً ولم يخلف إلا بنتا جعل الأمر إليها، فتحصنت بمدينة طليطلة. وأما عسكر ابن تاشفين فإنهم في غارتهم هذه كسبوا من المغانم ما لم يحد ولا يوصف وأنفذوا ذلك إلى بر العدوة، واستأذن أميرهم سير ابن أبي بكر يوسف بن تاشفين في المقام بجزيرة الأندلس وأعلمه أنه قد افتتح معاقل في الثغور ورتب بها مستحفظين ورجالاً يغنون فيها، وأنه لا يستقيم لهذه الجيوش أن تقيم بالثغور في ضنك من العيش تصابح العدو وتماسيه، وتحظى ملوك الأندلس من الأرياف برغد العيش، فكتب إليه ابن تاشفين يأمره بإخراج ملوك الأندلس من بلادهم وإلحاقهم بالعدوة، فمن استعصى عليه منهم قاتله ولا ينفسّ عنه حتى يخرجه، وليبدأ منهم بمجاوري الثغور، ولا يتعرض للمعتمد بن عباد ما لم يستولِ على البلاد، ثم يولي تلك البلاد أمراء عسكره وأكابرهم. فابتدأ سير ابن أبي بكر بملوك بني هود من ملوك الأندلس ليستنزلهم من معقلهم وهي ورطة - قلت: هي بضم الراء وسكون الواو ثم طاء مهملة بعدها هاء، قلعة منيعة من عاصمات الذرا، ماؤها ينبوع في أعلاها، وكان بها من الأقوات والذخائر المختلفات ما لا تفنيه الأزمان فلم يقدر عليها فرحل عنها، ثم جند أجناداً على صور الفرنج وأمرهم أن يقصدوا هذه القلعة مغيرين عليها، ويكمن هو وأصحابه بالقرب منها، ففعلوا ذلك، فرآهم صاحب القلعة فاستضعفهم ونزل في طلبهم، فخرج سير ابن أبي بكر فقبض عليه وتسلم القلعة. ثم نازل بني طاهر بشرق الأندلس، فسلموا إليه ولحقوا بالعدوة. ثم نازل بني صمادح بالمرية وكانت قلعتهم حصينة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 122 إلا أنهم لم يكن عندهم أجناد ولا أنجاد من الرجال فزحفوا عليهم وغلبوهم، فلما علم المعتصم بن صمادح أنه مغلوب دخل قصره فأدركه أسف قضى عليه، فمات من ليلته فاشتغل أهله به. فسلموا المدينة. ثم نازلوا المتوكل عمر بن الأفطس ببطليوس، وكان رجلاً شجاعاً عظيم القدر كبير البيت - وكان أبوه المظفر بالله أبو بكر محمد بن عبد الله بن مسلمة التجيبي من فحول العلماء، وكان ملكاً له تصانيف أعظمها وأشهرها الكتاب المنسوب إليه وهو " المظفري " في علم التاريخ، [وكانت] مدينته بطليوس من أجمل البلاد - لم يذعن ولا أقبل على غير المدافعة والقتال إلى أن خامر عليه أصحابه فقبض عليه باليد وعلى ولدين له، فقتلوا صبراً، وحملوا أولاده الأصاغر إلى مراكش؛ وسائر ملوك الجزيرة سلموا وتحولوا إلى بر العدوة إلا ما كان من المعتمد بن عباد، فإن سير ابن أبي بكر لما فرغ من ملوك الجزيرة، كتب إلى يوسف بن تاشفين أنه لم يبق بالجزيرة من ملوكها غير المعتمد بن عباد، فارسم في أمره بما تراه، فأمره بقصده وأن يعرض عليه التحول إلى بر العدوة بأهله وماله، فإن فعل فبها ونعمت، وإن أبى فنازله، فلما عرض عليه سير ابن أبي بكر ذلك لم يعطه جواباً، فنازله وحاصره أشهراً ثم دخل عليه البلد قهراً واستخرجه من قصره قسراً، فحمل إلى العدوة مقيداً، فأنزل بأغمات وأقام بها إلى أن مات، ولم يعتقل من ملوك الأندلس غيره. وتسلم سير ابن أبي بكر الجزيرة كلها واستحوذ عليها، فمات يوسف بن تاشفين في التاريخ الآتي ذكره إن شاء الله تعالى. وأفضى الملك إلى ولده أبي الحسن علي بن يوسف، وكان رجلاً حليماً وقوراً صالحاً عدلاً منقاداً للحق والعلماء، تجبى إليه الأموال من البلاد، لم يزعزعه عن سريره قط حادث ولا طاف به مكروه - قلت: قد تقدم في ترجمة أبي نصر الفتح بن محمد بن عبيد الله بن خاقان القيسي صاحب " قلائد العقيان " (1) أنه جمع الكتاب المذكور باسم إبراهيم بن يوسف بن تاشفين،   (1) انظر ج 4: 24. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 123 وأن الذي أشار بقتل الفتح المذكور هو علي بن يوسف بن تاشفين المذكور. ثم ولي بعده ولده تاشفين بن علي بن يوسف وعلى يده انقرض ملكهم، وسيأتي شرح ذلك مفصلاً إن شاء الله تعالى. وقد تقدم في أوائل هذه الترجمة أن يوسف بن تاشفين هو الذي اختطّ مدينة مراكش؛ قال صاحب هذا الكتاب الذي نقلت منه هذه الترجمة في آخر الكتاب: إن مراكش (1) مدينة عظيمة بناها الأمير يوسف بن تاشفين بموضع كان اسمه مراكش - معناه: امش مسرعاً بلغة المصامدة - كان ذلك الموضع مأوى اللصوص وكان المارون فيه يقولون لرفقائهم هذه الكلمة، فعرف الموضع بها. وقال غير مؤلف هذا الكتاب: بنى ابن تاشفين مدينة مراكش في سنة خمس وستين وأربعمائة، قاله أبو الخطاب ابن دحية في كتابه الذي سماه " النبراس " في خلافة القائم بأمر الله، قال: وكانت مزرعة لأهل نفيس، فاشتراها منهم بماله الذي خرج به من الصحراء - ونفيس (2) : بفتح النون وتشديد الفاء وسكون الياء المثناة من تحتها، جبل مطل على مراكش، قلت: وهي بنواحي أغمات في المغرب الأقصى. وذلك أنه لما توطنت نفسه على الملك، وأطاعته قبائل البربر وذهب من يخالفه من لمتونة سمت همته إلى بناء هذه المدينة، وكان في موضعها قرية صغيرة في غابة من الشجر، وبها قوم من البربر، فاختطها يوسف وبنى بها القصور والمساكن الأنيقة، وهي في مرج فسيح، وحولها جبال على فراسخ منها، وبالقرب منها جبل لا يزال عليه الثلج وهو الذي يعدل مزاجها وحرها. وفي سنة أربع وستين وأربعمائة نزل يوسف على مدينة فاس، وكانت إذ ذاك من قواعد بلاد المغرب العظام، وضيق على أهلها ثم أخذها فأقر العامة بها، ونفى البربر والجند، بعد أن حبس بعضهم وقتل بعضهم، فعند ذلك قوي شأنه وتمكن بالمغرب الأقصى والأدنى سلطانه، مع ما صار بيده من بلاد جزيرة الأندلس كما شرحناه. وكان حازماً سائساً للأمور ضابطاً   (1) انظر الاستبصار في الحديث عن مراكش ص: 208 والحاشية. (2) راجع المصدر السابق. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 124 لمصالح مملكته، مؤثراً لأهل العلم والدين كثير المشورة لهم، وبلغني أن الإمام حجة الإسلام أبا حامد الغزالي، تغمده الله تعالى برحمته، لما سمع ما هو عليه من الأوصاف الحميدة وميله إلى أهل العلم عزم على التوجه إليه، فوصل إلى الإسكندرية وشرع في تجهيز ما يحتاج إليه فوصله خبر وفاته، فرجع عن ذلك العزم، وكنت وقفت على هذا الفصل في بعض الكتب، وقد ذهب عني في هذا الوقت أين وجدته. وكان يوسف معتدل القامة أسمر اللون نحيف الجسم خفيف العارضين دقيق الصوت، وكان يخطب لبني العباس، وهو أول من تسمى بأمير المسلمين، ولم يزل على حاله وعزه وسلطانه إلى أن توفي يوم الاثنين لثلاث خلون من المحرم سنة خمسمائة، وعاش تسعين سنة ملك منها مدة خمسين سنة، رحمه الله تعالى. وذكر شيخنا عز الدين بن الأثير في تاريخه الكبير ما مثاله (1) : سنة خمسمائة فيها توفي أمير المسلمين يوسف بن تاشفين ملك المغرب والأندلس، وكان حسن السيرة خيراً عادلاً، يميل إلى أهل العلم والدين ويكرمهم ويحكمهم في بلاده ويصدر عن آرائهم، وكان يحب العفو والصفح عن الذنوب العظام، فمن ذلك أن ثلاثة نفر اجتمعوا، فتمنى أحدهم ألف دينار يتجر بها، وتمنى الآخر عملاً يعمل فيه لأمير المسلمين، وتمنى الآخر زوجته، وكانت من أحسن النساء، ولها الحكم في بلاده، فبلغه الخبر، فأحضرهم وأعطى متمني المال ألف دينار، واستعمل الآخر، وقال للذي تمنى زوجته: يا جاهل، ما حملك على هذا الذي لا تصل إليه ثم أرسله إليها، فتركته في خيمة ثلاثة أيام تحمل إليه في كل يوم طعاماً واحداً، ثم أحضرته وقالت له: ما أكلت في هذه الأيام قال: طعاماً واحداً، فقالت له: كل النساء شيء واحد؛ وأمرت له بمال وكسوة وأطلقته. (385) وأما ولده علي المذكور فإنه توفي لسبع خلون من رجب سنة سبع وثلاثين وخمسمائة ومولده في حادي عشر رجب سنة ست وسبعين وأربعمائة،   (1) ابن الأثير 10: 417. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 125 وقد سبق ذكر طرف من حديثه في ترجمة محمد بن تومرت المهدي، فيكشف عنه. ولما خرج عبد المؤمن بن علي - المقدم ذكره (1) - قاصداً جهة البلاد المغربية ليأخذها من علي بن يوسف بن تاشفين المذكور، كان مسيره على طريق الجبال فسير علي بن يوسف ولده تاشفين ليكون في قبالة عبد المؤمن، ومعه جيش فساروا في السهل وأقاموا على هذا مدة، فتوفي علي بن يوسف في أثنائها في التاريخ المذكور، فقدم أصحابه ولده إسحاق بن علي وجعلوه نائب أخيه تاشفين على مراكش، وكان صبياً وظهر أمر عبد المؤمن ودانت له الجبال، وفيها غمارة وتالدة والمصامدة، وهم أمم لا تحصى، فخاف تاشفين بن علي واستشعر القهر، وتيقن أن دولتهم ستزول، فأتى مدينة وهران، وهي على البحر، وقصد أن يجعلها مقره، فإن غلب عن (2) الأمر ركب منها في البحر إلى بر الأندلس يقيم بها كما أقامت بنو أمية بالأندلس عند انقراض دولتهم بالشام وبقية البلاد، وفي ظاهر وهران ربوة على البحر تسمى صلب الكلب، وبأعلاها رباط يأوي إليه المتعبدون. وفي ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان سنة تسع وثلاثين وخمسمائة صعد تاشفين إلى ذلك الرباط ليحضر الختم في جماعة يسيرة من خواصه، وكان عبد المؤمن بجمعه في تاجرة وهي وطنه كما ذكرته في ترجمته واتفق أنه أرسل منسراً إلى وهران فوصلوها في اليوم السادس والعشرين من شهر رمضان، ومقدمهم الشيخ أبو حفص عمر بن يحيى صاحب المهدي، فكمنوا عشية، وأعلموا بانفراد تاشفين في ذلك الرباط، فقصدوه وأحاطوا به، وأحرقوا بابه، فأيقن الذين فيه بالهلاك، فخرج تاشفين راكباً فرسه، وشد الركض عليه ليثب الفرس النار وينجو، فترامى الفرس نازيا لروعته، ولم يملكه اللجام حتى تردى من جرف هنالك إلى جهة البحر على حجارة في وعر، فتكسر تاشفين وهلك في الوقت، وقتل الخواص الذين كانوا معه، وكان عسكره في ناحية أخرى لا علم لهم بما جرى في الليل.   (1) انظر ج 3: 237. (2) هكذا في المسودة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 126 وجاء الخبر بذلك إلى عبد المؤمن، فوصل إلى وهران، وسمى ذلك الموضع الذي فيه الرباط صلب الفتح، ومن ذلك الوقت نزل عبد المؤمن من الجبل إلى السهل. ثم توجه إلى تلمسان وهي مدينتان قديمة ومحدثة بينهما شوط فرس، ثم توجه إلى فاس فحاصرها، وأخذها في سنة أربعين وخمسمائة، ثم قصد مراكش في سنة إحدى وأربعين فحاصرها أحد عشر شهراً وفيها إسحاق بن علي وجماعة من مشايخ دولتهم قدموه بعد موت أبيه علي بن يوسف بن تاشفين نائباً عن أخيه تاشفين، فأخذها وقد بلغ القحط من أهلها الجهد، وأُخرج إليه اسحاق بن علي ومعه سير بن الحاج وكان من الشجعان وخواص دولتهم، وكانا مكتوفين، واسحاق دون البلوغ، فعزم عبد المؤمن أن يعفو عن إسحاق لصغر سنه فلم يوافقه خواصه، وكان لا يخالفهم، فخلى بينهم وبينهما فقتلوهما، ثم نزل عبد المؤمن في القصر، وذلك في سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة، وانقرضت دولة بني تاشفين. قلت: وقد ذكرت في ترجمة المعتمد بن عباد أن يوسف بن تاشفين عاد إلى الأندلس في العام الثاني من وقعة الزلاقة، وذكرت ها هنا ما يدل على أنه ما عاد إليها، وإنما نوابه هم الذين أخذوا بلاد الأندلس له، فقد يعتقد الواقف على هذا الكتاب أن هذا متناقض، والعذر في هذا أنني وجدته في ترجمة ابن عباد على تلك الصورة ووجدته في هذه الترجمة على هذه الصورة، والله أعلم بالصواب. ثم رأيت في كتاب " تذكير العاقل " تأليف أبي الحجاج يوسف البياسي أن ابن تاشفين لما جاز البحر قصد إشبيلية، فخرج ابن عباد إلى لقائه ومعه الضيافة والإقامة، ثم خرج من إشبيلية بقضه وقضيضه قاصداً بطليوس، وجرت الواقعة المذكورة، ثم عاد ابن تاشفين إلى بلاده، وان ابن عباد جاز البحر ومضى إليه في سنة إحدى وثمانين واستنجده على ما يجاوره من بلاد العدو، فأكرمه ابن تاشفين وأجابه إلى إنجاده، ثم عاد ابن عباد إلى بلاده واستعد للعدو، ولحقه ابن تاشفين في رجب من سنة إحدى وثمانين، ثم خرج الأذفونش في جيش كثيف، وكان ملوك الأندلس قد اجتمعوا عند الجزء: 7 ¦ الصفحة: 127 ابن تاشفين فلما رأى ما فعله من الاستعداد بالجمع الكثير رحل عن مكانه وأوهمه خواصه أن ملوك الأندلس يفرون عنه ويخلون بينه وبين الأذفونش فأصغى إلى كلامهم وعمل في نفسه قولهم، فأخذ في الحركة إلى البرية، وتحرك الجميع بحركته وجاز البحر عائداً إلى بلاده، وقد وغر صدره على ملوك الأندلس، وتبين لهم تغيره عليهم وخافوه، فشرعوا في تحصين بلادهم وتحصيل الأقوات، وراسل بعضهم الأذفونش ليكون عوناً له خوفاً من ابن تاشفين، فأجابه الأذفونش بالإعانة والمساعدة، وكان قد سير له هدايا وألطافاً كثيرة فقبلها منه، وحلف له على جميع ما التمس منه، واتصل ذلك بابن تاشفين فاستشاط غيظاً. ثم إن ابن تاشفين جاز البحر مرة ثالثة وقصد قرطبة وهي لابن عباد، فوصلها في جمادى الأولى سنة ثلاث وثمانين، وقد سبقه إليها ابن عباد، فخرج إليه بالضيافة وجرى معه على عادته. ثم إن ابن تاشفين أخذ غرناطة من صاحبها عبد الله بن بلكين بن باديس بن حبوس وحبسه، فطمع ابن عباد في غرناطة وأن ابن تاشفين يعطيه إياها. فعرّض له بذلك، فأعرض عنه ابن تاشفين، وخاف ابن عباد منه، وعمل على الخروج عنه فقال له: إنه جاءته كتب من إشبيلية، وهم خائفون من العدو المجاور لهم واستأذنه في العود إليها، فأذن له فعاد. ثم رجع ابن تاشفين إلى بلاده وجاز البحر في شهر رمضان من سنة ثلاث وثمانين، وأقام ببلاده إلى أن دخلت سنة أربع وثمانين، ثم عزم على العبور إلى الأندلس لمنازلة ابن عباد، وبلغ ذلك ابن عباد فأخذ في التأهب والاستعداد، ووصل ابن تاشفين إلى سبتة وجمع العساكر الكثيرة وقدّم عليهم سير بن أبي بكر فجاوزا البحر وضايقوا بلاد ابن عباد، فاستصرخ بالأذفونش فلم يلتفت إليه، وكان ما ذكرته، والله أعلم. وفي هذه الترجمة ذكر الملثمين فيحتاج إلى الكلام عليه، والذي وجدته أن أصل هؤلاء القوم من حمير بن سبأ، وهم أصحاب خيل وإبل وشاء، ويسكنون الصحارى الجنوبية وينتقلون من ماء إلى ماء كالعرب، وبيوتهم من الشعر والوبر، وأول من جمعهم وحرضهم على القتال وأطمعهم في تملك الجزء: 7 ¦ الصفحة: 128 البلاد عبد الله بن ياسين الفقيه، وقتل في حرب جرت مع برغواطة، وقام مقامه أبو بكر ابن عمر الصنهاجي الصحراوي المقدم ذكره ومات في حرب السودان، وقد ذكرنا حديث يوسف بن تاشفين وسبب تقدمه، وهو الذي سمى أصحابه المرابطين، وهم قوم يتلثمون ولا يكشفون وجوههم، فلذلك سموهم الملثمين، وذلك سنة لهم يتوارثونها خلفاً عن سلف، وسبب ذلك على ما قيل أن حمير كانت تتلثم لشدة الحر والبرد يفعله الخواص منهم، فكثر ذلك حتى صار يفعله عامتهم. وقيل كان سببه أن قوماً من أعدائهم كانوا يقصدون غفلتهم إذا غابوا عن بيوتهم فيطرقون الحي فيأخذون المال والحريم، فأشار عليهم بعض مشايخهم أن يبعثوا النساء في زي الرجال إلى ناحية ويقعدوا هم في البيوت ملثمين في زي النساء، فإذا أتاهم العدو ظنوهم النساء فيخرجون عليهم، ففعلوا ذلك وثاروا عليهم بالسيوف فقتلوهم، فلزموا اللثام تبركاً بما حصل لهم من الظفر بالعدو. وقال شيخنا الحافظ عز الدين ابن الأثير في تاريخه الكبير ما مثاله: وقيل إن سبب اللثام لهم أن طائفة من لمتونة خرجوا مغيرين على عدو لهم فخالفهم العدو إلى بيوتهم، ولم يكن بها إلا المشايخ والصبيان والنساء، فلما تحقق المشايخ أنه العدو أمروا النساء أن تلبس ثياب الرجال ويتلثمن ويضيقنه حتى لا يعرفن، ويلبسن السلاح، ففعلن ذلك، وتقدم المشايخ والصبيان أمامهن واستدار النساء بالبيوت، فلما أشرف العدو رأى جمعاً عظيماً فظنه رجالاً وقالوا: هؤلاء عند حريمهم يقاتلون عنهن قتال الموت، والرأي أن نسوق النعم ونمضي، فإن اتبعونا قاتلناهم خارجاً عن حريمهم، فبينما هم في جمع النعم من المراعي إذ أقبل رجال الحي، فبقي العدو بينهم وبين النساء، فقتلوا من العدو وأكثروا وكان من قبل النساء أكثر، فمن ذلك الوقت جعلوا اللثام سنة يلازمونه فلا يعرف الشيخ من الشاب ولا يزيلونه ليلاً ولا نهاراً. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 129 ومما قيل في اللثام: قومٌ لهم درك العلا في حمير ... وإن انتموا صنهاجة فهم هم (1) لما حووا إحراز كل فضيلة ... غلب الحياء عليهم فتلثموا وكان يوسف بن تاشفين مقدم جيش أبي بكر ابن عمر الصنهاجي، وخرج من سجلماسة في سنة أربع وخمسين وأربعمائة، وكان أبو بكر ابن عمر قد أتى سجلماسة في سنة ثلاث وخمسين وحاصرها، وقاتل أهلها أشد قتال وأخذها، ثم رتب عليها يوسف بن تاشفين فكان ما كان. 845 - (2) يوسف بن عبد المؤمن صاحب المغرب أبو يعقوب يوسف بن أبي محمد عبد المؤمن بن علي القيسي الكومي صاحب المغرب وقد تقدم ذكر أبيه عبد المؤمن في حرف العين، وذكر ولده يعقوب قبل هذا؛ ولما توفي والده في التاريخ المذكور في ترجمته وخلع محمد بن عبد المؤمن استقل ولده يوسف بالملك، وكان ولي العهد قبله أخوه محمد بن عبد المؤمن، ونقش على الدنانير اسمه، وكان ذلك باستخلاف أبيه وتحليفه الجند له، فظهرت منه اشتغال بالراحة وانهماك في البطالة فخلعه يوسف، وكان له أخ آخر اسمه أبوحفص عمر ولاه جزيرة الأندلس. وكان يوسف المذكور فقيهاً حافظاً متقناً لأن أباه هذبه وقرن به وباخوته أكمل رجال الحرب والمعارف، فنشأوا في ظهور الخيل بين أبطال الفرسان، وفي قراءة العلم بين أفاضل العلماء. وكان ميله إلى الحكمة والفلسفة أكثر   (1) هامش المختار: خ وغذا دعوا لمتونة. (2) أخباره في الحلل الموشية والمن بالإمامة وروض القرطاس ونظم الجمان والمعجب وأعمال الأعلام وتاريخ ابن خلدون والأنيس المطرب والاستقصا والبيان المغرب (ج: 3 تطوان) ... الخ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 130 من ميله إلى الأدب وبقية العلوم، وكان جمّاعاً مناعاً ضابطاً لخراج مملكته عارفاً بسياسة رعيته، وكان ربما يحضر حتى لا يكاد يغيب ويغيب حتى لا يكاد يحضر، وله في غيبته نواب وخلفاء وحكام قد فوض الأمور إليهم لما علم من صلاحهم لذلك، والدنانير اليوسفية المغربية منسوبة إليه. فلما مهدت له الأمور واستقرت قواعد ملكه، دخل إلى جزيرة الأندلس لكشف مصالح دولته وتفقد أحوالها. وكان ذلك في سنة ست وستين وخمسمائة وفي صحبته مائة ألف فارس من العرب والموحدين، فنزل باشبيلية. (386) فخافه الأمير أبو عبد الله محمد بن سعد بن محمد بن سعد المعروف بابن مردنيش صاحب شرق الأندلس: مرسية وما انضاف إليها، وحمل على قلبه فمرض مرضاً شديداً ومات، وقيل إن أمه سقته السم، لأنه كان قد أساء العشرة مع أهله وخواصه وكبراء دولته، فنصحته وأغلظت عليه في القول فتهددها وخافت بطشه، فعملت عليه فقتلته بالسم. وكان موته في التاسع والعشرين من رجب سنة سبع وستين وخمسمائة باشبيلية، ومولده في سنة ثماني عشرة وخمسمائة في قلعة أعمال من طرطوشة يقال لها بنشكله، وهي من الحصون المنيعة. ولما مات محمد بن سعد جاء أولاده، وقيل إخوته، إلى الأمير يوسف ابن عبد المؤمن وهو باشبيلية فسلموا إليه جميع بلاد شرق الأندلس التي كانت لأبيهم وقيل لأخيهم، فأحسن إليهم الأمير يوسف وتزوج أختهم، وأصبحوا عنده في أعز مكان. ثم إن الأمير يوسف شرع في استرجاع بلاد المسلمين من أيدي الفرنج، وكانوا قد استولوا عليها، فاتسعت مملكته بالأندلس وصارت سراياه تصل مغيرة إلى باب طليطلة، وهي كرسي بلادهم وأعظم قواعدهم. ثم إنه حاصرها، فاجتمع الفرنج كافة عليه واشتد الغلاء في عسكره، فرجع عنها وعاد إلى مراكش. وفي سنة خمس وسبعين قصد بلاد إفريقية وفتح مدينة قفصة، ثم دخل جزيرة الأندلس في سنة ثمانين ومعه جمع كثيف، وقصد غربي بلادها الجزء: 7 ¦ الصفحة: 131 فحاصر مدينة شنترين شهراً فأصابه مرض فمات منه في شهر ربيع الأول سنة ثمانين وخمسمائة، وحمل في تابوت إلى إشبيلية، رحمه الله تعالى، وكان قد استخلف ولده أبا يوسف يعقوب بن يوسف المقدم ذكره. وذكر شيخنا ابن الأثير في تاريخه أن يوسف مات من غير وصية بالملك لأحد من أولاده، فاتفق رأي قواد الموحدين وأولاد عبد المؤمن على تمليك ولده يعقوب، فملكوه في الوقت الذي مات فيه أبوه، لئلا يكونوا بغير ملك يجمع كلمتهم لقربهم من بلاد العدو. وكان خلع أخيه أبي عبد الله محمد بن عبد المؤمن في شعبان سنة ثمان وخمسين، واستبد يوسف حينئذ بالأمر، واجتمع أكابر أصحابهم على خلعه وتولية الأمير يوسف، وقد روي له شعر لكنه ليس بالجيد، فلم أذكر منه شيئاً. وأما محمد بن سعد ابن مردنيش المذكور فيروى له: وحقها إنها جفون ... تسل من لحظها المنون لا صبر عنها ولا عليها ... الموت من دونها يهون لأركبن الهوى إليها ... يكون في ذاك ما يكون (387) قلت: ثم وجدت هذه الأبيات في كتاب " الملح " لابن القطاع وقد نسبها إلى أبي جعفر أحمد بن صمادح البني، والله أعلم. وقال البياسي في " حماسته ": هو أبو جعفر أحمد بن الحسين بن خلف بن البني اليعمري الأبدي (1) ، والله أعلم، إلا أنه لم يذكر هذه الأبيات، ثم أورد البياسي لأبي جعفر المذكور: صدني عن حلاوة التشييع ... اجتنابي مرارة التوديع لم يقم أنس ذا بوحشة هذا ... فرأيت الصواب ترك الجميع   (1) انظر ترجمة أبي جعفر البني في القلائد: 298 والمطمح: 91 والمغرب 2: 357 والخريدة (قسم المغرب والأندلس) 2: 606 وله اشعار في مواطن متفرقة من نفح الطيب. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 132 وله في صفة قنديل: وقنديل كأن الضوء فيه ... محاسن من أحب وقد تجلى أشار إلى الدجى بلسان أفعى ... فشمر ذيله فرقاً وولى ولما مات أبو يعقوب المذكور رثاه الأديب أبو بكر يحيى بن مجبر الشاعر المقدم ذكره في ترجمة يعقوب بن يوسف هذا بقصيدة طويلة أجاد فيها، وأولها: جل الأسى فأسل دم الأجفان ... ما ذي الشؤون لغير هذا الشان ومردنيش: بفتح الميم وسكون الراء وفتح الدال المهملة وكسر النون وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها شين معجمة وهو بلغة الفرنج اسم العذرة. وبُنُشْكُله: بضم الباء الموحدة والنون وسكون الشين المعجمة وضم الكاف وفتح اللام، وبعدها هاء؛ والباقي معروف لا حاجة إلى ضبطه. والبني في نسب الشاعر المذكور: بكسر الياء الواحدة وتشديد النون. والأبدي: بضم الهمزة وتشديد الباء الموحدة وبعدها دال مهملة، هذه النسبة إلى بلدة بالأندلس من كورة جيان، بناها عبد الرحمن بن الحكم وجددها ابنه محمد (1) . قلت: ولما فرغت من ترجمة يوسف بن عبد المؤمن صاحب هذه الترجمة وجدت مجموعاً بخط العماد بن جبريل (2) أخي العلم المصري ناظر بيت المال بالديار المصرية - وقد تقدم ذكره في ترجمة أبي إسحاق العراقي الفقيه المذكور في أوائل هذا الكتاب (3) - وفيه فوائد من أخبار المغاربة وغيرهم، فنقلت منه ما يضاف إلى هذه الترجمة، وهو:   (1) هنا ينتهي ما أثبت في المسودة، ولكن ورود بعض ما جاء بعده في المختار يؤكد أن المؤلف قد زاده في ما استدركه من بعد؛ وقد ورد في ع ق. (2) ع: جبرين. (3) انظر ج 1: 34، وفيه ابن أخي العلم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 133 أن عبد المؤمن كان في حياته قد عهد إلى أكبر أولاده وهو محمد، وبايعه الناس وكتب ببيعته إلى البلاد، فلما مات عبد المؤمن لم يتم له الأمر لأنه كان على أمور لا يصلح معها للمملكة من إدمان شرب الخمر واختلال الرأي وكثرة الطيش وجبن النفس ويقال إنه مع هذا كله كان به ضرب من الجذام. واضطرب أمره واختلف الناس عليه فخلع، وكانت مدة ولايته خمسة وأربعين يوماً، وذلك في شعبان من سنة ثمان وخمسين وخمسمائة، وكان الذي سعى في خلعه أخويه يوسف وعمر ابني عبد المؤمن. ولما تم خلعه دار الأمر بين الأخوين المذكورين، وهما من نجباء أولاد عبد المؤمن ومن ذوي الرأي وتأخر عنهما أبو حفص عمر، وسلم الأمر إلى أخيه يوسف فبايعه الناس واتفقت عليه الكلمة. وكان (1) أبيض تعلوه حمرة، شديد سواد الشعر مستدير الوجه أفوه أعين، إلى الطول ما هو، في صوته جهارة، رقيق حواشي اللسان حلو الألفاظ حسن الحديث طيب المجالسة أعرف الناس كيف تكلمت العرب وأحفظهم لأيامها في الجاهلية والإسلام، صرف عنايته إلى ذلك، ولقي فضلاء إشبيلية أيام ولايته لها، ويقال إنه كان يحفظ صحيح البخاري. كان شديد الملوكية بعيد الهمة سخياً جواداً استغنى الناس في أيامه، وكان يحفظ القرآن العظيم مع جملة من الفقه، ثم طمح إلى علم الحكمة وبدأ من ذلك بعلم الطب وجمع من كتب الحكمة شيئاً كثيراً. (388) وكان ممن صحبه من العلماء بهذا الشأن أبو بكر محمد بن الطفيل (2) ، كان متحققاً لجميع أجزاء الحكمة، قرأ على جماعة من أهلها منهم أبو بكر ابن الصائغ المعروف بابن باجة (3) وغيره. ولابن الطفيل هذا تصانيف كثيرة، وكان   (1) هذا النص ملخص عن المعجب للمراكشي، انظر ص: 309. (2) هو صاحب " حي بن يقظان "، له ترجمة في المغرب 2: 85 وابن أبي أصيبعة 2: 78 والمقتضب من تحفة القادم: 72 والبدر السافر، الورقة: 128 والمعجب: 311 - 315 وقد كتبت عنه بحوث ودراسات متعددة. (3) مرت ترجمته، انظر ج 4: 429. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 134 حريصاً على الجمع بين علم الشريعة والحكمة وكان مفنناً. ولم يزل يجمع إليه العلماء من كل فن من جميع الأقطار ومن جملتهم أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن رشد الأندلسي. ولما استوثق ليوسف الأمر وملك بلاد مردنيش من الأندلس خرج من إشبيلية قاصداً بلاد الأذفونش من الأندلس أيضاً فنزل على مدينة له تسمى وبذة (1) فأقام محاصراً لها شهوراً إلى أن اشتد عليهم الحصار وعطشوا، فراسلوه في تسليم المدينة وأن يعطيهم الأمان على نفوسهم، فامتنع من ذلك فلما اشتد بهم العطش سمع لهم في بعض الليالي لغط عظيم وأصوات هائلة، وذلك أنهم اجتمعوا بأسرهم ودعوا الله تعالى، فجاءهم مطر عظيم ملأ ما كان عندهم من الصهاريج، فارتووا وتقووا على المسلمين، فانصرف عنهم إلى إشبيلية بعد أن هادنهم مدة سبع سنين. وكان يرتفع إليه في كل سنة من خراج إشبيلية وقر مائة وخمسين بغلاً، خارجاً عما يرتفع إليه من خراج بقية البلاد في بر العدوة وفي بر الأندلس. وفي سنة تسع وسبعين (2) تجهز للغزو في جيش عظيم وعبر إلى جزيرة الأندلس ونزل إشبيلية كعادتهم في إصلاح شأنهم، ثم رحل إلى شنترين، وهي بليدة في غرب الأندلس، وهي في غاية المنعة والحصانة، فحاصرها وضيق عليها، فلم يقدر عليها، وهجم الشتاء، وخاف المسلمون من البرد وزيادة مد النهر فلا يقدرون على العبور وتنقطع عنهم المادة، فأشاروا عليه بالرجوع إلى إشبيلية، فإذا طاب الزمان عاد إليها، فقبل ذلك منهم وقال: نحن راحلون غداً إن شاء الله تعالى، ولم ينتشر هذا الحديث لأنه قاله في مجلس الخاصة، فكان أول من قوض ورحل أبو الحسن علي بن عبد الله بن عبد الرحمن الخطيب   (1) ر والمختار: ربدة. (2) قارن بما في المعجب: 330 وما بعدها؛ وأورد صاحب البيان المغرب الخبر عن هذه المعركة مفصلاً (ص 128 - 138) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 135 المالقي (1) ، وكان من أهل العلم والفضل، فلما رآه الناس قد قوض خباءه قوضوا أيضاً ثقة به، لمكانه من الدولة ومعرفته بأسرارها، فعبر تلك الليلة أكثر العسكر على النهر خشية الزحام وطلباً لجيد المنازل، ولم يبق إلا من كان بقرب خباء الأمير يوسف بن عبد المؤمن، ولا علم له بذلك، فلما رأى الروم عبور العسكر وبلغهم من جواسيسهم ما عزم عليه الأمير يوسف وأصحابه خرجوا منتهزين الفرصة وحملوا حتى انتهوا إلى جهة الأمير يوسف، فقتل على بابه خلق كثير من أعيان الجند، وخلصوا إلى الأمير يوسف فطعنوه تحت سرته طعنة كانت سبب منيته، وتداركهم الناس، فانهزم الروم، وجعل الأمير يوسف في محفة، وعبر به النهر، ولم يسر به سوى ليلتين ومات في الثالثة، فلما وصلوا به إلى إشبيلية صبروه وصيروه في تابوت وحملوه إلى تين مل، ودفن هناك عند أبيه عبد المؤمن والمهدي محمد بن تومرت. وكانت وفاته يوم السبت لسبع خلون من رجب سنة ثمانين وخمسمائة، وكان قبل موته بأشهر ينشد هذا البيت ويردده في أوقات كثيرة: طوى الجديدان ماقد كنت أنشره ... وأنكرتني ذوات الأعين النجل وقام بعده بالأمر ولده أبو يوسف يعقوب، بويع في حياة أبيه، وقيل إن أشياخ الدولة اتفقوا على تقديمه بعد وفاة أبيه، والله أعلم. (389) وكان الأديب أبو العباس أحمد بن عبد السلام الكورايي (2) - وكورايا قبيلة من البربر منازلهم بضواحي مدينة فاس، وقيل إن هذه القبيلة إنما يقال لها جراوة: بفتح الجيم وقد تبدل الجيم كافاً فيقال لها كرواة، والنسبة إليها جراوي وكراوي - وكان هذا الأديب نهاية في حفظ الأشعار القديمة والمحدثة، وتقدم في هذا الشأن وجالس به عبد المؤمن، ثم ولده يوسف ثم ولده يعقوب،   (1) شرح المراكشي في المعجب: 333 ما حل بأبي الحسن المالقي هذا، فقد هرب خوفاً من الخليفة الموحدي، ولجأ إلى ابن الريق، ثم دس كتاباً إلى الموحدين يدلهم فيه على عورات الروم، فكشف أمره، وعوقب بالموت حرقاً، ولكن صاحب البيان المغرب (3: 137) عده ممن استشهد في المعركة. (2) قد مر التعريف به، انظر ما تقدم ص: 12. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 136 وجمع كتاباً يحتوي على فنون الشعر على وضع - الحماسة - لأبي تمام الطائي، وسماه " صفوة الأدب وديوان العرب " وهو كثير الوجود بأيدي الناس، وهو عند أهل المغرب كالحماسة عند أهل المشرق. والمقصود من ذكر هذا الأديب أنه كانت له نوادر نادرة وملح مستظرفة عند أهل الأدب، فمن ذلك أنه حضر يوماً إلى باب دار الأمير يوسف المذكور، وهناك الطبيب سعيد الغماري - وغمارة، بضم الغين المعجمة، قبيلة من البربر أيضاً فقال الأمير يوسف لبعض خدمه: انظر من الباب من الأصحاب، فخرج الخادم إلى الباب ثم عاد إليه فقال: أحمد الكورايي وسعيد الغماري، فقال الأمير يوسف: من عجائب الدنيا شاعر من كواريا وطبيب من غمارة، فبلغ ذلك الكورايي فقال (وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه) (يس: 78) أعجب منهما والله خليفة من كومية، فيقال إن الأمير يوسف لما بلغه ذلك قال: أعاقبه بالحلم عنه والعفو ففيه تكذيبه. ومن شعره من جملة قصيدة مدح بها الأمير يوسف المذكور، وهو بديع غريب: إن الإمام هو الطبيب وقد شفى ... علل البرية ظاهراً ودخيلا حمل البسيطة وهي تحمل شخصه ... كالروح توجد حاملاً محمولا ومن شعره أيضاً في ذم أهل فاس، وهي مدينة بالمغرب فيما بين سبتة ومراكش: مشى اللؤم في الدنيا طريداً مشرداً ... يجوب بلاد الله شرقاً ومغربا فلما أتى فاساً تلقاه أهلها ... وقالوا له: أهلا وسهلا ومرحبا وله كل شعر مليح. وكان شيخاً مسناً جاوز الثمانين سنة، وتوفي في آخر أيام الأمير يعقوب ابن الأمير يوسف - وقد ذكرت وفاة الأمير يعقوب في ترجمته فيكشف منها - وله مديح في الأمير عبد المؤمن بن علي وأولاده إلى آخر زمنه، رحمه الله تعالى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 137 وأما شنترين: بفتح الشين المعجمة وسكون النون وفتح التاء المثناة من فوقها وكسر الراء وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها نون، فهي مدينة في غرب الأندلس؛ وذكر ابن حوقل في كتاب " المسالك والممالك " أن شنترين على البحر المحيط، وبها يقع العنبر، ولا يعلم ببلد الروم والمحيط عنبر يقع في غير هذا الموضع وشيء وقع بالشام. ويقع بشنترين في وقت من السنة دابة تحك الحجارة في وسط البحر، فيقع بها وبرة في لين الخز ولون الذهب، فيجمع منه ما يغزل وينسج ثياباً، ويتلون الثوب ألواناً، وتحجر عليه ملوك بني أمية بالأندلس، فلا ينقل ولا يشترى، فتزيد قيمة الثوب على ألف دينار لعزته وحسنه، والله أعلم. قلت: وحكى لي بعض الفضلاء من أهل الأندلس أنه رأى قطعة من هذه الثياب هناك، وأراد أن يصفها لي فما قدر أن يعبر عنها، ثم قال: لكنها أرفع وأنعم من نسج العنكبوت، فتعالى الله ما أجل قدرته وألطف حكمته وأحسن صنعته، وكيف خص كل صقع بنوع من الغرائب سبحانه وتعالى، ولله در أبي نواس حيث قال: وفي كل شيء له آية ... تدلّ على أنه واحد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 138 846 - (1) السلطان صلاح الدين أبو المظفر يوسف بن أيوب بن شاذي، الملقب الملك الناصر صلاح الدين صاحب الديار المصرية والبلاد الشامية والفراتية واليمنية؛ وقد تقدم في هذا الكتاب ذكر أبيه أيوب وجماعة من أولاده وعمه أسد الدين شيركوه أخيه الملك العادل أبي بكر محمد، وجماعة من أولاده وغيرهم من أهل بيته؛ وصلاح الدين كان واسطة العقد، وشهرته أكبر من أن تحتاج إلى التنبيه عليه. اتفق أهل التاريخ على أن أباه وأهله من دوين، بضم الدال المهملة وكسر الواو وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها نون، وهي بلدة في آخر عمل أذربيجان من جهة أران وبلاد الكرج، وأنهم أكراد روادية، بفتح الراء والواو وبعد الألف دال مهملة ثم ياء مثناة من تحتها مشددة وبعدها هاء والروادية: بطن من الهذبانية بفتح الهاء والذال المعجمة وبعد الألف نون مكسورة ثم ياء مشددة مثناة من تحتها وبعدها هاء، وهي قبيلة كبيرة من الأكراد. وقال لي رجل فقيه عارف بما يقول، وهو من أهل دوين: إن على باب دوين قرية يقال لها أجدانقان، بفتح الهمزة وسكون الجيم وفتح الدال المهملة وبعد الألف نون مفتوحة وقاف مفتوحة وبعد الألف الثانية نون أخرى، وجميع أهلها أكراد روادية، ومولد أيوب والد صلاح الدين   (1) من المتعذر حصر المصادر الأصلية عنه وعن أخباره، ويكفي أن نذكر تاريخ ابن الأثير وسيرة ابن شداد والروضتين ومفرج الكروب والفتح القسي والبرق الشامي ومضمار الحقائق ورسال القاضي الفاضل ومرآة الزمان والسلوك ... الخ، هذا عدا عما كتب عنه في اللغات الأجنبية، والدراسات التي تناولته (تخصيصاً او تعميماص للحروب التي سميت باسم الحروب الصليبية) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 139 بها، وشاذي أخذ ولديه أسد الدين شيركوه ونجم الدين أيوب وخرج بهما إلى بغداد، ومن هناك نزلوا تكريت، ومات شاذي بها، وعلى قبره قبة داخل البلد. ولقد تتبعت نسبتهم كثيراً فلم أجد أحداً ذكر بعد شاذي أبا آخر، حتى إني وقفت على كتب كثيرة بأوقاف وأملاك باسم شيركوه وأيوب، فلم أر فيها سوى شيركوه بن شاذي، وأيوب بن شاذي، لا غير؛ وقال لي بعض كبراء بيتهم: هو شاذي بن مروان، وقد ذكرت ذلك في ترجمة أيوب وشيركوه؛ ورأيت مدرجاً رتبه الحسن بن غريب بن عمران الحرشي (1) يتضمن أن أيوب بن شاذي بن مروان بن أبي علي بن عنترة بن الحسن بن علي بن أحمد بن أبي علي بن عبد العزيز بن هدبة بن الحصين بن الحارث بن سنان بن عمرو بن مرة بن عوف بن أسامة بن بيهس بن الحارث صاحب الحمالة ابن عوف بن أبي حارثة بن مرة بن نشبة بن غيظ بن مرة بن عوف بن سعد ابن ذبيان (2) بن بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس عيلان بن الياس ابن مضر بن نزار معد بن عدنان. ثم رفع بعد هذا في النسب حتى انتهى إلى آدم عليه السلام. ثم ذكر بعد ذلك أن علي بن أحمد بن أبي علي بن عبد العزيز يقال إنه ممدوح المتنبي، ويعرف بالخراساني، وفيه يقول من جملة قصيدته (3) : شرق الجو بالغبار إذا سا ... ر علي بن أحمد القمقام وأما حارثة (4) بن عوف بن أبي حارثة صاحب الحمالة، فهو الذي حمل الدماء بين عبس وذبيان، وشاركه في الحمالة خارجة بن سنان أخو هرم بن   (1) المختار: الجرشي، وقد ضبط المؤلف الاسم برسم صورة الحاء تحت الحرف، كما جرى به الضبط. (2) بضم الذال أو كسرها، وكتب فوقه " معاً " في المسودة. (3) ديوان المتنبي: 105. (4) كذا كتبه المؤلف هنا وقبل أسطر كتبه " الحارث "، والمشهور أن اسمه الحارث. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 140 سنان، وفيهما قال زهير بن أبي سلمى المزني قصائد منها قوله (1) : على مكثريهم حق من يعتريهم ... وعند المقلين السماحة والبذل وهل ينبت الخطي إلا وشيجه ... وتغرس إلا في منابتها النخل هذا آخر ما ذكره في المدرج، وكان قد قدمه إلى الملك المعظم شرف الدين عيسى بن الملك العادل صاحب دمشق، وسمعه عليه هو وولده الملك الناصر صلاح الدين أبو المفاخر داود ابن الملك المعظم، وكتب لهما بسماعهما عليه في آخر رجب سنة تسع عشرة وستمائة، والله أعلم؛ انتهى ما نقلته من المدرج. ورأيت في " تاريخ حلب " الذي جمعه القاضي كمال الدين أبو القاسم عمر بن أحمد المعروف بابن العديم الحلبي بعد أن ذكر الاختلاف في نسبهم فقال: وقد كان المعز إسماعيل بن سيف الإسلام ابن أيوب ملك اليمن ادعى نسباً في بني أمية وادعى الخلافة. وسمعت شيخنا القاضي بهاء الدين عرف بابن شداد يحكي عن السلطان صلاح الدين أنه أنكر ذلك وقال: ليس لهذا أصل أصلاً. قلت: ذكر شيخنا الحافظ عز الدين أبو الحسن علي بن محمد المعروف بابن الأثير الجزري صاحب التاريخ الكبير في تاريخه الصغير الذي صنفه للدولة الأتابكية ملوك الموصل، في فصل يتعلق بأسد الدين شيركوه، ومسيره إلى الديار المصرية فقال (2) : كان أسد الدين شيركوه ونجم الدين أيوب، وهو الأكبر، ابنا شاذي من بلد دوين، وأصلهما من الأكراد الروادية قد قدما العراق، وخدما مجاهد الدين بهروز بن عبد الله الغياثي شحنة بالعراق. (390) قلت: وهذا مجاهد الدين كان خادماً رومياً أبيض اللون تولى شحنة بالعراق من جهة السلطان مسعود بن غياث الدين محمد بن ملكشاه السجلوقي - المقدم   (1) ديوان زهير: 114 - 115. (2) علق ابن المؤلف هنا بأن هذا ورد أيضاً في ترجمة نجم الدين أيوب، قلت: انظر ج 1: 255 وما بعدها؛ وانظر الباهر: 119. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 141 ذكره وذكر والده وجماعة من أهل بيته وكان صاحب همة في عمل المصالح الجليلة وعمارة البلاد، واسع الصدر والصبر في البذول والإنفاقات والمطاولة والمراجعة إذا امتنع عليه الغرض، وكانت تكريت إقطاعاً له، وكان خادم السلطان محمد والد مسعود المذكور، وبنى في بغداد رباطاً وقف عليه وقفاً جيداً، ومات يوم الأربعاء الثالث والعشرين من رجب سنة أربعين وخمسمائة. وبهروز: بكسر الباء الموحدة وسكون الهاء وضم الراء وسكون الواو وبعدها زاي، وهو لفظ عجمي، معناه يوم جيد، على التقديم والتأخير على عادة كلام العجم. قال شيخنا ابن الأثير: فرأى مجاهد الدين في نجم الدين أيوب عقلاً ورأياً حسناً وحسن سيرة، فجعله دزدار تكريت إذ هي له - قلت: دزدار، بضم الدال المهملة وسكون الزاي وفتح الدال المهملة وبعد الألف راء، وهو لفظ عجمي معناه حافظ القلعة، وهو الوالي، ودزه (1) بالعجمي القلعة، ودار: الحافظ - فسار إليها ومعه أخوه أسد الدين شيركوه، فلما انهزم أتابك الشهيد عماد الدين زنكي بالعراق من قراجا - قلت: وهي وقعة مشهورة خلاصتها أن مسعود بن محمد بن ملكشاه السجلوقي، المقدم ذكره، وعماد الدين زنكي صاحب الموصل قصدا حصار بغداد في أيام الإمام المسترشد، فأرسل إلى قراجا الساقي واسمه برس صاحب بلاد فارس وخوزستان، يستنجد به، فأتاه وكبس عسكرهما وانهزما بين يديه وانكسرا. وذكر في تاريخ الدولة السلجوقية أنها كانت في شهر ربيع الآخر يوم الخميس ثاني عشر الشهر المذكور من سنة ست وعشرين وخمسمائة على تكريت. وقال أسامة بن منقذ المقدم ذكره في كتابه الذي ذكر فيه البلاد وملوكها الذين كانوا في زمانه: إنه حضر هذه الوقعة مع زنكي في التاريخ المذكور، ذكر ذلك في موضعين أحدهما في ترجمة إربل، والثاني في ترجمة تكريت -   (1) انظر ج 5: 200. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 142 رجعنا إلى ما كنا فيه: فوصل زنكي إلى تكريت، فخدمه نجم الدين أيوب وأقام له السفن؛ فعبر دجلة هناك وتبعه أصحابه، فأحسن نجم الدين إليهم وسيرهم، وبلغ ذلك بهروز، فسير إليه وأنكر عليه وقال له: كيف ظفرت بعدونا فأحسنت إليه وأطلقته!! ثم إن أسد الدين قتل إنساناً بتكريت لكلام جرى بينهما، فأرسل مجاهد الدين إليهما فأخرجهما من تكريت، فقصدا عماد الدين زنكي - قلت: وكان إذ ذاك صاحب الموصل - قال: فأحسن عماد الدين إليهما وعرف لهما خدمتهما، وأقطعهما إقطاعاً حسناً وصارا من جملة جنده. فلما فتح عماد الدين زنكي بعلبك جعل نجم الدين دزدارها، فلما قتل زنكي - قلت: وقد سبق ذكر ذلك في ترجمته - قال: فحصره عسكر دمشق - قلت: وكان صاحب دمشق يومئذ مجير االدين أبق بن محمد بن بوري ابن الأتابك ظهير الدين طغتكين، وهو الذي حاصره نور الدين محمود بن زنكي في دمشق، وأخذها منه - قال شيخنا ابن الأثير: فأرسل نجم الدين أيوب إلى سيف الدين غازي بن زنكي صاحب الموصل، وقد قام بالملك بعد والده ينهي إليه الحال، ويطلب منه عسكراً ليرحل صاحب دمشق عنه، وكان سيف الدين في ذلك الوقت في أول ملكه (1) ، وهو مشغول بإصلاح ملوك الأطراف المجاورين له، فلم يتفرغ له، وضاق الأمر على من في بعلبك من الحصار، فلما رأى نجم الدين أيوب الحال وخاف أن تؤخذ قهراً أرسل في تسليم القلعة، وطلب إقطاعاً ذكره، فأجيب إلى ذلك، وحلف له صاحب دمشق عليه وسلم القلعة، ووفى له صاحب دمشق بما حلف عليه من الإقطاع والتقدم وصار عنده من أكبر الأمراء، واتصل أخوه أسد الدين شيركوه بالخدمة النورية بعد قتل أبيه زنكي. قلت: هو نور الدين محمود بن زنكي صاحب حلب (2) ، وكان يخدمه في أيام والده، فقربه نور الدين وأقطعه، وكان يرى منه في الحروب آثاراً   (1) المختار: مملكته. (2) زاد في المختار: يومئذ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 143 يعجز عنها غيره لشجاعته وجرأته، فصارت له حمص والرحبة وغيرهما، وجعله مقدم عسكره. قلت: ثم خرج شيخنا ابن الأثير بعد هذا إلى حديث سفر أسد الدين إلى الديار المصرية، وما تجدد لهم هناك، وليس هذا موضع هذا الفصل، بل نتم حديث صلاح الدين هذه الترجمة من مبدأ أمره حتى نصير إلى آخره إن شاء الله تعالى، ويندرج فيه حديث المملكة وما صار حالهم إليه، وإن كان قد سبق في ترجمة أسد الدين شيركوه طرف من أخبارهم، لكن ما استوفيته هناك اعتماداً على استيفائه ها هنا إن شاء الله تعالى. قلت: اتفق أرباب التواريخ أن صلاح الدين مولده سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة بقلعة تكريت لما كان أبوه وعمه بها، والظاهر أنهم ما أقاموا بها بعد ولادة صلاح الدين إلا مدة يسيرة، لأنه قد سبق القول أن نجم الدين وأسد الدين لما خرجا من تكريت، كما شرحناه، وصلا إلى عماد الدين (1) زنكي فأكرمهما وأقبل عليهما، ثم إن عماد الدين زنكي قصد حصار دمشق فلم تحصل له، فرجع إلى بعلبك فحصرها أشهراً، وملكها في رابع عشر صفر سنة أربع وثلاثين وخمسمائة، كما ذكره أسامة بن منقذ المقدم ذكره في كتابه الذي ذكر فيه البلاد وملوكها. وذكر أبو يعلى حمزة بن أسد المعروف بابن القلانسي الدمشقي في تاريخه الذي جعله ذيلاً على تاريخ أبي الحسين هلال ابن الصابي (2) : أن عماد الدين حاصر بعلبك يوم الخميس العشرين من ذي الحجة سنة ثلاث وثلاثين ثم ذكر في مستهل سنة أربع وثلاثين أنه ورد الخبر بفراغ عماد الدين من ترتيب بعلبك وقلعتها وترميم ما تشعث منها، والله أعلم. وإذا كان كذلك فيكون قد خرجوا من تكريت في بقية سنة اثنتين وثلاثين التي ولد فيها صلاح الدين، أو في سنة ثلاث وثلاثين؛ لأنهما أقاما عند عماد الدين بالموصل، ثم لما حاصر دمشق وبعدها بعلبك وأخذها رتب فيها نجم الدين أيوب، وذلك في أوائل سنة أربع وثلاثين،   (1) المختار: اتصلا بخدمة عماد الدين. (2) ذيل تاريخ دمشق: 269، 270. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 144 كما شرحته فيتعين أن يكون خروجهم من تكريت في المدة المذكورة تقديراً، والله أعلم قلت: ثم أخبرني بعض أهل بيتهم، وقد سألته: هل تعرف متى خرجوا من تكريت فقال: سمعت جماعة من أهلنا يقولون: إنهم أخرجوا منها في الليلة التي ولد فيها صلاح الدين، فتشاءموا به وتطيروا منه، فقال بعضهم: لعل فيه الخيرة وما تعلمون، فكان كما قال، والله أعلم. ولم يزل صلاح الدين تحت كنف أبيه حتى ترعرع. ولما ملك نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي دمشق في التاريخ المذكور في ترجمته لازم نجم الدين أيوب خدمته، وكذلك ولده صلاح الدين، وكانت مخايل السعادة عليه لائحة، والنجابة تقدمه من حالة إلى حالة، ونور الدين يرى له ويؤثره، ومنه تعلم صلاح الدين طرائق الخير وفعل المعروف والاجتهاد في أمور الجهاد، حتى تجهز للمسير مع عمه شيركوه إلى الديار المصرية، كما سنشرحه إن شاء الله تعالى. وجدت في بعض تواريخ المصريين أن شاور - المقدم ذكره (1) - هرب من الديار المصرية من الملك المنصور أبي الأشبال ضرغام بن عامر بن سوار الملقب فارس المسلمين اللخمي المنذري لما استولى على الدولة المصرية وقهره وأخذ مكانه في الوزارة كعادتهم في ذلك، وقتل ولده الأكبر طي بن شاور، فتوجه شاور إلى الشام مستغيثاً بالملك العادل نور الدين أبي القاسم محمود بن زنكي، وذلك في شهر رمضان سنة ثمان وخمسين وخمسمائة، ودخل دمشق في الثالث والعشرين من ذي القعدة من السنة، فوجه نور الدين معه الأمير أسد الدين شيركوه بن شاذي في جماعة من عسكره كان صلاح الدين في جملتهم في خدمة عمه، وهو كاره للسفر معهم. وكان لنور الدين في إرسال هذا الجيش غرضان: أحدهما قضاء حق شاور لكونه قصده ودخل عليه مستصرخاً، والثاني أنه أراد استعلام أحوال مصر فإنه كان يبلغه أنها ضعيفة من جهة الجند وأحوالها في غاية الاختلال، فقصد الكشف عن حقيقة ذلك،   (1) انظر ج 2: 439. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 145 وكان كثير الاعتماد على شيركوه لشجاعته ومعرفته وأمانته، فانتدبه لذلك، وجعل أسد الدين شيركوه ابن أخيه صلاح الدين مقدم عسكره، وشاور معهم، فخرجوا من دمشق في جمادى الأولى سنة تسع وخمسين فدخلوا مصر واستولوا على الأمر في رجب من السنة. وقال شيخنا القاضي بهاء الدين أبو المحاسن يوسف المعروف بابن شداد - المقدم ذكره - في كتابه الذي وسمه ب " سيرة صلاح الدين " (1) : إنهم دخلوا مصر في ثاني جمادى الآخرة سنة ثمان وخمسين وخمسمائة، والقول الأول أصح؛ لأن الحافظ أبا طاهر السلفي ذكر في - معجم السفر - أن الضرغام بن سوار قتل في سنة تسع وخمسين وخمسمائة، وزاد غيره فقال: يوم الجمعة الثامن والعشرين من جمادى الآخرة من السنة عند مشهد السيدة نفيسة رضي الله عنها، فيما بين القاهرة ومصر، واحتز رأسه وطيف به على رمح، وبقيت جثته هناك ثلاثة أيام تأكل منها الكلاب، ثم دفن عند بركة الفيل، وعمرت عليه قبة قلت: والقبة إلى الآن باقية في موضعها تحت الكبش (2) المستجد بناؤه، ورأيت فيها جماعة من الفقراء الجوالقية مقيمين. وقد قيل إن الضرغام إنما قتل في رجب من سنة تسع وخمسين، وقد اتفقوا على أن الضرغام إنما قتل عند قدوم أسد الدين شيركوه وشاور إلى مصر، فما يمكن أن يكون دخولهم مصر في سنة ثمان وخمسين. لأن الضرغام لاخلاف في قتله في سنة تسع وخمسين، وأنه كان في أول وصولهم، والحافظ السلفي أخبر بذلك لأنه كان مقيماً في البلاد أول وصولهم، وهو أضبط لهذه الأمور من غيره، لأن هذا فنه، وهو من أقعد الناس به. ولما وصل أسد الدين وشاور إلى الديار المصرية واستولوا عليها وقتلوا   (1) سيرة صلاح الدين: 36. (2) ذكر المقريزي (الخطط 2: 133) أن مناظر الكبش بين بركة الفيل وبركة قارون أنشأها الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الملك الكامل في أعوام بضع وأربعين وستمائة، وظلت بعده من المنازل الملوكية حتى خرب الكبش بعد سنة 768 وظل خرااص لا ساكن فيه حتى سنة 775 ثم بنى فيه الناس دوراً لهم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 146 الضرغام، وحصل لشاور مقصوده وعاد إلى منصبه وتمهدت قواعده واستمرت أموره، غدر بأسد الدين شيركوه واستنجد بالفرنج عليه، وحصروه في بلبيس. وكان أسد الدين قد شاهد البلاد وعرف أحوالها، وأنها مملكة بغير رجال، تمشي الأمور فيها بمجرد الإيهام والمحال، فطمع فيها، وعاد إلى الشام في الرابع والعشرين من ذي الحجة سنة تسع وخمسين، وقال شيخنا ابن شداد: في السابع والعشرين من ذي الحجة سنة ثمان وخمسين، بناء على ما قرره أولاً أن دخولهم البلاد كان في سنة ثمان وخمسين. وأقام أسد الدين بالشام مدة مفكراً في تدبير عوده إلى مصر، محدثاً نفسه بالملك لها، مقرراً قواعد ذلك مع نور الدين، إلى سنة اثنتين وستين وخمسمائة، وبلغ شاور حديثه وطمعه في البلاد فخاف عليها، وعلم أن أسد الدين لابد له من قصدها، فكاتب الفرنج وقرر معهم أنهم يجيئون إلى البلاد ويمكنهم منها تمكيناً كلياً ليعينوه على استئصال أعدائه. وبلغ نور الدين وأسد الدين مكاتبة شاور للفرنج وما تقرر بينهم، فخافا على الديار المصرية أن يملكوها ويملكوا بطريقها جميع البلاد، فتجهز أسد الدين، وأنفذ معه نور الدين العساكر، وصلاح الدين في خدمة عمه أسد الدين. وكان توجههم من الشام في شهر ربيع الأول سنة اثنتين وستين وخمسمائة، وكان وصول أسد الدين إلى البلاد مقارناً لوصول الفرنج إليها. واتفق شاور والمصريين بأسرهم والفرنج على أسد الدين، وجرت حروب كثيرة ووقعات شديدة، وانفصل الفرنج عن البلاد، وانفصل أسد الدين أيضاً راجعاً إلى الشام. وكان سبب عود الفرنج أن نور الدين جرد العساكر إلى بلادهم، وأخذ المنيطرة منهم في رجب من هذه السنة، وعلم الفرنج ذلك فخافوا على بلادهم فعادوا إليها. وكان سبب عود أسد الدين إلى الشام ضعف عسكره بسبب مواقعة الفرنج والمصريين (1) وما عانوه من الشدائد، وعاينوه من الأهوال، وما   (1) المختار: بسبب الحروب التي جرت. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 147 عاد حتى صالح الفرنج على أن ينصرفوا كلهم عن مصر. وعاد إلى الشام في بقية السنة، وقد انضاف إلى قوة الطمع في الديار المصرية شدة الخوف عليها من الفرنج لعلمه بأنهم قد كشفوها كما قد كشفها وعرفوها كما عرفها، فأقام بالشام على مضض وقلبه قلق، والقضاء يقوده إلى شيء قدر لغيره وهو لا يشعر بذلك، وكان عوده في ذي القعدة من هذه السنة إلى الشام، وقيل إنه عاد في ثامن عشر شوال من السنة، والله أعلم (1) . ورأيت في بعض المسودات التي بخطي، ولا أعلم من أين نقلته، أن أسد الدين لما طمع في الديار المصرية توجه إليها في سنة اثنتين وستين، وسلك طريق وادي الغزلان، وخرج عند إطفيح، فكانت فيها وقعه البابين عند الأشمونين، وتوجه صلاح الدين إلى الإسكندرية فاحتمى بها، وحاصره شاور في جمادى الآخرة من السنة، ثم عاد أسد الدين من جهة الصعيد إلى بلبيس، وتم الصلح بينه وبين المصريين، وسيروا له صلاح الدين، فساروا إلى الشام. ثم إن أسد الدين عاد إلى مصر مرة ثالثة، قال شيخنا ابن شداد (2) : " وكان سبب ذلك أن الفرنج جمعوا فارسهم وراجلهم، وخرجوا يريدون الديار المصرية ناكثين لجميع ما استقر مع المصريين وأسد الدين طمعاً في البلاد فلما بلغ ذلك أسد الدين ونور الدين لم يسعهما الصبر دون أن سارعا إلى قصد البلاد، أما نور الدين فبالمال والرجال، ولم يمكنه المسير بنفسه خوفاً على البلاد من الفرنج، ولأنه كان قد حدث له نظر إلى جانب الموصل بسبب وفاة علي بن بكتكين " - قلت: هو زين الدين والد السلطان مظفر الدين كوكبوري صاحب إربل وقد تقدم ذكره في ترجمة ولده كوكبوري - قال: " فإنه توفي في ذي الحجة سنة ثلاث وستين وخمسمائة، وسلم ما كان في يده من الحصون لقطب الدين أتابك ما عدا إربل فإنها كانت له من أتابك زنكي؛ وأما أسد الدين فبنفسه وماله وإخوته وأهله ورجاله. ولقد   (1) وأقام أسد الدين ... أعلم: أكثره منقول عن سيرة صلاح الدين: 37 - 38. (2) سيرة صلاح الدين: 38 - 40. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 148 قال لي السلطان صلاح الدين قدس الله روحه: كنت أكره الناس للخروج في هذه الدفعة وما خرجت مع عمي باختياري، وهذا معنى قوله تعالى (وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم) (البقرة: 216) ". وكان شاور لما أحس بخروج الفرنج إلى مصر على تلك القاعدة سير إلى أسد الدين يستصرخه ويستنجده، فخرج مسرعاً، وكان وصوله إلى مصر في شهر ربيع الأول سنة أربع وستين وخمسمائة. ولما علم الفرنج بوصول أسد الدين إلى مصر على اتفاق بينه وبين أهلها رحلوا راجعين على أعقابهم ناكصين، وأقام أسد الدين بها يتردد إليه شاور في الأحيان، وكان وعدهم بمال في مقابلة ما خسروه من النفقة، فلم يوصل إليهم شيئاً وعلقت مخاليب أسد الدين في البلاد، وعلم أنه متى وجد الفرنج رخصة أخذوا البلاد، وأن شاور يلعب به تارة وبالفرنج أخرى، وملاكها فقد كانوا على البدعة المشهورة، وتحقق أسد الدين أنه لا سبيل إلى الاستيلاء على البلاد مع بقاء شاور، فأجمع رأيه على القبض عليه إذا خرج إليه. وكان الأمراء الواصلون مع أسد الدين يترددون إلى خدمة شاور، وهو يخرج في الأحيان إلى أسد الدين يجتمع به، وكان يركب على عادة وزرائهم بالطبل والبوق والعلم، ولم يتجاسر على قبضه أحد من الجماعة إلا السلطان بنفسه، وذلك أنه لما سار إليهم تلقاه راكباً. وسار إلى جانبه وأخذ بتلابيبه. وأمر العسكر بأن قصدوا أصحابه (1) ، ففروا ونهبهم العسكر. وأنزل شاور إلى خيمة مفردة، وفي الحال ورد توقيع على يد خادم خاص من جهة المصريين يقول: لابد من رأسه، جرياً على عادتهم في وزرائهم. فحز رأسه وأرسل إليهم، وسيروا إلى أسد الدين خلع الوزارة فلبسها، وسار ودخل القصر وترتب وزيراً، وذلك في سابع عشر ربيع الأول سنة أربع وستين وخمسمائة، ودام آمراً وناهياً، والسلطان صلاح الدين رحمه الله تعالى مباشر الأمور مقرر لها لمكان كفايته ودرايته وحسن رأيه وسياسته، إلى الثاني والعشرين من جمادى الآخرة من السنة المذكورة. فمات أسد الدين - قلت: وقد تقدم حديث أسد الدين   (1) في السيرة: وأمر العسكر أن خذوا أصحابه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 149 وصورة موته، فلا حاجة إلى شرحها ها هنا، وكذلك وفاة شاور، وهذا كله نقلته من كلام شيخنا ابن شداد في " سيرة صلاح الدين " ولكنني أتيت منه بالمقصود وحذفت الباقي. ورأيت بخطي في جملة مسوداتي أن أسد الدين دخل القاهرة يوم الأربعاء سابع شهر ربيع الآخر من سنة أربع وستين وخمسمائة، وخرج إليه العاضد عبد الله العبيدي آخر ملوك مصر - المقدم ذكره (1) - وتلقاه، وحضر يوم الجمعة التاسع من الشهر إلى الإيوان، وجلس إلى جانب العاضد وخلع عليه، وأظهر له شاور وداً كثيراً، فطلب منه أسد الدين مالاً ينفقه في عسكره، فدافعه، فأرسل إليه أن الجند تغيرت قلوبهم عليه بسبب عدم النفقة، فإذا خرجت فكن على حذر منهم، فلم يكترث شاور بكلامه، وعزم أن يعمل دعوة يستدعي إليها أسد الدين والعساكر الشامية ويقبض عليهم، فأحس أسد الدين بذلك، فاتفق صلاح الدين وعز الدين جورديك النوري وغيرهما على قتل شاور، وأعلموا أسد الدين فنهاهم عنه. وخرج شاور إلى أسد الدين، وكانت خيامهم على شاطئ النيل بالمقس، فلم يجده في جهته (2) ، وكان قد راح إلى زيارة تربة الإمام الشافعي رضي الله عنه بالقرافة، فقال شاور: نمضي إليه، فالتقوه فساروا جميعاً، فاكتنفه صلاح الدين وجورديك وأنزلاه عن فرسه وكتفوه، فهرب أصحابه، فأخذوه أسيراً، ولم يمكنهم قتله بغير إذن نور الدين، وجعلوه في خيمة ورسموا عليه جماعة، فأرسل العاضد يأمرهم بقتله فقتلوه، وسيروا رأسه على رمح إلى العاضد، وذلك يوم السبت لسبع عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الآخر من السنة المذكورة. وقيل إن أسد الدين لم يحضر ذلك، بل لما قصد شاور جهة أسد الدين لقيه صلاح الدين وجورديك ومعهما بعض العسكر، فسلم بعضهم على بعض وساروا، ثم فعلا به هذه الفعلة، والله أعلم. ثم إن العاضد استدعى أسد الدين عقيب قتل شاور، وكان في الخيم   (1) انظر ج 3: 109. (2) ربما قرئت في المسودة " خيمته ". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 150 فدخل القاهرة، فرأى جمعاً كبيراً من العامة فخافهم فقال لهم: إن مولانا العاضد أمركم بنهب دار شاور، فتفرقوا ومضوا لنهبها، ودخل على العاضد فتلقاه وأفاض عليه خلع الوزارة، ولقبه الملك المنصور أمير الجيوش. ثم إنه مات يوم الأحد لسبع بقين من جمادى الآخرة من السنة المذكورة بعلة الخوانيق، وقيل إنه سم في حنك الوزارة لما خلع عليه. وكانت وفاته بالقاهرة ودفن بدار الوزارة، ثم نقل إلى المدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، فكانت مدة وزارته شهرين وخمسة أيام. وقيل إن أسد الدين دخل على العاضد يوم الاثنين التاسع عشر من شهر ربيع الآخر من السنة المذكورة، والله أعلم. قلت: وقد تقدم في ترجمة كل واحد من شاور وأسد الدين ذكر شيء من هذه الأمور التي ذكرتها ها هنا، وإنما أعدت الكلام فيها لأني استوفيتها ها هنا أكثر من هناك، وأيضاً فإن المقصود في هذا كله ذكر سيرة صلاح الدين وتنقلاته وما جرى له من أول أمره إلى آخره، فأحببت ذكر ذلك على سياقة واحدة كي لا ينقطع الكلام فيبقى أبتر، فأقول: ذكر المؤرخون (1) أن أسد الدين لما مات استقرت الأمور بعده للسلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، وتمهدت القواعد ومشى الحال على أحسن الأوضاع، وبذل الأموال وملك قلوب الرجال، وهانت عنده الدنيا فملكها، وشكر نعمة الله تعالى عليه، فتاب عن الخمر وأعرض عن أسباب اللهو، وتقمص بقميص الجد والاجتهاد، ومازال على قدم الخير وفعل ما يقربه إلى الله تعالى، إلى أن مات. قال شيخنا ابن شداد (2) : " سمعته يقول رحمه الله تعالى: لما يسر لي الله الديار المصرية علمت أنه أراد فتح الساحل لأنه أوقع ذلك في نفسي. ومن حين استتب له الأمر ما زال يشن الغارات على الفرنج إلى الكرك والشوبك وبلادهما   (1) انظر سيرة صلاح الدين: 40. (2) المصدر السابق: 41. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 151 وغشي الناس من سحائب الإفضال والإنعام ما لم يؤرخ من غير تلك الأيام، وهذا كله وهو وزير متابع القوم، لكنه يقول بمذهب أهل السنة، غارس في البلاد أهل الفقه والعلم والتصوف والدين، والناس يهرعون إليه من كل صوب ويفدون عليه من كل جانب، وهو لا يخيب قاصداً ولا يعدم وافداً إلى سنة خمس وستين وخمسمائة ". " ولما عرف نور الدين استقرار أمر السلطان بمصر أخذ حمص من نواب أسد الدين وذلك في رجب سنة أربع وستين ". " ولما علم الفرنج ما جرى من المسلمين وعساكرهم وما تم للسلطان من استقامة الأمر بالديار المصرية، علموا أنه يملك ببلادهم ويخرب ديارهم ويقلع آثارهم، لما حدث له من القوة والملك؛ واجتمع الفرنج والروم جميعاً وقصدوا الديار المصرية، فقصدوا دمياط ومعهم آلات الحصار وما يحتاجون إليه من العدد. ولما سمع فرنج الشام ذلك اشتد أمرهم، فسرقوا حصن عكار من المسلمين وأسروا صاحبها وكان مملوكاً لنور الدين ويقال له خطلخ العلم دار، وذلك في شهر ربيع الآخر من سنة خمس وستين. ولما رأى نور الدين ظهور الفرنج ونزولهم على دمياط قصد شغل قلوبهم، فنزل على الكرك محاصراً لها في شعبان من السنة المذكورة، فقصده فرنج الساحل فرحل عنها وقصد لقاءهم فلم يقفوا له، ثم بلغه وفاة مجد الدين ابن الداية، وكانت وفاته بحلب في شهر رمضان سنة خمس وستين، فاشتغل قلبه لأنه كان صاحب أمره، وعاد يطلب الشام، فبلغه أمر الزلازل بحلب التي أخربت كثيراً من البلاد، وكانت في ثاني عشر شوال منها، فسار يطلب حلب، فبلغه خبر موت أخيه قطب الدين بالموصل - قلت: وقد ذكرت ذلك في ترجمته واسمه مودود (1) - قال: وبلغه الخبر وهو بتل باشر، فسار من ليلته طالباً بلاد الموصل ". " ولما بلغ صلاح الدين قصد الفرنج دمياط واستعد لهم بتجهيز الرجال وجميع   (1) انظر ج 5: 302 - 303. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 152 الآلات إليها، ووعدهم بالإمداد بالرجال إن نزلوا عليهم، وبالغ في العطايا والهبات، وكان وزيراً متحكماً لا يرد أمره في شيء. ثم نزل الفرنج عليها واشتد زحفهم وقتالهم عليها، وهو رحمه الله يشن عليهم الغارات من خارج، والعسكر يقاتلهم من داخل، ونصر الله تعالى المسلمين به وبحسن تدبيره، فرحلوا عنها خائبين، فأحرقت مناجيقهم ونهبت آلاتهم، وقتل من رجالهم خلق كثير، واستقرت قواعد صلاح الدين، وسير طلب والده نجم الدين أيوب ليتم له السرور وتكون قصته مشاكلة لقصة يوسف الصديق عليه السلام، فوصل والده إليه في جمادى الآخرة من سنة خمس وستين قلت: هكذا ذكر ابن شداد تاريخ وصوله إلى مصر، والصواب فيه هو الذي ذكرته في ترجمته (1) - وسلك معه من الأدب ما جرت به عادته، وألبسه الأمر كله، فأبى أن يلبسه وقال: يا ولدي ما اختارك الله لهذا الأمر إلا وأنت كفء له، ولا ينبغي أن يغير موضع السعادة، فحكّمه في الخزائن كلها، ولم يزل وزيراً حتى مات العاضد في التاريخ المقدم ذكره " - قلت أكثر ما ذكرته في هذا الفصل منقول من كلام شيخنا ابن شداد في " سيرة صلاح الدين "، وفيه زوائد من غيرها. والذي ذكره شيخنا الحافظ عز الدين ابن الأثير المذكور قبل هذا في تاريخه الأتابكي (2) أن كيفية ولاية صلاح الدين " أن جماعة من الأمراء النورية الذين كانوا بمصر طلبوا التقدم على العساكر وولاية الوزارة، يعني بعد موت أسد الدين، منهم الأمير عين الدولة الياروقي، وقطب الدين خروا بن تليل وهو ابن أخي أبي الهيجاء الهذباني الذي كان صاحب إربل - قلت: وهو صاحب المدرسة القطبية التي بالقاهرة - ومنهم سيف الدين علي بن أحمد الهكاري، وجده كان صاحب القلاع الهكارية - قلت: وهو المعروف بالمشطوب والد عماد الدين أحمد بن المشطوب، وقد تقدم ذكره في ترجمة مستقلة (3) -   (1) ذكر في ترجمته أنه دخل القاهرة لست بقين من رجب سنة خمس وستين وخمسمائة (1: 257) . (2) التاريخ الباهر: 141 وما بعدها. (3) ترجمة عماد الدين ابن المشطوب في ج 1: 180. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 153 قال: ومنهم شهاب الدين محمود الحارمي، وهو خال صلاح الدين، وكل واحد من هؤلاء يخطبها لنفسه، وقد جمع ليغالب عليها، فأرسل العاضد صاحب مصر إلى صلاح الدين، وأمره بالحضور في قصره ليخلع عليه خلع الوزارة ويوليه الأمر بعد عمه، وكان الذي حمل العاضد على ذلك ضعف صلاح الدين، فإنه ظن أنه إذا ولي صلاح الدين وليس له عسكر ولا رجال كان في ولايته مستضعفاً يحكم عليه ولا يجسر على المخالفة، وأنه يضع على العسكر الشامي من يستميلهم إليه، فإذا صار معه البعض أخرج الباقين، وتعود البلاد إليه، وعنده من العساكر الشامية من يحميها من الفرنج ونور الدين، والقصة مشهورة، أردت عمراً وأراد الله خارجة " - قلت: هذا المثل مشهور بين العلماء وسيأتي الكلام عليه بعد الفراغ من هذه الترجمة إن شاء الله تعالى -. عدنا إلى تمام الكلام الأول: " فامتنع (1) صلاح الدين وضعفت نفسه عن هذا المقتم فألزمه وأخذ كارهاً، إن الله ليعجب من قوم يقادون إلى الجنة بالسلاسل. فلما حضر في القصر خلع عليه خلع الوزارة: الجبة والعمامة وغيرهما، ولقب الملك الناصر وعاد إلى دار أسد الدين فأقام بها، ولم يلتفت إليه أحد من أؤلئك الأمراء الذين يريدون الأمر لأنفسهم ولا خدموه، وكان الفقيه ضياء الدين عيسى الهكاري معه " - قلت: وقد سبق ذكره في ترجمة مفردة (2) - قال ابن الأثير: - فسعى مع سيف الدين علي بن أحمد حتى أماله إليه، وقال له: إن هذا الأمر لا يصل إليك مع وجود عين الدولة والحارمي وابن تليل، فمال إلى صلاح الدين. ثم قصد شهاب الدين الحارمي وقال له: إن هذا صلاح الدين هو ابن أختك وملكه لك، وقد استقام الأمر له، فلا تكن أول من يسعى في إخراجه عنه، ولا يصل إليك، ولم يزل به حتى أحضره أيضاً عنده وحلفه له؛ ثم عدل إلى   (1) النقل مستمر عن التاريخ الأتابكي: 142. (2) انظر ج 3: 497. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 154 قطب الدين وقال له: إن صلاح الدين قد أطاعه الناس، ولم يبق غيرك وغير الياروقي، وعلى كل حال فيجمع بينك وبين صلاح الدين أن أصله من الأكراد فلا يخرج الأمر عنه إلى الأتراك، ووعده وزاد في إقطاعه فأطاع صلاح الدين أيضاً؛ وعدل إلى عين الدولة الياروقي، وكان أكبر الجماعة وأكثرهم جمعاً، فلم تنفعه رقاه ولا نفذ فيه سحره، وقال: أنا لا أخدم يوسف أبداً، وعاد إلى نور الدين ومعه غيره، فأنكر عليهم فراقه، وقد فات الأمر ليقضي الله أمراً كان مفعولاً ". " وثبت قدم صلاح الدين ورسخ ملكه، وهو نائب عن الملك العادل نور الدين، والخطبة لنور الدين في البلاد كلها، ولا يتصرفون إلا عن أمره، وكان نور الدين يكاتب صلاح الدين بالأمير الاصفهسلار (1) ، ويكتب علامته في الكتب تعظماً أن يكتب اسمه، وكان لا يفرده في كتاب، بل يكتب: الأمير الإصفهسلار صلاح الدين وكافة الأمراء بالديار المصرية يفعلون كذا وكذا. واستمال صلاح الدين قلوب الناس، وبذل الأموال مما كان أسد الدين قد جمعه، وطلب من العاضد شيئاً يخرجه فلم يمكنه منعه، فمال الناس إليه وأحبوه، وقويت نفسه على القيام بهذا الأمر والثبات فيه، وضعف أمر العاضد، فكان كالباحث عن حتفه بظلفه ". [قال ابن الأثير في تاريخه الكبير (2) : " وقد اعتبرت التواريخ، ورأيت كثيراً من التورايخ الإسلامية فرأيت كثيراً ممن يبتدئ الملك تنتقل الدولة عن صلبه إلى بعض أهله وأقاربه، منهم في أول الإسلام معاوية بن أبي سفيان أول من ملك من أهل بيته، فانتقل الملك عن أعقابه إلى بني مروان من بني عمه، ثم من بعده السفاح أول من ملك من بني العباس انتقل الملك من أعقابه إلى أخيه المنصور، ثم السامانية أول من استبد فيهم نصر بن أحمد فانتقل الملك عنه إلى أخيه إسماعيل بن أحمد وأعقابه، ثم يعقوب بن الليث الصفار وهو أول   (1) الاصفهسلار (أو الاسفهسلار) : مقدم العسكر. (2) تاريخ ابن الأثير 11: 344. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 155 من ملك من أهل بيته وانتقل الملك عنه إلى أخيه عمرو وأعقابه، ثم عماد الدولة بن بويه أول من ملك من أهل بيته، ثم انتقل الملك عنه إلى أخويه معز الدولة وركن الدولة، ثم السلجوقية أول من ملك منهم طغرل بك ثم انتقل الملك إلى أولاد أخيه داود، ثم هذا شيركوه كما ذكرناه انتقل الملك إلى ولد أخيه نجم الدين أيوب، ولولا خوف الإطاله لذكرنا أكثر من هذا، والذي أظنه السبب في ذلك أن الذي يكون أول دولته يكثر القتل فيأخذ الملك وقلوب من كان فيه متعلقة به، فلهذا يحرم الله أعقابه، ويفعل ذلك لأجلهم عقوبة له ". نعود إلى ذكر صلاح الدين] (1) . " وأرسل (2) صلاح الدين يطلب من نور الدين أن يرسل إليه إخوته فلم يجبه إلى ذلك، وقال: أخاف أن يخالف أحد منهم عليك فتفسد البلاد ". " ثم إن الفرنج اجتمعوا ليسيروا إلى مصر، فسير نور الدين العساكر وفيهم اخوة صلاح الدين، منهم شمس الدولة توران شاه بن أيوب - قلت: وقد تقدم ذكره في ترجمة مستقلة (3) - قال: " وهو أكبر من صلاح الدين، فلما أراد أن يسير قال له نور الدين: إن كنت تسير إلى مصر وتنظر إلى أخيك أنه يوسف الذي كان يقوم في خدمتك وأنت قاعد، فلا تسر فإنك تفسد البلاد، وأحضرك حينئذ وأعاقبك بما تستحقه، وإن كنت تنظر إليه صاحب مصر وقائم مقامي وتخدمه بنفسك كما تخدمني، فسر إليه واشدد أزره وساعده على ما هو بصدده، فقال: أفعل معه من الخدمة والطاعة ما يتصل بك إن شاء الله تعالى، فكان معه كما قال ". ثم قال شيخنا ابن الأثير بعد هذا بأوراق في فصل يتعلق بانقراض الدولة المصرية وإقامة الدولة الدولة العباسية بها في المحرم سنة سبع وستين وخمسمائة فقال (4) :   (1) لم يرد في المسودة. (2) عاد إلى متابعة النقل عن التاريخ الأتابكي: 142. (3) انظر ج 1: 306. (4) الباهر: 156. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 156 قطعت خطبة العاضد صاحب مصر، وخطب فيها للإمام المستضيئ بأمر الله أمير المؤمنين، وكان السبب في ذلك أن صلاح الدين يوسف بن أيوب لما ثبت قدمه في مصر وزال المخالفون له، وضعف أمر العاضد، ولم يبق من العساكر المصرية أحد، كتب إليه الملك العادل نور الدين محمود يأمره بقطع الخطبة العاضدية وإقامة الخطبة العباسية، فاعتذر صلاح الدين بالخوف من وثوب أهل مصر، وامتناعهم من الإجابة إلى ذلك لميلهم إلى دولة المصريين، فلم يصغ نور الدين إلى قوله، وأرسل إليه يلزمه بذلك إلزاماً لا فسحة له فيه، واتفق أن العاضد مرض؛ وكان صلاح الدين قد عزم على قطع الخطبة، فاستشار أمراءه كيف الابتداء بالخطبة العباسية، فمنهم من أقدم على المساعدة وأشار بها، ومنهم من خاف ذلك، إلا أنه لا يمكنه إلا امتثال أمر نور الدين. وكان قد دخل إلى مصر إنسان عجمي يعرف بالأمير العالم، وقد رأيناه بالموصل كثيراً، فلما رأى ما هم فيه من الإحجام قال: أنا أبتدئ بها، فلما كان أول جمعة من المحرم صعد المنبر قبل الخطيب، ودعا للمستضيئ بأمر الله فلم ينكر أحد ذلك، فلما كان الجمعة الثانية أمر صلاح الدين الخطباء بمصر والقاهرة بقطع خطبة العاضد وإقامة الخطبة للمستضيئ بأمر الله، ففعلوا ذلك، ولم يتنطح فيها عنزان، وكتب بذلك إلى سائر ديار (1) المصرية. وكان العاضد قد اشتد مرضه فلم يعلمه أهله وأصحابه بذلك، وقالوا: إن سلم فهو يعلم وإن توفي فلا ينبغي أن ننعض عليه هذه الأيام التي بقيت من أجله (2) ، فتوفي يوم عاشوراء ولم يعلم. ولما توفي جلس صلاح الدين للعزاء، واستولى على قصره وجميع ما فيه، وكان قد رتب فيه قبل وفاة العاضد بهاء الدين قراقوش وهو خصي يحفظه " - قلت: وقد تقدم ذكره في ترجمة أيضاً (3) - قال: " وجعله كأستاذ دار العاضد، فحفظ ما فيه حتى تسلمه صلاح الدين، ونقل أهل العاضد إلى مكان منفرد ووكل بحفظهم، وجعل أولاده وعمومته وأبناءهم   (1) كذا في المسودة؛ وفي المختار والباهر: " الديار ". (2) المختار: عمره. (3) انظر ج 4: 91. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 157 في إيوان في القصر وجعل عندهم من يحفظهم، وأخرج من كان من العبيد والإماء، فأعتق البعض ووهب البعض وباع البعض، وأخلى القصر من أهله وسكانه، فسبحان من لا يزول ملكه، ولا يغيره ممر الأيام وتعاقب الدهور، ولما اشتد مرض العاضد أرسل يستدعي صلاح الدين، فظن أن ذلك خديعة فلم يمض إليه، فلما توفي علم صدقه، فندم على تخلفه عنه ". " وكان ابتداء الدولة العبيدية بإفريقية والمغرب في ذي الحجة سنة تسع وتسعين ومائتين، وأول من ظهر منهم المهدي أبو محمد عبيد الله وبنى المهدية وملك إفريقية كلها " - قلت: هكذا ذكر شيخنا ابن الأثير تاريخ استيلاء المهدي عبيد الله على إفريقية، والصواب فيه هو الذي ذكرته في ترجمته فيكشف منه (1) - ثم إنه قال: " ولما مات المهدي عبيد الله قام بالأمر بعده ولده القائم أبو القاسم محمد " ثم ذكرهم واحداً واحداً حتى انتهى إلى العاضد المذكور فقال: - " وانقرضت دولتهم، فكانت مدة دولتهم مائتي سنة وستاً وستين سنة، وكان مقامهم بمصر مائتي سنة وثماني سنين، وملك منهم أربعة عشر وهم: المهدي والقائم والمنصور والمعز والعزيز والحاكم والظاهر والمستنصر والمستعلي والآمر والحافظ والظافر والفائز والعاضد آخرهم " - قلت: وقد ذكرت كل واحد من هؤلاء بترجمة مستقلة في هذا الكتاب فمن اختار الوقوف على أحوالهم فليطلبه في اسمه، ولا حاجة إلى ذكره ها هنا قال شيخنا ابن الأثير: " وقد أتينا على ذكر ما أجملناه مستقصى في التاريخ الكبير " يعني كتابه الذي سماه " الكامل " وهو مشهور، ومن أنفع الكتب في بابه. قال (2) : " ولما استولى صلاح الدين على القصر وأمواله وذخائره اختار منه ما أراد ووهب أهله وأمراءه، وباع منه كثيراً، وكان فيه من الجواهر والأعلاق النفيسة ما لم يكن عند ملك من الملوك، قد جمع على طول السنين وممر الدهور، فمنه القضيب الزمرذ، طوله نحو قبضة ونصف، والجبل   (1) ذكر في ترجمته (3: 119) أنه دعي له سنة سبع وتسعين ومائتين. (2) الباهر: 157. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 158 الياقوت وغيرهما، ومن الكتب المنتخبة بالخطوط المنسوبة والخطوط الجيدة نحو مائة ألف مجلد ". " ولما خطب للمستضيء بأمر الله بمصر أرسل نور الدين إليه يعرفه ذلك، فحل عنده أعظم محل، وسير إليه الخلع الكاملة مع عماد الدين صندل المقتفوي إكراماً له، لأن عماد الدين كان كبير المحل في الدولة العباسية، وكذلك أيضاً سير خلعاً لصلاح الدين، إلا أنها أقل من خلع نور الدين، وسيرت الأعلام السود لتنصب على المنابر، وكانت هذه أول أهبة عباسية دخلت مصر بعد استيلاء العبيديين عليها "؛ انتهى ما قاله شيخنا ابن الأثير. قلت: ولما وصل الخبر إلى الإمام المستضيء بأمر الله أبي محمد الحسن بن الإمام المستنجد، وهو والد الإمام الناصر لدين الله، بما تجدد من أمر مصر وعود الخطبة والسكة بها باسمه، بعد انقطاعها بمصر هذه المدة الطويلة، نظم أبو الفتح محمد سبط ابن التعاويذي - المقدم ذكره (1) - قصيدة طنانة مدح بها الإمام المستضيء، وذكر هذا الفتوح المتجدد له، وفتوح بلاد اليمن أيضاً، وهلاك الخارجي بها الذي سمى نفسه المهدي وذلك في سنة إحدى وسبعين وخمسمائة، وكان صلاح الدين قد أرسل له من ذخائر مصر وأسلاب المصريين شيئاً كثيراً، وأولها (2) : قل للسحاب إذا مرته يد الجنائب فارجحن ... عج باللوى فاسمح بدمعك للمعاهد والدمن ... يا منزل الأنس الجميع وملعب الحي الأغن ... سكنت بك الآرام من ... بعد الأحبة والسكن أين استقلت بالحبيب ركابه ومتى ظعن ... شوقي إلى زمن الحمى ... سقي الغوادي من زمن   (1) انظر ج 4: 466. (2) لم ترد في ديوان التعاويذي المطبوع. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 159 شوق المغرب شردته يد البعاد عن الوطن ... ولقد عهدتك والزما ... ن بشملنا بك ما فطن وثراك ما اغبرت مسا ... رحه وماؤك ما أجن وظباؤك الأتراب لي ... وطر، وتربك لي وطن لام العذول وما درى ... وجدي وبلبالي بمن وجدي بمن فضح القضيب وأخجل الرشأ الأغن ... ما ضر من هو فتنتي ... لو كان يرحم من فتن دمعي طليق في محب ... ته وقلبي مرتهن يا محنتي أودى الصدو ... د بعاشق بك ممتحن غادرته وقفاً على العبرات بعدك والحزن ... كلف الفؤاد معذباً ... بين الإقامة والظعن عطفاً على قرح الجفو ... ن بعيد عهد بالوسن (1) لا تبخلي فالبخل يذ ... هب بهجة الوجه الحسن ولرب ليل بت فيه صريع باطية ودن ... أختال من مرح وأسحب فضل ذيلي والردن ... مع مخطف لدن القوا ... م إذا انثنى رخص البدن لكنني كفرت ليلة زرته عني وعن ... بمدائحي للمستضي ... ء أبي محمد الحسن المستقر من الخلا ... فة في الشواهق والقنن ومنها: يا جارياً في العدل من ... سنن النبي على سنن يا جامعاً خلق النبو ... ة والخلافة في قرن   (1) المختار: بالوطن. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 160 دانت لهيبتك المما ... لك والمعاقل والمدن بالمشرفيات الصوا ... رم والمثقفة اللدن وأتتك أسلاب الملو ... ك من الصعيد إلى عدن سلب الدعي بأرض مصر والمضلل في اليمن ... مما اقتناه ذو رعين في القديم وذو يزن ... وشفيت منهم بالظبا ... تلك الضغائن والاحن لم تغن عنهم حين رعتهم الحصون ولا الجنن ... أمست سباياهم تقا ... د أذلة قود البدن غادرت عرض بلادهم ... غرض النوائب والمحن في كل يوم من جيو ... شك غارة فيها تشن وأعدت سر الأوليا ... ء المؤمنين بها علن ورحضت ما أبقته آ ... ثار الخوارج (1) من درن فكأن دعوتهم على ... تلك المنابر لم تكن وهي طويلة فنقتصر منها على هذا القدر ففيه كفاية. ومدحه أيضاً بقصيدة أخرى أشار فيها إلى هذا المعنى، وليس على خاطري من هذه القصيدة سوى غزلها فأحببت ذكره لكونه في غاية الحسن واللطافة، وهو (2) : أهلا بطلعة زائر ... فضح الدجى بضيائها سمح الزمان بوصلها ... فدنت على عدوائها (3) باتت تعاطيني المدا ... م وكنت من أكفائها فسكرت من ألحاظها ... وغنيت عن صهبائها بيضاء قتلي دأبها ... في نأيها وثوائها   (1) ر: وملكتها ورخصت ما أبقى الخوارج ... (2) انظر ديوان التعاويذي: 471. (3) بهامش المسودة بخط المؤلف: العدواء: البعد، والعدواء أيضاً الاشغال المانعة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 161 فإذا دنت بجفونها ... وإذا نأت بجفائها لا تلتقي أبداً موا ... عدها بيوم وفائها الشمس من ضراتها ... والبدر من رقبائها والصبح فوق لثامها ... والليل تحت ردائها مضرية تنمى إذا انتسبت إلى حمرائها ... باتت وأطراف الرما ... ح تجول حول خبائها فالموت دون فراقها ... والموت دون لقائها ولقد مررت بربعها ... بعد النوى وفنائها والعين في الأطلال سا ... كنة على أطلائها فوقفت أنشد في مطا ... لعها بدور سمائها وبكيت حتى كدت أعطف بانتي جرعائها ... يا موحش العين التي ... أنست بطول بكائها غادرت بين جوانحي ... نفساً تموت بدائها تشتاق عيني أن ترا ... ك وأنت في سودائها فإذا بخلت بنظرة ... سمحت بجمة مائها فكأنها كف الخليفة أسبلت بعطائها ... وبعد هذا شرع في المديح وأبدع فيها جميعها. وسأذكر بعد هذا عند أواخر هذه الترجمة شيئاً من مدائحه في صلاح الدين إن شاء الله تعالى، فقد كان يسير قصائده إليه من بغداد فتصل أولاً إلى القاضي الفاضل، ومعها مديح للفاضل، وهو الذي يعرض قصائده على صلاح الدين، رحمه الله تعالى. ثم ذكر شيخنا ابن الأثير بعد هذا فصلاً يتضمن حصول الوحشة بين نور الدين وصلاح الدين باطناً فقال (1) : " وفي سنة سبع وستين أيضاً حدث   (1) ابن الأثير 11: 371 - 373 والباهر: 158 والنقل عن الثاني، والنص في ر أقرب إلى " الكامل ". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 162 ما أوجب نفرة نور الدين عن صلاح الدين، وكان الحادث أن نور الدين أرسل إلى صلاح الدين يأمره بجمع العساكر المصرية والمسير بها إلى بلد الفرنج والنزول على الكرك ومحاصرته ليجمع هو أيضاً عساكره ويسير إليه، ويجتمعا هناك على حرب الفرنج والاستيلاء على بلادهم؛ فبرز صلاح الدين من القاهرة في العشرين من المحرم، وكتب إلى نور الدين يعرفه أن رحيله لا يتأخر. وكان نور الدين قد جمع عساكره وتجهز، وأقام ينتظر ورود الخبر من صلاح الدين برحيله ليرحل هو، فلما أتاه الخبر بذلك رحل من دمشق عازماً على قصد الكرك، فوصل إليه وأقام ينتظر وصول صلاح الدين إليه، فأرسل كتابه يعتذر فيه عن الوصول باختلال البلاد [المصرية لأمور بلغته عن بعض شيعة العلويين، وأنهم عازمون على الوثوب بها] (1) وأنه يخاف عليها مع البعد عنها فعاد إليها، فلم يقبل نور الدين عذره. وكان سبب تقاعده أن أصحابه وخواصه خوفوه من الاجتماع بنور الدين. فحيث لم يمتثل فحيث لم يمتثل أمر نور الدين شق ذلك عليه وعظم عنده، وعزم على الدخول إلى مصر وإخراج صلاح الدين عنها، فبلغ الخبر إلى صلاح الدين، فجمع أهله، وفيهم والده نجم الدين أيوب وخاله شهاب الدين الحارمي، ومعهم سائر الأمراء، وأعلمهم ما بلغه عن عزم نور الدين على قصده وأخذ مصر منه، واستشارهم فلم يجبه أحد منهم بشيء، فقام تقي الدين عمر ابن أخي صلاح الدين - قلت: وقد تقدم ذكره في ترجمة مستقلة (2) - قال: وقال: إذا جاء قاتلناه وصددناه عن البلاد، ووافقه غيره من أهله، فشتمهم نجم الدين أيوب وأنكر ذلك واستعظمه، وكان ذا رأي ومكر وعقل، وقال لتقي الدين: اقعد، وسبه، وقال لصلاح الدين: أنا أبوك وهذا شهاب الدين خالك، أتظن أن في هؤلاء كلهم من يحبك ويريد لك الخير مثلنا فقال: لا، فقال: والله لو رأيت أنا وهذا خالك شهاب الدين نور الدين لم يمكنا إلا أن نترجل له ونقبل الأرض بين يديه، ولو أمرنا أن نضرب عنقك   (1) لم يرد في المسودة. (2) ج 3: 456. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 163 بالسيف لفعلنا، فإذا كنا نحن هكذا كيف يكون غيرنا وكل من تراه من الأمراء والعساكر لو رأى نور الدين وحده لم يتجاسر على الثبات على سرجه، ولا وسعه إلا النزول وتقبيل الأرض بين يديه. وهذه البلاد له وقد أقامك فيها، وإن أراد عزلك فأي حاجة له إلى المجيء يأمرك بكتاب مع نجاب حتى تقصد خدمته ويولي بلاده من يريد، وقال للجماعة كلهم: قوموا عنا، ونحن مماليك نور الدين وعبيده يفعل بنا ما يريد، فتفرقوا على هذا. وكتب أكثرهم إلى نور الدين بالخبر ". " ولما خلا أيوب بابنه صلاح الدين قال له: أنت جاهل قليل المعرفة، تجمع هذا الجمع الكثير وتطلعهم على ما في نفسك، فإذا سمع نور الدين أنك عازم على منعه عن البلاد جعلك أهم الأمور إليه، وأولاها بالقصد، ولو قصدك لم تر معك أحداً من هذا العسكر وكانوا أسلموك إليه، وأما الآن بعد هذا المجلس فسيكتبون إليه ويعرفونه قولي، وتكتب أنت إليه وترسل في المعنى، وتقول: أي حاجة إلى قصدي يجيء نجاب يأخذني بحبل يضعه في عنقي، فهو إذا سمع هذا عدل عن قصدك واستعمل ما هو أهم عنده، والأيام تندرج، والله في كل وقت في شان [والله لو أراد نور الدين قصبة من قصب سكرنا لقاتلته أنا عليها حتى أمنعه أو أقتل] (1) ففعل صلاح الدين ما أشار به والده. فلما رأى نور الدين الأمر هكذا عدل عن قصده، وكان الأمر كما قال نجم الدين أيوب. وتوفي نور الدين ولم يقصده، وهذا كان من أحسن الآراء وأجودها "؛ انتهى ما ذكره ابن الأثير. وقال شيخنا ابن شداد في " السيرة " (2) : لم يزل صلاح الدين على قدم بسط العدل ونشر الإحسان، وإفاضة الإنعام على الناس إلى سنة ثمان وستين وخمسمائة، فعند ذلك خرج بالعسكر يريد بلاد الكرك والشوبك، وإنما بدأ بها لأنها كانت أقرب إليه، وكانت في الطريق تمنع من يقصد الديار المصرية، وكان لا يمكن أن تعبر قافلة حتى يخرج هو بنفسه يعبرها، فأراد   (1) لم يرد في المسودة والمختار والتاريخ الباهر. (2) السيرة: 45. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 164 توسيع الطريق وتسهيلها، فحاصرها في هذه السنة، وجرى بينه وبين الفرنج وقعات، وعاد ولم يظفر منها بشيء، ولما عاد بلغه خبر وفاة والده نجم الدين أيوب قبل وصوله إليه " - قلت: وقد ذكرت تاريخ وفاته في ترجمته - قال (1) : " ولما كانت سنة تسع وستين رأى قوة عسكره وكثرة عدده، وكان بلغه أن باليمن إنساناً استولى عليها وملك حصونها، يسمى عبد النبي بن مهدي، فسير أخاه توران شاه، فقتله وأخذ البلاد منه " - وقد بسطت القول في ذلك في ترجمته - ثم توفي نور الدين في سنة تسع وستين حسبما شرحته في ترجمته فلا حاجة إلى الإعادة. وبلغ صلاح الدين أن إنساناً يقال له " الكنز " جمع بأسوان خلقاً عظيماً من السودان، وزعم أنه يعيد الدولة المصرية، وكان أهل مصر يؤثرون عودهم، فانضافوا إلى الكنز المذكور، فجهز صلاح الدين إليه جيشاً كثيفاً وجعل مقدمه أخاه الملك العادل، وساروا فالتقوا وكسروهم، وذلك في السابع من صفر سنة سبعين وخمسمائة، واستقرت له قواعد الملك. وكان (2) نور الدين رحمه الله قد خلف والده الملك الصالح إسماعيل - المذكور في ترجمة أبيه - وكان بدمشق عند وفاة أبيه، وكان بقلعة حلب شمس الدين علي بن الداية وشاذبخت، وكان ابن الداية قد حدث نفسه بأمور، فسار الملك الصالح من دمشق إلى حلب، فوصل إلى ظاهرها في المحرم من سنة سبعين، ومعه سابق الدين، فخرج بدر الدين حسن بن الداية فقبض على سابق الدين، ولما دخل الملك الصالح القلعة قبض على شمس الدين وأخيه حسن المذكور وأودع الثلاثة السجن، وفي ذلك اليوم قتل أبو الفضل بن الخشاب لفتنة جرت بحلب، وقيل بل قتل قبل قبض أولاد الداية بيوم، لأنهم تولوا تدبير ذلك. ثم (3) إن صلاح الدين بعد وفاة نور الدين علم أن والده الملك الصالح صبي   (1) السيرة: 46. (2) السيرة: 49. (3) السيرة: 50. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 165 لا يستقل بالأمر ولا ينهض بأعباء الملك، واختلفت الأحوال بالشام، وكاتب شمس الدين بن المقدم صلاح الدين، فتجهز (1) من مصر في جيش كثيف، وترك بها من يحفظها، وقصد دمشق مظهراً أنه يتولى مصالح الملك الصالح، فدخلها بالتسليم في يوم الثلاثاء سلخ شهر ربيع الآخر سنة سبعين وخمسمائة وتسلم قلعتها، وكان أول دخوله دار أبيه - قلت: وهي الدار المعروفة بالشريف العقيقي، وهي اليوم في قبالة المدرسة العادلية مشهورة هناك بالعقيقي - قال: واجتمع الناس إليه وفرحوا به، وأنفق في ذلك اليوم مالاً جليلاً (2) وأظهر السرور بالدمشقيين، وصعد القلعة، وسار إلى حلب فنازل حمص وأخذ مدينتها في جمادى الأولى من السنة ولم يشتغل بقلعتها، وتوجه إلى حلب ونازلها في يوم الجمعة سلخ جمادى الأولى من السنة، وهي الوقعة الأولى. ثم إن سيف الدين غازي بن قطب الدين مودود بن عماد الدين زنكي صاحب الموصل لما أحس بما جرى علم أن الرجل قد استفحل أمره وعظم شأنه، وخاف إن غفل عنه استحوذ على البلاد واستقرت قدمه في الملك وتعدى الأمر إليه، فأنفذ عسكراً وافراً وجيشاً عظيماً وقدم عليه أخاه عز الدين مسعود بن قطب الدين مودود، وساروا يريدون لقاءه ليردوه عن البلاد، فلما بلغ صلاح الدين ذلك رحل عن حلب في مستهل رجب من السنة عائداً إلى حماة، ورجع إلى حمص فأخذ قلعتها، ووصل عز الدين مسعود إلى حلب وأخذ عسكر معه ابن عمه الملك الصالح بن نور الدين صاحب حلب يومئذ، وخرجوا في جمع عظيم، فلما عرف صلاح الدين بمسيرهم سار حتى وافاهم على قرون حماة، وراسلهم وراسلوه واجتهد أن يصالحوه فما صالحوه، ورأوا أن ضرب المصاف معه ربما نالوا به غرضهم، والقضاء يجر إلى أمور وهم بها لا يشعرون، فتلاقوا فقضى الله تعالى أن انكسروا بين يديه، وأسر جماعة منهم فمن عليهم، وذلك في تاسع شهر رمضان من   (1) المختار: فخرج. (2) المختار: جزيلا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 166 السنة عند قرون حماة. ثم سار عقيب كسرتهم ونزل على حلب، وهي الدفعة الثانية، فصالحوه على أخذ المعرة وكفر طاب وبارين، ولما جرت هذه الوقعة كان سيف الدين غازي يحاصر أخاه عماد الدين زنكي صاحب سنجار، وعزم على أخذها منه، لأنه كان قد انتمى إلى صلاح الدين، وكان قد قارب أخذها، فلما بلغه الخبر وأن عسكره انكسر خاف أن يبلغ أخاه عماد الدين الخبر فيشتد أمره ويقوى جأشه، فراسله وصالحه. ثم سار من وقته إلى نصيبين واهتم بجمع العساكر والإنفاق فيها، وسار إلى البيرة وعبر الفرات، وخيم على الجانب الشامي، وراسل ابن عمه الصالح بن نور الدين صاحب حلب حتى تستقر له قاعدة يصل عليها، ثم إنه وصل إلى حلب وخرج الملك الصالح إلى لقائه، وأقام على حلب مدة وصعد قلعتها جريدة، ثم نزل وسار إلى تل السلطان - قلت: وهي منزلة بين حماة وحلب - قال: ومعه جمع كبير، وأرسل صلاح الدين إلى مصر طلب عسكرها، فوصل إليه، وسار به حتى نزل على قرون حماة (1) ، ثم تصافوا بكرة نهار الخميس العاشر من شوال سنة إحدى وسبعين، وجرى قتال عظيم وانكسرت مسيرة صلاح الدين بمظفر الدين بن زين الدين - قلت: هو صاحب إربل المقدم ذكره (2) - قال: فإنه كان على ميمنة سيف الدين، فحمل صلاح الدين بنفسه فانكسر القوم، وأسر منهم جمعاً من كبار الأمراء فمن عليهم وأطلقهم، وعاد سيف الدين إلى حلب فأخذ منها خزائنه وسار حتى عبر الفرات وعاد إلى بلاده. ومنع صلاح الدين من تتبع القوم، ونزل في بقية ذلك اليوم في خيامهم، فإنهم تركوا أثقالهم وانهزموا، ففرق صلاح الدين الاصطبلات ووهب الخزائن وأعطى خيمة سيف الدين لابن أخيه عز الدين فرخشاه - قلت: هو ابن شاهان شاه بن أيوب، وهو أخو تقي الدين عمر صاحب حماة وفرخشاه صاحب بعلبك وهو والد الملك الأمجد بهرام شاه، صاحب بعلبك -. قال: وسار إلى منبج فتسلمها، ثم سار إلى قلعة عزاز يحاصرها، وذلك   (1) في متن المسودة: على تل السلطان، وفي الحاشية: على قرون حماة. (2) انظر ج 4: 113. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 167 في رابع ذي القعدة من سنة إحدى وسبعين، وعليها وثب جماعة من الإسماعيلية على صلاح الدين فنجاه الله سبحانه منهم وظفره بهم، وأقام عليها حتى أخذها في رابع عشر ذي الحجة من السنة، ثم سار فنزل على حلب في سادس عشر الشهر المذكور، وأقام عليها مدة ثم رحل عنها، وكانوا قد اخرجوا له ابنة صغيرة لنور الدين سألته عزاز فوهبها لها، ثم عاد صلاح الدين إلى مصر ليتفقد أحوالها، وكان مسيره إليها في شهر ربيع الأول من سنة اثنتين وسبعين، وكان أخوه شمس الدولة توران شاه قد وصل إليه من اليمن فاستخلفه بدمشق. ثم تأهب للغزاة وخرج يطلب الساحل حتى وافى الفرنج على الرملة، وذلك في أوائل جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين، وكانت الكسرة على المسلمين في ذلك اليوم - قلت: وذلك لأمر يطول شرحه - قال: فلما انهزموا لم يكن لهم حصن قريب يأوون إليه، فطلبوا جهة الديار المصرية وضلوا في الطريق، وتبددوا وأسر منهم جماعة منهم الفقيه عيسى الهكاري وكان ذلك وهناً عظيماً جبره الله تعالى بوقعة حطين المشهورة. وأما الملك الصالح صاحب حلب فإنه تخبط أمره، وقبض على كمشتكين صاحب دولته، وطلب منه تسليم حارم إليه فلم يفعل، فقتله، فلما سمع الفرنج بقتله نزلوا على حارم طمعاً فيها، وذلك في جمادى الآخرة من السنة، فلما رأى أهل قلعتها الخطر من جهة الفرنج سلموها إلى الملك الصالح في العشر الأواخر من شهر رمضان من السنة، فرحل الفرنج عنها. وأقام صلاح الدين بمصر حتى لم شعثه وشعث أصحابه من أثر كسرة الرملة، ثم بلغه تخبط الشام فعزم على العود إليه، واهتم بالغزاة فوصله رسول قليج أرسلان صاحب الروم يلتمس الصلح ويتضرر من الأرمن، فعزم على قصد بلاد ابن لاون - قلت: وهي بلاد سيس الفاضلة بين حلب والروم من جهة الساحل - قال: لينصر قليج أرسلان عليه، فتوجه إليه واستدعى عسكر حلب لأنه كان في الصلح أنه متى استدعاه حضر إليه، ودخل بلد ابن لاون، وأخذ في طريقه حصناً وأخربه، ورغبوا إليه في الصلح فصالحهم ورجع عنهم. ثم سأله قليج أرسلان في صلح الشرقيين بأسرهم فأجاب إلى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 168 ذلك، وحلف صلاح الدين في عاشر جمادى الأولى سنة ست وسبعين وخمسمائة، ودخل في الصلح قليج أرسلان والمواصلة وعاد بعد تمام الصلح إلى دمشق ثم منها إلى مصر. ثم توفي الملك الصالح بن نور الدين في التاريخ المذكور في ترجمة والده، وكان قد استحلف أمراء حلب وأجنادها لابن عمه عز الدين مسعود صاحب الموصل - قلت: وقد تقدم ذكره، وهو ابن قطب الدين مودود (1) - فلما مات سيف الدين في التاريخ المذكور في ترجمته قام مقامه أخوه عز الدين مسعود المذكور - قال: فلما بلغ عز الدين خبر موت الملك الصالح وأنه أوصى له بحلب بادر إلى التوجه إليها خوفاً أن يسبقه صلاح الدين فيأخذها، فكان أول قادم إليها مظفر الدين بن زين الدين - قلت: هو صاحب إربل، وكان إذ ذاك صاحب حران، وهو مضاف إلى المواصلة لأن تلك البلاد كانت لهم - قال: فوصلها مظفر الدين في ثالث شعبان سنة سبع وسبعين، وفي العشرين منه وصلها عز الدين مسعود وصعد إلى القلعة فاستولى على ما فيها من الحواصل، وتزوج أم الملك الصالح في خامس شوال من السنة. قلت: ثم إن شيخنا ابن شداد ذكر بعد هذا أموراً ذكرتها في ترجمة عز الدين مسعود بن مودود وترجمة أخيه عماد الدين زنكي وترجمة تاج الملوك بوري أخي صلاح الدين، فلا حاجة إلى إعادتها ها هنا، فمن أراد الوقوف عليها يكشفها في هذه التراجم (2) . قلت: وحاصل الأمر أن عز الدين مسعوداً قايض أخاه عماد الدين زنكي   (1) انظر ج 5: 203. (2) انظر 5: 203، 2: 330، 1: 290. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 169 صاحب سنجار عن حلب بسنجار، وخرج عز الدين عن حلب ودخلها عماد الدين زنكي فجاءه صلاح الدين وحاصره، فلم يقدر عماد الدين على حفظ حلب، وكان نزول صلاح الدين على حلب في السادس والعشرين من المحرم سنة تسع وسبعين وخمسمائة. وقال ابن شداد: نزل عليها في سادس عشر المحرم، والله أعلم. فتحدث عماد الدين زنكي مع الأمير حسام الدين طمان بن غازي بن يلمي بن تنجول من جبل سلور بحلب في السر بما يفعله، فأشار عليه بأن يطلب منه بلاداً وينزل له عن حلب، بشرط أن يكون له جميع ما في القلعة من الأموال، فقال له عماد الدين: وهذا كان في نفسي. ثم اجتمع حسام الدين طمان بصلاح الدين في السر على تقرير القاعدة في ذلك، فأجابه صلاح الدين إلى ما طلب، ودفع له سنجار والخابور ونصيبين وسروج، ودفع لطمان الرقة لسفارته بينهما، وحلف صلاح الدين على ذلك في سابع عشر صفر من السنة. وكان صلاح الدين قد نزل على سنجار وأخذها في ثامن شهر رمضان سنة ثمان وسبعين وأعطاها لابن أخيه تقي الدين عمر، فلما جرى الصلح على هذه الصورة أعطاها عماد الدين، وتسلم صلاح الدين قلعة حلب وصعد إليها يوم الاثنين السابع والعشرين من صفر سنة تسع وسبعين وخمسمائة، وأقام بها حتى رتب أمورها ثم رحل عنها في الثاني والعشرين من شهر ربيع الآخر من السنة، وجعل فيها ولده الملك الظاهر - المقدم ذكره في ترجمة مستقلة (1) - وكان صبياً، وولى القلعة سيف الدين يازكوج الأسدي وجعله يرتب مصالح ولده. ثم سار صلاح الدين إلى دمشق في التاريخ المذكور؛ قال ابن شداد: وتوجه من دمشق لقصد محاصرة الكرك في الثالث من رجب من السنة، وسير إلى أخيه الملك العادل وهو بمصر يستدعيه ليجتمع به على الكرك، فسار إليه بجمع كثير وجيش عظيم، واجتمع به على الكرك في رابع شعبان من السنة، فلما بلغ الفرنج الخبر حشدوا خلقاً كثيراً، وجاءوا إلى الكرك ليكونوا في   (1) انظر ج 4: 6 وهو غازي الملقب أيضاً غياث الدين. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 170 قبالة عسكر المسلمين، فخاف صلاح الدين على الديار المصرية، فسير إليها ابن أخيه تقي الدين عمر. ورحل عن الكرك في سادس عشر شعبان من السنة، واستصحب أخاه الملك العادل معه، ودخل دمشق في الرابع والعشرين من شعبان من السنة، وأعطاه حلب، ودخلها في يوم الجمعة الثاني والعشرين من شهر رمضان من السنة، وخرج الملك الظاهر ويازكوج ودخلا دمشق في يوم الإثنين الثامن والعشرين من شوال من السنة. وكان الملك الظاهر أحب أولاده إليه لما فيه من الخلال الحميدة، ولم يأخذ منه حلب إلا لمصلحة رآها في ذلك الوقت، وقيل إن العادل أعطاه على أخذ حلب ثلثمائة ألف دينار يستعين بها على الجهاد، والله أعلم. ثم إن صلاح الدين رأى أن عود الملك العادل إلى مصر وعود الملك الظاهر إلى حلب أصلح؛ قيل كان سبب ذلك أن الأمير علم الدين سليمان بن جندر قال لصلاح الدين - وكان بينهما مؤانسة قبل أن يتملك البلاد، وقد سايره يوماً، وكان من أمراء حلب، والملك العادل لا ينصفه ويقدم عليه غيره، وكان صلاح الدين قد مرض على حصار الموصل وحمل إلى حران وأشفى على الهلاك، فلما عوفي رجع إلى الشام، واجتمعا على المسير، قال له وكان صلاح الدين، قد أوصى لكل واحد من أولاده بشيء من البلاد -: بأي رأي كنت تظن أن وصيتك تمضى، كأنك كنت خارجاً إلى الصيد وتعود فلا يخالفونك أما تستحي أن يكون الطائر أهدى منك إلى المصلحة قال: وكيف ذاك وهو يضحك، قال: إذا أراد الطائر أن يعمل عشاً لفراخه قصد أعالي الشجر ليحمي فراخه، وأنت سلمت الحصون إلى أهلك، وجعلت أولادك على الأرض: هذه حلب، وهي أم البلاد، بيد أخيك، وحماة بيد ابن أخيك تقي الدين، وحمص بيد ابن (1) أسد الدين، وابنك الأفضل مع تقي الدين بمصر يخرجه متى شاء، وابنك الآخر مع أخيك في خيمة يفعل به ما أراد، فقال له: صدقت، واكتم هذا الأمر، ثم أخذ حلب من أخيه وأعطاها ابنه الملك الظاهر، وأعطى الملك العادل بعد ذلك حران والرها   (1) المختار: بيد ابن ابن عمك. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 171 وميافارقين ليخرجه من الشام ويتوفر الشام على أولاده، فكان ما كان. قلت: وقد تقدم في ترجمة عز الدين مسعود بن قطب الدين مودود صاحب الموصل فصل يتعلق بنزول صلاح الدين على الموصل وحصارها ثلاث مرار، ولم يقدر عليها. قال شيخنا ابن الاثير في تاريخه (1) : إنه نزل عليها في الدفعة الثالثة وكان زمن الشتاء، وعزم على المقام وإقطاع جميع بلاد الموصل، وكان نزوله في شعبان من سنة إحدى وثمانين وخمسمائة، فأقام شعبان وشهر رمضان، وترددت الرسل بينه وبين صاحبها. فبينما هو كذلك مرض صلاح الدين فعاد إلى حران. ولحقته الرسل بالإجابة إلى ما طلب. وتم الصلح على أن يسلم إليه صاحب الموصل شهرزور وأعمالها وولاية القرابلي (2) وما وراء الزاب من الأعمال، وأن يخطب له على المنابر وينقش اسمه على السكة، فلما حلف أرسل صلاح الدين نوابه وتسلم البلاد التي استقرت القاعدة على تسليمها. وطال المرض على صلاح الدين بحران. واشتد به. حتى أيسوا منه، فحلف الناس لأولاده، وكان عنده منهم الملك العزيز عماد الدين عثمان، وأخوه العادل جاءه من حلب وهو ملكها يومئذ. وجعل لكل واحد شيئاً من البلاد، وجعل الملك العادل وصياً على الجميع. ثم إنه عوفي وعاد إلى دمشق في المحرم من سنة اثنتين وثمانين، ولما كان مريضاً بحران، كان عنده ناصر الدين محمد ابن عمه [شيركوه] (3) وله من الإقطاع حمص والرحبة، فسار من عنده إلى حمص واجتاز بحلب. وأحضر جماعة من الأحداث ووعدهم وأعطاهم مالاً. ولما وصل إلى حمص راسل جماعة من أهل دمشق ووعدهم على تسليم دمشق إليه إذا مات صلاح الدين. فعوفي ولم يمض قليل حتى مات ناصر الدين ليلة عيد النحر من السنة، فإنه شرب   (1) تاريخ ابن الأثير 11: 517. (2) هي بالباء الموحدة بخط المؤلف، وكذلك في تاريخ ابن الأثير، وقرأها دي سلان قرايلي بالياء المثناة، وقال أنها ممر جبلي في ولاية كركور على الشاطئ الشرقي من دجلة واعتمد في قراءتها على نسخة أبي الفدا من تاريخه. (3) زيادة من المختار. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 172 الخمر فأكثر منه فأصبح ميتاً، وقيل إن صلاح الدين وضع (1) عليه إنساناً فحضر عنده، ونادمه وسقاه سماً، فلما أصبحوا من الغد لم يروا ذلك الشخص، وكان يقال له الناصح بن العميد، فسألوا عنه، فقالوا إنه سار من ليلته، وكان هذا مما قوى الظن، والله أعلم. فلما توفي أعطى إقطاعه لولده شيركوه وعمره اثنتا عشرة سنة، وخلف من الأموال والدواب والأثاث شيئاً كثيراً، فحضر صلاح الدين إلى حمص واستعرض تركته وأخذ أكثرها، ولم يترك إلا ما لا خير فيه. ثم قال شيخنا بعد هذا كله: وبلغني أن شيركوه حضر عند صلاح الدين بعد موت أبيه بسنة فقال له: إلى أين بلغت في القرآن فقال له: إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً " النساء:10 " فعجب الجماعة وصلاح الدين من ذكائه، والله اعلم بصحة ذلك. قال ابن شداد (2) : ولما وصل صلاح الدين إلى دمشق عقيب مرضه وإبلاله سير طلب أخاه الملك العادل، فخرج من حلب جريدة ليلة السبت الرابع والعشرين من شهر ربيع الأول من سنة اثنتين وثمانين، ومضى إلى دمشق فأقام في خدمة السلطان صلاح الدين، وجرت بينهما أحاديث ومراجعات وقواعد تتقرر إلى جمادى الآخرة من السنة، فاستقر الأمر على عود الملك العادل إلى مصر، وأخذت حلب منه وسار الملك الظاهر إليها فدخل قلعتها يوم السبت سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة؛ وقد ذكرت في ترجمة الملك الظاهر أنه دخل حلب مالكاً لها في مثل يوم وفاته، وعينت هناك التاريخ واسم اليوم، وهكذا وجدته، وما أدري من أين نقلته. وسلم السلطان ولده الملك العزيز إلى العادل وجعله أتابكه، وقال ابن شداد (3) قال لي الملك العادل: لما استقرت هذه القاعدة اجتمعت بخدمة   (1) المختار: دس. (2) السيرة: 72. (3) السيرة: 72 - 73. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 173 الملك العزيز والملك الظاهر وجلست بينهما، وقلت للملك العزيز: اعلم يا مولاي أن السلطان أمرني أن أسير في خدمتك إلى مصر، وأنا أعلم أن المقدمين كثير، وما يخلو أن يقال عني ما لا يجوز، ويخوفوك (1) مني، فإن كان لك عزم أن تسمع منهم فقل لي حتى لا أجيء، فقال: كيف يتهيأ لي أن أسمع منهم أو أرجع إلى رأيهم ثم التفت إلى الملك الظاهر وقلت له: أنا أعرف أن أخاك ربما سمع في أقوال المقدمين، وأنا فما لي إلا أنت، وقد قنعت منك بمنبج متى ضاق صدري من جانبه، فقال: مبارك، وذكر لي كل خير. وزوج السلطان ولده الملك الظاهر غازية خاتون (2) ابنة أخيه الملك العادل، ودخل بها يوم الأربعاء السادس والعشرين من شهر رمضان من السنة. ثم كانت وقعة حطين المباركة على المسلمين، قال (3) : وكانت في يوم السبت رابع عشر شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة في وسط نهار الجمعة، وكان كثيراً ما يقصد لقاء العدو في يوم الجمعة عند الصلاة تبركاً بدعاء المسلمين والخطباء على المنابر، فسار في ذلك الوقت بمن اجتمع له من العساكر الإسلامية، وكانت تجوز العد والحصر، على تعبية حسنة وهيئة جميلة، وكان قد بلغه عن العدو أنه اجتمع في عدة كثيرة بمرج صفورية بأرض عكا عندما بلغهم اجتماع العساكر الإسلامية، فسار ونزل على بحيرة طبرية ثم رحل ونزل على طبرية على سطح الجبل ينتظر قصد الفرنج له، إذا بلغهم نزوله بالموضع المذكور، فلم يتحركوا ولا خرجوا من منزلتهم، وكان نزولهم بالموضع المذكور يوم الأربعاء الحادي والعشرين من شهر ربيع الآخر، فلما رآهم لا يتحركون نزل جريدة على طبرية، وترك الأطلاب على حالها قبالة العدو، ونازل طبرية وهجمها وأخذها في ساعة واحدة، وانتهب الناس ما بها وأخذوا في القتل والسبي والحريق، وبقيت القلعة محتمية بمن فيها.   (1) المختار: ويخفونك. (2) انظر ذيل المرأة 1: 75. (3) السيرة: 75. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 174 ولما (1) بلغ العدو ما جرى على طبرية قلقوا لذلك ورحلوا نحوها، فبلغ السلطان ذلك فترك على طبرية من يحاصر قلعتها ولحق بالعسكر، فالتقى بالعدو على سطح جبل طبرية الغربي منها، وذلك في يوم الخميس الثاني والعشرين من شهر ربيع الآخر، وحال الليل بين العسكرين قياماً (2) على مصاف إلى بكرة يوم الجمعة الثالث والعشرين منه، فركب العسكران وتصادما، والتحم القتال واشتد الأمر، وذلك بأرض قرية تعرف بلوبيا، وضاق الخناق بالعدو وهم سائرون كأنهم يساقون إلى الموت وهم ينظرون، وقد أيقنوا بالويل والثبور، وأحسن نفوسهم أنهم في غد يومهم ذلك من زوار القبور، ولم تزل الحرب تضطرم، والفارس مع قرنه يصطدم، ولم يبق إلا الظفر، ووقع الوبال على من كفر، فحال بينهم الليل بظلامه، وبات كل واحد من الفريقين في سلاحه إلى صبيحة يوم السبت، فطلب كل من الفريقين مقامه، وتحقق المسلمون أن ورائهم الأردن ومن بين أيديهم بلاد العدو، وأنهم لا ينجيهم إلا الاجتهاد في الجهاد، فحملت أطلاب المسلمين من جميع الجوانب، وحمل القلب، وصاحوا صيحة رجل واحد، فألقى الله الرعب في قلوب الكافرين، وكان حقاً عليه نصر المؤمنين، ولما أحس القومص (3) بالخذلان هرب منهم في أوائل الأمر وقصد جهة صور، وتبعه جماعة من المسلمين، فنجا منهم وكفى الله شره، وأحاط المسلمون بالكافرين من كل جانب، وأطلقوا عليهم السهام، وحكموا فيهم السيوف وسقوهم كأس الحمام، وانهزمت طائفة منهم فتبعها أبطال المسلمين فلم ينج منها أحد، واعتصمت طائفة منهم بتل يقال له تل حطين، وهي قرية عندها قبر النبي شعيب عليه السلام، فضايقهم المسلمون وأشعلوا حولهم النيران، واشتد بهم العطش وضاق بهم الأمر، حتى كانوا يستسلمون للأسر خوفاً من القتل، لما مر بهم، فأسر   (1) السيرة: 76. (2) السيرة: فتبايتا. (3) القومص Comes هو ريموند صاحب طرابلس (Reimond) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 175 مقدموهم وقتل الباقون، وكان ممن سلم (1) من مقدميهم الملك جفري، وأخوه (2) ، والبرنس أرناط صاحب الكرك والشوبك، وابن الهنفري (3) وابن صاحبة طبرية، ومقدم الديوية، وصاحب جبيل، ومقدم الاسبتار، قال ابن شداد (4) : ولقد حكى لي من أثق به أنه رأى بحوران شخصاً واحداً معه نيف وثلاثون أسيراً قد ربطهم بطنب خيمة لما وقع عليهم من الخذلان. ثم إن القومص الذي هرب في أول الأمر وصل إلى طرابلس، فأصابه ذات الجنب فهلك منها، وأما مقدما الاسبتار والديوية فإن السلطان قتلهما وقتل من بقي من صنفهما حياً، وأما البرنس أرناط فإن السلطان كان قد نذر أنه إن ظفر به قتله، وذلك لأنه كان قد به عبر عند الشوبك قوم من الديار المصرية في حال الصلح فغدر بهم وقتلهم، فناشدوه الصلح الذي بينه وبين المسلمين، فقال ما يتضمن الاستخفاف بالنبي صلى الله عليه وسلم، وبلغ السلطان فحملته حميته ودينه على أن يهدر دمه. ولما فتح الله تعالى عليه بنصره جلس في دهليز الخيمة لأنها لم تكن نصبت بعد، وعرضت عليه الأسارى، وسار الناس يتقربون إليه بمن في أيديهم منهم، وهو فرح بما فتح الله تعالى على يده للمسلمين، ونصبت له الخيمة فجلس فيها شاكراً لله تعالى على ما أنعم به عليه. واستحضر الملك جفري وأخاه البرنس أرناط، وناول السلطان جفري شربة من جلاب وثلج فشرب منها، وكان على أشد حال من العطش، ثم ناولها البرنس؛ وقال السلطان للترجمان: قل للملك أنت الذي سقيته، وإلا أنا فما سقيته. وكان من جميل عادة العرب وكريم أخلاقهم أن الأسير إذا أكل أو شرب من مال من أسره أمن، فقصد السلطان بقوله ذلك، ثم أمر بمسيرهم إلى موضع عينه لهم، فمضوا بهم إليه فأكلوا شيئاً، ثم عادوا بهم، ولم يبق عنده سوى بعض الخدم فاستحضرهم،   (1) يعني سلم وأسر، كما جاء في سيرة ابن شداد. (2) كان حقه أن يقول: الملك (جاي) وجفري أخوه (جفري Geoffri de Lusignan) وقد نبه دي سلان إلى ذلك، ولكن المؤلف هنا يتابع ابن شداد. (3) البرنس أرناط هو Prince Renaud de Chatillon وابن الهنفري Humphrey of Thoron. (4) السيرة: 77. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 176 وأقعد الملك في دهليز الخيمة، واستحضر البرنس أرناط وأوقفه بين يديه وقال له: ها أنا أنتصر لمحمد منك، ثم عرض عليه الإسلام فلم يفعل، فسل النيمجاه فضربه بها فحل كتفه وتمم قتله من حضر، وأخرجت جثته ورميت على باب الخيمة. فلما رآه الملك على تلك الحال لم يشك في أنه يلحقه به، فاستحضره وطيب قلبه وقال له: لم تجر عادة الملوك أن يقتلوا الملوك. وأما هذا فإنه تجاوز الحد وتجرأ على الأنبياء صلوات الله عليهم، وبات الناس في تلك الليلة على أتم سرور، ترتفع أصواتهم بحمد الله وشكره وتهليله وتكبيره، حتى طلع الفجر. ثم نزل السلطان على طبرية يوم الأحد الخامس والعشرين من شهر ربيع الآخر، وتسلم قلعتها في ذلك النهار وأقام عليها إلى يوم الثلاثاء. ثم رحل طالباً عكا فكان نزوله عليها يوم الأربعاء سلخ شهر ربيع الآخر، وقاتلها بكرة يوم الخميس مستهل جمادى الأولى سنة ثلاث وثمانين فأخذها، واستنقذ من كان بها من أسارى المسلمين وكانوا أكثر من أربعة آلاف نفس، واستولى على ما فيها من الأموال والذخائر والبضائع لأنها كانت مظنة التجار، وتفرقت العساكر في بلاد الساحل يأخذون الحصون والقلاع والأماكن المنيعة، فأخذوا نابلس وحيفا وقيسارية وصفورية والناصرة، وكان ذلك لخلوها من الرجال لأن القتل والأسر أفنى كثيراً منهم. ولما استقرت قواعد عكا وقسم أموالها وأساراها، سار يطلب تبنين، فنزل عليها يوم الأحد حادي عشر جمادى الأولى، وهي قلعة منيعة، فنصب عليها المناجيق وضيق بالزحف خناق من فيها، وكان فيها أبطال معدودون وفي دينهم متشددون، فقاتلوا قتالاً شديداً، ونصره الله سبحانه عليهم، فتسلمها منهم يوم الأحد ثامن عشره عنوة، وأسر من بقي فيها بعد القتل. ثم رحل عنها إلى صيدا فنزل عليها، وتسلمها في غد يوم نزوله عليها، وهو يوم الأربعاء العشرون من جمادى الأولى، وأقام عليها ريثما قرر قواعدها. وسار حتى أتى بيروت فنازلها ليلة الخميس الثاني والعشرين من جمادى الأولى وركب عليها المجانيق، وداوم الزحف والقتال حتى أخذها في يوم الخميس التاسع والعشرين من الشهر المذكور الجزء: 7 ¦ الصفحة: 177 وتسلم أصحابه جبيل، وهو على بيروت. ولما فرغ باله من هذا الجانب رأى قصد عسقلان، ولم ير الاشتغال بصور بعد أن نزل عليها. ثم رأى ابن العسكر قد تفرق في الساحل وذهب كل واحد يحصل لنفسه، وكانوا قد ضرسوا من القتال وملازمة الحرب والنزال، وكان قد اجتمع في صور من بقي في الساحل من الفرنج، فرأى أن قصده عسقلان أولى لأنها أيسر من صور، فأتى عسقلان ونزل عليها يوم الأحد السادس عشر من جمادى الآخرة من السنة، وتسلم في طريقه إليها مواضع كثيرة كالرملة والداروم، وأقام في عسقلان المناجيق وقاتلها قتالاً شديداً، وتسلمها في يوم السبت سلخ جمادى الآخرة من السنة، وأقام عليها إلى أن تسلم أصحابه غزة وبيت جبريل والنطرون بغير قتال، وكان بين فتح عسقلان وأخذ الفرنج لها من المسلمين خمس وثلاثون سنة، فإنهم كانوا أخذوها من المسلمين في السابع والعشرين من جمادى الآخرة سنة ثمان وأربعين وخمسمائة، هكذا ذكره شيخنا ابن شداد في " السيرة "، وذكر الشهاب ياقوت الحموي في كتابه الذي سماه " المشترك وضعا المختلف صقعا " أنهم أخذوها من المسلمين في رابع عشر جمادى الآخرة من السنة. قال ابن شداد (1) : لما تسلم عسقلان والاماكن المحيطة بالقدس شمر عن ساق الجد والاجتهاد في قصد القدس المبارك. واجتمعت إليه العساكر التي كانت متفرقة في الساحل، فسار نحوه معتمداً على الله تعالى مفوضاً أمره إليه، منتهزاً الفرصة في فتح باب الخير الذي حث على انتهازه بقوله صلى الله عليه وسلم " من فتح له باب خير فلينتهزه فإنه لا يعلم متى يغلق دونه "؛ وكان نزوله عليه في يوم الأحد الخامس عشر من رجب سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة، وكان نزوله بالجانب الغربي، وكان مشحوناً بالمقاتلة من الخيالة والرجالة، وحزر أهل الخبرة ممن كان معه من كان فيه من المقاتلة فكانوا يزيدون على ستين ألفاً خارجاً عن النساء والصبيان، ثم انتقل   (1) السيرة: 81. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 178 لمصلحة رآها إلى الجانب الشمالي في يوم الجمعة العشرين من رجب ونصب المناجيق، وضايق البلد بالزحف والقتال حتى أخذ النقب في السور مما يلي وادي جهنم. ولما رأى أعداء الله ما نزل بهم من الأمر الذي لا مدفع له عنهم، وظهرت لهم أمارات فتح المدينة وظهور المسلمين عليهم، وكان قد اشتد روعهم لما جرى على أبطالهم وحماتهم من القتل والأسر وعلى حصونهم من التخريب والهدم، وتحققوا أنهم صائرون إلى ما صار أولئك إليه، فاستكانوا واخلدوا إلى طلب الأمان، واستقرت القاعدة بالمراسلة من الطائفتين، وكان تسلمه في يوم الجمعة السابع والعشرين من رجب، وليلته كانت ليلة المعراج المنصوص عليها في القرآن الكريم، فانظر إلى هذا الاتفاق العجيب. كيف يسر الله تعالى عوده إلى المسلمين في مثل زمان الإسراء بنبيهم صلى الله عليه وسلم، وهذه علامة قبول هذه الطاعة من الله تعالى. وكان فتحه عظيماً شهده من أهل العلم خلق، ومن أرباب الخرق والزهد عالم، وذلك أن الناس لما بلغهم ما يسره الله تعالى على يده من فتوح الساحل وقصده القدس، قصده العلماء من مصر والشام، بحيث لم يتخلف أحد منهم، وارتفعت الأصوات بالضجيج بالدعاء والتهليل والتكبير، وصليت فيه الجمعة يوم فتحه وخطب الخطيب - قلت (1) : وقد تقدم في ترجمة القاضي محيي الدين محمد بن علي المعروف بابن الزكي ذكر الخطبة التي خطب بها ذلك اليوم، فيكشف منه. ورأيت في رسالة القاضي الفاضل المعروفة بالقدسية أن الخطبة أقيمت يوم الجمعة رابع شعبان، والله أعلم. [وإذ قد ذكرنا فتوح القدس، وقد تقدم ذكر الخطبة التي خطب يوم الجمعة بها، يليق أن نذكر الرسالة التي كتبها القاضي الفاضل إلى الإمام الناصر لدين الله أبي العباس أحمد ابن الإمام المستضىء بأمر الله، تتضمن الفتوح فإنها بديعة بليغة في بابها، ولم اذكرها بكمالها بل اخترت منها أحسنها، وتركت الباقي لأنها طويلة، وهي:   (1) انظر ج 4: 230 - 236. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 179 أدام الله تعالى أيام الديوان العزيز النبوي، ولا زال مظفر الجد بكل جاحد، غنياً بالتوفيق عن رأي كل رائد، موقوف المساعي على اقتناء مطلقات المحامد، مستيقظ النصر والنصل في جفنه راقد، وارد الجود والسحاب على الأرض غير وارد، متعدد مساعي الفضل وإن كان لا يلقى إلا بشكر واحد، ماضي حكم العدل بعزم لا يمضي إلا بنبل غوي وريش (1) راشد، لا زالت غيوث فضله إلى الأولياء أنواء إلى المراتع وأنواراً إلى المساجد، وبعوث رعبه إلى الأعداء خيلاً إلى المراقب وخيالاً إلى المراقد. كتب الخادم هذه الخدمة، تلو ما صدر عنه مما كان يجري التباشير لصبح هذه العزمة، والعنوان لكتاب وصف النعمة، فإنها بحر للأقلام فيه سبح طويل، ولطف لحمل الشكر فيه عبء ثقيل، وبشرى للخواطر في شرحها مآرب، ويسرى للأسرار في إظهارها مسارب، ولله تعالى في إعادة شكره رضا، وللنعمة الراهنة به دوام لا يقال معه: هذا مضى. ولقد صارت أمور الإسلام إلى أحسن مصايرها، وقد استتبت عقائد أهله على أبين بصائرها، وتقلص ظل رجاء الكافر المبسوط، وصدق الله أهل دينه فلما وقع الشرط وقع المشروط، وكان الدين غريباً فهو الآن في وطنه، والفوز معروضاً فقد بذلت الأنفس في ثمنه، وأمر أمرٌ الحق وكان مستضعفاً، وأهل ربعه وكان قد عيف حين عفا، وجاء أمر الله وأنوف أهل الشرك راغمة، وأدلجت السيوف إلى الآجال وهي نائمة، وصدق وعد الله في إظهار دينه على كل دين، واستطارت له أنوار أبانت أن الصباح عندها جنان الجنين، واسترد المسلمون تراثاً كان عنهم آبقاً، وظفروا يقظة بما لم يصدقوا أنهم يظفرون به طيفاً على النأي طارقاً، واستقرت على الأعلى أقدامهم، وخفقت على الأقصى أعلامهم، وتلاقت على الصخرة قبلهم، وشفيت بها وإن كانت صخرة كما تشفى بالماء غللهم، ولما قدم الدين عليها عرف منها سويداء قلبه، وهنأ كفؤها الحجر الأسود بيت عصمتها من الكافر بحربه.   (1) المختار: ورشد؛ ع: في ريش. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 180 وكان الخادم لا يسعى سعيه إلا لهذه العظمى، ولا يقاسي تلك البؤسى إلا رجاء هذه النعمى، ولا يناجز من يستمطله في حربه (1) ، ولا يعاتب بأطراف القنا من يتعادى في عتبه، إلا لتكون الكلمة مجموعة فتكون كلمة الله هي العليا، وليفوز بجوهر الآخرة لا بالعرض الأدنى من الدنيا، وكانت الألسن ربما سلقته فأنضج قلوبها بالاحتقار، وكانت الخواطر ربما غلت عليه مراجلها فأطفأها بالاحتمال والاصطبار، ومن طلب خطيراً خاطر، ومن رام صفقة رابحة جاسر (2) ، ومن سما لأن يجلي غمرة غامر، وإلا فإن القعود يلين تحت نيوب الأعداء المعاجم فيعضها، ويضعف في أيديها مهز القوائم فيفضها، هذا إلى كون القعود لا يقضى به فرض الله في الجهاد (3) ، ولا يرعى به حقه في العباد، ولا يوفى به واجب التقليد الذي يطوقه الخادم من أئمة قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون، وخلفاء كانوا في مثل هذا اليوم يسألون، لا جرم أنهم أورثوا سرهم وسريرهم خلفهم الأطهر، ونجلهم الأكبر، وبقيتهم الشريفة، وطليعتهم المنيفة، وعنوان صحيفة فضلهم لا عدم سواد القلم وبياض الصحيفة. فما غابوا لما حضر، ولا غضوا لما نظر، بل وصلهم الأجر لما كان (4) به موصولاً. وشاطروه العمل لما كان عنه منقولاً، ومنه مقبولاً، وخلص إليهم إلى المضاجع فاطمأنت به (5) جنوبها، وإلى الصحائف ما عبقت به جيوبها، وفاز منها بذكر لا يزال الليل به سميراً، والنهار به بصيراً، والشرق يهتدي بأنواره، بل إن بدا نور من ذاته هتف به الغرب بأن واره، فإنه نور لا تكنه أغساق (6) السدف، وذكر لا توازيه أوراق الصحف. وكتب الخادم هذا وقد أظفر الله بالعدو الذي تشظت قناته شققا، وطارت   (1) س: ولا يحارب من يستظله إلا لتكون الكلمة ... الخ. (2) س: خاسر. (3) ق والمختار: لا يقضي به فرض الجهاد. (4) س: بل وصلهم بما كان ... (5) المختار: بها. (6) المختار: أنوار. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 181 فرقه فرقاً، وفل سيفه فصار عصا، وصدعت حصاته وكان الأكثر عدداً وحصى، وكلت حملاته وكان قدراً يضرب فيه العنان بالعنان (1) ، وعقوبة من الله ليس لصاحب يديها يدان، وعثرت قدمه وكانت الأرض لها حليفة، وغضت عينه وكانت عيون السيوف دونها كثيفة، ونام جفن سيفه وكانت يقظته تريق نطف الكرى من الجفون، وجدعت أنوف رماحه وطالما كانت شامخة بالمنى أو راعفة بالمنون، وأصبحت الأرض المقدسة الطاهرة وكانت الطامث، والرب الفرد الواحد وكان عندهم الثالث، وبيوت الكفر مهدومة، ونيوب الشرك مهتومة، وطوائفه المحامية، مجمعة على تسليم القلاع الحامية، وشجعانه المتوافية، مذعنة لبذل القطائع الوافية، لا يرون في ماء الحديد لهم عصرة، ولا في نار الأنفة (2) لهم نصرة، قد ضربت عليهم الذلة والمسكنة، وبدل الله مكان السيئة الحسنة، ونقل بيت عبادته من أيدي أصحاب المشأمة إلى أيدي أصحاب الميمنة. وقد كان الخادم لقيهم اللقاة الأولى فأمده الله بمداركته، وأنجده بملائكته، فكسرهم كسرة ما بعدها جبر، وصرعهم صرعة لا ينتعش بعدها بمشيئة الله كفر، وأسر منهم من أسرت به السلاسل، وقتل منهم من قتلت به المناصل، وأجلت المعركة عن صرعى من الخيل والسلاح والكفار، وعن أصناف يخيل بأنه قتلهم (3) بالسيوف الأفلاق والرماح الأكسار، فنيلوا بثار من السلاح ونالوه أيضاً بثار، فكم أهلة سيوف تقارضن الضراب بها حتى عادت كالعراجين، وكم أنجم قنا تبادلت الطعان حتى صارت كالمطاعين، وكم فارسية ركض عليها فارسها الشهم إلى أجل فاختلسه، وفغرت تلك القوس فاها فإذا فوها قد نهش القرن على بعد المسافة وافترسه، فكان اليوم مشهوداً وكانت الملائكة شهوداً، وكان الضلال صارخاً وكان الإسلام   (1) س: وكانت قدراً يصرف فيه العنان. (2) ق والمختار: الأكفة؛ س: الأنف. (3) وعن أصناف يخيل بأنه قتلهم: هذه هي قراءة ر، وقد جاءت مضطربة في سائر النسخ؛ وربما قرئت " وعن أنصاف ". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 182 مولوداً، وكانت ضلوع الكفار لنار جهنم وقوداً، وأسر الملك وبيده أوثق وثائقه، وآكد وصله بالدين وعلائقه، وهو صليب الصلبوت، وقائد أهل الجبروت، ما دهموا قط بأمر إلا وقام بين دهمائهم يبسط لهم باعه، وكان مد اليدين في هذه الدفعة (1) وداعه، لا جرم أنهم يتهافت على ناره فراشهم، ويجتمع في ظل ضلاله خشاشهم، ويقاتلون تحت ذلك الصليب أصلب قتال وأصدقه، ويرونه ميثاقاً يبنون عليه أشد عهد وأوثقه، ويعدونه سوراً تحفر حوافر الخيل خندقه، وفي هذا اليوم أسرت سراتهم، ودهيت دهاتهم، ولم يفلت منهم معروف إلا القومص، وكان لعنه الله ملياً يوم الظفر بالقتال، وملياً يوم الخذلان بالاحتيال، فنجا ولكن كيف، وطار خوفاً من أن يلحقه منسر الرمح أو جناح السيف، ثم أخذه الله تعالى بعد أيام بيده، وأهلكه لموعده، فكان لعدتهم فذلك (2) ، وانتقل من ملك الموت إلى مالك. وبعد الكسرة مر الخادم على البلاد فطواها بما نشر عليها من الراية العباسية السوداء صبغاً، والبيضاء صنعاً، الخافقة هي وقلوب أعدائها، الغالبة هي وعزائم أوليائها، المستضاء بأنوارها إذا فتح عينها النشر، وأشارت بأنامل العذبات إلى وجه النصر، فافتتح بلاد كذا وكذا، وهذه كلها أمصار ومدن، وقد تسمى البلاد بلاداً وهي مزارع وفدن، كل هذه ذوات معاقل ومعاقر، وبحار وجزائر، وجوامع ومنابر، وجموع وعساكر، يتجاوزها الخادم بعد أن يحرزها، ويتركها وراءه بعد أن ينتهزها، ويحصد منها كفراً ويزرع إيماناً. ويحط من جوامعها صلباً ويرفع أذاناً، ويبدل المذابح منابر والكنائس مساجد، ويبوىء أهل القرآن بعد أهل الصلبان للقتال عن دين الله مقاعد، ويقر عينه وعيون أهل الإسلام أن يعلق النصر منه ومن عسكره بجار ومجرور، وأن يظفر بكل سور، ما كان يخاف زلزاله ولا زياله إلى يوم النفخ في الصور. ولما يبق إلا القدس وقد اجتمع إليه كل طريد منهم وشريد، واعتصم   (1) س: الوقعة. (2) س: فكان من عدتهم لذلك. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 183 بمنعتها كل قريب منهم وبعيد، وظنوا أنها من الله مانعتهم، وان كنيستها إلى الله شافعتهم، فلما نزلها الخادم رأى بلداً كبلاد، وجمعاً كيوم التناد، وعزائم قد تألبت وتألفت على الموت فنزلت بعرصته، وهان عليها مورد السيف وأن تموت بغصته، فزاول البلد من كل جانب، فإذا أودية عميقة، ولجج وعر غريقة، وسور قد انعطف عطف السوار، وأبرجة قد نزلت مكان الواسطة من عقر الدار، فعدل إلى جهة أخرى كان للطالع عليها معرج، وللخيل فيها متولج (1) ، فنزل عليها وأحاط بها وقرب منها، وضرب خيمته بحيث يناله السلاح بأطرافه، ويزاحمه السور بأكتافه، وقابلها ثم قاتلها، ونزلها ثم نازلها [وبرز إليها ثم بارزها] (2) ، وحاجزها ثم ناجزها، وضمها ضمة ارتقب بعدها الفتح، وصدع جمعها فإذا هم لا يصبرون على عبودية الحد عن عنق الصفح، فراسلوه ببذل قطيعة إلى مدة، وقصدوا نظرة من شدة وانتظاراً لنجدة، فعرفهم الخادم في لحن القول، وأجابهم بلسان الطول، وقدم المنجنيقات (3) التي تتولى عقوبات (4) الحصون عصيها وحبالها، وأوتر لهم قسيها التي ترمي ولا تفارقها سهامها ولكن تفارق سهامها نصالها، فصافحت السور فإذا سهمها في ثنايا شرفاتها سواك، وقدم النصر نسراً من المنجنيق يخلد اخلاده إلى الأرض ويعلو علوه إلى السماك، فشج مرادع أبراجها، وأسمع صوت عجيجها صم اعلاجها، ورفع منار عجاجها (5) ، فأخلى السور من السيارة، والحرب من النظارة، وأمكن النقاب، أن يسفر للحرب النقاب، وان يعيد الحجر إلى سيرته الأولى من التراب، فتقدم إلى الصخر فمضغ سرده بأنياب معوله، وحل عقده بضربه الأخرق الدال على لطافة أنمله، وأسمع الصخرة الشريفة أنينه واستغاثته إلى أن كادت ترق لمقتله، وتبرأ بعض الحجارة من بعض، وأخذ الخراب عليها موثقاً فلن تبرح الأرض، وفتح من السور باباً سد من نجاتهم أبواباً،   (1) متولج: هذه قراءة ر ع س، وفي ق والمختار: متوج. (2) زيادة من س ر. (3) خ بها مش المختار: المجانيق. (4) ر: عقوبة. (5) س: ورفع المرادع ما بين العنق إلى المرفق منار عجاجها. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 184 وأخذ ينقب في حجره فقال عنده الكافر: يا ليتني كنت تراباً، فحينئذ يئس الكفار من أصحاب الدور، كما يئس الكفار من أصحاب القبور، وجاء أمر الله وغرهم بالله الغرور، وفي الحال خرج طاغية كفرهم، وزمام أمرهم، ابن بارزان (1) سائلاً أن يؤخذ البلد بالسلم لا بالعنوة، وبالأمان لا بالسطوة، وألقى بيده إلى التهلكة، وعلاه ذل الهلكة بعد عز المملكة، وطرح جنبه على التراب وكان جنباً لا يتعاطاه طارح، وبذل مبلغاً من القطيعة لا يطمح إليها أمل (2) طامح، وقال: ها هنا أسارى مسلمون يتجاوزون الألوف، وقد تعاقد الفرنج على أنهم إن هجمت عليهم الدار، وحملت الحرب على ظهورهم الأوزار، بدىء بهم فعجلوا، وثني بنساء الفرنج وأطفالهم فقتلوا، ثم استقتلوا بعد ذلك، فلا يقتل خصم إلا بعد أن ينتصف، ولا يفل سيف من يد إلا بعد أن تقطع أو ينقصف، فأشار الأمراء بأخذ الميسور، من البلد المأسور، فإنه لو أخذ حرباً فلا بد أن يتقحم الرجال الأنجاد، ويقال كفوا عنها (3) في آخر أمر قد نيل من أوله المراد، وكانت الجراح في العساكر قد تقدم منها ما اعتقل الفتكات، وأثقل الحركات، فقبل منهم المبذول عن يد وهم صاغرون، وانصرف أهل الحرب عن قدرة وهم ظاهرون، وملك الإسلام خطة كان عهده بها دمنة سكان، فخدمها الكفر إلى أن صارت روضة جنان، لا جرم أن الله تعالى أخرجهم منها وأهبطهم، وأرضى أهل الحق وأسخطهم، فإنهم، خذلهم الله، حموها بالأسل والصفاح، وبنوها بالعمد والصفاح، وأودعوا الكنائس بها وبيوت الديوية والاستبارية فيها بكل غريبة من الرخام الذي يطرد ماؤه، ولا ينطرد لألاؤه، وقد لطف الحديد في تجزيعه، وتفنن في توشيعه، إلى أن صار الحديد الذي في بأس شديد، كالذهب الذي فيه نعيم عتيد، فما ترى إلا مقاعد كالرياض لها من بياض الترخيم رقراق، وعمداً كالأشجار لها من التنبيت أوراق. وأوعز الخادم برد الأقصى إلى عهده المعهود، وأقام له من الأئمة من   (1) يعني هنا: Balean d'Ibelin. (2) س: طرف أمل. (3) س: وتبذل نفوسها. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 185 يوفيه ورده المورود، وأقيمت الخطبة يوم الجمعة رابع شعبان فكادت السموات يتفطرن للسجود لا للوجوم، والكواكب منها تنتثر للطرب لا للرجوم، ورفعت إلى الله كلمة التوحيد وكانت طريقها مسدودة، وطهرت قبور الأنبياء وكانت النجاسات مكدودة، وأقيمت الخمس وكان التثليث يقعدها، وجهرت الألسنة بالله أكبر وكان سحر الكفر يعقدها، وجهر اسم أمير المؤمنين في وطنه الأشرف من المنبر، فرحب به ترحيب من بر بمن بر، وخفق علماه في حفافيه، فلو طار سروراً لطار بجناحيه. وكتاب الخادم وهو مجد في استفتاح بقية الثغور، واستشراح ما ضاق بتمادي الحرب من الصدور، فإن قوى العساكر قد استنفدت مواردها، وأيام الشقاء قد مردت (1) مواردها، والبلاد المأخوذة المشار إليها قد جاست العساكر خلالها، ونهبت ذخائرها وأكلت غلالها، فهي بلاد ترفد ولا تسترفد، وتجم ولا تستنفد، ينفق عليها ولا ينفق منها، وتجهز الأساطيل لبحرها، وتقام المرابط بساحلها، وبدأب في عمارة أسوارها ومرمات معاقلها، وكل مشقة بالإضافة إلى نعمة الفتح محتملة، وأطماع الفرنج بعد ذلك غير مرجئة ولا معتزلة، فإن يدعوا دعوة يرجو الخادم من الله أنها لا تسمع، ولن يكفوا (2) أيديهم من أطراف البلاد حتى تقطع، وهذه البشائر لها تفاصيل لا تكاد من غير الألسنة تتشخص، ولا بما سوى المشافهة تتخلص، فلذلك نفذ الخادم لساناً شارحاً، ومبشراً صادحاً (3) ، يطالع الخبر على سياقته، ويعرض جيش المسرة من طليعته إلى ساقته، وهو فلان، والله الموفق. هذا آخر الرسالة الفاضلية، وكان في عزمي اختصارها والاقتصار على محاسنها فلما شرعت فيها قلت في نفسي: عسى أن يقف عليها من يؤثر الوقوف على جميعها فأكملتها ورجعت عن الرأي الأول، وهي قليلة الوجود   (1) س: استنفدت؛ ع: وأيام الشتاء. (2) س ق ع: يفكوا. (3) س: صالحاً. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 186 في أيدي الناس، وكانت النسخة التي نقلتها منها سقيمة، ولقد اجتهدت في تحريرها حتى صحت عل هذه الصورة حسب الإمكان. وقد عمل عماد الدين الأصبهاني الكاتب رسالة في فتح القدس أيضاً فلم أر التطويل بكتابتها فتركتها، وجمع كتاباً سماه " الفتح القسي في الفتح القدسي " وهو في مجلدين ذكر فيه جميع ما جرى في هذه الواقعة. ورأيت منذ زمان رسالة مليحة أنشأها ضياء الدين أبو الفتح نصر الله المعروف بابن الأثير الجزري رحمه الله تعالى - المقدم ذكره في حرف النون - تتضمن فتح القدس أيضاً، وكل واحد من أرباب صناعة الإنشاء كان يريد يمتحن خاطره بما يعمل في ذلك، والقاضي الفاضل رئيس هذا الفن، وإذا شرع في شيء من هذا الباب لا يستطيع أحد أن يجاريه ولا يباريه، فلهذا أثبت رسالته ورفضت غيرها خوف الإطالة. وكان قد حضر الرشيد أبو محمد عبد الرحمن بن بدر بن الحسن بن مفرج النبلسي الشاعر المشهور، هذا الفتح، فأنشد السلطان صلاح الدين قصيدته التي أولها: هذا الذي كانت الآمال تنتظر ... فليوف لله أقوام بما نذروا وهي طويلة تزيد على مائة بيت، يمدحه ويهنيه بالفتح. وإذ قد نجز المطلوب من هذا الامر فلنرجع إلى تتمة ما ذكره شيخنا بهاء الدين بن شداد في " السيرة الصلاحية " (1) قال:] (2) ونكس الصليب (3) الذي كان على قبة الصخرة، وكان شكلاً عظيماً، ونصر الله الإسلام على يده نصراً عزيزاً.   (1) انظر ج 5: 389. (2) ما بين معقفين لم يرد في المسودة، وهو ثابت في المختار والنسخ ق ع ر س، وقد تأخر في ر عن هذا الموضع، وورد بعد الأبيات التي مطلعها " الله أكبر جاء القوس باريها ". (3) السيرة: وحط الصليب (ص: 82) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 187 قلت: وقد تقدم في ترجة أرتق طرف من أخبار القدس وأن الأفضل أمير الجيوش بمصر أخذه من ولديه سقمان وإيل غازي، ثم إن الفرنج استولوا عليه يوم الجمعة الثالث والعشرين من شعبان سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة، وقيل في ثاني شعبان، وقيل يوم الجمعة السادس والعشرين من شهر رمضان من السنة؛ ولم يزل بأيديهم حتى استنقذه منهم صلاح الدين في التاريخ المذكور. نعود إلى كلام ابن شداد (1) : وكانت قاعدة الصلح أنهم قطعوا على نفسهم عن كل رجل عشرين ديناراً، وعن كل امرأة خمسة دنانير صورية، عن كل صغير ذكر أو انثى ديناراً واحداً، فمن أحضر قطيعته نجا بنفسه، وإلا أخذ أسيراً، وأفرج عمن كان بالقدس من أسارى المسلمين، وكانوا خلقاً عظيماً، وأقام به يجمع الأموال ويفرقها على الأمراء والرجال، ويحبو بها الفقهاء والعلماء والزهاد والوافدين عليه، وتقدم بإيصال من قام بقطيعته إلى مأمنه، وهي مدينة صور، ولم يرحل عنه ومعه من المال الذي جبي له شيء، وكان يقارب مائتي ألف دينار وعشرين ألفاً، وكان رحيله عنه يوم الجمعة الخامس والعشرين من شعبان من السنة. ولما فتح القدس حُسن عنده قصد صور، وعلم أنه إن أخر أمرها ربما عسر عليه، فسار نحوها حتى أتى عكا فنزل عليها ونظر في أمورها، ثم رحل عنها متوجهاً إلى صور في يوم الجمعة خامس شهر رمضان من السنة، فنزل قريباً منها، وسير لإحضار آلات القتال، ولما تكاملت عنده نزل عليها في ثاني عشر الشهر المذكور، وقاتلها وضايقها قتالاً عظيماً، واستدعى أصطول (2) مصر، فكان يقاتلها في البر والبحر، ثم سير من حاصر هونين فسلمت في الثالث والعشرين من شوال من السنة. ثم خرج أصطول صور في الليل، فكبس أصطول المسلمين، وأخذوا   (1) السيرة: 82. (2) اصطول: يكتبها المؤلف بالصاد. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 188 المقدم والريس وخمس قطع للمسلمين، وقتلوا خلقاً كثيراً من رجال المسلمين، وذلك في السابع والعشرين من الشهر المذكور، وعظم ذلك على السلطان وضاق صدره، وكان الشتاء قد هجم وتراكمت الأمطار وامتنع الناس من القتال لكثرة الأمطار، فجمع الأمراء واستشارهم فيما يفعل فأشاروا عليه بالرحيل لتستريح الرجال ويجتمعوا للقتال، فرحل عنها. وحملوا من آلات الحصار ما أمكن وأحرقوا الباقي الذي عجزوا عن حمله لكثرة الوحل والمطر، وكان رحيله يوم الأحد ثاني ذي القعدة من السنة، وتفرقت العساكر، أعطى كل طائفة منها دستوراً، وسار كل قوم إلى بلادهم وأقام هو مع جماعة من خواصه بمدينة عكا إلى أن دخلت سنة أربع وثمانين وخمسمائة. ثم نزل على كوكب في أوائل المحرم من السنة، ولم يبق معه من العسكر إلا القليل، وكان حصناً حصيناً وفيه الرجال والأقوات، فعلم أنه لا يؤخذ إلا بقتال شديد، فرجع إلى دمشق ودخلها في سادس عشر شهر ربيع الأول من السنة. قال ابن شداد (1) : ولما كان على كوكب وصلت إلى خدمته، ثم فارقته ومضيت لزيارة القدس والخليل عليه أفضل الصلاة والسلام، ودخلت دمشق يوم دخول السلطان إليها - قلت: وقد ذكرت هذا في ترجمته. قال: وأقام بدمشق خمسة أيام، ثم بلغه أن الفرنج قصدوا جبيل واغتالوها، فخرج مسرعاً، وكان قد سير يستدعي العساكر من جميع المواضع وسار يطلب جبيل، فلما عرف الفرنج بخروجه كفوا (2) عن ذلك. وكان بلغه وصول عماد الدين صاحب سنجار ومظفر الدين بن زين الدين وعسكر الموصل إلى حلب قاصدين خدمته والغزاة معه، فسار نحو حصن الأكراد.   (1) السيرة: 85. (2) ورد في س ق والمسودة: " كف ". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 189 قال ابن شداد في السيرة (1) : إنه اتصل بخدمة السلطان في مستهل جمادى الأولى من سنة أربع وثمانين، وجميع ما ذكرته فهو بروايتي عمن أثق به، ومن ها هنا ما أسطر إلا ما شاهدته أو أخبرني به من أثق إليه خبراً يقارب العيان. قال: لما كان يوم الجمعة رابع (2) جمادى الأولى دخل السلطان بلاد العدو على تعبية حسنة ورتب الأطلاب، وسارت الميمنة أولاً ومقدمها عماد الدين زنكي والقلب في الوسط، والميسرة في الأخير ومقدمها مظفر الدين ابن زين الدين، فوصل إلى انطرسوس ضاحي نهار الأحد سادس جمادى الأولى، فوقف قبالتها ينظر إليها لأن قصده كان جبلة، فاستهان بأمرها وعزم على قتالها، فسير من رد الميمنة وأمرها بالنزول على جانب البحر، والميسرة على الجانب الآخر، ونزل هو موضعه، والعساكر محدقة بها من البحر إلى البحر، وهي مدينة راكبة على البحر ولها برجان كالقلعتين، فركبوا وقاربوا البلد وزحفوا واشتد القتال وباغتوها، فما استتم نصب الخيام حتى صعد المسلمون سورها، وأخذوها بالسيف، وغنم المسلمون جميع من بها وما بها، وأحرق البلد، وأقام عليها إلى رابع عشر جمادى الأولى، وسلم أحد البرجين إلى مظفر الدين، فما زال يحاربه حتى أخربه، واجتمع به ولده الملك الظاهر لأنه كان قد طلبه، فجاءه في عسكر عظيم. ثم سار يريد جبلة، وكان وصوله إليها في ثاني عشر جمادى الأولى، وما استتم نزول العسكر عليها حتى أخذ البلد، وكان فيه مسلمون مقيمون وقاض يحكم بينهم، وقوتلت القلعة قتالاً شديداً، ثم سلمت بالأمان في يوم السبت تاسع عشر جمادى الأولى من السنة، وأقام عليها إلى الثالث والعشرين منه. ثم سار عنها إلى اللاذقية، وكان نزوله عليها يوم الخميس الرابع والعشرين من جمادى الأولى، وهو بلد مليح خفيف على القلب، غير مسور، وله ميناء مشهور، وله قلعتان متصلتان على تل يشرف على البلد. واشتد القتال إلى   (1) السيرة: 87. (2) السيرة: رابع عشر. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 190 آخر النهار، فأخذ البلد دون القلعتين، وغنم الناس منه غنيمة عظيمة لأنه كان بلد التجار، وجدوا في أمر القلعتين بالقتال والنقوب حتى بلغ طول النقب ستين ذراعاً وعرضه أربعة أذرع، فلما رأى أهل القلعتين الغلبة لاذوا بطلب الأمان، وذلك في عشية يوم الجمعة الخامس والعشرين من الشهر، والتمسوا الصلح على سلامة نفوسهم وذراريهم ونسائهم وأموالهم، ما خلا الغلال والذخائر والسلاح وآلات الحرب، فأجابهم إلى ذلك، ورفع العلم الإسلامي عليها يوم السبت، وأقام عليها إلى يوم الأحد السابع والعشربن من الشهر. فرحل عنها إلى صهيون، فنزل عليها يوم الثلاثاء التاسع والعشرين من الشهر واجتهد في القتال، فأخذ البلد يوم الجمعة ثاني جمادة الآخرة، ثم تقدموا إلى القلعة، وصدقوا القتال، فلما عاينوا الهلاك طلبوا الأمان، فأجابهم إليه بحيث يؤخذ من الرجل عشرة دنانير ومن المرأة خمسة دنانير ومن كل صغير ديناران، الذكر والأنثى سواء. وأقام السلطان بهذه الجهة حتى أخذ عدة قلاع منها بلاطنس وغيرها من الحصون المنيعة المتعلقة بصهيون. ثم رحل عنها وأتى بكاس وهي قلعة حصينة على العاصي ولها نهر يخرج من تحتها، وكان النزول عليها يوم الثلاثاء سادس جمادى الآخرة، وقاتلوها قتالاً شديداً إلى يوم الجمعة تاسع الشهر، ثم يسر الله فتحها عنوة، فقتل أكثر من بها وأسر الباقون، وغنم المسلمون جميع ما كان فيها، ولها قليعة تسمى الشغر، وهي في غاية المنعة يعبر إليها منها بجسر وليس عليها طريق، فسلطت المجانيق عليها من جميع الجوانب، ورأوا أنهم لا ناصر لهم فطلبوا الأمان، وذلك يوم الثلاثاء ثالث عشر الشهر، ثم سألوا المهلة ثلاثة أيام فأمهلوا، وكان تمام فتحها وصعود العلم السلطاني على قلتها يوم الجمعة سادس عشر الشهر. ثم سار إلى برزيه، وهي من الحصون المنيعة في غاية القوة يضرب بها الجزء: 7 ¦ الصفحة: 191 المثل في بلاد الفرنج تحيط بها أودية (1) من جميع جوانبها، وعلوها خمسمائة ونيف وسبعون ذراعاً، وكان نزوله عليها يوم السبت الرابع والعشرين من الشهر، ثم أخذها عنوة يوم الثلاثاء السابع والعشرين منه. ثم سار إلى دربساك فنزل عليها يوم الجمعة ثامن رجب، وهي قلعة منيعة، وقاتلها قتالاً شديداً، ورقي العلم الإسلامي عليها يوم الجمعة الثاني والعشرين من رجب، وأعطاها الأمير علم الدين سليمان بن جندر، وسار عنها بكرة يوم السبت الثالث والعشرين من الشهر. ونزل على بغراس، وهي قلعة حصينة بالقرب من أنطاكية، وقاتلها مقاتلة شديدة، وصعد العلم الإسلامي عليها في ثاني شعبان. وراسله أهل أنطاكية في طلب الصلح، فصالحهم لشدة ضجر العسكر من البيكار، وكان الصلح معهم لا غير، على أن يطلقوا كل أسير عندهم، والصلح إلى سبعة أشهر، فإن جاءهم من ينصرهم، وإلا سلموا البلد. ثم رحل السلطان، فسأله ولده الملك الظاهر صاحب حلب أن يجتاز به، فأجابه إلى ذلك، فوصل حلب في حادي عشر شعبان وأقام بالقلعة ثلاثة أيام، وولده يقوم بالضيافة حق القيام. وسار من حلب، فاعترضه تقي الدين عمر ابن أخيه وأصعده إلى قلعة حماة وصنع له طعاماً، وأحضر له سماعاً من جنس ما تعمل الصوفية، وبات فيها ليلة واحدة، وأعطاه جبلة واللاذقية. وسار على طريق بعلبك ودخل دمشق قبل شهر رمضان بأيام يسيرة. ثم سار في أوائل شهر رمضان يريد صفد فنزل عليها، ولم يزل القتال حتى تسلمها بالأمان في رابع عشر شوال. وفي شهر رمضان المذكور سلمت الكرك، سلمها نواب صاحبها، وخلصوه بذلك، لأنه كان في الأسر من نوبة حطين.   (1) المختار: الأودية. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 192 قلت: هكذا ذكره، وهذا لا ينتظم مع ما قبله، فقد تقدم قبل هذا أن البرنس أرناط صاحب الكرك والشوبك أسر في وقعة حطين، ثم قتله السلطان بيده، فيكشف عن ذلك في مكان آخر ليحقق. [قال] : ثم سار إلى كوكب وضايقوها وقاتلوها مقاتلة شديدة، والأمطار متواترة والوحول متضاعفة والرياح عاصفة، والعدو متسلط بعلو مكانه، فلما تيقنوا أنهم مأخوذون طلبوا الأمان فأجابهم إليه، وتسلمها منهم في منتصف ذي القعدة من السنة (1) . ثم نزل إلى الغور، وأقام بالمخيم بقية الشهر وأعطى الجماعة دستوراً، وسار مع أخيه العادل يريد زيارة القدس ووداع أخيه لأنه كان متوجهاً إلى مصر، ودخل القدس في ثامن ذي الحجة وصلى بها العيد. وتوجه في حادي عشر ذي الحجة إلى عسقلان لينظر في أمورها، وأخذها من أخيه العادل، وعوضه عنها الكرك. ثم مر على بلاد الساحل يتفقد أحوالها، ثم دخل عكا فأقام بها معظم المحرم من سنة خمس وثمانين يصلح أمورها، ورتب بها الأمير بهاء الدين قراقوش (2) والياً وأمره بعمارة سورها. وسار إلى دمشق فدخلها في مستهل صفر من السنة، واقام بها إلى شهر ربيع الأول من السنة. ثم خرج إلى شقيف أرنون، وهو موضع حصين فخيك في مرج عيون بالقرب من الشقيف، في سابع عشر شهر ربيع الأول، وأقام أياماً يباشر قتاله كل يوم، والعساكر تتواصل إليه، فلما تحقق صاحب الشقيف أنه لا طاقة له به نزل إليه بنفسه، فلم يشعر به إلا وهو قائم على باب خيمته، فأذن له   (1) علق صاحب المختار هنا بقوله: " قلت، أعني كاتبها موسى بن أحمد لطف الله به: وكتب القاضي الفاضل بطاقة إلى بعض الجهات يبشر فيها بفتح كوكب هذه، فمن جملتها ... " وقد وردت القطعة في ترجمة القاضي الفاضل 3: 159. (2) زاد في المختار: الخصي. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 193 في دخوله إليه وأكرمه واحترمه، وكان من أكبر الفرنج وعقلائهم، وكان يعرف بالعربية وعنده اطلاع على شيء من التواريخ والاحاديث، وكان حسن التأتي لما حضر بين يدي السلطان وأكل معه الطعام، ثم خلا به وذكر أنه مملوكه وتحت طاعته، وأنه يسلم إليه المكان من غير تعب، واشترط أن يعطى موضعاً يسكنه بدمشق فإنه بعد ذلك لا يقدر على مساكنة الفرنج، وإقطاعاً يقوم به وبأهله، وشروطاً غير ذلك، فأجابه إلى ذلك. وفي أثناء شهر ربيع الاول وصله الخبر بتسليم الشوبك، وكان السلطان قد أقام عليه جمعاً يحاصرونه مدة سنة كاملة إلى أن نفذ زاد من كان فيه، فسلموه بالأمان. ثم ظهر للسلطان بعد ذلك أن جميع ما قاله صاحب الشقيف كان خديعة، فرسم عليه. ثم بلغه أن الفرنج قصدوا عكا، ونزلوا عليها يوم الإثنين ثالث عشر رجب سنة خمس وثمانين. وفي ذلك اليوم سير صاحب الشقيف إلى دمشق بعد الإهانة الشديدة. وأتى عكا، ودخلها بغتة لتقوى قلوب من بها، وسير استدعى العساكر من كل ناحية فجاءته، وكان العدو بمقدار ألفي فارس وثلاثين ألف راجل، ثم تكاثر الفرنج واستفحل أمرهم وأحاطوا بعكا، ومنعوا من يدخل إليها ويخرج، وذلك يوم الخميس سلخ رجب، فضاق صدر السلطان لذلك، ثم اجتهد في فتح الطريق إليها لتستمر السابلة بالميرة والنجدة، وشاور الامراء فاتفقوا على مضايقة العدو لينفتح الطريق، ففعلوا ذلك، وانفتح الطريق وسلكه المسلمون، ودخل السلطان عكا فأشرف على أمورها، ثم جرى بين الفريقين مناوشات في عدة أيام، وتأخر الناس إلى تل العياضية، وهو مشرف على عكا. وهي هذه المنزلة توفي الأمير حسام الدين طمان - المقدم ذكره في هذه الترجمة - وذلك في ليلة نصف شعبان من سنة خمس وثمانين وخمسمائة، وكان من الشجعان. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 194 ثم إن شيخنا ابن شداد ذكر بعد هذا وقعات ليس لنا غرض في ذكرها، وتطول هذه الترجمة باستيفاء الكلام فيها، إذ ليس الغرض سوى المقاصد لا غير، وإنما ذكرت فتوحات هذه الحصون لأن الحاجة قد تدعو إلى الوقوف على تواريخها، مع أني لم أذكر إلا ما يكثر التطلع إلى الوقوف عليه وأضربت إن الباقي. قال ابن شداد (1) : سمعت السلطان ينشد وقد قيل له: أن الوخم قد عظم بمرج عكا وإن الموت قد فشا في الطائفتين: اقتلاني ومالكا ... واقتلا مالكا معي يريد بذلك أن قد رضي أن يتلف إذا أتلف الله أعداءه. قلت: وهذا البيت له سبب يحتاج إلى شرح، وذلك أن مالك بن الحارث المعروف بالأشتر النخعي، كان من الشجعان والأبطال المشهورين، وهو من خواص أصحاب علي بن أبي طالب رضي الله عنه، تماسك في يوم وقعة الجمل المشهورة وهو وعبد الله بن الزبير بن العوام، وكان أيضاً من الأبطال، وابن الزبير يومئذ مع خالته عائشة أم المؤمنين وطلحة والزبير رضي الله عنهم أجمعين، وكانوا يحاربون علياً رضي الله عنه، فلما تماسكا صار كل واحد منهما إذا قوي على صاحبه جعله تحته وركب صدره، وفعلا ذلك مراراً، وابن الزبير ينشد: اقتلاني ومالكا ... واقتلا مالكا معي يريد الأشتر النخعي، هذه خلاصة القول في ذلك وإن كانت القصة طويلة، وهي في التواريخ مبسوطة. وقال عبد الله بن الزبير: لاقيت الأشتر النخعي يوم الجمل. فما ضربته ضربة حتى ضربني ستاً أو سبعاً، ثم أخذ برجلي فألقاني في الخندق وقال:   (1) السيرة: 150. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 195 والله لولا قرابتك من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما اجتمع منك عضو إلى عضو أبداً. وقال أبو بكر بن أبي شيبة: أعطت عائشة رضي الله عنها الذي بشرها بسلامة ابن الزبير لما لاقى الأشتر عشرة آلاف درهم. وقيل أيضاً إن الأشتر دخل على عائشة رضي الله عنها بعد وقعة الجمل، فقالت له: يا أشتر أنت الذي أردت قتل ابن أختي يوم الوقعة، فأنشدها: أعائش، لولا أنني كنت طاويا ... ثلاثا لألفيت ابن أختك هالكا غداة ينادي والرماح تنوشه ... بآخر صوتٍ اقتلوني ومالكا فنجاه مني أكله وشبابه ... وخلوة جوف لم يكن متماسكا وقال زجر بن قيس: دخلت مع عبد الله بن الزبير الحمام، فإذا في رأسه ضربة لو صب فيها قارورة دهن لاستقر، فقال لي: أتدري من ضربني هذه الضربة قلت: لا، قال: ابن عمك الأشتر النخعي. رجعنا إلى ما كنا عليه: قال ابن شداد (1) : ثم إن الفرنج جاءهم الأمداد من داخل البحر واستظهروا على الحماعة الإسلامية بعكا، وكان فيهم الأمير سيف الدين علي بن أحمد المعروف بالمشطوب الهكاري، والأمير بهاء الدين قراقوش الخادم الصلاحي، وضايقوهم أشد مضايقة إلى أن غلبوا عن حفظ البلد. فلما كان يوم الجمعة سابع عشر جمادى الآخرة من سنة سبع وثمانين وخمسمائة خرج من عكا رجل عوام، ومعه كتب من المسلمين يذكرون حالهم وما هم فيه، وأنهم قد تيقنوا الهلاك، ومتى أخذوا البلد عنوةً ضربت رقابهم، وأنهم صالحوا على أن يسلموا البلد وجميع ما فيه من الآلات والعدة والأسلحة والمراكب ومائتي ألف دينار، وخمسمائة أسير مجاهيل ومائة أسير معينين من جهتهم   (1) السيرة: 170. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 196 وصليب الصلبوت، على أن يخرجوا بأنفسهم سالمين، وما معهم من الأموال والأقمشة المختصة بهم وذراريهم ونسائهم، وضمنوا للمركيس - لأنه كان الواسطة في هذا الأمر - أربعة آلاف دينار، ولما وقف السلطان على الكتب المشار إليها انكر ذلك إنكاراً عظيماً وعظم عليه الأمر، وجمع أهل الرأي من أكابر دولته وشاورهم فيما يصنع، واضطربت آراؤه وتقسم فكره وتشوش حاله، وعزم على أن يكتب في تلك الليلة مع العوام وينكر عليهم المصالحة على هذا الوجه، وهو يتردد في هذا، فلم يشعر إلا وقد ارتفعت اعلام العدو وصلبانه وناره وشعاره على سور البلد، وذلك في ظهيرة يوم الجمعة سابع عشر جمادى الآخرة من السنة، وصاح الفرنج صيحة عظيمة واحدة، وعظمت المصيبة على المسلمين واشتد حزنهم، ووقع فيهم الصياح والعويل والبكاء والنحيب. ثم ذكر ابن شداد (1) بعد هذا أن الفرنج خرجوا من عكا قاصدين عسقلان ليأخذوها، وساروا على الساحل، والسلطان وعساكره في قبالتهم، إلى أن وصلوا إلى أرسوف، فكان بينهما قتال عظيم، ونال المسلمين منه وهن شديد، ثم ساروا على تلك الهيئة تتمة عشر منازل من مسيرهم من عكا، فأتى السلطان الرملة، وأتاه من اخبره بأن القوم على عزم عمارة يافا وتقويتها بالرجال والعدد والآلات، فأحضر السلطان أرباب مشورته وشاورهم في أمر عسقلان وهل الصواب خرابها ام بقاؤها فاتفقت آراؤهم أن يبقى الملك العادل في قبالة العدو، ويتوجه هو بنفسه ويخربها خوفاً من أن يصل العدو إليها ويستولي عليها وهي عامرة، ويأخذ بها القدس وتنقطع بها طريق مصر. وامتنع العسكر من الدخول وخافوا مما جرى على المسلمين بعكا، ورأوا أن حفظ القدس أولى، فتعين خرابها من عدة جهات، وكان هذا الاجتماع يوم الثلاثاء سابع عشر شعبان سنة سبع وثمانين وخمسمائة، فسار إليها سحرة الأربعاء ثامن عشر الشهر. قال ابن شداد (2) : وتحدث معي في معنى خرابها بعد أن تحدث   (1) السيرة: 175. (2) السيرة: 186. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 197 مع ولده الملك الأفضل في أمرها أيضاً ثم قال: لأن أفقد ولدي جميعهم أحب إلي من أن أهدم منها حجراً، ولكن إذا قضى الله تعالى ذلك وكان فيه مصلحة للمسلمين فما الحيلة في ذلك قال: ولما اتفق الرأي على إخرابها أوقع الله تعالى في نفسه ذلك، وان المصلحة فيه، لعجز المسلمين عن حفظها. وشرع في إخرابها سحرة يوم الخميس التاسع عشر من شعبان من السنة، وقسم السور على الناس، وجعل لكل أمير وطائفة من العسكر بدنةً معلومة وبرجاً معيناً يخربونه، ودخل الناس البلد ووقع فيهم الضجيج والبكاء، وكان بلداً خفيفاً على القلب محكم الأسوار عظيم البناء، مرغوباً في سكنه، فلحق الناس على خرابه حزن عظيم، وعظم عويل أهل البلد عليه لفراق أوطانهم، وشرعوا في بيع ما لا يقدرون على حمله، فباعوا ما يساوي عشرة دراهم بدرهم واحد وباعوا اثني عشر طير دجاج بدرهم واحد، واختبط البلد، وخرج الناس بأهلهم وأولادهم إلى المخيم وتشتتوا، فذهب قوم منهم إلى مصر وقوم إلى الشام، وجرت عليهم أمور عظيمة، واجتهد السلطان وأولاده في خراب البلد كي لا يسمع العدو فيسرع إليه ولا يمكن من إخرابه، وبات الناس على أصعب حال وأشد تعب مما قاسوه في خرابها. وفي تلك الليلة وصل من جانب الملك العادل من أخبر أن الفرنج تحدثوا معه في الصلح وطلبوا جميع البلاد الساحلية، فرأى السلطان أن ذلك مصلحة لما علم من نفس الناس من الضجر من القتال وكثرة ما عليهم من الديون، وكتب إليه يأذن له في ذلك، وفوض الأمر إلى رأيه، وأصبح يوم الجمعة العشرين من شعبان وهو مصرٌّ على الخراب، واستعمل الناس عليه وحثهم على العجلة فيه، وأباحهم ما في الهري الذي كان مدخراً للميرة (1) خوفاً من هجوم الفرنج والعجز عن نقله. وأمر بإحراق البلد فأضرمت النيران في بيوته. وكان سورها عظيماً، ولم يزل الخراب يعمل في البلد إلى سلخ شعبان من السنة، وأصبح يوم الإثنين مستهل شهر رمضان أمر ولده الملك الأفضل أن يباشر ذلك بنفسه وخواصه، ولقد رأيته يحمل الخشب بنفسه لأجل الإحراق.   (1) المختار: للميرة مدخراً. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 198 وفي يوم الأربعاء ثالث شهر رمضان أتى الرملة ثم خرج إلى لد، وأشرف عليها وأمر بإخرابها وإخراب قلعة الرملة، ففعل ذلك، وفي يوم السبت ثالث عشر شهر رمضان تأخر السلطان بالعسكر إلى جهة الجبل ليتمكن الناس من تسيير دوابهم لإحضار ما يحتاجون إليه (1) ، ودار السلطان حول النطرون، وهي قلعة منيعة، فأمر بإخرابها، وشرع الناس في ذلك. ثم ذكر ابن شداد (2) بعد هذا أن الانكتار، وهو من أكابر ملوك الفرنج، سير رسوله إلى الملك العادل يطلب الاجتماع به، فأجابه إلى ذلك واجتمعا يوم الجمعة ثامن عشر شوال من السنة وتحادثا معظم ذلك النهار، وانفصلا عن مودة اكيدة، والتمس الانكتار من العادل أن يسأل السلطان أن يجتمع به، فذكر العادل ذلك للسلطان، فاستشار أكابر دولته في ذلك، ووقع الاتفاق على انه جرى الصلح بيننا يكون الاجتماع بعد ذلك، ثم وصل رسول الانكتار، وقال: إن الملك يقول: إني أحب صداقتك ومودتك، وأنت تذكر أنك أعطيت هذه البلاد الساحلية لأخيك، فأريد أن تكون حكماً بيني وبينه وتقسم البلاد بيني وبينه ولا بد أن يكون لنا علقة بالقدس، وأطال الحديث في ذلك، فأجابه السلطان بوعد جميل، وأذن له في العود في الحال وتأثر لذلك تأثراً عظيماً. قال ابن شداد: وبعد انفصال الرسول قال لي السلطان: متى صالحناهم لم تؤمن غائلتهم، ولو حدث بي حادث الموت ما كانت تجتمع هذه العساكر، وتقوى الفرنج، والمصلحة أن لا نزول عن الجهاد حتى نخرجهم من الساحل أو يأتينا الموت، هذا كان رأيه وإنما غلب على الصلح. قال ابن شداد: ثم ترددت الرسل بينهم في الصلح، وأطال القول في ذلك فتركته إذ لا حاجة إليه، وجرت بعد ذلك وقعات أضربت عن ذكرها لطول الكلام فيها، وحاصل الأمر أنه تم الصلح بينهم، وكانت الأيمان يوم   (1) السيرة: ليتمكن الناس من أنقاذ دوابهم إلى العلوفة. (2) السيرة: 193. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 199 الأربعاء الثاني والعشرين من شعبان سنة ثمان وثمانين وخمسمائة، ونادى المنادي بانتظام الصلح، وان البلاد الإسلامية والنصرانية واحدة في الأمن والمسالمة، فمن شاء من كل طائفة يتردد إلى بلاد الطائفة الأخرى من غير خوف ولا محذور، وكان يوماً مشهوداً نال الطائفتين فيه من المسرة ما لا يعلمه إلا الله تعالى. وقد علم الله تعالى أن الصلح لم يكن عن مرضاته وإيثاره، ولكنه رأى المصلحة في الصلح لسآمة العسكر ومظاهرتهم بالمخالفة، وكان مصلحةً في علم الله تعالى، فإنه اتفقت وفاته بعد الصلح، فلو اتفق ذلك في أثناء وقعاته كان الإسلام على خطر. ثم أعطى للعساكر الواردة عليه من البلاد البعيدة برسم النجدة دستوراً فساروا عليه، وعزم على الحج لما فرغ باله من هذه الجهة. وتردد المسلمون إلى بلادهم، وجاءوا هم إلى بلاد المسلمين، وحملت البضائع والمتاجر إلى البلاد، وحضر منهم خلق كثير لزيارة القدس. وتوجه السلطان إلى القدس ليتفقد احوالها، واخوه الملك العادل إلى الكرك، وابنه الملك الظاهر إلى حلب، وابنه الأفضل إلى دمشق. وأقام السلطان بالقدس يقطع الناس ويعطيهم دستوراً، ويتأهب للمسير إلى الديار المصرية، وانقطع شوقه عن الحج، ولم يزل كذلك إلى أن صح عنده مسير مركب الانكتار متوجها إلى بلاده في مستهل شوال، فعند ذلك قوي عزمه أن يدخل الساحل جريدة يتفقد القلاع البحرية إلى بانياس، ويدخل دمشق ويقيم بها أياماً قلائل، ويعود إلى القدس ومنه إلى الديار المصرية. قال شيخنا ابن شداد (1) : وأمرني بالمقام في القدس إلى حين عوده لعمارة مارستان أنشأه به، وتكميل المدرسة التي أنشأها فيه. وسار منه ضاحي نهار الخميس السادس من شوال سنة ثمان وثمانين وخمسمائة. ولما فرغ من افتقاد (2) أحوال القلاع وإزاحة خللها دخل دمشق بكرة   (1) السيرة: 239. (2) المختار: تفقد. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 200 الأربعاء سادس عشر شوال، وفيها أولاده: الملك الأفضل، والملك الظاهر، والملك الظافر مظفر الدين الخضر المعروف بالمشمر، وأولاده الصغار. وكان يحب البلد ويؤثر الإقامة فيه على سائر البلاد. وجلس للناس في بكرة يوم الخميس السابع والعشرين منه، وحضروا عندهم وبلوا شوقهم منه، وأنشده الشعراء، ولم يتخلف أحد عنه من الخاص والعام، وأقام ينشر جناح عدله ويهطل سحاب إنعامه وفضله، ويكشف مظالم الرعايا. فلما كان يوم الاثنين مستهل ذي القعدة عمل الملك الأفضل دعوة للملك الظاهر، لانه لما وصل إلى دمشق وبلغه حركة السلطان أقام بها ليتملى بالنظر إليه ثانياً، وكأن نفسه كانت قد أحست بدنو أجله، فودعه في تلك الدفعة مراراً متعددة. ولما عمل الملك الأفضل الدعوة أظهر فيها من الهمم العالية ما يليق بهمته، وكأنه أراد بذلك مجازاته عما خدمه به حين وصل إلى بلده، وحضر الدعوة المذكورة أرباب الدنيا والآخرة، وسأل السلطان الحضور فحضر جبراً لقلبه، وكان يوماً مشهوداً على ما بلغني. ولما تصفح الملك العادل أحوال الكرك وأصلح ما قصد إصلاحه فيه، سار قاصداً إلى البلاد الفراتية، فوصل إلى دمشق في يوم الأربعاء سابع عشر ذي القعدة وخرج السلطان إلى لقائه، وأقام يتصيد حوالي غباغب إلى الكسوة حتى لقيه، وسارا جميعاً يتصيدان. وكان دخولهما إلى دمشق آخر نهار يوم الأحد حادي عشر ذي الحجة (1) سنة ثمان وثمانين، وأقام السلطان بدمشق يتصيد هو وأخوه وأولاده، ويتفرجون في أراضي دمشق ومواطن الصبا، وكأنه وجد راحة مما كان به من ملازمة التعب والنصب وسهر الليل، وكان ذلك كالوداع لأولاده ومراتع نزهه، ونسي عزمه إلى مصر، وعرضت له أمور أخرى وعزمات غير ما تقدم. قال ابن شداد (2) : ووصلني كتابه إلى القدس يستدعيني لخدمته، وكان شتاء شديداً ووحلاً عظيماً، فخرجت من القدس في يوم الجمعة الثالث والعشرين   (1) كتب فوقها في المسودة: القعدة؛ وهو لا يتفق مع ما تقدم. (2) السيرة: 241. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 201 من المحرم سنة تسع وثمانين، وكان الوصول إلى دمشق في يوم الثلاثاء ثاني عشر صفر من السنة. وركب السلطان لملتقى الحاج يوم الجمعة خامس عشر صفر، وكان ذلك آخر ركوبه. ولما (1) كان ليلة السبت وجد كسلاً عظيماً، وما تنصف الليل حتى غشيته حمى صفراوية، وكانت في باطنه أكثر منها في ظاهره، وأصبح يوم السبت متكسلاً عليه أثر الحمى، ولم يظهر ذلك للناس، لكن حضرت عنده أنا والقاضي الفاضل، ودخل ولده الملك الأقضل وطال جلوسنا عنده، وأخذ يشكو قلقه في الليل، وطاب له الحديث إلى قريب الظهر، ثم انصرفنا وقلوبنا عنده، فتقدم إلينا بالحضور على الطعام في خدمة ولده الملك الأفضل ولم تكن للقاضي الفاضل في ذلك عادة فانصرف، ودخلت إلى الإيوان القبلي وقد مد السماط، وابنه الملك الأفضل قد جلس في موضعه، فانصرفت. وما كانت لي قوة في الجلوس استيحاشاً له، وبكى في ذلك اليوم جماعة تفاؤلاً لجلوس ولده في موضعه. ثم أخذ المرض يتزيد من حينئذ ونحن نلازم التردد طرفي النهار، وندخل إليه أنا والقاضي الفاضل في النهار مراراً، وكان مرضه في رأسه، وكان من أمارات انتهاء العمر غيبة طبيبه الذي كان قد عرف مزاجه سفراً وحضرا، ورأى الأطباء فصده ففصدوه في الرابع فاشتد مرضه وقلت رطوبات بدنه، وكان يغلب عليه اليبس، ولم يزل المرض يتزايد حتى انتهى إلى غاية الضعف. واشتد مرضه في السادس والسابع والثامن، ولم يزل يتزايد ويغيب ذهنه. ولما كان التاسع حدثت له غشية وامتنع من تناول المشروب واشتد الخوف في البلد، وخاف الناس ونقلوا أقمشتهم من الأسواق، وعلا الناس من الكآبة والحزن ما لا تمكن حكايته. ولما كان العاشر من مرضه حقن دفعتين، وحصل من الحقن بعض الراحة وفرح الناس بذلك، ثم اشتد مرضه وأيس منه الأطباء، ثم شرع الملك الأفضل في تحليف الناس. ثم إنه توفي بعد صلاة الصبح من يوم الأربعاء السابع والعشرين من صفر   (1) السيرة: 243. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 202 سنة تسع وثمانين وخمسمائة. وكان يوم موته يوماً لم يصب الإسلام والمسلمون بمثله منذ فقد الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم، وغشي القلعة والملك والدنيا وحشة لا يعلمها إلا الله تعالى. وبالله لقد كنت أسمع من الناس أنهم يتمنون فداء من يعز عليهم بنفوسهم، وكنت أتوهم أن هذا الحديث على ضرب من التجوز والترخص، إلى ذلك اليوم فإني علمت من نفسي ومن غيري أنه لو قبل الفداء لفدي بالأنفس. ثم جلس ولده الملك الأفضل للعزاء، وغسله الدولعي. (391) قلت: الدولعي المذكور (1) ، هو ضياء الدين أبو القاسم عبد الملك بن زيد بن ياسين بن زيد بن قائد بن جميل التغلبي الأرقمي الدولعي الشافعي، خطيب جامع دمشق. توفي في ثاني عشر شهر ربيع الأول سنة ثمان وتسعين وخمسمائة وسئل عن مولده فقال: في سنة سبع وخمسمائة، ثم ذكر غير هذا، والله أعلم؛ ودفن بمقابر الشهداء بباب الصغير. قال: وأخرج بعد صلاة الظهر، رحمه الله، في تابوت مسجى بثوب فوط، فارتفعت الأصوات عند مشاهدته وعظم الضجيج وأخذ الناس في البكاء والعويل، وصلوا عليه أرسالاً، ثم أعيد إلى الدار التي في البستان، وهي التي كان متمرضاً بها، ودفن في الضفة الغربيةمنها، وكان نزوله في حفرته قريباً من صلاة العصر. ثم أطال ابن شداد القول في ذلك فحذفته خوفاً من الملالة، وأنشد في آخر " السيرة " (2) بيت أبي تمام الطائي، وهو: ثم انقضت تلك السنون وأهلها ... فكأنها وكأنهم أحلام   (1) ترجمة الدولعي في معجم البلدان (دولع) والذيل على الروضتين: 31 وعبر الذهبي 4: 303 والبداية والنهاية 13: 33 والنجوم الزاهرة 6: 81 والأسنوي 1: 513 وشذرات الذهب 4: 336 وابن قاضي شهبة: 151. (2) السيرة: 247. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 203 رحمه الله تعالى وقدس روحه، فلقد كان من محاسن الدنيا وغرائبها. وذكر سبط ابن الجوزي في تاريخه في سنة ثمان وسبعين وخمسمائة ما مثاله (1) : وفي خامس المحرم خرج صلاح الدين من مصر، فنزل البركة قاصداً الشام، وخرج أعيان الدولة لوداعه، وانشده الشعراء أبياتاً في الوداع، فسمع قائلاً يقول في ظاهر الخيمة: تمتع من شميم عرار نجد ... فما بعد العشية من عرار فطلب القائل فلم يوجد، فوجم السلطان وتطير الحاضرون، فكان كما قال، فإنه اشتغل ببلاد الشرق والفرنج، ولم يعد بعدها إلى مصر. قلت: وهذا البيت من جملة أبيات في " الحماسة " في باب النسيب (2) . وذكر شيخنا عز الدين ابن الأثير في تاريخه الكبير هذه القضية على صورة أخرى، فقال (3) : ومن عجيب ما يحكى من التطير أنه لما برز عن القاهرة أقام بخيمته حتى تجتمع العساكر، وعنده أعيان دولته والعلماء وأرباب الآداب، فمن بين مودع له وسائر معه، وكل واحد منهم يقول شيئاً في الوداع والفراق، وفي الحاضرين معلم لبعض أولاده، فأخرج رأسه من بين الحاضرين، وأنشد هذا البيت، فانقبض صلاح الدين وتطير بعد انبساطه وتنكد المجلس على الحاضرين، فلم يعد إليها إلى أن مات مع طول المدة. وذكر ابن شداد أيضاً في أوائل " السيرة " أنه مات ولم يخلف في خزانته من الذهب والفضة إلا سبعة وأربعين درهماً ناصرية، وجرماً واحداً ذهباً صورياً، ولم يخلف ملكا: لا داراً ولا عقاراً ولا بستاناً ولا قرية ولامزرعة. وفي ساعة موته كتب القاضي الفاضل إلى ولده الملك الظاهر صاحب حلب بطاقة مضمونها (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) (الأحزاب:   (1) مرآة الجنان: 368 - 369. (2) الحماسية رقم: 466 (شرح المرزوقي) . (3) تاريخ ابن الأثير 11: 478. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 204 21 - (إن زلزلة الساعة شيء عظيم) (الحج: 1) كتبت إلى مولانا السلطان الملك الظاهر أحسن الله عزاءه وجبر مصابه، وجعل فيه الخلف في الساعة المذكورة، وقد زلزل المسلمون زلزالاً شديداً، وقد حفرت الدموع المحاجر، وبلغت القلوب الحناجر، وقد ودعت أباك ومخدومي وداعاً لا تلاقي بعده، وقد قبلت وجهه عني وعنك، وأسلمته إلى الله تعالى مغلوب الحيلة ضعيف القوة، راضياً عن الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وبالباب من الجنود المجندة والأسلحة المعدة ما لم يدفع البلاء، ولا ملك يرد القضاء، وتدمع العين ويخشع القلب، ولا نقول إلا ما يرضي الرب وإنا عليك لمحزونون يا يوسف. وأما الوصايا فما تحتاج إليها، والآراء فقد شغلني المصاب عنها، وأما لائح الأمر فإنه إن وقع اتفاق فما عدمتم إلا شخصه الكريم، وإن كان غيره فالمصائب المستقبلة أهونها موته وهو الهول العظيم، والسلام ". قلت: لله دره، فلقد أبدع في هذه الرسالة الوجيزة، مع ما تضمنته من المقاصد السديدة، في مثل تلك الحالة التي يذهل فيها الإنسان عن نفسه. قلت: وقد ذكرت كل واحد من أولاده المذكورين، وهم الأفضل والظاهر والعزيز في ترجمة مستقلة، وعينت تاريخ مولده وموته، سوى الملك الظافر المشهور بالمشمر، فإني لم أذكر له ترجمة مستقلة، وقد ذكرته ها هنا فيحتاج إلى ذكر شيء من أحواله، فأقول: (392) لقبه مظفر الدين وكنيته أبو الدوام، وأبو العباس الخضر، وإنما قيل له المشمر لأن أباه، رحمه الله تعالى، لما قسم البلاد بين أولاده الكبار قال: وأنا مشمر، فغلب عليه هذا اللقب. وكان مولده بالقاهرة في سنة ثمان وستين وخمسمائة، في خامس شعبان، وهو شقيق الملك الأفضل، وتوفي في جمادى الأولى سنة سبع وعشرين وستمائة بحران، عند ابن عمه الملك الأشرف ابن الملك العادل، ولم يكن الأشرف يومئذ ملكاً وإنما كان مجتازاً بها عند دخوله بلاد الروم لأجل الخوارزمية. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 205 قال غير ابن شداد: ثم إن السلطان صلاح الدين، رحمه الله تعالى، بقي مدفوناً بقلعة دمشق إلى أن بنيت له قبة في شمالي الكلاسة التي هي شمالي جامع دمشق، ولها بابان أحدهما إلى الكلاسة والآخر في زقاق غير نافذ، وهو مجاور المدرسة العزيزية - قلت: ولقد دخلت إلى هذه القبة من الباب الذي في الكلاسة، وقرأت عنده وترحمت عليه، وأحضر لي القيم ومتولي القبة بقجة فيها ملبوس بدنه وكان في جملته قباء أصفر قصير ورأس كميه بأسود فتبركت به - قال: ثم نقل من مدفنه بالقلعة إلى هذه القبة في يوم عاشوراء، وكان الخميس من سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة، ورتب عنده القراء ومن يخدم المكان. ثم إن ولده الملك العزيز عماد الدين عثمان - المقدم ذكره (1) - لما أخذ دمشق من أخيه الملك الأفضل بنى إلى جانب هذه القبة المدرسة العزيزية (2) ، ووقف عليها وقفاً جيداً. وللقبة المذكورة شباك إلى هذه المدرسة، وهي من أعيان مدارس دمشق. وزرت قبره في أول جمعة من شهر رمضان سنة ثمانين وستمائة فقرأت على صندوق قبره بعد تاريخ وفاته ما مثاله: اللهم فارض عن تلك الروح، وافتح له أبوب الجنة فهي آخر ما كان يرجوه من الفتوح، وذكر قيم المكان أن هذا من كلام القاضي الفاضل. قلت: ولما ملك السلطان صلاح الدين الديار المصرية لم يكن بها شيء من المدارس، فإن الدولة المصرية كان مذهبها مذهب الإمامية، فلم يكونوا يقولون بهذه الأشياء، فعمر في القرافة الصغرى المدرسة المجاورة لضريح الإمام الشافعي رضي الله عنه - وقد تقدم ذكرها في ترجمة نجم الدين الخبوشاني - وبنى مدرسة بالقاهرة في جوار المشهد المنسوب إلى الحسين بن علي رضي الله عنهما، وجعل عليها وقفاً كبيراً، وجعل دار سعيد السعداء خادم المصريين خانقاه، ووقف عليها وقفاً طائلاً، وجعل دار عباس المذكور في ترجمة الظافر العبيدي والعادل ابن السلار مدرسة للحنفية، وعليها وقف جيد أيضاً،   (1) انظر ج 3: 251. (2) انظر عن هذه المدرسة كتاب الدارس 1: 382. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 206 والمدرسة التي بمصر المعروفة بزين التجار وقفاً على الشافعية ووقفها جيد أيضاً، وبنى بالقاهرة داخل القصر مارستانا، وله وقف جيد، وله بالقدس مدرسة أيضاً، وقفها كثير، وخانقاه بها أيضاً، وله بمصر مدرسة للمالكية. ولقد فكرت في نفسي في أمور هذا الرجل وقلت: إنه سعيد في الدنيا والآخرة، فإنه فعل في الدنيا هذه الأفعال المشهورة من الفتوحات الكبيرة وغيرها، ورتب هذه الأوقاف العظيمة، وليس فيها شيء منسوباً إليه في الظاهر، فإن المدرسة التي في القرافة ما يسميها الناس إلا بالشافعي، والمجاورة للمشهد لا يقولون إلا المشهد، والخانقاه لا يقولون إلا خانقاه سعيد السعداء، والمدرسة الحنفية لا يقولون أيضاً إلا مدرسة السيوفية، والتي بمصر لا يقولون إلا مدرسة زين التجار، والتي بمصر مدرسة المالكية، وهذه صدقة السر على الحقيقة. والعجب أن له بدمشق في جوار البيمارستان النوري مدرسة يقال لها الصلاحية فهي منسوبة إليه وليس لها وقف، وله بها مدرسة للمالكية أيضاً ولا تعرف به، وهذه النعم من ألطاف الله تعالى به. وكان، مع هذه المملكة المتسعة والسلطنة العظيمة، كثير التواضع واللطف قريباً من الناس رحيم القلب كثير الاحتمال والمداراة، وكان يحب العلماء وأهل الخير ويقربهم ويحسن إليهم، وكان يميل إلى الفضائل، ويستحسن الأشعار الجيدة، ويرددها في مجالسه، حتى قيل إنه كان كثيراً ما ينشد قول أبي منصور محمد بن الحسين بن أحمد بن الحسين بن إسحاق الحميري، وقيل إنها لأبي محمد أحمد بن علي بن خيران العامري، وكان أميراً بالمرية من بلاد الأندلس، وكان جده خيران من سبي المنصور بن أبي عامر فنسب إليه، والله أعلم، وهي هذه: وزارني طيف من أهوى على حذر ... من الوشاة وداعي الصبح قد هتفا فكدت أوقظ من حولي به فرحاً ... وكاد يهتك ستر الحب بي شغفا ثم انتبهت وآمالي تخيل لي ... نيل المنى فاستحالت غبطتي أسفا وقيل إنه كان أيضاً يعجبه قول نشؤ الملك أبي الحسن علي بن مفرج الجزء: 7 ¦ الصفحة: 207 المعروف بابن المنجم المعري الأصل المصري الدار والوفاة، وهو في خضاب الشيب، ولقد أحسن فيه: وما خضب الناس البياض لقبحه ... وأقبح منه حين يظهر ناصله ولكنه مات الشباب فسودت (1) ... على الرسم من حزن عليه منازله قالوا: فكان إذا قال ولكنه مات الشباب يمسك كريمته وينظر إليها ويقول: أي والله مات الشباب. وذكر العماد الكاتب الأصبهاني في كتاب " الخريدة " أن السلطان صلاح الدين في أول ملكه كتب إلى بعض أصحابه بدمشق هذين البيتين: أيها الغائبون عنا وإن كن ... تم لقلبي بذكركم جيرانا إنني مذ فقدتكم لأراكم ... بعيون الضمير عندي عيانا وأما القصيدتان اللتان ذكرت أن سبط ابن التعاويذي أنفذهما إليه من بغداد، فإن إحداهما وازن بها قصيدة صردر - المقدم ذكره - وقد ذكرت منا أبياتاً في ترجمة الوزير الكندري، وأولها: أكذا يجازى ود كل قرين ... وقصيدة سبط ابن التعاويذي أولها (2) : إن كان دينك في الصبابة ديني ... فقف المطي برملتي يبرين والثم ثرى لو شارفت بي هضبه ... أيدي المطي لثمته بجفوني وانشد فؤادي في الظباء معرضاً ... فبغير غزلان الصريم جنوني ونشيدتي بين الخيام، وإنما ... غالطت عنها بالظباء العين لولا العدا لم أكن عن ألحاظها ... وقدودها بجوازىءٍ وغصون   (1) بهامش المسودة، خ: فسخمت. (2) ديوانه: 420. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 208 لله ما اشتملت عليه قبابهم ... يوم النوى من لؤلؤ مكنون من كل تائهة على أترابها ... في الحسن غانية عن التحسين خود ترى قمر السماء إذا بدت ... ما بين سالفة لها وجبين غادين ما لمعت بروق ثغورهم ... إلا استهلت بالدموع شؤوني إن تنكروا نفس الصبا فلأنها ... مرت بزفرة قلبي المحزون وإذا الركائب في الحبال تلفتت ... فحنينها لتلفتي وحنيني يا سلم إن ضاعت عهودي عندكم ... فأنا الذي استودعت غير أمين أو عدت مغبوناً فما أنا في الهوى ... لكم بأول عاشق مغبون رفقاً فقد عسف الفراق بمطلق العبرات في أسر الغرام رهين ... ما لي ووصل الغانيات أرومه ... ولقد بخلن علي بالماعون وعلام أشكو والدماء مطاحة ... بلحاظهن إذا لوين ديوني هيهات ما للبيض في ود امرىء ... أرب وقد أربى على الخمسين ومن البلية أن تكون مطالبي ... جدوى بخيل أو وفاء خؤون ليت الضنين على المحب بوصله ... لقن السماحة من صلاح الدين وأما القصيدة الثانية فهي (1) : حتام أرضى في هواك وتغضب ... وإلى متى تجني علي وتعتب (2) ما كان لي لولا ملالك زلة ... لما مللت زعمت أني مذنب خذ في أفانين الصدود فإن لي ... قلباً على العلات لا يتقلب أتظنني أضمرت بعدك سلوة ... هيهات عطفك من سلوي أقرب لي فيك نار جوانح ما تنطفي ... حرقاً وماء مدامع ما تنضب أنسيت أياماً لنا وليالياً ... للهو فيها والبطالة ملعب أيام لا الواشي يعد ضلالة ... ولهي عليك ولا العذول يؤنب   (1) ديوانه: 22. (2) بضم التاء الثانية وكسرها، وفوقها " معاً " في المسودة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 209 قد كنت تنصفني المودة راكباً ... في الحب من اخطاره ما أركب واليوم أقنع أن يمر بمضجعي ... في النوم طيف خيالك المتأوب ما خلت أن جديد أيام الصبا ... يبلى ولا ثوب الشبيبة يسلب حتى انجلى ليل الغواية واهتدى ... ساري الدجى وانجاب ذاك الغيهب وتنافر البيض الحسان فأعرضت ... عني سعاد وأنكرتني زينب قالت وريعت من بياض مفارقي ... ونحول جسمي: بان منك الأطيب إن تنقمي سقمي فخصرك ناحل ... أو تنكري شيبي فثغرك أشنب قلت: لله دره، فلقد أجاد في هذا المعنى كل الإجادة، غير أنه قد ظن أن الشنب بياض الثغر، وعليه بنى هذا المعنى حتى تم له مقصوده، فإنها لما عيرته بالسقم قابلها بنحول الخصر، فقال لها: إن كنت نحيلاً فخصرك أيضاً نحيل، فلما أنكرت شيبه قابلها بأن ثغرها أشنب، فكأنه قال لها: بياض شيبي في مقابلة ثغرك الأشنب، وليس الأمر كما ظن، فإن الشنب في اللغة ليس البياض، وإنما هو حدة الأسنان، ويقال: بردها وعذوبتها، والصحيح أنه حدتها، وهو دليل على الحداثة، لأن الأسنان في أول طلوعها تكون حادة، فإذا مرت عليها السنون احتكت وذهبت حدتها. وهذا المعنى ينظر إلى قول النابغة الذبياني في جملة قصيدته المشهورة وهو (1) : ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب وقد تقدم ذكر هذا البيت في ترجمة عروة بن الزبير فيكشف هناك (2) . ومثله أيضاً ما أنشدني بهاء الدين زهير بن محمد الكاتب - المقدم ذكره - لنفسه من جملة أبيات، وهو قوله (3) : ما فيه من عيب سوى ... فتور عينيه فقط   (1) ديوان النابغة: 60. (2) انظر ج 3: 257. (3) ديوان البها زهير: 190 وترجمته 2: 332. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 210 رجع: يا طالباً بعد المشيب غضارة ... من عيشه ذهب الزمان المذهب أتروم بعد الأربعين تعدها ... وصل الدمى (1) هيهات عز المطلب ومن السفاه وقد شآك طلابه ... يفعاً تطلبه وفودك أشيب لولا الهوى العذري يا دار الهوى ... ما هاج لي طرياً وميض خلب كلا ولا استجديت أخلاف الحيا ... وندى صلاح الدين هام صيب وقد مدحه جميع شعراء عصره وانتجعوه من البلاد؛ فمنهم العلم الشاتاني، واسمه الحسن - وقد تقدم ذكره (2) - مدحه بقصيدته الرائية التي أولها: أرى النصر مقروناً برايتك الصفرا ... فسر واملك الدنيا فأنت بها أحرى ومدحه المهذب أبو حفص عمر بن محمد بن علي بن أبي نصر المعروف بابن الشحنة الموصلي الشاعر المشهور (3) بقصيدته التي أولها: سلام مشوق قد براه التشوق ... على جيرة الحي الذين تفرقوا وعدة أبياتها مائة وثلاثة عشر بيتاً، وفيها البيتان السائران، أحدهما: وإني امرؤ أحببتكم لمكارم ... سمعت بها، والأذن كالعين تعشق وقد أخذه من قول بشار بن برد - المقدم ذكره - وهو: يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة ... والأذن تعشق قبل العين أحيانا والبيت الثاني من قصيدة ابن الشحنة قوله: وقالت لي الآمال إن كنت لاحقاً ... بأبناء أيوب فأنت الموفق [ومما قيل فيه لبعض أهل المشرق:   (1) بهامش المسودة: الدمى جمع دمية وهي الصورة من العاج ونحوه. (2) ج 2: 113، وانظر الروضتين 2/1: 696. (3) البدر السافر: 47 وتوفي سنة 606. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 211 الله اكبر، جاء القوس باريها ... ورام أسهم دين الله راميها فكم لمصر على الأمصار من شرف ... باليوسفين فهل أرض تدانيها فبإبن يعقوب هزت جيدها طربا ... وبابن أيوب هزت عطفها تيها قل للملوك تخلى عن ممالكها ... فقد أتي آخذ الدنيا ومعطيها فلما أنشدها إياه أعطاه ألف دينار] (1) . ومدحه ابن قلاقس وابن الذروي وابن المنجم وابن سناء الملك وابن الساعاتي والبحراني الإربلي، وابن دهن الحصى الموصلي (2) ، ومحمد بن إسماعيل بن حمدان الحيزاني وغير هؤلاء، وقد ذكرت أكثر هذه الجماعة في هذا التاريخ. وعذري في تطويل هذه الترجمة قول المتنبي: وقد أطال ثنائي طول لابسه ... إن الثناء على التنبال تنبال التنبال: الرجل القصير، وهو بكسر التاء المثناة من فوقها وبعدها نون ساكنة وباء موحدة وبعد الألف لام. قلت: قد تقدم في هذه الترجمة عند ذكر إرسال العاضد إلى صلاح الدين وطلبه إياه ليخلع عليه ويوليه الوزارة ذكر المثل المشهور، وهو " أردت عمراً وأراد الله خارجة " وقد يقف عليه من لا يعرف سبب هذا المثل، ولا المراد منه، فأحببت أن أشرحه كيلا يحتاج من يقف عليه إلى كشفه من مكان آخر، فأقول: (393) عمرو المذكور (3) هو عمرو بن العاصي بن وائل بن هاشم بن سعيد بن سعد بن سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي القرشي السهمي،   (1) لم يرد في المسودة والمختار. (2) ابن دهن الحصى: الحسن بن هبة الله بن دهن الحصى الموصلي، كان بالموصل يمدح صاحبها، فلما حاصرها صلاح الدين ندحه بقصيدة، فتغير عليه صاحب الموصل، فهرب ولحق بصلاح الدين وكانت وفاته سنة 603 انظر الغصون اليانعة: (81 - 82) . (3) له ترجمة في كتب الصحابة، وأخباره في كتب التاريخ العامة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 212 كنيته أبو عبد الله، وقيل أبو محمد، أحد الصحابة رضي الله عنهم، أسلم سنة ثمان من الهجرة قبل فتح مكة، ومكة فتحها رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان من هذه السنة، وقيل بل أسلم بين الحديبية وخيبر، والأول أصح، وقدم هو وخالد بن الوليد المخزومي وعثمان بن طلحة بن أبي طلحة القرشي العبدري على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة مسلمين، فلما دخلوا عليه ونظر إليهم قال لهم: قد رمتكم مكة بأفلاذ كبدها. وقال الواقدي: قدم عمرو بن العاصي مسلماً على رسول الله صلى اله عليه وسلم، قد أسلم عند النجاشي ملك الحبشة، وقدم معه عثمان بن طلحة وخالد بن الوليد، فقدموا المدينة في صفر سنة ثمان من الهجرة، وقيل إنه لم يأت من أرض الحبشة إلا معتقداً الإسلام، وذلك أن النجاشي قال له: يا عمرو، كيف يعزب عنك أمر ابن عمك فوالله إنه لرسول الله حقاً، قال: أتحقق ذلك قال: أي والله، فأطعني، فخرج من عنده مهاجراً إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم على سرية إلى الشام يدعو أخوال أبيه إلى الإسلام، فبلغ السلاسل من بلاد قضاعة، وهو ماء بأرض جذام، وبذلك سميت تلك الغزوة " ذات السلاسل " وكان معه ثلثمائة رجل، فخاف عمرو، فكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستمده، فأمده بجيش مائتي فارس من المهاجرين والأنصار أهل الشرف، فيهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، وأمر عليهم أبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنه، فلما قدموا على عمرو بن العاصي قال: أنا أميركم وإنما أنتم مددي، فقال أبو عبيدة: بل أنت أمير من معك وأنا أمير من معي، فأبى عمرو، فقال أبو عبيدة، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلي إذا قدمت على عمرو فتطاوعا ولا تختلفا، فإن خالفتني أطعتك، قال عمرو: فإني أخالفك، فسلم إليه أبو عبيدة، وصلى خلفه في الجيش كله، وكانوا خمسمائة. وولى رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاصي على عمان، فلم يزل عليها حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي سنة اثنتي عشرة بعث أبو بكر رضي الله عنه عمرو بن العاصي ويزيد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 213 بن أبي سفيان الأموي، وأبا عبيدة بن الجراح، وشرحبيل بن حسنة، إلى الشام، وسار إليهم خالد بن الوليد رضي الله عنه من العراق، وأول شيء فتحوا من الشام بصرى صلحاً. وتوفي أبو بكر رضي الله عنه، واستخلف عمر رضي الله عنه فولى أبو عبيدة على الجيش، وفتح الله تعالى عليه الشام، فولى يزيد بن أبي سفيان على فلسطين، وهي كورة قصبتها الرملة. ولما مات أبو عبيدة استخلف معاذ بن جبل، ومات معاذ فاستخلف يزيد بن أبي سفيان، ومات يزيد فاستخلف أخاه معاوية بن أبي سفيان، وكتب إليه عمر رضي الله عنه بعهده على ما كان عليه أخوه يزيد، وكان موت هؤلاء كلهم في طاعون عمواس، في سنة ثماني عشرة للهجرة. وعمواس: بفتح العين المهملة والميم وفي آخرها سين مهملة، وهي قرية بالشام بين نابلس والرملة، وكان الطاعون بها في العام المذكور. وقيل بل مات يزيد بن أبي سفيان في ذي الحجة من سنة تسع عشرة بدمشق، والله أعلم، وذلك بعد فتح قيسارية. وكان عمر رضي الله عنه قد ولى عمرو بن العاصي بعد موت يزيد بن أبي سفيان فلسطين والأردن، وولى معاوية دمشق وبعلبك والبلقاء، وولى سعيد بن عامر بن حذيم حمص، ثم جمع الشام كلها لمعاوية، وكتب إلى عمرو فسار إلى مصر فافتتحها في سنة عشرين للهجرة، فلم يزل عليها والياً حتى مات عمر رضي الله عنه، فأقره عثمان رضي الله عنه عليها أربع سنين أو نحوها، ثم عزله وولى عبد الله بن سعد بن أبي سرح العامري، وكان أخا عثمان رضي الله عنه من الرضاعة، فاعتزل عمرو بن العاصي في ناحية فلسطين وكان يأتي المدينة أحياناً. فلما قتل عثمان رضي الله عنه سار إلى معاوية باستجلاب معاوية إياه، وشهد صفين مع معاوية وكان منه في صفين وقضية التحكيم ما هو مشهور عند أهل العلم بهذا الفن، وكان قد طلب من معاوية أنه إذا تم له الأمر يوليه مصر، وكتب إليه في بعض أيام طلبه: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 214 معاوي لا أعطيك ديني ولم أنل ... به منك دنيا فانظرن كيف تصنع فإن تعطني مصراً فأربح بصفقة ... أخذت بها شيخاً يضر وينفع ثم ولاه معاوية مصر، فلم يزل بها أميراً إلى أن مات يوم عيد الفطر من سنة ثلاث وأربعين للهجرة، وقيل سنة اثنتين وأربعين، وقيل سنة ثمان وأربعين، وقيل سنة إحدى وخمسين، والأول أصح، وعمره تسعون سنة، ودفن بسفح المقطم، وصلى عليه ابنه عبد الله. ولما رجع صلى بالناس العيد، ثم عزل معاوية عبد الله بن عمرو بن العاصي، وولى أخاه عتبة بن أبي سفيان، فمات عتبة بعد سنة أو نحوها فولى معاوية مسلمة بن مخلد. وكان عمرو بن العاصي من فرسان قريش وأبطالهم في الجاهلية، وكان من الدهاة في أمور الدنيا المقدمين في الرأي، وكان عمر رضي الله عنه إذا استضعف رجلاً في رأيه قال: أشهد أن خالقك وخالق عمرو واحد، يريد خالق الأضداد. وذكر أبو العباس المبرد في كتاب " الكامل " (1) أن عمرو بن العاصي لما حضرته الوفاة دخل عليه ابن عباس رضي الله عنهما، فقال له: يا أبا عبد الله، كنت أسمعك كثيراً ما تقول: وددت لو رأيت رجلاً عاقلاً حضرته الوفاة حتى أسأله عما يجد، فكيف تجد فقال: أجد كأن السماء مطبقة على الأرض وكأني بينهما، وكأنما أتنفس من خرت إبرة، ثم قال: اللهم خذ مني حتى ترضى. فدخل عليه ولده عبد الله فقال له: يا ولدي، خذ ذلك الصندوق قال: لا حاجة لي به، فقال: إنه مملوء مالاً، فقال: لا حاجة لي به، فقال: ليته مملوء بعراً، ثم رفع يديه وقال: اللهم إنك أمرت فعصينا، ونهيت فارتكبنا، فلا بريء فأعتذر، ولا قوي فأنتصر، ولكن لا إله إلا أنت، ثم فاظ. قلت: يقال فاظ وفاض، بالظاء والضاد، أي مات، قال الشاعر:   (1) الكامل 1: 267. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 215 لا يدفنون منهم من فاظا ... (394) وأما خارجة المذكور في هذا المثل فإنه خارجة بن حذافة بن غانم بن عبد الله بن عوف بن عبيد بن عويج بن عدي بن كعب القرشي العدوي، شهد فتح مصر واختط بمصر، وكان أمير ربع المدد الذين أمد بهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه عمرو بن العاصي في فتح مصر، وكان على شرط مصر في إمرة عمرو بن العاصي لمعاوية بن أبي سفيان الأموي. قتله خارجي بمصر سنة أربعين للهجرة، وهو يحسب انه عمرو بن العاصي، هكذا قاله ابن يونس في " تاريخ مصر ". وذكره في كتاب " الاستيعاب " (1) لابن عبد البر، وساق نسبه على هذه الصورة. ثم قال: يقال إنه كان يعد بألف فارس؛ ذكر بعض أهل النسب والأخبار أن عمرو بن العاصي كتب إلى عمر رضي الله عنه يستمده بثلاثة آلاف فارس، فأمده بخارجة بن حذافة والزبير بن العوام والمقداد بن الأسود الكندي، وشهد خارجة فتح مصر، وقيل إنه كان قاضياً لعمرو بن العاصي بها، وقيل إنه كان على شرطة عمرو، ولم يزل بها إلى أن قتل، قتله أحد الخوارج الثلاثة الذين كانوا انتدبوا لقتل علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، ومعاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاصي، فأراد الخارجي قتل عمرو فقتل خارجة هذا وهو يظنه عمراً، وذلك أنه كان استخلفه عمرو بن العاصي على صلاة الصبح ذلك اليوم، فلما قتله أخذ وأدخل على عمرو، فقال: من هذا الذي أدخلتموني عليه، فقالوا عمرو بن العاص، فقال: ومن قتلت فقالوا: خارجة، فقال: أردت عمراً وأراد الله خارجة. وقد قيل إن الخارجي الذي قتله لما أدخل على عمرو، قال له عمرو: أردت عمراً وأراد الله خارجة، والله أعلم من قال ذلك منهما. والذي قتل خارجة هذا رجل من بني العنبر بن عمرو بن تميم، يقال له داذويه. وقيل إنه مولى لبني العنبر. وقد قيل إن خارجة الذي قتله الخارجي بمصر،   (1) الاستيعاب: 418. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 216 على أنه عمرو بن العاصي، رجل يسمى خارجة من بني سهم رهط عمرو بن العاصي، وليس بشيء؛ انتهى ما قاله صاحب " الاستيعاب ". وقال غيره: إن عمرو بن العاصي أصابه شيء في بطنه فتخلف في منزله تلك الليلة. وكان خارجة يعشي الناس، فضربه الخارجي، وكان عمرو يقول: ما نفعني بطني قط إلا تلك الليلة. قلت: فهذا أصل المثل في قولهم " أردت عمراً وأراد الله خارجة ". وإلى هذا أشار أبو محمد عبد المجيد بن عبدون الأندلسي في قصيدته التي رثى بها بني الأفطس ملوك بطليوس وأولها: الدهر يفجع بعد العين بالأثر ... بقوله: وليتها إذا فدت عمراً بخارجة ... فدت علياً بمن شاءت من البشر وهي من غرر القصائد جمعت تاريخاً كثيراً، وشرحها الأديب أبو مروان عبد الملك بن عبد الله بن بدرون الحضرمي الشلبي، شرحاً مستوفى. وهذا البيت يحتاج إلى شرح أيضاً وهو من تتمة الكلام على المثل المذكور لكني أذكره مختصراً فإنه طويل: ذكر أهل علم التاريخ أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما بويع بالخلافة في اليوم الذي قتل فيه عثمان بن عفان رضي الله عنه خرج عليه من قاتله في وقعة الجمل - وقد ذكرت طرفاً من هذه الوقعة في ترجمة يموت بن المزرع، ساقها الكلام هناك فذكرت المقصود منه - ثم كانت وقعة صفين عند خروج معاوية بن أبي سفيان الأموي، وعمرو بن العاصي، على علي بن أبي طالب، رضي الله عنه فتوجه إليهم من العراق، وجاءوه من الشام، والتقوا على صفين، وهو موضع على شاطئ الفرات بالقرب من الرحبة، وهي واقعة مشهورة، وكانت في سنة سبع وثلاثين من الهجرة. ولما غلب الجزء: 7 ¦ الصفحة: 217 أهل الشام طلبوا من علي بن أبي طالب رضي الله عنه التحكيم، فأجابهم إليه بعد معاودات كثيرة، فخرج على علي جماعة من أصحابه، وقالوا حكمت في دين الله، ولا حكم إلا لله، ورحلوا إلى النهروان، فمضى إليهم وقاتلهم واستأصلهم إلا اليسير منهم، وهي أيضاً واقعة مشهورة بقتال الخوارج. ولما طال الأمر في ذلك اجتمعوا وقالوا: إن علياً ومعاوية وعمرو بن العاصي قد أفسدوا أمر هذه الأمة، فلو قتلناهم لعاد الأمر إلى حقه، فقال عبد الرحمن بن ملجم المرادي: أنا أقتل علياً قالوا فكيف لك بذلك قال: أغتاله، وقال الحجاج بن عبد الله الصريمي: أنا أقتل معاوية ويعرف هذا الصريمي بالبرك، وقال داذويه، وقيل زاذويه - وقد تقدم الكلام عليه في الكلام على خارجة بن حذافة -: أنا أقتل عمراً، وأجمعوا آرائهم على أن يكون ذلك في ليلة واحدة، فدخل ابن ملجم الكوفة، وعلي رضي الله عنه بها، فاشترى سيفاً بألف درهم وسقاه السم حتى لفظه. فلما خرج علي لصلاة الصبح كان ابن ملجم قد كمن له فضربه على رأسه وقال: الحكم لله يا علي، لا لك، وقيل إنه ضربه وهو في صلاة الصبح، وذلك في صبيحة الجمعة لسبع عشرة ليلة مضت من شهر رمضان من سنة أربعين للهجرة، وقيل غير هذا التاريخ. وقدم البرك الصريمي على معاوية بدمشق فضربه فجرح أليته، وهو في الصلاة، ويقال إنه قطع عرق النسل، فما أحبل بعدها. وأما عمرو فقد سبق الكلام عليه عند قتل خارجة وهذا تفسير المثل والبيت الشعر على سبيل الاختصار، والله أعلم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 218 847 - (1) الموفق بن الخلال الكاتب أبو الحجاج يوسف بن محمد المعروف بابن الخلال، الملقب بالموفق، صاحب ديوان الإنشاء بمصر في دولة الحافظ أبي الميمون عبد المجيد العبيدي - المقدم ذكره (2) - ومن بعده؛ قال عماد الدين الكاتب الأصبهاني في كتاب " الخريدة " في حقه (3) : " هو ناظر مصر وإنسان ناظره، وجامع مفاخره، وكان إليه الإنشاء، وله قوة على الترسل يكتب كما يشاء، عاش كثيراً وعطل في آخر عمره وأضر، ولزم بيته إلى أن تعوض منه القبر، وتوفي بعد ملك الملك الناصر مصر بثلاث أو أربع سنين " وذكر له عدة مقاطيع من الشعر نورد شيئاً منها بعد هذا إن شاء الله تعالى. وذكره ضياء الدين أبو الفتح نصر الله المعروف بابن الأثير الجزري ثم الموصلي - المقدم ذكره (4) - في الفصل الأول من كتابه الذي سماه " الوشي المرقوم في حل المنظوم " فقال: حدثني القاضي الفاضل عبد الرحيم بن علي البيساني، رحمه الله تعالى، بمدينة دمشق في سنة ثمان وثمانين وخمسمائة، وكان إذ ذاك كاتب الدولة الصلاحية فقال: كان فن الكتابة بمصر في زمن الدولة العلوية غضاً طرياً، وكان لا يخلو ديوان المكاتبات من رأس يرأس   (1) ترجمته في الخريدة (قسم مصر) 1: 235 ونكت الهميان: 314 ومرآة الجنان 3: 379 والشذرات 4: 219 وحسن المحاضرة 1: 324. (2) انظر ج 3: 235. (3) الخريدة 1: 235. (4) انظر ج 5: 389. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 219 مكاناً وبياناً، ويقيم لسلطانه بقلمه سلطاناً، وكان (1) من العادة أن كلا من أرباب الدواوين إذا نشأ له ولد وشدا شيئاً من علم الأدب أحضره إلى ديوان المكاتبات ليتعلم فن الكتابة ويتدرب ويرى ويسمع (2) قال: فأرسلني والدي، وكان إذ ذاك قاضياً بثغر عسقلان، إلى الديار المصرية في أيام الحافظ، وهو أحد خلفائها، وأمرني بالمصير إلى ديوان المكاتبات، وكان الذي يرأس به في تلك الأيام رجلاً يقال له " ابن الخلال "؛ فلما حضرت الديوان ومثلت بين يديه وعرفته من أنا وما طلبتي، رحب بي وسهل، ثم قال لي: ما الذي أعددت لفن الكتابة من الآلات فقلت: ليس عندي شيء سوى أني أحفظ القرآن الكريم، وكتاب " الحماسة " فقال (3) : في هذا بلاغ، ثم أمرني بملازمته، فلما ترددت إليه وتدربت بين يديه، أمرني بعد ذلك أن أحل شعر الحماسة، فحللته من أوله إلى آخره، ثم أمرني أن أحله مرة ثانية فحللته؛ انتهى ما ذكره ابن الأثير. قلت: وبعد أن نقلت ما قاله ضياء الدين بن الأثير على هذه الصورة، اجتمع بي من له عناية بالأدب خصوصاً هذا الفن. وهو من أعرف الناس بأحوال القاضي الفاضل، وقال لي: هذا الذي ذكره ابن الأثير ما يمكن تصحيحه ولعله قد غلط في النقل، فإن القاضي الفاضل لم يدخل إلى الديار المصرية إلا في أيام الظافر ابن الحافظ، وكان وصوله إليها مع أبيه في أمر يختص بهم. ثم إني وجدت في بعض تعاليقي بخطي، وما أدري من أين نقلته، أن القاضي الأشرف والد القاضي الفاضل كان من أهل عسقلان، وكان ينوب في الحكم والنظر (4) بمدينة بيسان، فدخل إلى مصر في زمان الظافر بن الحافظ لكلام جرى بينه وبين والي الناحية من أجل كند (5) كبير كان عندهم   (1) س: فكان. (2) زاد في المطبوعة المصرية هنا: أشياء من علم الأدب؛ ولا وجود لهذه العبارة في المسودة وسائر المخطوطات. (3) س: فقال لي إن ... (4) س: النظر والحكم. (5) كذا هو في المسودة والنسخة ق؛ وفي س ع: كيد، وسقط التعليق كله من ر. ووردت اللفظة غير معجمة في: من؛ ولم أعرف معنى الكلمة بالضبط، ولكن دي سلان وضع في ترجمتها كلمة estate؛ والمعروف أن كلمة " كند " تعريب للفظة " كونت " وهي لقب لبعض أمراء الفرنجة؛ وقوله " أطلقه " ربما عنى أن ذلك الكند كان أسيراً عندهم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 220 له قيمة كبيرة، فداجى الوالي في حقه واطلقه، فاستدعي الوالي إلى مصر لذلك وطولب بمال طائل، فاحتمى ببعض أمراء الدولة، وجعلوا الأقاويل في حق القاضي الأشرف، فاستدعي وصودر إلى أن لم يبق له شي، ولم يكن معه من الأولاد سوى القاضي الفاضل، فحمل على قلبه وتوفي بالقاهرة ليلة الأحد حادي عشر شهر ربيع الأول من سنة ست وأربعين وخمسمائة، ودفن بسفح المقطم. ثم توجه القاضي الفاضل إلى ثغر الإسكندرية، وحضر عند ابن حديد قاضي البلد وناظره، فعرفه بوالده، فعرفه بالسمعة واستكتبه، وأخذ الفرنج عسقلان فحضر إخوته إليه. وكانت مكاتبات ابن حديد ترد إلى مصر بخطه، وهي في غاية البلاغة، فحسده كتاب الإنشاء بها (1) على فضله وخافوا من تقدمه عليهم، فسعوا إلى الظافر به فقالوا: إنه قصر في المكاتبة، وكان صاحب ديوان الإنشاء القاضي الأثير ابن بنان، فيحكى أنه دخل على الظافر فقال له: تكتب إلى ابن حديد بقطع يد كاتبه، فتعصب له ابن بنان وقال: يا مولانا هذا الرجل ما منه تقصير، وإنما حسده هؤلاء الكتاب فسعوا به ليؤذيه مولانا، قال له الظافر: فتكتب إلى ابن حديد ليرسله إلينا ويكتب لنا. قال ابن بنان: وكنت بعد ذلك في مجلس الظافر، فرأيت القاضي الفاضل وقد حضر وهو قائم بين يديه، ثم استخدمه، والله أعلم. وقال العماد في " الخريدة "؛ أنشدني مرهف بن أسامة بن منقذ قال، أنشدني الموفق بن الخلال لنفسه من قصيدة: عذبت ليال بالعذيب حوالي ... وخلت مواقف بالوصال خوالي (2)   (1) س: كتاب انشائها. (2) الخريدة 1: 235؛ وهذا البيت جاء ثانياص في س. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 221 ومضت لذاذات تقضى ذكرها ... تصبي الخلي وتستهيم السالي وجلت موردة الخدود فأوثقت ... في الصبوة الخالي بحسن الخال قالوا سراة بني هلال أصلها ... صدقوا كذاك البدر فرع هلال قال العماد في " الخريدة " أيضاً (1) : ونقلت من كتاب " جنان الجنان ورياض الأذهان " - قلت: وهو تأليف الرشيد بن الزبير المقدم ذكره (2) - من شعر ابن الخلال قوله: وأغن سيف لحاظه ... يفري الحسام بحده فضح الصوارم واللدا ... ن بقده وبقده عجب الورى لما حييت وقد منيت (3) ببعده ... وبقاء جسمي ناحلاً ... يصلى بوقدة صده كبقاء عنبر خاله ... في نار صفحة خده وقوله (4) : أما اللسان فقد أخفى وقد كتما ... لو أمكن الجفن كف الدمع حين همى أصبتم بسهام اللحظ مهجته ... فهل يلام إذا أجرى الدموع دما قد صار بالسقم من تعذيبكم علماً ... ولم يبح بالذي من جوركم علما فما على صامت أبدى لصدكم ... في كل جارحة منه السقام فما وأورد له في الشمعة (5) : وصحيحة بيضاء تطلع في الدجى ... صبحاً وتشفي الناظرين بدائها   (1) المصدر نفسه. (2) انظر ج 1: 160. (3) المختار: بليت. (4) الخريدة 1: 236. (5) المصدر نفسه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 222 شابت ذوائبها أوان شبابها ... واسود مفرقها أوان فنائها كالعين في طبقاتها ودموعها ... وسوادها وبياضها وضيائها وذكر العماد في " الخريدة " أيضاً في ترجمة القاضي أبي المعالي عبد العزيز بن الحسين بن الجباب أبياتاً كتبها ابن الجباب المذكور إلى الرشيد بن الزبير في نكبة جرت للموفق (1) بن الخلال المذكور، وقال العماد: كان خاله - ولم يذكر أيهما خال الآخر - وكان ابن الجباب قد حصل له بسبب نكبة ابن الخلال صداع، والأبيات المشار إليها (2) : تسمع مقالي يا ابن الزبير ... فأنت خليق بأن تسمعه بلينا بذي نسب شابك ... قليل الجدى في زمان الدعه إذا ناله الخير لم نرجه ... وإن صفعوه صفعنا معه وهذا من قول حصين بن خصفة السعدي الخارجي يخاطب قطري بن الفجاءة رئيس الخوارج - المقدم ذكره (3) -: وأنت الذي لا نستطيع فراقه ... حياتك لا نفع وموتك ضائر (4) ثم إني كشفت عن قول العماد: كان خاله، ولم يبينه، فوجدت ابن الخلال المذكور خال ابن الجباب المذكور. وذكر العماد أيضاً في كتاب " السيل والذيل " الذي جعله ذيلاً على كتاب " الخريدة " ابن الخلال أيضاً، وأورد له: وغزال نار وجنته ... أذكت النيران في كبدي وله طرف لواحظه ... نصرت شوقي على جلدي قذفت عيني سوالفه ... فتوارت منه بالزرد   (1) ورد هذا الاسم في الخريدة (1: 189) ابن الحباب - بالحاء المهملة - وكذلك هو في بعض نسخ الوفيات. والشكل الذي أثبته هنا بخط المؤلف، أي بالجيم والباء المشددة. (2) الخريدة 1: 191. (3) انظر ج 4: 93. (4) وهذا من قول ... ضائر: لم يرد في س؛ وانظر شعر الخوارج: 40. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 223 والبيت الأخير مأخوذ من قول أبي محمد الحسن بن جكينا (1) البغدادي الشاعر المشهور: طرفك يرمي قلبي بأسهمه ... فما لخديك تلبس الزردا وقد روي لغيره أيضاً، والله اعلم. ثم وجدت في كتاب " خريدة القصر " تأليف عماد الدين الكاتب الأصفهاني لعبد السلام بن الجكر (2) المعروف بابن الصواف الواسطي: لو كان أمري إلي أو بيدي ... أعددت لي قبل بينك العددا طرفك يرمي قلبي بأسهمه ... فما لخديك تلبس الزردا ريقته الشهد والدليل على ... ذلك نمل بخده صعدا وذكر أبو الحسن علي بن ظافر الأزدي المصري في كتاب " بدائع البدائه " (3) أن أبا القاسم ابن هانئ (4) الشاعر المتأخر هجا ابن الخلال المذكور، وبلغه هجوه فأضمر له حقداً، واتفق بعض المواسم التي جرت عادة ملوك مصر بالحضور فيه لاستماع المدائح، فجلس الحافظ أبو الميمون عبد المجيد ملك مصر إذ ذاك، فأنشده الشعراء، وانتهت النوبة إلى ابن هانىء المذكور، فأنشد وأجاد فيما قاله، فقال الحافظ للموفق المذكور: كيف تسمع فأثنى عليه واستجاد شعره وبالغ في وصفه، ثم قال له: ولو لم يكن له ما يمت به إلا انتسابه إلى أبي القاسم بن هانىء شاعر هذه الدولة ومظهر مفاخرها وناظم مآثرها، لولا بيت أظهره منه الضجر عند دخوله هذه البلاد، فقال له الحافظ: ما هو فتحرج من إنشاده، فأبى الحافظ إلا أن ينشده، وفي أثناء ذلك صنع بيتاً، وهو:   (1) ثابت بالجيم بخط المؤلف، وقد ضبطه الزبيدي في التاج 9: 183 بالحاء المهملة. (2) س: الحكر. (3) بدائع البدائه: 389 - 490. (4) ترجم العماد في الخريدة 1: 248 (قسم مصر) لمحمد بن هانئ ولكنه جعل كنيته " ابا عبد الله " وهو أندلسي الأصل، سكن مصر وتوفي في آخر أيام الصالح بن رزيك قبل سنة ستين (وخمسمائة) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 224 تباً لمصر فقد صارت خلافتها ... عظماً تنقل من كلب إلى كلب فعظم ذلك على الحافظ، وقطع صلته وكاد يفرط في عقوبته، والله أعلم. ولم يزل ابن الخلال بديوان الإنشاء إلى أن طعن في السن وعجز عن الحركة، فانقطع في بيته. ويقال إن القاضي كان يرعى له حق الصحبة والتعليم، فكان يجري عليه ما يحتاج إليه إلى أن مات في الثالث والعشرين من جمادى الآخرة سنة ست وستين وخمسمائة، رحمه الله تعالى. 848 - (1) الرمادي الشاعر أبو عمر يوسف بن هارون الكندي، المعروف بالرمادي، الشاعر المشهور؛ ذكره الحافظ أبو عبد الله الحميدي في كتاب " جذوة المقتبس " فقال (2) : أظن أحد آبائه كان من أهل رمادة، موضع بالمغرب؛ شاعر قرطبي كثير الشعر سريع القول مشهور عند الخاصة والعامة هنالك لسلوكه في فنون من المنظوم مسالك تنفق عند الكل، حتى كان كثير من شيوخ الأدب في وقته يقولون: فتح الشعر بكندة وختم بكندة، يعنون امرأ القيس والمتنبي ويوسف بن هارون، وكانا متعاصرين، واستدللت على ذلك بمدحه أبا علي   (1) ترجمته في بغية الملتمس رقم: 1451 والصلة: 637 والمطرب: 4 والمطمح: 69 والمغرب 1: 392 ومسالك الأبصار 11: 175 واليتيمة 2: 12، 100 والمقتبس: 74، 75 ومعجم الأدباء 20: 62 وله أشعار في البديع في وصف الربيع للحميري وفي التشبيهات من اشعار أهل الأندلس والنفح وشرح الشريشي على المقامات، وفي كتابي " تاريخ الأدب الأندلسي - عصر سيادة قرطبة ": 155 - 169 (الطبعة الأولى) دراسة عنه. (2) الجذوة: 346. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 225 إسماعيل بن القاسم القالي عند دخوله الأندلس بالقصيدة التي أولها: من حاكم بيني وبين عذولي ... الشجو شجوي والعويل عويلي وكان وصول أبي علي القالي إلى الأندلس في سنة ثلاثين وثلثمائة - قلت: وقد سبق ذكر ذلك في ترجمته (1) - ثم ذكر له الحميدي وقائع وعدة مقاطيع من الشعر، وأنه ألف كتاباً في الطير، وسجن مدة. قلت: وقد ذكر أبو منصور الثعالبي في كتاب " يتيمة الدهر " (2) الأبيات التي مدح بها يوسف بن هرون أبا علي القالي، وأورد له بعد البيت المذكور قوله: في أي جارحة أصون معذبي ... سلمت من التعذيب والتنكيل إن قلت في بصري فثم مدامعي ... أو قلت في كبدي فثم غليلي وثلاث شيبات نزلن بمفرقي ... فعلمت أن نزولهن رحيلي طلعت ثلاثاً في نزول ثلاثة ... واش ووجه مراقب وثقيل فعزلنني عن صبوتي فلئن ذللت لقد سمعت بذلة المعزول ... قلت: ثم خرج بعد هذا إلى المدح، وكان قد وصف الصيد والروض فقال: روض تعاهده السحاب كأنه ... متعاهد من عهد إسماعيل قسه إلى الأعراب تعلم أنه ... أولى من الأعراب بالتفضيل حازت قبائلهم لغات فرقت ... فيهم، وحاز لغات كل قبيل فالشرق خال بعده فكأنما ... نزل الخراب بربعه المأهول وكأنه الشمس بدت في غربنا ... وتغيبت عن شرقهم (3) بأفول   (1) انظر ج 1: 227. (2) اليتمية 2: 100 - 101. (3) س: شرقها. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 226 يا سيدي هذا ثنائي لم أقل ... زوراً ولا عرضت بالتنويل من كان يأمل نائلاً فأنا امرؤ ... لم أرج غير القرب في (1) تأميلي وله في غلام ألثغ من جملة أبيات: لا الراء تطمع في الوصال ولا أنا ... الهجر يجمعنا فنحن سواء فإذا خلوت كتبتها في راحتي ... وبكيت منتحباً أنا والراء وله فيه أيضاً: أعد لثغة في الراء لو أن واصلاً ... تسمعها ما أسقط الراء واصل قلت: وهذا واصل هو واصل بن عطاء - المقدم ذكره في حرف الواو وقد ذكرت هناك هذا الشاعر وشيئاً من شعره (2) . قلت: وذكره ابن بشكوال في كتاب " الصلة "، فقال: " يوسف بن هرون الرمادي الشاعر من أهل قرطبة، يكنى أبا عمر، كان شاعر أهل الأندلس المشهور المقدم على الشعراء، روى عن أبي علي البغدادي - يعني القالي - كتاب " النوادر " من تأليفه، وقد أخذ عنه أبو عمر بن عبد البر قطعة من شعره رواها عنه وضمنها بعض تواليفه. قال ابن حيان: وتوفي سنة ثلاث وأربعمائة يوم العنصرة، فقيراً معدماً، ودفن بمقبرة كلع ". انتهى كلامه. قلت: يوم العنصرة يوم مشهور ببلاد الأندلس، وهو موسم للنصارى، كالميلاد وغيره، وهو اليوم الرابع والعشرون من حزيران، فيه ولد يحيى بن زكريا عليهما السلام - والعنصرة: بفتح العين المهملة وسكون النون وفتح الصاد المهملة والراء وفي آخرها هاء - وفي هذا اليوم حبس الله تعالى الشمس على يوشع بن نون عليه السلام حين بعثه موسى عليه الصلاة والسلام، وكان   (1) س: من. (2) انظر ج 6: 7، 9. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 227 يوشع ابن أخته، إلى أريحا لقتال الجبابرة فقتلهم وبقيت منهم بقية، فخشي أن يحول الليل بينه وبينهم، فسأل الله تعالى أن يحبس عليهم الشمس حتى يفرغ، فحبسها بدعائه، وقد ذكر الشعراء ذلك في أشعارهم كثيراً، فقال أبو تمام الطائي الشاعر المشهور من جملة قصيدة طويلة (1) : فردت علينا الشمس والليل راغم ... بشمس لهم من جانب الخدر تطلع نضا ضوءها صبغ الدجنة وانطوى ... لبهجتها ثوب السماء المجزع فوالله ما أدري أأحلام نائم ... ألمت بنا أم كان في الركب يوشع وقال أبو العلاء المعري من جملة قصيدة طويلة أيضاً (2) : ويوشع رد بوحا بعض يوم ... وأنت مني سفرت رددت بوحا وبوح: بالباء الموحدة وسكون الواو وبعدها حاء مهملة، اسم من أسماء الشمس، وكذلك " يوح " بالياء المثناة من تحتها. وأريحا: بفتح الهمزة وكسر الراء ثم ياء ساكنة وبعدها حاء مهملة ثم ألف مقصورة، بلدة بين القدس والشريعة من أرض الشام، وهي قريبة من مدائن لوط عليه السلام. والرمادي: بفتح الراء والميم وبعد الألف دال مهملة وبعدها ياء النسب، هذه النسبة إلى الرمادة، قال ياقوت الحموي في كتابه الذي سماه " المشترك وضعا المختلف صقعا " (3) في باب الرمادة: الرمادة عشرة مواضع، وعدها   (1) ديوان أبي تمام 2: 320. (2) شروح السقط: 278؛ وقال التبريزي: وهذه الكلمة صحف فيها ابن الأنباري فقال " بوح " بالباء، فرد عليه أبو عمر الزاهد وقال: هي يوم، بالياء، فأبى أن يقبل منه، وبقيت الرواية عنه بوح، والصحيح بنقطتين. (3) المشترك: 209؛ قلت: وربما لم يكن هذا سوى وهم: فالرمادة التي في المغرب إلى الشرق من عقبة السلطان ببرقة. وإنما الرمادي ترجمة لكنيته أبو جنيش؛ وجنيش باسبانية تعني الرماد. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 228 فقال: الثالث رمادة المغرب، ينسب إليها يوسف بن هارون الكندي الرمادي الشاعر القرطبي. وكلع: بفتح الكاف واللام وبعدها عين مهملة، وهي مقبرة قرطبة والله أعلم. وذكر ابن سعيد (1) في كتاب " المغرب في أشعار أهل المغرب " أن الرمادي المذكور اكتسب صناعة الأدب من شيخه أبي بكر يحيى بن هذيل الكفيف (2) علم أدباء الأندلس، وهو القائل: لا تلمني على الوقوف بدار ... أهلها صيروا السقام ضجيعي جعلوا لي إلى هواهم سبيلاً ... ثم سدوا علي باب الرجوع ثم قال: وتوفي يحيى بن هذيل المذكور في سنة ست أو خمس وثمانين وثلثمائة وهو ابن ست وثمانين، رحمه الله تعالى.   (1) اضاف المؤلف هذا النص في هامش المسودة، وخطه يدل على أنه متأخر في التاريخ، ولم يعودنا المؤلف النقل عن ابن سعيد المغربي، مع أنه معاصره؛ ومن الغريب أن س أوردت هذا النص أيضاً. (2) ولد يحيى بن هذيل سنة 305 وتتلمذ على علماء قرطبة قم غلب عليه الشعر، وطال عمره وكف بصره وتوفي سنة 389 حسب قول ابن الفرضي، وهو أدق في هذا من ابن سعيد الذي نقل عنه المؤلف (انظر الجذوة: 358 وبغية الملتمس رقم: 1945 وان الفرضي 2: 192 ونكت الهميان: 307 ومعجم الأدباء 20: 39) ولابن هذيل شعر في اليتيمة ومسالك ابصار وعنوان المرقصات والتشبيهات من أشعار أهل الأندلس. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 229 849 - (1) ابن الدرى يوسف بن درة، الشاعر المعروف بابن الدري، الموصلي الأصل؛ كان شاباً ذكياً، ذكره أبو شجاع محمد بن علي بن الدهان في تاريخه وقال: إنه هلك مع الحاج سنة خمس وأربعين وخمسمائة لما خرجت عليهم زعب، وقد ذكره عماد الدين الكاتب الأصبهاني في كتاب " خريدة القصر " وذكره أبو المعالي سعد بن علي الحظيري - المقدم ذكره (2) - في كتاب " زينة الدهر " ومن مشهور شعره قوله في رجل أرجل وقد أحسن فيه (3) : مدور الكعب فاتخذه ... لتل غرس وثل عرش لو نظرت (4) عينه الثريا ... أخرجها في بنات نعش (5) وله غير هذا أشياء حسنة. قال شيخنا الحافظ عز الدين أبو الحسن علي بن محمد المعروف بابن الأثير الجزري في مختصر كتاب الحافظ أبي سعد عبد الكريم بن السمعاني الذي عمله   (1) ترجمته في الخريدة (قسم العراق) 2: 326 - 329 وفيه ابن الدر. (2) انظر ج 2: 366. (3) الخريدة 2: 327. (4) الخريدة: رمقت. (5) علق صاحب المختار هنا بقوله: " قلت أعني كاتبها موسى بن أحمد، لطف الله به: ومثل هذا المعنى قول بعض الأدباء المصريين في الصلاح ابن بهاء الدين زهير الكاتب المقدم ذكره، وكان أرجل، من جملة أبيات: قد صح أنك كعب ... لأنك ابن زهير " الجزء: 7 ¦ الصفحة: 230 في الأنساب، ما مثاله (1) : قلت: الزعبي: بكسر الزاي وسكون العين المهملة وآخره باء موحدة، نسبة إلى زعب بن مالك بن خفاف بن امرىء القيس بن بهثة بن سليم، بطن مشهور من سليم، وهذه زعب هي التي أخذت الحاج سنة خمس وأربعين وخمسمائة، فهلك منهم خلق كثير قتلا وجوعاً وعطشاً، ثم إن الله تعالى رمى زعباً بالقلة والذلة بعده إلى الآن. ودرة: بضم الدال المهملة، والدرى: بفتحها وتشديد الراء وبعدها ألف مقصورة. 850 - (2) أبو المحاسن الشواء أبو المحاسن يوسف بن إسماعيل بن علي بن أحمد بن الحسين بن إبراهيم المعروف بالشواء، الملقب شهاب الدين، الكوفي الأصل الحلبي المولد (3) والمنشأ والوفاة؛ كان أديباً فاضلاً متقناً لعلم العروض والقوافي شاعراً، يقع له في النظم معان بديعة في البيتين والثلاثة، وله ديوان شعر كبير يدخل في أربع مجلدات، وكان زيه على زي الحلبيين الأوائل في اللباس والعمامة المشقوقة. وكان كثير الملازمة لحلقة الشيخ تاج الدين أبي القاسم أحمد بن هبة الله بن سعد الله بن سعيد بن سعد بن مقلد المعروف بابن الجبراني الحلبي النحوي   (1) اللباب 1: 502. (2) ترجمته في ابن الشعار 10: 237 قال: قصد الملك الناصر صلاح الدين مادحاً وبعده ولده الملك الظاهر ثم الملك العزيز ولده، ولم يكن ممن يرتزق بشعره على عادة الشعراء إلا يقوله تولعاً، وكانت نفسه ترفعه عن الاستجداء به والاستماحة، وديوان شعره يحتوي على عشرين ألف بيت؛ وانظر ابن العديم 9: 188، وإنباه الأمراء: 133 ومرآة الجنان 4: 89. (3) س: الحلبي الدار. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 231 اللغوي الفاضل، وأكثر ما أخذ الأدب عنه وبصحبته انتفع، وعاشر التاج أبا الفتح مسعود بن أبي الفضل النقاش الحلبي (1) الشاعر المشهور زماناً، وتخرج عليه في عمل الشعر. وكان بيني وبين الشهاب الشواء مودة اكيده ومؤانسة كثيرة، ولنا اجتماعات في مجالس نتذاكر فيها الأدب، وأنشدني كثيراً من شعره، وما زال صاحبي منذ أواخر سنة ثلاث وثلاثين وستمائة إلى حين وفاته، وقبل ذلك كنت أراه قاعداً عند ابن الجبراني المذكور في موضع تصدره بجامع حلب، وكان يكثر التمشي في الجامع أيضاً على جاري عادتهم في ذلك كما يعملون (2) في جامع دمشق، ولم يكن بيننا إذ ذاك معرفة. وكان حسن المحاورة مليح الإيراد مع السكون والتاني وجميل التأتي، وأول شيء أنشدني من شعره قوله: هاتيك يا صاح ربا لعلع ... ناشدتك الله فعرج معي وانزل بنا بين بيوت النقا ... فقد غدت آهلة المربع حتى نطيل اليوم وقفاً على الساكن أو عطفاً على الموضع ...   (1) النقاش الحلبي: هو مسعود بن أبي الفضل بن أبي الحصين بن كامل بن أبي الفتح بن أبي غانم بن أبي المجد بن أبي النار علي، يعرف بابن قطيس، لقيه سبط ابن الجوزي سنة 602 وأنشده مقطعات من شعره وكتبها له وأخبره أن مولده سنة 540، وكان من مداح الملك الأمجد صاحب بعلبك، قال سبط ابن الجوزي: وعهدي بالنقاش في سنة 608 في الحياة، وقدم دمشق في سنة 609 وأنشد الجماعة قطعاً من قصائده وأفادهم من فرائد فوائده، إلا أنه كان باطنه كالزناد الوقاد، وظاهره كالجليد والجماد، ومن رآه نسبه إلى البلاهة وعدم الذكاء والفقاهة، فإذا أنشد تساقط من ألفاظه مثل الجمان (مرآة الزمان: 530 - 531) وقد ترجم على ديوانه وهو في مجلدين، قال: وكان من أكابر الشيعة، ثم صار حنبلياً، وكان ينقش سكك الدراهم وغيرها، أخذ الأدب عن التاج الكندي ومدح الملك امعظم وطلب منه العماد الكاتب شيئاً من شعره ليضمنه تصنيفه المسمى بذيل الخريدة وسيل الجريدة فاختار له ألف بيت من شعره؛ توفي بحب في شوال سنة 612 (باختصار) . (2) س: يفعلون. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 232 وأنشدني لنفسه أيضاً: ومهفهف عني الزمان بخده ... فكساه ثوبي ليله ونهاره لا مهدت عذري محاسن وجهه ... إن غض عندي منه غض عذاره وأنشدته يوماً في أثناء مناشدة جرت بيننا قول شرف الدين أبي المحاسن محمد المعروف بابن عنين الدمشقي - المقدم ذكره (1) - في صدر جهان المعروف بابن مازه البخاري وقيل السرخسي (2) : مال ابن مازه دونه لعفاته ... خرط القتادة أو منال الفرقد مالٌ لزوم الجمع يمنع صرفه ... في راحةٍ مثل المنادى المفرد فقال: هذا ليس بجيد، فقلت له: ولم ذاك فقال: ليس من شرط المنادى المفرد أن يكون مضموماً، ولابد، فقد يكون المنادى مفرداً ولا يكون مضموماً بأن يكون نكرة غير معين كما تقول: يا رجلاً، ولكن أنا أعمل في هذا شيئاً. ثم إننا اجتمعنا بعد ذلك في الجامع فقال: قد عملت في ذلك المعنى شيئاً فاسمعه، ثم أنشد: لنا خليل له خلال ... تعرب عن أصله الأخس أضحت له مثل حيث كف ... وددت لو أنها كأمس فقلت له: وهذا أيضاً فيه كلام، فقال: وما هو فقلت: حيث فيها لغات، فمن العرب من يبنيها على الضم، ومنهم من يبنيها على الفتح، ومنهم من بينيها على الكسر، وفيها لغات أخر غير هذه، وأما أمس فمنهم من بينيها على الكسر، ومنهم من يقول: إنها اسم معرب لكنه لا ينصرف، وأنشدوا على هذه اللغة: لقد رأيت عجباً مذ أمسا ... عجائزاً مثل السعالي خمساً   (1) انظر ج 5: 14. (2) ديوانه: 221، وابن مازة هو محمد بن أحمد بن عبد العزيز البخاري (ابن الأثير، حوادث 603) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 233 هذا إذا كانت (1) معرفة، فأما إذا كانت نكرة فإنها معربة قولاً واحداً، فسكت. وكان كثيراً ما يستعمل العربية في شعره، فمن ذلك قوله، ولا أدري هل أنشدنيه أم لا، فإنه أنشدني شيئاً كثيراً من شعره وما ضبطت كل ما أنشدني، وكذلك كل شيء أذكره بعد هذا لا أتحقق الحال في سماعي منه، فأورد مهملاً فمنه: وكنا خمس عشرة في التئامٍ ... على رغم الحسود بغير آفه فقد أصبحت تنويناً وأضحى ... حبيبي لا تفارقه الإضافه وله أيضاً في غلام أرسل أحد صدغيه وعقد الآخر: أرسل صدغاً ولوى قاتلي ... صدغاً فأعيا بهما واصفه فخلت ذا في خده حيةً ... تسعى وهذا عقرباً واقفه ذا ألفٌ ليس لوصلٍ، وذا ... واوٌ ولكن ليس العاطفه ومن هذا النمط ما أنشدنيه بهاء الدين زهير بن محمد الكاتب - المقدم ذكره (2) - رحمه الله تعالى، لنفسه من جملة أبيات وهو: عسى عطفة بالوصل يا واو صدغه ... علي فإني أعرف الواو تعطف ولأبي المحاسن الشواء أيضاً قوله: ناديت وهو الشمس في شهرة ... والجسم للخفية كالفيء يا زاهياً أعرف من مضمرٍ ... صل واهياً أنكر من شيء وله في المديح (3) :   (1) س: كانت أمس. (2) انظر ج 2: 332. (3) ابن الشعار 10: 275. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 234 فتىً فاق الورى كرماً وبأساً ... عزيز الجار مخضر الجناب ترى في السلم منه غيث جود ... وفي يوم الكريهة ليث غاب إذا ما سل صارمه لحربٍ ... أراك البرق في كف السحاب وله أيضاً في شخص لا يكتم السر (1) : لي صديقٌ غدا وإن كان لا ... ينطق إلا بغيبةٍ أو محال أشبه الناس بالصدى إن ... تحدثه حديثاً أعاده في الحال وله أيضاً (2) : قالوا حبيبك قد تضوع نشره ... حتى غدا منه الفضاء معطرا فأجبتهم والخال يعلو خده ... أو ما ترون النار تحرق عنبرا قلت: وقد تقدم في ترجمة يحيى بن نزار المنبجي (3) عدة مقاطيع من شعر العماد المحلي وغيره وفيها إلمام بهذا المعنى. ولأبي المحاسن أيضاً: هواك يا من له اختيال ... ما لي على مثله احتيال قسمة أفعاله لحيني ... ثلاثةُ ما لها انتقال وعدك مستقبل، وصبري ... ماضٍ، وشوقي إليك حال وله أيضاً: فديت بنفسي رأس عينٍ ومن فيها ... وبيض السواقي حول زرق سواقيها إذا راقني منها جواري عيونها ... أراتق دمي منها عيون جواريها وله أيضاً: إن كان قد حجبوه عني غيرةً ... منهم عليه فقد قنعت بذكره   (1) ابن الشعار 10: 262. (2) ابن الشعار 10: 250. (3) انظر ج 6: 249. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 235 كالمسك ضاع لنا وضاع مكانه ... عنا فأغنى نشره عن نشره وله في غلام قد ختن: هنأت من أهواه عند ختانه ... فرحاً وقلبي قد عراه وجوم يفديك من ألم ألمّ بك امرؤ ... يخشى عليك إذا ثناك نسيم أمعذبي كيف استطعت على الأذى ... جلداً، وأجزع ما يكون الريم لو لم تكن هذي الطهارة سنةً ... قد سنها من قبل (1) إبراهيم لفتكت جهدي بالمزين إذ غدا ... في كفه موسى وأنت كليم ومعظم شعره على هذا الأسلوب، وقد أوردت منه أنموذجاً فيه كفاية. وكان من المغالين في التشيع. وأكثر أهل حلب ما كانوا يعرفونه إلا بمحاسن الشواء. والصواب فيه هو الذي ذكرته هاهنا، وأن اسمه يوسف، وكنيته أبو المحاسن. وبعد هذا رأيت في كتاب " عقود الجمان " الذي وضعه صاحبنا الكمال بن الشعار الموصلي، وقد بنى ترجمة المذكور على يوسف، وكنيته أبو المحاسن، وكان صاحبه وأخذ عنه كثيراً من شعره، وهو من أخبر الناس بحاله وأعلم ذلك في وقته (2) . وكان مولده تقديراً في سنة اثنتين وستين وخمسمائة، فإنه كان لا يحقق مولده. وتوفي يوم الجمعة تاسع عشر المحرم سنة خمس وثلاثين وستمائة، بحلب، ودفن ظاهرها بمقبرة باب إنطاكية غربي البلد، ولم أحضر الصلاة عليه لعذر عرض لي في ذلك الوقت، رحمه الله تعالى، فلقد كان نعم الصاحب.   (1) بهامش س: خ للناس. (2) وبعد هذا ... في وقته: لم يرد في س. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 236 (395) وأما شيخه ابن الجبراني المذكور (1) : فهو طائي بحتري، وكان من قرية من أعمال عزاز، يقال لها جبرين قورسطايا. نسب إليها، هكذا أخبر عن نفسه، وكان متضلعاً من علم الأدب، خصوصاً اللغة فإنها كانت غالبة عليه، وكان متبحراً فيها، وكان له تصدر في جامع حلب في المقصورة الشرقية على صحن الجامع قبالة المقصورة التي يصلي فيها قضاة حلب يوم الجمعة. ولقد كنت يوماً قاعداً في هذه المقصورة، عند الدرابزين الذي إلى جهة الصحن، وإذا به قد حضر ومعه جماعة من أصحابه، وفيهم الشهاب أبو المحاسن الشواء المذكور، وجلس إلى المحراب الصغير الذي في هذه المقصورة، وهو موضع تصدره، فجعلت بالي من كلامه، وأنا في ذلك الوقت مشتغل بالأدب، فسمعته يتكلم في قاعدة الأفعال الثلاثية التي أولها واو، وهي على فعل، بكسر العين، مثل وجل وغيره، وأن مضارعه فيه أربع لغات: يوجل، ويَيجل، وياجل، ويِيجل، إلا ما شذ من الأفعال الثمانية التي هي: ورم، وورث، وورع، ووري، وومق، ووثق، ووفق، وولي، فإن مضارعها أيضاً بالكسر كماضيها، وشذ من ذلك قولهم: وسع يسع، ووطئ يطأ، وإنما انفتح هذان الفعلان في المضارع لآجل حرفي الحلق، وأطال الكلام في ذلك بما لم أقدر على حفظه في ذلك الوقت، ولم أسمع منه غير هذا الفصل. وكان مولده يوم الأربعاء الثاني والعشرين من شوال سنة إحدى وستين وخمسمائة، وتوفي يوم الاثنين سابع (2) رجب من سنة ثمان وعشرين وستمائة بحلب، ودفن في سفح جبل جوشن، رحمه الله تعالى.   (1) ترجمة ابن الجبراني في بغية الوعاة: 172 وابن الشعار 1: 281 وقال ابن الشعار: كان رجلا فاضلاً مقرئاً مجوداً عارفاص بعلوم القرآن العزيز واللغة والنحو معرفة جيدة، وذكره القفطي في كتاب النحاة من تصنيفه (قلت: لم يرد له ذكر في الإنباه المطبوع) وكان شديد الكلب للدنيا يدخل في دنيات الأمور ويعامل المعاملات المخالفة للشريعة، ويحتمل من ضيق العيش والمأكل والمشربق والملبس ما لا يوجد من مثله، إلى أن حصل له جملة من الدنيا ما انتفع بها، وخلفها لولده، وكان بخيلاً بما عنده فما استفاد منه أحد، ولا صار له تلميذ معروف، وكان إذا لوحح في السؤال تضجر وتشيط لضيق عطنه. (2) ابن الشعار: سابع عشر. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 237 851 - (1) البياسي صاحب الحماسة أبو الحجاج يوسف بن محمد بن إبراهيم الأنصاري البياسي، أحد فضلاء الأندلس وحفاظها المتقنين؛ كان أديباً بارعاً فاضلاً، مطلعاً على أقسام كلام العرب من النظم والنثر، وراوياً لوقائعها وحروبها وأيامها، بلغني أنه كان يحفظ كتاب " الحماسة " تأليف أبي تمام الطائي، والأشعار الستة، وديوان أبي تمام المذكور، وديوان أبي الطيب المتنبي، و " سقط الزند " ديوان أبي العلاء المعري، إلى غير ذلك من الأشعار من شعراء الجاهلية والإسلام. وتنقل في بلاد الأندلس وطاف بأكثرها. ولما قدم من جزيرة الأندلس إلى مدينة تونس، جمع للأمير أبي زكريا يحيى بن أبي محمد عبد الواحد بن أبي حفص عمر، صاحب إفريقية، رحمهم الله أجمعين، كتاباً سماه " الإعلام بالحروب الواقعة في صدر الإسلام " (2) ابتدأ فيه بمقتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وختمه بخروج الوليد بن طريف الشاري على هارون الرشيد ببلاد الجزيرة الفراتية - وقد ذكرت ترجمة الوليد المذكور وخبره وما جرى له ومقتله على يد يزيد بن مزيد بن زائدة الشيباني وذكرت يزيد المذكور في ترجمة مستقلة أيضاً قبل هذا، واستوفيت القصة في الترجمتين (3) - ورأيت هذا الكتاب وطالعته، وهو في مجلدين، أجاد في تصنيفه وكلامه فيه كلام عارف بهذا الفن.   (1) ترجمته في اختصار القدح: 94 والنفح 3: 316، 390 والمغرب 2: 73 وبغية الوعاة: 324 ومرآة الجنان 4: 129. (2) بقيت من هذا الكتاب قطعة محفوظة بدار الكتب المصرية. (3) انظر ج 6: 31، 327. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 238 ورأيت له أيضاً كتاب " الحماسة " في مجلدين، وقد قرئت النسخة عليه وعليها خطه، كتبه في أواخر شهر ربيع الآخر سنة خمسين وستمائة، وقال في آخر الكتاب: وكان الفراغ من تأليفه وترتيبه بمدينة تونس، حرسها الله تعالى، في شوال سنة ست وأربعين وستمائة؛ ونقلت من أوله بعد الحمدلة ما مثاله: أما بعد فإني قد كنت في أوان حداثتي وزمان شبيبتي، ذا ولوع بالأدب ومحبة في كلام العرب، ولم أزل متتبعاً لمعانيه، ومفتشاً عن قواعده ومبانيه، إلى أن حصلت لي جملة منه لا يسع الطالب المجتهد جهلها، ولا يصلح بالناظر في هذا العلم إلا أن يكون عنده مثلها، وحملتني المحبة في ذلك العلم والولوع به على أن جمعت مما اخترته واستحسنته من أشعار العرب: جاهليها ومخضرميها وإسلاميها ومولدها، ومن أشعار المحدثين من أهل المشرق والأندلس وغيرهم، ما تحسن به المحاضرة وتجمل عليه المناظرة. ثم إني رأيت أن بقاءها دون أن تدخل تحت قانون يجمعها، وديوان يؤلفها، مؤذن بذهابها ومؤدٍ إلى فسادها، فرأيت أن أضم مختارها وأجمع مستحسنها، تحت أبواب تقيد نافرها وتضم نادرها، ونظرت في ذلك، فلم أجد أقرب تبويبٍ، ولا أحسن ترتيبٍ، مما بوبه ورتبه أبو تمام حبيب بن أوس رحمه الله تعالى في كتابه المعروف بكتاب " الحماسة " وحسن الإقتداء به والتوخي لمذهبه، لتقدمه في هذه الصناعة، وانفراده منها بأوفر حظ وأنفس بضاعة، فاتبعت في ذلك مذهبه ونزعت منزعه، وقرنت الشعر بما يجانسه، ووصلته بما يناسبه (1) ونقحت ذلك، واخترته على قدر استطاعتي، وبلوغ جهدي وطاقتي. قلت: وأطال القول بعد هذا بما لا حاجة بنا إلى ذكره. ونقلت منه شيئاً، فمن ذلك ما ذكره في باب المراثي: قال أبو علي القالي البغدادي، أنشدنا أبو بكر بن دريد قال: أنشدنا أبو حاتم السجستاني (2) : ألا في سبيل الله ماذا تضمنت ... بطون الثرى واستودع البلد القفر   (1) إلى هنا ينتهي ما هو مقيد بخط المؤلف، رحمه الله، وكل ما يجيء من بعد حتى نهاية الكتاب فإنه ليس بخطه، وقيمته في ذلك سائر النسخ التي اعتمدناها في التحقيق. (2) الأمالي 2: 115. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 239 بدور إذا الدنيا دجت أشرقت بهم ... وإن أجدبت يوماً فأيديهم القطر فيا شامتاً بالموت لا تشتمن بهم ... حياتهم فخرٌ وموتهم ذكر حياتهم كانت لأعدائهم عمى ... وموتهم للفاخرين بهم فخر أقاموا بظهر الأرض فاخضر عودها ... وصاروا ببطن الأرض فاستوحش الطهر (1) ونقلت من باب النسيب قول العباس بن الأحنف (2) - المقدم ذكره (3) -: تحمل عظيم الذنب ممن تحبه ... وإن كنت مظلوماً فقل أنا ظالم فإنك إن لم تغفر الذنب في الهوى ... يفارقك من تهوى وأنفك راغم وقول الوأواء الدمشقي، هكذا قال، وغالب ظني أنها لأبي فراس بن حمدان، والله أعلم (4) : بالله ربكما عوجا على سكني ... وعاتباه لعل العتب يعطفه وعرضا بي وقولا في حديثكما ... ما بال عبدك بالهجران تتلفه فإن تبسم قولاً في ملاطفةٍ ... ما ضر لو بوصالٍ منك تسعفه وإن بدا لكما من سيدي غضبٌ ... فغالطاه وقولا ليس نعرفه وقول المجنون (5) : تعلقت ليلى وهي بكرٌ (6) صغيرة ... ولم يبد للأتراب من ثديها حجم صغيرين نرعى البهم يا ليت أننا ... إلى اليوم لم نكبر ولم تكبر البهم البهم: الصغار من أولاد الضأن، الواحدة بهمة، بفتح الباء الموحدة   (1) سقط البيت من س. (2) ديوانه: 243. (3) انظر ج 3: 20. (4) انظر ديوان الوأواء: 146. (5) ديوان المجنون: 238. (6) س: غر. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 240 وسكون الهاء، وهذان البيتان يستدل بهما النجاة على انتصاب الحال (1) من الفاعل والمفعول به معاً بلفظ واحد، فإن " صغيرين " انتصب على الحال من التاء في قوله " تعلقت " وهي فاعلة، ومن ليلى، وهي مفعولة، ومثله قول عنترة العبسي (2) : متى ما تلقني فردين ترجف ... روانف أليتيك وتستطارا نصب " فردين " على الحال من ضمير الفاعل والمفعول في " تلقني "، ذكره ابن الأنباري في كتاب " أسرار العربية " في باب الحال (3) . وقال الوأواء الدمشقي أيضاً، ذكره في حماسته البياسي المذكور أيضاً (4) : وزائرٍ راع كل الناس منظره ... أحلى من الأمن عند الخائف الوجل ألقى على الليل ليلاً من ذوائبه ... فهابه الصبح أن يبدو من الخجل أراد بالقتل هجري فاستجرت به ... فاستل بالوصل روحي من يدي أجلي فصرت فيه أمير العاشقين فقد ... صارت ولاية أهل العشق من قبلي وقال علي بن عطية البلنسي ابن الزقاق (5) : ومرتجة الأعطاف أما قوامها ... فلدنٌ وأما ردفها فرداح ألمت فبات الليل من قصرٍ بها ... يطير وما غير السرور جناح وبت وقد زارت بأنعم ليلةٍ ... تعانقني حتى الصباح صباح على عاتقي من ساعديها حمائلٌ ... وفي خصرها من ساعديَّ وشاح وقال أحمد بن الحسين بن خلف المعروف بابن البني اليعمري - قلت:   (1) س: الفعل؛ وهو خطأ. (2) ديوان عنترة: 75. (3) انظر أسرار العربية: 190 - 191. (4) ديوان الوأواء: 180. (5) ديوان ان الزقاق: 129. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 241 هو المقدم ذكره في ترجمة يوسف بن عبد المؤمن صاحب المغرب (1) - وكان قد أخرجه صاحب ميورقة، وسير في البحر، فساروا يومهم، فهبت عليهم الريح فردتهم فقال: أحبتنا الأولى عتبوا علينا ... فأقصونا وقد أزف الوداع لقد كنتم لنا جذلاً وأنساً ... فهل في العيش بعدكم انتفاع أقول وقد صدرنا بعد يومٍ ... أشوقٌ بالسفينة أم نزاع إذا طارت لنا حامت عليكم ... كأن قلوبنا فيها شراع وقال الواثق بالله وله فيه غناء: ما كنت أعرف ما في البين من حزن ... حتى تنادوا بأن قد جيء بالسفن قامت تودعني والدمع يغلبها ... فجمجمت بعض ما قالت ولم تبن مالت علي تفديني وترشفني ... كما يميل نسيم الريح بالغصن فأعرضت ثم قالت وهي باكية: ... يا ليت معرفتي إياك لم تكن وأورد في باب القرى والأضياف والفخر والمديح قول أبي الحسن جعفر بن إبراهيم بن الحاج اللورقي (2) : عجباً لمن طلب المحا ... مد وهو يمنع ما لديه ولباسطٍ آماله ... للمجد لم يبسط يديه لم لا أحب الضيف أو ... أرتاح من طرب إليه والضيف يأكل رزقه ... عندي ويحمدني عليه ومما ينسب إلى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال حين كف بصره (3) :   (1) انظر ما تقدم ص: 132. (2) المختار: ابن الحجاج الميورقي؛ وانظر الأبيات في النفح 3: 596 والمغرب 3: 280 والقلائد: 142. (3) نكت الهميان: 71. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 242 إن يأخذ الله من عيني نورهما ... ففي لساني وقلبي منهما نور قلبي ذكي وذهني غير ذي دخلٍ ... وفي فمي صارمٌ كالسيف مطرور وذكر في باب الهجاء والعتاب وما يتعلق بهما لأبي العالية أحمد بن مالك الشامي (1) : أذم بغداد والمقام بها ... من بعد ما خبرةٍ وتجريب ما عند أملاكها لمرتقبٍ ... رفد ولا فرجةٌ لمكروب خلوا سبيل العلى لغيرهم ... ونازعوا في الفسوق والحوب يحتاج راجي النجاح عندهم ... إلى ثلاثٍ من بعد تقريب كنوز قارون أن تكون له ... وعمر نوح وصبر أيوب وأنشد أبو بكر محمد بن يحيى الصولي لأبي العطاف الكوفي صالح بن عبد الرحمن بن نشيط: يا ابن الوليد أبن لنا ... إن البيان له حدود مالي أراك مسيباً ... أين السلاسل والقيود أغلا الحديد بأرضكم ... أم ليس يضبطك الحديد قلت: إلى هنا نقلت من كتاب " الحماسة " المذكور، وفيه كفاية، إذ كان الغرض إيراد شيء من أخبار هذا الرجل ليستدل به على معرفته بالشعر. وكان مولده يوم الخميس الرابع عشر من شهر ربيع الأول سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة. وتوفي يوم الأحد الرابع من ذي القعدة سنة ثلاث وخمسين وستمائة، بمدينة تونس، رحمه الله تعالى. والبياسي: بفتح الباء الموحدة والياء المشددة المثناة من تحتها، هذه النسبة   (1) وردت الأبيات في معجم البلدان 1: 691 دون نسبة وجاء بعدها ص 692 أبيات أخرى لأبي العالية في ذم بغداد. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 243 إلى بياسة (1) ، وهي مدينة كبيرة بالأندلس معدودة في كورة جيان، هكذا قاله ياقوت الحموي في كتابه " المشترك وضعا " (2) . 852 - (3) يونس بن حبيب أبو عبد الرحمن يونس بن حبيب النحوي؛ قال أبو عبيد الله المرزباني في كتابه " المقتبس في أخبار النحويين " (4) : هو مولى ضبة، وقيل هو مولى بني ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، وقيل مولى بلال بن هرمي من بني ضبيعة بن بجالة، وهو من أهل جبل، ومولده سنة تسعين ومات سنة اثنتين وثمانين ومائة، وكان يقول: أذكر موت الحجاج، وقيل مولده سنة ثمانين وأنه رأى الحجاج وعاش مائة سنة وسنتين، وقيل عاش ثمانيا وتسعين سنة. وقال غير المرزباني: أخذ يونس الأدب عن أبي عمرو بن العلاء وحماد بن سلمة، وكان النحو أغلب عليه، وسمع من العرب، وروى سيبويه عنه كثيراً، وسمع منه الكسائي والفراء، وله قياس في النحو ومذاهب ينفرد بها، وكان من الطبقة الخامسة في الأدب، وكانت حلقته بالبصرة ينتابها الأدباء وفصحاء العرب وأهل البادية. قال أبو عبيدة معمر بن المثنى: اختلفت إلى يونس أربعين سنة   (1) بياسة Baeza: تقع على مسافة عشرين ميلاً من جيان وتطل على النهر الكبير. (2) المشترك: 73. (3) ترجمته في معجم الأدباء 20: 64 والفهرست: 42 وصفحات متفرقة من المزهر وطبقات الزبيدي: 48 ومراتب النحويين: 21 والبيان والتبيين 1: 77 ومرآة الجنان 1: 388 وبغية الوعاة: 426 ونزهة الألباء: 31 والمعارف: 541 وتهذيب التهذيب 5: 346. (4) انظر نور القبس: 48 - 55. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 244 أملأ كل يوم ألواحي من حفظه. وقال أبو زيد الأنصاري النحوي: جلست إلى يونس بن حبيب عشر سنين، وجلس إليه قبلي خلف الأحمر عشرين سنة. وقال يونس، قال لي رؤبة بن العجاج: حتام تسألني عن هذه البواطل. وأزخرفها لك أما ترى الشيب قد بلغ في لحيتك وليونس من الكتب التي صنفها كتاب " معاني القرآن الكريم " وكتاب " اللغات " وكتاب " الأمثال " وكتاب " النوادر " الصغير. وقال إسحاق بن إبراهيم الموصلي: عاش يونس مائة سنة وستين. وقيل عاش ثمانياً وتسعين سنة، وقيل ثمانياً وثمانين سنة، لم يتزوج ولم يتسر. ولم تكن له همة إلا طلب العلم ومحادثة الرجال. وقال يونس: لو تمنيت أن أقول الشعر لما تمنيت أن أقول إلا مثل قول عدي بن زيد العبادي (1) : أيها الشامت المعير بالدهر ... أأنت المبرأ الموفور قلت: وهذا البيت من جملة أبيات سائرة بين الأدباء فيها مواعظ وعبر، وبعد هذا البيت: أم لديك العهد القديم من الأيام بل أنت جاهلٌ مغرور ... من رأيت المنون أخلدن أم من ... ذا عليه أن يضام خفير أين كسرى كسرى الملوك أنو شر ... وان أم أين قبله سابور وبنو الأصفر الكرام ملوك الروم لم يبق منهم مذكور ... وأخو الحضر إذ بناه وإذ دجلة تجبى إليه والخابور ... شاده مرمراً وجلله كلساً فللطير في ذراه وكور ... لم يهبه صرف الزمان فباد الملك عنه فبابه مهجور ... وتفكر رب الخورنق إذا أشرف يوماً وللهدى تفكير ...   (1) ديوان عدي: 84. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 245 سره (1) ملكه وكثرة ما يملك والبحر معرض والسدير ... فارعوى قلبه فقال: وما غبطة حي إلى الممات يصير ... ثم بعد الفلاح والملك والأمة وارتهم هناك القبور ... ثم صاروا كأنهم ورقٌ جف فألوت به الصبا والدبور ... قلت: وهذه الأبيات تحتاج إلى تفسير طويل (2) . ولو شرعت فيه لطال الكلام وخرجنا عن المقصود، فإن أكثرها يتعلق بالتاريخ، وفيها شيء يتعلق بالأدب، فاقتصرت على الإتيان بالغرض (3) وتركت الباقي خوفاً من الإطالة، فلعل الشرح يدخل في أربع خمس كراريس، وليس هذا موضعه. وروى محمد بن سلام الجمحي عن يونس أنه قال: ما بكت العرب على شيء في أشعارها كبكائها على الشباب، وما بلغت كنهه، فاتبع هذا الكلام منصور النمري (4) فقال من جملة قصيدة طويلة يمدح بها هارون الرشيد بيتاً وهو (5) : ما كنت أوفي شبابي كنه غرته ... حتى انقضى فإذا الدنيا له تبع وقال يونس: تقول العرب: فرقة الأحباب سقم الألباب، وأنشد: شيئان لو بكت الدماء عليهما ... عيناي حتى يؤذنا بذهاب لم يبلغا المعشار من حقيهما ... شرخ الشباب وفرقة الأحباب وقال يونس: لم يقل لبيد في الإسلام سوى بيت واحد وهو:   (1) س: غره. (2) طويل: سقطت من س. (3) س: الأبيات بالعرض. (4) هو أبو الفضل منصور بن سلمة بن الزبرقان من رأس العين، وهو من فحولة المحدثين (انظر طبقات ابن المعتز: 242 وتاريخ بغداد 13: 65 والأغاني 13: 140) وقد مر ذكره في ترجمة يزيد بن مزيد 6: 340. (5) ورد البيت في طبقات ابن المعتز: 245، وهو من قصيدة مطلعها: ما تنقضي حسرة مني ولا جزع ... إذا ذكرت شباباً ليس يرتجع الجزء: 7 ¦ الصفحة: 246 الحمد لله إذ لم يأتني أجلي ... حتى لبست من الإسلام سربالا (1) قال أبو عبيدة معمر بن المثنى: قدم جعفر بن سليمان العباسي من عند المهدي الخليفة، فبعث إلى يونس بن حبيب فقال له: أنا وأمير المؤمنين اختلفنا في هذا البيت (2) : والشيب ينهض في السواد كأنه ... ليلٌ يصيح بجانبيه نهار فما الليل والنهار فقال يونس: الليل الليل الذي تعرف، والنهار النهار الذي تعرف، فقال: زعم المهدي أن الليل فرخ الكروان والنهار فرخ الحبارى، فقال أبو عبيدة: القول في البيت ما قاله يونس، والذي قاله المهدي معروف في الغريب من اللغة. وقال يونس: كان جبلة بن عبد الرحمن (3) يخرج إلى طباخه الرقاع يستدعي بها الطعام، وفيها الألفاظ الغريبة الحوشية، فلا يدري الطباخ ما فيها، حتى يمضي بها إلى ابن أبي إسحاق ويحيى بن يعمر وغيرهما يفسرون له ما فيها من الألفاظ، فإذا عرف الطباخ ما فيها أتاه بما استدعاه. فقال له يوماً: ويحك، إني أصوم معك، فقال له الطباخ: سهل كلامك حتى يسهل طعامك، فيقول: يا بن اللخناء أفأدع عربيتي لعيك وكان يونس من أهل جبل، وهي بليدة على دجلة بين بغداد وواسط، وكان لايؤثر أن ينسب إليها، فلقيه رجل من بني أبي عمير فقال له: يا أبا عبد الرحمن، ما تقول في جبل أتنصرف أم لا فشتمه يونس. فالتفت العميري فلم ير أحداً يشهده عليه. حتى إذا كان الغد مجلس للناس أتاه العميري فقال: يا أبا عبد الرحمن، ما تقول في جبل. أتنصرف أم لا فقال له يونس: الجواب ما قلته لك أمس.   (1) راجع مقدمة ديوان لبيد، ففيها مناقشة تدحض هذا القول. (2) البيت للفرزدق، ديوانه 1: 372. (3) ورد عند الطبري (2: 1458) اسم جبلة بن عبد الرحمن مولى باهلة وأنه ولي كرمان (حوادث سنة 104) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 247 وجبل: بفتح الجيم وضم الباء الموحدة المشددة، كذا قال الحافظ بن السمعاني في كتاب " الأنساب " (1) . وهذه جبل منها أبو الخطاب الجبلي الشاعر المشهور (2) ، ومن شعره قوله: كم جبت نحوك مهمهاً لو لم يعن ... شوقي عليه لما قدرت أجوبه وركبت أخطاراً إليك مخوفة ... ولحبذا خطرٌ إليك ركوبه قال السمعاني: وتوفي أبو الخطاب المذكور في ذي القعدة سنة تسع وثلاثين وأربعمائة، وكان بينه وبين أبو العلاء المعري مشاعرة، وكتب إليه أبو العلاء قصيدته التي أولها: غير مجد في ملتي واعتقادي ... قلت: وهذا غلط منه، بل كتبها أبو العلاء المعري إلى أبي حمزة الحسن بن عبد الله الفقيه الحنفي قاضي منبج، كان، وقد ذكر ذلك الفقيه القاضي كمال الدين عرف بابن العديم الحلبي (3) . وحبيب: اسم أمه ولهذا لا يصرفونه، فإنه لا يعرف له أب، ويقال إنه ولد ملاعنة، ويقال إنه اسم أبيه فينصرف، والله أعلم، وكذلك محمد بن حبيب النسابة أيضاً. ودخل يونس المسجد يوماً وهو يتهادى بين اثنين من الكبر، فقال له رجل كان يتهمه في مودته: بلغت ما أرى يا أبا عبد الرحمن، فقال:   (1) الأنساب 3: 195. (2) هو محمد بن علي بن محمد بن إبراهيم الجبلي (ياقوت: جبل) ؛ وقد أورد ياقوت ما ذكره ابن السمعاني حول إرسال قصيدة أبي العلاء له، وهو مما استدركه المؤلف والصحيح أن الجبلي مدح أبا العلاء بقصيدة مطلعها: (شروح السقط: 153) أشفقت من عبء البقاء وعابه ... ومللت من أري الزمان وصابه وانظر في ترجمته تاريخ بغداد 3: 101 وابن الأثير 9: 543 والنجوم الزاهرة 5: 44. (3) وهذه جبل ... الحلبي: لم يرد في س؛ قلت: وانظر بغية الطلب 4: 263 وقد توفي الفقيه قبل الأربعمائة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 248 هو الذي ترى، لا بلغته، فأخذ هذا المعنى جماعة من الشعراء فنظموه. وقال أبو الخطاب زياد بن يحيى: مثل يونس كمثل كوز ضيق الرأس لا يدخله شيء إلا بعسر، فإذا دخله لم يخرج منه، يعني أنه لا ينسى شيئاً. وقد ذكرت تاريخ مولده وموته في أول الترجمة، وقيل إنه توفي سنة ثلاث وثمانين، وقيل خمس وثمانين، وقال عبد الباقي بن قانع، سنة أربع وثمانين ومائة، والله أعلم. وقيل إنه عاش ثمانياً وتسعين سنة، رحمه الله تعالى. 853 - (1) يونس بن عبد الأعلى الصدفي أبو موسى يونس بن عبد الأعلى بن موسى بن ميسرة بن حفص بن حيان، الصدفي المصري الفقيه الشافعي؛ أحد أصحاب الشافعي رضي الله عنه، والمكثرين في الرواية عنه والملازمة له، وكان كثير الورع متين الدين، وكان علامة في علم الأخبار والصحيح والسقيم، لم يشاركه في زمانه في هذا أحد - وقد سبق في هذا الكتاب ذكر حفيده أبي سعيد عبد الرحمن بن أحمد بن يونس (2) ، وهو المنجم المشهور، صاحب الزيج، وكل واحد منهما إمام في فنه -.   (1) ترجمته في تهذيب التهذيب 11: 440 وغاية النهاية 2: 406 وطبقات السبكي 1: 279 والانتقاء: 111 ومرآة الجنان 2: 176 وطبقات الشيرازي: 99 وطبقات العبادي: 18 وابن قاضي شهبة: 46 والأسنوي 1: 33 والعبر 2: 29 والحسيبي: 7 والشذرات 2: 149 واللباب (الصدفي) . (2) انظر ج 3: 137. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 249 وأخذ يونس القراءة عرضا عن ورش وسقلاب بن شيبة (1) ومعلى بن دحية (2) ، عن نافع وعن علي بن أبي كيسة (3) عن سليم (4) عن حمزة بن حبيب الزيات. وسمع سفيان بن عيينة وعبد الله بن وهب المصري. وروى القراءة عنه مواس بن سهل ومحمد بن الربيع وأسامة بن أحمد ومحمد بن إسحاق بن خزيمة (5) ومحمد بن جرير الطبري وغيرهم. وكان محدثاً جليلاً. وذكره أبو عبد الله القضاعي في كتاب " خطط مصر "، فقال: كان من أفضل أهل زمانه وكان من العقلاء، يروى عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال: ما رأيت بمصر أعقل من يونس بن عبد الأعلى. وصحب الشافعي وأخذ عنه الحديث والفقه، وحدث بهما عنه جماعة، وله حبس في ديوان الحكم وعقب، وله دار مشهورة في خطة الصدف مكتوب عليها اسمه، وتاريخها سنة خمس عشرة ومائتين، وكان أحد الشهود بمصر، أقام شاهداً ستين سنة. وذكر غير القضاعي أن يونس بن عبد الأعلى روى عنه الإمام مسلم بن الحجاج القشيري وأبو عبد الرحمن النسائي وأبو عبد الله بن ماجه وغيرهم. وقال أبو الحسن ابن زولاق في كتاب " أخبار قضاة مصر ": إن القاضي بكار بن قتيبة لما تولى قضاء مصر وتوجه إليها من بغداد لقي في طريقه محمد بن الليث، قاضي مصر كان قبله، بالحفار خارجاً من مصر إلى العراق مصروفاً، فقال له بكار: أنا رجل غريب، وأنت قد عرفت البلد فدلني على من أشاوره وأسكن إليه، فقال له: عليك برجلين: أحدهما عاقل وهو   (1) في س: ابن أبي شنينة، ق ع: ابن شنينة؛ ر: سنينة؛ وفي غاية النهاية (1: 308) سقلاب بن شيبة أبو سعيد المصري، مات سنة 191. (2) معلى بن دحية بن قيس أبو دحية المصري (غاية النهاية 2: 304) . (3) علي بن يزيد بن كيسة ابو الحسن الكوفي نزيل مصر، توفي سنة 202 (غاية النهاية 1: 584) . (4) هو سليم بن عيسى بن سليم الكوفي (غاية النهاية 1: 318) . (5) مواس بن سهل أبو القاسم المعافري المصري (غاية النهاية 2: 316) ومحمد بن الربيع الجيزي (2: 140) وأسامة بن أحمد بن عبد الرحمن التجيبي (1: 155) ومحمد بن إسحاق بن خزيمة السلمي النيسابوري (2: 97) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 250 يونس بن عبد الأعلى، فإني سعيت في دمه فقدر علي فحقن دمي، والآخر أبو هارون موسى بن عبد الرحمن بن القاسم فإنه رجل زاهد. فقال له بكار: صف لي الرجلين فقال له: أما يونس فرجل طوال أبيض، ووصفه ووصف موسى. فلما دخل بكار مصر ودخل الناس إليه دخل شيخ فيه صفة يونس، فرفعه بكار وأقبل يحدثه، ويقول: يا أبا موسى في كل حديثه، فبينا بكار كذلك إذ قيل له: قد جاء يونس، فأقبل على الرجل وقال له: يا هذا من أنت وما سكوتك كذا لو أفشيت إليك سراً لي! ثم دخل يونس فأكرمه ورفعه، وأتاه موسى بن عبد الرحمن فاختص بهما وأخذ رأيهما. وقيل أن موسى المذكور اختص به القاضي بكار، وكان يتبرك به لزهده، فقال له يوماً: يا أبا هارون من أين المعيشة قال: من وقف وقفة أبي، فقال له بكار: أيكفيك قال: قد تكفيت به، وقد سألني القاضي فأريد أن أسأله، قال: سل، قال: هل ركب القاضي دينٌ بالبصرة حتى تولى بسببه القضاء قال: لا، قال: فهل رزق ولداً أحوجه إلى ذلك، قال: لا، ما نكحت قط، قال: فهل لك عيال كثيرة قال: لا، قال: فهل أجبرك السلطان وعرض عليك العذاب وخوفك قال: لا، قال: فضربت آباط الإبل من البصرة إلى مصر لغير حاجة ولا ضرورة، لله علي لا دخلت عليك أبداً. فقال: يا أبا هارون أقلني، قال: أنت بدأت بالمسألة، ولو سكت لسكت. ثم انصرف عنه ولم يعد إليه بعدها. وقال يونس: رأيت في المنام قائلاً يقول لي: إن اسم الله الأكبر " لا إله إلا الله ". ونقلت من كتاب " المنتظم في أخبار من سكن المقطم " قال في ترجمة يونس المذكور: ومن حكاياته التي حكاها عن غيره، أن رجلاً جاء إلى نحاس، فقال له: أسلفني ألف دينار إلى أجل، فقال له النحاس: من يضمن المبلغ قال: الله تعالى، فأعطاه ألف دينار، فسافر بها الرجل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 251 يتجر (1) ، فلما بلغ الأجل أراد الخروج إليه، فحبسه عدم الريح، فعمل تابوتاً وجعل فيه ألف دينار، وأغلقه وسمره وألقاه في البحر، فقال: اللهم هذا الذي ضمنته لي، فخرج صاحب المال ينتظر قدوم الذي معه المال، فرأى سواداً في البحر فقال: ايتوني بهذا، فأتي بالتابوت ففتحه، فإذا فيه ألف (2) دينار. ثم إن الرجل جمع ألفاً بعد ذلك، وطابت الريح، فجاء إلى النحاس وسلم عليه، فقال له النحاس: من أنت فقال: أنا صاحب الألف، هذه ألفك، فقال النحاس: لا أقبلها منك حتى تخبرني ما صنعت بها، فأخبره بالذي صنع، وأن الريح لم تطب، فقال له النحاس: قد أدى الله عز وجل عنك الألف ووصلت. وله أخبار كثيرة، وروايات مأثورة. وكان يونس يروي للشافعي رضي الله عنه: ما حك جلدك مثل ظفرك ... فتول أنت جميع أمرك وإذا قصدت لحاجةٍ ... فاقصد لمعترفٍ بقدرك وقال يونس: قال لي الشافعي رضي الله عنه: يا يونس، دخلت بغداد قلت: لا، قال: ما رأيت الدنيا ولا رأيت الناس. وقال يونس: سمعت من الشافعي كلمة لا تسمع إلا من مثله، وهي " رضى الناس غاية لا تدرك، فانظر ما فيه صلاح نفسك في أمر دينك ودنياك فالزمه ". وقال علي بن قديد: كان يونس بن عبد الأعلى يحفظ الحديث ويقوم به. وذكره أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسوي فقال: هو ثقة؛ وقال غيره: ولد يونس في ذي الحجة سنة سبعين ومائة، وتوفي يوم الثلاثاء ليومين   (1) س: ليتجر. (2) س: فإذا هو بألف. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 252 بقيا من شهر ربيع الآخر سنة أربع وستين ومائتين، وهي السنة التي مات فيها المزني رحمه الله تعالى، وكانت وفاته بمصر، ودفن بمقابر الصدف، وقبره مشهور بالقرافة. (396) وأما أبوه عبد الأعلى فإنه يكنى أبا سلمة، وكان رجلاً صالحاً، ومن كلامه: من اشترى ما لا يحتاج إليه باع ما يحتاج إليه، وقال ولده يونس: والأمر عندي كما قال. وتوفي عبد الأعلى المذكور في المحرم سنة إحدى ومائتين، ومولده سنة إحدى وعشرين ومائة. (397) وأما ابنه أبو الحسن أحمد بن يونس، والد أبي سعيد عبد الرحمن بن أحمد صاحب " تاريخ مصر "، فإن ابنه أبا سعيد عبد الرحمن بن أحمد ذكر في تاريخه أنه ولد في ذي القعدة سنة أربعين ومائتين، وتوفي يوم الجمعة أول يوم من رجب سنة اثنتين وثلثمائة، وقال: هو عديد للصدف، وليس من أنفس الصدف، ولا من مواليهم. والصدفي: بفتح الصاد والدال المهملتين وبعدهما فاء. هذه النسبة إلى الصدف، بكسر الدال، وذكر السهيلي أنه بكسر الدال وفتحها، وإنما فتحوا الدال قي النسب مع كسرها في غير النسب كي لا يوالوا بين كسرتين قبل ياءين كما قالوا في النسبة إلى النمر نمري وغير ذلك. واختلفوا في اسم الصدف فقيل: هو مالك بن سهيل بن عمرو بن قيس، هكذا قاله القضاعي في كتاب - الخطط - وزاد السمعاني في كتاب " الأنساب " (1) على هذا النسب، فقال: الصدف بن سهيل بن عمرو بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس بن وائل بن الغوث بن حيدان بن قطن بن عريب بن زهير بن أيمن بن هميسع بن حمير بن سبأ، وقال الدارقطني: واسم الصدف شهال (2) بن دعمي بن زياد بن حضرموت، وقال الحازمي في كتاب " العجالة في النسب " (3) : هو   (1) اللباب 2: 51. (2) س ر: سهال. (3) العجالة: 80. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 253 عمرو بن مالك والله أعلم. وقال القضاعي: دعوتهم مع كندة، وإنما سمي الصدف لأنه صدف بوجهه عن قومه حين أتاهم سيل العرم، فأجمعوا على ردمه، فصدف عنهم بوجهه تلقاء حضرموت فسمي الصدف. وقيل إنما سمي الصدف لأنه كان رجلاً شجاعاً لا يذعن لأحد من العرب، فبعث إليه بعض ملوك غسان رسولاً ليقدم به عليه. فعدا على الرسول فقتله وخرج هارباً، فبعث الملك إليه رجلاً في خيل عظيمة، فكان كلما جاء حياً من أحياء العرب سأل عن الصدف، فيقولون: صدف عنا، وما رأينا له وجهاً، فسمي الصدف من يومئذ، ثم لحق بكندة فنزل فيهم. قال أرباب علم النسب: أكثر الصدف بمصر وبلاد المغرب، والله أعلم. قلت: قد خرجنا عن المقصود لكنه ما يخلو عن فائدة. 854 - (1) رضي الدين الإربلي أبو الفضل يونس بن محمد بن منعة بن مالك بن محمد بن سعد بن سعيد بن عاصم بن عائد بن كعب بن قيس، الملقب رضي الدين الإربلي، والد الشيخين عماد الدين أبي حامد محمد، وكمال الدين أبي الفتح موسى - وقد تقدم ذكرهما (2) - قلت: هكذا وجدت نسبه بخط بعض أصحابنا المتأدبين، ولم أعلم من أين له هذه الزيادة، والذي أعرفه من نسبه هو الذي ذكرته في ترجمة ولديه، والله أعلم. كان الشيخ يونس المذكور من أهل إربل ومولده بها، وقدم الموصل   (1) ترجم له اسنوي 2: 569 وابن قاضي شهبة: 148، ولم ترد هذه الترجمة في المختار. (2) انظر ج 4: 253؛ 5: 311. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 254 فتفقه بها على تاج الإسلام أبي عبد الله الحسين بن نصر المعروف بابن خميس الكعبي الجهني - المقدم ذكره (1) - وسمع عليه كثيراً من كتبه ومسموعاته، ثم انحدر إلى بغداد وتفقه بها على الشيخ أبي منصور سعيد بن محمد بن عمر المعروف بابن الرزاز مدرس النظامية، ثم أصعد إلى الموصل وتديرها وصادف بها قبولاً تاماً عند المتولي بها الأمير زين الدين أبي الحسن علي بن بكتكين والد الملك المعظم مظفر الدين صاحب إربل - المقدم ذكره في حرف الكاف (2) - وفوض له تدريس مسجده المعروف به وجعل نظره إليه، فكان يدرس ويفتي ويناظر، وتقصده الطلبة للاشتغال عليه والمباحثة مع ولديه المذكورين، ولم يزل على قدم الفتوى والتدريس والمناظرة إلى أن توفي بالموصل يوم الإثنين سادس المحرم سنة ست وسبعين وخمسمائة. وسمعت بعض خواصهم يقول: توفي سنة خمس وسبعين. وأما ولده الشيخ كمال الدين فكان يقول: بل توفي سنة ست وسبعين، وهو أعلم بذلك. ودفن بتربته المجاورة لمسجد زين الدين المذكور، رحمه الله تعالى، وكان عمره ثمانيا وستين سنة. وقد تقدم ذكر حفيده أيضاً شرف الدين أحمد بن الشيخ كمال الدين موسى بن يونس المذكور (3) ، رحمهم الله تعالى. وعلى الجملة فإنه خرج من بيتهم جماعة من الفضلاء، وانتفع بهم أهل تلك البلاد وغيرهم، وكانوا مقصودين من بلاد العراق والعجم وغيرها. رحمهم الله تعالى أجمعين (4) . وله شعر، فمن ذلك قوله: لها زورةٌ في كل عامٍ وتارةً ... تمر شهور الحول لا نتجمع وصالٌ وصدٌ لا لشيءٍ سوى أنها ... على خلق الدنيا تجود وتمنع وله غير ذلك، والله أعلم.   (1) ج 2: 139. (2) ج 4: 113. (3) ج 1: 108. (4) هنا تنتهي الترجمة في س. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 255 855 - (1) يونس المخارقي يونس بن يوسف بن مساعد الشيباني ثم المخارقي، شيخ الفقراء اليونسية، وهم منسوبون إليه ومعروفون به، كان رجلاً صالحاً وسألت جماعة من أصحابه عن شيخه من كان فقالوا: لم يكن له شيخ، بل كان مجذوباً، وهم يسمون من لا شيخ له بالمجذوب، يريدون بذلك أنه جذب إلى طريق الخير والصلاح، ويذكرون له كرامات. أخبرني الشيخ محمد بن أحمد بن عبيد، كان قد رآه وهو صغير، وذكر أن أباه أحمد كان صاحبه، فقال: كنا مسافرين والشيخ يونس معنا، فنزلنا في الطريق على عين بوار، وهي التي يجلب منها الملح البواري، وهي بين سنجار وعانة، قال: وكانت الطريق مخوفة، فلم يقدر أحد منا أن ينام من شدة الخوف ونام الشيخ يونس، فلما انتبه قلت له: كيف قدرت تنام فقال لي: والله مانمت حتى جاء إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام وتدرك القفل. فلما أصبحنا رحلنا سالمين ببركة الشيخ يونس. قال: وعزمت مرة على دخول نصيبين، وكنت عند الشيخ يونس في قريته، فقال: إذا دخلت البلد فاشتر لأم مساعد كفناً، قال: وكانت في عافية، وهي أم ولده، فقلت له: وما بها حتى نشتري لها كفناً فقال: ما يضر، فذكر أنه لما عاد وجدها قد ماتت. وذكر له غير هذا من الأحوال والكرامات.   (1) انظر ترجمته في مرآة الجنان 4: 46 والشذرات 5: 87 والدارس 2: 213، ولم ترد هذه الترجمة في النسخة س؛ وذكر في ر أن هذه الترجمة توجد في بعض النسخ في آخر الكتاب وربما عني أنها قد وضعت هنالك بعد الخاتمة، وقد وردت في المختار وهذا يدل على أنها من عمل المؤلف. وذكر المقريزي في الخطط 2: 435 أن الشيخ يونس توفي سنة 719، ولعله سبق قلم، إذ لا يمكن أن يكون ممن يترجم لهم ابن خلكان، وقد علق الشيخ نصر الهوريني بحاشية الطبعة البولاقية بأن ما جاء في المقريزي خطأ محض. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 256 وأنشد له مواليا، وهو: أنا حميت الحمى وانا سكنتو فيه ... وأنا رميت الخلايق في بحار التيه من كان يبغي العطا مني أنا أعطيه ... أنا فتى ما أداني من به تشبيه وذكر لي الشيخ محمد المذكور أن الشيخ يونس توفي سنة تسع عشرة وستمائة في قريته، وهي القنية من أعمال دارا، وهي بضم القاف وفتح النون وتشديد الياء المثناة من تحتها، تصغير قناة، وقبره مشهور بها يزار، وكان قد ناهز تسعين سنة من عمره، رحمه الله تعالى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 257 قال المصنف ما مثاله: نجز الكتاب الذي سميته " وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان " بحمد الله ومنه، وذلك في يوم الإثنين العشرين من جمادى الآخرة سنة اثنتين وسبعين وستمائة بالقاهرة المحروسة. يقول الفقير إلى الله تعالى أحمد بن محمد بن إبراهيم بن أبي بكر بن خلكان مؤلف هذا الكتاب: إنني كنت قد شرعت في هذا الكتاب في التاريخ المذكور في أوله على الصورة التي شرحتها هناك، مع استغراق الأوقات في فصل القضايا الشرعية والأحكام الدينية بالقاهرة المحروسة، فلما انتهيت فيه إلى آخر ترجمة يحيى بن خالد بن برمك حصلت لي حركة إلى الشام المحروس في خدمة الركاب العالي المولوي السلطاني المجاهدي المرابطي المفاخري المؤيدي المنصوري الغيائي المنعمي المحسني الملكي الظاهري، ركن الدنيا والدين، سلطان الإسلام والمسلمين، أبي الفتح بيبرس قسيم أمير المؤمنين، خلد الله سلطانه، وشيد بدوام دولته قواعد الملك وثبت أركانه، وكان الخروج من القاهرة المحروسة يوم الأحد سابع شوال سنة تسع وخمسين وستمائة، ودخلنا دمشق يوم الإثنين سابع ذي القعدة من السنة المذكورة، وقلدني الأحكام بالبلاد الشامية يوم الخميس ثامن ذي الحجة من السنة المذكورة، فتراكمت الأشغال، وكثرت الموانع الصارفة عن إتمام هذا الكتاب، فاقتصرت على ما كنت قد أثبته من ذلك، وختمت الكتاب، واعتذرت في آخره بهذه الشواغل عن إكماله وقلت: إن قدر الله تعالى مهلة في الأجل وتسهيلاً في العمل، أستأنف كتاباً يكون جامعاً لجميع ما تدعو الحاجة إليه في هذا الباب. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 258 ثم حصل الانفصال عن الشام والرجوع إلى الديار (1) المصرية، وكان مدة المقام بدمشق المحروسة مدة عشر سنين كوامل لا تزيد يوماً ولا تنقص يوماً، فإني دخلتها في التاريخ المذكور، وخرجت منها بكرة نهار الخميس ثامن ذي القعدة من سنة تسع وستين وستمائة. فلما وصلت إلى القاهرة صادفت بها كتباً كنت أوثر الوقوف عليها، وما كنت أتفرغ لها، فلما صرت أفرغ من حجام ساباط بعد أن كنت أشغل من ذات النحيين، كما يقال في هذين المثلين، طالعت تلك الكتب، وأخذت منها حاجتي ثم تصديت لإتمام هذا الكتاب حتى كمل على هذه الصورة، وأنا على عزم الشروع في الكتاب الذي وعدت به إن قدر الله تعالى ذلك، والله يعين عليه ويسهل الطرق المؤدية إليه، فمن وقف على هذا الكتاب من أهل العلم، ورأى فيه شيئاً من الخلل، فلا يعجل بالمؤاخذة فيه، فإني توخيت فيه الصحة حسبما ظهر لي، مع أنه كما يقال: أبى الله أن يصح إلا كتابه، لكن هذا جهد المقل، وبذل الاستطاعة، وما يكلف الإنسان إلا ما تصل قدرته إليه، وفوق كل ذي علم عليم، وقد تقدم في أول هذا الكتاب الاعتذار عن الدخول في هذا الأمر والحامل عليه، فأغنى عن إعادته ها هنا، والله يستر عيوبنا بستر كرمه الضافي، ولا يكدر علينا ما منحنا من مشرع إغضائه النمير الصافي، إن شاء الله تعالى.   (1) مجمع الأمثال: 2: 22، 1: 255، ومن قصة الحجام أنه كان ملازماً لساباط المدائن، وكان يحجم الجند الذاهبين إلى الغزو نسيئة إلى حين رجوعهم، ويظل فارغاً دون عمل أثناء غيابهم، أما ذات النحيين فلها قصة أخرى تراجع في الأمثال. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 259 نماذج من صور المخطوطات الجزء: 7 ¦ الصفحة: 260 صورة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 261 صورة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 262 صورة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 263 صورة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 264 صورة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 265 صورة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 266 صورة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 267 صورة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 268 صورة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 269 صورة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 270 صورة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 271 صورة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 272 صورة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 273 صورة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 274 صورة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 275 صورة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 276 صورة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 277 صورة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 278 صورة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 279 صورة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 280 صورة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 281 صورة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 282 صورة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 283 صورة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 284 صورة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 285 صورة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 286 صورة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 287 صورة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 288 صورة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 289 صورة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 290 صورة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 291 صورة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 292 صورة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 293 صورة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 294 صورة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 295 صورة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 296 صورة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 297 صورة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 298 صورة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 299 صورة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 300 صورة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 301 صورة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 302 صورة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 303 صورة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 304 ملحقات الجزء: 7 ¦ الصفحة: 305 فراغ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 306 1 - مزيد بيان في تخريج التراجم الأصلية 2 - أبو ثور صاحب الشافعي: الفهرست: 297، الانتقاء: 107 طبقات الشيرازي: 75، تهذيب التهذيب 1: 118، طبقات العبادي: 22، العبر 1: 31، الشذرات 2: 93، النجوم الزاهرة 2: 301، الأسنوي 1: 25، ابن قاضي شهبة: 41. 3 - أبو إسحاق المروزي: الفهرست: 212، طبقات الشيرازي: 112، طبقات العبادي: 68، الأسنوي 2: 375، مرآة الجنان 2: 331 ابن قاضي شهبة: 56. 4 - أبو إسحاق الأسفرايني: تبيين كذب المفتري: 243، طبقات الشيرازي: 106 طبقات العبادي: 104، الأسنوي 1: 59، البداية والنهاية 12: 24، الشذرات 3: 209، مرآة الجنان 3: 31، ابن قاضي شهبة: 78. 5 - أبو إسحاق الشيرازي: مختصر ذيل السمعاني، الورقة: 125، اللباب (الفيروزآبادي) تبيين كذب المفتري: 276، 313، 332، المنتظم (ج 8، 9) ، الكامل لابن الأثير (ج: 10) ، عبر الذهبي 3: 283، الشذرات 3: 349، الأسنوي 2: 83، مرآة الجنان 3: 110، ابن قاضي شهبة: 105، وانظر مقدمتي علي مقدمات الفقهاء (ط. بيروت 1970) . 6 - إبراهيم بن أدهم الفوات 1: 4 (ووفاته سنة 161) . 7 - أبو إسحاق العراقي الخطيب: تكملة إكمال الإكمال: 196، غبر الذهبي 4: 291، تكملة المنذري 2: 217، الأسنوي 2: 221، السلوك 1: 153، حسن المحاضرة 1: 407 (تحقيق أبو الفضل إبراهيم) . 8 - أبو إسحاق ابن عسكر الموصلي: الأسنوي 2: 61، وابن الشعار 1: 22 وقد ذكر أن السلامية قرية من قرى الموصل شرقيها، وتبعد عنها بخمسة فراسخ وأوردة له الأبيات التائية (24) والأبيات " الأقل لمكي قول النصوح " والبيتين الجزء: 7 ¦ الصفحة: 307 " أقول له صلني " (25) . 17 - ابن خفاجة الأندلسي: الخريدة (قسم المغرب والأندلس) 2: 625. 18 - إبراهيم الغزي: مختصر ذيل السمعاني، الورقة: 133، مرآة الجنان 3: 230. 20 - أحمد بن حنبل ابن قاضي شهبة: 41. 21 - أبو العباس ابن سريج: طبقات الشيرازي: 108، طبقات العبادي: 72، الأسنوي 2: 20، النجوم الزاهرة 1: 194، مرآة الجنان 2: 246، ابن قاضي شهبة: 51. 22 - أبو العباس ابن القاص: طبقات الشيرازي: 111، طبقات العبادي: 73، الأسنوي 2: 297، الشذرات 2: 335، النجوم الزاهرة 3: 294، ابن قاضي شهبة: 57، ابن العديم 2: 18 ورجح أن تكون وفاته سنة 336 لأنه وجد بخط أبي عمرو عثمان بن عبد الله الطرسوسي قاضي المعرة في مواضع متعددة من مصنفاته قوله: حدثنا أبا العباس أحمد بن أبي أحمد الطبري إملاءً بطرسوس في المسجد الجامع سنة ست وثلاثين وثلاثمائة. 23 - أبو أحمد المروروذي: الفهرست: 214، الوافي 7: 10، طبقات الشيرازي: 114، الأسنوي 2: 377، مرآة الجنان 2: 375، ابن قاضي شهبة: 67، الحسيبي: 27. 24 - أبو الحسين ابن القطان: طبقات الشيرازي: 113، الأسنوي 2: 298، البداية والنهاية 11: 269، مرآة الجنان 2: 371. 26 - أبو حامد الأسفرايني: طبقات الشيرازي: 103، طبقات العبادي: 107 المنتظم 7: 277، الأسنوي 1: 57، البداية والنهاية 12: 2، مرآة الجنان 3: 15، ابن قاضي شهبة: 79، الحسيبي: 42. 27 - أبو الحسن المحاملي: ابن قاضي شهبة: 80. 28 - أبو بكر البيهقي: الأنساب واللباب (البيهقي) ، تبيين كذب المفتري: 265 المنتظم 8: 242، عبر الذهبي 3: 242، البداية والنهاية 12: 194، ابن قاضي شهبة: 98، النجوم الزاهرة 5: 77، الشذرات 3: 204، الأسنوي 1: 198، مرآة الجنان 3: 81، الحسيبي: 55، الرسالة المستطرقة: 33. 29 - النسائي أبو عبد الرحمن: طبقات العبادي: 51، الأسنوي 2: 480، ابن قاضي شهبة: 50، غاية النهاية 1: 61، تهذيب التهذيب 1: 36، النجوم الزاهرة 3: 188، حسن المحاضرة 1: 197، ابن العديم 1: 103 وسماه: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 308 أحمد بن شعيب بن علي. 31 - أبو إسحاق الثعلبي المفسر: الأسنوي 1: 329، البداية والنهاية 12: 40 ابن قاضي شهبة: 91، مرآة الجنان 3: 46. 33 - أبو نعيم الأصفهاني: المنتظم 8: 100، تبيين سكذب المفتري: 246، الأسنوي 2: 474، البداية والنهاية 12: 45، ابن قاضي شهبة: 91، نجوم الزاهرة 5: 30، مرآة الجنان 3: 52. 34 - الخطيب البغدادي: مختصر ذيل تاريخ بغداد، الورقة 63 - 65، تبيين كذب المفتري: 268، الأسنوي 1: 201، ابن قاضي شهبة: 106؛ وللأستاذ يوسف العش كتاب عنه بعنوان " الخطيب البغدادي، مؤرخ بغداد ومحدثها " (دمشق 1945) . 36 - أبو عبيد الهروي: معجم الأدباء 4: 260، النجوم الزاهرة 4: 228، الأسنوي 2: 518، مرآة الجنان 3: 3. 37 - الخوافي، أحمد بن محمد: تبيين كذب المفتري: 288، الأسنوي 1: 480، البداية والنهاية 12: 168، ابن قاضي شهبة: 114. 38 - أبو الفتوح أحمد الغزالي: الاسنوي 2: 245، لسان الميزان 1: 293، البداية والنهاية 12: 196، ابن قاضي شهبة: 122، مرآة الجنان 3: 224 وله ترجمة مفصلة في تاريخ اربل، وتقع في أول القطعة المتبقية من هذا التاريخ. ابن برهان الشافعي: البداية والنهاية 12: 196، الأسنوي 1: 207، ابن قاضي شهبة: 120، مرآة الجنان 3: 225، الحسيبي: 74، وقد ذكر السبكي في ترجمته أن وفاته كانت سنة 518، وأن مولده في شوال سنة 479. 44 - الحافظ السلفي: الأسنوي 2: 58، ابن قاضي شهبة: 141، مختصر ذيل ابن السمعاني، الورقة: 99، وانظر مقدمتي على كتاب " أخبار وتراجم أندلسية " (بيروت 1963) . 45 - شرف الدين أحمد بن منعة: ابن قاضي شهبة: 169، مرآة الجنان 4: 50. 47 - أبو العلاء المعري: ابن العديم 1: 195، وقد أورد رواية السلفي التي ذكرت على الصفحة نفسها (1: 198) . 48 - أبو عامر ابن شهيد: الخريدة (قسم المغرب والأندلس) 2: 635. 50 - أبو الطيب المتنبي: ابن العديم 1: 26 وهي من أجود الترجمات التي قرأتها للمتنبي، ومما جاء فيها (الورقة 26) : وكان نزوله بحلب في محلتنا المعروفة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 309 بآدر بني كسرى، قال لي والدي: وكانت داره داراً هي الآن خانكا سعد الدين كمشتكين، ملاصقة لداري. وورد أيضاً فيها (الورقة: 27) قال الربعي، قال لي المتنبي: كنت أحب البطالة وصحبة البادية، وكان يذم أهل الكوفة لأنهم يضيقون على أنفسهم في كل شيء، حتى في الأسماء، فيتداعون بالألقاب، ولما لقبت بالمتنبي ثقل ذلك علي زماناً ثم ألفته. وفي الورقة: 73 وذكر ابن الصابي في كتاب الوزراء أن ابن العميد كان يجلس المتنبي في دسته ويقعد بين يديه فيقرأ عليه الجمهرة لابن دريد، لأن المتنبي كان يحفظها عن ظهر قلب. قلت: وهي ترجمة نفيسة جداً، وعلى ضوئها يمكن أن يعاد النظر في ما كتب عن المتنبي. 51 - أبو العباس النامي: ابن العديم 2: 34، ومما جاء هنالك: كان بكيء الخاطر شديد القول، إذا أراد أن يعمل شعراً خلا خلوة طويلة أياماً وليالي، فان نطقت في داره جارية أو غلام كاد أن يقتله وانقطع خاطره، وإذا أراد أن يعمل قصيدة جمع جميع ما للعرب والمحدثين من الشعر على وزن تلك القصيدة، وجعله حواليه، ونظر فيه، حتى يقدح به خاطره ويتحلب (ويجتلب) معانيه؛ اه. ثم أورد نوادر تتصل بهذه الحالة لديه. 54 - أبو الرقيع: ابن العديم 2: 51. 56 - ابن دراج القسطلي: مرآة الجنان 3: 38. 59 - أبو نصر المنازي: ابن العديم 2: 154، وقد أورد ابن العديم رواية اجتماعه بالمعري 1: 209 وناقشها وناقش ما كان على مثالها، واستبعد أن تصدر عن المعري. 60 - ابن الخياط الدمشقي: ذيل مرآة الزمان 2: 10. 61 - أبو الفضل الميداني: مرآة الجنان 3: 233. 62 - ابن الخازن الكاتب: مرآة الجنان 3: 222. 63 - ناصح الدين الارجاني: ذيل مرآة الزمان 1: 240، الاسنوي 1: 110، المنتظم 10: 139، البداية والنهاية 12: 226، مرآة الجنان 3: 281. 64 - ابن منير الطرابلسي: ابن العديم 2: 75. 65 - القاضي الرشيد ابن الزبير: الاسنوي 1: 116، مرآة الجنان 3: 367، النجوم الزاهرة 5: 373، بغية الوعاة: 146. 66 - أبو العباس أحمد القطرسي: ابن العديم 1: 234، ابن الشعار 1: 150، وأورد نص العماد في الخريدة: " النفيس بن القطرسي شاب مصري فقيه في المدرسة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 310 المالكية بمصر، له خاطر حسن، ودراية ولسن، ويد في علوم الأوائل قوية، وروية من منابع الأدب ومشارعه روية ". وقد أورد ابن الشعار وابن العديم بيته " يا راحلاً وجميل الصبر يتبعه " وبيتيه " يسر بالعيد أقوام لهم سعة ". 67 - أبو العباس أحمد بن هارون الرشيد: التاج (سبت) نقلاً عن خط ابن خلكان، وذكر أن وفاته كانت سنة 283. 69 - ابن الحطيئة اللخمي: إنباه الرواة 1: 39، وحسن المحاضرة 1: 192. 70 - الشيخ أحمد الرفاعي: الأسنوي 1 589، البداية والنهاية 12: 312، النجوم الزاهرة 6: 92، ابن قاضي شهبة: 141. 71 - أحمد بن طولون: ابن العديم: 171. 73 - أبو نصر ابن مروان الكردي: مرآة الجنان 3: 74. 75 - عماد الدين ابن المشطوب ذيل مرآة الزمان 2: 224، مرآة الجنان 3: 43. 76 - صلاح الدين الاربلي: ابن الشعار 1: 173، خدم جندياً للملك المعظم، وحاجباً بين يديه ثم أبعده مخدومه وصار إلى الأمير شهاب الدين قراطايا، ورحل في صحبته عن اربل إلى الديار الشامية سنة 604، وابن العديم 1: 166 كان صائغاً باربل، واتصل بخدمة الملك المغيث بن الملك العادل حين كان باربل، وكان يغني له، وخدمه وصار حاجباً له، ووصل معه إلى مصر، فلما توفي اتصل بالملك الكامل فنفق عليه وتقدم عنده. 81 - أرسلان البساسيري: ابن العديم 2: 196. 82 - نور الدين صاحب الموصل: ابن العديم 2: 196، مرآة الجنان 4: 13. 84 - اسامة بن منقذ: مختصر ذيل تاريخ بغداد، الورقة: 152، تكملة المنذري 1: 158، ابن العديم 2: 205، مرآة الجنان 4: 14، الدارس 1: 384. 85 - إسحاق بن راهويه: ابن العديم 2: 220. 89 - أسعد الميهني: معجم البلدان (مهينة) ، عبر الذهبي 4: 71. الأسنوي 2: 424 ابن قاضي شهبة: 130. 91 - الأسعد ابن مماتي: ابن العديم 3: 28، مرآة الجنان 4: 13، ابن الشعار 1: 49 عريق في الكتابة يتوارثونه، وكان جده أبو المليح مماتي كاتباً لبدر الجمالي، وهو كالمستولي على الديار المصرية، ليس على يده يد. وترجم له الصفدي في الوافي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 311 ج 9 (رقم 3684) وذكر من تصانيفه: تلقين في الفقه، وكتاب سر الشعر، وكتاب علم النثر، وكتاب الشيء بالشيء يذكر، وعرضه على القاضي فسماه " سلاسل الذهب " وذكر له مؤلفات أخرى. 92 - البهاء السنجاري: السبكي 5: 50، الأسنوي 2: 66، الوافي (ج 9) نقلاً عن ابن خلكان. وابن الشعار 1: 507 قال: وكنيته أبو المعالي، تفقه ببغداد على أبي القاسم بن فضلان والمجير أبي القاسم البغداديين، وبالموصل على القاضي تاج الإسلام أبي عبد الله الحسين بن نصر بن خميس الجهني ثم على الشيخ القاضي أبي سعد ابن أبي عصرون، والقاضي أبي الرضى سعيد بن عبد الله بن القاسم الشهرزوري الموصلي، وولي القضاء بدنيسر سنين، وبغيرها من البلاد، اشتهر شعره وغنى به المغنون، كان شيخاً ظريفاً مفاكهاً متنادراً، استوزره صاحب حماة وميزه على نظرائه، وكان ينفذه إلى البلاد رسولاً. ذكره ابن المستوفي في تاريخ إربل، إذ قدم إربل عدة مرات آخرها سنة 604. قلت: وأبياته التي أولها " وهواك ما خطر السلو ببابه " وردت في ابن الشعار: 509 وكذلك قوله (ص: 216) " بنفسي حبيب جار " وأكثر مقطعاته وردت في الصفدي أيضاً. ذكر ابن الشعار أن وفاته كانت سنة أربعة وعشرين وستمائة (وهذا يخالف ما ذكره المؤلف ص: 217) . 93 - أبو إبراهيم المزني: طبقات الشيرازي: 79، طبقات العبادي: 9، الفهرست: 298، اللباب (المزني) ، الأسنوي 1: 34، النجوم الزاهرة 7: 39، الشذرات 2: 148، مرآة الجنان 2: 285، ابن قاضي شهبة: 42، الحسيبي: 5. 94 - أبو العتاهية: ابن العديم 3: 145. 96 - الصاحب ابن عباد: أنباء الأمراء: 32. 99 - الظافر العبيدي: مرآة الجنان 3: 295. 102 - قسيم الدولة آق سنقر: ابن العديم 3: 268. 103 - آق سنقر البرسقي: ابن العديم 3: 275. 104 - أبو الصلت الأندلسي: مرآة الجنان 3: 253. 107 - نجم الدين أيوب: الدارس 2: 174. 126 - تميم بن المعز: مرآة الجنان 3: 169. 128 - ثابت بن قرة: المنتخب من صوان الحكمة: 140. 132 - جعفر البركي: أنباء الأمراء: 29، وبعض حكايات عنه: 46. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 312 135 - أبو محمد ابن السراج: مختصر ذيل تاريخ بغداد، الورقة: 166، المنتظم 9: 151، عبر الذهبي 3: 355، الأسنوي 2: 45، مرآة الجنان 3: 162 النجوم الزاهرة 5: 194. 144 - الجنيد الصوفي: الرسالة القشيرية 1: 105، المنتظم 6: 105، الأسنوي 1: 334، البداية الونهاية 11: 113، عبر الذهبي 2: 110 النجوم الزاهرة 3: 177، ابن قاضي شهبة: 47، الحسيبي: 10. 149 - الحجاج بن يوسف: ابن العدين 4: 3 - 43. 152 - الحارث المحاسبي: الرسالة القشيرية 1: 72، اللباب (القشيري) ، طبقات العبادي: 27، عبر الذهبي 1: 440، الأسنوي 1: 26، البداية والنهاية 10: 73، والشذرات 2: 102؛ وللأستاذ يوسف فإن إس دراسة عنه بالألمانية (بون: 1961) . 154 - حرملة بن يحيى التجيبي: طبقات العبادي: 17، الانتقاء: 109، الأسنوي 1: 28 مرآة الجنان 2: 143، تذكرة الحفاظ: 486، ابن قاضي شهبة: 34، الحسيبي: 5. 157 - أبو علي الزعفراني: طبقات الحنابلة 1: 138، طبقات العبادي: 23، اللباب (الزعفراني) ، مرآة الجنان 2: 171، الشذرات 2: 140، النجوم الزاهرة 3: 23، ابن قاضي شهبة: 43، الحسيبي: 7. 158 - أبو سعيد الاصطخري: تاريخ بغداد 7: 268، طبقات العبادي: 66، اللباب (الاصطخري) ، البداية والنهاية 11: 193، مرآة الجنان 2: 290، ابن قاضي شهبة: 57. 159 - أبو علي ابن أبي هريرة: طبقات العبادي: 77، الأسنوي 2: 518، عبر الذهبي 2: 267، البداية والنهاية 11: 304، طبقات الشيرازي: 112، النجوم الزاهرة 2: 267، ابن قاضي شهبة: 64، الحسيبي: 21. 160 - أبو علي الطبري: طبقات العبادي: 84، المنتظم 7: 5، عبر الذهبي 2: 286، الأسنوي 2: 154، النجوم ازاهرة 3: 328. 161 - أبو علي الفارقي: الأسنوي 2: 256. 162 - السيرافي: ابن العديم 4: 266. 163 - أبو علي الفارسي: ابن العديم 4: 145. 165 - ابن رشيق القيرواني: مرآة الجنان 3: 78. 168 - الحسن بن صافي ملك النحاة: ابن العدين 4: 229، الأسنوي 2: 496 الجزء: 7 ¦ الصفحة: 313 ابن قاضي شهبة: 142، مرآة الجنان 3: 386، عبر الذهبي 4: 204، الشذرات 4: 227، النجوم الزاهرة 6: 68. 171 - ابن وكيع التنيسي: ابن العديم 4: 283 قال: بعضهم شماه الحسن بن محمد بن وكيع، وبعضهم سماه علي بن الحسن بن وكيع وكناه ابا الحسن، ووقع إلي نسخة من شهره صحيحة ابتدأ في أول الديوان: قال قال أبو محمد الحسن بن علي بن أحمد بن وكيع، وختمه بقوله: آخر شعر أبي محمد الحسن بن علي بن وكيع، قدم حلب ومدح بها سيف الدولة الخ. وفي تاريخ وفاته قال: قرأت في تاريخ مختار الملك المسبحي في حوادث 393، وفيه - يعني شهر ربيع الأول - توفي أبو محمد ابن وكيع يوم الثلاثاء لسبع بقين منه؛ قلت: وهو المخالف لما أورده ابن خلكان. 173 - أبو الجوائز الواسطي: الفوات 1: 253 وقد وردت فيه الترجمة وكأنها ملخصة عن وفيات الأعيان. 174 - العلم الشاتاني: ابن العديم 4: 200، الخريدة (قسم الشام) 2: 361ذ، تلخيص مجمع الآداب 1: 575، الأسنوي 2: 111. 176 - ركن الدولة ابن ويه: مرآة الجنان 3: 93. 177 - الحسن بن سهل: ابن العدين 4: 222، أنباء الأمراء: 30. 178 - الوزير المهلبي: أنباء الأمراء: 32. 179 - نظام الملك: ابن العدين 4: 286، ابن ماكولا: (بزرك) ، مختصر ذيل تاريخ بغداد، الورقة: 188، مرآة الجنان 3: 135؛ وقد أورد ابن العدين البيتين " بعد الثمانين ليس قوة " نقلاً عن زينة الدهر للحظيري، وأورد أيضاً البيتين في رثائه (4: 301) . 181 - الكرابيسي صاحب الشافعي: الانتقاء: 106، طبقات العبادي: 23، الأسنوي 1: 29، عبر الذهبي 1: 450، الشذرات 2: 350، ابن قاضي شهبة: 43، النجومم الزاهرة 2: 329، الحسيبي: 6. 182 - ابن خيران: طبقات العبادي: 67، الأسنوي 1: 463، عبر الذهبي 2: 182 النجوم الزاهرة 2: 329، الحسيبي: 15. 183 - القاضي حسين المروروذي: طبقات العبادي: 112، الأسنوي 1: 407، ابن قاضي شهبة: 107، عبر الذهبي 3: 249، الشذرات 3: 310، مرآة الجنان 3: 85، الحسيبي: 57. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 314 184 - أبو علي السنجي: معجم البلدان (سنج) اللباب (السنجي) ، الأسنوي 2: 20. 185 - الفراء البغوي: تذكرة الحفاظ: 1257، الأسنوي 1: 205، مرآة الجنان 3: 213، الشذرات 4: 48، البداية والنهاية 12: 193، طبقات المفسرين: 12، النجوم الزاهرة 5: 223، الحسيبي: 74. 186 - أبو عبد الله الحليمي: طبقات العبادي: 105، المنتظم 7: 264، السنوي 1: 404، تذكرة الحفاظ: 1030، عبر الذهبي 3: 84، الشذرات 3: 167، البداية والنهاية 11: 349، ابن قاضي شهبة: 81، الحسيبي: 40. 187 - الوني الحاسب: المنتظم 8: 197، معجم البلدان (ونّ) ، الأسنوي 2: 543 عبر الذهبي 3: 222، ابن قاضي شهبة: 100. 190 - ابن سينا: تاريخ حكماء الإسلام للبيهقي: 52، أنباء الأمراء: 45، مرآة الجنان 3: 47. 193 - الوزير المغربي: مرآة الجنان 3: 32، ابن العديم 5: 14 - 30، وقد ذكر ابن العديم رسالة له تبين أن الاوارجي خال أبيه، وأورد كذلك نص ما قاله أبوه فيه (ولد سلمه الله الخ) . 194 - ابن خالويه: غاية انهاية 1: 237، الأسنوي 1: 475، النجوم الزاهرة 4: 139. 195 - أبو علي الجياني: مرآة الجنان 3: 46. 196 - البارع الدباس: ابن العديم 5: 161 وقد ورد فيه المنقول عن زينة الدهر (في ص 183) وتاريخ القصيدة 473، وهي طويلة بأكثر مما ورد في الوفيات. 197 - الطغرائي: ان العديم 5: 111، إنباء الأمراء: 34. 203 - الحكم بن عبدل: معجم الأدباء 10 228. 207 - أبو سليمان الخطابي: طبقات العبادي: 94، الأسنوي 1: 467، ان قاضي شهبة: 74 (تحت اسم: أحمد) ، البداية والنهاية 11: 236، النجوم الزاهرة 4: 199. 209 - حنين بن إسحاق: ابن العديم 5: 318. 212 - خالد بن يزيد بن معاوية: ابن العديم 6: 111. 213 - خالد بن عبد الله القسري: ابن العديم 6: 34، وقد أورد الحكاية المثبتة عن الأصمعي (ص: 227) ، ووردت فيه الأبيات اللامية (ص 230) . 214 - خالد المهلبي: الفوات 1: 296. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 315 215 - خالد التميمي: ابن العديم 6: 121. 216 - الخضر بن عقيل الاربلي: الأسنوي 1: 118، ابن قاضي شهبة: 143، الشذرات 5: 86. 221 - خمارويه بن طولون: ابن العديم 7: 11 (والترجمة ناقصة من أولها) . 223 - داود الظاهري: ابن قاضي شهبة: 47. 224 - الملك الزاهر: ابن العديم 6: 301. 226 - دبيس بن صدقة: ابن العديم 6: 306، مرآة الجنان 3: 256، وقد أورد ابن العديم النص المنقول عن ابن المستوفي (ص 264) نقلاً عن وشاح الدمية (انظر 6: 314) . 227 - دعبل الخزاعي: ابن العديم 6: 318. 230 - ذو القرنين ابن حمدان: مرآة الجنان 3: 51. 233 - الربيع بن سليمان المرادي: طبقات العبادي: 12، الأسنوي 1: 39، ابن قاضي شهبة: 44، عبر الذهبي 2: 45، الشذرات 2: 159، النجوم الزاهرة 3: 28، الحسيبي: 6. 234 - الربيع بن سليمان الجيزي: طبقات العبادي: 16، اللباب (الجيزي) ، الأسنوي 1: 30، ابن قاضي شهبة: 42، تهذيب التهذيب 3: 245، الشذرات 2: 109، الحسيبي: 6. 235 - الربيع بن يونس: ابن العدين 7: 48 وقال: كان يونس بن محمد شارباً شاطراً بالمدينة، فعلق أمة لقوم بالمدينة غلبها على نفسها فجاءت بالربيع؛ وأورد القصة التي أولها " قال له يوماً يا ربيع: سل حاجتك " (ص 294) والقصة التي أولها " وكان أبو جعفر إذا بإنسان خيراً " الخ (ص 295) . 237 - رجاء بن حيوة: ابن العديم 7: 60. 239 - روح بن حاتم: ابن العدين 7: 127. 240 - الزبير بن بكار: ابن العدين 7: 143. 241 - أبو عبد الله الزبيري: طبقات الشيرازي: 108، تاريخ بغداد 8: 471، الأسنوي 1: 606، غاية النهاية 1: 292. 245 - عماد الدين زنكي: ابن العديم 7: 206، الدارس 1: 616. 246 - عماد الدين صاحب سنجار: ابن العديم 7: 216. 247 - بهاء الدين زهير: ذيل مرآة الزمان 1: 187 - 197، مرآة الجنان 4: 138 الجزء: 7 ¦ الصفحة: 316 ابن العديم 8: 12 وفي نسبه " المكي "، غير أن " العتكي " ثابتة بخط المؤلف ابن خلكان، وسياق النص يدل على أنه عاش فترة في مكة؛ وأورد ابن العديم قصة المراسلة بينه وبين ابن مطروح (ص: 336) . 249 - التاج الكندي: ابن العديم 8: 92، الدارس 1: 483. 251 - زينب بنت الشعر: مرآة الجنان 4: 31. 252 - لسالم بن عبد الله بن عمر: ابن العديم 8: 167. 256 - سري السقطي: ابن العديم 8: 232. 257 - السري الرفاء: الفهرست: 169، ابن العديم 8: 227 وأورد ابن العديم بيتيه " وكانت الإبرة فيما مضى ". 258 - حيص بيص: الأسنوي 1: 443، عبر الذهبي 4: 219، النجوم الزاهرة 6: 83، البداية والنهاية 12: 301، ابن العديم 8: 271 وأورد أبياته: لا تضع من عظيم قدر، وأبياته: ملكنا فكان العفو 259 - أبو المعالي الحظيري: ابن العديم 8: 264، وقال: قرأ الأدب على ابن الشجري والجواليقي وأبي محمد ابن الخشاب، وصحب العبادي الواعظ وكتب عنه شيئاً من محاسن كلامه في الواعظ، واختار منها ما استحسنه وسماه " النور البادي من كلام العبادي " وصحب الشيخ محمد الفارقي الزاهد وجمع محاسن كلامه وسماه " الكلم الفارقية في اكلم الالاهية "؛ تفقه على مذهب أبي حنيفة ثم إنه خرج من بغداد على قدم الزهد والانقطاع والسياحة، فقدم حلب والعواصم واجتمع بأبي نصر ابن القيسراني وسمع منه ببالس شيئاً من شعره، وله ديوان شعر لطيف النظم صغير الحجم، وله كتاب " حاطب ليل " ضمنه فوائد ونوادر. ثم قص ابن العديم كيف زار أبا المعالي الحظيري مجاهد الدين قايماز لما حج وأودع عنده ذهباً ثمن كتب فسرقه ابن امرأته، ثم استرده منه وقد نقص 15 ديناراً؛ وحكى كيف وقف قايماز على باب دكانه ببغداد يسأل عنه، فلما دل عليه قال: " تسمع بالمعيدي خير من أن تراه " وكان الشيخ الحظيري قصيراً طويل اللحية على آذانه شعر، ونزل إليه قايماز وتحدث معه فعظم في عينه، ولما عاد من الحج سأله أن يذكر له شيئاً من الألغاز فصنف له كتاب الألغاز؛ وكان دكانه مجمعاً لأهل العلم. 265 - ابن الدهان النحوي: الأسنوي 1: 537. 269 - سليم الرازي: تبيين كذب المفتري: 262، عبر الذهبي 3: 213، الأسنوي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 317 1 - 562 ابن قاضي شهبة: 100، مرآة الجنان 3: 64. 275 - أبو الوليد الباجي: الفوات 1: 356، مرآة الجنان 3: 108. 283 - أبو الفتح الأرغياني: الأسنوي 1: 67، ابن قاضي شبهة: 115. 284 - أبو الطيب الصعلوكي: تبيين كذب المفتري: 211، الأسنوي 2: 126، طبقات العبادي: 103، ابن قاضي شهبة: 83، عبر الذهبي 3: 88، البداية والنهاية 12: 347. 286 - الأفضل ابن أمير الجيوش: مرآة الجنان 3: 211. 295 - شقيق البلخي: الفوات 1: 385 وذكر أن وفاته سنة 194. 305 - الأحنف بن قيس: ابن العديم 2: 167. 307 - أبو الطيب الطبري: طبقات العبادي: 114، المنتظم 8: 198، تاريخ بغداد 9: 358، الأسنوي 2: 157، ابن قاضي شبهة: 100، عبر الذهبي 3: 222، النجوم الزاهرة 5: 63، البداية والنهاية 12: 79، مرآة الجنان 3: 70. 308 - ابن يبانشاذ النحوي: مرآة الجنان 3: 98. 310 - سيف الإسلام طغتكين: تكملة المنذري 2: 97. 313 - أبو الأسود الدولي: ابن العديم 9: 8. 331 - القفال المروزي: طبقات العبادي: 105، الأسنوي 2: 298، ابن قاضي شهبة: 83، النجوم الزاهرة 4: 265. 332 - أبو محمد الجوينت: طبقات العبادي: 112، تبيين كذب المفتري: 143، دمية القصر: 196، المنتظم 8: 130، الأسنوي 1: 338، ابن قاضي شهبة: 93، البداية والنهاية 12: 55، مرآة الجنان 3: 58، الحسيبي: 48. 335 - ابن أبي عصرون: تكملة المنذري 1: 200، اسنوي 2: 193، ابن قاضي شهبة: 150، البداية والنهاية 12: 193، الدارس 1: 399. 336 - ابن أسعد الموصلي: الأسنوي 2: 440، مرآة الجنان 4: 35. 337 - ابن شأس: مرآة الجنان 4: 35. 346 - ابن صارة الشنتريني: الخريدة (قسم المغرب والأندلس) 2: 256. 347 - ابن السيد البطليوسي: الخريدة (قسم المغرب والأندلس) 2: 509، مرآة الجنان 3: 228. 349 - الشيخ أبو البقاء العكبري: مرآة الجنان 4: 32. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 318 353 - ابن بري: السبكي 4: 233، تكملة المنذري 1: 73، الأسنوي 1: 267، الدارس 1: 184، ابن قاضي شهبة: 149 (وانظر حاشية أنباه الرواة) . 364 - أبو القاسم الفوراني: الأسنوي 2: 255، اللباب (الفوراني) ، ابن قاضي شهبة: 109، البداية والنهاية 12: 98، مرآة الجنان 3: 84. 365 - أبو سعد المتولي: الأسنوي 1: 305، ابن قاضي شهبة: 109، مرآة الجنان 3: 122، الحسيبي: 62. 366 - فخر الدين ابن عساكر: ابن قاضي شهبة: 161. 370 - أبو الفرج ابن الجوزي: تكملة المنذري 2: 291. 374 - القاضي الفاضل: تكلمة المنذري 2: 209، ذيل الروضتين: 17، الجامع المختصر: 28، الأسنوي 2: 282، ابن قاضي شهبة: 150، الدارس 1: 89. 378 - إمام الحرمين الجويني: دمية القصر: 196، العقد الثمين 5: 507، الأسنوي 1: 409، الأنساب واللباب (الجويني) ، ابن قاضي شهبة: 112، النجوم الزاهرة 5: 121 البداية والنهاية 12: 128، مرآة الجنان 3: 123، الحسيبي: 61. 381 - أبو منصور الثعالبي: مرآة الجنان 3: 53. 385 - أبو القاسم الداركي: الأسنوي 1: 508، ان قاضي شهبة: 69، البداية والنهاية 11: 304. 390 - أبو المحاسن الروباني: الأسنوي 1: 565، المنتظم 9: 160، ابن قاضي شهبة: 124، النجوم الزاهرة 5: 197، البداية والنهاية 12: 170، مرآة الجنان 3: 171. 392 - أبو منصور البغدادي: الأسنوي 1: 194، ابن قاضي شهبة: 94، البداية والنهاية 12: 44، مرآة الجنانه 3: 52، الحسيبي: 47. 393 - أبو النجيب السهروردي: ابن قاضي شهبة: 143. 394 - أبو القاسم القشيري: الأسنوي 2: 313، ابن قاضي شهبة: 111، البداية والنهاية 12: 107، مرآة الجنان 3: 91. 395 - ابن السمعاني: المنتظم 10: 224، ابن قاضي شهبة: 143، الأسنوي 2: 55. 399 - ابن الصباغ: الأسنوي 2: 130، ابن قاضي شهبة: 110، البداية والنهاية 12: 126، النجوم الزاهرة 5: 119، مرآة الجنان 3: 121. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 319 400 - القاضي عبد الوهاب المالكي: مرآة الجنان 3: 41. 401 - الحافظ عبد الغني: مرآة الجنان 3: 22. 402 - عبد الغافر الفارسي: الأسنوي 2: 275، ابن قاضي شهبة: 132، البداية والنهاية 12: 235، مرآة الجنان 3: 259. 403 - أبو الوقت السجزي: مرآة الجنان 3: 304. 404 - ابن كليب الحراني: تكملة المنذري 2: 203. 406 - عبد المحسن الصوري: مرآة الجنان 3: 34. 409 - أبو القاسم الأنماطي: الأسنوي 1: 44، ابن قاضي شهبة: 48، مرآة الجنان 2: 215، الحسيبي: 8. 410 - أبو عمرو الهذباني: رفع الاصر 2: 367، السبكي 5: 143، الأسنوي 1: 127، البداية والنهاية 13: 110، حسن المحاضرة 1: 408، مرآة الجنان 4: 3. 411 - أبو عمرو ابن الصلاح: تاريخ السلامي: 130، الأسنوي 2: 133، ابن قاضي شهبة: 187، الدارس 1: 19، مرآة الجنان 4: 109 الحسيبي: 84. 412 - أبو عمرو ابن الحاجب: البداية والنهاية 13: 176، مرآة الجنان 4: 114. 414 - الملك العزيز عماد الدين بن صلاح الدين: تكملة المنذري 2: 150، الدارس 1: 387. 415 - عدي الهكاري: تاريخ اربل: 87. 417 - ركن الدين الطاووسي: الأسنوي 2: 176، ابن قاضي شهبة: 152. 418 - أبو المعالي عزيزي الجبلي: مرآة الجنان 3: 157. 427 - أبو المحاسن ابن المرزبان: الأسنوي 2: 378، ابن قاضي شهبة: 69، البداية والنهاية 11: 289، الحسيبي: 28. 428 - أبو المحاسن الماوردي: معجم الأدباء 15: 52، الأسنوي 2: 387، ابن قاضي شهبة: 102، لسان الميزان 4: 260، البداية والنهاية 12: 80، النجوم الزاهرة 5: 64، مرآة الجنان 3: 72. 429 - أبو المحاسن الأشعري: الأسنوي 1: 72، ابن قاضي شهبة: 59، النجوم الزاهرة 3: 259. 430 - الكيا الهراسي: الأسنوي 2: 520، ابن قاضي شهبة: 125، مرآة الجنان 3: 173. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 320 431 - علي بن الأنجب المقدسي الحافظ: ابن الشعار 3: 498 وقال: سمع بالحجاز وديار مصر والشام وتغرب وكتب الكثير، وخرج الفوائد الصحاح، وكان من الحفاظ الإثبات الثقات الأمناء الفضلاء؛ وأورد من شعره " أيا نفس بالمأثور عن خير مرسل " والبيتين " ولمياء تحيي من تحيي بريقها ". 432 - سيف الدين الآمدي: ابن أبي أصيبعة 2: 174، أخبار الحكماء للقفطي: 240 الأسنوي 1: 137، مرآة الزمان: 691، ابن قاضي شهبة: 173، البداية والنهاية 13: 140، مرآة الجنان 4: 73، الدارس 1: 393، حسن المحاضرة 1: 541. 434 - أبو المحاسن الدارقطني: الأسنوي 1: 508، البداية والنهاية 11: 317. 438 - أبو الحسن الواحدي: الأسنوي 2: 538، ابن قاضي شهبة: 112، مرآة الجنان 3: 96. 439 - ابن ماكولا: مرآة الجنان 3: 143. 441 - الحافظ ابن عساكر: الأسنوي 2: 216، ابن قاضي شهبة: 144، الدارس 1: 100. 444 - أبو الحسين الخلعي: الأسنوي 1: 479، ابن قاضي شهبة: 117، مرآة الجنان 3: 255، النجوم الزاهرة 5: 164، حسن المحاضرة 1: 404. 448 - ابن حزم الظاهري: مرآة الجنان 3: 79. 449 - أبو الحسن ابن سيده: ذيل مرآة الزمان 2: 309. 451 - أبو الحسن ابن خروف النحوي: مرآة الجنان 4: 21. 454 - أبو الحسن ابن العصار: تاريخ ابن الدبيثي، الورقة: 143. 455 - أبو الحسن شميم الحلي: تاريخ ابن الدبيثي، الورقة: 137 والغصون اليانعة: 5 وذكر أنه وقف على ترجمته في تاريخ بغداد لابن الساعي وتاريخ حلب لابن العديم؛ وترجم له ابن الشعار 4: 427 وقال: كان من جملة محفوظاته " إصلاح المنطق " بهذه هذا من خاطره، ومن مؤلفاته: كتاب بدائه الفكر في بدائع النظم والنثر، وكتاب أنيس الجليس في محاسن التجنيس من إنشائه وشعره، وكتاب النكت المنجمات في شرح المقامات، وكتاب التغميض في التحميض، وكتاب الأغراب في بطلان الأعراب، وكتاب ريحانة الهم في اشتقاق المدح والذم، وكتاب معاياه العقل ومعاناة النقل، وكتاب أري المشتار في القريض المختار، وكتاب مباح المنى في إيضاح الكنى، إلى غير ذلك من التواليف. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 321 456 - أبو الحسن علي ن محمد السخاوي: الاسنوي 2: 68، ابن قاضي شهبة: 188، مرآة الجنان 4: 110 وابن الشعار 5: 19 وقال في ترجمته: قرأ في بلده على أبي إسحاق إبراهيم ن جبارة السخاوي، وكان مالكي المذهب ثم انتقل إلى مذهب الشافعي، وسمع على أبي اليمن كتاب سيبويه والإيضاح واللمع وديوان المتنبي وشرحه وقرأ عليه أكثر مسموعاته، وجج سنة 598، ومن مصنفاته فتح الوحيد في شرح القصيد، وهي قصيدة الشاطبي في رسم المصحف، وكتاب المفضل في كشف العقلية شرح قصيدة الشاطبي في رسم المصحف، وكتاب المفضل في شرح المفصل، وكتاب جمال القراء وكمال الإقراء، وكتاب تنوير الدياجي في تفسير الأحاجي، وكتاب تحفة الناسك في معرفة المناسك، وكتاب سفر السعادة وسفر الإفادة، وكتاب ذات الحلل ومهاة الكلل فيما اتفق لفظه واختلف معناه. 457 - ابن البواب الكاتب: مرآة الجنان 3: 42. 459 - علي الهروي السائح: مرآة الجنان 4: 22، وتاريخ اربل: 128 وأورد كل ما كتب على مقبرته التي أنشأها لنفسه: وابن الشعار 5: 36 وقال في ترجمته: كان والده من أهل هراة خراطاً، ويعرف بابن الخراط ، ومن مصنفاته: العجائب والآثار، قال: ورأيت له خطباً من إنشائه وكلاماً منثوراً وشعراً وكانت ولادته سنة 542، وقبره ظاهر المدينة قبليها على الجادة الآخذة إلى دمشق ببئر نسبت إلى إبراهيم الخليل عليه السلام. وكان صوفياً له معرفة بالسيميا والتخيلات، وكانت له بحلب وجاهة ومنزلة عند صاحبها الملك الظاهر غياث الدين؛ ثم أورد له مقطعات شعرية. 460 - عز الدين ابن الأثير: الاسنوي 1: 132، ابن قاضي شهبة: 173، مرآة الجنان 4: 70، البداية والنهاية 13: 139، تاريخ ابن الدبيثي، الورقة: 159. 470 - أبو الفتح البستي: الاسنوي 1: 221، البداية والنهاية 11: 278، النجوم الزاهرة 4: 106. 471 - أبو الحسن التهامي: مرآة الجنان 3: 29. 475 - أبو الحسن الباخرزي: معجم الأدباء 13: 33، الأسنوي 1: 234، مرآة الجنان 3: 95، البداية والنهاية 12: 112، النجوم الزاهرة 5: 99. 478 - ابن الساعاتي: الغصون اليانعة: 118 وقال أن له ترجمة في تاريخ حلب وفي تاج المعاجم، وقال: لم ينشأ بدمشق في زمانه أبرع منه صورة، وبرع في صباه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 322 خطاً وشعراً ولعباً بالشطرنج والنرد وفي الفروسية، ومن المشهور أنه قرأ في أول أمره على البديع الاصطرلابي بآمد؛ وترجم له ابن الشعار (4: 292) وسماه علي بن محمد بن رستم، وذكر أنه ولد سنة 544، وتوفي بالقاهرة سنة 604. 479 - أبو الفضائل الآمدي: الاسنوي 2: 549. 484 - علي بن محمد الصليحي: مرآة الجنان 3: 103. 485 - العادل ابن السلار: مرآة الجنان 3: 288. 486 - الملك الأفضل ابن صلاح الدين: مرآة الجنان 4: 52، وابن الشعار 4: 476 وأورد له شعراً كثيراً، وذكر أن وفاته كانت في الخامس والعشرين من صفر سنة 622. 489 - عمارة اليمني: الاسنوي 2: 565. 495 - ابن البزري: الاسنوي 1: 257. 496 - شهاب الدين السهروردي: تاريخ ابن الدبيثي، الورقة: 117، ابن قاضي شهبة: 174، مرآة الجنان 4: 79، تاريخ اربل: 174 وقال في كنيته: أبو نصر وقيل أبو عبد الله وقيل أبو حفص، وله كتاب حلية الناسك؛ وترجم له ابن الشعار 5: 312 وقال: قدم بغداد شاباً وبعد وفاة أبي الوقت السجزي فسمع بها من جماعة منهم أبو المظفر ابن الشبلي وأبو الفتح ابن البطي وأبو زرعة طاهر بن محمد المقدسي، تولى ببغداد عدة ربط للصوفية، وأنفذ للديوان العزيز رسولاً إلى عدة جهات، ومن مؤلفاته بغية البيان في تفسير القرآن، وكتاب رشف النصائح الإيمانية وكشف الفضائح اليونانية (منه نسخة بمكتبة برلين: 2078 spr. 769) صنفه رداً على أصحاب البدع والحكماء والمنجمين؛ وقلت: وأورد ابن الشعار وابن المستوفي أبياته التي أولها " تصرمت وحشة الليالي ". 497 - أبو الخطاب ابن دحية: تاريخ ابن الديثي، الورقة: 109، ذيل مرآة الزمان 2: 421، مرآة الجنان 4: 84، ابن الشعار 5: 315 وفي نسبه ملال بن أحمد ابن بدر؛ وتحدث عن كتابه التنوير فقال: وهذا كتاب التنوير كنت أحد من سمعه على الملك المعظم مظفر الدين نور الله ضريحه في جمادى الآخرة سنة 625 برباط الصوفية المعروف برباط المناظرة قريباً من القلعة المنصورة؛ وأورد قصيدته " لولا الوشاة وهم " التي وجها ابن خلكان في ديوان ابن مماتي، وذكر ابن الشعار أن ابن دحية ولد باغمات ونشأ بسبتة وولي القضاء ببر الأندلس بمدينة دانية؛ قال (5: 321) وأخبرني أبو الروح الحميري الأندلسي قال: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 323 هذا ابن ليس بصحيح النسب وأصله يهودي وكان يلقب باللوة، وأبو حسن كان يلقب بالزعبطور، وهو المشوة الخلق العظيم الخلقة بلغة الأندلس المقطع السرموزا وتكون ثيابه مقطعة وسخة، ابن على ويلقب بالقنوط لفراغه وقلة عقله يريد القصبة الفارغة، ابن يوسف ولقبه الجميل تصغير الجمل بلغة العامة. 498 - أبو علي الشلوبيني: مرآة الجنان 4: 113. 499 - ابن طرزذ: تاريخ اربل: 137، تاريخ ابن الديثي، الورقة: 116. 500 - ابن الفارض: مرآة الجنان 4: 75. 501 - يتقي الدين صاحب حماة: تكملة المنذري 1: 292، الدارس 1: 216. 511 - القاضي عياض: الخريدة (قسم المغرب والأندلس) 2: 550، مرآة الجنان 3: 282. 513 - أبو موسى الجزولي: مرآة الجنان 4: 19، ابن الشعار 5: 460 وقال: قرأ علي أبي المنصور ظافر بن الحسين الملكي المصري كتاباً في أصول الدين فتال الدين فنال عندهم حظوة وقبلوه وحسن موقعه عندهم. وقاسى مدة إقامته بمصر ضراً من الفقر والفاقة، ولم يدخل مدرسة، وكان يخرج إلى الضياع فيحصل ما يقوم بنفقته وهو غاية من القلة وضيق المعيشة، ولما عاد إلى المغرب وصل إلى المرية ونال حظوة عند بني عبد المؤمن، وتمشت أحواله واكتسب رزقاً، وندبه الأمير أبو عبد الله محمد بن يعقوب بن عبد المؤمن لكشف أحوال القضاة والولاة على البلاد ثقة بعدالته وأمانته، فتوفي في تلك السفرة في دولة الأمير محمد بن يعقوب قبل السنة العاشرة والستمائة. ثم قال ابن الشعار: وكانت وفاته في حدود سنة خمس وستمائة بهسكورة من بلد مراكش. 515 - الملك المعظم شرف الدين عيسى: الدارس 1: 579، مرآة الجنان 4: 57، ابن الشعار 5: 472 وقال في ترجمته: حدثته نفسه بتملك البلاد فعاث في بعضها وسلط عليها العرب فقطعوا الطرق وأخافوا السبيل، وذهب بسببه الأموال والأنفس فتقلدها في عنقه ولقي الله تعالى بها، وامتدت يده في الظلم والمصادرات وظلم جماعة ووصل جوره وظلمه إلى خلق كثير؛ وقال في شعره: ونظم شعراً كثيراً ودون شعره ومعظمه في الافتخار ووصف نفسه بالفروسية والأقدام والحروب والوغى. 516 - عيسى بن محمد الهكاري: تكملة المنذري 1: 213. 520 - غازي بن زنكي: مرآة الجنان 3: 283. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 324 522 - غازي ابن صلاح الدين: مرآة الجنان 4: 27، الدارس 1: 432، ابن الشعار 5: 498 قال: وكان موته بأمراض اجتمعت عليه، ذوسنطاريا وحمى باطنة وحمى نوبة وعسر بول، ثم نقل إلى المدرسة التي أنشأها مولاه ملول أبو سعيد الطاهري تحت القلعة المنصورة، وقال أيضاً إن والده أعطاه مملكة حلب سنة 581 في جمادى الآخرة (وهو مختلف عما قاله ابن خلكان) . 525 - الفتح بن خاقان: الخريدة (قسم المغرب والأندلس) 2: 610، مرآة الجنان 3: 264. 526 - فتيان الشاغوري: ابن الشعار 5: 533 قال: أخذ العلم بالعربية والنحو عن أبي نزار الحسن بن صافي البغدادي الملقب بملك النحاة، وبعده على أبي اليمن الكندي، وكان عارفاً بعلم اللغة والأعراب ليبياً عاقلاً أديباً كاملاً ذا سمت حسن وديانة، وكان معلم الصبيان بدمشق فترك التعليم وقعد لإقراء النحو والآداب والعربية، واستفاد منه خلق كثير، واشتهر شعره وشاع في الأقطار واستملحا أولو العلم واستجادوه؛ وأورد أبياته " قد أجمد الخمر كانون بكل قدح " ومعه بيت رابع. ونقل عن ابن النجار قوله: سألت فتيان بن علي الأسدي عن ولادته فقال: ولدت في سنة أربع وثلاثين وخمسمائة (راجع الوفيات ص 26 س 4) . 527 - الفضل يحيى البرمكي: لأنباء الأمراء: 29. 534 - أبو عبيد القاسم بن سلام: ابن قاضي شهبة: 44. 535 - القاسم بن علي الحرير: الاسنوي 1: 430، ابن قاضي شهبة: 125، البداية والنهاية 12: 191 مرآة الجنان 3: 213 خزانة الأدب 3: 38، روضات الجنات: 527. 536 - القاسم بن الشهرزوري: الاسنوي 2: 96، مرآة الجنان 3: 150، وأورد العماد في الخريدة (2: 322) قسم الشام البيتين " همتي دونها السها والزباني " ونسبهما إلى ولده محمد بن القاسم. 537 - ابن فيره الشاطبي: ذيل الروضتين: 7، تكملة المنذري 1: 383، الاسنوي 2: 113، ابن قاضي شهبة: 157. 539 - قابوس بن وشمكير: مرآة الجنان 3: 10. 540 - قايماز بن عبد الله الزيني: تكملة المنذري 2: 158. 543 - بهاء الدين قراقوش: تكملة المندري 2: 280. 552 - مجد الدين ابن الأثير: الاسنوي 1: 130، ابن قاضي شهبة: 163، إنباء الجزء: 7 ¦ الصفحة: 325 الأمراء: 45، مرىة الجنان 4: 11، ابن الشعار 6: 27 وقال في ترجمته: تولى الخزانة لسيف الدين غازي بن مودود بن زنكي ثم ولاه ديوان الجزيرة وأعمالها، ثم عاد إلى الموصل فناب في الديوان عن الوزير جلال الدين الأصفهاني ثم اتصل بمجاهد الدين قايماز. ولما عمل لنور الدين أرسلان شاه صار واحد دولته حقيقة بحيث أن السلطان نور الدين كان يقصد منزله في مهام نفسه، ولا يرد ولا يصدر إلا عن رأيه ويشاوره في الأمور؛ ومن مؤلفاته الفروق في الأبنية، وكتاب المرصع في الأذواء والذوات والآباء والأمهات (مطبوع) وكتاب المختار في مناقب الأخبار، وكتاب منال الطالب في شرح الراغب (لدي مصورة منه) ؛ وجمع رسائل الوزير جلال الدين أبي الحسن وسماه الجواهر اللآل من إنشاء المولى الجلال، وله رسائل عني بجمعها إسماعيل بن علي الكاتب الحظيري وترجمها بالدر المنثور. وذكر ابن الشعار أن ولادته كانت في إحدى الجماديين (مخالفاً لقول ابن خلكان) وأورد بيته " إن زلت البغلة من تحته ". 553 - المبارك بن منقذ: تكلمة المنذري 1: 350 وابياته الميمية (ص 146) وردت في تاريخ اربل: 207. 554 - ابن المستوفي: مرآة الجنان 4: 95، ابن الشعار 7: 34 وقد أطنب في الثناء عليه وقال: لما ملك العسكر المستنصري مدينة إربل عنوة واستقر بها وذلك بعد وفاة مالكها مظفر الدين كوكبوري وتولى إمارتها الأمير أبو المكارم باتكين بن عبد الله المستنصري ندب الصاحب أبا البركات إلى خدمته وعرض عليه الوزارة وأن يكون نائبه في الشغال الديوانية وحكمه في الأمر والنهي وألقى إليه مقاليد الأمور واعتمد عليه وقرر له جارياً سنياً يصل إليه في رأس كل شهر، فاستعفى من ذلك وامتنع امتناعاً شديداً واحتج بأنه شيخ كبير ولما سلم من التتر وخرج من اربل سمع به لؤلؤ بن عبد الله البدري فانتدب إليه جمالاً وأبغالاً تحمل متاعه الذي كان تخلف معه، فدخل الموصل، فاستقبله الأمير المذكور بالإكرام الوافر والتبجيل والحرمة التامة، وأنزله في دار هيئت له برسمه؛ ومن مؤلفاته كتاب في صناعة البديع. كتاب الممتع المزمن. كتاب الخيل. كتاب جامع الأوراق. كتاب قناعة الناظر وكفاية المحاضر فيه ملح الاشعار ومختارها. كتاب مشارق الأنوار ومطالع العذار؛ أما كتابه في تاريخ اربل فقد سماه " نباهة البلد الخامل ومن ورد عليه من الأماثل ". 555 - الوجيه ابن الدهان: الاسنوي 1: 535، مرآة الجنان 4: 24. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 326 556 - مجلي بن جميع: الاسنوي 1: 511، ابن قاضي شهبة: 137، البداية والنهاية 12: 133، مرآة الجنان 3: 297، وكتابه " الذخائر " أورده الاسنوي بالدال المهملة، وكتب ترجمته تحت ذلك الحرف. 558 - محمد بن إدريس الشافعي: الاسنوي 1: 11 والقصيدة المنسوبة لابن دريد في مدحه (ص 168) منها في الاسنوي (1: 517) أبيات، وانظر ديوان ابن دريد: 77. 569 - محمد بن إسماعيل البخاري: ابن قاضي شهبة: 49. 570 - ابن جرير الطبري: ابن قاضي شهبة: 55. 571 - محمد بن عبد الحكم: تذكرة الحفاظ: 546، غاية النهاية 2: 179، الديباج المذهب: 231، تهذيب التهذيب 9: 260، الاسنوي 1: 36. 572 - أبو جعفر الترمذي: الاسنوي 1: 298، ابن قاضي شهبة: 49. 573 - ابن الحداد المصري: تذكرة الحفاظ: 899، الاسنوي 1: 398، ابن قاضي شهبة: 65. 575 - القفال الشاشي: تبيين كذب المفتري: 182، ابن قاضي شهبة: 72، النجوم الزاهرة 4: 111، الاسنوي 2: 79؛ وانظر الاسنوي 1: 304 في الحديث عن كتاب التقريب وأهميته. 576 - أبو الحسن الماسرجسي: الاسنوي 2: 380، ابن قاضي شهبة: 77. 577 - أبو عبد الله الختن: الاسنوي 1: 465، ابن قاضي شهبة: 76. 578 - أبو سهل الصعلوكي: الانساب (الصعلوكي) ، الاسنوي 2: 124، ابن قاضي شهبة: 72، النجوم الزاهرة 4: 136. 579 - أبو الطيب ابن سلمة: ابن قاضي شهبة: 55. 580 - أبو كر النيسابوري: الاسنوي 2: 374، مرآة الجنان 2: 261. 581 - أبو زيد المروزي: تبيين كذب المفتري: 189، العقد الثمين 1: 297، الاسنوي 2: 234. 582 - أبو بكر الأودني: تبيين كذب المفتري: 129، الاسنوي 1: 54، وقد جاء في نسبه يصير (بدل نصر) ونص على أنه بالباء الموحدة. وضبط الأودني بفتح الهمزة، كما نقله ابن الصلاح عن الإكمال لابن ماكولا، وعن خط ابن السمعاني في الأنساب. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 327 584 - أبو عبد الله القضاعي: عبر الذهبي 3: 233، الاسنوي 1: 31، 2: 312 مرآة الجنان 3: 75. 585 - أبو عبد الله المسعودي: الوافي 3: 321، الاسنوي 2: 385، ابن قاضي شهبة: 154، مرآة الجنان 3: 40. 586 - أبو عاصم العبادي: الاسنوي 2: 190، ابن قاضي شهبة: 103، اللباب (العبادي) ، مرآة الجنان 3: 82، السبكي 3: 42. 587 - أبو عبد الله الخضري: الاسنوي 1: 469. 588 - أبو حامد الغزالي: مرآة الجنان 3: 177، ابن قاضي شهبة: 127. 589 - أبو بكر المستظهري: الاسنوي 2: 86، مرآة الجنان 3: 194. 590 - أبو نصر الارغياني: الاسنوي 1: 67، الشذرات 4: 89، وقد وهم الاسنوي فنسب البيتين (على ص 222) له، وهما من قديم الشعر وينسبان للمجنون 591 - محمد بن يحيى النيسابوري: الاسنوي 2: 559، مرآة الجنان 3: 290، الحسيبي: 77. 592 - أبو منصور البروي: مختصر ابن الدبيثي، 1: 116، مرآة الزمان: 292البداية والنهاية 12: 269، الاسنوي 1: 260، مرآة الجنان 3: 382 وقال سبط ابن الجوزي: نصر مذهب الاشعري وبالغ في ذك الحنابلة، وقال: لو كان لي لوضعت عليهم الجزية، وكان شاباً مليح الصورة حسن العبارة فصيحاً، فيقال إن الحنابلة دسوا عليه من سمه. 593 - أبو الحسن ابن الخل: الاسنوي 1: 486، مرآة الجنان 3: 302، البداية والنهاية 12: 237، البدر السافر، الورقة: 149. 594 - محيي الدين بن زكي الدين: تكملة المنذري 2: 355، الاسنوي 2: 9، الدارس 1: 219. 595 - السديد السلماسي: الاسنوي 2: 56، ابن قاضي شهبة: 146. 596 - عمدة الدين حفدة: الاسنوي 1: 441، البداية والنهاية 12: 299. 597 - نجم الدين الخبوشاني: تكلمة المنذري 1: 296، الاسنوي 1: 493، ابن قاضي شهبة: 158، مرآة الجنان 3: 433. 598 - كمال الدين الشهرزوري: الاسنوي 2: 96، ابن قاضي شهبة: 145. 599 - محيي الدين الشهرزوري: تكلمة المنذري 1: 241، الاسنوي 2: 101، ابن قاضي شهبة: 156. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 328 600 - فخر الدين الرازي: ابن قاضي شهبة: 165، مرآة الجنان 4: 7، ابن الشعار 6: 107 قال: كان جده الحسين خطيب الري، وجده الحسن ولد بمكة، وكان تاجراً ثرياً سكن الكعبة الحرام أربعين سنة؛ كنيته أبو الفضل قرأ العلوم الأولية على مجد الدين الجيلي في أذربيجان؛ أقام في الباميان سنين كثيرة عند صاحبها بهاء الدين سام بن محمد بن الحسين بن سام وكسب من جهته أموالاً كثيرة؛ وأورد ابن الشعار ثبتاً بمؤلفاته. وترجم له في البدر السافر، الورقة: 140 وقال: صنف ما يزيد على مائتي مصنف، وكان زيادة على خمسين مملوكاً يقفون على رأسه بمناطق الذهب والفضة وعليهم ثياب الوشي، واختص بعلاء الدين خوارزمشاه صاحب خوارزم وخراسان، وكان يجلس إلى جانبه، ثم انفصل عنه واجتمع بشهاب الدين سام صاحب غزنة وأقام عنده، وجرت عليه محنة عندما هجم الحشيشة على السلطان فخلصه الله تعالى، فانصرف إلى مدينة هراة فلزم بها التدريس والعبادة. وقد أورد في البدر السافر الأبيات (نهاية إقدام العقول عقال) ، وحكايته مع ابن عنين. 601 - عماد الدين ابن يونس: الاسنوي 2: 569، ابن قاضي شهبة: 167، مرآة الجنان 4: 16، البداية والنهاية 13: 62. 602 - معين الدين الجاجرمي: الوافي 2: 8، الاسنوي 1: 374، مرآة الجنان 4: 27. 605 - أبو بكر الطرطوشي، الخريدة (قسم المغرب والأندلس) 2: 211، مرآة الجنان 3: 225. 608 - أبو بكر الباقلاني: مرآة الجنان 3: 6. 610 - أبو بكر ابن فورك: انباه الرواة 2: 110، الأسنوي 2: 266، ابن قاضي شهبة: 86، مرآة الجنان 4: 17. 611 - أبو الفتح الشهرستاني: تاريخ حكماء الإسلام للبيهقي: 141، الاسنوي 2: 106، ابن قاضي شهبة: 138، مرآة الجنان 3: 289، لسان الميزان 5: 263، النجوم الزاهرة 5: 303، وقد ورد البيتان " يا راحلين بمهجة " (ص: 275) في الاسنوي ونسبهما للشهرستاني نفسه. 615 - الحاكم النيسابوري: الاسنوي 1: 405، ابن قاضي شهبة: 87، مرآة الجنان 3: 14، البداية والنهاية 11: 355، النجوم الزاهرة 4: 238، الحسيبي: 41. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 329 616 - أبو عبد الله الحميدي: البدر السافر، الورقة: 146، مرآة الجنان 3: 149، مختصر ذيل تاريخ بغداد، الورقة: 29. 617 - أبو عبد الله المازرني: مرآة الجنان 3: 267. 618 - أبو موسى الاصبهاني: البدر السافر، الورقة: 144 قال: قرأ القراءات وتفقه على مذهب الشافعي على أبي عبد الله الحسن بن العباس الرستمي، وقرأ النحو واللغة حتى تمهر فيها، وله التصانيف المفيدة منها أسماء الصحابة، والأمالي الكبير، وكتاب اللطائف، وعوالي التابعين، وكان ثقة ديناً صالحاً، وكان متواضعاً يقرئ كل من أراد؛ والمديني نسبة إلى المدينة العتيقة بشهرستان المتصلة باصبهان، وهي مدينة جي. 619 - محمد بن طاهر المقدسي: مرآة الجنان 3: 195، البدر السافر، الورقة: 108 قال: كان متقناً حاد القريحة، روى عنه الكبار والأئمة الحفاظ، وله نظم جيد منه برواية السلفي: أشارت إلي بعناية ... مخضبة من دم الأفئده وقالت على العهد يا سيدي ... فقلت إلى الحشر يا سيده ووثقه غير واحد، وقال ابن منده: ابن طاهر أحد الحفاظ، حسن الاعتقاد جميل الطريقة صدوق عالم بالصحيح والسقيم، وقال السلفي: سمعته يقول، كتبت صحيح البخاري ومسلم وأبي داود سبع مرات بالوراقة، وسنن ابن ماجه عشر مرات. وكان يمشي على الدوام في اليوم والليلة عشرين فرسخاً. وقال عنه بعضهم: كان صوفياً ملامتياً. وقال ابن ناصر: صنف ابن طاهر كتاباً في جاوز النظر إلى المرد. وقال ابن عساكر: جمع الحافظ ابن طاهر أطراف الكتب وأخطأ في مواضع خطأ فاحشاً. 622 - أبو عبد الله الفراوي: تبيين كذب المفتري: 322، الاسنوي 2: 276، السبكي 4: 92، مرآة الزمان: 160. 623 - أبو بكر الآجري: طبقات أبي يعلى: 332، الاسنوي 1: 79، مرآة الجنان 2: 373. 624 - محمد بن ناصر السلامي: البدر السافر، الورقة: 169 قال: كان والده من أولاد الأتراك، فتوفي وابنه هذا صغير فتكمله جده وشغله بالقرآن، وأسمعه الحديث والفقه على مذهب الشافعي، ثم صحب الخطيب التبريزي وقرأ عليه الأدب وشرحه لديوان المتنبي، وكان كثير الحفظ متقناً نحوياً لغوياً الجزء: 7 ¦ الصفحة: 330 أصوله في غاية الصحة والإتقان، بصيراً بهذا الشأن، ثقة نبيلاً حسن الطريقة متديناً متعففاً، وقال المنذري: توفي سنة إحدى وخمسين وخمسمائة. 625 - أبو بكر الحازمي: تاريخ اربل: 96، الروضتين 2: 137، تكلمة المنذري 1: 145، الأسنوي 1: 413، ابن قاضي شهبة: 157، مرآة الجنان 3: 429، البداية والنهاية 12: 332، الحسيبي: 80. 626 - أبو بكر ابن العربي: الخريدة (قسم المغرب والأندلس) 2: 220، مرآة الجنان 3: 279. 627 - أبو بكر النقاش: المنتظم 7: 14، الاسنوي 2: 483، لسان الميزان 5: 132 طبقات المفسرين: 29. 637 - ابن دريد: الاسنوي 1: 516، ابن قاضي شهبة: 60. 639 - أبو منصور الأزهري: اللباب (الأزهري) ، عبرالذهبي 2: 356، الاسنوي 1: 49، الحسيبي: 30. 651 - أبو بكر الزبيدي: المحمدون: 207. 653 - الأمير المختار المسبحي: مرآة الجنان 3: 36. المسعودي البندهي: معجم الأدباء 18: 210، معجم البلدان (بنج ديه) ، تكملة المنذري 1: 137، مرآة الجنان 3: 428، ميزان الاعتدال 3: 628، ميزان الاعتدال 3: 628، بغية الوعاة: 66، الاسنوي 1: 431، 2: 458، البدر السافر، الورقة: 111 وقال في ترجمته: وذكره المنذري في تاريخ مصر وقال: قدم مصر قديماً، ثم قدمها ثانياً رسولاً وحدث بها وكتب عنه الحافظ السلفي أناشيد، وكان واسع الرواية كثير الدراية؛ وقال المنذري: نقلت من خط المسعودي ولدت الخ (وهو ما أورده ابن خلكان ص390 - 391) ، وقال ابن النجار: توفي ليلة السبت سابع عشرين الشهر وكان من الفضلاء في كل فن من الفقه والحديث والأدب؛ وأورد له الصاحب البدر السافر أبياته التي أولها " قالت عهدتك تبكي ". 660 - ابن نقطة: مرآة الجنان 4: 68. 661 - ابن الدبيثي: تاريخ اربل: 177، البدر السافر، الورقة: 105، الاسنوي 1: 541، ابن قاضي شهبة: 175، مرآة الجنان 4: 95، النجوم الزاهرة 6: 317 وقال ابن المستوفي في ترجمته: سمع عليه الحديث باربل وسمع من مشايخها ولم يكن قديم الرواية، وفي ذكر بلده قال: وكانت ذو بيتا فعربت، وكتبها في البدر السافر دبيتا - التاء المثناة - وكذلك وردت نسبته الجزء: 7 ¦ الصفحة: 331 " الدبيتي ". وأورد له صاحب البدر السافر أبياته التي أولها " خبرت بني الأيام طراً " (ص 394) . 667 - الشريف الرضي: مرآة الجنان 4: 18. 669 - ابن عمار الأندلسي: مرآة الجنان 3: 120. 670 - ابن ماجه: الخريدة (قسم المغرب والأندلس) 2: 283. 672 - أبو بكر ابن زهير: مرآة الجنان 3: 245. 673 - ابن حيوس: المحمدون: 363، مرآة الجنان 3: 101. 674 - أبو المظفر الابيوردي: مرآة الجنان 3: 196. 675 - ابن أبي الصقر الواسطي: الاسنوي 2: 140. 676 - ابن الهبارية: مرآة الجنان 3: 198، البدر السافر، الورقة: 156 وقال في ترجمته: والهبارية أم أحد آبائه من ولد هبار بن الأسود بن المطلب. كان فاضلاً أدبياً بارعاً شاعراً بليغاً عارفاً بالأنساب ونقد الشعر، سمع الحديث من مالك ابن أحمد البانياسي وغيره، ونشأ ببغداد وقرأ بها الأدب، واعتذر عن مجونه في ديباجة ديوانه فقال: أن الهمم قد قصرت، وصار الناس لا يجيزون إلا على رديء الشعر وسخيفه فسلكت ذلك فصار لي طبعاً. بالغ حتى هجا أباه وأمه وأكابر الدولة، فأطيح دمه فاختفى ورحل إلى اصبهان فاشتهر بها ومشى حاله، ثم عاد له طبعه فهجا الوزير نظام الملك فأهدر دمه، فاختفى، وشفع فيه أبو بكر ابن ثابت الجحدري، ورحل إلى كرمان. وله من الكتب: كتاب المجدي صنفه لمجد الملك القمي، وكتاب رد فيه على أبي محمد الغندجاني، وكتاب سماه زجر النابح انتصر فيه لأبي العلاء المعري على من رد عليه موضاع في سقط الزند، وكتاب ذكر الذكر وفضل الشعر، وكتاب مجانين العقلاء، وله أرجوزة ذم فيها الخوانق والمدارس. وأورد له صاحب البدر السافر بيتيه " خذ جملة البلوى " (ص 455) وأورد قول العماد في وفاته، ثم ذكر تاريخاً آخر لوفاته هو سنة 509. 677 - ابن القيسراني: مرآة الجنان 3: 287، البدر السافر، الورقة: 171. 678 - محمد بن إبراهيم الكيزاني: المحمدون: 11، البدر السافر، الورقة: 68 وفي نسبه " نسبه " بالجيم المنقوطة - وقال: قرأ القراءات على أبي الخير وسمع من أبي الحسن الفراء الموصلي وأبي الحسن علي بن إبراهيم البغدادي وأبي طاهر محمد بن محمد، وروى عنه كثيرون، وكان ينسب إلى بدعة ويقول بقدم الأعمال وبشيء من التنجيم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 332 679 - الأبله الشاعر: البدر السافر، الورقة: 83 وقال في ترجمته: من شعراء الديوان ببغداد، وله حكايات في التغفل أوردها ابن النجار الحافظ، منها أن أمه أعطته شيئاً وقالت له أجمله في الشمس واجلس عنده، ولا تتركه تأكله العصافير، فتركه ونزل، وقال: تركته في موضع عالٍ ورفعت السلم فما يصل إليه العصفور فلهذا قيل له الأبله؛ وقيل كان غاية في الذكاء فقيل أبله، من أسماء الأضداد؛ سئل عن مولده فقال: سنة عشرين وخمسمائة، وأورد له البيت " لا يعرف الشوق " إلا من يكابده " (ص 464) والبيتين " دارك يا بدر الدجى جنة " (ص 465) . 680 - سبط ابن التعاويذي: تكملة المنذري 1: 180، مرآة الجنان 3: 305. 681 - ابن المعلم الشاعر: تكملة ابن المنذري 2: 40؛ قلت: وديوانه مخطوط، بمكتبة جامعة استانبول رقم: 950 وهو في 80 ورقة، وبدار الكتب المصرية نسخة أخرى برقم 9603 أدب. 683 - أبو شجاع الفرضي: البدر السافر، الورقة: 132، ابناه الرواة 3: 191 الأسنوي 1: 538، تكلمة المنذري 1: 397 - 398، ذكر القفطي رحلته إلى مصر ثم قال: ودخل الناس إليه الأخذ، وكنت فيمن دخل عليه فرأيته شيخاً دميم الخلقة مسنون الوجه مسترسل اللحية خفيفها، أبيض تعلوه صفرة ولم ترتفع له بمصر درجة، فانه حضر إليه جماعة من أهل العلوم التي يدعيها وحاضروه فيها فقصره فلم ينفق وهجره الناس، فخرج من مصر بغير طائل، وعاد إلى دمشق. 684 - ابن عنين الشاعر: مرآة الجنان 4: 71، الحوادث الجامعة: 51، ابن الشعار 6: 200 ونسبه فيه محمد بن نصر بن مكارم بن الحسين بن علي بن محمد بن غالب ابن عنين الأنصاري، وقد ذكر أن ابن عنين رتب ديوانه، فابتدأ بمدائح الملوك ومن يليهم من الوزراء وغيرهم، ثم أتى بالمراثي ثم بالأهاجي ثم ما نظمه من الوقائع التي اتفقت له، ثم بما سنح له من الألغاز المعجزة والأجوبة عنها، ثم ختم الديوان بما ورد في شعره من الأبيات النحوية؛ قلت: وهذا مخالف لقول ابن خلكان (ص: 17) ولم يكن له غرض في جمع شعره فلذلك لم يدونه. 686 - المعتمد بن عباد: لرآة الجنان 3: 147. 688 - ابن تومرت: مرآة الجنان 3: 232. 690 - ركن الدين طغرلبك السلجوقي: مرآة الجنان 3: 76. 692 - محمد بن ملكشاه: مرآة الجنان 3: 200. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 333 693 - الملك العادل ابن أيوب: الدارس 1: 359، 2: 262. 694 - الملك الكامل الأيوبي: مرآة الجنان 4: 90، الدارس 2: 277. 697 - أبو الفضل ابن العميد: المنتخب من صوان الحكمة، الورقة: 157. 698 - ابن مقلة: إنباء الأمراء: 31. 699 - ابن بقية: إنباء الأمراء: 31. 700 - فخر الملك الوزير: مرآة الجنان 3: 20. 705 - العماد الأصفهاني: تكملة المنذري 2: 286، الاسنوي 2: 354، البدر السافر الورقة: 155، ابن قاضي شهبة: 155، الدارس 1: 408. 706 - أبو نصر الفارابي: تاريخ حكماء الإسلام للبيهقي: 30. 707 - أبو بكر الرازي: تاريخ حكماء الإسلام للبيهقي: 21. 709 - أبو عبد الله البتاني: تاريخ حكماء الإسلام للبيهقي: 29. 710 - أبو الوفاء المهندس: تاريخ حكماء الإسلام للبيهقي: 84. 711 - أبو القاسم الزمخشري: مرآة الجنان 3: 269. 712 - أبو طالب محمود بن علي الأصبهاني: الاسنوي 2: 75، ابن قاضي شهبة: 158 مرآة الجنان 3: 431. 715 - نور الدين ابن عماد الدين زنكي: الدارس 1: 331، 607. 718 - مسعود بن محمد الطريثيثي: الاسنوي 2: 498، مرآة الجنان 3: 413، الدارس 1: 83. 720 - غياث الدين مسعود السلجوقي: مرآة الجنان 3: 285. 724 - مظفر بن إبراهيم العيلاني: مرآة الجنان 4: 54. 728 - المستنصر العبيدي: مرآة الجنان 3: 145. 730 - المعز بن باديس: مرآة الجنان 3: 75. 738 - أبو الحرم مكي الماكسيني: مرآة الجنان 4: 4، الغصون اليانعة: 83 وذكر أنه وقف على ترجمته في تاريخ اربل وتاريخ ابن الساعي؛ وأبياته التي أولها " سئمت من الحياة " وردت في البدر السافر، كما أن بيته " إذا احتاج النوال إلى شفيع " وردا في البدر السافر والغصون اليانعة وكذلك بيتاه " على الباب عبد يسأل الإذن طالباً " وتاريخ وفاته الذي أورده المؤلف هو ما ذكره المنذري، وقال ابن سعيد: توفي سنة اثنتين وستمائة. 740 - ملكشاه السلجوقي: مرآة الجنان 3: 139. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 334 740 - منصور بن إسماعيل الفقيه: طبقات العبادي: 64، طبقات الشيرازي: 88، الاسنوي 1: 299، ابن قاضي شهبة: 56، الحسيبي: 12. 747 - كمال الدين ابن يونس: ابن أبي أصيبعة 1: 306، الاسنوي 2: 570، مرآة الجنان 4: 101، ابن قاضي شهبة: 179. 749 - الملك الأشرف موسى: الدارس 2: 292. 753 - المؤيد الألوسي: الفوات 2: 76، معجم الأدباء 19: 207، الشذرات 4: 185، الخريدة (قسم العراق) 2: 172. 755 - مهيار الديلمي: مرآة الجنان 4: 47. 761 - أبو المرهف النميري: تكملة المنذري 1: 309. 763 - ضياء الدين ابن الأثير: الاسنوي 1: 133، ذيل مرآة الزمان 1: 65، بغية الوعاة: 404، ابن الشعار 9: 51 وقال في ترجمته: أخذ معرفة الحساب على الإمام أبي العباس أحمد بن عبد الرحمن بن وهبان الأنصاري الجزري، وجالس الشيخ أبا الحرم مكي بن زيان النحوي المقرئ الماكسي بالموصل؛ أقام في الموصل مدة في خدمة قايماز الزيني وربما كان يكتب له الإنشاء، ثم اتصل بعد ذلك بصلاح الدين؛ ولما اتصل ببدر الدين لؤلؤ كان مدة مقامه بالموصل مشتغلاً بالتصنيف وجماعة من الناس يختلفون إليه ويقتبسون من فوائده، إلا أنه كان كثير الحماقة متناقض الأحوال متهوراً في أموره سفيه اللسان جباها لمن يخاطبه، ولو كان ملكاً أو سلطاناً، ممقوتاً إلى الناس شرس الأخلاق سريع اغضب متكبراص في نفسه ذا عجب عظيم وصلف زائد؛ وكان بطيء القريحة جامد الخاطر، بل أنه كان جيد الروية صحيح الفكرة، إذا رام كتابة كتاب أغلق باب داره، وأدام الفكر ويكتب ويخرق ما يكتبه ويعاود النظر فيه زماناً طويلاً. 774 - ابن الشجري: الفوات 2: 610 مرآة الجنان 3: 275. 777 - ابن سناء الملك: مرآة الجنان 4: 17. 778 - هبة الله البوصيري: تكلمة المنذري 2: 326. 779 - أمين الدولة ابن التلميذ: تاريخ الحكاء للبيهقي: 144. 789 - ياقوت الرومي أبو الدر: ترجم له ابن الشعر 3: 370 تحت اسم " عبد الرحمن بن عبد الله ابن أبي المحاسن، قال: وكان تالياً للقرآن مشغوفاً بمذهب الإمامية والتعصب لهم، كثير الميل إلى أهل البيت صلوات الله عليهم. وذكر أنه مولى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 335 منصور (لا أبي منصور) الجيلي، وأورد القصيدة التي منها البيت " خليلي لا والله ما جن غاسق.. " وبعده في ابن الشعار: أحب سواد الليل حباً لشادن ... يواصلني ليلاً وصبحاً يفارق إذا سمت قلبي الصبر زاد تشوقاً ... فقلبي مشوق واصطباري شائق بروحي من روحي تساق إذا حدا ... مطاياه حادي البين أو ساق سائق وهي في ثمانية أبيات. وأورد له قصيدته التي مطلعها " إن غاض دمعك والأحباب قد بانوا. " وكذلك أبياته التي أولها " جسدي لبعدك يا مثير بلابلي " وهي هناك طويلة. 790 - ياقوت الحموي: ابن الشعار 9: 337 وقال: ضنين بما يجمع وربما سئل عما يعرفه فلا يجيب، شاهدته بالموصل وهو كهل اشقر أحمر اللون أزرق العينين وكانت بينه وبين أخي صداقة وأنس تام، وذكر من مؤلفاته: ضرورات الشعر. مختصر تاريخ بغداد. كتاب الأبنية. وأبياته الواردة ص 138 وأولها " ومولد للترك تحسب وجهه " وردت عند ابن الشعر (9: 342) . 793 - يحيى بن أكثم: جمهرة الإسلام، الورقة: 40. 803 - ابن بقي القرطبي: الخريدة (قسم المغرب والأندلس) 2: 130. 804 - الخطيب الحصكفي: الاسنوي 1: 438، مرآة الجنان 3: 298. 806 - يحيى بن خالد البرمكي: أنباء الأمراء: 29. 807 - عون الدين ابن هبيرة: إنباء الأمراء: 33، وورد في ابن الشعار 1: 217 في نسب أحمد بن ظفر بن محمد بن هبيرة اسم " سعيد " بدلاً من سعد، وعمر بدلاً من عمرو، ومرة بن ذهل، وسقط " همام ". 811 - ابن مطروح: ذيل مرآة الزمان 1: 197. 813 - أبو الفتح السهروردي: الاسنوي 2: 442. 826 - أبو عوانة الحافظ: الاسنوي 2: 203. 832 - يعقوب المنجنيقي: إنباء الأمراء: 118. 833 - ابن يعيش: مرآة الجنان 4: 106. 844 - يوسف بن تاشفين: مرآة الجنان 3: 163. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 336 2 - مزيد بيان في تخريج التراجم العارضة والتعريف ببعض الأعلام 3 - رضي الدين الجيلي الشافعي: البداية والنهاية 12: 141، الاسنوي 1: 376؛ وكتابه في الفقه اسمه الإكمال. ج:1 ص: 189 س: 1: أبو محمد الحسن بن جكينا: مختصر ذيل تاريخ بغداد، الورقة: 92، الفوات 1: 228، مختصر ابن الدبيثي: 275، مرآة الزمان 542، الخريدة (قسم العراق) 2: 230، الشذرات 4: 88، واسمه في هذا الموضع من المسودة مطموس، ولكنه ورد بالجيم بخط المؤلف (ج 7: 224) وفي بعض المصادر بالحاء المهملة، وضبطه صاحب التاج (9: 183) بالحاء المهملة المكسورة والكاف المكسورة المشددة. 7 - جلدك التقوي: الفوات 1: 209، الشذرات 5: 127 وراجع الجزء الأول من السلوك للمقريزي. ج: 1، ص: 197، س: 2: نشو الدولة أبو الحسن ابن المنجم: البدر السافر، الورقة: 205، وسماه نشو الدولة ابن علي، ونقل ما أورده ابن خلكان في تسميته، ثم أورد أبياته التي أولها " أقول وقد عاينت دار ابن صورة ". ج: 1 ص: 203 س 16: ابن باطيش: ذيل مرآة الزمان 1: 54، ابن قاضي شهبة: 182، ابن العديم 3: 198. II - عبد الرحمن بن السنينيرة: الفوات 1: 551، ابن الشعار 3: 467، وقال: شاهدته بمدينة الموصل سنة 622 وهو شيخ كبير، وسألته عن ولادته فذكر أنه ولد بواسط سنة 547 أو 549؛ وبلغني أنه توفي بواسط سنة 626. وكان ينتجع الناس بأشعاره ويطوف البلاد، وكان من عوام الشعراء، قليل الآلة في صناعة القريض، ذا بضاعة في الأدب مزجاة، إلا أن له طبعاً يعينه في إنشاء الشعر لا غير. سأله ابن الشعار: هل يروي شعراً لابن المعلم وللبله، فقال: أنا أسحب ذيلي عليهما فضلاً؛ وذكر أنه لم ير أعسر منه أخلاقاً، ولا أجفى في إنشاد الأشعار. أقام في إربل مدة وقصد صدرها ابن المستوفي. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 337 ج: 2، ص: 106، س: 9 - 10 شهاب الدين ابن الخيمي: الفوات 2: 483، البدر السافر، الورقة: 129. ج: 2، ص: 174، س: 15 حسان بن المفرج الطائي: ابن العديم 4: 129. 29 - زيادة الله بن الأغلب: ابن العديم 8: 126. 31 - عز الدين ابن عقيل الاربلي: مرآة الجنان 4: 45. 32 - شرف الدين محمد بن نصر الاربلي: ابن الشعار 6: 286؛ قال: من بيت مشهور بفقه وعلم؛ كان فقيهاً شافعي المذهب، قرأ الأصولين والخلاف وتميز في ذلك؛ درس الفقه باربل في المدرسة العقيلية نيابة عن والده، ثم خرج عن إربل ونزل آمد ودرس بها الفقه مستقلاً، ثم سافر عنها إلى عدة بلاد وشخص إلى مصر ممتدحاً، ثم عاد وهو على حاله، يقصد الملوك بالشعر، ويتردد إلى الموصل؛ وشغل نفسه بقول الشعر من صباه، واستقر بدمشق بخدمة الملك الأشرف، وترك ما كان عليه من الاشتغال بالفقه وتزيا بزي الجند. 44 - يحيى بن سعيد: ابن الشعار 9: 438، قال: ولد قبل وفاة أبيه بثمانية أيام بالموصل، ونشأ، وأحب الاشتغال بالعلم والأدب، ولم يزل راغباً في تحصيله مائلاً إليه بكليته، وصحب أبا الكرم مكي بن زيان، تلميذ والده، ولازمه إلى أن توفي، ودرس عليه أدباً كثيراً حتى تميز وبرع، ونسخ بخطه كتباً أدبية كثيرة، وكان فقيراً مملقاً، اتصل بالأتابك عز الدين أبي الفتح مسعود بن أرسلان شاه، فولاه التقدم في الرباط، وصار شيخ الشيوخ به، وحظي لديه، واكتسب منه رزقاً صالحاً. وولاه بدر الدين لؤلؤ خازناً بخزانة كتب المدرسة انشأها على دجلة، وألف عدة مجاميع باسم الملك القاهر عز الدين مسعود ابن أرسلان شاه تحتوي على أشعار رقيقة غزلية. ومن كتبه " نتائج القرائح ". 53 - عذرا بنت شاهنشاه بن أيوب: الدارس 1: 373. 56 - أحمد بن الفرج، والد شهدة: مختصر ذيل تاريخ بغداد، الورقة: 78. 73 - زين الدين ابن نجا الواعظ: تكملة المنذري 2: 417، الدارس 2: 67. 97 - القاضي الأشرف ابن القاضي الفاضل: ابن العديم 1: 164، وأورد الأبيات القافية المذكورة في ترجمته. 101 - محمد بن المنصور السمعاني: الاسنوي 2: 31، عبر الذهبي 3: 23، الشذرات 4: 29، ابن قاضي شهبة: 128، مرآة الجنان 3: 200. 102 - المنصور بن محمد السمعاني: اللباب (السمعاني) ، الاسنوي 2: 29، عبر الجزء: 7 ¦ الصفحة: 338 الذهبي 3: 336، ابن قاضي شهبة: 119، البداية والنهاية 12: 153، مرآة الجنان 3: 151، النجوم الزاهرة 5: 160. 108 - الصلاح عثمان بن عبد الرحمن الشهرزوري: الاسنوي 2: 134، السبكي 5: 65. 110 - ست الشام بنت أيوب: الدارس 1: 277. 115 - بهاء الدين ابن الحافظ أبي القاسم ابن عساكر: عبر الذهبي 4: 314، البداية والنهاية 13: 38، الدارس 1: 101، السبكي 5: 148. 116 - هبة الدين ابن عساكر: الاسنوي 2: 215، عبر الذهبي 4: 184، الدارس 1: 416، السبكي 4: 320. 141 - الملك الناصر صلاد الدين داود: ذيل مرآة الزمان 1: 126. 144 - باتكين الرومي: الحوادث الجامعة: 180. 145 - غياث الدين مظفر بن غازي: الحوادث الجامعة: 96، ذيل مرآة الزمان 1: 430. 148 - راجح بن إسماعيل الحلي: ابن العديم 7: 2. ج: 4، ص: 25، س: 8 المجد الاسعردي: ابن العديم 8: 259، وفيه الأبيات السينية وهي: رأيت بحمامكم سنة ... يظل لها كل طلق عبوسا هواء تجمد منه الرؤوس ... وماء يذيب الكلى والنفوسا وسقف يدر كفيض الغمام ... وأرض تمانع عنها الجلوسا وطين تغرغر منه الحلوق ... وعشواء تمنح روحاً خسيسا وقد كان في العرف سمط الجداء ... فلم صرتم تسمطون التيوسا 152 - قاضي الخافقين: الاسنوي 2: 98. 157 - ربيعة خاتون بنت أيوب: الدارس 2: 80. 158 - عز الدين ابن رواحة الأنصاري: تاريخ اربل: 196، وقال: نزل باربل بدرب المنارة في زاوية الشيخ محمد ن محمد بن الحسين الكريدي، وأكرمه الفقير أبو سعيد كوكبوري؛ دخل ثغر الإسكندرية وهو صبي مع والده، ثم أورد له مقطعات. ابن الشعار 3: 316 وقال: قدم إربل سنة 625 مجتدياً نوال سلطانها مظفر الدين؛ وكان عسر الأخلاق، ضيق العطن، شرساً في الإملاء، تافه النفس، لم يحب أن يسمع عليه أحد إلا يعوض وفائدة تصل إليه؛ وانظر الفوات 1: 275. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 339 ج 4، ص: 150، س: 2 - 3 الشرف البوازيجي: ابن الشعار 3: 496، قال: رأيته باربل سنة 630، شاباً طويلاً أشقر، ذا هوج وطيش، كثير الدعاوى في فن النظم والنثر؛ ثم أورد له قصيدة في مدح ابن المستوفي. 160 - أبو العز الاربلي شيطان الشام: ابن الشعار 10: 525، قال: ولد باربل وكان بها منشأه، وما برح خامل الذكر نازل القدر، يعبث تارةً بالأبيات، يسلك فيها مسلك ابن الحجاج في السخف والهزل، وتارةً بالزكالش العامية، وتارةً بغير هذين النوعين، حتى صارت له ملكة قوية في بديه الشعر ومرتجله كان شيعياً مغالياً، أسمر اللون، يتزيا بزي الأكراد، رحل إلى البلاد وامتدح الملوك ثم انتقل إلى الموصل وأقام بها؛ وأورد له عدة مقطعات ومختارات. 164 - علي بن المحسن التنوخي: الفوات 2: 138. 172 - ابن برجان: الفوات 1: 569. 176 - تاج الدين أبو القاسم ابن منعة: عبر الذهبي 5: 29، الاسنوي 2: 574، الحوادث الجامعة: 374، السبكي 5: 72، الشذرات 5: 332، مرآة الجنان 4: 171، البداية والنهاية 3: 265. 177 - شمس الدين الخويي: ابن العديم 1: 80، ابن قاضي شهبة: 168، ابن الشعار 1: 297، الفوات 2: 368، وترجم في البدر السافر، الورقة: 76، لابنه الشهاب محمد. 191 - عبد الغني ابن نقطة: تكلمة المنذري 1: 97. 192 - أبو علي ابن أبي الشبل: المنتظم 8: 328، ابن أبي أصيبعة 1: 247، الوافي 3: 11 (محمد بن الحسين) ، الفوات 2: 393، معجم الأدباء 10: 23 تكملة المنذري 1: 71، المحمدون: 268، البدر السافر، الورقة: 91 باسم " ابن الشبل "، وقال: ذكره ابن النجار، ومولده سنة 401، وهو من أهل الحريم الطاهري، وله ديوان شعر ورسائل، وعلق شيئاً من رسائله الحافظ أبو بكر ابن الخطيب. 205 - المعتضد بن عباد: الفوات 1: 424. ج: 5 ص: 41 س: 7: ابن الحداد القيسي: الخريدة (قسم المغرب والأندلس) 2: 177 والمحمدون: 99. ج: 5 ص: 42 س: 11: الاسعد بن بليطة: الخريدة (قسم المغرب والأندلس) 2: 166، 676. 218 - الملك المسعود بن الملك الكامل: مرآة الجنان 4: 93، الحوادث الجامعة: 12. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 340 224 - أبو حيان التوحيدي: الاسنوي 1: 301، ابن قاضي شهبة: 84. 227 - زيد بن علي: الفوات 1: 333، وترجم لابنه؛ ابن العديم 8: 108، وقد أخذ رقماً ثانياً هو (312) من الجزء السادس: 110. 260 - معتمد الدولة قرواش: الفوات 2: 264. 262 - الطاهر الجزري: ابن العديم 8: 221 وهو " الظاهر " عنده - بالظاء - وكذلك هو بضبط ابن ماكولا (5: 240) وبالطاء المهملة في تتمة اليتيمة (1: 46) ؛ واسمه سداد بن غبراهيم بن محمد أبو النجيب، وقيل أبو السداد الجزري، وقيل في اسمه شداد - بالشين المعجمة - (وكذلك ضبطه السلفي) ، من أهل جزيرة ابني عمر، كان شاعراً مطبوعاً حلو الألفاظ سهلها لطيف المعاني، ومدح سيف الدولة الحمداني وعضد الدولة البويهي، وأبياته " انظر إلى حظ ابن شبل " (ص 266) وردت في ابن العديم 8: 223 وقال: قيل إنها للوزير أبي نصر ابن النحاس الحلبي، والصحيح أنها للظاهر. 263 - مدلويه الشاعر: ابن الشعار 3: 377 وقال: كثير الشعر نبيه الذكر، ذو نظم مستجاد أحسن في إنشائه وأجاديجمع السهولة والمتانة والعذوبة والرصانة، امتدح الملوك من بني أيوب ملوك الشام، وأكرموه لفضل أدبه غاية الإكرام، ثم غيرهم من الأمراء والقضاة والوزراء والولاة. تأدب علي أبي اليمن الكندي وقرأ عليه كثيراً من مسموعاته، واشتغل في صباه على فتيان الشاغوري، ورحل إلى بغداد، وقرأ المقامات الحريرية على أبي الفضل منوجهر البغدادي الكاتب، واتصل بأخرة الملك المعظم شرف الدين عيسى بن الملك العادل صاحب دمشق، ولم يزل منقطعاً إليه إلى أن توفي، يوم الجمعة العشر الأول من ذي الحجة سنة 619 عن ست وستين سنة، وكان مشغوفاً بالخمر إلى حين مماته، وكان نزقاً مر المذاق شرس الأخلاق جافي الطباع، وديوان شعره يدخل في مجلدين. 270 - عبد المنعم بن غلبون: عبر الذهبي 3: 44 الاسنوي 2: 400، مرآة الجنان 2: 442، حسن المحاضرة 1: 280. ج: 5 ص: 335 س: 1 ابن الزوياينة الرحبي: الفوات 1: 566. 277 - ابن النبيه: ابن الشعار 4: 306 وقال: علي بن محمد بن يوسف أبو الحسن المصري الربعي، كان يتولى بمصر ديوان الخراج والحساب ومدح الملوك من بني أيوب ووزراء تلك الدولة وأكابرها، ثم اتصل آخراص بخدمة الملك الأشرف مظفر الدين أبي الفتح موسى بن محمد بن أيوب فانتظم في سلك شعراء دولته، وسكن نصيبين ومات بها سنة 619، فقال الملك الأشرف: مات رب القريض. وانظر النجوم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 341 الزاهرة 6: 243 والشذرات 5: 85 والفوات 2: 143 وحسن المحاضرة 1: 566 ومقدمة ديوانه تحقيق عمر محمد الأسعد (دار الفكر، بيروت 1969) . 278 - ابن الأردخل: الفوات 2: 380، وتوجد من ديوانه نسخة بدار الكتب المصرية رقم 521 أدب، وأخرى بأحمد الثالث رقم 2288. 283 - عز الدين ابن أبي الحديد: الفوات 1: 519، ذيل مرآة الزمان 1: 62، ابن الشعار 4: 213 وقال: عبد الحميد بن أبي الحديد كاتب فاضل أديب ذو فضل غزير وأدب وافر وذكاء باهر، خدم في عدة أعمال سواداً وحضرة، آخرها كتابة ديوان الزمام. تأدب على الشيخ أبي البقاء العكبري ثم على أبي الخير مصدق ابن شبيب الواسطي، واشتغل بفقه الإمام الشافعي وقرأ علم الأصول، وكان أبوه يتقلد قضاء المدائن، وله كتاب العبقري الحسان في علم الكلام والمنطق والطبيعي والأصول والتاريخ والشعر؛ وراجع صفحات متفرقة من الحوادث الجامعة. 284 - موفق الدين ابن أبي الحديد: الفوات 1: 10، ذيل مرآة الزمان 1: 104. ج: 6 ص: 8 س: 20 أبو محمد الخازن: هو عبد الله بن أحمد الخازن، أصبهاني، كان من خواص الصاحب بن عباد، وكان على خزانة كتبه في ريعان شبابه، هرب من حضرته مدة ثم عاد إليه (اليتيمة 3: 325 - 339) . ج: 6 ص: 20 س: 11 - 12 ابن المجاور الدمشقي: سمع الحديث بدمشق من الحافظ ابن عساكر والملك العادل محمود بن زنكي والوزير ابن المظفر، وكان أديباً فاضلاً شاعراً نحوياً، نشأ تلاء للقرآن مواظباً على إقرائه، ثم صار يقرئ النحو والأدب واشتهر بتعليم أولاد الكبراء إلى أن وصف لصلاح الدين فألزمه إقراء ابنه العزيز، فلما صارت السلطنه للعزيز استوزره، ولد سنة 549 وتوفي بالقاهرة سنة 600 وقال ابن سعيد سنة 601. ترجم له في البدر السافر، الورقة: 240 والغصون اليانعة: 19 وأشار إلى أن له ترجمة في تاريخ حلب لابن العديم وفي تاج المعاجم للشهاب القوصي، وكذلك ذكره المنذري. ج: 6 ص: 52 س: 7 كوشيار بن لبان: تاريخ حكماء الإسلام للبيهقي: 91 وفيه أنه ابن لبان أو ابن ليان أي الأسد - بلغة الجبل، وزيجه اسمه الجامع. 302 - أوحد الزمان ابن خلكان: تاريخ حكماء الإسلام للبيهقي: 152 وكتابه " المعتبر " مطبوع بحيدر آباد الدكن. 307 - سحيم بن وثيل الرياحي: الفوات 1: 338، وطبقات ابن سلام: 489 والإصابة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 342 3 - 164 ، والخزانة 1: 123. 308 - نصيب الشاعر: طبقات ابن سلام: 544، الأغاني 1: 305 معجم الأدباء 19: 228، العيني 1: 537، السمط: 291 الموشح: 298، الشعر والشعراء: 322. 314 - تاج الدولة بن ثقة الدولة: الخريدة (قسم المغرب والأندلس) 2: 127. 326 - خالد بن برمك: ابن العديم 5: 336. ج: 6 ص: 247 س: 6 الوجيه ابن سويد التكريتي: ذيل مرآة الزمان 2: 487 وقال: لم يبلغ أحد من أمثاله من الحرمة ونفاذ الكلمة ما بلغ بحيث كان النجابين (كذا) ترد عليه من بغداد إلى دمشق في مهمات تتعلق بالخلافة، وكانت متاجره لا يتعرض لها متعرض وكتبه عند سائر ملوك الأطراف وملوك الفرنج بالساحل نافذة، توفي سنة 670 والقصة التي أوردها ابن خلكان وردت في ذيل المرآة 1: 337. ج: 6 ص: 251 س: 22 - 23 عون الدين ابن العجمي: ذيل مرآة الزمان 1: 240. 329 - العماد المحلي: ابن العديم 4: 122 وقال أبو المناقب الشافعي المصري: رجل فاضل أديب كيس دمث الأخلاق كثير المروءة مطبوع النادرة خفيف الروح جيد الشعر حسن المحاضرة، وكان له وجاهة بدمشق، وسيره الملك العادل إلى الملك الظاهر غازي بحلب، واجتمعت به في مجلس شيخنا قاضي القضاة أبي المحاسن يوسف ابن تميم بمدينة حلب. ج: 6 2: 254 س: 5: أبو نصر الحاسب: ذيل مرآة الزمان 1: 79. 330 - بدر الدين السنجاري: ذيل مرآة الزمان 2: 332. ج: 6 ص: 274 س: 14: زين الدين ابن جهبل: هو عبد الملك بن نصر بن عد الله بن جهبل فقيه فاضل درس بحلب بالمدرسة النورية وتوفي بحلب سنة 590 (السبكي 4: 262 والاسنوي 1: 371) ؛ وأخوه مجد ادين طاهر كان إماماً زاهداص فاضلاً في الفقه والحساب والفرائض، درس أيضاً بالنورية وبالصلاحية في القدس وتوفي سنة 596 (عبر الذهبي 4: 292 والاسنوي 1: 371 والدارس 1: 230) . 378 - محمد ابن عبد البر: بغية الملتمس: 341، الصلة: 270، المغرب 2: 402. القلائد: 180، الخريدة (قسم المغرب والأندلس) 2: 478. ج: 7 ص: 75 س: 14 ابن هلال السعيدي: البدر السافر، الورقة: 85. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 343 3 - زيادات من النسخ وتعليقات وتخريجات لبعض النصوص ج 1 ص 25 ما بين معقفين على هذه الصفحة لم يرد في المسود والنسخ س ر بر، ومثل ذلك يقال فيما جاء على الصفحات التالية: 29، 33، 64، 66، 67، 170، 180، 213، 137، 240، 275 - 276، 285، 291، 298، 305، 321، 322، 323، 348، 374، 375 - 376، 380. 30 - الترجمة رقم (6) لم ترد في النسخ س ر بر والمسودة، ووردت في ص. 42 - بعد قوله: وأخباره ومجالسه مشهورة (السطر: 18) وردت في النسخة ر زيادة أثبتناها نقلاً عن (ص) في هذا الجزء، الصفحة: 444. 92 - في هامش بر عند ترجمة الخطيب البغدادي تعليق منقول عن طبقات السبكي (3: 14 - 15) حول منام رآه أبو القاسم مكي المقدسي ورأى فيه جمعاً يستمعون تاريخ الخطيب وفيهم رجل لا يعرفه فلما سئل عنه أنبئ أنه النبي (ص) ، وفي الختام بيتان من الشعر للخطيب؛ ومن الواضح أنها زيادة متأخرة، قلت: وانظر تبيين كذب المفتري: 268 - 269. 97 - بهامش بر عند ترجمة أحمد الغزالي تعليقة هذا نصها: " سئل في مجلس وعظه عن قول علي رضي الله عنه لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً والخليل عليه السلام يقول: " أرني كيف تحيي الموتى " الآية، فقال: اليقين يتصور عليه الجحود، والطمأنينة لا يتصور عليها الجحود، قال تعالى " واستيقنتها أنفسهم ". وكان يدخل البلاد والقرى والضياع ويعظ لأهل البوادي تقرباً لله تعالى؛ وحكى يوماً في بعض وعظه أن بعض العشاق كان مشغولاً بحسن الصورة، وكان ذلك موافقاً له، فاتفق أنه جاءه في يوم بكرة وقال له: انظر إلى وجهي فأنا اليوم أحسن من كل يوم، فقال: وكيف ذلك، قال: نظرت في المرآة فرأيت وجهي فاستحسنته فأردت أن تنظر إليه، فقال: بعد أن نظرت إلى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 344 وجهك، مثلي لا يصلح أن (ينظره) . وحكى يوماً على رأس منبره عن أخيه حجة الإسلام أمراً غريباً فقال: سمعت أخي يقول إن الميت من حين يوضع على النعش يوقف في أربعين موقفاً يسائله ربه عز وجل. ومن شعره: إذا صحبت الملوك فالبس ... من التوقي أعز ملبس وادخل إذا ما دخلت أعمى ... وأخرج إذا ما خرجت أخرس 112 بعد السطر 9 زاد أبياتاً لابن عبد ربه في النسخة ر أولها: يا لؤلؤاً يسبي العقول أنيقاً، وقد وردت في زيادات ص (الصفحة: 449) كما أثبتت في هامش النسخة س. 125 - س 7: وما جراياته: علق بهامش س: " قوله وما جراياته لفظة عامية هكذا رأيته بخط أبي حيان ". 129 - بعد البيتين (السطر 17) جاء بهامش س، وله (أي ابن طباطبا) : تأمل نحولي والهلال إذا بدا ... لليلته في أفقه أينا أضنى على أنه يزداد في كل ليلة ... نمواً وجسمي بالضنا دائباً يفنى 140 بعد السطر 19 جاءت زيادة في ر هذا نصها: ومن شعره: يا قمراً أطلعه المغرب ... قد ضاق بي في حبك المذهب ألزمتني الذنب الذي جئته ... صدقت، فاصفح أيها المذنب وإن أغرب ما مر بي ... أن عذابي فيك مستعذب (وقد وردت هذه الأبيات في هامش س، وانظر ص 457 من هذا الجزء) وبعد ذلك في النسخة ر: ومن جيد شعره: ما للمدام تديرها عيناك (الأبيات الثلاثة الواردة على الصفحة المذكورة) ثم جاء في ر بعد ذلك: وله في ولاّدة وأبي عامر ابن عبدوس وكان يلقب بالفار: قالوا أبو عامر أضحى يلم بها ... قلت الفراشة قد تدنو من النار عيرتمونا به إذ صار يخلفنا ... في من نحب وما في ذاك من عار أكل شهي أصبنا من أطايبه ... بعضاً وبعضاً صفحنا عنه للفار ومن شعره: قل للأمير وقد قطعت بمدحه ... عمري وكان السجن منه ثوابي لا تخش لائمتي بما أمضيته ... من ذاك فيّ ولا توقّ عتابي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 345 لم تخط في أمري الصواب موفقاً ... هذا جزاء الشاعر الكذاب 142 العبارة الموجودة بين معقفين [وله أبيات ثابتة الخ] ثابتة بهامش المسودة، ولكنها لم ترد في النسخ ر س بر. 147 - بعد السطر 10 وردت في ر الزيادة الآتية: وله أيضاً من قصيدة: فعذراً إن عجزت لطول همي ... عن الإسهاب والنفس الطويل فإن وجى الجياد إذا تمادى ... بها شغل الجياد عن الصهيل 153 زاد في ر بعد البيت " تأمل تحت ذاك الصدغ خالاً ": ورب قطيعة جلبت وصالاً ... وكم في الحب من نكت خفايا 155 السطر 8 وما بعده: نسب مكرم أخو مطرف الخ: أكثر هذا النسب مطموس في المسودة وقد راجعته على جداول كاسكل فلم أجد أكثر الأسماء، غير أن " حاوة " في النسب تقرأ " جاوة " أو جآوة، وبخط المؤلف بقي من النسب لفظة " الجاأوي " - بهذه الصورة - ونقطة الجيم واضحة. أما " عيلان " فإنها في جداول كاسكل " غيلان " بالغين المعجمة، وليس في أولاد غيلان من اسمه " الخرزق " عنده، ولعله لقب، ولم يورده صاحب التاج أو صاحب الاشتقاق. أما قول المؤلف: وليس في نسبه باهلة، فإن باهلة هو مالك بن أعصر. 158 - س 8 وردت قصة ابن منير وابن القيسراني في الغيث للصفدي 2: 132 منقولة عن ابن خلكان. 158 - بعد السطر 15 زاد في ر على البيتين: مقصر الصدغ ممدود ذوائبه ... بي منه وجدان ممدود ومقصور فيه محاسن شتى قد فتنت بها ... وكل مفتتن بالحسن معذور مهفهف في هواه ما استجرت به ... إلا وجدت غرامي وهو منصور 163 الأبيات التي أولها " ثروة المكرمات بعدك فقر " وقعت بعد الأبيات الفائية الواقعة على الصفحة السابقة، وذلك في النسختين: س بر. 167 - الأبيات " وذي هيئة يزهو " أوردها ابن العدين (9: 237) ونسبها لابن الملثم ولد الوزير عز الدين الملثم وزير الملك الأفضل، وأوردها ابن الشعار الجزء: 7 ¦ الصفحة: 346 (1: 152) للقطرسي. 172 - الأبيات " إذا جن ليلي هام قلبي " وردت في تاريخ إربل: 182. 173 - ضبط المؤلف بالشكل بعض الأسماء في نسب معز الدولة ابن بويه وهي كما يلي: شيرزيل الأصغر بن شيركذه بن شيرزيل الأكبر من شيران شاه بن شيرفنه ابن شستان بن سن فرو بن شروزيل بن سناذ. 184 - عند ابن الشعار في نسب صلاح الدين الاربلي: ابن محمد بن مروان بن جابر، وبخط ابن العديم: ابن محمد بن بزوان. 187 - الترجمة رقم 77 " ابن عبد الحميد الجرجاني ": وردت هذه الترجمة في النسخ ر س ص ونسخة برلين (رقم Peterm 660) وقد أدرجناها اعتماداً على ورودها عند وستنفيلد، ولم تكن لدينا حينئذ مسودة المؤلف، فلما حصلنا عليها وجدنا أن المؤلف قد رمّج على الترجمة بكاملها، وكتب في الحاشية: هذه الترجمة غلط وليس المذكور ولد الخصيب ممدوح أبي نواس، وكنت رأيت في بعض المجاميع أنه ابن الخصيب المذكور، ثم ظهر لي بعد ذلك أنه ليس الأمر كذلك، ولم أظفر بالصواب إلا بعد أن كتبت هذا التاريخ بسنين عديدة فرحم الله امرءاً وقف على الصواب وكان عنده نسخة، فأصلحها وذ [لك أن] الإنسان لا يعصمه من الخطأ والزلل [سوى] الله. قلت: فاسقاط هذه الترجمة ضروري، ولكن النسخ التي أثبتتها نقلت عن أصل من أصول ابن خلكان قبل أن يكتشف ذلك الخطأ، وعلى هذا ينبغي حذف ما ينتمي إليها وهو الزيادة الثانية الواردة على الصفحة 460 منقولة عن ص. 188 - رغم حذف المؤلف للترجمة السابقة، فإن ضبطه للفظة أقريطش ينبغي أن يذكر هنا وهو: بفتح الهمزة وسكون القاف وكسر الراء وسكون الياء المثناة من تحتها وكسر الطاء وبعدها شين مثلثة. 190 - الترجمة 79 لم ترد في المسودة والنسختين بر س ووردت في ر قبل ترجمة العزيز الأصبهاني، وليس هي من شرط المؤلف لأنه لم يرد فيها تاريخ الوفاة. 191 - السطر 19 بهامش المسودة: وتفسير أكسك: الناقص والله أعلم. 197 - بعد السطر 15 وردت في ر هذه الزيادة: ذكر الحظيري في كتاب " زينة الدهر في محاسن أهل العصر " لأبي الفرج ابن التلميذ في دار جديدة بناها سيف الدولة ابن صدقة وقعت فيها نار يوم الفراغ منها: يا بانياً دار العلى مليتها ... لتزيدها شرفاً على كيوان الجزء: 7 ¦ الصفحة: 347 علمت بأنك إنما شيدتها ... للمجد والأفضال والإحسان فقفت عوائدك الكرام فسابقت ... تستقبل الأضياف بالنيران وانظر هامش ج 2: 490. 204 - بعد السطر 5 وردت في ر زيادات تشترك فيها مع ما نقل عن د ص (انظر الصفحة 410، 411) ولكن أضافت ر إلى تلك الزيادات ما يلي: ومما يجري هذا المجرى ما أخبر به ان أحمد الجلودي يرفعه إلى الحسين بن فهم عن عمه، قال، اشتهى صديق لي فروجاً أطبخه له، فأكلت بنت لنا لحمه، إلا لحم الصدر، ونحن لا نعلم، فكتبت إليه: طبخنا لك فروجاً ... فطاف الأهل بالقدر ولم نقدر على المنع ... لقبح المنع في الذكر فآثرناك بالصدر ... لأن الصدر للصدر وهذا باب متسع. اختلف غسحاق النديم وإبراهيم الموصلي في صوت فقال إسحاق: إلى من نتحاكم والناس ما عدانا بهائم 210 - بعد السطر 15 زيادة في ر، هذا نصها: وله أيضاً: مررت بدار الملك والنيل آخذ ... بأطرافها والموج يوسعها ضربا فكان لنا ذاك القتال مسرة ... أباحت حمى اللذات ننهبها نهبا شرقت بغرب الدمع فيها تذكراً ... لمن حسنه قط طبق الشرق والغربا وناديت من شوقي إليه ولهفتي ... عليه وقد أودى بي البين يا ربا ومن شعره: وكم ليلة بات الهلال سوارها ... فخيل لي أن الثريا لها قرط وللحسن بل لله بدر دجنة ... يحرر واو العطف في خده الخط إذا بعته قلبي بشرط وصاله ... يصح له بيعي وينفسخ الشرط 215 البيت: فكفاه عين كماله في نفسه ... وكفى كمال الدين عين كماله هذا هو بيت التخلص وحقه أن يجيء آخر الأبيات، كما ورد ف النسخة س وعند ابن الشعار، ولكنه ورد حيث أثبتناه، في النسختين ر بر، وهو ثابت الجزء: 7 ¦ الصفحة: 348 بهامش المسودة إلى جانب البيت الواقع قبله، وذلك هو سبب الاختلاف في موضعه. 216 - قوله " وذكره عماد الدين الأصبهاني العجائب ": قد رمج المؤلف في المسودة على هذا النص، وهو ثابت في ر، والبيتان بهامش س. 223 - بعد الشطر 10 جاءت هذه الزيادة في ر: ومن شعره: وقد يهلك الإنسان من باب أنسه ... وينجو بإذن الله من حيث يحذر 224 بعد السطر 10 وردت هذه الزيادة في ر: ومن شعر أبي العتاهية: يا عجباً للناس لو فكروا ... وحاسبوا أنفسهم أبصروا واعتبروا الدنيا إلى غيرها ... فإنما الدنيا لهم معبر عجبت للإنسان في فخره ... وهو غداً في قبره يقبر ما بال من أوله نطفة ... وجيفة آخره، يفخر أصبح لا يملك تقديم ما ... يرجو، ولا تأخير ما يحذر وأصبح الأمر إلى غيره ... في كل ما يقضى وما يصدر 236 بهامش بر (عند ترجمة إسماعيل الملقب بالمنصور العبيدي) ترجمة لإسماعيل ابن حماد بن أبي حنيفة. ومن الوضاح أنها ليست من صنع المؤلف، فقد ترجم له ترجمة عارضة عند ذكر أبيه (ج 2: 205) وهذا ما جاء في هامش النسخة (بر) : إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة النعمان الإمام بلا مدافعة، ذو الفضائل الشريفة والخصال المنيفة، تفقه على أبيه حماد والحسن بن زياد ولم يدرك جده، وله " الرد على القدرية " ورسالته إلى البستي. ذكر الخطيب بإسناده إلى العباس ابن ميمون، سمعت محمد بن عبد الله الأنصاري يقول: ما ولي القضاء من لدن عمر ن الخطاب إلى اليوم أعلم من إسماعيل بن حماد ن أبي حنيفة، فقيل: يا أبا عبد الله ولا الحسن بن أبي الحسن قال: لا والله ولا الحسن؛ قال قال أبو العيناء محمد بن القاسم، قال إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة: ما ورد عليّ مثل امرأة تقدمت إليّ فقالت: أيها القاضي: ابن عمي زوجني من هذا ولم أعلم، فلما علمت رددت، قال، فقلت: ومتى رددت قالت: وقت علمت، قلت: ومتى علمت قالت: وقت رددت، قال: فما رأيت مثلها؛ قال أبو العيناء: دس الأنصاري إنساناً يسأل إسماعيل لما ولي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 349 قضاء البصرة، فقال: أبقى الله القاضي، رجل قال لامرأته، فقطع عليه فقال: أبقى الله القاضي، رجل لامرأته، فقطع عليه إسماعيل وقال: قل للذي دسك إن القضاة لا تفتي، ذكره الذهبي، قال الخصاف في " أدب القاضي " قال الحلواني: إسماعيل بن حماد نافلة أبي حنيفة، وكان يختلف إلى أبي يوسف يتفقه عليه صم صار يزاحمه، ومات شاباً سنة اثنتي عشرة ومائتين، ولو عاش حتى صار شيخاً لكان له نبأ عظيم بين الناس، رحمه الله تعالى. 249 - بعد السطر 15 وردت هذه الزيادة في ر: وروي عن إياس أنه قال: ما غلبني أحد قط سوى رجل واحد، وذلك أني كنت في مجلس القضاء بالبصرة، فدخل علي رجل شهد عندي أن البستان الفلاني، وذكر حدوده، هو لفلان ملك، فقلت له: كم عدد شجره فسكت ثم قال لي: منذ كم يحكم سيدنا القاضي في هذا المجلس فقلت: منذ كذا؛ فقال، كم عدد خشب سقفه فقلت له: الحق معك، وأجزت شهادته. 255 - الترجمة رقم 107: هذه الترجمة بكاملها في المسودة والنسختين ر بر وهي فيما يظهره خط المؤلف ملحقة من بعد (إذ اختلفت قطة القلم) ويبدو أن الصورة الثانية من هذه الترجمة (107 ب) هي التي وضعت أولاً ثم رأى المؤلف تغييرها، وقد وردت كذلك في س مع اختلافات يسيرة. 272 - السطر 6 بعد قوله " من الشعراء المجيدين فيه " تجيء في ر الزيادة التي أثبتت في الملحقات على هذا الجزء رقم 31. 279 - الترجمة رقم 116: هذه الترجمة هي الثابتة في المسودة وهي كذلك في ر س أما الوصةر الثانية (116 ب) فإنها من زيادات د عند وستنفيلد. 296 - السطر: 5 " ودفن في مسجد بحكر الفهادين " كان قد كتب في المسودة أولاً: ودفن في خانقاه الطواويس، ثم رمج عليه ووضع بدله كما أثبت، ولكن جاء في النسخة س: " ودفن في مسجد بحكر الفهادين بظاهر دمشق التي على نهر بردى، خانقاه الطواويس ". 297 - السطر 14 - 15 عند الحديث عن أرمناز؛ جاء في هامش س: الأصح أنها من أعمال أنطاكية، ومن قال دمشق أخطأ 304 - هكذا ضبط المؤلف نسب تميم: ابن منقوش بن زناك بن زير الأصغر بن واشقال بن وزعفى ابن سري بن وتلكي. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 350 305 - البيتان " وخمر قد شربت على وجوه " وقعا متقدمين على البيتين السابقين في المسودة وس ر ومتأخرين عن البيتين التاليين في بر. 328 - الترجمة رقم 132 هكذا ثبتت هذه الترجمة في ر بر وأوردها كذلك وستنفيلد أما الصورة الثانية (132 ب) فهي من زيادات د عند وستنفيلد، وقد جاءت الترجمة في المسودة وس موجزة نسبياً، وفيها نصوص من الصورتين معاً. 350 - الترجمة رقم 134 لم ترد في النسخ ر س بر والمسودة، ولكنها ثابتة عند وستنفيلد ونسخة آيا صوفيا (ص) . 360 - بعد السطر 8 زاد في ر: أخذه من قول البحتري: ثلاثة تشرق الدنيا ببهجتها شمس الضحى وأبو إسحاق والقمر 368 - بعد السطر 17 زيادة في ر وقد أثبتناها نقلاً عن نسخة ص 481 ابتداءً من قوله: " وحدث الزبير بن بكار مشمراً " أما سائر الزيادة عن ص فلم يرد في ر. 373 - السطر 12 " وحضر الجنيد قوماً يتواجدون صنع الله " لم يرد في ر س بر والمسودة، ولم يوضع بين معقفين. 386 - الزيادة رقم 2 ثابتة في ر، وكذلك الزيادة رقم 3 (389) والزيادة رقم 8؛ أما الزيادة: 9 فقد ورد من الأبيات التائية البيتان الرابع والخامس وجاء بعدهما البيت الذي أوله " تسمى بأسماء الشهور "، ووردت الفقرة الأولى من الزيادة 10 بهامش س وجاء هنالك أنها منقولة من النسخة الثالثة؛ وفي الزيادة 12 وردت أبيات أبي العلاء الكافية بهامش س، ووردت الزيادتان 24، 25 في ر مع تقدم الثانية على الأولى. 416 - السطر 5: وقال صاحب بن عباد فأخجلني: ورد هذا النص في ر. 416 - السطر 12: ودخل أبو بكر الخوارزمي وقربه: ورد هذا النص بهامش س. 416 - السطر 18: وضع الصاحب لأصحابه دعوة من الناس ": إذا كان سديد الدولة ان الأنباري (المتوفى سنة 558 كما في خريدة العراق 1: 141) قال هذين البيتين فليس المعني بذلك الصاحب بن عباد، وهذا وهم ربما تورط فيه أحد من أضاف هذه المادة إلى النسخة د ونستعيد تورط فيه المؤلف فيه لدقته، وقد نبه إلى هذا الأستاذ الدكتور علي جواد الطاهر. والبيتان الواردان هنا مذكوران في الخريدة في ترجمة السديد 1: 143. 420 - الزيادة رقم 31 وردت في ر مع اختلاف في الترتيب، وكذلك الزيادة 33 الجزء: 7 ¦ الصفحة: 351 (ص 429) وردت في ر. 430 - بعد السطر 19 وردت هذه الزيادة في ر: وكان أشعب من أحسن الناس صوتاً قبل جاء جرير إلى باب سكينة بنت الحسين رضي الله عنه يستأذن عليها، فلم تأذن له وخرجت له جارية لها فقالت له: تقول سيدتي، أنت القائل: طرقتك صائدة القلوب وليس ذا وقت الزيارة فارجعي بسلام قال، فقلت: نعم، قال: فهلا أخذت بيدها ورحبت بها وأدنيت مجلسها وقلت لها ما يقال لمثلها، أنت عفيف وفيك ضعف، خذ هذه ألفي درهم وارجع إلى أهلك. 434 - الزيادة رقم 34، ورد جانب من وصية جعفر الصادق في هذه الزيادة على هامش النسخة س. 451 - أبيات ابن فارس على هذه الصفحة وردت في ترجمته، فإثباتها هنا من قبيل السهو، وحقها أن تحذف. 452 - الزيادة المتعلقة بالمتنبي على هذه الصفحة أصلية في المسودة. 452 - الزيادة المتعلقة بالنامي الشاعر حتى قوله " في عارضي " وردت في ر. 458 - البيتان " فرشت خدي للعشاق " وردا في هامش س. 458 - الزيادة المتعلقة بناصح الدين الأرجاني وردت في ر ما عدا البيتين " أنتم فرازين هذا الدست ". 461 - الزيادة المتعلقة بأسامة بن منقذ وردت جميعها في ر وآخر بيتين فيها وردا في هامش س. 465 - الزيادة المتعلقة بالصاحب، والأخرى المتعلقة بالمنصور العبيدي وردتا في ر. 466 - البيتان " تجري الأمور على قدر القضاء " وردا بهامش س. 467 - الزيادة المتعلقة ببشار بن برد وردت في ر. 469 - الزيادة المتعلقة بتقية الصورية وردت في ر. 470 - الزيادة المتعلقة بتميم بن المعز وردت في ر. ج 2 35 - الأبيات المنسوبة إلى عبد الملك ذكرها ابن العديم في ترجمة الحجاج (4: 3 - 43) ورواية البيت الثاني: وتخشى الذي يخشاه مثلك هارباً ... إلى الله منه ضيع الدر حاليه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 352 ورواية البيت السادس: ولا تعد ما يأتيك مني وإن تعد ... تقم فاعلمن يوماً عليك نواديه 36 وهذه أبيات الحجاج برواية ابن العديم: إذا أنا لم أطلب رضاك وتقي ... أذاك فيومي لا توارى كواكبه وما لامرئ يعصي الخليفة جنة ... تقيه من الأمر الذي هو راهبه أسالم من سالمت من ذي قرابة ... ومن لم تسالمه فإني محاربه إذا قارف الحجاج فيك خطيئة ... فقامت عليه في الصباح نوادبه إذا أنا لم أدن الشفيق لنصحه ... وأقص الذي تسري إليّ عقاربه وأعطي المواسي في البلاء عطية ... ترد الذي ضاقت عليه مذاهبه فمن يتقي يومي ويرعى مودتي ... ويخشى غدي والدهر جم عجائبه وبعد ذلك البيتان الأخيران. 37 - وردت القصة المنقولة عن أبي الفرج المعافى في ابن العديم 4: 10. 78 - اسكن إلى سكن تسر به: الشعر لبشار، انظر ديوانه: 66 (جمع العلوي) . 95 - الترجمة رقم 170: بهامش بر طرف من المساجلات بين أبي نواس وعنان وشيء من شعر ابن الأبار الخولاني منقولاً عن الذخيرة لابن بسام، وهو نص كثير الأحماض، ليس من أصل المؤلف. 101 - الزيادة الأولى على هذه الصفحة بين معقفين لم ترد في بر. 103 - الزيادة المستمرة حتى هذه الصفة لم ترد في بر، وكذلك هي أكثر الزيادات الواردة في النسخ الأخرى، وسنكتفي بهذين المثالين في الإشارة إلى ذلك. وكذلك سقطت من بر التراجم التي انفردت بها ر أو ص. 181 - 182 أبيات ابن الدباس ورد ابن الهبارية في جمهرة الإسلام، الورقة: 131. 185 - أثبتت النسخة بر جميع لامية العجم للطغراثي. 214 - بهامش بر بيتان للخطابي منقولان عن طبقات السبكي، وإذن فإنهما من الزيادات المتأخرة. 248 - بعد ترجمة الخليل أوردت النسخة بر على الهامش هذه الترجمة: أبو سعيد الخليل أحمد بن محمد بن الخليل بن موسى بن عبد الله السجزي القاضي الحنفي، قال الحاكم أبو عبد الله: شيخ أهل الرأي في عصره في الفقه، له كتاب الدعوات والآداب والمواعظ، توفي بسمرقند في جمادى الا [.] سنة ثمان وستين وثلثمائة، له رحلة واسعة جمع فيها بين بلاد فارس وخراسان الجزء: 7 ¦ الصفحة: 353 والعراق والحجاز والشام وبلاد الجزيرة، روى عن أبي القاسم البغوي وابن خزيمة في خلق، وله ترجمة واسعة في التواريخ وكتب الأنساب، ومن شعره: سأجعل لي النعمان في الفقه قدوة ... وسفيان في نقل الأحاديث سيدا وفي ترك ما لم يغنني عن عقيدتي ... سأتبع يعقوب العلا ومحمدا واجعل درسي من قراءة عاصم ... وحمزة بالتحقيق درساً مؤكداً واجعل في النحو الكسائي قدوة ... ومن بعده الفراء ما عشت سرمدا وإن عدت للحج المبارك مرة ... جعلت لنفسي كوفة الخير مشهدا فهذا اعتقادي وهو ديني ومذهبي ... فمن شاء فليبرز ويلق موحدا ومن شعره أيضاً: رضيت من الدنيا بقوت يقيمني ... ولا أبتغي من بعده أبداً فضلا ولست أروم القوت إلا لأنه ... يعين على علم أرد به جهلا رحمه الله تعالى. قلت: وهذه الترجمة هي رقم 595 في الجواهر المضية 1: 234. 286 - السطر 22 انظر البيتين في عوارف المعارف: 171. 326 - بهامش بر حكاية عن حبس أبي دلامة مع الدجاج وأبياته التي أولها هي: أمير المؤمنين فدتك نفسي ... علام حبستني وخرقت ساجي وبعدها تجيء حكاية خروج المهدي للصيد في الهامش أيضاً. 341 - الأبيات " يا زيد زادك ربي من مواهبه " وردت في البدر السافر، الورقة 133 في ترجمة أبي شجاع ابن الدهان. 386 - بهامش بر عند ترجمة سفيان الثوري هذه الزيادة؛: قال عبد الرزاق: بعث أبو جعفر الخشابين حين خرج إلى مكة فقال: إن رأيتم سفيان الثوري فاصلبوه، فجاء النجارون ونصبوا الخشب، ونودي بسفيان، فإذا رأسه في حجر الفضيل ابن عياض ورجليه في حجر ابن عيينة قال: فقالوا يا أبا عبد الله، اتق الله ولا تشمت بنا الأعداء، قال: فتقدم إلى الأستار فأخذها ثم قال: برئت منه إن دخلها [أبو جعفر] ، قال: فمات قبل ان يدخل مكة (وانظر تاريخ بغداد 9: 159) وقال قبيصة: رأيت الثوري في المنام فقلت: ما فعل الله بك فقال: نظرت إلى ربي كفاحاً فقال لي: هنيئاً رضاي عليك يا ابن سعيد: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 354 لقد كنت قواماً إذا أظلم الدجى ... بعبرة مشتاق وقلب عميد فدونك فاختر أي قصر أردته ... وزرني فإني منك غير بعيد 392 السطر 20: قيل أنه في آخر القابل: ورد بهامش بر. 436 - السطر الأول: زاد بهامش بر بعد قوله: ما رمدتا: كما قال يزيد بن معاوية: فمن ملا مقلتيه من محاسنها كان الأمان لعينيه من الرمد489 أخبار صاعد التي لم نثبتها وهي منقولة عن ابن بسام، ورد قسم منها بهامش بر. 514 - الزيادة الطويلة التي تنتهي على هذه الصفحة وردت في بر، وورد إزاءها في الهامش ما يلي: وكتب إليه استفتاء ما صورته: يا أيها العالم ماذا ترى ... في عاشق ذاب من الوجد من حب ظبي أهيف أغيد ... سهل المحيا حسن القد فهل ترى تقبيله جائزاً ... في النحر والعينين والخد من غير ما فحش ولا ريبة ... بل بعناق جائر الحد إن أنت لم تفت فإني إذاً ... أصيح من وجدي واستعدي فأجاب بقوله: يا أيها السائل إني أرى ... تقبيلك المعشوق في الخد يفضي إلى ما بعده فاحتسب ... قبلته بالجد والجهد فإن من يرتع حول الحمى ... لا بد أن يجني من الورد يغنيك عنه كاعب ناهد ... تحضر [ها] بالملك والعقد تنال منها كل ما تشتهي ... من غير ما فحش ولا صد هذا جوابي لقتيل الهوى ... فلا تكن في ذاك مستعدي ج 3 32 - بهامش بر: كان عبد الله بن المبارك كثيراً ما يتمثل بقول الشاعر: وإذا تصحب فاصحب صاحباً ... ذا حياء وعفاف وكرم قوله للشيء لا إن قلت لا ... وإذا قلت نعم قال نعم وقد ذكرا في طبقات الحنفية (انظر الجواهر المضية 1: 281) . 167 - بهامش بر إزاء ترجمة أمام الحرمين هذه الزيادة: ومن شعره: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 355 أخي لن تنال العلم إلا بستة ... سآتيك عن تأويلها ببيان ذكاء وحرص وافتقار وغربة ... وتلقين أستاذ وطول زمان 203 أورد بهامش بر بيتين من الشعر لعبد القاهر البغدادي نقلاً عن طبقات السبكي، وهذا من الزيادات التي ليست من الأصل. 254 - السطر 3 " سار ذكره في الآفاق يعولون عليها " وارد نصاً في تاريخ إربل، ولم يشر المؤلف إلى ذلك؛ قلت: وانظر عن القتال بين إتباع عدي بن مسافر وأصحاب بدر الدين لؤلؤ في الحوادث الجامعة: 271 وراجع القول في عقيدة أتباعه في شرفنامه للبدليسي: 14. 256 - السطر 2: وذكر أبو العباس المبرد. انظر التعازي، الورقة: 30. 260 - السطر 4: ومن كلامه إنما قيل لموسى علق اليافعي 3: 157 على ذلك بقوله: وعجبت من ابن خلكان كيف يحكي مثل هذا في حق موسى عليه السلام ولا ينكره على قائله. 362 - السطر 9 القصة المنقولة عن السمعاني وردت في ابن العديم 2: 150 ومعها الأبيات. 396 - السطر 8 " لقد نزلت بروضة حزينة " الأبيات، وردت في ابن الشعار 4: 297. 436 - عند آخر ترجمة عمارة بهامش بر زيادة منقولة عن ابن حجة الحموي من كتابه " ثمرات الأوراق " وهي من غير الأصل. 442 - السطر 9 " ولما حضرته الوفاة دخل عليه بوه " انظر التعازي، الورقة 25. 455 - البيتان " يقول أبو سعيد إذ رآني " وردا في الغصون اليانعة: 25 منسوبين لابن المجاور الدمشقي، ورواية الأول: صديق قال لي لما رآني وقد صليت زهداً ثم صمت ملحوظة: ابتداءص من الجزء الرابع تشترك النسخة " بر " مع سائر النسخ، فلا يرد ذكرها في هذه التعليقات. ج 4 12 - ما بين معقفين لم يرد أيضاً في مخطوطات برلين DE 47، MF 135، pt 661، وكذلك ما ورد بين معقفين على الصفحة: 17. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 356 35 - الأبيات في أول هذه الصفحة وردت في اللزوميات 1: 27 (ط. هندية) ورواية البيت الثالث: إذا ما أتانا زائر متفقد ... فرحنا وقلنا جاء هذا من الدنيا قال أبو العلاء: وهذا الشعر لرجل في السجن كان على عهد ملوك بني العباس، ويقال إنه لرجل من ولد صالح بن عبد القدوس. 36 - ما بين معقفين على هذه الصفحة ورد في مخطوطة برلين Ldg، 543. 39ا - لبيتان " تعز أبا العباس.. " في ابن العديم 2: 150. 40 - الأبيات " أنت تبقى ونحن طراً فداكا " في ابن العديم 2: 150. 41 - السطر 5 بعد قوله والله أعلم ورد في مخطوطة برلين DF 47 الورقة 102 ما يلي: " وذكر الجهشياري ف كتاب أخبار الوزراء في أنباء أخبار البرامكة أن الفضل ابن سهل بن زادان فروخ من قرية من السيب الأعلى، وكان له عم يدعى يزيد، فتوكل لجارية لعاصم بن صبيح، فاتهمه عاصم بها فضربه بالسيف وهو سكران ضربة مات فيها، فصار سهل والد الفضل المذكور إلى باب يحيى بن خالد البرمكي طالباً دم أخيه وهو محبوس بعد، فاتصل بسلام بن الفرج مولى يحيى مستغيثاً به، فحماه وأعانه، فأسلم سهل على يد سلام المذكور، وفوصل به حتى اتصل بالبرامكة، وأحضر ولديه الفضل المذكور والحسن، فاتصل الفضل بالفضل بن جعفر بن يحيى، واتصل أخوه الحسن بالعباس بن الفضل بن يحيى وخدماهما، وعرفهما يحيى فرعاهما، فنقل الفضل بن سهل ليحيى كتاباً من الفارسية إلى العربية، فأعجبه فهمه وجودة عبارته، وقال له: إني أراك ذكياً وستبلغ مبلغاً رفيعاً، فأسلم حتى أوصلك بولد أمير المؤمنين، فقال: نعم، فبعثه إلى ولده جعفر، فأدخله على المأمون. 47 - ما بين معقفين ورد في Ldg. 543. 69 - البيتان: " همتي دونها السها " وردا في الخريدة (قسم الشام) 2: 322 ونسبهما لمحمد بن القاسم ولد المترجم به. 110 - ما بين معقفين ثابت أيضاً في DF 47، أما ما جاء على الصفحة 111 بين معقفين فإنه ساقط منها. 122 - ترجمة العتابي لم ترد في DF 47. 127 - الليث بن سعد: هذه هي الترجمة التي وردت في pt، 661، 662. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 357 147 - ترجمة ابن المستوفي لم ترد في النسخة Ldg. 543. 152 - الترجمة رقم 555 لم ترد في Ldg. 543. 154 - الترجمة رقم 566 لم ترد في Ldg. 544 ووردت في pt 562 وتنتهي فيها عند قوله " خذلهم الله تعالى ". 222 - البيتان: " أيا جبلي النعمان ": وهم الاسنوي فنسبهما إلى الارغياني، وهما من قديم الشعر، وينسبان للمجنون. 228 - ما بين معقفين ثبت في DF 47 أيضاً. 229 - الترجمة رقم 594 لم ترد في MF 135. 241 - الترجمة موجزة في MF 135. 275 - البيتان " يا راحلين بمهجة. " نسبهما في الاسنوي 2: 107 للشهرستاني نفسه. 295 - السطر 4: ذكر ابن المستوفي بعض مؤلفات الحازمي وفي التسمية بعض اختلاف عما أورده المؤلف، فمن كتبه الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الأخبار، ومشتبه النسب وسماه " اصطلاح النساب في علم الأنساب "، وكتاب التفضيل في مشتبه النسبة. 434 - ترجمة ابن أزهر جاءت كاملة في Pt 661. 453 - قصة هجو ابن الهبارية لنظام الملك وردت بشكل آخر في ابن العديم 4: 295 وذكر أنه أوردها أيضاً في ترجمة ابن الهبارية. ج 5 ص 11 خطبة واصل التي أسقط منها الراء في جمهرة الإسلام، الورقة: 88. ص 47 السطر 17 كتاب المغرب، ضبطه المؤلف بخطه بالعين المهملة في ترجمة يوسف بن تاشفين. 346 - السطر 16: " وذكره العماد الكاتب في كتاب الخريدة. ". قارن بما ورد في الخريدة 2: 172 (قسم العراق) . 354 - الأبيات " قل للقوافل والغزاة إذا غزوا " ورد بعضها في ابن العديم 8: 38. ج 6 70 - السطر: 9 ذكر ابن العديم كتاباً اسمه " أنموذج الأعيان " 2: 208 وقال إنه من تأليف عبد السلام بن يوسف الدمشقي. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 358 76 - القصة التي أوردها ابن المؤلف (الحاشية: 2) أوردها المؤلف نفسه (ج 2: 296 - 297) . 137 - البيتان " تنكر لي دهري " للأبيوردي وقد وردا في ترجمته 4: 446. 152 - الأبيات " يا زائرينا من الخيام " لمنصور النمري من قصيدة يمدح بها الرشيد، طبقات ابن المعتز: 247. 235 - الأبيات " يا باذل المال في عدم وفي سعة " وردت في ابن العديم 8: 275 والرواية فيه " مواهبه " موضع " فواضله "؛ و " مفعمة " موضع " منعة "؛ " بأحداثي " موضع " بأحداث "؛ فالجود بالعرض " موضع " فالجود بالعز ". 285 - الأبيات " سألناه الجزيل فما تلكا " نسبها ابن العديم 8: 37 لزياد الأعجم يقولها في مدح عبد الله بن جعفر. 310 - قصة يزيد بن أبي مسلم مع سليمان بن عبد الملك وردت في ج 2: 425 في ترجمة سليمان، ومعلوم أن هذه الترجمة لم ترد إلا في نسخة ص. 324 - قصة أشعب مع يزيد بن حاتم وردت في ترجمة أشعب 2: 473 وهي ترجمة انفردت بها ص أيضاً. ج 7 41 - الأشعار الواردة ابتداءً من " ألقني في لظى " ورد معظمها في أنباء الأمراء، الورقة: 27 في ترجمة أبي المواهب القمي. 139 - س 8 " اتفق أهل التاريخ " انظر هذا النص في ذيل مرآة الزمان 1: 37. 208 - البيتان " وما خضب الناس " وردا في البدر السافر، الورقة: 205. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 359 4 - معارضة الجزء الأول بمسودة المؤلف والنسخ س ر بر ص 25 السطر: 1 س: ربيعة بن ذهل بن ربيعة بن حارثة بن ذهل بن سعد. 9 - س بر: أنا أتوقع. 15 - المسودة: جلد؛ س: جالد؛ ر بر: خالد. 26 - السطر: 1 س بر: وهذا هو الصحيح. 27 - السطر: 3 س: ونجب. 7 - المسودة س بر ر: عتمة. 28 - السطر: 3 المسودة س بر: الملقب ركن الدين. السطر: 6 س: خمس مجلدات. السطر: 16 المسودة: دعلج (مضبوط بخط المؤلف) . 29 - السطر: 12 س بر: فيطلب منه. السطر: 20 المسودة س ر بر: بود حرٍ. 30 - السطر: 14 المسودة ر بر: لا تألف؛ س: لا يؤلف. 31 - السطر: 1 بر: الخوزي؛ س: الحويري (دون إعجام) . 33 - السطر: 16 ر: تغيير. 34 - السطر: 6 ر: أخا علم. 35 - السطر: 9 س ر: إذ نفخا. 37 - السطر: 10 المسودة س ر بر: وكان أصله من العراق من السندية، فقيهاً فاضلاً. السطر: 12 المسودة س ر بر: ونظمه رائق فمنه. 38 - السطر: 7 المسودة: فلو كان. 40 - السطر: 9 س: فلما قدم المأمون بغداد. السطر: 15 المسودة: حتى يكون. 42 السطر: 11 س: عثمن (موضع بهمن) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 360 ص 42 السطر: 12 المسودة: يسك؛ ر: يشك. السطر: 15 المسودة ر: وهم من بيت. 43 - السطر: 8 بر: وكان هارون الرشيد. 44 - السطر: 4 المسودة ر س بر: ومن رقيق شعره قوله. 46 - السطر: 14 بر: مخرج. 48 - السطر: 7 بر: قلبي أرق عليك. السطر: 10 المسودة ر بر: صاحب كتاب الإمامة. 52 - السطر: 13 المسودة ر بر س: وهاجت حقده. 54 - السطر: 5 المسودة بر ر س: بهمز آخره. السطر: 13 المسودة ر بر س: له ديوان. السطر: 15 س: وأدب. 56 - السطر: 11 المسودة ر بر س: ما للعذار وكان. 57 - السطر: 4 المسودة ر بر س: كأنني غيلان. السطر: 16 المسودة بر س: إفرنجة. 58 - السطر: 20 س ر: ومن العجائب أن تراه كاسداً. 59 - السطر: 9 المسودة بر: ما تبل. السطر: 12 بر: يستملحه الأدباء ويستظرفونه. 60 - السطر: 1 بر: طالعي الميمون. 64 - السطر: 19 المسودة ر: شعيرات سود. السطر: 22 المسودة ر س بر: وتوفي. 66 - السطر: 4 المسودة س بر: في كتاب الطبقات في حقه. السطر: 5 المسودة س ر بر: وولي القضاء. السطر: 19 المسودة س ر بر: إن الله تعالى بعث. 67 - السطر: 1 المسودة س ر بر: فأظهر كل سنة. السطر: 2 المسودة س ر بر: ومن الله تعالى على رأس الثلثمائة بك. السطر: 6 المسودة: في حجرة؛ بر: بحجرته. السطر: 18 المسودة ر بر: عجمياً. 68 - السطر: 9 المسودة ر بر: تولى القضاء بها. السطر: 10 المسودة ر بر: وأدركته خشية ورقة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 361 ص 68 السطر: 17 المسودة س بر: بالحصون والأودية. 72 - السطر: 15 المسودة ر بر س: وهي قبيلة كبيرة مشهورة. 73 - السطر: 6 المسودة ر بر س: بن عبدك الاسفرايني. السطر: 12 المسودة س: علي بن الحسن. السطر: 16 المسودة س: هو أقدم منه وأعلم. 74 - السطر: 14 المسودة: ما لم أفعل، وقال بهامش س: كذا هي بخط المصنف، قلت: ولعله خطأ، وفي بر: ما لم يفعل. 75 - السطر: 17 المسودة ر س بر: الحافظ المشهور. 77 - السطر: 5 المسودة س: وانتشر. 79 - السطر: 11 المسودة س: في كتابه الأنساب. 80 - السطر: 5 المسودة س ر: فإذا أحمد الثعلبي. السطر: 15 المسودة س ر بر: وهي أحسن مدن 81 - السطر: 8 ر: وتجر أبوه. 87 - السطر: 6 ر: فقال أحمد: ما بلغ مني الخ. 88 - السطر: 4 المسودة س: بقضاء حاجاته. السطر: 9 المسودة س: وكانت فيه السطر: 22 المسودة: ولم تكن طريقه. 89 - السطر: 3 المسودة: واضحة. السطر: 4 المسودة: آباء. 90 - السطر: 20 بر: تجبى إليه. 92 - السطر: 6 المسودة ر س: وسباه العسكر. السطر: 7 المسودة: وآن الجمع. السطر: 13 المسودة ر س بر: من المصنفات المفيدة. السطر: 16 المسودة س بر: عن أبي الحسين المحاملي (وورد من قبل: الحسن) . 93 - السطر: 4 المسودة ر س: حافظ الشرق. 96 - السطر: 3 المسودة بر س: وما أقصر. 98 - السطر: 7 ر: الأولى طابران. السطر: 8 المسودة س: باء موحدة مفتوحة. السطر: 14 المسودة: لكن هكذا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 362 ص 99 السطر: 8 المسودة: وبعد الهاء والألف نون. 100 - السطر: 2 المسودة: المعلقات التسع. 103 - السطر: 2 المسودة: اقرأ؛ ر بر س: اقر. السطر: 9 المسودة: كبير الفائدة. السطر: 13 بر: يعيش لدى ديمومة البيت حوتها. 104 - السطر: 15 المسودة س بر ر: وكتاب اختلاف النحويين وكتاب الخ. (أدرجت كلمة كتاب في كل هذه الفقرة) . 105 - السطر: 3 المسودة ر س: الحافظ أبو الطاهر. 106 - السطر: 11 وهي بفتح الواو الخ (في ضبط وعلة) . 108 - السطر: 5 المسودة: عائذ؛ ر بر: عابد. السطر: 17 المسودة ر س بر: وكنت أحضر درسه. 110 - السطر: 8 المسودة س بر: خط الجمال. 111 - السطر: 1 المسودة س: من جملة قصيد. 112 - السطر: 5 المسودة: وله (في موضع: ولابن عبد ربه، وهو وموهم) . 114 - السطر: 15 المسودة ر بر س: رهن المحبسين. السطر: 18 المسودة ر بر: بالإيلام مطلقاً؛ س: بإيلام مطلقاً. السطر: 19 لفظة " قوله " لم ترد في المسودة س ر بر. السطر: 22 " يوم " فوقها في المسودة " ليلة ". 115 - السطر: 1 المسودة س: هذا البيت، رحمه الله تعالى. 116 - السطر: 4 المسودة: ولم تزل المعرة بأيدي السطر: 5 المسودة: في سنة تسع. السطر: 12 المسودة ر س: في كتابه الذخيرة. 117 - السطر: 2 المسودة س: من جملة قصيد. السطر: 8 المسودة ر بر: فنام ونامت. 118 - السطر: 16 يعايي: هي كذلك في النسخ ما عدا س فقد وردت وتعاني، وقد استشكل عليها الأستاذ جواد الطاهر، والمقصود ما كان مثل كتابه " فتيا فقيه العرب " ففيه مسائل من قبيل الأحاجي. 119 - السطر: 5 المسودة س: بطرف فاتن فاتر. 120 - السطر: 15 المسودة س: التكملة والإيضاح. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 363 ص 121 السطر: 2 المسودة: القبيح. 122 - السطر: 5 المسودة س: فالتحق بالأمير. 123 - السطر: 5 المسودة س ر بر: وأجزل جائزته. السطر: 21 المسودة ر س: وبعدها الفاء. 126 - السطر:2 المسودة: ومن محاسن شعره فيه قوله: السطر: 3 المسودة ر: علاك وفي الدنيا. السطر: 6 سقطت " أيضا " من المسودة ر. السطر: 9 المسودة ر بر س: وشكت. 127 - السطر: 12 لفظة " ساحل " واردة في النسخ. السطر: 12 المسودة ر س بر: طرسوس. 129 - السطر: 18، 15 سقطت كلمة " قوله " من المسودة س ر. 130 - السطر:1 المسودة بر: وقلت قف لا ترد للماء. السطر: 2 المسودة ر بر: قالت صدقت وفاء الحب. 131 - السطر: 3 لفظة " بطون " لم ترد في النسخ. السطر: 8 المسودة: قصب الخصل؛ ر س بر: قصب الفضل. 132 - السطر: 3 المسودة: ومن مدحها. 133 - السطر: 7 س: نول الناس. السطر: 13 المسودة س: وتقيلوا الأخلاق (وهي الصواب) . 134 - السطر: 10 المسودة ر س: وتوفي في سنة. السطر: 13 المسودة ر س: لقبه عبد الله بن المعتز. 135 - السطر: 5 المسودة: والعلماء المقدمين. السطر: 10 س: قصيد أبي نؤاس. 136 - السطر: 1 خ بهامش س: ذريني (أرد ماء) . السطر: 6 المسودة س ر: غبي بمرجوع (وهي قراءة ضعيفة) . 138 - السطر: 13 المسودة: وله من جملة أبيات. السطر: 16 في المسودة بعد لفظة " الوشاة ": والله أعلم. 139 - السطر: 11 المسودة ر س بر: أحد من جر الأيام جرا. 140 - السطر: 9 المسودة ر س: ومن شعره (وسقطت: أيضاً) . السطر: 15 المسودة ر س بر: ومن بديع قلائده القصيدة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 364 ص 142 السطر: 2 المسودة ر س: المحسنين في فنونه. 143 - السطر: 10 المسودة بر س: والآخرة أيضاً والآخرة أيضاً. السطر: 11 المسودة: وأطرق ولم. السطر: 14 المسودة: وقاه فوقها كلمة " غذاه ". السطر: 15 المسودة: المرضعات فوقها كلمة " الوالدات ". 144 - السطر: 2 المسودة س بر: يروع. السطر: 4 المسودة س بر: وأورد شيئاً. السطر: 6 المسودة س: اوقليدس. السطر: 7 المسودة: وقد تناهى عقله قلة. السطر: 8 المسودة ر: وتوجد له. 145 - السطر: 7 المسودة س: الخياط الدمشقي الشاعر. السطر: 10 س: ألا هل. 149 - السطر: 4: المسودة: الكاتب الشاعر الملقب كامل الدولة. السطر: 6: المسودة س ر: كتب بالمقامات نسخاً. 150 - السطر: 3 المسودة ر: فتطوى. 152 - السطر: 19 المسودة ر: دونه (كذا ثبت بخط المؤلف) . السطر: 23 المسودة ر بر: فالعين تنظر منها ما دنا ونأى (وهي رواية موافقة لرواية الديوان) . 153 - السطر: 4 المسودة ر س بر: لكم (باتفاق النسخ) . السطر: 8 س ر بر: لم؛ وبهامش س: كم، ولم ترد الأبيات في المسودة، وهي من أصل المؤلف. 158 - السطر: 2 هامش س: وعلا جنته (وهي أصوب) . 162 - السطر: 1 المسودة: والرياضيات. السطر: 2 المسودة ر: عضد الدين. 163 - السطر: 9 بر: فلست أبالي (وهي قراءة ضعيفة) . 164 - السطر: 6 المسودة ر بر: ابن المسلم اللخمي. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 365 ص 164 السطر: 9 المسودة س: وكدك. السطر: 14 المسودة س: وشهدت. 167 - السطر: 23 المسودة: أوثقليدسا. 168 - السطر: 4 المسودة ر: مع المقدرة. السطر: 6 المسودة بر س: يكتسب. 168 - السطر: 10 المسودة ر: وفي صفة الصفوة (وهو الصواب) . 169 - السطر: 4 المسودة س: طيباً وقد قربوا للوفد. السطر: 9 المسودة ر بر س: في أشياء من العلم. 170 - السطر: 6 المسودة ر بر س: لفظة " كان " لم ترد فيها. 171 - السطر: 15 بر: بن أبي الحسين. 172 - السطر: 2 المسودة س: إلى التنانير. السطر: 10 س: للأسى؛ خ: بهامش س: للهوى؛ بر: بالجوى. السطر: 13 المسودة: فمطلق؛ س: فمعتق؛ خ بهامش س: فيطلق. 173 - السطر: 12 المسودة ر س بر: فقال: من مد الخ. 175 - السطر: 4 المسودة بر س: وبقية النسب معروف. السطر: 6 المسودة بر س: كان صاحب العراق. 176 - السطر: 4 س بر: ملكه للعراق. 178 - السطر: 2 المسودة بر س: صاحب الديوان الشعر. 179 - السطر: 1 المسودة ر بر س: وسيأتي تتمة السطر: 17 المسودة: فلم تكن. السطر: 18 المسودة بر: استولى الإفرنج. 181 - السطر: 7 المسودة ر بر س: والقضية مشهورة. 182 - السطر: المسودة بر: لا تيأس إذ؛ س: لا تيأس إن. 183 - السطر: 5 المسودة بر: المذكورة بالقدس (لم ترد لفظة: الشريف) . 185 - السطر: 9 المسودة: أفنيت (بفتح التاء) . السطر: 18 المسودة ر بر س: وشرط صاحب مصر. 186 - السطر: 3 س: زعم اللعين. السطر: 15 المسودة: فقد حصت. 187 - السطر: 4 المسودة ر: في تربة بالقرافة؛ س بر: في تربته بالقرافة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 366 ص 187 السطر: 17 المسودة: وزج المتظلم. 189 - السطر: 6 المسودة بر: فميلوا؛ س: ميلوا. 191 - السطر: 8 المسودة ر بر وإيل غازي. السطر: 13 ر بر: الفراة (وهو مشكل في تحديده) . 192 - السطر: 13 المسودة س ر: قتله عسكر. 193 - السطر: 4 المسودة س: ابن السمعاني. السطر: 5 المسودة بر: القابسي؛ س ر: الفاسي. السطر: 7 ر: شغب؛ بر: سعد. السطر: 17 المسودة ر س بر: قل أن يوجد. 194 - السطر: 14 المسودة ر س: فترصد له في يوم. السطر: 19 المسودة ر بر: ألف دينار وقد قضيت الخ. 195 - السطر: 12 المسودة س: على يدي عتبة. السطر: 13 المسودة ر س بر: أدب الكتاب. السطر: 14 المسودة س بر: باب ما يغير. 196 - السطر: 14 المسودة: سنة إحدى وأربعين وخمسمائة، والحافظ مات سنة أربع وأربعين. السطر: 19 المسودة ر س بر: تضعف عن. 197 - السطر: 1 س: الوقعة. 199 - السطر: 16 المسودة: ابن مطر وتحتها لفظة " بكر "؛ بر: مظفر، وفي بر: كعب بن همام بن بكر بن أسد (فوقعت لفظة بكر في النسب) . 202 - السطر: 4 المسودة ر بر: فكان كلما عمل. السطر: 5 المسودة ر بر: وجعله في مسجد. السطر: 9 المسودة: السعانين (دون اعجام السين) . السطر: 12 ر: يسك؛ بر: سبك، وغير معجمه في المسودة. 203 - السطر: 25 س: وله نظم حسن مفن شعره. 204 - السطر: 23 المسودة: ومحت (بالحاء المهملة) . 207 - السطر: 7 المسودة س: محيي الدين. السطر: 13 المسودة س: في المذيل. 208 - السطر: 11 بر: أحمد بن الحسين، ولفظه " الحسين " غير واضحة في المسودة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 367 ص 209 السطر: 2 المسودة ر س: فمن ذلك كتاب شرح الخ. 210 - السطر: 16 المسودة ر بر: وله من جملة مديح قصيدة طويلة. 213 - السطر: 1 المسودة س: التنوير في مولد. 214 - السطر: 4 المسودة: رفيع (بضبط المؤلف) . السطر: 17 المسودة ر: لا يتقي بالدرع حد (وكذلك ابن الشعار) . 217 - السطر: 8 المسودة: عمرو بن إسحاق ثم رمج على " إسحاق " وكتب فوقها " مسلم ". السطر: 16 المسودة ر: أبو العباس ابن سريج. السطر: المسودة ر س: لم تقتض. 226 - السطر: 11 المسودة: در ستويه (بضبط المؤلف) . السطر: المسودة بر: سافر إلى بغداد. 227 - السطر: 5 المسودة س بر: وأكثر كتبه بها وضعها. السطر: 7 المسودة بر: فلتطلب منه. السطر: 22 المسودة بر: وكانوا كملوك الطوائف 229 - السطر: 12 المسودة س: ومن جملتها. 230 - السطر: 1 المسودة س ر بر: لفظه " سريعها " لم ترد فيها. السطر: 20 المسودة س: وذلك رزء في الأنام؛ وكتب في المسودة فوقهما " وذلك مرزوء علي ". 231 - السطر: 10 المسودة: درزيه (بخط المؤلف) بر: دريه. 233 - السطر: 8 المسودة: كتاب الحجة للشيخ أبي علي الفارسي. 234 - السطر: 4 المسودة ر بر س: وسيأتي بقية. 236 - السطر: 1 بر س: أراد دخول. السطر: بر س: يخلصني من هذا (ولم ترد لفظة " الداء ") . 237 - السطر: 9 المسودة س بر ر: هي المدرسة الحنفية المعروفة بالسيوفية الآن. 239 - السطر: 3 المسودة ر: ما ناظرت أحداً. 243 - السطر: 12 س: المعدودين من أعيانها. السطر: 16 بر: في علوم الأدب. 247 - السطر: 14 المسودة: سواءة بن سارية. 248 - السطر: 1 المسودة ر س بر: عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 368 ص 248 السطر: 10 المسودة: ثدييها. 251 - السطر: 1 المسودة: خماعة. 252 - السطر: 15 المسودة ر س: وريف كثير. السطر: 24 المسودة س بر: وأضربها تحت الرايات. 253 - السطر: 3 المسودة: ويشعرون () . السطر: 3 المسودة س بر: الأعداء. 255 - السطر: 3 المسودة: خماعة. 256 - السطر: 6 المسودة ر: وهو السلطان مسعود بن غياث الدين. السطر: 17 المسودة: رأى أن يسير. 257 - السطر: 6 المسودة ر بر: الاسبهسلار. السطر: 26 المسودة ر بر: لولده صلاح الدين (سقطت كلمة " يوسف ") . 259 - السطر: 9 المسودة ر بر: ورثاه الفقيه (الفقيد: خطأ مطبعي) . السطر: 12 المسودة ر بر: ابن أبي طي. السطر: 13 المسودة ر: ببلد شبختان. 265 - السطر: 13 المسودة ر بر: المذكورة. السطر: 14 المسودة بر: التاسع والعشرين؛ س: تاسع عشرين. 266 - السطر: 1 المسودة ر بر: ركوب. السطر: 7 - 8 المسودة بر س: قصد طرابلس ونزل على قرب السطر: 8 المسودة ر س: لا يرحل عنها إلى أن؛ بر: إلا أن. 267 - السطر: 5 ر: مكان أبيه. السطر: 6 المسودة س ر: شاه زنان. السطر: 14 المسودة س ر: مناً في كل شهر. 268 - السطر: 1 س ر: طشت. 269 - السطر: 15 المسودة: صفر، وفوقها " رجب "؛ ر: رجب؛ برس: صفر. 270 - السطر: 8 المسودة س: الذي تنسب إليه. 271 - السطر: 6 المسودة: وكان المباشر لقتله مسعوداً. 272 - السطر: 19 المسودة ر س بر: جملة قصيدة عدد أبياته. 274 - السطر: 12 المسودة س: وفتح الخاء الموحدة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 369 ص 275 السطر: 11 المسودة ر بر س: لأحد نعليه. 277 - السطر: 12 المسودة: أخذ الفقه على. 283 - السطر: 4 المسودة س: فمنهم عبيد الله، خ في س: فخذهم؛ س/ خ: سعيد أبو بكر سليمان (وهي قراءة بر) . 283 - السطر: 14 المسودة ر بر س: في النحو والآداب. 284 - السطر: 1 المسودة س: حيان بن هلال. السطر: 6 المسودة س ر بر: وكذا كذا آية. 285 - السطر: 9 المسودة س ر بر: نجفي. 286 - السطر: 14 المسودة ر: أن ترفع الجناية؛ المسودة س: ولا ترفع السيف. 287 - السطر: 9 المسودة س ر: وأما وأركلان فانه. السطر: 13 س: وسيأتي ذكر. 289 - السطر: 4 س: في الحسن. السطر: 19 س: كاد أن يدمي. 290 - السطر: 1 المسودة س ر بر: فعرض. السطر: 21 المسودة س بر: كانت فيه فضيلة. 291 - السطر: 2 المسودة بر: جهة الغرب. 295 - السطر: 11 المسودة س ر بر: ثم تملك. 296 - السطر: 5 المسودة س ر بر: بظاهر دمشق التي. السطر: 21 المسودة: ألبغش، س: النعش؛ بر: البقش. 297 - السطر: 14 المسودة ر بر: ابنه أبي الفرج. 298 - السطر: 4 المسودة س بر: لم ترد فيها لفظة " تقول ". السطر: 11 المسودة س: الحافظ العلامة زكي الدين. السطر: 16 المسودة س ر بر: وما يتعلق به. 301 - السطر: 12 المسودة س: عذراً (وما ثبت خطأ مطبعي) . السطر: 16 المسودة س: وله (وسقطت " أيضاً ") . 303 - السطر: 11 س: هكذا قاله. السطر: 16 المسودة ر: الهمذاني (بالذال المعجمة) . 304 - السطر: 4 المسودة س ر بر: بن زير الأصغر. 308 - السطر: 14 بر: مما أثبت (وهي قراءة جيدة) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 370 ص 313 السطر: 3 س: بن قرة بن مروان. السطر: 4 المسودة: بن مارينوس بن مالا جريوس (بضبط المؤلف) . 315 - السطر: 6 المسودة س بر: عليه السلام. السطر: 6 المسودة ر بر: وقيل هاران. السطر: 8 المسودة س: عليه السلام. 316 - السطر: 4 المسودة ر س بر: فخرج منها سكرجتان. السطر: 10 المسودة: فحي هلا (وما أثبت خطأ مطبعي) . السطر: 13 المسودة ر بر: سمعت ذا النون يقول. 318 - السطر: 7 المسودة س: ومحاسنه كثيرة. السطر: 9 المسودة س ر: ودفن في القرافة. 327 - السطر: 5 المسودة ر س بر: " والله أعلم " لم ترد فيها. السطر: 11 المسودة: صناعة الكيمياء. 336 - السطر: 3 المسودة: أضمر له السوء وأوقع به. 341 - السطر: 9 المسودة س: وحدث محمد بن عبد الرحمن الهاشمي صاحب صلاة الكوفة قال (هذا بدلاً من " ومن أعجب ما يؤرخ " الخ) 348 - السطر: 6 المسودة ر س: وسيأتي ذكرهما. 357 - السطر: 7 المسودة س: أبو الطاهر السلفي. 358 - السطر: 2 المسودة س بر: واشهر هجرك المحتوم صدق. السطر: 5 بر: يخضب بالوسمة. السطر: 10 المسودة س ر: وتوفي بها في ليلة. 359 - السطر: 1 المسودة ر س بر: يستخرج بها الخفايا. السطر: 2 المسودة ر س بر: حدسه. السطر: 3 س: طشتا. السطر: 6 المسودة ر س بر: يستخرج بها (سقطت لفظة " الخبايا ") . السطر: 9 المسودة ر س بر: ولا أعلم في العالم موضعاً على هذه الصفة. 360 - السطر: 4 المسودة ر: سخياً؛ س: شيخاً. السطر: 15 المسودة: وهذا القدر خلاصتها. 361 - السطر: 14 المسودة ر: فأبادهم بتشتت. 362 - السطر: 3 المسودة: تخبرني عن أحمد بن دواد. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 371 ص 362 السطر: 4 المسودة: ولو قال كذا. 364 - السطر: 1 المسودة س: انتزعها منه السلطان. السطر: 8 المسودة: فوجدت أن ملك شاه. السطر: 18 المسودة ر س بر: صاحب الموصل والجزيرة والشام. 365 - السطر: 3 المسودة ر س بر: ولم ينل منها مقصوداً. السطر: 4 المسودة س: فرخ شاه، وفوقها تضبيب في المسودة. السطر: 6 المسودة: ليربيه. السطر: 7 اللالا: سقطت من النسخ. السطر: 7 س بر: فأتا. السطر: 8 المسودة ر س: وكان جقر المذكور. السطر: المسودة: وثلاثين وخمسمائة، وقيل تاسع ذي الحجة رحمه الله تعالى. السطر: 12 المسودة س: موضع جقر الأمير زين الدين. 366 - السطر: 7 المسودة ر: بن كبير بن عذرة. السطر: 13 المسودة: إن من الشعر حكمة. 372 - السطر: 5 المسودة: أبي علي الحسن بن سليمان. السطر: 8 المسودة: قتل الحاكم صاحب مصر لأبي أسامة جنادة وأبي الحسن المقرئ (وهكذا اضطرب المؤلف فهو يدعوه تارة أبا علي الحسن، وتارة أبا الحسن علي بن سليمان) . 373 - السطر: 6 المسودة س: رضي الله عنه. السطر: 8 المسودة س: لم يرد فيهما " رضي الله عنهم ". السطر: 15 المسودة ر: ورئي في يده يوماً؛ بر س: ورثي يوماً في يده. 374 - السطر: 12 المسودة بر: فبينا أنا كذلك. 375 - السطر: 13 س: القائد أبو الحسين. 378 - السطر: 12 بر: وخرج حريمهم. 380 - السطر: 3 المسودة: وهو الذي بنى القاهرة وسيأتي طرف منها في ترجمة (ثم طمس النص) ؛ وهو غير وارد في النسخ وورد بدله " وشرع في عمارة الجامع " الخ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 372